مسالك الأبصار في ممالك الأمصار

ابن فضل الله العمري

الجزء الثالث

[الجزء الثالث] مقدمة المحقق - 1- أ- المؤلف: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير المرسلين المبعوث رحمة للعالمين، أنطق العرب لسانا، وأفصحهم بيانا. مؤلف كتاب «مسالك الأبصار في ممالك الأمصار» هو أحمد بن يحيى بن فضل الله بن يحيى بن دعجان بن خلف بن نصر بن منصور بن عبد الله بن يحيى بن محمد بن أبي بكر بن عبيد الله بن أبي بكر بن عبد الله بن أبي سلمة بن عبيد الله بن عبد الله بن عمر العدوي العمري. وقد ذكره ابن حجر العسقلاني في درره، وابن تغرى بردى في نجومه وابن العماد في شذراته والسيوطي في المحاضرة وحاجي خليفة في كشف الظنون وابن الوردي في تاريخه، ولم يختلفوا حول اسمه ولقبه فهو شهاب الدين أبو العباس وهو القاضي الشافعي والمؤرخ الدمشقي. - 2- ولد ابن فضل الله العمري في ثالث شوال سنة سبعمائة على حد قول جل المؤرخين باستثناء ابن ناصر الدين في الدّر الوافر والذهبي في تاريخ الإسلام والصافي في المنهل إذ ذكروا مولده في سنة 697 هـ، وكان مولده بدمشق ويوافق 1301 م. - 3- قرأ ابن فضل الله العمري العربية على يد كمال الدين ابن قاضي شهبة، والفقه على يد ابن الفركاح وابنه برهان الدين وشهاب الدين ابن المجد، وقرأ الأحكام

الصغرى على ابن تيمية والأدب على جماعة منهم ابن الصائغ الكبير وابن الزملكاني وأبي حبان وسمع الحديث على جماعة، وأخذ الأصول عن الأصفهاني. - 4- كان أديبا، وناظما وناثرا ومؤرخا وفقيها، وكان يتوقد ذكاء مع حافظة قوية، وصورة جميلة واقتدار على النظم والنثر، مع سعة الصدر، وحسن الخلق وبشر المحيا. كان حسن المذاكرة سريع الاستحضار جيد الحفظ فصيح اللسان جميل الأخلاق، يحب العلماء والفقراء. - 5- عمل مع أبيه في كتابة السر، وكان يقرأ كتب البريد على السلطان ناصر الدين محمد بن قلاوون، وعمل كاتبا للسر في مصر ودمشق حتى تغير عليه السلطان سنة 738 هـ وسجنه بالقلعة لأنه فاجأ السلطان بكلام غليظ لقوة نفسه، ثم أطلق سراحه وولاه كتابة السر في دمشق حتى عزله، وظل بعدها حتى مات بالطاعون. - 6- مات ابن فضل الله العمري يوم عرفة سنة 749 هـ أي التاسع مع ذي الحجة، وذكر ابن العماد الحنبلي أنه مات بالطاعون، وقال ابن حجر العسقلاني أنه مات بحمى أصابته. - 7- ترك ابن فضل الله العمري آثارا طيبة في فنون مختلفة في الفقه والحديث والأدب والتاريخ والحضارة، ومنها: مسالك الأبصار في ممالك الأمصار والمؤلف سنة

ب - المخطوط:

738 هـ، فواضل السمر (فواصل السمر) في فضائل آل عمر في أربعة مجلدات، والدعوة المستجابة، وصبابة المشتاق، ودمعة الباكي، ويقظة الساهي، ونفحة الروض، والتعريف بالمصطلح الشريف، وله ديوان في المدائح النبوية وأظنه صبابة المشتاق. وله قصائد وأراجيز ومقطعات ودو بيت، وأنشأ كثيرا من التقاليد والمناشير والتواقيع. وورد أيضا أن له كتابا بعنوان ممالك عبّاد الصليب وهو من الكتب النادرة التي تهتم بغير بلاد المسلمين كما أن له الدرر الفرائد وهو مختصر لقلائد العقبان لابن خاقان. ب- المخطوط: - 1- أهم مؤلفات ابن فضل الله العمري مسالك الأبصار في ممالك الأمصار (أخبار الملوك) ، وقد ذكره ابن حجر العسقلاني وابن تغرى بردى إنه في أزيد من عشرين مجلدا، وذكره ابن العماد الحنبلي أنه في سبعة وعشرين مجلدا، وورد بموسوعة العلوم الإسلامية إنه 32 جزءا. وقسم فؤاد سزكين المخطوط إلى سبعة وعشرين سفرا. - 2- وضع المؤلف هذا الكتاب سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة وقد ذكر ابن فضل الله هذا صراحة في ص 288 من السفر الثالث من المخطوط فقال: «وفي سنة تأليفي فيها هذا الكتاب وهي سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة» ، وهذا يعني أن المؤلف وضع هذا الكتاب خلال فترة عزله عن العمل في دمشق، وقبل موته بإحدى عشرة سنة.

ولا يمكن أن نجزم بأن المؤلف قد خط مخطوطه هذا في سنة واحدة فقط، حيث يبلغ المخطوط إلى سبعة وعشرين جزءا- طبقا لتقسيم سزكين- ولعله يخص بهذا القول السفر الثالث فقط. والذي أنا بصدد تحقيقه. - 3- السفر الثالث- طبقا لتقسيم سزكين- يتناول الممالك الإسلامية في مملكة الهند وبلاد المغول- مملكة القاآن الكبير، ومملكة إيران، ومملكة الجيل، ومملكة الجبال، ومملكة بلاد الروم، ومملكة مصر والشام والحجاز. والمخطوط يقع في مائتين وست وثمانين صفحة من القطع المتوسط وعدد أسطر كل صفحة يصل إلى ثلاثة وعشرين سطرا. - 4- والسفر الثالث من كتاب مسالك الأبصار في ممالك الأمصار منه عدة نسخ في طوبقابو سراي باستانبول بتركيا وأخرى بتونس. وثالثة بدار الكتب المصرية بمصر، وقد اعتمدت في هذا التحقيق على نسختي استانبول وتونس- والأولى هي أوالثانية ب وناسخ النسخة التركية التي اعتمدت عليها هو ناسخ تركي ويدعى أبو الفضل محمد، وسبب اعتقادي أنه تركي الأصل تلك الأخطاء التي وردت في نسخه للمخطوط. والتي لا تصدر إلا من أعجمي ومن أمثلة ذلك: 1- إنه كان يكتب الضاد ظاء مثل مضفور كتبها مظفور وكذلك الظاء ضادا مثل حظائر كتبها حضائر وهذا يرجع إلى أن مخارج نطق الضاد والظاء في التركية واحدة. 2- قلب الهمزة التي على نبرة ياء مثل خزائن وعمائم ونسائم وشمائل ومسائل، فكتبها خزاين وعمايم ونسايم وشمايل ومسائل، وهذا يتوافق مع ما عند

الترك. 3- إنّ الناسخ يكتب الكلمات المنتهية بالألف المقصورة (ى) إلى ألف مثل: أعلى وأقصى وأمسى وأفنى فيكتبها أعلا وأقصا وأمسا وأفنى. 4- استعمال حرف السين مكان الصاد أحيانا مثل: سلقه كتبها صلقه، وهذا لأن السين والصاد في التركية من مخرج واحد. 5- كتابة الهمزة على الواو أو الألف بشكل يخالف المعروف مثل مآذن والمؤدى كان يكتبها مواذن والمآد. 6- كتابة حرف الألف بعد الأفعال المنتهية بالواو في الفعل المضارع مع المفرد الغائب مثل يصفو، ينمو- يعلو يسمو، كان يكتبها يصفوا وينموا ويعلوا ويسموا. 7- كان الناسخ شيعيا حيث إنه كان يضيف «عليه السلام» عقب أي ذكر لأي من أئمة الشيعة، وهذا لا يمكن أن يكون من المؤلف فهو عمري وينتسب إلى الخليفة الراشد عمر بن الخطاب. - 5- إن التقسيم الذي سلكه فؤاد سزكين في تقسيم الكتاب إلى أسفار، قد جانبه الصواب، حيث أن السفر الثالث- الذي نحن بصدده هو الجزء الثاني من الكتاب، وقد ورد في صفحة 110 من السفر الرابع تبعا لتقسيم سزكين إنه آخر الجزء الثاني من كتاب مسالك الأبصار في ممالك الأمصار، يتلوه إن شاء الله تعالى في الجزء الثالث، الباب الخامس عشر في ذكر العرب الموحدين في زماننا وأماكنهم. كما جاء في صفحة 111 من ترقيم سزكين من السفر الرابع عنوان «الثالث من مسالك الأبصار في ممالك الأمصار» .

ج - منهج المؤلف في تأليف الكتاب

ج- منهج المؤلف في تأليف الكتاب - 1- لقد سلك المؤلف منهجا فريدا في تأليف هذا السفر من كتابه «مسالك الأبصار في ممالك الأمصار» حيث اعتمد على أكثر من منهج في التأليف. أولها: منهج الرواية بالمشاهدة والرؤية وهذا فيما يتعلق باستعراضه لأحداث ووقائع عصره في ممالك مصر والشام والحجاز. ثانيها: منهج الرواية بالسماع، وهذا قائم على سماع رواية الذين شاهدوا تلك البلاد وأطلعوا على أخبارها من التجار والزوار، وقد ذكر ذلك في أحداث ووقائع ممالك الهند وممالك قانات المغول وممالك بلاد الجيل والجبل وممالك الروم. ثالثها: منهج النقل عن المتون السابقة، وهذا قليل للغاية، حيث يلجأ أحيانا إلى ذكر أحداث تاريخية قديمة وسابقة لعصره، فيلجأ إلى المؤلفات السابقة مثل تاريخ الطبري وتاريخ دمشق لابن عساكر وجها نگشاي لعلاء الدين عطا ملك جويني وجامع التواريخ لرشيد الدين فضل الله. - 2- وفي منهجه القائم على المشاهدة والرؤية يتحدث حديث الخبير المتخصص، ولا يذكر مصدر روايته أو مشاهدته باعتباره الشاهد عليها، ولا تفوته شاردة ولا واردة إلا وذكرها مما قد يجهله كثيرون غير مقربين من الحضرة السلطانية، ولذلك وجدناه يطنب في الحديث عن مصر وأحوالها وأحوال سلاطينها إطنابا، ويرسل الحديث إرسالا في كل الجوانب التاريخية والحضارية. - 3- وفي منهجه القائم على الرواية بالسماع، فقد تحدث عن ممالك الهند قائلا:

«كنت أسمع الأخبار الطائحة والكتب المصنفة، ما يملأ العين والسمع، وكنت لا أقف على حقيقة أخبارها، لبعدها منا، وتنائى ديارها عنا، فلما شرعت في تأليفي هذا الكتاب، تتبعت ثقاة الرواة، ووجدت أكثر مما كنت أسمع وأجل مما كنت أظن» . ويشرح هذا المنهج قائلا: كنت أسأل الرجل عن بلاده، ثم أسأل الآخر والآخر لأقف على الحق، فما اتفقت عليه أقوالهم، وتقاربت فيه أثبته، وما اختلفت فيه أقوالهم أو اضطربت تركته، ثم أنزل الرجل المسؤول مدة أناسيه فيها عما قال، ثم أعيد عليه السؤال عن بعض ما كنت سألت، فإن ثبت على قوله الأول، أثبت مقاله، وإن تزلزل أذهبت في الريح أقواله، كل هذا لأتروى في الرواية، وأتوثق في التصحيح. وهذا المنهج العلمي الصحيح الذي سلكه ابن فضل الله العمري مع رواته ومصادر أخباره، تؤكد مدى أهمية ما أورده وما أثبته، ولعل وظيفته في البلاط السلطاني قد أتاحت له فرصة مقابلة العديد من الواردين إلى البلاط، ويقول في ذلك: أسأل كل وارد على باب سلطاننا- أعزه الله بنصره- من جميع الآفاق، ووافد استكن تحت جناح لوائه الخفاق، وما أحدث مع رسول يصل من ملوك الأرض في مطارحة حديث ومرواحة قديم وحديث إلا وجريت بذلا ذل السؤال عن بلادهم وأوضاع ملوكها، ووظائف الرعايا في سلوكها وما للجنود بها، وطبقات أرباب الرتب العالية من الأرزاق، ومقدار تفرقة خزانة الإخلاق، وكيف زي كل إناس، وما يمتاز به كل طائفة من اللباس. - 4- وفي منهجه القائم على النقل من المتون السابقة والمؤلفات والكتب القديمة، فإنه يذكر عادة اسم المؤلف أو اسم الكتاب الذي أخذ عنه، ومن العجب أنه كان

يثبت أسماء كتب مكتوبة باللغة الفارسية، ويتحدث عن مؤلفين ألفوا كتبا بالفارسية مثل علاء الدين عطا ملك جويني ورشيد الدين فضل الله، كما اعتمد على مؤرخين عرب كالطبري وابن عساكر والمسعودي. - 5- والمؤلف في حديثه عن الممالك الإسلامية لا يستعرض أحداثا تاريخية بقدر ما يقدم لنا استعراضا حضاريا وإني لاعد كتابه هذا ضمن المؤلفات التي تؤرخ للحضارة فهو كتاب حضاري، يستعرض الجوانب الحضارية عند الشعوب في الهند والصين وبلاد ما وراء النهر وإيران وتركيا والشام ومصر والحجاز وبلاد أخرى، فهو يؤرخ للحضارة الإسلامية، وهذا النوع من المؤلفات قليل، ورجاله قلائل. ونطالع في حديثه عن الممالك الإسلامية استعراضه لأوضاع الملوك والوظائف وأرباب الرتب العالية وما لهم من أرزاق، وزي الناس ولباسهم، وطعام الناس ومأكلهم، والميزان والمكيال والعملة ومقدار كل منها، ومقارنتها بالمصري والشامي، واستعراض الجيوش وتكوينها وتسليحها، وعددها وعددها ومخصصات أهلها، وما تنتجه أراضي الممالك من بقلها وفومها وأشجارها، وأنواع المعادن وقيمتها واستعمالها. ولا يهمل الحديث عن كيفية جلوس السلاطين وأرباب الوظائف وتلقيهم القصص والشكاوى، وكيفية عرضها ووصولها إلى السلطان، وإصدار الفرمانات واليراليغ والأوامر، وختمها بالخاتم السلطاني. ويتحدث عن القصور والبيوت والخركاوات وما تحتويه من وسائل معيشية، ويستعرض نظام الإدارة وتولية المناصب والوظائف في الممالك الإسلامية المختلفة. نخلص من هذا أن المؤلف كان يسعى لتأريخ الحضارة الإسلامية في عصره، في الهند وإيران وبلاد الترك والصين والروم ومصر والشام والحجاز، مع عدم إهمال

د - التأريخ والمؤرخون في عصر المؤلف:

للجانب التاريخي. د- التأريخ والمؤرخون في عصر المؤلف: - 1- شهد أواخر القرن السابع الهجري والقرن الثامن الهجري مولد عدد من المؤرخين المعروفين من الفرس والعرب واشتهرت مؤلفاتهم في الأفاق، ومن ثم فإن ظهور ابن فضل الله العمري هو امتداد طبيعي لهذا الفيض من المؤرخين، ولما كان العالم الإسلامي متصلا ومتواصلا، ورحلات الرحالة وزيارات التجار والسفراء، وتنقلات العلماء والأدباء من وطن إلى آخر لا تنقطع، وكان سلاطين هذه العصور يهتمون بطرق التجارة والقوافل والبريد لذا أقاموا عليها العمارات وأنشأوا الرباطات، وأمنوا السالكين في الآفاق، ولذلك كانت أخبار الممالك الإسلامية معروفة ومتداولة، لا تخفى خافية عن جوابي البلاد من الرحالة والمؤرخين. - 2- ظهر في أواخر القرن السابع الهجري المؤرخ الكبير علاء الدين عطا ملك جويني المتوفى 681 هـ. وكان مقربا من خانات المغول في عهد هولاكو وخلفه، وتولى حكم بغداد، وقد ألف كتابا من أفضل كتب التاريخ في العصر المغولي وهي جهانگشاي «فاتح العالم» وهو في ثلاثة مجلدات ضخمة تناول فيها عادات وتقاليد المغول والقواعد التي سنها جنگيز خان وفتوحات جنكيز وسلطنة اوگتاى وگيوك و چغتاي، كما تناول تاريخ الخوارزمشاهية وأحوال ملوك القراختاي والگورخانية، وتحدث عن منگوقاآن وهولاكو، وتوجه الأخير إلى بغداد للقضاء على الإسماعيلية. وقد ترجم الجزء الأول منه على يد الاستاذ الدكتور السباعي محمد السباعي،

وترجم الكتاب أيضا تحت عنوان تاريخ فاتح العالم جهانگشاي الدكتور محمد التونجي. - 3- وكتاب نظام التواريخ للقاضي ناصر الدين البيضاوي والذي ألفه سنة 674 هـ من الكتب التاريخية التي تتناول التاريخ العام من عهد آدم إلى أواخر القرن السابع الهجري، ويتناول تاريخ الإسلام والملوك القدامى لإيران وأنبياء بني إسرائيل، وهو كتاب باللغة الفارسية. - 4- وكتاب جامع التواريخ لرشيد الدين فضل الله الوزير والمؤرخ الكبير في بلاط المغول الإيلخانيين، ألفه بأمر غازان خان وابنه اولجايتو خدابنده سنة 710 هـ، وهو كتاب كبير في ثلاثة مجلدات، الأول عن تاريخ المغول في فصلين والثاني في التاريخ العام في فصلين والثالث في الأقاليم والأمصار. والكتاب يتضمن وثائق ومستندات وشهادات حقيقية نظرا لأن مؤلفه شاهد على عصره، وهو قريب في منهجه من مسالك الأبصار في ممالك الأمصار. وهذا الكتاب مؤلف بالفارسية وقد نقله إلى العربية محمد صادق نشأت ومحمد موسى هنداوي وفؤاد عبد المعطي الصياد. - 5- وكتاب تاريخ بناكتي أو روضة أولى الألباب في تواريخ الأكابر والأنساب تأليف أبي سليمان داوود البناكتي من مؤرخي وشعراء بلاط غازان خان، وقد ألف الكتاب بالفارسية وقدمه إلى السلطان أبي سعيد بهادر في سنة 707 هـ، وقد قسمه المؤلف إلى تسعة أقسام تناول فيها تاريخ الأنبياء والملوك القدامي والرسول

الكريم وخلفاءه وسلاطين إيران في عهد بني العباس واليهود والمسيحيين والفرنجة والهنود والصينيين والمغول. - 6- وفي الثلاثينات من القرن الثامن الهجري ظهر كتاب مؤلفنا ابن فضل الله العمري سنة 738 هـ وفي نفس العام ظهر كتاب تاريخ وصاف أو تجزية الأمصار وتزجية الأعصار لشهاب الدين عبد الله الشيرازي المعروف بوصاف الحضرة وهو باللغة الفارسية في خمسة مجلدات تناول فيها تاريخ المغول وأمراء النواحي والأطراف في عهد أبي سعيد بهادر ويعد متمما لجهانگشاي جويني. - 7- وظهر تاريخ گزيده لحمد الله المستوفى القزويني وهو تقليد وتلخيص لكتاب جامع التواريخ لرشيد الدين فضل الله، وقد قدمه المؤلف لابن رشيد الدين المسمى بغياث الدين وهو أيضا بالفارسية. - 8- وكانت رحلة ابن بطوطة المعروفة بتحفة النظّار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار لمحمد بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم اللواتي الطنجي، من أهم مؤلفات القرن الثامن الهجري وقد كتبت هذه الرحلة سنة 757 هـ أي بعد تأليف مسالك الأبصار في ممالك الأمصار بفترة وجيزة، وقد جاب مؤلفها بلاد الهند والصين وإيران والشام ومصر وبلاد الروم وبلاد العرب، وقد قارنت بين أحداثه وأحداث ابن فضل الله العمري نظرا لقرب زمان التأليف. - 9- ونشير إلى كتاب مجمع الأنساب لمحمد بن علي بن محمد الشبانكاره الذي

هـ - منهج المحقق في تحقيق المخطوط:

وضعه بالفارسية سنة 743 هـ في التاريخ العام باعتباره يدخل ضمن ظاهرة التأليف والتصنيف في التاريخ الإسلامي. هـ- منهج المحقق في تحقيق المخطوط: - 1- تحدثت عن منهج المؤلف في التأليف، وكان لا بد لي من ملاحقته فيما ألفه، وأتبعت الخطوات التالية: 1- مراجعة المصادر التي استقى منها المؤلف معلوماته في نقوله عن الآخرين، فقد تحدث عن الطبري وابن عساكر والبلاذري، وذكر رشيد الله بن فضل الله وعطاملك جويني، فعدت إلى هذه المصادر لملاحقة النقول التي نقلها وأثبت ذلك في الحواشي. 2- مراجعة المصادر المماثلة والمعاصرة، فقد ألف وصنف في القرن الثامن الهجري عدة مؤلفات تاريخية وحضارية مماثلة منها ما هو بالعربية كرحلة ابن بطوطة ومنها ما هو بالفارسية مثل تاريخ جهانگشاي وجامع التواريخ. 3- تخريج النصوص القرآنية، والأحاديث النبوية الشريفة، خاصة أن المؤلف كان يذكر أقوالا مشابهة للآيات القرآنية والأحاديث النبوية دون ذكر كون هذا آية أو حديث نبوي، كما استخرجت النصوص الشعرية التي ذكرها المؤلف والتي نقلها عن الشعراء كالمتنبي وابن عنين وامرئ القيس. 4- مراجعة الألقاب والرتب والاصطلاحات الفارسية الشائعة في عصره واستخراج مدلولاتها من القواميس الفارسية. 5- توضيح الأماكن الجغرافية والتاريخية، وقد قمت بإعداد خرائط توضيحية للمدن والأماكن التي ذكرها المؤلف، وأردفتها في آخر التحقيق.

6- نظرا لكثرة أسماء الحكام والملوك لذا أضفت شجرات للأسر الحاكمة التي ورد ذكرها في ثنايا المخطوط مع تصحيح الأسماء والألقاب وذكر السنوات التي أهملها المؤلف تماما. 7- وضعت في آخر التحقيق فهرسا بالأعلام والأماكن الجغرافية والآيات القرآنية والأحاديث النبوية وأبيات الشعر إكمالا للفائدة. - 2- إن هذا العمل الحضاري الضخم الذي يتعهده قسم المخطوطات بدار الكتب الوطنية بالمجمع الثقافي بدولة الإمارات العربية المتحدة، ويقوم بتحقيقه وطبعه، أمر يستحق الإشادة، فهذا العمل يخلد اسم دار الكتب الوطنية في أبو ظبي، ويجعلها تقف على قدم واحدة مع المؤسسات العلمية والثقافية في العالم العربي، وتثبت للأجيال القادمة أنها لم تدخر أي جهد في سبيل إظهار حضارتنا العربية والإسلامية الزاهرة. وأشكر قسم المخطوطات على دوره الفعّال في تنشيط الحركة الثقافية، وبناء الإمارات الحديثة. رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ. أبو ظبي 3/1993 أد. أحمد عبد القادر الشاذلي استاذ ورئيس قسم اللغات الشرقية كلية الآداب- جامعة المنوفية

النوع الثاني في ذكر ممالك الإسلام جملة

النّوع الثّاني في ذكر ممالك الإسلام جملة ممالك الإسلام واقعة بحمد الله في أحسن المعمور شرقا وغربا وجنوبا وشمالا، لأنها لا تنتهي إلى غاية الحرارة المفرطة ولا إلى غاية البرد المفرط، إلا فيما قل [1] ، ولا يخرج عن حد المستطاب، وسيأتي بيان ذلك في تحديد كل مملكة، فغاية معمور الجنوب مساكن السودان من عبّاد النيران والأصنام، بما تغلغل من جزاير الهند وأطرافه «1» ، والنصارى بأطراف الحبشة، وعبّاد الحيّات [2] ، والهمج في سودان المغرب جنوب غانه. وغاية معمور الشمال من النصارى والهمج ببلاد الصقلب [3] ، في شماليها أحد قسمي إيران المسمّاة «2» ببلاد القبجاق [4] ، وما سامت ذلك الخط من القسطنطينية، وما وراءها إلى جليقية والأرض الكبيرة وجزاير البحر الرومي [5] . وغاية معمور الشرق من عباد النيران والأصنام بثالث أقسام توران [6] من بلاد

_ [1] وردت بالمخطوط في ما قبل. [2] وردت بالمخطوط وعبّاد بالحيّات. [3] بلاد الصقلب هي شعوب تسكن بين جبال الآرال والبحر الأدرياتي في أوروبا الشرقية والوسطى، يتكلمون بلغات تنتمي إلى العائلة الهند وأوروبية، ويقسمون عادة إلى ثلاثة أقسام كبرى: صقالبة الغرب وصقالبة الشرق وصقالبة الجنوب وهم السلاف (انظر الموسوعة العربية الميسرة- أشراق محمد شفيق غربال- دار الشعب- وهم جيل حمر الألوان، صهب الشعور يتاخمون بلاد الخزر في أعالي جبال الروم وقيل بين بلاد البلغار وقسطنطينية (مراصد الاطلاع 2/847) فرانكلين 1959 ص 1126) . [4] بلاد القبجاق هي بلاد القبجاق والقبجق الواقعة ما بين البحر الأسود وبحر خوارزم شمال بلاد الروم، قاعدتها السراي وهي تابعة لأبناء جوجي بن جنكيزخان (انظر الخرائط المرفقة) . [5] البحر الرومي: يقصد به البحر الأبيض المتوسط. [6] توران: هي البلاد الواقعة خلف نهر سيحون، وكانت لتوران بن فريدون- طبقا لشاهنامة الفردوسي والروايات التاريخية القديمة- وينسب الأتراك إلى ثور (انظر فرهنگ أدبيات فارسى- زهرا خانلرى كيا- چاپ سوم تونس 1366 ش ص 147) .

الصين إلى المحيط، وأمّا الغرب فانتهى فيه الإسلام إلى البحر المحيط [1] وكلاطر [2] في الشرق، والغرب بلاد صالحة وإن لم تكن الغاية، فالغرب إلى منتهى الغاية في ممالك الإسلام، والصين وإن كان خارجا من دعوة الإسلام، فإنه ملك عظيم جليل القدر، ضخم الملك، وهو معظم توران، ولم يزل لملك الترك، وبه تخت [3] فانهم «1» الآن لقانهم [4] من أبناء جنكيز خان [5] ، وسيأتي ذكره عند ذكر أبناء جنكيز خان. فممالك الإسلام واقعة على ما نذكره؛ فأوّلها الهند والسّند، وهو واقع في ممالك الإسلام بشرق محض آخذا في الجنوب على مسامت الصين، يحدها البحر من جنوبها، وبلاد الكفار من شرقيها، والإسلام في أحد قسمي توران «2» من شمالها، ثم أحد قسمي توران، مما بيد الإسلام، وهي مملكة تركستان [6] وما وراء النهر، وهي واقعة بشرق محضا آخذا إلى الجنوب، يحدها السّند من جنوبها، والصّين من شرقها، وممالك الإسلام وقسمها الثاني، وإيران (المخطوط ص 3) من

_ [1] البحر المحيط: المقصود به هنا المحيط الهادىء، ويقصد به إجمالا البحر المحيط بالكرة الأرضية وقد ذكره أيضا عند ذكره للمحيط الأطلسي يقول: صاحب مراصد الاطلاع إنه بحر محيط بالأرض من كل جوانبها يتصل به البحران الشرقي والغربي (البغدادي بيروت 1954 ج 1/166) . [2] كلاطر: هي كانتون، المدينة الواقعة على المحيط الهادي ببلاد الصين وكان العرب قد وصلوا إليها واطلقوا عليها اسمها الحالي. [3] تخت: كرسي الحكم، مقر جلوس السلاطين، والكلمة بهلوية Taxt وفي الفارسية تخت- واستعملت في العربية في عصور استعلاء الفرس والترك (فرهنگ عميد، حسن عميد، چاپ سوم، تهران 1360 ش جلد اول 548) . [4] القان: كلمة مغولية وهي في الأصل قاآن وتعني ملك كبير (فرهنگ عميد 2/1561) . [5] ترد دائما جنكيز خان وصوابها جنكيز خان وسيرد ترجمته فيما بعد. [6] تركستان: بلاد الترك- سيرد تفاصيل فيما بعد.

جنوبها. ثم القسم الثاني مما بيد الإسلام من مملكة توران، وهي خوارزم [1] وبلاد القبجاق، وهي واقعة في الشمال، آخذة إلى المشرق، يحدها أطراف الصين من شرقها، وبلاد الصقلب وما يليها من شمالها، فأما جنوبها فخراسان [2] وما سامتها «1» ، وغربها الخليج القاطع من بحر الروم على القرم [3] ، وراءها [4] ممالك الإسلام والروم، كلها من ممالك الإسلام، ثم إيران، وهي تلي قسمي توران المذكورين داخله، كالشعبة الفارقة بينهما، وذلك القسمان منشعب «2» عليهما مثل كمّى السراويل على سرجه، يحدها ممالك الإسلام من كل جهة، وفي بعض جنوبها لينتهي إلى البحر الفارسي [5] الآخذ على البصرة وما سامتها، وممالك كيلان [6] واللر [7] والشول [8] وشنكاره «3» [9] والأكراد [10] ، وبلاد أتراك الروم كلها في هذا القسم، خلا أن أتراك الروم وحدهم شمال «4» بلاد القسطنطينية ثم

_ [1] خوارزم: إقليم في بلاد ما وراء النهر، ومدينة خوارزم، أكبر مدن الأتراك وأعظمها وأجملها وأضخمها (رحلة ابن بطوطة 239) . [2] خراسان: إقليم بشرقي إيران قاعدته نيسابور وتابع في ذلك الحين لأولاد هولاكو. [3] القرم: شبه جزيرة بجنوب روسيا 32 ساحل البحر الأسود من الشمال ترتبط باليابس ببرزخ بريكوب (الموسوعة العربية الميسرة 1377) . [4] وردت بالمخطوط وراءها. [5] البحر الفارسي: شعبة من بحر الهند الأعظم، وهو فوهة دجلة التي تصب فيه، وتمتد سواحله نحو الجنوب إلى قطر وعمان والشحر- (مراصد الاطلاع 1/166) ويقصد به الخليج العربي الآن. [6] كيلان: وهي گيلان وجيلان شمال إيران. [7] اللر واللور واللار: اللور قوم يسكنون اللار وهي منطقة بإقليم فارس ويسمى اللورستان، واللار: جزيرة بين سيران وقيس فيها مغاص اللؤلؤ (مراصد الاطلاع 3/1194) . [8] الشول: قوم يقطنون إقليم فارس. [9] وردت بالمخطوط سكاره وهي شنكاره. [10] الأكراد: شعب يسكن هضبة فسيحة في آسيا الوسطى، وبلادهم موزعة بين تركيا وإيران والعراق وغيرهم.

يليها مملكة مصّر والشام والحجاز وتلك عمود الإسلام وفسطاط الدين، يحدها ممالك الإسلام من كل جهاتها الأربع، منتهية في الجنوب إلى اليمن، واليمن والحجاز كلاهما من جزيرة العرب على ما يأتي تبينه، ثم إلى البحر الآخذ على جدة إلى آيله [1] وينتهي في الشمال إلى البحر الرومي، ثم اليمن، وهو جنوب «1» الحجاز في نهاية جزيرة العرب، يحدها من جنوبها البحر الآخذ إلى الهند، ومن شرقها البحر الآخذ إلى جدة، ومن شمالها الحجاز، ومن غربها بحر الحبشة، ثم ممالك الإسلام بالحبشة، فالحبشة «2» متصلة بأطراف الواحات، آخذة إلى الجنوب محيط بها بحر الحبشة من شرقها، وممالك نصارى الحبش من جنوبها، وكفارهم، ثم الصحارى القفار من غربها، وشمالها الواحات، ثم الكانم [2] ، وهو على ضفة النيل على مسامته دنقله [3] ثم يليها من وراء برقة، مملكة إفريقية، يحدها من جنوبها كفار السودان، وبقية حدودها منتهية إلى ممالك الإسلام من «3» شمالها البحر الشامي [4] ثم بر العدوة، يحدها ممالك الإسلام، من جنوبها بلاد البربر ثم ما

_ [1] إيلة: مدينة على ساحل بحر القلزم مما يلي الشام قيل هي آخر الحجاز وهي الآن إيلات: ثغر شمال خليج العقبة وتسمى إيلة نسبة إلى إيلة ابن مدين، اشتهرت في القدم كان بها قلعة لابن طولون والغوري (مراصد الاطلاع 1/138، الموسوعة العربية الميسرة 291) . [2] الكانم: من بلاد البربر- أقصى المغرب في بلاد السودان- وقيل: كانم: صنف من السودان. [3] دنقلة: وهي دمقلة أو دمكلة مدينة كبيرة في بلاد النوبة (مراصد الاطلاع 3/1144) (مراصد الاطلاع 2/534) . [4] البحر الشامي: هو البحر الرومي أو البحر الأبيض المتوسط.

يلي، ومن شمالها بلاد إفريقية، (المخطوط ص 4) ومن غرب «1» البحر المحيط [1] ، ومن شمالها بحر الزقاق [2] إلى البحر الشامي «2» ، ثم بر العدوة، وشرقها القفار، ثم يليها ماء وما معها، جنوبها غانة وبلاد كفار السودان، وغربها المحيط، وشمالها جبال البربر وبر العدوة، وشرقها القفار ثم يليها جزيرة الأندلس، وهي نهاية ممالك الإسلام، ليست بجزيرة، ولكن «3» كالجزيرة، يحيط بها من جانبها الجنوبي البحر الشامي ومن غربها وشمالها البحر المحيط، ويبقى «4» شرقها مكشوفا متصلا بالأرض الكبيرة ذات الألسن الكثيرة، فلو مشى [3] ماش من نهاية غرب الأندلس عند مخرج بحر الزقاق، في الجانب الشمالي إلى ناحية شرقه انتهى «5» إلى الجبل المسمّى بهيكل الزهرة [4] ، وهو آخر حد الأندلس، وفيه الأبواب المفتوحة، وقد تقدم ذكرها. ثم يمشي الماشي من تلك الأبواب إلى أن يخرج من شرقي هذا الجبل، ويدخل في الأرض الكبيرة، ويمشي فيها إلى حيث شاء من الأرض «6» شمالا وشرقا وجنوبا لا يقطعه بحر، حتى أنه إذا أراد مشى على ساحل البحر الشامي، وما هو متصل به

_ [1] البحر المحيط يقصد به هنا المحيط الأطلسي (انظر مراصد الاطلاع 1/166) . [2] الزقاق: بضم أوله وآخره، مجاز البحر بين طنجة مدينة المغرب على البر، والجزيرة الخضراء وهي في جزيرة الأندلس (مراصد الاطلاع 2/668) . وهو الآن مضيق جبل طارق. [3] وردت بالمخطوط مشا. [4] هيكل الزهرة أظنه جبال البرانس، والزهراء مدينة صغيرة قرب قرطبة (مراصد الاطلاع 2/677) .

حتى ينتهي إلى حجزة، ثم يدور معها «1» عند حجزة ببلاد الشام على شرقه، ثم يدور معه على ساحله الجنوبي حتى يعود إلى نهاية الغرب قبالة المكان الذي بدأ منه عند مخرج الزقاق في الجانب الجنوبي، لا يقطعه دون ذلك قاطع، ولا يمنعه مانع. واعلم أن الأمر في تحديد الأقاليم العرفية لا يجري في تحديد الدار أو البستان ونحوهما لأن غالب الدور والبساتين تكون قطعا مربعة أو مثلثة أو متساوية الجوانب، وليس الأمر في الأقاليم العرفية كذلك، فإن بعض جوانبها يكون مداخلا لإقليم آخر، وبعضها يكون فيه تقويس، وبعض جوانبها أعرض من بعض، والذي يحدد المكان إنما يحدده بالجهات الأربع، وهي الشرق والغرب والجنوب والشمال، وذلك لا يصفو [1] في الأقاليم العرفية، لما ذكرناه، ولو كانت الأقاليم قطعا مربعة أو متساوية الجوانب لأمكن فيها ذلك، فينبغي أن يعرف العذر في التقصير في تحديدها، لا سيما عند من لم يشاهدها وإنما (المخطوط ص 5) نقلها من الأوراق وأفواه الرجال، فإن عذره في التقصير أوضح، وأيضا فإن بعض الأقاليم يكون على شكل مثلث كجزيرتي الأندلس وصقلية [2] ، وبعضها يكون ذا خمسة أضلاع وأكثر وأقل، فيتعدد ذكر ذلك بجهاته الأربع على الصحة «2» ، ومن هذا نشرع في ذكر الممالك مملكة مملكة، وهذا الباب هو المراد من هذا الكتاب، وبسببه ألف

_ [1] وردت بالمخطوط لا يصفوا، ويلاحظ وضعه حرف الألف أمام الأفعال المعتلة الآخر بالواو مثل يربو- يرنو- يسمو- ينجو- مع المفرد الغائب وقد حذفتها في الصفحات التالية دون الإشارة إليها. [2] صقلية: جزيرة، وإقليم متمتع بالحكم الذاتي تتبع إيطاليا عاصمتها بالرمو، من أكبر جزر البحر المتوسط تقع بين بحر إيجه والبحر التريني (الموسوعة العربية الميسرة 1126) وهي من جزائر بحر المغرب مقابلة إفريقية (مراصد الاطلاع 2/847) .

ولأجله صنف [1] ، ونحن نأخذ في هذا الباب على التحرير في أكثر ما عرفنا، والتحقيق لأكثر ما لم نعرف «1» بتكرار السؤال من واحد بعد واحد، عما يعلمه من أحوال بلاده وما فيها، وما اشتملت عليه في الغالب نواحيها، وكنت أسأل «2» الرجل عن بلاده ثم أسأل الآخر والآخر لأقف على الحق، فما اتفقت عليه أقوالهم أو تقاربت فيه أثبته، وما اختلفت فيه أقوالهم أو اضطربت [2] تركته، ثم أنزل الرجل المسؤول مدة أناسية فيها عما قال، ثم أعيد عليه السؤال عن بعض ما كنت سألت، فإن ثبت على «3» قوله الأول أثبت مقاله، وإن تزلزل، أذهبت في الريح أقواله، كل هذا ألا تروى [3] في الرواية وأتوثق في التصحيح مع أننا أهل بيت وظيفتهم «4» مجمع وفوده وموضع كل صدور وروده ولم نزل عند ملوك مصر والشام رحم الله من مضى منهم وحفظ من بقي بابهم المفتوح لكل طارق وسحابهم الممنوح به كل جود دافق فإلينا في أبوابهم أول كل وارد إليهم وآخر كل صادر عنهم ومنذ نيطت بي التمايم إلى أن اثبتت على العمائم [4] إلى أن صرت ركن هذا الباب وكن هذا السحاب اسأل كل وارد على باب «5» سلطاننا اعزه الله بنصره من جميع الآفاق

_ [1] منهج ابن فضل الله العمري في تاريخه، وهو التأليف من المشاهدات والروايات التي سمعها والتصنيف مما قرأه. [2] وردت بالمخطوط اطربت. [3] وردت بالمخطوط ألا تروّى. [4] يذكر الناسخ دائما الكلمات التي بها همزة في الوسط ياء مثل: مسائل عمائم، هيئة، خزائن، دقائق، وظائف يذكرها مسائل، عمايم، هيية، خزاين، دفاين، وظايف، مما يوحي بأن الناسخ ربما كان أعجميا فارسيا أو تركيا.

ووافد استكن تحت جناح لوائه الخفاق وما أحدث مع رسول يصل من ملوك الأرض في مطارحة حديث ومراوحة قديم وحديث إلا وجريت بذلا ذل «1» السؤال عن بلادهم وأوضاع ملوكها ووظائف الرعايا في سلوكها وما للجنود بها وطبقات أرباب الرتب العالية من الأرزاق ومقدار تفرقة قرائن الإطلاق وكيف زى كل أناس وما يمتاز به أهل كل طائفة من اللباس على ما يذكر ذلك. تعالى في مكانه، وبالله استعين، ومنه أسأل التوفيق ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وهذا النوع أربعة عشر بابا: الباب الأول: في مملكة الهند والسند. الباب الثاني: في مملكة بيت جنكيزخان: وفيه أربعة فصول: الفصل الأول: في الكلام عليهم جمليا. الفصل الثاني: في مملكة القان الكبير صاحب التخت وهو صاحب الصين والخطا. الفصل الثالث: في التوارنيين وهم فرقتان: الفرقة الأولى: ما وراء النهر، والفرقة الثانية؛ في خوارزم والقبجاق. الفصل الرابع: في الإيرانيين. الباب الثالث: في مملكة الجيل. وفيه أربعة فصول:

الفصل الأول: في بومن. الفصل الثاني: في توليم. الفصل الثالث: في كسكر. الفصل الرابع: في رسفت. الباب الرابع: (المخطوط ص 7) في مملكة الجبال. وفيه أربعة فصول: الفصل الأول: في الأكراد. الفصل الثاني: في اللّر. الفصل الثالث: في الشول. الفصل الرابع: في شنكاره. الباب الخامس: في مملكة الأتراك بالروم. وفيه ستة عشر فصلا: الفصل الأول: في مملكة كرميتسان. الفصل الثاني: في مملكة طنغزلوا. الفصل الثالث: في مملكة توازا. الفصل الرابع: في مملكة عبدلي. الفصل الخامس: في مملكة كصطمونيه. الفصل السادس: في مملكة قاويا. الفصل السابع: في مملكة برسا.

الفصل الثامن: في مملكة اكيرا. الفصل التاسع: في مملكة مرمرا. الفصل العاشر: في مملكة مغينسا. الفصل الحادي عشر: في مملكة نيف. الفصل الثاني عشر: في مملكة بركي. الفصل الثالث عشر: في مملكة فوكه. الفصل الرابع عشر: في مملكة أنطاليا. الفصل الخامس عشر: في مملكة قراصار. الفصل السادس عشر: في مملكة أزمناك. (المخطوط ص 8) الباب السادس: في مملكة مصر والشام والحجاز. الباب السابع: في مملكة اليمن. وفيه فصلان: الفصل الأول: فيما بيد أولاد رسول. الفصل الثاني: فيما بيد الأشراف. الباب الثامن: في ممالك المسلمين في الحبشة. وفيه سبعة فصول: الفصل الأول: في أوفات. الفصل الثاني: في دوارو.

الفصل الثالث: في اراتتسنى. الفصل الرابع: في هديه. الفصل الخامس: في شرخا. الفصل السادس: في بالي. الفصل السابع: في داره. الباب التاسع: في مملكتي مسلمي السودان على ضفة النيل الممتد إلى مصر. وفيه فصلان: الفصل الأول: في الكانم. الفصل الثاني: في النوبة. الباب العاشر: في مملكة مالي. الباب الحادي عشر: في مملكة جبال البربر. (المخطوط ص 9) الباب الثاني عشر: في مملكة أفريقية. الباب الثالث عشر: في مملكة بر العدوة. الباب الرابع عشر: في مملكة الأندلس.

الباب الأول في مملكة الهند والسند

الباب الأول في مملكة الهند والسّند

(المخطوط ص 9) . هذه مملكة عظيمة الشأن، لا تقاس في الأرض بمملكة سواها لاتساع أقطارها، وكثرة أموالها وعساكرها، وأبهة سلطانها في ركوبه ونزوله ودست [1] ملكه، وفي صيتها وسمعتها كفاية، ولقد كنت أسمع من الأخبار الطائحة والكتب المصنفة ما يملأ العين والسمع، وكنت لا أقف على حقيقة أخبارها، لبعدها منا، وتنائى ديارها عنا، فلما شرعت في تأليف هذا الكتاب، وتتبعت ثقاة الرواة «1» ، وجدت أكثر مما كنت أسمع، وأجل مما كنت أظن، وحسبك ببلاد في بحرها الدر، وفي برها الذهب، وفي جبالها الياقوت والماس، وفي شعابها العود [2] والكافور [3] ، وفي مدتها أسرة الملوك، ومن وحوشها الفيل والكركدن [4] ، ومن حديدها سيوف الهند، وبها معادن الحديد والزئبق والرصاص، ومن بعض منابتها الزعفران [5] ، وفي بعض أوديتها البلور، خيراتها موفورة «2» ، واسعارها رخية، وعساكرها لا تعد،

_ [1] دست ملكة: قاعدة ملكة، وكلمة دست فارسية بمعنى قاعدة ومقر (فرهنگ عميد 1/1945 فرهنگ جديد فارسي رازي، محمود سعيدي بور آذينفر- انتشارات خرد ص 332) . [2] العود: شجر ينبت في الهند، ذو رائحة ذكية- أحسن أنواع البخور منه (فرهنگ عميد 2/1459) . [3] الكافور نبات يزرع بالهند وإيران، أوراقه بيضاء اللون معطرة (فرهنگ رازي 681/فرهنگ عميد 2/1611- معجم الألفاظ العامية- أنيس فريحة بيروت 1973 ص 148- معجم الألفاظ الفارسية المعربة- آدي شير بيروت 1980 ص 136- الدخيل في لهجة أهل الخليج- أحمد الشاذلي- القاهرة 1992 ص 94) . [4] الفيل والكركدن: حيوانان مستأنسان- الفيل من بيل بهلوية الأصل (فرهنگ عميد 2/1559) . [5] الزعفران نبات منه الأصفر والأحمر، تستخدم زهوره في الأطعمة بالإضافة إلى رائحتها الذكية (فرهنگ عميد 2/1107) .

وممالكها لا تحد، لأهلها الحكمة ووفور العقل، أملك الأمم لشهواتهم، وأبذلهم للنفوس فيما يظن به الزلفى. قال محمد بن عبد الرحيم الأقليني الغرناطي [1] في تحفة الألباب [2] : والملك العظيم والعدل الكبير «1» والنعمة الجزيلة والسياسة الحسنة والرخاء الدائم والأمن الذي لا خوف معه في بلاد الهند والصين، وأهل الهند أعلم الناس بأنواع الحكمة والطب والهندسة والصناعات العجيبة؛ التي لا يقدر على منالها «2» ، وفي جبالهم وجزائرهم ينبت شجر العود والكافور وجميع أنواع الطيب كالقرنفل وجوزبوا [3] والسنبل [4] والدار صيني [5] والقرفة والسليخة [6]

_ [1] محمد بن عبد الرحيم الإقليني الغرناطي هو محمد بن عبد الرحيم بن سليمان بن ربيع المازني القيسي الأندلسي الغرناطي عالم وأديب وحافظ ورحالة ولد بغرناطة 473 هـ ومات بدمشق 565 هـ (انظر: الصفدي في الوافي 3/245- الزركلي الأعلام 7/71 المقرئ في نفح الطيب 7/303- معجم المؤلفين لعمر كحالة 10/158) . [2] تحفة الألباب: وهي رحلة ورد اسمها تحفة الأحباب ونخبة الأعجاب (معجم المؤلفين لعمر رضا كحالة بيروت 10/158) . [3] جوزبوا: جوز الطيب، شجر ينمو في الهند، قشرته تسمى بسباسه وجوزبوا هو تمر الشجرة التي تشبه البلوط- والكلمة فارسية من جوز وبو بمعنى رائحة (فرهنگ عميد 1/711) . [4] السنبل: نبات له أوراق طويلة وورود بلون البنفسج يباع للزينة ويستخدم في أعياد النوروز (فرهنگ عميد 2/1233) . [5] الدار صيني: نوع من الأفاوية شبيه بالقرنفل، استعمله العرب قديما على أنه البهارات، شجرته بالهند والصين ويسمى دار جين (انظر: الدخيل في لهجة أهل الخليج للمحقق- معجم الألفاظ الدخيلة في اللغة العربية طوبيا العنبسي- القاهرة 64- 1965 ص 19- معجم آدى شير 60- معجم الألفاظ العامية في دولة الإمارات العربية المتحدة فالح حنظل أبو ظبي 977 ص 208) . [6] السليخة: دهن ثمرة شجرة البان ولحاء شجرة طيبة الرائحة شبيهة بالدار صيني (فرهنگ عميد 2/1223) .

والقاقلة [1] والكبابة [2] والبسباسة [3] وأنواع العقاقير (المخطوط ص 10) ، وعندهم غزال المسك وقط الزباد، ويخرج من بلادهم أنواع اليواقيت، وأكثرها من جزيرة سرنديب [4] . وقد حكى ابن عبد ربه [5] في العقد [6] عن نعيم بن حماد قال: بعث ملك الهند إلى عمر بن عبد العزيز [7] كتابا فيه من ملك الأملاك؛ الذي هو ابن ألف ملك وتخته [8] بيت ألف ملك، وفي مربطه ألف فيل، وله نهران ينبتان العود والأكوة [9] والجوز والكافور؛ الذي يوجد ريحه على اثني عشر ميلا، إلى ملك العرب؛ الذي لا يشرك بالله شيئا، أمّا بعد ... فإني بعثت بهدية وما هي هديّة

_ [1] القاقلة: شجرة لها زهور بيضاء شبيهة بالصنوبر تنمو بالهند، تستخدم في الطعام شبيه بالهيل (فرهنگ عميد 2/1566- 2/1973) . [2] الكبابة: شجيرة تنمو في الهند وجاوة وسومطرة ثمارها بلون القهوة وأقل حدة من الفلفل الأسود طعمها حار ومر- تستخدم في الطب (فرهنگ عميد 2/1618) . [3] البسباسة: لحاء جوز الطيب- يستخدم في الطب (فرهنگ عميد 1/352- 1/711) . [4] سرنديب: يفتح أوله وثانيه وسكون النون، والدال مهملة مكسورة وياء وباء وهي المنطقة التي هبط عليها آدم (انظر حاشية ابن الأثير 7/258) . [5] ابن عبد ربه هو أحمد بن محمد بن عبد ربه بن حبيب القرطبي عالم وأديب وشاعر، ولد وتوفي بقرطبة عاش ما بين 246 هـ 328 هـ له عدة مؤلفات (انظر الذهبي: سير النبلاء 10/69) ابن خلكان: وفيات الأعيان 1/39- معجم الأدباء لياقوت 4/211 نفح الطيب للمقرىء 4/217) . [6] العقد الفريد: أهم مؤلفات ابن عبد ربه، وقد رتبه على عدة فصول تشكل عقدا، وهو كتاب في الأدب (انظر البداية والنهاية لابن كثير 11/193- مصادر الأدب العربي للطاهر مكي القاهرة 1986) . [7] عمر بن عبد العزيز بن مروان (682- 719 م) أحد خلفاء بني أمية، ولى الخلافة بعهد من الخليفة سليمان بن عبد الملك لم يأخذ من بيت المال شيئا، وأبطل سب علي، واشتهر بالتقوى (الموسوعة 1237) . [8] التخت: هو العرش، وكرسي الحكم (فرهنگ عميد 1/548) وهو أيضا السرير (انظر الدخيل في لهجة أهل الخليج للمحقق ص 31) . [9] الألو: فاكهة شبيهة بالطماطم- تستخدم كفاكهة وفي الطب، وهي أنواع، أسود وأصفر (انظر فرهنگ عميد 1/49) .

ولكنها «1» تحية، وقد أحببت أن تبعث إليّ رجلا يعلّمني ويفهّمني الإسلام والسّلام، يعني بالهدية الكتاب «2» . حدثني الشيخ العارف المبارك بقية السلف الكرام مبارك بن محمود الأنبائي من ولد مجدشاه أن حاجب خاصي [1] نفع الله ببركاته، وهو الثقة الثبت، وله الأطلاع على كل ما يحكيه لمكانته ومكانة أسلافه من ملوك هذه البلاد، قال: إن هذه المملكة متسعة غاية الاتساع، يكون طولها ثلاث [2] سنين «3» ، وعرضها «4» ما بين سومنات [3] وسرنديب [4] إلى غزنة وطولها من العرصة المقابلة لعدن إلى سد الإسكندر، عند مخرج البحر الهندي من البحر المحيط [5] ، متصلة المدن ذوات المنابر والأسرة والأعمال والقرى والضياع والرساتيق [6] والأسواق، لا يقطع بينها «5» ولا يفصل بينها خراب.

_ [1] الحاجب الخاص: وهي وظيفة بالبلاط السلطان. [2] وردت بالمخطوط ثلث، وكذلك ترد ثلثمائة وثلثين وثلثون ... وقد صححتها بالرسم الحديث ثلاث وثلاثة وثلاثمائة وثلاثين وثلاثون ... الخ. [3] سومنات: موضع على المحيط الهندي في شبه جزيرة كاثباوار بالكجرات، وصل إليها السلطان محمود الغزنوى وفتحها أوائل القرن الخامس الهجري، كان بهار صنم كبير يتوجه إليه الهندوس (انظر: روضة الصفا في سيرة الأنبياء والملوك والخلفاء لميرخواند ترجمة د. أحمد الشاذلي القاهرة 1988 ص 152- آثار البلاد وأخبار العباد للقزويني 95- 96- ابن الأثير 7/320- طبقات أكبرى لنظام الدين أحمد ترجمة المحقق في رسالة دكتوراه بجامعة القاهرة 1/12- تاريخ گزيدة لحمد الله المستوفى 82) . [4] سرنديب: سيلان وسيرلانكا الحالية، وهي جزيرة في بحر هركند بأقصى بلاد الهند (مراصد الاطلاع 2/710) . [5] يقصد بحر العرب المؤدي إلى المحيط الهندي. [6] الرستانيق جمع مفرده رستاق والرستاق معرب رستا وروستا وتعني القرية والريف وتأتي بالعربية رستاق ورزداق ورسداق، وأصل الكلمة يهلوي من) Rostak انظر: الدخيل في لهجة أهل الخليج 62،-

قلت وفيما ذكره من هذه المسافة طولا وعرضا نظرا إذ لا يفي جميع المعمورة بهذه المسافة، اللهم إلا إن كان مراده أن هذه مسافة من يتنقل فيها حتى يحيط بجميعها مكانا فيحتمل على ما فيه. قال: وفي طاعة هذا السلطان؛ أهل قراجل [1] ، لهم منه هدية وأمان، على قطائع تحمل إليه منهم، يتحصّل منها مال، وهذا جبل قراجل به معادن «1» ذهبا، يحصل منها ما لا يحصى، وجميع هذه البلاد برا وبحرا مجموعة [2] لسلطانها القائم الآن، إلا الجزائر الموغلة «2» في البحر، فأما الساحل فلم يبق به قيد فتر [3] إلا بيده، فتح مغالقه (مخطوط ص 11) ، وملك معاقله، وله الآن السكة [4] والخطبة في جميع هذه البلاد، لا يشاركه فيها مشارك. قال: ولقد حضرت معه من الفتوحات العظيمة ما أقوله عن المشاهدة والعيان على الجملة لا على التفصيل خوفا من إطالة الشرح، فأول ما فتح مملكة تلنك، وهي واسعة البلاد، كثيرة القرى «3» ، عدة قراها تسعمائة ألف قرية، وتسعمائة قرية، ثم

_ - القاموس المحيط للفيروزآبادى 3/243، واژهـ هاى فارسي در زبان عربي، محمد علي إمام شوشتري تهران 1346 هـ ش ض 287، فقه اللغة وسر العربية للثعالبي تحقيق سليمان سليم البواب، دمشق 1984 ص 68، الكتاب لسبيويه 4/304، فرهنگ عميد 2/1041، لسان العرب لابن منظور القاهرة دار الشعب 2/1640- 1641) . [1] أهل قراجل: قراجل جبل كبير بالهند، بينه وبين دهلى مسيرة عشرة أيام، وأهله كفار (رحلة ابن بطوطة، تحقيق د. جمال الدين الرمادي، دار الكتاب اللبناني ص 322) . [2] وردت بالمخطوط المغلفة. [3] فتر مقياس يعادل الشبر، وردت شبر في نسخة ب 65. [4] السكة: ضرب العملة والسكة والخطبة دليلان على سيطرته واستيلائه على البلاد.

فتح بلاد جاجنكز، وبها سبعون قرية جليلة كلها بنادر على البحر [1] ، دخلها من الجواهر والفيلة والقماش المنوع والطيب والأفاوية، ثم فتح بلاد لكنوتى [2] وهي كرسي [3] تسعة [4] ملوك، ثم فتح بلاد دواكير، ولها أربع وثمانون قلعة، كلها جليلات المقدار. قال الشيخ برهان الدين «1» ابن الخلال البزي [5] : وبها ألف ألف قرية ومائتا ألف قرية. عدنا إلى حديث الشيخ مبارك «2» ، قال الشيخ مبارك: ثم فتح بلاد سمند، وكان بها السلطان بلال الديوا وخمسة ملوك [6] كفار، ثم فتح بلاد المعبر [7] ، وهو إقليم جليل، له تسعون مدينة، بنادر على البحر، يجيء من دخلها الطيب واللانس والقماش المنوع ولطائف الأفاق. وحدثني الفقيه العلامة سراج الدين أبو الصفاء عمر بن إسحاق بن أحمد

_ [1] بنادر وردت بالمخطوط بيادر وصوابها بنادر لوقوعها على البحر، والبنادر جمع مفرده بندر والبندر هو الميناء (الدخيل في لهجة أهل الخليج للمحقق 23، فرهنگ عميد 1/377 لسان العرب 1/358، تفسير الألفاظ الدخيلة 13) . [2] وهي لكهنوتي: إحدى الولايات الهندية الواقعة شرق أيوديا وغرب بهار ذكرها ابن بطوطة لكنوتي (الرحلة 292) وردت في نسخة ب 65 النوتي. [3] مقر حكم. [4] وردت بالمخطوط تسع ملوك. [5] برهان الدين بن الخلال البزي: ورد أكثر من شخص قريب من هذا الاسم إلا أن المعاصر لمؤلفنا هو محمد الخلال المتوفى 735 هـ وهو رجل فاضل من آثاره الجفر الكبير (معجم المؤلفين كحاله 10/16) . [6] وردت بالمخطوط خمس ملوك في أ 11 وب 65. [7] بلاد المعير هي أقصى بلاد الهند ناحية سيلان وأظنها المليبار (انظر رحلة ابن بطوطة 399) .

الشبلي العوضي من إقليم عوض [1] من الهند، وهو من أعيان الفقهاء؛ الذين يحضرون حضرة السلطان بدهلى [2] : أن أمهات الأقاليم التي في مملكة هذا السلطان ثلاثة وعشرون إقليما وهي: إقليم دهلى، وإقليم الدواكير، وإقليم الملتان [3] وإقليم كهران، وإقليم سامانا [4] ، وإقليم سيوستان، وإقليم وجا، وإقليم هاسى [5] ، وإقليم سرستى، وإقليم المعبر، وإقليم تلنك، وإقليم كجرات، وإقليم بدوان، وإقليم عوض، وإقليم القنوج [6] ، وإقليم لكنوتى، وإقليم بهار، وإقليم كره، وإقليم ملاوه [7] ، وإقليم نهاور، وإقليم كلانور، وإقليم حاجنكز، وإقليم تلنج، وإقليم دور سمند، وهذه الأقاليم «1» تشتمل على ألف مدينة ومائتي مدينة، كلها مدن ذوات بنايات (المخطوط 12) كبار أو صغار، إذ بجميعها الأعمال والقرى العامرة الآهلة، ولا أعرف ما عدد قراها، وإنما أعرف أن إقليم القنوج [8] مائة وعشرون لكا [9] كل لك مائة ألف قرية، فيكون اثني عشر ألف ألف قرية، وإقليم

_ [1] أظنه أوده التي هي الآن ايوديا وكانت من قبل الله باس ثم الله آباد. [2] دهلي: مدينة بشمال الهند، اتخذها أسر كثيرة مقرا للحكم بها القلعة الحمراء وقطب منار، تقع على نهر جمنة (الموسوعة العربية المسيرة 800) وهي أربعة مدن هي: دهلي وسيري وتغلق آباد وجهان پناه (رحلة ابن بطوطة 276) . [3] الملتان من بلاد السند أوردها العماد الحنبلي في تقويم البلدان المولتان وأن أهلها المطان، وذكره ابن حوقل بأنها أكبر من المنصورة (انظر روضة الصفا حاشية ص 176) . [4] ويقصد ساماته: (انظر طبقات أكبرى لنظام الدين أحمد) . [5] هاتس: (انظر منتخب التواريخ لعبد القادر بداوني) . [6] قنوج: (انظر أكبرنامة لابي الفضل بن المبارك) . [7] مالوه: (انظر تاريخ فرشته لمحمد قاسم فرشته) . [8] وردت بالمخطوط الفتوح وهو قنوج. [9] لك: كلمة هندية تعني مائة ألف، ويكتب لاكي ولكى وقد دخل اللفظ الأردية والفارسية والعربية، ويجمع بالعربية الكاك أو لكاك (انظر الدخيل في لهجة أهل الخليج 101- فرهنگ عميد 2/172- 2/1721.

تلنك، وهو ستة وثلاثون لكا، فيكون ثلاثة آلاف ألف وستمائة ألف قرية، وإقليم مالوه أكبر من القنوج، ولكني لم «1» أحرّر كم عدده، وأما المعبر فيشتمل على عدة جزائر كبار، كل واحدة منها مملكة جليلة مثل كولم وفتن والسيلان ومليبار. وقال الشيخ مبارك: وعلى لكنوتي مائتا ألف مركب صغارا خفافا للسّير، إذا رمى الرامي في آخرها سهما «2» [1] وقع في وسطها لسرعة جريانها، هذا غير الكبار، ولا تبلغ بعض هذا العدد، ومنها ما فيه الطواحين والأفران والأسواق «3» ، وربما لا يتعرف بعض سكانه ببعض إلا بعد مدة، لاتساعها وعظمها، وجردت من جغرافيا «4» تحقيقا طولها وهو من الواق واق [2] إلى قبالة عدن، وعرضها من سرنديب إلى بوارو الواقعة غربي قراقرم [3] ، وأقوله بعبارة البسط من هذا وأوضح لمن تأمل لوح الرسم في الجغرافيا الكاملة فنقول طولها من مخرج البحر الهندي من المحيط في نهاية الصين في المشرق دون جزيرة الجوهر والواق واق المائلة إلى الجنوبي آخذا في البحر إلى حيث ينعطف مغربا على جزيرة الموجه أم جزائر الصين مع طول البحر حتى ينتهي إلى فرصة المغرب، ثم يمتد من هناك برا وبحرا

_ [1] وردت بالمخطوط سهم. [2] واق الواق: جبال بنواحي الصين. [3] قراقرم: عاصمة القاآن الكبير للمغول، أنشئت سنة 1235 وبنى اگداي بها أردوباليق واسكنها من الخطا والتركستان والفرس والمستعمرين (انظر: تركستان من الفتح العربي إلى الفتح المغولي، ف، ف، بارتولد ترجمه عن الروسية صلاح الدين عثمان هاشم، الكويت 1981 ص 650- 655) .

آخذا في الشمال إلى بوارو غربي قراقرم على حد بلاد كاشغر [1] إلى حد بلاد مكران [2] ممتدا على نهر مكران إلى أن يدخل السّند في حدة قريب كرمان [3] ، ثم ينتهي هناك إقليم الهند في البر «1» وآخره المنصورة [4] ، وتتصل جزائره في البحر إلى قبالة عدن، وأمّا عرضه فمن سرنديب، وما هو في سمتها في الجنوب، إلى بوارو وما هو في سمتها إلى الشمال، وحدود هذه المملكة من الجنوب البحر وما يمتد معه من كورة [5] قراجل ومن الشرق لها ور [6] وكلاور، ومن الشمال بلاد الترك، ومن الغرب سيالكوت «2» [7] والمفازة. (المخطوط ص 13) ومدينة دهلى [8] هي قاعدة الملك، ثم بعدها قبة الإسلام، وهي مدينة الدواكير، جددها هذا السلطان، وسماها قبة الإسلام «3» ، قال: ودهلى في الإقليم الرابع، قلت: وهكذا قال الملك المؤيد صاحب حماه رحمة الله في تقويم

_ [1] وردت بالمخطوط كشتغد وهي كاشغر وهي وسط بلاد الترك، وهي مدينة وقرى ورساتيق (مراصد الاطلاع 3/1143) . [2] مكران، إقليم من الأقاليم الإيرانية المجاورة لباكستان الحالية، ولاية واسعة غربيها كرمان وسجستان شمالها والبحر جنوبيها (مراصد الاطلاع 3/1302) . [3] كرمان: إقليم إيراني مجاور لمكران، ولاية مشهورة بين فارس ومكران وسجستان وخراسان (مراصد الاطلاع 3/1160- 1161) . [4] المدينة التي بناها محمد بن القاسم الثقفي فاتح السند سنة 96 هـ وقيل كان اسمها وهفافا، فسميت المنصورة على اسم لما حلها منصور بن جمهور (مراصد الاطلاع 3/1321) . [5] كورة بمعنى ناحية أو منطقة (فرهنگ عميد 2/1662) . [6] لهاور وهي لوهور مدينة عظيمة من بلاد الهند (مراصد الاطلاع 3/1212) . [7] وردت بالمخطوط سايكوت. [8] وردت بالمخطوط دهلا أ 13.

البلدان [1] ، ونقله عمن يوثق به من أهل هذا الشأن. قال الشيخ مبارك: وأما قبة الإسلام فتكون في الثالث، وفارقتها وما تكاملت، ولي الآن عنها ست سنين «1» ، وما أظنها تكون قد تكملت، لعظم ما حصل الشروع فيه من اتساع خطة المدينة، وعظم البناء، وإن هذا السلطان كان قد قسمها على أن تبنى محلات، لأهل كل طائفة محلة، الجند في محلة، والوزراء والكتاب في محلة، والقضاة والعلماء في محلة، والمشايخ والفقراء في محلة، والتجار والكساب في محلة، وفي كل محلة «2» ما يحتاج إليه من المساجد والمآذن [2] والأسواق والحمامات والطواحين والأفران وأرباب الصنايع من كل نوع حتى الصبّاغ والصباغين «3» ، والدباغين، حتى لا تحتاج أهل محلة إلى أخرى في بيع ولا شراء، ولا أخذ ولا عطاء، لتكون في محلة كأنها مدينة مفردة قائمة بذاتها، غير مفتقرة في شيء إلى سواها، وليس في هذه المملكة خراب، إلا تقدير عشرين يوما مما يلي غزنة [3] لتجاذب صاحب الهند وصاحب تركستان [4] وما وراء النهر [5] بأطراف

_ [1] تقويم البلدان لعماد الدين إسماعيل بن محمد بن عمر، أبو الفداء متوفى سنة 732 هـ. [2] وردت بالمخطوط المواذن أ 13، ب 66. [3] غزنة: مدينة عامرة بأفغانستان الحالية، كانت قاعدة لملك السلطان محمود الغزنوي في النصف الثاني من القرن الرابع وأوائل الخامس الهجريين. [4] تركستان: اسم جامع لجميع الترك وأول حدهم من جهة المسلمين فاراب، ومدائنهم المشهورة ستة عشر، مدينة (انظر مراصد الاطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع تأليف صفي الدين عبد المؤمن بن عبد الحق البغدادي (م 739) تحقيق علي محمد البجاوي ط أولى، القاهرة 54- 1955 ج 1/259- وانظر تركستان، الفتح العربي حتى الغزو المغولي فاسيلي فلاديميروفتش بارتولد نقله عن الروسية صلاح الدين هاشم الكويت 1981 ج 1) . [5] ما وراء النهر وهي البلاد الواقعة بعد نهر جيحون المعروف بآمودريا وهي ضمن بلاد التركستان وفيها بخارى وسمرقند وخوارزم وفرغانة.

المنازعة أو جبال معطلة أو شعراء، مشتبكة، ومتحصلات تلك من نبات العطر والأفاويه والعقاقير الداخلة في أدوية الطب أعوّد نفعا من الغلات المزدرعة [1] بما لا يقاس. قلت: وقد أوقفني الفاضل نظام الدين يحيى بن الحكيم «1» علي تأليف قديم في البلاد، وذكر فيه أن قرى جميع الملتان مائة ألف قرية وستة عشرون ألف قرية مثبتة في الديوان، وهو ودهلى في الرابع، ومعظم المملكة في الثاني والثالث، وكلها فسيحة، وبلادها صحيحة، إلا مزارع الأرز، فإنها وخيمة، وبقاعها ذميمة. وحكى في ذلك التأليف أن محمد بن يوسف الثقفي [2] ، أصاب بالسند أربعين بهارا من الذهب، كل بهار ثلاثمائة (المخطوط ص 14) ، وثلاثة وثلاثون منا [3] قال: ومن بلاد غزنة والقندهار آخر حده، وسألت الشيخ مبارك: كيف بر الهند وضواحيه «2» ؟ فقال لي أن به أنهارا ممتدة، تقارب ألف نهر كبارا وصغارا، منها ما، يضاهي «3» النيل عظما، ومنها ما هو دونه، ومنها ما هو دون هذا المقدار، وما هو مثل بقية الأنهار، وعلى ضفاف «4» الأنهار، القرى والمدن، وبه الأشجار الكثيفة، والمروج الفيّح، وهي بلاد معتدلة «5» ، كل أوقاتها ربيع، وتهب بها الأهوية، ويتنسم النسيم «6» اللطيف، وتتوالى بها الأمطار مدة أربعة أشهر وأكثرها

_ [1] يقصد المزروعة وقد استخدم أزدرع ومزدرع كثيرا. [2] محمد بن يوسف الثقفي هو محمد بن القاسم الثقفي أول من فتح السند سنة 96 هـ. [3] المن: نوع من الوزن، يختلف من بلد لآخر وهو يعادل الآن 3 كيلو في إيران و 4 كيلو في الإمارات و 14 رطلا في الكويت (فرهنگ عميد 2/1851، الدخيل في لهجة أهل الخليج 106) .

في أخريات الربيع، إلى ما يليه من الصيف، وبها أنواع من الحبوب والحنطة والأرز والشعير والحمص والقدس، والماش [1] واللوبيا والسمسم وأمّا الفول فلا يكاد يوجد فيها. قلت: أظن عدم وجود «1» الفول بها لأنها بلاد حكماء وعندهم أن الفول يفسد جوهر العقل، ولهذا حرّمته الصابئة [2] ، قال: وبها من الفواكه شيء من التين والعنب والرمان الكثير الحلو والمر والحامض والموز والخوخ والأترج [3] ، والليمون واللبم والنارنج والجميز والتوت الأسود المسمى بالفرصاد والبطيخ الأصفر والأخضر والخيار والقثاء والعجور والتين، والعنب هو أقل ما يوجد من بقية هذه الأنواع، وأمّا السفرجل فيوجد بها ويجلب إليها، وأمّ الكمثرى والتفاح فهما أقل وجدا من السفرجل، وبها فواكه أخر لا تعهد في مصر والشام والعراق وهي العنبا والمهوا واللكح والكريكا وايجلى والفكي والنغزك وغير ذلك من الفواكه الفائقة اللذيذة، فأما النارجيل وهو المسمى بالجوز هندي، (لا يعادله شيء، وهو أخضر مملوء بدهنه، وأما الحمر وهو المسمى بالتمر هندي) [4] فهو شجر بري يلو الجبال، والنارجيل والموز بدهلى أقل مما حولها من بلادها على أنه الموجود الكثير، وأما

_ [1] الماش: نوع من الحبوب يشبه العدس، يطبخ، أبيض من الداخل وأخضر من الخارج (فرهنگ عميد 2/1737، الدخيل في لهجة أهل الخليج 104) . [2] الصابئة: فرقة دينية عقائدها خليط بين اليهودية والمسيحية، عدها القرآن الكريم ضمن أهل الكتاب، ومنهم عبدة أصنام في حران (فرهنگ عميد 2/1348) . [3] أترج: ضرب من الحمضيات بين البرتقال والليمون وهو يسمى ترنج وأترنج وترج وأترج وفي لهجة الخليج ترني (انظر: الدخيل في لهجة أهل الخليج 31- 32/لسان العرب 1/425 معجم الألفاظ الفارسية الدخيلة 34/معجم تيمور الكبير 2/312- 313. [4] ورد بهامش المخطوط أ 14 العبارة التي بين القوسين وهي مكملة للمتن ووضعتها في موضعها، ومثبتة في ب 67.

قصب السكر فإنه بجميع هذه البلاد كثير ممتهن، ومنه نوع أسود جف «1» صلب (المخطوط ص 15) العيدان، وهو أجوده للامتصاص لا للإعتصار، وهو مما لا يوجد في سواها، ويعمل من بقية أنواعه السكر الكثير العظيم الرخيص من السكر النبات والسكر المعتاد، ولكنه لا يجمد بل يكون كالسميد الأبيض، وبها الأرز؛ على ما حدثني الشيخ مبارك بن مجد شاذان؛ على أحد وعشرين نوعا، وعندهم اللفت والجزر والقرع والبادنجان والهليون «2» [1] والزنجبيل، وهم يطبخونه إذا كان أخضر، كما يطبخ الجزر، وله طعم طيب لا يعادله شيء، وبها السلق والبصل والفوم والشمار [2] والصعتر «3» [3] وأنواع الرياحين من الورد والنيلوفر [4] والبنفسج والبان وهو الخلاف، والنرجس، وهو العبهر [5] ، وثامر الحناء «4» ، وهو الفاغية، وكذلك الشيرج [6] ، ومنه وقيدهم [7] ، وأمّا «5» الزيت فلا يأتيهم إلا جلبا، وأما العسل فأكثر من الكثير، وأمّا الشمع فلا يوجد إلا في دور السلطان، ولا يسمح فيه لأحد،

_ [1] الهليون: نوع من العشب يفسد سم الثعبان ولدغات الهوام (فرهنگ عميد 2/1974، قاموس الفارسية عبد النعيم حسنين بيروت القاهرة 1982 ص 607) . [2] الفوم: الثوم، والشمار: الشمر. [3] الصعتر هو الزعتر، وهو نبات صحراوي له أوراق ذات نكهة طيبة، يستخدم كعلاج لأمراض الرئة والمعدة (فرهنگ عميد 2/1206) . [4] وردت بالمخطوط اللينوفر، والنيلوفر هو عشب ذات ألوان مختلفة يستخدم للزينة من الكلمة البهلوية) NiloPar فرهنگ عميد 2/1933) . [5] العبهر: هو النرجس والياسمين (فرهنگ عميد 2/1425) . [6] الشيرج: زيت السمسم معرب شيره الفارسية (الدخيل في لهجة أهل الخليج 77) . [7] وقيد يعني وقود، وردت وقودهم ب 68.

وما لا يحصى من الدواب السائمة من الجواميس والأبقار والأغنام والمعز، ودواجن الطير من الدجاج والحمام البلدي والأوز، وهو أقل أنواعه، فأما الدجاج الهندي فيكاد أن يكون كالأوز في عظم المقدار، وكل هذا يباع بأرخص الأسعار، وأقل الأثمان، وأما السمن واللبن على اختلاف أنواعه فكثير لا يعبأ به ولا له قيمة، ويباع بأسواقها من الأطعمة المنوعة كالشواء والأرز والمطجّن والمقلى والمنوع والحلوى [1] المنوعة [2] على خمسة وستين نوعا، والفقاع والأشربة ما لا يكاد يرى في مدينة سواها، وبها من أصحاب الصنائع للسيوف والقسى والرماح وأنواع الرماح والزردا، والصواغ «1» والزراكش [3] والسراجين وغير ذلك من أرباب كل صنف «2» مما يختص بالرجال والنساء وذوي السيوف والأقلام وعامة الناس ما لا يحصى لهم عدد، وأمّا الجمال فقليلة لا تكون إلا للسلطان ومن عنده من الخانات [4] والأمراء والوزراء وأكابر أرباب الدولة، وأما الخيل فكثيرة وهي نوعان (المخطوط ص 16) : عرّاب [5] وبراذين [6] ، وأكثرها مما لا يحمد فعله، ولهذا

_ [1] وردت بالمخطوط الحلوا وهو عادة يكتب الألف المقصورة ألفا مثل أحلى، أعلى، أسمى، وقد كتبتها على الرسم المستعمل الآن، وذلك في نسخة أ، ب. [2] انظر الزردخانة فيما بعد. [3] الزراكش جمع مفرده زركش وتعني وضع خطوط ذهبية على الثوب ويسمى ذلك تذهيبا والثوب مذهبا وهو من الفعل الفارسي زركشيدن ويعني التذهيب ومنه في العربية مزركش ويزركش وزركشة (انظر الدخيل في لهجة أهل الخليج 66 فرهنگ عميد 2/1104، قاموس الفارسية 320) . [4] الخانات جمع مفرده خان وهي كلمة تركية الأصل بمعنى رئيس وأمير وتطلق على رؤساء الترك والتاتار (انظر فرهنگ عميد 1/828، تفسير الألفاظ الدخيلة 23/معجم أنيس فريحة 42/معجم آدى شير 58، الدخيل في لهجة أهل الخليج 43) . [5] العرّاب: الخيول العربية ذات الأصول الكريمة. [6] براذين جمع مفرده برذون وهو الحصان التاتاري والبغل والحصان غير الأصيل (فرهنگ عميد 1/336) .

تجلب إلى الهند من جميع ما جاورها من بلاد الترك، وتقاد إليها العرّاب من البحرين وبلاد اليمن والعراق على أن في دواخل الهند خيلا عرابا كريمة الأحساب، يتغالى في أثمانها، ولكنها «1» قليلة، ومتى طال مكث الخيل بها انحلت، وأما البغال والحمر «2» فما يعاب عندهم ركوبها، ولا يستحسن فقيه ولا ذو علم «3» ركوب بغلة، فأما الحمار فإن ركوبه عندهم مذلة كبرى «4» ، وعار عظيم، بل ركوب الكل الخيل، وأمّا الأثقال فخاصتهم يحمل على الخيل، وعامتهم يحمل على البقر، يحمل عليها الأكفاء، فيحمل عليها، وهي سريعة المشي، ممتدة الخطا. وسألت الشيخ مبارك عن مدينة دهلى، وما هي عليه «5» ، فحدثني أن دهلى مدائن جمعت مدينة، ولكل واحدة اسم معروف، وإنما دهلى واحدة منها، وقد صار يطلق على الجميع اسمها، وهي ممتدة طولا وعرضا، يكون دور عمرانها [1] أربعين ميلا، بناؤها بالحجر والآجر، وسقوفها بالأخشاب، وأرضها مفروشة بحجر أبيض شبيه بالرخام، ولا يبنى بها أكثر من طبقتين، وفي بعضها طبقة واحدة، ولا يفرش بالرخام إلا السلطان. قال الشيخ أبو بكر بن الخلال: هذه دور دهلى [2] العتيقة، فأما ما أضيف إليها فغير ذلك «6» ، قال: وجملة ما يطلق عليه الآن اسم دلى () أحد وعشرون مدينة،

_ [1] دور عمرانها أي محيط عمراها، وليست جمع مفرد دار. [2] يقصد دهلي، ودلي هو النطق الصواب للكلمة لأن د هـ حرف واحد في الأردية، ودهلي أو دلي هي العاصمة وحاضرة الدول الإسلامية التي حكمت الهند.

وبساتينها على استقامة، كل خط اثنا عشر ميلا من ثلاث جهاتها، فأمّا الغربي فعاطل لمقاربة جبل لها به، وفي دهلى ألف مدرسة، وبها مدرسة واحدة للشافعية، وسائرها للحنفية، ونحو سبعين مارستانا [1] ، وتسمى بها دور الشفاء [2] ، وفيها وفي بلادها من الخوانق [3] والربط [4] عدة ألفين مكانا، وبها الديارات [5] العظيمة، والأسواق الممتدة، والحمامات الكثيرة، وجميع مياها من آبار محتفرة قريبة المستقى، أعمق ما يكون سبعة أذرع، عليها السواقي، وأمّا مشرب أهلها فمن ماء المطر في أحواض وسيعة تجتمع (المخطوط ص 17) فيها الأمطار، كل حوض يكون قنطرة، علوه سهم وأزيد، وبها الجامع المشهور المئذنة [6] ، التي قال أنه ما على بسيط الأرض لها شبيه في سمكها وارتفاعها [7] ، وقال الشيخ برهان الدين بن الخلال البزي الصوفي أن علوها ستمائة ذراع في الهواء. قال الشيخ مبارك: وأما قصور السلطان ومنازله بدهلى فإنها خاصّة

_ [1] مارستان: دار الشفاء، المستشفى، وهي بيمارستان ومارستان بالفارسية، وتأتي في العربية مارستان وبيمارستان وبيمارستان من بيمار بمعنى مرض وستان لاحقة تفيد المكان والكلمة فارسية (انظر الدخيل في لهجة أهل الخليج 104، معجم الألفاظ العامية لأنيس فريحة 166، معجم آدى شير 33- 145، فرهنگ عميد 1/409- 2/1734) . [2] وردت بالمخطوط دو الشفا. [3] الخوانق جمع مفرده خانقاه وهي مكان تجمع الصوفية، وهي الأماكن التي يأوي إليها رجال التصوف لعقد مجالس الذكر والعبادة (انظر فرهنگ عميد 1/829- فرهنگ أدبيات فارسي 191) . [4] الربط جمع مفرده رباط، وتجمع أيضا رباطات وهي تماثل الخانقاه في وظيفتها بالإضافة إلى كونها أماكن على الطرق للتجار والمسافرين كما أنها أماكن متقدمة للقتال (انظر فرهنگ رازي 388) . [5] الديارات جمع الجمع ديار. [6] وردت بالمخطوط الأذنة أ، ب. [7] أظنه يقصد مئذنة قطب منار المنسوب لقطب الدين أيبك أحد ملوك المماليك الغورية في الهند.

بسكونه «1» وسكن حريمه ومقاصير جواريه [1] وحظاياه [2] ، وبيوت خدمه ومماليكه، لا يسكن معه أحد من الخانات، ولا من الأمراء، ولا يكون به أحد منهم إلا إذا حضروا للخدمة، ثم ينصرف كل واحد إلى بيته، وخدمتهم مرتين في كل نهار في بكرة كل يوم وبعد العصر منه، ورتب الأمراء على هذه الأنواع، أعلاهم قدرا الخانات ثم الملوك ثم الأمراء، ثم الأصبهلاريه [3] ثم الجند، وفي خدمته ثمانون خانا أو أزيد، وعسكره تسعمائة ألف فارس من هؤلاء، منهم من هو بحضرته، ومنهم في سائر البلاد، يجرى عليهم كلهم ديوانه [4] ، ويشتملهم إحسانه، وعساكره من الأتراك والخطا والفرس والهند، ومنهم البهالوين [5] والشكار [6] ، ومن بقية الأنواع والأجناس، كلهم بالخيل المسومة، والسلاح الفائق والتجمل الظاهر الزائد، وغالب الأمراء والجند تشتغل بالفقه،

_ [1] وردت بالمخطوط جواره أ، جواريه ب 69. [2] حظاياه جمع مفرده حظية وهن الجواري أصحاب فنون الغناء والموسيقى (انظر حظية فرهنگ عميد 1/798) . [3] وردت بالمخطوط الأصفهسلايه وصوابها السبهسلارية وهي من سيه سالار، كلمة فارسية تعني قائد الجيش مأخوذ عن الپهلوية) SPah SalAx فرهنگ عميد 2/1168) . [4] الديوان: الكتاب يكتب فيه أهل الجيش وأهل العطية، وأول من وضعه الخليفة الراشد عمر بن الخطاب، وأخذه عن الفرس وكان كسرى أنوشيروان ملك فارس قد أطلق اسم ديوان أو ديوانه على الموظفين الحكوميين (انظر: الدلالات اللفظية للكلمات الفارسية في كتاب سيبويه د. أحمد الشاذلي، المنوفية 1987 ص 28- واژهـ هاي فارسي در زبان عربي 273/275) . [5] البهالوين: جمع مفرده بهلوان، والباء مثلثة، ومعربها فهوي، واللفظ فارسي بمعنى البطل والشجاع (انظر الدخيل في لهجة أهل الخليج ص 91، فرهنگ عميد 1/496) . [6] الشطار جمع مفرده شاطر وهم جماعة تماثل العيارين والفتوة، وكانوا في القديم عبارة عن مشاة يسيرون أمام موكب السلاطين والأمراء في زمن خاص (فرهنگ عميد 2/1277- 1305) .

ويتمذهبون [1] خاصة وأهل الهند عامة لأبي حنيفة رضي الله عنه، وله [2] ثلاثة آلاف فيل محققة، تلبس في الحروب البركصطوانات [3] الحديد المذهب، وأمّا في أوقات السلم فتلبس جلال الديباج [4] والوشى وأنواع الحرير، وتزين بالقصور والأسرة المصفحة، وتشد عليها البروج من الخشب المسمرة، ويتبوأ بها رجال الهند مقاعد القتال، ويكون على الفيل من عشرة رجال إلى ستة رجال على قدر احتمال الفيل، وله عشرون ألف مملوك أتراك. قال البرس «1» وعشرة آلاف خادم خصى، وألف خزندار [5] وألف بشمقدار [6] وله مائتا ألف عند ركابيه [7] ، تلبس السلاح (المخطوط ص 18) ، وتمشي في ركاب السلطان، وتقاتل رجّالة بين يديه، وليس يستخدم أحد من الخانات والملوك والأمراء والأصفهلاريه «2» أجنادا، يقطع لهم الإقطاعات من قبلهم، كما هو في مصر والشام، بل ليس يتكلف الواحد منهم إلا نفسه وعدته من الجند، استخدامهم

_ [1] أي يعتنق كل منهم مذهبا، ويتعمق فيه كالمالكية والشافعية والحنابلة. [2] أي للسلطان. [3] البركصطوانات: من الكلمة الفارسية برگستوان وتعني غطاء مخصوص من الصلب يضعونه أثناء الحرب على الجسم أو على الجياد والأفيال وهي من برگستوان وبرگستان (فرهنگ عميد 1/342) . [4] الديباج: هو من اللفظ الفارسي ديبا بمعنى حرير وعربت ديباج ومنها الفعل ديج ويديج، والديباج حزب من الحرير، واللفظ الفارسي مأخوذ من الپهلوية (انظر لسان العرب 2/1316، قاموس شتايجس فارسي/ إنجليزي 551، فقه اللغة للثعالبي 325، واژهـ هاي فارس لشوشترى 268) . [5] خزندار: الخازن من الكلمة العربية خزانة واللاحقة الفارسية دار، وخزندار من خزانة دار أي القائم بأعمال الخزانة (فرهنگ عميد 1/820) . [6] بشمقدار من باشماق دار وباشماق تركية بمعنى حذاء وباشماقدار حامل الحذاء (فرهنگ عميد 1/306) . [7] قواد الجيش.

للسلطان، وأرزاقهم من ديوانه، ويبقى كلما تعين لذلك الخان أو الملك أو الأمير أو الأصفهلار خاص لنفسه والحجاب وأرباب الوظائف وأصحاب الأشغال من أرباب السيوف من الخانات والملوك والأمراء، لكل رتبة من يناسبها على مقدارها، فأمّا الأصفهلارية فلا يؤهل منهم أحد لقرب السلطان، وإنما يكون منهم نوع الولاة «1» ، ومن يجري مجراهم، والخان يكون له عشرة آلاف فارس، والملك ألف فارس، والأمير مائة فارس، والأصفهلارية دون ذلك. وأما أرزاقهم فيكون للخانات والملوك والأمراء والأصفهلارية بلاد مقررة عليهم من الديوان، إن كانت لا تزيد، فإنها لا تنقص، والغالب أن تجيء أضعاف ما عبرت به. ولكل خان لكان [1] ، كل لك مائة ألف تنكة [2] كل تنكة ثمانية دراهم، هذا خاص له، لا يخرج منه لجندي من أجناده شيء، ولكل ملك ستين ألف تنكة إلى خمسين ألف تنكة، ولكل أمير منه «2» أربعين ألف تنكة إلى ثلاثين ألف تنكة، والأصفهلارية من عشرين ألف تنكة وما حولها، وأما الجند فكل جندي من عشرة آلاف تنكة إلى ألف تنكة، وأما المماليك السلطانية، فكل مملوك من خمسة آلاف تنكة إلى ألف تنكة، وطعامهم وكساويهم وعليقهم [3] والجند والمماليك ليس لهم بلاد، وإنما يأخذون أموالهم نقدا من الخزانة، وأما أولئك «3» فبلاد تلك غيرها.

_ [1] لكان: مثنى لك، والك مائة ألف (الدخيل في لهجة أهل الخليج 101) . [2] تنگه: هي عملة فضية وذهبية، ولكنها في الغالب فضية (انظر معجم فريحة 23، فرهنگ عميد 1/628، الدخيل في لهجة أهل الخليج 35) . [3] ما يقدم للحيوانات التي يستخدمها الأمراء وأرباب الوظائف من خيل وإبل وبغال وخلافه.

قال: والآن إن لم يزد متحصلات البلاد المقتطعة لهم عن المعبر [1] وإلا فما تنقص، ومنهم من يحصل له قد عبرته مرتين وأكثر. وأما العبيد فكل عبد منهم في كل شهر منان [2] من الحنطة والأرز طعاما لهم وفي كل يوم (المخطوط ص 19) . ثلاثة أسيار [3] لحم مما يحتاج إليه، وفي كل شهر عشر تنكات بيضا، وفي كل سنة أربع كساوي. ولهذا السلطان دار طراز [4] ، فيها أربعة آلاف قزاز [5] تعمل الأقمشة المنوعة للخليع «1» [6] والكساوى والإطلاقات، مع ما يحمل له من قماش الصين والعراق والإسكندرية، وهو يفرق كل سنة مائتي ألف كسوة كاملة، مائة ألف كسوة في الربيع، ومائة ألف كسوة في الخريف. فأما كسوة الربيع فغالبها من القماش الإسكندري، عمل الإسكندرية، وأما كساوى الخريف فكلها حرير من عمل دار السلطان الطراز بدهلى، وقماش الصين والعراق، ويفرق على الخوانق والربط الكساوى، وله أربعة آلاف

_ [1] العير ما هو محدد ومقرر، الأراضي المحددة لكل صاحب وظيفة، تعادل كلمة اقطاع، وتعني خراج أيضا (فرهنگ عميد 2/1424) . [2] منان مثنى من، نوع من الوزن (انظر الدخيل في لهجة أهل الخليج 106) . [3] أسيار جمع مفرده سير، وهو وزن يعادل 16 مثقالا، ويأتي أيضا ستير من اللفظ الپهلوي) Ster انظر فرهنگ عميد 2/1241) . [4] دار طراز: أي الدار التي يتم تطريز ونسج الملابس فيها، وتعني دار النقش والتطريز (فرهنگ عميد 2/1395) . [5] قزّاز: وهو صانع القز، والقز والخز واحد وهو الحرير الخام (واژهـ هاي فارسي در زبان عربي 260) . [6] الخليع: الملابس التي تخلع على الأمراء وأصحاب الوظائف وتسمى خلعا، وهي لفظة غير الخلع المعروف عند القبائل العربية.

زركشي [1] ، يعمل الزراكش لباقي الحريم، ويعمل في مستعملاته، ولما يخلعه على أرباب دولته، ويعطى لنسائهم. ويفرق في كل سنة عشرة آلاف فرس عربي من الخيل العراب المسومة منها ما هو مسرج ملجم، ومنها ما هو عربي بلا سرج ولا لجام، والمسرجات والملجمات على أنواع منها ما هو ملبس، ومنها ما هو محلى، ثم إن تلك الملبسات والملجمات. منها ما هو بالذهب، ومنها ما هو بالفضة، فأمّا ما يعطى من الخيل والبراذين، فإنه بلا حساب، يعطى جسارات جسارات، ويفرق مئينا مئينا [2] . وهو على كثرة الخيل ببلاد، وكثرة ما يجلب إليه يتطلبها من كل قطر، ويبذل فيها أكثر الأثمان، لكثرة ما يعطى ويطلق، وهي مع هذا غالية الثمن، مربحة المكاسب، لمن يتاجر فيها، لكثرة المكاسب والعساكر وجمهرة الخلق. وحدثني علي بن منصور العقيلي «1» من أمراء عرب البحرين، وهم ممن يجلبون من البحرين، الخيل، إلى هذا السلطان؛ أن لأهل هذه البلاد علامة في الفريس، يعرفونها بينهم، متى ما رأوها «2» في فرس اشتروه بما عسى يبلغ ثمنه. ولهذا السلطان نائب من الخانات يسمى أميرت «3» أقطاعه يكون قدر إقليم عظيم نحو العراق، ووزير؛ أقطاعه يكون قدر إقليم «4» العراق وله أربعة (المخطوط

_ [1] الزركشي: مذهب، القائم بصناعة الملابس الموشاة بالذهب (الدخيل في لهجة أهل الخليج 66) . [2] مئات مئات.

ص 20) نواب، يسمى كل واحد منهم شق [1] ، ولكل «1» منهم أربعين ألف تنكة إلى عشرين ألف تنكة، وله أربعة دبيران [2] أي كتاب سر، لكل واحد مدينة من المدن البنادر العظيمة الدخل، ولكل واحد منهم بقدر ثلاثمائة كاتب أصغر من فيهم وأضيق رزقا له عشرة تنكة «2» . وأما أكابرهم فله قرى وضياع، وفيهم من له خمسون قرية، ولصدر جهان [3] ، وهو اسم قاضي القضاة، وهو في وقتنا كمال الدين بن البرهان، عشرة قرى، يكون متحصلها قريب من ستين ألف تنكة «3» ويسمى صدر الإسلام، وهو أكبر نواب الحكم بالقضاء، ولشيخ الإسلام وهو شيخ الشيوخ مثله، وللمحتسب قرية، يكون متحصلها قريب «4» ثمانية آلاف تنكة. وله ألف طبيب، ومائتا طبيب وعشرة آلاف بزدار [4] تركب الخيل، وتحمل الطيور المعلمة للصيد، وثلاثة آلاف سواق، تسوق لتحصيل الصيد، وخمسمائة نديم، وألف «5» ومائتان نفرا من الملاهي، غير مماليك الملاهي، وهم ألف مملوك، برسم تعليم الغناء خاصة، وألف شاعر من اللغات الثلاثة العربية والفارسية [5] والهندية [6]

_ [1] شق كلمة عربية بمعنى ناحية، وجاءت منها شقدار أي صاحب الناحية. [2] دبيران جمع مفرده دبير، وقد استخدم المؤلف الكلمة جمعا فارسيا وليس عربيا، وهي من الپهلوية DaPir ومعناها كاتب (فرهنگ عميد 1/926) . [3] صدر جهان: قاضي القضاة. [4] بزدار: بز رداء كتاني أو قطني وبزدار صاحب القماش (فرهنگ عميد 1/349) . [5] كانت الفارسية هي اللغة المستعملة في بلاد سلاطين الهند المسلمين لأنها لغة الجيش. [6] اللغة الهندية ليست هي الأردية، فالأردية هي لغة المسلمين واللغة الهندية هي اللغة المأخوذة عن السنسكريتية.

من ذوي الذوق اللطيف، يجرى على هؤلاء كلهم ديوانه، وتدر عليهم مواهبه، ومتى بلغه أن أحدا من ملاهيه غنى لأحد، قتله، وساءلته عما لهؤلاء من الأرزاق، فقال: لا أعلم من أرزاق هؤلاء إلا ما للندماء، فإن لبعضهم قريتين، ولبعضهم قرية، ولكل واحد منهم من أربعين ألف تنكة إلى ثلاثين ألف تنكة إلى عشرين ألف تنكة، على مقاديرهم من الخلع والكساوى والافتقادات «1» . (قال الشيخ أبو بكر بن الخلال البزي الصوفي: وله مائتا تبع تسافر بأمواله في البلاد تبتاع له ولكل واحد منهم في كل مدينة ألف تنكة) «2» قال الشيخ مبارك: ويمد لهذا السلطان السماط أوقات الحزم في طرفي النهار مرتين، في كل يوم، ويطعم منه عشرون ألف نفر مثل الخانات والملوك والأمراء والأصفهلارية وأعيان الجند، وأما طعامه الخاص، فيحضر معه عليه الفقهاء، مائتا فقيه في الغداء والعشاء، ليأكلوا معه ويجثوا بين يديه. قال الشيخ أبو بكر بن الخلال البزي: سألت طباخ السلطان كم يذبح في مطابخة «3» كل يوم؟ فقال: يذبح ألفين وخمسمائة رأس من البقر، وألفين رأس من الغنم غير الخيل (المخطوط ص 21) المسمنة، وأنواع الطير. قال الشيخ مبارك: ولا يحضر مجلس هذا السلطان من الجند إلا الأعيان ومن دعته ضرورة الحضور لكثرة عددهم، وكذلك مجالسه الخاصة لا يحضر بها جميع أرباب الخدم من الندماء والمغاني إلا بالنوب، وكذلك أرباب الوظائف مثل الدبيران [1] والأطباء، ومن يجرى مجراهم لا يحضرون إلا بالنوب «4» ، وأما الشعراء

_ [1] دبيران جمع مفرده دبير: وتعني الكاتب.

فلحضورهم أوقات مخصوصة في السنة مثل العيدين والمواسم ودخول شهر رمضان وعند ما تتجدد نصره على أعداء أو فتح «1» من الفتوحات أو غير ذلك مما تهنىء «2» به السلاطين، أو يتعرض إلى مدحهم فيه. وأمور الجند خاصة بل الناس عامة إلى آمريت [1] وأمور الفقهاء والعلماء والقاطنين والواردين كلها إلى صدر جهان وأمور الفقهاء القاطنين والواردين إلى شيخ الإسلام، وأمور عامة الواردين والوافدين والأدباء والشعراء القاطنين والواردين إلى الدبيران، وهم كتاب السر. وحدثني قاضي القضاة أبو محمد الحسن بن محمد الغوري الحنفي أن السلطان محمد بن طغلقشاة «3» [2] كان قد جهّز مغصان؛ أحد كتاب سره إلى جهة السلطان أبي سعيد [3] «4» ، وبعث معه ألف ألف تنكة ليتصدق بها في المشاهد [4] بالكوفة والعراق وتلك الآفاق، وكان هذا مغصان مخبث النية، فجمع أحواله عازما

_ [1] نائب السلطان. [2] السلطان محمد بن تغلقشاه هو ابن السلطان تغلقشاه تولى حكم دهلي بعد وفاة أبيه، وهو أحد سلاطين المماليك القطبية الغورية (انظر: صفته عن ابن بطوطة 292- 310- طبقات أكبري لنظام الدين أحمد، ترجمة المحقق ج 2) . [3] السلطان أبو سعيد بهادر آخر سلاطين الإيلخانيين (م 736 هـ) وهو ابن السلطان أولجايتو، حكم العراق وخراسان وآذربيجان والروم والجزيرة (انظر: الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة لابن حجر العسقلاني بيروت ج 2/137- كتابنا عبيد زاكاني ومنظومته موش وگربه القاهرة 1990 ص 1- 10- تاريخ مفصل إيران لعباس إقبال تهران 1312 ش 1/38. [4] المشاهد جمع مشهد وهي أماكن مدافن الأئمة الشيعة وأشهرها مشهد الإمام علي بن أبي طالب في النجف الأشرف ومشهد الإمام حسين بن علي في كربلاء ومشهد موسى الكاظم في الكاظمية ببغداد، ومشهد علي موسى الرضا في مدينة مشهد.

على أنه لا يرجع إلى حضرة مرسله، وصادف وصوله وفاة أبي سعيد، فتمكن مما قصده، وحضر إلى بغداد ومعه نحو خمسمائة فرس له ولأصحابه، ثم توجه إلى دمشق، قال: ثم بلغني أنه عاد منها إلى العراق، وأقام ببغداد، واستوطنها. قلت وقد حدثني بحال هذا، الفاضل نظام الدين أبو الفضائل يحيى بن الحكيم، وقال لي أنه رآه [1] بدمشق، لكنه «1» لم يذكر مبلغ هذه الصدقة، وكذا حكى لي عنه السبكي والملتاني والبزي، وإنما تخالفت ألفاظهم، فمعناها واحد، وقال كل منهم أن هذا مغصان من الفضلاء والأعيان والزينة الأخيار. قال الشيخ أبو بكر «2» البزي: وهذا السلطان ترعد الفرائص لمهابته، وتزلزل الأرض لموكبه، وهو كثير التصدي (المخطوط ص 22) لأمور مملكته «3» (و) لأمور ملكه [2] ، وهو يجلس بنفسه لإنصاف رعيته «4» . قال خواجه [3] أحمد بن خواجه عمر بن مسافر فيما حكاه عنه أنه يجلس لقراءة قصص [4] الناس عليه جلوسا عاما، ولا يدخل عليه من معه شيء من السلاح حتى ولا السكين، إلا كاتب السر لا غير. والسلطان عنده سلاح كامل حتى التركاش [5] «5» والقوس والنشاب، حيث

_ [1] وردت بالمخطوط رواه. [2] ما بين القوسين إضافة المحقق لإتمام المعنى. [3] وردت بالمخطوط خواجا وصوابها خواجه وتعني بالفارسية السيد، وهو لقب يحظى به أصحاب العلم والأدب (فرهنگ عميد 1/882 قاموس الفارسية 223) . [4] القصص هي الشكاوى. [5] التركاش هي تركش أو تيركش بفتح تاء وكاف كلمة فارسية تعني جعبة السهام (فرهنگ رازي 141) .

قعد، لا يفارقه سلاحه، قال: وهذا دأبه دائما أبدا. وأما ركوب هذا السلطان فإنه يختلف، تارة يكون للحرب، وتارة يكون للانتقال في دهلى من مكان إلى مكان، وتارة يكون في قصوره، وأما إذا ركب إلى حرب، فالجبال سائرة، والرمال سائلة، والبحار تتدفق، والبحور والبروق تلمع، وأمور يعتقد كذبها العيان، ويعتقل عن وصفها اللسان، وعلى الفيلة من الأبراج مدينة أو قلعة حصينة، ولا يرى الطرف إلّا النقع المثار، ودجى ليل ممتد على النهار، وشعار ولا يحمل أحد في الأعلام سواد إلّا له خاصة، وفي الميمنة له أعلام سود، وفي الميسرة أعلام حصر، وفيها التنينات الذهب، السلطان أعلام سود [1] ، في أوساطها تنين عظيم من الذهب، وأمّا بقية الأمراء فكل واحد يحمل ما يناسبه، وأما ما يدق للسلطان من الرهجيات [2] في الإقامة والسفر فإنه يدق له مثل الإسكندر ذي القرنين وهي مائتا جمل نقارات [3] ، وأربعون جملا من الكوسات [4] وعشرون بوقا، وعشرة صنوج [5] ، وتدق له النوب الخمس أيضا، ويحمل معه ما لا يحصى من الخزائن، وغير ذلك ما لا يكاد يعد من الجنائب. وأمّا في «1» الصيد فإنه يخرج من خف، لا يكون معه أكثر من مائة ألف فارس،

_ [1] الأعلام السود شعار الدولة العباسية. [2] الرهجيات جمع مفرده رهج والرهج من الكلمة الفارسية ره گو وتعني المغني والمغنية والرهجيات المغنيات (فرهنگ عميد 2/1078) مركب من ره بمعنى نغمه أو لحن وگوى (گوينده) أي المغني (فرهنگ رازي 411. [3] النقارات جمع مفرده نقاره والنقارة نوع من الطبل يضرب بعصاتين (فرهنگ عميد 2/19114) . [4] الكوسات جمع مفرده كوس وهو الطبل الكبير ويسمى أيضا كوست وهو طبل الحرب، وهو عالي وشديد الإيقاع (فرهنگ رازي 732- عميد 2/1663) . [5] الصنوج جمع مفرده صنج، من الآلات الموسيقية مكون من قطعتين تقرعان ببعضهما وهي في العربية صنج وسنج (الدخيل في لهجة أهل الخليج 75- فرهنگ عميد 2/1369) .

ومائتي فيل، ويحمل معه أربعة قصور خشب على ثمانمائة جمل، كل قصر على مائتي جمل ملبسة جميعها ستور حرير سود مذهبة، وكل قصر طبقتان غير الخيم والخركاوات [1] . وأمّا في الانتقال من مكان إلى مكان للتنزه أو ما هذا سبيله فيكون معه نحو ثلاثين ألف فارس، وهذه العدة من الفيلة وألف جنيب [2] مسرجة ملجمة ما بين ملبس بالذهب ومحلا «1» (المخطوط 23) ومطوق، ومنها المرصع بالجواهر واليواقيت. وأما ركوبه في قصوره، فقال لي الشيخ محمد الخجندي، وكان ممن دخل دهلى، واستخدم في الجند بها، أنه رآه قد خرج من قصر إلى آخر «2» وهو راكب وعلى رأسه الجتر [3] والسلاح داريه [4] ، ورآه محمولا بأيديهم السلاح «3» ، وحوله قريب اثني عشر ألف مملوك، جميعهم مشاة؛ ليس فيهم راكب إلا حامل الجتر والسلاح داريه والجمداريه [5] حملة القماش.

_ [1] الخركاوات جمع خركاه، والخرگاه بالكاف الفارسية خيمة كبيرة أو سرادق سلطاني وأميري (فرهنگ عميد 1/850- فرهنگ رازي 272) . [2] جنيب مفرد وجمعه جنائب وهي الجياد السلطانية المزينة التي تقف أمام البلاط السلطاني (فرهنگ عميد 1/708) . [3] جتر: كلمة فارسية بالجيم المثلثة وهي المظلة التي ترفع فوق السلطان (فرهنگ عميد 1/730 فرهنگ عميد رازي 215) . [4] السلاح داريه: مفرده سلاح دار، وتعني حامل السلاح- لفظ عربي وفارسي (فرهنگ عميد 2/1220) . [5] الجمدارية: مفرده جمدار من اللفظ الفارسي جامه دار وتعني المسؤول عن الملابس والقماش السلطاني (فرهنگ رازي 391) .

وقال لي الشيخ مبارك أن هذا السلطان يحمل على رأسه «1» سبعة جتورة [1] منها اثنان مرصعان ليس لهما قيمة [2] ولدسته [3] من الفخامة والعظمة والقوانين الشاهنشاهيه [4] ، والأوضاع السلطانية، ما لم يكن فعله إلا للإسكندر ذي القرنين أو لملكشاه بن ألب أرسلان [5] . وأما الخانات والملوك والأمراء، فإنه لا يركب أحد منهم في السفر والحضر إلا بأعلام، وأكثر ما يحمل الخان تسعة أعلام، وأقل ما يحمل الأمير ثلاثة، وأكثر ما يجرى الخان في الحضر عشرة جنايب، وأكثر ما يجرى الأمير في الحضر جنيبات. فأمّا في الأسفار فمهما وصلت قدرة كل واحد منهم ووسعة صدره وكرمه «2» مع أنهم إذا حضروا باب السلطان، تضاءلوا لطمس شمسه كواكبهم، ولطم بحره سحابيهم، وهذا السلطان مع هذا ذو بر وإحسان وتواضع لله تعالى «3» . حدثني أبو الصفاء عمر بن إسحاق السبكي [6] أنه رآه وقد نزل إلى جنازة فقير [7] صالح، ومات، وحمل نعشه على عنقه، وله فضيلة جمّة يحفظ كتاب الله

_ [1] جتوره: جمع جتر. [2] أي لا يقدران بمال، غالية الثمن. [3] مجموعة من كلمة دستة الفارسية. [4] الشاهنشاهية: السلطانية من اللفظ الفارسي شاهنشاه أي ملك الملوك. [5] وردت بالمخطوط الملك شاه بن ألب أرسلان ويعني ملكشاه. [6] أبو الصفا عمر بن إسحاق السبكي المتوفى 750 هـ (الدرر الكامنة 4/15) . [7] الفقير هو المتصوف (فرهنگ رازي 643- عميد 2/1545) .

تعالى «1» وكتاب الهداية [1] على مذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه، ويجيد في المعقول، ويكتب خطا حسنا، وله يد ممتدة في الرياضة، وتأديب النفس، والأدب، ويقول الشعر، وينظمه، ويستنشده، ويفهم معانيه، ويباحث عنها «2» العلماء، ويناظر الفضلاء، ويؤاخذ خصوص الشعراء بالفارسية، فإنه عالق بأهدابها، عارف بشعابها. قال «3» : ولقد سمعته يبحث في معنى تقدم الأمس على اليوم، من أي قبيل هو، لأنهم قالوا إنما التقدم إما أن يكون بالزمان أو بالرتبة أو بالذات، وهذا لا يجوز أن يكون واحد من هذه الأقسام، وقرر أن (المخطوط ص 24) قولهم انتقض بهذا، لأن الأمس متقدم لا بشيء من هذا. قال: ولقد رأيته يأخذ بأطراف الكلام على كل من حضر على كثرة العلماء. قال: والعلماء تحضر مجلسه، وتفطر في شهر رمضان عنده، ويأمر صدر جهان كل ليلة واحدا ممن يحضر بأن يذكر نكتة [2] ثم تتجاذب الجماعة أطراف البحث فيها بحضرة السلطان، وهو كواحد منهم، يتكلم معهم، ويبحث بينهم، ويرد عليه [3] ، وهو ممن لا يرخص في محذور، ولا يقر أحدا على منكر، ولا يتجاسر

_ [1] كتاب الهداية في فقه الحنابلة لعبد الرحمن بن محمد بن علي بن محمد الحلواني البغدادي الحنبلي المتوفى سنة 546 هـ (انظر: إيضاح المكنون في الذيل في كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون لإسماعيل باشا بن محمد أمين مير سليم الباباني أصلا البغدادي مولدا ومسكنا- بغداد ج 2/351) . [2] النكتة هي المسألة الدقيقة في الأمور العلمية والفقهية والدينية. [3] وردت بالمخطوط يورد عليه أ 24، ب 73.

أحد أن يتظاهر في بلاد بمحرم، وأشد ما ينكر على الخمر، ويقيم الحد فيه، ويبالغ في تأديب من يتعاطاه من المقربين إليه. حدثني السيد الشريف تاج الدين ابن أبي المجاهد الحسن السمرقندي أن بعض الخانات [1] الأكابر بدهلى، كان يشرب الخمرة، ويدمنها، ويصر عليها، وكان ينهى فلا ينتهى، فغضب عليه هذا السلطان غضبا شديدا، وأمسكه، وأخذ أمواله، فكان بحمله ما وجد له أربعمائة ألف ألف مثقال، وسبعة وثلاثون ألف مثقال ذهبا أحمرا، وفي هذه الحكاية كفاية في مبالغته في إنكار المنكر، وفي سعة أموال هذه البلاد، فإن هذا المال إذا حسب «1» بالقناطير المصرية كان ثلاثة وأربعين ألف قنطار أو سبعمائة قنطار ذهبا، وهذا مما لا يكاد يدخل تحت حصر ولا إحصاء. وحكى لي هذا الشريف حسن السمرقندي، وهو ممن جال الأرض وجاب الآفاق، عن أموال هذه البلاد وما تحار العقول فيه من مثل هذا أو أشباهه، وله من وجوه البر، والصدقات ما تسطره الدنيا في صحائف حسناتها، وترقمه الأيام في غرر حياتها، سمعت منه أحاديث جملتها ما علمت تفصيلها حتى حدثني الشيخ المبارك «2» مبارك أن هذا السلطان يتصدق في كل يوم بلكين [2] لا أقل منهما، يكون عنهما من نقد مصر والشام ألف ألف وستمائة ألف درهم في كل يوم، وربما بلغت صدقته في بعض الأيام خمسين لكا، ويتصدق عند رؤية كل هلال من كل شهر بكلين، عادة دائمة لا يقطعها، وعليه راتب مستمر لأربعين ألف فقير () ، لكل واحد منهم في كل يوم درهم واحد وخمسة (المخطوط ص 25) أرطال خبز قمح أو أرز، وقرر ألف فقيه في مكاتب أرزاقهم على ديوانه، تعلم الأيتام وأولاد الناس

_ [1] الأمراء الكبار. [2] بلكين مثنى لك، والك مائة ألف (انظر الدخيل في لهجة أهل الخليج 101) .

القراءة والكتابة، ولا يدع بدهلى سائلا يستعطى الناس، بل كل من استعطى منع من هذا، وأجرى عليه ما يجرى على أمثاله من الفقراء. فأما إحسانه إلى الغرباء، ومن يؤمله، فما يكاد يخرج عن حد التصديق. حدثني الفاضل نظام الدين أبو الفضائل يحيى بن الحكيم الطياري قال: كان عندنا بالأردو [1] في خدمة السلطان أبي سعيد [2] ، رجل اسمه عضد بن قاضي يزد، يروم الوزارة، ولا يؤهل لها، ولا يعد من أكفائها، فلا يزال «1» يشغب على الوزراء، ويفتن بين أهل الأردو، فاتفق رأيهم على إبعاده، فبعثوه رسولا إلى دهلى برسالة مضمونها السلام والوداد والسؤال والافتقاد، وعملوا هذه صورة ظاهرة لإبعاده، وكان قصدهم أن لا يعود، فلما حصل «2» في دهلى، وحضر في «3» حضرة هذا السلطان، وأدى الرسالة له، أقبل عليه، وشرفه بالخلع والعطاء، وأحله من كنفه في محل الرحب والسعة، وأطلق له حملا من المال، ثم لما أراد الانصراف عائدا إلى مرسله، قال له: أدخل الخزانة، وخذ مما شئت، وكان هذا السيد عضد رجلا داهية، فلما دخل الخزانة لم يأخذ سوى مصحف واحد، فسمع السلطان بهذا، فأعجبه، وقال له لأي شيء ما أخذت إلا هذا المصحف؟ فقال: لأن السلطان قد أغناني بفضله، ولم أجد أشرف من كتاب الله، فازداد إعجابه بفعله وبكلامه، ووقع منه

_ [1] الأردو لفظ مغولي تعني المعسكر، وإنما سميت اللغة الأردية بذلك لأنها نشأت نتيجة لتعامل أهالي البلاد مع أهل الأردو (فرهنگ عميد 1/111) . [2] أبو سعيد بهادر آخر سلاطين الإيلخانيين العظام تولى الحكم وهو شاب، ونشأ على الخير، وكان معه بلاد العراق وخراسان وآذربيجان والروم والجزيرة ومات سنة 736 (انظر: الشرق الإسلامي في عهد الإيلخانيين د. فؤاد عبد المعطي الصياد الدوحة 1987 ص 346- تذكرة الشعراء لدولتشاه السمرقندي لاهور 317) .

موقع الاستحسان، وأعطاه مالا جما، منه ما هو خاص بنفسه، ومنه ما هو معه لأبي سعيد على سبيل المهاداة، وكان جملة ما اتصل إليه منه ما هو لأبي سعيد «1» وما هو له ثمانمائة، تومان [1] التومان عشرة آلاف دينار رايجا، الدينار ستة دراهم، فيكون هذا المبلغ ثمانية آلاف ألف دينار رايجا، عنها ثمانية وأربعون ألف ألف درهم، فلما عاد بهذا المال الممدود، خشى أن يؤخذ في الأردو ومنه، ففرقه أقساما، وغيبه عن العيون، وكان أمير أحمد بن خواجه [2] (المخطوط ص 26) رشيد، وهو أخو الوزير قد وقع له أمر أقتضى إخراجه من الأردو، وروعى لمكان أخيه الوزير غياث الدين محمد، فكتب له بأن يكون أمير الايلكاه [3] ، ومعنى هذا أنه يحكم حيث حل من المملكة حتى على حكامها، فصادف في طريقه هذا السيد عضد، فأخذ منه شيئا كثيرا، احتمل إنه عمل منه عدة حمول من أواني الذهب والفضة، ليقدمها إلى أبي سعيد والخواتين [4] «2» وأحسبه سبله له إلى العود إلى الأردو «3» ، فعاجله الموت، ثم مات أبو سعيد، والسيد عضد، وتصرمت تلك الأيام، وذهب الذهب، ولم يغن أحدا ما كسب [5] .

_ [1] تومان: هو رقم عشرة ويستخدمونه على أنه عشرة آلاف، ويعني قائد ألف في العصر المغولي ومن متحصلات الأمير قائد الألف بالتومان- والتومان الآن عملة في إيران تعادل عشرة ريالات (انظر: فرهنگ عميد 1/234 فرهنگ رازي 179) . [2] وردت بالمخطوط خواجا. [3] أيلكاه: أيل كلمة تركية تعني قوم أو قبيلة وگاه لاحقة تفيد المكان، وايلگاه موطن القوم (فرهنگ عميد 1/277) . [4] الخواتين جمع مفرده خاتون وهي زوجة وبنات الأمراء، اللفظ تركي مغولي يعني النساء ذوات النسب الرفيع (فرهنگ عميد 1/816) . [5] إشارة إلى قوله تعالى: ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ [سورة المسد، الآية: 2] .

قال ابن الحكيم: وهذا السلطان صاحب دهلى، كرمه خارق، وإحسانه إلي الغرباء عظيم، قصده بعض الفضلاء من بلاد فارس، وقدم إليه كتبا حكيمة، منها الشفاء لابن سينا [1] ، واتفق أنه لما مثل بين يديه، وقدمه له، أحضر إليه حمل جليل من الجواهر الثمينة فحثا له منه ملء يده «1» ، وأعطاه له، وكان بعشرين ألف مثقال من الذهب، هذا غير بقية ما وصله به. وحدثني الشريف السمرقندي، أن أهل بخاري [2] يقصدونه بالبطيخ الأصفر المبقى عندهم في زمن الشتاء، فيعطيهم عطاء جزيلا. قال [3] : ومنهم واحد أعرفه، حمل إليه حملين من البطيخ، فتلف غالبه، ولم يصل معه إلا اثنتان وعشرون «2» بطيخة، فأعطاه ثلاثة آلاف مثقال من الذهب. قال الشيخ أبو بكر بن أبي الحسن الملتاني المعروف بابن التاج الحافظ [4] : الذي بلغنا بالملتان، واستقاض عندنا «3» بها، ثم أنى سافرت إلى دهلي، وأقمت بها،

_ [1] الشفاء: أحد كتب الشيخ الرئيس ابن سينا الطبيب والفيلسوف والأديب، الذي عمل في بلاط نوح الساماتي وخوارزم شاه علي بن مأمون وشمس الدين الديلمي وعلاء الدين كاكويه، له 240 كتابا ورسالة أهمها الشفاء والقانون والإشارات، مات سنة 428 هـ (فرهنگ أدبيات فارسي- زهرا خانلرى كيا 25) . [2] بخارى أشهر مدن بلاد ما وراء النهر، سكنها العرب، منها أعظم رواة الحديث على رأسهم البخاري (انظر مراصد الاطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع لصفي الدين عبد المؤمن بن عبد الحق البغدادي (م 739 هـ) تحقيق علي محمد البجاوي ط 1 القاهرة 54- 1955 ج 1/169- تاريخ بخارى للنرشخي ترجمة د. أحمد الساداتي القاهرة) . [3] يقصد السمرقندي. [4] ابن التاج الحافظ: هو إسحاق بن علي بن علي بن أبي بكر بن سعيد الصوفي البكري الملتاني مفسر وفقيه من آثاره: خلاصة جواهر القرآن في بيان معاني لغات الفرقان، خلاصة الأحكام بشريعة الإسلام والحج ومناسكه (معجم المؤلفين- كحالة 2/235) .

ووجدت أيضا مستفيضا فيها، أن هذا السلطان التزم أنه لا ينطق في اطلاقاته بأقل من ذلك. وحدثني الخجندي [1] قال: قصدته، واتصلت به، فأنعم عليّ بألف مثقال من الذهب، ثم سأل إن كنت أختار الإقامة أو العود، فقلت: اخترت الإقامة، فأجراني في جملة الجند. وحدثني الشيخ أبو بكر بن الخلال البزي الصوفي، قال: بعث هذا السلطان مع جماعة أنا (المخطوط ص 27) منهم ثلاث لكوك [2] ذهبا إلى بلاد ما وراء النهر، لتفرق على العلماء لكا منها، ويتصدق على الفقهاء بلك منها، ويبتاع له باللك الثالث [3] . قال: وقال لنا بلغني أن الشيخ برهان الدين الصاغرجي شيخ سمرقند [4] مزيد في العلوم والزهد، وأنه لا يثبت عنده مالا «1» ، فأعطوه أربعين ألف تنكة يتزود بها إلى الملتان [5] ، ثم إذا دخل بلادنا جدنا عليه بالأموال، ثم قال: وإن لم تجدوه، أعطوا هذا المبلغ لأهله، ليوصلوه إليه إذا جاء، وعرفوه بأننا نطلبه ليتزود إلى الملتان «2» . قال: فلما وصلنا إلى سمرقند، وجدناه، قد دخل إلى بلاد الصين، فأعطينا المال

_ [1] نسبة إلى خجند إحدى المدن الإيرانية الشهيرة. [2] لكوك جمع لك وهي مائة ألف- انظر: فرهنگ عميد 2/1721) . [3] ورد بالمخطوط بالك الثالث. [4] سمرقند مدينة مشهورة ببلاد ما وراء النهر عاصمة الصغد (انظر مراصد الاطلاع ص 736) . [5] الملتان: إقليم بالسند تقع عند التقاء فرعي نهر السند، مملكة إسلامية (انظر: روضة الصفا في سيرة الأنبياء والملوك والخلفاء ترجمة الشاذلي حاشية 176، وتقويم البلدان للعماد الحنبلي) .

لجاريته، وعرفناها برغبة السلطان فيه، وحثه على طلبه. وحدثني الفقيه أبو الصفاء عمر بن إسحاق الشبلي أن هذا السلطان لا يفارق العلماء سفرا ولا حضرا [1] ، قال: وكنا معه في بعض غزواته، فلما كنا في أثناء الطريق جاءته من مقدمة عساكره كتب البشرى بالفتوح، ونحن بين يديه، فحصل له السرور، وقال: هذا ببركة هؤلاء العلماء، ثم أمر بأن يدخلوا بيت المال، ويحملوا من بيت المال ما قدروا عليه، ومن كان منهم ضعيفا يستنيب من يحمل من ذلك المال عنه، قال: فدخلوا إلى الخزانة، ولم أدخل أنا ولا كثير من أمثالي لأننا لم نكن من تلك الطبقة، وحمل أولئك «1» كل واحد كيسين، كل كيس عشرة آلاف درهم إلا واحدا منهم، فإنه حمل ثلاثة أكياس، اثنين تحت إبطيه، وآخر فوق رأسه، فلما رآهم السلطان ضحك تعجبا من حرص الذي حمل الثلاثة، وسأل عن بقية الجماعة، ممن لم يدخل مثلي، فقيل له إن هؤلاء دون أولئك لأن هؤلاء من المدرسين، وهؤلاء من المعيدين، فأمر لكل واحد منا بعشرة آلاف درهم، ففرقت علينا. قال: ومنار الشرع عنده قائم، وسوق أهل العلم لديه رائج، يشار إليهم بالتوقير والإجلال، وهم في غاية المحافظة على ما ينقام به ناموسهم من اصطلاح «2» الظاهر والباطن والمداومة على قراءة العلم (المخطوط ص 28) ، وإقرائه، والتحري في كل أمورهم، والاقتصاد في جميع أحوالهم، وهذا السلطان لا يتأنى عن الاجتهاد في الجهاد برا وبحرا، لا يثنى عنه عنانه ولا سنانه، ولا يزال هذا دأبه، نصب عينه، ودبر أذنه، وقد بلغ مبلغا عظيما في إعلاء كلمة الإيمان، ونشر الإسلام في تلك

_ [1] عكس السفر ويعني الإقامة.

الأقطار، حتى سطع في ذلك السواد ضوء الإسلام، وبرقت في تلك الأنواء بوارق الهدى، وهدم بيوت النيران، وكسر البدود [1] والأصنام، وأخلا البرّ ممن ليس ببر إلا من هو تحت عقد الذمة، واتصل به الإسلام إلي أقصى المشرق، وقابل مطلع الشمس لألاء الصباح المشرق، وأوصل راية الأمة المحمدية كما قال أبو نصر العتبي [2] إلى حيث لم تصل إليه راية ولا تليت به سورة ولا آية، فعمر الجوامع والمساجد، وأبطل التطريب «1» بالآذان، وأسكت المزمزمة بالقرآن، وبوأ أهل هذه الملة قمم «2» الكفار، وأورثهم- بتأييد الله- «3» أموالهم وديارهم وأرضا لم يطأوها [3] ، وهو مع هذا تمد له خافقة مع كل خافقة، ففي البر عقبان الأعلام، وفي البحر غربان السفن الجواري المنشآت كالأعلام [4] حتى أنه لا يخلو في يوم من الأيام من بيع آلاف مؤلفة من الرقيق بأقل الأثمان لكثرة السبى والأخذ. حدثني كل هؤلاء أن الجارية الخادمة لا يتعدى ثمنها بمدينة دهلى ثمان تنكات، واللواتي يصلحن للخدمة والفراش خمس عشرة تنكة، وأما في غير دهلى فإنهن بأرخص من هذه الأثمان.

_ [1] البدود جمع ومفرده بد وصوابه بت بضم الباء وسكون التاء وهي كلمة فارسية تعني صنم (فرهنگ عميد 1/317) . [2] أبو نصر محمد بن عبد الجبار العتبي من أدباء ومؤرخي القرن الرابع والخامس الهجريين، له كتاب تاريخ يميني باسم السلطان محمود الغزنوي توفي 427 هـ (فرهنگ أدبيات فارسي 339) والعبارة عن محمود الغزنوي أصلا. [3] إشارة إلى قوله تعالى: وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً [سورة الأحزاب، الآية: 27] . [4] إشارة إلى قوله تعالى: وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ [سورة الرحمن، الآية: 24] .

وقال لي أبو الصفاء عمر بن أبي إسحاق الشبلي أنه اشترى عبدا مراهقا نفّاعا بأربعة دراهم، وقس على مثل هذا، قال: ومع رخص قيمة الرقيق، وهو أنه يوجد من الجواري الهنديات «1» من يبلغ ثمنها عشرين ألف تنكة وأكثر وهكذا. قال لي ابن التاج الحافظ الملتاني، قلت: وكيف تبلغ الجارية هذا الثمن مع الرخص؟ قال لي: كل واحد في مجلس على انفراده لحسن خلقها، ولطف خلائقها، ولأن غالب مثل هذه الجوار يحفظن القرآن، ويكتبن (المخطوط ص 29) الخط، ويروين الأشعار والأخبار، ويجدن الغناء وضرب العود، ويلعبن [1] الشطرنج والنرد، وصل هذه الجواري يتفاخرن [2] في مثل هذا، فتقول الواحدة: أنا آخذ قلب سيدي في ثلاثة أيام، فتقول الأخرى: أنا آخذ قلبه في يوم، فتقول الأخرى: أنا آخذ قلبه في ساعة، فتقول الأخرى: أنا آخذ قلبه في طرفة عين. قالوا: إن ملاح الهنديات أكثر حسنا من الترك والقفجاق مع ما يتميزن به من التخريج العظيم والتفنن الفاتن، وغالبهن ذهبيات الألوان، وفيهن بيض ذوات بياض ساطع مختلطا بالحمرة، وعلى كثرة وجود الترك والقبجاق والروم وسائر الأجناس عندهم، لا يفضل أحد على ملاح الهنديات سواهن لكمال الحسن والحلاوة وأمور أخرى تدق عنها العبارة «2» «3» . حدثني سراج الدين عمر الشبلي أنه لا يلبس ثياب الكتان المجلوبة إلى هذه

_ [1] وردت بالمخطوط يلعب. [2] وردت بالمخطوط يتفاخرون.

المملكة من الروس [1] ، والإسكندرية إلا من لبسه السلطان منهم وإلا قميصهم وثيابهم من القطن الرفيع، قال: تعمل منه ثياب شبيهات بالمقاطع البغدادية، ولكن أين المقاطع البغدادية والنصافي [2] منها، لرفعتها ولطافة بشرتها، فإن بعضها يوازي اللوانس [3] في رفعتها مع الصنق والمآبية «1» . وحدثني الشيخ مبارك أنه لا يلبس ولا يركب بالسروج الملبسة أو المحلاة بالذهب إلا من أنعم السلطان عليه بشيء منها، فإذا أنعم عليه بشيء من المحلى بالذهب [4] ، كان إذنا له في اتخاذ ما شاء منه، أمّا عامة ركوبهم ففي الملبس أو المحلى بالفضة. قال: والسلطان ينعم على من في خدمته على اختلاف أنواعهم من أرباب السيف والقلم والعلم، بكل شيء جليل ونوع نفيس من البلاد [5] والأموال، والجواهر والخيول والسروج المحلاة بالذهب والمناطق الذهبية [6] والأقمشة المختلفة الأنواع والأجناس إلا الفيلة فإنها لا تكون إلا له، لا يشاركه فيها مشارك من جميع الناس، قال: والفيلة لها رواتب كثيرة لعلوفاتها، فإنها لعل هذه الثلاثة آلاف فيل (المخطوط ص 30) لا يكفيها إلا دخل مملكة كبيرة، فسألته: كم لها؟ قال:

_ [1] الروس: قوم يسكنون روسيا من أصل سلافي وهي مملكة واقعة غربي سيبيريا وشمالي الممالك الإسلامية (انظر: روس فرهنگ عميد 2/1072) وهم أمة من الأمم متاخمة للصقالبة والترك (مراصد الاطلاع 2/460) . [2] النصافي نوع من القماش الجيد. [3] لوانس قماش جيد. [4] وردت بالمخطوط المحلا في أ، ب. [5] أي البلاد التي يقطعها السلطان. [6] المناطق جمع مفرده نطاق ما يلف حول الوسط.

تختلف أجناسها وأشكالها، وعلى قدر اختلافها، علوفاتها، وأنا أقول لك أكثر ما يريد كل فيل في كل يوم، وأقل ما يريد، أما أكثر ما يريد [1] في كل يوم أربعون رطلا من أرز، وستون رطلا من شعير، وعشرون رطلا من سمن، ونصف حمل حشيش، وأما ما تريده سوّاسها [2] ، والقومة عليها فجملة كثيرة وأمور كثيرة، قال: وشحنه [3] الفيل رطل كبير من أكابر الدولة. قال الشبلي: يكون أقطاعه قدر إقليم كبير مثل العراق وهيئته، وفوق ملوك هذه المملكة في مواقف الحرب.. أن يقف السلطان في القلب وحوله الأئمة والعلماء والرماة قدامه وخلفه، وتمتد الميمنة والميسرة موصولة بالجناحين، وأمامه الفيول الملبسة بالأركصطوانات الحديد، وعليها الأبراج المسمرة فيها المقاتلة «1» على ما قدمنا القول فيه، وفي الأبراج منافذ لرمي النشاب ومرمى قوارير النفط، وقدام الفيول العبيد المشاة في خفّ من اللباس، بالسيوف والسلاح يفسحون لمجال الفيول، ويعرفون الخيل بالسيوف، الرماة في الأبراج تكشف عليهم من خلفهم من فوق، والخيل في الميمنة والميسرة، تضم أطراف الأرض على الأعداء، وتقاتل من حول الفيول وورائها، فلا يجد الهارب مفرا ولا مدخلا، فلا يكاد ينجو قدامهم، لاحتياط «2» العساكر المحدقة بهم، ومواقع النشاب والنفط من فوقهم، ومخالسة الرجالة لهم من تحتهم، فيأتيهم الموت من كل مكان، ويحيط بهم البلاء من كل جهة.

_ [1] كرر عبارة «واكثر ما يريد» . [2] سواس هو السائس القائم على رعاية الحيوان. [3] شحنة الفيل: حارس الفيل وراعيه، والشحنة هو الوالي أو الحاكم أو القيم وصاحب الشرطة (انظر فرهنگ عميد 2/1294- روضة الصفا ترجمة الشاذلي 176) .

ولقد تهيأ لهذا السلطان القائم بها الآن ما لا تهيأ لأحد قبله من ملوك هذه المملكة من النصر والاستظهار وفتوح الممالك، وهدم قواعد الكفار، وحل عقد السحرة، وإبطال ما كانت تتعلل به الهنود من الصور والتماثيل، ولم يبق إلا ما هو داخل البحار من القليل الشاذر والناذر «1» [1] الذي لا حكم له، (ولا معلم لهم عهد هذا السلطات حتى يستكمله، ويغسل بالسيف ما بقي (المخطوط ص 31) منه) «2» ، فتضوعت أندية الهند من ذكره بأطيب من طيبها، وتحلى زمانه بها بأعلى قيمة من جواهرها، وهو اليوم جامع ذويل تلك الأقطار، وماسك نطاق البراري والبحار، وإذا قيل اليوم «3» سلطان الهند لا يطلق على سواه، ولا يصح هذا الاسم الكريم إلا على مسماه. قال الشبلي: وحقيق على مسلم أن يدعو للسلطان هذا في الله جهاده، وذلك معروفه، وتلك سجاياه. وحكى لي محمد الخجندي: إن لهذا السلطان في كل أسبوع يوما عاما يجلس فيه للناس جلوسا عاما، وهو يوم الثلاثاء «4» ، يجلس في ساحة عظيمة متسعة إلى غاية يضرب له فيها جتر [2] كبير سلطاني، يجلس في صدره على تخت [3] عال مصفح بالذهب مرصع بالجواهر، ويقف أرباب الدولة حوله يمينا ويسارا وخلفه

_ [1] الشاذر والناذر: الشاذر من شذر وتشذر القوم أي تفرقوا- من نذر ونذروا الجيش جعلوه نذيرة أي طليعة ونذر نذرا به: علمه فحذره (انظر المنجد 379- 800 الشوزر الملحق- قميص دون كمين. [2] المظلة التي ترفع على رأس السلطان. [3] كرسي الحكم- عرش.

السلاح داريه [1] والجمداريه [2] ، ومن حكمه بين أرباب الأشغال الخاصة حكمهم، وأرباب الوظائف على منازلهم ولا يجلس إلا على الخانات وصدر جهان والدبيران [3] يعني كتاب السر، بين يديه، والحجاب وقوف، وينادى مناداة عامة أنه من كان له شكوى يحضر، فيحضر كل من له شكوى أو حاجة يسأل السلطان فيها، فإذا حضر أو وقف «1» بين يديه، لا يضرب، ولا يمنع حتى ينهى إليه شكواه، ويأمر السلطان فيه بأمره. وأما بقية الأيام فإنه يجلس في طرقى كل نهار ويركب في الخانات والملوك والأمراء جميعهم إلى بابه ومن رسمه أن أحدا لا يدخل عليه بسلاح كبيرا «2» ولا سكين صغيرة ومن جاء اعتبر قبل دخوله ودون المكان الذي يجلس فيه سبعة أبواب بعضها داخل بعض وعلى الباب الأول البراتي [4] منها رجل منها معه بوق فإذا جاء أحد من الخانات أو الملوك أو اكابر الأمراء نفخ في البوق اعلاما للسطان بأنه قد جاء كبير ليكون دائما على تيقظ واستعداد من أمره ومن جاء بابه كائنا من كان يترجل من الباب الأول البراني ويمشي إلى أن يدخل السبعة الأبواب إلى حضرة السلطان وثم من شرف بالإذن له بأن يعبر راكبا إلى الباب السادس ولا يزال البوق عمالا إلى أن يقارب الداخل الباب السابع ويجلس على ذلك الباب كل من دخل إلى أن يجتمعوا فإذا تكامل المجىء أذن لهم في الدخول إذا دخلوا جلس حوله من له أهلية الجلوس ووقف سائرهم وقعد القضاة والوزراء والدبيران وكتاب السر.

_ [1] حملة السلاح. [2] حملة الملابس والأقمشة. [3] الكتاب- وهنا تعني كتاب السر. [4] وهي من كلمة برون أو بيرون الفارسية بمعنى خارج، ودخلت العامية العربية، وصار منهابره وبراني.

وهم الموقعون إلى جانب المكان، لا يقع فيه نظر السلطان عليهم، ومدت الأسمطة، وقدمت الحجاب القصص «1» [1] إلي حاجبي صاحبه، وهو الحاجب الخاص المقدم على الكل، فيعرضها على السلطان، ثم إذا قام السلطان، جلس إلى كاتب السر فأدى إليه الرسائل بما رسمه السلطان في ذلك، فينفذها، ثم إذا قام السلطان من المجلس، جلس في مجلس خاص واستدعى العلماء، فيحضر من له عادة فيجالسهم، ويؤانسهم، ويأكل معهم، ويتحدث هو وإياهم وهم بطانته الخاصة، ثم يأمرهم بالإنصراف، ويخلو بالندماء والمغاني، تارة ينادم بالحديث، وتارة يغنى له، وهو على كل حال في المحافل والخلوات، عفيف الخلوة، طاهر الذيل، يحاسب نفسه على الحركات والسكوت، ويراقب الله في السر والعلن، لا يرتكب محرما، ولا يفسح فيه. قال لي الشبلي: حتى أنه لا يوجد بدهلى خمرا بالجملة الكافية، لا ظاهرا ولا مضمرا، لتشديد هذا الرجل فيه، وإنكاره على من يعانيه، قال: مع أن أهل الهند لا رغبة لهم في الخمر ولا في المسكرات استغناء بالتنبول [2] ، وهو حلال طيب لاشية فيه مع ما فيه من أشياء لا يوجد في الخمر بعضها، وهو أنه يطيب النكهة، ويصرف الأطعمة، ويبسط الأنفس بسطا عظيما، ويورثها سرورا زائدا، مع ثبوت العقل، وتصفية الذهن، ولذاذة الطعم، فأمّا أجزاؤه فهو ورق التنبول والقوقل ونون [3] «2» يعمل خاصة.

_ [1] القصص هي الشكاوى. [2] التنبول: هي تانبول شجيرة تنمو في الهند والصين وماليزيا، أوراقها معطرة (فرهنگ عميد 1/529) والتانبول شجر معظم عند الهنود (رحلة ابن بطوطة 175) . [3] القوقل: هو پوپل بالباء المثلثة، شجرة تنمو في الهند والمناطق الحارة طولها يبلغ 15 مترا، طعمها لذيذ مثل طعم التمر (فرهنگ عميد 2/1555) والنون أيضا شجيرة (فرهنگ عميد 2/1927) .

قال: ولا يعد أهل تلك البلاد كرامة أبلغ منه، فإنه إذا ضيف الرجل لآخر وأكرمه (المخطوط ص 33) بما عسى أن يكون من أنواع الأطعمة والأشربة «1» والرياحين والطيب، ولا يحضر معها التنبول لا يعتد له بكرامة، ولا يعد أنه أكرمه، وكذلك إذا أراد الرئيس إكرام أحد ممن يحضره، يناوله التنبول. قلت: وهذا نظير مسلك الأياق [1] في ممالك أولاد جنكيز خان، والأياق هو قدح خمر أو تمر يمسكه الكبير لمن أراد إكرامه أو الرجل لمن أراد خدمته، وهو أبلغ خدمة عندهم، وسيأتي بمشيئة الله تعالى ذكر هذا في موضعه. وحدثني العلامة سراج الدين أبو الصفاء عمر الشبلي أن هذا السلطان متطلعا «2» إلى معرفة أخبار ممالكه وبلاده، وأحوال من حوله من جنوده ورعاياه، وأن له ناسا يسمون المنهيين [2] ، وطبقاتهم مختلفة، فمنهم من يخالط الجند والعامة، فإذا علم ما يجب إنهاؤه إلى السلطان أنهاه إلى أعلى «3» طبقة منه، ثم ينهيها ذلك المنتهى، إلى آخر الأعلى فالأعلى إلى السلطان. فأمّا أخبار البلاد النائية فإن بين حضرة السلطان وبين أمهات الأقاليم أماكن متقاربة، بعضها من بعض شبيهة بمراكز البريد في مصر والشام، ولكن هذه قريبة المدى بين المكا [3] والمكان بقدر أربع علوات نشاب أو دونها، وفي كل مكان عشر سعاة ممن له خفة في الجري، يحمل الكتب بينه وبين تاليه «4» [4] ، إذا أخذ أحدهم

_ [1] مسك الإياق: الإياق كلمة تركية هي إياق وهي قدح خمر أو تمر يمسكه الرجل لمن أراد خدمته (فرهنگ عميد 1/273) . [2] المنهيون جمع مفرده منهي وناه وهو من ينهي الأمر إلى من يعلوه حتى يصل إلى السلطان وقد وردت بالمخطوط المنهين. [3] المكا هو الرسول ورجل البريد جمعه مكاكي، وردت في ب 79 المكان. [4] وردت بالمخطوط تولية.

الكتاب جرى به جريا قويا بأشد ما يمكنه أن يشتد، وأقوى ما يمكنه أن يجرى إلى أن يوصله إلي الآخر، فيجرى به كالأول إلى المكان الذي يليه، ويرجع حامله إلى مكانه على مهله، فيصل الكتاب من المكان البعيد إلى المكان البعيد في أقرب الأوقات أسرع من البريد والنجابة «1» . قال: وفي كل مكان من هذه الأماكن المركزة مساجد تقام بها الصلوات، ويأوى إليها السفّار، وبرك ماء للشرب، وأسواق للبيع للمكاكل «2» [1] وعلوفة الدواب، ولا يكاد يحتاج إلى حمل ماء ولا زاد ولا خيمة. قال: ومن جملة عناية هذا السلطان جعل بين قاعدتي ملكه وهما: دهلى وقبة الإسلام في هذه الأماكن (المخطوط ص 34) المعدة لإبلاغ الأخبار طبول، فحيثما «3» كان في مدينة وفتح باب الأخرى أو غلق يدق الطبل، فإذا سمعه مجاوره دق، فيعلم خبر فتح المدينة التي هو غاب عنها، وغلقه في وقت الحاضر كل يوم بنوبة. ولهذا السلطان مهابة يسقط لها القلوب مع قربه من الناس، ولينه في كلامه وحديثه، وكل من أراد الوصول إليه وصل إليه، لا يبعده عظم حجاب، ولا عموم حجاب، وقد أدر الله في أيامه الأرزاق، وكثّر المواد، وضاعف النعم، على أن الهند ما زال موصوفا بالرخاء، معروفا بالسخاء. حدثني الخجندي قال: أكلت أنا وثلاثة نفر رفاقا لي في بعض بلاد دهلى لحما بقريا وخبزا وسمنا حتى شبعنا بكتيل [2] «4» وهو أربع فلوس، وسأذكر معاملاتهم،

_ [1] الرسل. [2] كتيل يعادل 4 فلوس، جيتل ب 79.

ثم ذكر الأسعار عندهم لأنها مرتبة على المعاملة وبها تعرف. ولقد حدثني الشيخ مبارك قال: اللك الأحمر [1] مائة ألف تنكة، واللك الأبيض مائة ألف تنكة الذهب، وهي المسمى «1» عندهم التنكة الحمراء، ثلاثة مثاقيل، والتنكة النقرة [2] وهي تنكة الفضة، ثمانية دراهم هشتكانه [3] ، وهذا الدرهم الهشتكاني [4] هو وزن الدرهم النقرة معاملة مصر والشام، وجوازه «2» لا يكاد يتفاوت ما بينهما، وهذا الدرهم الهشتكاني هو أربعة دراهم سلطانية، وهي المسماة الدكانية، وهذا الدرهم السلطاني يجيء ثلث درهم ششتكاني، وهو درهم ثالث يتعامل به في الهند، وجوازه بنصف وربع درهم ششتكاني [5] (ولهذا الدرهم السلطاني نصف يسمى يكاني [6] وهو بكتيل واحد، وكلهم «3» درهم آخر اسمه شاتربكاني [7] جوازه بدرهمين، فحينئذ دراهم الهند ستة شاذودكاني ودوازديدكاني [8] هشتكاني [9] ششكاني [10] وسلطاني ويكاني [11] أصغرها

_ [1] مائة ألف. [2] النقرة كلمة فارسية بمعنى الفضة (فرهنگ عميد 2/1915) . [3] وردت بالمخطوط فشتكانه. [4] هشتكانه كلمة فارسية ومكونه من هشت تعني ثمانية وگانه لاحقة ويعني ثماني. [5] ششگاني كلمة فارسية من شش بمعنى ستة وگانه لاحقة وتعني سداسي. [6] اليكاني: من يك بمعنى واحد واليكاني يعني الأحادي. [7] وردت شاذردگاني من الكلمة الفارسية شانزده أي ستة عشر وگانه لاحقة وتعني المكون من ستة عشر جزءا. [8] دوازديدگاني: من الكلمة الفارسية دوازده گاني أي الاثنى عشري. [9] الثماني: نوع من العملة. [10] السداسي: نوع من العملة. [11] الأحادي: نوع من العملة.

السلطاني، وهذه الدراهم الثلاثة الأخيرة كلها مما يتعامل بها. والمعاملات بينهم بها دائرة والأكثر بالدرهم السلطاني، وهو الذي تقديره ربع درهم من نقد مصر والشام، وهذا الدرهم السلطاني هو بثمانية فلوس، والثمانية فلوس هي جيتلان كل جيتل أربعة فلوس، فيكون الدراهم الهشتكاني، الذي هو مثل درهم النقرة، معاملة مصر والشام (المخطوط ص 35) اثنتين وثلاثين فلسا. ورطلهم يسمى سير [1] وهو وزن سبعين مثقالا عنها بصنجة [2] الدراهم بمصر وفاته فإنه مائة ودرهمان وثلثان، وكل أربعين سيرا منّ [3] واحد، ولا يعرف عندهم الكيل. وأما الأسعار فإن أوسطها القمح، كل منّ بدرهم ونصف هشتكاني «1» ، والشعير كل منّ بدرهم واحد منه، والأرز كل منّ بدرهم ونصف وربع منه إلا أنواعا معروفة من الأرز فإنها أغلى من ذلك، والحمص كل منّين [4] بدرهم واحد هشتكاني، ولحم البقر والمعز سعر واحد، ويباع كل ستة أسيار [5] بدرهم سلطاني، وهو ربع درهم هشتكاني، والغنم كل أربعة أسيار بدرهم سلطاني، والأوز كل طائر بدرهمين هشتكانيه، والدجاج كل أربعة طيور بدرهم هشتكاني، والسكر كل

_ [1] ورد ستر وهي ترد سير وستير وأستر بمعنى واحد وهو نوع من الوزن (فرهنگ عميد 2/1241) . [2] صنجة هي السنجة وهنا ليست الآلة الموسيقية وإنما أداة وزن (انظر: الدخيل في لهجة أهل الخليج 75) . [3] المن: نوع من الوزن (انظر: الدخيل في لهجة أهل الخليج 106) . [4] منين مثنى من نوع من الوزن (فرهنگ عميد 2/1851) . [5] أسيار جمع مفرده سير نوع من الوزن (فرهنگ عميد 2/1241) .

خمسة أسيار بدرهم هشتكاني، والنبات كل أربعة أسيار بدرهم منه، ورأس من الغنم الجيدة السمينة الفائقة بتنكة واحدة عنها ثمانية دراهم هشتكانية، والرأس البقر الجيد بتنكتين، وربما كان بأقل، والجاموس كذلك، وأكثر مأكلهم لحوم البقر والمعز. قلت للشيخ مبارك: أهذا لقلة الغنم؟ قال: لا؛ ولكن «1» عادة؛ وإلا فالأغنام لا تعد في كل قرية في الهند بالآلاف المؤلفة، والدجاج كل أربعة طيور فائقة بدرهم واحد بالمصري، وأما الحمام والعصافير وأنواع الطير فبأقل الأشياء ثمنا. وأما أنواع الصيد من الوحش والطير بها فكثير، وبها الفنك [1] والكركند [2] «2» ، وإنما فيلة الزنج أجل، وأمارتهم «3» في الملبوس، لبسهم البياض وثياب الجوخ وثياب الصوف، إذا جلب إليهم، يباع بأربع الأثمان، ولا يلبس الصوف إلا أهل العلم والفقر [3] . ويلبس السلطان والخانات والملوك وسائر أرباب السيوف تتريات [4] وتكلاوات [5] وأقبية إسلامية مخصرة «4» الأوساط خوارزمية [6] وعمائم صغار لا

_ [1] الفنك: حيوان شبيه بالثعلب ولكنه أصغر، له أذنان طويلتان (فرهنگ عميد 2/1552) . [2] الكركند: حجر أحمر شبيه بالياقوت، وربما يقصد هنا حيوان الكركدن. [3] التصوف. [4] تتريات جمع تتر، وهي نوع من الحراب الخاصة بالتتار (انظر: فرهنگ عميد 1/538) . [5] تكلاوات: نوع من الرماح. [6] صنع خوارزم ببلاد ما وراء النهر.

تعدى العمامة خمسة ستة أذرع من اللانس الرفيع. وحدثني الشريف ناصر الدين محمد الحسيني الكارمي المعروف بالزمردى، وهو ممن دخل إلى الهند مرتين، وأقام عند السلطان قطب الدين [1] بدهلى، أن غالب (المخطوط ص 36) لباسهم البياض، وغالب جمعاتهم أكسباتهم «1» النتترية مزركشة بالذهب، ومنهم من يلبس مطرز الكمين بزرگش [2] ، ومنهم من يعمل الطراز بين كتفيه مثل المغل [3] وأتباعهم «2» ، مربعة الانبساط مرصعة بالجواهر، وغالب ترصيعهم بالياقوت والماس، وتضفير [4] شعورهم ذوءابات مرخية، كما كان يفعل عسكر مصر والشام، ويعمل في الذؤابات شراريب حرير، وتشد في أوساطهم المناطق [5] من الذهب والفضة وأخفاف ومهاميز [6] ، وأما السيوف فلا تشد إلا في الأسفار، وأما في الحضر فلا تشد، وأما الوزراء

_ [1] قطب الدين أيبك: هو أحد سلاطين المماليك الغورية- استقل بدهلي وبنى قطب منار، قتله السلطان تغلق (انظر: رحلة ابن بطوطة 287- 289 طبقات اكبرى لنظام الدين أحمد ج 1) . [2] يزركش: مذهب (عميد 2/1104) . [3] المغل هم المغال والمنغول والمنغووا قبائل تركية سكنت في المنطقة الواقعة جنوبي سيبيريا على شاطىء نهر أونون، وهي القبائل التي جاء منها جنكيز خان (انظر كتابي فتوحات هولاكو خان في ميزان النقد التاريخي القاهرة 1990 ص 1/تاريخ الإسلام حسن إبراهيم حسن القاهرة 82 ج 4/130/تاريخ الأمم الإسلامية محمد الخضري بك القاهرة 1970 ص 467- أخبار الدول وآثار الأول في التاريخ للقرماني مخطوط سنة 1282 عن نسخة مصورة ص 286- جامع التواريخ لرشيد الدين فضل الله 2/219) . [4] وردت بالمخطوط تطفير أ 36 وتطفير ب 81. [5] المناطق جمع مفرده نطاق وهو ما يشد وسط المرء. [6] مهاميز جمع مفرده مهماز ومهميز وهي آلة حديدية في رجل الفارس يحفز بها الجواد.

والكتاب فمثل زي الجند، ولكن «1» لا يشدون المناطق، وبعضهم يرخى له عذبات [1] أمامهم، مثل عذبات الصوفية، وأما القضاة والعلماء فلبسهم فرجيات (شبيهات بالجندات ودرايع [2] ، وأما عامة الناس فقمص، وفرجيات مقتدرة ودرايع) «2» . وحدثني الشبلي: أن أهل دهلى أهل ذكاء وفطنة فصحاء في اللسان الفارسي، والهندي، ومنهم من ينظم الشعر بالعربي ويجيد فيه النظم، وكثير ممن يمدح السلطان منهم ممن ليس لهم اسم في ديوانه، فيقبل عليهم ويجيزهم. قال الشبلي: وأخذ دبيران السلطان له عادة أن يمدحه إذا تجدد له فتح أو أمر كبير ورسمه عليه أن يأمر بأن تعد أبيات قصيدته، ويعطى لكل بيت عشرة آلاف تنكة، وكثيرا ممن يستحسن السلطان منه شيئا، (أو يعلم له دررا،) [3] «3» فما يأمر له بشيء مخصوص على التعيين وإنما يأمره بأن يدخل إلى الخزانة ليحمل ما أطاق. فلما رأني عجبت مما يحكيه من كثرة هذا الإنفاق والبسطة من المواهب والأطلاق، قال: وهو مع هذه السعة المفرطة في بذل الإعطاء، لا ينفق نصف دخل بلاده.

_ [1] عذبات جمع مفرده عذبه- شيء يتدلى من العمامة على الكتفين (فرهنگ عميد 2/1430) . [2] درايع جمع مفرده درعية، رداء يلبس على الصدر. [3] وردت بالمخطوط ضررا.

وحدثني شيخنا فريد الدهر «1» شمس الدين الأصفهاني، قال: كان قطب الدين الشيرازي رحمه الله [1] يثبت صحة الكيمياء، قال: فبحثت معه في بطلان الكيمياء، فقال لي: أنت تعلم ما يتلف (من الذهب) «2» في الأبنية والمستعملات، ومعادن الذهب لا يتحصل منها (المخطوط ص 37) نظير (ما يتلف) وينفذ، وأما الهند فإني حررت [2] أن له ثلاثة آلاف سنة، لم يخرج منه ذهب إلى البلاد، ولا دخل إليه ذهب، فخرج منه، والتجار من الآفاق تقصد الهند بالذهب العين، تتعوض عنه بأعراد، وحشائش وصموغ لا غير، فلولا أن الذهب يعمل لعدم بالجملة الكافية. قال شيخنا شهاب الدين: أما قوله عما يدخل إلى الهند من الذهب ثم لا يخرج منه فصحيح، وأما إثباته لصحة الكيمياء فباطل لا صحة له. قال [3] : بلغني أن ممن تقدم لهذا السلطان فتح فتوحا، فأخذ منه من الذهب وسق ثلاثة عشر ألف بقرة، قلت: والمشهور عن أهل هذه البلاد جمع الأموال وتحصيلها حتى أن بعضهم إذا سئل كم معك؟ فيقول: ما أعرف إلا أن ثاني ولد

_ [1] قطب الدين الشيرازي: هو قطب الدين محمود ابن ضياء الدين مسعود الشيرازي المعروف بالعلامة الشيرازي، لبس خرقة التصوف عشر سنوات كان طبيبا، عمل بخدمة نصير الدين الطوسي ولازم جلال الدين الرومي، وأرسله السلطان أحمد تكودار بسفارة إلى مصر سنة 681 ومنها إلى الشام، عمل في بلاط آباقا خان وغازان خان، له مؤلفات منها: نهاية الإدراك في دراية الأفلاك، والتحفة الشاهية، وفتح المنان في تفسير القرآن، وشرح حكمة الاستشراق للسهروردي، توفي سنة 710 هـ (انظر: فرهنگ أدبيات فارسي 400) . [2] أي كتبت. [3] يقصد البزى.

يجمع على مال جده أو ثالث ولد في هذا النقب أو في «1» هذا الجب، وما نعلم كم هو، وهم يتخذون أجبابا لجمع الأموال «2» ، ومنهم حق ينقب في بيته، ويتخذ به بركة ويسدها، ولا يدع إلا مقدار ما يسقط منه الدنانير ليجمع فيها الذهب، وهم لا يأخذون الذهب المصوغ ولا المكسور ولا السبائك خوفا من الغبن «3» ، ولا يأخذون إلا الدنانير المسكوكة. وفي بعض جزائرهم من ينصب على سطح داره علما، كلما تكامل لأحدهم جرة ذهب، حتى يكون لبعضهم عشرة أعلام وأكثر. وحدثني الشيخ برهان الدين أبو بكر بن الخلال محمد البزي الصوفي قال: بعث هذا السلطان عسكر إلى بلاد «4» مجاورة للدواكير في نهاية حدودها، وأهلها كفار، يدعى كل ملك منهم الرا [1] «5» ، فلما نازله جيوش السلطان بعث يقول لهم، قولوا للسلطان أن يكف عنا، ومهما أراد من الملك «6» يبعث له ما أراد من الدواب لأحمله له «7» ، فبعث أمير الجيش يعرفه بما قال، فأعاد جوابه بأنه يكف عنهم القتال، ويؤمنه للحضرة معه، فلما حضر إلى السلطان أكرمه إكراما كثيرا، وقال له: ما سمعت مثل ما قلت، فكم عندك من المال حتى قلت إنا نبعث لك مهما أردنا من الدواب لتحملها؟ فقال: تقدمني سبع رآات [2] في هذه المملكة،

_ [1] الرا تعني أمير في الهندية ومؤنثة راتا وراي لقب قديم لملوك الهند وحكامها وأمرائها (قاموس الفارسية د. عبد المنعم حسنين بيروت 1982 ص 290) . [2] الرآات جمع راي أي أمراء (انظر روضة الصفا ص 145، وحاشية روضة الصفا أيضا 178) .

جمع كل واحد منهم سبعين ألف بايين [1] ، (المخطوط ص 38) أموالا، وكلها عندي حاصلة، فقال: والباءين هو صهريج متسع جدا ينزل إليه بسلالم من أربع جهات، فأعجب السلطان مقاله، وأمر بأن يختم على الأموال باسمه، فختمت باسم السلطان، ثم أمر الرا بأن يجعل له نوابا من مملكته، ويقيم هو بنفسه في حضرته بدهلى، وعرض عليه الإسلام فإني أقره على دينه وأقام في حضرته وجعل له نوابا في مملكته وأجرى السلطان عليه ما يليق بمثله وبعث إلى ملك المملكة أموالا جمة فرقت على أهله صدقة عليهم لكونهم انتظموا في عديد رعاياه ولم يتعرض إلى البائينات [2] وإنما ختم عليها وأبقاها على حالها تحت ختمه وقد ذكرت هذا على ما ذكره البزي وهو معروف بالصدق والعهدة عليه والعائد فيها أن كان يعود فإليه. حدثني علي بن منصور العقيلي من أمراء «1» عرب البحرين قال إن اسفارنا ما تنقطع عن الهند وعندنا كثير من أخباره وتواترت الأخبار عندنا أن هذا السلطان محمد بن طغلقشاه «2» فتح فتوحات جليلة وأنه مما فتح مدينة لها بحيرة ماء في وسطها بيت بد [3] معظم عندهم يقصد بالنذور وكان كل نذر يجيء إليه يرمي في تلك البحيرة «3» وصرف الماء منها للى أن تصرف ثم أخذ ما كان هناك من الذهب وحمل منه وسعه مائتي قيل وآلاف من البقر قال وهو رجل جواد كريم

_ [1] بايين تعني هنا مخزن وسرداب تحت الأرض، وهي كلمة فارسية من باءين أي أسفل (قاموس الفارسية 121 فرهنگ عميد 1/436) . [2] البائينات جمع مفرده بايين وهو المخزن تحت الأرض (قاموس الفارسية 121، فرهنگ عميد 1/436) . [3] وردت بالمخطوط بيت بد وصوابها بيت بت أي معبد الصنم، وبت فارسية بضم الباء وسكون التاء.

يحسن إلى الغرباء سافر منا رجلان إليه وشملتهما السعادة بالحضور عنده فأنعم عليهما وشرفهما بالخلع وأجرى عليهما الأموال الجمة وكانا ممن لا يؤبه إليه من عربنا ثم خيرهما في المقام أو العودة فأختار الواحد منهما المقام فأعطاه بلدا جليلا ومالا جزيلا وأشياء كثيرا من مواشي الغنم والبقر وهو الآن هناك مملوءا فحولا [1] وأما الآخر سأل العود فأنعم عليه بثلاثة آلاف تنكة ذهبا وعاد محبوا محبورا [2] .

_ [1] متحولا ب 82. [2] سقطت من ب 82.

الباب الثاني في ممالك بيت جنكيز خان

الباب الثاني في ممالك بيت جنكيز خان وفيه فصول: الفصل الأول: في الكلام عليهم جمليا. الفصل الثاني: في مملكة القان الكبير صاحب التخت وهو صاحب الصين والخطا. الفصل الثالث: في التوارنيين وهم فرقتان: الفرقة الأولى: فيما وراء النهر الفرقة الثانية: في خوارزم والقبجاق. الفصل الرابع: في الإيرانيين.

الفصل الأول في الكلام عليهم جمليا

الفصل الأول في الكلام عليهم جمليا

(المخطوط ص 39) جعلت هذا فصلا جامعا لذكرهم، قبل ذكرهم على التفصيل في ممالكهم، لأن هؤلاء منهم أربعة سلاطين «1» بيد كل منهم مملكة عظيمة، استولوا بها على غالب المعمور من حدود الفرات إلى نهاية الشرق على الخط المستقيم المتصل بالسند [1] ، فالمسمى بالقان [2] الكبير، وهو المتغلغل في الشرق، منهم، وهو القائم مقام جنكيز خان [3] ، والجالس على تخته [4] «2» وسيأتي ذكره إن شاء الله. والثاني منهم، هو صاحب إيران بمجموعها، وهي التي كانت بيد الأكاسرة [5] ، والثالث منهم «3» ، هو صاحب القبجاق (والرابع منهم) «4» ، صاحب مملكة ما

_ [1] السند: هو النهر الفاصل بين إيران والهند قديما، والسند إقليم بباكستان الحديثة ونهر يجري بها، وذكره ابن بطوطة پنج آب وهي خمسة أودية تصب في النهر الأعظم (رحلة ابن بطوطة بتحقيق د. جمال الدين الرمادي، دار الشعب القاهرة ص 262) . [2] القان: كلمة مغولية وهي في الأصل فاآن وتعني ملك كبير وسلطان عظيم (فرهنگ عميد 2/1561) . [3] ورد بالمخطوط جنكيز خان وكذلك في كثير من المصادر العربية، ويرد كذلك تنكيز خان (رحلة ابن بطوطة 244) وصوابه جنگيز خان أو جنگيز خان كما ورد في جامع التواريخ لرشيد الدين فضل الله وجهانگشاى لعلاء الدين عطا ملك جويني وتاريخ وصاف. [4] تخت: كلمة فارسية تعني العرش، كرسي الحكم، من الكلمة البهوية Taxt تكلمت به العرب، ودخل في العربية بنفس المعاني ومعاني أخرى (انظر الدخيل في لهجة أهل الخليج، د. أحمد الشاذلي القاهرة 1992 ص 31- لسان العرب 1/422 قاموس والمعاني الفصيح 32 فرهنگ عميد 1/548) . [5] الأكاسرة:، جمع مفرده كسرى، من اللفظ الفارسي خسرو، وهو لقب ملوك الفرس قبل الإسلام (فرهنگ جديد رازي، محمود سعيدي پورآذينفر انتشارات فرد 277) .

وراء النهر، فانقسمت بينهم مملكة توران، وهي مملكة الترك القديمة، وبها كان افراسياب [1] وأما صاحب إيران، فهو يفخر على الملكين؛ صاحب القبجاق وصاحب ما وراء النهر؛ بأن جده الأكبر هولاكو بن تولى [2] ابن جنكيز خان، وهو جد القان الأكبر الآن. والملكان [3] الآخران يفخران بأن جنكيز خان لما قسم البلاد بين «1» ابنيه، ملك جديهما [4] ، ولم يملك تولى ولا هولاكو ولده جد صاحب إيران، بل كان هولاكو ابن تولى مندوبا من جهة أخيه منكوكبكاخان [5] ، وارث الملك والتخت. (حدثني الفاضل نظام الدين أبو الفضائل يحيى بن الحكيم نور الدين الطياري (المخطوط ص 40) الكاتب البوسعيدي [6] أنه كان أرسله لدفع

_ [1] أفراسياب: أكبر الملوك الأسطوريين التورانيين من نسل تنورين افريدون، جلس على ملك توران بعد يشنگ (انظر: حماسهء سراي وإيران ذبيح الله صفا تهران 1369 ش 616- 626) . [2] هولاكو بن تولوى (الابن الرابع لجنكيز خان) ابن سيورقوني بيگي من قبيلة الكرايت، والعامة يدعونه هلاوون، قاد جيوش المغول جنوب البلاد الإسلامية وقضى على الإسماعيلية والخلافة العباسية، واستولى على الشام، وهزمت جيوشه في عين جالوت سنة 658 هـ أمام المصريين وتوفي سنة 663 هـ (انظر: جامع التواريخ لرشيد الدين فضل الله ترجمة صادق نشأت وآخرين ج 2/219، وكتابي فتوحات هولاكوخان في ميزان النقد التاريخي- القاهرة 1990 ص 1- 6 تركستان لبارتولد 715) . [3] وردت بالمخطوط المكان. [4] جغتاي. [5] منكوكبكاخان هو مونكو بن تولوي بن جنگيز خان حكم ما بين سنة 1251- 1258 نجان باليق (انظر: تركستان لباتولة 715) . [6] البوسعيدي نسبة إلى أبي سعيد هاد بن أولجايتو وخدابنده بن أرغون بن آباقا بن هولاكو، من سلاطين الإيلخانيين (انظر الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة ابن حجر العسقلاني حققه محمد سعيد جاد الحق القاهرة 1966 ج 3/469 وكذلك كتاب عبيد زاكاني ومنظومته موش وكربه د. أحمد الشاذلي القاهرة 1990 ص 7- 8) .

الإسماعيلية [1] والأكراد [2] ، فلما أخذ بغداد [3] ، تمكن وعصا، واستقل بنفسه، والواضح الجلي ما سنذكره عن شيخنا الفرد نادرة الوجود أبي الثناء الأصفهاني [4] إن شاء الله في ذلك) «1» . وأمّا أصل جنكيزخان، جد هؤلاء الملوك في النسب، فنحن نذكر منتهى نسبهم إلى أن نأتي إلى جنكيزخان (متبعهم، ومشرع الباسته [5] لهم) «2» ، ثم

_ [1] الإسماعيلية: فرقة دينية تنسب إلى إسماعيل بن الإمام جعفر الصادق، والذي مات في عهد أمية سنة 143 هـ، واتباعه أسسوا مذهبا قائما على التأويل والتفكير الفلسفي، أظهر الفاطميون مذهبهم، وتفرقوا بعد ذلك إلى فرق منها الدروز والصباحية والبهرة والأغاضانية والمقصود بهم في هذا الكتاب هم الصباحية الذين يسمونه أيضا الباطنية والملاحدة والحشاشين (انظر كتاب حركات الغلو والتطرف أحمد الشاذلي القاهرة 1987 ص 35- 87) وكذلك روضة الصفا في سيرة الأنبياء والملوك والخلفاء ترجمة المحقق 232 وما بعدها- نزهة القلوب حمد الله قزويني 61) . [2] الأكراد: شعب يسكن هضبة فسيحة في آسيا الوسطى، وبلادهم موزعة بين تركيا وإيران والعراق وغيرها (المعجم الوسيط ج 2/813) . [3] بغداد: مدينة السلام، على نهر دجلة، كانت حاضرة الدولة العباسية أسسها المنصور، كانت أم الدنيا وسيدة البلاد فيها سبع لغات بغداد وبغذاذ وبغذاد ومغداد ومغذاذ ومغدان وبغدان (مراصد الاطلاع 2/209) . [4] أبو الثناء الأصفهاني: محمود بن عبد الرحمن بن أحمد بن محمد الأصبهاني، مفسر وصوفي ومتكلم، ولد بأصبهان 674 هـ وقدم دمشق لازم المسجد الأموي ومات بالقاهرة 749 هـ (معجم المؤلفين لكحالة 12/177) . [5] الياسا: الأحكام والقانون وهي بالمغولية يساي (انظر: تركستان لبارتولد 114) وترد في العربية يسق ويساق والكلمة مغولية تعني قانون، وهي ياسا وباسق وباسا، وهي مجموعة من القوانين التي وضعها جنكيزخان ليسير عليها قومه (انظر فرهنگ رازي 1034- وفتوحات هولاكوخان 7 (وهو كتاب القواعد الكبير (تاريخ جهانكشاي وعطا الله جويني ترجمة د. محمد التونجي حلب 1985 ج 1/62) .

تفرع نسب كل ملك من هؤلاء الأربعة، فنقول وبالله التوفيق، (قيل) «1» أن جنكيزخان ينتهى (نسبه) «2» إلى امرأة تسمى آلان قوا [1] كانت متزوجة بزوج أولدها ولدين، اسم أحدهما بكتوت والآخر بلكوت، وأبناء هذين الولدين يسميان عند المغل [2] الدرلكيه، ثم مات زوجها، وبقيت مرحلة بغير زوج، فحملت فأنكر عليها المحمل، وحملت إلي من له الحكم بينهم، لينظر في أمرها، فسألها ممّن حملت؟ فقالت: ما حملت من أحد، إلا أني كنت قاعدة وفرجي مكشوف، فنزل نور دخل في فرجي ثلاث مرات فحملت منه هذا الحمل، وأنا حامل بثلاثة ذكور، لأن دخول ذلك النور كل مرة بولد ذكر، فأمهلوني حتى أضع، فإن وضعت ثلاثة ذكور، فأعلموا مصداق قولي، وإلا فرأيكم فيّ، فولدت ثلاثة أولاد ذكورا من بطن واحد؛ بوقن فوناغي، وبوسن سالجى، وبوذنجر، وهؤلاء الثلاثة هم المسمون بالنورانيين نسبة إلى النور الذي ادعت أمهم أنه نزل في فرجها [3] ، ولهذا يقال عن جنكيزخان أنه ابن الشمس وبوذنجر عليه عمود النسب إلى جنكيزخان. فنقول: إن هذا بوذنجر ابن الآن قوا أولد بغا وبغا أولد ذو توم منن، وذو توم منن

_ [1] آلان قوا وترد آلانقو (جامع التواريخ رشيد الدين فضل الله ج 2/25) وعند أحمد تبريزي شهنشاه نامة تبرزي آلان قوا ص 172- 164) . [2] المغل هم المنغول شعب لم يكن على عهد جنكيزخان سوى مصطلح رسمي وكان مجهولا لدى بقية الشعوب، وكان حكام الصين يطلقون عليهم التتار (تركستان لبارتولد 545) والمغول هم المغال والمنغووا قبائل تركية سكنت قرب نهر اونون (تاريخ التمدن الإسلامي جرجي زيدان بيروت 3/508. القرماني 286) . [3] انظر: قصة مشابهة مع اختلاف في الموضوع حول الشعاع الذي يبشر بالأولاد العظام، في حديث عطا ملك جويني عن الأويغور (انظر جهانگشاي الترجمة العربية 1/81) .

أولد قيدو، وقيدو أولد باي سنقر، وباي سنقر أولد تومنيه خان، وتومنيه خان أولد قبل خان، وقبل خان أولد تربان «1» ، وتربان أولد بيسوكي بهادر، وبيسكوي بهادر أولد جنكيزخان، جد هؤلاء الأربعة. (المخطوط ص 41) ونحن الآن نسرد نسبه منه إلى الآن، فواصل «2» أن تفرع أنساب هؤلاء «3» الأربعة منه، فنقول جنكيزخان بن بيسوكي بهادر ابن تريان بن قبل خان بن تومنيه خان بن باي سنقر بن قيدو ابن ذو توم منن بن بغابن بوذنجر بن الآن قوا، إلى هذه المرأة منتهى نسبهم [1] «4» . وهذه الحكاية في نسب جنكيزخان أكذوبة قبيحة، وأحدوثة غير صحيحة، وإن صحت عن المرأة، فلعلها احتالت على سلامة نفسها من القتل، ولعلها سمعت قصة مريم الزكية، فتعلقت بحبل الشبهة، حتى أضلت أقواما بشبيه ذلك الحق، وزورت كذبا على مثل هذا الصدق. [البسيط] قد يبعد الشيء من شيء يشابهه ... إن السماء نظير الماء في الزرق وها نحن نبدأ بذكر نبذة من ابتداء حال جنكيزخان وترقيه إلى أن ملك، ودانت له ملوك تلك الديار، وقبل الخوض في سياقة انتساب هؤلاء الملوك واتصالهم

_ [1] يدعى جنگيزخان نسبة إلى قوتولةخان زعيم قبيلة الموتغكو، تتار باعتلائه عرش القبيلة، وهو ادعاء لا يرقى إلى الصواب (تركستان من الفتح العربي إلى الفترة المغولية- فاسيلي فلاديميرو باتولد نقله عن الروسية صلاح الدين عثمان هاشم الكويت 1401 هـ 1981 م ص 545.

به، فنقول: حكى الصاحب علاء الدين عطا ملك الجويني [1] (أنه كان ملك الجويني) [2] ، أنه كان ملك عظيم في قبيلة عظيمة يدعى أونك خان [3] ، وكان مطاعا في قبيلته [4] ينقاد إليه عظماء رعيته، فتردد إليه جنكيزخان في حال صباه، وقربه وأدناه، وتوسم فيه النجابة والرياسة، فزاد في ارتقائه على أقربائه، وأعلاه على من سواه، حتى نشأ بينهما الاتحاد، وانتسج الوداد، فشبت نار الحسد في أقرباء ذلك السلطان، ونفخ في روعهم مخيل الشيطان. أن وضعوا لجنكيزخان المراصد والمصائد، ودفنوا له الأوابد والمكائد، وأعملوا الفكر في قطع حبل انفصال عنه، ووضع موجبات قتله واتصال منه، فلما بالغوا في الوقيعة، وأسرفوا في الغيبة والشنيعة، تغير أونك خان، على جنكيزخان تغيرا لم يظهره، وأسر كدرا لم ينقره، وجمع فكرا في ذنب يأخذه به، أو ينتحله، أو جرم يتقوله واستشار فيه أصحابه، وجعل التوقع لذلك دأبه، فاتفق أن سخط أونك خان على صبيين [5] (المخطوط ص 42) من مماليكه، فخافاه والتجأ إلى حوزة،

_ [1] علاء الدين عطا ملك جويني هو علاء الدين عطا ملك بن بهاء الدين جويني من كتاب التاريخ الإيرانيين المعروفين في العصر المغولي، كان أبوه وأخوه أصحاب ديوان جوين عمل في بغداد أربعة أعوام، ولكنه قبض عليه بوشاية وزير باقاخان وتوفي سنة 781 هـ وأهم كتبه جهانگشاي (انظر عطا ملك جويني وكتابه جهانگشاي والسباعي محمد السباعي- رسالة دكتوراه؛ جامعة القاهرة- فرهنگ أدبيات فارسي زهرا خانلرى كيا چاپ سوم توس 1366 ش ص 167- تاريخ فاتح العالم جهانگشاي تأليف عطا ملك الجويني حاكم بغداد ترجمة د. محمد التونجي حلب 1985 مقدمة القزويني ج 1/27 وما بعدها) . [2] جملة اعتراضية. [3] أونك خان رئيس قبائل الكرايت (الكريت) والساتيز، وكان ذا قوة ومكانة تفوق غيرها من القبائل، وتمتاز قبيلته بالعدة والعتاد والعدد (جهانكشاي الترجمة العربية 1/69) وهو أيضا ونك خان زعيم الكرايت (تركستان؟ -؟ - بارتولد ترجمة صلاح الدين عثمان هاشم الكويت 1981 ص 545) . [4] قبيلة الكرايت. [5] كان الصبيان يدعى أحدهما كلك والثاني باده (جهانگشاي الترجمة العربية 1/70) .

جنكيزخان [1] ، واستجارا به، فأحسن إليهما، وحنا عليهما، ووعدهما بإزالة كدر السلطان، وتلاقى ما كان، فأنطقهما لسان الإحسان بهذه: «إذا التزم المقدار جبل سعادة ... أتاك جميع الكائنات مساعدا «وإذا جري القضاء على صعب سهّله ... وإذا أرادك الله لأمر همّاك له» وقالا له: إن السلطان أونك خان يتوقع لك الوقيعة، ويتربص لك الأجن الشنيعة، فخذ حذرك، وأصلح أمرك، فرحل من ليلته بأتباعه وجماعته، ودهمه أعداؤه سحرا، فلم يجدوا له أثرا، ولا عرفوا له خبرا، ونفر العسكر يتلوه، فلم يلقوه، وقيل بل لحقوه، فعطف بجماعته إليهم، وقاتلهم حتى أتى عليهم، وغنم مالهم، فلما جمع أتباعه وأقاربه، وأعز مقامه، وحمى جانبه، وربّ رجاله وآله، وبذل لهم قوته وماله، وخص بإحسانه دنيك الصغيرين دون الناس، وأنزلهما منزلة العينين من الراس، ويسمى كلا منهما ترخانا [2] ، وكتب له أمانا وفرمانا [3] بفراغه من جميع المؤن والكلف، وتفرغه لانتهاز الفرص، واقتطاف الطرف، وأن ينهب في الفتوح قبل كل ناهب، ويسلب قبل كل سالب، ويدخل على يده عامة البيوت فلا

_ [1] يذكر ابن بطوطة أنه لم يكن إلا حدادا بأرض الخطا، وجمع الناس حوله، وصارت له جماعة، فقدموه على أنفسهم، وغلب على بلده وقوي واشتدت شوكته، فغلب ملك الخطا ثم على ملك الصين (رحلته 244) . [2] ترخان: لقبه يحمله أمراء وملوك تركستان، ويأتي أحيانا طرخان، طرخون (فرهنگ رازي 274) ، وحامل لقب ترخان له مزايا عديدة ويمكنه مقابلة الملك في أي وقت- واللفظ تركي يعني في العربية رئيس ويجمع طراخنة (فرهنگ عميد 1/560- جامع التواريخ حاشية ج 2/17) . وقال عنه ابن بطوطة ترخان: الموضع المحرر من المغارم (رحلة ابن بطوطة 228) والطرخانات هم الطبقة الأب خراطية (جهانكشاي لعاط الله جويني 2/27- ابن العبري 395- تركستان لبارتولد 551- التاريخ السري للمغول طبقة كوزين 141- 167) . [3] فرمان: أمر وحكم وهو هنا يعني أمر سلطاني واللفظ فارسي من الپهلوية Faraman ودخل العربية وبجمع فرامين وفرمانات (انظر الدخيل في لهجة أهل الخليج للمحقق ص 89- معجم الألفاظ الفارسية المعربة لآدي شير بيروت 1980 ص 119، تفسير الألفاظ الدخيلة في اللغة العربية لطوبيا العنيسي القاهرة 1964 ص 196 ص 51- معجم الألفاظ العامية لأنيس فريحة بيروت 1973 ص 129- فرهنگ-

يمنع، ويحكم فلا يدفع، وأن لا يؤخذ بذنوب كثيرة ولو تكررت ذنوبه، واستمرت عيوبه، وأجرى ذلك لجملتهما، وآحادهما، وأن يستمر ذلك إلى سبعة أبطن [1] من أولادهما، ومن نسلهما الآن قوم لا عادية عليهم، ولا لوم، محترمون عند الملوك، جارون على ذلك النهج المسلوك. ثم شرع في الإحسان إلى جميع من رحل عن أونك خان، وباعده، واتصل به، وعاضده، وأفشى فيهم الإنعام، وبث فيهم الإعزاز والإكرام، حتى تتالوا إليه أفواجا، وتواردوا إليه فرادى وأزواجا، وأولادهم الآن أقرب الأخصين، وأخص الأقربين، فقوى بذلك أمره وإمارته، واشتدت شوكته ومهابته، وراسل القواد، فانقادت، واستلان القلوب (المخطوط ص 43) فلانت أو كادت، فحينئذ جرد عسكرا كثيفا، وتبعا لفيفا لمحاربة السلطان أونك خان، وأمده بآخر يتلوه، فنازلته العساكر الجنكيزية، فقتل في أقرب أمد، وملك جنكيزخان ما كان له من عدة وعدد. ثم بعث جنكيزخان إلى القبائل المتباعدة، والبطون المتباينة [2] ، بما عرفهم به من حاله وعدله وبأسه وفضله وعلو شأنهم إن انضموا إليه، وتأييد سلطانهم إن عكفوا عليه، فتوالوا إليه كالسيل ورمل الفلا ورجل الجراد. وكان من أعظم القبائل المجيبة لدعوته، الداخلة في إيالته، القانعة برئاسته وباسته [3] قبيلتان، بالغتان في العدد، نهايتان في الاستعداد والعدد، إحداهما تدعى أويرات [4] ،

_ - عميد 2/1529- فرهنگ رازي 632) . [1] انظر: القصة كاملة في جهانگشاي الترجمة العربية 1/70- 71. [2] أخضع جنكيزخان قبائل التتار، الكرايت والنايمان والأيغور والاويرات (انظر تركستان من الفتح العربي حتى الغزو المغولي، فاسيلي يمروفتش بارتولد، نقله عن الروسية صلاح الدين عثمان هاشم الكويت 1981- ح 1/400) ، وأرسل إلى قبائل اويرات وقنقورات (جهانگشاي الترجمة 1/71) . [3] ياستة- قانونة (فرهنگ رازي 1034) . [4] اويرات وإحدى القبائل المغولية (جهانگشاي الترجمة العربية 1/71- جامع التواريخ نشر برزين ج 1 ص 100) .

نبذة من عقيدته وياسته وقاعدته وسيرته

والأخرى قنقورات [1] وأما القبيلة التي هي في خدمه، ومنها عظمه تسمى قيات [2] وهي أكثر القبائل شهرة، وأتمها كثرة، وكان اسمه القديم تموجين [3] فلما تؤخذ أمره، وعلا قدره، سمى جنكيز خان [4] . نبذة من عقيدته وياسته وقاعدته وسيرته قال الصاحب علاء الدين عطا ملك الجويني: الظاهر من عموم مذاهبهم الإدانة بوحدانية الله تعالى، وأنه خلق السماوات والأرض، وأنه يحيى ويميت، ويغني ويفقر، ويعطي ويمنع، وأنه على كل شيء قدير [5] . قال مؤلف جهانگشاي [6] : إن من أولاده من كان بملة عيسى، ومن دان بملة موسى، ومنهم من أخرج الجميع، وكل من اعتقد من بنيه مذهبا لم يكن له

_ [1] قنقورات قبيلة مغولية (جهانگشاي الترجمة العربية 1/71) . [2] ورد أنه كان من بين قبائل المغول، وبرز أثناء محاربة التتار، وإنه اتخذ اسم المغول علما له وحل محل قوتوله خاقان حاكم القبيلة السابقة (تركستان لبارتولد 545) . [3] تيموجين أو تمرجي أو تمجين (جهانگشاي الترجمة العربية 1/69) . [4] ذكره ابن بطوطة جنكيز خان وأنه كان يعمل حدادا بأرض الخطا، وكان له كرم نفس وقوة وبسطة في الجسم، كان يجمع الناس ويطعمهم حتى صار له جماعة، فقدموه على أنفسهم، وغلب على بلده وقوي واستفحل أمره، فغلب على ملك الخطا وملك الصين والختن وكاشخر والمالق (رحلة ابن بطوطة 244) . [5] انظر جهانگشاي عطا ملك جويني- الترجمة العربية ج 1/60) . [6] جهانگشاي: من تواريخ العصر المغولي، تأليف علاء الدين عطا ملك جويني، ألف سنة 658 هـ ويضم ثلاثة مجلدات عن أحوال وقائع المغول حتى سنة 655 هـ- المجلد الأول عن عادات وتقاليد المغول القديمة وقوانين الياسا التي وضعها جنكيز خان، وفتوحات جنكيز خان. وسلطنة أوكتاي قاآن وگيوك خان وجغتاي، والمجلد الثاني عن تاريخ الخوارزمشاهية وأحوال ملوك القراختاي والجرجانية والثالث عن تتويج منكو قاآن وسلطنته وهولاكو خان وتوجهه إلى بغداد والقضاء على الإسماعيلية- (انظر: جهانگشاي عطا ملك جويني جاب تهران- عطا ملك جويني وكتابه جهانگشاي د. السباعي محمد السباعي رسالة الدكتوراه بجامعة القاهرة، فرهنگ أدبيات فارسي 114- 115) (تركستان من الفتح العربي إلى الغزو المغولي؟ -؟ بارتولد نقله عن الروسية صلاح الدين عثمان هاشم- الكويت 1981 هـ ص 841) .

تعصب على غيره ومنهم من تقرب بالأصنام [1] ، وكان جنكيز خان [2] إذا تهدد أحدا من الملوك أو كاتبه بالتحذير من صولته، قال له: إن أطعت كان لك كذا وكذا من الإعزاز والتقريب، وإن عصيت فالله أعلم بما يكون حالك معنا، قال: ويلمح من هذا القول نوع من التوكل والتفويض. وأمّا السياسة وأحوالها كثيرة، فمنها ما يوافق الشريعة المحمدية، قال: وليعلم أن هذا الرجل لم يقف على سيرة ملوك، ولا طالع كتابا، وجميع ما نسب إليه من ذلك صادر عن قوة ذهنه (المخطوط ص 44) وحسه، واستدراك الأصلح من قبل نفسه، فإنه استخرج لكل منهم مبهمّ، وقعد قاعدة مفردة، ولكل مذنب عقوبة مقدرة، وعين حدودا، لا إمهال له عندهم، ولا مغير، وأوعز أن يتعلم ذلك صغار أهله، ويسرى امتثاله عن عقب الرجل منهم، ونسله، بعد أن أثبتها في كتاب سماه الياسا الكبيرة [3] ، وأمر أن يوضع في خزانته، ويتوارثها أقارب عصبته وذريته [4] . ونسخ ما كان لهم من قديم عواند مذمومة بتسليكات محمودة مفهومة، فمن ذلك أن من زنى سواء أن كان محصنا أو غير محصن قتل، ومن لاط قتل، ومن تعمد الكذب قتل، ومن سحر قتل، ومن يتجسس علي قوم قتل، ومن داخل بين اثنين يختصمان فأعان أحدهما قتل، ومن بال من الماء قتل، ومن أعطى بضاعة وخسر ثم أعطى ثانية وخسر إلى الثالثة قتل، ومن أطعم أسير قوم أو كساه أو شكاه بغير إذنهم قتل، ومن وجد هاربا أو أسيرا أو عبدا ولا يرده قتل.

_ [1] انظر: جهانگشاي الترجمة العربية ج 1/63. [2] ظل جنكيز خان متمسكا بديانته الشامانية (تركستان لبارلوله 560) . [3] كتاب القواعد الكبير (جهانگشاي الترجمة العربية 1/62) أي القانون العرفي للمغول (تركستان لباتولد 373) . [4] دونت الياسا باللغة الأويغورية بالإضافة إلى تعاليم جنكيز خان المسماة (بيللك) (انظر: تركستان ص 559) وانظر تفاصيل الياساي في جهانكشاي 1/62) .

وكانوا يعتمدون في ذبح الحيوان أن تكتف قوائمه ويشق جوفه، ويدخل أحدهم يده إلى قلبه ويهرسه فركا حتى يموت أو يخرج قلبه، ومن ذبح كذبيحة المسلمين ذبح، ومن وقع جمله أو فرسه وثقله في كر أو فر، ومر عليه من يتلوه بعده، ولم ينزل لمساعدته قتل، وقيل كانت لهم ياسه قديمة أن من ارتمس في الماء قتل. وكان جنكيز خان يعظم رؤساء كل أمة وملة، ويتخذ تعظيمهم، وسيلة إلى الله تعالى. قال: والمشهود من حالهم إسقاط المؤمن والكلف عن العلويين [1] والفقراء [2] والقراء والفقهاء والأطباء وأرباب العلوم على اختلافهم والزهاد حتى عن المؤذنين ومغسلي الموتى. ومن آدابهم المستعملة وقوانينهم أشياء كثيرة؛ منها أن لا يأكل أحد من يد أحد طعاما حتى يأكل المطعم منه أولا، ولو كان المطعم أميرا والمطعم أسيرا، ولا يختص أحد بالأكل وحده دون أن يطعم جميع من وقع نظره عليه ذلك الطعام، ولا يمتاز أمير بالشبع من الزاد دون أصحابه، بل يقسمون الزاد بالسوية، ولا يرمى أحد بالمأكول رميا، وقد قابل (المخطوط ص 45) مناولة باليد، ولا يخطو أحد موقد نار ولا طبق زاد، ومن اجتاز بقوم يأكلون فله أن يجلس إليهم، ويأكل معهم من غير استئذان، وأن لا يدخل الإنسان يده في الماء بل يأخذ ملء فيه، ويغسل يديه ووجهه، ولا يبول أحد على الرماد، ولا يطأ عتبة الخرگاه [3] .

_ [1] العلويون هم أتباع الإمام علي بن أبي طالب، وتطلق على الشيعة إجمالا إلا أن فرقة النصيريين وهي إحدى الفرق الشيعة الغلاة يسمون بالعلويين (حركات الغلو والتطرف في الإسلام د. أحمد الشاذلي القاهرة 1987 ص 92- 93) والعلويون هنا المقصود بهم أولاد وأحفاد الذين أقاموا جماعات علويين لهم في أنحاء متفرقة من إيران. [2] الفقراء: المتصوفة. [3] الخرگاه: خيمة كبيرة سرادق سلطاني (فرهنگ رازي 272) ، الخرگاه بيت يسمى عندهم الخرقة، هي-

قال: وسمعت أنهم كانوا لا يرون غسل الثياب البتة، ولا يميزون بين ما يميزه المسلمون في شيء من طاهر ونجس البتة [1] . قال: ومن قوانينهم التي ألفت منهم أن لا يتعصبوا لمذهب من المذاهب على مذهب، وأن لا يفخموا الألفاظ والألقاب من كلام بل يتلفظ باسم السلطان كما يسمى غيره، فيقال قد تقدم قاآن أو خان [2] بكذا وكذا، وأن لا يتعرضوا لمال ميت أصلا، ولو ترك ملأ الأرض ولا يدخلونه خزانة السلطان. قال: وأما ترتيب العساكر والقانون المقرر في ذلك، فأعلم أنه لا ينقل في تاريخ قديم ولا حديث أن عسكرا اجتمع لسلطان كثرة كما اجتمع لهم كثرة عدد وعدد وقوة وصبرا وطاعة لسلطانهم إلا لأجل مشاهرة، ولا توقع مال وجاه بل لمجرد الطاعة حسب، ثم إذا رجعوا من القتال وكرب الحرب إلى السكون، والسلم [3] ، أخذ السلطان فيهم القلان [4] والقبجور [5] والأولاق [6] والبدرقة [7] من غير ضجر

_ - عصى من الخشب يجمع شبه قبة، وتجعل عليها اللبود ويفتح أعلاه ولدخول الضوء والريح جعل البادهنج ويسد متى أحتيج إلى سده (رحلة ابن بطوطة 200) . [1] انظر جهانكشاي، الترجمة العربية 1/61- 680) . [2] القاآن: أول مرة يكتبها المؤلف صوابا، ويبدو أنه نقلها عن علاء الدين عطا الله جويني، والقاآن هو الملك الكبير والخان هو الأمير. [3] انظر: جهانكشاي 1/63. [4] القلان: دراهم ترصد برسم الكلق مقررة على البلاد (حاشية المخطوط ص 48) ضريبة كانت موجودة قبل القويجور، تجبى من المسلمين وغير المسلمين (تركستان 656) . [5] القبجور: من نوعه (أي أنه رسم مقرر) (حاشية المخطوط ص 45) القوپجور ضريبة تجبى (رأس من كل مائة رأس) وتوزع على الفقراء والمعوذين (تركستان 656) ويقول عن ابن العبري: مراعي ذوات اوربع (ابن العبري 459) . [6] الأولاق: خيل البريد (حاشية المخطوط 45) الولاق هو خيل البريد (رحلة ابن بطوطة 262) وهو اولاغ وهو البريد عامة والبريد الخاص يسمى ناريت أو بارين تاريت والبريد العادي بيات أو تيان ينات (تركستان 657) . [7] البدرقة: في معنى البائزة: البائزة لوح البريد (حاشية المخطوط 45) والبائزة كانت عبارة عن لوحة من-

منهم، ولا تأسف منهم، بل يؤدونه إليه مختارين، ومتى تجهزوا للقتال، عرضوا آلات الحرب وغيرها على أمرائهم حتى تعتبر أمراؤهم الخيط والإبرة، ويؤاخذونهم على تجويد آلة أو تقصير في سلاح. قال: وأغرب من ذلك أن نساءهم [1] تنهض في حال بعدهم وسفرهم بجميع ما يتوجه على رجالهم الغياب من الطلب والسخر السلطانية، ومن ذلك أن كل بنت حسناء تجمع من كل مكان، ويحملن جميعا في رأس كل سنة إلى السلطان، فيختار منهن ما يصطفيه له ولأولاده، ويرد الباقي. ومن أحسن الترتيبات وضعهم أمراء الألوف [2] والمئات [3] والعشرات [4] فهو أضبط نظام لما يحاولونه، وأسرع إفهام لما يطلبونه. ومن جملة ياسهم أنه إذا كان أمير في غاية القوة والعظيمة وبينه وبين السلطان كما بين المشرق (المخطوط ص 46) والمغرب، حتى أذنب ذنبا يوجب عقوبة، بعث إليه ولو من أخس أصحابه من يؤذ به بموجب ما يقتضيه ذنبه، ولو كان من ذنبه ما يوجب قتله، ألقى نفسه بين يديه ذليلا، وأخذه الرسول بموجب جرمه حقيرا كان أو جليلا. [5] ومنها أن كل أمير لا يتردد إلي سواه، ولا يتغير عن موضعه [6] فإن فعل ذلك

_ - الذهب أو الفضة وفي بعض الأحيان من الخشب، وذلك حسب رتب الأشخاص (حاشية جامع التواريخ ج 1/247) وجميع بايز. بايزات (تركستان 688- 738) . [1] وردت بالمخطوط نسائهم. [2] أمير الألف أي تحت إمرته ألف جندي وهو عادة لا يقل عن خان ويقال عن أمراء الألف هزاره (رحلة ابن بطوطة 227) . [3] أمير مائة أي تحت إمرته مائة جندي وهو عادة لا يقل عن بيگ. [4] أمير عشرة أي تحت إمرته عشرة جنود ويسمى أو نباشي وأدنى بمعنى عشرة وباشي بمعنى رئيس. [5] قوانينهم، ينقل ابن فضل الله العمري القوانين نقلا جيدا يكاد يترجمها من أصلها الفارسي انظر الترجمة (جهانگشاي 1/61- 68) . [6] انظر جهانگشاي 1/67.

عوقب أو قتل، لا يتردد إلى أحدهم أولاده. ومنها وضعهم البريد بكل مكان، طلبا لحفظ الأموال، وسرعة إيصال الأخبار، ومستجدات الأحوال. وكان لجنكيز خان عادة مستمرة، وإن كانت إلي الآن سارية في الأولاد، وهي وفور الرغبة في الصيد والأمر به والركوب إليه، في كل وقت يتفرغ فيه من القتال، والمنازلة، وربما اشتملت حركته على مسيرة ثلاثة أشهر، يحافظ العسكر على ما تحويه تلك الحلقة [1] ، ويضايقون ما بين الخراكي [2] والبيوت بالحبال، ولم يكن غرض السلطان من ذلك مجرد الصيد خاصة، وإنما مراده تمرين عساكره، واستمرار أوامره، وإدمانهم علي استعمال السلاح، وسفك الدماء، وتغلب القوة الغضبية والمضاهرة على الأرواح. ومن عاداتهم أنه متى خرج من قبل واحد منهم شيء من الصيود أدب بحسب ما تقدم من أمره بل ربما قتلوه، ويسوقون تلك الصيود كسوق الغنم [3] ، وتواتر الرسل إلى السلطان بصورة حالها وكثرتها وقلتها، فإذا ضاقت الحلقة، وتراكمت الصيود، مشحونة بغرائب الوحوش، والحيوانات السهلية والجبلية، ودخل هو وأولاده وخواصه، وتفوقوا في القتل والقبض والتفرج، وربما استثرف القان من مكان عال، لينظر فروسية أولاده، وقوة مراسهم، فإذا تخلف من تلك الصيود بعد ذلك شيء، اجتمع ولدانهم وصبيانهم، وشفعوا إلى السلطان في إطلاق ذلك المتخلف. وحكى أن في بعض صيودهم واجتماع ما اجتمع في بعض تلك الحلق لهم من الوحوش، وضاقت عليهم المذاهب، وعاينت التلف، فاستقبلت السلطان بوجهها

_ [1] انظر جهانگشاي 1/63. [2] الخراكي جمع مفرده خركاه- خيمة كبيرة (فرهنگ رازي 272) والخركاه غير البارگاه فالثانية بيت كبير له أربعة أعمدة من الخشب ومكسورة بصفائح الفضة (رحلة ابن بطوطة 227) . [3] انظر جهانگشاي 1/64.

وجاءت إليه بالصياح العالي على هيئة المستعطف (المخطوط ص 47) المستجير، فيتقدم بفك الحلقة، وإطلاق تلك الوحوش [1] . قال الصاحب علاء الدين الجويني [2] كان له عدة أولاد ذكور وإناث من الخواتين [3] والسراري [4] وكان أعظم نسائه أوبولجين بيگي، وفي رسم المغول تعظيم الولد بنسبة والدته، فكان له من هذه المذكورة، أربعة أولاد معدين للأمور الخطرة وهم لتخت ملكه بمنزلة أربعة قوائم سدته، وكان أكبرهم توش والد قردوا [5] وباته [6] وبركه [7] وتركجار [8] ، فرتب توش على الصيد والقبض لأنه أمر محبوب إليهم موصوف عندهم، ورتب چغتاي [9] الذي هو أصغر منه لتنفيذ الياسات والأرغوا [10] والمقابلات وأمثال ذلك، ورتب أوكتاي [11] لما يتعلق بالعقل والرأي والتدبير والولاية والعزل واختيار الرجال واختيار الأعمال وعرض الجيوش

_ [1] انظر: جهانگشاي 1/65. [2] أولاد جنكيز خان المذكور هم: جوجي وجغتاي واوگداي وتولوي (تركستان 715) . [3] الخواتين جمع مفرده خاتون وهي السيدة عريقة النسب (فرهنگ رازي 255) زوجة الملك (المسعودي: مروج الذهب ج 4/144) . [4] السراري جمع سرية وهي الجارية (فرهنگ عميد 2/1205) . [5] توشي ولد قرد ولعله يذكر جوجي بن جنكيز خان (انظر شجرة نسبه تركستان 715) . [6] باتن هو باتو بن جوجي (شجرة النسب عند بارتولد ص 715) . [7] بركة: هو نفسه بركا وبركاي وبركاء (انظر جامع التواريخ 1/14- 2/232 وما بعدها) ، هو بركة بن جوجي بن جنكيز خان حكم في القبيلة الذهبية ص 1237- 1256 م (انظر شجرة النسب في تركستان لبارتولد 719) . [8] تركجار: لعله يقصد تولوي الابن الرابع لجنكيز خان رتب للثلاثة الأول ولم يذكر الرابع منهم. [9] جغتاي هو جغتاي بن جنكيز خان حكم سنة 1227- 1242 م في مملكة بين القاآن الأكبر ومملكة جوجي وهولاكو (انظر الخريطة المرفقة) . [10] الأرغوا: هو يرغو أو يارغو- كلمة مغولية بمعنى العدل والقانون ويارغوجي بمعنى القاضي (جامع التواريخ ج 1/227) (انظر: تركستان 559- 683) . [11] أوكتاي: هو أوگتاي قاآن بن جنكيز خان (جامع التواريخ 2/21) وهو أوكداي خلف جنكيز خان 1229- 1241 م (تركستان 715) .

وتجهيزها. وحكى أنه قال لأولاده في جملة وصاياه إليهم، وحقه لهم على المؤالفة، وإجراء الأمور على انقياد الصغير للكبير، وضرب لهم أمثالا منها أنه دفع إليهم عدة أسهم مفردة، وأمر بكسر كل واحد منهم، فكسر في أسرع وقت، ثم جمع من تلك الأسهم عدة كثيرة، وأمر كل واحد منهم بكسرها مجتمعة، فعجزوا، قال: كذا حالكم في الوهن متفرقين. ولما عرضت لهم الممالك، وذلت لهم المسالك، عين لكل منهم إقليما بمفرده، ومنزلا يختص بحشده وعدد، فعين لأخيه أو تكين نويان [1] حدود بلاد الختا [2] وعين لولده الكبير توشى من حدود قيالق إلى أقصى شفشين وبلغار [3] ، وعين لچغتاي من حدود الأويغور [4] إلى سمرقند وبخاري، وجعل لنفسه مقاما في قياس مجاور أرمالق، وجعل ولده أوكتاي ولي عهده، وكان موضعه في عهد حدود آمل وقراباق [5] ، فلما جلس على تخت السلطان، انتقل إلى الموضع الأصلي بين الختا

_ [1] أوتكين نوين ويقصد به تولوي حيث كان يحمل لقب نوين الأكبر وكان أصغر إخوته، واللقب بالمغولية يكه نوين وبالتركية الوغ نوين (رشيد الدين فضل الله جامع التواريخ طبعة برزين ق 8/127) . [2] الختا: الختا والخطا قبائل سكنت شمال شرقي إيران في عهد السلاجقة وأقاموا دولة سنة 518 هـ كانت بين ممالك المغول وخوارزم، قضى عليهم سنة 609 هـ (انظر دولة السلاجقة د. عبد المنعم حسنين القاهرة 1975- 98- 100 المغول في التاريخ د. فؤاد عبد المعطي ص 6) وهم شعوب الختن بكسر الخاء- يعرفون لدى المغول باسم خادقوت (جامع التواريخ 1/115) . (انظر) تركستان 81 وما بعدها) . [3] البلغار: من بلغار القولجا (انظر: رحلة ابن بطوطة 225) وانظر: الخرائط المرفقة أخر الكتاب- والبلغار مدينة للصقالبة شديدة البرد لا يكاد البرد يقلع عن أرضهم صيفا ولا شتاء (مراصد الأطلاع 1/219) . [4] الأويغور: قوم من الأتراك يدينون بالمسيحية واليهودية والمانوية، وهم بصفة عامة أكثر أقوام الأتراك والمغول تمدنا، كانوا يقطنون شمال شرقي تركستان، وشمال نهر قاريم، وأهم مدنهم تورفان وبيش باليغ وبرقول وقره شهر وآلماليغ، كان لهم خط خاص لهم وهو الخط الأويغوري (انظر حاشية جامع التواريخ 1/195- تركستان لبارتولد 553- 554) . [5] قراباق: هي قره باغ أي الحديقة السوداء، أرض تقع ببلاد آذربيجان الحالية.

وبلاد الأويغور، وأعطى ذلك الموضع لولده كيوك [1] وكان ولده تولى [2] متصلا به، وبالجملة كان موضعه نقطة دائرة ملكه، وبنوه حوله كمحيط الدائرة. وكان أولاده وأحفاده أزيد من عشرة آلاف، هذا ما ذكره الصاحب علاء الدين، وقد سألت شيخنا فريد الدهر شمس الدين (المخطوط ص 48) الأصفهاني [3] عن بني جنكيز خان فقال: إن جنكيزخان أولد أربعة أولاد وهم جوجى [4] وجداري [5] وتولى [6] واوكتاي [7] فقتل جوجى في حياة أبيه، وكان أكبر أولاده، وأعزهم وخلف أولادا. قال ابن الحكيم: هو باتو [8] وأورده وبركه وتووك وجمنى [9] . قال شيخنا شمس الدين: المشهور باتو وبركة ابنا جوجي، فلما قتل أبوهم كان جنكيز خان؛ أبوه، قد عين له دمشق القبجاق [10] ، وما معه، وأضاف إليه آراك [11]

_ [1] هوكويوك بن أوكداي حكم ما بين 1246- 1248 م وهو ثالث القانات الكبار (تركستان لبارتولد 715) . [2] تولوي بن جنكيز خان. [3] شمس الدين الأصفهاني: شمس الدين محمد بن سعيد فخر الأصفهاني من أدباء وشعراء القرن الثامن الهجري ألف بالفارسية كتابا بعنوان معيار جمالي، عاشر الشيخ أبي إسحاق اينجو (فرهنگ أدبيات فارسي 305) . [4] ورد بالمخطوط جوخي وتصويبها جوجي استنادا إلى جهانكشاي وجامع التواريخ. [5] يقصد جغتاي الذي حكم ما بين 1227- 1242 م. [6] ورد بالمخطوط طولي وصوابه تولوي وتولي- لم يحكم. [7] ورد بالمخطوط لو كداي وصوابه أوكتاي بناء على ما ورد في جهانگشاي أو أوكداي بناء على ما ذكره بارتولد ص 715. [8] ورد بالمخطوط باتوا وهو باتوي. [9] أولاد جوجي هم آوردا وباتو وبركه وبوال وسيبان (انظر: شجرة نسب آل جنكيز خان بارتولد ص 719) . [10] دشت القبجاق: صحراء القبجاق. [11] آراك: مدينة إيرانية.

وتبريز [1] وهمدان [2] ومراغه [3] ، وأوصى جنكيز خان بأن يكون تخته لولده الصغير اوكتاي [4] وأن تكون مملكة ما وراء النهر وما معه لولده الآخر جداي [5] ولم يجعل لتولي [6] شيئا، فاستقل اوكتاي بتخت أبيه جنكيز خان، واستقل بدشت القبجاق وما معه، ولم يتمكن جداي مما له من ممالك ما وراء النهر. ثم مات اوكتاي وارث التخت، وملك بعده ولده كيوك، وكان رجلا شريرا جبارا متسلطا قوي النفس، فقوى على بني أبيه، وحكم عليهم حكما قاهرا [7] ، وهم بمعاندة باتو، ونزع يده، وبعث أميرا اسمه الجكداي إلى آران وبقية المضافات معها إلى باتو، وأمره بإمساك نواب باتو بها، وحملهم إليه، وسمع نواب باتو بذلك، فكتبوا إلى باتوا بالاستئذان على ما يكون اعتمادهم عليه. وصل الجكداي المجهز من جهة كيوك، وفي تلك الساعة بعينها، عاد جواب باتو على نوابه بمسك الجكداي، وتقييده، وحمله إليه، فقامت شيعة أولئك النواب المقيدين، ففكوا قيودهم، وأمسكوا الجكداي، وقيدوه وحملوه إلى حضرة باتو، فسلقه [8] بالماء، فلما بلغ هذا كيوك مرسله عز عليه، وعظم لديه، وجمع ستمائة ألف فارس، وسار كل واحد منهما لملتقى الآخر وقتاله.

_ [1] تبريز هي كوريز، كان بها مقر حكم هولاكو، أشهر مدن آذربيجان (انظر: تقويم البلدان 400- 401- مراصد الاطلاع 1/252) . [2] همدان وهمذان اسم لمدينة إيرانية مشهورة- وهي مدينة من الجبال أعذبها ماء وأطيبها هواء وهي أكبر مدينة بها (مراصد الاطلاع 3/1464) . [3] مراغة: من قواعد آذربيجان تقع غربي تبريز، بها مرصد بناه نصير الدين الطوسي (انظر تقويم البلدان 398- مراصد الاطلاع 3/1250) . [4] ورد بالمخطوط لو كداي وهو أوكتاي أو أوكداي. [5] جداي: وهو گداي أو أوگداي. [6] ورد بالمخطوط طولي وهذا موجود في كثير من مصادر العربية. [7] كان كيرك سفاحا، عقد حلفا بين المغول والعالم المسيحي ضد المسلمين (تركستان 694) . [8] ورد بالمخطوط فصلقة.

فلما تقاربا حتى كان بينهما نحو عشرة أيام مات كيوك [1] ، فاضطرب من كان معه، ثم اتفق رأي الخواتين والأمراء على مكاتبة باتو، فكتبوا إليه بإعلامه بموت كيوك، وأنه هو أحق بتخته، فيفعل ما يراه. فقال باتو: لا حاجة لي به وإنما أبعث إليه بعض أولاد تولي، وعين له منكوقان [2] بن تولى، وجهزه إليه هو وأخوه قبليه قان [3] (المخطوط ص 49) وهولاكو وجهز معهم باتو أخاه بركه في مائة ألف فارس من بهادرته [4] العسكر ليجلسه على التخت، ثم يعود. فأخذه معه وتوجه به ثم أجلسه، وعاد، فلما مر ببخارى، اجتمع بالشيخ سيف الدين الباخرزي [5] من أصحاب شيخ الطريقة نجم الدين كبرى [6] وحسن موقع كلام الباخرزي عنده، وأسلم على يده، وتأكدت الصحبة بينه وبين الباخرزي، فأشار عليه الباخرزي بمكاتبة المستعصم الخليفة [7] ومتابعته ومهاداته، فكاتب الخليفة، وبعث إليه هدية، وترددت بينهما الرسل والمكاتبات والتحف والمهاداة.

_ [1] مات كويوك سنة 1248 م. [2] منگوقاآن (جامع التواريخ مجلد 2 ج 2/82) مونكوين تولوي بن جنكيز خان حكم ما بين 1251- 1258 م (تركستان 715) . [3] قبيلة قان هو قوبلاي قاآن أو قوبيلاي بن تولوي بن جنكيز خان حكم ما بين 1260- 1294 م. [4] بهادرته: أي أبطاله وشجعانه من اللفظ الفارسي والتركي بهادر بمعنى شجاع، وكان هؤلاء يشكلون فرقة للحرس الخاص للقاآن (انظر تركستان 549) . [5] الشيخ سيف الدين الباخرزي من شعراء ق 6 هـ ومن مشايخ المتصوفة، كان مريدا للشيخ نجم الدين كبرى، عاصر العطار، أشعاره بالفارسية. مات 629 هـ (فرهنگ أدبيات فارسي 83) . [6] نجم الدين كبرى هو أبو الجناب أحمد بن عمر من رجال التصوف، مؤسس السلسلة الكبروية قتل سنة 610 هـ له فواتح الجمال ورسالة الخائف الهائم، وله أشعار كثيرة، فقتل في هجوم المغول (فرهنگ أدبيات فارسي 502) . [7] المستعصم: هو آخر الخلفاء العباسيين، تولى الخلافة العباسية سنة 640 هـ وقتل سنة 656 هـ على يد المغول، كان متدينا محبا للكتب، ولكنه ضعيف الرأي لم يكن له من الحكم شيئا، سيطر عليه نساؤه ووزراؤه (انظر كتابي فتوحات هولاكو خان في ميزان النقد التاريخي 31- تاريخ الخلفاء 464- البداية والنهاية 13/200 الفخري 333- أخبار الدول 180) .

ثم أن منكوقان لما استقل بالتخت ملك أولاد جغتاي [1] مملكة ما وراء النهر، تنفيذا لما كان جنكيز خان أوصى به لأبيهم چغتاي، ومات دونه. وعلت كلمة منكوقان، وجاءت إليه رسل أهل قزوين وبلاد الجبال [2] يشكون من سوء مجاورة الملاحدة [3] ، وضررهم بهم، فجهزهم [4] أخاه هولاكو في جيوش جمة لقتال الملاحدة، وأخذ قلاعهم [5] ، وقطع دابر دولتهم. فحسن هولاكو لأخيه منكوقان أخذ ممالك الخليفة وخرج على هذا، فبلغ هذا بركة بن جوجي، فصعب عليه، لما تأكد بينه وبين الخليفة من الصحبة [6] ، وقال لأخيه باتو: إننا نحن أقمنا منكوقان، وما جزانا منه أنه يكافئنا بالسوء في أصحابنا، وينقض عهدنا، ويحقر ذمتنا، ويتعرض إلى ممالك الخليفة، وهو صاحبي وبيني وبينه مكاتبات وعقود مودة، وفي هذا ما فيه من القبح. وقبح على أخيه باتو فعل هولاكو، فبعث باتو إلى هولاكو بأنه لا يتعدى مكانه، فجاءه رسالة باتو وهو وراء نهر جيحون ما غيره، فأقام في موضعه بمن معه سنتين كاملتين حتى مات باتو، وتسلطن أخوه بركة بعده، فحينئذ قويت أطماع هولاكو، وبعث إلى أخيه منكوقان يستأذنه في إمضاء ما كان أمره به، من قصد

_ [1] وردت بالمخطوط جغطاي وصوابها جغتاي. [2] بلاد الجبال هي گيلان وطبرستان الواقعة جنوبي بحر قزوين. [3] الملاحدة: هم الإسماعيلية والإسماعيلية فرق والفرقة المقصودة هنا هم الصباحية أتباع حسن الصباح المسمى بشيخ الجبل، وآخر حكامهم خورشاة المعتزل سنة 655 هـ، سكنوا قلاع أصفهان وقهسقان وأشهر قلاعهم آل موت (انظر: كتبي: فتوحات هلاكو خان 7- 10- حركات الغلو والتطرف في الإسلام- الشيعة الفاطميون يحكمون مصر- وترجمة روضة الصفا 235- 261) . [4] وردت بالمخطوط منجزهم. [5] أهم قلاع الملاحدة، آل موت وكردكوه ولا مستر وميمون درّ وطبس وجور وجوسف وزوزن وقاين (انظر نهاية الأرب في فنون الأدب شهاب الدين أحمد النوري تحقيق فوزي العنتيل- القاهرة 1985/ج 26/254) . [6] كان هذا سببا في العداء المستحكم بين هولاكو وبركة (انظر جامع التواريخ 2/332 وما بعدها) .

ممالك الخليفة وانتزاعها منه، وحسّن له ذلك، فأجابه إليه [1] . ودخل هولاكو إلى البلاد، وأوقع بالملاحدة [2] واتهم سبعمائة نفر من أكابر همذان وتلك البلاد المضافة إلى باتو ثم إلى بركة (المخطوط ص 50) بالميل إلى بركة والمباطنة على هولاكو ومنكوقان، وقتلهم عن آخرهم، وامتد في البلاد، وقصد دست [3] القبجاق، وعدى إليه، وأقام ثلاثة أيام، لا يجد مقاتلا، فلما كان في اليوم الرابع دهمتهم الخيل، وداسهم بركة بجنوده وعساكره، ودارت الدائرة على هولاكو حتى هم بالهزيمة، فترك أمير كبير [4] كان معه اسمه سنتاي، وهو المنسوب إليه عقبة سنتاي بالعراق، وأمسك برأس فرس هولاكو، وقال له: أين تروح؟ ثم استمر القتل في أصحابه فتأخر حتى صار نهر الكر، بينه وبين بركة [5] . وجاء بركة على نهر الكر، ولم يجد له سبيلا إلى العبور، ورجع هولاكو، وعاث في البلاد، وعام في تيار الفساد، وفعل فعلته، وقويت العداوة بينه وبين بركة قاآن [6] وخف حاذه من الجيش لمقاومة أعدائه. ثم لما جرى على بغداد ما أجرى العيون دما، وأسال النفوس أسفا، استأثر

_ [1] لم ترد هذه الرسالة عند رشيد الدين فضل الله في كتابه جامع التواريخ. [2] سنة إيقاع هولاكو بالملاحدة 654- 655 هـ (انظر فتوحات هولاكو خان 14- 17- روضة الصفا 259- 260- جامع التواريخ 1/243- 259- إسماعيليان در تاريخ- يعقوب آزند جاب دوم تهران 339) . [3] أي عاصمة القبجاق. [4] أمير كبير وظيفة تعادل وظيفة الوزير. [5] كانت الحرب بينهما سنة 1263 م. [6] قال بركاي (بركة) : إنه قد دمر جميع مدن المسلمين، وقضى على أسر ملوك الإسلام جميعهم، ولم يميز بين الصديق والعدو، وأعدم الخليفة دون مشورة كبار الأسرة، فلو أمدني الله تعالى لطالبته بدماء الأبرياء (انظر: جامع التواريخ 2/332) .

هولاكو بجلال الدين بن الدوادار [1] الخليفتي المستعصمي [2] ، واتخذه هولاكو موضع رأيه، ومكان سره، فلما كسر هولاكو، وتضعضعت رعان جيشه، كما ذكرنا، شكا إلى جلال الدين بن الدوادار ما أصابه من الكسرة وفناء جنوده، فقال له جلال الدين: عندي عسكر جيد خير من هؤلاء، قال: من هم؟ قال: عسكر الخليفة فإن ابن العلقمي [3] قطعهم وإلا فهم أحياء موجودين وأنا أجيبهم إليك، فأعجب هولاكو كلامه، ووقع منه موقعا حسنا، وكتب له يراليغ [4] مضمونها إننا قد جهزنا جلال الدين بن الدوادار في شغل مهم لنا، ورسمنا له بما يفعل، ومرسومنا أن يمتثل جميع الخواتين والأمراء والنواب والقراولات [5] وكافة الناس أمر جلال الدين المذكور، وأنه مهما شاء فعل، يقتل من يريد، ويخلى من يريد، وأن لا يعارض في أمر من الأمور، ولا يعترض عليه بسبب من الأسباب. ومن هذا ومثله فتوجه جلال الدين، وحط يده في كل من بقى بحده من أمراء المغل وأكابرهم، والمقربين عند هولاكو، وفعل فيهم ما أراد، وفتك فيهم أنواع الفتك، حتى وصل إلى بغداد واستعد فيها (المخطوط ص 51) لما يريد أن يعمله، وأخذ منها ما أراد ومن أراد، ودخل البرية هاربا من هولاكو على عزم الوصول إلى مملكة مصر، فأدركه أجله قبل الوصول إليها.

_ [1] جلال الدين بن الدوادار أحد أركان الحكم في عهد الخليفة المستعصم آخر الخلفاء العباسيين، وكان ينوي خلع الخليفة وإجلاس آخر (انظر: تاريخ الخلفاء للسيوطي 464) . [2] نسبة إلى الخليفة المستعصم آخر الخلفاء العباسيين والمقتول سنة 656 هـ. [3] ابن العلقمي: مؤيد بن محمد بن أحمد العلقمي، وزير المستعصم بالله، كان شيعيا، اختلفت الروايات حول موقفه من المغول، واتهم بأنه كان وراء هجوم المغول على بغداد، كان أديبا، جعله هولاكو وزيرا كما كان في عهد الخليفة (انظر: شذرات الذهب 5/272- الفخري 337- تاريخ ابن خلدون 5/1149- تاريخ الخلفاء 465- البداية والنهاية 13/196- مآثر الأناقة 2/92) . [4] يراليغ جمع مفرده، يرليغ، كلمة مغولية بمعنى حكم وأمر تعادل كلمة فرمان الفارسية (فرهنگ رازي 1038- صبح الأعشى للقلقشندي 4/423) - وهي ترد بارليغ مفرد (تركستان 588- 669) . [5] ورد بالمخطوط العراولات وأظنها القراولات ومفردها قراول وتعني الحارس من الكلمة التركية قراول (فرهنگ رازي 659) .

وبلغ هولاكو ما فعله جلال الدين في المغل من الفتك والقتل والتنكيل، ثم ما أخذه من بعده، وخرج به هاربا منه، فانفطرت كبده، ومات غبنا منه. قال شيخنا شمس الدين الأصفهاني: ومات هولاكو [1] ولم يملك ملكا مستقلا، وإنما كان نائبا عن أخيه منكوقان ثم كان هكذا أبغا [2] ومن بعده، إلى أن استقل أرغون بن أبغا [3] بالملك، وأضاف اسمه في السكة إلى اسم صاحب التخت أمير لا يزال مقيم في مملكة إيران مع هولاكو وبنيه له عندهم حرمة كبيرة ومكانة محفوظة حتى ملك محمود غازان بن أبغا [4] فكتب اسمه بمفرده على السكة، وأسقط اسم القان صاحب التخت وأهان أمر أميره حتى لم يبق له وضع ولا حرمة وامتهن ذلك الجانب، واستقل بالملك والسلطنة في أولاده. وقال: أنا ما أخذت البلاد إلا بالسيف، وقام الأمر على هذا مدة محمود غازان ومن بعده. قال الشيخ: ولهذا ينتقص ملوك بني جنكيز خان بيت هولاكو، يقولون أنهم ما نقلوا [5] الملك عن جنكيز خان ولا عن وارث [6] تخت جنكيز خان، وإنما أخذوه

_ [1] مات هولاكو سنة 663 هـ، أثناء توجهه لحرب بركاي (بركة) ودفن في جبل شاهو في- مواجهة دهخوارقان (تاريخ مغول از حملهء جنگيز خان تا تشكيل دولت تيموري- عباس إقبال تهران 1364 ش ص 197) . [2] أبغا بن هولاكو، هو آباقا حكم بعد والده ثمانية عشر عاما، ومات سنة 680 هـ (انظر ابن كثير 13/297- جامع التواريخ لرشيد الدين فضل الله مجلد 2 ح 1/3- 86) . [3] أرغون بن أبغا هو أرغون بن آباقا حكم بعد أبيه (683 هـ/ 284- 690 هـ/ 1291 م) انظر جامع التواريخ م 2 ح 1/123- 167) . [4] محمود غازان بن أبغا هو محمود قازان بن آباقا صاحب العراقين وخراسان وفارس وآذربيجان والروم، اسلم وحسن إسلامه سنة 694 هـ، وفشا الإسلام في التتار، طرق الشام وغلب عليه، مات قرب همدان سنة 703 هـ/ 1304 م (فوات الوفيات 4/97- جامع التواريخ 2/14) . [5] وردت ما نقولوا. [6] وردت بالمخطوط وراث.

باليد والعداوات ومطاولة الأيام. وسأذكر في ترجمة مملكة إيران شبهة أخرى في دعوى ملوك دشت القبجاق أن مراغة [1] وتوريز [2] لهم على ما كان يبلغنا من أخبارهم في كل وقت، ثم ما حدثني به الفاضل نظام الدين أبو الفضائل يحيى بن الحكم، وسألت ابن الحكيم والشريف محمد بن حيدرة الشيرازي، عمن يعلمانه بقى من أولاد هولاكو، فقال كل منهما أنه لم يبق أحد محقق النسب إلا ما قيل عن محمد المنسوب إلى عنبرجي [3] على كثرة اختلاف فيه، ثم جاءت الأخبار وصحت بعدم هذا محمد. وقال لي (المخطوط ص 52) نظام الدين بن الحكيم أهل هذا البيت، تفانوا بعضهم على بعض، لخوف القائم منهم على ملكه، حتى أن كثيرا من أبناء ملوكهم كانوا يتخفون من الملك القائم حتى أن بعضهم كان يخلد إلى الحرف والمهانات لتستسقط همته، فيترك، ويجعل هذا سبيله للخلاص وطلبا للسلامة، حتى أن بعضهم كان قد عمل نساجة، وبعضهم عمل في الأدم [4] وبعضهم باع الشعير علافا، ومن هذا قال ويقال في أنساب كل منتسب منهم لكثرة التخليط من الأمهات، ومخالط آبائهم للعوام حتى خفت أنسابهم، فجهلت أحوالهم «1» . وأخبرني الأمير الكبير المقدم نسيب السلطنة طايربغا أنه أول من استقبل من هذا البيت بسلطان جدهم جنكيز خان [5] ،

_ [1] مراغة: من قواعد آذربيجان تقع غربي تبريز، وبها بنى نصير الدين المرصد الفلكي (تقويم البلدان 398) . [2] توريز هي تبريز، كان بها مقر هولاكو، أشهر بلد في آذربيجان (تقويم البلدان 400- 401) . [3] لم يرد اسم محمد عند أحد من المنتسبين إلى هولاكو سواء عند رشيد الدين فضل الله أو عند ابن بطوطة في رحلته ص 154:. [4] صناعة الجلود. [5] حكم بعد محمود غازان بن أرغون، أولجايتو خدابنده رغون (703- 716 هـ) وأبو سعيد بهادر بن أولجايتو (716- 736 هـ) واياخان بن ارتو، وموسى خان بن علي ومحمد خان بن منگو تيمور-

والتلفظ الصحيح جنكص خان [1] بالصاد ثم اوكديه والتلفظ الصحيح به اوكداي [2] «1» ثم كيوك قان [3] ثم مونككا قان [4] (بن طولى بن جنكيز خان) «2» ثم ادي يكا ثم قتلى قان [5] ثم دمرقان [6] ثم برياي ثم تزي طيزى ثم قيسان قان ثم سندمرقان، فأما نسبه إلى جنكيز خان فهو سند مرقان بن طرمالايا بن جمكم بن قبلى قان بن طولا بن جنكيز خان وهذا نسبه [7] . وأما ملوك الترك وهي تركستان وما وراء النهر وأولهم جغطاي بن جنكيز خان [8] ، وقد نبهنا على أنه لم يستقل، ثم (ولده مكتوكان [9] ثم ابنه قرا هولاوو [10] ثم ولده مباركشاه [11] ثم أن القان بلغه أن قيدو بن تاشى بن كيوك

_ - (736- 739 هـ وساتي بيگ بنت أولجايتو (739 هـ 739 هـ) وشاهجهان تيمور بن آلافرنگ (739- 740 هـ) وسليمان خان (741- 745 هـ) وطغا تيمور خان (746- 753 هـ) وانوشيروان العادل (754- 756 هـ) (انظر: جامع التواريخ ج 2/14) . [1] حكم ما بين 1206- 1227 م. [2] حكم ما بين 1229- 1241 م. [3] حكم ما بين 1246- 1248 م. [4] حكم ما بين 1251- 1258 م. [5] قوبيلاي قاآن 1260- 1294 م. [6] تيمور قاآن 1294- 1307 م. [7] الاسم ورد عند بارتولد من حيث الحكام آخرهم طغان تيمور 1332- 1370 سبقه رينجن بال إخوة 1332 ومن قبله أبوه قوتوقتو 1329- 1332 م ومن قبله طوطوق تيمور عن أبيه يسون تيمور (1323- 1329) وقبلهما ككن (1320- 1323 م) وبويانتو (1311- 1320 م) وفايشين (1307- 1311 م) ثم تيمور بن جينغكين (1294- 1307) عن جده قوبيلاتي. [8] جغتاي بن جنكيز خان حكم (1727- 1242 م) . [9] مكتو خان بن جغتاي أو منككو قاآن (جامع التواريخ 2/16) هو يسومونكو حكم سنة 1246- 1251 م بعد ابن أخيه أورقن بن موتكن. [10] قرا هولاود بن مكنوقان هو قرا هولاكو القاآن الرابع حكم ما بين سنة 1251- 1260 م. [11] مباركشاه بن قراهولاود هو مباركشاه بن قراهولاكو بن بيسوتوي بن مواتوكان بن جغتاي (جامع-

بن أوكداي بن جنكيز خان [1] تسلطن لهذه المملكة، فخافه لكوت كيوك عمه، كان وارث التخت عن أبيه اوكداي، وأبوه اكداي كان وارثه عن أبيه جنكيز خان، فسير براق [2] بن بسنطو ابن منكو كان بن جغطاي لدفع قيدو، فدفعه، وتعد مكانه) «1» ، ثم استقل براق ثم دوا [3] ولد براق ثم أولاد دوا واحدا بعد واحد وهم كنجك [4] ثم اسنيغا [5] ثم كيك [6] ثم الجكداي [7] ثم دواتمس [8] ثم ترماشيرين [9] رحمه الله ثم رجل ليس هو بابن دوا اسمه توزون [10] بن أو باكان «2» ابن (جنكيز خان) «3» وتخلل من خلال هؤلاء من توثب على الملك، ولم ينتظم لهم حال (المخطوط ص 53) ولا علت لهم أعلام دولة.

_ - التواريخ 2/18) ومباركشاه حكم سنة 1266 بعد ألغو بن بايدر بن جغتاي. [1] قيدو بن تاش بن كيوك بن أوكداي ليس هذا صوابا وصوابه قايدو بن قاشين بن أوكداي (انظر شجرة النسب تركستان 715) . [2] هو براق بن اسن دوا بن موتكن بن جغتاي حكم ما بين 1266- 1271 م. [3] دوا بن براق حكم ما بين سنة 1282- 1307 م وهو الحاكم العاشر في السلسلة الجغتاتية. [4] هو قونجوق بن دوا حكم سنة 1308 م. [5] هو ابن بغا بن دوا حكم ما بين 1310- 1318 م. [6] كيك: كان كافرا تولى حكم ما وراء النهر (رحلة ابن بطوطة 246) حكم ما بين سنة 1318- 1326 م. [7] جكداي: هو الجكطي كان كافرا تولى الحكم بعد أخيه كبگ (رحلة ابن بطوطة وهو ايلجيداي بن دوا حكم سنة 1326 م. [8] هو دواتمر بن دوا حكم سنة 1326 م. [9] ترماشيرين: سلطان ما وراء النهر هو طرمشيرين، عظيم المقدار، كثير الجيوش والعساكر، ضخم المملكة، شديد القوة، عادل الحكم، بلاده متوسطة بين أربعة ملوك (رحلة ابن بطوطة 246 هو ابن دوا حكم 1326- 1334 م. [10] هو بوزن بن دوا تيمور حكم سنة 1334 م.

وممن أراد الملك، وعلت كلمته، ولم يملك بيساوون ابن اركتمر بن بغاتمر بن براق «1» ، وبقى الملك بعد موت ترماشيرين رحمه الله متخبطا، حتى قام هذا جنغصوا «2» ، فأما نسبه إلى جنكيز خان [1] فهو جنغصو بن دراتمر بن طر بن براق بن بسنطو بن مكتوكان بن جغطاي بن جنكيز خان، (اسمه جداي وهو مصحح لما يقول عارف به) [2] «3» . وأما ملوك دشت القبجاق، فأول من ملك منهم باتو بن جوجى «4» بن جنكيز خان ثم أخوه بركة «5» . ثم وجميع ملوك بني جنكيز خان يغلب عليهم الكرم، وتخويل من قصدهم، لا يرضى أحد منهم بالقليل، فأما القان الكبير منهم صاحب الخطا فتلك شيمته لا تسح إلا بالذهب ديمته، ليس هذا من واحد بعينه، بل كل من تسنم [3] منهم ذروة ذلك التخت، كانت هذه سجاياه. أما ما يحكى في القديم منهم عن منكوقان بن طولى «6» ابن جنكيز خان، فيخشى حاكيه أن ينسب إلى الخرافة حديثه والمجاذفة في قوله. حكى الشيخ الفاضل شمس الدين أبو العباس أحمد بن أبو المحاسن الغيبي

_ [1] ذكره بارتولد بوزن بن دواتيمور بن دوا بن براق بن آسن دوا بن موتكن بن جغتاي (شجرة النسب 721) . [2] بركه بن جوجي هو بركاي جوجي بن جنكيز خان حكم ما بين 1257- 1266 م، (جامع التواريخ 2/332) . [3] تسنم: ارتقى.

قال: حدثني عز الدين أبو البقاء الأردويلي، قال: سمعت بكرم القان منكوتمر، فقصدت حضرته متفرجا بتلك البلاد، ومتوصلا إليه، ولازمت بابه مدة، ومالي من يوصلني إليه، ولا إلى أحد من أرباب دولته، فبينما أنا ذات يوم هناك من جملة الناس طلبت على التخصيص، فحملت إلى رجل سريّ بباب منكوتمرقان [1] ، فأمر الترجمان ذلك الرجل فسألني عن اسمي وبلدي وحالي ومقدمي، فشرحت له أمري، فقال: أشرف القان فرآك فاستغربك، فأمر بالسؤال عنك، ونحن نعلمه، ثم ذهب الرجل (هنيهة) «1» ، ثم طلبني فأحضرت إلى بين يدي منكوتمرقان وهو في خف من الناس، وبقى يحدث ذلك الرجل، وهو يحدث الترجمان، ويسألني عن أشياء من أمور بلادي، وطريقي وما رأيت، ثم قال: القان يقول لك: ما جاء بك من بلادك البعيدة إلى هنا؟ وأي شيء معك من طرف البلاد تقدمه له؟ فقلت (المخطوط ص 54) له: ما جاء بي إلا ما سمعت من كرم القان، وليس معي شيء، ولو كان معي شيء ما فارقت أهلي ووطني وجئت، فلما أعادوا عليه كلامي، ضحك خفيا ثم أشار إليهم، أي أنه صدق، وأمر ليّ بشيء ما فهمته، فلما خرجت قال لي ذلك الرجل المخاطب لي: قد أمر لك القان بما يصل إليك، ثم قال لي: على أي جهة تعود إلى بلادك؟ قلت: له: في البحر إلى الحجاز لأحج ثم أعود إلى بلادي، فحمل لي إلى المركب هناك أمتعة، بعتها بعدن، ومكة بألف ألف درهم. وحكى لي الفاضل نظام الدين أبو الفضائل يحيى بن الحكيم قال: قصد رجل منكو تمرقان بزجاج من عمل حلب، ووصل إليه، وقدمه له، فشرب في بعض أوانيه، فأعجبه ما شف من جوهر الزجاج عن حمرة الشراب، فقال: هذا من أين؟ فقيل له: من حلب، فقال: يعطي له حلب، فقال بعض وزرائه، وإن حلب ليست

_ [1] منكو تمرقان هو موتكو تيمور بن كوقوخان بن باتوين جوجي حكم ما بين سنة 1267- 1280 م (انظر: شجرة النسب، تركستان 719) .

لنا قال: فيوقف هذا الرجل ويصب عليه الذهب حتى يغطيه، فقالوا له: نوقفه في خرگاه ويصب عليه الذهب، فقال: أنتم غرضكم بهذا أن يموت ولا يكون من فضاء، فعملوا ما قاله، فجاء جملا كثيرة عظيمة، فجمعوها، وقالوا له: قد عملنا ما رسم القان، ولكننا نريد أن يقع نظر القان عليه قبل أن يأخذه فقال: هاتوه، فلما رآه قال: أنتم ما قصدكم إلا أني أبصر هذا فاستكثره، أعطوه هذا وقدره معه مرة أخرى فأعطوه. وحكى أيضا أن فراشا كان يخدم تولي بن جنكيز خان أبا منكوتمر، ثم خدم منكوتمرقان بعده، ثم عدم، وتطلبه منكوتمر فلم يجده، فبينما هو يوما في الصيد رأى الفراش في بعض الجبال، وقد ساءت حاله، وطال شعره وظفره، فقال له: أين كنت؟ فقال: في هذه البرية، فقال: ما حملك على هذا؟ قال: القسمة قال: لا قل لي الصحيح، فقال: هو ما أقول للسكان، فقال له منكوتمر: لا حملك على هذا إلا العشق، فأطرق، فقال له منكوتمر؛ فلمن أنت عاشق، فسكت، فعلم منكوتمر أنه عاشق في أحد من جهته، فقال له: كأنك عاشق فلانة (المخطوط ص 55) لا، إلا فلانة لا إلا فلانة، يعد عليه واحدة بعد واحدة من خواتينه وأتباعهن، وهو يقول: لا إلى أن ذكر واحدة من أجلّ حظاياه، فسكت الفراش، فقال منكوتمر: أنت عاشق في هذه بلا شك، ثم أنه طلبها، وقال لها: فلان له علي أبي حق وعليّ، وهو عاشق فيك، وماله في هذا ذنب، ولا لك هذا شيء يتعلق بقلبه، ما له فيه حيلة، وأريد أزوجك به، فبكت وقالت: ياقان بعدك أتزوج بهذا، فقال: سوف تبصرين ما أعمل، ثم أنه عمل طودا، وسأل الأمراء أن ينصب للفراش كرسيا فوقهم، وأجلسه فوق الجميع، فقالوا له: الأمر أمر القان، فنصب له كرسيا فوقهم، وأجلسه عليه، وزوجّه بتلك الحظية [1] ، وعمل له يرتا [2] عظيما لا يصلح إلا

_ [1] الجارية. [2] برت: كلمة مغولية أصلها يورت أو أورت أو بورط وتعني خيمة أو مقر إقامة (فرهنگ عميد 2/2001) .

للتوامين [1] الكبار، وأجراه مجرى واحد منهم. قلت: ومن تأمل هذه الحكاية عرف سعة إحسان هذا الرجل وكرمه، فإنه أخذ غلاما لا يؤبه إليه، جعله ملكا، وسمح له بما لا يسمح بمثله من المال والجاه والمحبوب.

_ [1] توامين جمع مفرده تومان والتومان يعني أمير عشرة الآلاف، لأن التومان وحدها بمعنى عشرة (فرهنگ رازي 179) .

الفصل الثاني في مملكة القان الكبير

الفصل الثاني في مملكة القان الكبير

صاحب التخت، وهو صاحب الصين والخطا، قد ذكرنا في صدر الفصل الأول «1» أن القان الكبير هو القائم مقام جنكيز خان والجالس على تخته «2» ، وهو أجل ملوك توران، التي من مملكة الترك [1] من قديم الدهور والآباد، وبها أو بما جاورها أو قاربها كان أفراسياب [2] ، غير أنه خرج عن هذا القان ما هو الآن لأبنيّ عمه؛ الذين تقدم ذكرهما «3» ، وإلى هذا القان إشارة الثلاثة أبناء عمه وهو كالخليفة عليهم، فإذا تجدد من مملكة أحد منهم مهم كبير [3] مثل لقاء عسكر أو قتل أمير كبير بذنب أوصله إليه اليسق [4] أي الحكم أو ما يناسب هذا، أرسل إليه وأعلمه، ولا افتقار إلى استئذانه ولكنها «4» عادة مرعية. (المخطوط ص 56) قال الفاضل نظام الدين ابن الحكيم الكاتب البوسعيدي [5] «5» : أن هذا القان ما يزال يكتب إلى كل من القانات [6] الثلاثة،

_ [1] المغول فرع من الأتراك. [2] بطل أسطوري توراني قديم، حارب رستم حروبا طويلة، وأخيرا قتله رستم، وهو جزء من الصراع الإيراني التوراني (انظر: شاهنامة الفردوسي 35) . [3] أمر هام مشكلة كبرى ويسمى هذا الاجتماع باسم الطوى أي الضيافة (رحلة ابن بطوطة 248) أما القوريلتاي فهو اجتماع لتنصيب القاآن (تركستان 649) . [4] اليسق هي الياسا والياصا وهي الحكم والقاعدة (فرهنگ عميد 2/1991) واليساق (تركستان 114- 131) . [5] نسبة إلى أبي سعيد بهادر بن أولجايتو خدابنده بن أرغون بن القاآن هولاكو. [6] القانات جمع مفرده قان، وهي في الأصل قاآن تعادل كلمة شاهنشاه وخاقان وقيصر- والقان سمة لكل من يلي الملك عند المغول (رحلة ابن بطوطة 423) .

يأمرهم بالاتحاد والألفة، وأنه إذا كتب إليهم بدأ باسمه قبلهم، وكلهم مذعنون له بالتقدم عليهم. وحدثني بكثير مما عليه صاحب هذه المملكة، وأنهم على ما هم عليه من الجاهلية؛ على السيرة الفاضلة الشاملة لأهل مملكته، ومن يرد إليها من الجافهم «1» ، بجناح العدل والإحسان، ومعاملتهم بقشور من لحاء شجر التوت [1] ، مطبوعا باسمه، فإذا عتق ذلك المتعاطى به «2» ، حمله إلى ثواب هذا القان، وأخذ عوضه مع خسارة لطيفة [2] ، كما يؤخذ من دار الضرب على ما يؤخذ إليها «3» من الذهب والفضة، ليضرب بها. وأهل مملكته هم أهل الأعمال اللطيفة والصنائع البديعة التي سلمت إليهم فيها الأمم، وقد ملئت الكتب عن أحوالهم بما أغنانا عن ذكره. ومن عادة المجيدين في الصنائع أنهم إذا عملوا عملا بديعا، حملوه إلى باب الملك، وعلق به ليراه الناس، وتبقى سنة كاملة، فإن سلم من عائب، أسدى إلى صانعه صنائع الإحسان، وإن عيب عليه، وتوجه العيب، وضع قدر الصانع، وإن لم يتوجه العيب، قوبل من عاب عيبا غير متوجه قصد الأذية. ومما حكى في هذا أن صانعا منهم صور في نقوش الثياب الكمخاء عصفورا على سنبلة حتى مثله كأنه حقيقة، فلما علقه حيث يعلق مثله، استحسنه كل من

_ [1] هي نوع من العملة المستعملة، فهناك عملة من الذهب والفضة ولحاء الشجر وتسمى جميعها بايزه (حاشية جامع التواريخ 1/247) . [2] وتسمى كانمد وهي مختومة بخاتم السلطان (رحلة ابن بطوطة 415) .

رآه، حتى مر به رجل، فعابه، فسئل لأي شيء عبته؟ فقال: لأن العصفور إذا قعد على سنبلة أمالها، وهذه مستقيمة ما هي مائلة، فاستحسن قوله، ووضع قدر الصانع. هذا مما يحكى عنهم، وأما ما يحكى لي عن المشاهدة والعيان، فحكى لي الصدر [1] بدر الدين حسن الأسعردي التاجر، أن بعض صناعهم عمل سرجا من أختاء البقر ودهنه، وأبدع صناعته، ثم قدمه إلى القان، فأعجبه، ووقع منه موقع الاستحسان، ولم يشك أنه معمول من خشب (المخطوط ص 57) مثل بقية السروج، فقال له صانعه: أما علمتم هذا مما خشبه؟، فقالوا: لا، فأوقفهم على أنه من أختاء البقر، فاستحسنوا جودة صناعته، ولطف تدقيقه. وحكى لي أن بعض صنّاعهم عمل ثيابا من الورق، وباعها من التجار على أنها من الكمخاوات الخطائية [2] ، لا يشك فيها أحد، ثم أنه لما جاز هذا عليهم، أطلعهم على حقيقة حالها، فعجبوا لهذا. قال بدر الدين حسن: ولقد رأيت منهم من هذه الأعمال ما تحار فيه العقول، وتذهل الأفكار، وأما ما حدثني به السيد الشريف تاج الدين حسن بن الجلال السمرقندي، وهو ممن جال في الأرض، وجال في الآفاق وهو من الثقات، وقد دخل الصين، وجاز بلاده، وجاب آفاقه، وجاس خلاله، وجال في أقطاره، قال: إن قاعدة الملك به مدينة خان بالق [3] ، وهي مدينتان قديمة وجديدة، والجديدة بناها ديدو أحد ملوكها، سميت باسمه ديدوا، وفي وسط مدينة ديدوا المذكورة منزل القان

_ [1] الصدر، هي وظيفة مرموقة تقارب وزير، وصدر أعظم الآن بمعنى رئيس الوزراء في الأردية، وصدر تعني هنا الزعامة الدينية ومنها صدر جهان وصدر الصدور وهي ألقاب تمنح لرجال الدين آنذاك. [2] الخطائية نسبة إلى الخطا، وهم قوم من الترك سبق التعريف بهم- وتأتي الخطا والختا والقراخانية. [3] مدينة خان بالق أو خان بالغ أو باليق اسم قديم لمدينة بكين الحالية عاصمة الصين (انظر: فرهنگ عميد 1/828) وخان بالق من أعظم مدن الدنيا- مدينة السلطان في وسطها (رحلة ابن بطوطة 423) .

الكبير، وهو قصر عظيم يسمى كوك طاق ومعناه في اللغة المغولية «القصر الأخضر» لأن القصر عندهم «طاق» والأخضر «كوك» وهي خلاف اللغة التركية، فإن كوك فيها هو الأزرق. ونزول الأمراء حوله خارج قصره، قال: وأما ترتيب هذه المملكة فإن لهذا القان أميرين كبيرين هم [1] الوزراء ويسمى كل من يكون في هذه الرتبة جنكصان [2] ، ودونهما أميران آخران يسمى كل من يكون في هذه الرتبة بنجار «1» ودونهما أميران آخران يسمى كل من يكون في هذه الرتبة سمجين، ودونهما أميران آخران يسمى كل من يكون في هذه الرتبة يوجين، ورأس الكتاب ويسمى كل من يكون في هذه الرتبة كنجون «2» وهو بمنزلة كاتب السر. ويجلس القان كل يوم في صدر دار فسيحة تسمى شن «3» هي عندهم من دار العدل عندنا، ويقف حوله الأمراء المذكورون عن اليمين وعن الشمال على مقادير الرتب، ورأس الكتاب (المخطوط ص 58) المسمى لنجون في آخرهم، فإذا شكى أحد شكوى أو سأل حاجة المذكور، فيقف عليها (هو ومن معه في الرتبة) «4» ، ثم يوصلانها إلى من يليهما في الرتبة «5» ، وكذا إلى أن تصل إلى القان، ويأمر فيها بما يراه مع العدل التام، والإنصاف المفرط. قال: وهذا القان الكبير، ذو ملك كبير، وعسكر مديد، قال: والذي أعلم من أمره أن له بزدارا «6» تركب الخيل، وعساكره من المغل عشرون

_ [1] هما. [2] جنكسان: أمير يعادل درجة وزير وهي جنكساتك.

توماتا [1] وهي مائتا «1» ألف فارس، وأما من الخطا فما لا يحصى. قال: وبلاد الصين تشتمل على ألف مدينة، ورث كثيرا منها، والطريق إلى سمرقند إلى خان بالق على ما يذكر من سمرقند إلى نيلي عشرون يوما، ونيلي هي أربعة مدن، بين كل مدينة والأخرى فرسخ واحد، ولكل واحدة منها اسم يخصها، فالواحدة نيلي والأخرى نيلي بالق، والأخرى لنجك والأخرى تلان، ومن مدينة نيلي المذكورة إلى المالق عشرون يوما، ومن المالق إلى قراجواجا إلى قمحو هي أول بلاد الخطا، أربعون يوما، ومن قمحوا إلى خان بالق أربعون يوما، ثم من خان بالق إلى الخنسا [2] طريقان؛ طريق في البر، وطريق في البحر، وفي كل منهما من خان بالق إلى الخنساء أربعون يوما، وطول الخنساء [3] يوم كامل، وعرضها نصف يوم، وفي وسطها سوق واحد ممتد من أولها إلى آخرها، وكل شوارعها وأسواقها مبلطة بالبلاط، وبناؤها خمس طبقات، بعضها فوق بعض، وكلها مبنية بالأخشاب والمسامير، وشرب أهلها من الآبار، وأهلها في قشف عيش، وغالب أكلهم لحوم الجواميس والأوز «2» والدجاج، والأرز والموز وقصب السكر والليمون، وقليل رمان وهي شبيهة بمزاج مصر في حرها وهوائها، وأسعارها متوسطة، ويجلب إليها الغنم

_ [1] تومان: كتيبة من عشرة آلاف جندي وهي تعادل لقب ونشى واللقب الصيني يوان- شواي أي القائد الأكبر ولقب بخشى بزرگ كما استعمله رشيد الدين فضل الله تايشى (انظر: تركستان لبارتولد 560) . [2] الخنساء: هي كانتون الآن وهي ميناء صيني، اسماه ابن بطوطة الخنساء أو الخنسا (رحلة ابن بطوطة 420) والبحارة العرب اطلقوا عليها اسم الخنساء وحرف إلى خانسو ثم كانتون (انظر العالم الإسلامي- محمود شاكر القاهرة 1981 ص 203) . [3] انظر: وصف الخنساء وهي عاصمة الصين الجنوبية آنذاك بتاريخ وصاف المعروف بتجزية الأمصار وتزجية الأعصار لعبد الله بن فضل الله الشيرازي، وكذلك عند ابن بطوطة ص 420.

والقمح، ولكنه «1» قليل، ولا يوجد بها من الخيل إلا ما قل عند الأعيان الأكابر، وأما الجمال فلا يوجد بها شيء منها البتة، فإن دخل إليها جمل عجبوا منه. قال الشريف هلال الدين حسن السمرقندي: وأما مدينة خان بالق، فمدينة طيبة وافرة الأقوات، رخية الأسعار، ويجمد بها الماء في زمن (المخطوط ص 59) الشتاء، ويسيل إلى الصيف، فيبرد به الماء، ويشق أحد المدينتين منها، وهي مدينة ديدوانهر. وبها أنواع الفواكه إلا العنب، فإنه قليل، وليس بها نارنج ولا ليمون ولا زيتون، ويعمل بها السكر والنبات [1] مما يحمل إلينا من مدينة الزيتون، وأما ما بها من الزروع والدواب الجمال والخيل والأبقار والأغنام، فما لا يدخل في الإحصاء. قال: وبين خان بالق ومدينة الزيتون شهر واحد تقديرا، ومدينة الزيتون بندر على البحر المحيط [2] ، وهي آخر العمارة. قال: وأما مدينة قراقرم [3] فإنها مدينة جليلة، فيها غالب عساكر القان العظيم «2» ، ويعمل بها القماش المليح الفاخر والصنائع الفائقة، وغالب ما يحتاج القان إليه يستدعى منها، لأنها دار استعمال، وأهلها أهل صناعات فائقة وأعمال. قال الشريف حسن السمرقندي: وبلاد الصين كلها عمارة متصلة من بلد إلى بلد ومن قرية إلى قرية، ومعاملتهم بورق التوت، ومنها كبار ومنها صغار، فمنها ما

_ [1] يقصد به السكر النبات. [2] مدينة الزيتون على المحيط الهادىء وهي مدينة ليس بها زيتون وهي مدينة كبيرة تصنع بها ثياب الكمخا والأطلس وتعرف بالنسبة إليها، وبها مرسى كبير (رحلة ابن بطوطة 417) . [3] قرام قورم- جهانگشاي علاء الدين عطا الملك جويني ج 2/101.

يقوم في المعاملة مقام الدرهم الواحد، ومنها ما يقوم مقام درهمين، ومنها ما يقوم مقام خمسة دراهم وأكثر إلى ثلاثين وأربعين وخمسين ومائة، وهو يؤخذ من لحاء شجر التوت اللين، ويختم باسم القان، وتجري به المعاملات، (فإذا عتق) «1» ، واضمحل، حمل إلى الخزانة، وأعطى عوضه مع غرم قليل [1] . قال لي الشريف السمرقندي: ومن عجائب ما رأيت في مملكة هذا القان الكبير، أنه رجل كافر، وفي رعاياه من المسلمين أمم كثيرة، وهم عنده مكرمون محترمون، ومتى قتل أحد من الكفار مسلما، قتل الكافر القاتل، هو وأهل بيته، وتنهب أموالهم، وإن قتل مسلم كافرا، لا يقتل وإنما يطلب بالدية، ودية الكافر عندهم حمار، لا يطلب غير ذلك. وسألته عن أهل الصين، وما يحكى عنهم من رزانة العقل، وإتقان الأعمال، فقال: هم أكثر مما يقال، وكنا جماعة بحضرة سيدنا وشيخنا مزيد الدهر وارث العلم والحكمة شمس الدين (المخطوط ص 60) أبي الثناء محمود الأصفهاني فقال الشريف السمرقندي: أنا أحكي لكم ما جرى لي: كنت أشكو ضرسا في فمي، فرآني بعض من كنت ألغت به في بلاد الصين، وأنا أتألم لشدة الضربان، فسألني عما بي، فشكوت إليه وجع ضرس، فاستدعى [2] شخصا حطابا قصير القامة، فقال له: أبصر حال هذا المسكين، فنظر في فمي وبقى يقلب أضراس بيده هنيهة، ثم أخرج ضرس الواحد ونصف الآخر، ولم أشعر لهما بألم، ثم أخرج من خريطة له، كانت معه أضراسا كانت كوامل وأنصافا وأثلاثا وأرباعا معدة عنده لوضعها في مواضع ما يقلع، ثم لم يزل يقيس مواضع ما قلع لي حتى وضع موضعها من تلك

_ [1] انظر: المخطوط ص 156 به نفس المعلومة وانظر رحلة ابن بطوطة ص 415. [2] وردت بالمخطوط فأسند لها.

الأضراس، ثم ذر عليها ذرورا، ودهنها بدهن، التأمت به لوقتها، وأمرني أن لا أشرب عليها الماء يومي كله، ففعلت كأني ما قلعت شيئا، وأراني «1» أضراسه، فوجدناها كأحسن ما يكون فلا أن المستجدين «2» ظاهر عليها أنه ليسوا «3» من نوع البقية والضرس المشعوب، يظهر أن نصف الشعب من غير النصف الأول. وحدثني الفاضل نظام الدين علي بن الحكيم أن لأهل هذه البلاد عقولا راجحة وأعمالا دقيقة وهم يقولون الفرنج «4» عور وباقي الناس عمى يعني أن صنائعهم صناعة يصير لعين وباقي الناس صناعتهم صناعة من هو أعمى ما يبصر ما يعمل وحكى لي من أحوال هؤلاء القوم ما ينبئ عن عقول جمة وترتيب حسن وفقهته [1] في الأمور «5» . فمما يحكى عنهم أن في مدن الخطا مطابخ يطبخ فيها الأطعمة الفائقة والمشروب اللذيذ مما لا يوصف حسنه أن يقدم منه إلى الملوك معدة لمن يشتري منه من الأكابر حتى أن أحدهم إذا اهتم لضيافة كبير بعث إلى صاحب المطبخ من تلك المطابخ وقال له عندي ضيف وأريد له ضيافة بكذا في وقت كذا فإذا كان ذلك الوقت حمل إليه ما يناسب ارادته وشرطه من بدائع المأكول والمشروب كل شيء في وقته إن كان المضيف ماله مكان يصلح للضيافة أعد له صاحب المطبخ مكانا بكل ما يحتاج إليه من البسط والفرش والآلات والغلمان على قدر ما حده له المضيف من القيمة حسب صاحب المطبخ حساب مكسبه من كان ذلك عن أجرته والمطبخ

_ [1] فهقنه: أي دراية وعلم من فقه ويفقه.

والدار والفرش وكلفة الطعام والشراب واتمام كل شيء بحسابه بقانون متفق لا يزيد ولا ينقص من غير أن يحصل على المضيف تفريط ولا خيانة في شيء مما قل أو جل قلت وحدثني الشريف الفاضل أبو الحسن الكربلائي التاجر رحمه الله وكان قد اجتمع بقان هذه البلاد وكثير من ملوك الأرض مما شاهده من عظمة سلطان هذه السلطان وطاعة رعاياه له وأمنهم في دولته وقال لي أن لهذا القان أربعة وزراء يصدرون الأمر في مملكته كلها ولا يراجع القان إلا في القليل النادر ووصف لي أنه إذا أراد الركوب أنه لا يركب إلا في محقة لا يظهر للناس إلا في يوم واحد وهو مثل يوم مولده من كل سنة فإنه يركب فرسا ويخرج إلى الصحراء ويعمل بها الأطعمة والسماطات ما يغمر الناس ويكون مثل يوم العيد عندهم وحدثني الصدر بدر الدين عبد الوهاب بن الحداد البغدادي التاجر أنه وصل إلى الخنساء ووصف عظمة بنائها وسعة رقعة مدينتها مع تشكط الأقوات بها ووفور المكاسب فيها ورخص الرقيق الجيد فيها، ومن كل تلك البلاد قال وأهلها يتفاخرون بكثرة الجواري والسراري حتى أنه ليوجد لأحد التجار وآحاد الناس أربعون سرية فما زاد على ذلك قلت وكل ما ذكرناه في هذا هو على سبيل الاستطراد لبسط المقصود أن هذا القان هو أكبر الملوك الجنكيز خانيه الأربعة.

الفصل الثالث في التورانيين وهم فرقتان

الفصل الثالث في التورانيين وهم فرقتان

(المخطوط ص 62) الفرقة الأولى: فيما وراء النهر، الفرقة الثانية: في خوارزم والقبجاق «1» . الفرقة الأولى فيما وراء النهر وما قبلها وما بعدها «2» من ممالك تركستان، هي من أجل الممالك، وأشهرها، والنهر المشتهر لهم هو جيحون [1] ، وهو النهر الذي ينبع من ونج [2] حتى يصب في بحيرة خوارزم [3] وهي ممالك طائرة السمعة، طائلة البقعة، أسرة ملوك وأفق علماء ودارة أكابر، ومقعد ألوية وبنود [4] ومجرى سوابق وجنود، كانت بها سلطنة الخانية [5] وآل سامان [6] وبني سبكتكين [7]

_ [1] نهر جيحون ببلاد ما وراء النهر ويعرف في الفارسية بآمودريا والاسم الآري القديم له فخشوا أو وكشو وأحد روافده الآن وخش وعرف عند العرب تجربات (تركستان 146) . [2] ونج وهي ونه وهي ببلاد ما وراء النهر (انظر: ياقوت الحموي 4/931) . [3] بحيرة خوارزم هي بحيرة آرال في الوقت الحاضر ويصب بها نهري سيحون وجيحون. [4] بنود جمع مفرده بند، والعبد هو العلم الكبير (المعجم الوسيط إبراهيم مصطفى وآخرون القاهرة 1972 ج 1/73- انظر: كتابي الدخيل في لهجة أهل الخليج 23) . [5] يقصد خانية خوارزم، والخانية هو إقليم أو منطقة وخوارزم أكبر مدن الأتراك وأعظمها وأجملها وأضخمها، لها الأسواق المليحة والشوارع الفسيحة والعمارة الكبيرة والمحاسن الأثيرة (رحلة ابن بطوطة 239) . [6] آل سامان: هم أولاد سامان المنسوب إلى بهرام جوبين، وكان أسد بن سامان في خدمة غسان بن عباد وإلى خراسان فأكرمه وأنعم على أولاده وجعلهم ولاة على سمرقند وفرغانة واشروسنه وهرات، وقد استقلوا فيما بعد وأسسوا دولة آل سامان التي تكونت على يد إسماعيل الساماني سنة 279 هـ واستمرت حتى قضى عليها محمود الغزنوي أواخر القرن الرابع الهجري (انظر: روضة الصفا لميرخواند ترجمة د. أحمد الشاذلي القاهرة 1988 ص 79 وما بعدها- زين الأخبار گرديزى ترجمة د. عفاف زيدان ص 19) . [7] بنو سبكتكين: هم أولاد ناصر الدين سبكتكين، كان علاما تركيا وليتّكين صاحب خراسان في عهد منصور بن نوح الساماني، ولما مات اليتكين وابنه إسحاق استقل سبكتكين بحكم غزنة سنة 366 هـ وأسس الدولة الغزنوية (انظر: روضة الصفا النسخة الفارسية 4/28- النسخة العربية 129- ابن الأثير 7/86- ابن كثير 11/286) .

والغورية [1] ومن أفقها بزغت شمس آل سلجوق [2] وامتدت في الإشراق والشروق، وغير هذه الدول مما طم سيول هذه الممالك على قربها. فأما قبل انتقالها إلى الإسلام فكانت في ملوك الترك لا تروم، ولا ترام، ولا تشق لها سهام، خيم بها الإسلام، وجازت ملكها هذه الأمة، برقت بالإيمان أسرتها، وتطرزت بالجوامع والمساجد قراها، ثم بنيت بها المدارس والخوانق والربط والزوايا، وأجرى الوقف عليها، وكثر من العلماء أهلها، وسارت لهم التصانيف المشهورة في أهل البحث والنظر، ولبخاري [3] من هذه المزايا الفاضلة أوفر الأقسام، ولم يعد علم الفقه والبحث والنظر، ولبخاري [3] من هذه المزايا الفاضلة أوفر الأقسام، ولم يعدّ علم الفقه هذه الأفاق مشرقا، ولم يعد علم هذه الأرض محققا، وما يقال في مملكة من بلادها بخاري وسمرقند [4] ، وترمذ [5] ، وخجند [6] ،

_ [1] الغوريون: هم أهل بلاد الغور، حارب قائدهم محمد بن سوري محمود الغزنوي وذكر صاحب طبقات ناصري أنهم أسلموا في عهد خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ونقصه ذلك القول العتبي في تاريخ يميني، وقد أسس الغوريون دولة واتخذوا من غزنة عاصمة لها (انظر: روضة الصفا- الترجمة العربية للمحقق 141- طبقات أكبرى ترجمة المحقق 1/23 تاريخ گزيده 5/ر 4 [2] آل سلجوق: ظهر السلاجقة في بلاد ما وراء النهر واستولوا على خراسان بقيادة طغرل بيگ السلجوقي وحاربوا مسعود الغزنوي حتى طرده خارج خراسان وغزنة وأسسوا دولة السلاجقة. [3] بخارى: قاعدة ما وراء نهر جيحون، ينسب إليها إمام المحدثين أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، خربها اللعين تنكيز خان (رحلة ابن بطوطة 244- مراصد الاطلاع 1/169) ما زالت بخارى قائمة الآن في جمهورية أزبكستان. [4] سمرقند: من أكبر المدن وأحسنها وأتمها جمالا، مبنية على شاطىء واد يعرف بوادي القصارين عليها النواعير (رحلة ابن بطوطة 251) مدينة ما زالت قائمة في جمهورية أزبكستان، بلد معروف مشهور بما وراء النهر (مراصد الاطلاع 1/736) . [5] ترمذ: مدينة كبيرة حسنة العمارة والأسواق، تخترقها الأنهار بها البساتين الكثيرة (رحلة ابن بطوطة 252) . [6] خجند هي خجنده من أعمال فرغانة ثم صارت في القرن العاشر الهجري وحدة إدارية قائمة بذاتها، ومدينة خجند من كبريات مدن ما وراء النهر بها قلعة وشهرستان وريصة (الاصطخري 333- ابن حوقل 394- 395- الطبري 2/1439) .

والمالق [1] وغزنة [2] وأخوات هذه الأمهات، وأخبارها مشهورة، وآثارها مشهودة، ومن نظر من كتب التواريخ رأى مثل عين المتوشم من أحوال هذه البلاد، ومن فيها، وهي وافقة في «1» (الرابع ونادر منه في الثالث أو تمايل إلى الخامس، ولا يكاد يبلغه) «2» من أوسط المعمورة، وأوسع الأرض إذا قيل أنها أخصب بلاد الله، وأكثر ماء ومرعى، لم نعد القائل الحق في أوصافها ذات الأنهار السارحة والمروج الممتدة، كأنما نشرت الحلل على آفاقها، أو كسرت الحلى على حصبائها، وهذه المملكة طولها من ماء السند إلى ماء ايلا (المخطوط ص 63) المسمى قراخوجا وهو يلى بر الخطا، وعرضها من ونج، وهو منبع ماء جيحون إلى حدود كركانج [3] ما عدا خوارزم، وحدها من الجنوب جبال البتم [4] ، وماء السند الفاصل بينها وبين السند، ومن الشرق أوائل بلاد الخطا على خيلام وكلسكان وما هو على سمت ذلك من الشمال مراعي بارات «3» وخجند وبعض خراسان إلى بحيرة خوارزم، ومن الغرب بعض خراسان إلى خوارزم إلى مجرى النهر آخذا إلى الختل [5] .

_ [1] المالق: الماليق أو الماليغ: مدينة كانت تقع بالقرب من مدينة كولجه الحالية على شاطىء نهر أيلي الذي يصب في بحيرة بلكاشن (انظر: حاشية بلوشيه على جامع التواريخ 410- 411) . [2] غزنة: هي غزني وغزنين، بلد محمود الغزنوي، شديدة البرد (رحلة ابن بطوطة 261) وهي قاعدة ملك محمود الغزنوي، وتقع الآن في أفغانستان. [3] كركانج: هي جرجانية حاضرة أمراء المأمونية في خوارزم، وهي گرگانج (تركستان 248- 250- فرهنگ أدبيات فارسي 26) وأطلق العرب عليها جرجانية وأطلق عليها المغول أرگينج (المقدسي 288- 289) . [4] البتم مرتفعات وجبال ينبع منها نهر زرفشان وهي أيضا تأتي بتمان (تركستان 168) . [5] الختل: مقاطعة واقعة بين نهري ينج ووخش وهي تسمى ختل وختلان، وأهم نواحيها وادي نهر كجي سرخاب (تركستان 151) .

ومن بلاد هذه المملكة فرغانة [1] والشاش [2] واستيجاب [3] وأسروشنه (آه) [4] «1» وبلاد الختل، وفيها طرف من السند من غزنة إلى جنوبها وأقاليم هذه المملكة واقعة فيها على ما يذكر، وبلاد الختل آخذة على جانب جبال اليتم مغربا بشمال، ويليها الصعورانات في الشمال، ثم تزيد إلى ما يتاخم خوارزم وبلاد فرغانة، آخذة على جانب جبال اليتم شرقا بشمال ويليها بلاد السابون في الشمال ثم الشاش وأعمالها إلى حائط عبد الله بن حميد المعروف بحائط القلاص في خارجه بلاد استيجاب في الشمال بشرق «2» . وبلاد الغزنة ممتدة في نهاية الشمال من أطراف بحيرة خوارزم في الغرب إلى بلاد استيجاب في الشرق ومراعي باران، وخجند داخل بلاد الغزنة، بينها وبين حائط القلاص، وبلاد أشروسنة في الوسط على نهاية الأنهار النازلة من جبال اليتم من جهة المشرق. وأما أكابر مدنها المشهورة وهي القواعد العظام والأمهات الكبار، فإقليم غزنة وإقليم ما وراء النهر وهو بخاري وسمرقند وخجنده وترمذ، وإقليم الشاش وهو الشاش. ومغالاق، وإقليم فرغانة، وهو بدغينان [5] ورباط سرهنك وايدكان وأوش

_ [1] فرغانة: مدينة عامرة في بلاد ما وراء النهر، ما زالت حتى الآن تابعة لجمهورية أزبكستان- (انظر: وصف فرغانة عند بارتولد 272 وما بعدها) . [2] الشاش هي جاج من أعمال أشروسنة، وهي ناحية من نواحي ما وراء نهر سيحون متاخمة لبلاد الترك وهي أكبر ثغر كان في وجه الترك وجاج هي طشقند الحالية (انظر آثار البلاد 548- تاريخ بخارى لغامبري ترجمة د. أحمد الساداتي 94) انظر الخريطة المرفقة. [3] استيجاب هي اسفيجاب أو اسبيجاب وهي قرب الشاش من بلاد فرغانة- معجم البلدان 4/1014) انظر الخريطة المرفقة. [4] اسروشنة: من قصبات ما وراء النهر من أعمال بخاري (آثار البلاد 540) (انظر الخريطة المرفقة) . [5] مرغينان: وهي أهم مدن القرا خانيين ومن أشهر نواحي فرغانة (ياقوت المعجم 4/500) .

وإقليم تركستان شهر كند وجند وفارجند ووأطرار [1] وشبرم وجكل وجاص كن وبرساكن وامزدابان ونيلي وكنجك وطران، وهو المسمى بلاس، ونيكي كن وسيكول والمالق وبيش مالق وحبوك وقرشي وختن وكاشغر وبدخشان ودراوران. (المخطوط ص 64) ودرّه وبلاصاغون، كل واحدة ذات مدن وأعمال ورساتق [2] وقرى وضياع، مأوى الأتراك، وغيل أسودهم وجو عقبانهم. وقرشي قاعدة الملك بها الآن وهي علي نهر قراخوجا في نهاية الحد، ثم بخاري ثم سمرقند ثم غزنة وإن كانت بخاري مما لا تسير إليها ركابهم ولا ترسى عليها خيامهم، ولكن «1» لعظمة مكانها، وسالف سلطاتها، وسيأتي ذكر هذه القواعد في مواضعها. ولم يسلم ملوك هذه المملكة إلا من عهد قريب فيما بعد خمس وعشرين وسبعمائة [3] ، أول من أسلم منهم ترماشيرين [4] رحمه الله، وأخلص لله وأيد الإسلام [5] ، وقام به أشد القيام وأمر به أمراءه وعساكره فمنهم من كان قد سبق إسلامه، ومنهم من أجاب داعيه، وأسلم، وفشا فيهم الإسلام، وعلا عليهم لواؤه، حتى لم تمض عشرة أعوام حتى اشتمل فيها بملأته الخاص والعام، وأعان على هذا ما

_ [1] أطرار وهي أترار: مدينة من بلاد الترك آخر ولاية خوارزمشاه قتل حاكمها جماعة من التجار المغول سنة 617 هـ، وكان هذا سببا في غزو المغول للمسلمين (ابن الأثير 12/361- 362) . [2] رساتق جمع مفرده رستاق وهي القرية (فرهنگ رازي 408) . [3] علاء الدين طرمشيرين (ترماشيرين) سلطان ما وراء النهر ولى الملك بعد أخيه وكان أخوه كافرا ويدعى الجكطي كما كان أخوه الملك الأسبق كبگ كافرا وقد أسلم طرمشرين، وملك بلادا واسعة (انظر: رحلة ابن بطوطة 246- 248) . [4] ورد بالمخطوط برماسيرين. [5] اسخط ترماشيرين المغول عليه بسبب ميله إلى الإسلام والحضارة الإسلامية، ولم يراع الياساق (تركستان 131) .

في تلك الممالك من الأئمة العلماء والمشايخ الأتقياء، فاغتنموا من الترك فرصة الإذعان، فعاجلوهم بدعوة الإيمان، وهم الآن على ما اشتهر عندنا، واستفاض، أحرص الناس على دين «1» ، وأوقفهم عن الشبهات بين الحلال والحرام، وعساكرهم هم أهل النجدة والبأس، لا يجحد هذا من طوائف الترك جاحد، ولا يخالف فيه مخالف [1] . حدثني خواجا مجد الدين إسماعيل السلامي قال: إذا قيل في بيت هولاكو أن العساكر قد تحركت من باب الحديد [2] يعني من بلاد خوارزم، والقبجاق لا يحمل أحد منهم لم هما، فإذا قيل أن العساكر تحركت من خراسان يعني من جهة هؤلاء السقط «2» ، لأن هؤلاء أقوى ناصرا، وأولئك أكثر عددا، لأنه يقال أن واحدا من هؤلاء بمائة من أولئك «3» . وقال: ولهذا خراسان عندهم ثغر عظيم لا يهمل سداده، ولا يزال فيه من يستحق ميراث التخت أو من يقوم مقامه لما وقر لهؤلاء في صدورهم من مهابة لا يقلقل طودها، فإنهم طال ما يلوهم في الحروب، وابتلوا بهم فيها. وحدثني الفاضل نظام الدين أبو الفضائل يحيى بن الحكيم ما معناه أن بلاد هؤلاء متصلة (المخطوط ص 65) بخراسان متداخلة بعضها ببعض، لا يفصل بينهما بحر ولا نهر ولا جبل «4» ولا شيء مما يمنع أهل هذه البلاد عن قصد خراسان، وبينهما وبين خراسان أنهار جارية ومراع متصلة، فإذا أرادوا خراسان تنقلوا في المرعى

_ [1] انظر: رحلة ابن بطوطة ص 248. [2] باب الحديد باب في بخارى (تركستان 197) وباب في كش من بلاد الصفد (تركستان 238) .

واستدرجوا استدراجا لا يبين ولا يظهر أنه لقصد بلاد بل للتوسع في المرعى، فلا يشعر بهم إلا وهم بخراسان، حتى إذا صاروا فيها، جاسوا بها خلال الديار، وعاثوا فيا عبث الذئاب، وهم مع سيرهم المجد من بلادهم إلى خراسان لا مشقة عليهم ولا على دوابهم، لأنهم من ماء إلى ماء، ومن مرعى إلى مرعى. قال ابن الحكيم: ولهذا يخاف ملوكنا عادية هؤلاء لأنهم لا يعلمون بهم إلا وهم معهم. قلت: ومن هذه البلاد نجم الدولة السلجوقية [1] في عهد السلطان مسعود السبكتكين [2] «1» ، ما بزغ كوكبهم ثم استعلى نيرهم ونبع معيتهم، ثم فاضت أبحرهم، وكان الاحتجاج بالتنقل في المرعى هو السبب لجر الملك إليهم حتى اشتهر من أعلامهم، وانتشرت أيامهم على ما هو مرقوم في صدر السير وصفحات التواريخ. ولم يزل لأهل هذه (المملكتين (قديمة) «2» وكان سكان الهند لا يلزمون مقاومتهم، ولا يتقون إلا بصدور الأفيال مصادمتهم، حتى علت والحمد لله بالهند دولة الإسلام، وزادت اليوم بلسطانها القائم علوا، وتناهت غلوا، فنامت عيون أهل هذه البلاد لهيبة ذلك السلطان لعدم هجوده، وسكتت ثعالبهم المخاتلة بزئير أسوده، ولقد كان أهل هذه المملكة لا تزال تجوس أطراف الهند خيولهم، وتحتجف به الأموال والأولاد سيوفهم، حتى نشأ بالهند سلطانه الآن، وشمر للحرب ذيله،

_ [1] دولة السلاجقة. [2] مسعود بن محمود الغزنوي حكم سنة 422 هـ بعد حبس أخيه محمد، ولم يستطع أن يواجه السلاجقة والغوريين ففر ألى الهند ولكنه قتل على يد جماعة من أتباع ابن أخيه أحمد (روضة الصفا 160- 164) .

وجاهد الأعداء في كل قطر، واختلفت كلمة أهل هذه البلاد على ملوكها، فانكفوا لبأس ذلك السلطان، واختلاف ذات البين، وكان ملوك هذه المملكة من أولاد جنكيز خان، وأتباعهم من المحافظة على ياسة «1» جنكيز خان، والتعبدات المعهودة (المخطوط ص 66) . من أهل هذا البيت من تعظيم الشمس، والميل إلى آراء البخشية [1] ، تابعين لما وجدوا عليه آباءهم، يعضون عليه بالنواجذ، مثل تمسك القان الكبير، ومن إلى مملكته بها، بخلاف الفخذين الآخرين ببلاد خوارزم والقبجاق، وأهل مملكة إيران، وإن كان الملوك الأربعة من أولاد جنكيز خان، ومن تبعته تبعوا، ومن أفقه طلعوا، لكن «2» بهذه المملكة والخطا، أشد بياسته تمسكا، ولطريقته إتباعا، وهما مع هذا أعدل بني أبيهما حكما وأنشرهما له في بلادهما ورعاياهما. وقد قدمنا التنبيه على أن رعايا هذه المملكة وقرارية أهلها من قدما الإسلام السابقين إليه، وكانوا مع كفر [2] ملوكهم في جانب ألا تزان «3» ، لا تتطرف إليهم أذيه في دين ولا حال ولا مال، فلما آل الملك إلي ترماشيرين [3] كما ذكرنا، دان بالإسلام، وأظهره في بلاده، ونشر في خانقى ملكه، واتبع الأحكام الشرعية،

_ [1] البخشية: كانت ديانة المغول الشامانية وهي عبادة الخان الأعظم ابن الإله المعبود (فتوحات هولاكو 5- 6) ولفظ بخشى من السنسكريتيت Bhikkshu وهو لقب يطلق في الأصل على الرهبان البوذيين (تركستان 555) . [2] وردت بالمخطوط كفرهم. [3] وهو السلطان المعظم علاء الدين طرمشيرين (ابن بطوطة 246) وهو ترمشيرين بن دوا بن براق بن آسن دوا بن موتكن بن جغتاي بن جنكيز خان حكم خانية جغتاي ما بين سنة 1326- 1334 م.

واقتدى بها، وأكرم التجار الواردين عليه من كل صوب، وكانت قبله الطرقات لا تفتح لتجار مصر والشام إليها، ولا يهم مضطرب «1» في الأرض منهم بالمرور عليها، فلما ملك ترماشيرين، كثر قصد التجار له، وعادوا شاكرين منه، حتى صارت بلاده لهم «2» طريقا قاصدا، ومنهجا مسلوكا [1] . حدثني الصدر بدر الدين حسن الأسعردي التاجر بما كان ترماشيرين يعامل به التجار والواردين عليه من الإكرام ومزيد الإحسان، وأخذ قلوبهم بكل إمكان. قال صاحب كتاب صفة أشكال الأرض ومقدارها [2] ، ما وراء النهر من أحضب الأقاليم منزلة، وأنزهها، وأكثرها خيرا، وأهلها يرجعون إلى رغبة في الخير، واستجابة لمن دعاهم إليه مع قلة غائله، وسلامة ناحية وسماحة بما ملك أيديهم، مع شدة شوكة ومنعة وبأس ونجدة وعدة وعدة وآلة وكراع وبسالة وعلم وصلاح. فأما الخصب فليس من إقليم ألا يقحط أهله مرارا قبل أن يقحط ما وراء النهر (المخطوط ص 67) من واحدة ثم أن أحسوا ببرد أو بحراد أو بآفة تأتي على زروعهم وغلاتهم، ففي فضل ما يسلم في عروض بلادهم، ما يقوم بأودهم حتى يستغنوا به عن شيء، ينقل إليهم من غير بلدهم، وليس بما وراء النهر مكان يخلو من مدن أو قرى أو مراع لسوائمهم [3] ، وليس بشيء لا بد للناس إلا وعندهم منه ما يقيم به أودهم، ويفضل عنهم لغيرهم. فأما طعامهم في السعة والكثرة فعلى ما ذكرناه، وأما مياههم فإنها أعذب المياه وأبردها وأخفها، قد عمت جبالها وضواحيها ومدنها إلى التمكن من الجمد في

_ [1] انظر: رحلة ابن بطوطة ص 246- 248. [2] كتاب صفة أشكال الأرض ومقدارها. [3] السوائم مفردها سائمة وهي كل إبل أو ماشية ترسل للرعي ولا تعلف (المعجم الوسيط 1/483) .

جميع أقطارها، والثلوج من جميع نواحيها، وأما الدواب ففيها من النتاج ما فيه كفايتهم، ولهم من نتاج الغنم الكثير، والسائمة المفرطة، وكذلك الملبوس فإن لهم من الصوف والقز [1] وطرائف البز [2] ، وببلادهم من المعادن وخصوصا الزئبق الذي لا يقاربه في الغزارة والكثرة معدن، وأمّا فواكههم فإنك إذا توطنت [3] السغد وأسروشنه [4] وفرغانة والشاش، رأيت في فواكههم ما يزيد على سائر الآفاق، حتى ترعاها دوابهم، ويجلب إليها من محاسن الأشياء، وطرف البلاد ما يتنافس الملوك فيه. وأما سماحتهم فإن الناس في ما وراء النهر كأنهم في دار واحدة، ما ينزل أحد بأحد إلا كأنه رجل دخل دار نفسه، لا يجد المضيف من طارق يطرقه كراهية، بل يستفرغ جهده في إقامة أوده، من غير معرفة تقدمت، ولا توقع لمكافأة بل اعتقاد السماحة بأموالهم، وهم في كل امرئ [5] على قدره فيما ملكت يده، وحسبك أنك لا ترى صاحب ضيعة يستقل بمئونته إلا كانت همته اقتناء قصر فسيح، ومنزل للأضياف، فتراه نهاره في إعداد ما يصلح لمن يطرقه، وهو متشوق إلى وارد عليه ليكرمه، فإذا حل بأهل ناحية طارق، تنافسوا فيه، وهم فيما بينهم يتبارون في مثل هذا الشأن، حتى يجحف بأموالهم، كما يتبارى سائر الناس في الجمع والمكاثرة والمال. قال: ولقد شهدت (المخطوط ص 68) آثار منزل بالصغد [6] ، قد ضربت الأوتاد على باب داره بخيول الضيفان، أن ما بها مكث لا يغلق ما يزيد على مائة

_ [1] القز وهو الخز ويعني الحرير الخام. [2] البزّ: نوع من الثياب (المعجم الوسيط 1/56) . [3] وردت بالمخطوط تبطنت. [4] وردت بالمخطوط أسروشة. [5] وردت بالمخطوط أمرء. [6] ترد بالسين والصاد- السغد والصغد من بلاد ما وراء النهر (انظر: الخرائط المرفقة) .

سنة: لا يمنع من نزولها طارق، وربما نزل به ليلا على بغتة المائة والمائتان والأكثر من الناس بدوابهم وحشمهم، فيجدون من طعامهم ودثارهم وعلف دوابهم ما يكفيهم، من غير أن يتكلف صاحب المنزل أمرا بذلك، أو يتجشم عبئا، لدوامه مع البشاشة بأضيافه لعلم سروره بهم كل من شهده. قال: وترى الغالب على أهل المال والثروة صرف أموالهم على خاصة أنفسهم في الملاهي، وما لا يرضى الله تعالى، والمنافسات فيما بينهم، والغالب على أهل الثروة والمال في ما وراء النهر صرف أموالهم في عمل المدارس وبناء الرباطات وعمارة الطرق والأوقاف على سبيل الجهاد ووجوه الخير وعقد القناطر إلا القليل من ذوي البطالة، وليس من بلد ولا سبيل مطروق ولا قرية آهلة إلا وفيها من الرباطات [1] ما يفضل عمن ينزل به. قال: وبلغني أن بما وراء النهر زيادة على عشرة آلاف رباط في كثير منها، إذا نزل النازل أطعم وعلق على دابته. قال: وقلّ ما رأيت خانا [2] أو طرف سكة أو محلة أو مجمع ناس بسمرقند في المدينة وظهرها إلا وبه ماء مسبل بجمد. قال: وحدثني من له خبرة أن بسمرقند وظواهرها ما يزيد على ألفي مكان يسقى فيها ماء الجمد مسبل عليه الوقوف، من بين سقاية مبنية وجباب نحاس منصوبة وقلال خزف مثبتة في الحيطان [3] . وأما بأسهم فمشهور مستفيض، وفي بعض الأخبار أن المعتصم سأل عبد الله [4]

_ [1] مفرده رباط وهو ملجأ الفقراء من المتصوفة (المعجم الوسيط 1/335) . [2] الخان مكان فسيح خاص لنزول التجار، وهو مكون من طابقين، طابق لنزول الدواب والثاني لإقامة التجار (انظر: فرهنگ رازي 260) والخان: الفندق (المعجم الوسيط 1/272) . [3] وردت بالمخطوط الحيطا. [4] عبد الله بن طاهر بن الحسين، تولى أمر خراسان لمدة سبع عشرة سنة كان كاتبا وأديبا وقائدا مشهورا، كان-

أو كتب إليه يسأله عن من يمكنه حشده من خراسان وما وراء النهر، فأنفذ إلى نوح ابن أسد بن سامان [1] فكتب إليه أن ثم ثلاثمائة ألف قرية، إذا خرج من كل قرية فارس وراجل لم يتبين أهلها فقدهم. قلت: ولقد حدثني الصدر مجد الملك يوسف بن زاذان (المخطوط ص 69) البخاري أنه يوجد عند آحاد العامة من عشرين دابة إلى خمسمائة دابة، لا كلفة عليه في اقتنائها لكثرة الماء والمرعى. قال: وهم أهل طاعة لسلاطينهم، وانقياد لأمرائهم حتى أن المتولى لأمورهم يتصرف في أموالهم وأمورهم وسائر أحوالهم تصرف المالك في ملكه، والمستحق في حقه، متبسطا في ذلك، مادا يده لا هو يتحشى، ولا صاحب المال والحال يتشكى، كلاهما طيب القلب، قرير العين، راض بصاحبه. وحدثني الشريف السمرقندي أن أهل هذه البلاد في الغالب، لهم بواعث هم على طلب العلم، والمظاهرة على الحق والمضاهاة في الخلال الحميدة، إلا من قل وقليل ما هم. وقد ذكر علي بن مشرف [2] في كتاب ألفه باسم الملك الرحيم بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل [3] ، ذكر فيه ما وراء النهر فقال: وهي في الدنيا أنموذج الجنة في

_ - عادلا وكريما، له أشعار بالعربية (انظر روضة الصفا 50- زبن الأخبار گرديزي 14- مروج الذهب للمسعودي 4/200- ابن الأثير 9/8- ابن كثير 1/35) . [1] نوح بن أسد بن سامان: تولى أمر سمرقند من قبل والي ما وراء النهر غسان بن عباد، وهو أحد أبناء أسد بن سامان مؤسس الدولة السامانية (روضة الصفا ص 79- 80) . [2] علي بن مشرف: هو علاء الدين أبو الحسن علي بن مشرف المارد بني الشافعي الأديب، كان في حدود سنة 620 هـ، له إثبات الدليل في صفات الخليل وهو ديوان شعر (انظر: هدية العارفين 1/705) . [3] بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل في عهد أرسلان شاه بن مسعود ثم في عهد ولده القاهر، ولما توفي القاهر سنة 615 هـ، انفرد بالسلطة ودام حكمه ثلاثة وأربعين عاما، وقد صالح هولاكو، ودخل في طاعته وحمل إليه الأموال في بغداد، توفي سنة 656 هـ (انظر: أبو الفداء 3/198- تاريخ ابن خلدون 5/1151- دائرة المعارف البستاني 5/241- 243) .

الآخرة، لا يحمل المسافر فيها ماء ولا زادا، ولا يحتاج رفيقا، ولا يستشكل طريقا مكان فاتك وناسك، ورد إليها قفل تجار [1] مات منهم واحد، له بضائع جليلة، وأموال كثر، ولم يكن ثم له وارث، فاحتاط نواب الديوان على ماله، وبلغ هذا سلطان الناحية، فأنكر غاية الإنكار، فقال: ما لنا نحن ولأموال التجار، ومعه رفاق هم أعلم بحاله، فإن كان له وارث بلغوه أمانتهم من ميراثهم، وإلا فهم أحق برفيقهم، وأولى بماله، ثم طلب التجار، وأمرهم بتسليمه، فامتنعوا، وقالوا: هذا رجل لا وارث له منا، ولا في بلده، ولا نعرف له وارثا بالجملة، ولا نعلم (من) [2] يرثه إلا بيت المال، وتجارته تقارب ثمانمائة ألف درهم، وقد مات منا، وأنتم أحق به، فغضب، وقال: لا والله نحن ما نأخذ إلا ميراث من مات من بلادنا، ولا وارث له، وأما هذا فملك بلاده، وأحق بميراثه، خذوا المال، فاحملوه إليه، قال: فأخذوه معهم إلى توريز [3] ، وأعطوه لصاحبها، لأن الرجل كان منها. ورأيت في كتاب آخر سماه مؤلفه تفضيل الرحلة ألفه لبدر الدين لؤلؤ أيضا، ولم يسم مؤلفه نفسه، قال: (المخطوط ص 70) ، وعبرنا [4] في طريقنا إلى خان بالق ببلاد كثيرة، أجلها ما وراء النهر، وهي مما تنفذ العبارة دونها ما شئت من حسن وإحسان وحور وولدان وفاكهة صنوان وغير صنوان [5] وماء- كما قال- عن برد إحسان ملك كبير، وخير كثير، وأقوام لهم يلذ العيش ويليق عند ثباتهم الطيش، قوم كرام لا يخف لهم أطواد أحلام، ومن بلادهم معادن أشرفها الرجال،

_ [1] قفل تجار: أي قافلة تجار. [2] ما بين القوسين للمحقق. [3] يقصد تبريز: وقد ذكرها توريز في مواضع كثيرة كما فعل أمثاله من المؤرخين العرب. [4] وردت بالمخطوط وعبر. [5] إشارة إلى قوله تعالى: وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الرعد: الآية 4] .

ومنها اللعل الأحمر واللازورد الأزرق، وما هو من هذه الأمثال. قلت: وبالغ في وصفها وهي كذلك، وأما ما أشار إليه من المعادن فيها فهو بدخشان، وهي مع مملكة ما وراء النهر، وليس حقيقة منه، ولا من تركستان، بل هو إقليم قائم بذاته [1] معدود للمحاورة مع أخواته، قد حوى كل بديع من حيواته، ومعدته، ونباته. قلت: وبلغني ممن أثق به منهم أن من يسق [2] ملوكهم أنه إذا راح من عساكرهم ألف فارس إلى مكان وقتل منهم تسعمائة تسعة وتسعون فارسا، وسلم ذلك الفارس الواحد، قتل ذلك الواحد لكونه لم يقتل مع البقية، اللهم إلا أن حصل النصر لمن سلم. وملوك هذه المملكة من بني جنكيز خان، وقد قدمنا القول أن أحوال بني جنكيز خان متقاربة في ممالكهم، لمشيهم على ياسة جنكيز خان، ولا تكاد تمتاز أهل مملكة من ممالكهم عن الآخرين إلا فيما قل. ومعاملة ممالك قسمي إيران هؤلاء، وأهل خوارزم، والقبجاق ومعظم إيران بالدينار الرائج وهو ستة دراهم، وفي بعض هذه بالخراساني وهو أربعة دراهم، ودراهم أهل هذه المملكة خاصة من فضة خالصة غير مغشوشة، فهي وإن قل وزنها عن الدرهم معاملة مصر والشام فإنها تجوز مثل جوازها لخلوص هذه الدراهم وغش تلك، لأن ثم أن تلك الدراهم نوعان؛ درهم بثمانية فلوس ودرهم بأربعة فلوس، ويوجد بهذه المملكة من الحبوب القمح والشعير، والحمص والأرز والدخن وسائر الحبوب خلا الفول. وأسعارها جميعا رخية (المخطوط ص 71) فإذا غلت فيها الأسعار أغلى [3]

_ [1] ورد بالمخطوط بدادته. [2] يسمى هي الياسا والياصا الجنگيزية. [3] وردت بالمخطوط أغلا.

الغلو، كانت مثل أرخص الرخص بمصر والشام. وبها من الفواكه المنوعة الثمار العنب والتين والرمان والتفاح والكمثرى والسفرجل والخوخ والعين والمشمش والتوت والبطيخ الأصفر والأخضر والبطيخ الأصفر بهذه البلاد نهاية، والبخاري والسمرقندي أحسن أنواعه، وإن كان الخوارزمي يزيد عليه في الحسن واللذاذة على ما نذكره في مكانه. وبها الخيار والقثاء واللقف والجزر والكرنب والباذنجان والقرع وسائر أنواع البقول وأنواع الرياحين من الورد والنرجس والآس والنيلوفر [1] والحبق والبنفسج وإن قل، ولا يوجد بها الأترج والنارنج والليمون والليم ولا الموز ولا قصب السكر ولا القلقاس ولا الملوخيا، فإنها من ذلك عارية الحدائق، خالية الدوح، إلا ما يأتي من المحمضات إليها مجلوبا. فأما الدواب والخيل والبغال والحمير والإبل البخت [2] والبقر والغنم، وأقلها البغال والحمر وأكثرا الأغنام فإنها في هذه البلاد كما يقال أعورتها الزرائب بالمالق، وما يليها بملأ الفضاء، ويسد عين الشمس، وهي بلاد قريبة من الاعتدال، لا تفرط في حر ولا برد، ذات عيون دافقة، وأنهار سارحة، ومراع متسعة مربعة، وخصب مفرط، يزكو حيوانها ونباتها ومعادنها. قال لي الشيخان صدر الدين محمد ومحمد الخجنديان الصوفيان بالخانقاه الفوهية أنه لولا موتان يقع في خيل المالق [3] وأغنامها في بعض السنوات، لما أبتيعت، ولا يوجد من يشتريها، لكثرتها وبركات نتاجها. قالا: ومدينة بدخشان [4] بها معدل اللعل البدخشاني لم يمكنا أن نتكلم

_ [1] وردت بالمخطوط الليفوفر. [2] الإبل البخت: هي الإبل الخراسانية واحدها بختى. وجمعها بخاتي وبخات (المعجم الوسيط 1/42) . [3] المالق أو الماليق مدينة كانت قرب كولجه الحالية على شاطىء نهر إيلي الذي يصب في بحيرة بالكاش (انظر حاشية بلوشيه على جامع التواريخ 410- 411) . [4] وردت بالمخطوط برخشان.

بشيء قبله، فقال له: كم قيمة هذه القطعة يا نجم الدين؟ فقال ما يعرف قيمة هذه إلا من ملك مثلها، أو رأى مثلها، وأنا وأنت والسلطان وجميع من حضر ما رأى مثلها، ولا قريبا منها، فكيف نعرف قيمتها؟ فاستحسن هو وكل من حضر قوله وصالحوا صاحبها وهو المسمى في البلاد بالبلخش ومعدن اللازورد الفائق وهما في جبل بها يحفر عليهما في معادنهما فيوجد اللازورد بسهولة ولا يوجد اللعل إلا بنقب كبير وانفاق زائد وقد لا يوجد بعد النقت الشديد والانفاق الكبير ولهذا عز وجوده وغلت قيمته فكثر طالبه والتقت الأعناق إلى التحلي به. قلت: وأنفس قطعة وصلت إلى بلادنا من البلخش قطعة وصلت مع تاجر في الأيام العادلية الزينية واحضرت إلى العادل كتبغا [1] وهو بدمشق إذ ذاك. قال لي أحمد ناظر الصاغة أحضرني الصاحب شهاب الدين أحمد الحنفي ومن يعرف الجوهر وجماعة من الأكابر منهم نجم الدين الجوهري وارانا ملك القطعة فرأيناها قطعة جليلة مسننة على هيئة المشط.... زنتها خمسون درهما وهي نهاية في الحسن وغاية في الجود كاد يضيء إليها المكان وسألنا عن قيمتها كم تساوي [2] فأشرنا إلى نجم الدين الجوهري لأنا لا يمكننا أن نتكلم بشيء قبله، فقال له: كم قيمة هذه القطعة يا نجم الدين؟ فقال ما يعرف قيمة هذه إلا من ملك مثلها أو رأى مثلها وأنا وأنت والسلطان وجميع من حضر ما رأى مثلها ولا قريبا منها فكيف نعرف قيمتها؟ فاستحسن هو وكل من حضر قوله وصالحوا صاحبها. وسنذكر جملة مما هي عليه قواعد هذه البلاد، وأول ما نبدأ بفريبي [3] قاعدة الملك بها، وإن لم تكن شيئا مذكورا، ولها شيء على اختلاف حالات الزمان شهرة

_ [1] العادل كتبغا هو أنو شيروان بن طغا تيمور حكم ما بين 744 هـ- 756 هـ (جامع التواريخ 2/14) . [2] وردت بالمخطوط كم تسوى. [3] فرسبي أو فريبي، لم أعثر عليها وربما يقصد مدينة فروان أو يروان التي ما زالت تحتفظ بهذا الاسم حتى الآن مع أن عاصمة بدخشان هي جرم قرب فيض آباد- (بدخشان دائرة المعارف الإسلامية مادة بدخشان) .

تذكر، ولكن لما شملتها به في دولة ملوكها الآن من نظرات السعادة لنسبتها إلا أنها سكن لهم، وإن كانوا ليسوا بسكان جدار ولا متدبرين في ديار، ولكن لاسم وسمت به. وأما بخاري فأم أقاليم، ويم تقاسيم، وقد كانت للدولة السامانية قطب نجومهم السائرة، ومركز أفلاكهم الدائرة، وكانت تلك الممالك كلها تبعا له، وكان آل سامان بها، وإن لم يتسموا بالسلطنة، ولا وسموا بغير الإمرة كالخلفاء لا يباشروا الأمور إلا نوابهم، ولا يخرج إلى الحروب إلا قوادهم، ودست قواعد [1] دولتهم، وأذعنت لهم ملوك الأقطار، ولم تكن ملوك بين بويه [2] على عظمة سلطانهم إلا كالأتباع لهم، يحملون إليهم الحمول والقماش المطرز بأسمائهم وأسماء أرباب دولتهم كالوزير والحاجب. وحكى أبو نصر العتبي [3] :....... [4] (المخطوط ص 73) وكتب نوح [5] بن إلى ابن بويه كتابا يهدده فيه، فكتب جوابه: يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا، فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين، ثم لم يرسل هذا الجواب، خوفا لما وقر في صدورهم من مهابة آل سامان إلى أن قضى الله فيهم بأمره، وولى زمانهم،

_ [1] دست: مقر حكم السلاطين (فرهنگ رازي 332) صدر المجلس (المعجم الوسيط 1/292) . [2] بنى بويه: ينسبون إلى بهرام گور، وقيل إنهم من نسب ديلم بن ضبة وذكرهم ابن مسكوية في تجارب الأمم إنهم يزعمون إنهم أبناء يزدجرد واكد ذلك صاحب الكامل في التاريخ، جدهم أبو شجاع بويه استولى أبناؤه على بلاد الديلم طبرستان وكيلان ومازندران والري وقزوين وهمدان وأصفهان، وسيطروا على الخليفة العباسي، واستمرت دولتهم حتى سنة 487 هـ (انظر: روضة الصفا 181 وما بعدها- تجارب الأمم لابن مسكويه 6/279- ابن كثير 11/173 وما بعدها- ابن الأثير 7/231 وما بعدها) . [3] أبو نصر العتبي: أبو نصر محمد بن عبد الجبار العتبي من المؤرخين والأدباء في القرن الرابع والخامس الهجري، عاصر الغزنويين، له كتاب تاريخ يمينى ألف للسلطان محمود الغزنوي توفي سنة 427 هـ (فرهنگ أدبيات فارسي 239) . [4] فراغ مقداره سطر ونصف. [5] فراغ مقداره 3 سم.

وجاء زمان سبكتكين على إثره، قال العتبي: وخمدت تلك الشعلة. قال صاحب كتاب أشكال الأرض ومقدارها: لم أر، ولم أسمع بظاهر بلد أحسن من بخاري، لأنك إذا علوت ولم يقع نظرك من جميع النواحي إلا على خضرة تتصل خضرتها بلون السماء فكأن السماء مكبة زرقاء على بساط أخضر، تلوح القصور فيما بين ذلك كالتراس الشتية والحجب الملطية وكالكواكب العلوية بياضا ونورا بين أراض وضياع مقسومة بالاستواء، مهذبة كوجه المرأة بغاية الهندسة، وليس بما وراء النهر ولا غيرها من البلاد أحسن قياما بالعمارة للضياع منهم، مع كثرة متنزهات في سعة المسافة وفسحة المساحة، متصلة بعضد سمرقند. قال: ويحيط ببخاري وقراها ومزارعها سور [1] ، قطره اثنا عشر فرسخا في مثلها، كلها عامرة ناضرة زاهرة، ولبخاري سبعة أبواب حديد وهي: باب المدينة، وباب بوت، وباب جفره، وباب الحديد، وباب قهندز [2] وباب بني أسد [3] ، وباب بني سعد [4] ، ولقهندز هنا بابان أحدهما يعرف الريكستان [5] ، والأخرى باب الجامع [6] ، يشرع إلى المسجد الجامع، وعلي الربض دروب، فمنها درب يخرج

_ [1] انظر: أسوار القلعة وأبوابها في تاريخ بخارى للنرشخي وتاريخ بخارى لفامبري ترجمة د. أحمد الساداتي) . [2] يقصد به كهن دز، وقد أوردها في كل المخطوط قهندز، وكهن دز تعني القلعة القديمة (فرهنگ رازي 331- 737) . [3] بني أسد وبني سعد بطون من قبائل عربية الأصل، صحبت قتيبة بن مسلم الباهلي عند فتحه بخارى، واستوطنت بجوار المدينة القديمة وبعضهم استقر بالمدينة (انظر: التخطيط المرفق في آخر الكتاب) . [4] يذكر الإصطخري أن أبوابها كانت أحد عشر بابا وهي: باب الميدان، إبراهيم، الريو، المردكشان، كلاباذ، النوبهار، سمرقند، فغاسكون، الراميثنة، حدشرون، غشج (المسالك والممالك 306 وما يليها) . [5] الريكستان في الغرب، وكان يسمى باب علف خروشان أو كاه فروشان (أي باعة العلف) (تاريخ بخارى نرشخى 7/22) . [6] باب المسجد الجامع في الشرق وأطلق عليه النرشخي باب غوريان.

إلى خراسان، يعرف بدرب الميدان، ودرب يلى المشرق، ويعرف بدرب إبراهيم، ويليه درب يعرف بالربعة، ويليه درب المردكسان [1] ، ويليه درب كلاباذ [2] ، ويليه درب الوفهار [3] ، ويليه درب سمرقند، ويليه درب (المخطوط ص 74) بغاشلوز [4] ، ويليه درب الرامينية [5] ، ويليه درب حدس [6] ، ويليه درب غشج [7] . وليس في مدينة بخاري ولا قهندزها [8] ، ماء جار لارتفاعها، ومياهها من النهر الأعظم الجاري من سمرقند، ويتشعب من هذا النهر الأعظم في مدينة بخاري نهر يعرف بنهر فنتيرديز [9] فيأخذ من نهر بخاري، ويجري في درب المردكشان على حد باب إبراهيم حتى ينتهى إلى باب البلعمي [10] ويقع في نهر ميركيده [11] ، وعلى هذا النهر نحو ألفي بستان وقصور وأراض كثيرة، وشهرتها منه. ومن فم هذا النهر إلى مفيضه نحو فرسخ ونهر يعرف بجوي بار بكار [12] يأخذ

_ [1] المردكشان وهو باب سلخانه الحالي (تركستان 196) . [2] كلّاباذ وهو باب كوله (قرشي) الحالي (تركستان 196) . [3] وهو النوبهار وهو الآن باب مزار. [4] فغاسكون وهو باب إمام خاليا. [5] الراميثنة وهو الآن باب أوغلان. [6] باب حدشرون وهو الآن باب طليج. [7] باب غشج وهو الآن باب شيركيران. [8] القلاع القديمة. [9] وهي منارة زر الكبرى كما ذكرها الإصطخري ص 307 وما يليها. [10] باب الشيخ الجليل أبي الفضل هذا هو اسمها ويقصد به أبا الفضل البلعمي وزير السامانيين المتوفى سنة 329 هـ (تركستان 199) . [11] هو قناة نوكنده وتأخذ من القناة الرئيسية عند دار حمدونه وهي مصب لبقية القنوات. [12] هو جويبار بكار وتعني المجرى الذي تعم به الفائدة ويخرج من موضع وسط المدينة.

من المذكور آنفا في وسط المدينة بموضع يعرف بمسجد أحمد [1] وبغيض بني كنده [2] ، وعلى هذا النهر مشرب بعض الربض ونحو ألف بستان ونهر يعرف بجود بار القواريريين [3] يأخذ من النهر المذكور بموضع يعرف بمسجد العارض، فيسقى بعض الربض، وهو أغزر وأعمر الأراضي من نهر بكار ونهر نوكنده يأخذ من النهر المذكور ومن المدينة عند رأس سكة ختع [4] ، فيسقى بعض الربض ويغيض في المفازة [5] ، ويليه نهر الطاحونة يأخذ من النهر المذكور في المدينة بموضع يعرف بالنوبهار [6] ، وعليه بيوت أهل الربض ويدير أرجية كثيرة حتى ينتهى إلى بيكند [7] ، ومنه شرب أهل بيكند، ونهر يعرف بنهر كشنه [8] ، يأخذ من النهر في المدينة عند النوبهار، عليه شرب أهل النوبهار، فيفضي «1» إلي حصون وضياع وبساتين حتى يجاور كشنه، ونهر يعرف بنهر تاج [9] يأخذ من النهر المعروف بالريكستان، ويسقى بعض الربض، وينتهى إلى قصر رباح، فيسقى نحو ألف بستان وقصور هناك وأراضي كثيرة دون البساتين.

_ [1] مسجد أحيد (تركستان 199) . [2] نوكنده. [3] جويبار القواريريين (أي مجرى صناع الزجاج) . [4] أي المرشد. [5] الصحراء. [6] النوبهار: موضع قديم كان به صنم، وبه معبد يعد من أعظم بيوت الأصنام في بلخ ببلاد خراسان والتي بناها منوجهر بن إيرج بن افريدون (آثار البلاد 9/476) . [7] بيكند: اسم مدينة ببلاد ما وراء النهر قرب بخارى، وبيكند هنا قناة تأخذ من القناة الرئيسية وتصب في نوكنده. [8] انظر: تركستان لفامبري ص ر 200 [9] هو نهر رباح ويخرج من القناة الرئيسية قرب الريكستان وتصل إلى قصر رباح.

ونهر الريكستان يأخذ من النهر المذكور بقرب إلى الريكستان ومنه يشرب الريكستان وأهل القهندز ودار الإمارة حتى ينتهى إلى قصور جلال ديزه. ونهر يأخذ من النهر المذكور بقرب قنطرة حمدونه تحت الأرض إلى حياض بباب بني أسد [1] ، ويقع فضله في فارقين القهندز. وهذه الأنهار طائفة ببخاري وجنانها «1» ولها رساتق [2] «2» كثيرة، ونواح نفيسة وأعمال جليلة وضياع ليس (المخطوط ص 75) مثلها لأهل بلد، وإن كان لأهل ناحية أو إقليم ما يضاهى بعضها، فليس كهي، على وفورها وكثرتها. وجميع أبنية بخاري على استماك البناء والتقدير في المساكن وارتفاع أراضي الأبنية، فهي محصنة بالقهندزات [3] وليس في داخل هذا الحائط جبل ولا مغارة ولأرض عامرة، وأقرب الجبال إليها جبل وزكر، ومنه حجارة أبنيتهم، وفرش أرضهم، ومنه طين الأواني والكلس والجص، ولهم خارج المدينة ملاحات، ومحتطبهم من بساتينهم، وما يحمل إليهم من المفاوز من الفضاء والطرق. وأراضي بخاري كلها قريبة من الماء لأنها مغيض ماء السغد [4] ، ولذلك لا تنبت الأشجار العالية بها مثل المركب «3» والجوز وما أشبهها، وإذا كان من هذا الشجر شيء فهو قصير غير تام.

_ [1] انظر: تركستان لبارتولد 200. [2] رساتق مفرده رستاق بمعنى قرى (فرهنگ عميد 2/1072) . [3] قهندزات جمع مفرده قهندز وهي بالفارسية كهن درّ أي القلعة القديمة (فرهنگ رازي 331) . [4] وردت بالقاموس ماء السعد.

ومن عمارة بخاري أن الرجل ربما أقام على الجريب [1] الواحد من الأرض، فيكون فيه معاشه وكفافه، هو وجماعة أهله. ولبخاري مدن في داخل حائطها وخارجه، فأما داخله فالطواويس [2] ومخلسب ومغركلن وزبيده وحجاره [3] ، وهي كلها في داخل الحائط، وكلها ذوات منابر، ومن خارجه بيكند وفرير وكرمنينه وجدمنكن وجزعامكت ومديا مجكث [4] ، وجميع المدن التي داخل الحائط متقاربة في القدر والعمارة ولجميعها قهندزات عامرة، وأسواق جادة، وبساتين كثيرة، سيما ما كان بييكند فإن بها من الرباطات ما ليس ببلدان ما وراء النهر كرباط هوا، وما يقاربه، ويقال أنه كان بها ألف رباط، ولها سور عظيم حصين، ولها مسجد جامع «1» تونق فيه، وفي بنائه، وزخرف محرابه، وليس بما ما وراء النهر أحسن زخرفة منه. وقرير مدينة قريبة من جيحون ولها قرى عامرة، وهي في نفسها حصينة، مقصودة بفاخر المطاعم والمآكل الطيبة اللذيذة، وهي مدينة بقية الحفاظ قدوة أهل المشرق والمغرب أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري وكفى [5] به فخرا باقيا،

_ [1] الجريب: مساحة من الأرض المزروعة تعادل عشرة آلاف متر مربع (فرهنگ رازي 196) وتعني المزرعة ومكيال مقداره أربعة أقفزة (المعجم الوسيط 1/119- انظر: مادة جريب بدائرة المعارف الإسلامية وبتاج العروس 1/179) . [2] الطواويس على مسافة سبعة أو ثمانية فراسخ من بخارى، ولكنها داخل السور الذي يحيط ببخارى ضواحيها وقد أخذت اسمها منذ سنة 91 هـ حين شاهد العرب الطواويس، وكان الاسم القديم لهذه الناحية أرفود (انظر: الاصطخري 313- المقدسي 281 الطبري 2/1230- ياقوت المعجم 1/209) . [3] وردت المدن التالية زرمان وربنجن وحذيمتكن وطواويس (انظر الإصطخري 334- ابن خرداذبة 26- الطبري 2/1529 النرشخي 10- ياقوت 4/268) . [4] خراجر كرمينية وخديمنكن وجرغا نكث ومذيا مجكث. [5] أضاف في الهامش (لأهلها وغيرهم) .

وذكرا دائما، وأهل بخاري يرجعون إلى أدب وعلم وفقد وديانة وأمانة وحسن سيرة وجميل معاملة وإفاضة خير وبذل معروف وسلامة نية ونقاء طويلة. ويتحدث أهل بخاري على قديم الأيام بطريف من أحاديثهم، وهو أنهم يتفاوضون من غير خلاف، أن من بركة طلعهم وقدرهم «1» أنه ما خرج منها جنازة وال قط، ولا عقد فيه لواء، ولا راية خرجت منه، وكان أول من اتخذها دارا، وجعلها قرارا من آل سامان أبو إبراهيم إسماعيل بن أحمد [1] ، فإنه جاءته ولاية خراسان وهو مقيم بها، فنزل بساحتها، واتخذها قاعدة له، ثم توالى عليها بنوه إلى آخر أيامهم، وانقضاء أحكامهم على ما قدمنا. وأما سمرقند فإنها «2» مدينة مرتفعة، ولها قهندز [2] وربض يشرف الناظر بها على شجر أخضر وقصور تزهر وأنهار تطرد وعمارة تتقد، لا يقع الطرف بها على مكان إلا ملأه ولا بستان إلا استحسنه. قال صاحب كتاب أشكال الأرض: وقد قصصت أشكال السرو «3» ، فشهت بطرائف الحيوان من الأفيلة والإبل والبقر والوحوش المقبلة بعضها على بعض كالمناجية، هذا إلى أنهار تطرد وبرك منجورة «4» ظريفة المعاني وقصور مستشرفات. قال مسلم بن قتيبة: لما أشرفت على سمرقند، شبهوها، فلم يأتوا بشيء،

_ [1] إسماعيل بن أحمد الساماني: أول سلاطين السامانيين، تولى أمر بلاد ما وراء النهر سنة 279 هـ، وقضى على عمرو بن الليث الصفار كان خيرا كريم الطبع مات سنة 295 هـ (انظر: روضة الصفا، الترجمة العربية 81- الطبري 10/74- ابن الأثير 6/77- حمد الله المستوفى 4- تاريخ بخارى لفامبري 122- زين الأخبار 21- 22- ابن كثير 11/104) . [2] قلعة.

فقال: كأنها السماء في الخضرة، وكأن قصورها النجوم الزاهرة، وكأن جداولها أنهار المجرة، فاستحسنوا هذا التشبيه. وبسمرقند حصن ولها أربعة أبواب، باب مما يلي المشرق، ويعرف بباب الصين، مرتفع عن وجه الأرض ينزل إليه بدرج كثيرة، مطل على وادي السغد، وباب مما يلي المغرب يعرف بباب النوبهار، وهو على نشز من الأرض، وباب مما يلي الشمال، يعرف بباب بخاري، وباب مما يلي الجنوب، يعرف بباب كش [1] . وفي سمرقند ما في المدن العظام من الأسواق الحسان والحمامات والخانات [2] والمساكن، ولها مياه جارية، تدخل إليها في نهر، وقد بني عليه مسناة عالية من الأرض (في بعض المواضع، بل) «1» في وسط المشرق من حجاره يجرى عليها الماء من موضع يعرف بالصفارين [3] ، إلى أن مدخل باب «2» (المدينة خندق عظيم مستقل فاحتيج إلى مسناه في هذا الخندق (المخطوط ص 77) حتى يجرى الماء إلى المدينة، وهو نهر قديم جاهلي في وسط أسواقها بموضع يعرف برأس الطاق [4] ، من أعظم موضع بسمرقند، ولهذا النهر على حاشيته مستغلات موقوفة على مرماته ومصالحه، وعليه الحفظة صيفا وشتاء، وليس [5] لسور الربض بها أبواب تغلق،

_ [1] ذكر الإصطخري أن لها أربعة أبواب هي باب الصين، وباب النوبهار أو الحديد، وباب بخارى أو أشروسنة، وباب كش أو الباب الكبير (المسالك والممالك 316- 317- ابن حوقل 365- 366 المقدسي 378- 279) . [2] الخانات مفردها خان وهو بناء لإقامة التجار يدعونه أحيانا الفندق كما عند ابن بطوطة. [3] الصفارون جمع مفرده صفار بفتح الصاد وتشديد الفاء بمعنى صانع النحاس (فرهنگ رازي 562) . [4] انظر: ياقوت المعجم 1/446 فقد وصف نفس الوصف وذكرها السمعاني دروانوه كش. [5] وردت بالمخطوط ليسوا.

ويزعم بعض الناس أن تبعا المسمى أسعد أبا كرب ابتنى مدينة سمرقند، وأن هذا القرنين أتم بعض بنائها. قال صاحب كتاب أشكال الأرض: وأخبرني أبو بكر الدمشقي قال: رأيت على بابها الكبير صفيحة حديد [1] ، وعليها كتابة زعم أهلها أنها بالحميرية [2] وأنهم يتوارثون ذلك، إنها من صنعة تبع [3] ، وبعض الكتابة أن من صنعاء إلى سمرقند ألف فرسخ. قال: ثم وقعت الواقعة بسمرقند، وأحرق الباب الذي كانت عليه هذه الصفيحة، وأعاده أبو المظفر محمد بن لقمان بن نصر بن أحمد بن أسد [4] ، حديدا، كما كان من حديد وتغيرت الصفيحة. قال بعض الأطباء: تربة سمرقند صحيحة يابسة، ولولا كثرة البخارات من المياه الجارية في سكنهم «1» ودورهم، وكثرة أشجار الخلاف عنده لا ضربهم فرط يبسها، وبناؤها من طين وخشب. وكان أهلها من إظهار المروءات أكثر «2» من سواهم والبلد كله طرقه وسككه وأسواقه وأزقته مفروشة بالحجارة، ومياههم من وادي السغد، وهذا الوادي من بلاد البتم [5] على ظهر الصاغانيان [6] ، وله مجمع ماء يعرف بمجيء مثل بحيرة،

_ [1] ذكر الإصطخري نفس هذا القول ص 318. [2] الحميرية: لغة أهل اليمن، وحمير دولة ذات حضارة قامت في اليمن عقب دولة معين وقبيل دولة سبأ، وينسب إليها الخط واللغة الحميرية. [3] تبع: لقب أعاظم ملوك اليمن وجمعه تبابعه (المعجم الوسيط 1/85) وهي مثل شاه ملك وقيصر وكسرى وخان. [4] ابن عم الأمير نصر بن أحمد بن إسماعيل الساماني المتوفى 331 هـ (روضة الصفا 89) . [5] هي بلاد البتم وهي جبال ومرتفعات. [6] هي الصغانيان (الإصطخري 340- 341- المقدسي 283) .

حواليها القرى، ومن مبدأ هذا الوادي إلى أن ينتهى إلى سمرقند أزيد من عشرين فرسخا، فإذا جاور سمرقند بنحو مرحلتين، انشعب منه نهر يعرف بقى، وليس بالصغد نهر أوفر عمارة منه، ولا أعظم قصورا وقرى وماشية. ونهر قي [1] وهو ثلث السغد، ويتشعب «1» من وادي السغد أنهار كثيرة إلى حد بخاري حيث تأخذ منه أنهار بخاري المذكورة ستة مشتبكة القرى والبساتين والأنهار (المخطوط ص 78) . ولو اطلع مطلع من الجبل على وادي السغد لرأي خضرة متصلة لا يرى من أضعافها غير قهندز أبيض [2] أو قصر سامق مشيد، فأمّا فرجة مقطعة عن الخضرة أو أرض بائرة أو غابرة فقلما ترى. قال صاحب كتاب «2» أشكال الأرض: ومن حد بخاري إلى وادي السغد يمينا وشمالا ضياع «3» تتصل إلى جبال البتم لا ينقطع خضرتها، ومقدارها في المسافة ثمانية أيام، مشتبكة البساتين الخضرة، والرياض محفوفة بالأنهار الجارية والأحواض في صدور رياضها، ومبانيها مخضرة، الأشجار والزروع ممتدة على جانبي واديها من وراء الخضرة، ومن وراء الخضرة على جانبي النهر مزارعها وقصورها، والقهندزات من كل مدينة ومدينة تبصر «4» في أضعاف خضرتها كأنها ثوب ديباج أخضر، قد سير بمجارى مياهها، وزينت بين صيف قصورها في أبهى بلاد الله وأحسنها أشجارا وأطيبها ثمارا.

_ [1] نهر فى بين اشتيخن وكشانيه (ياقوت الحموي 3/963) . [2] قلعة بيضاء.

وعامة مساكن سمرقند بالبساتين والحياض والمياه الجارية، فما تخلو سكة ولا محلة ولا ناحية ولا سوق ولا دار ولا قصبة من نهر جار أو بركة واقفة ... وبسائر ما وراء النهر من الأنهار المتخرقة [1] والرياض المتصلة، والأشجار الملتفة، والثمار الكثيرة ما لا يوجد مثله في سائر الأمصار، ولا دمشق ولا غيرها، وإن قيل أن متنزهات الدنيا أربعة غوطة دمشق أحدها، وقال بعضهم أنها أفضلها، ولكن [2] سغد سمرقند [3] أطول وأعرض وأفسح وأكثر ماء، وأمد مدى، تجول العين في فضائه. حدثني السيد الشريف جلال الدين حسن بن أبي المجاهد الحسيني [4] السمرقندي عن طول مدى السغد فقال: بقدر عشرة أيام بالسير المعتاد. قلت: وقد قال صاحب أشكال الأرض أنه يكون ثمانية أيام، فقال: لا لا يكاد يقصر من عشرة أيام، فأين غوطة دمشق من هذا أو كلها من منبع الماء من واديها إلى تناهيه، لا يبلغ نصف يوم مع كون السغد مكشوفا، تسافر العين من أوله إلى آخره (المخطوط ص 79) في فرد مدى نظر، وما غوطة دمشق هكذا، لاكتناف الجبلين لواديها، ولأن أنهار السغد واضحة في خلال خمائلها، ممتدة في بسيط الخضرة، لا يحتجب ولا يخفى عن العين، وليست الأنهار بدمشق [5] مكشوفة إلا في مجرى الوادي بها، فأما إذا أشرف المستشرف عليها، فإنه لا يرى إلا ما يليه، ولا تقع عينيه إلا على ما يحاذيه، ولقد بقى من سمرقند متعة الأبصار على ما نابها من النوائب، وأعترت أنهارها من الشوائب، وبليت به أغصانها مما تشيب له الذوائب

_ [1] الحاربة ب 94. [2] لاكن ب 94. [3] أفضل ب 94. [4] الحسنى ب 95. [5] كذا ب 95.

أيام جنكيز خان وأبنائه، وما رميت به من حوادث الحدثان في تلك المدد، وإذا حصل الاتصاف قيل أن غوطة دمشق قطعة من سغد سمرقند. وأما البتم فهو جبال شاهقة سامقة «1» منيفة، والغالب عليها «2» النزهة والخضرة والبقلة المعروفة بالطرخون [1] ، وهي قرى آهلة بالناس. وبالبتم حصون منيعة جدا، وفيها معادن ذهب وفضة وزاج ونوشادر، وفي كل جبل من جبال البتم كالغار، وقد بني عليه، وأستوثق من أبوابه وكواه. وفيها عين يرتفع منها بخار يشبه الدخان بالنهار والنار بالليل، فإذا تلبد هذا الدخان في حائط ذلك البيت وسقفه قلع منه النوشادر، وداخل هذا البيت من شدة الحر ما لا يتهيأ لأحد أن يدخله إلا احترق، إلا أن يلبس اللبود المبلولة، ويدخل كالمختلس، ويأخذ ما يقدر عليه من ذلك. قال: وهذا البخار ينتقل من مكان إلى مكان فيحضر عليه حتى يظهر، فإذا خفى في مكان حضر عليه في آخر إلى أن يوجد، وإذا لم يكن عليه مبنيا يمنع البخار من التفرق، لم يضر من قاربه، حتى إذا اختنق من بيت، احترق من يدخله لشدة الحر. وإما غزنة فكانت مستقر سبكتكين [2] والد السلطان يمين الدولة وأمين الملة محمود، فلما انقرضت الدولة السامانية [3] بابتداء أيامه، وتبدلت ملاهيهم بحد

_ [1] الطرخون: هو الترخون نوع من الخضروات (فرهنگ رازي 574) بقلة زراعية معمرة، أوراقها تؤكل (المعجم الوسيط 2/573) . [2] سبكتكين هو ناصر الدين سبكتكين، كان مملوكا لأليتگين وعمل بحجابة أبي إسحاق حتى مات الأخير فتولى أمر غزنة وأسس دولة الغزنويين (انظر: أخبارها في زين الأخبار گرديزي 54- روضة الصفا 129 وما بعدها- ابن كثير 11/286- ابن الأثير 7/86) . [3] جرجان هي گرگان، إقليم في شمال إيران محاور لخوارزم ويقع الآن في جمهورية تركمانستان.

حسامه، وكانت غزنة دارهم ومثواهم، استمروا بها، ونقلوا عن بخاري قاعدة الملك إليها، ثم تناوب بنوه (المخطوط ص 80) الجلوس على سريرها، ثم استقرت ملوك الغورية [1] ، وقاعدة سلطانهم ومنبع أعوانهم. وغزنة مخصوصة بصحة الهواء وعذوبة الماء، والأغراض «1» بها قليلة، وأرضها لا تولد الحيات والعقارب والحشرات المؤذية، ومنها خرج الرجال الأنجاد، وتأمل مواقف ملوكها في غزو الهند والترك، وذبهم عن بيضة الإسلام والملك ما أبقيت الغورية رحمهم الله على قصور عددهم، وقصر مددهم. لقد كملوا ما بدأ به السلطان محمود بن سبكتكين في غزوات الهند، وسنوابها الفتوح حتى دخل الإسلام تلك الممالك العظمى «2» ، وعلي الحقيقة ما فتحوا الهند بل «3» فتحوا الدنيا، وبذلك على هذا ما تقدم ذكره. وأما غزنة [2] فهي مدينة مضايقة للسند «4» ، وقيل أنها منها، وقال صاحب كتاب صفة الأرض أن غزنة من بلاد السند وهي واقعة في الثالث. قال أبو سعيد منصور زعيم جرجان، ولم أر بلدة في الصيف أطيب، وفي الربيع أشبه، وفي الخيرات أنظف من غزنة، وهي قليلة الأشجار، ولهذا صح هواؤها،

_ [1] التتار وتتر والتاتار قبائل سكنت شمال وسط آسيا وجاورت قبائل المغول، وضمها جنكيز خان إلى قبائله ومن التاتار قبائل همجية وأخرى متحضرة، لهم جمهورية ذات حكم ذاتي الآن في الاتحاد الروسي هي تتارستان. يقول بارتولد: أن التتار عرفوا بهذا الاسم منغوليا وعرفوا في الصين باسم مونغكو- تتا (تركستان 545) . [2] غزنة: بلد السلطان المجاهد محمود بن سبكتكين، كانت كبيرة، شديدة البرد (رحلة ابن بطوطة 261) .

وسلم من مرورها على النقائع الوخمة «1» ، وأصول الشجر العفنة. وأما تركستان فمملكة لو انفردت لكانت ملكا كبيرا، وسلطنة جليلة، زهرة الدنيا، وطراز الأرض، بلاد الترك حقيقة، من كناسها رتعت غزلانها، ومن غاباتها سرحت ليوثهم، وهي أقليم فسيح المدى قديمة الذكر، منشأ حماة، ومشب كماه، وهي المرادة بقولهم بلاد الأتراك، ولم تزل الملوك تلحظها لإتقاء بوادرها، والتقاء زواخرها، فأشد ما نكرت الأيام معالمها، وغيرت الغير أحوالها، ولقد صادفت حدة التتار في أول التيار، فجاءت قدامهم في سورة غضبهم، ولفحة نارهم، وأمالت السيوف حصائد آجالهم، ولم يبق إلا من قل عديده. حكي لي من رجال في رساتيقها [1] وجاز في قراها أنه لم يبق من نعالها إلا رسوم دائرة، وأطلال بالية على البعد «2» القرية مشيدة البناء مخضرة الأكتاف فيأنس لعله يجد بها أنيسا ساكنا، فإذا جاءها، وجدها عالية البنيان خالية من الأهل والسكان، إلا أهل العمد، وأصحاب السائمة، ليست بذات حرث ولا زرع، وإنما خضرتها مروج أطلقها باريها، وبها من النباتات البرية لا يذرها باذر، ولا زرعها زارع، ويوجد بها خلف من بقايا العلماء، ويجري التيمم بالترب لعدم الماء. وأما الشاش [2] فمقدار عرضها مسيرة يومين في ثلاثة أيام، وليس بخراسان ولا ما وراء النهر أقليم صغير على قدرها في صغر المساحة، أكثر منها منابر وقرى عامرة، وقوة شوكة، وهي في أرض سهلة ليس بها جبل ولا أرض مرتفعة حزقة هي أكثر نفر، وأبنيتهم من طين، وعامة دورهم تجرى فيها المياه، وكلها مستترة بالخضرة، ولها مدن كثيرة تتدانى وتتقارب مسافتها.

_ [1] قراها. [2] الشاش: هي جاج من أعمال أشروسنة (آثار البلاد 548- تاريخ بخارى لفامبري 94) .

وأما استيجاب [1] فمدينة لها قهندز وربض، أما القهندز فخراب. والمدينة والربض عامران، وعلى المدينة سور ويحيط بها مقدار فرسخ، وفي ربضها مياه وبساتين، وبناؤها بطين، وهي مستوى من الأرض، ولها أربعة أبواب، وهي مدينة ذات خصب وسعة، ولا خراج عليها، ومن مدنها الطراز [2] وتوجكرت وكجنده «1» . وإما باراب فهو اسم الناحية، ومقدارها في الطول والعرض أقل من يوم، وبها منعة وبأس، وهي في سبخة، ولها غياض ومزارع، وقصبتها تسمى كندر، ومنها فيلسوف الإسلام [3] أبو نصر البارابي «2» [4] مفسر كتب القدماء، (المتقدم في العلوم العقلية على كل متقدم ومتأخر، والناس يقولون الفارابي) «3» والصحيح الباربي بالباء الموحدة لأن هذه تسمية تركية، وليس في اللغة التركية [5] فاء. وأما خجنده [6] فإنها متاخمة لفرغانه، وهي في جملتها، وهي منفردة بأعمال خاصة، وهي على نهر الشاش في غربيه، وطولها أكثر من عرضها، وبساتينها ودورها متفرقة، ولها قرى يسيره، وهي مدينة نزهة، وفواكهها حسنة (المخطوط

_ [1] استيجاب هي استيجاب واسييجاب قرية قرب الشاش من بلاد فرغانة (معجم البلدان 4/1014) . [2] الطراز هي تلاس الواقعة في صحراء لامس (الجويني 2/77- 91) . [3] أبو نصر الفارابي: هو أبو نصر محمد بن محمد الفارابي من أعظم الفلاسفة، ولد في فاراب ببلاد ما وراء النهر، رحل إلى بغداد وتعلم العربية ودرس كتب أرسطو وسافر دمشق وحلب، وشرح آثار أرسطو حتى لقب بالمعلم الثاني له كتب كثيرة مات سنة 339 هـ (انظر: فرهنگ أدبيات فارسي 365- 366) . [4] وباراب تقع على ضفتي سير دريا (سيحون) (تركستان 292) . [5] وردت بالمخطوط تركية. [6] لينين آباد الحالية في تاجيكستان.

ص 82) ولكنها تنبق بها من ذرعاتها فتجلب الغلات من فرغانه وأشروسنه «1» إليها، وينحدر إليهم بها السنن من نهر الشاش، وهو نهر عظيم، ويعظم بأنهار تجتمع إليه في حدود الترك، وعموده نهر يخرج من بلاد الترك في حدود دوازكند، ثم يجتمع إليه أنهار فيغزر، ويمتد على خجنده يمر على ساكت، فيجرى إلى باراب، وإذا جاوز حد صيران جرى في برية يكون في حاشية بلد الأتراك الغربية، فيمتد حتى يقع في بحيرة خوارزم. قال صاحب كتاب أشكال الأرض [1] : وهو نهر إذا امتد يكون نحو ثلثي نهر جيحون. وأما فرغانة فهو اسم الإقليم وهو عمل عريض موضوع على سعة مدنها وقراها، وقاعدتها مدينة اخشيلب [2] ، وهي على شط نهر الشاش، على أرض مستوية، ولها قهندز وربض، ومقدارها نحو ثلث فرسخ، وبناؤها من طين، وعلى ربضها سور وعليه أبواب من المدينة، وفي الربض مياه جارية وحياض كثيرة، وكل باب من أبواب ربضها يفضى إلى بساتين ملتفة، وأنهارها لا تنقطع مقدار فرسخين، ويحاذيها إذا عبر الشاش مروج ومزارع كثيرة، رمال مقدار مرحلة، ويليها مدينة قنا «2» وهي من فرغانة، من أنزه مدنها لها قهندز وربض القهندز خراب والجامع من القهندز، وأسواقها من ربضها، ودار الإمارة في الربض، وعليه سور محيط به، ولها بساتين كثيرة، ومياه غزيرة ويليها في الكبر أوش [3] من فرغانة، ملاصقة

_ [1] سقطت كلمة الأرمن. [2] هي أخسيكث قصبة فرغانة آنذاك- جنوب غربي نامجان تقع على نهر سردريار الأيمن، لها خمسة أبواب (انظر: وصفها عند ابن حوقل 393- 394، المقدسي 371) . [3] أوش: إحدى مدن فرغانة، وكانت من أكبر مدن الثغور مع الترك، وهي ثالث مدن فرغانة من حيث الرقعة وتتكون من شهرستان وقلعة وربض (الإصطخري 335) .

للجبل، وهي مدينة عامرة ذات قهندز عامرة، ولها ربض، وعليه سور ولها ثلاثة أبواب [1] وأوزكند [2] وهي آخر مدن فرغانة لها قهندز وربض، وأسواقها في الربض مطرزة بالبساتين والمياه الجارية. قال صاحب كتاب أشكال الأرض: وليس بما وراء النهر أكثر قرى من فرغانة، وربما بلغ حد القرية مرحلة لكثرة أهلها، وانتشار مواشيهم في المرعى، وسألت عن هذا العميد أبا المكارم حميد بن محمد الفرغاني فقال: كانت أكثر مما قال، والبلاد باقية على هذه الحال في الاتساع (المخطوط ص 83) ولكن قد قل ناسها. وأما أشروسنه [3] فهو اسم لإقليم كالسغد، وقاعدتها مدينة تومجكت [4] ، وبها من المدن ارسبانيكث [5] وعرق [6] وفنكت [7] وساباط [8] ورامين [9] . قال صاحب الروض المعطار في أخبار الأقطار [10] : أشروسنة أرض يحيط بها

_ [1] الأبواب الثلاثة هي: باب الجبل، وباب النهر، وبابا مغكدره (تركستان 267) . [2] أوزكند: تكتب أيضا يوزكند بها شهرستان وقلعة وربض ولها أربعة أبواب، وتقع على نهر قرادريا (ابن خرداذبه 30) . [3] أشروسنة: إقليم من بلاد الترك عاصمته بونجكث وهي تكتب أسروشنة (انظر: ابن خرداذبة 29، الإصطخري 343. [4] نومجكث هي بونجكث أو ينجكث كانت تتكون من قلعة وشهرستان يشقه النهر، وربض (الإصطخري 326- 327، ابن حوقل 379- 380، المقدس 377) . [5] هي مدينة ارسبانيكث أو ارسيانيكث، على حدود فرغانة (المقدسي 365) . [6] عرق وهي غزن على فرسخين من فغكث وستة من خجند (الإصطخري 326) . [7] فنكث هي فغكث على ثلاثة فراسخ بونجكث على طريق خجند (ابن حوقل 404، الإصطخري 326) . [8] ساباط: وتقع ما بين سمرقند وخجند، بينها وبين زامين ثلاثة فراسخ (انظر: الإصطخري 343، المقدسي 342، ابن خرداذية 27) ، ويذكر اسكفارسكي إنها قرية اسكي سقط (تركستان حاشية ص 279) . [9] رامين: هي زامين الواقعة على ضفتي نهر، بجوار مدينة سرسنده الجديدة (ابن حوقل 380- 381، المقدس 277) . [10] الروض المعطار في أخبار الأقطار.

من إقليم ما وراء النهر من شرقيها بعض فرغانة، ومن غربيها بلاد الصغد والصغانيان، وشمالها بلاد الشاش، ولأشروسنه مدن كثيرة، ومملكتها واسعة جليلة، ويقال أن فيها أربعمائة حصن ولها واد عظيم يأتي من نهر سمرقند، ويوجد في ذلك الوادي سبائك الذهب. وقال صاحب كتاب أشكال الأرض: أما مدينة تومجكث [1] فهي مسكن الولاة، تحزر رجالها نحو عشرة آلاف رجل [2] ، وبناؤها بطين وخشب، وعليها سور، ولها ربض وعلى ربضها سور، ولها سور ثالث من وراء ذلك. وللمدينة الداخلة بابان [3] ؛ وداخل المدينة المسجد الجامع والقهندز ودار الإمارة في الربض في مربعة الأمير. ويجري بالمدينة «1» نهر كبير عليه رحى [4] وأسواقها في المدينة الداخلة، وبها بساتين وكروم وزروع، وذلك كله دون السغد، ولها أربعة أبواب، ولها ستة أنهار، جميعها من عين واحدة، ومنبع واحد، مقدار ما بها يزيد على عشرة أرحية [5] ومن المدينة إلى منبع الماء مقدار نصف فرسخ، ويليها في الكبر مدينة زامين [6] ، وهي على طريق فرغانة إلى السغد، وباقي بلادها متقاربة في الكبر والنزهة والبساتين والمياه.

_ [1] بونجكث كبرى مدن أسروشنة وقصبتها. [2] في القرن العاشر الهجري (انظر الإصطخري 327) . [3] الباب الأعلى وباب المدينة (ابن حوقل 379- 380) . [4] وردت بالمخطوط رحا وهي الناعورة- الساقية (839- 97) . [5] جمع رحى. [6] زامين: تقع على ضفتي نهر ليس بعيدا عن مخرجه من الجبال (ابن حوقل 380- 381، المقدسي 277) .

الفرقة الثانية في خوارزم والقبجاق

الفرقة الثانية في خوارزم والقبجاق «1» حدثني الشيخ نجم الدين بن الشحام الموصلي أن هذه المملكة متسعة الجوانب طولا وعرضا، كثيرة الصحراء، قليلة المدن، وبها عالم كثير، لا يدخل تحت حد، وليس لهم كبير نفع لقلة السلاح ورداءه الخيل (المخطوط ص 84) . وأرضهم سهلة قليلة الحجر لا تطيق خيل، ربيت فيها الأوعار «2» ، فلهذا يقل غناء أهل هذه المملكة في الحروب، وليس لملوكهم عظيم عناية بالأوضاع، وترتيب سلطان هذه البلاد في أمور جيشه «3» وسلطانه ترتيب مملكة العراق والعجم، في عدة الأمراء والأحكام والخدم، ولكن «4» ليس لأمير الألوس [1] والوزير بها تصرف أمير الألوس والوزير بتلك المملكة، ولا لسلطان هذه المملكة نظير ما لذلك السلطان من الدخل والمجابي وعدد المدن والقرى، ولا مشى أهل هذه المملكة على قواعد الخلفاء مثل أولئك «5» . ولخواتين هؤلاء مشاركة في الحكم معهم، وإصدار الأمور عنهم مثل أولئك وأكثر إلا ما كانت عليه بغداد بنت جوبان [2] امرأة أبي سعيد بهادر بن خدابنده،

_ [1] الإلوس: كلمة مغولية تعني قبيلة وجماعة، فهناك الوس جوجي والوس جغتاي والوس هولاكو. [2] بغداد بنت جوبان: هي بنت جوبان أمير أمراء أبي سعيد بهادر وقد قتل أبو سعيد بهادر أخاها ثم قتل أبوها وأخويها على يد حاكم هراة، وتزوج أبو سعيد بهادر من بغداد خاتون وكانت أجمل النساء وتحت الشيخ حسن فطلقها الشيخ حسن وتزوجها، وكانت أحظى النساء لديه حتى قتلت أبا سعيد بهادر لأنها هجرها فقتلها الشيخ حسن وجلس على العرش (رحلة ابن بطوطة 152- 154) .

فإننا ما رأينا في زماننا، ولا سمعنا عمن قارب زماننا أن امرأة تحكمت تحكمها، وقد وقفت علي كثير من الكتب الصادرة عن ملوك هذه البلاد من عهد بركة [1] وما بعده، وفيها وانفقت آراء الخواتين والأمراء على كذا أو ما يجري هذا المجرى. وقاعدة الملك بها السراي [2] ، وهي مدينة صغيرة بين رمل ونهر، وقد بنى بها سلطانها القائم بها الآن ازبك خان [3] مدرسة للعلم، وهو معظم لجانب العلم وأهله. وحدثني الصدر زين الدين عمر بن مسافر أن هذا السلطان أزبك غير ملتفت من أمور مملكته إلا إلى جمليات الأمور دون تفصيل الأحوال، يقنع بما جمل إليه، ولا يفحص عن وجوهه في القبض والصرف، وإن لكل امرأة من خواتينه جانبا من الجمل [4] ، وهو يركب كل يوم إلى امرأة منهن يقيم ذلك اليوم عندها، يأكل في بيتها، ويشرب [5] ، وتلبسه بذلة قماش كاملة، ويخلع التي كانت عليه، على من يتفق ممن حوله، وقماشه ليس بفائق الجنس، ولا غالي الثمن، وهو مسلم، حسن

_ [1] بركاي خان من نسل جغتاي حارب هولاكو خان وابنه آباقا خان، وكان قد أسلم وحسن إسلامه (انظر: جامع التواريخ 1/341- ح 2/14) وهو بركة بن جوجي حكم ما بين سنة 1257- 1266، تركستان 719) . [2] مدينة السراي: حاضرة السلطان أزبك، وهي من أحسن المدن قال عنها ابن بطوطة أنها في بسيط من الأرض تغص بأهلها كثرة، حسنة الأسواق متسعة الشوارع بها الآص وهم مسلمون والقفجق والجركس والروس والروم وهم نصارى (رحلة ابن بطوطة 237- 238) . [3] أزبك خان: أحد الملوك السبعة الذين هم كبار، عظيم المملكة شديد القوة كبير الشأن، رفيع المكان، قاهر لأعداء الله أهل قسطنطينية العظمى، مجتهد في جهادهم، وبلاده متسعة، ومدنه عظيمة منها الكفا والقرم والماجر وآزاق وسودان وخوارزم وحاضرته سرا (رحلة ابن بطوطة 220) وهو أزبك بن طوغريلجه بن مونكو تيمور بن توقو خان بن باتو بن جوجي حكم ما بين 1313- 1341 م (تركستان 719) . [4] وكذلك كان يفعل أبو سعيد بهادر (انظر رحلة ابن بطوطة 154) . [5] تكون كل خاتون من خواتينه على حدة في محلتها، فإذا أراد أن يكون عند واحدة منهن، بعت إليها يعلمها بذلك فتتهيأ له (رحلة ابن بطوطة 221) .

الإسلام، متظاهر بالديانة، والتمسك بالشريعة، محافظ على إقامة الصلاة، ومداومة الصيام مع قربه من الرعايا والقاصدين إليه «1» . وليست يده بمبسوطة «2» بالعطاء، ولو أراد هذا لما وفي له به دخل «3» بلاده، وغالب رعاياها أصحاب عمد «4» في الصحراء، أقواتهم من مواشيهم من الخيل والبقر والغنم، والزرع عندهم قليل، وأقله القمح والشعير، وأما الفول فلا يكاد يوجد، وأكثر الموجود عندهم من الزروع، والدخن منه أكلهم، وعليه فيما يخرج الأرض كلهم، والأسعار في جميع هذه المملكة رخية إلى غاية. الاكركانج [1] أم إقليم خوارزم، وهي المعبر عنها بخوارزم، فإنها متماسكة فيها أسعار الغلات، قل أن ترخص، بل هي إما مغلية أو متوسطة، لا تعرف الرخص أبدا، وأما اللحوم فإنها رخيصة، وكثيرا ما تذبح الخيل بهذه البلاد. وأما سكان البر منهم فإنه لا يباع ولا يشترى بينهم اللحم، وغالب أكلهم من لحوم الصيد واللبن والسمن والدخن، فإن تلفت لأحد منهم دابة مثل فرس أو بقرة أو شاة، ذبحها، (وأكل هو، وأهله منها) «5» ، وأهدى إلى جيرانه، فإذا تلفت لهم أيضا شاة أو بقرة أو فرس، ذبحها، وأهدى إلى من أهدى إليه، فلا تكاد تخلو بيوتهم من اللحم بهذا السبب لأن هذا معروف بينهم كأن هدية اللحم بينهم قرض يؤتى.

_ [1] ي گرگانج التي سماها العرب المسلمون جرجانية وسماها المغول أوركنج.

وفي سلطان هذه المملكة طوائف الجركس [1] والروس [2] والآص [3] «1» وهم أهل مدن عامرة وآهلة، وجبال مشجرة مثمرة، ينبت عندهم الزرع، ويدر الضرع، وتجري الأنهار، وتجنى الثمار، ولا طاقة لهم بسلطان هذه البلاد، وهم معه، وإن كانت لهم ملوك كالرعايا فإن داروه بالطاعة والتحف والطرف، كف عنهم، وإلا شن عليهم الغارات، وضايقهم بالحصار، وكم مرة قتل رجالهم، وسبى نساءهم وذراريهم، وجلب رقيقهم إلى أقطار الأرض. ومما ينضم إلى جناح هذا السلطان قوم من الترك في نهاية الشمال من حدوده، وهم في جهد من قشف العيش، لأنهم ليسوا أهل حاضرة لهم زرع، وشدة البرد تهلك، مواشيهم، وهم همج رعاع لا لهم مسكة بدين ولا رزانة في عقل، وهم لشدة ما بهم من سوء الحال إذا (المخطوط ص 86) وجد أحدهم لحما سلقة [4] ولم ينضجه، وشرب مرقه، وترك اللحم ليأكله مرة أخرى، ثم يجمع العظام، ويعاود سلقها «2» مرة أخرى، ويشرب مرقها، وقس على هذا بقية عيشهم. وأخبرني الصدر جمال الدين عبد الله الحصني التاجر؛ أن ليس كثير من أهل

_ [1] الجركس: أو الشركس أو نشر كسيا، قوم يقطنون إقليما شاسعا من ولاية كوبان في روسيا أوروبا، والشراكسة رعاة ومقاتلة، في الغالب طوال القامات، عراض المنكبين، نحاف الجسوم صغار اليدين والرجليين، (دائرة معارف البستاني 10/439) . [2] الروس: قوم كانوا ضمن أملاك الوس جوجي وأولاده وكان بعضهم يسكن مدينة السرا عاصمة دولتهم في القرن الثامن الهجري، وكانوا في المنطقة الواقعة شرقي جبال آرال. [3] الآص: هم الآس ويعرفون عند بعض الكتاب بالآلان والأوسنيت (جامع التواريخ ح 1/212) والأوسيت الآن إقليم ذات حكم ذاتي في الاتحاد الروسي وتسمى أوسيتيا الشمالية وآخر تابع لجورجيا ويسمى أوسيتيا الجنوبية وبها يسكن الآص. [4] ورد بالمخطوط صلقه.

بادية هذه المملكة الجلود، سواء أن كانت مذكاة أو ميتة، مدبوغة أو غير مدبوغة، من الحيوان الطاهر أو غير الحيوان [1] الطاهر «1» ، ولا يعرفون في المأكل ما يعاف مما لا يعاف ولا التحريم من التحليل، وأنهم في الأزمات يبيعون «2» أولادهم ليتقوتوا بأثمانهم إذا ضاقت بهم الأحوال في بعض السنين، ويقولون عمن يبيعونه من أولادهم: نعيش نحن (ولا) [2] وهو خير مما نموت نحن وهو. وجاريت «3» الصدر زين الدين عمر بن مسافر في حديث هذه البلاد، وسألته عما قاله عبد الله الحصني، فقال: كل ما أخبرك به صحيح. قلت: وترك هذه البلاد هم خيار الترك أجناسا، لوفائهم وشجاعتهم، وتجنبهم الغدر مع تمام قاماتهم، وحسن صورهم، وظرافة شمائلهم، ومنهم معظم جيش مصر لأن سلاطينها وأمراءها منهم منذ رغب الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل [3] في مشترى المماليك القبجاق، ثم انتقل الملك إليهم، مالت ملوكهم إلى الحبشية [4] ، ورغبت في الاستكثار منهم، حتى أصبحت مصر بهم آهلة المعالم، محمية الجوانب، منهم أقمار مواكبها، وصدور مجالسها وزعماء جيوشها «4» وعظماء أرضها، وحمد الإسلام مواقفهم في حماية الدين، وجهادهم أقاربهم،

_ [1] تكرار لعبارة غير الحيوان. [2] أظنها زائدة. [3] الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل: آخر سلاطين الدولة الأيوبية في مصر، حارب الفرنجة، ومات وخلفه ابنه تورانشاه ولكنه قتل وتولت حكم البلاد شجرة الدر ثم عز الدين أيبك ثم تولى حكم المماليك وانتهى عصر الأيوبيين بموته (انظر: دائرة المعارف الإسلامية) . [4] المماليك الذين يجلبون من الحبشة.

وأهل جنسهم، من الله، (لا تميل لهم جنة) «1» ، ولا تأخذهم في الله لومة لائم، وكفى بالخيرة الأولى نوبة عين جالوت [1] لما خرج الملك المظفر قطز، صاحب مصر [2] ، إذ ذاك في سنة ثمان وخمسين وستمائة، وكسر عساكر هولاكو أعلى عين جالوت، ورحل هولاكو عن حلب، عائدا، ونهض الجيش المصري بما عجزت عنه ملك أقطار الأرض مع اجتهاد السلطان جلال الدين محمد بن خوارزمشاه [3] (المخطوط ص 87) رحمه الله، حتى قتل. ولم يكن الجيش المصري بالنسبة إلى الجيوش الجلالية إلا كالنقطة في الدائرة، (والنغبة من البحر) «2» ، والله يؤيد بنصره من يشاء، وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين [4] . «3» ، وهذا من المعجزات النبوية وهو قوله صلى الله عليه وسلم [5] لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين

_ [1] عين جالوت: من مدن الشام، وفيها وقعت معركة حامية بين المغول والمصريين بقيادة قطز في 2 سبتمبر سنة 658 هـ (النجوم الزاهرة 7/79، ابن كثير 13/220، السيوطي 475، ابن إياس 1/306، القلقشندي 2/105) . [2] قطز: الملك المظفر قطز المعزى، هزم التتار في عين جالوت، كان أتابك الملك المنصور علي بن عز الدين أيبك، وعزله، وقام في السلطة مكانه، قتله الظاهر بيبرس سنة 658 هـ بعد موقعة عين جالوت (العبر 5/247، ابن كثير 13/222، المقريزي ق 1 ج 2/434) . [3] جلال الدين محمد بن خوارزمشاه وآخر سلاطين الدولة الخورازمية حارب التتار وقاومهم، وضاعت دولته في أول هجماتهم، قتل سنة 629 هـ (العبر 5/114) ، وهو جلال الدين منكبرتي أو منكبرتي بن علاء الدين محمد ابن نكش بن إيل أرسلان بن أتسز بن قطب الدين محمد بن أنوشتكين غرجة حكم 1220- 1231 م (تركستان 511) . [4] إشارة إلى قوله تعالى: ... قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة: من الآية 249] . [5] انظر: الحديث النبوي الشريف في سنن الترمذي 2192، مستدركات الحاكم تصوير بيروت 4/550، سنن ابن ماجه، عيسى الحلبي القاهرة 6.

على من عاداهم إلى يوم القيامة لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك ألا وهم الجند الغربي. وقوله ألا وهم الجند الغربي زيادة في الروايات، وهذه الرواية إن لم تصح روايتها، صحت بالمعنى، لأن هذه الطائفة وهي كانت الطائفة الظاهرة التي أرادها النبي صلى الله عليه وسلم في قولهم «1» وعناهم بها، لأنه لم يظهر على التتار سواهم، وبهذه النصرة، دامت النصرة على التتار، وكانت بهم لا بغيرهم مع كثرة من كان من ملوك الإسلام، واجتهادهم في الجهاد، فتماسك بهذه المرة رمق الإسلام، وبقيت بقية الدين، ولولا هم لا نصدع شعب الأمة، وو هي عمود الملة، ووصلت خيل عبدة الشمس إلى أقصى المغارب، ودكت جميع رعان «2» الأرض. وهذه جملة معترضة ساقها الاستطراد بذكر أهل تلك البلاد، ونعود الآن إلى ذكر «3» ما كنا فيه من ذكر بلادهم وأحوالهم فيها. هذه البلاد أكثر الأرض ماء ومرعى وأخصبها زرعا إذا زرع بها، ولكنهم أهل حل وترحال، أصحاب ماشية، ليس لهم مبالاة بالزرع والغراس، ولقد كانت قبل استيلاء التتار عليها، معمورة الجوانب، وهي الآن في بقايا تلك العمارة «4» فيها الأشجار المختلفة الأنواع، من الفواكه العنب والرمان والسفرجل والتفاح والكمثرى والمشمش والخوخ والجوز، وبها فاكهة تسمى بلغة القبجاق بابيك شبيهة بالتين، والفواكه الموجودة عندهم الآن من بقايا ما باد من غراس من كان قبل هؤلاء ممن كان لهم عناية بالزرع والنصب، وهي كثيرة الوجود في جبالهم، وما يحدث إلى المدن (المخطوط ص 88) مع كثرة ما بادوا.

وأما البطيخ فسحت عندهم سحابه، وشحت على غيرها خاصة الأصغر، فإنه ما يبقى عندهم طول السنة، ويقدد منه وهو في غاية صدق الحلاوة، وطيب الطعم مع ما يحكى من كثرة وجوده ورخصه، ومنهم من يستخرج ماءه ويعقد منه الحلوى. وبمدنهم كثير من الخضراوات كاللفت والجزر والكرنب وغير ذلك، فأما في مدن الجركس والروس واللاص فإنه كثير عندهم جدا، وبها العسل الكثير الأبيض اللون اللذيذ الطعم الخالي من الحدة، وقد نشأ الآن فيهم الإسلام، وأشرق على أقطارهم نور الإيمان. وكان أول من دان بالدين الحنيف من ملوكهم بركة بن جوجي [1] «1» بن جنكيز خان ومنه لمعت في آفاقهم الشوارق إلى أن صدع الآن الضحى، وتقلصت في جمهورهم «2» المعظم جلابيب الدجى، إلا في النادر القليل، ومع استعلائهم على جيوش الجركس والروس والماجار [2] والأرمن [3] «3» تختلس تلك الطوائف أولاد هؤلاء وتبيعهم من التجار، ومع ظهور الإسلام في هذه الطائفة، وإقرارهم بالشهادتين فهم مخالفون لأحكامها في كثير من الأمور، وأول هذه الطائفة وآخرها لا يقفون مع ياسه «4» جنكيز خان وقوف غيرهم مع مؤاخذة بضهم لبعض أشد

_ [1] أسلم بركة بن جوجي بن جنكيز خان على يد معلمه المسلم (طبقات ناصري طبعه سخاو 446) . [2] الماجار: قوم من الترك كانوا يسكنون في مدينة الماجر وهي مدينة كبيرة من أحسن مدن الترك على نهر كبير وبها البساتين والفواكه الكثيرة (انظر: رحلة ابن بطوطة 219) . [3] الأرمن هم أهل أرمينية (أرمنستان) الذين بقاياهم ببلاد سيس (صبح الأعشى 1/370) وهي الآن جمهورية أرمينيا.

المؤاخذة في الكذب والزنى ونبذ المواثيق والعهود. ومن شأن ملوكهم إذا غضبوا على أحد من أتباعهم أخذوا ماله، وباعوا أولاده، وكذلك إذا سرق سرقة استحق المسروق له مال السارق وأولاده، وباعهم، ومن خطب إلي أحد «1» بنته، وأعطاه القليل، زوجه لها ثم لا يعود يسأله عنها كما ذكرنا في مملكة ما وراء النهر. وقال لي المولى الفاضل نظام الدين أبو الفضائل يحيى بن الحكيم، أن لسلطان هذه المملكة على جميعهم خراج، يتأدى منهم زرعا «2» ، طولبوا بالخراج في سنة ممهلة لوقوع الموتان بدوابهم أو سقوط الثلج (وجماد الجمد) «3» ، فباعوا أولادهم لأداء ما عليهم. وحدثني الشريف (المخطوط ص 89) شمس الدين محمد الحسيني الكربلائي التاجر في شهر رجب الفرد «4» سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة حالة عوده من هذه البلاد، وكان قد تجول فيها في سفره وتغرب فيها، ووصل إلى أقجاكرمان وبلاد البلغار، وقال لي: أنه اشترى في سفرته هذه مماليك وجواري من آبائهم وأمهاتهم لإحتياجهم لخروج يسق [1] ملكهم إليهم بالركوب «5» إلى بلاد إيران، واحتاجوا إلى بيع أولادهم وجلب منهم رقيقا عاليا غاليا. وهذه المملكة قديما هي بلاد القبجاق فلما فاضت عليها التتار صارت القبجاق لهم رعايا، ثم خالطوهم وناسبوهم، وغلبت الأرض على الجبلة والأصل، فصار الكل كالقبجاق كأنهم جنس واحد لسكن المغل بأرض القبجاق ومصاهرتهم لهم،

_ [1] اليسق؛ الأمر والحكم.

وبلادهم في أرضهم، وهكذا طول المكث في كل بلد وأرض تجوز التجايز «1» إليها، ويحول الغرائز إلى طباعها كما قدمنا ذكره، (وقد يقل اختلاف الألوان ويزيد لسبب آخر غير البلدية) «2» . قلت: ولقد كان في السرب والبلغار من قديم دار إسلام ومستقر إيمان، ذكر هذا المسعودي في مروج الذهب [1] «3» . فأما الآن فقد تبدلت بإيماتها كفرا وتداولتها طائفة من عبّاد الصليب، ووصلت منهم رسل إلى حضرة سلطان «4» مصر سنة إحدى وثلاثين بكتاب إلى سلطانها من صاحب السرب والبلغار، يعرض نفسه على مودته، ويسأل منه سيفا يقلده «5» ، وسنجقا يقهر أعداؤه به، فأكرم رسوله، وأعد نزله وجهز له معه خلعة كاملة، طرد وحش مقصب بسنجاب مقندس على مفترح اسكندري، وكلوته زركش وشاش بطرزين رقم ومنطقة ذهب وكلاليب ذهب وسيف محلي، وسنجق سلطاني أصفر [2] مذهب، وهم يدارون سلطان القبجاق لعظمة سلطانه عليهم (المخطوط ص 90) وأخذه بخناقهم لقربهم منه. قلت: والقسطنطينية [3] مجاورة لأطراف ملك القبجاق، وملك الروم معه في

_ [1] مروج الذهب ومعادن الجوهر من أهم كتب التاريخ في القرن الرابع الهجري مؤلفه أبو الحسن بن علي حسين المسعودي المتوفي سنة 346 هـ، ويتناول الكتاب وقائع البشر من مولد آدم حتى سنة 332 هـ وهذا الكتاب مطبوع في أربعة مجلدات في عدة طبعات في القاهرة وبيروت ودمشق. [2] سنجق: اللواء (المعجم الوسيط 1/471) . [3] القسطنطينية: مدينة متناهية في الكبر، منقسمة قسمين بينها نهر، عظيم المد والجزر، أحد القسمين يسمى إصطنبول والثاني الغوطة (رحلة ابن بطوطة 232- 233) .

طلب دائم، واقتراحات متعددة في كل وقت وملك الروم على توقد جمرته وكثرة حماته وأنصاره يخاف عادية شره، ويتقرب إليه بالمداراة، ويدافع معه الأيام من وقت إلى وقت، وما زالت الأيام هكذا وما زالت تلك حالهم مع ملوك هذه من أبناء جنكيز خان، منذ تدبروا هذه الأرض، وما تخلو منهم «1» مدة من تجديد عهود، ومسالمة إلى مدد تؤجل بينهم، وأشياء تحمل من جهة ملوك الروم إلى القان بمملكة القبجاق. ذكر العز الحسن الأربيلي أن بدر الدين حسن الروسي التاجر السفّار، حدثه أن حدود هذه المملكة من جهة جيجون خوارزم وصقناق وسوداق وباركند. وجند وسراي ومدينة ماجروازاق والجاكرمان وكفه سوداق وسقسين والكل وبلغار، وأعمال سبروابو (وباشغرد، وجولمان ثم بصر جولمان يتصل حدود أعمال سبر بأوائل) «2» حدود بلاد الخطا. قال: ومدينة باكو [1] هي أحد مدن أقليم شروان [2] ، وعندها الباب الحديد الذي يسميه الترك دمرقبو ومن الباب الحديد الذي هو عبارة عن مدينة باكو إلى حدود بلاد الخطا من جهة سبر وأبر يكون مسير القفل مسيرة خمسة أشهر، هذا هو طول هذه المملكة «3» وفي هذه المملكة من الأنهار الكثيرة المشهورة، سيحون، وجيحون، وطونا، وايتل، وباين، وتن، وطرلو، فمن سيحون إلى طونا مسيرة أربعة أشهر، وبين سيحون وجيحون خمسة عشر يوما، ومن جيحون إلى باين خمسة عشر يوما، ومن باين إلى أتيل عشرة أيام، ومن أتيل إلى تن شهر واحد، ومن تن

_ [1] باكو مدينة عامرة على شاطىء بحر الخزر، عاصمة جمهورية آذربيجان الحالية. [2] شروان: إقليم في بلاد القوقاز وهي غير شيروان إحدى قرى بخارى بجوار بمجكث، وذكر البغدادي شروان قرب بحر الخزر (مراصد الاطلاع 2/793) .

إلى طرلو عشرة أيام، ومن طرلو إلى طونا شهر واحد، ويقلب «1» جيحون وأتيل إلى بحر القلزم وسيحون (المخطوط ص 91) منهى إلى مقصبة «2» ، ورمل تحت مدينة جند بثلاثة إيام فيقلب هناك، وتأتي الأنهر المذكورة تقلب إلى بحر عمان، وهذه السبعة أنهر في هذه المملكة، ويتصل منها إلى أقليم ما وراء النهر سيحون وجيحون. قلت: الذي يصح أن جيحون يقلب في بحيرة ملح نحو مائة فرسخ، ويقع بها نهر الشاش أيضا، وأما من زعم أن جيحون يرمى في القلزم [1] فغلط منه، وإنما اشتبه ذلك لعظم هذه البحرة «3» ، وبين مرمى جيحون ونهر الشاش نحو من عشرة أيام، وتعرف هذه ببحيرة خوارزم [2] ، وعلى وسطها جبل يسمى جفر يجمد عنده الماء حتى يبقى إلى الصيف. قال الأربيلي: ومن مشاهير مدنها بلغار، وأقصر ليلها أربع ساعات ونصف. قال حسن الرومي: ثم سألت مسعود الموقت بالبلغار عن هذا فقال جربناها بالآلات الرصدية، فوجدناه أربع ساعات ونصف تحريرا، وهو غاية نقصان الليل بها. وأما قصبة [3] افتكون فحررناها فوجدنا أقصر ليلها ثلاث ساعات ونصف أقصر من ليل البلغار بساعة واحدة. قال: وبين بلغار وافتكون مسافة عشرين يوما بالسير المعتاد، والقصبة في مصطلح العجم المدينة الصغيرة.

_ [1] القلزم أيضا هو البحر الأحمر الآن، نسبة إلى مدينة على ساحل بحر اليمن (الأحمر) وهي على آخره من جهة مصر وهي السويس حاليا (انظر: مراصد الاطلاع 3/1117) . [2] بحيرة خوارزم: يصب بها ماء جيحون وسيحون، ماؤها ملح ولا ينقص (مراصد الاطلاع 1/168) . [3] القصبة: المدينة (المعجم الوسيط 2/766) .

قال: وبعد افتكون بلاد سبر، وأبر، ثم بعدها بلاد جولمان فإذا سافر المسافر من جولمان على شرقيها يصل إلى مدينة قراقرم ثم إلى بلاد الخطا وبها القان الكبير، وهي من بلاد الصين، قال وإن سافر المسافر على غربيها وصل إلى بلاد الروس، ثم إلى بلاد الفرنج وسكان البحر الغربي، (قلت: أما الآن فمقر القان خان بالق) «1» ، قال وبلاد السبر وجولمان مضافة إلى باشغرد [1] وفي بلاد باشغرد قاضي مسلم معتبر، وبلاد السبر وجولمان شديدة البرودة لا يفارقهم الثلج مدة ستة أشهر، لا يزال يسقط على جبالهم وبيوتهم وبلادهم ولهذا (المخطوط ص 91) ولهذا تقل مواشيهم عندهم، وهم سكان قلب الشمال، والواصل عندهم «2» وإليهم من الناس قليل، والأقوات عندهم قليلة، ويحكى عنهم أن الإنسان منهم يجمع عظام أي حيوان كان، ثم أنه يغلي عليها بقدر كفايته ثم يتركها وبعد سبع مرات لا يبقى فيها شيء من الدهن. قال: وهم مع ضيق العيش ليس في أجناس الرقيق أنعم من أجسامهم ولا أحسن من بياضهم، صورهم تامة الخلقة في حسن وبياض ونعومة عجيبة زرق العيون. وقال العز حسن الأربيلي: وحسن الرومي سافر في هذه البلاد وذكر أكثرها، وقال: قال لي «3» الشيخ علاء الدين بن النعمان الخوارزمي أن طول هذه المملكة من بحر اسطنبول إلى نهر أرلين ستة أشهر، وعرضها من بلغار إلى بلاد بلغار إلى باب الحديد أربعة أشهر تقريبا، وأما الشبهة «4» في دعوى ملوك القبجاق أن توريز،

_ [1] باشغرد هي باشكرد أحد أقاليم بلاد ما وراء النهر، وهم جنس من الترك باسم البشكرديه لهم إقليم مستقل الآن داخل الاتحاد الروسي. وباشغرد بلاد بين القسطنطينية وبلغار (مراصد الاطلاع 1/153) .

ومراغة [1] لهم على ما أخبرني به المولى نظام الدين أبو الفضائل يحيى الطياري أن القان الكبير، لما جرد هولاكو لقتل الإسماعيلية، ومن كان يتعصي بالجبال، سأله هولاكو في تكثير الجيوش معه، فجرد معه من عسكر كل واحد من ملوك بني جنكيز خان عسكرا. فلما فتح بهم ما فتح من البلاد بقيت تلك العساكر معه فرتب لكل فرقة منهم علوفة على قطر من الأقطار، فكان ما رتب للعسكر المجرد معه من جهة صاحب بلاد القبجاق وخوارزم على توريز ومراغه، فبقوا يأخذوا علوفتهم منها، ثم لما مات هولاكو، وملك ولده ابغا خادعوه بطريق «1» أن سلطانهم بركة يريد أن يبنى جامعا بتوريز فمكنهم منه، فبنوه، وكتبوا عليه اسم السلطان بركة؛ ثم سألوا أن يعملوا لهم كرخاناه [2] «2» لاستعمال أقمشة لهم بها فمكنهم منها، وبقوا يستعملون بها القماش للسلطان بركة، ودام الحال على هذا إلى أن وقع بينهما، وتلاقيا، وكسر بركة لابغا فحنق أبغا (المخطوط ص 93) وأبطل الكرخاناه. ثم لما نسيت تلك الواقعة الكائنة وهدىء ما بين ملكي الملكين، أعيدت الكرخاناه، على أنهم هم يحضرون من بلادهم أموالا لاستعمال ما شاءوا فيها، فلما تمادت المدد، وجعلوا الجامع والكرخاناه المبنين باسم «3» السلطان بركة سببا لهذه «4» الدعوى، ولقد جاءت رسلهم إلى محمود غازان يطلب توريز ومراغه، وقالوا له هذه جيوش أبينا، فتحها بسيوفهم، وهي لنا وحقنا بالإرث عنهم، فأعطنا حقنا،

_ [1] وردت مراغا. [2] كرخاناه هي كارخانه وتعني مصنع أو معمل من الكلمة الفارسية كارخاته بنفس المعنى (فرهنگ رازي 676) .

فقال لهم قازان [1] : أنا ما أخذت الملك إلا بالسيف لا بالميراث، وما أخذته وحزته بسيفي توريز ومراغه، وبيني وبينكم السيف فيها، ثم لم يزل السلطان أزبك القائم الآن بمملكة القبجاق يتعلق بحبال هذه الشبهة ويطالب بدعوى هذه الوراثة، وسئل الشيخ علاء الدين بن النعمان عن جيوشه فقال كثيرة تفوق الحصر، فقال كم هم بالتقريب؟ فقال لا أعلم، لكن خرج مرة عليه وعلى القان الكبير أسنبغا [2] سلطان ما وراء النهر، وتغلب، وقطع الطريق، وقال: أنا أحق بالملك منهما، ونهب السيارة، وأخرج يدا عن طاعة القان فكتب القان إلي تقنقا بأن يقاتله، فجرد إليه من كل عشرة واحد، فبلغ عدد المجردين مائتا وخمسين ألفا، قال: النعمان وهذا الذي دخل تحت العدد والإحصاء سوى المجتمعة والطماغة. قال: وألزم كل فارس بغلامين، وثلاثين رأسا من الغنم وخمسة رءوس من الخيل وقدرين نحاسا، وعجلة يرسم حمل السلاح، وغزا استنبغا، وكسره، وانتصر عليه نصرة ظاهرة، ثم عاد مؤيدا منصورا. قال: النعمان مبدأ عرض هذه المملكة من دمر قبو وهي مدينة من بناء «1» الإسكندر كان عليها باب من الحديد، وليس هو الآن، إلى بلاد بوغزة، وطولها من ماء لمرنس «2» ، وهو أعظم من نيل مصر بكثير من ناحية بلاد الخطا إلى اصطنبول [3] وتجاوز هذا الطول قليلا إلى بلاد تمسى نمج [4] .

_ [1] قازان هو غازان بن أرغون بن آباقا بن هولاكو حكم ما بين سنة 1295- 1304 م (تركستان 717) . [2] أسن بغا بن دوا بن براق بن أسن دوا بن موتكن بن جغتاي حكم ما وراء النهر 1310- 1318 (تركستان 721) . [3] إصطنبول: هي أسطنبول، وهي القسم الواقع بالعدوة الشرقية من النهر وهي مدينة في سفح جبل داخل البحر نحو تسعة أميال وهي قسم من القسطنطينية (رحلة ابن بطوطة 233) وهي الآن إستانبول وأسلامبول والأستانة. [4] نمج من بلاد الروس.

(المخطوط ص 94) . قال: وبلاد نمج مشتركة بين بلاد الروس والفرنج. قال النعمان: والتجار لا يتعدون مدينة بلغار يسافرون إلى بلاد جولمان، وتجار جولمان يسافرون إلى بلاد بوغزه لأنها في أقصى الشمال وليس بعدها عمارة غير برج عظيم من بناء الإسكندر على هيئة المنارة العالية وليس بعده مذهب إلا الظلمات [1] ، فسئل: أي شيء عندك الظلمات؟ قال: صحار وجبال لا يفارقها الثلج والبرد، ولا تطلع عليها الشمس ولا ينبت فيها نبات، ولا يعيش فيها حيوان أصلا [2] ، متصلة ببحر أسود لا يزال يمطر، والغيم منعقد عليها، ولا تطلع عليه الشمس أصلا أبدا. قال: النعمان: «1» إن الإسكندر مر بأطراف أوائل جبال الظلمات القريبة من العمارة فرأى فيها إنسانا من جنس الأتراك أشبه الناس بالوحوش، لا يعرف أحد بلغتهم، وإذا مسكهم أحد فروا من يده، يأكلون من نبات الجبال المجاورة لهم، فإذا قحطوا أكل بعضهم بعضا فمر بهم ولم يعترضهم. قال: النعمان وقد ذكر صاحب مملكة القبجاق، وأكثر رعية هذا الملك سكان غربي الشمال، وهم أمم لا يحصون، وأكثر هم روس، ثم من بعدهم أتراك دشت القبجاق، وهم قبائل كثيرة، فيهم مسلمون، وفيهم كفار، ويبيعون أولادهم وقت الغلاء والقحط، وأما في الرخص فيسمحون ببيع البنات دون البنين، ولا يبيعون الولد الذكر إلا عن غلبة.

_ [1] أرض الظلمة (انظر: الحرائط المرفقة) . [2] والسفر إليها لا يكون إلا في عجلات صغار تجرها كلاب كبار فإن تلك المفازة فيها الجليد، فلا تثبت قدم الآدمي ولا حافر الدابة فيها، والكلاب لها الأظفار فتثبت أقدامها في الجليد (رحلة ابن بطوطة ووصف أرض الظلمة 225- 226) .

وحدثني الفاضل شجاع الدين عبد الرحمن الخوارزمي الترجمان أن مدينة السراي بناها بركة قان على شط نهر توران [1] ، وهي في أرض سبخة بغير سور، ودار الملك بها قصر عظيم، على عليائه هلال ذهب قنطاران بالمصري، ويحيط بالقصر سور به أبراج مساكن لأمرائه، وبهذا القصر مشتاهم. قال: وهذا النهر يكون قدر النيل ثلاث مرات أو أكثر، وتجري به السفن الكبار (المخطوط ص 95) تسافر إلى الروس والصقلب [2] ، وأصل هذا النهر أيضا من بلاد الصقلب. قال: وهي يعني السراي [3] مدينة كبيرة ذات أسواق وحمامات ووجوه «1» مقصودة بالأجلاب في وسطها بركة ماءوها «2» من هذا النهر، يستعمل ماءوها للاستعمال، وأما شربهم فمن النهر، يستقى لهم في جرار فخار، ويصف على العجلات، وتجر إلى المدينة، وتباع بها، وبعدها عن خوارزم نحو شهر ونصف، وبينها وبين السراي مدينة «3» وحق ومدينة قطلوكت، ودينارهم رائج عنه ستة دراهم. قال: والأسعار في خوارزم والسراي لا يكاد يتباين ما بينهما، والرطل الخوارزمي وزنه ثلاثمائة وثلاثون درهما، وأقواتها فيما يذكر من القمح والشعير

_ [1] نهر توران: اسم منطقة يحدها من الغرب خوارزم ومن الجنوب نهر جيحون (تقويم البلدان 483) ومدينة سراي بركة وسراي واقعة على نهر يسمى الآن بنهر أتيل (انظر: الخرائط المرفقة) وذكره ابن بطوطة نهر اتل (رحلة ابن بطوطة 237) . [2] الصقلب: هم الصقالبة، جيل من الناس كانت مساكنهم إلى الشمال من بلاد البلغار وانتشروا الآن في كثير من شرقي أوروبا وهم المسمون الآن بالسّلاف. [3] هناك مدينتان باسم السراي، إحداهما باسم سراي بركة والأخرى السراي ويقعان على نهر واحد مع بلغار.

والدخن ويسمى عندهم الأزرن [1] والماش [2] والجاورس [3] وهو شبيه بحب البرسيم وليس يباع عندهم هذه الحبوب إلا بالرطل يقال كل حمل حمار بكذا، وحمل الحمار عندهم مائة رطل، بهذا الرطل، والسعر المتوسط للقمح بدينارين ونصف، وكذلك الماش والشعير بدينارين، وكذلك الدخن وكذلك الجاورس أو أزيد، والغالب أن يكون سعره قياس سعر القمح، وسعر الشعير واللحم الضاني على السعر المتوسط في كل ثلاثة أرطال بدرهم. وبها من أنواع الفواكه إلا النخل والزيتون وقصب السكر والموز والأترج والليمون والنارنج، وفيها من أنواع الطير والوحش، وبها الغزلان كبارا جدا، يكون الغزال قد «1» بقر الوحش. وبها معدن يخرج منه أحجار يعمل منها قدور، تقيم القدرة نحو ستين سنة، ولا يتغير، وبها جبل يقال له جبل الخيل «2» من خوارزم، به عين تعرف به «3» ذوو الأمراض المزمنة، يقيمون عندها سبعة أيام في كل يوم يغتسلون بمائها بكرة وعشية، ويشربون عقيب كل اغتسال إلى أن يتضلعوا «4» فيحصل له البرء، ويجيحون سمكة لا يوجد بها عظم إلا الميل الذي في سلسلة الظهر بشعب وإلا فكلها لحم ورأسها (المخطوط ص 96) غضروف. وخوارزم [4] على جيحون بين شعبتين منه مثل السراويل، وبخوارزم مائة بيت

_ [1] الأزرن: نوع من الحبوب شبيه بالأرز وليس هو وقريب من القمح والشعير (فرهنگ عميد 1/112) . [2] الماش: نوع من الحبوب يشبه العدس وهو من نوعية القمح (انظر: فرهنگ عميد 2/1737) . [3] الجاورس هو گاورس الذرة العويجة، نوع من الذرة ثمرته في أعلاه (انظر: فرهنگ عميد 2/1674) . [4] أكبر مدن الأتراك وأعظمها وأجملها وأضخمها، لها الأسواق المليحة والشوارع الفسيحة والعمارة الكبيرة. (رحلة ابن بطوطة 239) .

يهود، ومائة بيت نصارى لا غير، ولا يسمح لهم في الزيادة على ذلك. ويلي خوارزم أرض مدورة وتسمى هذه الأرض المدورة منقشلاغ «1» [1] ، طولها خمسة أشهر، وعرضها كذلك، وكلها صحراء، وسكانها أمم كثيرة من البرجان، ويفصل بين هذه الأرض وبين جيحون جبل اسمه آق بلقان شمالي خراسان، وخوارزم أقليم منقطع عن خراسان وعما وراء النهر، ويحيط فيها المفاوز من كل جانب، وحده متصل بحد الغربة مما يلي الشمال، والغرب وجنوبيه وشرقيه خراسان، وهي على جانبي جيحون، وقصبته في الجنوبي الشمالي منه، ويسمى كات «2» [2] باللغة الخوازرمية، وفي الجانب الجنوبي الجرجانية «3» . وفي هذا الإقليم عدة مدن، وأول مدن خوارزم بلد يسمى الظاهرية مما يلي آمل، وتمتد العمارة في جانبي جيحون معا، وملوك هذه المملكة مشتاهم السراي كما ذكرنا، ومصيفهم بم. وجميع «4» ملوك توران وتتارها بجبل اسمه آراق طاغ طوله من أقصى الصين إلى أقصى الغرب، ينقطع بالبحر المحيط عند منتهى سبته، ويقع البحر الرومي، وكلما أشتق منه وسائر بلاد توران في جنوبه. وحدود مجموع مملكة أزبك طولا من درغان خوارزم من المشرق إلى كاشغر [3] «5»

_ [1] منقشلاغ، شبه جزيرة (انظر: معجم البلدان 4/670) . [2] كاث: رستاق عاصمة خوارزم (تركستان 250) . [3] وردت بالمخطوط باشغر.

وعرضا من خوارزم إلى أقصى «1» بلاد سبر [1] التي يجلب منها السمور والسنجاب، وهي من بلاد الصقالبة، قال: وليس بعدهم في العمارة شيء «2» . وقال: وقد جاء بعدي فتى من بعض «3» أهلها كيف تكون صلاة أهل بلد لا يغيب عندهم الشفق حتى يطلع الصبح لسرعة انقضاء الليل؟ قال: فلما صارت هذه المملكة بعد ملوك الخوارزمية إلى بني جنكيز خان استمروا بعساكر خوارزم على حالهم على إقطاعاتهم، وكل من كان بيد آبائه شيء، هو الآن بيد ابنائه «4» . قال: والأمراء لهم بلاد منهم من يغل «5» (المخطوط ص 97) بلاده في السنة مائتي ألف دينار رائجا وما دون ذلك إلى مائة ألف دينار رائجا «6» . وأما الجند فليس لأحد منهم إلا نقود تؤخذ من علي النطع، وكلهم سواء، لكل واحد منهم في السنة مائتا دينار رائجا، وقد كان زيهم زي عسكر مصر والشام في الدولة الإسلامية، وما يناسب ذلك فأما الآن فزيهم زي التتار إلا أنهم بعمائم صغار مدورة.

_ [1] يقصد بلاد سيبر وهي سيبيريا الآن، وهي أرض الظلمة التي ذكرها ابن بطوطة في رحلته ص 225.

الفصل الرابع في مملكة الإيرانيين

الفصل الرابع في مملكة الإيرانيين

«1» وهي العراق والعجم [1] وخراسان [2] ، هذه المملكة طولا من نهر جيحون المحيط بآخر حد خراسان إلى الفرات القاطع بينها وبين الشام، وعرضا من كرمان المتصل بالبحر الفارسي المنقسم من البحر الهندي إلى نهاية ما كان بيد بقايا الملوك السلجوقية بالروم، على نهاية حدود العلايا وأنطاكية من البحر الرومي [3] ، ويفصل في الجانب الشمالي بين هذه المملكة وبين بلاد القبجاق النهر المجاور لباب الحديد، وهو المسمى باللغة التركية دمرقابو [4] ، وبحر طبرستان وهو المسمى ببحر الخزر وبالقلزم [5] . أخبرني الفاضل نظام الدين أبو الفضائل يحيى بن الحكيم الطياري أن هذه المملكة تكاد تكون تربيعة [6] ، فيكون طولها بالسير المعتاد أربعة أشهر، وعرضها أربعة أشهر، وهذه هي المملكة الصائرة إلى بيت هولاكو بن تولي «2» بن جنكيزخان، وتداولها السلاطين من أبنائها «3» إلى الآن. وهي متوسطة في المعمور؛ من أجلّ ممالك الأرض وأوسطها في الطول والعرض، وبها تخت الأكاسرة [7] إلى أن تسلمه الإسلام، ثم استقرت بها قاعدة الخلافة

_ [1] إيران: العراق العجمي. [2] خراسان: أحد الأقاليم الإيرانية المشهورة يقع شمال شرق إيران، وعاصمته نيسابور. [3] البحر الرومي: البحر الأبيض المتوسط. [4] دمرقابو: من اللغة التركية بمعنى الباب الحديد. [5] ويدعى أيضا بحر قزوين وبحر مازندران وبحر طبرستان وبحر گيلان. [6] أي مربعة الشكل. [7] جمع مفرده كسرى وهو حاكم الفرس من الكلمة البهلوية خسرو (فرهنگ رازي 277) .

العباسية إلى آخر الأيام، ذات أقاليم كثيرة. ومدن كثيرة «1» ، مشتملة على رساتيق [1] وأعمال وخطط وجهات. وقاعدة الملك بها الآن توريز [2] ثم السلطانية وبيت هولاكو يرون أن الملك من قعد على التخت باوجان وأوجان (المخطوط ص 98) في ظواهر توريز. وفيها من الممالك العظيمة العراقان؛ عراق العرب، وعراق العجم وخراسان وكرمان وفارس وآذربيجان وآران والري والجبال وديار بكر وربيعة والجزيرة وأرمينية [3] وكرجستان [4] والروم [5] ، وإذا أنصفت هذه المملكة كانت قلب الدنيا على الحقيقة. وهذه المملكة تندرج في مطاويها عدة ملوك كلهم عبيد سلطانها، كصاحب هرى [6] ، وأصل اسمها «2» هراة، وصاحب كرمان [7] وصاحب كيلان [8] ، وصاحب سمنان وصاحب مالاين «3» وصاحب أرزن، ونحن نتكلم على قواعد الملك بها. أما توريز فواقعة في آذربيجان، وهي مدينة قديمة، أغرقت «4» في السعادة أنسابها، وثبتت في النعمة قواعدها.

_ [1] جمع مفرده رستاق وتعني قرى (فرهنگ رازي 408- فرهنگ عميد 2/1072) . [2] وهي تبريز. [3] هي جمهورية أرمينيا الآن. [4] هي جمهورية جورجيا الآن. [5] هي جمهورية تركيا الآن. [6] هرى وهراة: وهي مدينة قائمة الآن في أفغانستان. [7] كرمان: إقليم شرقي إيران. [8] كيلان هي گيلان وجيلان.

وأما السلطانية فواقعة في عراق العجم بناها السلطان محمد خدابنده أو بخانتوين «1» أرغون بن أبغا بن هولاكو [1] ، «2» بناءها، ووسع فناءها، وأتقنت قسمتها في الخطط والأسواق وجلب إليها الناس (من أقطار الأرض) «3» ، ومن أقطار مملكته، واستجلبهم إليها بما بسط لسكانها من العدل والإحسان، وهي الآن عامرة آهلة، كأنما مرت عليها مئين [2] سنين، لكثرة من استوطنها، وتأهل بها وأولد من الولد فيها، وقد مضت عليها مدة بلغ بنوها مبالغ الرجال، ومنهم من جاز إلى رتبة الاكتهال. وأما أوجان فهي بظاهر توريز ذات مروج ممتدة وماء جم، وبها قصر اتخذه أواخر ملوكهم صار معدا لمنزل السلطان، وبنى أكابر الأمراء قصورا لمنازلهم حوله، فأما عامة الخواتين والأمراء والكراء «4» ، فإنهم يتخذون زروبا [3] من القصب كالحظائر، ينزلون بها أيام نزولهم بأوجان [4] في مشاتيهم، وينصبون مع حظائرهم [5] الخركاوات [6] والخيم، وتمتد الأسواق، وتبقى مدة مشتهاهم بها «5» ، مدينة متسعة

_ [1] أولجايتو بن أرغون بن آباقا بن هولاكو المعروف عجمد خربنده ثم خدابنده حكم ما بين 1304- 1316 في إيران والعراق وهو السلطان الثامن في سلسلة أبناء هولاكو (تركستان 717) . [2] أمئات أو مئوية. [3] زروبا جمع مفرده زريبة وهي الحظيرة. [4] وردت بالمخطوط أوجاب. [5] وردت بالمخطوط حضائرهم. [6] خركاوات جمع مفرده خركاه وهي خيمة كبيرة (فرهنگ رازي 272، فرهنگ عميد 1/850) .

الجوانب، فسيحة المذاهب، حتى إذا رجعوا (عنها) «1» إلى مصيفهم راحلين عنها، أحرقوا تلك الحظائر، لكثرة ما يتولد فيها يحرق من الأفاعي (المخطوط ص 99) والحيات. أخبرني الفاضل نظام الدين أبو الفضائل يحيى بن الحكيم أنه يغرم على تلك الحظائر خزائن أموال ثم يحرقونها لا يبالون؛ وملوك هذه المملكة مشتاهم باوجان، وفي بعض السنين ببغداد، وأما مصيفهم في قراباغ [1] «2» باللغة التركية وحتى البستان الأسود، وتربته سوداء، ثم قرى ممتدة، وهو صحيح الهواء والماء، كثير المرعى، وإذا نزل به الأردو، والأردو [2] هو محلة السلطان، وأحدث الأمراء به والخواتين منازلهم ينصب به مساجد جامعة وأسواق منوعة، يوجد بها من كل ما [3] في أمهات المدن الكبار، (حتى يكون للخياطات أسواق ومحلات) «3» ولا ينكر على أحد بل كل امرئ وما استحسن، وإنما الموجودات على كثرتها من (الملابس) «4» والمأكل والمشارب والماعون، وأجر الصنائع غالية جدا، لكلفة المحمل، ومؤنة الأسفار، حتى يبلغ الشيء ثمن مثله مرتين وأكثر. وأما الكلام في توريز فإنها مدينة غير كبيرة المقدار والماء مساق «5» إليها، وبها أنواع الفواكه، ولكنها ليست بغاية في الكثرة.

_ [1] قراباغ: إقليم ذات حكم ذاتي تابع لأرمينيا وواقع في آذربيجان، وهو قره باغ أي الحديقة السوداء باللغة التركية. [2] المعسكر. [3] وردت بالمخطوط كلما.

وأما أهلها فمن أظهر الناس حشمة، وأكثرهم تظاهرا بالنعمة، ولهم الأموال المديدة والنعم الوافرة والنفوس الأبية للدنايا، ولهم التجمل في زيهم جميعه من المأكول والمشروب، والملبوس والمركوب، وما منهم إلا من يأنف أن يذكر الدرهم في معاملته بل لا معاملة بينهم إلا بالدينار وهو مسمى عندهم بالرائج، عندهم ستة دراهم، هو معاملة تلك المملكة إلا بغداد وبلادها «1» وخراسان. فأما معاملات بغداد فستأتي في مكانها، وأما خراسان فدينارها أربعة دراهم، كما تقدم ذكره في مملكة ما وراء النهر، وفي بعضها هذا الرائج. ولنرجع إلى ما كنا في ذكره من أمور توريز، فذكرنا أنها مدينة ليست بخارقة في الكبر، ولا لها حواضر في خارجها، وهي اليوم أم إيران جميعا لتوجه القاصد (المخطوط ص 100) من كل جهة إليها، وبها محط رحال التجار والسفّار، وبها دور أكثر الأمراء الكبراء المصاحبين لسطاتها، لقربها من أوجان، وهي مستقر أكثر أوقاتهم، ويشتد البرد بتوريز كثيرا، وتتوالى الثلوج بها حتى أنه ليتخذ سروات أهلها في أدرهم أدر [1] «2» مستوية لا انفراج «3» وفي سقوفها ولا في دوائرها ولا ضوء لها إلا ما تؤديه طاقات حيطانها من وراء الزجاج المركب عليها. وأما السلطانية فأوسع بقعة وقضاء وأكثر فاكهة وماء، وهي مع كون بعض سلاطين هذا البيت أنشأها، إلمامهم بها أقل من توريز، وبها قلعة مبنية مرجلة على بسيطها، فأما الموجود بتوريز وبالسلطانية من الفواكه فمن أنواعها خلا ما لا يطلع في البلاد المفرطة البرد كالأترج والنارنج والليم والليمون والرطب والقصب والموز، وما يجري هذا المجرى، فإنه لا يجيء إليها إلا محمولا من العراق، هي بلاد ما

_ [1] أدر جمع مفردة دار، وتجمع دور وأدر.

للزيتون بها نبات، فأما ما عدا هذا من الثمار والرياحين وغالب الخضروات، فإنها لا تعدم، وأنواعها من كثير ومتوسط وقليل على اختلاف الشجر والنبات والقمح والشعير والحمص والعدس، والفول متوسط الوجود بها، ولو توفرت الدواعي على الفلاحة والزرع لكثرت مغلاتها، وعظمت جباياها «1» لكن «2» ملوكها لا التفات لهم إلى ذلك. فأما الأسعار بتوريز والسلطانية فمتى نزل السلطان على جهة، غلت أسعارها لكثرة أتباعه والنازلين معه، مع قلة الزرع في الأصل، وأما ما لا ينزل عليه السلطان، فأسعاره رخية، ولا إلى غاية، ولا يباع بتوريز والسلطانية وبلادهم (يعني أهل هذه المملكة غالبا) «3» ، في الغالب قمح ولا شعير ولا شيء مما سوى هذا إلا بالميزان، وليس لهم إلا المن [1] وهو بتوريز رطلان بالبغدادي فيكون زنته مائتين وستين درهما، وبالسلطانية المن زنته ستمائة درهم وأما معاملتهم فكما تقدم بالدينار الرائج. سألت الفاضل نظام الدين أبا الفضل يحيى بن (المخطوط ص 101) الحكيم عن السعر المتوسط في توريز والسلطانية، فقال: أما مع نزول السلطان فغلاء حيث كان، وأما مع عدم نزوله فلا يكاد يتفاوت، يباع الخبز كل منين بسدس دينار، وهو درهم واحد، وهكذا الشعير إذا رخص قليلا، وأما في السلطانية فعلى نسبة هذا السعر، وأما ما يباع بالأردو، فأغلى [2] لتكليفه حمولته، وأما اللحم في الكل فكثير جدا. ومما لابد من ذكره في هذه المملكة مدينة بغداد دار السلام ومدار الإسلام لأنه مما لا يجوز إهمال ذكرها وإخلاء هذا الكتاب من شيء عن حالها، فإنها، وإن لم

_ [1] المن: ميزان يختلف مقداره من مكان لآخر. [2] وردت بالمخطوط أغلا.

تكن اليوم كرسي ملك، فإنها كرسي ملك الوجود، وقد تقدم القول أن المنصور أبا جعفر [1] «1» بناها، وهي جنبان على ضفتي دجلة، شرقي وغربي كل منهما مدينة كبيرة عظيمة غنية بنفسها عن الأخرى، إحداهما بناء المنصور، والأخرى بناها «2» المهدي [2] موضع معسكره، وبينهما جسران منصوبان، أحدهما يعرف بالعتيق والثاني بالجديد [3] ، وهما منصوبان على دجلة شرقا بغرب على سفن وزواريق أوقفت في الماء، ومدت بينها السلاسل الحديد المكعبة بالكعاب الثقال، وفوقها الخشب الممدد وعليهما التراب مغدف بالقير [4] يمر عليها أهل كل جانب إلى الآخر بالجمال والخيل والحمول، وعلى ضفتي دجلة قصور الخلافة والمدارس والأبنية العلية، بالشبابيك والطاقات [5] المطلة على دجلة. وبناؤها بالآجر وهو المسمى بمصر الطوب، ومن بيوتها ما هو مفروش بالطوب وما هو مفروش بالقير، ولهم الصنائع العجيبة في التزويق بالطوب، وبها تتلاقى دجلة والفرات، وبها البساتين المونقة، والحدائق المحدقة. وأما النخيل فلثمراتها فضل على ما سواها من أنواع منوعة من التمر والرطب

_ [1] أبو جعفر المنصور الخليفة العباسي الثالث، أنشأ بغداد ما بين سنة 145- 146 هـ وسماها مدينة السلام (انظر: بناء مدينة بغداد في كتاب تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ج 1/66- 79) . [2] المهدي: محمد بن المنصور ثالث خلفاء الدولة العباسية 158- 169 هـ/ 775- 785 م، اشتهر بحروبه مع البيزنطيين أنشأ الطرق العامة وحسن جهاز البريد (انظر تاريخ بغداد أو مدينة السلام لأبي بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي المتوفى 463 هـ دار الفكر بيروت) . [3] انظر: ابن بطوطة 149. [4] مغدف بالقير: مغطى بالقير، من غدف وأغدف وأغدف الليل أرخى ستوره، والغدافى ما كان لونه أسود (المعجم الوسيط 2/669) . [5] طاق: فتحة جمعه طاقات وتعني النوافذ.

وبها أنواع الرياحين والخضروات والغلال، وسعرها متوسط في الغالب، لا يكاد يرخص، بها ديناران أحدهما يسمى العوان عنه اثنا عشر درهما، الدرهم بقيراط وحبتين، وذلك الدينار عشرون قيراطا (المخطوط ص 102) ، كل قيراط ثلاث حبات، كل حبة أربع فلوس نقرة [1] عن كل «1» فلسان أحمران. والثاني الدينار المرسل به أكثر ومبايعاتهم ومعاملات تجارهم عنه عشرة دراهم. فأما الرطل البغدادي فوزنه مائة وثلاثون درهما، والمن بها مثله من توريز، وهو رطلان بالتوراني، وأما كيل الغلال بها فأكثرها الكز [2] ، وهو ثلاثون كاره [3] وكل كاره قفيزان فيكون الكز ستون «2» قفيز [4] ، والقفيز مكوكان «3» والمكوك [5] خمس عشر آق [6] . وتختلف الكاره في الغلال والقمح والهرطبان «4» ، وهو كارة كل منهما مائتان وأربعون رطلا، وكارة الأرز ثلثمائة رطل، وكارة كل من الشعير والحمص والعدس

_ [1] النقرة هي الفضة (فرهنگ عميد 2/1915، فرهنگ رازي 959) . [2] الكز: گز مقياس يعادل متر، وهو كز بالكاف الفارسية (فرهنگ رازي 758) . [3] كاره: مقياس قديم. [4] وردت بالمخطوط قفيزان، والقفيز مقياس قديم (فرهنگ رازي 665) . [5] مكوك: مكيال قديم يختلف مقداره باختلاف اصطلاح الناس عليه في البلاد، قيل: يسع صاعا ونصفا، جمعه مكاكيك (المعجم الوسيط 2/917) . [6] آق: هي آقة: نقل قدره أربعمائة درهم أو ثمانية وأربعون ومئتان وألف جرام، بطل استعمالها في مصر جمعه أقق (المعجم الوسيط 1/22) .

(والهرطبان) «1» مائتا رطل، وكارة الحبة السوداء المسماه بالشونيز مائة رطل. قال الفاضل نظام الدين أبو الفضائل يحيى بن الحكيم إن القانون ببغداد أن كز القمح تسعة وثلاثون دينارا ونصف دينار، والشعير خمسة عشر دينارا، كلاهما من العوان «2» . قال: ولعل هذا السعر المتوسط، لا يكاد يميل فيه القانون عن معدله، وأما إذا كان المشتى ببغداد، فناهيك بقلة الأقوات والغلاء الزائد، وإذا شتى السلطان ببغداد (ناهيك بقلة الأقوات) «3» ، نزل بدار تعرف بالجاثليق [1] من أدر الخلافة، وهي الآن باقية البناء تامة البهجة صالحة لمنازل الملوك. قال قاضي القضاة أبو محمد الحسن الغوري أنها ليست من ديار الخلفاء، بل هي دار الدوادار [2] الكبير وكان قد نزلها الجاثليق في زمان هولاكو، وكان معظما عنده لمكانته من قطر خاتون زوجة هولاكو [3] . ولقد «4» سألت الصدر مجد الدين «5» بن الدوري عن السبب في قلة الغلال ببلاد العراق مع امتداد سوادها وقبول أرضها للنبات، فقال: لهذا سببان قلة الزّراع لما استهلكه القتل زمان هولاكو، ومبرة العراق لما جاوره من البلاد.

_ [1] الجاثليق: رئاسة الكهنة السريان في بلاد المشرق (الأعلام للزركلي 5/308 ومقدم الأساقفة جمعه جثالقة (المعجم الوسيط 1/111) . [2] الدوادار: من الكلمة دوات دار أي صاحب الدواة، يعني الكاتب (انظر: فرهنگ رازي 356) . [3] قطر خاتون زوجة هولاكو هي دوقوز خاتون كانت مسيحية وهي ابنة ملك الكرايت (جامع التواريخ 2/220) .

وببغداد خاصة وهذه المملكة عامة الآثار الجميلة والآثار الباقية من الجوامع والمساجد والمدارس والخوانق [1] (المخطوط ص 103) والربط والبيمارستانات [2] «1» والصدقات الجارية ووجوه البر المتعددة. ومن يوفى صفات محاسن العراق «2» ، وقد كانت قبلة ملوك الآفاق، وما بالعهد من قدم، ومنها قلائد الأعناق، وترابها لمى القبل وإثمد الأحداق. وسألت الفاضل نظام الدين أبا الفضائل يحيى بن الحكيم إن كانت الأوقاف باقية في نواحي هذه المملكة عليها الآن أم تناولتها أيدي العدوان، فأخبرني بأنها جميعها جارية من مجاريها، لم يتعرض إليها متعرض لا في دولة هولاكو ولا فيما بعدها بل كل وقف بيد متوليه ومن له الولاية عليه وكل ما يقال من نقص أحوال الأوقاف بإيران جميعا هو من سوء ولاة أمورها لا من سواهم. وحدثني هذا الفاضل نظام الدين أبو الفضائل يحيى بن الحكيم الطياري بكثير من أحوال هذه المملكة وقواعد ملوكها وترتيب جنودها وجيوشها، فمما حدثني أن السلاطين بها لا التفات لهم إلى أمر ولا نهي في البلاد، ولا في متحصلات الدخل والخرج فيها بل الوزير هو حامل هذه الأعباء، وله التصرف المطلق في الولاية والعزل والعطاء والمنع، لا يشاور السلطان إلا على ما جل من المهمات، وفيما قل من الأمور، بل هو السلطان حقيقة، وصاحب البلاد معنى، وإليه ترجع الأمور كلها، وبيده عقدها وحلها. فأما أمر الجيوش والعساكر فإلى كبير أمراء الألوس وهو المسمى بكلاري بك،

_ [1] خوانق جمع مفرده خانقاه، مكان يقيم فيه المتصوفة، وهي الصومعة والتكية (فرهنگ رازي 261) . [2] البيمارستانات جمع مفرده بيمارستان، وترد أحيانا مارستان في الفارسية وغالبا في العربية وهي دار الشفاء (فرهنگ رازي 74) ويذكرها ابن بطوطة مانستار (رحلته ص 235) .

أي أمير الأمراء، كما كان قطلوشاه [1] مع السلطانيين محمود غازان وأخيه محمد خدابنده وجوپان مع محمد خدابنده ثم بعده مع ولده السلطان بو سعيد بهادرخان، وهذا القائم الآن الشيخ حسن بن حسين بن آقبغا [2] مع أنه السلطان محمد بن طشتمر [3] بن استمر بن عبرجى «1» وأمراء الألوس أربعة بكلاري بك، وثلاثة آخر، ويسمى هؤلاء الأربعة أمراء القول، ويشترط أن يكون هؤلاء هم الذين تكتب أسماؤهم في اليراليغ [4] والفرمانات [5] بعد اسم السلطان، ثم اسم الوزير بعدهم ولا يتوقف في كتابة (المخطوط ص 104) اسم من الأسماء ممن هو غائب منهم عن الأردو، بل تكتب أسماؤهم كلهم، حضر منهم من حضر وغاب منهم من غاب، وكل ذي سيف لا يخرج أمره عن القائم بهذه الوظيفة التي هي إمرة أمراء الألوس، وكل ذي قلم ومنصب شرعي لا يخرج عن الوزير، وطبقات الأمراء أعلاها والنوين [6] وهو أمير عشرة آلاف، ثم أمير ألف، ثم أمير مائة، ثم أمير عشرة، هذه طبقات رتبهم لا نقص فيها ولا مزيد عليها وعامة العسكر لا تزال أسماؤهم في دواوينهم على الإفراد بل كل طائفة عليهم في الديوان فارس معين، إذا رسم له بالركوب، رعبوا «2» منهم العدة المطلوبة.

_ [1] قطلوشاه أو قتلوشاه من كبار القادة المغول، قتل سنة 707 هـ (انظر: الدرر الكامنة 7/339) . [2] حسن بن حسين بن أقبغا وهو ابن عمة السلطان أبو سعيد بهادر وقد تغلب على الملك بعد موت السلطان (انظر رحلة ابن بطوطة 154) . [3] طشتمر بن اسنتمر بن عبرجي هو طاش دمر. [4] يراليغ جمع مفرده يرليغ وهي كلمة مغولية بمعنى حكم أو أمر (فرهنگ رازي 1038) . [5] الفرمانات جمع مفرده فرمان والفرمان هو الحكم والأمر. [6] نوين: نوين ونويان، لفظ مغولي لأمراء وقواد المغول الكبار (فرهنگ رازي 971، فرهنگ عميد 1/234- 235) ونوين معناها رئيس تومان أي رئيس فرقة مكونه من عشرة آلاف (انظر حاشية كاترمير على جامع التواريخ 86- صبح الأعشى 4/423) .

وسألت الفاضل أبا الفضائل يحيى بن الحكيم عن مقدار عدة الجيش فقال: أما المنزل في دواوينهم فما يبلغ عشرين تومانا [1] ، وأما إذا أرادوا ركبوا بثلاثين تومانا، وما يزيد عليها وهم اليوم في انبتات شمل «1» ، وشتات آراء، لا يلتم لهم جمع، ولا يضمهم وفاق، قلت له: فكم مقدار «2» ما لهؤلاء من الأرزاق؟ فقال: أما ما هو مستقر لهم في دواوينهم من زمان هولاكو فلا يرضى أحدهم من كبارهم به ولا بأضعافه مرات، وأما الصغار فما يتجاوز واحد منهم المستقر له. قلت: فكم هو المستقر في الديوان؟ وبكم يقنع كبارهم الآن؟ فقال لي: المقرر من قديم لكل نوين أمير تومان، تومان وهو عشرة آلاف دينار رائج عنها ستون ألف درهم، وأما اليوم فما يقنع النوين منهم إلا بخمسين تومان وهي خمسمائة ألف دينار رائج، عنها ثلاثة آلاف ألف درهم، ومن خمسين تومان إلى أربعين تومان، وأما كبيرهم بكلاري بك فالذي استقر لجوبان ثم لمن بعده ثلاثمائة تومان، وهي ثلاثة ألف ألف دينار عنها ثمانية عشر ألف ألف درهم، مع ما يحصل لكل من أمراء الألوس الأربعة من الخدم الكثيرة في البلاد جميعها عند تقديرات الضمان لها على ضمانها، على ما تنبه عليه في موضعه. قال: وأما أمير الألف ومن دونه فلا يتجاوز أحد منهم مقرره القديم في الديوان لأمير الألف ألف دينار رائج عنها ستة آلاف (المخطوط ص 105) درهم، وأما أمير المائة والعشرة «3» ، وكل واحد من العسكرية أي الجند، فمائة دينار رائج، عنها ستمائة درهم لا تفاوت بينهم، هذا هو المقرر الجاري من قديم، وإنما تبقى مزية أمير المائة أو العشرة أنه يأخذ لنفسه شيئا مما هو للعسكرية.

_ [1] تومان: قائد ألف في العصر المغولي (فرهنگ عميد 1/234) وهي تعادل عشرة آلاف دينار (فرهنگ رازي 179) وتومان تعني عشرة ريال في العصر الحديث.

ولكل طائفة أرض لنزولهم توارثها الخلف عن السلف منذ ملك هولاكو هذه البلاد، فيها منازلهم، ولهم بها مزدرع لأقواتهم، لكنهم «1» لا يعيشون بالحرث والزرع. هذه جملة ما هو لعساكر إيران مما ازداد، وما هو مستقر في الديوان، وأما الخواتين فالذي لهن الآن منه ما يبلغ للخاتون الواحدة، مائتا تومان، وهو ألف ألف دينار، عنها اثنا عشر ألف ألف درهم، وما دون ذلك إلى عشرين تومان، وهو مائتا ألف دينار عنها ألفان ألف ومائتان ألف درهم. وقال لي الفاضل أبو الفضائل [1] يحيى بن الحكيم: وهذا قد يزيد وينقص. وأما الوزير فله مائة وخمسون تومانا، هو ألف ألف وخمسمائة ألف دينار رائج، عنها تسعة آلاف ألف «2» درهم، قال: ولا يقنع بعشرة أضعاف هذا في تقارير البلاد. وأمّا الخواجكية [2] من أرباب الأقلام فمنهم من يبلغ في السنة ثلاثين تومانا، وهي ثلاثمائة ألف دينار عنها ألف ألف. وثمانمائة ألف درهم، قال: وبهذه المملكة ما لا يحصى من الإدرارات والمعيشات والمرسومات، حتى أن بعض الرواتب تبلغ عشرين ألف دينار، وأما الإدرارات من المبلغ أو القرى فإنها تبقى لصاحبها كللك «3» يتصرف فيه كيف شاء، من بيع وهبة ووقف لمن أرادوا المعايش لمدة الحياة غير المرسومات والإنعامات، قال: وهي ما لا يحصى.

_ [1] ورد بالمخطوط أبي الفضائل. [2] الخواجكيه جمع مفرده خواجه وهو لقب يعادل كلمة السيد والرئيس، وهنا تعني الكاتب، وكان هذا اللقب يطلق على أهل العلم والأدب (انظر: فرهنگ رازي 290) .

قال: ومن هؤلاء من المستوفيين [1] من له الضبط على اتساع أقطار الممالك. قال: وأما وظيفة القضاة فعادة هذه المملكة أن يكون بها في صحبة السلطان قاضي قضاة الممالك وهو يولى في جميع المملكة على تنائى أقطارها إلا العراق، فإن لبغداد قاضي قضاة (المخطوط ص 106) مستقل بها، يولى بها، وفي بلادها جميع عراق الغرب «1» . وقال لي قاضي القضاة أبو محمد الحسن الغوري، أن آخر ما استقر له ست قرى وتومان «2» عشرة آلاف دينار في السنة. قال الفاضل نظام الدين أبو الفضائل يحيى بن الحكيم: أن ملوك هذه المملكة وأمراءها «3» لهم ميل كلي إلى الشراب، فملوكها «4» اشتغالهم كله «5» بلذاتهم، وأمور دولتهم منقسمة بين أمراء الألوس والوزير على ما تقدم، ولاشتغال سلاطينهم «6» باللذات وانعكافهم «7» على منى نفوسهم، ومنتهى شهواتهم أعرضوا عن تدبير البلاد وأحوالهم، ولم يفكروا في مالها أن كثر أو قل، وبمملكتهم كيش [2] ونعمان، وهما مغامس اللؤلؤ، وبالدامغان في جبلها معدن ذهب. قال لي شيخنا الإمام العلّامة فريد الدهر شمس الدين أبو الثناء محمود

_ [1] المستوفى، هو المحاسب والمحصل للحقوق وهي وظيفة (انظر: فرهنگ رازي 860) . [2] كيس: تعجيم قيس، جزيرة في وسط البحر تعدين أعمال فارس وتعد من أعمال عمان (مراصد الاطلاع 3/1192) وهي الآن جزيرة كيش.

الأصفهاني: إن هذا المعدن قليل المتحصل لكثرة ما يحتاج من الكلف حتى يستخرج، وبشتكاره شرقي العجم البازهر [1] الحيواني، يوجد بمعاليق الأيائل وهو الذي لا يباريه شيء في مقاومة السموم. قال ابن البيطار [2] وأجوده الأصغر ثم الأغبر وخاصته النفع من السموم الحيوانية والنباتية، ومن عض الهوام ولدغها، وإذا شرب منه مسحوقا أو مسحولا وزن أثنى عشر شعيرة، خلص من الموت، وإذا امتصه تبادر للسم نقعه، وإن نثر على موضع لسع الهوام حين يلسع اجتذب السم، وبها الإثمد على مسافة يوم من أصبهان [3] في حفر بالأرض، وهو الذي لا يقوم شيء مقامه، وإنما قل النوع الجيد الآن. سألت شيخنا شمس الدين محمود الأصفهاني عن سبب قلته، فقال: لانقطاع عرقه، فما بقى منه يوجد إلا ما لا يرى منه. وبهذه المملكة مستعملات «1» القماش الفاخر من النخ والمخمل [4] والكمخا والعتابي والنصافي والصوف الأبيض المارديني [5] ، وهو في النهاية في بابه، ويعمل

_ [1] البازهر: هو من الكلمة الفارسية پادزهر المأخوذة من الپهلوية Patyahr وتعني ضد السم، الترياق المضاد للسم (فرهنگ عميد 1/417) . [2] ابن البيطار: أبو محمد عبد الله بن أحمد ضياء الدين ابن البيطار المالقي عالم النباتات والأعشاب، ولد أواخر القرن السادس الهجري، له الجامع في الأدوية المفردات أو الجامع لمفردات الأدوية والأغذية (دائرة المعارف الإسلامية 1/226- 227) . [3] أصبهان هي أصفهان إحدى المدن الإيرانية مجاورة لبلاد اللور (ياقوت الحموي 2/404) . [4] النخ والمخمل: النخ نوع من القماش القطني أو الحريري (فرهنگ رازي 944) والمخمل نوع من القماش الناعم (فرهنگ رازي 839) . [5] الكمخا والعتابي والنصافي والمارديني: أنواع من الأقمشة.

البسط الفاخرة في مواضع بها مثل شيراز [1] وأقصرا [2] وتوريز. وحدثني (المخطوط ص 107) شيخنا فريد الدهر شمس الدين أبو الثناء محمود الأصفهاني أن بمدينة قمشمير مسرة «1» ثلاثة أيام عن أصفهان عين ماء سارحة نزرة «2» ، يسمى ماؤها بماء الجرادلة، خاصيته أن يحمل من مائها في إناء إلى الأرض التي أتاها الجراد، فيعلق ذلك الإناء في تلك الأرض، فيقصدها ما لا يحصى من طير، يقال له سار [3] يأكل ما فيها من الجراد حتى يفنى «3» . قال شيخنا شمس الدين: وتعليق هذه الإناء شرط في خاصيته، بحيث لا يمس الأرض من طريقه ولا في مكان تعليق. وحكى لي الأمير السيد المجيد في كتابه محمد بن حيدر الشيرازي أنه بين الدامغان واسترآباذ من خراسان عينا ظاهرة إذا ألقى فيها نجاسة، فار ماؤها وأزيدت وتكدر جوها [4] «4» . وحدثني شيخنا فريد الدهر شمس الدين الأصفهاني أن بمازندران، وهي المسماة طبرستان عين ماء، من حمل من مائها، تبعته دودة طول أنملة الإنسان، فلو

_ [1] شيراز: قاعدة فارس، وهي مدينة أصيلة البناء، تضارع دمشق (انظر: وصفها عند ابن بطوطة ص 136) . [2] أقصرا: من بلاد الروم وتابعة لملك العراق (انظر: رحلة ابن بطوطة 196) . [3] سار: طائر صغير أكبر من العصفور يظهر أول الربيع غذاؤه العنب والتوت، لحمه حلال (فرهنگ عميد 2/1143) . [4] وردت هذه القصة عند كثير من المؤرخين وفي أماكن أخرى فقد ذكرها ميرخواند في كتابه روضة الصفا (انظر: الترجمة العربية ص 132) كما ذكرها نظام الدين أحمد في طبقات الكبرى (انظر: الترجمة في رسالة دكتوراه للمحقق بجامعة القاهرة 1/6، وعند ابن الأثير في كامله 7/87، وابن كثير في البداية والنهاية 11/286) .

حمل الماء تسعة، وكان معهم عاشر لم يحمل الماء، تبع كل واحد ممن حمل دودة، ولم يتبع العاشر الذي لم يحمل شيئا، فإن قتل واحد منهم تلك الدودة استحال الماء مرا لوقته، واستحال ماء كل من هو وراءه مرا، وأما من هو على جانبه فلا يستحيل ماؤه. ومن عادة هذا السلطان أن يصحبه في الأردو في كل حل ومرتحل أعيان من العلماء والمدرسين برواتب جاريات «1» على السلطان، ومع كل منهم فقهاء وطلبه، وهؤلاء هم المسمون بمدرس السيارة، ومعهم أعيان الحواصلية الرؤساء، وطوائف الدواوين والكتاب ومن جميع أرباب الصنائع والمهن، حتى يكون الأردو كالمدينة العظيمة، ينزل ويرحل معه «2» ، وأخبرني الصدر مجد الدين إسماعيل السلامي أنه يوجد بالأردو خيم وخركاوات منصوبة تكترى للناس [1] لمن يصحب الأردو وماله مأوى أو من يجيء غريبا إليه، يكتريها، وينزل فيها، وبها الكبار والمتوسطات والصغار وأسواقهم «3» ، وهي المسماة بالبازار [2] ، مشتملة على ما يكون في المدن العظام من الملبوس والمطعوم والمشروب وغير ذلك بما لا حاجة بنا إلى ذكره، وليس يعترض ناسكهم على فاتكهم، ولا قاتلهم من باسلهم. ومن قاعدة هذا السلطان أنه إذا نزل منزلا وهو المسمى عنده البيرق [3] ، ينصبه بالبعد منه علمان لا يتجاوزهم راكبه، وأمراؤه يلتزم معه أعظم الآداب، فما منهم أحد إذا قارب خركاه القان على نحو عشرين علوة نشاب أو أكثر إلا ينزل عن فرسه ويمشى.

_ [1] تؤجر للناس. [2] البازار: السوق (فرهنگ رازي 42) . [3] يرق: وهي يورت بمعنى مقام، خيمة (فرهنگ رازي 1043) وتأتي بمعنى أردو (تركستان 561) .

قال لي الصدر مجد الدين إسماعيل أنه رأى جوبان على ما كان بلغ من العظمة، وبو سعيد معه اسم بلا معنى، وهو متى وقعت عينه على الأردو، نزل، ومشى، فيتعب لبعد المسافة، فيقعد على كرسي صندلي [1] ليستريح، ثم يمشي، ثم يقعد ليستريح مرات حتى يصل إلى باب الكرباس [2] وهو باب الخان. قال: ولكل من الخواتين، وكل من الأمراء الأكابر يرق [3] بذاته، ينزل فيه، وكل يرق من هذه كاهل بالأسواق، وكل ما يحتاج إليه من عادة هذا السلطان أن لا يعمل مراكب ولا يجلس لخدمة، ولا لقراءة قصص [4] عليه، وإبلاغ مظالم إليه بل له من أبناء الأمراء خاصة له، يقال لهم الأبناء، فيه هؤلاء هم «1» ، لا يكاد منهم من يفارقه. فأما الأمراء فإنهم يركبون في غالب الأيام إلى باب الكرباس [5] ، وينصب لهم هناك كراسي صندليه [6] «2» ، يجلس كل أمير على كرسي بحسب مراتبهم الأعلى ثم الأدنى، ويدخل الوزير في بكرة كل يوم على القان، ويبقى الأمراء على باب الكرباس، إما يخرج القان أو يأذن لهم أو لا هذا ولا هذا، فإذا حضر طعام القان، بعث إلى كل أمير منهم شيئا للأكل بمفرده، يأكل هو ومن انتظم معه، لم يتفرقون كل واحد إلى برية من أنفق يخصون من الأمراء من حضر ومن لم يحضر لم يطلب بحضور إلا أن دعت الحاجة إلى طلب أحد منهم طلب.

_ [1] صندلي: وهو الكرسي (رازي 564) . [2] الكرباس: بفتح كاف، قماش من خيوط القطن ينسج باليد (فرهنگ رازي 695) . [3] يرق وهي يورت بمعنى المقام والخيمة. [4] شكاوى. [5] الكرباس: قماش قطني مصنوع باليد. [6] كراسي صندلية: وهي كنبة بمخدع، كرسي مخصوص بجوانب (فرهنگ رازي 564) .

ولهؤلاء شغل شاغل بالركوب إلى الصيد في غالب أيامهم فهم يجتمعون بعضهم ببعض «1» ، ولهذا ما لهم يوم مخصوص بموكب ولا خدمة، فأما من له ظلامة، فشكواه إن كانت متعلقة بالعسكرية (المخطوط ص 109) إلى أمير الألوس، وإن كانت متعلقة بالبلاد والأموال والرعايا فشكواه إلى الوزير، وفي الغالب ما يكون أمير الألوس بالأردو، ولانفراد في المصيف أو في المشتى أو الصيد أو قصد ثغر من الثغور، فغالب الشكاوى على إطلاقها مردودة إلى الوزير. وليست في هذه للبلاد قاعدة «2» محفوظة تمشي على نظامها، بل كل من انضوى إلى خاتون من الخواتين أو أمير من الأمراء أو كبير من الخواصكية، قام بأمره إما في قضاء حاجة يطلبها أو إزالة ظلامة يشكوها حتى من الخواتين والأمراء، من يقتل ويوسط بيده بغير أمر القان ولا أمير الألوس. وأما اليرالغ [1] والأحكام الصادرة عنهم فالمتعلق بالأموال يسمى الطرطمغا [2] ، وهذه صادرة عن رأي الوزارة، وأمره والمتعلق بالألجية [3] «3» وهو البريد يسمى ... [4] «4» وهي أيضا صادرة عن الوزير، قد أقام لها أناسا بذاتهم، ومرجوعهم إليه، والمتعلق بالعسكر يسمى ... [5] «5» ، وهو صادر عن أمير الألوس.

_ [1] اليراليغ جمع مفرده يرليغ، لفظ مغولي بمعنى حكم، مرسوم (صبح الأعشى 4/423- 428) . [2] الطرطمغا: المرسوم الخاص بالأموال يسمى بهذا الاسم. [3] الالجية: المرسوم الخاص بالوزارة. [4] فراغ بمسافة 3 سم. [5] فراغ بمسافة 1 سم.

وليس لأحد على الجميع خط إلا الوزير، وإنما العادة أن يأمر الوزير بكتابة ما يرى، ثم تؤخذ خطوط المحدثين في ذلك الذي يكتب، ثم تحرر مسودة، وتعرض على الوزير، فيأمر بتبيضها، فإذا بيضت كتب- كما نبهنا عليه فيما قبل- اسم السلطان، ثم تحته اسم الأمراء الأربعة ويخلى تحته مكان، هو موضع خط الوزير، ثم يكمل اليرليغ [1] أو الحكم، ويختمه بالتاريخ شخص معد لذلك، غير من يكتب، ثم يأتي الوزير ويكتب في المكان الخالي فلان سوري «1» ، أي هذا كلام فلان، يسمى نفسه، ثم إن كان متعلقا بالمال، أثبت حيث يثبته مثله، وإلا فلا، وأما المتعلق بالعسكر فمنشأ الأمر فيه عن أمير الألوس، يأمر به ثم على بقية الترتيب، ولا خط لأمير الألوس بيده. وقاعدة أصحاب الولائم من الدواوين عندهم كما هو بمصر والشام، لا يعلم صاحب علامة حتى يرى خط نائبه عليه أولا، ليعلم أنه قد نزل عنده. وأخبرني الفاضل أبو الفضائل يحيى بن الحكيم أن الذي للأمراء والعسكرية لا يكتب (المخطوط ص 110) مرسوم، لأن كل طائفة ورثت [2] مالها في ذلك عن آبائها، وهم على الجهات التي قررها لهم هولاكو لا يتغير بزيادة ولا نقص، إلا أكابر الأمراء الذين حصلت لهم الزيادات، فإن ذلك الوقت كتب لهم بها بأمر القان، أصدر بها الوزراء عنه. قال: ومن الخواتين والأمراء من أخذ بماله أو بعضه بلادا مما له، وكثير من أخذ بلدا عن مبلغ متحصل ذلك الملك أضعافه. وأهل هذه المملكة قد داخلهم العجم، وزوجوهم وتزوجوا منهم، وخلطوهم بالنفوس «2» في الأمور فلهذا تفخمت قواعدهم، وجرت على عوائد الخلفاء والملوك

_ [1] اليرليغ: مرسوم. [2] كررت عبارة (طائفة ورثت) .

في غالب الأمور قوانينهم، ولقد كان هولاكو من أول ما أخذ بغداد على نية إجراء الأمور في مجاريها، وإبقاء الأحوال على ما كانت، ولكنه ما تهيأ له لشدة من كان معه على المغولية، وإفراط تخوف الناس منهم، فإنهم لكثرة خوفهم منه تجنبوا لقاءه، فزالت عنهم رتبهم، وتغيرت عليهم أحوالهم، ولقد كان يقنع منهم بالطاعة والانقياد والمداراة بالمال عن استئصال البلاء، ولكن المقادير لا ترد سهامها، ولا تصد أحكامها. وفي هذه المملكة عدة ملوك مثل صاحب هرى [1] ، وهي هرى «1» من خراسان في أخريات البلاد، مجاورة لكرمان، وبها ملك من بقايا ملوك السبكتكينية [2] يتوارثون ملكها، ذات بلاد وأعمال وجباية وأموال ولسلطانها عسكر يقال أنها عشرون ألفا، وهم لا يبلغون ذلك، وكان قد آل ملكها إلى غياث الدين محمد السبكتكيني [3] ، وإليه لجأ جوبان بن جلو أمير ألوس إيران في واقعته مع السلطان بو سعيد، فإن لصحبة كانت بينهما، وكان مع جوبان ولده خلوقان [4] وهو ابن السلطان «2» محمد اولجايتو خدابنده وهي أخت السلطان أبو سعيد، فتلقاهما وأنزلهما في القلعة عنده، ثم خنقهما، تقربا إلى السلطان بو سعيد، وبعث بإبهام جوبان، وكان بها (المخطوط ص 111) أصبع زائدة، إلى حضرة بو سعيد، إعلاما بتحقيق قتله.

_ [1] هراة: مدينة عظيمة من مدن خراسان بناها الإسكندر وحولها سور عظيم، وليس بخراسان أجمل ولا أعمر ولا خصب ولا أكثر خيرا منها (آثار البلاد 481) ولأهلها صلاح وعفاف وديانة (رحلة ابن بطوطة 254) . [2] نسبة إلى سبكتكين. [3] انظر القصة في رحلة ابن بطوطة 152- 153. [4] أولاد جوبان هم حسن وطالش ودمرطاش وقد فر الأخير إلى مصر وهناك قتل (رحلة ابن بطوطة 153) .

وكان بو سعيد قد تزوج ببغداد خاتون بنت جوبان بعد تحيده منه، فأمر بإقامة العزاء عليهما، ثم نقل جثتيهما إلى حضرته، وجدد العزاء عليهما، ثم حملا إلى مكة المعظمة، فطيف بهما، ثم حملا إلى المدينة الشريفة النبوية، فدفنا بالبقيع منها [1] ، ومات غياث الدين المذكور، وانتقل الملك بعده لولده. وهذه هرى مدينة جليلة من أجل مدن خراسان، مشهورة موصوفة بالحسن والنعمة، وبها الماء السارح والشجر الكثير، رخية الأسعار، حكمها حكم ما سواها من خراسان، إلا أنها مملكة تتداولها ملوك، وكلهم في طاعة صاحب إيران، وتحت أمره، وعسكر هرى من الفرس، وفيهم البهالوين [2] ذوو البأس والقوة. وأخبرني شيخنا فريد الدهر شمس الدين أبو الثناء محمود الأصفهاني، أن بالقرب من هرى شيخ موجود اسمه شهاب الدين أحمد الجامي، جليل القدر، واسع الحرمة والمال، له خمسة آلاف مملوك يصرفهم في أرزاقه، ومكاسبهم كثيرة ومستغلات أملاكه وزروعه وتربية دودة القز واستخراج الحرير له وعمله بما يجيء منه الجمل الكثيرة التي لا تكاد تحصر. قال: وهذا الجامي مرعى الجانب عند سلاطين إيران، كان يفرش سجادته إلى جانب السلطان خدابنده، فقيل لخدابنده: كيف بلغ هذا منك هذه الرتبة؟ قال: كنت مجردا في زمان أخي محمود غازان بستين ألف فارس، فضاق بنا الوقت لقلة ما نأكل نحن ودوابنا، فأقام بنا جميعنا هذا الشيخ أربعة أشهر من ماله. وحكى لي من أثق بقوله أنه رآه على منى وهو حاج ومعه ألف جمل «1» وأثقل عليها «2» أمواله وأثقاله.

_ [1] دفنا في مكة (رحلة ابن بطوطة 154) . [2] البهالوين جمع مفرده بهلوي ويعني الشجاع والبطل.

قال: ورأيت غياث الدين صاحب هرى واقفا في خدمة الجامي [1] ، والجامي قاعد لا يكترث بوقوف صاحب هرى بين يديه. وبهذه المملكة أبلة البصرة [2] وشعب بوان [3] ، (المخطوط ص 112) وهما نصف متنزهات الدنيا الأربعة ذات المحاسن المنوعة. فأما الأبلة فمدينة قديمة دثرت الآن، وبقى متنزهها على ما كان، والأبلة نهر مشتق من دجلة، مرفوع إلى البصرة يسقى بساتينها، والبصرة أشهر من أن توصف حدائقها الملتفة، وجداولها المحتفة، وما تفتر به رياضها من بدائع الزهرات، وتفردت به حدائقها من يانع الثمرات. قال الجاحظ [4] ، ونهر الأبلة سعة زيادة مقابلة نهر معقل، وبينهما البساتين والقصور العالية والمباني البديعة، يتسلسل مجراه، وتتهلل بكرة وعشاياة، وتظله الشجر، وتغنى به زمر الطير، وهي من الحسن حيث يشهد، العيان، ويظهر فنون الأفتان، والأبلة هي المدينة القديمة، وإنما اختطت البصرة، عوضها، وفيه يقول القاضي التنوخي [5] . [الكامل] .

_ [1] جامي: أبو نصر أحمد بن أبو الحسن المعروف بشيخ جام من مشايخ المتصوفة في النصف الأول من القرن السادس الهجري قضى عمره في الرياضة والإرشاد، مات سنة 536 هـ وله عدة كتب أهمها: أنيس التائبين، كنوز الرحمة، روضة المذنبين، بحار الحقيقة ومفتاح النجات وهو غير الشاعر عبد الرحمن الجامي المتوفى 898 هـ. (انظر: فرهنگ أدبيات فارسي 157) . [2] أبلة البصرة: بينها وبين البصرة عشرة أميال، كانت مدينة عظيمة يقصدها التجار من الهند وفارس (رحلة ابن بطوطة 127) . [3] شعب بوان: شعب بإقليم فارس به الرياض والأشجار الكثيفة والزهور الرقيقة، وهو مكان بديع. [4] الجاحظ: أبو عثمان عمرو بن بحر المعروف بالجاحظ، من كبار الأدباء العرب، ولد بالبصرة، كان معتزليا، عمر طويلا ومات سنة 255 هـ له: البيان والتبيين، والبخلاء، والحيوان، والتاج في أخلاق الملوك. [5] هو محمد بن محمد بن منجا زين الدين التنوخي (نسبة إلى عدة قبائل تدعى بتنوخ أقاموا بالبحرين) وهو الدمشقي ثم البغدادي الأديب المتوفي سنة 748 هـ، له: أقصى الغرب في صناعة الأدب (انظر: هدية العارفين لإسماعيل باشا البغدادي، استانبول 1955 ج 2/154) .

أحببت إليّ بنهر معقل الذي ... فيه التسلى عن همومي معقل عذب إذا ما حل فيه ناهل ... فكأنه في ريق حبّ ينهل متسلسل وكأنه لصفائه ... دمع نجدى كاعب يتسلل وكأنه ياقوتة أو أعين ... زرق تلام فينها وتفصل عذب فما تدري أماء ماءوها ... عند المذاقة أم «1» رحيق سلسل وله بمد بعد جزر ذاهب ... جيشان يذهب «2» ذا وهذا يقبل وإذا نظرت إلى الأبلة خلتها ... من جنة الفردوس حين تخيل كم منزل من نهرها إلى السرو ... رفإنه في غيرها لا ينزل وكأنما تلك القصور عرائس ... والرّوض حلي وهي فيه ترفل غنت قيان الطير في أرجائها ... هزجا يقل لها الثقيل الأول وتعانقت تلك الغصون فاذكرت ... يوم الوداع وغيرهم يترحل ربع الرّبيع بها فحاكت كفه ... حللا بها عقد الهموم تحلل (المخطوط ص 113) . فمديح وموشح ومدثر ... ومعمّد ومحبّر ومهلل فتخال ذاعينا وذا خدا وذا ... ثغرا يعضض مرة ويقبّل ويحيط بالأبلة نهرها المشتق لها، ونهر معقل فلهذا صارت بين سلكيهما في أبهى منظر وأحرز معقل، وبها النخيل المايسات، القدود المائلات في خضر البرود، لا يفوق شيء رطبها الجنية، وثمراتها الهنية كأنها السكر المذاب بل شفاه لعمر معسولة الرضاب. وأما شعب بوان فهو بظاهر همدان، يشرف عليها من جبل يقال له بالفارسية

الرند، والشعب في سفحه تضاحك الأفق ثغر صبحه، والأنهار تنحدر «1» عليه من أعلى الجبل، ويناجيه صبها برقة الغزل يتيه «2» على أنديتها مقبلا، ويترامى على شفاهها الخو مقبلا، قد تكسرت على رباها، فأوهمت الغواني في حلاها، بقلب عواضها المخضرة كالعذار، والتفتت حدائقها إليها كأنها اعتذار، وهو من أبدع بقاع الأرض منظرا، وأندى دوحا نضرا. قال المبرد [1] : أشرفت على شعب بوان، فنظرت فإذا بماء منحدر كأنه سلاسل فضة، وتربة كالكافور، وروضة كالثواب الموشي، وأشجار متهادلة، وأطيار متجاوبة. ولقد حدثني من رآها، وطيب مفارقة بثراها، إنها تذهب بالألباب ويذهب بها عصر الشباب، لا تكاد الشمس تسقط من أردائها، ولا الكواكب تغيب من فرجات أغصانها. ولقد مر أبو الطيب المتنبي [2] بشعب بوان لما توجه إلى عضد الدولة بن بويه [3] واستطابة واستطال «3» نزولا به، واستطار إعجابا بما هزه فيه هزه الحمام من طربه، فلما سمع لغة أهل العجم، وقاس إلى فصاحة قومه البكم، استغرب بينهم

_ [1] المبرد (أبو العباس) 826- 898 م نحوي، ممثل مذهب البصرة، تلميذ المازني والسجستاني، علّم في بغداد من أشهر مؤلفاته الكامل المنجد في الأعلام 519) . [2] أبو الطيب المتنبي هو أبو الطيب أحمد بن الحسين الكوفي الكندي، ولد بالكوفة سنة 303 هـ، نبغ في الشعر ومدح سيف الدولة الحمداني في سيفياته وكافور الإخشيدي في كافورياته وقتل سنة 354 هـ. [3] عضد الدولة بن بويه هو أبو شجاع فغا خسرو بن ركن الدولة حسن بن بويه، جلس على كرسي حكم فارس دكرمان سنة 338 هـ ثم أصفهان وضواحيها 356 هـ ثم الموصل وديار بكر وبغداد، وتوفي سنة 372 هـ (انظر: تاريخ گرديزى 146، ابن الأثير 7/100- 111، تكملة تاريخ الطبري 407، ابن الأثير 11/263، ابن مسكويه 2/300، روضة الصفا 188- 192) .

نفسه، فقال [1] : [الوافر] مغاني الشّعب طيّبا في المغاني ... بمنزلة الربيع من الزّمان ولكنّ الفتى العربيّ فيها ... غريب الوجه واليد واللّسان ملاعب جنة لو سار فيها ... سليمان لسار، بترجمان (المخطوط ص 114) . «طبت فرساننا «1» والخيل حتى ... خشيت «2» وإن كرمن من الحران «غدونا تنفض الأغصان فيها ... على أعرافها مثل الجمان» «فسرت وقد حجبن الشمس عنّي ... وجيز من الضّياء بما كفاني» «وألقى الشرق منها في ثيابي ... دنانيرا تفرّ من البنان» «لها ثمر تشير إليك منه ... بأشربة وقفن بلا أوان» يقول بشعب بوان حصاني ... أعن هذا يسارعن الطعان «3» وقد ذكرنا ما اشتملت عليه هذه المملكة الجليلة من الأقاليم، وجمل من محاسن هذه المملكة، ترتيبها، وسنذكر الآن ما لا بد منه فمن ذلك بلاد الجبال وهي تشمل على المياه التي تجري على البصرة والكوفة، وحدها الشرقي مفازة خراسان وفارس وأصبهان، والغربي آذربيجان، والشمالي الديلم والري وقزوين، والجنوبي العراق وخوزستان وتشتمل على مدن مشهورة ذكرناها فيما تقدم من الكتاب، وبلاد الديلم، وهي سهل وجبلان، فأما السهل فهو بلاد الجيل وما معها، وهي الآن بمجموعها تسمى كيلان [2] ، والجبل ممتد عليها من الجنوب إلى

_ [1] تم تشكيل الأبيات من الديوان. [2] كيلان هي گيلان وجيلان وبلاد إگليل. والجبل بين قزوين وبحر الخزر (آثار البلاد 353) .

الشمال، وطبرستان هي كيلان أو في حكمها وكذلك مازندران وكيلان، وإن كان من هذه المملكة فإنها مقررة لملوك سيأتي ذكرهم، وسجستان. ومنها هرمز بلاد تحيط بها مما يلي الشرق مفازة بين أرض بكران وأرض السند وبين سجستان وفارس، ومن ناحية الغرب خراسان وشيء من أرض الهند، وما يلي الشمال أرض الهند، ومما يلي الجنوب المفازة التي بين سجستان وفارس وكرمان وخراسان، ويشتمل على كور ويحيط به من شرقيه نواحي سجستان وبلاد الهند، وجبال الغور، وغربية مفازة القرية وناحية جرجان، وشماليه ما وراء النهر وشيء من بلاد الترك، وجنوبيه مفازة فارس وريفه، ومن الغرب من حبر قوس إلى الغرب، وفيها من حد جرجان وبحر الخزر إلى خوارزم تقويسا على العمارة. ومن الناس من بعد هراة (المخطوط ص 115) من خراسان ومنهم من بعدها بذاتها وأقدم مدنها بناء مرو الشاهجهان، يقال أنها من بناء ذي القرنين وهي أرض مستوية بعيدة عن الجبال، لا يرى فيها جبل، وهي كثيرة الرمال وفيها ظهرت دولة بني العباس في دار آل أبي النجم المعيطي، وأحصن مدنها مدينة نسا، وهي في غاية الحصانة كثيرة المياه والبساتين ومن خراسان قوهستان وأهلها كلهم شيعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، وأرمينية وآران وآذربيجان حدودها مما يلي الشرق الجبال وبلاد الديلم، وشرقي بحر الخزر ومما يلي الغرب حدود بلاد الأرمن، ومن جهة الشمال اللان وجبال القبق، ومن الجنوب العراق وبعض الجزيرة، وأجل هذه النواحي أذربيجان وأجل مدنها قديما أردبيل. قال: الزواوي: تكون أعمالها ثلاثين فرسخا، وبها كانت كبار الإمارة في صدر الإسلام ثم كانت تليها مراغة، وكانت قديما مقرا للجند وتليها أرمينية، وبينها وبين مراغة بحيرة كبودان وهي مالحة وليس بها سمك ولا دابة، وتختلف فيها المراكب بين أرمينية ومراغة وطولها نحو عشرين فرسخا، فأما قد بنيت توريز لم تبق بذكره معها سواها، وفي آران باب الأبواب وهي مدينة على بحر الخزر وهي ميناء ذلك البحر وإليها مرس السفن.

وكرجستان هي داخلة في حدود ما ذكرنا مع أرمينية ومدينتها تفليس [1] على نهر الكر، وقد تقدم ذكر الحال مفصلا فيما تقدم، والجزيرة وديار بكر وربيعة ومضر وهي ملاحقة لبلاد العراق وجزيرة العرب، والجزيرة بين الفرات ودجلة وقد كانت هذه بمجموعها مملكة جليلة قائمة بذاتها في الدولة الأتابكية وخوزستان وشرقيها حد فارس وأصبهان، وغربها رستاق واسط، وشماليها حد الصيمرة والكرج، كرج أبي دلف، وهو قصور مفرقة، والكر حتى يتصل على غربي الجبال أي إلى أصبهان، والجنوبي ينتهى بعضه إلى بحر فارس وبعضه (المخطوط ص 116) إلى رستاق واسط والبحر دائر عليها من آخر الشرقي إلى أول الغربي وجبال القفص والبلوص في حدها الجنوبي مما يلي الجنوب، قريبة من البحر وقريبها جبال الفضة، قريب مدينة جيرفت من كرمان وكلها جبال عامرة. وأما البلوص ففي سفح الجبال القفص، ولا يخاف أهل القفص من أحد إلا منهم وهم بادية يسكنون بيوت الشعر ولا يؤذون أحدا، وجبال بادن خصبة منيعة ذات أشجار، وكان أهلها مجوسا زمان بني أمية ثم أسلموا في أوائل الدولة العباسية وبقوا في منعة حتى وليّ يعقوب [2] وعمر ابنا الصفار [3] فملكوا جبالهم وكرمات، ومدينتهم السيرجان ثم جيرفت، وهي بلد متجر خراسان، والأختان التوأمان، وقد رخص فيهما الجمع بين الأختين والفريدتان اليتيمتان، ولا يوصف باليتم إلا الواحدة إلا إذا كانت اثنتين السمع والبصر، والبحر والمطر، وأفضل ما جهز له أبو بكر الجيوش، وفتحه عمر الفرقدان المعنقان والنيران المتألقان، مركز الأعلام،

_ [1] هي تبليس الحالية عاصمة جمهورية جورجيا. [2] يعقوب بن الليث الصفار، كان يعمل صفارا، استولى على بست وعلى سيستان، ثم استولى على إيران كلها وهدد بغداد، كان جاهلا، أسس الدولة الصفارية (انظر: روضة الصفا 57- 61، زين الأخبار 10، تاريخ گزيده 2، ابن الأثير 5/338) . [3] ورد بالمخطوط عمر، وهو في الأصل عمرو بن الليث الصفار أخو يعقوب، حكم بعده ولمدة ثلاث وعشرين سنة، حاربه إسماعيل الساماتي وقبض عليه وأرسله إلى الخليفة، ومات في حبسه (انظر: روضة الصفا 60- 64، الطبري 9/545، زين الأخبار 15، ابن الأثير 6/22، ابن كثير 11/38) .

والأعلام والسيوف والأقلام، قطبا تلك الدائرة وأفتا نجومها الزاهرة عراق العرب، وعراق العجم، وعراق العرب، والأول أكبر، والثاني أشهر لمكان الخلفاء منها، وكور عراق العجم عظيمة جليلة. ذكرنا فيما تقدم عنه ذكر الأقاليم ما نبني عليه، وأما عراق العرب فهو دونه، وإن كان غاية من الفخامة ونهاية في الضخامة، وكان ملوك الفرس دليران إيران [1] ومعناه....... [2] وهو اثنا عشر كورة. وقال الفاضل أبو الفضائل يحيى بن الحكيم الطياري البوسعيدي أن كل كورة منها استان [3] وطساسجه [4] ستون طسوجا وترجمة إجازة، وترجمة الطسوج ناحية، فالكورة الأولى كورة ستارسان فيروز وهو خمسة طساسيج وطسوج خانقين، ومن الجانب الشرقي سقى تامرا. والكورة الثانية كورة سار شادمهر وهي ثمانية طساسيج طسوج بشابور وطسوج نهر بوق وطسوج كلواذا وبها كلواذا، وهي (المخطوط ص 117) مدينة قديمة، وبها يسمى الكلدانيون الطائفة المشهورة المعدود منها كيومرث [5] وطهمورث [6]

_ [1] يقصد بعراق العجم إيران. دليرات إيران: أبطال إيران، ودليرات جمع مفرده دلير وهي كلمة فارسية بمعنى شجاع وبطل (فرهنگ رازي 350) . [2] فراغ بمسافة 5 سم. [3] استان: إقليم أو محافظة، كلمة فارسية من البهلوية Ostan وتعني ولاية (فرهنگ عميد 1/134) . [4] طساسجة جمع مفرده طسوج وهي من تسو التركية بمعنى جزء من أربعة وعشرين جزءا (انظر: فرهنگ عميد 1/576) . [5] كيومرث: أول ملك أسطوري حكم على الأرض وهو في العربية جيومرث وبالبهلوية گيومرد أوكيه مرت (حماسهء سراي در إيران تأليف د. ذبيح الله صفا تهران 1369 ش جاپ بنجم ص 399) . [6] طهمورث: تهمورث ملك أسطوري حكم بعد هوشنگ ورد في شاهنامة الفردوسي بأنه تعلم ثلاثين لغة وحكم ثلاثين عاما (حماسة سراي در إيران 418- 423) .

وجمشيد [1] والضحاك [2] وطسوج نهر بين طسوج جازر وطسوج المدينة العتيقة، وطسوج زاذان الأعلى، وطسوج زاذان الأسفل. والكورة الثالثة كورة سارشادقناد، وهي ثمانية طساسيج، طسوج رستاقياذ، وطسوج مهرود، وطسوج ستسل، وطسوج جلولاء، وطسوج الدسكرة والرساتيق. والكورة الرابعة كورة بارنجان خسره، وهي خمسة طساسيج، طسوج النهروان الأعلى، وطسوج النهروان الأوسط، وطسوج النهروان الأسفل، وطسوج بادريا، وطسوج باكسايا والكورة الخامسة كورة سارشاد سابور وهي خمسة طساسيج، طسوج دجلة والفرات، وطسوج الزندورة، وطسوج الثرثور، وطسوج الآسان، وطسوج الخوارج. والكورة السادسة، كورة ساشاد بهمن، وهو أربعة طساسيج، طسوج بهمن أردشير، وطسوج ميسان، وطسوج دست ميسان وهو الأبلة، وطسوج أثر قتادة. والكورة السابعة كورة ستان العليا وهي أربعة طساسيج، طسوج فيروز سابور وهي الأتيار، وطسوج مسكن وهو دحيل، وطسوج قطربل، وطسوج بادروبا. والكورة الثامنة وهي كورة سان سيربايكان وهي خمسة طساسيج طسوج نهر سبر وطسوج الرومتان، وطسوج كومي، وطسوج درفيط، وطسوج نهر جوير. والكورة التاسعة وهي كورة بدروبرشان وهي الروابي وهي ثلاثة طساسيج، طسوج الزاب الأعلى، وطسوج الزاب الأوسط، وطسوج الزاب الأسفل. والكورة العاشرة وهي كورة سنان تهقياد الأعلى وهي ستة طساسيج، طسوج بابل، وطسوج خطروبه (المخطوط ص 118) ، وطسوج الفلوجة العليا، وطسوج

_ [1] جمشيد: هو ابن تهمورث، حكم بعد أبيه، وهو أيضا من الملوك الأسطوريين (حماسهء سراي در إيران 424) . [2] الضحاك: هو الضحاك بن مرداس العربي الذي قتل جمشيد، وحكم بلاد إيران حتى قتله أفريدون البطل الأسطوري الإيراني (حماسه ءسراي در إيران 451 وما بعدها) .

الفلوجة السفلى، وطسوج النهرين، وطسوج عين التمر. والكورة الحادية عشر هي كورة ستان تهقياد الأوسط وهي أربعة طساسيج، طسوج الحبة والدواه، وطسوج سوار وباروسما، وطسوج باروسما، وطسوج نهر الملك. والكورة الثانية عشرة وهي تمام وهي كورة ستان تهقياد الأسفل، وهي خمسة طساسيج، طسوج فرات وبادفلى، وطسوج النسالحين، وطسوج تستر، وطسوج رومستان، وطسوج هرمز دخره. قلت: ولم أذكر مدن هذه المملكة هنا لكثرتها ولأنها قد تقدم عند ذكر الأقاليم بالا يحتاج معه إلى إعادة، ولا فيه نقص يفتقر إلى زيادة، والذي ذكرناه الآن من كور العراق هو عمل بغداد الداخل حسابه فيما يختص بها من السواد دون ما هو مفرد لبقية ما معها من المدن والبلاد، والذي أعدنا ذكره هنا مما تقدم ذكره إنما هو للإعلام بمقدار هذه الملكة، وما جمعت أطرافها من الأقاليم والأمصار «1» والممالك العظيمة والمدن الكبار، مما اجتمعت في جمعة الأكاسرة، ودأبت الدولة العباسية في تحصيله، وقد صارت كلها بيد ملوك بيت هولاكو. وهي واسطة الأرض وخالصة المعمور وسرة الدنيا وأسرة العلياء، فسبحان الله العظيم الوهاب الكريم يرزق من يشاء بغير حساب، ويعطى بلا احتساب لا راد لما قضى ولا مانع لما أعطى، يؤتى الملك لمن يشاء، وينزع الملك ممن يشاء [1] . على أن هذا البيت في وقتنا هذا قد وهي نظمه، وهوى نجمه، وهوان «2» على الناس أمره، وخمدت تحت الرماد جمرة منذ مات بو سعيد بهادر خان آخر ملوكهم،

_ [1] إشارة إلى قوله تعالى: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران 3: الآية 26] .

المجمع على طاعته، ثم هم بعده في دهياء «1» مظلمة، وعمياء معتمة، لا يقضي ليلتهم إلى الصباح «2» ، ولا جملتهم المفرقة إلى اجتماع، ولا فساد ذات بينهم إلى صلاح، في كل ناحية هاتف يدعى باسمه (المخطوط ص 119) وخائف، آخذا جانبا إلى قسمه، وكل طائفة تتغلب وتقيم قائما، يقول هو من أبناء القان، وتنسبه إلى فلان بن فلان، ثم يضمحل أمره عن قريب، ولا تلحق دعوته تبلغ حتى يدعى فلا يجيب، وما ذلك من الدهر بعجيب، وملوك هذا البيت، وإن كانوا ملوكا من قديم الزمان، وبينهم ما يكون بين الملوك من الشنآن، وكان متألفهم على ما وجدوا عليه آباءهم، لا ينيبون «3» للإسلام ولا يتركون آباءهم، فإنهم أهل همم تذل لها الجبال، وكرم تذهب به الأموال، فأما نجدتهم وبأسهم فأول دليل على مبلغهم منه ما ملكوه بسيوفهم من المشرق إلى الشام والي الآن ما تقادمت الأيام، وأما كرمهم قد ذكرنا منه ما يدل عليه. حدثني شيخنا فريد الدهر أبو الثناء محمود بن أبي القسم «4» الأصفهاني أطال الله بقاه أن خواجا رشيد الدولة [1] . وله ألف كتابا (سماه ... [2] ) «5» وقدمه

_ [1] خواجه رشيد الدولة هو فضل الله بن عماد الدولة أبي الخير الملقب برشيد، من وزراء وأطباء ومؤرخي إيران الكبار في العصر المغولي ولد في همدان سنة 645 هـ، والتحق ببلاط آباقا خان ثم غازان خان وكذلك خدم في عهد محمد خدابنده، قتل سنة 718 هـ، كان مؤرخا معروفا له مؤلفات مشهورة أهمها: جامع التواريخ وقد ترجم إلى العربية محمد صادق نشأت وآخرون (انظر: جامع التواريخ، رشيد الدين فضل الله الهمذاني نقله إلى العربية محمد صادق نشأت وآخرون القاهرة 1960، المقدمة ج 1/2 وما بعدها. [2] فراغ بمقدار 4 سم وأظنه كتاب جامع التواريخ.

للسلطان خدابنده، وقال له أن أرسطو عمل كتابا (المسمى ... «1» ) [1] وقدمه للاسكندر، فأجازه عليه ألف ألف دينار، وما أنت ممن يرضى أن يكون دون الإسكندر، فقبل خدابنده الكتاب، وأمر له بنظير ما أمر به الاسكندر لأرسطو، فأخذ به خواجة رشيد الدولة أملاكا وعقارا قيمتها قدر المبلغ ثلاث مرات، قال: والأملاك إلى الآن في يد أولاده وذريته. قلت: وأحب السلطان المذكور على ما بلغنا امرأة مغنية من بغداد، فأطلق لها ما لا يحصى وما لا يدخل في حساب. وحدثني من أثق به أن أبغا بن هولاكو كان يأنس برجل، فاتفق أن صحبه في سفر إلى جهة ما، وكانت يوم ذاك خزانة أموالهم، فأمر به أن يدخل إليها [2] ويأخذ ما أراد منها، فلما دخل إليها لم يأخذ سوى دينار واحد عمله في فيه، فلما حضر بين يديه سأله عما أخذ، فألقى الدينار من فيه، وقال: ياقان شبعت وامتلأت حتى خرج من فمي، فضحك، وأعجبه منه ما قاله، وأمر له بعشرة توامين؛ عنها مائة ألف رائج، بستمائة ألف درهم، فأخذها. وحدثني قاضي (المخطوط ص 120) القضاة أبو محمد الحسن الغوري أن فقيرا وقف بكيخيتو [3] في أيام سلطنته، وشكا إليه ضرره، فأمر له بثلاثة توامين، وهي ثلاثون ألف رائج بمائة وثمانين ألف درهم، فاستكثر هذا طاجار وزيره، (وما تجاسر أن يشاوره،) «2» فسكبها على نطع في طريق كيختو ليبصرها، فيستكثر المبلغ،

_ [1] فراغ بمقدار 4 سم. [2] تكرار «يدخل إليها» . [3] هو كيخانو بن آباقا خان بن هولاكو حكم ما بين سنة 690- 694 هـ (جامع التواريخ ج 2/14، تركستان 818) .

فلما عبر عليها كيخبتو رآها، سأل عنها: فقيل له هذا الذي رسمت به لذلك الفقير، فقال هذا هو بس؟، قالوا: نعم قال: والله مسكين أنا، والله «1» كنت أعتقد أنا أعطيناه شيئا، وهذا ما هو شيء، أعطوه مثله مرة أخرى، فأعطوه [1] .

_ [1] سبق للمؤلف أن ذكر قصة مشابهة مع القان الكبير.

الباب الثالث في مملكة الجيل

الباب الثالث في مملكة الجيل وفيه أربعة فصول: الفصل الأول: في بومن. الفصل الثاني: في توليم. الفصل الثالث: في كسكر. الفصل الرابع: في رسفت.

«1» ونحن نذكر في هذا الباب في رسفت «2» من مملكة الجيل [1] ما تيسر لنا ذكره جملة. حدثني الشريف محمد بن أحمد بن عبد الواحد الجبلي أن بلاد كيلان في وطأة يحيط بها أربعة [2] حدود، من الشرق إقليم مازندران [3] ، ومن الغرب موقان [4] ، ومن الغرب «3» عراق العجم، يفصل بينهما جبل يعرف مازندران «4» يعرف بأشناده في سفحه الجنوبي قرى ممتدة تسمى بلاد التارم [5] داخلة في مملكة كيلان، وبأيدي ملوكها، وهو جبل عال لا يرقى إلا من طلوع الشمس إلى العصر، وهو جبل مشجر. فيها «5» عيون كثيرة، وبه سكان من الأكراد، ومن الشمال بحر القلزم، ويأخذ على توريز فيه، وكيلان مشتمل على أربعة مدن كبار، لكل مدينة منها في الغالب ملك ينفرد بذاته بها، وأعمالها المضافة إليه «6» وهي بومن قريبة من الجبل إلى

_ [1] الجيل: طائفة تسكن گيلان أو جيلان، والجيلان نزل قوم من أبناء فارس من أهل اصطخر من طرف من البحرين (مراصد الاطلاع 1/368) . [2] وردت أربع. [3] مازندران: اسم ولاية طبرستان (مراصد الاطلاع 3/1219) . [4] موقان: ولاية فيها قرى ومروج يحتلها التركمان للرعي وهي من آذربيجان (مراصد الاصلاع 3/1335) . [5] بلاد التارم: كورة واسعة في الجبال بين قزوين وجيلان (مراصد الاطلاع 1/249) .

وسطه، وتوليم تليها إلى البحر بشرق، وكسكر [1] «1» تليها إلى جهة موقان مصاقبة للبحر، وطول مجموع كيلان مما في أيدي هؤلاء الملوك الأربعة وهو شرق بغرب نحو عشرة أيام، وعرضها، وهو جنوب بشمال نحو ثلاثة أيام تزيد وتنقص، وجميع أهلها حنابلة. قال: وهي شديدة الأمطار والأنهار كثيرة، والفواكه خلا النخل والموز وقصب السكر (المخطوط ص 121) والمشمش، ويجلب إليها المحمضات من مازندران، ومدن كيلان غير مسورة، ولملوكهم قصور علية، وجميع مباني كيلان بالطوب المشوي، مفرشة بالطوب مثل بغداد، مسقفة «2» بالخشب، وبعضها معقودة أقباء، وعليها قش مضفور [2] «3» ، وفي غالب ديارها آبار قريبة المستقى نحو ذراعين أو ثلاثة أو أقل، والأنهار تحكم «4» كل مدينة. وغالب أقوات كيلان الأرز، يعمل منه خبز مليح، ورقاق مع تيسر القمح والشعير، والغنم، والبقر كثيرة عندهم، وأسعارها متوسطة إلى أرخص «5» . وبها المساجد الجليلة ومدارس تسمى عندهم الخوانق، وزوايا وحمامات لطاف، يجرى إليها الماء من الأنهار، وبها الحرير الكثير، ولها حصون في نواحي مازندران وجزائر في القلزم، وبها رمان وبلوط وفواكه، ولا يجري بها ماء، وبها تحصنهم عند مغالبة العدو لهم.

_ [1] كسكر: كورة واسعة وقصبتها واسط القصب التي بين الكوفة والبصرة (مراصد الاطلاع 3/1166) وهي الآن تابعة لإقليم فارس. [2] وردت بالمخطوط مظفور.

ولملوكهم زي جميل على قدر دخل بلادهم، فإنه ليس بالكثير لضيق بلادهم، ولأنها لا مكس بها ولا مؤذي فيها، لهم أمراء الطبلخانات [1] ويركب الملك بالرقبة «1» السلطانية، والحجاب والسلاح داريه [2] والجمدارية [3] ، والجنائب المجرورة، ويركب الأمير ووراءه صاحب أربعة وخمسة «2» وأكثر، ولباسهم أقبية إسلامية ضيقة الأكمام وتخافيف صغار، ويشدون المناطق والبنود [4] ، وخيلهم براذين جياد مشكورة، وسروج منها المحلى بالفضة، وزيهم كلهم قريب من الزي العسكري الخوارزمي، ويتخذ بظواهر قصور [5] ملوكهم ميادين خضرا يعمل في أوساطها قصورا صغارا من الخشب، فيها جلوسهم للخدم والمظالم. وجميع جنود هؤلاء الملوك الأربعة نحو عشرين ألف (فارس ما بين ميدونه [6] ومطوعه [7] ممن يضمهم الجموع والحشود من الفارس والراجل) «3» ، وهؤلاء الملوك الأربعة لا يزال بينهم الخلق «4» حتى إذا قصدهم عدو (خارجي

_ [1] الطبلخانات جمع مفرده طبل خانه، بيت الطبل والمقصود بها هنا الأمراء الذين يدقون لهم الطبل. [2] السلاح داريه جمع مفرده سلاح دار وتعني حملة السلاح. [3] الجمدارية جمع مفرده جمدار وهو من اللفظ الفارسي جامة دار أي حملة الملابس (فرهنگ رازي 191) . [4] البنود جمع مفرده بند وتعني العلم الكبير. [5] وردت بالمخطوط قصورهم. [6] ميدانه أي المسجلين في الديوانه، والديوان وهو الدفتر يكتب فيه أسماء الجيش وأهل العطاء المعجم الوسيط 1/316) . [7] مطوعة هم المتطوعة الذين يتطوعون للجهاد ونحوه، يقال: لهم مطوعة بتخفيف الطاء (المعجم الوسيط 2/591) ويأتي اللفظ باسم غازيان واحدات (انظر: تركستان 1347) .

عنهم) «1» ، تألفت قلوبهم، واجتمعت كلمتهم، وصاروا حزبا واحدا على عدوهم، ولقد قصدوا أيام هولاكو فما قدر عليهم «2» ، ثم قطلو شاه في سبعين ألف فارس، وانتصر على صاحب (المخطوط ص 122) تومن وكسكر، وامتنع صاحب توليم، وضرب معه مصافا بالفارس والراجل، وحمل بنفسه قطلوشاه على أنه مقفل إليه، فلما قاربه أحسّ قطلوشاه بالغدر منه، فولى منهزما، فطعنه، فألقاه عن فرسه قتيلا، فنزل إليه، وقطع أذنيه بالحلقتين اللتين فيهما «3» ، ثم ركب وساق إلى التتار، وقطع عليهما المياه، وسد عليهم الطرق بالأخشاب العظيمة، فأفناهم إلا الشريد، وراحوا كلهم بين قتيل وغريق متوحل في الطين، وضال بالجبال وهم بحصانة بلادهم بالبحر من جانب وتوعير «4» المسالك إليهم، لا يدينون لملوك إيران ولا يطمع أحد في ملكهم. وطبرستان ومازندران والجبل كما قال الله تعالى وفي الأرض قطع متجاورات، ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود [1] . قلت: وبما ذكر من شدة بأس أهلها ذكرت قول صاحب شاه آعا في تاريخ الفرس. وقد ذكر مازندران وعصيان أهلها قال: وهم مردة «5» . قال الشريف: وبلاد الجبل مقسومة بين ثماني «6» ملوك ملك باللاهجان [2]

_ [1] إشارة إلى قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ [فاطر: الآية 27] . [2] وردت اللاهجان وهي اللاهيجان وهي بلدة منحازة عن بقية بلدان جيلان، يقطع بينهما نهر، وأهلها روافض زيدية في القرن الثامن الهجري (مراصد الاطلاع 3/1195) .

وملك سخام وملك يرشب وملك تسفت وملك بومن وملك توليم وملك كسكر وملك بنفس «1» ، منهم أربعة كبار وهم ملك بومن وملك توليم وملك كسكر وملك رست، والملوك «2» الأربعة الآخرون دون هؤلاء، ومع هذا فلا ينقاد منهم ملك لملك ولا يذعن أحد لآخر: قال: وجملة بلاد الجبل بلاد خصبة ورخاء ولحم وحب وفاكهة، أقطارها سخية، وأسعارها رخية، ولا يخطب بها للتتار، وإنما تضرب السكة باسم ملوك التتار، لأنه لو ضرب واحد من ملوك الجبل السكة باسمه، لم تخرج دراهمه في بلد جاره الآخر لشدة ما بينهم من الحقد، والجفوة «3» . قال: ولا يدخل بلاد الجبل مملوك ولا جارية بل كل أهلها أحرار، ولا يتعدى واحد منهم شأن أبيه، وما كان عليه حتى أن الفلاح منهم ليقتني العدد الكثير (المخطوط 123) من الخيل ليبيعها، ويربح بأثمانها، ومع هذا لا يتجاسر على ركوبها، ولو ركبها قتل، وبالجبل ربض وخوانيق وغالب ما يجري بها من أحكام مذهب الإمام أحمد بن حنبل [1] رضي الله عنه، ونحن لا نذكر ملوكها إلا أربعة «4» المشاهير المترجم لهم في هذا الكتاب على ما ذكرناه.

_ [1] أحمد بن حنبل: أحد الأئمة أصحاب المذاهب الأربعة الكبار عاش ما بين 164- 241 هـ من أهل بغداد، اتصف بشدة تمسكه بالنزعة السلفية ومخالفته للرأي، قاوم المعتزلة من مشكلة خلق القرآن، سجن في عهد المأمون والمعتصم وعفا عنه المتوكل، له المسند (المنجد في الإعلام 6- 7) .

الفصل الأول في بومن

الفصل الأول في بومن

«1» صاحب بومن شافعي المذهب، دون من معه من بلاد الجبل، مذهب نشأ عليه ملوكها، وعسكره يزيد على الألف فارس، وهو صاحب اللاهيجان، بلادهم قليلة، وإنما غالب دخلها من التجار والحرير بهما كثير، ولهذا بينهما وبين التتار مكارمة ومهاداة، لدخول التجار لبلادهما «2» لجلب الحرير منهما، واحتياجهما «3» إلى ما عندهما من الحرير، على من يدخل إليهما «4» ، وبقية بلاد الجبل محتاجة أيضا إلى بومن، واللاهيجان من أجل هذا، وحاجتهما إلى بومن أكثر، لما يوجد بها من القماش والمعمولات، وبها فيما يحاذيها من الجبل معدن حديد. قال: وصاحب بومن يدعى النسب إلى بيت الشرف «5» ، وله اعتناء بأهل العلم والفضل، ولباس الملك والجند، والملك بها نوع من لباس التتار، ولباس علمائها قريب من زي التجار، ولهم عذبات [1] كالصوفية إلى قدامهم، وعامة أهلها كعامة من جاورهم.

_ [1] عذبات جمع مفردها عذبة والعذبة طرف الشيء يقال: عذبة السوط وعذبة اللسان وعذبة العمامة (المعجم الوسيط 2/611) .

الفصل الثاني في صاحب توليم

الفصل الثاني في صاحب توليم

«1» صاحبها أمره قريب من صاحب بومن، ولكن لا حرير ببلاده، وهو حنبلي المذهب، وعدة عسكره نحو ألف فارس وهم أفرس إخوانهم «2» ، ولصاحبها في وقتنا هذا على ملوك الجيل سيما استظهار، لأن عسكر توليم كان لهم في واقعة قطلوشاه اليد الطولى، والبطش الغالب، فثبت لهم في قلوب جيرانهم ما هو ظاهر عليهم إلى الآن، وزيها كزي أخواتها.

الفصل الثالث في كسكر

الفصل الثالث في كسكر

«1» وصاحبهما له جولة في ملوك توليم، وجيشه أكثر عددا من بقية ملوك الجيل، وبلاده أوسع وأرضه أخصب وأكثر حبا وفاكهة (المخطوط ص 124) وأغناما وأبقارا مما حولها، ولها رفق زائد ممن يجاورها من الأكراد، وما يجلبه إليها من الأجلاب، وأسعارها أرخى وأرخص مما سواها، وزيها كزي أخواتها.

الفصل الرابع في رسفت

الفصل الرابع في رسفت

«1» وهم أميل إلى الجبل، وأبعد عن البحر، وإنما رسفت أونى إلى الجبل منها، وهي مناسبة لأخواتها في غالب أحوالها، وهي كثيرة السمك والطير، ومنها الشيخ العارف السيد «2» عبد القادر الكيلاني [1] قدس الله روحه ونور ضريحه، وهو القليل مثلا، العديم «3» مثلا، الواحد علما وعملا، (وستأتي إن شاء الله ترجمته في مكانها) «4» .

_ [1] عبد القادر الكيلاني هو عبد القادر الجيلاني من أئمة التصوف، أمام زاهد من كبار المتصوفة، مؤسس الطريقة القادرية، عاش ببغداد، من آثاره الفتح الرباني والغنية لطالبي طريق الحق، فتوح الغيب توفي 561 هـ (المنجد في الأعلام 367) .

الباب الرابع في مملكة الجبال

الباب الرابع في مملكة الجبال وهي أربعة فصول: الفصل الأول: في الأكراد وفيه فصل جامع لأحوال سكان الجبال. الفصل الثاني: في اللّر. الفصل الثالث: في الشول. الفصل الرابع: في شنكاره. وبلادهم جميعا بلاد خصب زائد ومزارع وموارد وزروع وفواكه، وثمر متشابه وغير متشابه، وكلهم أهل غناء ودفاع وحصانة وامتناع.

الفصل الأول في الأكراد

الفصل الأول في الأكراد

«1» الذي نقول وبالله التوفيق، أن الأكراد، وإن دخل في نوعهم (كل جنس أتى ذكره في هذه الفصول، فإنهم جنس خاص من نوع) [1] عام وهم ما قارب العراق وبلاد «2» العرب دون من توغل في بلاد العجم، ومنهم طوائف بالشام واليمن، ومنهم فرق مفترقة في الأقطار، وحول العراق وديار العرب جمهرتهم، وغلب في زماننا بما يقارب ماردين، منهم إبراهيم بن علي المسمى بالعزيز مالو [2] ، واستفحل أمره، وقويت شوكته، واجتمعت عليه جموع وبرقت بها اسنة ودروع، وثوب باسمه الداعي، وتقيدت دون غايته «3» المساعي، ثم مات، وقام ابنه بعده، ولكنه ما حكى «4» الوالد الولد ولا سد الشبل موضع الأسد. وأما الفصل الجامع لأحوال سكان «5» الجبال (هؤلاء) «6» وغيرهم فإنا نقول وبالله التوفيق، أن المراد بالجبال على المصطلح (المخطوط ص 125) هي الجبال الحاجزة بين ديار العرب وديار العجم «7» ، وابتداؤها جبال همذان وشهرزور [3] ، وانتهاؤها صياصي الكفرة من بلاد التكفور [4] ، وهي مملكة سيس وما هو مضاف إليها بأيدي بيت لادن.

_ [1] وردت هذه العبارة التي بين القوسين في الحاشية. [2] هو إبراهيم شاه ابن الأمير سنيته تغلب على الموصل وديار بكر (رحلة ابن بطوطة 154) . [3] شهرزور كورة واسعة في الجبال بين إربل وهمذان (مراصد الاطلاع 2/822) . [4] بلاد التكفور هو تكفور ابن السلطان جرجيس وهي القسطنطينية العظمى (رحلة ابن بطوطة 232- 233) .

ولم أذكر من عشائرهم إلا من كنت به خبيرا، ولم أسم فيها منهم إلا بيت ملك أو إمارة ابتداء «1» بجبال همذان وشهرزور وأربل [1] ، وتنتهي إلى دجلة الجزيرة من كوار إلى الموصل، ونترك ما وراء النهر دجلة إلى نهر الفرات لقلة الاحتفال به على أن الذي ذكرته هو خلاصة المقصود إذ لم يبق إلا أكراد الجزيرة وقرى ماردين [2] ، وهم لكل من جاورهم «2» من الأعداء الماردين «3» ، مع أن أماكنهم ليست منيعة ومساكنهم للعصيان غير مستطيعة، فمنهم طائفة بجبال همذان وشهرزور يقال لهم الكورانية منهم جند ودعية، وكلهم أولو شوكة وحمية، مقيمون «4» ، بموضع يقال له ريادشت الأمير محمد، ومكان ثان يقال له درتنك «5» (أميرهم الأمير محمد) «6» . وعدة القوم تزيد على خمسة آلاف، لا بين بينهم ولا خلاف، ومن بعدهم الكلالية وهم قوم لهم مقدار وكمية، تعرف بجماعة سيف الدين صبور، ومقامهم دانترك ونهاوند إلى قرب شهرزور، وعدتهم ألف رجل مقاتلة وقوية وأميرهم يحكم على من جاورهم من العصابة الكردية حكم الملك على جنده ويقدر على جمع عدد أصناف عشيرته، لأنهم واقفون بصدق كلمته، وحسن سيرته. ومن الكلالية سوى هؤلاء [3] طائفتان؛ إحداهما مقيمة بنواحي دقوق وعددهم

_ [1] إربل: مدينة كبيرة في فضاء من الأرض واسع (مراصد الاطلاع 1/51) في شمال العراق. [2] ماردين: مدينة عظيمة على سفح جبل، من أحسن مدن الإسلام، لها قلعة تسمى الشهباء (رحلة ابن بطوطة 159) . [3] وردت بالمخطوط هاولاء.

ألف أو دونها، والأخرى باشنة من نواحي آذربيجان عدة رجالها مائتان، وكانوا أكثر من ذلك عددا، وأوفر مددا، لما كان الملك شرف الدين بن سلار صاحب أربل من جهة التتر قتله رجل من الكفار فعصى قومه على الكفار، وهاجر بعضهم إلى مصر والشام، وبقى ولده الأمير محمد حاكما على باشنه (المخطوط ص 126) من قبيلته وولده الأمير عثمان أميرا لمن أقام بوطنه من عشيرته، فلما توفى ولده توفاهم «1» سواهم. ويلي الكلالية بجبال همذان قوم يقال لهم رنكليه، أصحاب شجاعة وحيلة وعدتهم ألفان، يقال لهم جماعة جمال الدين بالان، يحكم على بلاد كنكور وما جاورها من البقاع والكور. وأما بلاد شهرزور فكان يسكنها طوائف من الأكراد قبل خراب البلاد، أكثرهم رجالا وأوفرهم أموالا إلا طائفتان؛ إحداهما يقال أنها اللوسة، والأخرى تعرف بالبابيرية، رجال حرب وإقبال وطعمة وضرب، نزحوا عنها بعد واقعة بغداد في عدد كثير من أهل السواد بالنساء والأولاد، وأخلوا ديارهم، ووفدوا إلى مصر والشام، وتفرقت منهم الأحزاب، وأصابتهم الأوصاب، وعظم فيهم المصاب، ولكل أجل كتاب، وقد بقى في أماكنهم، وسكن في مساكنهم قوم يقال لهم الخريسة «2» ، ليسوا من صميم الأكراد وببلاد شهرزور قوم أخر بينها وبين باشنة، يبلغ عددهم ألفي نفر، يقال لهم السيولية، ذوو شجاعة، وحمية لهم، وهم قسمان قسم تورك بن عز الدين محمود، والآخر قسم يعرف بالأمير داود، ويعرف بداوود بدران ثم يليهم الفرماوية وهم يسكنون بعض بلاد بستار، وبيدهم «3» من بلاد أربل أماكن أخر، يزيد عددهم على أربعة آلاف نفر، كان أميرهم أبو بكر [1] يلقب بسيف الدين، وتولاهم بعدهم «4» ولده شهاب الدين.

_ [1] وردت بالمخطوط أبي بكر.

ثم يليهم قبيلة يقال لهم الحسنائية، ذوو أنفس قوية، ينقسمون على ثلاثة بطون وهم نحو الألف، أكبر بطونهم طائفة عيسى بن شهاب الدين كراتي، ولهم الجفر لقلعة بري والحامي. وثاني بطونهم نفران نفر يقال لهم البلية والآخر يعرف بالجاكية «1» ، وكان الأمير عبد الله بن شهاب الدين زنكي أمير النفرين، وثالث بطونهم كان (المخطوط ص 127) لفخر الدين أمير قيم، والآن أخوه اختيار الدين عمر بن أبي بكر. وتختص الحسائية ببلاد الكركار «2» ، وتشاركهم الفرماوية في الخفارة المأخوذة «3» بدربند قرايلي مشاركة الآخرين. ثم يليهم «4» بلاد الكرجين ودقموق الساقية «5» ، عدتهم تزيد على سبعمائة، وكان أميرهم شجاع الدين بابكر، رمامي، ذابا عن دينه، محاربا عن حزبه، ومن ذلك موضع يقال له بين الجبلين من أعمال إربل، قوم يتخدمون للدولتين، ويدارون الفئتين، فهم في الشتاء يعاملون التتر بالمجاملة، وفي الصيف يعينون سرايا الشام في المجاملة، وعددهم كعدد الكلالية، وكان أميرهم تاج الدين الخضرين سليمان كاتبا ذابنان ولسان وفد إلى الباب الملكي المنصوري السيفي قلاوون [1] بمصر ثم اخترمته المنية، وعاد أولاده الأربعة إلى أوطانهم في الأيام العادلية الزينية مع عز الدين سنقر «6» من الشهرزورية والمبارز بن شجاع الدين من الأرخية، وبهاء الدين ابن

_ [1] قلاوون: من أكابر الأمراء المماليك زمن الظاهر بيبرس، تولى الحكم في مصر سنة 678 هـ، كسر التتار في حمص وغزا الفرنج غير مرة، توفي سنة 689 هـ (العبر ج 5/363) .

جمال الدين خوش من الحميدية، إذا لم يجدوا لهم في الدولة الزينية حرمة مرعية ولا أخبارا مرضية. ثم يلي هؤلاء من أربل المازنجانية، وهم طائفة ينسبون إلى الحميدية «1» ، لم يبق لهم أمير غير أمرائهم، وعدتهم تنضاف إليهم في شدتهم، ورخائهم، ولا تنقص عدة الحميدية عن ألف مقاتل، وهؤلاء هم المازنجانية، يتعانون الصلافة، ويتشبهون بالناس «2» في الآلات واللباس، لأن أميرهم كان من أمراء الخلافة من الدولة العباسية، لقب من ديون الخلافة بمبارز الدين واسمه كنك، وكان يدعى الصلاح وتنذر له النذور، فإذا حملت إليه قبلها، ثم أضاف إليها مثلها من عنده وصدق بهما معا «3» . قال الحكيم الفاضل شمس الدين أبو عبد الله محمد بن ساعد الأنصاري، وقد ذكره كان ذا شجاعة وصبر وتحيل ومكر وعقل وفكر وتدبير وسياسية وتثبت ورئاسة (المخطوط ص 128) لا يهمل عدوا لصغره وحقارته، ولا يهاب من أراد به سوءا [1] لعظمته وجسارته. نقل عن ابن الصلايا رحمه الله أنه قال حين أعطاه خبز «4» أبيه سيف الدين محمد، وحياه، لقد توسمت في هذا الشاب سعادة لم أتوسمها في أحد سواه، فكان كما توسمه الصاحب رحمه الله، فرآه كذلك، إذ أقام في «5» التتر في ذلك المقام، وتمكن ابن يافث من ابن سام، وتشتت «6» أهل الإسلام، وانحل ما عهد من النظام، ولم يبق من الرجال القادرين على القتال إلا سكان الجبال فما أعجز الكفار

_ [1] وردت سواء أ 128.

استئصالهم، وتحققوا أن سهامهم لا تنالهم، عاملوهم بالمكر والخديعة، وهادنوهم على تخلية الخراج، سدا للذريعة، وقدموا منهم اثنتين، وحكموهما عليهم من الوجهين. فما كان من وجه بلاد العجم كان مبارز الدين كنك، متحدثا فيه، وما كان من مدن العجم كان الأسدين منكاكين الحائز لنواحيه، وجعلوهما ملكين، وأعطوهما بائزتين «1» [1] ، ثم استنابوا لمبارز كنك في أربل وأعمالها، وصرفوه في سيفها ومالها، وأقطعوه عقر سوس «2» بكمالها، وأضافوا إليه هراوتل هفتون، وقدموه على خمسمائة فارس أو يزيدون. وسعد بسعادته قومه، وأناف على أمسه يومه، وكثر في عشيرته الأمراء لاشتباكهم معه في النسب، وغلب على أقرانه بعناية الدولة والدنيا لمن غلب، وكان ترى همته همة الشبان، وهو ابن تسعين، وتولى هذه المملكة وهو ابن نحو عشرين، ما قصده عدو إلا مكنه الله منه، ولا رسم ملك من ملوك التتر بقتله إلا هلك قبل نفاذ أمره وامتثاله، ولم يبلغ ما بلغ من ملكه «3» ، وكثرة رجاله، ولا تمنعه جباله، لكن سعادته وإقباله، ثم مات وخلقه ولده عز الدين وكان يكنى به «4» فيما ألف منه وعرف عنه، ثم أخوه نجم الدين خضر. وكان من الرفاهية على سرر مرفوعة، وأكواب موضوعة ونمارق مصفوفة، وزرابي مبثوثة [2] ، ونعم مما ترك أبوه موروثه إلي (المخطوط ص 129) حاشية

_ [1] يائزتين مثنى يايزة وهي مثل يارليغ (انظرهما: في موضع سابق) . [2] إشارة إلى قوله تعالى: فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ، وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ [الغاشية: الآيات 13- 16] .

وغاشية، وعقار وماشية، وسعادات قديمة وناشئة، ومكانة في الدولتين الإسلامية والتتارية لا تطاول، ورتبته عالية في الجهتين لا تحاول، وانبساط في اللذات، وشرف بالعرض والذات، ويد لا تقصر في أدب، ولا تبالي بلاغتها بما تنفق من كنوز الفضة والذهب. وكانت ترد على الأبواب السلطانية بمصر ونواب الشام منه كتب، تنهل بماء الفصاحة كالسحب، وتسرح «1» من إحبائها الأبكار العرب، ثم مات رحمه الله، وخلفه ولده، وجرى على سنته، وتمت به في أهل بيته منيته «2» . ويلي يسار وأعمالها وتل حفتون وبلادها، وبلاد السهرية المشهورين باللصوصية، وهي من بلاد شقلاباد [1] إلى خفتيان [2] أبى على، ويعرف بخفتيان الصغير، وما بين ذلك من الدست والدربند [3] الكبير، وهم قوم لا يبلغ عددهم ألفا، وحبالهم عاصية، ودربندهم بين جبلين شاهقين، يشقهما الزاب [4] الكبير، ويتقلب على صخورهما بصوت مفرع وهدير قوي، عليه ثلاث «3» قناطر اثنان منهما بالحجر والجير، والوسطى مضفور [5] من الخشب كالحصير علوها عن جهة «4» الماء مائة ذراع في الهواء، وطولها بين الجبلين خمسون ذراعا، في عرض

_ [1] شقلاباذ: قرية كبيرة في سفح الجبل المطل على آربل، بينها وبين إربل ثمانية فراسخ (مراصد الاطلاع 2/806) . [2] خفثيان: قلعتان عظيمتان من أعمال أربل إحداهما على طريق مراغة والأخرى في طريق شهرزور (مراصد الاطلاع 1/475) . [3] دربند بشروان وهو باب الأبواب (مراصد الاطلاع 2/521) . [4] هو الزاب الأعلى بين الموصل وإربل (مراصد الاطلاع 2/652) . [5] وردت بالمخطوط مظفور.

ذراعين، وقد ينقل تارة من أرضه فينقص من طوله أو يزاد في عرضه، ثم تمر عليه الدواب بأحمالها، والخيل برجالها وهي ترتفع وتنخفض، وتبسط وتنقبض، يخاطر المجتاز عليها بنفسه، ويغامر بعقله، وهم يأخذون الخفارة عندها يخيلون ما شاءوا بعدها. فإن الدربند مضيق على نهر عميق، وهم أهل غدر وخديعة، وقبائح شنيعة، لا يستطيع المسافر مدافعتهم فيه، بل ترضيه سلامته بنفسه. قال الحكيم شمس الدين محمد بن ساعد أن نسب أحد من الأكراد إلى الجن فهم هؤلاء حقا، وإن صعب مسلك دربند، فهذا أصعب المسالك، وأشقى، كان أميرهم الحسام بن عم قميان، أنقى ما ترك ولا أبقى، ومجاورهم قوم يقال لهم الزرزارية وهي كلمة أعجمية معناها ولد الذئب. (المخطوط ص 130) . ويقال أنهم ممن تكرد [1] من العجم المنسوبين إلى ملوكهم، ذكره بعض أهل التاريخ، ولهم عدد جم، منهم زراع وأمراء وأغنياء وفقراء، تبلغ عدة رجالهم خمسة آلاف، قليل بينهم الخلاف، ومنهم زهاد يشار إليهم، وفقهاء يعتمد في الفتوى عليهم. مساكنهم من مرت [2] إلى جبل جنجرين المشرف على أسنة من ذات اليمين، وهو جبل عال، مشرف بمكانه على جميع الجهات «1» ، كان هواه الزمهرير وكأنه للسحب مغناطيس، يجذبها بالخاصة، قد نصب عليه للتخدير ثلاثة أحجار، طول كل حجر «2» عشرة أشبار، وعرضه ربع هذا المقدار، وثخانته «3» تزيد على ذراع في

_ [1] أي صار كرديا. [2] مرت: قرية بينها وبين أرمية منزل واحد في طريق تبريز (مراصد الاطلاع 3/1254) .

التقدير، على كل من الثلاثة كتابة قديمة، لم يبق منها سوى المعالم، وهي من الحجر المانع الأخضر الذي لا يغيره البرد ولا الحر، ولا يتأثر «1» إلا في ألوف سنين، تاثير «2» لا يكاد يبين، فالوسط منها على بسطة رأس الجبل، والآخران في ثلث عقبتيه لمن صعد أو نزل، يقال أنها نصبت لمعنى الإنذار، وأن المكتوب عليها أخبار من أهلكه الثلج والبرد في الصيف، وهم يأخذون الخفارة تحته، ويدركون أو يوارون من هلك ببرده. وبيد الزرزاريه أيضا بلاد ملازكرد والرستاق بقلاعها ومزارعها وضياعها، ولا يحملون لأحد شيئا من ارتفاعها، وكان لهم أمير جامع لكلمتهم، مانع لشوكتهم «3» يسمى نجم الدين بن باساك ثم توفى، وتولاهم من بعده ولده المسمى جيده «4» ، ولما أدركه الأجل وتوفى، تولاهم ولده عبد الله، وكان لهم أيضا أمير شجاع عفيف له رأي وتدبير يقال له الحسام شير الصغير، حوله من عشيرته عصبة تسير بسيرته، وكذلك كان لهم أمير آخر جيدا «5» يسمى باساك. ابن الحسام شير الكبير، وآخر منهم له بأس قوى يدعى بهاء الدين بن جمال الدين أبي علي، وأمراء غير هؤلاء ممن ينطوى في طاعتهم ويدخل في جماعتهم، إذ لا يبلغ قدر استطاعتهم يستغنى عن ذكر اسمه بمن تقدم. وينضم إلى الزرزارية شرذمة قليلة العدد هي لهم كالمدد تسمى (المخطوط ص 131) باسم قرينتها بالكان، منفردة بمكان، مشرف على عقبة الخان، يأخذون عليها الخفارة باليد القوية، ويجولون بين الحسائية، قتل أميرهم توبك «6» مع نجم الدين، وعاد قومه لهم بالرعية «7» ، يبلغ عدتهم ثلاثمائة رجل. ومنهم الجولمركية [1] ، وهم قوم نسبوا إلى الوطن، لا إلى النفر، بل هم طائفة

_ [1] جولمكرية نسبة إلى جولمكر.

من بني أمية، يقال أنها حكمية [1] ، اعتصموا بالجبال، عند غلبة الرجال عليهم، واستغنوا بمنعتها عند استعمال البأس، ومخالطة الناس، طلبا للسلامة من أعدائهم، وفرارا من اعتدائهم، فانخرطوا في سلك الأكراد، فسلموا، وهم الآن في عدد كثير، يزيدون على ثلاثة آلاف، كان ملكهم عماد الدين بن الأسد بن متكلان، ثم خلفه ولده الملك أسد الدين، وتحت يده المعادن ما ينقل من الزرينجين، إلى سائر الأماكن، وكان ظهر له معدن اللازورد، فأخفى، لئلا يسمع به ملوك التتر، فيطلبونه. ومعقله الذي يعتمد عليه من أمنع المعاقل على جبل عال، مقطوع بذاته، قرين الجبال قائم في وسطها مع الانفصال شامخ في الهواء راسخ فيما حوله من الماء، والزاب الكبير محدق به، فاصل بينه وبينها بإذن ربه، لا محط «1» للجيش عليه، ولا وصول للسهام إليه، سطحه للزراعة متسع، وفي كل ضلع من جوابنه كهف «2» مرتفع، يأوى إليه من شاء للامتناع، فيمتنع، والماء محيط بأساسه، والثلج لا يزال يشتغل، سببه برأسه، والصعود إليه في بعض الطريق يستدعى العبور على أوتاد مضروبة مصلحة لمن يطيق، ومن لا يستطيع التسليق، جر بالحبال (يعلق بها) «3» وكذلك ترفع البغال للطواحين والذخائر التي يحتاج إليها في كل حين. والملك عليهم معتبر عند الأكراد، ولهم على كلمته اعتماد، يدعى بهاء الدين بن قطب الدين، وولده في الملك يجرى مجراه، ويخلف في سيرته أباه، وكان له ابن عم آخر يدعى بشمس الدين داود، عصا على دولة الأعداء مدة، وعجزوا عنه، وقد اجتهدوا في غيلته بكل حيلة، فلم يقدروا عليه، فبالغوا في الإحسان إليه،

_ [1] حكمية نسبة إلى مروان بن الحكم.

وأمروه بالانتقال عن الجبل ليأمنوا اعتصامه، فاحتصن التوصل في التوسل، حتى سكن ببعض المدن (المخطوط ص 132) فلما قر في دار كانت بنيت للسلطان، وغرس في ما حولها «1» بستانا جامعا لأشجار ذات أفنان، مختلفة الثمار، ومحفوفة بالارتفاع «2» ارتفاع مغلة «3» من دنانيرهم عشرون ألف ألف دينار، والدار أعظم. ما يكون من دار السلطنة لما فيها من البسط والآلات المثمنة، فخولوه في سكنها، وسمحوا له بالفاكهة وثمنها، إلى أن اخترمه ريب المنون، فترك ولده الحركة، وعاد إلى حربهم، يؤدي إليه خراج بلاده، ويقطع منها ما شاء من أقاربه وأجناده، ويأخذ الخفارة من جميع الطرقات، من آذربيجان من تبريز إلى خوى ونقشوان [1] ، وكل وظائف مستخدميه بضمان من الكتاب والمنتدين والنواب والمتصرفين والوكلاء، ولا يقدم طعامهم ضيفانه إلى ثلث الليل المعلوم إلى نصف النهار أي غذاء كان، ولا يطعم ضيفانه إلي ثلث الليل عشاء، ولا يجعل في خبزه ملحا ليأكل منه من كان حربا وصلحا. ويجاور الجولمركية من الأكراد قوم يسكنون الجبال من بلاد تدعى مركوان، كثيرة الثلوج والأمطار مخصبة ربيعها زاهر بأنواع النبات والأزهار، وصيفها منوط بألحان الأطيار، وشتاءوها وافر الأسمان والألبان غزير اللحوم المنوعة، وهي مترخمة لأرمية «4» من بلاد آذربيجان، وكان لهم بها أميران بدر الدين والأمير حسن، أخوان شقيقان، وبالرعايا رفيقان، تبلغ عدتهم ثلاثة آلاف، وهم لمن جاورهم من الزرزارية والجولمركية أخلاف، ويعاملونهم بالرأفة والإحسان. ويجاور الجولمركية من قبل بلاد الروم جبال وبلاد يقال لها كواره، ذات سعة وإمكان «5» ، ومرعى للحيوان، وخصب مستمر في سائر الأحيان، وإليها ينسب من

_ [1] هي تخجوان وهي منطقة واقفة الآن بين إيران وأرمينيا وتابعة لآذربيجان.

بها من السكان، فيحسبانه من قبيله. وكان الأمير شمس الدين هو المداري عنهم، وعدة قومه ثلاثة آلاف، ويلي الجولمركية وجه عقر شوشن وبلاد العمادية، وبلاد الزيبار وبلاد الهكلر «1» . أما الزيبارية فيبلغون خمسمائة عددا، أصحاب بازاريه [1] «2» ، لهم سوق وبلد، وكان حروب بينهم وبين المازنجانية (المخطوط ص 133) مددا، ثم قر قرارهم، (واتحدوا) «3» ، وكان ملكهم «4» أحدهما الأمير إبراهيم بن الأمير محمد الزابي، وكان موقرا في زمن الخلافة، معروفا بالحشمة، وبقى ولده بعده صغيرا، فاحتاج إلى الاعتضاد بالمبارز كنك، ليكون له ظهيرا، والثاني الشهاب بن بدر الدين برش، توفى أبوه، وخلفه كبيرا، ولولا المازنجانية لم يدع لهم سواه أميرا، فاستولى علي الرعية استيلاء كبيرا «5» . وأمّا الهكارية فإنهم مقيمون في بلاد العمادية، تزيد عدتهم على أربعة آلاف حربية «6» ، وكانت إمارتهم إلى أميرين أخوين، أحدهما الأمير أبو بكر، والآخر الأمير علي، يعرف والدهما بالطوراشي، فأما أبو بكر فإنه كان ممتنعا برجاله، وكثرة احتياله وقوة جباله ونوابه وجيوشه وأحزابه، وبقى مدة لا يعبأ بهم ولا به، مع أنه سير له العساكر، واستعان عليه بكل ماكر، إلى أن حكم بالموصل نصراني يقال له مسعود البرقوطي، وعزل عنها الأمير رضى الدين بابا القزويني البكري رحمه الله، فاحتال النصراني على الأمير أبي بكر بكل حيلة، وأعانه عليه في المكيدة بعض القبيلة، فحسنوا له الوثوق إليه، والنزول في الطاعة على يديه، وسير له الرهائن أربعة من الصبيان إلى السلطان، أحدهما مباركشاه والثاني سيف الدين بن

_ [1] بازارية ونسبة إلى بازار بمعنى السوق، وتعني هنا رجال السوق والتجار.

المبارز كنك، الذي استنابه في العقد أبوه، والآخران أحمد وجركتم والدهما، فبلغ بكر الدين، كان باربل «1» نائبا في ذلك الزمان، فاغتر ونزل الباب، وبقى عند السلطان معظم المقدار، إلى عدت فيه ذوو الاعتراض، وقالوا أن أحضر ولده وأهله، فما عليه اعتراض، ولما طلبوا معه سيّر اليهم «2» بالنزول، فلم يأخذوا أمره بالقبول، وعاد مؤكدا لطلبهم برسول، وتأخر حضورهم، فاشتبهت على السلطان أمورهم، فأمر بالاحتياط عليه وعلى من معه من أصحابه، وكان إذ ذاك متوجها إلى حمص في أحزابه فلما وصلوا إلى مراغة آذربيجان، توجه حسان «3» ، إجابة داعي السلطان؛ وكان موثقا عنده في المكان (المخطوط ص 134) فانتهز الفرصة في الخروج من الوثاق، وخلص من معه من الرفاق [1] ، وركب ما وجد من الخيل عربا وساق، بناء على أن الجبل قريب، وطمعا في أن يدركه الليل، فيستتر، فلما أحسن القوم بفراره، خافوا صولة سلطانهم، ونادوا: أولام أولام على أثاره، فتنبه عليه قوم من الإختاجية «4» ، وهم رعاة الخيل، (وهو يحث فرسه) «5» بكزلك، وهي مذبة، فرماه أحدهم بسهم، أصابه به، وتواثبوا عليه أصحابه، فلم ينج منهم أحد إلا رجل كان، لما انهزموا قد دخل البلد. وأما أكثر الرهائن فإن البارز شيرسير من سرق ولده، وهرب كل منهم، فلحق ولده، وبقى الأمير علي، أخوه مستقلا بالهكارية وحده إلى أن أتاه اليقين، فخلف فيهم ولده غرس الدين صاحب قلعة هروز، ونشأ الأمير محمد بن الأمير أبي بكر شجاعا، فقصد قلعة الجبال، فأخذها، وأحرق ما بها من الدور، وأراد أن يقيم بها،

_ [1] عبارة مكررة.

إن ساعده القدر المقدور. والهكارية يأخذون الخفارة في أماكن كثيرة من بخاري إلى جبل «1» الجزيرة، ويليهم من قبل المرج جبال القمرانية وكهف داود، وهذه الأماكن أوطان البستكية «2» وقليل ما هم، لكنهم حماة رماة وطعامهم مبذور على خصاصة، وعدتهم لا تزيد على خمسمائة، وأميرهم مقيم بالقمرانية يقال له ... [1] ويقابل الجولمركيه من قبل الموصل البختية، وهم قوم كانوا يضاهون الحميدية، لكنهم شعبهم أكثر، وقبيلهم أكثر، فكان لهم كبراء وأعيان فهلك أمراؤهم، وتشتت كبراؤهم، وتفرق جمعهم المعهود، ولم يبق منهم إلا شرذمة قليلة، تفرقت بين القبائل والشعوب، وكان من بقايا أمرائهم فخر الدين خدم صاحب ماردين فأبعده لأقوال قيلت. وشعبهم كثيرة، وقبائلهم متفرقة «3» منهم السندية وهو أكثر شعبهم عددا، وأوفرهم مددا، يبلغون ثلاثين ألف مقاتل مختال مخاتل والمحمدية، وكان أميرهم شروين «4» ، لا تزيد على ستمائة رجل، والراستية كانوا أولى عدد وعدد وجمع ومدد إلى أن نزح أميرهم البدر بن كيايك) المخطوط ص 135) من ذلك البلد، بالأهل والولد، إلى متعة وقد تشتت شملهم، وتفرق جمعهم وعات، عدتهم لا تزيد في بلد الموصل، لا تزيد على ألف رجل، وأميرهم علاء الدين كورك بن إبراهيم، ولا ينقص من بلد القعر «5» في خمسمائة وأميرهم عمر بن أبي علي وموسى بن بهاء الدين، والدينلية وهم يسكنون الجبال المقلوب، والمختار مطلوبون بالخفارة أميرهم كلتي، ولا تزيد عدتم على ألف متفرقين في البلاد، متمزقين في كل واد «6» .

_ [1] فراغ بمسافة 4 سم.

الفصل الثاني في اللر

الفصل الثاني في اللر

«1» وهؤلاء طائفة؛ كثيرة العدد، ومنهم فرق مفرقة في البلاد، وفيهم ملك وإمارة، وإقدام وشطارة، ولهم خفة في الحركات، وصدق في القول، يقف الرجل منهم إلى جانب البناء المرتفع، ويلصق بطنه بأحد الزوايا القائمة به، ثم يصعد فيه إلى أن يرتقى صهوته، العليا، ومنهم من يخالس الرجل ماله، ويأخذه منه، وهو لا يدري. وربما أمسك الرجل منهم، وضرب بالسياط، وعوقب أشد العقاب، فلا يقر أنه أخذه، ولا يعرفه، فإذا حلف بستر الله، وأقسم عليه به، أقر واعترف. وفي بلاد مصر والشام منهم طوائف، وفي بلاد الشامية معظمهم، ولهم في هذا وقائع مشهورة، وأحوال مشهودة. وما يحكى أن السلطان صلاح الدين أبا المظفر يوسف بن أيوب [1] رحمه الله، حضر إليه رجل منهم، وأظهر له أشياء من أفعاله اللطيفة، وحركاته الخفيفة، حتى أنه وقف إلى جانب بناء مرتفع، وارتفع والتصق به، وارتفع حتى استوى على أعلاه، وصلاح الدين رحمه الله يظهر العجب من شطارته، وخفة حركته، وقدرته على ما لا يقدر عليه مثله، فلما نزل خلع عليه، وأكرمه، وحمله على فرس وأقطعه أقطاعا جليلا، وقال له: اشتهى أن يكون عندنا جماعة منكم، فإننا ما نستغنى عنكم لنتوصل بكم (المخطوط ص 136) إلى حصون الأعداء [2] . فبقى هذا اللرى [3] يجلب له واحدا بعد واحد ممن يقدر على هذا منهم، فكلما جاء واحد منهم أكرمه صلاح الدين، وخلع عليه، وأقطعه الأقطاع، حتى لم

_ [1] صلاح الدين الأيوبي: تولى وزارة العاضد لدين الله الفاطمي عقب وفاة أسد الدين شيركوه، وفي سنة 557 هـ أسقط اسم العاضد من الخطبة، وأسس دولة الأيوبيين التي حكمت مصر والشام حتى قيام دولة المماليك (انظر روضة الصفا 231- 232) . [2] وردت بالمخطوط الحصون الأعداء. [3] اللرى نسبة إلى اللر هي اللار وهي من بلاد إقليم فارس تقع قرب شيراز وهي أيضا اللور.

يبق أحد منهم، وبقى مدة لم يحضر أحدا إلى صلاح الدين، فقال له: لأي شيء ما عدت جبت «1» لنا أحدا؟ فقال: والله يا مولاي ما بقى أحد يقدر على هذا مثلنا، فلما تحقق صلاح الدين في ذلك، أسرها في نفسه، ثم جمعهم، وأوقف خلف كل رجل منهم رجلا، وأومأ إليه، فضربوا رقاب أولئك النفر، لأن صلاح الدين لما رأى ذلك [1] . فزع منهم على نفسه، وخاف إن هو قتله وجده، يبقى وراءه من يفعل مثل فعله، فاحتال عليهم بذلك لئلا ينزل عليه أحدهم فيقتله به. وأما ما يروى من مشى هذه الطائفة على الحبال المنصوبة، على قامات من الأرض، وانقلابهم عليها في الهواء، حتى يصير رأس الرجل منهم منكوسا إلى الأرض، ورجله متعلقة بالحبل ثم يستوى على قامته، ثم يمشي على الحبل بالقبقاب، ويلعب فوقها بالمخاريق، ما تحار له الألباب، ويحاك فيه نوادر العجب العجاب، وإن نساءهم يفعلن «2» ، وتركضها أشد مركض، ثم تطيح عنها في قوة جريها إلى الأرض ثم تثب عليها فيستوى على ظهرها، ثم تصير حزاما لبطنها، ثم تنزل صهوة الفرس، وتعنق العنق تارة من أعلاها وتارة من تلقاء صدرها إلى غير ذلك من عجائب الأفعال وغرائب الخفة في المجال. ودأب من هو منهم في الشام أحد ما قدروا عليه ووصلت أيديهم إليه، وقد عرف صبرهم على الضرب، فما بقى يضرب، أحد منهم إذا اتهم بل يحلف بستر الله ويقسم عليه به، فيقر، ويعترف، ويرد ما أخذه، ويقول: نحن نأخذ قبيح، ونحن نرد مليح «3» .

_ [1] عبارة مكررة.

وقد أوردنا هاتين اللفظتين بعبارتهم على ما هي عليه، وهم ببلادهم أهل منعة، وهي اللر، إن كبير وصغير ومأمور وأمير وسارقهم لا يقطع على السرقة هكذا جرت عادتهم في بلادنا.

الفصل الثالث في الشول

الفصل الثالث في الشول

«1» وهؤلاء حكمهم حكم شنكاره «2» ، وما يبعد بعضهم عن بعض في موازنة العقول، إلا أنه لا يخلو بينهم من دماء تطل، ومواثيق فيما بينهم تحل، وفيهم كرم وسماح، يقصدهم الفقراء [1] وتنزل في قراهم، وتقيم في ضيافتهم وقراهم، ولهم فيها، ولهم فيهم حسن الظن «3» إذا أنزلهم الفقير أنزلوه في بيوتهم، يمسي ويصبح عندهم وبين نسائهم، فإن اطلعوا على أحد منهم أنه خان أو تطرق إلى حريم، أخرجوه من بيوتهم، وتبعوه، فإما نجا وإما أدرك، فقتل ولا يقتلون أحدا منهم في بيوتهم، سترا على حريمهم، وخوفا من تنفير الفقراء عنهم، لحسن ظنهم فيهم.

_ [1] المتصوفة.

الفصل الرابع في شنكاره

الفصل الرابع في شنكاره

«1» وهم أحسن من اللر طريقا «2» ، وأقل فريقا، وفيهم رعاية الذمام، وتمسك من الشريعة المطهرة «3» بزمام، ولهم بأس وشجاعة، وعندهم لأمرائهم سمع وطاعة، على أنهم أشد من الأسود إذا غضبوا، وأخف من البروق إذا وثبوا، يكون الرجل منهم في أسفل الجبل العالي، ثم يأخذ في الصعود، ويرشق محاربه «4» السهم، فيكاد يسبق السهم، وقد بلغ غايته، وما انحدر أو يوافى هو وإياه على قدر.

الباب الخامس في مملكة الأتراك بالروم

الباب الخامس في مملكة الأتراك بالروم

أما المسماة الآن بمملكة الروم فقد كانت مملكة لا ترام، ولا يلحق إليها مرام، وهي مما هو من الخليج القسطنطيني [1] ممتدا على جنوب بحر بنطس [2] «1» ، وماء «2» بنطس محجوزة بجبال يزل الطرف عن صهواتها، ويخل الطرف بعوائدها، في اقتحام حجراتها، وكانت آخر وقت زمان، بقايا بني سلجوق، معدن الخيرة والخير، ومسلك «3» مسكن الملك، صاحب القبة والطير، وكان لسلطانها من إرث آبائه حرمة محفوظة، ونعمة على معاطف الملوك ملحوظة، وقد تقدم (المخطوط ص 138) في هذا الكتاب ما ينبه على ما لهذه البلاد في المجد من الطارف والتلاد «4» . كانت على عهد الروم؛ الباقي عليها نعتهم، إلى الآن محتبك الأعنة، ومشتبك الأسنة، دار القياصرة، ومكسر الأكاسرة، وكان لملكها الرتبة العلياء، وكانت بقسمة التعديل ثلث الدنيا، لأنه لم يكن يسمى «5» من ملوك الأرض إلا ملوك الفرس والروم والترك. وهكذا قسم فريدون [3] ، حد هؤلاء الملوك الثلاثة الأرض بينهم بالإثلاث،

_ [1] الخليج القسطنطيني هو بحر مرمرة أو بحر إيجة الواصل بين بحر بنطس والبحر الرومي. [2] بحر بنطس هو البحر الأسود، وهو في وسط المعمورة بأرض الصقالبة والروس، يخرج منه خليج يمر بسور قسطنطينية، ولا يزال يتضايق حتى يقع في بحر الشام (مراصد الاصلاع 1/165) انظر: الخريطة المرفقة. [3] فريدون: من الأبطال الأسطوريين عند الفرس، وهو من نسل جمشيد، أبوه آبتين وأمه فرانك، قتل الضحاك، وله ثلاثة أولادهم: ايرج وسلم وتور، قسم عليهم العالم المعروف آنذاك فكان هناك التوارنيون والإيرانيون أما سلم فكان في الشام وما يليها (حماسة سراي 461- 469) .

فالروم لهم الثلث وهم أهل التثليث [1] وهذا الذي نحن في ذكره الآن، مما وقع في قسمهم، وطبع إلى وقتنا بطبائع اسمهم، هو الذي «1» الواقع على شرقي الخليج القسطنطيني متصلا بأرمينية وديار العرب والعواصم والشام. وهو أثرى الممالك بلا احتشام خلا أنه بكثرة الثلوج كالح الوجه، في شبابه أشيب اللمة في قبابه «2» لا يستسقى به محب لأتراك، (ولا يسأم، ولا بارق فيه لعارضة برق) «3» [2] ، ولا يشأم، إلا أن صخوره تتفجر ماء وتتفجر أنواء، يعقد دون السماء بسماء، فتخصب زرعها، ويحطم المحل ضرعها، وتخصف ورق الجنّة على الخلائق، تمرها وينعها، وتطرب ورقها لمنظرها البديع، ومخبرها من صناعة صنعاء الربيع، فلا تسمع إلا كل مطربة تناجي النجى وتشجى الشجى، وتخلب قلب الخلي، وتهب الغواني ما في أطواقها من الحلى، يعجب ثوبها السندس، ونباتها المتعلق بذيل النهار «4» سجافها القندسي، فلا تجول في أرضها إلا على أرائك ولا ينظر إلا نساء كالحور العين، وولدانا كالملائك. وآخر ما كانت في أيام السلجوقية على ما قدمنا ذكره دار بهجة وسناء، ومجلس أنس لكؤوس وغناء، انتهبوا العيش بها نهبا وقطعوا الأيام بالمسرات فيها وثبا، ثم جرى عليها ملك أولاد جنكيز خان، لما فاضوا على الأرض من كل مكان، إلا أنهم أبقوا على بقايا السلجوقية الملك بالروم، وحكموا معهم من يمنع أسودهم

_ [1] لقولهم الأب والابن والروح القدس. [2] ما بين القوسين زائد.

الرابضة أن تثب وتشتد، ولهم عبر ما خلوا من الثدي ويحتلب، ثم إزالتهم الأيام، وأزاحتهم، لتمتد ستور الظلام. وكان من دخول الملك الظاهر أبي الفتح بيبرس البندقداري [1] (المخطوط ص 139) الصالحي، إلى قيسارية، ما هو مشهور، وكسر عليها طائفة من رؤوس التتار، ثم عاد، ولم يقر له بها قرار، بعد أن جلس على تخت آل سلجوق، ولبس التاج، وضرب باسمه الدينار والدرهم واستبشرت به أهل تلك الدار، لكنه خاف عاقبة لموافقة طالع الوقت لنجم سعدهم ورجم ضدهم، ولم يكن قد آن لجمرتهم أن يخمد لهبها، ولا لجدول سيوفهم أن يجمد عليها قربها، فاستمرت أيدي المغل عليها، واضمحل ملك آل سلجوق حتى سقط في «1» يديها، فغلبت طوائف الأتراك هنالك على كثير من تلك الممالك؟ إلا بقية «2» حفظت المغل من مطالع أفقها، وأمسكت آخر رمقها، ودارت طوائف الأتراك ملوك المغل على ما غلبت عليه، وبقى منهم من يدخل في طاعتهم على أنه يسلم إليهم، ولا يخرج شيء من يديه، واستمرت أحوالهم معهم من الطاعة والعصيان والتذكار والنسيان حتى تمادت المدد، وخر رواق الدولة الجنكيز خانية أو وهي منه بعض العمد، فحينئذ ثبتت أقدامهم، وثبتت في مغارس الاستمرار أيامهم. ومنذ غلبوا على الروم، كاتبوا ملوك مصر [2] ، واتخذوهم ظهرا، وعدوهم

_ [1] الظاهر بيبرس: ولد ببلاد القبجاق سنة 625 هـ تقريبا، وأسر وبيع وحمل إلى القاهرة، كان من المماليك البحرية، تسلم السلطنة بعد السلطان قطز سنة 658 هـ تصدى للتتار والفرنجة توفي سنة 676 هـ (انظر: فوات الوفيات 1/235) . [2] يقصد مكاتبات بركة خان إلى الظاهر بيبرس والتي بدأت سنة 1262 م. (386.D'ohsson.IIIP ,Histoire Des Monqols

لحوادث الأيام ذخرا، حتى أن منهم من رغب في تقليد يكتب له بالنيابة فيما هو فيه، فكتب له وجهز إليه بالصناجق [1] والألوية والأعلام والتشاريف التمام والسيف المحلي والحصان المركوب والجنائب، وهم إلى يومنا هذا أهل ود وصفاء وحسن عهد ووفاء، لكثرة ما خلطهم به الامتزاج وصل منهم من اتخذ مصر والشام دارا، وأخذ بهما الإمرة «1» والأقطاع، وجرى فيها تحت حكم الأمر المطاع، ورسلهم حتى الآن لا تنقطع عن مصر والشام، والمكاتبات واردات وصادرات، والهدايا مقيمة وسائرات، ومع هذه كله كل واحد منهم بما أتاه الله من فضله ونحن الآن نذكرهم على التفصيل، ونكتفي بالقليل. وها نحن نشرح حال كل طائفة متغلبة على هذه البلاد والمملكة التي استولت عليها، وما استقر «2» (في يديها على ما تنبه عليه في موضعه) «3» . وقد ذكر أبو الفضل (المخطوط ص 40) عبد الله بن عبد الظاهر [2] دخول الملك الظاهر رحمه الله هذه البلاد، وخروجه في رسالة قال فيها: وسرنا لا يستقر

_ [1] الصناجق جمع مفرده صنجق أو سنجق وهو اللواء وحاكم اللواء. [2] عبد الله بن عبد الظاهر بن نشوان الجذامي الروحي السعدي القاضي محي الدين، مؤرخ مصري عاش ما بين 620- 692 هـ (1223- 1292 م) نشأ بالقاهرة وخدم السلاطين الثلاثة الأوائل في دولة المماليك البحرية في مصر وهم الظاهر بيبرس، والمنصور قلاوون، وخليل بن قلاوون، وصارت له رئاسة ديوان الإنشاء له ثلاثة مؤلفات عن السلاطين الثلاثة وهي «الروض الزاهر في سيرة المالك الناصر، وتشريف الأيام والعصور في سيرة الملك المنصور، والروضة البهية الزاهرة في خطط المعزية القاهرة (موسوعة العلوم الإسلامية والعلماء والمسلمين- حققها وراجعها بول غليونجي وآخرون- بيروت 1/130) وكتاب الروض الزاهر في سيرة الملك الظاهر- تحقيق ونشر عبد العزيز الخويطر الرياض 1976- وكتاب تشريف الأيام والعصور في سيرة الملك المنصور تحقيق د. مراد كامل القاهرة 1961.

بنا قرار، ولا يقتدح من غير سنابك الخيل نار، ولا نقيم إلا بقدر ما يتزيد الزائر من الأهبة، أو يتزود الطائر من التغبة، تحمل همنا الخيل العتاق، ويكبوا البرق خلفنا إذا حاول بنا اللحاق، وكان السلطان من حلب قد أمر جميع عساكره بإدراع لامات حربهم، وحمل آلات طعنهم وضربهم، ورحلوا من حلب جرائد على الأمر المعهود، قد خفقوا كل شيء حتى عن السيف الغمود، فسرنا في جبال تشتهي فيها سلوك الأرض، وأودية تهلك الأسواط فيها إذا ملئت الفروج من الأرض، واستقبلنا الدرب كما قال المتنبي [1] : [الطويل] رمى الدّرب بالخيل العتاق إلى الورى ... وما علموا أن السّهام خيول [2] فلما تجلى من دلوك وصنجة ... علت كل طود رنة وعويل [3] على طرق فيها على الطّرق رفعة ... وفي ذكرها عند الأنيس خمول [4] ومررنا من دلوك وهي رسوم باكية على سكانها، ضاحكة عن تبسم أزهارها، وتقهقه غدرانها، ذات بروج مشيدة، وأركان موطدة، ونيران تزاويق موقدة في عمد من كنائسها ممددة، وسرنا إلى مرج الديباج نتهادى، وذلك في ليلة مدلهمة ذات أندية، وإن لم تكن من جمادى، لا يثبت تربها تحت قدم المار وكأنما ساكنها يمشي على شفا جرف هار [5] . وبتنا نستخف بالنسبة إليها ليلة الملسوع، وتتمنى العين فيها هجمة هجوع،

_ [1] رمى الدّرب بالجرد الجياد إلى العدا ... وما علموا أن السّهام خيول (ديوان المتنبي شرح عبد الرحمن البرقوقي بيروت 1980- ج 3/221) . [2] رمى الدّرب بالجرد الجياد إلى العدا ... وما علموا أن السّهام خيول (ديوان المتنبي شرح عبد الرحمن البرقوقي بيروت 1980- ج 3/221) . [3] بوجهك ما أنساكه من مرشّة ... يضيرك منها رنة وعويل (ديوان المتنبي 3/228) . [4] على طرق فيها على الطّرق رفعة ... وفي ذكرها عند الأنيس خمول (ديوان المتنبي 3/222) . [5] إشارة إلى قوله تعالى: أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [التوبة، الآية: 109] .

وأخذنا في اختراق غابات أشجار تخفى الرفيق عن رفيقه، وتشغله عن افتقار طريقه، حولها معاثر أحجار كأنها قبور تغيرت، أو جبال تفطرت، بينها مخائض لإبل مغائص كأنها بحار فجرت [1] ، ما خرجنا منها إلا إلى جبال قد تمنطقت بالجداول، وتيممت بالثلوج، وعميت مسالكها فلا أحد إلا وهو قائل، فهو إلى خروج من سبيل أو إلى سبيل من خروج، تضيق مناهجها بمشي الواحد وتلتف شجراتها التفات (المخطوط ص 141) الأكمام بالساعدة ذات أوعار زلقة، وصدور شرقة، وأودية بالمزدحمين مختنقة. حتى وصلنا إلى الحدث الحمراء المسمى الآن بكينوك ومعناها المحترقة، كان قسطنطين والد صاحب سيس [2] قد أخذها من أصحاب الروم، وأحرقها وتملكها، وعم بها الضرر لبلاد الإسلام، سيّر السلطان إليها عسكرا من حلب، فافتتحها بالسيف، وقتل كل من بها من الرجال وسبى الحريم والذرية، وخربت من ذلك الحين، وما بقى منها من يكاد يبين. وشاهدنا منها ما بناه سيف الدولة بن حمدان [3] ، فالقنا يقرع بالقنا، وموج المنايا تتلاطم، وقيل لسلطاننا هناك على قدر أهل العزم تأتي العزائم [4] ، غضب الدهر والملوك عليها فبناها في وجنة الدهر خالا. فبتنا بها وجيادنا إذا زلفت مشت كالأراقم على البطون، وإن تكاسلت جر بعضها بعضا بالصهيل والحديث شجون، وخضنا في أثناء ذلك مخائض سواقع،

_ [1] إشارة إلى قوله تعالى: وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ [الانفطار، الآية: 3] . [2] سبس: هي سيواس من بلاد ملك العراق، حسنة العمارة واسعة الشوارع على حدود الروم (رحلة ابن بطوطة 197) . [3] سيف الدولة بن حمدان، هو أبو الحسن علي المعروف بسيف الدولة الحمداني، أشهر أمراء الدولة الحمدانية من قبيلة تغلب مات سنة 356 هـ. [4] تضمين لقول أبي تمام: على قدر أهل العزم تأتي العزائم

كأنها لأجل عموم الخيل بها سمى كل منها لأجل ذلك سابح، كلما قلت هذا بحر قد قطعناه أعرض لنا جبل، وكلما لنا هذا جبل قد طلعناه بان لنا واد، يشتهون دون الهوى فيه نفاد الأجل. ثم وصلنا إلى كوك صو، وهو النهر الأزرق الذي رد الملك الكامل منه سنة الدربندات، لما قصد التوجه إلى الروم، وللوقت عبرنا ركضا وأعجلت الخيل، فما درت هل خاضت لجة أم قطعت أرضا، وبات الناس من بر هذا النهر الآخر، وأصبحوا متسللين في تلك الشم، ووقع السنابك يسمع من تلك الجبال الصم، حتى وصلوا إلى أمجاد دربند، فما ثبتت يد فرس لمصالحة صفاها، ولا بغلة لمكافحة رحاها، ولا رجلة لمطارحة قواها. وتمرنت الخيل على الاقتحام والازدحام في التطرق وتعودت ما تعودت الأوعال في الأوعار من الشرب والتسلق تنحط انحطاط الهيدب، وترتفع ارتفاع الكوكب، حتى حصل الخروج من منتهى الدربند، وبات السلطان في وطاة هناك، وسمحت السحب بما شاءت من برد وبرد (المخطوط ص 142) ، وجاءت الريح بما ألم الجار، واستنفذ الجلد، وانتشرت العساكر حتى ملأت المفاوز، وملكت الطرق على المار، وأخذتها على الجائز، وقد تقدم سنقر الأشقر في الجاليش [1] فوقع على ثلاثة آلاف فارس من التتار، مقدمهم كراي، فانهزموا من بين يديه، وأخذ منهم من قدم للسيف السلطاني، فأكل تهمته وأمتار، واستمرت تلك منه فيمن يؤخذ من التتار، ويؤسره، وبات التتر على أجمل ترتيب ونظر، وبات المسلمون على أجمل تيقظ وحذر. فلما كان يوم الجمعة عاشر ذي القعدة تتابع الخبر بعد الخبر، بأن القوم قد قربوا، وأنهم تأبوا ووثبوا، ووصى السلطان جنوده في التثبت على ما يجب، وأراهم من نور رأيه ما لا يحتجب. وطلعت العساكر من جبال مشترفة على صخرات منا من بلد ابلستين، وكان العدو ليلته تلك بايتا على نهر زمان، وهو أصل نهر جهان، وأصل اسمه جيحان،

_ [1] الجاليش: هم جماعة مقاتلة وهي جالش (فرهنگ رازي 213) .

فترتب المغل أحد عشر طلبا [1] كل طلب يزيد على ألف فارس، وعزلوا عسكر الروم خيفة منهم، وجعلوا عسكر الكرج [2] طلبا منهم واحدا بمفرده، ولما شاهدوا صناجق السلطان ومن حولها، وعليهم الخوذ الصفر المقترحة، وكأنها في شعاع الشمس نيران مقتدحة، رجعوا إلى ما كانوا عقدوا من العزائم فحلوا، وسقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا، وأنصبت الخيل إليهم من أعلى [3] الجبل انصباب السيل، وبطلت الحيلة منهم وبقى الحيل، فشمروا عن السواعد، ووقفوا وقفة الرجل الواحد. وكان هؤلاء المغل قد اختارهم آبقا من كل ألف مائة، ومن كل مائة عشرة، ومن كل عشرة واحد، لأجل هذا اليوم، وكان فيهم من المقدمين الكبار تداون، وتقووا إليه أمر بلاد الروم، وأرختو أخو تداون ونمادربخشى، ومن أمراء الألوف زيرك وصهر آبغا وقراق وأخلدت من المغل فرقة إلى الأرض فقاتلت، وعاجت على نفوسهم وعاجلت، وجاء العدو الموت من كل مكان، وأصبح ماهان منهم وقدهان، وكم فيهم من شهم ما سلم قوسه حتى لم يبق في كنانته سهم، وذي سن طارح (المخطوط ص 143) فما طارحه حتى تثلم، واشتدت فرقة من العدو من جهة الميسرة، معرجين على الصناجق السلطانية. [الوافر] فلزهم الطراد إلى قتال ... أدلّ سلاحهم فيه الفرار وثاب السلطان إليهم وثب عليهم فضحى منهم بكل أشمط، وأقرى سباع الوحش والطير فأفرط، ولحق من قصد التحصن في الجبال فأخذهم من كل رابية الأخذة الرابية، وقتلهم فهل ترى لهم من باقية، وانهزمت جماعة يسيرة، طمع فيها من العوام من لا كان يدفع عن نفسه، وأخذتهم المهاوي فما نجا منهم إلا آيس من

_ [1] الطلب: فرقة مقاتلة. [2] الكرج: جبل من النصارى كانوا يسكنون في جبال القبق وبلاد السرير، ثم قويت شوكتهم، وملكوا مدينة تفليس، ولهم ولاية تنسب لهم وملك ولغة وشوكة وعدد (ياقوت الحموي 4/446، صبح الأعشى 1/369) ، وهي الآن دولة جورجيا. [3] وردت بالمخطوط أعلا.

حياة عده في أمسه. [الوافر] مضوا متسابقو [1] الأعضاء فيها ... لأرجلهم بأرؤسهم عثار إذا فاتوا الرماح تناولتهم ... بأرماح من العطش القفار ووصدت ميمنة عسكرنا جماعة من المغل، ذو بأس شديد، فقاتلهم المسلمون حتى ضجر الحديد من الحديد، وأما العدو فتقاسمت الأيدي ما يمتطونه من الصواهل والصوافق، وما يصولون به من سيوف وقسى وكتاين [2] ، وما يلبسونه من خوذ وذروع وجواشن [3] ، وما يتملونه من جميع أصناف المعادن، فغنم ما هنالك، وتسلم من استشهد من المسلمين رضوان، ومن قتل من التتار مالك، وأورث الله المسلمين منازلهم، فنزلوها ووطاقاتهم وخركاواتهم فتمولوها، وكان السلطان مع أعدائه كما قيل: [الوافر] فمساهم وبسطهم حرير ... وصبحهم وبسطهم تراب وأصبح الأعداء كأنما جزر أجسادهم، تتخللها من الدماء السيل، وكأنما رؤوسهم المجموعة لدى الدهليز المقصور أكر، تلعب بها صوالح الأيدي والأرجل من الخيل، وكم فيهم من مهيب الهامة حسن الوسامة، يتفرس في جهامة وجهه الفخامة، قد فض الرمح فاه، فقرع السن على الحقيقة قدماه، وكثرت الأساري، فاختار السلطان من كبرائهم البعض وعمل بقول الله ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ (المخطوط ص 144) لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ [4] ودخل البرواناه [5]

_ [1] وردت بالمخطوط متسابقي. [2] كناين جمع مفرده كنانة وهي جعبة السهام. [3] جواشن جمع مفرده جوشن، والجوشن هو الدرع بالفارسية (فرهنگ رازي 207) . [4] إشارة إلى قوله تعالى: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال: الآية: 67] . [5] البرواناة هو حامل الرسائل وهو مشتق من الكلمة الفارسية پروانه أي الخادم (انظر: تركستان حاشية ص 359) .

مدينة قيصرية في سحر يوم الأحد ثاني عشر الشهر. فأفهم غياث الدين سلطانها الصاحب فخر الدين عليا والأتابك مجد الدين والأمير جمال الدين المستوفى والأمير بدر الدين ميكائيل النائب، والأمير الطغرائي [1] وهو ولد عز الدين أخي البرواناه، وهو يكتب طرز المناشير، أن المسلمين كسروا بعض المغل وبقيتهم منهزمون، ونخشى منهم دخول قيصرية، واتلاف من يكون بها، فاحذر زوجته كرجى خاتون بنت غياث الدين صاحب أزر، وأمها ملكة الكرج وزوجها السلطان غياث الدين صاحب الروم في أربعمائة جارية. وكان لها ما لا كان لصاحب الروم من النجاتي والخيام والآلات، وتوجهوا كلهم إلى جهة توقات وهو حصن عن قصيرية أربعة أيام، وهوّل على بقية أمراء الروم، فاتبعوه إلا قليل منهم، وأخفى البرواناه أمره وأمر من معه حتى لا يخبر عنهم. ورحل السلطان فنزل قريب قرية رمان، وبيوتها حول سن جبل قائم كالهرم إلا أنه ملموم، وعمرت البيوت في سفحه حوله بيتا فوق بيت، وبدت كأنها مجرة النجوم وما منها بيت إلا وبه مقاعد ذوات داربيزينات [2] منجورة (ورواشون) قد بدت في أحسن صورة، يحمها من أعلاها أحسن بنيان، ويعلوها من رأسها منزل مسنم الرأس كما يعلوه الصعدة السنان، ويطوف بها الجبال كأنها لها أسوار بل سوار، وكأنها في وسطها إناء فيه جذوة نار، وفيها أنهار ذوات قناطر لا تسع غير راكب، مضائق لا تلقى غيرها مناكب، فنزلنا قريبا منها حتى تخلص من تخلص وحضر من كان في المضائق قد تربص. وقال كل الآن حصحص، ورحلنا والسماء قد حبت الأرض تيجان أمطارها،

_ [1] الطغرائي: من يقوم بوضع الشعار السلطاني على الرسائل (انظر: طغرا- فرهنگ رازي 575) . [2] درابيزينات جمع مفرده درابيزين وهي كلمة فارسية وتعني سياج يتكئ عليه المرء أثناء صعوده على السلالم أو على الكراسي (انظر: فرهنگ عميد 1/928) وهي تأتي في العربية طرابزين.

وأغرقت الهوام في أحجارها، والقبح في أوكارها، وأصبحت الأرض لا تتماسك حتى ولمرور الأراقم، والجبال لا تتمالك أن تكون للعصم عواصم، تضع بها من الدواب كل ذات حمل، وتزلق على صقليها أرجل النمل. سرنا على هذه الحالة نهارنا كله إلى قريب الغروب وقطعناه بتسلمنا (المخطوط ص 145) أيدي الدروب من الدروب، فنزلنا عشاء في مستنقع أرض يطوف بها جبال شاهقة، ومياه دافقة، تعرف قاعدة تلك الأرض بوطأة فشلارهار من أعمال صاروس العتيق، ويضرب من تلك الجهة معدن الفضة. وبينما نحن قد شرعنا في أهبة المبيت، ولم تجمع الشمل الشتيت، وإذا بالصارخ قد عقر عقيرته، بأن فوجا من التتار هنالك في فجوة قد استتروا وفي فجوة نفرة قد انتظروا، فركب السلطان والناس في السلاح، وعزموا على المطار، فعاقهم تتابع الغيث، وكيف يطير مبلول الجناج، ثم لطف الله وعاد السلطان وهو يقول لا بأس، فنمنا نومة السليم، وصارت أفكارنا سالمة شاعرة في كل واد تهيم، وأصبحنا فسلكنا جبالا، لا يحيط بها الوصيف، ونبسط عذر الطرف فيها حين يكبو الطرف، ينحط منها إلى جنادل تضعف عن الهوى، إليها قوى الأجادل، ومررنا على قرية أوزاك، وتحتها قناطر وخان من حجر منحوت ثم خان للسبيل على رأس رابية، هناك قريب حصن سمند والذي عرض أبو الطيب به في قوله: فإن يقدم فقد زرنا سمند ... وإن يحجم فموعده الخليج [1] وكان السلطان قد سير إليها خواصه بكتاب إلى نائبها فقبله وقبله وأذعق بالتسليم لحصنها المنيع، والنزول لأمر السلطان عنها أن استنزله، فشكر السلطان له تلك الإجابة، ووفاه من الشكر حسابه. وكذلك إلى قلعة درنده وإلى قلعة دوالوه، فكلهم أجابوه وأطاعوه، ولكلمة

_ [1] انظر: ديوان المتنبي شرح عبد الرحمن البرقوقي 1/362.

الإذعان والوه، ونزلنا في وطأة قريب من قرية تعرف بحمرهاه، وكان الناس قد فرغت علوفات خيلهم أو كادت، وباتت الخيل ليالي بلا عليق، فمالت ومادت، وشاركها خيول الكسوب في عليقها، وما ساعدتها في طروقها ولا طريقها، فصادفنا في هذه الليلة بعض أتيان، أمسكت أرماقها، وأحسنت إرفاقها، وأصبحنا راحلين من جبال كأنها تلك الأول، وهابطين في أودية (المخطوط ص 146) يتمنى سالكها لشدة مضائقها لو عاد ترقى قبه الجبل. ثم أشرفنا على خان هناك يعرف بقرطاي، يدل على شرف همة بانيه، وطلب ثواب الله تعالى فيه، وهو من أكبر الأبنية سعة وارتفاعا، وأحسنها شكلا وأوضاعا، كله مبنى بالحجر المنحوت المصقول الأحمر الذي كأنه رخام، ومن ظاهر أسواره وأركانه نقوش، لا يمكن أن يرسم مثلها بالقلم، وله خارج بابه مثل الربض ببابين بأسوار حصينة، مبلط الأرض، فيه حوانيت، وأبواب الخان حديد من أحسن ما يكون استعماله، وداخله اواوين [1] ضيقة، وأمكنة شتوية، واصطبلات على هذه الصورة، لا يحسن الإنسان يعبر عنها بكيف؟ ولا منها إلا ما يعده الكافر رحلة الشتاء والصيف [2] وفيه الحمام والمرستان [3] والأودية والفرش والأواني والضيافة لكل طارق على قدره. وحمل إلى السلطان لما مر عليه وكثر الناس فما وصل أحد إليها ولا إليه، وعليه أوقاف عظيمة، وضياع كثيرة حوله وفي غيره من البلاد، وله دواوين وكتاب ومباشرون، يتولون استخراج أمواله، والإنفاق فيه، ولم يتعرض التتار إلى أبطال شيء من رسومه، وأبقوه على عوائد تكريمه، وأهل الروم يبالغون في تبجيل بانيه- رحمه الله- وتعظيمه، فنزلنا تلك الليلة قريب قرية قريبة من قيصرية شرقي الجبل المعروفة بعسيب [4] وفيه قبر امرئ [5] القيس الشاعر وفيه يقول: [الطويل]

_ [1] إواوين جمع مفرده إيوان، فضاء مسقوف (فرهنگ رازي 38) . [2] إشارة إلى قوله تعالى: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ [قريش، الآية: 1- 2] . [3] دار الشفاء: المستشفى. [4] جبل عسيب: جبل قرب دومة الجندل. [5] وردت في المخطوط أمرء.

أجارتنا إن الخطوب تنوب ... وإني مقيم ما أقام عسيب اجارتنا إنا غريبان هاهنا [1] ... وكل غريب للغريب نسيب وهذا الجبل يعلوه جبل أرجاش وهو الذي يضرب به الروم الأمثال لتساميه، وتتضاءل الجبال في جميع الدنيا العالية، لا تسحب ذيول السحاب إلا دون سفحه، ولا يعرف شتاؤه من صيفه من ثلوجه ولا لهيال الأبخرة المتصعدة، وعشاؤه من صبحه. فلما كان يوم الأربعاء منتصف ذي القعدة، وهو يوم شرق الزهرة، ركبت العساكر المنصورة مترتبة، وملأت الفضاء (المخطوط ص 147) متسربة، فركب السلطان في زمرته، ودوى أمره وإمرته، يختال به جواده في أفسح ميدان ويصيح به مرحا وفرحا كأنه نشوان درى إنه سلطان. تظل ملوك الأرض خاشعة له ... تفارقه هلكى وتلقاه سجدا وخرج أهل قيصرية وعلماؤها [2] وزهادها وتجارها ورعاياها ونساؤها وصغارها، فأكرم السلطان ممساهم وشكر مسعاهم، وتلقى قضاتهم وعلماؤهم ركبانا وحادثهم إنسانا إنسانا، وحصلت لجماعة من الفقراء والناس حالات جد مضطربة [3] وصرخات ذكر معجبة، وكان شعار السلطان غياث الدين صاحب الروم وخيامه، وشعار سلطنته قد بقى جميعه في وطأة قريب الجوسق والبستان المعروف بكيخسرو، فترجل الناس على اختلاف طبقاتهم في الركاب الشريف من ملك وأمير ومأمور، وارتفعت الأصوات بالتهليل والتكبير، ونزل السلطان في تلك المضارب، وضربت نوبة بني سلجوق على باب دهليزه على العادة.

_ [1] ههنا (ديوان امرئ القيس دار صادر بيروت 1958 ص 79) . [2] وردت بالمخطوط وعلمائها. [3] وردت بالمخطوط مطربة.

وإذن السلطان للناس في التقرب إلى شريف فسطاط، وحضر أصحاب الملاهي، فما ظفروا بغير النواهي، وقيل لهم: ارجعوا وراءكم، فالتمسوا وذهبوا إلى واد غير هذا الوادي فاقت سوءه هذه الهنات، لا تتفق هنا، وما هذا موضع الغناء بل موضع الغنى. وشرع السلطان في إنفاق اللها وعين في كل جهة شخصا وقال: أنت لها، وحكم وحكم، وعلم وعلم، واعتمد على الأمير جاليش في النيابة وأعطى كلا بيمينه كتابه [1] وأقام الحجة على من نزح بالاستعطاف، وتأمين من خاف، فلما علم أنهم لا يفلحون، ولغير التتار لا يصلحون، وإنهم إن أصبحوا في الطاعة لا يمسون، وإن أمسوا لا يصبحون، عاد عن تلك الوعود، وأختار أن ما بدا إليه يعود، فركب يوم الجمعة سابع عشر ذي القعدة مستقبلا من الله الخير، ونصب خبر بني سلجوق على رأسه، فرأى الناس منه صاحب القنة والسّبع، وصاحب القبة والطير، ودخل قيصرية في بكرة هذا اليوم، وكانت دار السلطنة قد فرشت لنزوله، وتخت بني سلجوق قد هيئ لحلوله، وهي (المخطوط 148) منازل تزهو، ومفازة من يتعبد ويلهو، أنيقة المبتنى، تحف بها بساتين عذبة المجتبى، جدرانها بأحسن أصناف القاشاني مصفحة، وبأجمل نقوشه مصرحة، فجلس السلطان في مرتبة الملك في أسعد وقت ونال التخت بحلوله أسعد البخت. «وما كان هذا التخت من حين نصبه لغير المليك الظاهر الندب يصلح» . «مليك على اسم الله ما فتحت له صوارق البيض المواضي وتفتح» . «أتته وفود الروم والكل قائل رأيناك تعفو عن كثير وتصفح» . «فأوسعهم حلما وجادلهم ندى [2] وأمسوا على من وأمن وأصبحوا» [3] .

_ [1] إشارة لقوله تعالى: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ [الحاقة، الآية: 19] . [2] وردت بالمخطوط يدي. [3] من شعر المؤلف.

وأقبل الناس على السلطان يهنونه. وعلى كفه الشريف يقبلونه ثم حضرت القضاة والفقهاء والصوفية ودور الرواتب من أصحاب العمائم على عادة بني سلجوق في كل جمعة، ووقف أمير المحفل وهو كبير المعدلة عندهم، وله وسامه وفخامه، وله أوسع كم وأكبر عمامة. وأخذ في ترتيب المحفل على قدر الأقدار، وانتصب قائما بين يدي السلطان منتظرا ما إليه به يشار، وشرع القراء يقرءون [1] جميعا وفرادي بأحسن تلحين وأجمل تحسين، فلما فرغوا شرح أمير المحفل صارخا، وبكور فمه نافخا، فأنشد وأورد بالفارسية، ما يعجب مدلوله، ويهول مقوله، وأطال وما أطاب، واستصوب من يعرف مقاله قوله، والله أعلم بالصواب. ولما انقضى ذلك مدوا سماطا ليس يناسب همم الملوك، فأكل الناس منه للشرف لا للسرف، ثم عاد كل إلى مكانه فوقف، وقام السلطان إلى مكان الراحة، فأقام ساعة أو ساعتين، ثم عاد إلى مخيمه قرير العين، وكان بدار الملك حرم السلجوقية، على أبوابهم أسمال ستور حرير، ومشايخ خدام، يستحق لكل منهم أن يدعى بالكبير، فجبرهم السلطان، وآنسهم، وأحسن إليهم، وتوجه إلى صلاة الجمعة بقيصرية، وبها سبع جمع تقام فيها خطبا إلا أنهم كالأنعام فصلينا في جامع السلطان، وهو جامع لا يدل على (المخطوط ص 149) احتفال ملوكها ببيوت عباداتهم، ولا فيه دلائل الخير ما تقضى بحسن إرادتهم. فحضر أهل المدينة وأكابرها، وجلسوا حلقا لا صفوفا وأجروا من البحث بالعجمية صنوفا، واجتمعت جماعة من حفاظ الكتاب العزيز فتخارجوا القراءة آية آية، وهي قراءة بعيدة عن الدراية بل إنها تبرزها أصوات مترنمة، والحان لتفريق الكلمات مقسمة، ينطقون بالحروف كيف اتفقت، ولا يتوقفون على مخارج الحروف إنها بها نطقت ولا نطقت، ولما آن وقت الآذان، قام صبي عليه قباء، من

_ [1] وردت بالمخطوط يقرون.

وسط جماعة عليهم أقبية، قعود على دكة المؤذنين، فابتدأ بالتكبير أولا وثانيا بمفرده من غير إعانة ولا إبانة، ولمّا تشهد ساعدوه جميعهم بأصوات مجمجمة ملعلعة، ونغمات متنوعة يحيكون له النغم بأطيب تلحين، ويترنمون بالأصوات إلى آخر التأذين، وفرغ الآذان، وكلهم قعود، ما منهم أحد غير الصبي قد وقف وما منا أحد لكلمة من الأذان عرف، ولما فرغ الآذان، طلع شيخ كبير السن يعرف بأمير محفل المنبر، فصعد ذروة المنبر، وشرع في دعاء لا نعرفه، وادعاء لا نألفه، كأنه مخاصم أو وكيل شرع أحضره لمشاورة خصمه خصم بين يدي حاكم، وطلع الخطيب بعد ذلك فخطب، ودعا للسلطان بغير مشاركة، وانفضت الجمعة على هذه الصورة المسطورة. وضربت السكة باسم السلطان، وأحضرت الدراهم إليه في هذا اليوم فشاهدنا وجها متهللا باسمه الميمون، وأقرت الألسنة [1] بهذه النعمة، وقرت العيون، وشاهدت بقيصرية مدارس وخوانق وربطا، تدل على اهتمام بانيها، ورغبتهم في العلوم الشريفة، مشتدة بأحسن الحجار الحمر المصقولة المنقوشة وأراضيها بأجمل ذلك مفروشة، وأواينها وصففها مؤزرة بالقاشاني الأجمل صورة، وجميعها مفروشة بالبسط الكرخية [2] والقالية [3] ، وفيها المياه الجارية، ولها الشبابيك على البساتين الحسنة. وسوق قيصرية طائف بها من حولها، وليس داخل المدينة دكان ولا سوق، والوزير في بلاد الروم يعرف (المخطوط ص 150) بالصاحب فخر الدين خواجا علي، وهو لا يحسن الكتابة، ولا الخط، وخلفه من مماليكه خاصة مائتا مملوك، ودخله غير دخل أولاده وغير الإقطاعات التي له ولأولاده وخواصه سبعة آلاف درهم

_ [1] وردت بالمخطوط الآستانة. [2] البسط الكرخية المصنوع في الكرخ إحدى ضواحي بغداد. [3] القالية من قالى وهي كلمة تركية بمعنى السجادة الكبيرة من الصوف بألوان ونقوش مختلفة (فرهنگ عميد 2/1566، فرهنگ رازي 655) .

سلطانية، ولقد شاهدت في مدرسته من خيامه وخركاواته شيئا لا يكون لأكبر الملوك، وله بر ومعروف وبالخير معروف. وأما معين الدين سليمان البرواناه وزوجته كرجى خاتون فظهر لهم من الوجود البادي للعيون كل نفيس، واستولى السلطان من موجودهما على ملك سليمان [1] وعرش بلقيس [2] ولما أقام بقيصرية هذه المدة، فكر في أمر عساكره، ومصالحهم بما لا يعرفه سواه، ونظر في حالهم بما أراه الله، وذلك لأن الأقوات قلت، والسيوف من المضاربة ملت، والسواعد من المصارمة كلت. وأنه ما بقى بالروم من الكفار من يغزى، ولا بجزاء السوء يجزى، وما بقى في البلاد إلا رعايا كالسوائم الهاملة، ولا دية لكفر منهم على عاقل ولا عاقلة، وإن أقام بالبلاد لا تحمله، ومواد بلاده لا تصله، وأعشاب الروم بالدوس قد اضمحلت، وعلوفاتها قد قلت، وزروعها لا ترجى لكفاية، ولا ترضى خيول العساكر المنصورة بما ترضى به خيول الروم من الرعى والرعاية، وإن الحسام الصقل الذي قلت به التتار في يد القاتل، وإنه إن كان أعجبهم عامهم فيعودون إلى الروم من قابل. فرحل يوم الاثنين العشرون [3] من ذي القعدة بعد أن أعطى أمراءه وخواصه كلما أحضر إليه من الأعنة والأزمة، وكلما يطلق على غولة اسم النعمة، فنزل في منزلة تعرف بقبر لولو، فيها وصل إليه رسول غياث الدين والبرواناه، يستوقفونه، وكان الأمر شائعا إنها إلى سيواس، فعدد السلطان عليه حسن وفاء عهده، وأنه أجاب دعاهم مرة بعد مرة، من أقصى ملكه مع بعده، وأنهم ما وقفوا عند الشرائط المقررة، ولا وفوا يمضمون الرسائل المسيرة، وأنه لما جاء الحق وزهق الباطل [4] طلبوا نظرة إلى ميسرة، وعلم (المخطوط ص 51) السلطان أن عساكر الروم أهل البداد لا

_ [1] نبي الله سليمان عليه السلام. [2] بلقيس ملكة سبأ باليمن. [3] وردت بالمخطوط العشرين. [4] إشارة إلى قوله تعالى: وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً [الإسراء، الآية: 81] .

أهل نفاذ، وأهل طرف لا أهل حرب، وأهل طيبة عيش لا قواد جيش فرد إلى سليمان البرواناه وهدده، وقال: قل له أني قد عرفت الروم وطرقاته، وأمه أسيرة معي وابن بنته وولده، ويكفينا ما جرى من النصر الوجيز، ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوى عزيز [1] ، ولا كل من قضى فريضة الحج تجب عليه المجاورة، ولا بعد هذه المهاجرة مهاجرة، ونحن فقد ابتغينا فيما أتانا الله من حقن دماء أهل الروم، وعدم نهب أموالهم، الدار الآخرة، وما كان جلوسنا في تخت مملكتكم لزيادة تنجح بتخت آل سلجوق إلا لتعلمكم أنه لا عائق لنا عن أمر من الأمور، يعوق، وأن أحدا لا ينبغي له أن يأمن لنا سطوة، وليتحقق كل أن كل مسافة جمعة لنا خطوة، وسروجنا بحمد الله أعظم من ذلك التخت حلالا، وأرفع منالا، وكم في ممالكنا كرسي ملك نحن آية ذلك الكرسي وكم لنا فتح، والحمد لله فوق الفتح القدسي. واستصحب السلطان معه أكابر الروميين، ثم رحل فنزل قريب خان السلطان علاء الدين كيقباد، ويعرف بكرواصواي، وهذا الخان بنية عظيمة من تشبه خان قطراي، وعليه أوقاف عظيمة، من جملتها أغنام كثيرة، يذبح نتاجها للواردين عليه، ثم نزلنا في وطأة رويزان كودلوز كودلو، اسم جبال تلك الوطأة، ثم رحلنا فعارضنا نهر في وطأة خلف حصن سمند ومن طريق غير التي كنا توجهنا عليها بمكان يعرف بنهر قزل صو، وهو صعب المخاض، واسع الاعتراض، عالي المهبط، زلق المسقط، مرتفع المرتقى، بعيد المستقى، لا يجد السالك من أوحال حافتيه إلا صعيدا زلقا. فوقف السلطان عليه بنفسه وجرد سيفه بيده، وباشر العمل هو وجميع خواصه، حتى هيأ المكان جميعه، ووقف راحلا يعبر الناس أولا فأولا من كبير وصغير وغلام، وهو في أثناء ذلك يكبر على من يزدحم، ويكرر التأديب (المخطوط ص 152) لمن يطلب بأذية رفيقة أنه يقتحم، فلما خفت البرور، ولم يبق إلا المرور،

_ [1] إشارة إلى قوله تعالى: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج، من الآية: 40] .

ركب فرسه، وعبر الماء. ونزل في واد هناك به مرعى ولا كالسعدان ومرائي ولا لشعب بوان، ثم رحل، فنزل عند صخرات قراجا حصار، وهي قرية كانت عامرة فيما مضى قبالة بازاربلو، وهذا البازار [1] هو الذي كانت الخلائق تجتمع إليه من أقطار الأرض، ويباع فيه من كل شيء يجلب في الأقاليم. ثم سرنا حتى نزلنا وطأة الأبلستين، وعبر السلطان على مكان المعركة المتقدمة مع التتار، ورأى كيف تعاقبت عليهم من العقبان كواسرها، ومن النسور مناسرها، وكيف أصبحوا لا تندبهم إلا البوم، وكيف تحققوا أن التي أهلكهم زرق الأسنة لا زرق الروم، وشاهدهم والهوام في أجسامهم متصرفة، قد هزأ بهم كل شيء حتى الوحوش والرياح، فهذه من صديدهم متكرعة، وهذه عليهم متقصفة. «قد سودت شجر الجبال شعورهم فكان فيه مسفه الغربان» . وحضرت من أهل الابلستين هناك جماعة من أهل التقى والدين، فاستخبرهم السلطان عن عدة قتلى المغل، فقالوا: ما شأن العاديين، فاستفهم من كبيرهم عن عدة المغل كم من قتيل؟ فقال: قل الله أعلم بعدتهم، ما يعلمهم إلا قليل [2] ، فقال الذي عنده علم من الكتاب [3] أنا أعددت سبعة آلاف وسبعمائة وسبعين نفرا وضاع الحساب، هذا غير من آوى إلى جبل يعصمه من ماء السيوف [4] فما عصمه، ومن اعتقد أن فرسه يسلمه فما سلمه.

_ [1] السوق. [2] إشارة إلى قوله تعالى: قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً [الكهف، الآية 22] . [3] إشارة إلى قوله تعالى: قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ... [النمل، الآية: 40] . [4] إشارة إلى قوله تعالى: قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ ... [هود، الآية: 43] .

فنزلهم السلطان، ورسم بتقدير الأثقال والخزائن والدهليز على أمجاد ربند، ثم أقام يومين ينتظر صعيدا من العدو يعن أو دما من دمائهم إلى السيف يحن، فلما لم يجد أحدا، رحل من طريق غير التي حضر منها، فسلك على الأوعار طريقا يبسا، وطلع من قنن الجبال في هضاب كان كلا منها كف حملت من الأنجم قبسا، فقاس الناس في هذا اليوم من الشدة ما لا يدخل في قياس. (المخطوط ص 153) وكاد الناس أن يهلكوا لولا أن الله تدارك الناس، فساقوا ولكن على مثل حد السيف، وتسللوا ولكن سل حوافر الخيل كيف، وهبطوا من جبال يستصعبها كل شيء حتى طارق الطيف، يستصحب الحجر المحلق وقوعه في عقابها ويستهول النجم الثاقب تعلقه بشعابها. وعد بباكوك صو وهو النهر الأزرق، وبات السلطان هناك، وكان قضيم الخيل في تلك الليلة ورق البلوط إلا من أمست عناية الله له بيسير شعير محوط، ورحل السلطان ونزل كينوك المقدم ذكرها، وعدل إلى طريق مرعش فزال بحمد الله عقاب تلك العقاب. وقالت الأنهار المتلقية لكل منا أركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب [1] ، ونزلنا قريب قلعة خراب، تعرف بالاسكركيس إلى جانب نهر يعرف بالخان، ثم رحل السلطان قريب بركلوجا من بلاد مرعش ثم رحل فنزل عقبة مرى أحد دربندات سيس إلى جانب النهر الأسود، ورحل فنزل قبالة دريساك، ورحل فنزل قبالة حارم، فنزل قريب منزله الذي كان به فيما تقدم، وألقى عصا النسيان، وقال لأهل الخيام هذه الخيام ولأهل هذه الدرار هذه الدر. هذه الرسالة كافية في كثير من أحوال الروم، وفيما ذكره عن دخل هذا الوزير ومن له المماليك غير بقية من لعله يكون له من الجند والأتباع ما يعرف به عظم

_ [1] إشارة إلى قوله تعالى: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ [ص، الآية: 42] .

شأن هذه المملكة ووفور دخلها ووفود السعود إلى محلها، وتستر أبناء الزمان من عين دهرها بظلها. ولو قد اجتمعت هذه البلاد لسلطان واحد، وكفت بها أكف المفاسد، لما وسع ملوك الأرض إلا انتجاع سحابه وارتجاع كل زمان ذاهب في غير جنابه، وهذا الذي ذكره، دخله الملك الظاهر بيبرس من بلاد الروم، وهو بعض ما لبيت جنكيز خان وهو من جلالة المقدار، وكثرة المال، على ما قد أشرنا إليه، فكيف جميع ما هو الخليج القسطنطيني (المخطوط ص 154) إلى بحر نيطش. الله أكبر أن ذلك فلك عقيم، وسلك نظيم وسلطنة كبرى ودنيا أخرى، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم [1] . وأما ما نحن بصدد ذكره من ممالك الأتراك في الروم، فقد حدثني الشيخ حيدر العريان السبر حصري الرومي، وهو من أهل مدينة سبر حصر من بلاد الروم، مما هو في أيدي ملوك بيت جنكيز خان، قال: إن لهؤلاء أمراء الأتراك نقود ألا يخرج نقد واحد منهم في بلاد الآخر، ودرهمهم في الغالب في تقدير نصف وربع درهم من نقدنا، والرطل مختلف عندهم، وأكثرها بالتقريب زنة اثني عشر رطلا بالمصري، وأقلها زنة ثمانية أرطال. قال: وأما الغلات فتباع بكيل لهم يعرف بالوط، وهو يجيء تقدير أردب ونصف بالمصري. قال: وهذه البلاد بل الروم جميعه فيه من أنواع الفواكه. كلها إلا الحوامض كالليمون والنارنج وما لا يوجد في الصرود كالرطب والموز، وقد يوجد ما قل من الحوامض في بعضها مما هو على ساحل البحر.

_ [1] إشارة إلى قوله تعالى: ... ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد، من الآية: 21] .

وأما الدواب والسوائم فأكثر من أن يقع عليها إحصاء أو حساب من الخيل والغنم والبقر، وأعظمها عددا وأنماها ولدا الغنم، فإنها تبسط فرش الأرض منها المعز الموغر ذوات الأوبار المضاهية لأنغم الحرير، وغالب قنية أهل الشام وديار بكر والعراق وديار العجم، وذبائحهم مما يفضل عنها، ويجلب إليها منها، وهي أطيب أغنام البلاد لحما، وأشهى شحما، وبها العسل المضاهي للثلج بياضا، والسكر في اللذاذة طعما، لا حدة فيه ولا إفراط حلاوة توقف الأكل. والأسعار كلها بالروم رخيصة لأسباب منها قلة المكوس وكثرة المراعي المباحة، واتساع سبب التجارة، واكتتاف البحر. قال: وقيمة الغلات بها دون قيمتها بمصر والشام. وقيمتها أو مثلها في الغالب، فأما اللحم واللبن على اختلاف أنواعها فرخية رخيصة، أما الغنم فخيار رأس يكون لا يجاوز (المخطوط ص 155) اثني عشر درهما من دراهمهم، يكون بنحو تسعة دراهم من دراهمنا إلى ما دون ذلك. وأما اللبن وما يعمل منه فما هو مما يسأل عنه بكيف؟ 1 لكثرته، وأما في زمن الربيع فإنه لا يوجد له من يشتري ولا من يبيع لأنه لا يكاد يخلو أحد في الروم من أغنام تحلب له اللبن فلا يحتاج ليشتريه، ولا يحتاج إليه فيبيعه له. قال: وأما العسل فلا تتجاوز الرطل ثلاثة دراهم برطلهم وهو ذلك الرطل الكبير، ودرهمم وهو ذلك الدرهم الصغير، وأما الفواكه في أوانها حكم الألبان في زمان الربيع. وقال: وبلاد الروم إذا غلت وأقحطت كانت بسعر الشام، وإذا أقبل أرخص. قال: ومع نواب بيت جنكيز خان بالروم ثلاثة معادن فضة أحدها بأراضي مدينة لؤلؤة، والثاني بأراضي مدينة لبن، والثالث بأراضي مدينة باجرت. قال: وهي إلي أن فارقتها في حدود سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة، عماله

مستمرة تستخرج الفضة الخالصة بها. قال: والروم شديد البرد، لا يوصف شتاءوه إلا أن سكانه تستعد له قبل دخوله، وتحصل ما تحتاج إليه، وتدخره في بيوتها، وتستكثر من القديد والأدهان والخمور، فتأكل طول مدة الشتاء تلك الأيام بهنية العيش عندهم ولا تخرج من بيوتها، ولو أرادت ذلك لما قدرت حتى تذوب الثلوج، فتخرج إلى معايشها. وذكر هذا الشيخ حيدر العريان أن جملة ممالك الأتراك بالروم أحد عشر مملكة غير ما بيد بيت جنكيز خان، وهذا هو خلاف ما تبين على ما سنذكره نقلا عن يليان الجنوبي ويليان أدرى. فأما ما عده العريان من ممالك الأتراك فهو مملكة انطاليا [1] ، وصاحبها خضر بن دندار [2] ، وقال: أن لصاحبها مدينة افنيكا [3] ، وأميرها الذي هو بها الآن من قبله، وهو من أولاد منتشا، وقال: إن عدة عسكره نحو أربعين ألف فارس. قلت: ولهؤلاء بني دندار إلى ملوك مصر انتماء، ولهم من (المخطوط ص 156) تحف سلاطينها نعما، وكان بمصر منهم من له إمرة فيها، ثم عاد إلى بلاده بعد مهلك تمرتاش بن جوبان [4] لأنه كان قد ترك بلاده لأجله، وفر هاربا من يده لعداوة كانت قد اضطرمت بينهما شرورها، واضطربت أمورها، فلما خلت من مجاورة

_ [1] انطاليا هي أنطاليه وهي من بلاد الروم من أحسن المدن، متناهية في اتساع المساحة والضخامة، أجمل ما يرى من البلاد، وأكثر عمارة وأحسنه ترتيبا، فيها البساتين والفواكه وعيون الماء وهي غير أنطاكية (رحلة ابن بطوطة 189- 190) . [2] خضر بن دندار: هو خضر بك بن يونس بك (رحلة ابن بطوطة 191) ، حكم من سنة 728 هـ- 776 هـ (انظر: معجم الأنساب والأسرات الحاكمة 229) . [3] أفنيكا هي مدينة الفنيكة على ساحل الخليج القسطنطيني وهي صغيرة لكنها حسنة مانعة، وكنائسها وديارها حسان والأنهار تخترقها والبساتين تحف بها (رحلة ابن بطوطة 231) وهي فنكة (معجم الأنساب والأسرات الحاكمة، زامباور أخرجه زكي محمد حسن وآخرون، القاهرة: 1951 ص 230) . [4] هو دمرطاش بن جوبان: فر إلى مصر، فأكرمه ملكها الناصر، وأعطاه الإسكندرية، فأبى من قبولها وقال: إنما أريد العساكر لأقاتل أبا سعيد وأظهر أمورا أوجبت قتله (رحلة ابن بطوطة 153) .

تمرتاش تلك البلاد، عاد وأخبرني يليان الجنوبي الآتي ذكره، أنه قتل هناك، وما استقر له حال، ولا سلمت له بلاد. ومملكة رملاش [1] بلاد ابن منتشا [2] ، وقال: عسكره لا يزيد عن ثلاثة آلاف فارس. ومملكة بركري [3] بلاد محمد بن ايدين [4] ، وأن عسكره نحو عشرة آلاف فارس، وهذا ابن آيدين ما أعرف بأن له من حوله من ملوك الممالك الماما، ولا أن له أخيارا ترد طروقا ولا لماما، بل هو في عزلة من كل جانب، ولا مخالط ولا مجانب. ومملكة كاس برديك [5] بلاد صاروخان، قال: وعسكره إذا جمع بقارب ثمانية آلاف فارس. ومملكة بالي كسرى [6] بلاد دمرخان بن قراشي [7] قال: وله مدينة كردما وبينهما يومان، وأمير كردما من قبيلة واسمه سبغا، قال: وهذه البلاد محصنة منيعة، ولها أقطار رخية وسيعة، ومع هذا فعسكره قليل ضئيل، لا يجاوز مائتي فارس، لكنه مطمئن بمنعة بلاده، ولا ينافسه فيها منافس.

_ [1] هي مملكة بيلاس ومدينتها ميلاس من أحسن بلاد الروم وأضخمها، كثيرة الفواكه والبساتين (رحلة ابن بطوطة 194) . [2] هو شجاع الدين أرخان بك بن المتتشا من خيار الملوك حسن الصورة والسيرة (رحلة ابن بطوطة 195) . [3] هي بركي (انظر: رحلة ابن بطوطة 199- معجم الأسرات الحاكمة 227) . [4] محمد بن آيدين من خيار السلاطين وكرمائهم وفضلائهم (رحلة ابن بطوطة 199) حكم في بركي وأربا وصرت وكوشك وآقجشهر وأماكن أخرى سنة 734 هـ (معجم الأسرات الحاكمة 227) . [5] وهي مملكة مغنيسة وسلطانها صارو خان من سلاجقة أوج أميرا (معجم الأسرات الحاكمة 226) ومغنيسة مدينة كبيرة حسنة في سفح جبل وبسيطها كثير الأنهار والعيون والبساتين والفواكه (رحلة ابن بطوطة 203) . [6] هي مملكة بلى كسرى وهي مدينة حسنة، كثيرة العمارات مليحة الأسواق (رحلة ابن بطوطة 204) وهي باليكسر وتابعة لبني قراس (معجم الأسرات الحاكمة 225) . [7] سلطانها دمور خان ولا خير فيه (رحلة ابن بطوطة 204) .

ومملكة بلاد أورجادين عمان قال: وعسكره خمسة وعشرون ألف فارس، وهو مجاور الخليج القسطنطيني، وبينه وبين صاحب القسطنطينية الغلب، ولها في صدور الروم سهام تشق صدور القلب، ولهذا يداريه ملك الروم على مال، يحمله إليه كل هلال، قال: ولقد جاز البحر مرة إلى بلاد النصارى، وعاش في نواحيها، وشد على بطارقتها [1] لا فلاحيها، وألقى علوجها بحيث تعتلج سيول الدماء، وتختلج سيوف النصر (المخطوط ص 157) من الأعداء، أمده الله بتأييده، وأذلّ رخم الكفر بعقبان صناديد. ومملكة كرميان [2] بلاد أرغدشار [3] ، قال: كرسي مملكة كوناي، قال: ومالكها الآن كرميان بن غدشار، هكذا قال الشيخ حيدر العريان، وهو أمير مطاع، وقائد جيوش لبوارق سيوفهم متاع، وأمراء الأتراك تتقيه ببذل كل منهم في متاقاته ما استطاع، قال: وعسكره يقارب أربعين ألف فارس، وهم فوارس وغي، وفوارع عليا لا تبتغي. مملكة كرداله [4] بلاد شاهين، قال: وعسكره نحو خمسة آلاف فارس. ومملكة كونيك حصار بلاد أمير جاكو، قال: وعسكره ثلاثة آلاف فارس. ومملكة كصطمونيه [5] بلاد سليمان باشا [6] ، قال: وصاحبها الآن إبراهيم بن

_ [1] بطارقتها جمع مفرده بطريق وبطرك وبطريرك وهو مقدم النصارى ورئيس رؤساء الأساقفة (المعجم الوسيط 1/63) . [2] بكوتاهية واوشاق وقولا وبازار وصارى كيوك (معجم الأسرات الحاكمة 227) . [3] زكرزمباور إنه محمد بن يعقوب والذي حكم ما بين 706 هـ إلى 779 هـ (معجم الأسرات الحاكمة 227) . [4] كرده بولي (معجم الأنساب والأسرات الحاكمة 223) . [5] وهي قسطموني وسينوب وبرغلد وحاكمها هو غياث الدين إبراهيم بن سليمان حكم 740 هـ وبعده يعقوب بن تمر 742 هـ (معجم الأنساب وكصطمونيه من أعظم المدن وأحسنها، كثيرات الخيرات، رخيصة الأسعار (رحلة ابن بطوطة 210) . [6] سليمان باشا السلطان المكرم، حسن الوجه، طويل اللحية صاحب وقار وهيبة يجالسه الفقهاء والصلحاء

سليمان باشا [1] ، وله مدن وقلاع، ومن مشهور ماله منية سنوب، وأميرها من قبله، واسمه غازي جلبى، وبودي وأميرها مراد بك. قلت: وصاحب كصطمونيه ممن له بملوك مصر اتحاد، وبينه وبينهم مكاتبات ووداد ونحوه على ما يقال لنا ويبلغنا نحو ثلاثين ألف فارس أو يزيدون، وببلاده الخيل المخاص الرومية الفائقة، المفضل بعضها على كل سابق من الخيل العرّاب، وهي بيوت مشهورة مثل خيول العرب، بأنساب محفوظة وأحساب ملحوظة، ويغالى في أثمانها، خصوصا في مكانها حتى أن قيمتها لتبلغ قيمة ألف دينار ذهبا، ومنها ما يتجاوز هذا المقدار ويزيد قيمته على ألف دينار، ولا يستكثر من يعرفها فيها بذل مال، ولا يستغلى اشتطاط السوم، وإذا قصد في بلاد الروم بيع اكديش [2] خال منها بالثمن الغالي، قال: هذا كصطموني يشرفه بهذا الوسم، وينفقه في البيع تجاه هذه النسبة. ومملكة أرمصال [3] وهي بلاد ابن قرمان [4] ، وصاحبها الأمير محمد بن قرمان، من أهل بيت توارثوا (المخطوط ص 158) هذه البلاد، ولا يخاطب قائم منهم إلا يأمره، وفي ساحل بلاده مدينة العلائية المعروفة على ألسنة الناس بالعلايا، وأميرها من قبله اسمه يوسف، وله مدينة وهي عنه على ثلاثة أيام، وأميرها من قبله واسمه إسحاق بك، ولأولاد قرمان عصبة ذات أيد ويد وجيوش كثيرة العدد، وهم أصحاب

_ (رحلة ابن بطوطة 211) . [1] إبراهيم بك ابن السلطان سليمان هو ولي عهد سليمان ووالي مدينة حينوب (رحلة ابن بطوطة 212، انظر: معجم الأنساب والأسرات الحاكمة 225) . [2] أكديش يجمع أكاديش وهي نوع من الخيول تجلب من آزاق ببلاد الروم، والأكاديش معروفة في مصر وهي كالغنم في تلك البلاد (رحلة ابن بطوطة 218) . [3] أرمصال هي بلاد العلايا، وهي أول بلاد الروم ومن أحسن الأقاليم، وجمع الله فيه ما تفرق من المحاسن في البلاد فأهله أجمل الناس وأنظفهم وأطيبهم مطاعم (رحلة ابن بطوطة 188) . [4] ابن قرمان هو والد يوسف وإسحاق وقد كانا في فترة رحلة ابن بطوطة (انظر: الرحلة ص 188- 189) وكانوا في لارنده وسيواس وقونية وأرمناك (معجم الأنساب 236) .

الحروب التي ضعضعت الجبال، وأنتجت الحرب الحيال، ولهم مع الأرمن وبلاد التكفور [1] وقائع لا يجحدها إلا الكفور، تتخطفهم عقبانه القشاعم، وتلتهم أسوده الضراغم. ببلادهم معدن حديد، لهم به بأس شديد، ومنه درق مديد، وهم أهل بيت ألقى الله عليهم محبة منه، وإذا شاء أميرهم جمع أربعين ألفا، وهو ما هو عليه، يدارى ملوك التتار، وهواه هو ومن سلف من أهل بيته مع ملوك مصر، لا تغب المكاتبات بينهم، ولا ينقطع بذل خدمته لهم، وإقبالهم عليه، واعتدادهم بموالاة، وقد كان منهم من قد طلب تقليدا بمصر بإتيائه ما بيده من بلاد الروم، فكتب له، ثم أن سلامش الحاكم بالروم كان انحرف عن سلاطين بيت هولاكو، وكتب إلى الأبواب السلطانية بمصر يسأل تقليدا بملك حكم الروم أجمعه، وأن تكون أولاد قرمان ومن سواهم في طوعه، فكتب من إنشاء شيخنا أبي الثناء محمود بن سلمان بن فهد الحلبي الكاتب رحمه الله، ومنه وبعد فإن أولى من أصغت عزائمنا الشريفة إلى نداء إخلاصه، وأجابت مكارمنا العميمة دعاء تميزه بالولاء واختصاصه، وقابلت مراسمنا استنصاره في الدين بالنفير لإعانته على ما ظفر باقتلاعه من يد الكفر، واقتناصه (تكرار من أول وقابلت إلى اقتناصه) وتكفلت له مهابتنا بالأمن على ملك مذ وسمه باسمه الشريف، يئس العدو من استخلاصه، وأتت كتبه (المخطوط ص 159) في الاستنجاد ليرعان الكتائب، ولمعان القواضب، وتتابع إمداد جيوشا التي ستنوء بحملها كواهل المشارق والمغارب، وتدفق أمواج عسكرنا الذي ينشد طلائعها ملوك العدى أين المفر؟ ولا مفر لهارب وتألق بروق النصر، من خفق ألويتنا، الشاهدة بأن قبيلنا إذا ما التقى الجمعان أول غالب، وفوضت إليه مراسمنا الحكم بالعدل والإحسان، وقلدته أوامرنا من عقود النظر في تلك الممالك ما تود جباه الملوك لو حلت بدره معاقد التيجان، وعقدت به من الأوامر ما تنفذ بنا

_ [1] وهو تكفور بن السلطان جرجيس (رحلة ابن بطوطة 232) .

مواقعه، وكذا الأمور المعتبرة ما تنفذ إلا بسلطان من ألقى الله الإيمان في قلبه وهداه إلى دين الإسلام، فأصبح على بينة من ربه، وأراد به خيرا فنقله من حزب الشيطان إلى حزبه، وأيقظه من طاعتنا التي أوجبها على الأمم لما أبصر به رشده، ورأى قصده، وعلم به أن الذي كان فيه كسراب بقيعه [1] ولم يجده شيئا، وأن الذي انتقل إليه، وجد الله عنده وأنهته من موالاتنا بما حتم به النهوض على من كان مسلما وأخرجه بنور الهدى من عداء أعدائه الذين تركهم خوفنا، كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما، وأراه الرشد ما علم به أن الله تعالى أورثنا ملك الإسلام، فبطاعتنا يتم الانتماء إليه، وأعطانا مقاليد البسيطة، فمن اغتصبت منها شيئا [2] ، انتزعه الله بجنوده المسومة من يديه فلجأ من أبوابنا العالية إلى الظل الذي يلجأ إليه كل ذي منير وسرير، ورجاء من كرمنا الاعتصام بجيوشنا التي مارمينا بها عدوا إلا ظن أن الرمال تسيل (والجبال تسير [3] ) وتخير منا إلى فئة الإسلام، وانتصر بسيوفنا التي هي تعلم كيف يسلمها على الأحلام، ومتّ إلينا بذمة الإسلام، وهي أبر الذمم، وطلب تقليده الحكم منا من معادنه إذا رأته النظرات الصادقة أن كان يسحب الشحم فيمن تحمه ورم، وعقد بنا رجاؤه، وهل لمسلم من ملك الإسلام من معدل (المخطوط ص 160) وأنزل بنا كتائب آماله، وهل تعد راحة لرام من منزل فتلفت نغمها كرائم قصده بالترحيب، وأحلت وفادة انتمائه بحرمنا الذي شاءه بعيد ونصره قريب، وتسارعت إلى نصرته جنودنا التي هي مشهورة في عددها، وآثارها، مشكورة في رواحها وغدوها، وأعلامها منصورة في انتزاحها ودنوها، وتوالت تبايع بعضها بعضا، تتابع الغمام المتراكم، والموج المتلاطم، وتقدم غلبه بالنصر القريب من الأمد البعيد، وتعلم بوادرها أن طلائعها عنده، وبانيها

_ [1] إشارة إلى قوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ [النور، الآية: 39] . [2] ترد بالمخطوط شياءا. [3] ما ورد بين القوسين جاء بالهامش.

بالصعيد، ولما كان فلان هو الذي أراد الله به الخير، ما أراد، ووطد له بعنايته أركان الرشاد وشاد وجعل له بعد الجهل به علما، وتداركه برحمته فما أمسى للإسلام عدوا، حتى أصبح هو ومن معه سلما، قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا، وبكرمه العميم فليستفتحوا صدورهم ويشرحوا وبإرشاده الجلي وهدى نبيه فليدعوا قومهم إلى ذلك وينصحوا، وحين وضحت له هذه الطرف أرشدته من خدمتنا الشريفة إلى الطاعة، وبادلته على مولاة ملك الإسلام التي من لم يتمسك بها فقد فارق الجماعة، فإن الله تعالى قرن طاعته وطاعة رسوله (صلى الله عليه وسلم) بطاعة ولي الأمر، وحث على ملازمة الجماعة في وقت يكون التمسك فيه بدينه كالقابض على الجمر [1] وهذا فعل من أراد الله به خيرا وسعى من يحسن في دين الله سيرة وسيرا، ولذلك اقتضت آراءونا الشريفة إمضاء عزمه على الجهاد بالانجاد، وانقاذ سهمه في أهل العناء بالإسعاف الإسعاد، وأرسلها الجيوش كما تقدم شرحه يطأون الصحاصح، ويستقربون المدى النازح ويأخذون كل كمى، فلو استطاع السماك لم يتسم بالرامح، ويحتسبون النفقة في طلب علو الإسلام علما أنهم لا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة، ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم به عمل صالح، فرسم بالأمر الشريف لا زال يهب (المخطوط ص 161) الدول ويقلد أجياد العظماء ما تود لو تحلت ببعض فرائده تيجان الملوك الأول، أن يفوض إليه نيابة المملكة الرومية تفويضا، ليصون قلاعها ويصول به على من حاول انتزاعها من يده، واقتلاعها، ويجرها على ما ألفت ممالكنا، من أمر لا يروع سربه، ولا يكدر شربه، ولا يوحد فيه باغ يخاف السبيل بسببه، ولا من يجرد سيف بغى وإن جرده قتل به، وليحفظ من الأطراف ما استودعه، وهذا التقليد حفظه، وليعمل في قتال مجاوريه من العد [2] ،

_ [1] إشارة إلى الحديث النبوي الشريف: «القابض على دينه كالقابض على الجمر» (انظر: الحديث في مسند أحمد بن حنبل 2/290) . [2] وردت بالمخطوط بالعدى.

بقوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً [1] ، وليعلم أن جيوشنا في المسير إليه متى قصد عدوا، سابقت خيولها خيالها، وجادت جيادها طلاها، وأنفت سنابكها أن تجعل غير جماجم الأعداء نعالها، وها هي قد تقدمت وأقدمت، ونهضت لإنجاده، فلو سامها أن تخوض البحار في سبيل الله لخاضت، أو قصد الجبال لصدمت، والشرع الشريف مهمة المقدم، وأمره السابق على كل ما تقدم، فليعل مناره، وليستشف في أموره وأنواره، وينقذ أحكامه، ويعضد حكامه، ومن عدل عن حكمه معاندا، أو ترك شيئا من حكمه جاحدا فقد برئت الذمة من دمه، حتى يفيء إلى أمر الله، ويرجع عن عناده وينيب إلى الله، فإن الله يهدى إليه من أناب وهو الذي يقبل التوبة عن عباده.

_ [1] جزء من الآية 123 من سورة التوبة 9.

(وكان من حديث هذا اسلامش المذكورة) إن السلطان محمود غازان قصد أعداءه [1] فأراد الانحياز إلى الشام، وكاتب الملك المنصور لاجين [2] ، فأرسل شخصا من جهته يعرف بالمخلص الرومي، فأقبل السلطان وأرباب الدولة عليه، وقيل إنّا لا نكره من هاجر إلينا، واتصل بالسلطان محمود غازان مراسلة المصريين، فبعث إليه عسكرا لمحاربته، فالتقوا معه ببلاد الروم، فلما التحم القتال خامر عليه (المخطوط 162) بعض من كان معه، فبقى في قل من أصحابه، وحقت عليه الهزيمة فالتحق بالشام في قل من جيشه، فلما أتى حلب جهز معه من يحضره إلى الأبواب السلطانية بمصر، فلما وصل عومل بالإكرام، وعوجل بالإنعام وخير في المقام بمصر إن شاء أو الشام، فذكر أنه ترك وراءه ماله وأهله وأولاده، وسأل تجريد عسكر لإحضارهم ليقيم بالبلاد الشامية، مقطوع الالتفات عما سواها، فجهز معه من العسكر الجلو [3] طائفة مع بكتمر الجلمى، دخل بهم بلاد الروم على بلاد الأرمن. وبلغ متملك سيس الخبر، وكان عنده طائفة من التتار فأمسكوا عليهم الدروب، وعاجلوهم باللقاء فما كان بأسرع من أن قتل الجلمى، وفر سلامش، ولجأ إلى قلعة من قلاع الروم، فأرسل السلطان محمود غازان في طلبه، فأحضر إليه، فقتله شر قتلة، وذبحه على غير قبلة. وكان سلامش قد خلف بالأبواب السلطانية بمصر أخا له اسمه قطقطو والمخلص

_ [1] وردت بالمخطوط أعدائه. [2] المنصور حسام الدين لاجين المنصوري، نائب السلطان قلاوون بدمشق سنة 678 هـ تولى السلطنة سنة 698 هـ ولمدة سنتين (انظر: فضل الله بن أبي الفخر الصقاعي في تالي وفيات الأعيان تحقيق جاكلين سوبلة من منشورات المعهد القرنسى للدراسات العربية دمشق 1974 ص 132، المنجد في الأعلام، الشيخ عبد الله العلايلي وآخرون بيروت 1987 طبعة 15/ص 546) . [3] العسكر الجلو: عسكر الطليعة وجلو هي الطليعة من اللغة الفارسية (فرهنگ رازي 200) .

الرومي، فاستقرا بها، وأقطعا إقطاعا بها، وأجرى عليهما راتبا فيها. وإنما ذكرنا حديث سلامش في هذا المكان لتعلقه بالروم، ولأن أمراء بني قرمان هم كانوا المؤلفين بينه وبين المنصور لاجين، والداخلين معه أولا وآخرا فيه وهؤلاء أولاد قرمان هم الذين لا يرتاب في رأيهم، ولا يظن في دينهم، فمهما ورد من جهتهم تلقى بالقبول، وحمل على أحسن المحامل. وكذلك طلب ارتنا [1] تقليدا ناصريا بنيابة الروم، وتردد في هذا سراج الدين قاضي قيسارية فكتب له، فخلص الموالاه، وأقام دعوة الخطبة الناصرية. على منابر البلاد الرومية، وضرب السكة بالاسم الشريف وجهز معه الدراهم المضروبة وذلك كله أظهر طاعة لا إذعان لحكم، ولقد حدثني من تردد إليهم، وعرف ما هم عليه، أنهم رجال صدق، وقوم صبر لا يستخف لهم حفيظة، ولا يرد بحنقها لهم صدور مغيظة، ولهذا أمراء الروم لا يطأون لهم موطئا بغيظ، ولا يواطئون لهم عدة شهور (المخطوط 163) مشتى ولا مغيظ، وما أحد ممن يحسدهم على ما أتاهم الله من فضله إلا من يستجيش عليهم بالتتار، ويعدد عليهم عظائم الذنوب الكبار، ووقاية الله تكفيهم، وحياطته عن عيون القوم تحفظهم. ولقد كان السلطان محمود غازان يقول أنا أطلب الباغي [2] شرقا وغربا، والباغي في ثوبي، عن أولاد قرمان، ومع هذا لم يسلط عليهم. وحكى لي الصدر شمس الدين عبد اللطيف أخو النجيب أنه قال يوما لولا الأكراد وأولاد قرمان وتركان الروم دست بخيلي مغرب الشمس، قال: وكان لا يريد

_ [1] أرثنا: أمير بلاد التركمان المعروفة ببلاد الروم أيضا (رحلة ابن بطوطة 154) وبنو أرثنا كانوا بسيواس وقيصرية ونيكده وأماسية وقراصار وكمش وقد حكم علاء الدين أتنا بن جعفر سنة 736 هـ واستقل بسيواس بعد موت أبي سعيد بهادر وخلفه غياث الدين محمد أرثنا سنة 753 هـ (معجم الأنساب والأسرات الحاكمة 232) . [2] الياغي كلمة تركية بمعنى المتمرد (فرهنگ رازي 1034) .

بعد الشام إلا هم، ومع هذا ما قدر عليهم، ولولا خلا وجهه لما انصرف إلا إليهم. ولما استفحل أمير جوبان بك [1] بمملكة إيران، وكان هو حقيقة السلطان، واستولى ابنه تمرتاش [2] على الروم، وانتزع به عدة ممالك، وجد في طلب الباقي، رأت أولاد قرمان مصافاة أبيه جوبان، واستدفعت به شرايينه طول ذلك الزمان مع ما كان لهم من العناية الإلهية، والإعانة من سلطاننا أعز نصره، ولولا هذا لأتى عليهم، وسلبوا النفس والنفائس لما كان عند جارهم الجائر من الاستعداد، لموالاة التكفور متملك الأرمن، لرفع الشكوى عليهم في كل وقت، وتضرره مما ينوب أهل بلاده منهم، وتضرره مما ينوء به من ثقل وطأتهم، وكانوا في تلك السنين خائفين، يترقبون المصابحة والمماساة، وينتظرون البيات والمقيل. قلت: ولأهل هذا البيت روعة في قلوب التكفور والأرمن، وفي كل بيت يبعث التكفور يسأل بروز المراسم المطاعة إلى أميرهم بالكف عن بلاده، وهو لا يتعمد سيف جهاده، لا يرعى للأرمن حق جواره، ولا يدخل في سمعه لضجيجهم جواءر، يشن عليهم في كل وقت غاراته، ويجوس خلال ديارهم جيوشه وسراياه، وكرسيه مدينة أرمناك على ذروة جبل. أرزاقه متسعة وجيرانه كثيرة، وبينها وبين العلاية ثلاثة أيام، وقد يحكى عن أميرهم القائم الآن بدر الدين أنه افتض ألف بكر (المخطوط ص 164) . ويوصف من كرمه أنه يطلق على كل ما يملك من صامت وناطق حتى أنه لا يدع له شيئا البتة، ثم يتحول فإذا أثرى أطلق كل ما يملكه حتى لا يدع له شيئا،

_ [1] كان جوبان أمير الأمراء في عهد السلطان أبي سعيد بهادر خان، وقد استولى على الأمر، وحجر على تعرفات السلطان حتى لم يكن بيده من الملك إلا الاسم، وكان ابن جوبان المسمى خواجه يفتك بحريم والد السلطان، فقتل أبو سعيد ابن الجوبان وثار جوبان وأولاده وقتل والي خوارزم جوبان وولدا له (رحلة ابن بطوطة 152- 153) . [2] هو دمرطاش بن جوبان وكان قد فر إلى مصر وقتل هناك (رحلة ابن بطوطة 153) .

هكذا دأبه، وبهذا يعرض على الله حسابه. قلت: ولقد وصل من سنين أخواه الأمير بهاء الدين موسى ابن قرمان إلى الحضرة السلطانية، وأقام مديدة بالباب الشريف ثم توجه لأداء فريضة الحج، وعاد إلى الحضرة، وحرك العزائم الشريفة على الأرمن، وارتجاع ما يلي الممالك الإسلامية من نهر جهان، ثم عاد إلى بلاده، وعومل بالجميل في إصداره، وإيراده، وأجلس أكابر الأمراء، أمراء المشورة، وأجرى في تكبير القدر مجراهم، وطلب منشورا سلطانيا ببلاد من مملكة التكفور، تولى سيفه انتزاعها واستعاد ضالتها من أيديهم وارتجاعها فكتب له على ما طلب، وما أخذها إلى الآن، ولكنه في الطلب. هذه جملة بمعنى ما ذكره العريان وما انساق في تبيانها من أمور هذه البلاد. وأما ما ذكره بلبان الجنوى عتيق الأمير الكبير بهادر المعزى، وهو ممن له الخبرة التامة بما يحكيه، وهو الذي أفاد كيفية تصوير هذه البلاد، واسم هذا بلبان في بلاده دوما نوكين دور بابن بادا دور بار هو من بيت حكيم في جنوة [1] ، اتفق أنه جمعت بيني وبينه المقادير في الاعتقال وعنه أحدث ما قال. حدثني أن هؤلاء أمراء الأتراك الذين بالروم الآن أبناء أمرائها الأول، وممن تأخر عن سالف تلك الدول، وهم فيها إلى يومنا هذا من بقايا تلك البقية وممن فصحت عنهم برود الأيام السلجوقية، استقر بأيديهم الجبل، وبأيدي بيت هولاكو السهل، وجميع هؤلاء الأمراء الأتراك تقر لصاحب كرمان، وتذعن له بعض الإذعان، وتجريه في كثير من أحوالها مجرى السلطان، وتعترف له بالتقديم، وله على بعضهم مقرر لا ينقص، وعلى بعضهم هدايا بحسب الأوقات. (المخطوط ص 165) وهو في ظاهر الحال فيهم الملك المطاع، والبقية له أتباع، أو كالاتباع، تكاتبه في معضلات الأمور، وتتيمن برأيه ويقوي بعضهم على بعض

_ [1] كان أهل جنوه أهل سفر وترحال لهم حي في القسطنطينية.

بمعاضدته [1] ، وتسر بخلعه وإنصافه وتقاليده وتكريماته، وهو وإن لم يقدر على إمضاء الولاية والعزل فيهم، فإن له عندهم مكانة لا يجهل مقدارها، وغاية لا ينازع فيها، ومع هذا ففي أمره معهم شبه بأواخر الخلفاء مع ملوك البلاد، يلزم معه قاعدة الأدب في مخاطبتها لتعظيم، وهو مع من غلب أو كحال آل سامان في آخر الزمان، وهو أوسع الكل بلادا أو أكثر الكل رعايا وأجنادا. وأما ما هو لبيت جنكيز خان فإنه لم يزل بأيدي نوابهم مع بقايا السلاجقة من غير زيادة عليه، ولا نقص منه، وبينهم وبين هؤلاء الأتراك مداهنة لا مهادنة، حتى حكم تمرتاش بن جوبان فاستضاف من ممالك الأتراك إليه، ما يلفت قدرة سيوفه، وهو جانب كبير، وممالك لها قدر جليل فمن ذلك ... مملكه ابن شرف [2] وموقعها في شمال الروم غربي مملكة أولاد درندار [3] ، وجنوبي بلاد ابن قرمان، وشرقي بلاد بيت جنكيز خان بشمال، وكانت مستقلة بذاتها، وكرسيها بكسرى، وعساكرها تتناهز سبعين ألف فارس هم إلى الآن. وتجمع هذه المملكة خمسة وستين مدينة ومائة وخمسة وخمسين، أمسك تمرتاش [4] صاحبها، وقتله، ومثل به، وقطع ابنيه، وعلقهما في عنقه. وكذلك مملكة ابن طرغت، وهي غربي ابن أشرف وكرسيها قراصار [5] ، وله مدينة سكنجر، وعسكره خمسمائة فارس.

_ [1] وردت بالمخطوط بمعضادته. [2] وكانت في آقشهر وسيدي شهرى بكشهري (معجم الأنساب ب 231) . [3] كانت مملكة أولاد درندار في مدينة أكريدور وهي على مسافة يومين من آقشهر وكان سلطانها في عهد ابن بطوطة القريب من عهد ابن فضل الله هو أبو إسحاق بك بن الدرندار بك (رحلة ابن بطوطة 191) . [4] رواية ابن فضل الله العمري تختلف عن رواية ابن بطوطة، فعند العمري صار تمرتاش صاحب مملكة، وعند ابن بطوطة أنه قتل في مصر. [5] قرا حصار استولى عليها أحمد بن محمد سنة 730- 750 هـ (معجم الأنساب والأسرات الحاكمة 223) .

وكذلك بلاد شجاع الدين أعزلو، ومدنها لوليا وكمش سار، وعسكره يزيد على عشرين ألف فارس، وموقع بلاده هذه غربي ابن طرغست، وبلاد عزلو هذه لم ينتزعها منه، بل أبقاها بيده، كأنه من قبله، وهذه كمسر سهرهى ذات معدن يخرج منه الفضة هذا ما ذكره هذا (المخطوط ص 166) بلبان. وأما ما ذكره العريان، فإنه قال: يخرج من لوليا وقد تقدم ذكره ... وكذلك أخذ بلاد طوعان جق وهي غربي طرابزون وجنوبي بلاد سليمان باشا، وبين كرمبان في مشاريق كرميان، ومغاريب سليمان باشا. وكذلك أخذ بلاد يعقوب، وهي قيراسارى، وجار على كل مجاور، وكان تارة يصالب بالسيف وتارة يداور بالخديعة حتى دوخ الممالك، وفتح المعاقل، وامتدت أعماله، واتسعت شعوبه وكثر جباياته، وعظم خراجه، وقويت شوكته في ذلك الإقليم، وطلب في وقت الاستقلال بالملك. وخطب لنفسه وضرب السكة باسمه، وهوى مثل ملك آل سلجوق أو أجل، وقام بهذا العبء واستقل، وقرر به تسع تومانات [1] من المغل، ومن التركمان مثلهم أو أكثر، وصار لا يقاوم ولا يقاول، ولا يحارب ولا يحاول، وما هذا موضع ذكره، وإنما ذكرناه لذكر ما بأيدي بيت جنكيز خان من الروم، وقد ذكرناه في موضعه. وأما نفوذ هذه البلاد ومعاملاتها لتختلف في بلادها باختلاف حكامها، واعتيادها، والذي نذكره الآن ما هو بيد الأتراك الآن خاصة، وهو ست عشرة مملكة على ما ذكره بلبان الجنوي، وأجلها مملكة كرميان، وهي أقربها إلى ما بيد بيت جنكيز خان، وموقع كرميان منها شمالا يمتد شرقا بغرب، وما بأيدي بيت جنكيز خان جنوبها، وقد دارت عليها ممالك الأتراك من شرقها. فطاقت نطاقا وراء

_ [1] وردت بالمخطوط تمانات.

نطاق، فالنطاق الأول وهو الأقرب إليها المماس لحدودها من شرقيها ثلاث ممالك، أخذت من الجنوب إلى الشمال كأنها قوس، تفصل بينها وبين بلاد كرميان جبل ممتد على هذه الهيئة. وأول هذه الممالك الثلاثة مما يلي الجنوب جبل القسيس وهو جبل عظيم منيع مشجر بأنواع الفواكه، وكل أشجاره مثمرة وفيه هذا الجبل وسفوحه مسكونة، ويمشي في طوله عدة أيام بغير زاد ولا ماء، فيه من كل الثمرات (المخطوط ص 167) رزقا من عند الله، لا بغرس غارس، ولا باحتجاز مالك، بل هو مباح لمن أكل وحمل، من سبق إليه اجتنى، ومن وضع يده على شيء من شجرة اقتنى، هو من عجائب الوجود، وغرائب ما من به إلا له المعبود، وفي أخريات هذا الجبل مملكة طغرلو في شماليه، ثم يليها في شماليها مملكة تواز، ثم يليها في شماليها مملكة عميد لي ثم تنتهي مملكة الأتراك هناك إلى ما كان بيد ابن أشرف وآخذة بيت جنكيز خان. ثم يلي هذه الممالك على شرقيها النطاق الثاني، وهو اثني عشر مملكة آخذة عنها من الجنوب إلى الشمال كأنها قوس، يفصل بينها وبين تلك جبل ممتد على هذه الهيئة، فهذه خارج تلك الممالك الثلاثة، وتلك الممالك الثلاثة خارج كرمينان، وكرمينان خارج بيت جنكيز خان، وهذه الممالك الاثنا عشر التي أشرنا إليها أولها مما مال إلى الجنوب مملكة كصطمونية ثم يليها مملكة فاديا ثم يليها مملكة بعرشا، ثم يليها مملكة اكيرا، ثم يليها مملكة نيف، ثم يليها مملكة مغيسا، ثم يليها مملكة مرمرا، ثم يليها مملكة برلي، ثم يليها مملكة توله، ثم يليها مملكة انطاليا، ثم يليها ملكة قراصار، ثم يليها مملكة ازمناك، وها نحن نذكرها مفصلة.

الفصل الأول في مملكة كرمينان

الفصل الأول في مملكة كرمينان

«1» وهي مثل قرن الجاموس، أحاط بها جبل في مشاريقها كالقوس أخذ عليها جنوبا بشمال، وأحاط بها في مغاريبها جبل أخذ غربا بشمال ثم عطف مشرقا ثم أخذ شمالا بغرب حتى لاقى الجبل الأول فاجتمعا، فكان كأنه قرن الجاموس، فسبحان الخلاق العظيم. وهذه المملكة قد تقدم من ذكرها ما فيه منتفع، وينزل من جبلها الغربي نهر مندروس الأعظم، وهو إذا نقص كان كالنيل فأما إذا زاد فبحر زاخر لا له أول ولا آخر، وهو يشق هذه البلاد، ويجري، وسطها بحيرة جليلة نافعة، يصطاد بها الحيتان، وتتنزه فيها أهل تلك الديار، ثم يمضي مندروس على مقطع في الجبل الشرقي حتى يخرج (المخطوط ص 168) إلى بلاد طغرلوا، ثم يمر عليها ثم يخرج إلى بلاد بركي ثم يصب في البحر المالح المؤدي [1] من الخليج القسطنطيني، إلى ماء بنطس. وهذا نهر مندروس مجرى السفن والمراكب، تصعد وتنحدر فيه، ويخرج منه الملح، ومن الملح إليه لأهل تلك البلاد، به مرافق في الأسفار ومنه يتجهز الغزاة والبحار، وهو قاطع البرد، لا يكاد يتغير، ولا يؤثر الهواء إذا سخن فيه، لكثرة مائه، واتساع جوانبه. وصاحب كرمينان هو أكبر ملوك الأتراك، وله تسلط على الجميع، وتبسط في ملكهم الوسيع، وكرسي ملكه مدينة كونتاي [2] ، وهي مدينة كبيرة، ذات قلعة

_ [1] وردت بالمخطوط الماء. [2] هي كوتاهية وحاكمها هو محمد بن يعقوب بن عليشير (كرميان خان) استولى على الحكم سنة 706 هـ وظل حتى 779 هـ (معجم الأنساب 227) .

جليلة، وأعمال وسيعة، ورساتيق من كل مكان، وبلاد ذوات دواب سائمة، وعمار وسكان ويقال أن له نحو سبعمائة مدينة، وقلعة، وله عساكر كثيرة. قال العريان: له أربعون: ألف فارس مديونه، وقال بلبان أضعافها وأكثر، فقال: أنه إذا جمع وحشد، جمع مائتي ألف مقاتل ما بين فارس وراجل ورامح ونابل، قال: وهم أهل حرب وقتال، ومخاتلة واحتيال، ولهم عدد حصينة، وسلاح للحرب وللزينة، من الفولاد المجوهر، والأطلس الأحمر، وما يذهب هذا المذهب. ولهم مال جم من صامت وناطق، ونعم لا يحصيها إلا الخالق، وخيلهم نهاية في الروميات، لا يسبقها سابق، ولا يتعلق بغبارها الغبراء، ولا يلحقها لا حق، مسومها عندهم بما غلا من الأثمان معروفة بينهم هذه أمه فلان، وهذا أبوه فلان، وله على صاحب القسطنطينية أتاوة مقررة نحو مائة ألف دينار قسطنطينية، ويتحفه معها بتحف فاخرة، وهدايا مستحسنة، وهو في كل وقت يعرض جيوشه بالخيل والعدد والسلاح ويستعد ويعد أماكن الحرب والكفاح. وله أمراء ووزراء وقضاة وكتاب وحاشية وغلمان وخزائن واصطبلات (المخطوط ص 169) ومطابخ وبيوت ورخت [1] ملوكي، وهيئة سلطاني، وأبهة ملكية. وله مدينة كمش ساراي [2] ، مدينة الفضة، وهي غير ما بأيدي بيت جنكيز خان، وهو معدن كبير المتحصل، جليل الفائدة جزيل العائدة، أعظم من الذي بأيدي بيت جنكيز خان، وأجود فضة، وأسهل مكانا، وأهون تخليصا واستخراجا. وكذلك بها معدن يباع منه بحمل أموال، وله مدينة سركوي وهي مدينة لا تزرع إلا الأرز، وأهل هذه الملكة كرام، ولكنهم لا يفكرون في حلال ولا حرام،

_ [1] رخت: فرش، كلمة فارسية وتركية وتعني في العربية سرخ الحصان (فرهنگ رازي 392) . [2] هي من بلاد ملك العراق، مدينة كبيرة عامرة، بها معادن الفضة (رحلة ابن بطوطة 198) .

أهون ما عليهم سفك الدماء واراقتها، تنهل كمزاود الماء لا يبالون بما فعلوا، ولا يعبأون بمن قتلوا، لهم في كل أوان موارد مسوغة، ومعاهد أعداء بأنياب الأسنة محصنة، لا يردى في الحروب سيوفهم العطاش، ولا يردى لو بل نبلهم رشاش، ولا تزال ظباء الروم تتكاثر من سيوفهم على خداش صخر الحديد، ولم يضجروا، ومضت أعمار الأيام وما قالوا ولا هجروا، مالهم يسوى ما هم فيه التذاذ، ولا بغير أن تخرج وجوههم، وهي سواهم معاذ ولأهل هذه الدولة تصرف في أنواع المعابس والأسباب، وأصناف الاكتساب. قال: وأما لبسهم ولبس جميع الروم فهو زي واحد لا يكاد يختلف، ودرهم هذه المملكة نصف وربع درهم فضة خالصة، والرطل بها زنته تحريرا ثلاثة آلاف ومائة وعشرون درهما، وكيلها يسمى المد [1] وهو نحو أردب وربع مصري تقريبا، هذا ما قاله فيه بلبان، وقد تقدم ما قاله العريان. قال: وأما السعر المتوسط فمد القمح خمسة عشر درهما، وكذلك الشعير، أو دونه بقليل، واللحم كل رطل بدرهم واحد، وأما الفواكه والألبان والأعسال فرخيصة جدا، وأوقات الرعايا والفلاحين والزراع طيبة، كأنهم فيها في بكر مفضضة، وآصال مذهبة. ومن جملة بلاده بلاد ابن السّائب وهذا ابن السائب صاحبها (المخطوط 170) هو صهر صاحب كرمينان، ولولا مصاهرته له ما كانت بقيت [2] إلى الآن، لأن بلاده هذه هي خارجة عن كرمينان، مجاورة لها من غربها، وهي من بلاد بيت جنكيز خان في شرقها.

_ [1] المد: مكيال قديم اختلف الفقهاء في تقديره بالكيل المصري فقدره الشافعية بنصف قدح وقدره المالكية بنحو ذلك وهو رطل وثلث عند أهل الحجاز وعند أهل العراق رطلان جمعه أمداد ومداد (المعجم الوسيط 2/893) . [2] عبارة مكررة.

ولما امتد تمرتاش إلى من جاوره من الأتراك، وأخذ بلادهم ارتمى صاحب كرمينان، وانتمى إليه، وصاهره، وقوى على تمرتاش بيده القاهرة، واعتصم به، ونامت عينه الساهرة، واستمر على مصافاته الظاهرة، وامتنع على من جاهده وجاهره. وكرسيه قراساي، وهي مدينة مشهورة، ويحيط بها وببلادها جبل استدار عليها استدارة الحلقة، وأحاطها إحاطة بالحدقة وحكمها اليوم وحكم بلاد كرمينان، وابن السائب وإن كان صاحبها، فهو الآن كأنه من قبله فيها، وليس له مدينة سوى قراساري، ولها ألف قرية، وعسكره يقارب أربعة آلاف فارس وبلاده حصينة بما أحاط بها من الجبال، وشمخ من ذوائبها التي سما بها فرع إلى النجم لا ينال.

الفصل الثاني في مملكة طغرلو

الفصل الثاني في مملكة طغرلو

«1» وهي أول النطاق الأول، وهذه المملكة صاحبها اسمه يلنج [1] ، ويشقها نهر مندروس، وهي إلى جانب جبل القسيس، في غربه بشمال، وموقعها جنوبي ما بين مرمر إلى بركي، ومدينة طغرلو كرسيه، وكأنها دمشق في تصوير خطة وبساتين حولها مختطة، لكنها أكثر من دمشق ماء وفاكهة، وأوسع غوطة، ولكن ليس لصاحبها مدينة سواها، ولا عمل إلا إياها، إلا أن لها قاعدة قرى وضياع ليست بكثيرة، ولا كثيرة ازدراع، وأكثر ما فيها من الفاكهة الرمان وهو على عدة ألوان، ويباع ألف بدرهم، وكله بلا عجم له، مكسّر كأنه شرارنار أو بهرمان، أدرج في ثوب نصار، أو مدامع عشاق في نهود أبطار، وهو في غاية الكثرة والرخص، ولذاذة المأكل، ويعتصر ماءوه، ويعمل منه دبس إذا نزل هو والعسل، إيهم (المخطوط ص 171) الفرق ما بينهما، وأشكل، ويعمل منه شراب أشد إسكارا من الخمر، وأقرب إليه مشابهة مما يعمل من التمر، وهم أكثر معاطاة له من الخمر على كثرته عندهم. وما ذاك إلا لأمر سألت بلبان عن السبب في هذا مع إجماع العقلاء على تفضيل الخمر على كل مسكر، فقال: أنه لا يعلم السبب، ولا يوجب الحب لها إلا مضاحكة الجنب. قال: وأهل هذه البلاد، كأنما خلقوا لارتضاع كؤوس، ولإماطة نقب عن شموس فمالهم غير اغتباق [2] كأس من معين، واعتناق مائس من قدود الخرد العين، فهم أبدا في بلهينة في الوطم، وأمنية مع الظفر، ولأميرهم عليهم عدل، ولا يشكون معه الأجور الساقي، ولا يخافون معه إلا عقرب صدغ أعجزت الراقي، أو دم عاشق يطل أو على خدود الغانيات الباقي.

_ [1] هو شجاع الدين تنج بك علي بك حكم سنة 735 هـ (معجم الأنساب والأسرات الحاكمة 229) . [2] اغتباق من الغبوق وهو خمر المساء.

قال: وأكثر ما تكوى القرى والضياع بطغرلو أربعمائة قرية كلها في حواضرها القريبة، ولصاحبها نحو عشرة آلاف فارس وراجل، ودرهمهم نصف درهم فضة خالصة، ورطلهم نحو سبعة أرطال بالمصري، ومدهم نحو نصف [1] وربع أردب، وأسعارهم مشابهة لكرمينان، ومقاربة لها في اختلاف كل أوان.

_ [1] عبارة مكررة.

الفصل الثالث في مملكة توازا

الفصل الثالث في مملكة توازا

«1» وهي ثانية النطاق الأول، وهذه المملكة صاحبها على أزبية، وهي تقع شرقي كرمينان محضا، وموقعها ما بين جنوبي بركي إلى فوكه، وكرسيه توازا، ولصاحبها أربع قلاع ونحو ستمائة قرية، وعساكره نحو أربعة آلاف فارس وعشرة آلاف راجل، ودرهمهم ورطلهم ومدهم مثل كرمينان، وهو كثير الترامي إلى صاحب كرمينان. ولأهل هذه الملكة حسن بديع ببياض وحمرة كأنها ضربيا لبن وخمرة، مع لين بشرة، وصهوبة شعره، كأن عليهم ثوب صباح مسبول، وعلى ضفائرهم [1] برادة ذهب مسحول، مع حلاوة تأكل النظر ومأكلها، ولهجة توقد حجرات الحسن وتشعلها (المخطوط ص 172) .

_ [1] وردت بالمخطوط ظفائرهم.

فصل الرابع في مملكة عبدلي

فصل الرابع في مملكة عبدلي

وهي ثالثة النطاق الأول، وهذه المملكة صاحبها دندار [1] أخو يونس صاحب أنطاليا، وكرسيه مدين برلو [2] ، وهي أم إقليم عبدلي وموقعها من فوكه [3] إلى قراصار [4] ، ولصاحبها أيضا إقليم يلواج، وإقليم فرا عاج وإقليم اكرى دور، وهذه بلاد مدنها قليلة، وقراها كثيرة، ومداها ممتد، يقال أن له تسعة مدن، وخمسة عشر قلعة، وعسكره خمسة عشر ألف فارس، ومثلهم رجاله، وهو في كل وقت يتفقد فرسانه ورجاله، ويتأهب للحرب، ويوسع مجاله، ويقاتل العدو، ويهب للسيوف آجاله، وهذه هي آخر الممالك الثلاثة، التي تلي كرمينان، وهي نهاية ما أخذ إلى الشمال، وبها تم النطاق الأول ونحن نعقبها بذكر الممالك التي تليها، وهي النطاق الثاني عليها في شرقيها وعدتها اثنتا عشرة مملكة، وأولها هو ما نذكره الآن.

_ [1] الدندار بك من كبار سلاطين تلك البلاد، خلفه ابنه أبو إسحاق بك (رحلة ابن بطوطة 191) وهو ينسبون إلى حميد بك أو فلك الدين دندار الذي حكم الروم من قبل المغول سنة 724 هـ وقتله تيمور تاش (انظر: معجم الأنساب 229) . [2] ذكر ابن بطوطة أن مدينة برلو مدينة صغيرة على تل تحتها خندق، ولها قلعة بأعلى شاهق وأميرها علي بك بن سليمان پادشاه.. أما ابن الدندار فكان في أكريدور (210 و 191) . [3] هي فوجة على ساحل البحر على مسيرة يوم من مغنيسة (رحلة ابن بطوطة 203) . [4] يقصد أكريدور: وهي مدينة عظيمة، يسافر المركب فيها يومين إلى آقشهر وسلطانها ابن الدندار (رحلة ابن بطوطة 191) .

الفصل الخامس في مملكة كصطمونية

الفصل الخامس في مملكة كصطمونية

وهي هذه مملكة سليمان باشا، وهي الآن لولده إبراهيم شاه، وكان في حياة أبيه صاحب سنوب [1] ، ثم جرت له مع أبيه أمور لا حاجة بنا إلى ذكرها، إلى أن ملك، واستمرت سنوب له مع ملك أبيه، وولى سنوب من قبله. وهذه هي شمال بلاد طوغان حق، وما جاورها، وجنوبي بلاد سلطان بوى المصاقبين لممالك بيت جنكيز خان، وهي أول الممالك الاثنا عشر المشار إليها من الشرق، وهذه المملكة على ضفة بحر بنطس، وقبالتها جزيرة زك، ومن ركب البحر من سنوب خرج إلى سوداق [2] لأنها أقرب مدن ذلك البر إليها، ويقع طرف بلاد طرا بزون الشرقي على أول حد هذه البلاد، ولأجل هذا نقصد هذه الأرض لجواز البحر إلى بر القبجاق [3] وبلاد الخزر والروس والبلغار [4] . وكرسي هذه المملكة كصطمونية [5] ، ولصاحبها نحو أربعين مدينة وقلاع مثلها أو أزيد، وعسكره نحوه خمسة وعشرين ألف فارس، وخيلهم هي النهاية في جنسها (المخطوط ص 173) والغاية في نفسها، وقد تقدم القول في ذلك وبها البلغار والبزاة [6] والشواهين [7] ، في غاية الجودة، وهي منفردة بمحاسن هذه الأنواع، ومنها يشترى ويبتاع، وحسنها لا مخالفة فيه ولا نزاع. وأما الجمال فلا توجد عندهم البتة قد عدم العربي منها خطة والبختي [8] بختة، لأنها بلاد جبال وعرة، يود كل متعلق بها لو تعلق بشعرة، وملوك هذه

_ [1] جبينوب: مدينة يحيط بها البحر من ثلاث جهات (رحلة ابن بطوطة 212) . [2] سوداق هي سردق مدينة على ساحل البحر مرساها من أعظم المراس وأحسنها وبخارجها البساتين والمياه (رحلة ابن بطوطة 229) . [3] القبجاق: القفجق طائفة على دين النصرانية في أيام ابن بطوطة (انظر: رحلته 214) . [4] بلغار انظر: الخريطة المرفقة في آخر المخطوط. [5] كصطمونيه هي قصطمونية من أعظم المدن وأحسنها (رحلة ابن بطوطة 211) . [6] البزاة جمع مفرده باز نوع من الصقور. [7] الشواهين جمع مفرده شاهين نوع من الصقور. [8] البختي نوع من الإبل الخراسانية جمعها بخت وبخاتي وبخات (المعجم الوسيط 1/42) .

المملكة لهم مع ملوكنا- ملوك مصر- انتظام، وتشرق بمواهبهم الجمة، وأياديهم العظام، وتتابعت رسلهم إلى سلطاننا مدد الفجاج، ونظرت لديه إلى سماء العلياء من وراء زجاج، واستنصرت بها على الأعداء، وهي قاطعة البحر الأجاج، وعادت عليهم الأجوبة الشريفة بقطع الحجاج والحجاج وهم حتى الآن في الدولة القاهرة الناصرية، وفي حزبها في حسب ديحها. وأما رعايا هذه البلاد منهم أهل طاعة لأمرائهم، وإقبال على مصالحهم ودولتهم، ودرهمهم نصف درهم فضة خالصة، ورطلهم نحو ستة عشر رطل بالمصري، ومدهم نحو أردب مصري، وأسعارهم نحو كرمينان.

الفصل السادس في مملكة فاويا

الفصل السادس في مملكة فاويا

وهي الثانية من النطاق الثاني، وصاحبها مراد الدين حمزة، ومملكته تجاوز سمسون من غربها، وبلاد سليمان باشا المقدم ذكره جنوبها، وجبل القسيس غربيها، وبلاد طريق السفار إلى سمسون، وسمسون هي شرقي هذه البلاد خارج الجبل المار على رساتيق بلاد الأتراك بالروم على ضفة بحر بنطس، من ركب البحر منها إلى بر القبجاق كان خروجه على الكفا [1] أقرب مجلبة وتبقى زك جنوبية، وعلى بلاد هذا مراد الدين حمزة، أكثر طرق المترددين من التجار والسفار المتوجهين من مصر والشام إلى تلك البلاد. وكرسي هذه المملكة مدينة فاويا، لصاحبها عشر مدن ومثلها قلاع، وعسكره نحو سبعة آلاف فارس، فأما الرجالة فكثير عددهم، متى أراد استجاش بهم، وجمع (المخطوط ص 174) أمما، وشرع أسنة وهمما وليست للأعداء معه طالعة، ولا لهم في رداء ملكه منازعة، لا تتفرزن البياذق من رخاخة، ولا تتجاسر العصافير أن تسقط على فخاخة، وأهل هذه البلاد قوم أمته، لا يستحيل بودهم يوم ولا سنة، درهمهم ومدهم وأسعارهم مثل كصطمونيه بل هي ولكثرة الأجلاب لا تكاد تكون دقلية.

_ [1] الكفا: مدينة عظيمة على ضفة البحر (رحلة ابن بطوطة 214) .

الفصل السابع في مملكة برسا

الفصل السابع في مملكة برسا

وهي الثالثة من النطاق الثاني، وصاحبها أرخان بن طمان، وكرسيه مدينة برسا [1] ، وموقعها شرقي بلاد مران الدين حمزة، وغربي بعض سمسون وبعض سنوب، وجيل القسيس غربيها، ولصاحبها خمسون مدينة وعدد قلاعه أكثر من ذلك، وعساكره نحو أربعين ألف فارس، وأما الرجالة فلا تكاد تعد، خصوصا إذا استجاش وحشد وجاش، لكن يقال أنه قليل غناهم، تهول صورتهم لا معناها، وهو كثير المسالمة لمن جاوره، والمناصرة لمن ناصره ومع هذا له حروب سجال، ودروب في إرغام أنوف رجال، وخيول تقتنص عليها الأرواح، فرسان عجال، وإنما قلة غناء عسكره، لعدم استقامة الرعية، ومشاقة بعض المجاورين له، يقال أن رعاياه أخبث، تنطوي بواطنهم على الغل، وعمائمهم على المكزتلات، وهذه البلاد درهمها وزن الدرهم الكاملي، وهو فضة خالصة، وهو مدها ورطلها مثل كرمينان، وسعرها أرخص في غالب الأوان، وفي هذه ثلاثمائة جمة يطلع منها الماء السخين الناضج، ويقصدها المرضى بالبلغم البارد والفالج، ليغتسل فيها، ويستشفى بها، وغالبهم يبرأ بإذن الله عز وجل ويجد الشفاء والصحة عليها. قلت: الحمامات كثيرة في البلاد، وأقطار الأرض، ولكني لا أعرف اجتماع هذا العدد الكثير في مكان واحد سوى هذا، وأظنه لأن تكون هذه الأرض كلها كبريتية سواخة، فلهذا كثرت فيها هذه الحمامات (المخطوط ص 175) هذا ما اتصل بنا علمه، وفوق كل ذي علم عليم، والله بغيبه أعلم.

_ [1] برسا هي برصا: مدينة كبيرة عظيمة حسنة الأسواق فسيحة الشوارع تحف بها البساتين من جميع جهاتها سلطانها اختيار الدين ارخان خان وهو ابن السلطان عثمان جوق وهو من أكبر ملوك التركمان وأكثرهم مالا وبلادا وعسكرا (رحلة ابن بطوطة 205) .

الفصل الثامن في مملكة اكيرا

الفصل الثامن في مملكة اكيرا

وهي أربعة النطاق الثاني، وصاحبها ومرخان بن قراشي [1] ، وبلاده تجاور بلاد أرخان آخذة إلى الشمال، وجبل القسيس جنوبها على تغريب، وسنوب شمالها، وهي طريق من طرق سنوب. وهذه المملكة مدنها وقلاعها وعساكرها أكثر من بلاد أرخان، وأهلها أطول باع في المكنة والمكان والإمكان، وصاحبها ذو حرب ويد وأيد، وقوة لا تدفع بكيد، وله في البحر مع الروم حروب، تطير بها الفائن، وتهتز لها المدائن، كم طاروا من الغراب على جناح، وسخر لهم في سبيل الله ما سخر لسليمان من الرياح. وهذه البلاد يخرج منها ما لا يحصى من الحرير واللاذن ويحمل إلى بلاد النصارى منه، وحريرها يوافق الديباج الرومي والقماش القسطنطيني، ومنه يعمل غالبه، ودرهمها مثل الذي قبلها، ورطلها ثمانية أرطال بالمصري، ومدها نحو أردب ونصف، وأسعارها رخيصة جدا، على حال واحد لا تكاد تتجاوزه ولا تتعدى.

_ [1] ورد في معجم الأنساب أن بني قراسى حكام باليكسر وأن حاكمهم سنة 737 هـ هو تيمور بك بن عجلان (ص 225) .

الفصل التاسع في مملكة مرمرا

الفصل التاسع في مملكة مرمرا

وهي خامسة النطاق الثاني، وصاحبها يحيى بن قراشى أخو دمرخان [1] المقدم ذكره، وبلاده جوار بلاد أخيه غربا بشمال، وطرف بلاده جنوبا على شمالي طغرلو، ولصاحبها نحو خمسة عشر مدينة، ومثلها قلاع وكلها على جبال شاهقة، على البحر المالح، وعكسره نحو عشرين ألف فارس، ولا رجالة له، وهو مثاغر للروم، وله معهم ثارات، يقصد فيها ويقوم، وعسكره نفاع، له قوة ودفاع، وقد ذللت لهم المراكب، فامتطوا في البحر منونها، وأطاروا غربانها وأجروا نونها ولهم اسطول [2] مجهز للركوب على ظهور الفائن والتصريف بها كالصوافن، طالما صبح بلاد الروم منها غراب ناعق، وسبح راكبها، وتعجب لقدرة الخالق، وزحقت لها (المخطوط 176) مدن، وزحفت لها أعداء إلا أنه من الجبن. وأهل هذه المملكة غزاة، لا تستكين سراة حصانهم، ولا تلين سراة، لا ينزل لهم لبد عن جواد، ولا قلع عن سفين، ولا يحجبهم عن بلد سوره، ولا عن ساكن برخباؤه، ولا يغلبهم سرب، تقتض بهم من الروم جآذره، ومن الخزر ظباؤه، وهذه البلاد درهمها نصف درهم فضة خالصة، ورطلها أربعة أرطال بالمصري، ومدها أردب واحد، وسعرها رخيص، والرقيق بها لكثرة السبي كثير. ولا تخلو لأجل هذا من تجار وجلابة ومن دخل في هذه البابه.

_ [1] هو دمور خان حاكم بلى كسرى (رحلة ابن بطوطة 204) . [2] وردت بالمخطوط اصطول.

الفصل العاشر في مملكة نيف

الفصل العاشر في مملكة نيف

وهي سابعة النطاق الثاني، وصاحبها علي باشا أخو صارو خان، وهو جاره في المكان، وكرسيه مدينة نيف، وبلاده شمالي طغرلوا وجنوبي بيد رول، وهذه بيدرول شماليها من خارج الجبل الشرقي المحيط ببلاد الأتراك خارجة في البحر، ولصاحبها ثمان مدن ونحو ثلاثين قلعة، وعسكره ثمانية آلاف فارس، وخلق كثير من الرجالة، أكثرهم رماة نبالة، ومملكته كلها على قنن الجبال، لا يلحقها الغمام بريته ولا يلحقها نسر السماء لتعشيشه، تهوى وفود الرياح دون أوديتها، وتستقى السحب فائض أنيتها، ولا يمر بها البرق إلا وهو مجتار، ولا البرق إلا وهو على أوفار، تميل قبل رؤيتها العمائم، وتتوسوس وعليها من النجوم تمائم، ودرهمها ورطلها ومدها وسعرها من نسبة مغنيسيا.

الفصل الحادي عشر في مملكة مغنيسيا

الفصل الحادي عشر في مملكة مغنيسيا

وصاحبها صارو خان [1] وكرسيه مغنيسيا [2] ، وهذه البلاد تجاور مملكة يخشى غربا بشمال [3] ، وجنوبها طغرلو وقبالتها [4] في البحر جزيرة كيول، ولصاحب هذه المملكة نحو خمسة عشر مدينة وعشرين قلعة، وعسكره يزيد على عشرة آلاف فارس، وهم أهل حرب وطعن، يضيق به فم الدرب، ومنهم غزاة في البحر كأنهم الملوك على الأسرة (المخطوط ص 177) لا تهتبل لهم نمرة، وحالهم في هذا مثل حال جارهم الأول، ولكل منهما جهاد عليه يعول، ودرهمها ورطلها ومدها وسعرها كذلك، ومن نسبة ما قبلهم أو ما يقارب ذلك.

_ [1] صارو خان من سلاجقة أوج أميرا حكم سنة 700 هـ إلى 746 هـ (معجم الأنساب 226) . [2] وهي مدينة كبيرة حسنة في سفح الجبل (رحلة ابن بطوطة 203) . [3] يقصد برغمة وسلطانها يخشى خان ويخشى يعني الجيد (رحلة ابن بطوطة 204) . [4] عبارة مكررة.

الفصل الثاني عشر في مملكة بركي

الفصل الثاني عشر في مملكة بركي

وهي ثامنة النطاق الثاني، وصاحبها ابن أندين [1] ، وكرسيه مدينة بركي [2] ، وموقعها شمال طغرلو، وتوازا وجنوبي تدرقل ولصاحبها نحو ستين مدينة [3] وثلاثمائة قلعة أو أزيد، وعسكره سبعون ألف فارس أشلاء حرب وكفاح، وعرضه سيوف ورماح، ولهم مع الروم والفرنج وطوائف بني الأصفر، حروب عظيمة وأيام لها غور وحجول معلومة، ضج البر والبحر من وقائعها، ومع السجايا تصعد إليه من بقائعها، لا تهدأ لهم مضاجع ولا تراهم إلا بين متأهب لغزوة وآخر راجع، سدوا فروج البر خيلا، وأوقروا صدور البحر سفنا، وجروا لكاتب برسي على هذا حبالا، وتسرى على ذاك مدنا، وكل ملوك الأتراك في غزوات الكفار، عليهم عيال وبسيوفهم المهندة الذكور يلفح الحرب الجبال لا يرضى إلا بصيد المهج، ولا يمضي يوم إلا بقتيل لها لا إثم فيه ولا حرج، كأنما كونوا من جناح غراب أو صهوة مطهم أو خلقوا المطية نقارا وأدهم، لا تفرغ لهم شمال ولا يمين، هذه بعنان جواد، وهذه بقلع سفين، ولمهابتهم في قلوب ملوك بني الأصفر ما يختلج به ضمائرهم وتختلف الأتي، الإجماع عليه سرائرهم، وإذا قيل أنه قد تحرك منهم متحرك طيب، إنه يريد نفوسها وسكت في حياتها حتى تلمس رؤوسها بيديها. وملك هذه البلاد أثابه الله تعالى وجنوده أجمعين [4] على هذه العزيمة، لا يفل وحدها، ولا حديدها، ولا يكف والدها ولا وليدها، وهم سبب كثرة السبي، ومن يجلب إلى الآفاق من أولاد الروم ونسائهم، فأمدهم الله بالظفر وأعلى كلمتهم على من كفر، وهذه البلاد دهمها ومدها نحو مملكة صارو خان، فأما رطلها فستة عشر (المخطوط 178) رطلا بالمصري، وأسعارها رخية، وثمارها مما يحمل البحر وتنبت الأرض سخية.

_ [1] هو محمد بن آيدين من خيار السلاطين وكرمائهم وفضلائهم (رحلة ابن بطوطة 199) . [2] بركى مقر حكمه بها محيي الدين والقاضي عز الدين فرشتي (رحلة ابن بطوطة 199) . [3] منها أريا وصرت وكوشك وقراجة فيونلو وآقجشهر وبلين بولى (معجم الأنساب 227) . [4] وردت أجمعون.

الفصل الثالث عشر في مملكة فوكه

الفصل الثالث عشر في مملكة فوكه

وهي تاسعة النطاق الثاني وصاحبها أورخان بن منتشا [1] وكرسيه مدينة فوكه [2] ، وبموقعها شمالي مشاريقها جزيرة دفنوسة، وقبالة هذه البلاد جزيرة المصطكي تقع وراء بلاده سواء بسواء، ولهذا صاحب فوكه نحو خمسين مدينة [3] ، ومائتي قلعة وحصن، وعساكره مائة ألف أو يزيدون، وله سيف لا يألف غمده، ولا يكف حده، يقاتل من عاده برا، وبحرا، ويخاتل من ناوأه مسلما كان أو كافرا، يركب السفن والخيل، ويخوض النهار والليل، لا يطمئن به وساد، ولا يستكن له مفرش جهاد، ولا يزال له ولإعدائه وقائع تشيب مفرق الوليد، وتذيب قلب الحديد، وتبيت الدهر منها على وعد أو وعيد، يبث سراياه في كل صوب، ويحث مطاياه في البر والبحر، في كل توجه وأوب، فما رأت الكفار حيلة، ولا طفقت تتنهّد، ولا أقبلت طلائعه على سفائنها إلا ورفعت سبابات صواريها تتشهد، وهذه العساكر ميمونة النقيبة، سعيدة التحركات، قلّ أن توجهت إلى جهة، وظفرت بمرادها وبلغت قصدها من أعدائها، وهذا هو المعروف منهم، والمستفاض حديثه عنهم، لا يخالف في هذا ممن يعرفهم، مخالف ولا يخالط، هذا شك عندهم في حديث، ولا سالف ولا يتم من يداريه، صاحب كرمينان من أمراء الأتراك سواه، ويراهنه ويقنع بأيسر موالاة منه، ولا يقدم عليه إلا صاحب كرمينان، فأما كل من سواه فدونه قدرا، ومكانة وله عليهم المزية والمزيد ودرهم هذه المملكة، ورطلها ومدها وأسعارها مثل كرمينان.

_ [1] هو حاكم مبلاس وليست فوكه (رحلة ابن بطوطة 194) . [2] فوجه: مدينة للكفار على الساحل البحر على مسيرة يوم من مغنيسة، أهلها يبعثون هدية في كل سنة إلى سلطان مغنيسة (رحلة ابن بطوطة 203) . [3] منها معلابالاط ومبلاس ومكرى ومرمرس (معجم الأنساب 230) .

الفصل الرابع عشر في مملكة إنطاليا

الفصل الرابع عشر في مملكة إنطاليا

وهي عاشرة النطاق الثاني، وصاحبها خضر بن يونس [1] وكرسيه إنطاليا [2] ، وهي شمالي مملكة عبدلي بلاد ابن درندار، وهي على ضفة البحر والسفر إليها ومنها (المخطوط ص 179) والأخبار عليها وعنها، ولصاحبها اثنا عشر مدينة، وخمسة وعشرون قلعة، وعسكره ثمانية آلاف فارس، وليس بأهل حرب طائل، ولا منهم هائب ولا هائل، ودرهمها نصف درهم فضة خالصة، ورطلها أربعة أرطال بالمصري ومدا أردب واحد.

_ [1] خضر بك بن يوسف بك بن يونس (رحلة ابن بطوطة 189) . [2] أنطالية: من أحسن المدن، متناهية في اتساع المساحة والضخامة أجمل ما يرى من البلاد، وأكثره عمارة وأحسنه ترتيبا (رحلة ابن بطوطة 189) .

الفصل الخامس عشر في مملكة قراصار

الفصل الخامس عشر في مملكة قراصار

وهي حادية عشر النطاق الثاني [1] ، وصاحبها زكريا وهي مملكة ضيقة إلى غاية، وهي شمالي إلى عبدلي بغرب، وكرسي صاحبها قراصار، وله ثلاث مدن، واثنا عشر قلعة على ضيق الرقعة، وقرب مدى البقعة، وعسكره ألف وخمسمائة فارس، وكان أصل هذا زكريا؛ مملوك يونس صاحب أنطاليا، ثم لما مات تقوى على ولده، وغالبه فغلبه، وأخذ الملك بيده، ودرهمهم ورطلهم ومدهم مثل أنطاليا، وهذه البلاد من ملك مقتطعة ومما كان في يد مالكها مرتجعة.

_ [1] وردت قل حصار عند ابن بطوطة ووصفها بأنه مدينة صغيرة بها المياه من كل جانب، لا طريق لها إلا طريق كالجسر مهيأ بين القصب والمياه (رحلة ابن بطوطة 192) .

الفصل السادس عشر في مملكة أزمناك

الفصل السادس عشر في مملكة أزمناك

«1» وهي ثانية عشر النطاق الثاني، وصاحبها ابن قرمان، وكرسي مملكته أزمناك، وله نحو أربعة عشر مدينة، ومائة وخمسين قلعة وعسكره يناهز خمسة وعشرين ألف فارس، ومثليهم رجّالة، ومن مشاهير مدنه مدينة أرندة [1] ، وهي مدينة جليلة، ومدينة العلائية، وهي المسماة باعلايا [2] عند العوام، وموقع هذه البلاد شرقي بلاد الأرمن بشمال، وبلاد ابن شرف جنوبها، وأقرب مدن الأرمن جنوبها، إليها طرسوس واذنه، وهذه البلاد على ضفة البحر الملح، وقد تقدم ذكر هذه المملكة وما هم عليه، وموالاتهم لسلطاننا صاحب مصر خلد الله ملكه، وميلهم إليه، وما هم عليه من الجهاد في الأرمن، ومن ساكنهم من الكفار، وتجريد سيوف غزوهم آناء الليل والنهار، وبهذا تم ذكر ممالك الأتراك، وما هي عليه على ما بلغنا، وتبين لنا وقد أوضحنا طرق الروايتين على ما فيها من الخلاف (المخطوط ص 180) على أنني اجتهدت والعهدة على الناقل. ونحن نذكر تتمة ما كنا أشرنا إليه من أحوال الروم عند غلبة التتار ودخول طوائفها هاتيك الديار. فنقول أنه لما استقلت قدم التتار فيها وأستنهلت غمائم كتائبهم على جهاتها، بقى ملوك آل سلجوق معهم بالاسم لا غير لا لهم حكم ولا تصرف بل لهم ما يقيم بهم، وبيوتهم، وشعار ملكهم الظاهر ونفقاتهم اللازمة، والأمر كله لنواب التتار، وعنهم الإيراد والإصدار وباسم الملوك الجنكيز خانية يخطب ويضرب سكة الدرهم والدينار، فلما ضعفت الدولة السلجوقية، وآذنت أيامها بذهاب تلك البقية،

_ [1] مدينة اللارنده، مدينة حسنة كثيرة المياه والبساتين سلطانها بدر الدين بن قرمان (انظر: رحلة ابن بطوطة 196) (انظر: معجم الأنساب 236) . [2] باعلايا وهي العلايا: أول بلاد الروم، من أحسن الأقاليم وأجمل الناس حاكمها يوسف بن قرمان (رحلة ابن بطوطة 88) .

وكانت المغول لا تقدر على صعود تلك الجبال، ولا تعرف الحصار ومطاولة المعاقل والقلاع، فغلب طوائف الأتراك هنالك على كثير من تلك الممالك ولولا قوة شوكة التتار، وسطوتها التي عمت الأقطار، لاستولت على السهول مع الجبال، وأخذت بجنباتها من كل مكان. مع أنها ملكت معظم البلاد إلا بقية حفظت المغل مطالع أفقها وأمسكت آخر رمقها، ودارت إذ ذاك طوائف الأتراك، ملوك المغل على ما غلبت عليه وبقى كل منهم يدخل في طاعتهم على أنه يسلم إليه، ولا يخرج بشيء من يديه، واستمرت أحوالهم معهم على الطاعة والعصيان، والتذكار والنسيان. حتى تهادت المدد، وخر رواق الدولة المغولية، أو وهي منه بعض العمد، فحينئذ ثبتت أقدامهم، ونبتت في مفارس الاستمرار أيامهم، ومنذ غلبوا على ما بأيديهم من الروم لصاحب كرمينان عليهم مزيد الفضل كما ذكرنا. وكل واحد من هؤلاء الأتراك مستقل بمكانة مشتغل بشأنه وتبسطوا في جهاد من جاورهم من الكفار، وصار هذا دينهم، وبقى بينهم من التنافس ما يكون بين النظراء، ولهذا كاتبوا عظماء الملوك ليتقوا بمظاهرتهم ويطيروا بريح (المخطوط ص 181) سعادتهم وأكثرهم كاتبوا سلاطيننا ملوك مصر رحم الله من مضى منهم، وحفظ من بقى وأدام حياة سلطاننا مالك ملوك الأرض، صاحب الدولة الملكية الناصرية، وخلد سلطانه خلود الليالي والأيام، ولا ذوا بهذه الأبواب العزيزة، وتطيعوا بالميل إلى هذه الدولة القاهرة حتى صارت المولاة في طباعهم كالغريزة، فاتخذوا ملوك مصر، نصرهم الله، لهم ظهرا، وعدوهم للحوادث ذخرا، حتى أن منهم من رغب في تقليد يكتب له بالنيابة فيما هو فيه، فكتب إليه وجهز بالصناجق والألوية، والأعلام والتشاريف التمام، والسيف المحلي والحصان المركوب والسرج الذهب، والعدة الكاملة والجنائب الطائلة، وما منهم إلا من تدخل وترامي، وانشرح مراما والأنعامات تغمرهم، والصدقات الشاملة تعمهم، وهم إلى يومنا هذا

أهل ود وصفاء، وحسن عهد ووفاء، وبكثرة ما خلطهم به الامتزاج وصل منهم من اتخذ مصر والشام دارا، وأخذ بهما الإمرة والإقطاع وجرى فيهما تحت الأمر المطاع، ورسلهم حتى الآن لا تنقطع بصدق نية، وإخلاص طوية، والمكاتبات واردة وصادرة، والهدايا مقيمة وسائرة، ومع هذا كله كل واحد منهم غنى مما آتاه الله، وأمراء الأتراك على ما هم عليه من الامتناع، والتحصن بشوامخ الجبال والقلاع وبعدهم عن المغل، وقوتهم بكثرة العديد والعدد والسلاح، ووفور ذات اليد، تداري ملوك جنكيز خان، وتخدم ملوكهم، ومن يصل منهم ويتردد من جهتهم، وتهاديهم، وتعضد بالمقربين إليهم لكل واحد منهم في الأردو، ومن هو من ورائه ومتكفل بالمدافعة عنه، ويخطب في بلادهم للقائم من بيت هولاكو، وتضرب السكة بأسمائهم. وكتائب الروم عليهم ألطاف وتحف يتأقونه بها، ويتوقون من خلفه من قانات المغل بالأخذ بخاطر نائبهم. (المخطوطة ص 182) هذا لأنه جارهم المجاور لهم، وهم رهن ما يكتب به إلى الأردو وفي حقهم، ولما كان تمرتاش بن جوبان، قد استقل بهذه النيابة ورست فيها أعلامه، وفتح الفتوحات، وأباد المجاور لهم، وهم رهن ما يكتب به إلى الأردو وفي حقهم. ولما كان تمرتاش بن جوبان، قد استقل بهذه النيابة ورست فيها أعلامه، وفتح الفتوحات، وأباد المخالفين له بها، خافت أمراء الأتراك بأسه، وكاتبت أباه جوبان، وتسترت بظله، وتترست من مواقع سيوف تمرتاش تجاهه، وقضت تلك المدة معه بهذا وأشباهه، ومع هذا كله يرميهم بالبوائق، ويترصد لهم غفلات الوقت. وقال: غفلات بيت جنكيز خان ما قاله بهرام جوبين [1] في الأكاسرة [2] ، قال وما الله (تعالى) جعل حتما على العباد أن تبقى دولة آل ساسان [3] إلى آخر

_ [1] بهرام جوبين: قائد كسرى برويز، ثار على كسرى، وفر برويز إلى الروم واستعان بالروم لاستعادة ملكه، وتمكن كسرى من قبل بهرام جوبين (انظر: حاشية روضة الصفا ص 122) . [2] الأكاسرة جمع مفرده كسرى. [3] آل ساسان: آخر الإمبراطوريات الفارسية قبل الإسلام والتي قضى عليها المسلمون عند فتحهم لبلاد فارس.

الزمان، وأظهر ما كان يسره من هذا الأمر، وباح به وهم وما فعل، فبلغ ذلك أبا سيعد بهادر خان سلطان ذلك الوقت، فعتب على أبيه جوبان، فقرأ جوبان من فعل ولده تمرتاش، ونهض إليه في وقت شتاء لا طاقة لأحد بسلوكه، وقطع إلى الروم كل جبل ثلج نزل عنه النظر، وأراد تمرتاش أن يضرب معه مصافا، فلاطفه أبوه، وراسله حتى كف وأذعن، وأخذه أبوه وأحضره إلى الأردو في هيئة المأسور المقهور. وجوبان يظهر هذا، ويسر خلافة، ويبطن مخادعة السلطان أبي سعيد في أمره، فلما مثل تمرتاش بين يديه، فك إساره، وخلع عليه وتركه بالأردو مدة، ثم أعاده إلى الروم على ما كان عليه، وزاد في تخويله والتنويه بقدره. ثم لما آن لدولة جوبان وبنيه الزوال، وكان منهم ما كان قويت أمراء الأتراك بالروم، وانتعشت قواهم ثم هم إلى الآن على هذا الحال على كثرة اضطراب أمر المغل وتفرق أهوائهم. في هذه المدد كلها مع هذا ما استطاع أحد من أمراء الأتراك إلى (أن) يلتفت إلى شيء مما بأيديهم من الروم (المخطوط 183) لا ولا ارتجاع شيء مما كان تمرتاش بن جوبان قد أبان ملوكه وافتتحه واستضافه إلى ما بيده. وهذه جملة ما حمله مقدار هذا التأليف من أخبار الروم، ما تضمنه مما دخل فيه بدلالة اللزوم، وبالله نسترشد ونستهدي، وعليه نتوكل وإليه ننسب. وأما ما هو بأيدي النصارى فقد قال بلبان الجنوي: أن ممالك الروم كلها تترامى إلى رومية، موضع الباب ثم مملكة القسطنطينية ثم طرابزون. فأما مملكة طرابوزن [1] ، فهي من ممالك عباد الصليب مملكة جليلة القدر، وعلى ساحل البحر على خرجة ماء ينطش، وهي مملكة أخذت غربا بشرق على أطراف مملكة الأتراك في البر المتصل بنا، وهي في جنوبي الروم، دق طرفاها واتسع

_ [1] طربيزون وطرابزون مملكة واقعة بين بلاد الروس وبلاد اليونان (ابن الأثير 12/160) .

وسطها، كأنما دار على جانبها الفرجار [1] من خارج المركز، فجاءت على شكل الإهليلجة، وعلى هذا التصور صورها بلبان الجنوي. وقال: وصاحبها ملك رومي عريق في الملك من أولاد قسطنطين، باني مدينة القسطنطينية، وهو صاحب تخت وتاج، ووظائف ملكية، وحاشية سلطانية، وقدر رفيع عند الباب، وهو وجميع أهله، الغابر منهم والباقي، أهل جمال فائق، وحسن فاتن إلا أن أهل هذا الملك القائمة بها الآن وإياه لكل منهما على عجم الصلب سلعة [2] رقيقة ممتدة بارزة، تكون طول الإبهام وعرضه كأنها ذنب خارج. وقال: وفي هذه المملكة قوم فيهم مثل هذا، ولما قال لي هذا توقفت عن نقله عنه وشككت فيه حتى حدثني بمثل هذا بهادر الإيواني، وحكى مثل هذا آخر من أهل السير وآخر ثم آخر حينئذ نقلته في كتابي هذا والعهدة عليهم، والقدوة صالحة، والله سبحانه وتعالى فاعل مختار ويخلق ما لا تعلمون [3] فسبحان من بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون. قال وأهل طرا بزون أهل نجدة وبأس وعليهم طريق مسلوك لمن أم بلاد القزم وصحراء القبجاق وطوائف سكان الشمال. قال: ومملكة طرابزون أوسع من (المخطوط ص 184) مملكة الكرج، وأجل مقدارا عند ملوك النصرانية، وإنما أولئك أشد أيد وقوة. قال: وملك طرابزون يسمى التكفور كما يسمى ملك الأرمن، وهو أعلى نسبا من ملك الروم القائم الآن في المملكة بها، وله عليه فخر لا يعلى على منصبه، ولا يعلى رداؤه عن منكبه، قالوا: وجنده ليسوا بذي عدد غالب ولا مدد مغالب، وإنما

_ [1] وردت بالمخطوط البيكار، ويعني اليركار وهو بالعربية الفرجار، آلة هندسية (فرهنگ رازي 96) . [2] أظنها صلعة. [3] إشارة إلى الآية 8 من سورة النحل 16.

هم أقران فوارس وأعيان ليوث، لا يحلى لها فرائس، قال: وأحوالها كلها تشابه ما يليها من ممالك الأتراك. قال بلبان الجنوي: وأما مملكة القسطنطينية وهي الآن تسمى اصطنبول [1] وقديما ببرطانية، فإنها كرسي مملكة الروم، ولملوكها التقدم على جميع ملوك عباد الصليب، ومن أهلها الملك القائم القديم وكانت لهم اليد العليا على بني العمودية، وجميع طوائف العيسوية. وهي مملكة قيصر [2] بها كان تخت الاسكندر وتداولتها دول الروم من أولاد قسطنطين، وخرجت عليهم خوارج، ثم هبت للفرنج بها ريح ملك، واشتعلت لهم بها ذؤابة دولة، واشتعلت لهم بها نار عليه، ثم عادت إلى الروم واستمرت إلى اليوم. قال: والفرنج تزرى بالروم لخروج ملك الشام عنهم وتغيرهم بغلبة العرب عليهم، يعني في مبدأ الإسلام، وتعيبهم بهذا، وتوسعهم الملام. قال: ومع هذا فلا يسع ملوك الفرنج إلا إجلال هذا الملك الرومي، وتوفيه حقه من التعظيم، وعساكره مائتا ألف فارس مديونه، ما فيهم إلا صاحب أقطاع أو نقد، وأرزاقهم لكل واحد منهم في السنة مائتا دينار إلى ألف وخمسمائة دينار، وفيهم من يبلغ ألفي دينار، والدينار اثنا عشر درهما، وهو درهم ينقص عن البندقي بقليل، والدينار ما هو دينار مسمى بل حقيقة دينار مسكوك من ذهب مغشوش، فلهذا نقص ثمنه، قال: واسم هذا الدينار برير.

_ [1] وردت اصطنبول وهي قسم من مدينة القسطنطينية بالعدوة الشرقية من النهر وفيها سكنى السلطان وأرباب دولته وسائر الناس، وهي بسفح جبل داخل في البحر نحو تسعة أميال (رحلة ابن بطوطة 233) وهي استانبول وأسطنبول وأسلامبول. [2] قيصر لقب ملوك الرومان يعادل القاآن عند المغول وتبع عند اليمن وكسرى عند الفرس وراجا عند الهنود.

وقال: وأما الإمرة عند الروم فإنها محفوظة في بيوت قديمة، يتقدم في إمرة كل واحد منهم يتوارثها كابر عن كابر (المخطوط 185) ويورثها أول لآخر. قال: ولملك القسطنطنية قدرة [1] ، ليست لأحد من الملوك النصرانية سواه، قال: لأنه يركب في كل يوم إلى الكنيسة العظمى بها، ومعه البطريرك، ويقف على كل باب من أبواب الكنيسة على كثرة أبوابها [2] فرس للملك وبغلة للبطريرك. وشعار سلطنته كامل بجميع ما يحتاج إليه الملك، بما لا بد للموكب الملوكي منه، فمن أي باب خرج من أبواب الكنيسة، هو والبطريرك ركبا، وسار الملك في أبهة الملك التمام، وشعار السلطنة الكامل بما كان معدا له على الباب الذي خرج منه دون ما كان معدا على بقية الأبواب وعلى كل باب منها نظير ما كان على الباب الذي خرج منه الملك، وسار بشعار الملك الكامل. قال: وللملك ميزة يتميز بها، وهو أنه لا يلبس أحد في مملكته جميعها خفا أحمر غيره، وزي الروم في لباسهم من نوع زي الأتراك والمغل من الأقبية التترية والمحضرة، خلا أن الكبائس على رؤوسهم متسع مرحرح، كأنه الطبق، ويشدون في أوساطهم المناطق والسيوف، ومناطقهم ثقال، وسيوفهم كالسيوف المغربية، أخف من العربيات، وعلى أشكالها، ولباسهم الجوخ والصوف والحرير الأطلسي والديباج وسائر أنواع الحرير. قال: وللملك داران معروفتان بدار المملكة، الواحدة قديمة من بناء الاسكندرية، خارجة في كبد البحر، ذات حارات طوال ودهاليز بعيدة نائبة، وفي جانبيها تماثيل نحاس على صورة الإنسان وسائر أنواع الحيوان، وفيها صوة فرسان على خيل وحيوانات وأشكال آخر، وكلها أكبر من الحيوانات المعروفة بما يزيد زيادة ظاهرة على الأشكال الطبيعية، وهي في غاية الصنعة الأحكام بالنقوش العجيبة

_ [1] هو تكفور ابن السلطان جرجيس (رحلة ابن بطوطة 232) . [2] ثلاثة عشر بابا (رحلة ابن بطوطة 234) .

والتخاطيط الغريبة، ولا يعرف هل عملت لظاهر الزينة أو لباطن من الحكمة وهي دار عظيمة هائلة البناء، بعقود منظمة وأبنية رفيعة واسعة رحبة مفروشة بالرخام الأبيض والجزع والملون وضروب من المسن الأخضر. (المخطوط ص 186) قال: والملوك لم يسكنوها منذ عصر ميتشامون بها، ويقولون أنها مسكونة بمردة وفساق الشياطين، وأن فيهم من يتراءى [1] على مثال أصلة لا نطاق، والدار الأخرى هي التي يسكنها الآن الملوك، وتسكن إليها وهي على جلالة مكانها وفخامة قدرها لا تقارب دار الاسكندر ولا تدانيها في الإمكان والتشييد ورونق التأنيق والتنميق. قال: ولقد كانت ملوك القسطنطينة تراقب ملوك القبجاق، وتؤدي إليهم القطيعة حتى تزوج هذا السلطان أزبك خان منهم فأمنهم ووضع عنهم أثقال تلك القطيعة، وأصر تلك الأتاوة وناموا الآن في مهاد الأمن، ورفعت عنهم غمم التكليف. وقال لي غيره وقد سألته عن عدد جيوش الروم، فقال: هم عدد بلا نفع، قلت: وهذا هو المشهور عندهم في كل زمان ومكان والمأثور عنهم أنهم وإن كانوا ذووي عدل ليسوا من الشيء شيء وإن كانوا، وإن هان أقوى اعتدادهم المخمر والخمير وأوفى حبهم الديباج والحرير، ما فيهم ضارب إلا بجنك [2] أو عود، ولا طاعن إلا بين أعكان ونهود، ولا يشربون دما إلا من فم إبريق جريح، ولا يرون قتيلا إلا شخص زق طريح، ولا لهم وقائع إلا في طبقات الصحاف، ولا مواقع إلا بين فراش ولحاف. لا يعرفون البيض الأبيض الدمى، ولا السمر إلا كل سمراء الدمى، ولا العجاج إلا من دخان عنبر، ولا أثر السيوف إلا في ثغر شنيب كأنه عقد جوهر ولا مقام إلا في مجلس راج، ولا اهتمام إلا بمجلس أفراح، ولا التماس إلا لغبوق أو اصطباح [3]

_ [1] وردت بالمخطوط تيرآاي. [2] جنگ: وهي آلة موسيقية وهي جنگ أو الصنج (فرهنگ رازي 564) . [3] الغبوق خمر المساء والاصطباح هو خمر الصباح ويسمى الصبوح.

ولا اقتباسه إلا مما تتوقد ناره في كأس أو يقتدح من أقداح ما منهم راكب جواد إلا اللذة، ولا صاحب جهاد إلا في فرصة مستلذة، ولا عوال تلعلع أسنتها غير الشمع، ولا عويل إلا مما يتخير من مآقى الغيد من الدمع. قال بلبان: وطوائف الروم لا معروفة لهم بامتطاء البحر ولا عادة بركوب السفن، وأبعد سيارتهم فيه إلى مواضع النزهة، وإنما هم أصحاب خيل، ولا تعد خيالهم في جياد الخيل وإنما يجلب إليهم كرائمها (المخطوط ص 187) من بلاد الأتراك من قاطع الخليج، وإنما هم بغال تباع بغال. ولهم تجمل دبر في الملابس والمراكب والفروش، وفي أهلها الجمال البديع والكمال التام، وفي المثل وجوه الترك وأجسام الروم وظرف العرب. قال: فأما منابت القسطنطينية فكلها أرض جيدة صالحة للزروع والثمار، ولها نهر متوسط المقدار، عليه مساقي زرع وأشجار والأرزاق بها كثيرة الوجود والرطل القسطنطين نظير الرطل المصري وكيل الطعام بها المسمى مدني، وهو حمل جمل يكون أردبين ونصف بالمصري، وبه يباع الغلال الكثيرة، فأما القليل منها، فيباع بالرطل. قال: وهذا الملك لا يفارق مجلسه الطرب، ويضرب له بالآلة المعروفة بالأرغل [1] وهي ذات وضع عجيب وألحان غريبة مطربة تأخذ بمجامع القلب، قلت: وقد رأيت هذا الأرغل بدمشق ثم بالقاهرة فقلت هذا للضارب به، فقال لي: هذا أرغل صغير يفكك ويحمل وما معه أصوات تسير له الضرب، والذي يضرب به لملوك الروم البحر الكبير مستقر في مكان لا يزايله، وله عدة من أصحاب الأنغام المطربة، تسير له، وله بذلك رونق لا يكون في مثل هذا، وصورة الأرغل خشب مركب، وله بكر نحاس وأوتار شريط نحاس، ونحر بمثل كور الصائغ، ونغمه شبيه

_ [1] الأرغل هو الأرغول.

بالآلة التي تسمى القانون. ثم نعود إلى تتمة الحديث. قال بلبان: والملك لا يمد الطعام إلا بين سماطين من المغاني وأصحاب الملاهي. حدثني آقسنقر الرومي أحد أمراء العشرات بالأبواب السلطانية، وهو من بعض بيوت العشرة الآمرة القديمة بالقسطنطينية وكان قد حضر في جملة الرسل إلى الأبواب العالية، وأسلم وشمله التشريف والأنعام الشريف، والإقامة في الخدمة السعيدة السلطانية بمثل هذه الأحوال، وسمعته يبالغ في تعظيم شأن ملوكهم، ويصفهم بحسن الموافاة والمراعاة لمصالح (المخطوط ص 188) أولياء دولتهم ورعاياهم. وقال: إن عادتهم جارية بأنه إذا من مات من أمراء الروم جرى على أكبر أولاده ما كان يجري على أبيه، فإن لم يكن له ولد كان على أكبر أهله، فإن انقرض تصرف الملك فيه برأيه، فإن ترك الميت أولادا لا يقوم بهم ما كان لأبيهم ولا يكفيهم إذا توزع عليهم جرى على الأماثل ما كان لأبيهم، ونظر في حال البقية. قال: وعادة هؤلاء الملوك أن لا يعطى ولد أمير رزقا من جهتهم ما دام أبوه حيا يرزق، بل ارتزاقه مما لأبيه، وإن أراد الملك أن يعطيه شيئا أعطى لأبيه مقدار ما يريد أن يجعله لابنه، ثم أمره أن يجريه هو على ولده من جهة لا من جهة الملك. قال: وهم أهل عدل فلا يظلم أحد منهم ولا يستحسن الظلم ولا يفسح فيه ولا يتطلع إلى شيء مما في أيدي الناس من أرباب دولته ورعايا مملكته، ولا يعرف هذا عندهم. قال: وجميع من هو في خدمة ملوك الروم لا حجر عليهم ولا تضيق في الإكرام بحضور خدمة مرتبة ولا أخذ دستور في أمر من الأمور، فخلي بين نفسه وما يريد في الركوب والنزول والسفر إلى الصيد والتنزه وإلى جهات أملاكهم وأقطاعاتهم بل هو في ذلك كله مع رأيه يسافر متى أراد إلى جهة أراد، ويغيب ما يقدر له أن

يغيب بغير إذن لملك ولا لأحد ممن ينوب عنه، وفيهم من يغيب السنة فما فوقها، ولا يقال له لم سافرت؟ ولا كيف أبطأت؟ ولا لأي شيء انقطعت عن الخدمة؟ ولا يعتب ولا ينكر عليه، ولا لملك تشديد عليهم في أمر إلا في الإلزام بالتوجه إلى حرب أو المؤاخذة بحق. قال: وما أهل مملكة الملك فهم منه في أرغد عيش، لا يقوض له بناء، ولا يكف له إناء، قالوا: كلهم والبطريرك هو الحاكم على الملك، لأنه لا معول إلا على رأيه، ولا يفصل حكم إلا بقضائه وله رزق عظيم، يعدل معدلة دخل إقليم، وإليه أمر الكنيسة العظمى، وسائر الكنائس والديارات (المخطوط ص 189) ويحصل لها في كل سنة أموال جمة طائلة من الوقوف والنذور والقربانات والتحف، ومهاداة الملوك والكنود والتجار. وفيما يزعم الروم أن بلاد مقدونية جميعها. وقف على الكنيسة العظمى التي لهم المسماة بالأوصفية [1] ، وبلاد مقدونية هي الاسكندرية، وما هي مضاف إليها، وكان ذلك في قديم الزمان مصر كلها بأسرها إلا الصعيد الأعلى، وعلى هذا جاء الفتوح في صدر الإسلام. قلت: والروم تبالغ في تعظيم هذه الكنيسة وتعتقد في كرامتها، وينقل من التواريخ أن بها كان اجتماع قسطنيطين على التدين بدين النصرانية، وإن عقد الاتفاق كان على المذبح بها، وفيها ما يقول صليب الصلبوت وعصا موسى وزنار مريم ومسح المسيح مما يقال أنه صار إليها من طليطلة، وفي زمان الملك الناصر صلاح الدين قدس الله روحه، جاءت إليه رسل الفرنج تسأله في إرسال صليب الصلبوت إليها، وزعموا أنه قد صار إلى خزائن العبيدين واتصل إليه، ثم أن صلاح الدين

_ [1] الأوصفية: هي كنيسة أياصوفيا ويذكر أنها من بناء آصف بن برخيا وهو ابن خالة سليمان عليه السلام، وهي من أعظم كنائس الروم عليها سور يطيف بها، فكأنها مدينة، وأبوابها ثلاثة عشر بابا (رحلة ابن بطوطة 234) وهي الآن متحف آيا صوفيا في تركيا.

ظفر به في بعض حروبه بالرجل الذي كان حضر في طلب الصليب، فأمر به فصلب، وكتب الفاضل رحمه الله كتابا ذكر هذا فيه. فقال: وحصل الظفر بمن كان تقدم حصون في طلب صليب الصلبوت، وأطلقه في ذلك الوقت، وعلم أنه لا يفوت، فلما ظفر به الآن آمر به أن يصلب، وجعله مثلة، وسمره على الصليب الخشب، وجعلة مثله (مثله) هذا ما ذكره في هذا المعنى. وأما الشائع الذائع على ألسنة الناس وكلام المتجولين في الأرض، وطلبة الكنوز والخبايا، فهو أن علم الكنوز في كنيسة القسطنطينية، ثم صارت إلى القسطنطينية، ومنهم من يقول أن الروم لما خلت عن الشام وبلاد القبط، اكتنزت كثيرا من أموالها في مواضع كانت تعدها لذلك، وكتبا بها كتبا بإعلام مواضعها، وطرق الوصول إليها، وأودعت تلك الكتب مكانا في كنيسة القسطنطينية، وإن منها تستفاد معرفتها، ومنهم من زعم (المخطوط ص 190) أن سكان الشام من الروم، لم يكنزوا، وإنما ظفروا بكتب بمعالم كنوز من كان قبلهم من اليونان والصابئة والكلدانيين ومن تقدمهم من الأمم الأول، فلما غلبوا على الشام، واستصحبوا تلك المعالم فأودعوها الكنيسة، أنه لا يصل إليها إلا من خدم الكنيسة مدة معلومة عندهم، فإذا انقضت، أعطى ورقة واحدة بخطه، ونصيب فيما يدل عليه، ولهم في هذا ومثله حكايات بجنسها، وأنا لا أصدقها ولا أكذبها، وإنما ذكرت منها هذا هنا على سبيل الحكاية والتندير إذ كان هذا ما يدور ذكره في حديث الناس إذا ذكروا هذه الكنيسة، وهو مما لا يستبعد إما كله وإما شيء منه لدخوله في حيز الإمكان، ولأنه لا يخلو من فواضل أهل زمان. وهؤلاء العرب [1] تكتنز أموالها في قدور بسلاسل طوال تدفنها في مواضع متغلغلة في البر، وتعلمها بأعلام لا تتغير من الجبال والربى، وما أشبه ذلك، فأما ما

_ [1] ربما يقصد الروم.

لا شك فيه فهو أن في القسطنطينية كتبا جليلة من كتب حذاق الحكماء والفلاسفة القدماء، ما لا خرج عن دار قومه ولا وصل إلى فلاسفة الإسلام منه شيء، لضنانة بطارقتهم [1] ، وسوء سهم به، ومحافظة خزانة على خزنة وحفظه، ويقال أن فيها دقائق الموسيقى مما لو عمل به أهل هذا الشأن والقوة على أصحاب الأصوات المطاوعة لاستغنوا به في معالجتهم به من العقاقير حتى يقال أن فيها ما يلين القاس، ويقاد الصعب، ويضحك ويبكي ويندم. ويدعى أصحاب علم الكيمياء أن فيها كتبا جليلة فيها العلم الصحيح بأسهل الطرق وأقربها إلى الوصول، وتدعى أنه مما تلقى عن موسى صلوات الله عليه. قال: ويقال أن فيها أثرا من علوم الخضر والاسكندر وذي القرنين تفتح به المغالق، وتتسلم المعاقل، وتملك النواصي، وتهزم الأعداء، فإذا حوجج أحد ممن يقول هذا القول وحوقق وقيل له (المخطوط ص 191) ، أنتم تلوون ضلوعكم على الداء الدقيق [2] ، غيظا على أخذ الشام منكم، فهلا أخذتم بتلك الآثار، وبلغتم المراد وكفيتم المهم ايلسوا وسكنوا، ولم تكن لهم حجة إلا أن يقولوا ما بقى من يعرفها أو ذهب زمانها أو تزيد طوالع أو باد من يعلمها أو ما تم من هو مشتغل بها. وأما الذي هو الآن عندهم ظاهر من بقايا ذخائر العلماء الحكماء فهو الطين المختوم، ورأيت أطباء الزمان، ومنهم بالديار المصرية رؤساء أفاضل وعلماء لا تقصر عن درجات الأوائل، ما فيهم من يثبته على التحقيق، لكنها تستحسنه، وتقول هو طين مليح يحصل به القصد، ويتوقف، ولا يجزم بأنه هو الطين المختوم، ويقول الطين المختوم طين عمل وطبع وختم على عهد جالينوس. ويقال كانت امرأة في جزيرة في البحر تجلس على هيكل على قراره أو بركة

_ [1] بطارقتهم وبطاركتهم جمع مفرد بطريك وبطريرك. [2] وردت بالمخطوط الدوين.

يأتيها السيل، فتذبح هناك التيوس على سبيل القربان في وقت معلوم من السنة، ويؤخذ من التراب مما جف عنه السيل وجمد عليه الدم، وقالوا: إنه يجبل بالدم في طالع مخصوص، ويقرص أقراصا، ويطبع بطابع متخذ لها، ومنهم من يقول إن فعله إنما هو لخاصية تلك البقعة، ومنهم من يقول للطالع المخصوص، ومنهم من يقول بل لشيء أفيض عليه في الهيئة الاجتماعية. وهذا الطين المختوم المجلوب الآن هو على نوعين أبيض ونوع أحمر، فأما الأبيض فمنه أغبر ومنه شديد البياض، أما الأحمر فمنه وردي ومنه ما يشوبه سواد كأنه لون المغرا أو طوابعه مختلفة، وهذا الاختلاف مما أوقف الأطباء عن الجزم به، أنه هو هو ولأنه لم يجدوا فيه كل ما ذكرت القدماء في أوصافه. وقال لي الرئيس أمين الدين سليمان بن داوود المتطبب رحمه الله، وقد رأيته منه هذا ما هو الطين المختوم، والطين المختوم عمل على عهد جالينوس، وكان مقدارا ليس بالكثير ثم لم يعمل بعده، وغطى البحر على تلك الجزيرة، والناس منذ عمل تستعمل منه، ولهذا زمان طويل ولولا كان (المخطوط ص 192) بقدر ما عمل أضعافا مضاعفة لكان قد فرغ، وإنما هو شيء يشبه، وليس به. وأكثر ما يحمد الأطباء من هذا الطين المشتبه بلون المغرا، ثم أن الوردي، فأما الأبيض فما رأيت أحدا [1] منهم يقدمه، إذا رآها في وصف، ولا يعبأ به، فأما جلابته من القسطنطينية فتذكره وتصف صفاته الروم، والذين جربت منه، فحمدت من أنواعه هو المشبه بالمغرا وقد ذكرت هذا المحل الفائدة، ثم نعود إلى الكلام على القسطنطينية. قال آقسنقر الرومي وبلبان الجنوي وعلي بن بلبان الجلبي قالوا كلهم، وقال غيرهم: إن القسطنطينية على جزر من البحر، يدخل منه ماء إلى الميناء في جانب

_ [1] وردت بالمخطوط أحد.

القسطنطينية، ويدخل مسورها والتجار والسفارة من سائر الأقطار من المسلمين والنصارى وغيرهم، يأتي إليها وينزل بها، ويبيع ويشتري فيها، ولا حرج عليهم ولا تضييق. والمسلمون فيها على جانب أعزاز وإكرام، فيها سكان من المسلمين يسكنونها إلى اليوم، لا يمسهم ولله الحمد ذل ولا هوان، ولهم مساجد وأئمة تصلي بهم الجماعة، فتظاهر فيها بشعائر الإسلام، وللملك اهتمام بكف الأذية عنهم، وإذا شكى المسلم إليه على أحد من النصارى، ولو أنه من عظماء البطارقة، أشكاه وأنصفه منه، ولا اضطهاد، ولا ضيم في جميع مملكة هذا الملك عليهم ولو تغيرت الملوك، واختلفت الأحوال، لا يقدر الملك على تغيير حاله في هذا، ولا مخالفة لمن تقدمه فيه لأنها عادة تدين بها ملوكهم، وسارت بها في ملوك النصرانية سيرهم، فلو عدل الملك عنها، لمنعه البطريرك، وو آخذه به وآخذه بالرجوع إلى عادة أسلافه، واشتد في منعه، فإن رجع، وإلا كان السبب بتحريمه، فإن رجع، وإن كان السبب لخلعه. والروم أسخى من جميع الطوائف النصرانية، واسمك في الكرماء نفوسا، وأمسك ناموسا، ومع هذا فما فيهم من يداني العرب في كرم، ولا يقاربهم في جود، والشح غريزة في طباع النصارى، لا ينفق إلا فيما (المخطوط ص 193) يتنغم به، فينفقه في اللهو والطرب، والنخوة فيهم قليلة، وهذه جملة ما ذكروه من أخبارهم، وفهم من كلامهم. ومما أقوله أن أول دليل على عظم القسطنطينية ومالها من الممدود غزوة هارون الرشيد إياها سنة خمس وستين ومائة، كان أبوه المهدي قد وجهه إليها وهو إذ ذاك ولي عهد أبيه المهدي، فخرج يوم السبت لإحدى عشرة ليلة بقيت من جمادى الآخرة [1] غازيا إلى بلاد الروم، وضم إليه المهدي الربيع مولاه، فتوغل هارون الرشيد

_ [1] وردت بالمخطوط جمدى الآخرة.

في بلاد الروم، فافتتح ماجده ولقيه خيول بقطياقوس القوامسة فبارزه يزيد بن مزيد، فأرجل يزيد ثم سقط بقطيا، فضربه يزيد حتى أثخنه، وانهزمت الروم، وغلب يزيد على عسكره، وسار هارون الرشيد بمن معه في مائة ألف ألف دينار وثلاثة وسبعين ألف ألف وأربعمائة وخمسين دينارا ومن الورق مائة ألف ألف وإحدى وعشرين ألف ألف وأربعة عشر ألف وثمانمائة درهم، وسار هارون الرشيد حتى قطع خليج القسطنطينية، وصاحب الروم يومئذ عسطه امرأة النون وذلك أن ابنها كان صغيرا، قد هلك أبوه وهو في حجرها، فجرت بينها وبين الرشيد السفراء في طلب الصلح والموادعة، وإعطاء الفدية فقبل ذلك منها هارون الرشيد، وشرط عليها الوفاء بما أعطت، وأن تقيم له الأدلاء والأسواق في طريقه، وذلك أنه دخل مدخلا ضيقا تخوفا على المسلمين. قال أبو جعفر الطبري [1] : وسار هارون في خمسة وتسعين ألف وسبعمائة وثلاثة وسبعين رجلا من المرتزقة سوى المطوعة ثم ذكر مثل هذا، وقال: إنه جرت بينها وبين هارون الرسل والسفراء في طلب الصلح فشرط عليها الوفاء وأن تقيم له الأولاد والأسواق في طريقه فأجابته، والذي وقع عليه الصلح بينه وبينها سبعون ألف دينار تؤديها في نيسان [2] الأول (المخطوط ص 194) في كل سنة، مثله في حزيران [3] ، وقيل ذلك منها، وأقامت الأسواق في منصرفه، ووجهت معه رسلا إلى المهدي بما بعثت له وربما بذلت على أن تؤدي ما يتيسر من الذهب والفضة والعرض، وكتبوا كتاب الهدنة إلى ثلاث سنين، وكان الذي أفاء الله على هارون إلى أن أذعنت الروم بالجزية خمسة آلاف رأس وستمائة وثلاثة وأربعون رأس، وقتل من الروم في الوقائع أربعة وخمسون ألف وقتل في الأساري صبرا ألفان وتسعون

_ [1] الطبري: محمد بن جرير من الفقهاء والمؤرخين الكبار في القرن الثالث والرابع الهجريين له جامع البيان في تفسير القرآن وله تاريخ الرسل والملوك مات سنة 310 هـ. [2] أبريل. [3] يونيو.

أسيرا، وبيع البرذون بدرهم، والبغل بأقل من عشرة دراهم، والدرع بأقل من درهم، وعشرون سيفا بدرهم. فقال مروان بن أبي حفص يمدح الرشيد [1] . «لطفت بقسطنطينية الروم مسندا إليها القنا حتى أكتسى الذل سورها» . «ومارمتها حتى أتتك ملوكها بجزيتها والحرب تغلى قدورها» . «وجزت إليهم مالح البحر لم تنل به ووفود الموج دان سيرها» . «وأخرجت منها من خزائن قيصر ألوف قناطير عظيم يسيرها» . «فبورك هارون الندى ابن محمد ودام على الأعداء منه منيرها» . «لقد جرد المهدي منه مهندا يعض به يوم اللقاء صدورها» . «على سمته سرا ينوه لائح من وجهه الوضاح أشرق نورها» . «لقد أصلح الرحمن أمة أحمد لمسعاهما حتى استقامت أمورها» . «أيمتد عدل حيث حلت بلادها وكل سرير للملوك سريرها» . وقد ذكر الطبري هذه الواقعة في أحداث هذه السنة بهذه المقاصد، وقد الحقت هذه الفصل بشيء مما ذكره الحافظ أبو القسم ابن عساكر [2] في تاريخه [3] في ترجمة أبي محمد البطال [4] . قال عبد الله بن يحيى الأنطاكي [5] ، كان ينزل انطاكية قال: وكان ممن خرج

_ [1] مروان بن أبي حفصة شاعر مخضرم مدح المهدي والرشيد ومعن بن زائدة عاش ما بين 724- 298 م (المنجد في الأعلام ط 15 ص 530) . [2] الحافظ أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله الشافعي المتوفى 571 هـ. [3] تاريخ مدينة دمشق ص 256. [4] عبد الله أبو يحيى المعروف بالبطّال (تاريخ مدينة دمشق 39/356) . [5] أبو مروان الأنطاكي (تاريخ ابن عساكر 39/356) .

مع مسلمة بن عبد الملك بن مروان إلى بلاد الروم، قال: لما أراد عبد الملك أنه يوجه مسلمة إلى بلاد الروم، قال: قد أمرّت (المخطوط ص 195) عليكم مسلمة بن عبد الملك، قال: وولى على رؤساء أهل الجزيرة والشام البطّال، وأمره، فليعس بالليل العسكر، فإنه ثقة أمين شجاع مقدام، فخرج مسلمة، وخرج عبد الملك يشيعه إلى باب دمشق. وذكر الحافظ [1] بسنده عن الوليد بن مسلمة، قال: حدثني بعض شيوخنا أن مسلمة بن عبد الملك عقد للبطّال على عشرة آلاف من المسلمين، فجعلهم سيادة ما بين عسكر المسلمين وما يليهم من حصون الروم، ومن يتخوفون اعتراضه في نشر المسلمين وعلاقاتهم، ويخرج المسلمون يتعلقون فيما بينهم وبين العسكر، فيصيبون ويخطئون فيأمن بهم العسكر [2] . وقال الوليد بن مسلم: حدثني أبو مروان الأنطاكي عن البطال أنه قال: سألني بعض ولاة بني أمية عن أعجب ما كان من أمري فيهم، فقلت، خرجت في سرية ليلا، وخرجنا إلى قرية، وقلت لأصحابي: أرخوا لجم خيولكم، ولا تحركوا أحدا بقتل ولا سبى حتى تشحنوا [3] [4] القرية، فإنهم في نومة، قال: ففعلوا، وتفرقوا في أزقتها، ودفعت في ناس من أصحابي إلى بيت يزهر سراجه، وامرأة تسكت ابنها من بكائه، وهي تقول، لتسكتن أو لأدفعنك إلى البطّال ثم انتشلته من سريره، فقالت: امسك يا بطال، فأخذته. وقال الوليد حدثني أبو مروان أنه سمعه يحدث، قال: خرجت ذات يوم متوحدا على فرسي لأصيب غفلة مسمطا مخلاة فيها عليق فرسي، ومسربل فيه خبر وشواء، فبينما أنا أسير إذ مررت ببستان فيه بقل طيب فنزلت، فعلقت على

_ [1] انظر: تاريخ مدينة دمشق (لابن عساكر 39/357) . [2] انظر: تاريخ مدينة دمشق (لابن عساكر 39/357) . [3] تفتحوا القرية. [4] انظر: تاريخ مدينة دمشق 39/358.

فرسي، وأصبت من ذلك الشواء يتصل البستان، إذ أسهلني بطني، فاختلفت متواريا، فأشفقت من دوامه، وضعفي عن الركوب، فبادرت، فركبت، ولزمت طريقا، واستفرغني على سرجي كراهية أن أنزل، وضعفت عن الركوب حتى لزمت عتق فرسي، خوفا أن أسقط عنه وذهب لي لا أدري أين يذهب لي، إذ سمعت وقع حوافره على بلاط، ففتحت (المخطوط ص 196 عيني فإذا دير فوقف بي في وسط الدير، وإذا نسوة يتطلعن من أبواب الدير. فلما رأين حالي وضعفي عن النزول [1] ، فأتتني جارية صاحية منهن حتى وقفت عليّ، ونظرت في وجهي، ورطنت لهن، فنزعن ثيابي وغسلن ما بي، ودعت بثياب فالبستنيها، وترياق أو دواء فشربته، ثم أمرت بي، فجعلت على سرير لها ودثار، وأمرت بطعام تهىء لي فأتت به وأقمت يومي وتلك الليلة لا أدري ما أنا فيه، ومكثت يومين وليلتين حتى ذهب عني السبات، وأنا ضعيف عن الركوب. فلما كان اليوم الثالث [2] جاءها من يخبرها أن فلانا البطريق قد أقبل في موكبه. فأمرت نفرسي فغيب، وأغلق عليّ باب بيتي الذي أنا فيه، ثم أنزلت البطريق وأصحابه، وكان قد جاء خاطبا لها، فبينما هو على ذلك، إذ جاءه من يخبره عن موضع فرسي، وإغلاقهم عليّ فهم أن يهجم عليّ، فأقسمت إن هو تعرضني، لأنال حاجته، فأمسك وأقام قائلة ذلك اليوم، ثم تزوج، وخرجت فدعوت بفرسي فخرجت إليّ، فقالت [3] : إني لا آمن أن يكمن لك، دعه يذهب، فأبيت عليها، وركبت فقفوت أثره

_ [1] قارن: تاريخ ابن عساكر. مع اختلاف يسير في الألفاظ 39/359. [2] قارن: تاريخ ابن عساكر 39/359. [3] تاريخ ابن عساكر 39/359.

حتى لحقته وشددت عليه، فانفرج عنه أصحابه فقتلته وطلبت أصحابه فهربوا عني، وأخذت فرسه وسمطت رأسه، ورجعت إلى الدير فألقيت الرأس، ودعوتها ومن معها من نسائها وخدمها. فوقفت بين يدي، وأمرتها بالرحلة، ومن معها على دواب الدير وسرت بهن إلى العسكر، حتى دفعت بهن إلى العسكر حتى دفعت بهن إلى الوالي فجعل نفلي منهن، فتنفلت المرأة بعينها، وسلمت سائر الغنيمة في المقسم واتخذتها أم أبني. قال: أبو مروان، وكان أبوها بطريقا من بطارقة الروم له شرف يهاديه ويكارمه ويكاتبه. وقال الوليد: سمعت عبد الله بن راشد الخزاعي يخبر عمن سمعه من البطال: يخبر أن هشاما أو غيره من خلفاء بني أمية كان قد (المخطوط ص 196) استعمله على ثغر المصيصة وما يليها، وأنه ران عليه خبر الروم، فوجه سرية لتأتيه بالخبر، فتوجهوا واجلتهم أجلا، فاستوعبوا الأجل. قال: فأشفقت من مصيبتهم، ولائمة الخليفة، فخرجت متوحدا حتى أوغلت في الناحية التي أمرتهم بها، فلم أجدلهم خبرا، فعرفت أنهم أخبروا بغفلة أهل الناحية الأخرى، فتوجهوا إليها، وكرهت أن أرجع لهم، ولم استنقذهم مما هم فيه، إن كان عدوا يكاثرهم، وأعرف من خبرهم ما أسكن إليه، فلم أجد أحدا يخبرني بشيء، فمضيت حتى أقف على باب عمورية فضربت بابها، وقلت للبواب أفتح لفلان سياف الملك ورسوله، وكنت أشبه به [1] . فأعلم ذلك صاحب عمورية، فأمره بفتح الباب ففعل وأدخلني، فلما صرت إلى بلاطها، وقفت وأمرت من يشتد إلى بيت يدي إلى باب بطريقها ففعل، ووافيت باب البطريق قد فتح، وجلس لي ونزلت عن فرسي، وأنا متلثم بعمامتي فأذن لي،

_ [1] تاريخ ابن عساكر 39/360.

ومضيت حتى جلست إلى جانبه فرحب بي فقلت له: أخرج من هنا لكلام حملت إليك، فأخرجهم وغلق الباب، وعاد إلى مجلسه، فاخترطت سيفي وضربت على رأسه، ثم قلت له: قد وقعت بهذا الموضع، فأعطني عهدا حتى أكلمك بما أريد، ثم أرجع من حيث جئت، ولا يتبعني منك خلاف، ففعل. فقلت: أنا البطال، فأصدقني عما أسألك عنه، وأنصحني وإلا أتيت عليك [1] . فقال: سل عما بدا لك، فقلت: السرية. فقال: نعم وافت البلاد غارة لا تدفع أهلها يد لامس، فوغلوا في هذه البلاد، وملأوا أيديهم غنائم، وهذا آخر خبر جاءني، إنهم بوادي كذا، فغمدت سيفي. وقلت: أدع لي بطعام فدعا، فأصبت منه، ثم قمت فقال لمن حوله: كونوا معه حتى يخرج، ففعلوا ثم قصدت السرية حتى أتيتها وخرجت بها، وبما غنمت فهذا من أعجب ما كان مني [2] . ثم قتل رحمه الله شهيدا في غزاة غزاها، وقتل معه خلق كثير من المسلمين وفيها يقول الشاعر: [الوافر] (المخطوط ص 198) ألم يبلغك من أنباء جيش ... باقرن غودروا جثثا رماما تقودهم حتوف لم يطيقوا ... لها دفعا هناك ولا خصاما معارك لم تقم فيها بشجو ... نوائح يلتزمن به التزاما ولم تهمل على البطّال عين ... هناك بعبرة تشفى الهياما

_ [1] تاريخ ابن عساكر 39/360. [2] تاريخ ابن عساكر 39/361.

عشية باشر الأهوال صبرا ... بخيل تخرق الجيش اللهاما إذا ما خيله حملت عليهم ... تداعوا من مخافته اهتزاما [1] فلا تبعد هنالك من شهيد ... فإنك كنت للهيجا حساما [2]

_ [1] انهزاما (تاريخ ابن عساكر 39/363) . [2] كنت: سقطت من الأصل، وأضيفت من تاريخ ابن عساكر. القصيدة وشرح بعض ألفاظها بتاريخ ابن عساكر 35/363.

الباب السادس في مملكة مصر والشام والحجاز

الباب السادس في مملكة مصر والشام والحجاز [ذكر مملكة المصر]

هذه الممالك هي مملكة واحدة، يقع معظم مصر في أوائل الثالث، ومعظم الشام في أواخره، وحلب منه في الرابع، وهي مملكة كبيرة، وأموالها كثيرة، وقاعدة الملك بها قلعة الجبل [1] ثم دمشق وهي من أجل ممالك الأرض لما حوت من الجهات المعظمة، والأرض المقدسة، والجهات «1» والمساجد التي هي التقوى مؤسسة «2» بها المساجد الثلاثة التي لا تشد الرحال إلا إليها [2] وقبور الأنبياء صلوات الله عليهم [3] والطور [4] والنيل [5] والفرات [6] وهما من الجنة. وبها معدن الزمرد ولا نظير له في أقطار الأرض، وحسب «3» مصر فخرا بما تفردت به من هذا المعدن، واستمداد ملوك الآفاق له منها.

_ [1] قلعة الجبل: هي القلعة التي بناها قراقوش: بهاء الدين أبو سعيد لصلاح الدين الأيوبي، والتي اتخذت مقرا للحكم وهي الآن تقع بموقعها الكائن بالقاهرة بمنطقة القلعة عند سفح جبل القطم. [2] إشارة إلى قول الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) : «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى ... » جزء من حديث للبخاري في باب التطوع (التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح للإمام الحسين بن المبارك، بيروت ط 2 سنة 1980 ج 3/557) . [3] بها قبور إبراهيم وموسى وهود وصالح وشعيب وأيوب ولوط ويوسف وإدريس ويعقوب وآخرون. [4] الطور: جبل بسيناء ناجى منه موسى عليه السلام ربه وهو المذكور في قوله تعالى: وَطُورِ سِينِينَ [التين، الآية 2] وهو جبل أضيف إليه سينيين وسنين شجر (مراصد الاطلاع 2/896) . [5] ونيل مصر يفضل أنهار الأرض عذوبة مذاق، واتساع قطر وعظم منفعة، والنيل أحد أنهار الدنيا الخمسة الكبار (رحلة ابن بطوطة 34) ونيل مصر قيل هو تعريب نيلوس (مراصد الاطلاع 3/1413) . [6] الفرات: أحد الأنهار الخمسة الكبار، يجري في العراق وسوريه وتركيا، واسمه بالفارسية فالاذروذ (مراصد الاطلاع 3/1021) .

«1» أخبرنا العدل عبد الرحيم شاهد المعدن بما أذكره من أحواله قال: إن بينه وبين قوص [1] ثمانية أيام بالسير المعتدل المعتاد، والبجاه [2] تنزل حوله وقريبا منه لأجل القيام بحفره وحفظه، وهذا المعدن وهو في الجبل الآخذ شرقي النيل في بحرى، قطعة عظيمة من هذا الجبل تسمى قرشنده، وليس في الجبال التي هناك أعلى [3] ولا (المخطوط ص 199) أشرف منها، وهو في منقطع من البر، لا عمارة عنده، ولا حوله ولا قريبا منه، والماء عنه على مسيرة نصف يوم منه أو أزيد، وهو ما يحصل من المطر، (ويعرف بغدير أعين بكثرة مطر [4] ) ، ويقل بقلته. وأما هذا المعدن فهو في صدر مغارة طويلة في حجر أبيض منه يستخرج الزمرد [5] ، والحجر الأبيض المذكور ثلاثة أنواع، أحدهما يقال له طلق كافوري، والثاني يقال له طلق فضي، والثالث يقال له حجر خروي، يضرب من هذه الحجارة حتى يخرج الزمرد وهو كالعروق فيه، والذي يخرج من أجوده، وأنواع الزمرد ثلاثة الدبائي وهو أفخرها، ولكنه قليل بل أقل من القليل بل لا يكاد يوجد.

_ [1] قوص: مدينة عظيمة لها خيرات عميمة، بساتينها مورقة وأسواقها مونقة ولها المساجد والمدارس وهي منزل ولاة الصعيد (رحلة ابن بطوطة 41- 42) مدينة كبيرة وهي قصبة صعيد مصر (مراصد الاطلاع 3/1133) . [2] البجاة قوم سود الألوان يلتحفون ملاحف صفراء ويشدون على رؤوسهم عصائب يكون عرض العصابة منها أصبعا ومقرهم عيزاب وملكهم يدعى الحدربي (رحلة ابن بطوطة 42) . [3] وردت بالمخطوط أعلا. [4] ما بين القوسين ورد بالحاشية. [5] الزمرد هو الزبرجد جوهر ثمين (انظر: الدخيل في لهجة أهل الخليج 65 القاموس المحيط 1/308) .

قال العدل عبد الرحيم: أنه ما رآه في مدة مباشرته ولا خرج منه شيء في طول تلك المدة. قال: وهو يستخرج في طول السنة مهما وجد من يعمل فيه، قال: وليس فيه عدة محصورة بل هم تارات بحسب الاهتمام وعدم الاهتمام باستخراج هذا المعدن. قال: وإذا استخرج الزمرد يلقى في الزيت الحار ثم يحط في قطن، ويصير ذلك القطن في خرق خام، وما يجري مجراه. قال: والاحتراز على هذا المعدن كثير جدا، والفعلة تفتش عند خروجهم منه في كل يوم حتى يفتش منهم أماكن لا يليق ذكرها هذا ما أخبرني به. وحدثني آخر له معرفة بهذا المعدن وأحواله أن هؤلاء الفعلة في هذا المعدن مع هذا الاحتراز الشديد لهم حيل كثيرة في سرقة الزمرد، منها أن الرجل منهم يسرق ما يمكنه من الزمرد ويعمله في كيس صغير من معد منه لذلك، ويربطه ثم يعلقه بخيط ابريسم [1] مبروم مشدود فيه بين أضراسه الدواخل، ويكون رأس الخيط معقودا عقدا وثيقا، فإذا علق الخيط أخرج تلك العقدة بين الضرسين إلى جهة الشفة، فيبقى ناشبا به، فإذا خرج إلى ظاهر المعدن، وصار (المخطوط ص 200) جنب بأمن أخرجه وأخذ ما فيه «1» . وبها البلسان [2] وهو ما هو وملوك النصرانية تترامى على طلبه، والنصارى

_ [1] أبريسم هو بريسم وبريشم نوع من الصوف من الكلمة الفارسية بريسم (انظر: معجم تيمور 2/8 الدخيل في لهجة أهل الخليج 16) . [2] البلسان: شجر له زهر أبيض صغير كهيئة العناقيد، وهو من الفصيلة البخورية، يستخرج من بعض أنواعه دهن عطر ينبت بعين شمس بظاهر القاهرة (المعجم الوسيط 1/71) .

كافة تعتقد فيه ما تعتقد، وترى أنه لا يتم تنصير نصراني حتى يوضع شيء من دهن البلسان في ماء العمودية «1» عند تغطيسه فيها. فأما وجوه دخل هذه المملكة وخراجها وعساكرها وأجنادها وما أوى «2» إليها من الأمم، وسكنها من أشتات الخلائق، وعرفت به سلاطينها من حسن السياسة وقدم «3» الرئاسة فأمر لا يخفى له خبر، لا يغطى «4» ضوءه على ذي بصر، وقد تقدم في مواضع من هذا الكتاب ويأتي في مواضع أخرى منه، ما يحقق ما قلناه، ولا يعتقد معتقد أو يظن ظان أنى قلت في هذا بغرض لكوني من أهل هذه البلاد وتحت ظل ملوكها، وربيب أنا وآبائي في نعم سلاطينها «5» ، فمعاذ الله أن أقول إلا الحق أو أسطر عني «6» غير الصحيح، لا سيما فيما يحدث به جيل بعد جيل بل لهذا اختصرت في القول. ومعاملتها الدراهم، ثلثاها فضة، والثلث نحاس، والدرهم ثمانية عشر خروب، الخروبة ثلاث قمحات، والمثقال أربعة وعشرون خروبة، والدرهم منها قيمته أربعة وعشرون فلسا، والدينار الجيشي مسمى عنه ثلاثة عشر درهما وثلث درهم من العادة عنه مسمى أربعون درهما سوداء الدرهم منها ثلث درهم مما ذكر، ولا يوجد بالديار المصرية من الدراهم السود إلا المسميات لا الأعيان. فأما بالاسكندرية فإنها توجد بها وهي كل اثنين «7» بدرهم وأما الكيل فيختلف، فبمصر الأردب، وهو ست ويبات [1] «8» أربعة أرباع، الربع أربعة

_ [1] الإسكندرية: الثغر المحروس والقطر المأنوس العجيبة الشأن، الأصيلة البنيان، بها ما شئت من تحسين وتحصين لها أربعة أبواب وبها المنار وعمود السواري (رحلة ابن بطوطة 21- 22) (انظر: مراصد الاطلاع 1/76) .

أقداح، القدح، مائتان واثنان وثلاثون درهما، هذا أردب مصر وفي أريافها يختلف الأردب عن هذا المقدار إلى أنهى ما ينتهى «1» ثمان ويبات [1] ، وإنما المعهود المتعامل إنما هو بالأردب المتقدم ذكره، والرطل هو اثنا عشر أوقية، الأوقية اثنا عشر درهما، فيكون الرطل مائة وأربعة وأربعون درهما. وأما دمشق فهي بنظير المعاملة المذكورة خلا أن الصيحة «2» تتفاوت، فينقص كل مائة مثقال شامي مثقالا وربعا بمصر [2] ، وكذلك الدراهم والرطل اثنا عشر أوقية، الأوقية خمسون درهما، فيكون الرطل ستمائة درهم. والغرارة «3» للغلات وهي اثنا عشر كيلا، كل كيل ستة أمداد، المد ينقص قليلا عن الربع المصري، ونسبة ما بين الغرارة والأردب، أن كل غرارة ومد نصف ثلاثة أرادب بالمصري تحريرا وفي بر دمشق ربما زاد الرطل والغرارة على الدمشقي حتى يكثر تفاوت ما بينهما لعظم زيادة بعض المواضع، لكن كيل دمشق، ورطلها هو المعتبر وإليه المرجع. وأما حلب وحماة وحمص فأرطلها [3] أزيد من الدمشقي ولا تعرف الغرائر، وإنما تعرف المكاكيك [4] ، وتختلف زيادة بعضها على بعض، منها ما هو معتدل الغرارة مكوكان ونصف وما بين ذلك، كل ذلك تقريبا.

_ [1] ويبات جمع مفرده ويبة. والويبة كيلتان والأردب ست ويبات (المعجم الوسيط 2/1104) . [2] الصنجة: وهي السنجة من سنگ الفارسية وهو الحجر المستعمل في الوزن، عيار وزن والهاء للنسبة (فرهنگ عميد 2/1246 والدخيل 75) . [3] الغرارة: وعاء من الخيش ونحوه يوضع فيه القمح ونحوه، وهو أكبر من الجوالق جمعه غرائر (المعجم الوسيط 2/672) . [4] مكاكيك جمع مفرده مكوك، مكيال قديم يختلف مقداره باختلاف اصطلاح الناس عليه في البلاد، قيل: يسع صاعا ونصفا (المعجم الوسيط 2/917) .

فأما مصر فمزروعها «1» على النيل بعد زيادته وعمومه البلاد، سوى قليل لا يعتبر به في بلادها مما يزرع على المطر، كأطراف البحيرة وما يزرع على الأنهر كالفيوم [1] ، وماؤها من البحر المنهي اليوسفي المشتق من النيل، لا ينقطع جريه أبدا على ما هو معروف من أمره. وأكثر محاسن مصر مجلوبة إليها حتى بالغ بعضهم فقال: إن العناصر الأربعة مجلوبة إليها، الماء وهو النيل مجلوب من الجنوب، والتراب مجلوب من حمل الماء وإلا فهي رمل محض ولا ينبت الزرع، والنار لا يوجد بها شجرته وهو الصوان إلا إذا أجلب إليها، والهواء لا يهب إليها إلا من أحد البحرين إما الرومي [2] وإما الخارج من القلزم [3] إليها. ولقد زاد هذا في تحامله وهي كثيرة الجنوب من القمح والشعير والفول والحمص والعدس والبسلة واللوبيا والدخن والأرز وبها الرياحين الكثيرة كالحبق «2» والآسن، والورد والنيلوفر والنسرين والبان «3» والتمر حنة [4] والمنثور والياسمين والأترج والنارنج والليمون والحامض الكباد والموز الكثير وقصب السكر الكثير، والرطب (المخطوط ص 202) ، والعنب والتين والرمان والتوت والفرصاد والخوخ واللوز والجميز والنبق والبرقوق والقراصيا والتفاح «4» .

_ [1] الفيوم، ولاية غربية بينها وبين الفسطاط أربعة أيام (مراصد الاطلاع 3/1053) . [2] البحر المتوسط (انظر: الخريطة آخر الجزء الثالث) . [3] القلزم: هو بحر اليمن (مراصد الاطلاع 3/1116) وهو البحر الأحمر الآن. [4] وردت بالمخطوط التامر صفا أ 201 ب 132.

وأما السفرجل والكمثرى فقليل وكذلك الزيتون مجلوب إلا قليل في الفيوم، لا اعتبار به، ولا من الجوز إلا ما قل جدا ولا يوجد بها الفستق ولا البندق، وبها البطيخ الأصفر أنواع والأخضر أنواع والخيار والقثاء على أنوع، والقلقاس واللفت والجزر والقرنبيط [1] والفجل والبقول المنوعة. وبها أنواع الدواب من الخيل والجمال والبغال والحمر والبقر والجواميس والغنم والمعز، ومما يوصف من دوابها بالجودة الحمر لفراهتها، والبقر والغنم لعظمها. وبها الأوز والدجاج والحمام، ومن الوحش الغزلان والنعام والأرنب، فأما من أنواع الطير، فكثير كالكركي والأوز وغير ذلك وأوسط الأسعار في غالب أوقاتها الأردب القمح بخمسة عشر درهما، والشعير بعشرة، وبقية الحبوب على هذا الأنموذج، وأما الأرز فيبلغ أكثر من ذلك، وأما اللحم فأقل سعره الرطل نصف درهم وفي الغالب أزيد، والدجاج يختلف سعره بحسب اختلاف أحواله فجيده الطائر بدرهمين، ومنها ما هو بثلاثة، وقد يزيد، ومنها ما هو بدرهم واحد. ويعمل بمصر معامل [2] كالتنانير [3] ، ويعمل بها البيض بصنعة وتوقد، يحاكي بها نار الطبيعة في حضانة الدجاجة البيض، ويخرج في تلك المعامل الفراريج، وهي معظم دجاجهم. وبها ما يستطاب من الألبان والأجبان، وبها العسل بمقدار متوسط بين الندرة والقلة، وأما السكر فكثير جدا، وقيمته المعهودة منه على الغالب من السعر «1» ،

_ [1] وردت بالمخطوط القنبيط، وهو بقلة زراعية من الفصيلة الصليية، تطبخ وتؤكل وتسمى في مصر والشام القرنبيط (المعجم الوسيط 2/791) . [2] المعامل هي المصانع. [3] التنانير جمع مفرده تنور وهو الفرن (فرهنگ رازي 170) .

الرطل بدرهم ونصف «1» ، ومنها يجلب السكر على اختلاف أنواعه إلى كثير من البلاد، وقد نسى بها ما كان يذكر من سكر الأهواز. وبها الكتان المعدوم المثل المنقول «2» ، ومما يعمل من قماشه إلى أقطار البلاد، ولقد أراني خواجا جمال الدين (المخطوط ص 203) يوسف الماحوزي [1] مقاطع شربا «3» أبيض من الصنف الممرش، استعملها بالاسكندرية على أنه يقدمها للسلطان أبي سعيد كأنها جناح الزنبور. لا أظن أنه يعاد لها في الدنيا قماش، قال: أنه استعملها [2] ، يقوم «4» كل مقطع منها (ساذجا) «5» بسبعمائة درهم ورقا، ويقوم طرزه وهو ساذج (بمثل ذلك) «6» ، فيقول جملة المقطع الواحد بألف وأربعمائة درهم ورقا عنها سبعمائة درهم نقرة [3] ليس فيه إلا الكتان. وبها قليل من الحرير في طرز على أنه لا يكون غالب الطرز إلا من الكتان، فإن الأبيض فيه لا يكون من الحرير أبدا، ومنه تكون الكتابة وهي حلى الطراز، وقال لي إن الكتان لا يباع الدرهم منه، وأما ما يدخل في الطرز فيباع بنظير وزنه مرات عدة. قلت: وهذا الشّرب هو الذي تفوق به الاسكندرية البلاد أكثر مما يعمل فيها من القماش على اختلاف أجناسه وأنواعه.

_ [1] الشيخ جمال الدين الحويزائي ذكره ابن بطوطة ضمن علماء مصر وأعيانها (رحلة ابن بطوطة 38) . [2] صنعها. [3] الفضة.

ثم نعود إلى ذكر مصر فنقول: وأما مبانيها فقليل منها بالحجر وأكثرها بالطوب وأفلاق النخل والجريد، وخشب الصنوبر مجلوب إليهم من بلاد الروم من البحر ويسمى عندهم النقي. وبها المدارس والخوانق والربط والزوايا والترب الضخمة والعمائر الجليلة الفائقة والأماكن المعدومة المثل، المفروشة بالرخام، المنقوشة بالأخشاب، المدهونة بأنواع الأصباغ، الملمعة «1» بالذهب واللازورد، ومن حيطانها ما هو مؤزر بالرخام، وتختلف المباني بحسب اختلاف أصحابها. وحاضرة مصر تشتمل على ثلاث مدن عظام، الفسطاط وهو بناء عمرو بن العاص [1] وهي المسماة عند عامة أهل مصر بمصر العتيقة [2] ، والقاهرة المعزية بناها القائد جوهر [3] لمولاه الخليفة المعز بن القائم بن المهدي [4] ، وقلعة الجبل بناها قراقوش [5] للملك الناصر صلاح الدين أبي المظفر يوسف بن أيوب رحمه الله تعالى، وأول من سكنها أخوه العادل، وقد يفصل «2» بعض هذه الثلاثة ببعض بسورما، بناه قراقوش بها، إلا أنه قد يقطع الآن في (المخطوط ص 204)

_ [1] هو عمرو بن العاص الذي فتح مصر وخط مدينة الفسطاط وهي قاعدة مصر لزمن طويل. [2] ما زال هذا الاسم معروفا حتى الآن باسم مصر العتيقة ومصر القديمة. [3] جوهر: هو جوهر الصقلي، قائد المعز لدين الله الفاطمي، فتح مصر وبلادا كثيرة في شمال أفريقيا والشام، وأسس ملكا واسعا للفاطميين (روضة الصفا 221- 222، الخطط المقريزية 1/27) . [4] المعز لدين الله الفاطمي ابن القائم المهدي، كان ملكا شجاعا صاحب رأي، تولى حكم الدولة الفاطمية سنة 341 هـ، وانتقل إلى مصر سنة 361 هـ ومات سنة 365 هـ (انظر: روضة الصفا 221- 223، العبر وديوان المبتدأ والخبر 4/47، ابن الأثير 6/354، ابن كثير 11/233 حمد الله المستوفى 464) . [5] قراقوش هو بهاء الدين أبو سعيد المعروف بقراقوش ومعناه بالتركية القصاب أو النسر الأسود، نشأ في خدمة صلاح الدين، وناب عنه في بعض الأحيان، بنى سور القاهرة وقلعة الجبل وقناطر الجيزة توفي سنة 1201 هـ اشتهر بأحكامه التعسفية التي هي محل شك المؤرخين (انظر: الموسوعة العربية الميسرة، شفيق غربال وآخرون 1373) .

بعض الأماكن. وهذا السور هو الذي ذكره الفاضل في كتاب كتبه إلى صلاح الدين فقال: والله يحيى الموتى «1» حتى يستدير بالبلد من بنطاقه ويمتد عليها رواقه، فيها عقيلة ما كان معصمها ليترك بغير سوار ولا خصرهما ليخلى بلا منطقة نضار، والآن قد استقرت خواطر الناس وآمنوا به من يد تتخطف ومن طمع مجرم يقدم ولا يتوقف وقد عظمت، وبها المارستان [1] المنصوري [2] المعدوم «2» النظير لعظمة بنائه، وكثرة أوقافه، وسعة انفاقه، وتنوع الأطباء وأهل الكحل [3] والجراح «3» به، وهو جليل المقدار، جميل الآثار جزيل الإيثار، وقفه السلطان الملك المنصور قلاوون [4] رحمه الله. وبها البساتين الحسان والمناظر النزهة والأدر المطلة «4» على البحر وعلى الخلجانات الممتدة فيه أوقات مدها، وبها القرافة تربة عظمى لمدفن أهلها. وبها العمائر الضخمة، وبها المتنزهات المستطابة، وهي من أحسن البلاد أيام ربيعها للقدر [5] الممتدة من مقطعات النيل بها، وما يحفها من زروع أخرجت

_ [1] دار الشفاء. [2] نسبة إلى المنصور سيف الدولة قلاوون الذي حكم مصر سنة 1279 م- 1290 م (المنجد في الأعلام ص 546) . [3] أطباء العيون. [4] الملك المنصور سيف الدين قلاوون الصالحي وكان معروفا بالألفى لأن الملك الصالح أيوب اشتراه بألف دينار ذهبا وهو من بلاد القبجاق، تولى حكم مصر ما بين سنة 1279 م- 1290 م (انظر: رحلة ابن بطوطة 36) توفي 21 ذي الحجة 741 هـ (النجوم الزاهرة ج 10 أحداث سنة 741 هـ) . [5] الغدر جمع مفرده غدير وهو النهر الصغير (المعجم الصغير 2/669) .

شطآها [1] وفتقت أزهارها. وبها الآثار القديمة الدالة على حكمة بانيها كالأهرام وأشهرها الهرمان الكبيران بالجيزة [2] ، وبرابي أخميم [3] ، فأما بقية ما يذكر من البرابي والملاعب بالأشمونين وألصنا وقيط وعين شمس ومنارة الإسكندرية والبيت الأخضر بمصر يوسف عليه السلام، فكل هذه قد غير الدهر معالمها، وطمس آثار غالبها، وشرع الخراب بالهرمين الكبيرين والبراي بأخميم لأخذ حجارتها، وتغيير بهجتها [4] . وبها الصنم المقارب للهرمين المسمى عند العامة بأبي الهول وهو صنم كبير لا يبين منه إلا إلى قريب نصفه. والقول في الأهرام والبرابي «1» كثير، والأقرب أن الأهرام هياكل لبعض الكواكب، فأما البرابي فقال لي الحكيم شمس الدين أبو عبد الله محمد بن شقير الدمشقي أنه رآها وأجاد تأملها، فوجدها مشتملة على جميع أشكال الفلك، وأن الذي ظهر له أنه لم يعملها حكيم واحد ولا ملك (المخطوط 205) واحد بل تولى عملها قوم بعد قوم حتى تكاملت في دور كامل وهو ستة وثلاثون ألف سنة [5] ، لأن مثل هذه الأعمال لا تعمل إلا بأرصاد، ولا يكتمل

_ [1] إشارة إلى قوله تعالى: ... وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ ... [الفتح، من الآية 29] . [2] يقصد هرم خوفو وخفرع ولم يذكر هرم منقرع حيث كانت الرمال ترتفع حوله، ولم يحدد ابن بطوطة المعاصر للمؤلف عدد الأهرامات (رحلة ابن بطوطة 36) . [3] البرابي جمع مفرده بربى وهو مبني بالحجارة في داخله نقوش وكتابة للأوائل لا تفهم في هذا العهد، أما أخميم فهي مدينة عظيمة البنيان عجيبة الشأن (رحلة ابن بطوطة 41) . [4] أكد ذلك ابن بطوطة في حديثه عن أخميم 41. [5] ذكر ابن بطوطة إنها بنيت في ستين سنة وكتب عليها، بنينا هذه الأهرامات في ستين سنة، فليهدمها من يريد ذلك في ستمائة سنة، وقول ابن بطوطة عن المدة الزمنية أقرب إلى الصواب أما العبارة التي ذكرها فهي منكرة لأنه لم يكن قد تم فك رموز اللغة الهيروغليفية وكما ذكر هو نفسه أنها لا تفهم (انظر الرحلة ص 36- 41) .

رصد المجموع «1» في أقل من هذه المدة المذكورة، هذا ما أخبرني به عنها. وكتب القاضي محيي الدين بن الزكي إلى القاضي الفاضل كتابا ذكر فيه مصر وسماها بالمومسة، فعز ذلك عليه، وذكر في جوابه إليه، وهجم بي التأمل على لفظة أطلقها على مصر، وكنى بها عنها، ووصمها بما وسمها، وبث في القلوب عصمها، وأظنه عاقبها بذنب فرعون حين قال: أنا ربكم الأعلى [1] وحين قال أليس لي ملك مصر كما فعل الرشيد [2] ، وولى الخصيب [3] ، فإن كان إلى ها هنا ذهب، فقد غاب عاقبها بذنب لم يجبه، وهدمها بأمر لم تنبه، وعلى كل حال فلو كان على نفس لكنت معه عليها، ولو بعث سهما إليها لتولت يدي إيفاده إليها، فلقد أخرجني من أرضي بسحره، وندم خادمه على ما فات فيها من عمره، فهو الآن لا يرفع إليها طرفا من كسله، (ولا يرى نيلها إلا أقل من مسل برد أو وشلة) «2» وإذا رأى دينارها الأحمر، قال: به حمرة من خجله، وإذا رأى ابريزها [4] الأسود، قال: من سواد عمله، وإذا رأى هرميها، قال: انكسر نهداها، وإذا رأى ملتها الحاقة قال: شاب قوادها، ثم راجع النظر فإذا اللفظة التي أطلقها سيدنا عليها وهي المومسة تأبى العلقة، فكيف له أن يقذف المستورة بهذا القذف؟ ويهجم على خدرها بهذا الوصف؟! وقد وفد إليها عن شامه حين أخذ الكفر بمخنق إسلامه، فانجدته واصرخته، وسكنت الروع

_ [1] إشارة إلى قوله تعالى: فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى [النازعات، الآية: 24] . [2] يقصد هارون الرشيد الخليفة العباسي. [3] الخصيب: غضب الرشيد على أهل مصر فولى عليهم أحقر عبيده. وأصغرهم شأنا، قصدا لإذلالهم والتنكيل بهم وكان خصيب أحقرهم وكان يتولى تسخين الحمام، فولاه مصر، فسار فيهم سيرة حسنة غير ما كان الرشيد يبغيه (رحلة ابن بطوطة 40) . [4] وردت بالمخطوط إبليزها ويقصد العملة السوداء أ 205 ب ر 135

وأفرحته، وعاد إلى الفائت الدرك، وقالت الناس ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك [1] وإذا كانت دمشق من عتقاء مصر فلا فخر لها أن تكن مولاتها مومسة، وقد سترت هذه اللفظة، فما كأنها دخلت كتابه ولا مجلسه. قلت: وأما الشام فيزرع غالبه على المطر، وهو من جميع ما ذكر في مصر من الحبوب، ومنه ما هو على سقى الأنهار وهو قليل. وبها أنواع الأشجار وأجناس الثمار (المخطوط ص 206) من التين والعنب والرمان والسفرجل والتفاح والكمثرى والأجاص والقراصيا والتوت والفرصاد والمشمش والزعرور والخوخ وهو المسمى عندهم الدراقن، وأجلها بدمشق من غالب ذلك على أنواع منوعة وأجناس متعددة شتى، ومنها فواكه تأتي في الخريف وتبقى إلى الربيع كالسفرجل والتفاح والرمان والعنب وبها الجوز واللوز والفستق والبندق، وبها الليمون والأترج والنارنج والكباد والموز وقصب السكر، من أغوارها يحمل إليها من نحو يومين وأزيد. وبها البطيخ الأصفر والأخضر على أنواع والخيار والقثاء واليقطين واللفت والجزر والقرنبيط [2] ، والهليون والباذنجان والملوخية والبقلة اليمانية والرجلة «1» ، وغير ذلك من أنواع الخضروات المأكولة. ونهر دمشق الخاص بها بردى [3] ، وبها غيره من الينابيع والأنهار المارة «2» فيما حولها.

_ [1] إشارة إلى قوله تعالى: ... وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ [يوسف، من الآية: 31] . [2] وردت بالمخطوط القنبيط. [3] وردت بالمخطوط بردا وهو نهر بردى.

وبها الأوز والدجاج والحمام وكثير من أنواع الطير، ولا تكون الفراريج إلا بحضانة لا كما يعمل في مصر، ولقد ذكر أنه جاءها شخص من مصر زمن الصيف، وعمل بها في حاضرة العقيبة «1» مع الفراريج، وطلعت به الفراريج، فلما أتى زمن الخريف لم تطلع معه وخسر وترك ذلك وعاد إلى مصر، وأسعار اللحم أرخص من مصر، وأما الدجاج فنظيرها. وأما الأوز فأغلى، وبها العسل متوسط، ويعمل بها السكر، ومنه المكرر، وهو بأزيد من سعره بمصر، ولا يكثر، وبها أنواع الرياحين الآس والورد والبنفسج والنيلوفر والخلاف والنرجس والمنثور والياسمين والترنجان «2» والمرزنجوش [1] والنمام والنسرين، وإلى وردها وبنفسجها النهاية حتى أنه «3» عطل وردها، وما يستخرج من مائة ما كان يذكر من حور ونصبين وماء الورد ينقل «4» إلى غالب البلاد (وبالشام الزيتون الكثير ومنه يحمل إلى كثير من البلاد) «5» وبها أشياء كثيرة خاصة بها. وغالب مباني الشام بالحجر، ودورها أصغر مقادير من دور مصر، ولكنها أزيد زخرفة منها، وإن كان الرخام بها أقل، وإنما هي أحسن أنواعا وعناية أهل دمشق بالمباني كثيرة، ولهم في بساتينهم منها ما تفوق به (المخطوط ص 207) وتحسن به، وإن كانت حلب أجل بناء لعنايتهم بالحجر، فدمشق أزيد وأكثر رونقا لتحكم الماء على مدينتها، وتسلطه على جميع نواحيها.

_ [1] المرزنجوش: عشب طيب الرائحة، له فروع طويلة وأوراق دقيقة، وأزهار بيضاء تميل إلى الحمرة، يستخدم في الطب يسمونه بالعربي آذان الفار، الكلمة فارسية مرزنگوش (فرهنگ عميد 2/1788) .

وبجميع الشام وجوه الخير كثيرة من المدارس والخوانق، والربط والزاويا، للرجال والنساء والمارستانات [1] وأوقاف البر والصدقات على اختلافها، وخصوصا دمشق، فإنه لا يطاول في ذلك باعها، ولا يحاول في هذه الغاية ارتفاعها. فأما مسجدها الجامع [2] فهو الفارق «1» بينها وبين ما سواها «2» والفائق بحسنه على كل المباني، في هذه المملكة مصر والشام، من محاسن (الأشياء ولطائف الصنائع، ما تكفى شهرته، وبها من أنواع الصناع في الأسلحة «3» والقماش والزركش [3] والمصوغ والكفت وغير ذلك مما يكاد يعد تفردها به، والرماح التي لا يعمل في الدنيا أحسن منها. وأما عساكر هذه المملكة فمنهم من هو بحضرة السلطان، ومنهم من فرق في أقطار هذه المملكة وبلادها، ومنهم سكان بادية كالعرب والتركمان. وجندها مختلط من أتراك وجركس وروم وأكراد وتركمان، وغالبهم من المماليك المبتاعين، وهم طبقات، أكابرهم من له إمرة مائة فارس، وتقدمة ألف فارس من هذا القبيل يكون أكابر النواب، وربما زاد بعضهم بالعشرة فوارس والعشرين، ثم أمراء الطبلخانات [4] ، ومعظم «4» من تكون له إمرة «5» أربعين

_ [1] دور الشفاء. [2] يقصد المسجد الأموي بناه الوليد بن عبد الملك بن مروان وهو من أعظم المساجد وأتقنها صناعة وأبدعها حسنا وبهجة وكمالا، ولا يعلم له نظير ولا يوجد به شبيه (انظر: وصف ابن بطوطة رحلته 163) . [3] المذهب. [4] الذين يدق لهم الطبل وهم عادة قواد أربعين فما فوق.

فارسا، وقد يوجد فيهم من له أزيد من ذلك إلى السبعين. ولا تكون الطبلخانات لأقل من أربعين، ثم أمراء العشرات ممن تكون له إمرة عشرة، وربما كان فيهم من له عشرون فارسا، ولا يعد إلا في أمراء العشرات، ثم جند الحلقة وهم لا تكون مناشيرهم من السلطان، كما أن مناشير الأمراء من السلطان، وأما أجناد الأمراء فمناشيرهم من أمرائهم وهؤلاء جند الحلقة لكل عدة أربعين نفرا مقدم منهم، ليس له عليهم حكم إلا إذا خرج العسكر، كانت مواقفهم معه، وترتيبهم في موقفهم إليه. ويبلغ بمصر أقطاع بعض أكابر الأمراء المئين المقربين من السلطان مائتي ألف دينار حبشية وربما زادت على ذلك، وأما غيرهم فدون ذلك [1] ودون (المخطوط ص 208) دونه، ودون دونه، ودون دونه إلى ثمانين ألف دينار، وما حولها. وأما الطبلخانات فتبلغ الثلاثين «1» ألف دينار وما يزيد وينقص عليها إلى ثلاثة وعشرين ألف دينار. وأما العشرات فنهايتها سبع آلاف دينار إلى ما دون ذلك. وأما إقطاعات جند الحلقة فمنه ما يبلغ ألف وخمسمائة دينار. ومن هذا المقدار وما حوله إقطاعات أعيان الحلقة المقدمين عليهم، ثم ما دون ذلك إلى مائتين «2» وخمسين دينارا، وأما إقطاعات جند الأمراء فإلى ما يراه الأمير من زيادة بينهم ونقص. وأما إقطاعات الشام فلا تقارب هذا المقدار، بل تكون على الثلثين منها خلا ما ذكرناه عن بعض أكابر أمراء المئين المقربين، فإن هذا نادر لا حكم له، ولا أعرف

_ [1] عبارة مكررة.

في الشام ما يقارب هذا المقدار إلا ما هو لنائب الشام، وكل جند الحلقة والإمرة «1» تعرض بديوان جيش السلطان، ويثبت باسمه وهيئته وحليته «2» ، ثم لا يستبدل به أميره إذا شاء إلا بتنزيل عوضه وعوض العوض. وللأمراء على السلطان في كل سنة ملابس، فأما من بحضرته فحظهم في ذلك، وأقر لهم الخيول في كل سنة، ينعم بها عليهم، ولأمراء المئين مسرجة ملجمة، والبقية عرى، وتمتاز خاصتهم على «3» عامتهم بذلك، ولجميع الأمراء بحضرته من المئين والطبلخانات والعشرات الرواتب الجارية في كل يوم من اللحم وتوابله كلها والخبز والشعير والزيت، ولبعضهم الشمع والسكر والكسوة في السنة، وكذلك لجميع مماليك السلطان وذوي الوظائف من الجند. وإذا نشأ لأحد الأمراء ولد، أطلق له دنانير ولحم وخبز وعليق إلى أن يتأهل «4» الإقطاع في جملة الحلقة، ثم منهم من ينقل إلى العشرة أو إلى الطبلخانات على حسب الحظوظ والأرزاق، وإذا ركب هذا السلطان إلى الميدان يلعب الكرة [1] ، يفرق حوائص ذهب على المقدمين وركوبه إلى الميدان يكون دائما يوم السبت في قوة الحر نحو شهرين من السنة، يفرق كل ميدان على اثنين بالنوبة، فمنهم من تجىء نوبته بعد ثلاث سنين (المخطوط 209) أو أربع سنين، ولكل ذي إمرة بمصر من خواص عليه السكر والحلوى [2] من رمضان والأضحية في عيد الأضحى على مقادير رتبهم والبرسيم لتربيع [3] دوابهم، ويكون في تلك المدة بدل العليق «5»

_ [1] لعبة الصولجان المسماة بالفارسية جوگان وهي عصاة معقوفة يلعب بها الفارس وهو فوق حصانه بضرب الكرة على الأرض. [2] وردت بالمخطوط الحلوا. [3] علف الدواب في فصل الربيع.

المرتب لهم. ومن مصطلح صاحب مصر أن تكون تفرقته الخيل «1» على أمرائه في وقتين، أحدهما عند ما يخرج إلى مرابط خيله في الربيع عند اكتمال «2» تربيعها. وفي ذلك الوقت يعطي أمراء المئين مسرجة له ملجمة، بكنابيش [1] مذهبة، والطبلخانات عريا، وعند لعبه بالكرة في الميدان، وفي ذلك الوقت يعطى الجميع مسرجة ملجمة بلاكنابيش بفضة خفيفة، وليس للعشرات حظ في ذلك إلا ما يتفقدهم به على سبيل الأنعام، والخاصة المقربين من الأمراء المئين والطبلخانات زيادات كثيرة في ذلك بحيث يصل إلى بعضهم «3» المائة فرس في السنة. وله أوقات أخرى يفرق فيها الخيل على مماليكه، وربما أعطى بعض مقدمي الحلقة، وقاعدة عنده أنه إذا كل من نفق له من مماليكه فرس يحضر من لحمه والشهادة بأنه نفق، ويعطيه فرسا عوضه. وأما أمراء الشام فلاحظ لأحد منهم في أكثر من قباء واحد يلبس في وقت الشتاء إلا من تعرض يقصد السلطان، فيحسن إليه، ولخاصة المقربين أنواع من الإنعامات كالعقار والأبنية الضخمة، التي ربما أنفق على بعضها أزيد من مائة ألف دينار، وكساوي القماش المنوع، وفي أسفارهم في أوقات خروجهم إلى الصيد، وغيرها العلوفات والإنزال. ومن عادة هذا السلطان أن الخروج إلى الصيد مرات في السنة، فإذا خرج أنعم على أكابر أمراء المئين، ولا أعني المقربين، بل أكابرهم قدرا وسنا، كل واحد منهم بألف مثقال ذهبا، وبرذون خاص به مسرج ملجم وكنبوش مذهب، ومن

_ [1] كنبوش: جمع كنابيش وهو البرذعة تجعل تحت السرج، فارسية، وهو برقع يغطى به الوجه، وهنا يعني برذعة (انظر كنبوش في المنجد في اللغة ط 29 بيروت دار المشرق 1960 ص 699) .

عادته أنه إذا مر في متصيداته بأقطاع أمير كبير قدم له من الغنم والأرز والدجاج وقصب السكر والشعير ما تسمو همة مثله إليه، فيقبله منه، وينعم عليه بخلعة كاملة، وربما أمر لبعضهم بمبلغ من المال، (المخطوط ص 210) . ومن شعار سلطنة هذه المملكة أن يركب سلطانها في يوم (دخوله إلى مدينة يحبها، ويوم العيد وأيام ركوبه إلى الميدان للعب) «1» الكرة برقبة، وهي بزرگش ذهب على أطلس أصغر يعمل على رتبة الفرس من تحت أذنيه إلى نهاية العرق، ويكون قدامه اثنان من أوشاقيته راكبين على حصانيين أشهبين برقبتين نظير ما هو راكب كأنهما معدان لأن يركبهما، وعلى الوشاقيين [1] المذكورين قباءان [2] أصفران «2» من حرير بطرازين مزركش بالذهب «3» وعلى رأسيهما قبعان مزركشان وغاشية السرج محمولة أمامه دائما [3] «4» وهي أديم مزركش بذهب يحملها بعض الركاب دائرة قدامة، وهو ماش في وسط الموكب، ويكون قدامه فارس يشبب بسبابة «5» ، لا يقصد بنغمها الإطراب بل ما يقرع بالمهابة سامعه، ومن خلفه الجنائب، وعلى رأسه العصائب السلطانية، وهي صفر مطرزة بذهب بألقابه واسمه في يوم العيدين ودخول المدينة، يزيد على ذلك برفع المظلة على رأسه، وهي الجتر [4] ، وهو أطلس أصفر مزركش على أعلاه قبة وطائر من فضة مذهبة يحملها يومئذ بعض أمراء المئين الأكابر، وهو راكب فرسه إلى جانبه،

_ [1] الوشاقين جمع مفرده وشاق بكسر الواو من أوشاق التركية وتعني الغلمان ذوي الوجوه الجميلة، (فرهنگ رازي 996) . [2] وردت بالمخطوط قباوان. [3] وردت بالخطوط دايم. [4] المظلة السلطانية.

وأرباب الوظائف والسلاح كلهم خلفه وحوله وأمامه الطبردارية [1] وهم طائفة من الأكراد، ذوي الإقطاعات والإمرة يكونون مشاة وبأيديهم الأطبار [2] مشهورة. ومن رسم الأمراء أن يركب الأمير منهم حيث يركب وخلفه جنيب، وأما أكابرهم فربما ركب بجنيبين، هذا في المدن والحاضرة، وهكذا في البر، ويكون لكل منهم طلب مشتمل على أكثر مماليكه قدامهم خزانة محمولة للطبلخانات على جمل واحد يجره راكب آخر على جمل، والمال على جملين وربما زاد بعضهم على ذلك، وأمام الخزانة عدة جنائب تجر على أيدي مماليك ركاب خيل وهجن في ركابه من العرب على هجن، وأمامها الهجن بأكوارها مجنوبة للطبلخانات قطارا واحدا وهو أربعة (المخطوط ص 211) ومركوب الهجان والمال قطاران، وربما زاد بعضهم وعدد الجنائب في كثرتها وقلتها إلى رأي الأمير وسعة نفسه. والجنائب على ما تراه منها ما هو مسرج وملجم ومنها ما هو بعنانه لا غير، وأهل هذه المملكة يضاهي بعضهم بعضا في الملابس الفاخرة والسروج المحلاة والعدد الفاخرة. وأما زيهم فالأقبية التترية والتكلاوات [3] «1» فوقها، ثم القباء الإسلامي

_ [1] الطبردارية جمع مفرده طبردار وهو من اللفظ التركي تبر بمعنى بلطة وهي آلة حرب قديمة ودار بمعنى صاحب والطبردارية هم حملة البلط (فرهنگ عميد 1/534) . [2] أطبار جمع طبر، والطبر هي تبر التركية بمعنى سلطة، وآلة حرب قديمة (فرهنگ رازي 128) . [3] التكلاوات جمع مفرده تكلاة وهي قبعة ذات قرن تلبس على الرأس وهي قلنسوة مغولية في الأصل حيث تشبه قرن الحيوان (فرهنگ عميد 1/604) .

فوقها، وعليه تشد المنطقة والسيف، ثم الأمراء المقدمون وأعيان الجند تلبس فوقه أقبية قصيرة الأكمام أقصر من القباء التحتاني بلا تفاوت كثير في قصر الكم والطول وكلوتات [1] صغار غالبها من الصوف الملطي الأحمر، وعليها عمائم صغار ومهاميز على الأخفاف، ويعمل المناديل على الحياصة على الصولق من الجانب الأيمن. هذا هو زي أهل هذه المملكة ومعظم حوائصهم الفضة ومنهم من يعملها من الذهب، وربما عملت باليشم [2] ولا ترصع بالجواهر إلا في خلع السلطان لأكبار المئين، ومعظمهم يلبس المطرز ولا يكفت مهمازه بالذهب أو يلبس المطرز إلا من له أقطاع في الحلقة، وأما من هو يقدر بالجامكية [3] فإنه لا يتعاطى على ذلك، وعلى الجملة فزيهم ظريف وعددهم فائقة نفيسة، وملبوسهم منوع من الكمخا والخطائى والكبخى والمخمل والاسكندراني والشرب والنصافي والأصواف.

_ [1] كلوتات جمع مفرد. كلوته وهي قلنسوة من القطن تغطي الأذنين (فرهنگ عميد 2/1648) . [2] البشم والصوف (فرهنگ رازي 108) . [3] الجامكية: حملة القماش والثياب.

ذكر هيئة جلوسه للمظالم

ذكر هيئة جلوسه للمظالم عادة هذا السلطان أن يجلس بكرة الاثنين [1] ما كان بالقلعة خلا شهر رمضان، فإنه لا يجلس فيه هذا المجلس، ومجلسه هذا هو في أبواب ظاهر قصره قريبا من بابه، وهو إيوان متسع على عمد منه مرتفع السمك أمامه رحبة فسيحة، يسمى هذا الإيوان «دار العدل» وفيه تكون الخدمة العامة، واستحضار رسل الملوك غالبا، فإذا قعد للمظالم كان جلوسه على كرسي، إذا قعد عليه تكاد تلحق الأرض رجليه، وهو منصوب إلى جانب المنبر الذي هو تخت الملك ويجلس على يمينه قضاة القضاة من المذاهب الأربعة [2] ثم الوكيل عن بيت المال ثم الناظر (المخطوط ص 212) في الحسبة، ويجلس على يساره كاتب السر، وقدامه ناظر الجيش وجماعة الموقعين تكملة حلقة دائرة وإن كان، ثم وزير من أرباب الأقلام، كان بينه وبين كاتب السر، وإن كان الوزير من أرباب السيوف كان واقفا [3] على بعد مع بقية أرباب الوظائف وكذلك إن كان: ثم نائب يقف «1» مع أرباب الوظائف، ويقف من وراء السلطان صفان عن يمينه وشماله «2» من السلاح داريه [4] والجمداريه [5] والخاصكية [6] ويجلس

_ [1] ذكر ابن بطوطة أنه كان يجلس الاثنين والخميس (ص 37) . [2] وهم قاضي الشافعية وقاضي الحنفية، وقاضي المالكية وقاضي الحنبلية. [3] عبارة مكررة. [4] السلاحدارية: حملة السلاح. [5] الجمدارية: حملة الملابس والقماش. [6] الخاصكية: وهم الخاصة من اللفظ الفارسي خاصگان (فرهنگ عميد 1/821) .

على بعد تقدير خمسة «1» ذراعا عن يمينه ويسرته ذوو السن من أكابر «2» أمراء المئين، وهم أمراء المشورة، ويليهم من أسفل منهم أكابر الأمراء وأرباب الوظائف وقوف، وبقية الأمراء وقوف من وراء أمراء المشورة، ويقف خلف هذه الحلقة المحيطة بالسلطان الحجاب والدواداريه [1] ، لإحضار قصص الناس. وإحضار المساكين، وتقرأ عليه، فما احتاج إلى مراجعة القضاة راجعهم فيه وما كان متعلقا بالعسكر تحدث مع الحاجب وكاتب الجيش فيه، ويأمر في البقية بما يراه.

_ [1] الدوادارية: الكتاب.

ذكر هيئة في بقية الأيام

ذكر هيئة في بقية الأيام عادة هذا السلطان في يوم الاثنين ما تقدم ذكره، وكذلك في يوم الخميس على مثل هذه الهيئة أيضا إلا أنه لا يتصدى فيه لسماع القصص ولا يحضره أحد من القضاة وكاتب الجيش والموقعين إلا عرضت حاجة إلى طلب أحد منهم وهذا القعود عادته في طول السنة ما دام أنه بالقلعة في الاثنين والخميس غير رمضان أيضا. وأما بقية الأيام فإنه يخرج من قصوره الجوانية إلى قصره «1» الكبير البراني، وهو بشبابيك مطلة على اصطبلاته، وفي صدره تخت الملك المختص، فيقعد تارة عليه، وتارة «2» دونه على الأرض، والأمراء وقوف على ما تقدم خلا أمراء المشورة والغرباء منه كأنه «3» ليس لهم عادة بحضور هذا المجلس ولا يحضر هذا المجلس من الكبار إلا من دعت الحاجة إلى حضوره ثم يقوم في الثالثة (المخطوط 213) من النهار، ويدخل إلى قصوره الجوانيه، ثم إلى دار حريمه ونسائه، ثم يخرج في أخريات النهار إلى قصوره الجوانية لمصالح ملكه، ويعبر إليه عليها خاصته من أرباب الوظائف في الأشغال المتعلقة به على ما تدعو [1] الحاجة إليه.

_ [1] وردت بالمخطوط تدعوا.

ذكر هيئته في الأسفار

ذكر هيئته في الأسفار قد تقدم ذكر هيئته في الأعياد وأيام المؤادين، فأما في الأسفار فإنه لا يتكلف إظهار كل ذلك الشعار، بل يكون الشعار في موكبه السائر فيه جمهور مماليكه مع المقدم عليهم، واستاذ دار [1] ، وأمامهم الخزائن والجنائب والهجن، وأما هو بنفسه فإنه يركب ومعه عدة كثيرة من الأمراء الكبار والصغار من الغرباء والخواص ونخبة من خواص مماليكه، ولا يركب في السير برقبه ولا بعصائب، بل تتبعه جنائب خلفه، ويقصد في الغالب تأخير النزول إلى الليل، فإذا جاء حملت قدامه فوانيس كثيرة ومشاعل، فإذا قارب مخيمه تلقى بشموع مركبة في شمعدانات [2] كفت، وصاحت الجاويشيه [3] بين يديه، وترجلت الناس كافة إلا حملة السلاح داريه [4] والوشاقية وراءه، ومشت الطبرداريه حوله حتى يدخل الدهليز الأول، ثم ينزل ويدخل إلى الشقة وهي خيمة مستديرة متسعة، ثم منها إلى شقة مختصرة، ثم إلى لاجوق، ومدار كل خيمة من جميع جوانبها من داخل سور خركاه [5] . وفي صدر ذلك اللاجوق قصر صغير من الخشب ينصب له للمبيت فيه، وينصب بإزاء الشقة الحمام بالقدور والرصاص والحوض على هيئة الحمام المبني في المدن، إلا أنه مختصر، فإذا نام طافت به المماليك دائرة بعد دائرة، وطاف

_ [1] استاذدار: هو المسؤول عن نفقات ومصاريف القصر من نفقات يومية على البلاط والمطبخ والاصطبل والمهام التترية (فرهنگ عميد 1/132) . [2] شمعدانات جمع مفرده شمعدان بمعنى حامل الشمع مكون من كلمة عربية ولا حقة فارسية (فرهنگ رازي 541) . [3] الجاويشية: لفظ تركي من جاووش بمعنى نقيب ومقدم الجيش، ومقدم الرحلة (فرهنگ عميد 1/726) . [4] وردت بالمخطوط إلا حملت السلاح وراءه. [5] خرگاه: الخيمة السلطانية (صبح الأعشى 2/131) .

بالجميع الحرس، وتدور الزفة [1] حول الدهليز في كل ليلة مرتين الأولى عندما يأوى إلى النوم والثانية عند قعوده من النوم، كل زفة يدور بها أمير بابدار [2] ، وهو من أكابر الأمراء، وحوله الفوانيس والمشاعل والطبول والبياته «1» وينام على باب الدهليز النقباء وأرباب الدول «2» ، والنوب من الخدم. ويصحب هذا السلطان في أسفاره من غالب ما تدعو الحاجة إليه حتى (المخطوط ص 214) يكاد يكون معه مارستان [3] لكثرة من معه من الأطباء وكثرة «3» أرباب الكحل [4] والجراح والأشربة والعقاقير وما يجري مجرى ذلك، وكل من عادة طبيب ووصف له ما يناسبه يصرف من الشراب خاناه [5] والدواخاناه [6] المحمولين في الصحبة. ومن عادة هذا السلطان مد السماط طرفي النهار في كل يوم لعامة الأمراء خلا البرانيين وقليل ما هم، وأما بكرة فيمد سماط أول لا يأكل منه السلطان، ثم كان بعده يسمى الخاص قد يأكل منه السلطان وقد لا يأكل، ثم ثالث بعده ويسمى الطارئ ومنه مأكول السلطان.

_ [1] وردت بالمخطوط الذفة. [2] بإبداء: البواب، المسؤول عن الباب. [3] دار الشفاء. [4] أطباء العيون. [5] الشراب خاناه هي شراب خانه أي بيت الشراب، ويعني مكان شراب السلطان (انظر: فرهنگ عميد 2/1297) ويعني هنا الصيدلية. [6] الدواخاناه: هي دوا خانه وتعني صيدلية وتأتي أيضا دارو خانه، من اللفظ الفارسي (فرهنگ عميد 1/973) .

وأما في أخريات النهار فيمد سماطان الأول والثاني المسمى بالخاص ثم إن استدعى بطار «1» حضر، وإلا فلا خلا المشوى منه فإنه ليس له عادة محفوظة النظام، بل هو على حسب ما يأمر به. وفي كل هذه الأسمطة يؤكل ويفرق نوالات، ويسقى بعدها الأقسماء المعمولة من السكر، والأفاويه المطيبة بماء الورد والمبردة، ومن عادة هذا السلطان أن يبيت قريب مبيته في كل ليلة أطباق فيها أنواع من المطجنات [1] والبوارد والقطر والقشطة والجبن المقلي والموز والكيماخ، وأطباق فيها الأقسماء والماء المبرد برسم أرباب النوبة في السهر حوله ليتشاغلوا بالمأكول والمشروب عن النوم. والليل مقسوم بالنوبة بينهم على الساعات الرمل [2] فإذا انتهت نوبة، نبهت التي تليها، ثم ذهبت هي فنامت (هي) «2» إلى الصبح هكذا أبدا سفرا وحضرا، وتبيت في المبيت المصاحف الكريمة لقراءة من يقرأ منهم، ويبيت الشطرنج ليتشاغل به عن النوم. وهذا السلطان يخرج أيام الجمع إلى الجامع «3» المجاور لقصره في القلعة، ومعه خاصة الأمراء، ويجيء بقية الأمراء من باب آخر للجامع، وأما السلطان فيصلى عن يمين المحراب في مقصورة خاصة به ويجلس عنده أكابر خاصته، ويصلي معه الأمراء خاصتهم وعامتهم خارج المقصورة عن يمينها ويسرتها على مراتبهم، فإذا سمع الخطبة وصلى صلاة الجمعة، دخل إلى قصوره ودور خدمه «4» (المخطوط ص 415) وحرمه، وتفرق الناس كل واحد إلى مكانه.

_ [1] وردت بالمخطوط المطجنانات. [2] كانت الساعات الرملية هي المستعملة.

ذكر انتهاء الأخبار إليه

ذكر انتهاء الأخبار إليه عادة هذا السلطان أن يطالعه نوابه في مملكته مما يتجدد عندهم من مهمات الأمور أو ما قاربها، وتأخذ أوامره، وتعود أجوبته عليهم بما يراه، وبين السلطان وجميع بلاد ممالكه مراكز بين المركز والمركز أميال، في كل مركز عدة خيل بريد للسلطان من الجند أناس بريديه في حضرته، وفي كل بلد لحمل الكتب والعود بأجوبتها، فإذا ورد بريدي بلد من بلاد مملكته أو عاد المجهّز من بابه، أحضره أمير جاندار [1] «1» ، وهو من أمراء المئين، والدوادار وكاتب السر بين يديه، فيقبل الأرض ثم يأخذ الدوادار الكتاب فيمسحه بوجهه البريدي، ثم يناوله السلطان، فيفتحه، ويجلس كاتب السر، فيقرأه عليه، ويأمر فيه بأمره. ومما ينهى إليه من الأخبار ما يكتب في ورق خفيف صغير ويحمل على الحمام الأزرق، وللحمام مراكز كل مركز منها ثلاثة من مراكز خيل البريد أو أزيد، لا يتعدى الحمام ذلك المركز، ولا يمكنه تجاوزه، فإذا حمل الكتاب خلوه بنوع معزى «2» ليعرف، فلا يعارض ثم يسرح «3» ، فإذا وصل إلى المركز المعد له أخذ عنه، ونقل على حمام غيره، من ذلك المركز من مكان إلى مكان إلى حضرة السلطان.

_ [1] جاندار: من اللفظ الفارس جانه دار وتعني الحرس الخاص بالسلطان، وكان يحمل سيفا ويسير بجوار السلطان، وهو بالعربية جندار وجمعه جنادره (فرهنگ عميد 1/673) .

ومن عادة هذه المملكة «1» أن ولاة أمور المدينة، وهم أصحاب الشرط تستعد مجددات «2» ولا يأتهم في كل نهار ممن هم على المحلات من قبلهم، ثم يكتب متولى الشرطة مطالعة جامعة ما يبعث إنهاؤه من ذلك، وعمل إلى السلطان هذا بمتجددات ما يقع من قتل يقع أو حريق كبير [1] ، ويجرى مجرى ذلك، فأما يتبع الناس في أحوال أنفسهم فلا.

_ [1] وردت بالمخطوط كبيرا.

فصل

فصل ومن عادة «1» جيوش هذه الممالك الركوب في يومي الاثنين والخميس في الموكب، وهو مكان فسيح يكون بكل مدينة بها عسكر فيسيرون به، ثم يقف العسكر مع نائب السلطان أو الحاجب، إن لم يكن، ثم نائب، وينادى على الخيل بينهم وربما نودى على كثير من آلات «2» الجند والخيم والخركاوات والأسلحة، وربما نودى على كثير من «3» العقار، ثم أن كانوا بمصر طلعوا إلى الخدمة السلطانية بالقلعة على ما قدمنا ذكره، والإذن لهم على الانصراف بعد أكل السماط، وإن كانوا في غير مصر نزلوا في خدمة النائب إلى مكان سكنه، وهو دار السلطنة، ويجلس النائب، وتقرأ عليه القصص، وينصف «4» المظلومين، ويمد السماط، ويأكل عامة الأمراء والجند، ثم ينصرفون، وتزداد عساكر الشام بركوب يوم السبت على هذين اليومين. والنواب تقعد لقراءة القصص الاثنين والخميس والسبت، وربما قعدوا طرفي النهار في هذه الأيام كذلك، ومن عادة هذا السلطان أنه يكتب خطه على ما يأمر، وأما مناشير الأمراء والجند، وكل من له إقطاع فإنه يكتب عليه علامته وعلامة السلطان القائم الآن، السلطان الناصر [1] «5» ناصر الدنيا والدين أبي

_ [1] الملك الناصر أبو الفتح محمد ابن الملك المنصور سيف الدين قلاوون الصالحي الألفي، وله سيرة كريمة وفضائل عظيمة، كفاه شرفا انتماؤه لخدمة الحرمين الشريفين (رحلة ابن بطوطة 36) كان ابن بطوطة في القاهرة وقت كتابة هذا المخطوط.

المعالي محمد ابن الملك المنصور قلاوون، خلد الله دولته، الله أملى. وأما تقاليد النواب وتواقيع أرباب المناصب من القضاة والوزراء والكتاب، وبقية أرباب الوظائف، وتواقيع أرباب المناصب من القضاة وتواقيع الرواتب والإطلاقات فإنه يكتب عليها اسمه واسم أبيه صورته محمد بن قلاوون. وأما كتب البريد وخلاص الحقوق والظلامات، فإنه يكتب عليها أيضا اسمه، وربما كرم من يكتب إليه، فأما من كرمه من ذوي السيوف كتب له والده محمد بن قلاوون، وأما من كرمه من ذوي العمائم المدورة من القضاة والوزراء كتب أخاه بدلا من والده. فأما الإقطاعات فالرسم فيها أن يقال (خرج الأمر الشريف، وأما الوظائف والرواتب والإطلاقات فالرسم فيها أن يقال) «1» رسم بالأمر الشريف، وليس بموضع استيعاب أوضاع المكاتبات ولو أخذنا في هذا لطال، ولكننا نذكر نبذة تتعلق بالمناشير والتقاليد والتواقيع إذ كانت هي الأصل لجريان الأرزاق بها فأعلاها ما أفتتح بخطبة الحمد لله (المخطوط ص 217) ثم ما افتتح بخطبة أولها أما بعد حمد الله حتى يأتي على خرج الأمر في المناشير أو رسم في الأمر بالتواقيع «2» ، ثم بعد هذا أنزل الرتب، وهو أن يفتتح في المناشير خرج الأمير، وفي التواقيع رسم بالأمر. ويمتاز المناشير المفتتح فيها بخطبة الحمد لله بطغرا [1] بالسواد تضمن اسم السلطان وألقابه، ومن عادة السلطان في الإقطاعات للجند أن يتولى بنفسه

_ [1] الطغرا: لفظ تركي وهو يعني التوقيع أو العلامة التي تكون على الرسائل والمسكوكات السلطانية ويقوم بها طغرائي (فرهنگ عميد 2/1400) .

استخدامهم، فإذا وقف قدامه من يطلب الإقطاع المحول «1» ، ووقع اختياره على واحد أمر كاتب الجيش بالكتابة له، فكتب ورقة مختصرة تسمى المثال [1] ، مضمونها خبز فلان كذا ثم يكتب فوقه رسم المستقر له ويناولها السلطان، ويكتب عليها بخطه «2» ، ويعطيها الحاجب لمن رسم له، فيقبل الأرض ثم يعاد إلى ديوان الجيش، فتسك شاهدا عندهم، ثم تكتب مربعة مكملة بخطوط جميع الديوان الإقطاع، وهم ديوان الجيش وعلائمهم «3» ؛ ثم يؤخذ «4» عليها خط السلطان، ثم تحمل إلى ديوان الإنشاء بالمكاتبات، فتكتب المناشير ثم يعلم السلطان عليها علامة على ما تقدم ذكره، ثم يكمل ذلك المنشور بخطوط ديوان الإقطاع بعد المقابلة على صحة أصله. فأما الاستخدام في البلاد النائبة فليس للنواب مدخل في تأمير أمير عوض أمير مات، بل إذا مات أمير سواء كان كبيرا أو صغيرا، طولع السلطان بموته، فأمر من أراد عوضه، أما فمن في حضرته ويخرجه إلى مكان الخدمة أو فمن في مكان الخدمة أو نقل إليه من بلد آخر على ما يراه في ذلك. فأما جند الحلقة فإذا مات أحد منهم، استخدم النائب عوضه، فكتب على نحو من ترتيب السلطان المثال ثم المربعة، وتجهز المربعة مع البريد إلى حضرة السلطان، فيقابل عليها في ديوان الإقطاع «5» ، ثم يكتب عليها من ديوان الإنشاء كما تقدم في الجند الذين بالحضرة، وإن كان ما يمضيها السلطان،

_ [1] المثال هي الأقصوصة وتعني المنحة والعطية التي يمنحها السلطان مكتوبة على ورقة وتأتي أحيانا بمعنى القصص.

أخرجها لمن يرى، ثم يكون حكم الكتابة به حكم ما تقدم. ومن مات من الأمراء والجند (المخطوط ص 218) قبل استكمال «1» مدة الخدمة حوسب وراثه على حكم الاستحقاق، ثم إما ترتجع منهم أو يطلق على قدر حصول العناية بهم. وإقطاعات الأمراء والجند منها ما هو بلاد يستغلها مقطعها كيف شاء، ومنها ما هو نقد على جهات يتناولها منها، فأما أرزاق ذوي الأقلام من مبلغ يعين وغلة ولأعيانهم الرواتب الجارية في اليوم من اللحم بتوابله أو غير توابله والخبز والعليق، ولأكابرهم السكر والشمع والزيت والكسوة في كل سنة والأضحية. وفي رمضان السكر والحلوى وأكبر من هؤلاء كالوزير له في المدة مائتان وخمسون دينارا حبشية، ومعه ما ذكر من الأصناف والغلة إذا تسطر ونمت كانت بنظيرها ثم ما دون ذلك وما دون دونه، ومن هو في الحضرة آمين في ذلك. وأما القضاة والعلماء، فالقضاة أرزاقهم على السلطان وأكثرها خمسون دينارا كل شهر، ولهم المدارس التي يستدر من أوقافها، وفي دمشق معالم حكامها على وقف بمصالح المسلمين مضاف إلى مال مسجدها الجامع. وأما العلماء فليس لأحد منهم شيء إلا من أوقاف مدارسه إلا من له على سبيل الراتب أو الإدراري [1] ، وذلك قليل نادر لا حكم له، فنعرج على ذكره. ولهذا السلطان صدقات جارية ورواتب داره منها ما هو أرض من بلاد، ومنها ما هو مرتب على جهات من مبلغ وغلة وخبز ولحم وزيت وكسوة، واللحم والزيت والكسوة قليل نادر لمن حصلت له عناية، فأما الأرض والمبلغ

_ [1] الإدرار هو الأراضي والعقارات التي تكون دخلا على صاحبها.

والغلة والخبز فكثير جدا، ومتسع مرة «1» ، وفي الغالب يتوارثه الأبناء عن الآباء، والأخ عن الأخ وابن العم عن ابن العم حتى أن كثيرا ممن يموت، ويخرج أدراره من مرتبه لأجنبي فيحضر القريب بعد ذلك، ويقدم قصته، يذكر فيها أولويته بما كان لقريبه فيستعاد له. وفي هذه المملكة قائمة شعائر الإسلام بالمساجد والخطبات في جميع القرى، وأما الأرزاق والإدرارات فلا تؤخذ إلا بتواقيع (المخطوط ص 219) السلطان ما قل منها وما جل. وهذه المملكة تشتمل على عدة من القلاع والحصون والمعاقل وبكل منها نائب وحاكم شرعي وخطيب ومؤذن وكحال وجرائحي وحفظة ولحفظتها جوامك [1] لا إقطاعات وبها آلات التحصين وذوو أعمال وصناعات والحجارين والنجارين والحدادين وما تدعو إليه الضرورة في مثل ذلك.

_ [1] جوامك: مفردها جامك وجومك وهو المقرر الخاص بموظفي الدولة والجيش (فرهنگ عميد 1/670) .

زي ذوي العمائم المدورة

زي ذوي العمائم المدورة نبدأ بالقضاة والعلماء، وزيهم دلق متسع بغير تفريج فتحة على كتفه، وشاش كبير منه ذؤابة بين الكتفين طويلة، وأما من دون هؤلاء فالفرجية الطويلة الكم بغير تفريج والذؤابة أيضا، فأما زهادهم فيقصر الذؤابة ويميلها إلى الكتف الأيسر على المسنون، ولا يلبس أحد منهم الحرير ولا ما فيه الحرير، ومنهم من يلبس الطيلسان. فأما قاضي القضاة الشافعي، فرسمه الطرحة «1» ، وبها يمتاز ويركب أعيان هذه الطائفة البغلات بسروج غير مفضضة ويتخذ عوض الطمنكيات [1] «2» في السروج عرقشينات [2] وهي شبيه بثوب السرج، مختصر منها، وهو من جوخ، وقد يكون من أنواع الأديم، ويشق ويعمل بين السرج ومثرته، وقضاتهم تعمل بدلا من الكنبوش [3] الزناري وهو من الجوخ شبيه بالعباءة المجوبة الصدر مستدير من وراء الكفل، لا يعلوه لا ذنب ولا قوش وربما ركبوا بالكنابيش وهؤلاء لجمهم كبار ثقال الوزن «3» . وأما الوزراء والكتاب فزيهم الفرجيات المفرجة من الصوف ومن المحبرات

_ [1] الطمنكيات. [2] عرقشينات: من عرقجين وهي نوع من اللباس تحت السرج لامتصاص العرق (انظر: عرقجين فرهنگ عميد 2/1433) . [3] الكنبوش: البرذعة التي توضع على ظهر الفرس تحت السرج.

عمل الإسكندرية وغير ذلك، والنصافي والبياض، ويعمل أكابرهم البادهنجات [1] «1» في الأكمام، ويلبس البغالطيق من تحت فراجيهم، وربما لبسوا الجباب المفرجة من ورائها، ويختلف ركوبهم، وغالبه شبيه بالجند أو يقارب له، وتجمل هذه الطوائف بمصر أقل مما هم عليه بالشام في زيهم وملبوسهم ومركوبهم، إلا ما يحكى عن قبط مصر في بيوتهم من اتساع الأحوال والنفقات حتى أن الواحد منهم يكون في ديوانه بأردأ [2] اللباس ويأكل أدنى المأكل، ويركب (المخطوط ص 220) الحمار حتى إذا صار في بيته، انتقل من حال إلى حال، وخرج من عدم إلى وجود. ولقد يبالغ الناس فيما يحكى من ذلك عنهم، لبعد أحوالهم [3] وتباين أمورهم [4] «2» فأما التجار وأخلاط عامة الناس، فتختلف أحوالهم في الملابس والزي حتى أن الفقراء وإن جمعهم زي الفقر وزيقه «3» ، وضمهم لباس التصوف، فإنهم تتباين حالاتهم في الملابس وأطوارهم في التشكلات.

_ [1] البادهنجات جمع مفرده بادهنج وهي من الكلمة الفارسية بادآهنگ، فتحة تهوية (فرهنگ عميد 1/286- 291) . [2] وردت بالمخطوط بأردى. [3] وردت بالمخطوط أحاليهم. [4] وردت بالمخطوط أمريهم.

الكلام على أرباب الوظائف في هذه المملكة

الكلام على أرباب الوظائف في هذه المملكة نقول أن جميع الوظائف التي في حضرة السلطان لا تذكر منها إلا أعيانها، وأما صغار الوظائف فجزء من كل، فلا حاجة بنا إلى ذكرها، وكل ما نذكره مما هو في الحضرة نظيره في كل مدينة من قواعد مدن هذه المملكة، ويبقى الفرق ما بينهما الفرق بين «1» المكانين، فالوظائف الكبار «2» فمن ذوي السيوف، إمرة السلاح الدوادارية [1] «3» الحجوبية [2] ، إمرة جاندار [3] الاستاذ دارية [4] هي المهمندارية [5] ، نقابة الجيوش، الولاة، ومن ذوي الأقلام؛ الوزارة، كتابة السر، نظر الجيش، نظر الأموال، نظر الخزانة، نظر البيوت، نظر بيت المال، نظر الإصطبلات، ومن ذوي العلم؛ القضاة، الخطباء، وكالة بيت المال، الحسبة. ثم نقول: إن هذا السلطان أبطل النيابة والوزارة بحضرته «4» ، وكان هو الذي يفرق الإقطاعات، ويعين الإمرة «5» ، وفي هذا القول كفاية.

_ [1] الدوادارية: مفرده دوادار وهو الحاجب أو المسؤول عن توصيل الرسائل والشكاوى إلى السلطان، ويعرض البريد على السلطان. [2] الحجوبية نسبة إلى الحاجب وهو القائم بالعرض على الملك (فرهنگ عميد 1/769) . [3] جاندار: مقدم البريد (فرهنگ عميد 1/673) . [4] استاذدار: المشرف على نفقات القصور السلطانية (فرهنگ عميد 1/132) . [5] المهمندارية: المسئولون عن استقبال الضيوف (فرهنگ عميد 2/1875) .

وأما الوزارة فكان يليها من أرباب السيوف والأقلام على قدر ما ينفق، وكان الوزير ثاني النائب في المكانة، فأما الآن فإن السلطان بقى المفرد بما كان للسلطنة من العظمة والنيابة في التصرف. وأما الوزارة فإنه أبطلها واستخدم في أيام هذا السلطان وظيفة يسمى مباشرها نظر الخاص (المخطوط ص 221) أصل موضوعها «1» أن يكون مباشرها متحدثا فيما هو خاص بمال السلطان، ويتحدث في موضوع السلطان، وفي مجموع الأمر في الخاص بنفسه، وفي القيام بأخذ راية فيه، فبقى تحدثه فيه، وبسببه كأنه هو الوزير لقربه من السلطان، وزيادة تصرفه، ولنذكر وضع كل وظيفة مما ذكرنا.

ذكر الوظائف

ذكر الوظائف أما النيابة فقد تقدم قولنا أنه سلطان مختصر في ما هو ناء عن الحضرة، وأن النائب هو المتصرف المطلق التصرف في كل أمر يراجع في الجيش والمال والخبر، وهو البريد وكل ذي وظيفة في نيابته، لا يتصرف إلا بأمره، ولا يفصل أمرا معضلا إلا بمراجعته، وهو يستخدم الجند، ويرتب في الوظائف، وأما ما هو جليل منها كالوزارة والقضاء وكتابة السر والجيش، فإنه ربما عرض على السلطان من يصلح، وقل أن لا «1» يجاب، وربما سمى أكابر هؤلاء النواب ملك الأمراء، وإن حصلت المناقشة لا يستحقها إلا من هو بدمشق لأنه «2» ليس بالشام قاعدة الملك سواها. وأما النيابة العظمى فهي نيابة الحضرة ويسمى هذا النائب، كافل الملك، وقد نبهنا فيما تقدم على كبير محله، وهو السلطان الثاني، وجميع نواب الممالك تكاتبه في غالب ما يكاتب فيه السلطان، ويراجعونه فيه كما يراجع السلطان، وهو يستخدم الجند من غير مشاورة، ويعين الإمرة، ولكنه بمشاورة السلطان وعادته أن يركب بالعسكر في أيام المواكب، وينزل الجميع في خدمته، فإذا مثل في حضرة السلطان وقف في ركن الإيوان، فإذا انقضت الخدمة مضى «3» إلى داره والأمراء معه، ومدلهم السباط [1] «4» كما يمد السلطان، ويجلس جلوسا عاما للناس، ويحضره أرباب الوظائف، ويقف قدامه الحجاب، وتقرأ عليه القصص، فيقدم إليه الشكاة، ثم يصرف الناس، ولما كانت النيابة قائمة على هذه الصورة،

_ [1] السماط.

لم يكن السلطان يتصدى بنفسه لقراءة القصص [1] (المخطوط ص 222) عليه، وسماع الشكوى بل كان يكتفى بالنائب ثم أن النائب إذا قرئت عليه القصص «1» فما كان يكفي فيها مرسومه، أصدره عنه، وما لم يكن فيه بد من صدور مرسوم سلطاني فيه أمر بكتابته عن السلطان وإصداره، فيكتب وينبه فيما يكتب أنه بإشارته، ثم يصدر ما كان من الأمور المعضلة التي لا بد له من إحاطة علم السلطان بها، يعلمه تارة منه إليه وقت اجتماعه به، وتارة يرسل من يعلمه بها ويأخذ أمره فيها. وكان ديوان الأقطاع، وهو الجيش في زمان النيابة ليس لهم خدمة إلا عنده ولا اجتماع إلا به ولا اجتماع «2» لهم بالسلطان «3» في أمر من الأمور. وأما الوزير وكاتب السر فقد يراجعانه في بعض الأمور دون بعض، ثم اضمحلت النيابة بالحضرة وتقهقرت [2] أوضاعها، وأما الآن فقد بطلت. وأما الحجبة فهي موضوعة لأن صاحبها ينصف من الأمراء والجند تارة بنفسه وتارة بمشاورة السلطان وتارة بمشاورة النائب إن كان، وإليه تقديم من يعرض، ومن يرد، وعروض الجند وما ناسب ذلك، وأما مع عدم النيابة فهو المشار إليه في الباب والقائم مقام النواب في كثير من الأمور، وأما إمرة جاندار فصاحبها كالمتسلم للباب، وله به البردداريه [3] وطوائف الركابية

_ [1] الشكاوى. [2] وردت بالمخطوط تقهرقهرت. [3] البرددارية: مفرده برده دار وهو الحاجب، أو الشخص الذي يرعى بلاط السلطان (فرهنگ عميد 1/449) .

والحريسانية [1] والجاندارية وهو يقدم البريد مع الدوادار، وكاتب السر على ما قدمنا ذكره. وإذا أراد السلطان تقرير أحد أو قتله، كان على يد صاحب هذه الوظيفة، وهو المتسلم الزردخانة [2] «1» ، التي هي أرفع قدرا في الاعتقالات من السجن المطلق، ولا تطول مدة المعتقل بها بل إما أن يعمل تخليه سبيله أو تلاف نفسه. وقد قدمنا القول أن صاحب هذه الوظيفة يدور بالزفة حول السلطان في سفره مساء وصباحا. وأما الأستاذدار [3] فإليه أمر بيوت السلطان كلها من المطابخ والشرابخاناه [4] «2» والحاشية والغلمان، وهو الذي يمشي بطلب السلطان والحكم في غلمانه وباب داره [5] (المخطوط ص 223) وإليه أمور الجاشنكيريه [6] وإن كان كبيرهم نظيره في الإمرة من ذوي المئين، وله حديث مطلق وتصرف تام في استدعاء ما يحتاجه كل من في بيت السلطان من النفقات والكساوى، وما يجري مجرى [7] ذلك.

_ [1] الحريسانية: هم حراس جدار يعمل للحفاظ على الغنم (فرهنگ عميد 1/789) . [2] الزردخانة: الزرّاد خانه مصنع لصناعة الأسلحة ومخزن الأسلحة (انظر: فرهنگ عميد 2/1100) . [3] المسؤول عن نفقات القصور السلطانية. [4] الشرابخانه: بيت الشراب. [5] بابدار: المسؤول عن الباب، البوّاب. [6] الجاشنكيرية: مفرده جاشنكير وهو الشخص المرتدي للدرع من الكلمة الفارسية جوشن گير (فرهنگ عميد 1/713) . [7] وردت بالمخطوط مجرا.

وإما إمرة سلاح فهو مقدم السلاح داريه، والمتولى لحمل سلاح السلطان في المجامع الجامعة، وهو المتحدث في السلاح خاناه [1] ، وما يستعمل لها، وما يقدم إليها، ويطلق منها وهو من أمراء المئين. وأما الدواداريه فهم لتبليغ الرسائل عن السلطان، وإبلاغ عادة الأمور، وتقديم القصص إليه والمشاورة على من يحضر إلى الباب «1» وتقديم البريد هو وأمير جاندار وكاتب السر كما تقدم، ويأخذ خط السلطان على عموم المناشير والتواقيع والكتب، وإذا خرج عن السلطان بمرسوم يكتب «2» وتعين رسالته. «3» وأما نقابة الجيوش فهذا كأحد الحجاب الصغار، وله تخلية الجند في عرضهم، ومعه يمشي النقباء، وإذا طلب السلطان أو النائب أو الحاجب أميرا أو خدما قالوا له أرسل إليه وأحضره، وإذا أمروا بالترسيم على أحد من هؤلاء «4» أمروه فرسم عليه وهو بمن يطلب بالخزانة في الموكب وفي السفر. وأما الولاية فهم أصحاب الشرطة وطبقتهم معروفة معلومة وأما وظائف أرباب الأقلام فأجلها الوزارة لأن ربها ثاني السلطان إذا أنصف وعرف حقه، ولكن في هذه المدد حدث عليها النيابة، وتأخرت الوزارة حتى قعد بها مكانها، وقد تقدم قولنا على أنه وليها أناس من أرباب السيوف والأقلام بأرزاق على قدر الإنفاق، ووظيفة الوزارة أشهر من أن يذكر وضع مباشرها، لنفاذ كلمته، وتمام تصرفه، ولكنها في أخريات هذه الأيام تقهقرت [2] حتى كان المتحدث فيه

_ [1] بيت السلاح. [2] وردت بالمخطوط تقهقهرت.

كناظر المال، لا يتعدى الحديث في المال، ولا يتسع له في التصرف بمجال ولا تمتد يده في الولاية والعزل لتطلع السلطان إلى الإحاطة بجزئيات [1] الأحوال، ثم أن السلطان أبطل هذه الوظيفة، وعطل جيد الدولة من عقودها (المخطوط ص 224) وصار ما كان إلى الوزير منقسما إلى ثلاثة؛ إلى ناظر المال إرشاد الدواوين أمر تحصيل المال، وصرف النفقات والكلف، وإلى ناظر الخاص تدبير جملة الأمور وتعيين المباشرين، وإلى كاتب السر التوقيع في دار العدل مما كان يوقع فيه الوزير بمشاورة واستقلال ثم أن كلا من المتحدثين الثلاثة لا يقدر على الاستقلال بأمر إلا بمراجعة السلطان، ومراجعته عليه. وأما كتابة السر فقراءة الكتب الواردة على السلطان وكتابة أجوبتها وأخذ خط السلطان عليها، وتسفيرها، وتصريف المراسم ورودا وصدرا والجلوس لقراءة القصص بدار العدل والتوقيع عليها، وقد صار يوقع فيما كان يوقع عليه بقلم الوزارة على حسب ما يرسم له به السلطان. وأما نظر الجيوش فقد تقدم في ذكر الإقطاعات وعند ذكر النيابة ما يدل على حال صاحب هذه الوظيفة مما فيه كفاية «1» وهذا الناظر معه من المستوفيين [2] من يحرر كليات المملكة وجزئياتها فرأسهم هو مستوفى الصحبة، وهو يتحدث في جميع المملكة مصرا وشاقا، ويكتب مراسيم يعلم عليها السلطان تارة تكون بما يعمل في البلاد؛ بإطلاقات، وتارة باستخدامات كتاب في صغار الأعمال، ومن هذا، وما يجرى مجراه، وهي وظيفة جليلة تلي النظر. وأما بقية المستوفين فكل منهم حديثه مقيد لا مطلق، فإنه لا يتعدى حديثه

_ [1] وردت بالمخطوط بجزئيات. [2] مفرده مستوفى وهو المحصل وجامع الأموال المستحقة.

قطرا من أقطار المملكة، وهذا الديوان هو أرفع ديوان الأموال «1» ، هو فرع هذا الديوان وإليه يرفع حسابه وتتناهى أسبابه. وأما نظر الخزانة فكانت الخزانة أولا كبيرة الوضع لأنها مستودع أموال المملكة، فلما استحدثت وظيفة الخاص ضعف أمر هذه المسماة بالخزانة، وصارت تسمى بالخزانة الكبرى، وهو اسم أزيد من مسماه، ولم يبق بها الآن إلا خلع تخلع منها، ولا يحضر عليها ويصرف أولا فأولا، وفي غالب ما يكون ناظرها من القضاة، أو ممن يلتحق بهم. وأما نظر البيوت فهو ناظر جليل، وهو منوط بالاستاذداريه (المخطوط ص 225) فكل ما يتحدث فيه استاذدار له فيه مشاركة الحديث، وقد تقدم تفصيل حال وظيفة أستاذدار فيما تقدم. فأما نظر بيت المال فهي وظيفة جليلة معتبرة وموضوعها حمل حمول المملكة إلى بيت المال، والمتصرف منه تارة بالميزان وتارة بالتسبيب بالأقلام، ولا يلي هذه الوظيفة إلا من ذوي العدالة المبرزة. وأما نظر الاصطبلات فهو ديوان جليل، مباشرته في اصطبل السلطان، وله الحديث في أنواع الاصطبلات والمناخات [1] وعليقها وأرزاق المستخدمين فيها ومالها من الاستعمالات والإطلاق، وكل ما يبتاع لها أو يبتاع بها «2» . وأما وظائف ذوي العلم فقد تقدم القول أنها القضاة والخطابة ووكالة بيت المال والحسبة، وهذه وظائف معروفة ومباشرات أربابها معلومة لأنه لا يكاد تخلو مملكة من ممالك الإسلام فيها.

_ [1] المناخات جمع مفرده مناخ حيث تنيخ الإبل.

فصل

فصل وفي هذه المملكة وما هو متعلق «1» بها مجموع المساجد الثلاثة التي لا تشد الرحال إلا إليها، المسجد الحرام والبيت المقدس ومسجد النبي (صلى الله عليه وسلم) ، وأول ما تبدأ به ما هو محقق في هذه المملكة، ودخل في حدودها وهو القدس وبه المسجد الأقصى والصخرة التي هي أول القبلتين، وإليه كان إسراء النبي (صلى الله عليه وسلم) من المسجد الحرام كما قال الله عز وجل سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ [1] وبجانبه الأيمن الطور وعليه كانت مخاطبة موسى عليه السلام وفيه وفيما حوله غالب مدافن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم. «2» قال التيفاشي [2] في كتاب سرور النفس بمدارك الحواس الخمس [3] وذكرت الرواة أن هذه الأرض التي بارك الله فيها وحولها [4] أربعون ميلا عرضا في تدوير

_ [1] إشارة إلى قوله تعالى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الإسراء، الآية: 1] . [2] التيفاشى هو القاضي أبو العباس أحمد بن يوسف التيفاشي القفصى الطبيب الأديب المتوفى 651 هـ له من التصانيف أزهار الأفكار في جواهر الأحجار الدور الفائقة في محاسن الأفارقة، رجوع الشيخ إلى صباه في القوة والباه، سجع الهديل في أخبار النيل، الشفا في الطب المسند على المصطفى، فصل الخطاب، سرور النفس وغير ذلك (انظر: هدية العارفين، أسماء المؤلفين وآثار المصنفين لإسماعيل باشا البغدادي استانبول 1951 ج 1/72) . [3] كتاب سرور النفس بمدارك الحواس الخمس من تصانيف القاضي أبو العباس التيفاشي (انظر: هدية العارفين 1/94) . [4] إشارة إلى الآية رقم 1 من سورة الإسراء.

البيت المقدس [1] ، والبيت المقدس في وسطها، وكان اسمها في الزمن الأول ايليا [2] ، وقول الله تعالى يحقق أن بيت المقدس في وسط تربيع الأرض المقدسة التي بارك الله تعالى فيها، والمسجد الأقصى في قبة السلسلة (المخطوط ص 226) وكان مجلس داود عليه السلام. وفيه أيضا الموضع الذي عرج بالنبي (صلى الله عليه وسلم) إلى السماء منه، وهو تحت قبة المعراج [3] ، وفيه موضع مصلى أيوب عليه السلام بالملائكة على قبة يقال لها قبة الملائكة، وفيه الصخرة التي كان يقرب عليها يوشع بن نون خلافة لموسى بن عمران وفيه محراب مريم، وفيه متعبد زكريا، وهو نفسه من بناء داود وسليمان عليهما السلام: قلت «1» : وفيه قبر إبراهيم الخليل على الصحيح داخل السور المحيط بالمكان المعروف به الآن بقرية إبراهيم «2» المسماة الآن ببلدة الخليل [4] ، وإن لم يصح القبر المعين الآن بعينه «3» وقد تضمن كتاب الله العزيز والأحاديث الواردة عن النبي (صلى الله عليه وسلم) من فضائله ما فيه كفاية. والصخرة قبلة اليهود الآن وإلى القدس حجهم، وبالقدس القمامة [5] التي

_ [1] بيت المقدس: بلدة كبيرة منيغة، مبنية بالصخر المنحوت بها المسجد المقدس (رحلة ابن بطوطة 45) . [2] اسم مدينة بيت المقدس، عبري، قيل: معناه بيت الله (مراصد الاطلاع 1/138) . [3] قارن ابن بطوطة في رحلته ر 45. [4] به قبور إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام وأزواجهم (رحلة ابن بطوطة 44) . [5] كنيسة للنصارى في وسط بيت المقدس، فيها قبة تحتها قبر، يقولون أن المسيح دفن فيه، ومنه قام، فلذلك تسميها النصارى القيامة (مراصد الاطلاع 3/1121) .

يحجها النصارى من أقطار الأرض وأعماق البحر. وإلى جانب القدس مدينة نابلس [1] محسوبة من الأرض المقدسة، وداخلة في حدودها وإلى طورها حج السامرة وهم طائفة من اليهود [2] ينتمي أئمتها «1» إلى بنوة هارون عليه السلام. فالقدس الشريف معظم عند جميع «2» المسلمين واليهود والنصارى، ومكان زيارة لهم أجمعين، وإنما اختلافهم في أماكن الزيارة منه، وما نبهنا على هذا إلا لما فيه من الفائدة لإطباق الجميع على تعظيمه وقصده بالزيارة. وأما الحرمان الشريفان مكة [3] والمدينة [4] زادهما الله جلالة وتعظيما، فهما من الحجاز ولم يزل أمراء المدينة الشريفة مترامين إلى صاحب مصر في غالب أوقاتهم، ومعظم أيامهم إلا القليل النادر، فإنه ربما عصى بعضهم، ومع هذا لا يترامى إلى سواه «3» . وأما أمراء مكة المعظمة فقد كان منهم من يسر حوافي من

_ [1] نابلس: مدينة عظيمة كثيرة الأشجار، مطردة الأنهار، من أكثر بلاد الشام زيتوتا (رحلة ابن بطوطة 47) مدينة مشهورة بأرض فلسطين وهي مدينة السمرة (السامرة) (مراصد الاطلاع 3/1347) . [2] طائفة اليهود يزعمون أن مسجد نابلس هو القدس وأن بيت المقدس المعروف ملعون عندهم (مراصد الاطلاع 3/1347) . [3] مدينة كبيرة متصلة البنيان، مستطيلة في بطن واد تحف به الجبال، فلا يراها قاصدها حتى يصل إليها، بها المسجد الحرام ويؤدي بها مناسك الحج، أماتها في القرن الثامن الهجري كانت لأسد ابن رميثة وسيف الدين عطيفة ولدى أبي نمى بن أبي سعد بن علي ابن قتادة الحسنيين (رحلة ابن بطوطة 90 وما بعدها) سميت مكة لأنها تملك أعناق الجبابرة (مراصد الاطلاع 3/1303) . [4] المدينة: هي مدينة الرسول (صلى الله عليه وسلم) المنورة بها مسجد الرسول (صلى الله عليه وسلم) وأميرها في القرن الثامن الهجري كبيش بن منصور بن حجاز بعد عمه مقبل ثم تولى أخوه طفيل بن منصور، (رحلة ابن بطوطة 79 وما بعدها) (انظر: مراصد الاطلاع 3/1247) .

ارتقاء يرضى صاحب مصر بأنه سامع له مطيع، ويقول لصاحب اليمن مثل ذلك، وكان أكثر ميلهم إلى صاحب اليمن حقيقة، هو أهم معه ثم تراموا إلى صاحب العراق لقوة سلطانه (المخطوط ص 227) . وما برح هذا السلطان يجلس منهم ويطلق ويقيم الواحد بعد الواحد، ويجهز إليهم الجيش مرة بعد أخرى ليصفوا له كدرهم على علاتهم، فأما الآن فقد حكم عليهم حكما قاهرا حتى انقاد له صعبهم، ولانت له شكائمهم على إباء فيها واعوجاج بها، وذلك لما مات أبو سعيد بهادر خان بن محمد خدابنده سلطان العراق «1» وتشعبت بعده الأهواء، ولم يعد إلى بعد «2» تأليف (كتابي «3» هذا، أنهم يجمل) «4» ولا صلحت [1] لهم أمور وأمراء المدينة من بني الحسن بن علي رضي الله عنهما من أولاد جماز بن شيحه [2] . وأمراء مكة المعظمة من أولاد الحسن بن علي بن علي «5» رضي الله عنهما من أولاد إدريس بن قتادة [3] ، وبكل منهما جماعة من الأشراف أقارب أمرائها، وهؤلاء أمراء مكة والمدينة على طاعتهم وعصيانهم لابد القائم منهم بالإمرة من ملاطفة صاحب مصر حتى يأخذ منه تقليدا [4] بالإمرة، لخوفهم من قربه ومواصلة ركبانهم إليهم من مصر ودمشق، وقد ذكرنا هذا توفية بشرط هذا

_ [1] وردت بالمخطوط ولا صفحت أ 226 صلحت ب ر 148 [2] كبيش بن منصور بن حجاز وأخوه طفيل (انظر: رحلة ابن بطوطة 85) . [3] أسد الدين رميثة وسيف الدين عطيفة ابني أبي نمى بن أبي سعد بن علي بن قتادة (رحلة ابن بطوطة 101) . [4] وردت بالمخطوط تقليد.

الكتاب، ولم نتعرض إلى ذكر فضائلهما كفى الحرمين عن ذلك، وفيهما البيت المحجوج المحجوب، ونبي هذه الأمة وشفيعها سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم) ، فحسبهما بمكان بيت الله ورسوله المصطفى (صلى الله عليه وسلم) شرفا، تتطامن له أعناق السماء، ويمسك بأطراف البسيطين الثرى والماء. ومما هو في حدود هذه المملكة مما له باسم سلطان حاكم وملك متصرف، حماة [1] وهي مدينة بين حمص [2] وحلب [3] وهي لبقايا ملوك بني أيوب من أراد صاحب مصر ولاه ومن أراد عزله، ولقد كانت انتزعت منهم بعد موت المظفر شادي بن المنصور محمد بن المظفر، ووليت لنواب كبقية نواب هذه المملكة ثم أن هذا السلطان أعادها إلى البيت الأيوبي، وملك بها المؤيد عماد الدين إسماعيل بن الأفضل «1» بن المظفر ابن عم الذي انتزعت بعد موته ثم بعده ولده الأفضل محمد وهو القائم بها الآن، يستقل فيها بإعطاء (المخطوط ص 228) الإمرة والإقطاعات وتولية القضاة والوزراء وكتابة السر وكل الوضائف، ويكتب المناشير والتواقيع من جهته، ولكن لا يمضي أمرا كبيرا في مثل إعطاء إمرة أو إعطاء وظيفة كبيرة، حتى يشاور صاحب مصر، وهو لا يجيبه إلا بأن الرأي ما يراه، وهذا ومثله. وهذه حماة مبنية على نهر العاصي، وهي من أحاسن مدن الشام. ومما يجب

_ [1] حماة: إحدى أمهات الشام الرفيعة، ومدائنها البديعة، ذات الحسن الرائق، والجمال الفائق، بها نهر العاصي (رحلة ابن بطوطة 51، مراصد الاطلاع 1/423) . [2] حمص: مدينة مليحة، أرجاءوها مونقة، وأشجارها مورقة، بها جامع وخارجها قبر خالد بن الوليد (رحلة ابن بطوطة 51) بين دمشق وحلب (مراصد الاطلاع 1/425) . [3] حلب: المدينة الكبرى والقاعدة العظمى، قدرها خطير، وذكرها من كل زمان يطير، قلعتها تسمى الشهباء (رحلة ابن بطوطة 52) وهي مدينة مشهورة بالشام (مراصد الاطلاع 1/417) .

ذكره هنا ذكر بلاد سيس، وهي ما بين حلب والروم استولى عليها الأرمن من قديم، ومملكتها في بيت الأرد بن مليح الأرميني من مدة متقدمة. وبلادها بعضها أغوار على ساحل البحر، وبعضها متعلقة بالجبال، وهي من العواصم، ومما يليها، وملكها مترام إلى صاحب العراق والعجم، ومنتظم في سلكه، وما خرج عسكره إلى الشام لقتال صاحب مصر إلا وخرج معهم، وكثر سواد عسكره، وبالغ في نكاية الإسلام وأهله، وهو مع هذا يدارى صاحب مصر ويداهنه ويحمل إليه ما لا في كل سنة، قطيعة مقررة، وفي كل وقت «1» وحين تغزوه عساكر مصر والشام في عقر البيره، وفتحت البلاد وسبى النساء والذراري في سنة تأليفي فيها هذا الكتاب، وهي سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة [1] ، جهز السلطان فرقة من العساكر إليها، فخاف صاحبها، وسلم جانبا من بلاده، مما يلي المملكة الإسلامية من نهر جيهان «2» إلى ما لاصق البلاد، وصارت بحمد الله في يد الإسلام، وقبضة السلطان، وقرر عليه القطيعة على باقي بلاده. ومن خصاص هذه المملكة معدن الزمرد وهو بالحد المتصل بأسوان له من جهة السلطان ديوان وشهود، وينفق على العمال به، وتقام لهم المؤن لحفره واستخراج الزمرد منه، وهو في جبال هرمله، يحفر فيه، وربما سقط على الجماعة به فماتوا وتجمع ما يخرج منه، ويحمل إلى السلطان، ومنه يحمل إلى البلاد، ولقد رأيت منه قطعة وسطها أخضر، في نهاية الحسن، وأطرافه جميعه أبيض، ما بين وسطه وأطرافه بين اللونين، ثم كلما كان أقرب (المخطوط ص 229) إلى الوسط كان أقرب إلى الخضرة، كان إلى الطرف، كان أميل إلى البياض إلى أن كان آخره

_ [1] سنة تأليف الكتاب 738 هـ وهو قبيل تأليف تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار لابن بطوطة والمكتوبة سنة 757 هـ.

أبيض الوسط، أنضجته الطبيعة نضجا كاملا والأطراف لم يكمل نضجها، فسبحان الله مبدع كل شيء. وبها البلسان وهو شجر قصار بالمطرية «1» [1] حاضرة عين شمس «2» بالقرب من القاهرة، وتسقى من بير هناك، (ولا يكون إلا في تلك البقعة، وهذه البير) [2] تعظمها النصارى، وتقصدها وتغتسل بمائها، وتستشفى بها على زعمها، ويخرج لاعتصار البلسان أوان إدراكه من قبل السلطان، من يتولى ذلك ويحفظه، ويحمل إلى الخزانة ثم يحمل منه إلى قلاع الشام، والمارستانات [3] لمعالجة المبرودين، وملوك النصارى من الجيوش والروم والفرنج بها دون السلطان بسببه، (ويستهدونه منه) «3» لأنهم لا يصح عندهم تنصر إلا بالغمس في ماء العمودية وعندهم أنه لا بد أن يكون في ماء العمودية من دهن البلسان، هكذا أخبرني جماعة من النصارى، وهو ظاهر التقديم في معالجة الفالج وارتخاء الأعصاب وسائر الأمراض. وفيها القرصفة والصنم السليماني، والسبسب من مكان يعرف بدار الغربة، قريب مصر، أنفع دواء للاستسقاء، ومنه الأفيون، وهو عصارة الخشخاش الأسود المصري، وكذلك الجوز المائل، وهو يطلع بدمياط [4] ، فأما ما يطلع بجبال

_ [1] المطرية من قرى مصر بها البلسان (مراصد الاطلاع 3/284) . [2] مدينة فرعون بمصر بينها وبين الفسطاط ثلاثة فراسخ (مراصد الاطلاع 2/978) . [3] دور الشفاء. [4] دمياط: مدينة فسيحة الأقطار، متنوعة الثمار، على شاطىء النيل، خربها الفرنج (رحلة ابن بطوطة 30- 31) على زاوية بين بحر الروم والنيل (مراصد الاطلاع 2/536) .

القدس وبلاد فلسطين والأردن من الحشائش المنصوص عليها في كتب الأطباء فكثير جدا كالمرياقلوت [1] ذات الألف ورقة التي هي من أجل الباذزهرات [2] النافعة من السموم القتالة، ولم نذكر هذا إلا على سبيل العرض وإلا فليس هو من المقصود.

_ [1] المرياقلوت: هو نبات يسمى أيضا مازريون بها أوراق تستخدم في الطب (فرهنگ عميد 2/1735) . [2] الباذزهرات جمع مفرده بادزهر وهو الترياق المضاد للسم (فرهنگ عميد 1/417) .

ذكر عادة هذه المملكة في الخلع ومراتبها

ذكر عادة هذه المملكة في الخلع ومراتبها وهي ثلاثة أنواع؛ أرباب السيوف والأقلام والعلماء، فأما أرباب السيوف «1» أكابر ذوي المئين منهم الأطلس الأحمر الرومي وتحته الأطلس الأصفر الرومي وعلى الفوقاني طرز مزركش ذهب وتحته سنجاب، وله سجف من ظاهره مع الغشاء قندس وكلوته زركش ذهب وكلاليب ذهب وشاش لانس رفيع موصول به في طرفيه حرير أبيض مرقوم بألقاب السلطان (المخطوط ص 230) مع نقوش باهرة من الحرير الملون مع منطقة «2» ذهب، ثم تختلف أحوال المنطقة بحسب مقاديرهم، وأغلاها أن يعمل بين عمدها يواكر [1] أوسط ومجنبين مرصعة بالبلخش [2] «3» والزمرد، واللؤلؤ. ثم ما كان بيكاريه واحدة مرصعة ثم ما كان بيكارية واحدة من غير ترصيع. فأما من تقلده ولاية كبيرة منهم، فإنه يزاد سيفا محلى بالذهب «4» وفرسا مسرجا ملجما بكنبوش مذهب. وصاحب حماة خلعته من أعلى هذه الخلع، وبدل الشاس اللانس بشاش يعمل بالاسكندرية من الحرير شبيه بالطول، ويمرج بالذهب، ويعرف بالمثمن،

_ [1] بواكر: بوغاز، فتحات. [2] البلخش هو البدخش نوع من الزمرد (فرهنگ عميد 1/324) .

ويعطى فرسانا، أحدهما كما ذكر والآخر يكون عوض كنبوشة زناري أطلس أحمر، وقد استقر لنائب الشام مثل هذا وأزيد بتركيبه مزركش ذهب دائرة بالقباء الفوقاني، ودون هذه المرتبة في الخلع نوع يسمى الطرد وحش يعمل بدار الطراز بالاسكندرية وبمصر وبدمشق، وهو مجوخ جاخات كتابه بألقاب السلطان. وجاخات طردوحش [1] أو طير، وجاخات ألوان ممتزجة بقصب مذهب تفصل بين هذه الجاخات نقوش وطراز، هذا من القصب وربما كبر بعضهم فركب عليه طراز مزركش بالذهب، وعليه السنجاب والقندس كما تقدم، وتحته قباء من المفرج الاسكندراني الطرح وكلوته زركش كلاليب وشاش على ما تقدم، وحياصة ذهب تارة تكون بيكارية وتارة لا تكون بيكارية. وهذه لأصاغر أمراء المئين، ومن يلحق بهم ودون هذه الرتبة كنجى [2] عليه نقش من لون آخر غير لونه، وقد يكون من نوع لونه، يتفاوت بينهما بسنجاب مقندس والقباء «1» كما قدمنا ذكره، إلا أن الحياصة [3] والشاش [4] لا يكونان بأطراف رقم بل تكون مجوخة بأخضر وأصفر مذهب، لا يكون بيكارية [5]

_ [1] جاخات طرد وحش وهي أقمشة ورداء خاص بالصيد ومطاردة الوحوش. [2] كنجى: نوع من القماش المرصع بالذهب وأظنه نسبة إلى كنج وتعني الكنز من الفارسية. [3] الحياصة: ذكر المقريزي عند الكلام على سوق الحوائصين (2/99) فقال، وتباع فيه الحوائص وهي التي تعرف بالمنطقة في القديم، فكانت حوائص الأجناد أولا بأربعمائة درهم فضة ونحوها ثم عمل المنصور قلاوون حوائص الأمراء الكبار ثلاثمائة دينار ... وصارت الحياصة من الذهب وما هو مرصع بالجوهر. [4] الشاش: نسيج قطني أبيض رفيع (معجم الألفاظ العامية، أنيس فريحة 89) . [5] بيكاريه: هو القماش المستدير، وتبكير أي استدار (معجم الألفاظ العامية أنيس فريحة 19) .

ودون هذه الرتبة كنجى بلون واحد بسنجاب مقندس [1] والبقية على ما ذكر، وتكون الكلوتة خفيفة الذهب، وجانباها يكاد (المخطوط ص 231) أن يكونان خاليين بالجملة، ولا حياصة له ودون هذه الرتبة لا محرم لون واحد، والبقية على ما ذكر خلا الكلوته والكلاليب ودون هذه الرتبة محرم وقندس تحته قباء ملون بجاخات من أحمر وأخضر وأزرق أو غير ذلك من الألوان وسنجاب وقندس، وتحته قبائها إما أزرق أو أخضر أو شاش أبيض بأطراف من نسبة ما تقدم ذكره، ثم ما دون هذا النوع ولا بد من تنقيص ما. وأما الوزراء والكتاب فأجل خلعهم كنجى أبيض مطرز برقم حرير ساذج وسنجاب وقندس ويبطن القندس بالسنجاب، وتملأ الأكمام به، وتحته كنجى أخضر وبقيار كتان من عمل دمياط مرقوم وطرحة، ثم دون هذه التربة عدم تبطين القندس بالسنجاب وأخلى الأكمام منه، ودونها ترك الطرحة، ودونها أن يكون التحتاني محرما، ودون هذا أن يكون الفوقاني من نوع الكنجي، لكنه غير أبيض ثم تحته عنابي طرح «1» أو ما يجرى مجراه، ثم ما دون ذلك ما قدمنا في خلع أرباب السيوف. وأما القضاة والعلماء فخلعهم من الصوف بغير طراز، ولهم الطرحة، وأجله أن يكون أبيض وتحته أخضر ثم ما دون ذلك على نحو ما قدمنا. وأما أهبة الخطباء فإنها من السواد للشعار العباسي وهو دلق مدور كما قدمنا وصفه في ذكر زي العلماء وشاش أسود وطرحة سوداء، وينصب على المنبر علمان أسودان مكتوبان بأبيض أو بذهب؛ ويخرج المبلغ من المؤذنين قدام

_ [1] قندس: فروة حيوان القندس، وهو حيوان ذو فروة تستخدم في الملابس (المعجم الوسيط 2/791) .

الخطيب، وعليه سواد مثل الخطيب، خلا الطرحة، وفي يده السيف، فإذا صعد الخطيب المنبر أخذ منه السيف فإذا رقى المنبر وسلم، أذن لابس السواد تحت درج المنبر، وتبعه المؤذنون، ثم ذكر الحديث الوارد؛ (إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة والإمام يخطب أنصت فقد لغوت) [1] ثم يبلغ عنه الصلاة والرضا والدعاء للخليفة (المخطوط ص 232) والسلطان هو ثم «1» المؤذنون ثم إذا انحط إلى الصلاة أخذ السيف من يده، وهذه الأهبة تصرف من الخزانة، ثم تكون في حواصل الجوامع، لتلبس في ساعات الجمع، فإذا خلعت أعيدت الخلعة في الخزانة، وصرف لهم عوضها.

_ [1] قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : «إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب فقد لغوت» . (انظر: التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح للإمام الحسين بن المبارك، بيروت 1982، ص 77) .

ذكر العيدين

ذكر العيدين قد تقدم ذكرنا لهيئة السلطان في ركوبه أيام الأعياد وبقى ما لابد من ذكره هنا، وهو أنه إذا ركب من باب قصره بقلعة الجبل، ونزل إلى منفذه من الإصطبل إلى ميدان العبيد الملاصق له، ينزل به في دهليز قد ضرب له على أكمل ما يكون من الأبهة «1» ، فيصلى، ويسمع الخطبة، ثم يركب ويعود إلى الإيوان الكبير المقدم. ذكره، ويمد به السماط، ويخلع على حامل الجتر [1] والسلاح واستاذدار، والجاشنكير «2» ، وكثير من أرباب الذين لهم خدمة في مهم العيد كنواب استاذدار [2] وصغار الجاشنكيرية ونقيب النقباء وناظر البيوت، ومثل هؤلاء. ومن عادة هؤلاء أن يعد له كل عيد خلعه على أنها لملبوسه من نسبة خلع أكابر «3» المئين، فما يلبسها هو ولكن يخص بها من بعض أكابر أمراء المئين، يخلعها عليه. ولصاحب مصر في مثل هذه اليد الطولى حتى بقى بابه سوقا ينفق فيه كل مجلوب، ويحضر إليه الناس من كل قطر حتى كاد هذا ينهك المملكة، ويؤدي «4» بمتحصلاتها عن آخرها، وغالب هذا ربما قدره هذا السلطان، ولقد يتعب من يجيء بعده بكثرة هذا الإحسان.

_ [1] المظلة. [2] المدرع: لابس الدرع، وهي وظيفة من وظائف القصر السلطاني.

ولهذا السلطان عادات جميلة كلها من الخلع في أوقات لعبه بالكرة على أناس جرت لهم عنده عوائد بالخلع في ذلك الوقت كالجوكندار «1» [1] والولاه، ومن يجري مجراهم ممن له خدمة في ذلك عادة مما ينعم به ويطلقه (المخطوط ص 233) وإذا حصل لواحد شيئا مما يصيده في صيوده، خلع عليه، وأما إذا خرج إلى صيد الوحش وصادوا الغزلان والنعام فكل من أحضر له صيدا، خلع عليه قباء مستحبا بما يناسب خلعه مثله للكبير كبير وللصغير صغير كل واحد على قدره. وكذلك البزداريه [2] وحملة الجوارح ومن يجري مجراهم عند كل صيد انعامات ينعم بها عليهم، ولغلمانه في الطاشتخاناه [3] والشرابخانات [4] والفراشخانات [5] ، ومن يجرى مجراهم، عوائد في كل سنة زمان الصيود، كل هذه العوائد «2» جارية لا تنقطع، ولكل من يتصل بخدمة هذا السلطان بمن يرد عليه أو بها جر من مملكة أخرى أنواع الإدرارات والأرزاق والإنعام، وغايات لا يبلغها قرارته في بلاده، ولا يزين بظله. وكذلك التجار الذين يصلون إليه ويبيعون عليه، لهم عليه الرواتب الدائمة من الخبز واللحم والتوابل والحلوى والعليق والمسامحات بنظير كل ما يباع عليه من الرقيق المماليك والجواري مع ما يسامحهم به أيضا من حقوق تطلق أخرى.

_ [1] جوكندار: جوگان دار لفظ فارسي وهو المسئول عن لعبة الجوگان المعروفة بالعربية بالصولجان وهي كرة تقذف بعصاه أثناء ركوب الخيل (انظر جوكندار، فرهنگ عميد 1/760) . [2] البزدارية جمع مفرده بزدار وهي من بازدار أي المسؤول عن الصقر البازي الخاص بالصيد. [3] الطاشتخاناه: هي اللفظ الفارسي طشت خانه أو تشت خانه وهو بيت الطست أو الطس أو الطشت، والطشت إناء مصنوع من معدن (فرهنگ عميد 1/578) . [4] الشرابخانه: بيت الشراب. [5] الفراشخانات جمع مفرده فراشخانه واللفظ فارسي بمعنى بيوت الفراش.

وكل هؤلاء إذا باعوا عليه ولو رأسا واحدا من الرقيق لهم خلع مكملة، لكل واحد بحسبه خارجا من الثمن، وعما ينعم به على بعضهم أو يستقر به من مال السلطان على سبيل القرض، ليتاجر به. فأما جلّابة الخيل من عرب الحجاز والشام والبحرين [1] وبرقة وبلاد العرب «1» فإن لهم من ذلك الحظ الوافر والنصيب الراجح، وربما أعطى عن الفرس نظير ثمنها عشر مرات وأكثر، غير الخلع والرواتب والعلوفات والإنزال ورسوم المقامات خارجة عن تثمين الخيول ومسامحات تكتب لهم بالمقررات عن تجارات يتجرون «2» بها، مما أخذوه من أثمان الخيول. «3» (قلت: وبجنده المملكة جميع قبل الملل، أما القبلة الإسلامية فهو بيت مكة المعظمة، وهو بها كما تقدم، وأما اليهود فقبلتهم البيت المقدس (المخطوط ص 234) وقد كان القبلة الأولى في الملة الإسلامية، وهو بها، وأما الساحرة وهم فرع من اليهود فقبلتهم طور نابلس وهو بها عندهم أنه طور سيناء، وأما النصارى فلا قبلة لهم وتوجههم إلى الشرق لا لقبلة، وجميع معابدهم التي يعظمونها بها مثل قمامة [2] وهي بالقدس، وإليها حجهم، من أقطار الأرض يأتون إليها من البراري والبحار، وبيت لحم [3] به مولد عيسى المسيح عليه

_ [1] البحرين: مدينة البحرين كبيرة حسنة، ذات بساتين وأشجار شديدة الحر، كثيرة الرمان، (رحلة ابن بطوطة 186) اسم جامع لبلاد على ساحل البحرين بالبصرة وعمان من جزيرة العرب، عمان آخرها ومدينتها هجر (مراصد الاطلاع 1/167) والبحرين الآن دولة. [2] يقصد كنيسة القيامة، وهي تذكر دائما عنده وعند ابن بطوطة والبغدادي وغيرهم القمامة. [3] بيت لحم: بلد قرب البيت المقدس، المشهور أن عيسى عليه السلام ولد به (مراصد الاطلاع 1/238) .

السلام وكنيسة صيدنايا [1] ببر دمشق، وكنيسة صور [2] ، ومن ملوكهم من لا يصح تمليكه حتى يصلى عليه فيها، وكنيسة ماري حنا [3] «1» بالاسكندرية وهي معتقد اليعاقبة منهم، وبها بطريرك القبط، وملوك الحبشة [4] لعظم هذا البطريرك، وتشير إليه بالتعظيم، وإذا جاءهم كتابه «2» ، عملوا به، لا خروج لهم عنه، ولا مندوحة لهم عند حكمه، وهو يولى عليهم مطرانا بعد مطران، كلما مات واحد بعث غيره، نائبا له فيهم، وذلك المطران يقوم بالحبشة مقام البطريرك في الأمر والنهي فيهم، وانقيادهم أجمعين إلى طاعته من غير مخالفة له ولا عليه في شيء. حدثني من أثق به أن بعض التجار بمصر جهز مالا له مع مسفر به «3» إلى الحبشة، فمات المسفر «4» وبئس صاحب المال من ماله، وكان مالا كثيرا، فعيل صبره، وشكا إلى السلطنة بمصر حاله، فقيل للبطريرك، فكتب كتابا إلى ملك الحبشة، يأمره بإعادة مال الرجل إليه ثم أن صاحب المال سفر رجلا أعهد عليه فما طال به المكث أتى «5» بجوابه بالامتثال، وأحضر معه جميع المال بعينه أصله

_ [1] صيدنايا: كنيسة صيدنايا بمدينة صيداء، وهي على ساحل البحر (رحلة ابن بطوطة 48) من أعمال دمشق (مراصد الاطلاع 2/859) . [2] صور: بلدة حصينة بالشام، بناؤها عجيب، البحر محيط بها من ثلاث جهاتها (رحلة ابن بطوطة 48) مدينة على بحر الشام (مراصد الاطلاع 2/856) . [3] ماري حنا: كنيسة بالإسكندرية، وهي الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية. [4] الحبشة: هي أثيوبيا الآن.

وربحه. وحكى عن تعظيم الحبشة لكتاب البطريرك أنه منذ دخل حدود بلاده وحدودهم «1» ، وعلموا بالكتاب، تلقاه عمال الأطراف بها ورفعوا الكتاب على رمح وحملوه هو ومحضره ومن حضر معه على أرفه «2» الدواب، ورتبوا له الإنزال والإقامات (المطوط ص 235) يوصله أهل كل عمل إلى الآخر على هذه الصورة حتى انتهى إلى حضرة الملك، فبالغ في إكرامه وإنزاله، وإضافته. فلما كان يوم الأحد أخذ منه الكتاب وقرأه المطران في الكنيسة على الملك، وهو واقف مكشوف الرأس إلى أن فرغ ثم أمر بإحضار المال وتسليمه إليه، ولم يخرج منه مكانه حتى أوصل إليه المال ثم وصله بصلة جيدة، وإفادة مكرمة والإنزال جار عليه من عمل إلى عمل إلى أن خرج من حدوده. قلت: ولهذا جميع ملوك النصرانية الملكية واليعاقبة تهادى صاحب مصر، وتراسله لاحتياجها لتمكين المترددين من عندهم من زيارة قمامة، وبقية مزاراتهم، واليعاقبة أكثر حاجاتهم إليه لمقام بطريركهم عنده، فإنهم لا باب لهم بخلاف الملكية فإن لأولئك الباب [1] وهو بروميه [2] . قلت: والباب هو طاغيتهم العظمى عندهم أن الحلال ما حلل والحرام ما حرم، ولا لأحد عندهم مندوحة أن يتأخر عن أمره أو يتقدم «3» .

_ [1] الباب وهو البابا وهو الرئيس الأعلى للكنيسة الرومانية الكاثوليكية، وأطلق أخيرا على رئيس الكنيسة الأرثوذكسية الضياء (المعجم الوسيط 1/37) . [2] رومية: وهي روما، حيث يوجد الفاتيكان مقر البابا، وهي مدينة رياسة الروم وعلمهم (مراصد الاطلاع 1/642) .

فصل

فصل ومن شيعة هذا السلطان طائفة تعرف بالإسماعيلية [1] مساكنهم «1» في مصياف [2] ، وما معها من قلاع الدعوة «2» على مسافة ما بين حمص وحماة، متصلة بالبحر الرومي إلى جانب طرابلس الشام [3] ، وهؤلاء هم الذين يسمون في بلاد العجم تارة بالباطنية وتارة بالملاحدة، وملخص معتقدهم التناسخ، وهم يسمون «3» أصحاب الدعوة الهادية، وهم شيعة الخلفاء الذين كانوا بمصر وتسموا [4] بالفاطميين [5] ، وكان قد انتهت رئاسة هذه الطائفة إلى راشد الدين سنان، وكان صاحب سماء «4» ، أراهم بها ما أضل به عقولهم من تخيل أشخاص، فمن مات على طاعة أئمتهم في جنات ونعيم، وأشخاص فمن مات على عصيان أئمتهم في النار والجحيم، وهم يعتقدون أن كل من ملك مصر كان مظهرا لهم، فلهذا تتوالاه هذه الطائفة، وترى ائتلاف نفوسها في طاعته لما ينتقل

_ [1] وهم الفداوية، وهم من اتباع الفرقة الصباحية الإسماعيلية وكان السلاطين يستأجرون هؤلاء الفداوية كما فعل سلطان مصر الناصر محمد بن قلاوون. [2] مصياف: حصن حصين مشهور للإسماعيلية بالساحل قرب طرابلس وهي مصياب (مراصد الاطلاع 3/1280) . [3] طرابلس الشام: إحدى قواعد الشام، وبلدانها الفخام، لها الأسواق العجيبة والمسارح الخصيبة، وهي تبعد عن البحر بميلين ويوجد طرابلس القديمة على البحر (انظر: رحلة ابن بطوطة 650، انظر: الضيا مراصد الاطلاع 2/882) . [4] الباطنية سموا بذلك لأنهم يفسرون القرآن الكريم تفسيرا باطنيا، وأن القرآن له ظاهر وباطن. [5] الفاطميون نسبة إلى فاطمة الزهراء، وقد أسسوا دولة في شمال أفريقية أمتدت إلى مصر والشام والحجاز وبغداد وانتهى أمرها سنة 557 هـ على يد صلاح الدين الأيوبي (انظر: روضة الصفا 219- 233، حركات الغلو والتطرف في الإسلام للمحقق 55 وما بعدها) .

إليه من النعيم الأكبر. ولصاحب مصر بتشيع هؤلاء مزية يخافه بها أعداؤه لأنه يرسل من هؤلاء إليه من يقتله، ولا يبالي أن يقتل معه، ومن بعثه صاحب مصر إلى عدو له ليقتله فجبن قتله أهله إذا عاد، وإن هرب اتبعوه وقتلوه. ولقد سألت المقدم عليهم والمشار إليه فيهم وهو مبارك بن علوان عن معتقدهم، وجاذبته في هذا الحديث مرات، فظهر لي أن هذه الطائفة ترى أن الأرواح مسجونة في هذه الأجسام المكلفة بطاعة الإمام المظهر على زعمهم، فإذا انتقلت على الطاعة كانت قد تخلصت وانتقلت للأنوار العلوية، وإن انتقلت على العصيان هوت في الظلمات السفلية وعقيدتهم أن عليا رضي الله عنه، كان المظهر ثم الانتقال منه، وليس هذا بمكان التطويل فيه «1» . «2» وأكابر المدن المشورة بهذه المملكة قاعدة الملك الكبرى وهي القاهرة، وقد تقدم القول على أنها هي والقلعة والفسطاط ثلاث مدن صارت مدينة واحدة، وقوص والاسكندرية ودمياط، ودمشق وهي قاعدة الملك الثانية ثم بعلبك [1] ثم حمص «3» ثم حماه ثم حلب ثم طرابلس ثم صفد والقدس والكرك [2] وغزة [3]

_ [1] بعلبك: مدينة بينها وبين دمشق ثلاثة أيام، بها أبنية عجيبة وآثار عظيمة (مراصد الاطلاع 1/208) . [2] الكرك: قلعة حصينة جدا في طرف الشام من نواحي البلقاء، وهي على جبل عال (مراصد الاطلاع 3/1159) . [3] غزة: مدينة في أقصى الشام من ناحية مصر، فيها مات هاشم جد النبي (صلى الله عليه وسلم) (مراصد الاطلاع 1/993) .

وتقدم القول على قلة والمدينة المعظمتين، وكيف دخولهما في المملكة على ما بيننا هناك. أما قلعة الجبل فهي على نشز عال يسمى الجبل الأحمر من تقاطيع جبل المقطم «1» بناها قراقوش للملك الناصر صلاح الدين أبي المظفر يوسف بن أيوب رحمه الله، ولم يسكنها حتى ملك أخوه العادل أبو بكر فسكنها، وهي مبنية على ذلك النشز، ترتفع في موضع منه وتنخفض في آخر، يدور بها سور حجر بأبراج وبدنات إلى أن ينتهى إلى القصر الأبلق الناصري المستجد بناؤه، ثم من هناك تتصل بدور الملك، ليست على أوضاع أبراج القلاع، يدخل إلى القلعة من بابين أحدهما؛ (المخطوط ص 237) بابها الأعظم مواجه القاهرة، والثاني ينفذ إلى القرافة، وبينهما ساحة فسيحة في جانبيها قبلة بشرق، وشمالا بغرب بيوت وبالقبلى سوق للمأكل، وينتهى من صدر الساحة إلى دركاه [1] جليلة يجلس بها «2» الأمراء حتى يؤذن لهم بالدخول «3» ، وفي وسطها باب القلعة يدخل منه في دهاليز فسيحة إلى ديار وبيوت ومساكن وإلى المسجد الجامع، وقد كان لا مسجد لضيق بنائه، فبناه هذا السلطان بناء متسع الأرجاء، متسع البناء، مفروش الأرض بالرخام، مبطن السقوف بالذهب، وفي وسطه قبة علية تليها المقصورة مستورة هي والرواقات بالشبابيك الحديد المحكمة الصنعة، ويحف صحنه رواقات من جهاته، ويمشي من دهليز باب القلة المقدم ذكره «4» في مدخل أبواب إلى رحبة فسيحة في صدرها الإيوان الكبير، المعد لجلوس أيام المواكب، وإقامة

_ [1] هي درگاه وتعني البلاط كلمة بهلوية) Dargah فرهنگ عميد 1/936) .

دار العدل، وبجانب الرحبة ديار جليلة، وفي محنته ممر إلى باب القصر الأبلق تليه رحبة صغيرة، يجلس هناك خواص الأمراء قبل دخولهم إلى الخدمة الدائمة، ويمشى من باب القصر في دهاليز إلى قصر عظيم البناء شاهق في الهواء بإيوانيين أعظمهما الشمالي يطل منه على الاصطبلات السلطانية ويمتد النظر إلى سوق الخيل والقاهرة وحواضرها إلى بحر النيل وما يليها من بلاد الجيزة وقراها. وفي الإيوان الثاني القبلي باب خاص لخروج السلطان وخواصه منه إلى الإيوان الكبير في أيام المواكب، ويدخل من هذا القصر إلى ثلثه قصور جوانية منها واحد مسامت الأرض هذا القصر الكبير، واثنان مرفوعان يصعد إليهما بدرج في جميعها شبابيك حديد تخترق إلى مثل منظر القصر الكبير، وفي هذه القصور مجاري الماء مرفوعا من النيل بدواليب تديرها الأبقار من مقره إلى أخرى حتى ينتهي إلى القلعة ثم يدخل إلى القصور (المخطوط ص 238) السلطانية ودور أكابر الأمراء الخواص المجاورين للسلطان يجرى في دورهم، وتدور به حماماتهم وهو من عجائب الأعمال لرفعته مما يقارب خمسمائة ذراع من مكان إلى مكان، ويدخل من القصور الجوانية إلى حرم الحريم وأبواب الستور السلطانية. وهذه القصور جميعها من ظاهرها بالحجر الأسود والأصفر، مؤزرة من داخلها بالرخام والفص المذهب والمشجر بالصدف والمعجون والطرقات «1» وأنواع الملونات والسقوف المبطنة بالذهب واللازورد يخرق الضوء في جدرانها بطاقات من الزجاج القبرسي الملون كقطع الجوهر المؤلفة في العقود، وجميع الأرض بها مفروشة بالرخام المنقول إليها من أقطار الأرض مما لا يوجد مثله، فأما الأدر السلطانية فعلى ما صح عندي خبرة ذوات بساتين وأشجار وساحات للحيوانات البديعة والأبقار والأغنام والطيور والدواجن «2» وباقي داخلها يعني

القلعة للمالك السلطانية وخواص الأمراء بنسائهم وحرمهم ومماليكهم ودواوينهم وطشت خاناتهم وفراش خاناتهم وشراب خاناتهم ومطابخهم ووظائفهم. والقلعة بها مساكن لأكابر الأمراء ومن كبر من الطبلخانات والعشرات، ومن خرج عن حكم الخاجكيه إلى طبقة البرانيين، ودار الوزارة ودار كاتب السر وديوان الإنشاء وديوان الجيوش وديوان الأموال والنقباء والزردخاناه والحبوس «1» والأسرى وما يجري في هذا المجرى، مقسمة المساكن، فيها المساجد والحوانيت والأسواق في جهاتها، هذه جملة العمارة. ثم نذكر بقية ما يتعلق بالقصر السلطانية فنقول: أنه ينزل منه في جانب إيوان القصر إلى الإصطبلات السلطانية ثم إلى ميدان ممرج بالنجيل الأخضر فاصل بين الاصطبلات وبين سوق الخيل، في غربيه، فسيح المدى يسافر النظر في أرجائه، يركب السلطان من درج يلي قصره الجواني (المخطوط ص 239) وينزل إلى الاصطبل الخاص ثم إليه راكبا وخواص الأمراء في خدمته لعرض الخيول في أوقات طعم الطير، وربما وقف به راكبا، وربما نزل فيه، ولم ينصب عليه خيام وربما نصب عليه الخيام إذا طال مكثه، وكان زمان حر أو برد، وربما مد به السماط ثم يطلع راكبا إلى قصره. وبهذا الميدان أنواع من الوحش المستحسن النظر، وتربى [1] به خواص الخيول للتفسح، وفي هذا الميدان يصلى السلطان وخواصه ومن لا يقدر يفارقه من ذوي الخدم، صلاة العيدين، ونزوله إليه وطلوعه، منه من باب خاص من دهليز القصر غير هذا المعتاد النزول منه لما قدمنا ذكره، وللسلطان عدة أبواب سر إلى القرافة وإلى غيرها، لا حاجة لنا إلى ذكرها.

_ [1] وردت بالمخطوط تربا.

قلت: هذه القصور والأيوان الكبير، والميدان الأخضر، والجامع، وغالب العمائر الضخمة بالقلة، والقلعة عمارة هذا السلطان، وبناؤه مطرزة الطرز فيها بألقابه واسمه، ترد الطرف كليلا بأنوارها، وترف القلوب على ما تفتح من نقوش نوارها، تقر الملوك بها، لعلو هممه وسعة إنفاقه وكرمه، تقف عليها الأبصار ويعرف من رآها أنه هان عليه العدو والدينار «1» .

الباب السادس

القاهرة

القاهرة مدينة عظيمة مبنية في وطأة نائية عن ذروة الجبل، أرضها سباخ، ولأجل هذا يعجل إلى مبانيها الفساد. والفسطاط [1] المسمى الآن على ألسنة العامة بمصر [2] مدينة مبنية على ضفة النيل الشرقية، وقد بنى قبالتها في الجزيرة المبنى بها المقايس، أبنية كثيرة، صارت كأنها فرقة من مصر، ومجرى النيل بينهما لمنظره بينهما عند امتداد ضوء القمر، أو إيقاد السرج بالليل، منظر يجذب القلوب وكل من مصر والقاهرة وحواضرها الممتدة ذات رباع عليه مبلغ بعضها أربع طبقات، في كل طبقة مساكن كاملة بمنافعها ومترفقها، وسطح مقتطع لها من الأعلى بهندسة محكمة وصناعة (المخطوط ص 240) عجيبة مع كوّن البيوت بعضها تحت «1» بعض، لا يرى مثل صناع مصر في هذا الباب، وفي كل من هاتين المدينتين وحواضرهما، القصور الشاهقة والديار العظيمة والمنازل الرحيبة، والأسواق الممتدة، والمدارس والخوانق، والربط والزوايا، والجميع على اتساع رقعة البناء، وفسحة الشوارع مزدحمة بالخلق سكنا وممشى «2» ، قد حشرت إليها الأمم، واختلفت إليها «3» أنواع الطوائف. وقال لي غير واحد ممن رأى المدن الكبار، والخطط العظام في مشارق الأرض

_ [1] الفسطاط: مدينة عمرو بن العاص التي بناها بعد فتحه لمصر (انظر: مراصد الاطلاع 3/1036) . [2] مصر: سميت بمصر نسبة إلى مصر بن مصرايم بن حام ابن نوح (مراصد الاطلاع 3/1278) والمقصود هنا مصر القديمة أو العتيقة.

ومغاربها، وبعيدها ومتقاربها: أنه ما رأى مدينة اجتمع فيها من الناس ما اجتمع في مصر والقاهرة وحواضرهما قال لي الصدر مجد الدين «1» اسماعيل السلامي، وقد سألته عن بغداد وتوريز، وهل يجمعان مثل مصر؛ فقال: في مصر خلق قدر كل من هو في جميع البلاد منها إلى توريز وغالب من فيها من العوام والباعة وأهل المهن والصنائع. كما قال القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني رحمه الله: أهل «2» مصر على كثرة عددهم، وما ينسب من وفور المال إلى بلدهم، مساكين يعملون في البحر، ومجاهيد يدانون في البر «3» ، وأحمله على أنه قصد السجعة، إذ كل بلد فيها مجاهيد في أعمالهم، وما زال هذا في خاطري لا زيادة عندي عليه إلى أن أقمت بمصر، وسافرت في صحبة السلطان، غالب بلادها فرأيت خلقا ممن عليهم أرض مسجلة، قد ركب «4» المنخفص فيها، ولم يركب العالي وهم وقوف كل اثنين على مستنقع ماء، وبأيديهما قفة بخيط في أذنيها، وهما يترفان الماء بها، ضربا باليد إلى ورائهما من نقرة محفورة، يجتمع ما ينزح منها، ثم يصرف في مجاري إلى تلك الأعالي، ثم التي لم يركبها الماء ليسقوها [1] ، وهم من هذا في جهد جهيد، وأمر شديد، فعلمت أن هؤلاء الذين أراد القاضي الفاضل رحمه الله مجاهيد يعملون في البر، فإنه ليس في البلاد أشد جهدا منهم وأنهم (المخطوط ص 241) ملزمون بدرهم معين، وأردب معين، فإن لم يعملوا هذا

_ [1] المقصود به الشادوف.

أضنهم الطلب، ولم يجدوا جهة الوفاء. وأما بر الديار المصرية فإنه «1» ريف ممتد بين حاجزين «2» ، وأعقبه رمل مفصل بالقرى، وهي مبنية بالطوب، سود الظواهر يحف بها نخل، وتقل في بعض وتكثر في الأخرى «3» ، كلها على أنموذج واحد، من رأى واحدة [1] منها فكأنما رآها كلها. وقوص [2] مدينة على شرقي النيل في أعلى الصعيد، واقعة في الثاني ذات ديار جليلة وفنادق ورباع وحمامات ومدارس، يسكنها جلة من التجار والعلماء وذوي الأموال، وهي أول محط ركاب تجار الهند والحبشة واليمن والحجاز، الواصلون في البحر المالح «4» من صحراء عيزاب [3] ، وبها المكاسب ولها البساتين والحدائق ومنابت البقول والخضروات، لكنها شديدة الحر كثيرة العقارب والسام أبرص، وبها صنف من العقارب القتالات حتى أنه يقال فيها عن الملسوع أكلته العقرب، لأنه لا يرجى له إقامة. قال لي عز الدين حسن بن أبي المجد الصفدي أحد العدول بالقاهرة: أنه عد في يوم صيف على حائط الجامع سبعين سام أبرص على صف واحد، والمستفاد

_ [1] وردت واحد أ 241. [2] قوص ذكرها ابن بطوطة المعاصر لابن فضل الله إنها مدينة عظيمة، لها خيرات عميمة، بساتينها مورقة وأسواقها مونقة، وهي منزل ولاه الصعيد (رحلة ابن بطوطة 41- 42) . [3] عيزاب بها مدينة عيزاب، وهي كبيرة كثيرة الحون واللبن وأهلها البجاة وهم سود الألوان (رحلة ابن بطوطة 42) . بليدة على ساحل بحر القلزم وهي مرسى المراكب التي تقدم من عدن إلى الصعيد (مراصد الاطلاع 2/974) .

أن أهل قوص إذا تمشى أحد منهم في مكان أو خرج إلى بيته أو منه يأخذ بيده الواحدة مسرجة وفي الأرض مشك يشك به العقارب. وفي الصعيد بقايا سحر قديم يحكى عنه أشياء، أصح ما سمعت منها ما حكى لي من أثق به عن طغصبا والي قوص؛ قال: أمسكت امرأة ساحرة فقلت لها: أريد أن «1» أبصر شيئا من سحرك؟ فقالت: أجوّد عملي أني أسحر العقرب. فقلت لها تسحري العقرب؟ قالت أسحره على اسم شخص مخصوص فلا تزال ذلك العقرب «2» تتبع ذلك الشخص حتى يلسعه «3» فيقتله. فقلت: أريني هذا وأسحري العقرب على اسمي، فأخذت عقربا وسحرته وأرسلته «4» فبقيت كلما انحنى عنه وهو يتبعني، فجلست على تحت منصوب في بركة ماء، فجاءت العقرب إلى البركة وصارت (المخطوط ص 242) تحاول طلوعها إليّ ولا تقدر على اقتحام الماء فذهبت إلى الجدار فصعدت فيه وأنا أنظرها حتى ترقب إلى السقف وجاءت إلى ساحة مكاني ثم رمت بنفسها إلى أن نزلت إلى الأرض وقصدت مكاني، فضربتها بعصى في يدي فقتلتها ثم أمسكت تلك الساحرة فقتلتها لما رأيت من سحرها العظيم. ويحكى كثير من هذا، ليس هذا موضع ذكره، ثم من قوص إلى أسوان ومن أسوان المؤجل إلى بلاد النوبة [1] ومن أسوان شعبة إلى الصحراء إلى عيزاب على ساحل البحر، يجاز منه على جده ميناء مكة المعظمة «5» ومن هذا البحر مسالك

_ [1] النوبة: بلاد واسعة عريضة في جنوب مصر، أول بلادهم بعد أسوان (مراصد الاطلاع 3/1394) .

للتجار إلى عدن، ثم إلى ما أرادوا من الهند واليمن والحبشة ولم نذكر قوص دون ما سواها من الصعيد إلا لأنها هي مدينتها الحاضرة وبها يحط مصعدا ومنحدرا زمر الرفاق المسافرة.

الاسكندرية

الاسكندرية والاسكندرية [1] مدينة قديمة جليلة عظيمة وكانت في القديم أكبر مما هي الآن وأعظم في كثرة الأهل والبنيان، بناها الاسكندر ذو القرنين على شاطىء البحر الرومي، وكان بها على ما يقال سرير ملكه ومستقر أمة وجميع بنايتها بالحجر والكلس، مبيضة البيوت باطنا وظاهرا، كأنها الحمامة البيضاء، ذات شوارع مشرعة الأرجاء «1» ، كل خط بذاته كأنها رقعة الشطرنج، يستدير بها أسوار ممنعة، وبروج محصنة، عليها الستائر المسترة، والمجانيق المنصوبة، وبها عسكر مستخدم لحفظها، وليس بالديار المصرية مدينة حاكمها مرسوم بنيابة السلطنة سوى الإسكندرية [2] . لا يزال أهلها على يقظة من أمور البحر، ومخالسة العدو، وبها الديار الجليلة، والجوامع والمساجد، والربط والخوانق، والمشاهد [3] والفنادق، والرباع والأسواق الممتدة، ومعامل البز والقماش والطرز الفائق المثل، إليها تهوى ركاب التجار برا وبحرا من كل فج عميق ومكان سحيق، وليس في الدنيا نظير شربها، وطرازها المعمول بها والمحمول إلى أقطار الأرض شرقا وغربا، منها من الحفير المنسوج بالذهب والفضة (المخطوط ص 243) . والمقصب بالقصب، وطرد الوحش المنوع، والجر والمنقوش، والمنزج والمدفون والديبقى والمساذج، والمفرح والمقاطع، والممرش والشرب الخام والمقصور وبدلات المقانع وأنواع المقصبات

_ [1] هناك أكثر من مدينة باسم الإسكندرية، والإسكندرية العظمى ببلاد مصر (مراصد الاطلاع 1/76) . [2] حاكمها في ذلك الوقت هو زكريا أبو يحيى بن أحمد بن أبي حفص المعروف باللحياني. [3] يقصد بها قبور الألياء مثل أبي العباس المرسي، لأن المشاهد معروفة عند الشيعة وتعرف بها قبور أئمتهم.

والملون بالذهب والفضة والملاءات [1] والغوط من كل ما لا شبيه لرقمه ولا نظير لحسنه، يباع في «1» كل يوم فيها بآلاف مؤلفة من الذهب الأحمر، ولا ينفذ متاعها، ولا يقل موجودها وبالاسكندرية معاملة الدرهم السّواد حقيقة مقصورا عليها لا يخرج من سواها ولا يتعدى حاضرة أسوارها، وهو فيها كل درهمين سوداوين بدرهم واحد من نقد الدرهم المصري، يوجد بها الدراهم السود حقيقة اسم على مسمى. وأما من بقية الديار المصرية فكما قدمنا يوجد اسما لا مسمى كل ثلاثة دراهم سودا بدرهم واحد من الدراهم المصرية. والاسكندرية هي فرصة الغرب والأندلس وجزائر الفرنج وبلاد الروم وإليها ترد سوافنها، وتجلب بضائعها، ومنها تخرج أغراضها. فأما دمياط فهي وإن كانت وسيلتها في هذا الباب، فإنه لا تشبه لها إلى الاسكندرية، وسيأتي ذكرها، والاسكندرية لها بحر خليج من النيل تصل فيه المراكب من مصر إليها، ومنها إلى مصر، وفي أوان زيادة النيل يمتلئ هذا الخليج «2» ، ويمد إلى صهاريج «داخل» المدينة معدة لإختزان الماء بها لشرب أهلها، نافذة من بعض الدور إلى بعض يمكن النازل «3» إلى صهريج منها الصعود من أي دار اختار، وتحت الصهاريج الآبار النبع بالماء المملوح، فهي طبقات ثلاثة، طبقة الآبار عليها طبقة الصهاريج عليها طبقة البناء ولا يعتني أهل الاسكندرية ببناء الطبقات على أعالي أبنيتهم لقوة الأمطار بها، وتجويف قرارها. وعلى الاسكندرية البساتين الأنيقة والغيطان الفساح وفيها لجلة أهلها القصور الناهدة والجواسق الشاهقة، محصنة جميعها بأحكام البناء، وعلو الجدر

_ [1] وردت الملآت.

خشية من طرّاق الفرنج ودعّار العرب. وبها من الفواكه المنتجة الثمار وهي تفوق (المخطوط 244) مصر بحسن ثمراتها، ورخص الفواكه بها، وليس للاسكندرية من ازدراع القمح والشعير والحبوب إلا ما قل، وغالب أقواتها محمول من أرياف مصر «1» . «2» تنبيه: قد ذكرنا فيما تقدم أن الاسكندر هو الذي بنى الاسكندرية وذلك صحيح بمعنى أنه جددها وجدد بنائها، وأما سبب بنائها القديم فقد ذكره التيفاشي في كتاب سرور النفس بمدارس الحواس الخمس. قال: ذكر أحمد بن مطرف [1] في كتاب الترتيب أن الذي بنى الاسكندرية أول أمرها جبير المؤتفكى، وأن الذي دعاه إلى بنائها أنه غزا بعض النساء اللواتي ملكن مصر، وكان اسمها حوريا بنت البرت، وأنه لما طال بينهما الحرب، انفذت إليه، نقول: أني قد رغبت في أن تتزوجني فيصير ملكنا واحدا، ودارنا واحدة، وأصير أنا ومملكتي لك، وذلك خير لك من أن تقيم على الحرب، فينفذ مالك، وتفنى رجالك، فإن ظفرت بي لم يحصل لك طائل، لأن الهزائم تذهب الأموال وتمحقها وإن أنت خذلت ذهبت وذهب جميع مالك، فأعجبه جميع مقالها وأجابها وعقد النكاح على ما كانوا يعتقدونه، والتمس الدخول بها، فقالت: إنه يفتح بي وبك أن نجتمع في غير مدينة تبنيها لهذا الأمر في أحسن موضع، وأجل مكان بحيث لم يكن فيه بناء قط غير ما تبنيه، وإنما كان ذلك منها مكرا به لتنقذ أمواله وتبلغ منه ما تريد في لطف وموادعه، فأجابها وأنفذ المهندسين

_ [1] أحمد بن مطرف بن إسحاق اللغوي القاضي أبو الفتح المصري المتوفى سنة 413 هـ، له عدة مؤلفات أهمها كتاب اللغة كبير (هدية العارفين لإسماعيل باشا البغدادي 1/72) .

إليها، وخيرها المواضع، فاختارت موضع الاسكندرية، وقسمت المدينة وصورها المهندسون، ثم عرفته ذلك، فأجاب إلى كل ما طلبت، وسار بجيشه فنزل على ذلك الموضع، وشرع في البناء، فكان كلما بنى بناء خرجت دواب البحر وعبثت به، وهدمته، فأقام زمانا، ونفذت الأموال، وضاق ذرعا فوفق له أن دل على بعض السحرة، فأحضره وشكا إليه ذلك الأمر، فوضع له طلسمات، وجعلها في آنية زجاج كالتوابيت فكانت في الماء حذاء (المخطوط 245) الأبنية، فإذا جاءت دواب البحر فرأت الطلسمات والتوابيت نفرت فثبت البناء، وبنيت المدينة، وتمت بعد زمان طويل، ثم راسلها في المسير، فسارت بجميع قللها وعساكرها حتى نزلت حذاء، عسكره، وراسلته أنى قد أحببت أنى أحمل عنك مؤنة الإنفاق على العسكريين في أطعمة تصلح وأشربة، وقد أعددت لوجود الأمراء والقواد خلعا وتحفا حملا عنك لكرمك في بناء المدينة، فأحب أن تجيبني إلى ذلك، فأجابها، وأمرت بذلك، فعمل وأنفذت إليه: أنا أحب أن أراك وأرى سائر عسكرك في الميدان يلعبون ضروب اللعب، ويكون متصرفكم بعد ذلك إليّ لحضور الطعام والخلع، فأجابها، وتقدم بركوب الجيش وحمل السلاح واللعب، فلما فعل واشتد عرق القوم، انصرفوا إليها جميعا، فتلقاهم أصحابها بالخلع المسمومة؛ فلبسها وجوه العسكر، ولبس الملك جبير خلعته، وكانت أقل سما من غيرها إبقاء عليه لتبقى فيه بقية لخطأ بها، فما أقاموا إلا ساعة بالخلع حتى طفئوا وماتوا: ورأى ذلك بقية العسكر، فعلموا موضع الحيلة، فبادروا مستأمنين فنودى فيهم بالأمان، وبقى الملك بقية من الحياة، فأمرت أنه يحمل إليها فلما رأته في السياق قالت له: إن ملكا أنفق ماله وأفنى زمانه، ونزل ملكه، وجاء شهوة لا يدري أينالها، ولملك سخيف، وكان آخر كلامها بخروج روحه، فمات، ودخلت هي المدينة، وأقامت بها زمانا، وعادت إلى مصر.

ثم ملك الاسكندر فزاد في بنائها، وأطال في منارتها [1] وجعل فيها مرآة كان يرى منها مراكب العدو عن بعد، فإذا صارت بإزائها، وصدمها شعاعها أحرقها كما تحرق المهاة في الشمس ما قابلها من الخرق، وإن لم تتصل بها، فسميت الاسكندرية من حينئذ، وكان اسمها قبل ذلك وقوده، وبذلك يعرفها القبط في كتبهم القديمة. وأقامت المرآة على ذلك زمانا، وشق ذلك على الروم، فاحتال حكيم من حكمائهم بأن وافق متملكهم على أن يبعث أموالا مع أصحاب له، فيدفنونها في مواضع متفرقة (المخطوط 246) من ثغور الإسلام، ثم عادوا بعد دفنها فصنع كتاب مطالب ذكر فيه المواضع وختمه بأن تحت المرآة التي في منارة الاسكندرية كنزا لا يحصى ما فيه من الأموال، وعتق ذلك الكتاب، ودفعه إلى إنسان ذكي، وأمر أن يسير به إلى بلد بلد، وأن يكون قصده إلى السلطان، كل بلد فيعرفه ما في ذلك البلد، ويخرجه، ويأخذ منه جزءا [2] يسيرا واتصلت الأخبار إلى سائر الثغور بذلك، فكان سلطان كل بلد ينفذ إليه من يتسلمه بعد أن يحضر أخراجه الكنز في البلد الذي هو فيه، فلم يزل إلى أن وصل إلى الاسكندرية، فقال لملكها ما قال في المرآة، وقال له: إذا قلعتها وأخذت الكنز أنا أردها إلى أفضل ما هي عليه الآن، فأجابه، وقلعت المرآة وشرع في هدم ما تحتها وانسل الإنسان ونزل ونزل تلك الأموال التي أخذها من الكنوز المتقدمة ليطمسوا ولا يجدوا في طلبه، وفاتهم، وحفروا فلم يجدوا شيئا، فعلموا أن ذلك كله كان حيلة على قلع المرآة، ولم يقدروا على ردها لأن واضعيها كانوا حكماء قد نصبوها بطالع مختار، واختلف الناس في هذا القول فمنهم من ذكره، ومنهم من ذكر غيره.

_ [1] منارة الإسكندرية المشهورة إحدى عجائب الدنيا السبع كانت خرائبها لا تزال موجودة حتى عصر المؤلف والآن لم يصبح لها وجود. [2] وردت بالمخطوط جزاء.

قال: غير أني قرأت في بعض كتب التواريخ أن أعاجيب الدنيا أربعة فرس من نحاس بأقصى غرب الأندلس لا يتجاوزه أحد إلا ابتلعه الرمل، وشجرة من نحاس بروميه عليها صورة طائر من نحاس وهو الذي يسمى الزرزور، إذا كان أوان نضج الزيتون، فلا يبقى طائر من جنسه، وهو الطائر المعروف إلا أتى حاملا زيتونة في منقاره وزيتونتين في رجليه، فيلقيه عند الطائر النحاس المذكور، فيعصر أهل رومية من ذلك ما يكفي أدمهم، وسرج عامهم ذلك لأن روميه ليس بها زيتون، ومنارة من نحاس عليها راكب من نحاس بأرض عاد إذا كان في الأشهر الحرم، جرى منها الماء، ولا يجرى من غيرها، ومرآة بمنارة الاسكندرية ترى بها القطائع الحربية إذا تجهزت من القسطنطينية العظمى، فيرى أهل الاسكندرية أهل (المخطوط 247) القسطنطينية، وبينهما عرض البحر. قال: وأما مساحة المنارة فهي ثلاثة طبقات، ومساحتها على ما ذكره بعض المحصلين مائتا ذراع وثلاث وثلاثون ذراعا، فالطبقة الأولى مربعة وهي مائة ذراع وإحدى وعشرون ذراعا، والطبقة الثانية مثمنة وهي إحدى وثمانون ذراعا ونصف ذراع، والطبقة الثالثة مستديرة وهي ثلاثون ذراعا ونصف ذراع «1» [1] . قلت: وأما ما حكاه «2» عن منارة اسكندرية «3» ، فقد أصبحت كلها أثرا بعد عين، سقطت أعلامها، ومحيت آثارها، ولم يبق من المنارة، إلا دون العشرين [2] ذراعا، وأمر السلطان لها بالبناء، ولم يصرف إليها وجه الاعتناء وليس الناطور الآن إلا في منارة استحدثت على كوم عال داخل السور يعرف بكوم معلى لا له أساس ثابت ولا جدار معلى [3] .

_ [1] انظر: وصف المنارة عند ابن بطوطة المصادر للمؤلف ص 22. [2] وردت بالمخطوط العشرون. [3] وردت بالمخطوط معلا.

وأما عمود الصواري [1] فباق على حاله والطلل باق على هائل «1» ولا طائل، وهو من الاسكندرية على مسافة ونصف يوم من غربها البر الأقفر المتصل ببرقه إلى الغرب الأقصى. والرطل الاسكندري يسمى الجروي وهو رطلان وأوقيتان بالمصري، وأراد بها ثمان ويبات بأردب وثلث بالمصري، وأسعارها أقرب إلى الرخاء، ولولا التهجير زادت رخاؤها، وعظمت أجلابها.

_ [1] عمود الصواري هو عمود السواري وهو عمود من رخام هائل وهو متوسط في غابة نخل، وهو قطعة واحدة محكمة النحت، أقيم على قواعد حجارة مربعة، لا يعرف كيفية وضعه عليها (رحلة ابن بطوطة 22) .

دمياط

دمياط ودمياط مدينة على ضفة البحر، عند مصب أحد فرقي النيل، بناؤها الآن غير موثق، يطوف بها جسر، يباري «1» النيل إلى مصبه، وهي موضع غرة للعدو من قبل البحر، وقد علقت بها جمة الكفر «2» زمانا طويلا حتى نصر الله عليهم في أخريات الدولة الأيوبية [1] . حدثني من رأى دمياط أنها مدينة لطيفة فيها مدرسة واحدة وأسواق ليست بالكثيرة، ومنها الإفضاء إلى بحيرة تنيس المذكورة في القديم بحسن الأوضاع، وجودة القماش والمتاع، وإنما هي الآن جون من البحر المالح كالجون «3» . وبدمياط وما يليها شجر الموز الكثير، ومنه مدد مصر والقاهرة وبلادهما. «4» فائدة: قال (المخطوط ص 248) التيفاشي في سرور النفس: يقال أن تنيس [2] ودمياط والفرما [3] ثلاثة أخوة ملكوا هذه المدن الثلاثة، وسمى كل واحد منهم مدينته باسم نفسه، وكانت تنيس يقال لها تنيس الإخصاص، ويقال أن المسيح عليه السلام دخلها، فأكرمه أهلها، فدعا أن يبارك الله لأهلها فيها، وأن يأتيها الرزق في كل مكان، لما رآها وسط بحيرة، ولم يدخل دمياط. وأما الجفار [4] فهي خمس مدن الفرما والبقارة والورادة

_ [1] يقصد هجوم لويس التاسع على دمياط آخريات الدولة الأيوبية. [2] تنيس: جزيرة في بحر مصر، قريبة من البر بين الفرما ودمياط (مراصد الاطلاع 1/279) . [3] الفرما: مدينة على الساحل من ناحية مصر أو حصن لطيف فاسد الهواء، شرق تنيس (مراصد الاطلاع 3/1031) . [4] الجفار: أرض مسيرة سبعة أيام بين فلسطين ومصر (مراصد الاطلاع 1/337) .

والعريش [1] ورفح [2] والجفار، كله رمل وإنما سمى جفارا لشدة المشي فيه على الناس والدواب، لكثرة رمله وبعد مراحله، والجفار تحفر فيه الأبل وغيرها فتهلك، فاتخذ له هذا الاسم كما قيل للحبل، الذي لهجر به البعير هجار، والذي يحجر به حجار والذي تعقل به عقال، والذي تبطن به بطان، وكذلك خطام وزمام ونحوه. والبقارة من البقر، والواردة من الورود والعريش أخذ من العرش ويذكر أنه نهاية التخوم من الشام وأن إليه كان ينتهي رعاة إبراهيم الخليل عليه السلام بمواشيه، وأنه اتخذ به عريشا كان يجلس فيه، ومواشيه تحلب بين يديه، فسمى بذلك، ورفح اسم رجل نسب إليه المكان «1» . قلت: هذه جملة الكلام في مدن الديار المصرية الشهيرة وأما برها فيأخذ بخناقة جيلان، تضيقا «2» في أوله بأعلى الصعيد ثم يأخذ في التقليص [3] إلى الجزيرة، فانفرجا واتسع «3» مدى ما بينهما حتى انقطع بالبحر الرومي إلى آخر الأعمال، فأوسعه مدى نحو يومين وأضيفه نحو ساعة (نحو يومين نحو ساعة) ، [4] وغالبه نحو ساعتين وما بين ذلك، وهذا هو عرض الديار المصرية حقيقة «4» إلا أن نظرت إلى قفار موحشة تهاب الجن سلوكها، ويخاف الظلام اقتحامها على أن مدى العرض الذي ذكرناه عطل الجانبين عن الحرث والنسل «5» والزرع والغروس،

_ [1] العريش: مدينة كانت أول عمل مصر من ناحية الشام على بحر الروم (مراصد الاطلاع 2/935) . [2] رفح: منزل في طريق مصر (مراصد الاطلاع 2/623) وهي مدينة على الحدود المصرية الفلسطينية. [3] وردت بالمخطوط التقليس أ 248 ب 158. [4] زائدة في نسخة أ 248.

خال من الأنيس الإسار في سبيل أوصال عن طريق، والعامر الآهل من هذا المدى ثلاثة والثلث كثير، لكن ذو ربع رابع، (المخطوط ص 249) ومتحصل كثير. وبمصر من أنواع الثعابين والأفاعي والحيات والعقارب والفأر وسائر الحشرات لولا ما يهلكه النيل الفائض على البلاد في كل سنة، وما يفر من النيل فيقف أهل البلاد له على الطرق بأيديهم العمد والعصى لقتل ما يهاجمهم منها، لما سكنت مصر ولا تأهلت لها ديار، ولا استقر بها لأحد قرار. وأما زمان ربيعها وما يبقيه من المقطعات نيلها وما يوشى حللها من نوار البرسيم والكتان، ويحشر في أرضها من الطير على اختلاف ذوات الجناح، فلا يملأ عينيك وسامة وحسنا، ويروقك صورة ومعنى، كأن بناءها زمردة خضراء، ومقطعاتها فيروزجه زرقاء ونوارها لكل فرط منه لؤلؤة بيضاء، عليها للطيور ظلل من الغمام، قد نصبت على فرشها «1» الاستبرق خيام، ولما رأيت منظرها البديع في زمان الربيع، وبين أكنافها المخضرة قرارا بناء كأنها النجوم في السماء: قلت: «لمصر فضل باهر لعيشها الرغد النضر» «في سفح روض «2» يلتقى ماء الحياة والخضر» ونحن نقول: إن الديار المصرية وجهان؛ قبلي وبحري، جملتها خمس عشرة [1] ولاية، فالوجه القبلي أكبرهما، وهي تسعة أعمال وهي عمل قوص، وقوص شرقي النيل «3» ، وهو أجلها، ومنه أسوان، وعرب قموله، وأسوان نهاية حد المملكة من الجنوب، وعمل آخميم وهو شرقي النيل أيضا، وعمل

_ [1] وردت بالمخطوط خمسة عشر أ 248 ب 159.

سيوط [1] ، وعمل منفلوط [2] ، وعمل الأشمونيين، وبها الطحاوية «1» ، وعمل البهنسا [3] ، (وعمل العراني وهي عبارة عن غربي المنهى المؤدي [4] إلى الفيوم) «2» ، وعمل الفيوم، وهو منقطع، وعمل أطفيج [5] وهو شرقي النيل، وعمل الجيزة، والوجه البحري وهو ستة أعمال «3» ؛ عمل البحيرة [6] (وهو متصل البر بالاسكندرية، وبرقة [7] ، وعمل العزبية جزيرة واحدة، يشتمل على ما بين البحرين (المخطوط ص 250) والبحر المار ومسكبه عند دمياط، وهو المسمى بالشرقي، والبحر الثاني ومسكبه عند رشيد، وهو المسمى بالغربي) «4» ، والمنوفية وكانت منف «5» المنسوبة إليها هذا العمل هي مصر قديما [8] ، (ومنها أبيار

_ [1] سيوط وهي أسيوط قال ابن بطوطة وهي مدينة بالصعيد رفيعة أسواقها بديعة (رحلة ابن بطوطة 40) كورة جليلة من صعيد مصر (مراصد الاطلاع 2/769) . [2] منفلوط: مدينة حسن رواؤها، موفق بنائها على ضفة النيل، شهيرة بالبركة (رحلة ابن بطوطة 40) بلدة بالصعيد في غربي النيل (مراصد الاطلاع 3/1323) . [3] بهنسا: مدينة كبيرة وبساتينها كثيرة تصنع بها ثياب الصوف الجيدة (رحلة ابن بطوطة 39) مدينة بمصر من الصعيد الأدنى (مراصد الاطلاع 1/235) . [4] وردت بالمخطوط المآد. [5] أطفيح: بلد بالصعيد الأدنى من أرض مصر على شاطىء النيل في شرقية (مراصد الاطلاع 1/92) . [6] البحيرة: كورة معروفة بها قرى كثيرة (مراصد الاطلاع 1/168) وهي محافظة البحيرة الآن. [7] برقة: اسم صقع كبير يشتمل على مدن وقرى بين الإسكندرية وأفريقية (مراصد الاطلاع 1/186) وهي مدينة عامرة بليبيا الآن. [8] منف ليست هي المنوفية فمنف هي منفيس هي طيبة هي الأقصر وليست المنوفية، والمنوفية تنسب إلى منوف عاصمتها السابقة وعاصمتها الآن شبين الكوم.

المسماة بجزيرة أبي نصر، وهي جزيرة وتأخذ في وسط البحر الغربي) «1» وعمل قليوب، وقليوب شرقي النيل، وعمل الشرقية وهو متصل البر بين الشام والقلزم والحجاز. وكذلك أشموم [1] (ويعرف باشموم طناج) «2» [2] ومنها الدقهلية [3] ، والمرناحية، (وهنا موقع ثغر البرلس [4] ، وموقع ثغر رشيد [5] ، والمنصورة المبنية زمان حصار دمياط. وفي هذه الوجه الاسكندرية ودمياط وهما مدينتان بندران [6] على البحر لا عمل لهما، وأما الواحات فمنقطعة وراء الوجه القبلي في مغاربيه، ولا تعد في الولايات ولا في الأعمال، ولا يحكم عليها من قبل السلطان وال، وإنما يحكم عليها من قبل مقطعها،) «3» وبلاد الواحات بين مصر والاسكندرية والصعيد والنوبة والحبشة، بعضها داخل بعض. قال البكري: وهو بلد قائمة بنفسه غير متصل بغيره ولا مفتقر إلى سواه، وفي هذه الأرض شبيه وراجية وعيون حامضة الطعوم تستعمل كاستعمال الخل «4» مختلفة الطعوم من الحامض والقابض والملح ولكل نوع منها منفعة وخاصية.

_ [1] اشموم: هما اثنان: اشموم طناح قرب دمياط وأشموم الجريسات بالمنوفية (مراصد الاطلاع 1/84) . [2] وردت أيضا أشموم طناح وهي من أعمال الدقهلية (مراصد الاطلاع 1/84) . [3] وردت بالمخطوط الدهقلية وهي الدقهلية إحدى الأقاليم المصرية وقاعدتها المنصورة. [4] البرلس: بليدة على شاطىء نيل مصر قرب البحر من جهة الإسكندرية (مراصد الاطلاع 1/188) . [5] رشيد: بليدة على ساحل البحر والنيل قرب الإسكندرية (مراصد الاطلاع 2/617) . [6] بندران: بندر كلمة فارسية بمعنى ميناء.

ومما يتعلق بذيل هذه المملكة

ومما يتعلق بذيل هذه المملكة ذكر برقة قال ابن سعيد: هي سلطنة طويلة وإن لم تكن يمكن بها استقلال، لأنه قد استولت عليها العرب، وكان سريرها في القديم مدينة طبرق [1] . قلت: وليس لها سلطان بل ولا سوى أهل العمد [2] سكان، وقربها إلى أفريقية أكثر من قربها إلى مصر، ولكن ما دون العقبة، لصاحب مصر وأمرها إليه. أخبرني الأمير الفاضل ناصر الدين محمد بن المحسني أنها بلاد كثيرة الماء، صحيحة الهواء، وأرضها محاجر وحزوز وعرة في الغالب، وبها المروج والأشجار الكثيرة، وبها المدن المبنية الباقية (المخطوط ص 251) البناء إلى الآن، وهي خالية من السكان. وبها القصور العليّة، والآثار الدالة على ما كانت عليه من الجلالة، وهي اليوم بيد العرب، وهم أصحاب ماشية ودواب سائمة كثيرة من الإبل والغنم، ومنهم من يزرع في بعض أرضها، فتخصب زروعها، ولكنهم أهل بادية لا عناية لهم بعمارة ولا زرع. وحدثني غير واحد ممن دخلها من العسكر المصري ممن كان جرد إليها، أنها شبيهة بأطراف الشام وجبال نابلس، في منابت أشجارها، وكيفية أرضها، وما كانت عليه، وأنها لو عمرت بالسكان، وتأهلت بالزراع كانت اقليما كبيرا يقارب نصف الشام، وقد كانت برقة مقطعة من مناشير صاحب مصر لابن

_ [1] طبرق: هي طبرقة مدينة بالمغرب من ناحية البربر على شاطىء البحر، قرب باجه (مراصد الاطلاع 2/878) وهي مدينة طبرق الليبية الآن. [2] الخيام.

المحسنى، وكان يتوجه إليها، ويأخذ من العربان بهائم أقطعت لأمراء عربان مصر من سليم، وهم الآن يستأذون من عرب برقة العداد. وحدثني الأمير فايد بن مقدم السلمي المقطعة له الآن وأن برقة من أزكى البلاد أرضا للدواب، وأمراها مرعى لها، وأما خيل برقة فهي من أقوى الخيل بناء، وإذا قيل الخيل البرقية كفى، وهم «1» مدورات، ليست بمقرطات العلو، ولكنها عراض مرددات صلبة الحوافر، قد جمعت بين سبق العربيات وقوة صدماتها وكمال تخاطيطها، وصلابة حوافر البراذين وثباتها على الجبال والوعور وإدمان الركوب. وأما صورها فهي بين العراب والبراذين، عليا منها سمات الشبه، وهي إلى محاسن العرّاب أميل، وفحول الخيل البرقية انجب من إناثها، ولجند مصر بها عناية، وتباع بالأثمان الغالية، ولكنها لا تبلغ مبلغ خيل البحرين والحجاز والشام. وطولها بالمسافة مقدار شهرين، وكانت قاعدة برقة مدينة انطابلس [1] ومن مدنها طبرق وقد تقدم ذكرها، وطجيشه ولبده وهي ذات رخام كثير عمد وألواح، وبها إلى الآن الرخام قائما ونائما، ومن مدنها المشهورة سرت [2] . وحدثني قاضي الجماعة أبو إسحاق إبراهيم بن أبي سالم عن لبدة أنها مملوءة بالرخام الأبيض الفائق حتى شوارعها وممشى الناس في أسواقها، وأنها (المخطوط ص 252) لا يعوزها من العمارة إلا السكان.

_ [1] طرابلس: هي طرابلس الغرب على جانب البحر (مراصد الاطلاع 2/882) . [2] سرت: مدينة على بحر الروم بين برقة وطرابلس الغرب وأجدابية في جنوبها إلى البر (مراصد الاطلاع 2/704) .

وحدثني الشيخ شرف الدين عيسى الزواوي قال: مررت ببلاد برقة فرأيتها كلها خرابا بيابا «1» مقفرة، ما فيها إلا بادية العرب، وبها القصور المبنية، ليس بها الأغلال مخزونة لهم، وقال لي أن في جبال برقة أشجار مثمرة من الزيتون والفواكه الكثيرة، ولكن ليس بها مدينة معمورة تذكر لها أخبار. وسكان برقة كلهم أهل بادية، لا يتبايعون إلا بالأمتعة، حتى أن منهم من تكون معه دراهم فيعرضها للبيع فيقول من يشتري منى هذه الدراهم، لأنها ليست عندهم نقدا ولا معاملة.

ذكر المملكة الثانية وهي مملكة الشام

ذكر المملكة الثانية وهي مملكة الشام وقاعدتها مدينة دمشق، وكانت الشام يقال لها أرض كنعان [1] ثم جابر بنو «1» إسرائيل، فقتلوهم بها، ونفوهم عنها، وبقيت الشام لبني إسرائيل إلى أن غلبت عليهم الروم، وانتزوعها منهم. «2» قال التيفاشي في كتاب سرور النفس: قال الشريف الإدريسي [2] في حدود الشام: إنها من المشرق الجزيرة بينه وبين العراق، وسميت الجزيرة لأنها بين نهر دجلة والفرات، وهي أدنى الأرض التي ذكر الله عز وجل في سورة الروم [3] من بلاد الجزيرة بنينوى مدينة يونس عليه السلام [4] ، وقاعدتها اليوم الموصل [5] ، ومنها الرقة ونصبين [6] وديار ربيعة وبني تغلب وجزيرة هي التخوم الفاصلة بين الشام والعراق، وحدها النهران دجلة والفرات.

_ [1] كان الكنعانيون سكان هذه البلاد نسبة إلى كنعان بن حام بن نوح عليه السلام. [2] الشريف الإدريسي: أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الله بن إدريس ولد سنة 493 هـ في سبتة وتوفي 560 هـ، صنف في الجغرافيا: روض الأنس ونزهة النفس، أو كتاب المسالك والممالك (انظر: دائرة المعارف الإسلامية مادة إدريس 2/488- 489) . [3] إشارة إلى قوله تعالى: الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ [الروم، الآيات: 1- 3] . [4] مدينة يونس عليه السلام، وهي قرية كبيرة زارها ابن خلدون (رحلة ابن خلدون 158) . [5] الموصل: مدينة عتيقة كثيرة الخصب، وقلعتها المعروفة بالحدباء عظيمة الشأن، شهيرة الامتناع (رحلة ابن بطوطة 157) . [6] نصبين مدينة عتيقة متوسطة، في بسيط أفيح فسيح فيه المياه والبساتين والأشجار والفواكه (رحلة ابن بطوطة 158) .

وحدود الشام من الجنوب وادي القرى، ومن الغرب عسقلان والحاجز الذي بين البحرين حيث مدائن لوط عليه السلام وطوله أكثر من شهر ونحوه، بعضه في الإقليم الرابع، وبعضه في الثالث، والتوجه في قبلته إلى الميزاب إلى الركن الشامي من جهة الشرق، وأكثر أهل يمن وفيهم معدنه [1] . ثم قال: روى الحافظ أبو القسم علي بن الحسن ابن عساكر [2] في تاريخ الشام، بسنده إلى الشعبي قال: لما هبط آدم من الجنة وانتشر ولده، أرخ بنوه من هبوط آدم، وكان (المخطوط ص 253) . ذلك التاريخ حتى بعث الله نوحا، فأرخوا بمبعث نوح، حتى كان الغرق فهلك من كان على وجه الأرض، فلما هبط نوح وذريته وكل من كان في السفينة إلى الأرض، قسم الأرض بين ولده أثلاثا فجعل لسام وسط الأرض فيها بيت المقدس والنيل والفرات والدجلة وسيحون وجيحون [3] ، وذلك ما بين قيسبون إلى نهر النيل، وما بين منحر الريح الجنوب إلى منحر الشمال. وجعل لحام قسمه غربي النيل مما وراءه إلى منحر ريح الدبور، وجعل قسمة يافث في قيسبون فما وراءه إلى منحر ريح الصبا، ثم تفرق بنو نوح من بابل إلى سائر جهات الأرض، فلحقت كل طائفة منهم بجهة. وفي رواية الحافظ من طريق آخر عن هشام بن محمد عن أبيه [4] قال: كان الذين عقد لهم الألوية يعني ولد نوح عليه السلام، فنزل بنو سام المجدل صرة

_ [1] أي عدنانية نسبة إلى عدنان. [2] ابن عساكر أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله بن الحسين بن عساكر الشافعي المعروف بالحافظ الكبير ولد 499 هـ وتوفي 571 هـ (انظر: ترجمته في مقدمة كتابه تاريخ دمشق الكبير، هذبه ورتبه الشيخ عبد القادر بدران المتوفى 1346 هـ بيروت 1979 ص 7 وما بعدها) . [3] وردت بالمخطوط سيحان وجيحان. [4] ورد عن محمد بن السائب (انظر: تهذيب تاريخ دمشق الكبير 1/13) .

الأرض [1] ، وهو ما بين ساندما [2] إلى البحر وما بين اليمن إلى الشام، وجعل الله النبوة والكتاب والجمال والأدمة والبياض فيهم. ونزل بنو حام مجرى الجنوب والدبور، ويقال لتلك الناحية الداروم [3] وجعل الله فيهم أدمة وبياضا قليلا، وأغمر بلادهم، ورفع عنهم الطاعون، وجعل في أرضهم الأثل والآراك والعسر والغار [4] والنخل وجرت الشمس والقمر في سمائهم. وبنو [5] يافث القصور [6] مجرى الشمال والصبا، ومنهم الحمرة والسناء، وأخلى الله أرضهم فأشتد بردها، وأجلى سماهم فليس يجرى فوقهم شيء من النجوم السبعة الجارية، لأنهم صدروا تحت نبات نعس والجدي والفرقدين، وابتلوا بالطاعون، ثم لحقت عاد بالشجر، فعليه هلكوا بواد يقال له مغيث، ولحقت عبيل بموضع يثرب، ولحقت العماليق بصنعاء قبل أن تسمى صنعاء، ثم انحدر بعضهم إلى يثرب فأخرجوا منها عبيلا [7] ونزلها موضع الجحفة، واقبل سبل فاجتحفهم، فذهب بهم فسميت الجحفة، ولحقت ثمود بالحجر وما يليه فهلكوا، ثم ولحقت طسم وجديس باليمامة، وإنما سميت اليمامة بامرأة منهم فهلكوا (المخطوط ص 254) ولحقت أميم بأرض أبار فهلكوا بها، وهي بين اليمامة والشحر، ولا يصل اليوم إليها أحد، غلبت عليها الجن، وسميت أبار

_ [1] وردت بالمخطوط مسرة الأرض. [2] سايبدما (تهذيب تاريخ دمشق الكبير 1/13) . [3] الدارون (تهذيب تاريخ دمشق الكبير 1/13) . [4] وردت عند ابن عساكر العشر والغاف 1/13) . [5] وردت بالمخطوط وبنوا. [6] الصفون (تاريخ ابن عساكر 1/13) . [7] انظر: تهذيب تاريخ دمشق الكبير، قارن بين الاختلافات بين النصين 1/13.

بابان بن أميم، ولحقت بنو يقطن بن عابر باليمن فسميت اليمن حين تيامنوا إليها، ولحق قوم من بني كنعان بن حام بالشام فسميت الشام حين تشاءموا إليها [1] . وكانت الشام يقال لها أرض كنعان ثم جاء بنو إسرائيل فقتلوهم بها، ونفوهم عنها، وكانت الشام لبني إسرائيل، ووثبت على بني إسرائيل فقتلوهم؛ وأجلوهم إلى العراق إلا قليلا منهم وجاءت العرب فغلبوا على الشام. قال أبو بكر محمد بن القسم الأنباري [2] : الشام فيه وجهان يجوز أن يكون مأخوذا من اليد الشومي وهي اليسرى ويجوز أن يكون فعلى من الشوم، ويقال انجداني نجدا، وأعرق دخل العراق، وأعمن أتى عمانا، وأشأم أي الشام، وبعّر وكوّف، وفي التنزل العزيز وأصحاب المشأمة [3] ورجل شأم من أهل الشام، وسميت اليمن لأنها عن يمين الكعبة، وسميت الشام لأنها عن شمال الكعبة، قيل كان اسم الشام أول الأمر سدريه [4] .

_ [1] قارن مع ابن عساكر 1/14. [2] انظر: تاريخ ابن عساكر 1/14. [3] إشارة إلى قوله تعالى: وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ [الواقعة، الآية 9] . وقوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ [البلد، الآية: 19] . [4] شورية (ابن عساكر 1/15) .

ذكر دمشق وبنائها

ذكر دمشق وبنائها روى عن كعب الأحبار قال: (أول حائط وضع على وجه الأرض بعد الطوفان حائط حران [1] ودمشق ثم بابل، وفي رواية أخرى أن نوحا لما نزل من الجبل، أشرف فرأى تل حران بين نهري جلاب وريصان فأتاه فبنى حائط حران، ثم سار فبنى حائط دمشق ثم رجع إلى بابل فبناها) «1» . وفي رواية أخرى أن جيرون بن سعد بن عاد بن عوض نزل دمشق وبنى مدينتها، وسماها جيرون «2» ، وهي ارم ذات العماد [2] وليس أعمدة الحجارة في موضع أكثر منها بدمشق [3] . «3» قال الحافظ [4] : وجدت في بعض الكتب أن جيرون وبريد كانا أخوين، وهما ابنا سعد بن لقمان بن عاد، وهما اللذان يعرف جيرون وباب البريد بدمشق بهما. وفي رواية عن وهب بن منبه قال: ودمشق بناها العازر غلام إبراهيم الخليل عليه السلام، وكان حبشيا (المخطوط ص 255) وهبه له نمرود بن كنعنان حين خرج إبراهيم من النار، وكان اسم الغلام دمشق، وكان متصرفا في جميع مال إبراهيم [5] .

_ [1] حران: من مدينة الجزيرة تقع على طريق الموصل والشام والروم (معجم البلدان 2/235) . [2] إشارة إلى قوله تعالى: إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ [الفجر، الآية: 7] . [3] انظر: رواية ابن عساكر 1/15. [4] انظر: رواية ابن عساكر 1/15. [5] ابن عساكر 1/16.

وروى الحافظ [1] إنه وجد في كتاب أبي عبيدة بن المثنى المسمى بفضائل الفرس [2] أن بنو آراسب الملك الكبراني بنى مدينة بابل، ومدينة صور ومدينة دمشق. قال الحافظ [3] : وبلغني من وجه آخر أنه لما رجع ذو القرنين من الشرق، وعمل السد بين أهل خراسان وبين يأجوج ومأجوج وسائر بريد المغرب، فلما بلغ الشام، وصعد على عقبه. دمر حتى عبر هذا الموضع الذي فيه اليوم مدينة دمشق، وكان هذا الوادي الذي فيه نهر دمشق غيضه أرز، قيل أن الأرزة وجدت في سنة ثلاث عشر وثلاثمائة من بقايا تلك الغيضة، فلما نظر ذو القرنين لماء تلك الغيطة وكان هذا الماء الذي هو في هذه الأنهار اليوم مفترق مجتمعا في واد واحد فأخذ ذو القرنين يفكر كيف يبنى فيه مدينة، وكان أكثر فكره فيه وتعجبه منه أنه نظر إلى جبل يدور ذلك الموضع وبالغيضة كلها، وكان له غلام يقال له دمشقش [4] على جميع ملكه، وما نزل ذو القرنين من عقبة ومر سار حتى نزل في موضع القرية المعروفة ببلدا من دمشق على ثلاثة أميال، فأمر ذو القرنين أن يحفر له في ذلك الموضع حفيرة، ففعلوا ذلك، ثم أمر برد التراب الذي أخرج منها، فلما رد التراب لم تمتلأ [5] الحفيرة، فقال لغلامه دمشقش ارحل فإني كنت

_ [1] لم يذكر ابن عساكر اسم الكتاب وإنما ذكر، مؤلف مسالك الأبصار، انظر: ابن عساكر 1/16. [2] كتاب فضائل الفرس لأبي عبيدة معمر بن المثنى البصري المتوفى 210 هـ (كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون للعالم الفاضل الأديب والمؤرخ الأديب مصطفى بن عبد الله الشهير بحاجي خليفة وبكاتب جلبي، بغداد مكتبة المثنى 2/1276) . ابن عساكر وذو القرنين وبناء دمشق. [3] انظر: تاريخ ابن عساكر 1/16. [4] دمشق (ابن عساكر 1/16) . [5] وردت بالمخطوط تمتلء.

نويت أن أؤسس في هذا الموضع مدينة فلما إذ بان لي هذا فما يصلح أن يكون هاهنا مدينة، فإنها لا يكون زرعها يكفي أهلها، قال: ثم رحل ذو القرنين حتى وصل إلى البثنية وحوران أشرف على تلك السعة، ونظر إلى تلك التربة الحمراء، فأمر أن يناول من ذلك التراب، فلما صار في يده، أعجبه، لأنه نظر إلى تربة كأنها الزعفران، فنزل هناك، وأمر أن تحفر حفرة فحفرت، وأمر برد التراب إلى المكان الذي أخرج منه فملأه [1] ، وفضل منه تراب كثير، فقال ذو القرنين لغلامه دمشقش: ارجع إلى ذلك الموضع الذي فيه الأرز فأقطع ذلك الشجر وابن على حافة الوادي (المخطوط ص 256) مدينة وسمها على اسمك، فهنا يصلح أن يكون مدينة، وهذا الموضع منه قوتها وعليه ميزتها [2] . قال الحافظ [3] : وعلامة صحة ذلك أن أهل غوطة دمشق لا تكفيهم غلاتهم حتى يتكفوا من البثنية وحوران، فرجع دمشقش، وبنى المدينة، وعمل لها حصنا، وهي المدينة الداخلة وعمل لها أربعة أبواب جيرون مع باب البريد مع باب الحديد في سوق الأساكفة مع باب الفراديس الداخلة، هذه كانت المدينة إذا غلقت هذه الأبواب فقد أغلقت المدينة، وخارج هذه الأبواب كان مرعى، فبناها دمشقش، وسكنها ومات فيها، وكان قد بنى الموضع الذي هو الآن مسجدها الجامع كنيسة يعبد الله فيها إلى أن مات [4] . وروى أن باني دمشق بناها على الكواكب السبعة، وأن المشتري كان طالع بنائها، وجعل لها سبعة أبواب، وصور على كل باب أحد الكواكب السبعة،

_ [1] قارن تاريخ ابن عساكر 1/16. [2] قارن تاريخ ابن عساكر 1/17. [3] ابن عساكر 1/16. [4] تاريخ ابن عساكر 1/17.

وصور على كل باب كيسان صورة زحل، فخربت الصور التي على الأبواب كلها إلا باب كيسان فإن صورة زحل باقية إلى الآن. وروى الحافظ عن أبي القسم تمام بن محمد قال: قرأت في كتاب عتيق باب كيسان لزحل، باب شرقي للشمس، باب توما للزهرة، باب الصغير للمشتري، باب الجابية للمريخ، باب الفراديس لعطارد، باب الفراديس الآخر المسدود للقمر [1] . وروى الحافظ عن أبي مسهر قال: إن ملك دمشق بنى حصن دمشق الذي حول المسجد داخل المدينة على مساحة بيت المقدس، وحمل أبواب مسجد بيت المقدس فوضعها على أبوابه، فهذه الأبواب التي على الحصن هي أبواب مسجد بيت المقدس.

_ [1] انظر: تاريخ دمشق لابن عساكر 1/17.

أسماء بعض جهاتها

أسماء بعض جهاتها خرّج الحافظ مرفوعا أن اسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام ولد له اثنا عشر ولدا، فسمى منهم دوما وبه سميت دومة الجندل، وفي رواية أخرى أنه كان للوط أربعة بنين وابنتان ماب وعمان وجلان وملكان والبنات زعز (المخطوط ص 257) والربة [1] ، فعمان مدينة البلقاء سميت بعمان وماب من سائر البلقاء سميت بماب، وعين زعز سميت بزعز بنت لوط والربة سميت بالربة. قال الشرقي بن القطامي [2] : وسميت صيدا بصيدون بن صيدنا بن كنعان بن حام بن نوح، وسميت أريحا بأريحا بن مالك ابن ارفخشد بن سام بن نوح، وسميت البلقاء بأبلق عمان بن لوط لأنها ملكها وسكنها. قال: وقيل أن الكسوة سميت بذلك لأن غسان قتلت بها رسل ملك الروم قدموا عليهم في طلب الجزية، فقتلوهم، وأخذوا كسوتهم، هذا آخر ما نقله التيفاشي [3] «1» . قلت: وبدمشق مهبط عيسى عليه السلام، وهي فسطاط المسلمين يوم الملحمة الكبرى، وقد تقدم القول أن الخوارزمي قال: طفت جوانب الأرض «2» الأربعة فكان فضل غوطة دمشق عليها كفضلها على غيرها، كأنها الجنة صورت على وجه الأرض.

_ [1] ماث وخلاب وعمان وملكان وزغر والربة (ابن عساكر 1/18) . [2] ابن عساكر 1/18. [3] واضح أن ابن فضل الله العمري ينقل عن التيفاشى والتيفياشى عن ابن عساكر.

وأما وصفها فكثير جدا يعجبني منه قول ابن عنين [1] . [الطويل] دمشق في شوق إليها مبرح ... وإنّ لج واش أو ألح عذول بلاد بها الحصباء در وتربها ... عبير وأنفاس الشمال شمول تسلسل فيها ماؤها وهو مطلق ... وصح نسيم الروض وهو عليل [2] وقول عرقلة [3] : [البسيط] ما بين شطري ومغربي جنة سرحت ... أنهارها في خلال الآس والبان يظل منثورها في الأرض منتثرا ... كأنما صيغ من در ومرجان فالطير تصدح في أغصانها سحرا ... هذا هو العيش إلا أنه فاني وكذلك قول ابن عنين وقد نفى منها: [الكامل] فسقى دمشق وواديها والحمى ... متواصل الإرعاد منفصم العرا حتى ترى وجه الرياض بعارض ... أحوى ووجه الدوح أزهر نيّرا وأعاد أياما قطعت حميدة ... ما بين حرة عالقين وعكبرا (المخطوط ص 258) تلك المنازل لا أعقة عالج ... ورمال كاظمة ولا وادي القرى أرض إذا مرت بها ريح الصبا ... حملت من الأغصان مسكا أذفرا فارقتها لا عن رضى وهجرتها ... لا عن قلى ورحلت لا متخيّرا

_ [1] هو محمد بن نصر بن مكارم بن عنين الأنصاري الدمشقي له ديوان مشهور وهجو مؤلم كان بارعا في معرفة اللغة توفي 630 هـ (انظر: ديوان العبر لابن خلدون 2/122) . [2] هذه الأبيات لشرف الدين بن محسن (انظر: قول ابن جزى في رحلة ابن بطوطة ص 62) . [3] هو عرقلة الدمشقي الكلبي (انظر: رحلة ابن بطوطة ص 62) .

وقول البحتري [1] : [البسيط] العيش في ظل [2] داريّا إذا بردا ... والرّاح يمزجها [3] بالراح من بردا [4] إذا أردت ملأت العين من بلد ... مستحسن، وزمان يشبه البلدا أمّا دمشق فقد أبدت محاسنها ... وقد وفى لك مطريها بما وعدا تمشى السّحاب على أجبالها فرقا ... ويصبح النّبت في حجراتها بددا [5] ولست تبصر إلّا واديا خضرا ... أو يانعا خضلا أو طائرا غردا [6] كأنّما القيظ ولى بعد جيلته ... أو الربيع أتى من بعد ما بعدا [7] ومدامتها على الموصوفة «1» في الآفاق المعروفة في مغارسها بكرم الأعراق، تنشر كاساتها ألوية حمرا، وتوقد في صفحات الخدود جمرا، فمن حمراء كنار تتلهب، ومن صفراء كالزجاج المذهب، ومن بيضاء كأنها نقطة غدير أو فضة طافت بها قوارير أو وردية تتضاحك في الشفاه اللعس «2» ثغورها المعتبرة، ويخالطها الصفاء كخد أبيض تشرب بحمرة، تضىء في دجى «3» الليل

_ [1] انظر: ديوان البحتري تحقيق حسن كامل الصيرفي، دار المعارف، القاهرة: 2/709- 710 (وانظر: الأبيات أيضا في تاريخ دمشق لابن عساكر في ترتيب مختلف 1/254) . [2] ليل (الديوان 2/709) . [3] تمزجها بالماء (الديوان 2/709) . [4] من بردى (الديوان 2/709) . [5] عيسى السحاب ... في صحرائها (الديوان 2/709) . [6] فلست تبصر إلا واكفا حضلا ... أو يانعا خضرا، أو طائرا غردا (الديوان) . [7] كأنما القيظ ولى بعد جيئته ... أو الربيع دنا من بعد ما بعدا (الديوان) .

مصباحا، وتهدى إلى الجلساء بريحها تفاحا، وببلاد الشرق بها ما يرق عن الزجاج، ويخف عن مخالطة الامتزاج «1» ، فيعلق فوق الماء على الأقداح، وتتعلى حمرته عليه كالشفق على الصباح، يطير عليها الشعاع ويطيب إلى قهقهة قيانها السماع، وصيدنا يا «2» معدن ذهبها وافق كوكبها وإليها أشار ابن عنين [1] بقوله: [الكامل] ومدامة من صيدنا يا نشرها ... من عنبر وقميصها من صندل مسكية النفحات يشرف أصلها ... عن بابل ويحل عن قطربل «3» وقد خالف القاضي الفاضل حيث قال بذم دمشق، ودخلت دمشق وأنا (المخطوط ص 259) ملتات لتغير مائها وهوائها وأبنيتها وأبنائها وأوديتها، ومن في مصر، فإني أبيع بردا [2] بشربة من مائها، فالطلل هائل ولا طائل، وما سمعناه من تلك الفضائل متضائل. وقال فيها وقد وقع عليها الثلج وأما دمشق فأدرها اليوم للثلج قوالب، وقد أخذ أن يذوب، فالشوارع تحتاج إلى مرالاب [3] «4» ، وبدمشق من كل ما في مصر من الوظائف، وليس هذا في بقية بلاد الشام، مثل (قضاة) القضاة الأربعة

_ [1] ابن عنين: هو أبو المحاسن محمد بن نصر الدين بن نصر بن الحسين بن عنين الأنصاري، طاف بلاد الشام والعراق والجزيرة ومصر وغزنة وما وراء النهر ولد بدمشق 49 هـ وتوفي بها 630 أو 634 هـ (دائرة المعارف، البستاني بيروت 620) . [2] نهر بردى. [3] زلاجات.

من المذاهب الأربعة، وقاضي عسكر، وخزانة يخرج منها الانفاقات والخلع وخزائن سلاح وزردخانات [1] وبيوت تشتمل على حاشية سلطانية مختصرة، حتى لو حضر السلطان إليها جريدة، وجد بها من كل الوظائف القائمة بدولته، وكل أمير أمر فيها أو في غيرها من الشام أو أولى رب وظيفة وظيفة، من عادة متوليها أن يخلع عليه «1» خلعة أو إنفاقا، ولم يخلع عليه من مصر أو «2» ينعم عليه من مصر، كان من دمشق خلعة وإنعامه. ومنها يخرج أعلام الإمرة وطلائعهم وشعار الطبلخانات، وفي خزائن السلاح بها معمل المجانيق [2] والسلاح، والزردخانات، وتحمل إلى جميع الشام، وتعمر به البلاد والقلاع، ومن قلعتها يجرد الرجال وأرباب الصنائع إلى جميع قلاع الشام، ويندب في التجاريد والمهمات. وهي مدينة جليلة وقلعتهما مرحلة على الأرض يحيط بها وبالمدينة أسوار عليه، يحيط بها خندق، بطون الماء منه بالقلعة، وإذا دعت الحاجة، أطلق على جميع الخندق المحيط بالمدينة فيعمها، وهي في وطأة مستوية، بارزة عن الوادي المخط عن منتهى ذيل الجبل، مكشوفة الجوانب لممر الهواء إلا من الشمال؛ فإنه محجوب بجبل قاسيون [3] ،

_ [1] زردخانات جمع مفرده زردخانه وهي بالفارسية زرّادخانه وهي مصنع صناعة السلاح (فرهنگ عميد 2/1100) . [2] المجانيق: جمع مفرده منجنيق، آلة قديمة من آلات الحصار، وكانت ترمي الحجارة الثقيلة على الأسوار فتهدمها منجنيق كلمة فارسية (انظر: الكلمات الفارسية في كتاب سيبويه د. أحمد الشاذلي، المنوفية 1987 ص 43، المعجم الوسيط 2/855، فقه اللغة للثعالبي 323) . [3] قاسيون جبل في شمال دمشق، والصالحية في سفحه وهو شهير البركة لأنه مصعد الأنبياء عليهم السلام (رحلة ابن بطوطة 72) .

وبهذا تعاب وتنسب إلى الوخامة، ولولا جبلها الغربي الملبس بالثلوج صيفا وشتاء، لكان أمر في هذا أشد، وحال سكانها أشق، ولكنه ترياق [1] ذلك السم ودواء ذلك الداء. وهي مدينة حسنة الترتيب جليلة الأبنية، (المخطوط ص 460) بالحجر والخشب والآجر، مضبب بين مداميك البناء بالخشب الملبن، وأخشابها من خير أخشاب الأرض، يسمى الحور، ينصب في بساتنيها، ويربي، ويقطع في انتهائه فيعطى اللبان، فإذا انكسر عود منها يبقى في مكانها متماسكا عدة سنين وأكثر ولو أنه متعلق بقدر شعرة واحدة [2] . ولهذه المدينة حواضر «1» فسيحة من جهاتها الأربع، والماء حاكم عليها من جميع نواحيها بإتقان محكم على ما نذكره في صفة نهرها. وهذه المدينة مقسمة على جوانب الجامع [3] بها لا على أنه واسطتها من كل الجهات «2» ، فإن ما بينه وبين نهاية المدينة من القبلة وما بينه وبين نهاية المدينة من الشرق أوسع مدى مما بينه إلى نهاية المدينة من الجانبين الآخرين الشمالي والغربي. وأشرف هذه المدينة ما قرب من جامعها، وبها الديار الجليلة المذهبة السقوف المفروشة بالرخام، ومنها ما هو مرموز «3» الحيطان بالرخام والنوع المفصل بالصدف والذهب والبرك الماء الجارية، وقد تجري الماء في الدار في أماكن، وبها الطباق الرفيعة والأقنية الوسيعة «4» ، والأسواق المليحة الترتيب، والقياسر «5» الحصينة،

_ [1] وردت بالمخطوط ذرياق ودرياق ب 162 أ 260. [2] قارن وصف دمشق عند ابن بطوطة 61- 62. [3] يقصد الجامع الأموي المشهور بدمشق والذي بناه الوليد بن عبد الملك بن مروان.

وبها الصناع المبهرة في كل فن من البنائين [1] وصناع السلاح والمصوغ والزركش وغير ذلك، ونعمل بها لطائف الأعمال من كل نوع، وصناعها تفخر على بقية صناع هذه المملكة إلا فيما قل مما بمصر. ومصر والشام والعراق والروم تستمد من لطائفها خصوصا في القس والنحاس الطعم والزجاج المذهب وجلود الخراف «1» المدبوغة بالقرط المضروب بها المثل وهي أحد جنات الدنيا الأربع. وقال الخوارزمي، رأيت جنات الدنيا الأربع، وكان فضل غوطة دمشق عليها كفضلها على سواها كأنها الجنة على وجه الأرض حسبما ذكرناه، وبها البساتين الأنيقة يتسلسل جداولها، وتفيء دوحاتها، وتتمايل أغصانها، وتغرد أطيارها. وبها بساتين «2» النزهة وبها العمائر الضخمة والجواسق العلية، والبرك العميقة والبحيرات (المخطوط ص 261) الممتدة عليها العرش المحددة «3» المظللة، تتقابل بها الأواوين والمجالس، ويحف بها العراس والنصوب المطرزة بالسرو الملتف البرود والجور الممشوق القدود، والرياحين المتأرجّة الطيب، والفواكه الجنية، والثمرات الشهية، والبدائع التي تعينها شهرتها عن الوصف، وبها في سفح جبل قاسيون الصالحية، وهي مدينة ممتدة في سفح الجبل بإزاء المدينة في طول مدى، ذات بيوت وجناين ومدارس وربط وترب جليلة وعمائر ضخمة ومارستان وأسواق جليلة بالبز وغيره وبأعاليها من ذيل الجبل المقابر العامة، وجميع الصالحية مشرفة على دمشق، وغوطتها وكل بساتينها وشرفها وميادينها ومجرى واديها وبجانبها القرى، كان دير مران المشهور مكانه الآن من المدرسة المعظمية إلى قريب عقبة

_ [1] وردت بالمخطوط البناين.

دمر ومنه وهناك بقايا آثار. وأما حواضر دمشق فهي كما قدمنا القول جليلة من جميع جهاتها وأجلها ما هو في جانبها الغربي والشمالي، فأما الغربي فإنها تفضي من تحت القلعة بها في ساحة فسيحة هي سوق الخيل على ضفة الوادي، ويخرج إليها من جوانب المدينة من أمتعة الجند فتباع في أيام المواكب بها وتنتهي فيما يليها من الوادي إلى شرقي محيطين به قبلة وشاما «1» في ذيل كل منهما ميدان أخضر النخيل، والوادي يشق بينهما، وفي الميدان القبلي منهما القصر الأبلق، بناه الملك الظاهر بيبرس البندقداري الصالحي [1] وظاهر من وجه الأرض إلى نهاية أعلاه بالحجر الأسود والأصفر مدماكا من هذا ومدماكا من هذا بتأليف غريب وإحكام عجيب، ويدخل من دركاه [2] «2» له على جسر راكبا بعقد على مجرى الوادي إلى إيوان يراني بطل على الميدان القبلي استجده أقوس «3» الأقرم زمان نيابته بها، ثم يدخل إلى القصر من دهاليز فسيحة مشتمل قاعات ملوكية يستوقف الأبصار وتستوهب الشموس من أشعتها الأنوار بالرخام الملون قائما نائما في مفارشها وصدورها وأعاليها وأسافلها مموهة بالذهب (المخطوط ص 262) واللازورد والفص المذهب وأزر من الرخام إلى سجق السقوف. وبالدار الكبرى «4» بها إيوانان متقابلان، تطل شبابيك شرقيها على الميدان الأخضر الممتد، وغربيها على شاطىء الوادي المخضر، والنهر به كأنه ذوائب

_ [1] الظاهر بيبرس البندقداري من مماليك الصالح أيوب، تولى السلطنة في مصر بعد قتله للسلطان قطز، استمر في ملاحقة المغول له آثار طيبة (انظر: العبر 5/247، القريزي ق 2/429- 431، ابن كثير 13/220) . [2] حاكم دمشق هو نائب السلطنة لأنه تابع لسلطان مصر ويعين بفرمان منه.

الفضة، وله الرفارف العالية المناغية للسحب، تشرف من جهاتها الأربع على جميع المدينة والغوطة، والوادي كامل المنافع بالبيوت الملوكية والاصطبلات السلطانية، والحمام والمنافع المكملة لسائر الأغراض. وتجاه باب القصر باب من رحبته إلى الميدان الشمالي على الشرفين المقدم ذكرهما، أبنية جليلة من بيوت ومناظر ومساجد ومدارس وربط وخوانق وزوايا وحمامات ممتدة على جانبين ممتدين طول الوادي. وقد بنى في هذه السنين نائب السلطنة [1] «1» بها على الشرف الشرقي «2» منهما جامعا بديعا، يليه تربة ضخمة ودارا ملوكية، ومد قبالة الجامع سوقا نظيفا وحماما فائقا، زاد المكان حسنا على حسن وإبداعا على إبداع. وأما حاضرها الشمالي ويسمى العقبة «3» فهو مدينة مستقلة بذاتها ذات جوامع ومساجد ومدارس وربط وخوانق وزوايا وأسواق جليلة. وحمامات وبها ديار كثيرة للأمراء والجند. وأما نهر دمشق وهو بردى [2] فمجراه من عينين، البعيدة منهما دون قرية تسمى الزبداني [3] «4» ، ودونها عين بقرية تسمى الفيحة بذيل جبل غزتا، والماء خارج من صدع في نهاية سفل الجبل، وقد عقد على مخرج مائة قبو رومي البناء، ثم ترفده منابع في مجرى النهر، ثم يقسم النهر أربعة؛ اثنان عن اليمين

_ [1] وردت بالمخطوط بردا. [2] الزبداني: بلدة صغيرة، كثيرة الفواكه قرب دمشق (رحلة ابن بطوطة 61) . [3] نور الدين محمود زنكي ابن عماد الدين زنكي من حكام الدولة الأتابكية في الشام، له فضائل في جهاد الصليبين ورعاية العلم ولد 511 هـ وتوفي بدمشق سنة 569 هـ (ابن خلكان 5/184) .

واثنان عن الشمال مرفوعان على مجرى النهر في قرارة الوادي دائمة بمقسم معلوم، وعليه التفاف بساتين «1» ممتدة من الجانبين إلى أن يمر على المكان المسمى بالربوة وقد بنى الملك العادل الشهيد نور الدين محمود بن زنكي [1] رحمه الله بها المقام المعروف بمهد عيسى «2» ، يقال أن مريم آوت إليه بولدها عيسى عليه السلام، وأن هذه الربوة هي المعنية بقوله تعالى: وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ. (المخطوط ص 263) . ومنظر هذا الوادي من أعجب المناظر لتراكم الظل والماء وأظلال الشمس والهواء، وأفراش الجبلين المحدقين به في أرضه بالبنفسج تحت الأشجار المتمايلة على غصون البان، تنفخ بينهما خدود الورد، ويفتر مباسم الياسمين، وتندلق ألسن السوسن، وتتجاوب فيها هدير الماء والحمام، وتتلاقى خيول «3» النسيمين الطائر من الشمال على منابت الشيح ومن القبلة على الحدائق الفيح. وإنّ إلى جانب هذا الوادي في قبليه بشمال سطح ممتد على ظاهر المزية كأنه قطعة بيداء مقفرة ينبت بها الشيح والقيصوم، وتتلاعب بها الصبا والدبور [2] ، عرفت بصحة الهواء وفسحة الفضاء فطاب به ما جاورها، وصح لأجله ما قاد بها ثم نعود إلى ذكر النهر وتسمى الأنهار السبعة بحرى الوادي، والستة المقسومة فمجرى الوادي بردا فاق عليه هذا الاسم لا يعرف بغيره، وعلى سمت بردى في الجانب الغربي الأعلى الآخذ قبلة نهر داريا ودور المزية ودونه نهر القنوات، ودونه نهر باناس وعلى يسرة «4»

_ [1] إشارة إلى قوله تعالى: وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ [المؤمنون، الآية: 50] . [2] رياح تهب عليها.

بردى في الجانب الشرق الآخذ شمالا على نهر يزيد، ودونه نهر نورا. فأما القنوات وباناس فهما نهر المدينة حاكمان عليها، ومسلطان على ديارها، يدخل باناس القلعة بها، ثم ينقسم قسمين؛ قسم للجامع، وقسم للقلعة، ثم ينقسم كل قسم منهما على تقاسيم تتفرق على أصابع في المدينة بأصابع مقسومة وحقوق معلومة، وكذلك تنقسم القنوات في المدينة، ولا مدخل له في القلعة ولا الجامع، ومجرى الماء في قنى مدفونة في الأرض إلى أن تصل إلى مستحقاتها، ويتسع في منابعها، ثم تنصب فضلات الماء والبرك ومجاري الميضاوات والمرتفعات إلى قنى «1» وسخ معقودة تحت أرجائي الماء المشروب، ثم تتجمع وتنهّر وتخرج إلى ظاهر المدينة لسقى الغيطان. وأما بقية الأنهر خلا بحر بردى فإنها تتصرف إلى البساتين والغيطان وعليها القصور والبنيان خصوصا ثورا [1] ، فإنه نيل دمشق، عليه أجل مبانيهم، وبه متنزهاتهم، وإليه أكثر سيارتهم وتوجهاتهم، يخاله من يراه زمردة خضراء لتراكم الأفياء عليه، والتفاف الدوح من جانبيه، ويجرى (المخطوط ص 264) يزيد في ذيل الصالحية، ليشق خيطا من عمارتها، وأما مجرى بردى فإنه تتفرق منه فرقة بجانب المدينة، تدخل إلى داخل سورها، وتدور به أرجاؤها [2] وينصب باقيها إلى مجرى الوادي إلى أن يخرج من حدود العمارة، والأرجاء المنصوبة عليه إلى تتمة الوادي يحف به الفياض المتكاتفة من السفرجل والجوز والبساتين، ثم يرمى إلى ظاهر قرى دمشق، يسقى ما يحكم عليه ثم ينصب في بحيرة هناك متصلة

_ [1] تورة: نهر يشق الربوة، في دمشق (رحلة ابن بطوطة 73) . [2] ارحاؤها جمع مفرده رحاه وهي السواقي والنواعير.

بالبرية. هذه أمهات الأنهار من بردى، وما ينقسم منه على أن كل نهر من هذه الأنهار تنقسم منه أنهار كبار وصغار، وتتشعب من تلك الأنهار جداول، ثم تتفرق في البساتين والغيطان لسقى أراضيها، وإدارة أرحائها، مما لا يكاد يعد كثرة «1» . فأما مسجدها الجامع فصيته دائر في الدنيا «2» ، كان هيكلا لعباد الكواكب، ثم كنيسة للنصارى [1] ، إلى أن فتحت دمشق على أيدي أبي عبيدة بن الجراح [2] وخالد بن الوليد رضي الله عنهما، فجرى عليه حكم المناصفة، فوقع

_ [1] كان موضع كنيسة، حيث دخل خالد بن الوليد الكنيسة حتى منصفها أثناء فتح دمشق، وصالح أبو عبيدة بن الجراح على النصف الثاني، وبنى المسلمون مسجدا على النصف الأول، وعزم الوليد بن عبد الملك زيادة المسجد فأراد شراء النصف الثاني من الكنيسة فرفض الروم فأنتزعه عنوة وبنى هذا المسجد الأموي (رحلة ابن بطوطة ص 63) . [2] ورد عبيدة بن الجراح أ 264 وورد صحيحا في ب 165.

جملة أعمال دمشق

نصفه الشرقي للمسلمين، وبقى نصفه الغربي بأيدي الروم إلى خلافة الوليد بن عبد الملك، واستخلصه وأتمه جامعا للمسلمين، فهو بيت عبادة من قديم، وقد ذكرناه فيما تقدم. جملة أعمال دمشق «1» أما جملة أعمال دمشق فهي ثمانية وعشرون عملا، وهي ما يذكر عمل ضواحيها، وتسمى بولاية البر، وهي الغوطة والمرج وجبة عسال والإقليم، كل هذا عمل واحد، والبلاد الساحلية القبلية وما تبعها وهي عبارة عن بلاد غزة وعمل قريتا وما جاورها سهلا ووعرا وهي نسخة أعمال خاصة غزة ثلاثة أعمال وهي؛ عمل غزة وعمل قريتا، وعمل بيت جبريل، والساحل ثلاثة أعمال وهي عمل الرحلة وعمل قاقون وعمل لدّم، والجبل وهو ثلاثة أعمال، عمل نابلس وعمل القدس الشريف، وعمل بلد الخليل عليه السلام. فهذه جملة هذه الأعمال والمشاهير منها مذكور في عمله، موصفة إلا نابلس فإننا نذكرها هنا فنقول إنها مدينة ممتدة يحتاج إليها، ولا يحتاج إلى سواها، والصّفقة القبلية وهي بلاد صوران والغور وما مع ذلك (المخطوط 265) وهي عشرة أعمال وهي؛ عمل بيسان وبيسان لها قليعة من بناء الفرنج، وهي مدينة الغور، وعمل بانياس وهي مدينة الجولان وبها قلعة الصبيبة، وعمل الشعراء، وعمل نوى وهي مدينة قديمة، وبها قبر أيوب عليه السلام، وعمل أذرعات هي مدينة البثنية. قال البلاذري [1] ولما فتح المسلمون بصرى [2]

_ [1] انظر: فتوح البلدان للإمام أبي الحسن البلاذري عنى بمراجعته والتعليق عليه رضوان محمد رضوان بيروت 1978 ص ر 120 [2] بصرى: في موضعين إحداهما بالشام وهي التي وصل إليها النبي (صلى الله عليه وسلم) للتجارة والأخرى من قرى بغداد (مراصد الاطلاع 1/201) .

أتاهم صاحب أذرعات فلما جاءها عسكر هولاكو بعد أخذ دمشق فهدموا شرفاتها وأبقوها بيده، فجدد الملك الظاهر بيبرس البندقداري تحصينها وتحسينها، وصرخد مدينة حوران العليا، وعمل بصرى وهي مدينة حران السفلى، بل حوران كلها بل هذه الصفقة جميعها. قال البلاذري [1] : وبصرى قصبة حوران، وهي مدينة على سيف البرية، ولها ذكر في حديث النبي (صلى الله عليه وسلم) ، ودخل إليها قبل بعثته وهو تاجر لخديجة بنت خويلد الأسدية رضي الله عنهما، وفيها لقى بحيرة الراهب، وبها قبره إلى عصرنا هذا. قال البلاذري [2] : اجتمع المسلمون عند قدوم خالد بن الوليد على بصرى، ففتحوها صلحا ولبثوا على حوران فغلبوا عليها. وقال ابن جرير [3] وقد ذكرها: في هذه الكورة قلعة صرخد، وهي محدثة ثم كان بها ملك بعد ملك.

_ [1] البلاذري: أحمد بن يحيى بن جابر بن داود البلاذري نشأ في بغداد ورحل إلى كثير من أنحاء البلاد وله فتوح البلدان الكبير، وفتوح البلدان، وأنساب الأشراف وعهد أردشير وكتاب الأخبار توفي 279 هـ (انظر مقدمة فتوح البلدان بيروت لجنة تحقيق التراث 1983 ص 5- 12) . [2] انظر: فتح بصرى في كتاب فتوح البلدان، الإمام أبو الحسن البلاذري بيروت 1983 ص 116) . [3] تاريخ الرسل والملوك المعروف بتاريخ الطبري لأبي جعفر محمد ابن جرير الطبري تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم بيروت 1967 ج 3/440.

قلت: وهكذا جرت العادة في محضرنا وما تقدمنا مما قاربه أن يكون لمن أنزل عنه رتبة سلطنة أو ما قاربها، وعمل زرع فهذه جملة الأعمال والصفقة الساحلية والجبلية الشمالية، وهي أربعة أعمال وهي؛ عمل البقاع العزيزية والبقاع البعلبكية وعمل بيروت [1] ؛ وهي ثغر على صفة البحر، وعليها سور من حجارة وبها جبل فيه معدن حديد، ولها غيضة من أشجار الصنبور تكسيرها اثنا عشر ميلا، تتصل بلبنان، وشرب أهلها من الآبار، وهي بيدر فرصة دمشق، وعمل صيدا [2] ، وعليها سور حجر، وهي تنسب لرجل من ولد كنعان بن حام، وكورتها كثيرة الأشجار غزيرة الأنهار وتشتمل على نيف وستمائة ضيعة، وشرب أهلها من ماء يجري إليهم من قناة فهذه جملة هذه الأعمال. والصفقة الشرقية الشمالية هي البلاد الحمصية، وهي أربعة أعمال وهي عمل حمص [3]

_ [1] بيروت: مدينة صغيرة حسنة الأسواق، وجامعها بديع الحسن (رحلة ابن بطوطة 48) وهي الآن حاضرة لبنان. [2] صيداء: على ساحل البحر، حسنة كثيرة الفواكة (رحلة ابن بطوطة 48، مراصد الاطلاع 2/859) . [3] حمص: مدينة مليحة، أرجاؤها مونقة، وأشجارها مورقة، وأنهارها متدفقة، وأسواقها فسيحة الشوارع وجامعها متميز بالحسن الجامع في وسطه بركة ماء، وأهل حمص عرب لهم فضل وكرم (رحلة ابن بطوطة 51) .

بعلبك

وعلى قارة وعمل سلمية وعمل تدمر وتدمر مدينة شامية عراقية لاتصالها ببر العراق وبر الشام وهي مدينة جليلة سليمانية البناء، وبها بساتين جليلة ومتاجر مفيدة لأهلها يسار ومنها تجار تضطرب في الأرض (المخطوط ص 267) فهذه جملة المملكة الدمشقية «1» . بعلبك وبعلبك [1] مدينة قديمة البناء، شمالي دمشق يقال أنها من بناء سليمان بن داود عليهما السلام، لها قلعة عظيمة مرجلة على وجه الأرض، مثل قلعة دمشق يستدير بها. وبالمدينة سور منيع محصن عظيم البناء بالحجارة الثقل «2» الكبار من الصخر الشديد المانع، وبه ثلاثة أحجار عظيمة ممتده تحت برج وبدنتين كوامل ذوات «3» أطوال وعروض وسمك مرتفع كأفلاق «4» الجبال وفي القلعة عمد عظيمة شواهق وسيعة الدور منيفة العلو. وفي هذه البقعة «5» من عمائر من تفرد بها من الملوك الأيوبية أثار ملوكية جليلة القدر جلية الحسن كالدار الأمجدية والمجرة.

_ [1] بعلبك: مدينة حسنة قديمة من أطيب مدن الشام، تحدق بها البساتين الشريفة، والجنات المنيفة، تضاهي دمشق في خيراتها المتناهية، بها يصنع الدبس المنسوب إليها (انظر: رحلة ابن بطوطة 61 مراصد الاطلاع 1/208) .

وأما المدينة فمختصرة من دمشق في كمال محاسنها في حسن الترتيب والبناء وجهات الوقف العامرة من الجامع والمسجد والمارستان ودار الحديث والمدارس والربط «1» والخوانق والزوايا والأسواق النظيفة المشتملة على أنواع المبيعات، وتخرق الماء في ديار هذه ومشارعها وأسواقها، ويعمل بها الدهان الفائق في الماعون مما يستحسن، ويحمل منه إلى كثير من البلاد، ويحف بالمدينة غوطة عظيمة أنيقة ذات بساتين مشتبكة الأشجار بأنواع الثمرات الحسان والفواكه المختلف الألوان [1] . وبعلبك في ظاهرها عين ماء سارحة متسعة الدائرة مشهورة بالزينة، ماءوها في غاية الصفاء، عليها بهجة الحسن بين مسرح أخضر وبستان مونق، وعليها مسجد، واستجد إلى جانبها مسجد جامع كمل به طرازها المذهب، وجمالها المبدع، يمد منها نهر ينكسر على الحصباء في خلاف تلك المروج كنصل سيف يسن فوق مسن إلى أن يدخل المدينة، وينقم منه في بيوتها وجهاتها، ويسمى ماء رأس العين. ولبعلبك عين أخرى أبعد من هذه الأولى مدى، يقال لها عين اللوجوج في طرف بساتينها البعيدة، خفيفة الماء هاضمة لا يشرب أكابر بعلبك، وأهل النعمة بها إلا من مائها، ويتصل منها فرع إلى الجانب الشمالي (المخطوط ص 268) من بعلبك، ويصب منه في قناة هناك، ويدخل إلى القلعة منه، وهو من الماء المستطاب الموصوف في البلاد. وبعلبك بلد لطيف ظريف كثير الخير والأرزاق، أرخى أسعارا من دمشق،

_ [1] قارن وصف بعلبك عند ابن بطوطة ص 61.

كثيرة الأطايب، وبها الملبن المعمول على أنواع، يقل موجود مثلها من الأرض، ولا يكاد يفوتها من دمشق فائت. وبها جبل لبنان المشهور المبارك البقعة موطن الأولياء «1» والصلحاء والسواح، يأوى إليه كثير ممن انقطع إلى عبادة الله عز وجل، وهو مدرج طريق الفقراء، وقطب مدار الأولياء، يقر بهذا من عرفه، ولا يستطيع إنكاره من جهله. ومع ما ذكرنا من حسنها، قد ذمها القاضي الفاضل فقال: وكأني آليها من إحدى المضائق بل المطابق «2» المسماة بعلبك، وأنا نازل على عين يصم الشمع هديرها، فوق جبال يغمر العين حريرها «3» تحت سماء قد رابني منها الغداة سفورها، إما في قتال يدير كأس المنون فيه مديرها، ورأى أحجار المنجنيقات التي إذا زأرت نفطها حروف البروج محيت سطورها، والله المستعان على ما يصفون.

حمص

حمص حمص مدينة قديمة اسمها القديم سوريا، كانت معظمة عند ملوك الروم كرسي ملك لهم، ولم تزل يشار إليها بينهم بالتعظيم وهي في وطأة ممتدة على جانب نهر العاص في شماليه مبنية بالحجر الأسود الصغير، وبها قلعة لا تمنع ويستدير بها سور هو أمنع من القلعة، واسمح من أبراجها في الرفعة، ولها من العاص ماء مرفوع يجرى إلى دار نائب السلطنة بها، وبعض مواضع بها ولها من بر بعلبك أنواع البز، وظاهرها أحسن من باطنها، لا سيما في زمان الربيع، وما تلبس به ظواهرها من حلل الربيع الموشحة بالأزهار ما مد النظر، يرنو [1] بأحداق النرجس وثغور الأقاح وتتوسط بها البحيرة الصافية الماء الضافية النماء، ذات السمك المنقول من الفرات إليها حتى تولد فيها، والطير المبثوث في نواحيها [2] . وبها إلى جانب مسجدها الجامع قبة العقارب لا يوجد (المخطوط ص 269) لها نظير، يقال أنها طلسم قديم موضوع لدفع العقارب عنها، ولأجل هذا لا يوجد بها شخص عقرب، ولا تجمل عقرب إليها إلا وتموت بها ومن أخذ ترابا من أرض حمص، وخلطه بماء حتى يصير طينا ثم ألصق تلك الطينة ببعض جدران تلك القبة من داخلها، وتركها حتى تسقط بذاتها من غير أن يلقيها أحد، ثم أخذها ووضع شيئا منه في بيت، لا تدخله عقرب «1» ، فإن ذر على عقرب منه أحدث بها مثل السكر وربما زاد عليها فقتلها هذا لا يحتاج يسأل عن تحقيقه، ولا يأبى من هو في غاية المشرق أو المغرب في تصديقه، بل والذي يقال أن هذا الأمر لا يختص بهذه القبة وإنما هو خاصة في عامة أرض حمص، لا تقرب عقرب

_ [1] وردت بالمخطوط يرنوا ب 166- أ 268. [2] انظر: وصف حمص لابن بطوطة في رحلته ص 51.

ثيابه وأمتعته ما دام عليه من غبار ترابها. حدثني خلق بهذا، ورأيت بعيني، وجربت ما يتعلق بالطين الملصق بالقبة، وإلى هذا أشار الفاضل في البشرى بفتوحها ودب إليها من عقارب المجانيق ما خالف عادة حمص في العقارب ورميت بها الحجارة على الحجارة، فظهرت العداوة المعروفة بين الأقارب وحمص تتلو اسكندرية فيما يعمل فيها من القماش الفائق على اختلاف الأنواع وحسن الأوضاع، لولا قلة مائه ونحولة جسمه مع أنه يبلغ الغاية في الثمن، وإن لم يلحق «1» اسكندرية مصر فإنها تفوق صنعاء اليمن.

حماة

حماة حماة [1] مدينة قديمة وهي في وهدة حمراء ممتدة عليها نشزان عاليان مطلان عليها، يسميان قرون حماة، ذكرها امرؤ القيس، هي وسيزر «1» في شعره لما مر بهما في طريقه إلى قيصر. وهي مدينة «2» على ضفة العاص بناء مكينا بالحجارة، ولها قلعة ملونة الأحجار يستدير بها سور وبيوت ملوكها وسرواتها مطلة على النهر، بها القصور الملوكية والدور السرية والمساجد والمدارس والربط والزوايا والأسواق التي لا تعدم نوعا من الأنواع، ولا صنفا من الصنوف «3» ، جليلها وحقيرها. وغالب مبانيها العلية وأثار الخير الباقية فيها من فواضل نعم (المخطوط ص 270) الدولة الأيوبية، ولها النواعير [2] المركبة على العاص تدور بذاتها، ويرفع الماء إلى الدور السلطانية، ودور الأمراء والبساتين والغيطان. وفي بساتينها الأشجار والغراس المفنن الأفنان، وبها «4» بقايا الناس وأنموذج الكرام، يخدمهم العلماء بتصانيفهم، والشعراء بمدائحهم، ويقصدهم الفقراء والسؤال وطوائف بني الآمال، ويتفنن أرباب الصنائع في دقائق الأعمال، وتقدم إليهم التحف، ويخصهم التجار ببدائع الطرف، وكرمهم يربي على الأمل، ويزيد

_ [1] حماة: إحدى أمهات الشام الرفيعة، ومدائنها البديعة، ذات الحسن الرائق، والجمال الفائق، تحف بها البساتين والجنات (انظر: رحلة ابن بطوطة ص 51) . [2] النواعير جمع مفرده ناعورة وهي الساقية.

على الرجاء حتى أن كل أحد ليعلق من ملوكها الطماعية بنصيب، ويفردهم بقصد، وهم أجود من الغمام السكوب، وأندى من الرياح ندى عند الهبوب. ثم نعود إلى ذكر حماة فنقول: إنها لم تكن في القديم نبيهة الذكر، وكان الصيت دونها لحمص، ثم تنبه في الدولة الأتابكية ذكرها فلما جاءت الدولة الصلاحية الناصرية «1» [1] وانتقلت حماة إلى ملوك «2» بني أيوب مصروا مدينتها بالأبنية العظيمة والمساكن الفاخرة، وتأمير الأمراء فيها وتجنيد الجند بها، وعظموا أسواقها وزادوا فيها القصور والغراس، وجلبوا إليها من أرباب الصنائع كل من فاق في فنه، وبقى كل ما لمحل منها يكبر ويزداد «3» إلى أن أضحت الآن تامة المحاسن، معدودة في أمهات البلاد، وأحاسن الممالك. وبها الفواكه الكثيرة والخيرات الغزار، وأسعارها رخية وسمتها ملوكية خلا أنها ذات وعر في الصيف بحجب الهواء عن اختراقها، ويعرض بها في الخريف، تغير ينسب إلى الوخم، ولا يبقى بها الثلج كما يبقى من بقية الشام مدخرا إلى الصيف، ولكنه يجلب إليها من جاورها. وحول حماة مروج [2] ممتدة وبر فسيح يكثر به مصائد الطير والوحش، وليس بعد دمشق في الشام لها شبيه ولا يدانيها في لطف ذاتها من مجاوراتها قريب ولا بعيد وليس لها سوى عملين؛ عمل بارين وعمل المعرة.

_ [1] نسبة إلى الناصر محمد بن قلاوون الصالحي. [2] قارن وصف حماة عند ابن بطوطة 51.

حلب

حلب وحلب مدينة عظيمة قديمة، أم أقاليم وبلاد وأغوار وأنجاد؛ وبها معظم قلاع الشام ومعاقله وحصونه (المخطوط ص 271) وثغوره، وتسمى حلب الشهباء. وهي ذات القلعة البديعة العلية المنار، وهي أعني حلب في وسط وطأة حمراء ممتدة، والقلعة على تل عليّ، كانت قد عظمت أيام بني حمدان، وتاهت بهم شرفا على كيوان ثم جاءت الدولة الأتابكية [1] فزادت فخارا، واتخذت لها من بروج السماء منطقة وأسوارا، ولم تزل على هذا يشار إليها بالتعظيم ويأبى أهلها في الفضل عليها لدمشق التسليم حتى وطئها هولاكو بحوافر خيله، وأقام عليها مفرقا في أقطار الشام بعوث سراياه وجنده، فهدمت أسوارها وخربت حوافرها، فأصبحت يرثى لها الشامت ويبكى بها اللاهى، وهي على ما توالى عليها من المحن، وأطاف بها من نوب الأيام مصر جامع، ومبصر رائع، مبنية بالحجر الأصفر، الذي لا يوجد مثله في البلاد، كأنها به رافلة في حلل الديباج، مائلة في ذهبية الأصيل. وبها الديار العظيمة والجامع ذو المئذنة [2] العليا الفائقة والمارستان والمساجد والمدارس والربط والخوانق ووجوه البر الدائم والصدقات الجارية، ويجرى إلى داخل المدينة فرع ماء، يتشعب في دورها ومساكنها، وهو قليل نزر، لا يبل صداها، ولا يكفي بغيتها ولها الصهاريج المملوءة من ماء الأمطار، صافية الغطاف، باردة الزلال، منه شرب أهلها. ويدخل إليها الثلج من بلادها وليس لأهلها إليه كبير التفات لبرد هوائهم

_ [1] الدولة الأتابكية نسبة إلى الأتابك عماد الدين زنكي مؤسسها وكان مشهورا برعايته لأهل العلم، حارب هو وولده نور الدين محمود الصليبيين (انظر: ابن خلكان 5/184) . [2] وردت بالمخطوط المأذنة.

ومائهم، وقرب اعتدال صيفهم، وشتائهم، وبها نهر قويق، وهو «1» نهرها القديم، ونهر الساجور مستجد فيها ساقه هذا السلطان إليها، وحكمه جاريا عليها. وحلب أوسع الشام بلادا وأوطأ أكتافها لخيل الأمل «2» مجالا، ولها المروج الفيح والبر الممتد حاضرة وبادية ومنازل عرب وأتراك [1] . بها جند كثيف، وأمم من طوائف العرب والتركمان، وبها البطيخ القليل في الشام مثله وأنواع من الفواكه، أكثرها مجلوبة من بلادها، متصلة بسيس [2] والروم وبلاد ديار بكر وبرية (المخطوط ص 272) العراق، وفي أعمالها وادي الباب وبزاعة «3» وهو الوادي المشهور، نزل به المنازي الشاعر ووصفه بقوله: [الوافر] وقانا لفحة الرمضاء واد ... وقاه مضاعف النبت العميم نزلنا دوحه فحنا علينا ... حنو الوالدات على الفطيم وأرشفنا على ظمأ زلالا ... ألذ من المدامة للنديم يروع حصاه حالية العذارى ... فتلمس جانب العقد النظيم صد الشمس أنّى واجهتها ... فيحجبها ويأذن للنسيم» وأما أعمالها فهو كثير «4» منه قلاع وحصون، ومنه ما ليس له قلعة وعدة الجميع ثلاثة وعشرون عملا، وهي عمل شيزر المدينة المشهورة، وعمل الشغر

_ [1] انظر: وصف حلب عند ابن بطوطة 52- 53. [2] انظر: رحلة ابن بطوطة ص 55.

ولكاس «1» [1] وهي قلعة، وعمل القصير [2] وهي قلعة، وعمل دبركوش، وعمل كارم، وعمل أنطاكية [3] المدينة العظيمة المشهورة المذكورة «2» ، وعمل يقراض [4] وهي قلعة حصينة ثغر الأرمن والدر يسال «3» وهي قلعة، وعمل حجر شعلان «4» وهي قلعة، وعمل الراوندان وهي قلعة، وعمل عيتبان وهي مدينة (مليحة) جليلة، وعمل مدينة بيشنا (وهي مدينة جليلة على ما يذكر) ، وعمل كركر وهي قلعة، وعمل الكحتا، وهي قلعة، وعمل البيرة وهي القلعة (الجليلة المشهورة) ، وعمل قلعة المسلمين (وهي قلعة جليلة) «5» وعمل منبج، وعمل الجول، وعمل بيرين [5] ، وعمل عزاز، وعمل سرمين ومعها الفويعة ومشيزر، وعمل كفرطات، وعمل الباب وبزاعه المقدم الذكر.

_ [1] حصن الشغر بكاس (ابن بطوطة 56) . [2] القصير حصن حسن أميره علاء الدين الكردي (رحلة ابن بطوطة 56) . [3] أنطاكية: مدينة عظيمة، كان لها سور محكم، كثيرة العمارة دورها حسنة البناء، بخارجها نهر العاصي (رحلة ابن بطوطة 55) . [4] وردت عند ابن بطوطة بغراس وهو حصن منيع لا يرام (ص 55) . [5] وردت عند ابن بطوطة تيزين وهي على طريق قنسرين (ص 55) .

طرابلس

طرابلس طرابلس [1] قد قدمنا القول «1» على أنها بنيت عند الفتح عوض طرابلس العتيقة، وكانت تسمى قديما بدار العلم، وتداولها ملوك بني عمار، وكانوا في الأول لهم القضاء بها، ولما بنيت هذه المدينة الجديدة كانت وخيمة البقعة. ذميمة المسكن، فلما طالت مدة سكنها، وكثر بها الناس والدواب وصرفت المياه الآسنة التي كانت حولها نقائع، وعملت بساتين ونصب بها المنصوب والغراس فخف ثقلها وقل (المخطوط ص 273) . وخمها، وقد كان بها أسد مر الكرجى «2» نائبا، وبقى لا يستقل من لوثة وخم، فشكا «3» إلى الحكيم الفاضل أمين الدين سليمان بن داود المتطبب، وخامتها، وسأله عما يخفف بعض ذلك، فأشار عليه أن يستكثر بها من الجمال وبقية الدواب ففعل ذلك، وأمر به الأمراء والجند، فخف ما بها، وكان الأمر كما أشار به الحكيم، وسألت عن تعليل هذا كثيرا من الأطباء فقال أنه لا يعرفه، وفوق كل ذي علم عليم. وأما ما قاله لي الصدر بهاء الدين أبو بكر بن غانم رحمه الله فقال: إن السبب فيما تعرض للأجسام بها، أنها لمجاورة البحر وعره حارة فتكون في أول الليل كذلك، فلا يقبل فيها ثقيل الغطاء، فإذا نام النائم قليل الدثار [2] يفاجئه البرد الشديد في آخر الليل من قبل الجبال المجاورة لها، فيجيء البرد عقيب الحر، والمسام مفتحة، والنائم في غفلته فيحدث له ما يحدث.

_ [1] طرابلس الشام وهي مدينة مشهورة بين اللاذقية وعكا (مراصد الاطلاع 1/91) . [2] وردت بالمخطوط قليلا الدثار.

ولها نهر يحكم على ديارها وطبقاتها، يتخرق الماء في مواضع من أعالي بيوتها التي لا يرقى إليها إلا بالدرج العلية، وحولها جبال شاهقة صحيحة الهواء خفيفة الماء ذوات أشجار وكروم ومروج وأغنام ومعز ويجتمع بها الجوز والموز وقصب السكر والثلج، ويعمل بها السكر ويهوى إليها، وفود البحر، وترسي بها مراكبهم: موضع زرع وضرع، وهي الآن مدينة ممتدة كثيرة الرخام، ذات مارستانين [1] ومساجد ومدارس وزوايا وأسوار جليلة وحمامات حسان موصوفة وجمع أبنيتها بالحجر والكلس مبيضا ظاهرا وباطنا تحيط بها غوطتها، ويحيط بغوطتها مواضع مزدرعاتها بديعة المشرف تحسن بعين من يشرف من هضبة عليها، وهي مملكة ذات جيش وتركمان، وخاصة لأهل الجبال، بها يد من الرمى على القوس الثقيل بالنشاب الخارق، ولها حصون وقلعة وتجاورها قلاع الدعوة المعروفة [2] وقاعدتها مصياف «1» ، ومن جملتها قلعة القدموس [3] وبها حمام يخرج بها أنواع حيات (المخطوط ص 274) كثيرة لا تحصى حتى أن القاعد في داخلها ليغتسل والحيات ظاهرة من الأنبوب مع الماء، حتى أن الخارج من الحمام ليرفع قماشه من الأرض ليلبسه والحيات تتساقط منه، ولكنها لا تؤذي أحدا، ولا أعرف هذا عنها في وقت من الأوقات، وبالقرب «2» من هذه القلعة قلعة الخوابي. حدثني الأديب بدر الدين حسن الغزى أن سورها أغنى قلعة الخواي مكانا إذا لدغت أفعى أو حية أحدا، وحمل لكي يشاهد ذلك الموضع من سور الخواي

_ [1] داران للشفاء. [2] يقصد الدعوة الإسماعيلية فرجالها يسمون الدعاة. [3] حصن القدموس أحد حصون الفداوية الإسماعيلية.

بيته أو كان الملدوغ عاجزا، فأرسل رسولا له إلى ذلك الموضع، فأتى إليه وشاهده بعينه قبل عطب السليم الملدوغ «1» نجا السليم، وكانت عاقبته إلى سلامة. وهذا من عجائب ما يحدث به في الآفاق مما أدى أهذا الطلسم هناك أو لخاصية في ذلك الحجر؟ وعلى كل الحالين هذا السر عجيب غريب، وأغرب ما فيه كون «2» هذا يفيد نفع اللديغ برؤية رسوله له إذا لم يره هو بنفسه، فسبحان من له الحكم وإليه مرجع الأمر كله. ووادي الفوار قريب حصن الأكراد غربا بشمال على الطريق السالكة صفته هناك صفة بير قائمة في الأرض، وفي أسفل البئر سرداب ممتد إلى الشمال يفور في كل أسبوع يوما واحدا لا غير، فيسقى به أرض ومزروعات، وينزل عليه التركمان ويردوه، وبقية الأيام يابس لا ماء فيه، ويسمع له دوى كالرعد قبل فورانه، والسرداب خلفه البناء، وذكر من دخل السرداب أن في نهايته نهرا كبيرا آخذا من الغرب إلى الشرق تحت الأرض، وله جريان معين، وبه موج وريح عاصف، ولا يعرف إلى أين يجري، ولا من أي جهة يجيء. وداخل البحر الشامي بطرابلس عند برج الخصاص بقدر «3» رمية حجر فوارة ماء حلو عذب، تطلع على وجه الماء علو ذراع أو أكثر بين ذلك عند سكون البحر لكل أحد.

صفد

صفد وصفد مدينة في سفح جبل، صحيحة الهواء، خفيفة الماء يحمل إليها (المخطوط ص 275) الماء على الدواب من واديها، وبها عين ماء لو أنها دمع لما بلت الآفاق، ولا ملت بلى البكاء به الأحداق وأكثر ما يدخل أهلها حمامات الوادي بها، ولا يرضى حمامات المدينة لقلة مائها، وسوء بنائها، وبها عسكر من الجند. والحلية وهي على مسافة يومين من دمشق فحكها حكمها، وكل ما يوجد بدمشق فيها مما هو من صفد وبلادها، ومما هو مجلوب من دمشق إليها، وهي إلى جانب عكا، وقد خربت «1» عكا، وبقيت هي مدينة ذلك الساحل، وقاعدة ذلك «2» ، ولها قلعة قل أن يوجد لها شبيه، كأنما عليها من ذهب الأصيل تمويه، ولا تردم السحب إلا من جنب، ولا يطوف عليها سوى الشفق مدام عليه من مواقع النجوم حبب، ولا تجاور الأرض إلا وهي إذا رامت السماء لا يعوقها بسبب، ولما فتحها الملك الظاهر بيبرس، عظم أمرها وهي تستحق التعظيم، وتستوجب الرفعة، بما رفع الله من بنائها العظيم، ولقد ذكرها ابن الواسطي الكاتب فقال: وقلعة صفد بنتها الفرنج، وكانت أولا تلا عليه قرية عامرة تحت برج اليتيم، بنتها الداوية في سنة خمس وتسعين وأربعمائة. وقال: وهي قلعة حصينة على جبل يحتف «3» به جبال وأودية، ولها أحد عشر عملا، وهي (ولاية برها) «4»

وولاية الناصرة «1» [1] منيع الطائفة النصرانية، وولاية طبرية [2] ذات البحيرة المشهورة والحجة العجيبة، وطبرية من سفح جبل مطل على البحيرة، وطول البحيرة اثنا عشر ميلا، (وحمتها) «2» يقصدها المبرودون للاستشفاء ويكاد أن يلصق «3» بها البيض والجدا، وماؤها حلو، ويخرج منها نهر الأردن، «4» (ومن عملها قدس، وكان معها قديما السواد وبيسان [3] ، ثم خرجا عنها، وولاية بينين ومنها هونين [4] وهما حصنان منيعان بناهما الفرنج بعد الخمسمائة، وهما من جبل عاملة بين بانياس وصور، وولاية عثليث (المخطوط ص 276) ، وولاية عكا، وولاية صور وشهرتهما تعني عن ذكرهما، وولاية الشاغور، وولاية الإقليم، وولاية شقيف أرنون وعلى الشقيف قلعة حصينة، وبقاربها شقيف نيرون، وهو حصن جله مغارة منيعة، وما هي من صفد، وولاية جنين فهذه جملة أعمال صفد. ومما يذكر فيها حيفا، وهي خراب على الساحل، وقلعة كوكب، وهي قال فيها العماد الأصفهاني، راسية راسخة شماء شامخة، وقلعة الطور وهي مفردة على جبل الطور بناها العادل أبو بكر بن أيوب ثم غالبه عليها الفرنج فهدمها.

_ [1] الناصرة: قرية بينها وبين طبرية ثلاثة عشر ميلا منها أشتق اسم النصارى لأن المسيح سكنها فنسب إليها (مراصد الاطلاع 3/1348) . [2] طبرية: من أعمال الأردن في طرف الغور، بليدة مطلة على البحيرة المعروفة بها (مراصد الاطلاع 2/878) . [3] بيسان: مدينة بالأردن بالغور الشامي بين حوران وفلسطين (مراصد الاطلاع 1/241) . [4] هونين: بلد في جبال عاملة مطل على نواحي مصرين (مراصد الاطلاع 3/1467) .

القدس

القدس «1» والقدس الشريف [1] الأرض المقدسة مشتملة على مدينة القدس وما حوله إلى نهر الأردن المسمى بالشريفة إلى فلسطين المسماة بالرملة [2] طولا، ومن البحر الشامي [3] إلى مدائن لوط عرضا، غالبها جبال وأودية إلا ما هو في جنباتها. وأما مدينة القدس الشريف فعلى جبل «2» مدينة مستديرة في وسطها السور المحيط على الصخرة والمسجد المسمى الآن بالمسجد الأقصى [4] ، وإنما حقيقة المسجد الأقصى جميع ما يحيط به السور المذكور، وهي المعروف بالسور السليمان، ويشرف عليها من شرقيها جبل أعلى [5] منها، يفصل بينهما الوادي المعروف بوادي جهنم، ويعرف بالطور وبه إلى الآن بناء جليل رومي يقال أن منه كان صعود المسيح عليه السلام إلى السماء [6] وبهذا الوادي عين سلوان وهي تخرج من مكان في الجبل الذي عليه بناء مدينة القدس، ويجري في داخل ذلك الجبل أزيد من علوه نشاب تقديرا، ثم يخرج من صدع في الجبل إلى ساحة لطيفة في انفراجه في الجبل لا ترى إلا جدولا جاريا، والنبع من داخل الصدع،

_ [1] القدس الشريف: بلدة كبيرة منيفة، مبنية بالصخر المنحوت بها المسجد المقدس والصخرة (انظر: رحلة ابن بطوطة 45- 46) . [2] الرملة في فلسطين: مدينة كبيرة، كثيرة الخيرات، حسنة الأسواق، وبها الجامع الأبيض (رحلة ابن بطوطة 47) . [3] البحر الشامي هو البحر الرومي هو البحر المتوسط. [4] المسجد الأقصى من المساجد العجيبة الرائقة، الفائقة الحسن (انظر: وصف المسجد عند ابن بطوطة 45) . [5] وردت بالمخطوط أعلا. [6] في شرقي البلد (انظر: رحلة ابن بطوطة 46) .

ثم يسرح على وجه الأرض، وترمى إلى الوادي وتسقى المنازل، وماؤها قليل ليس بالكثير. ومدينة القدس مبنية بالحجر والكلس وغالب حجرها أسود وهي وعرة المسالك وكان بها آثار (المخطوط ص 277) قلعة «1» قديمة خربة، جددت في أيام هذا السلطان سنة عشرة وسبعمائة على ما يذكر الجوكندار «2» . إذ كان كافل الممالك ووجودها وعدمها سواء، إذ لا نفع بها، ولا تحصين لها [1] . وبالقدس مدارس وخانقاه وربط وزوايا وترب والمسجد الأقصى بها وقوف كثيرة جارية على مصالحه والمؤذنين به وخدمه وجماعة من العلماء والقراء به. وقد تقدم القول في هذا الكتاب على أن في القدس لكل الملل معتقدا وإليه توجها، وأن اليهود تزوره والنصارى تحج به قمامة [2] وتزور كنيسة بيت لحم مكان مولد عيسى عليه السلام [3] . وقد كانت مدينة القدس بعد تولي أيدي الفرنج عنها؛ تغلب عليها الهدم والخراب؛ إلى هذه المدة القريبة، انصرفت الهمم إلى عمارة أماكن بها، وتوفرت الدواعي عليها، ووفر نائب السلطان بالشام الآن الاهتمام بذلك، وساق إليها قناة بسطها إلى بركة هو مجتمع ترفدها بالماء زمان قلة الماء، وتجري إلى مدينة القدس، وتدخل إلى سور المسجد الأقصى، وتجري به. وعمر نائب السلطان إلى ما جاورها الربط «3» المنصوري قلاووني مدرسة

_ [1] كان حولها سور هدم الظاهر بيبرس بعض أجزائه خوفا أن يقصدها الروم فيمتنعوا بها (رحلة ابن بطوطة 45) . [2] كنيسة القيامة. [3] انظر: رحلة ابن بطوطة ص 45.

جليلة، وقفها على مدرس وفقهاء ومتفقهة على مذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه، وبأعلاها خانقاه مشرفة، وبحضرتها مكتب أيتام حصل له به الأجر التام، وللناس الرفق العام، أثابه الله وتقبل منه. وعمر بها حمامين جليلين كانت أحوج شيء إليه لأنه لم يكن بها حمامات مرضية، وأنشأ بها الأسواق والعمائر وأصبحت مدينة القدس ضاحية (المواء آهلة) «1» الرحاب، وعادت إلى ما كانت عليه من التمدن بعد أن كانت لا تعد من القرى، ولا يندى في جوانبها الثرى. وأما بلد الخليل [1] عليه السلام، وهي مزرعة إبراهيم فأبهى بلدة [2] غير مسورة، على نحو يوم من القدس بالسير المعتاد (المخطوط ص 278) ، وهي منطوية بين جبال، لا هي في صحراء، ولا في واد، وهي قرية أم عمل، ولولا مكان الخيل عليه السلام بها، لم تذكر فيما يذكر، وإنما عادت عليها بركات ذلك المثوى الكريم، فباهت الأقطار بفضلها وتأهلت الأمصار بأهلها، وأجرى بكتمر [3] الجوكندار قبل أن يكون كافل المماليك إليها عين ماء كانت على بعد منها ولقد شاهدت بها الماء جاريا في طبقة عليه يصعد إليها من نحو عشرين درجة في العلو. والخليل عليه السلام «2» بها، يحيط به سور هو داخل ذلك السور ولا يصح مكان القبر به على التخصيص، وبه سرداب الخليل المنسوب إليه داخل ذلك

_ [1] مدينة الخليل وهي مدينة صغيرة الساحة، كبيرة المقدار مشرقة الأنوار، حسنة المنظر، عجيبة المخبر (انظر: رحلة ابن بطوطة 44) . [2] وردت بالمخطوط أبها بلدة. [3] بكتمر هو الأمير بكتمور قتله الملك الناصر باسم (رحلة ابن بطوطة ص 36) .

السور، يوقد عليه قنديل، ولهذا تقول العامة «صاحب السرداب والقنديل» وقد أشرنا إلى ذلك فيما تقدم.

الكرك

الكرك والكرك مدينة ذات قلعة تعرف بكرك الشوبك، والشوبك «1» أقدم منها، والكرك مدينة محدثة البناء، كانت ديرا يتديره «2» الرهبان ثم كثروا «3» ، فكبروا بناءه، وكثروا أبناءه «4» ، وآوى إليهم أناس من مجاوريهم من النصارى، فقامت لهم به أسواق، ودارت لهم به معايش، وأوت إليه الفرنج، فأدارت أسواره فصار مدينة مشهورة، ثم بنوا حصته [1] فكانت قلعة مذكورة فاستولى عليها الفرنج حتى فتح الله في زمان السلطان الملك الناصر صلاح الدين أبي المظفر يوسف بن أيوب رحمه الله تعالى. وهو مكان صعب المرتقى، لا تليق عقارب صخوره للرقى، قد زاحم الشعر القبور بمناكبه، وعلا في السماء فألقى الهلال نعل راكبه، قعد من البر المقفر على نشز عال لا يبلغه النسر إلا محلقا، ولا يغدو مصباح الصباح إلا على شرفاتها معلقا، فلهذا اتخذته الملوك لمآلها حرزا ولمالها كنزا، ولم يزل لأولاد السلاطين في الأمور ملجأ، ومن الدهور منجا، ماؤه من مطر السماء، وله واد يتفجر عيونه بالماء، وهو (المخطوط ص 279) بلد خصب وإقبال ومنبت زرع ومسرح مال «5» وفيه يقول القاضي الفاضل: وكان الكرك شجى في الحناجر، وقذى في الحاجر،

_ [1] الكرك وحصن الكرك من أعجب الحصون وأمنعها وأشهرها ويسمى بحصن الغراب، والوادي يطيف من جميع جهاته، وله باب واحد قد نحت المدخل إليه في المجر الصلة (رحلة ابن بطوطة 78) .

ورصد الطرقات المسلوكة وصير في السبل المشكوكة، قد أخذ من الأمان بمخنقها، وقعد بأرصاد العزائم وطرقها، وصار دينا للدهر في ذلك الفجر، وعذرا لتارك فريضة الله من الحج، وحبس من هام الإسلام مكان عمامته، وجثم على أنفاس الحجاز، فلم يدع نفسا يصعد من تهامته فؤاديه من مسائل المعاقل بجمعها، وظله من نجوم الأسنة بمطلعها، وهو والشوبك بسر الله الأمر كبيت الواصف للأسدين: «ما مر يوم إلا وعندهما لحم رجال أو يولغان دما» وكفى إشارة أنه مكان الغزاة وقعرها ومستودع الفريضة ومستقرها، مجاورته لتبوك [1] وغزاتها آخر الغزات النبوية، وإلى طريقه انتهت الخطا الحميدة المحمدية، والعمل على آخر الأعمال الشرعية، والوقوف عنده إشارة لا تخفى عن الإفهام اللوذعية، وتحف بهذه القلعة مدينة قد عقل الجبل حبولها وأزلق الغراب أن يطأ ذروتها، وعصم سوار الوادي الملوك معصمها، وحمت غرة الجبل المطل أدهمها فمنكبها حاطم، والله يحطمه، ولها من ندى الغمام راضع، ومهد المنجنيق يفطمنه، وهصروه هصرة فإذا البلد قائم على عروشه بل طريح على نعوشه، قد محيت سلة دنانيره، ومن الدور فما يتعامل بالسكن فيه أهل الغرور، وصار كل مديح في الكنيسة مربطا، وكل مصعد من قلة مهبطا، وكل مسقط رأس بالحقيقة لرأس مسقطا، وفيه يقول أيضا: ومما فتحه الله على سلطاننا بلاد الكرك وما أدراك ما هو قلعة، كانت على الإسلام أية مضرة بل كانت لكعبة الإسلام زادها الله شرفا أية ضرة، وإن نعم الله لأكثر من أن يقصر لها حديثا، وأن الله قد أغشى ليل الشرك (المخطوط ص 280) نهار الإسلام، يطلبه حثيثا، وما

_ [1] تبوك: الموضع الذي غزاه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، وفيه عين ماء تجود بشيء من الماء، ولما نزلها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) جاءت بالماء وما زالت (رحلة ابن بطوطة 78) .

أشك أن في أهل الحرم الشريف مع الرماة رماة بسهام الأسحار، ومجاهدون وبالمحاورة ما خرجوا ولا بعدوا عن البيكاد وكلا وعد الله الحسنى) «1» .

الشوبك

الشوبك والشوبك [1] المنسوب إليه الكرك مدينة صغيرة أكثر في البر دخولا منها، وانحرافا إلى التغريب في القبلة عنها ذات أكواب من جداول الأنهار موضوعة وسرر من مقاعد «1» الأبراج مرفوعة [2] وفاكهة كما قال الله تعالى في الجنة غير مقطوعة ولا ممنوعة [3] . قلت: والشوبك فتح وقت فتح الكرك بعد أن دام الحصار سنتين على الكرك وأقطعها الملك الناصر لأخيه الملك العادل ولم يزالا في يده حتى أعطاهما لولده الملك المعظم عيسى، فصرف إليهما العناية حتى نزّل الكرك مدينة يعنى «2» بنفسها وزادها تحصينا وتحسينا، وجلب إلى الشوبك غرائب الأشجار حتى تركها تضاهي دمشق في روائها وتدفق مائها وتزيد بطيب هوائها. قلت: وذكر ابن جرير كورة الجبال فقال: (وقد أحدثت بها مدينة تسمى الكرك، وقال البلاذري: في كتاب فتوح البلدان أن مدينة هذه الكورة الغرندك) «3» . وأما أعمال الكرك (فهي أربعة؛ زغر [4] وهي مدينة قديمة حارة متصلة

_ [1] الشوبك: قلعة حصينة في أطراف الشام بين عمان وإبلة قرب الكرك (مراصد الاطلاع 2/818) . [2] إشارة إلى قوله تعالى: فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ [الغاشية، الآيات: 13- 15] . [3] إشارة إلى قوله تعالى: وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ [الواقعة، الآيتان: 32- 33] . [4] وردت عند ابن بطوطة زيزى، وعند البغدادي هي قرية بمشارف الشام قرب الكرك (مراصد الاطلاع 2/667) .

بالبادية، وبها (تل) جيد، ومعان [1] وكانت مدينة قديمة خربت هي وعملها «1» ، ومؤته وهي باقية وواضعها معروف، وبها قبر جعفر بن أبي طالب (عليه السلام [2] ، والشوبك وهو محدث كما ذكرنا) «2» .

_ [1] معان: آخر بلاد الشام (رحلة ابن بطوطة 78) مدينة في طرف بادية الشام تلقاء الحجاز من نواحي البلقاء (مراصد الاطلاع 3/287) . [2] جعفر بن أبي طالب، تولى قيادة جيش مؤتة وقتل وسمى باسم الطيار.

غزة

غزة وغزة [1] وهي مدينة بين مصر ودمشق، بها دفن هاشم بن عبد مناف [2] وبها ولد الشافعي [3] رحمه الله، وهي مبنية بالحجر والكلس، مونقة البناء، على نشز عال، على نحو ميل عن البحر الشامي، ذات هواء صحيح، وماء مصرفها خم، لا يستلذ، وشرب أهلها من الآبار، ولها مجمع للمطر، يدوم به ماء الشتاء، لكنه يستثقل. (المخطوط ص 281) ولها فواكه كثيرة أجلها «1» العنب والتين وبها مرستان [4] «2» بناه هذا السلطان أثابه الله لحوج ما كانت المارة إليه في مكانه، وبها من المدارس والترب (ما ازدانت به) «3» ، وهي نيابة جليلة، وبها طائفة من العسكر والعرب والتركمان. وهي آخذة من البر والبحر جانبيها متصلة بتيه بني إسرائيل، من قبليها موضع زرع وماشية، وموضع «4» مجمع حاضرة وبادية، وقرارية أهلها عشر، أن

_ [1] غزة: أول بلاد الشام مما يلي مصر، متسعة الأقطار، كثيرة العمارة، حسنة الأسواق، بها المساجد الكثيرة، والأسوار عليها (رحلة ابن بطوطة 43) . [2] هاشم بن عبد مناف، متوفي 524 م تقريبا، من سادة قريش في الجاهلية، من بنيه النبي (صلى الله عليه وسلم) وإليه ينسب الهاشميين وقدم إلى الشام في تجارة وتوفي في غزة (المنجد في الأعلام 590) . [3] الشافعي هو أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع، أحد الأئمة الأربعة، ولد بغزة 150 هـ وتوفي 204 هـ، مذهبه منتشر في مصر وسوريا وكردستان والحجاز وبلاد كثيرة (دائرة معارف البستاني 10/390- 12. [4] مرستان: هي مارستان، هي بيمارستان، دار الشفاء.

بعضهم عدو لبعض لولا مهابة الدولة لاخمدت فيها نار، ولا ألم فيها بالجفون غرار، لا يطمئن فيها ساكن، ولا يستقر ظاهر ولا باطن. ومما استجد مضافا إلى هذه المملكة فهي البلاد الجهانية، ومحل النيابة بها مدينة إياس وهي الآن عامرة آهلة، وكذلك كاوزه واستفيد كار ونصف المصيصة، لأن الذي استقر للمسلمين هو كلما هو إلى هذه «1» الجهة الشامية من جهان ونصف إذنه منه ونصفها الآخر قاطع جهان من جهة الأرض فهو لهم، وأما ما خربه المسلمون وبقى عملهم بهم الهارونية وحميص وتل حمدون «2» والنقير وكل ذلك من دون جهان إلى الشام، وكذلك ما استجد قلعة جعفر وهي شرقي الفرات وقلعة درنده، وهي قاطع بهسني إلى الروم، فهذه جملة هذه المملكة.

فائدة جليلة تتعلق بذكر غزة

فائدة جليلة تتعلق بذكر غزة «1» قالوا يجوز أن يكون اسمها مأخوذا من الغز والغز الشذق وهما غزان سميت بذلك لأنها في فم الشام مما يلي شقة البحرى، ويكون مأخوذا من قول العرب أغزت البقرة فهي مغز إذا عسر حملها سميت بذلك لعسر السير إليها على الناس والدواب للرمل المتاخم لها، وتعرف في القديم بغزة هاشم، سميت بهاشم بن عبد مناف جد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، وإليها كانت رحلة قريش هي إحدى الرحلتين المذكورة في القرآن، رحلة الشتاء والصيف [1] وهي الصفية منها، وكان عليها حصن منيع قد بقيت منه بقية إلى الآن (المخطوط ص 282) هدمته قيس، لما جاء إليها بعض قبائل اليمن وفيها يقول أبو عامر السلمي في قصيدته المسماة بالذاهبة وهي ثلاثمائة بيت يهجو بها اليمن ويذكر مثالبهم في القرآن والأخبار، ويذكر مناقب قريش: [الوافر] ونحن الموقدون على حروري ... ونحن لحصن غزة هادمونا وفي غزة قبر هاشم بن عبد مناف، وبذلك قيل لها غزة هاشم، وهاشم أول من مات من بني عبد مناف، وكانوا أربعة أخوة؛ هاشم هذا وقبره بغزة، ثم مات بعده أخوه عبد شمس وقبره بمكة بالحجوان، ثم مات بعده أخوهما نوفل بطريق العراق بموضع يقال له سلمان وقبره هناك، ثم مات بعده أخوه المطلب بأرض اليمن في موضع يقال له ردمان وقبره هناك، فهؤلاء بنو عبد مناف الأربعة. (تتمة في ذكر سبب سفرهم الموجب لموت من مات منهم غريبا) اتفقوا على أنه كان لعبد مناف خمسة بنين وهم سادة قريش كلها هاشم

_ [1] إشارة إلى قوله تعالى: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ، إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ [قريش، الآية: 1] .

والمطلب ونوفل وعبد شمس، وأبو عمرو ومات صبيا ولم يكن له خبر مع إخوته، وكانت العرب وقريش كلها تسمى بني عبد مناف هؤلاء الأربعة فضاح النضار لشرفهم وجمالهم وبهائهم، وكانت قريش كثيرة التجارة إلا أنهم كانوا لا يخرجون من مكة والحجاز، وكانت الأعاجم تأتيهم بالبضائع فيشترون منهم ويبيعونهم، فأقاموا على ذلك زمانا طويلا حتى ركب هاشم بن عبد مناف فخرج إلى الشام فنزل بقيصر ملك الروم. واسم هاشم يومئذ عمر العلي، فكان يذبح كل يوم شاة، ويصنع جفنه ثريد ويجعل اللحم عليها أوصالا، ويدعو من حوله فيأكلون معه، وكان هاشم من أحسن الناس وجها، وأكرمهم أخلاقا، فقيل لقيصر ها هنا رجل قريش يهشم الخبز، ويصب عليه المرق (الخطوط ص 283) ويجعل عليه اللحم، وإنما كانت العجم تجعل المرق في صحاف واللحم في المرق ويلتدمون بذلك، ولم يكونوا رأوا الثريد فسمى هاشما بهشيم الثريد، وفيه يقول شاعرهم بمكة: [الكامل] عمرو العلى هشم الثريد لقومه ... ورجال مكة مسنتون عجاف وهذا أول من فعله من العرب والعجم، فدعاه قيصر، فلما رآه وكلمه، أعجبه إعجابا عظيما، فقال له هاشم: أيها الملك إن لي قوما هم تجار العرب، فإن رأيت أن تكتب لي كتابا تؤمنهم فيه على أنفسهم وما معهم من المال والبضائع وغير ذلك فإنهم يقدمون عليك بما تستظرفه من أدم الحجاز وثمره وغير ذلك مما يصير إليهم ولا يبلغك من طرف البلاد، فأمر أن يكتب له كتاب جامع للعرب، وأخذه هاشم وسار فصار كلما جاء حيا من أحياء العرب على طريق الشام أخذ من أشرافهم إيلافا، والإيلاف أن يأمنوا عندهم وفي أرضهم على أنفسهم وأموالهم، وأخذ هاشم الإيلاف من جميع القبال ممن بينه وبين الشام حتى قدم مكة، فأتاهم بشيء لم يأتهم بمثله أحد قط فسروا بذلك سرورا عظيما، وخرجوا

تنبيه

بتجارة عظيمة، وخرج هاشم معهم يحوطهم ويؤمنهم ويجمع بينهم وبين رؤساء العرب في جميع طريقهم حتى ورد بهم الشام فأحلهم غزة ومات هاشم في ذلك السفر، فدفن بغزة. [1] ثم خرج أخوه المطلب إلى اليمن ففعل كفعل هاشم بالشام، وأخذ من ملوك اليمن عهدا لمن يجيء ويسافر إليهم من قريش، ثم أقبل يأخذ الإيلاف ممن يمر به من العرب حتى أتى مكة كما فعل هاشم، وكان المطلب أكبر ولد عبد مناف، وكان يسمى الفيض لكرمه وهلك عبد المطلب بردمان من أرض اليمن في سفرة سافرها. وخرج عبد شمس بن عبد مناف إلى ملك الحبشة فأخذ منه كتابا وعهدا لمن يجيء من قريش، ورجع يأخذ (المخطوط ص 284) الإيلاف من كل من مر به من العرب من بلاد الحبشة إلى أن أتى مكة كما فعل هاشم والمطلب، فمات بمكة وقبره بالحجون، وكان أكبر من هاشم. وخرج نوفل بن عبد شمس بن عبد مناف، وكان أصغر من إخوته إلى العراق، فأخذ عهدا من كسرى، ثم عاد يأخذ الإيلاف إلى أن أتى مكة، ثم رجع تاجرا إلى العراق، فمات بسلمان في طريق العراق. تنبيه البيت المقدم ذكره اختلف فيه، وأصح الروايات أنه لابن الزبعري، والزبعري في اللغة التعبير اللازب الكثير شعر الأذنين والرأس، وفيه قصر وغلظ، وهو من قصيدة له في هاشم وإخوته على أقواء في البيت الآخر منها وهي: [الكامل] يا أيها [2] الرجل المحول رحله ... هلا مررت بآل عبد مناف

_ [1] وردت في المخطوط مناف فقط. [2] وردت بالمخطوط يايها.

هبلتك أمك لو مررت بدارهم ... لحموك من جوع ومن إقراف المطعمون إذا الرياح تناوحت ... والظاعنون لرحلة الإيلاف والآخذون العهد من أكفافها ... والناهشون لمقدم الأضياف عمرو العلى هشم الثريد لقومه ... ورجال مكة مستنون عجاف قلت: وهذه خاتمة في ذكر الرحلة، جر الكلام إليها قربها من غزة، يقال أن الذي أحدثها سليمان بن عبد الملك بن مروان [1] ، وإن مدينة فلسطين كانت قبلها له، وأن سليمان وليها من قبل أبيه، وهو صبي، وكان معه من قبل أبيه من يدبره، ويشير عليه، والاسم في الإمارة لسليمان، وكان إلى جانب كنيسة لد بستان، حسن العمارة مليح الموضع، كثير الفواكه، وكان سليمان كثيرا ما يستحسنه، ويجلس فيه، ويستطيبه، فقال يوما للشيخ الذي يرجع إلى رأيه، وكان يسمى رجاء بن حيوة: أحب أن تشتري لي هذا البستان حتى أبني فيه من الأبنية ما يصلح لثلثنا، فكان البستان للقسيس الذي يتولى أمر الكنيسة، وأحضره رجاء وقال (المخطوط ص 285) له ذلك فقال: سمعا وطاعة أحضرني القاضي والشهود حتى أشهد على نفسي بذلك، وأفرغ منه الساعة، فأحضرهم وحضر القسيس فقال لهم جميعا: ألستم تعلمون أن هذا البستان لي، وفي ملكي ويدي، لا مانع لي ولا معارض لي فيه؟، فقال له القاضي والشهود: نعم؛ يريدون بذلك تصحيح الملك، ليصح البيع، فقال لهم: أشهدوا الآن أنى قد حبسته على الكنيسة حبسا تبتلا لا رجعة لي ولا مثنوية فيه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فسقط في أيديهم وتم مكره، وعظم ذلك على من حضر،

_ [1] سليمان بن عبد الملك بن مروان 54- 99 هـ/ 674- 717 م الخليفة الأموي السابع، أسس مدينة الرملة في فلسطين، وحاصر القسطنطينية، ولم يقو على فتحها توفي في دابق (المنجد في الأعلام 307) .

وهم سليمان بقتله، فمنعه من ذلك رجاء، ورفق به وشاغله، وقال له: سربنا نتفرج ونبرم أمرا يكون فيه هلاك الكنيسة وغيرها، فركبا، وأمر سليمان أن لا يتبعهما أحد، فلما فصلا من لد رأيا بيتا من الشعر مضروبا على ربوة من الأرض هي الآن موضع المصلى، وكان الحر قد اشتد، فقال له رجاء أعدل بنا إلى هذا البيت لتنظر من به، ونريح فيه إلى أن يبرد النهار، فقربا من البيت، وسلما على من فيه وهما لا يريان أحدا، فبرزت لهما منه امرأة ذات برقع ردت عليهما السلام بأحسن رد ولفظ، وسألتهما النزول عندها بلسان فصيح وعزم صحيح، فنزلا، وسألتهما أن يتخففا ويستريحا عندها، وأعجبهما فعلها، ونسى سليمان أمر البستان إعجابا بكرمها وعقلها، وسألاها عن اسمها فقالت: رملة وعرفتهما أن لها بعلا في ماشية اسمه لدّ، وعرضت عليهما الغداء واللبن، وقالت عندي اللبن الحلو واللبن الحامض والخبز الحار والخبز البارد، لأن إيثاري يخالف إيثار بعلى في الطعام، وأنا أعد له ما يؤثر، وأعد لنفسي ما أشتهيه، وقدمت لهما في كل شيء من ذلك، وثردت لهما، وقد ذهلا من حسنها وجمالها وأدبها وحسن فعلها في جميع ما تحاوله، وأقسمت عليهما ليأكلان، وقالت: لو جاز لي أن آكل معكما لفعلت، والطعام يدعو الكرام (المخطوط ص 286) إلى نفسه، فأكلا ونظرا إلى ما حول البيت من الشجر والضياع وغير ذلك، فاستحسنا الموضع، وإشرافه على ما حوله من العمارة. فقال رجاء لسليمان: لو أمرت ببناء دير ها هنا للنصارى ومسجد للمسلمين، وأمرت في النداء بالناس من أحب أن يكون في حمى من المسلمين والنصارى، فليبن دارا إلى جنب مسجده وديره، لصارت مدينة، ولتعطلت الكنيسة بالدير، وهذا الموضع أحسن من موضع لد، وأعلى، ففعل ذلك، وتبادر الناس من كل أدب من المسلمين والنصارى يحيطون المنازل والقصور على قدر

هممهم ونعمهم. وكان سليمان خط مسجدا صغيرا ودارا للإمارة لطيفة، فقال له رجاء: غيّر هذا فإنها ستكون مدينة عظيمة فخط مسجدا عظيما كبيرا ودارا واسعة، وهو هذا الجامع، وهذه الدار المعروفة بدار الإمارة. ثم أن سليمان أراد هدم الكنيسة وأخذ رخامها وعمدها للجامع فراجعه رجاء عند ذلك، وبعث إلى عبد الملك يخبره بما فعل القسيس من غدره ومكره وما فعلاه من بناء المدينة والجامع، وكتب عبد الملك إلى ملك الروم وكان الإسلام في ذلك الوقت ظاهرا على الروم، فأنقذ ملك الروم إلى عبد الملك من دله على موضع أخرج منه عمدا لم ير مثلها في الاعتدال والحسن، وأخرج معهما رخاما منشورا، وغير منشور ما كفى الجامع وفضل عنه. يقال أنه كان في ضيعة من الداروم [1] ، داروم وغزة، يقال لها عمودا، وكان أكثر ما نال النصارى من ذلك أن ملك الروم ألزمهم نقل العمد والرخام من عمود إلى الجامع وسميت المدينة الرملة باسم المرأة المقدم ذكرها، وأحسن سليمان إليها وإلى بعلها.

_ [1] الداروم: قلعة بعد غزة للقاصد إلى مصر (مراصد الاطلاع 2/508) .

فهرس المحتويات

فهرس المحتويات مقدمة المحقق 5 في ذكر ممالك الإسلام جملة الباب الأول: في مملكة الهند والسّند 37 الباب الثاني: في مملكة بيت جنكيز خان 93 الفصل الأول: في الكلام عليهم جمليا 95 الفصل الثاني: في مملكة القان الكبير 127 الفصل الثالث: في التورانيين وهم فرقتان 139 الفرقة الثانية في خوارزم والقبجاق 175 الفصل الرابع: في مملكة الإيرانيين 195 الباب الثالث: في مملكة الجيل 231 الفصل الأول: في بومن 239 الفصل الثاني: في صاحب توليم 243 الفصل الثالث: في كسكر 247 الفصل الرابع: في رسفت 251 الباب الرابع: في مملكة الجبال 255 الفصل الأول: في الأكراد 225 الفصل الثاني: في اللر 273

الفصل الثالث: في الشول 279 الفصل الرابع: في شنكاره 283 الباب الخامس: في مملكة الأتراك بالروم 287 (وكان من حديث هذا اسلامش المذكورة) 319 الفصل الأول: في مملكة كرمينان 327 الفصل الثاني: في مملكة طغرلر 333 الفصل الثالث في مملكة توازا 337 الفصل الرابع: في مملكة عبدلي 341 الفصل الخامس: في مملكة كصطمونية 345 الفصل السادس: في مملكة فاويا 349 الفصل السابع: في مملكة برسا 353 الفصل الثامن: في مملكة اكيرا 357 الفصل التاسع: في مملكة مرمرا 361 الفصل العاشر: في مملكة نيف 365 الفصل الحادي عشر: في مملكة مغنيسيا 369 الفصل الثاني عشر: في مملكة بركي 373 الفصل الثالث عشر: في مملكة فوكه 377 الفصل الرابع عشر: في مملكة إنطاليا 381

الفصل الخامس عشر: في مملكة قراصار 385 الفصل السادس عشر: في مملكة أزمناك 389 الباب السادس: في مملكة مصر والشام والحجاز 413 ذكر هيئة جلوسه للمظالم 436 ذكر هيئته في بقية الأيام 438 ذكر هيئته في الأسفار 439 ذكر انتهاء الأخبار إليه 442 فصل 444 زي ذوي العمائم المدورة 449 الكلام على أرباب الوظائف في هذه المملكة 451 ذكر الوظائف 453 فصل 459 ذكر عادة هذه المملكة في الخلع ومراتبها 467 ذكر العيدين 471 فصل 476 الباب السادس: القاهرة 485 الاسكندرية 490 دمياط 497

ذكر برقة 502 ذكر المملكة الثانية وهي مملكة الشام 505 ذكر دمشق وبنائها 509 أسماء بعض جهاتها 513 جملة أعمال دمشق 525 بعلبك 528 حمص 531 حماة 533 حلب 535 طرابلس 538 صفد 541 القدس 543 الكرك 547 الشوبك 550 غزة 552 فائدة جليلة تتعلق بذكر غزة 554

[الجزء الرابع] مسالك الأبصار في ممالك الأمصار

الجزء الرابع

هذا الكتاب بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد: فهذا هو السفر الرابع من" مسالك الأبصار في ممالك الأمصار" لشهاب الدين أحمد بن يحيى بن فضل الله العمريّ الدمشقيّ المتوفى بها سنة 749 هـ/ 1349 م، وفيه من الباب السابع إلى الباب الخامس عشر، وقد اختصّ به صاحبه ممالك الإسلام في اليمن، والغرب الإسلاميّ في امتداده الإفريقيّ (شمال ووسط إفريقية) ، والأوروبيّ (الأندلسي) ، إضافة إلى باب خاصّ عقده في ذكر العرب الموجودين في زمانه" لمناسبة بينه وبين الأبواب السابقة، إذ مساكن العربان متخللة لأكثر الممالك (المذكورة) ، أو مجاورة لها" «1» على حدّ تعبيره. وقد بدأ العمريّ كتابه هذا في سنة 738 هـ/ 1337 م، واستمرّ به حتى سنة وفاته، ومات ولم يكمله، واعتمد في تصنيفه على طائفة من المصادر الخطية والشفهية تبدو أهميتها في الجانب الأول في الاحتفاظ بنصوص باتت مفقودة في وقتنا الحاضر كتلك النصوص التي نقلها من كتاب" المغرب في حلى المغرب" لابن سعيد المغربي «2» (ت 685 هـ/ 1286 م) ، وفي الجانب الثاني في التوفر على معلومات وأخبار تتعلق بالممالك- موضوع الكتاب- نقلها عن رجال زاروا تلك الممالك، أو أقاموا فيها، أو خدموا لدى سلاطينها.

أما حضوره الشخصيّ في سياق الكتاب فيبدو محدودا لا يتعدى مواضع معدودة، قيّد فيها ما شاهده أو لمسه بنفسه في مصر، «1» والشام، «2» والحجاز «3» مما يتصل بموضوع الكتاب، إضافة إلى بعض المداخلات والتعليقات التي عبر عنها بقوله:" قلت"، ولعلّ العمريّ قد وجد في مصدريه السالفين (الخطيّ والشفهيّ) ما يحقق الغرض الذي من أجله شرع في تأليف موسوعته وهو معرفة ممالك الأرض، وأحوال كلّ مملكة في عصره، ومن بينها ممالك الإسلام في هذا الكتاب، خاصة وأنّ الأدوار الرفيعة التي شغلها في سلطنة الناصر محمد بن قلاوون (ت 741 هـ/ 1341 م) ومن بينها رئاسة ديوان الإنشاء، والدوادارية (ومنها قراءة البريد على السلطان) قد أتاحت له تكوين صورة وافية عن العالم الخارجيّ، كما هيأت له الاتصال بمصادر وقنوات إخبارية متعددة ومتنوعة. ولقد سبق لكتابنا هذا أن ظهر في أجزاء متفرقة، وفي أزمان متباعدة، وعلى أيدي ناشرين مختلفين: * فقد نشر أيمن فؤاد سيد الباب السابع الخاصّ بمملكة اليمن عن دار الاعتصام في القاهرة سنة 1394 هـ/ 1974 م. وأعاد نشره مع الباب السادس (مملكة مصر والشام والحجاز) عن المعهد الفرنسيّ للآثار الشرقية في القاهرة سنة 1985 م. * ونشر مصطفى أبو ضيف أحمد الأبواب من (8- 14) الخاصة بممالك المسلمين في

إفريقية سنة 1988 م. * ونشر حسن حسني عبد الوهاب منه وصف المغرب والأندلس في تونس سنة 1341 هـ. * ونشرت الألمانية دوروتيا كرافولسكي (D.Krawulsky) الباب الخامس عشر الخاصّ بالقبائل العربية عن المركز الإسلاميّ للبحوث في بيروت سنة 1406 هـ/ 1985 م. وها نحن نقوم بلمّ شتات هذه الأجزاء، وضمّ عناصرها بعضها إلى بعض في خطوة تعيد لهذه الموسوعة وحدتها التي أرادها لها المؤلف، دون أن يعني ذلك الانتقاص من جهود من سبقونا في مصافحة الكتاب، والتعرف عليه، وكما يقول سعيد بن المسيّب فيما نقل عنه: " إنه ليس من شريف ولا عالم ذي فضل، يعني من غير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إلا وفيه عيب، ولكن من الناس من لا ينبغي أن تذكر عيوبه، فمن كان فضله أكثر من نقصه، وهب نقصه لفضله".

منهج التحقيق

منهج التحقيق 1- وصف النسخ المعتمدة اعتمدت في تحقيق هذا الكتاب على مصورة الأستاذ العلامة الدكتور فؤاد سزكين عن تتمة الجزء الثاني وتمام الجزء الثالث لنسخة مكتبة أحمد الثالث (Top Kapi Saray) رقم: 2797 «1» ، وهي نسخة كتبت في الأصل برسم خزانة السلطان المملوكيّ الملك المؤيّد شيخ ابن عبد الله المحمودي (ت 824 هـ/ 1421 م) ، وأوقفها صاحبها المؤيّد على طلبة العلم بجامعه (المؤيدي) في القاهرة. يقع القسم الأول (التتمة) في (109) صفحات، من الصفحة (462- 570) ، ويغطي الأبواب (7- 14) . أما القسم الثاني (الجزء الثالث) فيقع في (75) صفحة بما فيها العنوان من الصفحة (1- 75) ، وهو خاصّ بالباب الخامس عشر فقط. وبالرغم من أنّ القسمين ينتميان إلى" نسخة"، أو" سلسلة" واحدة إلا أنّه لا يوجد ما يدعو إلى الاعتقاد بنسبتهما إلى ناسخ واحد (قارن بالنموذجات المصورة) وإن كانا يشتركان في صفة واحدة تكاد تكون ملازمة لكلّ منهما، وهي كثرة التصحيفات والتحريفات والأخطاء الواردة فيهما، وبصورة تضيق عن الحصر والاستيعاب. أما الرسم الذي اتبع في كتابة هذه النسخة فيصعب حصره تحت قاعدة ثابتة حتى داخل الصفحة الواحدة، وخاصة فيما يتعلق بكتابة الهمز، والألف المتوسطة في الأسماء، وألف ابن، فقد تظهر في مواطن، وتختفي في مواطن أخرى، وقد يتصل العدد بالمعدود في

الأعداد من (300- 900) وقد يفصل ما بينهما. أما في مجال التنقيط، فقد توضع نقطتان تحت الكلمات المنتهية بألف مقصورة، في حين تترك الياء في الكلمات المنتهية بياء بغير إعجام، وبالعكس. وفيما يخصّ الشكل، فإن النسخة بقسميها تبدو شبه مشكولة، وإن كان القسم الثاني (الباب الخامس عشر) يتميز بجدية أكثر في هذا المجال. كما اعتمدت في تحقيق الباب الخامس عشر- إلى جانب نسختنا السالفة- على مطبوعة كرافولسكي لهذا الباب، واعتبرتها نسخة ثانية، ورمزت لها على مدار التحقيق بالحرف (ك) . وقد أمكن لي عن طريق هذه المطبوعة ضبط بعض الكلمات أو العبارات غير الواضحة أو الساقطة في نسختنا، خاصة وأن كرافولسكي حشدت في تحقيقها إلى جانب نسختنا نسختين أخريين هما: نسخة آيا صوفيا، رقم: 3417، ونسخة بودليانا (أكسفورد) ، رقم: 288، فضلا عما تميزت به كرافولسكي من معرفة واسعة بالتاريخ والتراث الإسلاميين، الأمر الذي أتاح لها تقديم قراءة راقية للنص، وأتاح لنا في الوقت نفسه الانتفاع بهذه القراءة. واعتمدت أيضا على" صبح الأعشى في صناعة الإنشاء" للقلقشنديّ (ت 821 هـ/ 1418 م) ، واعتبرته نسخة ثالثة، إذ لا يخفى حجم النصوص التي استمدّها القلقشنديّ حرفيا من" المسالك"، وأودعها في" صبحه"، غير أنّ العود إلى" الصبح" لم يكن كلّه أحمد، فقد أدى التباين في رسوم بعض الأسماء (أسماء الأشخاص، والقبائل، والأمكنة،

والحيوان، والنبات) ما بين نسختنا من" المسالك" ونسخة القلقشنديّ إلى ضياع الصورة الحقيقية لهذه الأسماء، وزاد الأمر تعقيدا أنّ النسخة التي استخدمها الناشرون من دار الكتب المصرية في معارضة" الصبح"، قد خالفت في العديد من المواضع النسختين السالفتين معا، بحيث يمكن القول: إنّ فائدتنا من" الصبح" في المواطن التي تطلب فيها الفائدة، ويصبح الظفر بها ضرورة ملحة كانت معدومة، أو شبه معدومة. ولقد كان يمكن ل" قلائد الجمان في التعريف بقبائل عرب الزمان"، و" نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب" أن يسدّا جانبا من الثّلمة ما بيننا وبين" الصبح" في موضوع القبائل لولا أنّ يد التحريف قد طالتهما أيضا حتى إنك لتجد أحيانا للاسم الواحد في المصادر الثلاثة عدة رسوم وصور مختلفة، وكلّها لمؤلف واحد! «1» .

2 - خطة العمل

2- خطة العمل ما من شك، فإنّ نشر المادة التاريخية بالصورة التي وصلت فيها إلينا بدعوى الحفاظ على الأصل أو النصّ، لن يعدو أن يكون سوى إضافة مصورة جديدة إلى مصوراتها المحفوظة في المكتبات مهما بولغ في ترتيبها، وتزيينها، وحسن إخراجها، ناهيك عما لهذه الخطوة من مخاطر؛ كأن ننسب إلى المؤلف ما هو في الحقيقة من أخطاء الناسخ، أو تأخذنا مكانة المؤلف فننسب للناسخ ما هو في الحقيقة من أغلاطه، علما أن صحة النصّ وسلامته لا تتأتيان إلا باستنقاذه من كلّ ما علق به من أخطاء، وهو ما عملت جاهدا على تحقيقه في هذا الكتاب، يحدوني إلى ذلك أمل الوصول إلى ما كان ينوي المؤلف فعلا أن يقوله- خطأ كان أم صوابا- وأحسبني- ولا أزكي نفسي- قد قطعت شوطا ملحوظا في هذا المضمار على صعيدي الشكل والمضمون: فعلى الصعيد الأول «1» : 1- احتفظت بالترقيم الأصليّ لصفحات المخطوط، وذلك بتخصيص قوسين داخل السياق لهذا الغرض. 2- كتبت النصّ وفق الرسم الكتابيّ الحديث والمتداول، متداركا بذلك ما قد سلف من الرسوم، وهو ما تطّلب مني تحقيق الهمز، وإثبات الألف المتوسطة في الأسماء، وحذف همزة (ابن) في حال وقوعها صفة مفردة بين علمين (اسم، كنية، لقب) ، وكذلك حذف ألف" مائة" والفصل بينها وبين العدد.

3- قمت بضبط النصّ بالشكل استكمالا للصورة الأولية له، وهي صورة شبه مشكولة كما أسلفت. 4- أصلحت المواضع التي خرج فيها النصّ عن أحكام الإعراب، ووضعتها بين حاصرتين، ونبهت إليها في الهامش. 5- صوبت الأخطاء الكتابية التي لا يخفى صوابها على أحد، والتي لا يمكن أن تقرأ بغير الوجه الذي أثبتّها عليه، ولم أر ضرورة للتنبيه إليها، إذ لا فائدة ترتجى ولا حقيقة تجتلى من وراء ذلك، سوى أن تغمر الحواشي وجه النص، خاصة وأنّ هذه الأخطاء لا تعدو أن تكون من جنس الأخطاء الطباعية في وقتنا الحاضر. 6- أصلحت الكلمات والعبارات التي لحق بها طمس، أو محو، أو اضطراب، وأما ما استعصى على القراءة منها فقد مثلت له بنقاط، بحيث تدلّ كلّ ثلاث نقاط على كلمة واحدة. 7- أضفت إلى النصّ ما احتيج إليه من حروف، أو كلمات، أو عناوين اقتضاها السياق، وميزتها عن المتن بوضعها بين قوسين مكسورين: () وأما على الصعيد الثاني: 1- فقد قمت بردّ ما وقفت عليه من النصوص المنقولة إلى مصادرها الأصلية، ونبهت إلى طريقة المؤلف في استخدامها. 2- قمت بمناظرة الحوادث والأخبار الواردة في النصّ بما ورد بشأنها في المصادر التاريخية، وأشرت إلى ما بين رواية المؤلف وبين هذه المصادر من فروق، ورجّحت ما رأيته منها

صوابا. 3- أصلحت الأخطاء الجغرافية والتاريخية الناجمة عن السهو، أو التي دلت قرينة واضحة من النصّ نفسه أو مصدر آخر على صوابها، ووضعتها بين حاصرتين، ونبهت إلى الأصل في الهامش. وأما ما خالطني فيه تردد، أو كان له وجه آخر يحمل عليه فقد أبقيته على حاله منبها إليه في الهامش. 4- خرّجت الآيات القرآنية الكريمة، والأحاديث النبوية الشريفة، والأشعار. 5- عرّفت أسماء الأعلام، والشعوب والقبائل والجماعات، والأمكنة «1» ، وغيرها من أسماء الحيوان، والنبات، والملابس، والنقود، والمكاييل والموازين والمقاييس، سواء وردت هذه الأسماء نصا في السياق أو كانت هي المعنية فيه، أما المواضع التي تكفّل النصّ بتعريفها فقد اكتفيت بالإحالة إلى المصادر والمراجع الخاصّة بها تحاشيا للتكرار. 6- كما شرحت الألفاظ اللغوية والمصطلحات الفنية والحضارية، ووقفت بالتعليق على كلّ ما رأيته جديرا بالتعليق خدمة للنصّ، وسعيا وراء تأمين أكبر قدر من الاتصال بينه وبين القارئ. هذا، ولن يفوتني في الختام أن أتوجه بالتحية إلى أسرة المجمع الثقافي، القائمين على نشر موسوعة «مسالك الأبصار» باذلين جهدا في سبيل إحياء تراثنا. كما أحيي الأخ محمد حماد جاسم على ما تحلى به من صبر وحلم وطول أناة في أثناء

طباعة الكتاب، وفي جميع مراحل التحقيق. " ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله" والله الموفق للصواب، وهو يهدي إلى سبيل الرشاد د. حمزة أحمد عباس ثغر الحديدة 5 جمادى الآخرة 1421 هـ 4 أيلول (سبتمبر) 2000 م

3 - الرموز المستعملة في التحقيق

3- الرموز المستعملة في التحقيق الأصل: تتمة الجزء الثاني، وتمام الجزء الثالث لنسخة مكتبة أحمد الثالث بإستانبول، (Top Kapi Saray) رقم: 2797 المؤلف: ابن فضل الله العمري. ك: مطبوعة كرافولسكي للجزء الثالث (الباب الخامس عشر) . () : هذان القوسان العاديان لحصر أرقام صفحات المخطوطة. () : هذان القوسان لحصر الآيات القرآنية الكريمة. "": هاتان الفاصلتان المزدوجتان لحصر: - الأحاديث النبوية الشريفة. - النقول والاقتباسات الحرفية. - أسماء الكتب. ... : هذه النقاط تستخدم للدلالة على الكلمات غير المقروءة، أو البياض الواقع في الأصل بحيث تدل كل ثلاث نقاط على كلمة واحدة. [] : هاتان الحاصرتان تستخدمان لحصر. - ما نقل من حاشية المخطوط إلى المتن. - ما زيد على النص من مصادر أخرى. - ما صوب من أخطاء، سواء من قبلنا، أو استنادا إلى مصادر أخرى. () : هذان القوسان المكسوران يستخدمان لحصر كل ما احتيج إليه من حروف، أو كلمات، أو عناوين اقتضاها السياق.

4 - المختصرات الخاصة ببعض المؤلفين أصحاب الكتب المفردة وغيرهم

4- المختصرات الخاصة ببعض المؤلفين أصحاب الكتب المفردة وغيرهم ابن بطوطة، يعني: تحفة النظار في غرائب الأمصار. ابن حزم- يعني: جمهرة أنساب العرب. ابن حوقل يعني: صورة الأرض. ابن خلدون يعني: تاريخه: العبر وديوان المبتدأ والخبر ... ابن خلكان يعني: وفيات الأعيان. ابن عبد ربه يعني: العقد الفريد. ابن العربي يعني: كتاب المغرب. ابن هشام يعني: السيرة النبوية. الإدريسي يعني: نزهة المشتاق في اختراق الآفاق. الأشرف الرسولي يعني: طرفة الأصحاب في معرفة الأنساب. الحميري يعني: الروض المعطار في خبر الأقطار. الزركلي يعني: الأعلام. الزهري يعني: الجغرافية. السويدي يعني: سبائك الذهب في معرفة قبائل العرب. كحالة يعني: معجم قبائل العرب.

وأخذت عن" معجم البلدان،" و" المشترك وضعا والمفترق صقعا" لياقوت، ورمزت للأول منهما فقط بياقوت. كما أخذت عن" الإنباه على قبائل الرواة"، و" الاستيعاب في معرفة الأصحاب" لابن عبد البر، ورمزت للأول منهما فقط بابن عبد البر.

5 - نموذجات مصورة عن النسختين المعتمدتين في التحقيق

5- نموذجات مصورة عن النسختين المعتمدتين في التحقيق آ- تتمة الجزء الثاني- أحمد الثالث 2797/2 الباب السّابع في مملكة اليمن وفيه فصلان الفصّل الاول فيما بيد اولاد رسول الورقة (462) وتمثل بداية مملكة اليمن

الورقة (463) وتمثل مستهل الحديث عن مملكة اليمن

الورقة (570) وتمثل نهاية الجزء الثاني

ب - الجزء الثالث - أحمد الثالث 2797/ 3

ب- الجزء الثالث- أحمد الثالث 2797/3 الورقة (الأولى) وتمثل طرة الجزء الثالث (الباب الخامس عشر) الخاص بقبائل العرب

الورقة (الثانية) وتمثل جانبا من مقدمة المؤلف للجزء الثالث

الورقة (75) وتمثل نهاية الجزء الثالث

النص المحقق

تتمة النوع الثانى فى ذكر مماليك الاسلام

[تتمة النوع الثانى فى ذكر مماليك الاسلام] الباب السابع في مملكة اليمن وفيه فصلان الفصل الأول: فيما بيد أولاد رسول (463) الفصل الثاني: فيما بيد الأشراف

(في مملكة اليمن) واليمن إقليم متّسع، وله ذكر قديم، ذكر البكريّ أن عرضه ست عشرة مرحلة، وطوله عشرون مرحلة، المرحلة ستّة فراسخ «1» ، وهو كرسيّ ملك التّبابعة من حمير «2» ، وبه كانت سبأ «3» ،

وفيه كانت بلقيس وعرشها المذكور في القرآن الكريم «1» ، وحدوده من القبلة الموضع المعروف بطلحة الملك «2» ، ومن الشرق [حاء وحكم] «3» ، ومن الغرب ... «4» ، ومن [الجنوب] «5» عدن. وهو يشتمل على عدة بلاد وقلاع وحصون حصينة، ولكنّ مدنه يفصل البرّ ما بين بعضها عن بعض، وبلادها مختلفة: نجود «6» ، وتهائم «7» ، فالنجود باردة الهواء، طيبة المسكن، والتهائم حارة شديدة الحرّ. وقاعدة الملك بها تعزّ وزبيد، وتعزّ من النجود مبنية على جبل شاهق «8» ، وزبيد من

التهائم مبنية في وطاءة. واليمن مفرّق الملك بعضه بيد الشرفاء المطيعين لإمام الزيديّة «1» ، لا يطيعون إلا لأئمتهم القائمين منهم إماما بعد إمام، وقاعدة تملكه صنعاء، وبعضه بيد أكراد «2» عصاة على ملوك اليمن، وبعضه بأيدي عرب لا تطيع، وهذا الكلام عليها جمليا فلنتكلم عليها تفصيلا.

الفصل الأول فيما بيد أولاد رسول

الفصل الأول فيما بيد أولاد رسول «1» فأمّا معظم اليمن فمع تعزّ وزبيد، وصاحبهما هو المشار إليه إذا قيل: صاحب اليمن، وأخبرني بجملة ما أذكر من أحوالها أبو جعفر أحمد بن محمد المقدسيّ عرف بابن غانم «2» ، وكان من كتّاب الإنشاء «3» بمصر وبدمشق، ثم دخل اليمن وخدم بها صاحبها إذ ذاك الملك المؤيد داود (بن يوسف) بن عمر «4» رحمه الله في كتابة الإنشاء واختصّ به،

وأبو محمد عبد الباقي بن عبد المجيد اليمنيّ الكاتب «1» ، وجملة ما أذكره عنهما ولا أميّز الآن قول كلّ واحد منهما على التّخصيص، وهو: أنّ صاحب اليمن يصيف بتعزّ ويشتي بزبيد. وتعزّ «2» بلد كثير الماء، بارد الهواء، كثير الفاكهة من العنب (464) والرمّان والسّفرجل والتفّاح والخوخ والتّوت والموز والبطيخ الأخضر والأصفر، ويوجد به كثير من أنواع الفاكهة، وإن كان قليل المقدار، فأمّا الموز والليمون والأترجّ «3» وما يناسبه فكثير إلى غاية، ويوجد بها كثير من الرياحين والزهور خلا البنفسج والنّيلوفر «4» ، وربما احتاج ساكنها إلى لبس الفراء في بعض أحيانها. وأما زبيد «5» فإنها شديدة الحرّ ولا يبرد ماؤها ولا هواؤها، وهي أوسع رقعة، وأكثر بناء، ولها نهر جار بظاهرها.

وأما مساكن الملك «1» فيهما فنهاية في العظمة، وفرش الرّخام والسّقوف المدهونة وأخصّاء الملك بها الخصيان هم خاصته المقرّبون وهو متوفر في غالب وقته على لذاته، والمتعة في قصوره بجواريه وقيانه، وله أرباب دولة ووظائف، ينحو في أموره منحى صاحب مصر «2» يتسمع أخباره، ويحاول اقتفاء آثاره في أحواله وأوضاع دولته غير أنه لا يصل إلى هذه الغاية، ولا تخفق عليه تلك الراية لقصور مدد بلاده، وقلة عدد أجناده. أخبرني أقضى القضاة أبو الربيع سليمان بن محمد «3» بن قاضي القضاة الصدر سليمان الحنفيّ، وكان قد توجه إلى اليمن وخدم في ديوان الجيش «4» به أن مجموع جند

اليمن ما يبلغ ألفي فارس، وينضاف إليهم من العرب الداخلين في طاعته مثلهم وأراني جريدته الموضوعة لذلك فوقفت على بعضها، وضاق وقتي عن الاستيعاب وهي تشهد بما قال. وصاحب هذه المملكة أبدا يرغب في الغرباء، ويحسن تلقيهم غاية [الإحسان] «1» ، ويستخدمهم فيما يناسب كلّا منهم، ويتفقدهم في كلّ وقت بما يأخذ به قلوبهم، ويوطّنهم عنده، وغالب جنده من الغرباء، وإذا دعت حاجة أحد من جنده وغلمانه وأهل خدمته أجمعين إلى شيء وإن قلّ كتب إليه قصة «2» يسأله حاجته فيها فيوقّع عليها بخطّه بإجابته إلى ما سأله، أو إلى بعض ما سأله (465) على ما يراه. وهو قليل التصدي لإقامة رسوم المواكب والخدمة والاجتماع بولاة الأمور ببابه، فإذا احتاج أحد منهم إلى مراجعته في أمر كتب إليه قصة يستأمره فيها، فيكتب عليها بخطّه ما يراه، وكذلك إذا رفعت إليه قصص المظالم هو الذي يكتب عليها بخطّه مما فيه إنصاف الشاكي. ورأيت علامة والد هذا السلطان القائم بها الآن على توقيع، وهو على المصطلح المصري ما مثاله: الشاكر لله على نعمائه في سطر، وتحته داود. ولصاحب هذه المملكة البساتين والمتنزّهات الحسنة يتعهدها في الأحيان ويقيم بها للتنزه بها، وهذا الملك لا ينزل في أسفاره إلا في قصور مبنية له في منازل معروفة من بلاده، فحيث نزل في منزلة وجد بها قصرا مبنيا ينزل به. وباليمن الخيل العراب الفائقة، والبغال نوعان: سروجية للركوب، وحبشية للأحمال، وبها الجمال والحمير وأنواع الدوابّ من البقر والغنم والطير من الإوزّ والد جاج والحمام وغير ذلك.

وهي بلاد رخية كثيرة الحبوب، وأقلّ حبوبها القمح والشعير، وأكثرها الأرزّ والذرة والسّمسم، وبها العسل الكثير وأنواع المقل «1» ، ووقودها السّليط «2» وهو الشّيرج، ولا يوجد بها الزيت ولا الزيتون إلا إن جلب من الشام. واليمن جميعه كثير الأمطار، ولا تنشأ به السحب، ويمطر المطر وقت الزوال إلى أخريات النهار، هذا وقت أمطارها في الغالب، وبها الأنهار الجارية، والمروج الفسح، والأشجار المتكاثفة في بعض أماكنها، ولها ارتفاع صالح من الأموال، وغالب أموالها من موجات التجار الواصلين من الهند ومصر والحبشة مع ما لها من دخل البلاد. وأما الإمرة بها فقد تطلق على من ليس بأمير، وأما الإمرة الحقيقية التي ترفع بها الأعلام (وتدقّ لها) الكوسات «3» فإنها لمن قلّ، وربما أنه لا يتعدى عدة الأمراء بها عشرة نفر. وباليمن أرباب وظائف (466) من النائب «4» والوزير «5» والحاجب «6» وكاتب

السر «1» وكاتب الجيش وديوان المال، وبها وظائف الشادّ «2» والولاية على ما قدّمنا ذكره من أنّه يتشبه بالأحوال المصرية. وباليمن عدن، وهي من أعظم المراسي بها، وتكاد تكون ثالثة تعزّ وزبيد في الذكر، ولها قلعة السمدان «3» المشهورة بالمنعة العظيمة، وبها قلعة، وهي خزانة مال ملوك هذا الإقليم. وصاحب اليمن يهادي صاحب مصر ويداريه لمكان إمكان التسلط عليه من البحر والبرّ الحجازي، وقد كان ملكها الآن الملك المجاهد عليّ بن داود بعد موت أبيه المؤيد نجم عليه من أهله «4» من جاذبه رداء الملك، ونازعه في سلطانه، وأعان الناجم عليه كثير من مماليك أبيه وعسكر اليمن وأهله، فأرسل إلى صاحب مصر السلطان الملك الناصر أبي المعالي محمد بن قلاوون وصية كتبها الملك المؤيد صاحب اليمن قبل موته تتضمن أنّه أوصى إلى السلطان الملك الناصر صاحب مصر على ولده المجاهد علي، وبعث يترامى عليه، ويستمدّ الإعانة

منه، فجهز إليه عسكرا» منعه من عدوّه النّاجم عليه، ومكّن له في اليمن، وبسط يده به، ثم عاد العسكر المصريّ «2» ، وإن لم يكن هذا موضع هذا، ولكنّا ذكرناه تنبيها على تمكن صاحب مصر من (صاحب) اليمن إذا قصده، ثم نعود إلى ما كنا بصدده، فنقول: إن صاحب اليمن لا يزال من الشريف الإمام الزيديّ صاحب صنعاء على مباينة تارة يكون بينهم عهد، وتارة ينبذ العهد بينهم، لأنّ الإمام الزّيديّ له قوة في مكانه ومنعة من أعوانه، ولو استقلّ اليمن لملك واحد كبر محلّه، وعظم قدره في الممالك الجليلة. ولا تزال ملوك اليمن تستجلب من مصر والشام طوائف من أرباب الصناعات لقلة وجودهم باليمن، وليس باليمن أسواق مرضية دائمة، إنما بها يوم من الجمعة تجلب فيه الأجلاب (467) ، وتخرج أرباب الصناعات والبضائع ببضائعهم على اختلافها، وتقام في ذلك اليوم الأسواق، ويباع ويشترى، فمن أعوزه شيء في وسط الجمعة لا يكاد يجده، إلا

المآكل فإنها دائمة (فيها) كغيرها من البلاد، والمعمولات من المآكل في أسواقها للبيع قليلة، بل من أراد شيئا عمله بنفسه. فأما زيّ ملكهم وعامة الجند بها، فأقبية «1» إسلامية ضيقة الأكمام مزنّرة على اليد، ومناطق «2» ، وتخافيف لانس «3» ، ودلاكش، وهي أخفاف من القماش الحرير الأطلس والعتّابي «4» وغير ذلك، ولقد وقعت وحشة بين هذا (الملك) المجاهد وبين بعض أمرائه، وهو عليّ بن عمر بن يوسف الشهابي، فجاء إلى مصر وأقام بها وهو بهذا الزيّ خلا الدّلكش، فإنه قلعه، ولبس الخفّ المعتاد، وهو يحضر الموكب السّلطانيّ بمصر على هذا الزيّ إلى الآن. وحدثني الحكيم الفاضل صلاح الدين أبو عبد الله محمد بن البرهان «5» ، وكان الملك المؤيّد [والد] «6» سلطانها الآن قد طلبه من مصر، واستدعاه، وأعذب ماءه ومرعاه، وأقام لديه حينا من الدهر، بين جنات ونهر، متنقلا معه في ممالكه، متوقّلا «7» على شرفات مالكه.

قال: اليمن أميل إلى الحرّ، وهو كثير المطر في أخريات الرّبيع إلى وسط الصّيف. قال «1» : ولقد أقمت مدة بعدن، وهي مدينة مجلوب إليها كلّ شيء حتى الماء، يحتاج المقيم بها إلى كلفة في النفقات لارتفاع الأسعار بها في المآكل والمشارب، ويحتاج المقيم بها إلى ماء يتبرّد به في اليوم مرات إبان قوة الحر، وإليها مجمع الرفاق، وموضع سفر الآفاق، يحطّ بها من الصين والهند والسّند والعراق وعمان والبحرين ومصر والزّنج «2» والحبشة، ولا يخلو أسبوع بها من عدة تجار وسفن وواردين وبضائع شتى ومتاجر، والمقيم بها في مكاسب وافرة وتجائر مربحة، ولا يبالي بما يغرمه بالنسبة إلى الفائدة، ولا يفكر في سوء المقام لكثرة الأموال النّامية. (468) قال: ولحطّ المراكب عليها وإقلاعها مواسم مشهودة، وإذا أراد ناخوذة مركب فيها السفر إلى جهة، أقام علمه برنك «3» خاصّ له، فعلم التجا (ر) وتسامع الناس، وبقي كذلك أياما ويقع الاهتمام بالرحيل، ويسرع التجار في نقل أمتعتهم وحولهم العبيد بالقماش السريّ والأسلحة النافعة، وتنصب على شاطئ البحر الأسواق، ويخرج أهل عدن للفرجة عليهم. قال الحكيم ابن البرهان:

وأما ظفار «1» فهي لأولاد الملك الواثق «2» [عم] «3» صاحب اليمن، وهم وإن أطلق عليهم اسم الملك نواب له، وظفار أقصد إلى الهند من عدن، وهي على جون خارج من البحر، تنقل البضائع في زوارق صغار فيه حتى تقطع ذلك الجون، ثم توسق «4» ذلك في السّفائن. قال الحكيم صلاح الدين محمد بن البرهان: واسم اليمن أكبر [منه] «5» لا تعدّ في بلاد الخصب بلاده، وغالب دخله مما يؤخذ من التجار والجلّابة برا وبحرا، ومملكة بني رسول السواحل وما جاورها، ولهذا كانت مملكتهم أكثر مالا من مملكة الشرفاء بصنعاء وما والاها على ما يأتي ذكره في مكانه. قال: وشعار هذا السلطان وردة حمراء في أرض بيضاء.

قلت: ورأيت أنا السّنجق «1» اليمنيّ وقد رفع في جبل عرفات سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة، وهو أبيض وفيه وردات حمر كثيرة. قال: وإنما تجتمع لهم الأموال لقلة الكلف في الخرج والمصاريف التي تذهب في سعة النفقات والتكاليف، ولأن الهند يمدّهم بمراكبه، ويواصلهم ببضائعه. وسألته عما بها من الفواكه فذكر غالب ما يوجد بمصر، غير أنّه بالغ في وصف السّفرجل بها. وقال: إنّ القمح يوجد، ولكنه يغلو، واللحوم رخيصة، ويعمل بها السكر والصابون ولكنهما ليسا كما بمصر والشام. قال: ولأهل اليمن سيادات (469) بينهم محفوظة، وسعادات عندهم ملحوظة، ولأكابرها حظّ من رفاهية العيش والتنعم والتفنن في المآكل، يطبخ في بيت الرجل منهم عدة ألوان، ويعمل فيها بالسكر والقلوب، وتطيّب أوانيها بالعطر والبخور، وتكون له الحاشية والغاشية، وفي بيته العدد الصالح من الإماء، وعلى بابه جملة من الخدم والعبيد والخصيان من الهند والحبوش، ولهم الديارات الجليلة والمباني الأنيقة إلا الرخام ودهان الذهب واللّازورد «2» فإن هذا من خواصّ السلطان لا يشاركه فيها مشارك من الرعايا ولا من الأعيان، وإنما فرش دورهم بالخافقيّ وما يجري مجراه، قال: ولسلطانهم بستان يعرف [بثعبات] «3» يطلع إليه ويقيم فيه أياما للنزهة به، فيه قبة

ملوكية ومقعد سلطانيّ فرشهما وأزرهما رخام ملون وبهما عمد قليلة المثل يجري فيها الماء من نبعات تملأ العين حسنا، والأذن طربا بصفاء ضميرها وطيب خريرها، وترمي شيئا سكيهما «1» على أشجار قد نقلت إليه من كلّ مكان تجمع بين فواكه الشّام والهند، ولا يقف ناظر على بستان أحسن منه جمعا، ولا أجمع [منه] «2» حسنا، ولا أتمّ صورة ولا معنى، يهزّ معاطف دوحه الصبا، كأنه في اليمن من بقايا سبا. قال ابن البرهان: وأما كتّاب الإنشاء عنده فإنه لا يجمعهم رئيس يرأس عليهم يقرأ ما يرد على السلطان، ويجاوب عنه، ويتلقى المراسيم وينفذها، وإنما السلطان إذا دعت حاجته إلى كتابة كتب بعث إلى كلّ منهم ما يكتبه، فإذا كتب الكاتب ما رسم له به بعثه على يد أحد الخصيان، وقدّمه إلى السّلطان فيعلّم عليه ويقرّه. قال ابن البرهان: وملوك اليمن أوقاتهم مقصورة على لذاتهم والخلوة مع حظاياهم وخاصتهم من الندماء والمطربين، فلا يكاد السلطان يرى بل (470) ولا يسمع أحد من أهل اليمن له على الحقيقة خبرا مع شدة ضبطهم لبلادهم ومن فيها، واحترازهم على طرقها برا وبحرا من كلّ جهة، فلا يخفى داخل يدخل إليها، ولا خارج يخرج منها. وللتجار عندهم وضع جليل؛ لأن غالب متحصلات اليمن منهم وبسببهم كما قدمنا ذكره.

قلت: وقد كان الملك المظفر «1» ثم ولده الملك المؤيد رحمهما الله تعالى مقصودين من آفاق الأرض، قلّ أن يبقى مجيد في صنعة من الصنائع إلا ويصنع (لأحدهما) شيئا على اسمه ويجيد فيه بحسب الطاقة ثم يجهزه إليه، أو يقصده به ويقدمه إليه من يده فيقبل عليه ويقبل منه، ويحسن نزله، ويسني جائزته، ثم إن أقام في بابه أقام مكرّما محترما، أو عاد عاد محبوا محبورا، ولهما ولع بحبّ الغرباء وكرم متسع في الحباء، يجزلون من نعمهم العطايا، ويثقلون بكرمهم المطايا، ولقد قصدهما كثير من الناس، وحصل [لهم] «2» البرّ والإيناس، ثم تنوّع لهم من الكرامة ما أنساهم أن ينفذوا بسلطان، وأسلاهم عن الأوطان، فحمدوا بالنجاح آمالا، ووردوا خفافا، وصدروا ثقالا، وكان من عادتهما رحمهما الله أن لا يسمحا بعود غريب، ولا يصفحا عن هذا عن بعيد ولا قريب قصدا لعمارة اليمن بإنارة آفاقه بكل شيء حسن، إلا من قدّم لديهما القول بأنه أتاهما راحلا لا مقيما، وزائرا لا مستديما، فإنّهما كانا لا يكلفانه مقاما لديهما ولا دواما في النّزول عليهما، بل يجزلان إفادته، ويجملان إعادته، وأما من جاء إليهما بنيّة مقيم، وأقام لديهما على أنّه لا يريم، فإنهما يرفعان مجده، ويوسعان رفده، ويجريان عليه الأدرار، وإليه السحاب المدرار، ويخليان له دارا، ويخلّيان مملوءا له بصفوف الخدم جدارا «3» ، فإذا أراد الارتحال عن دارهما، مكناه من العود كما جاءهما، وخرج عنهما على أسوأ حال، مسلوبا بما استفاد

(471) عندهما من نعمة ومال، عقابا له على مفارقته لأبوابهما، لا بخلا بما جادت به بوادر سحابهما. وحكى لي غير واحد ممّن قصدهما على أنه يقيم ثم فارقهما على هذا الحال الذّميم من حالاته بكلّ أعجوبة وما وجد، ثم فارقه من نعمهما الموهوبة المسلوبة «1» . قلت: ولقد كانا يبعثان إلى مصر والشام والعراق من يتلقّط لهما محاسن الوجود وأحاسن الموجود، فلا تبقى طرفة من الطّرف إلا اشتريت لهما، ولا من مجيد في شيء من الأشياء إلا استميل إليهما، ورغب في الكثير حتى يقصد حضرتهما فيقيم عندهما، وقلّ من يعود عنهما: ومن وجد الأحباب قيدا تقيدا «2» قلت: وصاحب اليمن لا عدوّ له لأنّه محجوب ببحر زاخر، وبرّ منقطع من كل جهة، والمسالمة بينه وبينهم، فهو لهذا قرير العين، خالي البال، لا يهمّه إلا صدّ، ولا يهيجه إلّا بلبال. «3»

الفصل الثاني فيما بيد الأشراف

الفصل الثاني فيما بيد الأشراف «1» قد تقدم القول على من قام باليمن من أهل هذا البيت الشريف، وهم إلى الآن، وأمرهم على ما كان، وأول قائم منهم: الإمام يحيى الهادي بن الحسين الزاهد بن أبي محمد القاسم الرسّي بن إبراهيم طباطبا بن إسماعيل الدّيباج بن إبراهيم الغمر بن الحسن المثنى بن السيد أبي محمد الحسن بن أمير المؤمنين أبي الحسن عليّ بن أبي طالب «2» سلام الله عليهم ورحمته وبركاته. قام بهذه الدعوة في اليمن، وأعلن مناديه بالإمامة، ورفع بيته، وشيّد له الدّعامة، واستجاب الخلق لندائه، وصلّوا بصلاته، وأمّنوا على دعائه، وقام منهم مقاما محمودا، وأثر فيهم من الصلاح أثرا مشهودا، وفي ذلك يقول «3» : (الطويل)

بني حسن إني نهضت بشأركم ... و [ثار] «1» كتاب الله والحقّ والسّنن وصيّرت نفسي للحوادث عرضة ... وغبت عن الإخوان والأهل والوطن (472) وأكثر ما أطاعت له في اليمن النجود، وانقادت إلى حكمه ودانت له ولإمامته، واجتهدت على استمرار أمره واستدامته. وقام بعد الهادي ولده المرتضى «2» ، وتمت له البيعة ثم اضطرب أمره، واضطرّ إلى تجريد السّيف، وقاتله الناس، وفي ذلك يقول «3» : (الرمل) كدّر الورد علينا بالصّدر ... فعل من بدّل حقا وكفر أيها الأمة عودي للهدى ... ودعي عنك أحاديث البشر عدمتني البيض والسّمر معا ... وتبدلت رقادا بسهر لأجرّنّ على أعدائنا ... نار حرب بضرام وشرر وكان رحمه الله خطيبا شاعرا ذا مقال يستفزّ ناظما وناثرا. قال صاحب" التبيين في أنساب الطالبيّين": وهم الآن الأئمة باليمن.

قلت: وحدثني الشيخ شهاب الدين أبو جعفر أحمد بن غانم أنه في عوده من اليمن فارا من صاحب اليمن، نزل بحماهم، ونزح إلى كنف نعماهم، فألحقه إمامهم القائم بظلّه الظليل، وأتحفه بفضله الجزيل، وأرشفه على ظمأ زلالا، وأنصفه من الأيام منّة وأفضالا، ووصله بمال، وأوصله إلى أحسن مآل. قال: وهو في منعة منيعة، وذروة رفيعة، دار ملكه صنعاء، ولرعاياه من حياطة الله به استرعاء. قال: وهو بنفسه يؤمّ بهم ويخطب، ويركب في نحو ثلاثة آلاف فارس، وأما عسكره من الرّجّالة فخلق جمّ، وأمم تموج كاليمّ. وحدثني الشيخ تاج الدين أبو محمد عبد الباقي بن عبد المجيد اليمنيّ عما هو عليه هذا الإمام في قومه من الأمر المطاع حتى لا يخرج أحد منهم له عن نص، ولا يشاركه فيما يتميز به ويختص مع القوة في مباينته لصاحب اليمن، لا يخافه ولا يرجوه، والإهمال له فلا يستجيب له ولا يدعوه، مع أنه لا يزال صاحب اليمن يرعى جانبه، ويعقد بينهما العقود، وتكتب الهدن، وتوثّق المواثيق، وتشترط الشّروط. قلت: (473) وقد أتى آت إلى الأبواب السلطانية الشريفة بمصر زعم أنه مرسل من حضرة هذا الإمام «1» ، وحدثني كثيرا من تفاصيل أحوالهم من التشدّد في الدين، وإقامة الحقّ والعمل والالتزام بموجبه، وأنّ الأئمة في هذا البيت أهل علم يتوارثه إمام عن إمام، وقائم بعد قائم، هذه جملة من أحوالهم ذكرناها.

وأما صنعاء، فدار ملكهم، فقد تقدم في هذا الكتاب من أحوالها ما يغني عن إعادته هنا «1» ، وهي قاعدة ملك اليمن في قديم الزمان، وأوقاتها كلّها على مناسبة الاعتدال، لذيذة الهواء، كثيرة الفواكه، يقع بها الأمطار والبرد، ويكاد يجمد الجمد «2» ، وهي تشبه في اليمن ببعلبكّ في الشام لتمامها الحسن، وحسنها التمام. وسألت الفاضل تاج الدين عبد الباقي اليمانيّ عما يعلمه من أحوال الأئمة بهذه المملكة فكتب إليّ أنه ما يعلم تفاصيل أحوالهم إذ هم كالبادية، وقال: وأئمة الزيديين كثيرون والمشهور منهم: المؤيّد بالله «3» ، والمنصور بالله «4» ، والمهديّ بالله، و [المطهر بن يحيى] . «5»

قال: و [المهدي بالله] «1» هو الذي كان آخرا على عهد الملك المؤيّد داود بن يوسف صاحب اليمن، و [كانت] «2» الهدنة تكون بينهما. قال: وابتداء دولة الزيديين [كان] «3» في أواخر دولة بني العباس، قال: وأظنّها من المستضيء «4» . قال: ولهؤلاء دعوة بالجيلان «5» ، وهي كيلان، ولهم دعوة هناك، يجبون لهم الزكوات من تلك البلاد، و [ممن] «6» يجيب داعيهم فيها. قال: وهم من أولاد زيد بن الحسن بن الحسن بن المثنى «7» ، قال: وشيعتهم كثيرة وأئمتهم لا يحتجبون، ولا يرون التفخيم والتعظيم، الإمام كواحد من شيعته في مأكله

ومشربه وملبسه وقيامه وقعوده وركوبه ونزوله وعامة أموره، يجلس ويجالس، ويعود المرضى ويصلي بالناس على الجنائز، ويشيّع الموتى، ويحضر دفن بعضهم. قال: وشيعته لهم في إمامهم حسن اعتقادهم، وهم يستشفون [بدعائه] «1» ، وبمرور يده على مرضاهم، ويستسقون المطر إذا جدبوا (474) به. قال: وهم يبالغون في ذلك [مبالغتهم] «2» العظيمة. سألته، فهل لهذه الدعوة حقيقة؟ قال: هذه أقوالهم التي كانت تبلغنا عنهم، وتصل إلينا من نحوهم، وما أجزم. قلت: ولا يكثر لإمام هذه سيرته في التواضع لله، وحسن المعاملة لخلقه وهو من ذلك الأصل الطّاهر، والعنصر الطيب أن يجاب دعاؤه ويتقبل منه. وحدّثني الحكيم الفاضل صلاح الدين محمد بن البرهان أن اليمن تنقسم إلى قسمين: سواحل وجبال، فالسواحل كلّها لبني رسول، والجبال كلّها أو غالبها للأشراف وهي أقلّ دخلا من السواحل لمدد البحر لتلك واتصال سبيلها منه، وانقطاع المدد عن هذه البلاد لانقطاع سبيلها من كلّ جهة. وحدّثني أبو جعفر بن غانم أن بلاد الشرفاء هؤلاء متصلة ببلاد السّراة «3» إلى الطائف إلى مكة المعظمة وأنها طريقه التي سلكها في عوده عن اليمن، قال: وهي جبال شامخة عليّة

ذات عيون دافقة ومياه جارية على قرى متصلة الواحدة إلى جانب الأخرى، وليست لواحدة تعلق بالأخرى، [بل] «1» لكلّ واحدة أهل يرجع أمرهم إلى كبيرهم لا يضمّهم ملك ملك، ولا يجمعهم حكم سلطان، ولا تخلو قرية منها من أشجار وغروس ذوات فواكه أكثرها العنب واللّوز، ولها زروع أكثرها الشعير، ولأهلها ماشية أعوزتها الزّرائب، وضاقت بها الحظائر. قال: وأهلها أهل سلامة وخير وتمسك بالشريعة ووقوف معها، يعضّون على دينهم بالنواجذ، ويقرون كلّ من يمرّ بهم ويضيفونه مدة مقامه حتى يفارقهم. قال: وإذا ذبحوا لضيفهم قدموا له جميع لحمها ورأسها وأكارعها وكرشها وكبدها وقلبها، يأكل ما يأكل، ويحمل ما يحمل. قال: وأهل هذه البلاد لا يفارق أحد منهم قريته مسافرا إلى الأخرى إلا برفيق يسترفقه منها ليخفره، وإلا فلا يأمن أولئك لعداوة بينهم وتفرق ذات بين. ثم نعود إلى تتمة الكلام في مملكة الأشراف (475) ، فنقول وبالله التوفيق: إنها تشتمل على عدة حصون منيفة وبلاد مخصبة مريعة، وقبائل عرب وحلفاء وأكراد في طاعة هؤلاء الشرفاء، ولأمراء مكة ميل كليّ «2» إليهم لقرابتهم بهم ولتمذهبهم بمذهبهم «3» والإمام في هذه البلاد يعتقد في نفسه ويعتقد أشياعه فيه أنّه إمام معصوم مفترض الطّاعة تنعقد به عندهم الجمعة والجماعة، ويرون أن جميع ملوك الأرض وسلاطين

الأقطار تلزمهم طاعته ومتابعته حتى خلفاء بني العباس، وأنّ جميع من مات منهم مات عاصيا بترك متابعته ومبايعته، وهم يزعمون ويزعم لهم أن سيكون لهم دولة يدال بها [بين] «1» الأمم، وتملك منتهى الهمم، لا يهجع لها سيوف، ولا يخضع صفوف، وفي رأيهم أن الإمام الحجّة المنتظر في آخر الزمان منهم. وزيّ هذا الإمام وأتباعه عندهم: زيّ العرب في لباسهم والعمامة والحنك «2» ويقال في الأذان عندهم: حيّ على خير العمل، ولا يظهر أحد منهم ولا عندهم بسبّ ولا تنقّص «3» على ما هو رأي الزيدية. حدّثني من أقام بينهم مدة صالحة أنهم أهل نجدة وبأس وشجاعة ورأي، غير أنّ عددهم قليل، وسلاحهم ليس بكثير لضيق أيديهم، وقلّة دخل بلادهم، قال: ولقد فارقتهم في سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة وهم لا يشكون أنه قد آن أوان ظهورهم، وحان حين ملكهم، ولهم [رعايا] «4» تختلف إلى البلاد وتجتمع بمن هو على رأيهم يتربصون ضعف الدول في أقطار الأرض. وحدثني شيخنا قاضي القضاة شيخ الإسلام كمال الدين أبو المعالي محمد بن عليّ الأنصاريّ بن الزّملكانيّ «5» رحمه الله عند عوده من قضاء حلب «6» عن رجل كان بها وأنّه

مات وترك صندوقين كبيرين مختومين فظنّ أنّ فيهما مالا ففتحا فلم يوجد فيهما سوى كتب من أئمة هذه الجهة، ونسخ أجوبة عنها، منها ما هو إليه ومنه، ومنها ما كان إلى قدماء آبائه وأسلافه ومنهم، فسألته: كيف كانت؟ وما الذي كان مضمونها؟ فقال: أما كيف فعلى (476) نحو طريقة السّلف من فلان أمير المؤمنين وإمام الوقت إلى فلان أو لفلان، أما بعد، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، وأعلمك بكذا وكذا، وكذلك نسخ الأجوبة، ويبدأ باسم الإمام على عادة السّلف لا نقص فيها ولا زيادة سوى قوله وإمام الوقت، وأما مضمونها فيختلف، ومداره على استعلام الأخبار عامة، وأحوال الشيعة خاصة، والسؤال عن أناس منهم، وأنه قد ورد كتاب فلان، وأعيد جواب فلان عن أناس ما يعرف من هم بكنايات موضوعة، وفي بعضها حديث الخمس وذكر وصوله، أو التقاضي به. قال: ورأيت في بعضها في هذا المعنى ما هذه عبارته وهي: ولا تؤخروا مدد من هنا من إخوانكم من المؤمنين في هذه البلاد الشّاسعة وهو حقّ الله فيه تزكية أموالكم ومدد إخوانكم من الضعفاء واتقوا الله، واسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً، يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً، وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً «1» . فسألته عما صنعوا بتلك الكتب، فقال: عرّفت الأمير أرغون «2» نائب السلطان بها، فقال: اغسلوها فغسلت. هذا ما انتهى إلينا من أخبارهم.

الباب الثامن في ممالك المسلمين بالحبشة

الباب الثامن في ممالك المسلمين بالحبشة وفيه سبعة فصول الفصل الأول: في أوفات الفصل الثاني: في دوارو الفصل الثالث: في أرابيني الفصل الرابع: في هدية الفصل الخامس: في شرحا الفصل السادس: في بالي الفصل السابع: في دارة

(ممالك المسلمين بالحبشة وهي سبع ممالك) وهذه الممالك السّبعة «1» بأيدي سبعة ملوك، وهي ضعيفة البناء، قليلة الغناء لضعف تركيب أهلها وقلّة محصول البلاد، وتسلّط ملك ملوك الحبشة صاحب أمحرة «2» عليهم مع ما بينهم من عداوة الدين ومباينة ما بين النصارى والمسلمين، ومع هذا (477) فكلمتهم متفرقة، وذات بينهم فاسدة. وقد حكى لي الشّيخ عبد الله الزيلعيّ «3» وجماعة من فقهاء هذه البلاد أنّ هؤلاء الملوك السبعة لو اتفقت كلمتهم، واجتمعت ذات بينهم قدروا على المدافعة، أو التماسك، ولكنهم مع ما هم عليه من الضعف وافتراق الكلمة بينهم تنافس، ومنهم من يترامى إلى صاحب أمحرة ويميل إليه بالطباع، وهؤلاء مع الذلة والمسكنة عليهم لصاحب أمحرة قطائع

محررة، تحمل [إليه] «1» في كلّ سنة وهي من القماش الحرير والكتان [مما] «2» يجلب إليهم من مصر واليمن والعراق، وقد كان الفقيه عبد الله الزيلعيّ قد سعى في الأبواب السلطانية بمصر عند وصول رسل صاحب أمحرة إليها في تنجّز كتاب البطريرك «3» إليه بكفّ أذيّته عن [بلاد المسلمين] «4» وأخذ حريمهم «5» ، ورسم له بذلك، وكتب البطريرك كتابا بليغا شافيا فيه معنى الإنكار لهذه الأفعال، وأنه حرّم هذا على من يفعله بعبارات أجاد فيها، وفي هذا دلالة على الحال، وسنذكر أمورهم مفصّلة في موضعها. قال لي الشيخ الصالح عبد المؤمن «6» : إنّ طولها برا وبحرا خاصا بها نحو شهرين وعرضها ممتد اكثر من هذا، لكن الغالب في

[عرضها] «1» مقفر، وأما مقدار العمارة فهو ثلاثة وأربعون يوما [طولا وأربعون يوما] «2» عرضا. وبهذه الممالك السّبعة الجوامع والمساجد والمواذن، وتقام بها الخطب والجمع والجماعات، وعند أهلها محافظة على الدين، ولا تعرف عندهم مدرسة ولا خانقاه «3» ولا رباط ولا زاوية، وليست لهم إبل، وهي بلاد حارة ليست بمائلة إلى الاعتدال، وألوان أهلها إلى الصّفار، وليست شعورهم في غاية التّفلفل كأهل مملكة مالّي وما معها وما يليها من جنوب المغرب. وفيهم الزهاد والأبرار، وهذه البلاد هي التي يقال لها بمصر والشام بلاد الزيلع، وإنما الزيلع قرية بالبحر من قراها وجزيرة من جزائرها «4» وإنما غلب عليها اسمها، وبيوتهم من طين وأحجار وأخشاب مسقّفة جملونات و [قبابا] «5» ، وليست بذوات أسوار، ولا لها فخامة بناء، وقد أوردنا هذا على جهة الإجمال (478) ونحن نذكر ذلك فصلا فصلا إن شاء الله تعالى.

الفصل الأول في أوفات

الفصل الأول في أوفات «1» حدّثني الفقيه عبد الله الزيلعيّ ومن معه من الفقهاء أنّ مملكة أوفات طولها خمسة عشر يوما، وعرضها عشرون يوما، بالسّير المعتاد، وكلّها عامرة آهلة بقرى متصلة وبها نهر جار [وهي] «2» أقرب أخواتها إلى الديار المصرية وإلى السواحل المسامتة لليمن، وهي أوسع هذه الممالك أرضا، والأجلاب إليها أكثر لقربها من البلاد. وملكها يحكم على الزّيلع، والزّيلع اسم ميناء التجار الواردين إليها، وهو في وقتنا اليوم شافعيّ المذهب وغالبها شافعية. وعسكرها خمسة عشر ألفا من الفرسان، ويتبعهم عشرون ألفا وأزيد من الرّجّالة، وهم يركبون الخيل عرايا بلا سروج، وإنما يوطئون لهم بجلود مرعز حتى الملك، وخيلهم عراب، وفي غالب الأوقات ركوبهم البغال، والملك عندهم أو الأمير يعدّ من حشمته إذا ركب بغلة (أن) يردف خلفه غلامه على كفل البغلة، وأما إذا ركب فرسا فإنه لا يردف أحدا عليه. ويسمى الملك عندهم فاط، والملك يعتصب على رأسه بعصابة من حرير تدور بدائر رأسه، ويبقى وسط الرأس مكشوفا. وأما الأمراء والجند فتعصّب رؤوسهم بعصائب من قطن على مثل هذا الوضع، ولا

يعتصب بالحرير إلّا الملك، وقلّ من يلبس منهم قميصا أو ثوبا مخيطا وإنما يتزرون وزرات، وتلبس طائفة أرباب السيوف منهم سراويلات. وأما الفقهاء، فتلبس العمائم، وعامة الناس تلبس كوافي بيضا طاقيات، ومن الفقهاء وأرباب النعم من يلبس القمصان وإلا فالجمهور الغالب [الوزرات] «1» كلّ واحد بوزرتين واحدة على كتفه متوشحا بها والأخرى في وسطه، وكلامهم بالحبشية وبالعربية. ومما يعدّه أهل هذه المملكة من الحشمة أن الملك أو الأمير إذا مشى يتوكأ على رجلين من خاصّته، والملك يجلس على (479) كرسي حديد مطعم [بالذهب] «2» علوّه أربعة أذرع، ويجلس أكابر الأمراء حوله على كراسيّ أخفض من كرسيّه وبقية الأمراء وقوف، ويحمل رجلان على رأسه السلاح، وإذا ركب يحمل على رأسه جتر «3» حرير، [ثم إن كان الملك راكبا فرسا كان حامل الجتر ماشيا بإزائه والجتر بيده] «2» ، فإن كان الملك [راكبا] «4» بغلة كان حامل الجتر رديفه، والجتر بيده [على رأس الملك] «2» وقدامه حجّاب ونقباء تطرد الناس، وتضرب قدامه الشّبابة والبوقات من خشب اسمه البنبو المعمول منه في اليد وفي رؤوسها قرون بقر ويدقّ معها الوطواط وهي طبول معلقة في رقاب الرجال، ويكون قدام الجميع بوق اسمه

الحبنا «1» وهو ملويّ من قرون الوحش، وحش عندهم اسمه عجزين «2» من نوع بقر الوحش يكون طوله ثلاثة أذرع [محروق] «3» من علوّه يسمع من قريب نصف نهار، فيعلم الناس ركوب الملك فيتبادر إليه من له عادة الركوب معه، ويتنحى عن طريقه من يحبّ أن يتنحّى. وعنده قضاة وفقهاء، وليس فيهم بارع العلم، و [الملك] «4» يتصدى للحكم بين الناس، ويقصد الإنصاف. وفي مملكته مدن أمهات، وهي «5» : بقلرز، وكلجور «6» ، وسبمق، وسوا، وعدل، وجبا، ولاو. وأكثر قتال هذه المملكة بالحراب، وفيهم الرماة بالنشّاب، وأقواتهم القمح والذرة والطّافي وهو حبّ دقيق إلى غاية، أكبر من الخردل «7» ، وهو أحمر اللون لهم منه قوت، وعندهم الأبقار والأغنام كثيرة جدا، وكذلك السمن والعسل، وأما المعز فقليلة عندهم، وأسعارهم رخية.

وكيلهم يسمى الرّابعيّة، وهذا الكيل مقداره ويبة مصرية «1» ، ورطلهم [اثنتا عشرة] «2» أوقية، وزن الأوقية عشرة دارهم نقرة «3» بصنجة مصر «4» . وعندهم من قصب السكر مقدار صالح، ويخرج منه القند «5» ، ويعمل قطعا صغارا، وعندهم الموز والجمّيز والأترجّ والليمون وقليل من النارنج والرمان الحامض والمشمش والتوت الأسود والعنب الأسود، وهو والتوت قليلان، وعندهم تين بري، وخوخ بري، ولكنّهم لا يأكلون [الخوخ و] «6» التين، ولهم فواكه أخرى لا تعرف بمصر والشام والعراق، فمنها: (480) شجر اسمه كشياد «7» يخرج ثمره أحمر صفة البلح، وهو حلو ماويّ، وشجر يعرف لمويه يخرج ثمره أسود صفة البلح، طعمه مزّ ماوي. ومنها شجر يسمى كوسي يخرج ثمره مدورا شديد الاستدارة كالبرقوق، ولونه أصفر خلوقيّ كلون الشمس وهو مزّ ماويّ.

ومنها شجر طانة يخرج ثمره أصغر من البسر، وفي وسطه شبيه النوى، وهو حلو صادق الحلاوة. ومنها شجر اسمه أوجات «1» بفتح الواو والجيم تخرج ثمرته أكبر من حبّ الفلفل وطعمه شبيه به في الحرافة مع بعض حلاوة. ومنها شجر اسمه جات «2» ، وهذه الجيم الموحدة نطقهم بها بين الجيم والشين لا ثمر له، وإنما المأكول قلوبه، وهو يزيد في الذكاء ويذكّر الناسي، ويفرج ويقلل الأكل والنوم والجماع، وكلّهم يأكلونه ويرغبون في أكله، وخصوصا طلبة العلم منهم، ومن يريد الاشتغال أو من يؤثر دوام السهر لسفر يسافره، أو لحرفة يعملها، وعنايتهم به شبيه بعناية أهل الهند بالتّنبول «3» وإن لم يكن هذا شبه ذلك، وحاشى ما يقال عن تلك الأفعال المحمودة من مشابهة هذا لما يدل عليه من زيادة تحقيقه بما يورثه من قلة النوم والأكل والجماع، ولقد أعجبني ما حكاه بعض هؤلاء الفقهاء المخبرين نيابة عن الملك المؤيّد داود صاحب اليمن رحمه الله، قال: سافر بعض المسلمين من أهل بلاد الحبشة إلى اليمن، واتصل بالملك المؤيّد، وصار من خاصّته، فمنّاه يوما، فتمنّى عليه قلوب شجر [الجات] «4» ، فبعث من نقل إليه منها، وغرست باليمن، فأنجبت فلما آن اقتطاف قلوبها، سأله الملك المؤيّد عما يفيد، فوصف له ما

يحدث عنها، فلما قال له: إنّها تقلل الأكل والنوم والجماع، قال له الملك المؤيّد: وأيّ لذة في الدنيا سوى هذا، والله لا آكله فإنني ما أنفق الأموال إلا على الثلاثة الأشياء فكيف استعمل ما يحول بيني وبين لذّاتي منها «1» . ويزرع عندهم اللوبيا والخردل والباذنجان والبطيخ الأخضر والخيار والقرع والكرنب «2» وتطلع عندهم (481) الملوخيّة، وكذلك الشّمار «3» والصّعتر. ويجلب إليهم الذهب من داموت وسحام وهما بلاد معادن بالحبشة، وتساوي الأوقيّة منه من ثمانين درهما إلى مئة وعشرين درهما على قدر جودة الذّهب ورداءته بقدر ما يخالطه من التراب والتربة، والطّيب من الذهب عندهم يسمى ... «4» . وعندهم الدجاج الدواجن ولا لهم كثير رغبة في أكلها استقذارا لها لأكلها من القمامات والزّبل، وعندهم جواميس برية تصاد كما ذكر في بلاد مالّي، وبها من أنواع الوحش البقر والحمر والغزال والنّعام والمها والإبل والكركدن والفهد والأسد والضّبعة العرجاء، وتسمى عندهم مرغفيف «5» ، ويصاد عندهم دجاج الحبش المعروف، ويؤكل ويستطاب لحمه

ويفاخر فيه. وليس لأمراء هذا الملك ولا لجنده إقطاعات عليه ولا نقود، وإنما لهم الدوابّ الكثيرة السليمة، ومن شاء منهم زرع واستغلّ ولا يعارض. ولهذا الملك سماط عامر ممدود بل له سماط له ولخاصته، ولكنّه يفرق في بعض الأحيان على أمرائه بقرا عوضا عن أكلهم على السّماط، وأكثر ما يعطى الأمير الكبير منهم [مئتا] «1» بقرة. وليس بأوفات ولا بلادها دار ضرب ولا سكّة، ومعاملتهم بدنانير مصر، ودراهمها مما يدخل مع التجار إلى بلادهم.

الفصل الثاني في دوارو

الفصل الثاني في دوارو «1» حدّثني هؤلاء الفقهاء المتقدمون في الفصل قبله أنّ هذه المملكة طولها خمسة أيام، وعرضها يومان، وهي على هذا الضيق ذات عسكر جمّ نظير عسكر أوفات في الفارس والراجل، وزيّهم مثل زيّهم في اللبس والركوب والهيئة سوى أن ملكها لا يحمل على رأسه جتر، ولا يتوكأ الأكابر بها مثل الملك والأمراء على الأيدي، وأقواتهم والموجودات [التي] «2» عندهم من الحبوب والفواكه والخيول والدوابّ من نسبة ما تقدم إلا أنهم حنفية المذهب، ومعاملتهم بالحديد وتسمى الواحدة من تلك الحدايد حكنه بفتح الحاء المهملة وضمّ الكاف [والنون] «3» وهي في طول الإبرة (482) ولكنها أعرض من الإبرة تكون نحو عرض ثلاث إبر وما لها سعر تضبط به، وإنما تباع البقرة الجيدة بخمسة آلاف حكنه، ويباع الرأس الغنم الجيد بثلاثة آلاف حكنه، وهذه المملكة مجاورة لأوفات.

الفصل الثالث في أرابيني

الفصل الثالث في أرابيني حدّثني هؤلاء الفقهاء أيضا أنّ هذه المملكة مربعة على شكل التّربيع، طولها أربعة أيام، وعرضها كذلك، وعسكرها يقارب عشرة آلاف فارس، وأما الرّجّالة فكثيرة جدا، وأهلها حنفيّة (المذهب) ، وهي تلي دوارو، وزيّ أهلها زيّ أهل دوارو، وفي كلّ شيء، والموجودات التي عندهم من الحبوب والفواكه والبقول والدّواب وغير ذلك مثل دوارو، ومعاملتهم بالحكنه كما تقدّم.

الفصل الرابع في هدية

الفصل الرابع في هدية «1» حدّثني أيضا هؤلاء الفقهاء أنّ صاحب هدية أقوى إخوانه من ملوك هذه الممالك السبعة، وأكثر خيلا ورجالا، وأشدّ بأسا على ضيق بلاده عن مقدار أوفات، وهذه البلاد طولها ثمانية أيام، وعرضها تسعة أيام، وعرضها تسعة أيام، ولملكها من العسكر نحو أربعين ألف فارس من غير الرّجّالة فإنهم خلق كثير مثل الفرسان مرتين أو أكثر، وهم في زيّهم ومعاملتهم وما يوجد عندهم من الحبوب والفواكه والبقول مثل أرابيني ودوارو، وبلاد هدية تلي أرابيني، وإلى مدينة «2» تجلب الخدّام من بلاد الكفار. حدّثني الحاجّ فرج الفويّ التاجر أنّ صاحب أمحرة يمنع من خصي العبيد، وينكر هذا ويشدد فيه، وإنما السّرّاق تقصد مدينة اسمها وشلوا «3» بفتح الواو والشين المعجمة واللام، وأهلها لا دين عندهم فيخصى بها العبيد، ولا يقدم على هذا في جميع بلاد الحبشة سواهم، وكذلك التجار إذا اشتروا العبيد وخرجوا بهم يعرجون إلى وشلوا ليخصوهم بها لأجل الزيادة في الثمن، ثم يحمل كلّ من خصي إلى مدينة هدية، فتعاد عليهم الموسى مرة ثانية لينفتح مجرى البول لأنّه يكون قد استدّ عند الخصي بالقيح، ثم إنهم يعالجون بهدية إلى أن يبرأوا؛ لأنّ أهل وشلوا (483) ليس لهم معرفة بالعلاج، فسألت الفويّ لأيّ شيء تختصّ بهذا هديه دون بقية أخواتها، فقال:

لأنّها أقرب هذه البلاد إلى وشلو (ا) قد صار لأهلها دربة في علاج هؤلاء، قال: ومع هذا فالذي يموت منهم أكثر من الذي يعيش، وأضرّ ما عليهم حملهم بلا معالجة من مكان إلى مكان، ولو عولجوا في مكان خصيهم كان أصلح لهم، ولولا حملهم إلى مكان يعالجون به ما سلم- والله أعلم- أحد منهم. وأهلها حنفيّة المذهب.

الفصل الخامس في شرحا

الفصل الخامس في شرحا حدّثني هؤلاء الفقهاء أنّ هذه المملكة طولها ثلاثة أيام، وعرضها أربعة أيام، وعسكرها ثلاثة آلاف فارس ورجّالة مثلها مرتين وأكثر، وهي كأخواتها دوارو وأرابيني في بقية أحوالها من الزيّ، والمعاملة، والحبوب، والفواكه، والبقول، وسائر ما لهم وما عليهم، وهي تلي هدية. وأهلها حنفيّة المذهب.

الفصل السادس في بالي

الفصل السادس في بالي حدّثني هؤلاء الفقهاء أنّ هذه المملكة طولها عشرون يوما، وعرضها ستة أيام، وعسكرها ثمانية عشر ألف فارس والرّجّالة بها كثير «1» عددهم، وأهلها مثل باقي أخواتها في جميع زيّهم وأحوالهم وأقواتهم، والموجودات عندهم، ولكنّها أكثر خصبا، وأطيب سكنا، وأبرد هواء وماء، ولكنهم لا يتعاملون بالنّقود مثل أوفات، ولا بالحكنه مثل بقية ما تقدم، ولكن بالأعواض مثل البقر والغنم والقماش، وهي تلي شرحا. وأهلها حنفيّة المذهب.

الفصل السابع في دارة

الفصل السابع في دارة حدّثني هؤلاء الفقهاء أنّ طولها ثلاثة أيام، وعرضها [مثله] «1» ، وهي أضعف أخواتها حالا، وأقلّها خيلا ورجالا، وعسكرها لا يزيد على ألفي فارس ومثلهم رجّالة، وهم في بقية أحوالهم وأحوالها مثل أخواتها ومعاملتها بالأعواض مثل بالي، وهي تليها. وأهلها حنفيّة المذهب. *** (484) هذه جملة ما علمنا من أحوال هذه [لممالك] «2» المسلمة في بلاد الحبشة، والمملكة منهم في بيوت محفوظة إلا بالي اليوم، فإنّ الملك بها صار إلى رجل ليس من أهل بيت الملك، تقرب إلى صاحب أمحرة حتى ولّاه مملكة بالي فاستقلّ ملكا بها ولا يبالي، وقد ولي بالي ومن أهل بيت الملك بها رجال أكفاء، والأرض لله يورثها من يشاء، وجميع ملوك هذه الممالك وإن توارثوها لا تستقلّ منهم بملك إلا من أقامه صاحب أمحرة. وإذا مات الملك منهم ومن أهله رجال قصدوا جميعهم صاحب أمحرة، وبذلوا المقدرة في التقرب إليه فيختار منهم رجلا يولّيه، فإذا ولّاه سمع البقية وأطاعوا لأنّ الأمر له فيهم، وهم كالنواب له، ومع هذا فإنّ جميع ملوك هؤلاء الملك تعظّم مكان صاحب أوفات، وتنقاد له بالمعاضدة في بعض الأوقات، والطريق إلى هذه البلاد من مصر شعبة من الطريق العظمى

الآخذة إلى أمحرة وسائر بلاد الحبشة، وتجار هذه البلاد الحبشية «1» ناصع «2» وسواكن «3» ودهلك «4» ، وليس بها مملكة مشهورة، ولا لها أخبار مذكورة، وكلّها مسلمون قائمون. وأرضها أصعب مسلكا لكثرة جبالها الشامخة، وعظم أشجارها واشتباكها بعضها ببعض حتى أنه إذا أراد ملكها الخروج إلى جهة من جهاتها يتقدمه قوم مرصدون لإصلاح طرقها بآلات لقطع أشجارها ويطلقون فيها نارا لحريقها، وأولئك القوم كثير عددهم، ولم يملك بلادهم غيرهم من النوع الإنساني لأنهم أجبر بني حام، وأخبر بالتوغل في القتال والاقتحام، طول زمانهم مسافرون، وفي صيد وحش البرّ راغبون، ومما يدلّ على قوة جنانهم أنهم لا يلبسون ولا يلبسون خيلهم عند القتال شيئا، والمشهور عنهم مع ما لهم من الشجاعة (أنهم) يقبلون الحسب، ويصفحون عن الجرائم، والمصطلح بينهم أنّ من رمى سلاحه في القتال يحرّمون قتاله، والمجرم يتحسّب [ببرّ القادر] «5» (485) عليه فيتجاوز عن ذنبه، وقيل فيهم خلّة حسنة أيضا أنهم يحبون الغريب ويكرمون الضيف، ويحقق ذلك إكرام النجاشي قريشا عند ما هاجروا إليه، ويقال إنه قلّ أن يوجد عندهم رياء، والصديق عندهم

لا ينقض عهدا لصديقه، وإذا تعاهدوا أكدوا المحبة وأظهروها، وإذا تباغضوا أعلنوا المباينة وأجهروها، غالبا يوجدون أذكياء أقوياء الحدس لهم علوم وصناعات بهم خصيصة، ومع كونهم جنسا واحدا ينطقون بألسنة شتى تزيد على خمسين لسانا وقلم قراءتهم واحد وهو الحبشي يكتب من اليمين إلى الشمال، عدّته ستة عشر حرفا لكلّ حرف سبعة فروع، الجملة من ذلك مئة واثنان وثمانون حرفا خارجا عن حروف أخر (ى) مستقلة بذاتها لا تفتقر إلى حرف من الحروف المعدودة المتقدم ذكرها، [مضبوطة] «1» بحركات نحوية متصلة به لا منفصلة عنه. وهي بلاد تنقسم عندهم أقاليم، كما تنقسم الديار المصرية والبلاد الشامية أعمالا وصفقات وممالك الإسلام المتقدمة الذكر في ذلك، ونحن نذكر هاهنا جملة حال بلاد الحبشة مسلمها وكافرها. قيل: إن أول بلادهم من الجهة الشرقية المائلة إلى بعض الجهة الشمالية بحر الهند واليمن، وفيها يمرّ البحر الحلو المسمى سيحون الذي يرفد منه نيل مصر المحروسة، والجهة الغربية إلى بلاد التكرور مما يلي جهة اليمين، وأولها مفازة تسمى وادي بركة، قيل: يتوّصل منه إلى إقليم يسمى سحرت «2» ويسمّى قديما تكراي وكانت مدينة المملكة بهذا الإقليم في ذلك الزمان تسمى أخشرم «3» بلغة أخرى من لغاتهم، وتسمى أيضا: زفرتا «4» ، وكان النجاشيّ الأقدم بها ملكا على جميع البلاد، ثم إقليم أمحرة وهو الذي به الآن مدينة

المملكة وتسمى بلغتهم مرعدي، ثم إقليم شاوه، ثم إقليم داموت، ثم إقليم لا منان، ثم إقليم السّيهو، ثم إقليم الزّنج، ثم إقليم عدل الأمراء، ثم إقليم حماسا، ثم إقليم باريا، ثم إقليم الطراز الإسلامي الداخلة في جملة جميع البلاد الحبشية (486) وملوكه سبعة كما تقدم تفصيلها إقليما إقليما، وكلّ إقليم من هذه الأقاليم له ملك وجيوش كما تقدم أيضا ذكره، وقيل: إنهم كلّهم تحت [سلطان] «1» ملكهم الأكبر المسمّى بلغتهم الحطّي، ومعناه السلطان، وهذا الاسم موضوع لكلّ من يقام عليهم ملكا كبيرا، واسم الملك المقام عليهم الآن عمد سيون وتأويله: ركن صهيون، وهي بيعة قديمة البناء بالإسكندرية معظمة عندهم يتعبّدون لله فيها، وقيل: إنه من الشجاعة على أوفر قسم وإنه أحسن السلوك عادل في رعيته يتفقد مساكنها، وقيل إن تحت يده من الملوك تسعة و [تسعين] «2» ملكا، وهو لهم تمام المئة في الأقاليم المذكورة والأقاليم المجهولة أسماؤها، لأنها كثيرة العدد غير مشهورة ولا معلومة، وقيل: إنّ الحطّيّ المذكور وجيشه لهم خيام ينقلونها معهم في السّرحات والأسفار، وإذا جلس يجلس حول كرسيّه أمراء مملكته وكبراؤها على كراسيّ حديد منها ما هو مطعم بالذهب، ومنها ما هو ساذج «3» على قدر مراتبهم. والملك المذكور قيل إنه مع ما له من نفاذ الأمر يتثبت في أحكامه حتى يتبين. فأما لباس أهل البلاد المذكورة في الشتاء فهو لباسهم في الصيف، الخواص منهم والأجناد قماش حرير وأبراد هندية وما شاكل ذلك، والعوام ثياب قطن منسوج غير مخيط لكل نفس ثوبان. واحد لشدّ وسطه، وآخر يلتحف به، وكذلك الخواصّ منهم في الحرير والأبراد يشتدّون

ويلتحفون بمنسوج غير مخيط. وسلاح المقاتلين منهم القسيّ والنبال الشبيهة بالنشّاب والسيوف والمزاريق والحراب، ومنهم من يقاتل بالسيوف وأتراس طوال وقصار، وغالب سلاحهم مزاريق تشبه الحراب الطوال، ومنهم من يرمي عن قوس طويل يشبه قوس القطن بالنبال، وهي سهام قصار، وقيل: إن نبال المقاتلين من أجناد الطراز الإسلامي أكبر، ولهم أبواق من خشب القنا المجوّف ومن قرون البقر المجوفة. ومأكلهم (487) شحوم البقر والماعز وبعض شحوم الضأن، ومشروبهم اللبن البقريّ، وفي ضعفهم يتداوون باللبن المداف بالماء وسمن البقر، وعندهم نبات يسمى [جات] «1» يتناولونه لتجويد الفهم وتقوية الحفظ، وهو أشجار صغار وكبار ثمرته تشبه قلوب شجر النارنج وقد تقدم ذكره. وغالب أهل البلاد المذكورة يتعاملون مقايضة بالأغنام والأبقار والحبوب وغير ذلك إلا في خمسة أقاليم من الطراز الإسلاميّ، وهي إقليم مدينة أوفات يتعاملون بالذهب والفضة، وإقليم [دوارو] «2» وإقليم أرابيني، وإقليم شرحة، وإقليم هدية يتعاملون بشيء عندهم يسمى الحكنه، وهي حديد مضروب كالإبر الطّوال كلّ ثلاثة آلاف بالعدد قيمتها درهم واحد. وكلّ البلاد المذكورة والطراز الإسلاميّ يزرعون على الأمطار في السنة مرتين، ويتحصل لهم مغلات، والزمان الذي يحصّل فيه المغلّ الأول يأتي فيه مطر ثان يزرع عليه المغلّ الثاني، والمطر الواقع من زمن الشتاء يسمى بل، والمطر الواقع في زمن الصيف يسمى كرم بلغة الزيالعة.

وأخبرني البطريرك بنيامين فيما حكى لي في كتابه عنهم أنه عند نزول الأمطار الكثيرة تقع صواعق، وأصناف زراعاتهم الغيطية القمح، والشعير، والحمص، والعدس، و [البسلّى] «1» ، والذرة، وبعض الباقلاء، وحبوب أخر (ى) غير ذلك منها حبّ يسمى قبانهلول «2» ، يستعملونه قوتا كالقمح، أما القمح فحبّه كالحنطة المالونه «3» ولونه كالقمح الشاميّ يباع منه في الطراز الإسلاميّ بالدرهم تقدير حمل بغل، والشعير ليس له قيمة، وحبّه أكبر مقدارا من حبّه بالديار المصرية، ومنه ضرب يسمى طمحة «4» ، و [لون] «5» الحمص [عندهم] «5» إلى الحمرة ما هو «6» ، والباقلّا «7» عزيز الوجود في أكثر البلاد، ولا يفتقر إليه دوابّهم في العلف لأنّ الأرض كثيرة المياه والمراعي. وعندهم (488) حبّ يسمى بلغتهم طافي وحبّه بمقدار الخردل ولونه إلى الحمرة، ومكسره إلى السواد يتخذون منه خبزا، وهو يميل إلى القمح، وعندهم ببعض الأقاليم حبّ يسمى البنّ وهو شبه القمح، ولكنه بقشرين فينزعون قشوره بالهرس كالأرزّ ويتخذون منه طعاما ينوب عن القمح، وليس عندهم من أصناف المقاثي إلا القرع وفي بعض الأقاليم بطيخ

صغير، وبزر الكتّان وحبّ الرشاد «1» واللّفت والفجل ومن البقول أيضا الثوم والبصل والكزبرة الخضراء. وأشجارهم البستانية العنب الأسود، وهو قليل والتين الوزيريّ، وأصناف الحوامض خلا النارنج والموز، ورياحينهم الريحان، والقرنفل، ونبات أيضا يسمّى بعتران «2» ، وعندهم الياسمين البريّ، ولكنه غير مشموم لهم. ومن أشجارهم الزيتون، والصنوبر، والجمّيز، وفي بعض بلادهم الآبنوس «3» ، وهو كثير الأشجار والمقل أيضا ببعض الأقاليم، وكذلك أشجار القنا وهي صنفان: أحدهما صامت والآخر أجوف، وبالطراز الإسلاميّ قصب السكّر كثير جدا، ويتخذون منه القند، وذكر أن الذي يوجد عندهم من المعادن معدن الذهب والحديد. وذكر السيد الشريف عزّ الدين التاجر أنّ في بعض بلادهم يوجد معدن الفضة. وعندهم من ذوات الأربع الخيل والبقر والغنم والبغال وما أشبه ذلك، وأغنامهم تشبه أغنام عيذاب «4» واليمن، ووحوشهم البرية الأسد والنمر والفهد والفيل والغزال على اختلاف الألوان في ذلك، وبقر الوحش وحمر الوحش والزرافة والقردة ووحوش أخر (ى) كثيرة. وعندهم من الطيور: الجوية والأهلية والمائية.

أما الجوية فهي: الصقور والنسور البيض والسود وأمثالها، والغربان والحجل وسائر طير الواجب والسّمّان والحمام والعصافير والبزاة وغير ذلك مما لم يوجد بالديار (489) المصرية. وأما الأهلية والبرية فدجاج الحبش وأمثاله. والمائية: فالبطّ، ودجاج أيضا يخرج من بركة ماء في إقليم هدية الإسلامي. قال الشيخ جمال الدين عبد الله الزّيلعيّ: إن العين المذكورة يتولد منها دجاج يأكلونه، ويأكلون من لحوم الطير الحمام والعصفور وغراب الزرع والدجاج البريّ والحجل، والسمك عندهم منه ما يشبه البوريّ، و [منه] «1» ما يشبه الثعبان يطول إلى مقدار ذراعين ونصف، ويغلظ إلى مقدار الخشب، ويطلع من بحرهم التمساح وفرس البحر. أما عسل النحل فكثير في جميع البلاد يتربى في الجبال، ويأخذون منه العسل والشمع من غير حجر عليه، ومنه ما له خلايا خشب منقورة، وعسلهم مختلف الألوان بحسب المرعى. ومساكنهم غالبها أخصاص من جملونات خلا المدن الكبار، فإنها مبنية من الحجر. وأواني طعامهم فخّار مدهون أسود، وحمّامهم الاغتسال بالماء البارد، وبعضهم يتخذونه حارا. ووقودهم الشمع، ومصابيحهم وقودها بشحوم البقر؛ لأن الزيت الطيب يجلب إليهم، ويدهن للرجال والنساء منهم بالسمن. ومصاغهم الذهب والفضة والنحاس والرّصاص على قدر تمثال السّعر.

هذا ما نقلته الثقات عنهم، ومع ما هم عليه من سعة البلاد وكثرة الخلق والأجناد يفتقرون إلى العناية والملاحظة من صاحب مصر، لأن المطران الذي هو حاكم حكام شريعتهم في جميع بلادهم النصرانية لا يقام إلا من الأقباط اليعاقبة بالديار المصرية، حيث تخرج الأوامر السلطانية من مصر لبطرك النصارى اليعاقبة بإرسال مطران إليهم، وذلك بعد سؤال ملك الحبشة المسمى بالحطّي بلغتهم، وإرسال رسله وهداياه، وهم يدّعون أنهم يحفظون مجاري النيل المنحدر إلى مصر، ويساعدون (490) على إصلاح سلوكه تقريبا لصاحب مصر، وإنما المشهود منهم والمعروف منهم الصدق والأمانة فهو مشهور، ولذلك يختار صاحب إقامتهم (منهم) أمناء على الحريم والأولاد والأرواح والأموال، وكذلك بعض التجار الكرّامية «1» و [ذوو] «2» الأموال يجعلونهم على حفظ أموالهم وتجاراتهم وبضائعهم الثمينة ومكاسبهم الجليلة إلى قريب [البلاد] «3» وبعيدها، وطويل المسافات وقصيرها. وهذا ما وصلني من أخبارهم، والله أعلم بالحقّ، وعندهم وعنده العلم الصّدق.

الباب التاسع في ممالك مسلمي السودان على ضفة النيل إلى مصر

الباب التاسع في ممالك مسلمي السودان على ضفة النيل إلى مصر وفيه فصلان الفصل الأول: في الكانم الفصل الثاني: في النوبة

الفصل الأول في الكانم

الفصل الأول في الكانم «1» (الكانم بلد) مسلم مستقل بينه وبين بلاد مالّي [مسافة بعيدة جدا، قاعدة ملكه] «2» بلد اسمها جيمي «3» ، مبدأ مملكته من جهة مصر بلدة اسمها زلا «4» وآخرها طولا بلدة يقال لها كاكا «5» وبينهما نحو ثلاثة أشهر، وعسكرهم يتلثمون، وملكهم على حقارة سلطانه وسوء بقعة مكانه في غاية لا تدرك من الكبرياء يسمح برأسه عنان السماء مع ضعف أجناد، وقلة متحصّل بلاد، محجوب لا يراه أحد إلا في يوم العيدين، يرى بكرة وعند العصر، وفي سائر السنة لا يكلمه أحد ولو كان أميرا إلا من وراء حجاب، وربما كان فيهم من أخذ في التعليم ونظر من الأدب نظرة النجوم، فقال إني سقيم، فما زال يداوي علل فهمه، ويداري جامح علمه حتى تشرق عليه أشعتها، ويطرز بديباجه أمتعتها. غالب عيشهم الآن الأرزّ، والقمح، والذّرة، وببلادهم التين، والليمون، واللّفت، والباذنجان، (491) والرّطب.

وأخبرني أبو عبد الله [السّلالجيّ] «1» أنّه أخبره الشيخ الصالح المنقطع عثمان الكانميّ وهو من أقارب ملوكها أنّ الأرزّ ينبت عندهم من غير بذر أصلا، وهو ثقة، قال السّلالجيّ: وسألت عن ذلك غيره فأخبرني بصحة ذلك. ويتعاملون بقماش ينسج عندهم اسمه دندي طول كلّ ثوب عشرة أذرع يشترون من ربع ذراع فأكثر، ويتعاملون أيضا بالودع والخرز والنحاس المكسور والورق لكنه جميعه يسعّر بذلك القماش. وذكر ابن سعيد «2» أنّ في جنوبيّها شعار «3» وصحار (ى) فيها أشخاص متوحشة كالغول تؤذي بني آدم، ولا يلحقها الفارس وهي أقرب الحيوانات إلى الشكل الآدمي. وذكر القاضي أبو عبد الله محمد بن عبد الملك المراكشيّ في كتابه المعجم المسمى ب" التكملة" «4» أبا اسحاق إبراهيم الكانميّ الأديب الشاعر، وحكى عنه أنه قال: يظهر ببلاد الكانم بالقرب [من] «5» أمام الماشي في الليل شبيه قلل نار تضيء، فإذا مشى ليلحقها بعدت عنه، ولو جرى إليها لا يصل إليها بل لا تزال أمامه، وربما رماها بحجر فأصابها فيتشظّى منها شرارات، نقل لي هذا على ما رآه في" التكملة" محمد السّلالجيّ.

قال ابن سعيد: وإنّ بها يقطينا تعظم اليقطينة إلى أن يصنع منها مركب تعبر فيه في النيل، قال: وهذا مستفيض، والعهدة على الحاكي. وهذه البلاد بين إفريقيّة وبرقة ممتدة في الجنوب إلى سمت الغرب الأوسط، وهي بلاد قحط وشظف وسوء مزاج مستول عليها، وأحوالها وأحوال أهلها خشنة، وأول من نشر الإسلام فيها الهادي العثمانيّ، ادعى أنه من ولد عثمان بن عفان رضي الله عنه، وصارت بعده لليزنيين من بني ذي يزن «1» ، والعدل قائم في بلادهم، ومذهبهم مذهب الإمام مالك رضي الله عنه. وهم ذوو اختصار في اللباس، كايسون في الدين (492) وقد بنوا بفسطاط مصر مدرسة للمالكية ووفودهم ينزل بها.

الفصل الثاني في النوبة

الفصل الثاني في النّوبة «1» تلي مصر في نهاية جنوبها على ضفتيّ النيل الجاري إلى مصر، وقاعدتها دنقلة. ومدنها أشبه بالقرى والضّياع من المدن، قليلة الخير والخصب، يابسة الهواء، وكذلك زهد فيها [بنو] «2» أيوب في مدة السّلطان صلاح الدين لما تجهز أخوه شمس الدولة «3» لأخذها «4» ، فعدل [إلى] «5» ، اليمن «6» لأنّهم خافوا من الشّهيد نور الدين محمود بن زنكي أن يقصدهم إلى مصر وينتزع المملكة من أيديهم، فأرادوا فتح بلاد من ورائهم تكون

ملجأ لهم، فقصدوا النوبة، فلما رأوها بلادا لا تصلح لمثلهم عدلوا إلى اليمن «1» . وأديان أهل هذه البلاد دين النصرانية، وملكهم كأنه واحد من العامة، ومن بلادهم لقمان الحكيم، وقد ذكره البيهقيّ في" مفاخر النّوبة"، ثم سكن مدينة أيلة «2» مع اليهود

ورحل إلى بيت المقدس، ورأى أنبياء بني اسرائيل وجالس داود عليه السلام. قال ابن سعيد: رآه يصوغ الحديد ويصنع منه حلقا ولا يعرف ما يؤول إليه أمره، فصحبه على ذلك سنة ولم يسأله عما يصنعه إلى أن كمّل داود الدرع ولبسها، فقال لقمان: درع حصينة ليوم قتال، كفتني عيني مؤونة لساني، الصمت حكمة وقليل فاعله، قال: ومنها ذو النون المصريّ أبو الفيض ثوبان بن ابراهيم «1» ، كان أبوه عبدا نوبيا، وقد تقدم ذكره في الفقراء «2» . وقال صاحب كتاب" الأبرار" «3» : ومما سمع منه: (الطويل) أموت وما ماتت إليك صبابتي ... ولا قضيت من صدق حبّك أوطاري وأنت منى سؤلي وغاية مقصدي ... وموضع شكواي ومكنون أسراري وخدمه رجل على أن يعلمه اسم الله الأعظم، فمطله زمانا ثم أمره أن يحمل من عنده

طبقا مغطى إلى شخص بالفسطاط، فلما حمله استخفّه، فقال: (493) لأبصرنّ ما فيه، فكشفه، فخرجت منه فأرة، فاغتاظ، وقال: ضحك عليّ ذو النّون، فرجع إليه مغضبا، فلما رآه ذوالنون تبسم، وقال: يا مجنون ائتمنتك على فأرة فخنتني، فكيف ائتمنك على اسم الله الأعظم، قم عني فلا أراك بعدها. وقيل له: المصريّ لأنه سكن مصر ومات بها، وقبره بالقرّافة «1» رحمه الله تعالى. وملكها الآن مسلم من أولاد كنز الدولة «2» ، وهؤلاء أولاد الكنز أهل بيت ثارت لهم فيما تقدم ثوائر مرات، ولا يملك الآن بها ملك إلا من الأبواب السلطانية بمصر، وعلى ملوك دنقلة حمل مقرر لصاحب مصر، وهذه الإتاوة لا ذهب فيها ولا فضة، بل هي عدد من العبيد والإماء والحراب والوحش النّوبية. وحدّثني غير واحد ممن دخل النّوبة أنّ دنقلة «3» مدينة ممتدة على النيل، وأهلها في شظف من العيش على أنهم أصلح من كثير ممن سواهم من السودان، وبها مسجد جامع تأوي إليه الغرباء، وتجيء رسل الملك إليهم تستدعيهم إليه، فإذا جاؤوا أضافهم ووهبهم وأكرمهم هو و [أمراؤه] «4» ،

وأكثر (أ) عطياتهم إما عبد أو جارية، وأما أكثر (أ) عطياتهم فهي دكاديك، وهي أكسية غلاظ غالبها سود، واللحوم والألبان والسمك عندهم كثير، والحبوب قليلة إلا الذرة، وأفخر أطبختهم ما يعمل باللوبيا في مرق اللحم ويثرد ويصفّ اللحم واللوبيا على وجه الثريد، ويعمل اللوبيا بورقها وعرقها ولهم انهماك على السّكر بالمزر «1» ولهم ميل شديد إلى الطّرب. وحدّثني أحمد بن المعظمي وكان قد دخل مع أبيه إلى هذه البلاد وما وراءها في الرّسلية مرات أنّ ملوك السودان يتخذون كلابا معلّمة تنام على التخوت حولهم هي كالحراس لهم. والنّوبة لهم قتال، وبأسهم بينهم على ضعف قواهم وقلة بأسهم.

الباب العاشر في مملكة مالي وما معها

الباب العاشر في مملكة مالي وما معها

(في مملكة مالي وما معها «1» ) (494) اعلم أنّ هذه المملكة في جنوب نهاية الغرب متصلة بالبحر المحيط، قاعدة الملك بها مدينة ييتي «2» ، وهذه المملكة شديدة الحرّ، قشفة المعيشة، قليلة أنواع الأقوات، وأهلها طوال في غاية السواد، وتفلفل الشّعور، وغالب طول أهلها من سوقهم لا من هياكل أبدانهم، وملكها الآن اسمه سليمان «3» أخو السلطان موسى منسى «4» بيده ما كان قد جمعه أخوه مما فتحه من بلاد السّودان، وأضافه إلى يد الإسلام، وبنى به المساجد والجوامع والمواذن، وأقام به الجمع والجماعات والأذان، وجلب إلى بلاده الفقهاء من مذهب الإمام مالك رضي الله عنه، وبقي بها سلطان المسلمين، وتفقه في الدين. وصاحب هذه المملكة هو المعروف عند أهل مصر بملك التّكرور، ولو سمع هذا أنف منه

لأنّ التكرور إنما هو إقاليم من أقاليم مملكته، والأحبّ إليه أن يقال: صاحب مالّي لأنّه الإقليم الأكبر، وهو به أشهر. وهذا الملك هو أعظم ملوك السودان المسلمين وأوسعهم بلادا، وأكثرهم عسكرا، وأشدّهم بأسا، وأعظمهم مالا، وأحسنهم حالا، وأقهرهم للأعداء، وأقدرهم على إفاضة النّعماء. والذي تشتمل عليه هذه المملكة من الأقاليم: غانة «1» ، وزافون «2» ، وترنكا «3» ، وتكرور «4» ، وسنغانة «5» ، وبانبقوا «6» ، وزرنطابنا، وبيترا، ودومورا، وزاغا «7» ،

وكابرا «1» ، وبراغوري «2» ، وكوكو «3» ، وسكان كوكو قبائل يرتان «4» . وإقليم مالّي (هو) الذي به قاعدة الملك مدينة ييتي، وكلّ هذه الأقاليم مضافة إليه، والاسم المطلق عليه في هذه الأقاليم كلّها مالّي، قاعدة أقاليم هذه المملكة [ذات] «5» المدن والقرى والأعمال (وهي) أربعة عشر إقليما. حدّثني الشيخ الثقة الثّبت أبو عثمان سعيد الدكّاليّ وهو ممن سكن مدينة ييتي خمسا وثلاثين سنة واضطرب في هذه المملكة أنها «6» مربعة طولها أربعة أشهر وأزيد، وعرضها مثل ذلك تقع جنوب مرّاكش ودواخل برّ العدوة «7» جنوبا بغرب إلى المحيط، وطولها من تولي إلى طوروا (495) وهي على المحيط، جميعها مسكونة إلا ما قلّ وإنّ في طاعة سلطان هذه المملكة بلاد مغزارة التبر يحملون إليه التبر في كلّ سنة وهم كفار همج، ولو شاء أخذهم، ولكنّ ملوك هذه المملكة قد جربوا أنه ما فتح منهم أحد مدينة من مدن الذهب وفشا بها الإسلام، ونطق بها داعي الأذان إلا قلّ بها وجود الذهب ثم يتلاشى حتى

يعدم، ويزداد فيما يليه من بلاد الكفار، وأنه لما [صحّ] «1» هذا عندهم على التجريب «2» أبقوا بلاد التّبر بأيدي أهلها الكفار، ورضوا منهم ببذل الطاعة وحمول قرّرت عليهم. وليس في مملكة صاحب هذه المملكة من يطلق عليه اسم ملك إلا صاحب غانة «3» ، وهو كالنائب له، وإن كان ملكا. وفي شمال بلاد مالي قبائل من البربر بيض تحت حكم سلطانها وهم: نيتصر، ونيتغراس ومدوسة ولمتونة «4» ولهم أشياخ تحكم عليهم إلا نيتصر فإنهم يتداولهم ملوك منهم تحت حكم صاحب مالي، وكذلك في طاعته قوم من الكفار ومنهم من يأكل لحوم بني آدم، ومنهم من أسلم، ومنهم من هو باق على هذا، وقد ذكر هذا في موضعه. ومدينة ييتي ممتدة طولا وعرضا تكون طول بريد «5» تقريبا، وعرضها كذلك لا يحيط بها سور وأكثرها متفرقة، وللملك عدة قصور، يستدير بها سور محيط بها، وفرع من النيل يستدير بهذه المدينة من جهاتها الأربع، وفي بعضها يخاض ويمشى فيه عند قلة الماء، وفي بعضها لا يعبر إلا بالمراكب.

وبناء هذه المدينة بأياد من الطين «1» مثل جدران بساتين دمشق، وهو أنه يبنى تقدير نصف ذراع بالطين ثم يترك حتى يجفّ، ثم يبنى عليه مثله، ثم يترك حتى يجفّ ثم يبنى عليه مثله هكذا حتى يتناهى، وسقوفها بالأخشاب والقصب، وغالب سقوفها قباب أو جملونات كالأقباء، وأرضها تراب مرمل، وشرب أهلها من ماء النيل وآبار محتفرة، وجميع هذه البلاد مصخرة مجبلة، وجبالها ذوات (496) أشجار برية مشتبكة غليظة السوق إلى غاية تكون منها الشجرة الواحدة تظلّ خمس مئة فارس. وغالب أقواتهم الأرزّ و [الفوني] «2» وهو دقّ مزغب يدرس فيخرج منه شبيه حبّ الخردل أو أصغر، وهو أبيض يغسل ثم يطحن تم يعجن ويؤكل «3» ، وعندهم الحنطة وهي قليلة، والذرة وفيها لهم قوت، وعليق خيلهم وطعم دوابّهم، وعندهم الخيل من نوع الأكاديش التترية، والبغال كلّها صغار المقادير جدا، وكذلك كلّ دوابّهم من البقر والغنم والحمر ليس يوجد منها إلا ذميم الخلق صغير الحبّة. ويزرع عندهم شيء اسمه القافي «4» وهو عروق دقاق تدفن في الأرض فتزكو حتى تصير غلاظا طعمها شبيه بالقلقاس لكنّه ألذّ من القلقاس، وهو يزرع في الخلاء فإن اطلع الملك على أنّ أحدا سرق شيئا منه قطع رأسه و [علّقه] «5» مكان ما قطعه، هذه سنّة عندهم يتوارثها كابر عن كابر لا ترخصها مسامحة، ولا تنفع فيها شفاعة، ويزرع عندهم اللوبيا،

والقرع، واللّفت، والبصل، والثوم، والباذنجان، والكرنب، ولكن الباذنجان والكرنب قليل عندهم، وتطلع الملوخيّة برية. وعندهم من الفواكه البستانية الجمّيز وهو كثير عندهم، وتطلع عندهم أشجار برية ذوات ثمار مأكولة مستطابة فيها شجر يسمى نادموت «1» يحمل مثل القواديس في كبرها وفي داخلها شبيه دقيق الحنطة ساطع البياض مزّ لذيذ، ويعمل منه إذا جفّ في الحناء، فيسوده مثل النوشادر، وهو يدّخر عندهم للأكل والخضاب، ومنها شجر يسمى زبيزور تخرج ثمرته مثل قرون الخرّوب يخرج منه شبيه بدقيق التّرمس حلو لذيذ الطعم، وله نوى ومنها شجر يسمى شومي «2» يحمل شبيه السفرجل طعمه لذيذ يشبه طعم الموز، وله نوى شبيه [بغضروف العظم يأكله بعضهم معه، وشجر اسمه فاريتي يحمل شبيه] «3» الليمو (ن) وطعمه شبيه بطعم الكمّثرى بداخله نوى ملحم يؤخذ ذلك النوى وهو طريّ ويطحن فيخرج منه شبيه بالسّمن ويجمد مثله تبيّض به البيوت، وتوقد منه السّرج (497) والقناديل، ويعمل منه صابون، وإذا أريد أن يؤكل ذلك الدهن يحرق بتدبير، وصورة تدبيره أن يوضع على نار لينة ويغطى ويترك إلى أن يقوى غليانه ويبقى الذي يدبره يشارفه مشارفة في اختباره ويرضعه بالماء قليلا قليلا مرات وهو مغطى محترز عليه أن يتناهى على قدر القوة، ثم يترك حتى يبرد، ويستعمل في المأكل بالسمن، ومتى فوجئ بكشف الغطاء فار وطار وتصاعد إلى السقف، وربما انعقد منه نار فأحرقت الدار، وربما زاد فاحترقت البلد، وهذا الدّهن يخرق كلّ جلد وضع فيه ولا يحمله إلا ظروف القرع.

ويوجد بها من الثمرات البرية ما هو شبيه بكلّ الفواكه البستانية على اختلاف أنواعها، ولكنها حرّيفة لا [تستطاب] ولا يأكلها إلا السودان، وهي قوت [كثير منهم] «1» . وعندهم الملح موجود بخلاف الجوانيين والمسامتين لسجلماسة وما وراءها. وفي صحاريهم الجواميس برية تصاد كالوحوش وصورة صيدهم لها أنهم يحملون من ... «2» الصغار، وما يربى عندهم في البيوت، فإذا أرادوا صيد الجواميس أخرجوا واحدا منها إلى موضع الجواميس لتراه وتقصده وتتآلف به ... «2» التي هي علة الضم، فإذا تآلفت بها رموها بنشّاب مسموم عندهم، ثم يقطعون مواضع السّم، وهو موضع الرّمية وما حوله، ثم يؤكل باقيه. وأغنامهم ومعزهم لا مرعى لها وإنما هي جلّالات على القمامات والمزابل، وتلد الواحدة من المعز في بطن واحد سبعة وثمانية. وبصحاريهم أنواع الوحوش من الحمر والبقر والغزلان والنّعام وما يجري مجراها، والفيلة والآساد والنمور وكلّها لا تؤذي إلا من تعرض لها أو تحرش بها، وربما مرّ الرجل بها إلى جانبها فلا تعترضه ما لم يهجها. وعندهم وحش يسمى ترمّي- بضمّ التاء المثناة والراء المهملة وتشديد الميم- ولا يكون إلا خنثى له ذكر وفرج، مولّد بين الذئاب والضّباع.

قال الشيخ سعيد (498) الدكّاليّ: وقد رأيته بعيني، وهو خنثى قدر الذئب متى وجد في الليل آدميا صغيرا أو مراهقا خطفه وأكله، فأما بالنهار فلا يؤذي ولا له إقدام على الرجل التّمام، وهو ينعر كنعار الثور إذا أراد النّطاح، وهو ينبش الموتى ويأكلهم، وأسنانه كأسنان التمساح مصفّحة ذكر في أنثى. وفي مجرى النيل عندهم تماسيح كبار هائلة المقادير يوجد منها ما يكون طوله عشرة أذرع وأزيد، قال الدكّاليّ: وصيد منها تمساح وضع في قلبه رمح طوله عشرة أشبار، ومرارته سمّ، وهي تحمل إلى خزانة ملكهم، قال: والفيل يصاد في بلاد الكفار المجاورة لهم بالسّحر حقيقة لا مجازا، والسحر بهذه البلاد كلّها [كثير] «1» إلى غاية، وخصوصا ببلاد غانة، وفي كلّ وقت يتحاكم عند ملكهم بسببه، ويقال إن فلانا قتل بالسحر أخي أو ولدي أو بنتي أو أختي، ويحكم على القاتل بالقصاص ويقتل الساحر. وسلطان هذه المملكة يجلس في قصره على مصطبة كبيرة تسمى عندهم بنبي- بالباء الموحدة والنون والباء الموحدة- على دكّة كبيرة من آبنوس كالتخت يكون قدر المجلس العظيم المتسع، عليها أنياب الفيلة في جميع جوانبها الناب إلى الناب، وعنده سلاحه من ذهب كلّه، سيف ومزراق وتركاش «2» وقوس ونشّاب، وعليه سراويل كبير مفصل من نحو

عشرين نصفية لا يلبس مثله أحد، ويقف خلفه نحو ثلاثين [مملوكا] «1» من التّرك «2» وغيرهم ممن يبتاع له من مصر بيد واحد منهم جتر حرير عليه قبة وطائر من ذهب، والطائر صفة [باز] «3» ، يحمل على يساره، وأمراؤه جلوس حوله (و) من تحته [سماطان] «4» يمينا ويسارا، ثم دونهم أعيان من فرسان عسكره جلوس، وبين يديه شخص يغني له وهو سيافه، وآخر سفير بينه وبين الناس يسمى الشاعر، وحولهم أناس بأيديهم طبول يدقون بها، وبين يديه أناس يرقصون (499) وهو يتفرج عليهم ويضحك منهم وخلفه صنجقان منشوران، وقدّامه فرسان مشدودان محصلان لركوبه متى شاء، ومن عطس في مجلسه ضرب ضربا مؤلما، ولا يسامح [أحد] «5» في هذا، وإنما إذا جاءت واحدا منهم عطسة انبطح على الأرض وعطس حتى لا يعلم به، وأما الملك فإنه إذا عطس ضرب الحاضرون بأيديهم على صدورهم. ولباسهم عمائم بحنك مثل العرب، وقماشهم بياض من ثياب قطن يزرع عندهم، وينسج في نهاية الرّفع واللّطف يسمى الكميصيّا، ومنهم شبيه بزيّ المغاربة، جباب ودراريع بلا تفريج، وتلبس أبطالهم الفرسان أساور من ذهب، فمن زادت فروسيته لبس معها أطواقا، فإن زادت لبس معها خلاخل ذهب، وكلما زادت فروسية الفارس منهم لبسه الملك [سراويل] «6» متسعا، وكلما زادت فروسية البطل منهم يزيد في كبر سراويله، وصفة سراويلاتهم ضيق أكمام الساقين وسعة السّرج، ويمتاز الملك في زيّة بأنه يرخي له عذبة من

بين يديه يكون سراويله من عشرين نصفية لا يتجاسر على لبس هذا أحد غيره. وملوك هذه المملكة يجلب إليها الخيل العراب، وتبذل الأثمان الكثيرة فيها، ومقدار عسكره مئة ألف نفر منهم نحو عشرة آلاف فارس فرسان خيالة، وسائرهم رجّالة لا خيل لهم ولا مركب، والجمال والمراكب عندهم موجودة، ولا يعرف بها ركوب «1» ، و [الشعير] «2» معدوم عندهم بالجملة الكافية، لا ينبت عندهم البتة. ولأمراء هذا الملك وجنده إقطاعات وإنعامات من أكابرهم من يبلغ ماله على الملك في كلّ سنة خمسين ألف مثقال من الذهب، ويتفقدهم بالخيل والقماش، وهمته كلّها في تجميل زيّهم، وتمصير مدنه، ولا يدخل أحد دار هذا الملك إلا حافيا كائنا من كان، فمن لم يخلع نعليه ساهيا كان أو عامدا قتل بلا عفو، وإذا قدم (500) القادم على الملك من أمرائه أو غيرهم أوقفه قدامه زمانا، ثم يومئ القادم بيده اليمنى مثل من يضرب الجوك «3» ببلاد توران «4» وإيران، فإذا أنعم على أحد بإنعام، أو وعده بجميل، أو شكره على فعل تمرغ ذلك المنعم عليه بين يديه من أول المكان إلى آخره، [فإذا] «5» وصل إلى آخره أخذ غلمان ذلك المنعم عليه أو من هو من أصحابه من رماد يكون موضوعا في أواخر مجلس الملك معدا هناك

دائما لأجل مثل هذا، فيذرّ في رأس المنعم عليه، ثم يعود يتمرغ إلى أن يصل بين يدي الملك، ويضرب جوكا آخر بيده كما تقدم ثم يقوم، وأما صورة هذا المشبّه بضرب الجوك (فهي) أن يرفع الرجل يده اليمنى إلى قريب أذنه ثم يضعها وهي قائمة منتصبة ويلقيها بيده اليسرى فوق فخذه واليد اليسرى مبسوطة الكفّ [لتلقي] «1» مرفق اليمنى مبسوطة الكفّ مضمومة الأصابع بعضها إلى جانب بعض كالمشط [تماسّ] «2» شحمة الأذن. وأهل هذه المملكة يركبون بالسروج العربية، وهم في غالب أحوالهم [في الركوب كأنهم من العرب] «3» ، ولكنهم يبدؤون في الركوب بالرجل اليمنى بخلاف الناس جميعا. ومن عادتهم أن لا يدفن عندهم ميت إلا إذا كان ذا قدر وحشمة، وإلا فكلّ من سوى هؤلاء ممن لا قدر له، والفقراء والغرباء فإنه يرمى رميا في الفلاة مثل ما ترمى باقي الميتات. وهي بلاد يسرع فيها فساد المدخورات وخصوصا السمن فإنه ينتن ويجيف في يومين. قلت: وليس هذا بغريب لأن أغنامهم جلّالات تأكل القمامات والمزابل وبلادهم شديدة الحرّ سريعة [التحلل] «4» . وملك هذه المملكة إذا قدم من سفر يحمل على رأسه الجتر راكب وينشر على رأسه علم، ويضرب قدامه الطبول والطنابير «5» والبوقات بقرون لهم فيها صناعة محكمة.

ومن عادته أنه إذا عاد إليه أحد ممن ندبه في شغل أو مهمّ يسأله عن كلّ ما تمّ له من حال من حين مفارقته له إلى حين عوده (501) مفصلا. والشكاوى والمظالم تنتهي إلى هذا الملك فيفصلها بنفسه، وفي الغالب لا يكتب شيئا بل أمره بالقول غالبا، وله قضاة وكتاب ودواوين، هذا ما حدثني به الدكاليّ. وحكى لي الأمير أبو الحسن عليّ ابن أمير حاجب «1» أنه كان كثير الاجتماع بالسلطان موسى ملك هذه البلاد لما قدم مصر حاجّا، وكان هو نازلا بالقرّافة، وابن أمير حاجب والي مصر والقرّافة إذ ذاك، واتحدت بينهم الصحبة، وأنّ هذا السلطان موسى حدّثه بكثير من أحواله وأحوال بلاده ومن يجاورها من أمم السودان، قال: ومما حدّثني به أن بلاده متسعة اتساعا كثيرا وهي متصلة بالبحر المحيط، فتح فيها بسيفه وجنده أربعا وعشرين مدينة ذوات أعمال وقرى وضياع، وهي كثيرة الدوابّ من البقر والغنم والمعز والخيل والبغال وأنواع الطير الدواجن كالأوزّ والحمام والدّجاج، وأن أهل بلاده عدد كبير وجم غفير، وهم بالنسبة إلى من جاورهم من أمم السّودان المتوغلين في الجنوب كالشّامة البيضاء في البقرة السّوداء، وفي مهادنته أهل منابت الذهب، وله عليهم القطيعة، قال، فسألته كيف نبات الذهب. فقال: يوجد على نوعين. نوع في زمن الربيع عقيب الأمطار ينبت في الصحراء، وله ورق شبيه بالنّجيل «2» أصوله التّبر، والنوع الآخر يوجد في جميع السنة في أماكن معروفة على ضفاف مجاري النيل، فيحفر هناك حفائر، فتوجد أصول الذهب كالحجارة والحصي فيؤخذ وكلاهما هو المسمى بالتّبر، والأول أفحل في العيار، وأفضل في القيمة. قال:

وحدّثني السلطان موسى أن الذهب حمى له يجمع له متحصله كالقطيعة إلا ما يأخذه أهل تلك البلاد منه على سبيل السرقة. قلت: والذي قاله الدكّاليّ إنه إنما يهادى بشيء منه كالمصانعة، ويتكسب عليهم في المبيعات، لأنّ بلادهم لا شيء بها، وقول الدكّاليّ أثبت. قال ابن أمير حاجب: (502) وشعار هذا السلطان أصفر في أرض حمراء، (و) تنشر عليه الأعلام حيث يركب، وهي ألوية كبار جدا، وخدمة القادم عليه أو المنعم عليه أن يكشف مقدم رأسه ويضرب بيده اليمنى جوكا إلى الأرض نحو ما يعمل التتار، فإذا احتاج إلى أكثر من هذه الخدمة تمرّغ بين يديه، قال ابن أمير حاجب: وأنا رأيت هذا بالمشاهدة والعيان، قال: ومن عادة هذا السلطان أنه لا يأكل بحضور أحد من الناس كائنا من كان، بل يأكل دائما وحده بمفرده. ومن عادة أهل مملكته أنّه إذا نشأ لأحد، منهم بنت حسناء قدمها له أمة موطوءة فيملكها بغير تزويج مثل ما ملكت اليمين، مع ظهور الإسلام بينهم وتمذهبهم بمذهب المالكيّة. قال ابن أمير حاجب: هذا مع كون السلطان موسى متدينا محافظا على الصلاة والقراءة والذّكر، قال، فقلت له: إن مثل هذا لا يجوز ولا يحلّ لمسلم شرعا ولا عقلا، [فقال ولا للملوك، فقلت: ولا للملوك] «1» وسل العلماء، فقال: والله ما كنت أعلم وقد تركت هذا [من الآن] «2»

ورجعت رجوعا كليا عنه. قال ابن أمير حاجب: ورأيت هذا السلطان محبا للخير وأهله، وترك مملكته واستناب بها ولده محمدا، وهاجر إلى الله ورسوله فأدى فريضة الحج، وزار النبيّ صلى الله عليه وسلم وعاد إلى بلاده على أنّه يقرر لابنه الملك، ويتركه له بالكلّية، ويعود إلى مكة المعظمة، ويقيم مجاورا بها، فأتاه أجله، رحمه الله تعالى. قال ابن أمير حاجب: وسألته إن كان له أعداء (بينه و) بينهم حروب وقتال، فقال: نعم، لنا عدو، وشديدهم في السودان كالتتار لكم، وبينهم وبين التتار مناسبة من جهات منها: أنهم وساع الوجوه، فطس الأنوف، ولنا ولهم وقائع، ولهم بأس شديد بإصابة رميهم بالنّشّاب، وبيننا وبينهم نوب، والحروب ثارات. قلت: وقد ذكر ابن سعيد في" المغرب" «1» طائفة الدّمادم «2» الذين خرجوا على أصناف (503) السودان، فأهلكوا بلادهم وهم يشبّهون بالتّتر، وكان خروج الفريقين في عصر واحد «3» ، انتهى كلامه في هذا المعنى. قال ابن أمير حاجب: سألت السلطان موسى كيف انتقلت إليه المملكة، فقال: نحن أهل بيت نتوارث الملك، وكان الذي قبلي لا يصدق أنّ البحر المحيط لا يمكن الوقوف على

آخره، وأحبّ الوقوف على هذا وولع به، فجهّز مئين [المراكب] «1» مملوءة من الرجال وأمثالها مملوءة من الذّهب والماء والزّاد ما يكفيهم سنين، وقال للمسفّرين فيها: لا ترجعوا حتى تبلغوا نهايته [أو] «2» تنفد أزوادكم وماؤكم، فساروا وطالت مدة غيبتهم لا يرجع منهم أحد حتى مضت مدة طويلة، ثم عاد مركب واحد منها، فسألنا كبيرهم عما كان من أثرهم وخبرهم، فقال: تعلم أيها السلطان أنّا سرنا زمانا طويلا حتى عرض (لنا) في لجّة البحر واد له جرية قوية وكنت آخر تلك المراكب، فأما تلك المراكب فإنها تقدمت فلما صارت في ذلك المكان ما عادت ولا بانت، ولا عرفنا ما جرى لها، وأما أنا فرجعت من مكاني ولم أدخل ذلك الوادي، قال: فأنكر عليه، قال: ثم إن ذلك السلطان أعدّ ألفي مركب، ألفا له وللرجال استصحبهم معه، وألفا للزاد والماء ثم استخلفني وركب بمن معه في البحر المحيط وسافر فيه، وكان آخر العهد به وبجميع من معه وانتقل إليّ الملك. قال ابن أمير حاجب: ولقد كان هذا السلطان مدّة مقامه بمصر قبل توجهه إلى الحجاز الشّريف وبعده على نمط واحد في العبادة والتوجّه إلى الله عزّ وجل كأنّه بين يديه لكثرة حضوره، وكان هو ومن معه على مثل هذا مع حسن الزيّ في الملبس والسكينة والوقار، وكان كريما جوادا كثير الصّدقة والبر، خرج من بلده بمائة وسق جمل «3» من الذّهب أنفقها في حجّته على القبائل بطريقه من بلاده إلى مصر ثم بمصر ثم من مصر إلى الحجاز الشريف في التوجه والعود حتى احتاج

إلى القرض فاستدان على ذمته (504) من التجار بمكاسب كثيرة وافرة جعلها لهم بحيث حصل لهم في ثلاث مئة دينار سبع مئة دينار ربحا، ثم بعثها إليهم بالرّاجح. قال ابن أمير حاجب: وبعث لي خمس مئة مثقال ذهبا على سبيل الافتقاد، وأخبرني ابن أمير حاجب: أنّ المعاملة في بلاد التكرور بالودع، وأنّ التجار أكثر ما تجلب إليهم الودع وتستفيد به فائدة جليلة، انتهى كلام ابن أمير حاجب. قلت: وقد كان بلغني أول قدومي مصر وإقامتي بها حديث وصول هذا السّلطان موسى حاجا، ورأيت أهل مصر لهجين بذكر ما رأوه من سعة إنفاقهم «1» فسألت الأمير أبا العبّاس أحمد بن الجاكي المهمندار «2» رحمة الله عليه عنه، فذكر ما كان عليه هذا السلطان من سعة الحال والمروءة والدّيانة، وقال: لما خرجت لملتقاه أعني من جهة السلطان الأعظم الملك الناصر أكرمني إكراما بليغا، وعاملني بأجمل الآداب، ولكنه كان لا يحدثني إلّا بترجمان مع إجادة معرفته للتكلم باللسان العربيّ، ثم إنّه قدّم للخزانة السلطانيّة جملا كثيرة من الذّهب المعدنيّ الذي لم يصنع وغير ذلك، وحاولته أن يطلع للقلعة «3» ويجتمع بالسّلطان فأبى عليّ وامتنع، وقال: أنا جئت لأحجّ لا لشيء آخر وما أريد (أن) أخلط حجي بغيره، وشرع في الاحتجاج

بهذا، وأنه أفهم أنه يرى الحضور نقصا عليه لما يضطرّ إليه من تقبيل الأرض أو اليد، وبقيت أحاوله وهو يتعلّل ويعتذر والمراسم السلطانيّة تتقاضاني في إحضاره، فما زلت به حتى وافق، فلما حضر إلى حضرة السلطان قلنا له: قبّل الأرض، فتوقف وأبى إباء ظاهرا وقال: كيف يجوز هذا، فأسرّ إليه رجل عاقل كان معه كلاما لا نعلمه، فقال: أنا أسجد لله الذي خلقني وفطرني، ثم سجد وتقدّم إلى السلطان فقام له بعض قيام، وأكرمه وأجلسه إلى جانبه، وتحادثا حديثا طويلا، ثم خرج السلطان موسى، وبعث إليه السلطان (505) بعدّة من الخلع الكاملة له ولأصحابه ولكلّ من حضر معه، وخيلا مسرجة ملجمة ولأعيان من معه، وكانت خلعته طرد وحش «1» [بقصب] «2» كثير بسنجاب مقندس «3» مطرز بزرگش «4» على مقترح إسكندريّ «5» ، وكلوتة زركش «6» وكلاليب «7» ذهب و [شاشا] «8» [بحرير ورقم] «9» خليفتي، ومنطقة ذهب مرصعة و [سيفا محلى ومنديلا مذهبا خزّا،

وأعلاما] «1» وفرسين مسرجين ملجمين بمراكب ثقل «2» محلاة وأجرى عليه الإنزال والإقامات الوافرة مدّة مقامه، فلما آن أوان الحجّ بعث إليه دراهم [كثيرة وجمالا وهجنا خاصة] «3» كاملات الأكوار والعدد لمراكبه و [هجنا] «4» [أتباعا] «5» لأصحابه ومن حضر معه، وأزواد (اً) جمّة، ور كز له العليق في الطريق، ورسم لأمراء الركب بإكرامه واحترامه، ثم لما عاد تلقيته وأنزلته، واستمرّ على علوفاته وإنزاله، وأرسل إلى السلطان متبركا من هدايا الحجاز الشّريف، فقبله السلطان منه، وبعث إليه بالخلع الكوامل له ولأصحابه والألطاف والثوابي من البزّ الإسكندري والأمتعة الفاخرة ثم عاد إلى بلاده. قال المهمندار: ولقد أفاض هذا الرجل بمصر فيض الإحسان، لم يدع أميرا مقرّبا ولا ربّ وظيفة سلطانيّة حتى وصله بجملة من الذهب، ولقد كسب أهل مصر عليه وعلى أصحابه في البيع والشّراء والأخذ والعطاء ما لا يحصر، وبذلوا الذهب حتى أهانوا في مصر قدره، وأرخصوا سعره. قلت: ولقد صدق المهمندار فإنّه حكى مثل هذا غير واحد، ولما مات المهمندار وجد الديوان فيما خلّفه آلافا من الذّهب المعدنيّ مما أعطاه له باقيا على حاله في ترابه لم يصنّع. وحدّثني خلق من تجار مصر والقاهرة عمّا حصل لهم من المكاسب والربح عليهم، فإنّ الرجل منهم كان يشتري القميص أو الثوب أو الإزار وغير ذلك بخمسة دنانير (506) وهو لا يساوي دينارا واحدا، وكانوا في غاية سلامة الصّدر والطّمأنينة يجوّز عليهم مهما جوز

عليهم، ويأخذون كلّ قول يقال لهم بالقبول والصّدق، ثم ساءت ظنونهم بأهل مصر غاية الإساءة لما ظهر لهم من غشّهم لهم في كلّ قول، وفي تزاحمهم المفرط عليهم في أثمان ما يباع عليهم من الأطعمة والسّلع حتى لو رأوا اليوم أكبر أئمة العلم والدين، وقال لهم إنّه مصريّ امتهنوه، وأساؤوا به الظنّ لما رأوا من سوء معاملتهم لهم. وحدّثني مهنّا بن عبد الباقي العجرميّ الدليل أنّه كان في صحبة السلطان موسى لما حجّ، وأنّه أفاض على الحجيج وأهل الحرمين سجال الإحسان، وكان في غاية التجمّل وحسن الظنّ في سفره هو ومن معه، وتصدّق بمال كثير، قال: ونابني منه نحو مئتي مثقال من الذّهب، وأعطى رفاقي جملا أخرى، وبالغ مهنا في وصف ما رآه منه من الكرم وسعة النفس ورفاهيّة الحال. قلت: ولقد كان الذهب مرتفع السّعر بمصر إلى أن جاءوا إليها في تلك السّنة، كان المثقال لا ينزل عن خمسة وعشرين درهما وما زاد عليها، فمن يومئذ نزلت قيمته، ورخص سعره، واستمرّ على الرخص إلى الآن لا يتعدّى المثقال اثنين وعشرين درهما وما دونها، هذا من مدة تقارب اثنتي عشرة سنة إلى الآن لكثرة ما جلبوا من الذّهب إلى مصر وأنفقوه بها. قلت: ولقد جاء كتاب من هذا السّلطان إلى الحضرة السلطانيّة بمصر وهو بالخطّ المغربيّ في ورق عريض، السّطر إلى جانب السّطر، وهو يمسك فيه ناموسا لنفسه مع مراعاة قوانين الأدب كتبه على يد بعض خواصّه ممن جاء يحجّ، ومضمونه السّلام والوصية بحامله، وجهّز معه على سبيل الهدية خمسة آلاف مثقال من الذّهب. وبلاد مالّي وغانة وما معها يسلك إليها من (507) غربيّ صعيد مصر على الواحات «1»

في برّ مقفر تسكنه طوائف من العرب ثمّ من البربر إلى عمران يتوصّل منه إلى مالي وغانة وهي مسامتة لجبال البربر في جنوب مرّاكش وما يليها في قفار طويلة وصحار ممتدة موحشة. وحدّثني الفقيه العلّامة أبو الرّوح عيسى الزّواويّ «1» ، قال: حدّثني السلطان موسى منسى أن طول مملكته نحو سنة، وبمثل هذا أخبرني عنه ابن أمير حاجب، وأما ما قاله الدكّاليّ فقد تقدم ذكره، وهو أنها أربعة أشهر طولا في مثلها عرضا «2» ، وقول الدكّاليّ أثبت لأن موسى منسى ربما عظّم شأن ملكه. قال الزّواويّ: قال لي هذا السّلطان موسى إنّ عنده في مدينة اسمها تكرا «3» معدن النّحاس الأحمر تجلب منه القضبان إلى مدينة ييتي «4» ، قال، وقال: ليس في مملكتي شيء يمكس سوى هذا النّحاس المعدنيّ الذي يجلب فإنه خاصة لا غير ونحن نبعثه إلى بلاد السودان الكفار نبيعه (كلّ) وزن مثقال بثلثي وزنه [ذهبا] «5» ، فنبيع كلّ مئة مثقال من النحاس بستة

وستين مثقالا من الذهب وثلثي مثقال، قال: وقال لي: إن عنده أمما من الكفار في مملكته وهو لا يأخذ منهم جزية وإنما يستعملهم في استخراج الذهب من معادنه، وقال لي: إن معادن الذهب تحفر الجورة عمق قامة أو ما يقاربها فيوجد الذهب في جنباتها وربما يوجد مجتمعا في سفل تلك الحفائر. وملك هذه المملكة في جهاد دائم وغزو ملازم لمن جاوره من كفّار السودان، وهم أمم لا يستوعبهم الزمان. قال لي الدكّاليّ: وأهل هذه المملكة كثير فيهم السحر والسّم ولهم عناية بهما وتدقيق فيهما، وعندهم حشائش وحيوانات يركّبون منها السموم القتالة ولا سيما من نوع السمك، يوجد عندهم ومرارات التماسيح، فإنها سموم لا دواء لها. وحدّثني الشيخ الإمام أبو عبد الله محمد بن الصّائغ الأمويّ قال: حدّثني الوزير أبو عبد الله محمد بن زاغنوه [من] «1» (508) أهل بلدنا المريّة بالأندلس، وهو ثقة من الفقهاء العلماء، قال: ركبت في مركب لتجارة لي مع جملة تجار من فم الإيلاية وهو مدخل البحر المحيط قاصدين بعض بلاد (برّ) العدوة، فلعبت بنا الريح، و [تقاذفتنا] الأمواج إلى أن عدّينا المكان المقصود، وتمادى بنا الحال إلى أن عجزنا عن الإرساء إلى البرّ، ولم نزل على هذا نتغلغل في المحيط إلى الجنوب إلى أن دفعنا في ظلمات ممتدة إذا أخرج الإنسان بها يده لم يكد يراها، وأيقنا بالهلاك لوقوعنا في الظلمات، ثم لطف الله بسكون الريح فدارينا المركب، ورفقنا به وقصدنا جهة البرّ إلى أن وصلنا إلى البرّ وأرسينا به وخرجنا نطلب الخلاص لأنفسنا، فرأينا

أعلام مدينة فقصدناها فوجدنا بها أمة من السودان لما رأونا بيضا عجبوا منا واعتقدوا أنا صبغنا جسومنا بالبياض، فحكّوا جلودنا باللّيف، فلما ظهر لهم أنها خلقة بقي كلّ واحد منهم يتعجب ويتحدثون بذلك بعضهم مع بعض، فأقمنا عندهم فوجدنا غالب أكلهم لحوم الثعابين والحيّات، وهي كثيرة في أرضهم جدا يتصيدونها ويأكلون لحومها ليس بأرضهم نبات ولا مرعى، فأقمنا عندهم مدة حتى خرج منهم ناس إلى بلاد مجاورة لهم في بعض أشغالهم فخرجنا معهم ثم تنقلنا من مكان إلى مكان إلى (أن) وصلنا إلى برّ العدوة. وحدّثني أبو عبد الله بن الصائغ أن الملح معدوم في داخل بلاد السودان، فمن الناس من يغرر ويصل به إلى أناس منهم يبدّلون نظير كلّ صبرة ملح [مثلها] «1» من الذهب، قال: وحدّثت أنّ من أمم السودان الداخلة بل لا يظهر لهم «2» بل إذا جاؤوا وضعوا الملح ثم غابوا فيضع السودان إزاءه الذهب، فإذا أخذ التجار الذهب أخذوا هم الملح. وحكى لي عيسى الزواويّ قال: حدّثت أنّ رجلا دخل بملح، ووصل إلى مدينة من مدن كفّار السّودان (قال) فأهديت إلى ملكها شيئا من الملح فقبله وبعث إليّ (509) بجاريتين من أحسن السّودان صورة، ثم حضرت عنده بعد أيام فقال: بعثنا إليك بتلك الجاريتين فاذبحهما وكلهما لأنّ لحمهما أطيب ما يؤكل عندنا فلأيّ شيء ما ذبحتهما، فقلت: ما يحلّ هذا عندنا، قال: فأيّ شيء تأكل؟ قلت: لحم البقر والغنم، فبعث ببقر وغنم، قال: وحدّثت أيضا أنّ في بلاد هؤلاء السودان جبلا عاليا لا يمكن الصعود إليه، به أنواع من الفواكه والثمار، ولا سبيل لهم إليها إلا بما ألقت إليهم الرياح مما يتساقط من أوراقها وثمارها.

قلت: ولم يذكر هذا عن بلاد الكفار، وإن كان ليس من شرطنا، لكني ذكرته لغرابته وزيادة فائدة، ولأنه يتعلق ببلاد السودان. وأما ما أقوله فإنّه قد كثر القول عمن يأكل من السودان لحوم الناس، وهم الذين بلادهم متوغلة في غاية الجنوب، ومنهم من الزّنج. قال الجاحظ في كتاب" البيان والتبيين": وقد ذكرنا الزّنج وإنهاء ثناياها «1» ، قال «2» : سألت مباركا الزّنجي الفشكار «3» ، فقلت: لم تنزع الزّنج ثناياها؟ ولم [يحدّد (د) ] ناس منهم أسنانهم؟ فقال: أما أصحاب التحديد فللقتال والنّهش، ولأنهم يأكلون لحوم الناس، ومتى حارب ملك ملكا فأخذه قتيلا أو أسيرا [أكله] «4» ، وكذلك إذا حارب بعضهم بعضا أكل الغالب منهم المغلوب، وأما أصحاب [القلع] «5» فإنهم نظروا إلى مقادم أفواه الغنم فكرهوا أن تشبه مقادم أفواههم مقادم أفواه الغنم.

الباب الحادي عشر في مملكة جبال البربر

الباب الحادي عشر في مملكة جبال البربر

(في مملكة جبال البربر «1» ) وبلاد السودان أيضا مثلثة: ثلاثة ملوك [مستقلين مسلمين] «2» بيض من البربر: سلطان أهير، وسلطان دموسة، وسلطان دامكّة. هؤلاء الملوك الثلاثة البيض ملك أهير ودموسة «3» وتادمكّة «4» (510) ثلاثتهم ملوك مسلمون في جنوب الغرب (الأقصى) بين برّ العدوة مملكة السلطان أبي الحسن «5» وبين بلاد مالّي وما معها، وكلّ واحد منهم ملك مستقل بنفسه لا يحكم أحد منهم على الآخر، وأكبرهم ملك أهير. وهم بربر زيّهم نحو زيّ المغاربة دراريع إلا أنها أضيق، وعمائم بأحناك، وركوبهم الإبل، ولا خيل عندهم ولا للمرينيّ عليهم حكم، ولا لصاحب مالّي «6» ، وعيشهم عيش أهل البرّ من اللحوم والألبان، والحبوب قليلة عندهم. وحدّثني الشيخ سعيد الدكّاليّ أنّه مرّ بهم في بعض أسفاره ولم يقم عندهم، وهم في قلة أقوات.

وحدّثني الزواويّ أن لهؤلاء البربر جبالا عامرة كثيرة الفواكه، وقال: إن [كلّ ما] «1» بأيدي هؤلاء الثلاثة يجيء قدر نصف ما [لملك] «2» مالّي أو أرجح بقليل، وإنما ذلك أكثر دخلا لقربه من بلاد الكفار، وبها منابت الذّهب، وهو قاهر عليهم، ودخله كثير بهذا السبب وبكثرة ما يباع بمملكته من السلع وما يكتسبه في الغزوات من بلاد الكفار بخلاف هؤلاء فإنّ بلادهم جدبة ولا يد تمتد لهم إلى كسب، وغالب أرزاقهم من دوابّهم، ودون هؤلاء مما بينهم وبين مرّاكش جبال المصامدة «3» ، وهم خلق لا يعدّ وأمم لا تحصى، وهم يفخرون بالشجاعة والكرم، فيهم أعيان الكرماء وبهم تظلّ [سواكب] «4» الدماء، وقد كانوا لا يدينون لسلطان من سلاطين برّ العدوة، ولا يقدر أحد من ملوكها يفتل لهم في غارب ولا ذروة، وقد وصلت الآن إلينا الأخبار بأنهم قد دانوا للسلطان أبي الحسن صاحب برّ العدوة الآن، وقد دخلوا تحت ذيل طاعته، وتقرب كلّ منهم إليه بما فيه وبما في قدر استطاعته، على أنهم لا يملّكون لأحد قيادهم، ولا يسلمون إليه بلادهم، وهم معه على كلّ حال، بين صحة واعتلال، وهذا ما انتهى إلينا من أخبارهم.

(511) الباب الثاني عشر في مملكة إفريقية

(511) الباب الثاني عشر في مملكة إفريقيّة

(في مملكة إفريقيّة) هي مملكة عظيمة ولها شهرة عظيمة، صحيحة الهواء، عذبة الماء، وسيعة المدى. كانت في أول منشأ الدولة الفاطمية «1» [مقرّ] «2» ملكهم، طلعت بها شمسهم من المغرب، وظهرت آية المتعجّب، ثم صارت إلى بني باديس «3» ، واستقلوا بأعبائها، وامتدت لهم فيها أيام قضوا بلهنيتها، وبلغوا أمنيتها، ثم كانت في أيام جدود ملوكها الآن «4» ، ذات عزّ

وسلطان، امتدّت بها مهابة الأمير أبي زكريّا «1» ، وادّعى بها ابنه المستنصر «2» الخلافة لما غلب على السبعة ملوك المنازلين له من الفرنج، ولم يخرج بنفسه إلى لقائهم، وإنما اكتفى بإخراج سبعة قواد نازلوهم ونصبوا محلاتهم بإزاء محلاتهم «3» وليس هذا مما نحن بصدده. وإفريقيّة اسم الإقليم، وقاعدة الملك بها مدينة تونس وأضيف إليها مملكة بجاية ومملكة تدلس «4» يكون طولها خمسة و [ثلاثين] «5» يوما، وعرضها [عشرين] «6» يوما، وطولها من تدلس إلى حدود برقة «7» ، وطرابلس أول مدنها مما يلي برقة، وتدلس آخر مدنها مما يلي الغرب الأوسط.

وحدّها من الجنوب الصحراء الفاصلة بينها وبين بلاد جناوة «1» المسكونة بأمم من السودان، ومن الشرق آخر حدود طرابلس وهي داخلة من المحدود. ومن الشّمال البحر [الشماليّ] «2» البحر الشاميّ، ومن الغرب آخر حدود تدلس لجزائر بني مزغنّة «3» آخر عمالة صاحب برّ العدوة، وملوكها الآن من بني أبي حفص «4» أحد العشرة أصحاب محمد بن تومرت «5» أصحاب المغرب. وحدّثني الشيخ العلامة ركن الدين أبو عبد الله محمد بن القويع القرشيّ التونسيّ «6» أنها بلاد خصب تزرع على الأمطار، ومعاملتها من الدراهم (512) نوعان: أحدهما يسمى القديم، والآخر الجديد ووزنهما واحد، ولكن نقد الجديد خالص [الفضة] ، «7» ونقد القديم

مغشوش بالنحاس [للمعاملة] . «1» وإذا قيل: درهم ولم يميز يراد به العتيق، وتفاوت ما بينه وبين الجديد أن كلّ عشرة [دارهم] «2» عتق [بثمانية] «3» [دراهم] «2» جدد، وفي مصطلحهم أنّ كلّ عشرة دراهم من العتق دينار، وهذا الدينار هو دينار مسمى لا حقيقة له كالرائج بإيران والجيشيّ بمصر. ورطلها ست عشرة أوقية، وزن الأوقية أحد وعشرون درهما من دراهمها، والكيل اثنان: قفيز وصحفة، فأما القفيز فهو ست عشرة ويبة كلّ ويبة اثنا عشر مدّا قرويا يقارب المدّ النبويّ، وهي ثمانية [أمداد] «2» بالكيل الحفصيّ، والحفصيّ هو كيل قرره ملوكها الحفصيون آباء ملوكها الآن [بقدر مدّ ونصف من المدّ المقدم ذكره] «2» ، وأما الصّحفة فهي عشر صحاف كلّ صحفة اثنا عشر مدّا بالحفصي «4» . وأوسط الأسعار بها في غالب أوقاتها كلّ قفيز [من القمح] «2» بخمسين درهما من العين، والشعير دون ذلك. والموجود بها من الحبوب القمح، والشعير، [والحمّص] «2» ، والفول، والعدس، والذّرة، والدّخن، والجلبان، والبسلّة وتسمى بإفريقيّة النسيم «5» ، وأما الأرزّ فمجلوب إليها، وبها

من الفواكه العنب والتين كلاهما على أنواع، والرمان الحلو والمزّ والحامض، والسّفرجل، والتفاح، والكمّثرى، والعنّاب، والزعرور، والخوخ أنواع، والمشمش أنواع، والتوت الأبيض والأسود المسمى بالفرصاد، والعين «1» ، والقراسيا، والزيتون، والأترجّ، والليمون، والليم، والنّارنج، وأما الجوز فقليل، وكذلك النخل، وأما الفستق والبندق فلا يوجد، وكذلك الموز، وبها فاكهة أخرى تسمى مصغ دون الجوزة المقشورة الصغيرة وأكبر من البندقة يجيء في زمان الشتاء، وطعمه بين الحموضة والقبض شبيه بطعم السفرجل، ولونه بين الحمرة والصّفرة وله نوى وهو يقطف من شجر (هـ) فجّا ثم يلبّس ويثقّل ويدفّأ [كما يعمل بالموز فينضج ويؤكل حينئذ] «2» . (513) قلت: وهذا ذكره ابن وحشية في كتابه" الفلاحة النبطية". وأما قصب السكر فيوجد منه ما قلّ بها ولا يعتصر، وبها البطيخ الأصفر على أنواع، والبطيخ الأخضر، ولكنه قليل ويسمى بها خاصة وبالغرب عامة الدلاع، وبها الخيار والقثّاء، وبها اللوبيا، واللّفت والباذنجان والقرنبيط والكرنب والبقلة اليمانية واسمها بليدس «3» ، والرّجلة «4» [والخسّ] «5» ، والهندباء على أنواع وسائر البقول والملوخية ولكنها قليلة وبها الهليون «6»

والصّعتر، والشّمار بريّة كلّها [و] «1» بها الرياحين: الآس، والورد، ومعظمه أبيض، والياسمين، والنّرجس، والنيلوفر الأصفر، والتّرنجان، والمنثور، والمرزنجوش «2» ، والبنفسج، والسّوسن، والزّعفران، والحبق، والنّمام «3» . وبها من الدوابّ الخيول العراب المشابهة لخيل برقة، والإبل، والبغال، والحمير، والبقر، والغنم، والمعز، وبها الإوزّ ولكن قليل، وأنواع الصيد من الكركيّ ويسمى عندهم الغرنوق، وكذلك الوحش بها الحمر الوحشية، والبقر، والنعام، والغزال وغير ذلك، وغالب سعر لحم الضّأن كلّ رطل إفريقيّ بدرهم عتيق، وبقية اللحوم دونه في القيمة، وفي الربيع يكثر ويرخص غير هذا رخصا كثيرا، والدجاجة الجيدة بدر همين جديدين، وأحوالها مقاربة للديار المصرية في مثل ذلك لقرب المجاورة. وأما مدنها الكبار، فالقاعدة تونس والمشرقيات على الساحل: سوسة «4» ، والمهدية «5» ،

وصفاقس «1» ، وقصر زياد، وقابس «2» ، والمغربيات على الساحل: بنزرت «3» وبلد العنّاب وهي: بونة «4» ، والقلّ «5» ، وجيجل «6» ، وبجاية، وتازروت «7» ، وآزفون، وتدلس وقبلي تونس إلى الجنوب القيروان «8» ، وجنوبيّها بلاد الجريد «9» وأمّها توزر «10» ، وبقربها

تقيوس «1» ، وهي ثلاث بلاد ذات نخيل وزيتون، وكامة البهاليل بين توزر وتونس على طريق القيروان (و) قفصة «2» ذات نخيل وزيتون، وبغربي توزر على نصف يوم منها نفطة «3» ، وغربي تونس بعيدا من البحر باجة «4» (514) على يومين منها، وبالقرب خولان على نهر بجردة «5» في جنوبيّهما بغربي تونس جامة «6» ، وتبرسق، وكسرة، وبالقرب من ذلك مما يلي الغرب الأربس «7» ، وشقبناريّة، وفي [القرب] «8» منها مما يلي الغرب أبّة «9» ، وهي قصور مجتمعة نحو مئة وخمسين «10» قصرا، وبالقرب منها على

مسيرة يوم قلعة سنان، وهي قصر لا يعرف على وجه الأرض أحصن منه على رأس جبل منقطع عن سائر الجبال [ليس في رأسها ماء إلا المطر بها خمس مراحل نقر في حجر] «1» ، وهو جبل عال يقصر سهم العقّار عن الوصول إليه ويرتقى إليها من سلّم نقر في حجر طوله مئة وتسعون درجة وبأسفلها قصبة بها عين ماء وبها فواكه وثمار. ومن عمالتها قسنطينة «2» ، وهي بلد (ة) كبيرة متحضرة بها غاية الحصانة والمنعة. فأما تونس فهي قاعدة الملك وبها مما يليها بجاية قاعدة ملك ثانية، وهي مدينة مسوّرة في وطاءة من الأرض بسفح جبل يعرف بأمّ عمرو، ويستدير بها خندق حصين وثلاثة أرباض كبيرة من جهاتها، وأرضها سباخ «3» ، وبها قصبة وهي القلعة في مصطلح المغاربة هي سكن السلطان، وجميع بناء تونس بالحجر والآجرّ [وأبنيتها] «4» مسقوفة بالأخشاب وتفرش ديار أكابرها بالرّخام، ومنذ خلا الأندلس من أهله وآووا إلى جناح ملوكها مصّروا إقليمها ونوعوا بها الغراس فكثرت متنزّهاتها، وامتدّ بسيط بساتينها على بحيرة من البحر الشاميّ خارجة إلى شرقيّها من فم ضيق. قال أبو عبيد البكريّ: دورها أربعة وعشرون ميلا في وسطها جزيرة يقال لها سكلة لا ساكن بها، وربما يركب إليها السلطان ويقطع في المراكب إليها زمان الربيع ويضرب أخبيته بها، ويقيم للتنزّه فيها

أياما ثم يعود، على أنه لا ماء فيها ولا مرعى، ولكن لما تشرف عليه من البساتين المستديرة بتلك البحيرة وما فيها من الجواسق المشرفة ومنظر البحر. وبتونس ثلاث مدارس: السماعية، والمعرضية، ومدرسة الهواء. وبها الحمامات والأسواق (515) الجليلة، ويعمل بها القماش الإفريقيّ وهو ثياب رفاع من القطن والكتّان معا، ومن الكتّان وحده، وثيابها أمتع من النصافي البغدادي وأحسن، وهو أجلّ كساوي المغرب، وللسلطان بستانان أحدهما ملاصق (أ) رباض البلد اسمه رأس الطابية، والآخر بعيد من البساتين اسمه أبو فهر بينه وبين البلد نحو ثلاثة أميال، والماء مساق إليهما من ساقية زغوان من جبل «1» بعده يومان من تونس، ويدخل القصبة منه فرع وليس لأهل تونس شرب إلا من الآبار أشهرها بئر طبيان، وبالبيوت صهاريج تجمع مياه الأمطار لغسل القماش وغير ذلك. وأما بجاية «2» فهي مدينة قديمة مسوّرة «3» أضيف إلى جانبها [ربض] «4» أدير على سور ضامّ لنطاق المدينة فصارا به كالشيء الواحد، والرّبض في وطاءة، والمدينة القديمة المتصلة به في سفح جبل «5» يدخل إليها جون من البحر الشاميّ يعبر بالمراكب إليها، وبها عينان اثنتان من الماء إحداهما كبيرة منها شرب أهل البلد، ولها نهر جار على نحو ميلين منها تحفّ به البساتين ليس إلا أن يصبّ في البحر الشاميّ، وبضفتيه بستانان للسلطان

متقابلان شرقا وغربا، الشرقيّ يسمى الرفيع «1» ، ويسمى الغربيّ البديع هما مكان فرجته، ومحلّ نزهته، وفيهما يقول محمد بن محمد المكوديّ القابسيّ بديها حين رآهما: (الكامل) هذا البديع كما رأيت بديع ... وكذا الرفيع كما عهدت رفيع هذي معاهد كلّها معشوقة ... والحسن فيها كلّه مجموع وهي ثانية تونس في الرتبة والحال، وجميع المعاملات والموجودات والأحوال. ولبجاية حصانة عظيمة ومنعة، ولها رفق كثير بمدخل السفن إليها من البحر. وبقية مدن إفريقيّة جميعها ممنّعة ممدنة ذوات جوامع ومساجد وحمامات وطواحين وأسواق وديارات سريّة لكنها عاطلة من حلي البرّ والمعروف لا يكاد يوجد بها مدرسة ولا خانقاه ولا زاوية ولا رباط (516) ولا مارستان إلا فاس ومرّاكش وإن لم يبلغا أدنى رتب أمثالهما، ولا تعلّقا بأذيالهما على أنّ الذي بمرّاكش أجود وسيأتي ذكرهما في موضعه. وحدّثني أقضى القضاة أبو الروح عيسى الزواويّ أن أبواب ملوك إفريقيّة كبيرة فإذا جلس سلطانها جلس حوله ثلاثة للرأي والمشورة، ويجلس دونهم عشرة من أكابر أشياخه، وقد يكون هؤلاء الثلاثة من العشرة المذكورين، وبعد هؤلاء خمسون نفرا «2» فإذا أمر السلطان بأمر بلّغه وزير الجند لآخر واقف وراءه، وبلّغه الآخر الآخر، وبلّغه الآخر لآخر إلى أن يسمع الأمر السلطانيّ من خارج الباب بنقل أناس [عن ناس] «3» كما ذكرنا.

ويقف جماعة تسمى الوقافين بأيديهم السيوف حوله وهم دون الخمسين المذكورين في الرتبة. وأما ركوبه إلى صلاة العيدين أو إلى سفر فهو على ما يذكر يركب السلطان ويمشي إلى جانبه رجلان مقلّدان سيفين رجّالة إلى جانبه يمسك أحدهما بركابه اليمين والآخر بركابه اليسار، ويليهما جماعة رجّالة من أكابر دولته مثل الثلاثة أصحاب الرأي والعشرة الذين يلونهم ومن يجري هذا المجرى من أعيان الجند، وتسمى هذه الجماعة ايربان يمشون حوله بالسيوف، وبأيديهم عكاكيز. قال الزواويّ: وربما مشى في هؤلاء قاضي الجماعة، وهو عندهم قاضي القضاة، وقدام هؤلاء الجماعة المشائين نفر كثير من الموجودين (من) أقارب السلطان بسيوف ومزاريق ويسمون بالمشاين «1» ، وقدامهم جماعة جفاوة «2» [وهم عبيد سود بأيديهم حراب في رؤوسها رايات من حرير وهم لابسون جبابا بيضا مقلّدون بالسيوف] » ، وقدامهم عبيد المخزن، وهو اسم لعوام البلد ينادى فيهم ليلة العيد أو ركوب السلطان لسفر فيخرج أهل كلّ صناعة ويبيت بظاهر البلد، فإذا أصبح مشوا قدام كفاوة وبأيديهم الدّرق والسيوف، ومعهم العلم الأبيض المسمى عندهم" العلم المنصور" [محمول] «4» بيد فارس وأهل الأسواق (517) [المسمّون] «5» بعبيد المخزن وحوله كما ذكرنا.

وعلى يمين السلطان فارس وعلى يساره فارس هما من أكابر أشياخه من العشرة المقدّم ذكرهم. وخلف السلطان فارس إليه أمور الأعلام والصّناجق يقال له صاحب العلامات مثل أمير علم، ووراءه أعلام القبائل، ولكلّ قبيلة في علمها ما تمتاز به من الكتابة، والكتابة مثل: لا إله إلا الله، أو الملك لله أو ما يناسبهما، ووراء الأعلام الطبول والبوقات وأصحاب النفير، وخلفهم فرسان يعرفون بمحركي الساقة بأيديهم عصيّ يرتّبون الناس، وهؤلاء هم بمنزلة النقباء. وخلف هؤلاء العسكر والجند، والفارس الذي على يمين السلطان إليه أمر دقّ الطبول، يقول: دقّ فلان باسم كبير الطبالة. ويخرج السلطان لصلاة العيدين من طريق، ويعود من أخرى، وهذا هو زيّ ملوك هذه المملكة وترتيبهم في الخروج للعيدين والأسفار، ولا يزال من حول السلطان ممن ذكرنا أنهم يمشون بقدر ساعة ثم يركبون و [يطوف] «1» بالسلطان جماعة يقرءون حزبا من القرآن الكريم، ثم يقف السلطان ويدعو ويؤمن الجند على دعائه، ويؤمن الناس على تأمينه، ويجدّ السلطان والناس السير فإذا كانوا في فضاء كان مشيهم على هذا الترتيب [وإن ضاق بهم الطريق مشوا كيف جاء على غير ترتيب] «2» إلا أنّ السلطان لا يتقدم عليه جنده، فإذا قربوا من المنزلة وقف السلطان ودعا وأمّن على دعائه كما تقدم. وأعلام هذا السلطان الذي تحمل له سبعة أعلام التي تحمل وراءه الأوسط أبيض وإلى جانبه أحمر وأصفر وأخضر.

قال العلامة أبو عبد الله محمد بن القويع: ولا أتحقق كيف ترتيبها. وقد ذكر ابن سعيد أن شعار سلطان إفريقيّة يوم الجمعة لا يجتمع بأحد بل يخرج عندما ينادي المنادي [بالصلاة] «1» ويشقّ رحبة قصره ما بين خواص من المماليك الأتراك، فعندما يعاينونه ينادون: سلام عليكم نداء عاليا من صوت واحد يسمعه من يكون بالمسجد الجامع، ثم يتقدمه وزير الجند بين يديه في ساباط «2» يخرج هناك للجامع (518) عليه باب مذهب سلطاني، والوزير لا يخرج معه من هذا الباب بل يسبق فيفتح الباب، ويخرج السلطان منه وحده، ويقوم له جماعة الوقافين من أعيان الدولة، ولا يقوم له في الجامع غيرهم، وليس له مقصورة مخصوصة، فإذا انفصل عن الصلاة قعد في قبة كبيرة له في صدر الرحبة، وحضر عنده أقاربه ثم يدخل قصره. قال: وربما خرج إلى بستان له من أعظم ما تهمّمت ببنيانه الملوك، واحتفلت بغرسه السلاطين، ويخرج في نحو مئتي فارس من شباب أرباب دولته يعرفون بالصّبيان يوصلونه إلى البستان ويرجعون، ويبقى وزراؤه نوابا له وهم ثلاثة: وزير الجند، وهو بمنزلة الحاجب بمصر، ووزير المال وهو المسمّى صاحب الأشغال، ووزير الفضل وهو كاتب السرّ، ومهما تجدّد عند كلّ واحد منهم أمر يطالعه بالمكاتبات فيما يتعلق بشغله المنوط به، ويجاوبهم بما يراه. قلت: وركوبه إلى البستان في زقاق من قصبته إلى البستان محجوب بالحيطان لا يراه فيه أحد، والمشهور أنّ سلطانها الآن قليل الرّكوب، فإذا ركب إلى البستان لا يكون معه إلا جواريه وخدمه.

قال [ابن] «1» سعيد: ويوم السبت مخصوص عنده لأن يقعد في القبة الكبيرة، يعني بقصبته ويحضر عنده أعيان دولته وأقاربه والأشياخ، والجانب الأيمن لأقاربه والأيسر للأشياخ، وبين يديه وزير الجند ووزير المال وصاحب الشرطة والمحتسب وصاحب كتب المظالم، قلت: هو الموقع على القصص، قال: ويقرأ- يعني قصص المظالم- الكاتب المعين بما وقع إليه، ويردّ إلى وظيفة القصّة المتعلقة بوظيفته وينفّذ الباقي «2» . قلت: والمشهور على ألسنة التونسيين أنّ سلطانهم الآن كثير الاحتجاب بخلاف جميع سلفه، قليل الاعتناء بالنظر في مصالح أهل دولته ورعاياه، مقتصر على لذاته مع ما هو عليه من الشجاعة والإقدام وإباء النفس، ويحكى عنه في أوائل طلبه للملك ومنازعته الثوار عليه ما أقرت له به الأبطال، وقرت بزلزلته الجبال، ويدلّ على قوله فعله، وعلى فعله (519) قوله «3» : (البسيط) انظر إلينا ترانا «4» ما بنا دهش «5» ... وكيف يطرق أسد الغابة الدّهش

لا تعرف الحادث المرهوب أنفسنا ... فإنّنا بارتكاب الموت ننتعش من كفّ ظبي سقاني من مدامته ... لنرتوي عطشا فازداد بي العطش كأنّ وجنتها من حمرة شفق ... وشعرها غسق بالجسم مفترش فالقوس حاجبها والسّهم مقلتها ... وإن فررت فإنّ السالف الخلس «1» فانظر ما نطق به أول هذه الأبيات من إقدامه ثم ما جذبته إليه دواعي النفس من ذكر حبيبه ومدامه. وأما ما هو ممحض بوصف شجاعته وجلده فهو قوله «2» : (الطويل) وأزماننا لم تعد عنها «3» الغرائب ... مواطننا في دهرهنّ عجائب مواطن لم تحك التواريخ مثلها ... ولا حدّثت عنها الليالي الذواهب وأدلّ ما فيها على فعله قوله في الاعتذار عن هزيمة لاقى بها كلّ عظيمة: (الطويل) ومن قاتل الصفّين وامتاز مانعا ... وقد نهلت منه الظّبى وهو غالب قال هذه الأبيات التي هي من قصيدة طويلة عقيب وقعة جرت بينه وبين قواد السلطان أبي تاشفين عبد الرحمن «4» صاحب تلمسان قريب قلعة سنان، وثبت لملاقاة عدوّه ثباتا

كثيرا، وقد انهزم كلّ جنده حتى جرح ثلاث جراحات، وأخذ له ولدان «1» من أولاده وحظا (يا) هـ فقال هذه الأبيات، ومدح في آخرها سلطان المغرب «2» وذكر فيها بعثه ولده أبا زكريا «3» في البحر لاستنجاده فمدّ له ساعدا، وسدّد لأعدائه سهما قاصدا «2» ولما أخذت أولاده صبا إليهم واشتاقهم وقال يتسلى بعدهم وفراقهم «4» : (الطويل) طمت في دموعي للفراق بحور ... وأجّج ما بين الضلوع سعير وفارقت قلبي يوم فارقت صبيتي ... فلله أحياء خلت وقصور وقلت له يا قلب صبرا فقال لي ... حنانيك إني نحوهنّ أسير (520) عسى الله يدني للمحبين أوبة ... فتشفى قلوب منهم وصدور وكم من قصيّ الدار أمسى بحزنه ... فأعقبه عند الصباح سرور ثم لجأ إلى بلد العنّاب، ثم إلى بجاية وبعث ولده كما ذكر إلى أبي سعيد عثمان والد سلطانها الآن يستصرخ به فطلع إلى قريب تلمسان لنصرته، ثم ردّ لمرض عرض له، وأوصى

ولده السلطان أبا الحسن الآتي ذكره في ذكر برّ العدوة بإتمام ما بدأ به من نجدتهم، ثم إنّ صاحب إفريقّة بعث الشيخ العارف أبا الهادي إلى صاحب تلمسان فأعاد عليه ابنيه أحمد «1» وعمر «2» ومربيته لاعب، وأما الحظايا فأبت له نفسه استردادهن، وهذه الواقعة من الأسباب في أخذ صاحب برّ العدوة لتلمسان، وسيأتي هذا في مكانه «3» ، وهذه فائدة جاءت عرضا في هذا التأليف وإن لم تكن من شأنه. ونعود إلى ما كنا فيه من ذكر قصص الظّلامات، قال ابن سعيد: والذي يتولى إبلاغ الظّلامات إلى هذا السلطان يسمى صاحب الرقاعات يأخذ براءات المتظلمين أي قصصهم ويعرضها ويخرج بجوابها، قلت: وهذا بمثابة الدّوادار «4» . قال ابن سعيد في" المغرب"، وقال العلامة أبو عبد الله بن القويع: فيما حدّثني به أنّ هذا السلطان لا يعلّم على شيء يكتب وإنما يعلّم عنه صاحب العلامة الكبرى، قال ابن القويع: وفي الغالب يكون صاحب العلامة الكبرى كاتب السرّ، وهذا في الأمور الكبار

والعلامة: الحمد لله والشّكر لله، وأما مادون هذا فإنما تكون الكتابة فيه عن وزير الجند يكتب عليه صاحب العلامة الصغرى اسم وزير الجند، ومن خاصة كتب هذا السلطان أن يكتب في ورق أصفر، وأما ما يكتب عن وزير الجند ففي غير الأصفر، ومن عادة المغاربة كلّهم أن لا تطول كتبهم ولا تبعد بين سطورهم كما جرت بها العادة في مصر والشام وإيران. وسألت الإمام أبا عبد الله بن القويع عن طبقات الجند في هذه المملكة ومبلغ أرزاقهم في ديوانه، فقال: هؤلاء على ما قرّره لهم المهديّ يعني مهديّهم محمد بن تومرت، هكذا (521) كان عبد المؤمن «1» وأبناؤه لما كان لهم المغرب ليس لهم أمراء ولا أتباع يطلب بعدتهم كعدة الأمراء بمصر، وإنما لهم أشياخ من أعيانهم لا عدة لهم ولا جند ولا المرء منهم إلا بنفسه، وإنما هم أعيان الجماعة ممن يحضر عند سلطانهم الرأي والمشورة. قلت: وقد تقدم القول عليهم، قال: ولكلّ طائفة مزوار، وهو كبير لهم يتولى النظر في أحوالهم، وأمّا الجند فهم من الموحّدين والأندلسيين ومن قبائل العرب، وقليل ممن هرب وأقام عندهم من مصر، والفرنج هم خاصة السلطان، يقال لهم العلوج لا يطمئنّ إلا إليهم.

وأما أرزاقهم فإنّ أعظم بركاتهم يعني أرزاقهم التي بمعنى الإقطاعات بمصر [وهو الجماعة الموحدين والسلطان يأخذ معهم كواحد معهم سواء بسواء] «1» وهذه البركات تفرّق أربع مرات في كلّ سنة، في عيد الفطر تفرقة، وفي عيد الأضحى تفرقة، وفي ربيع الأول المبارك تفرقة، وفي رجب تفرقة، ولا يصيب كلّ واحد من الموحدين في كل تفرقة من هذه التفريقات الأربع إلا أربعون دينارا المسماة فتكون بثلاث مئة درهم عتيقة، ولأكابر هؤلاء مع هذه التفرقات أراض مطلقة تحرث وتزرع لهم، أو تحكر ويكون لهم عشر ما يطلع منها. قال القاضي أبو القاسم بن بنون: طبقات الجند بإفريقيّة أشياخ كبار، وأشياخ صغار، ثم الوقّافون، ثم عامة الجند، فأما البركات فهي ما ذكروا، وأما مقدار ما لكلّ واحد فحرث عشرة أزواج بقرا، والزوج هو محرث أربع من البقر لأن الزوج بشعبتين، والشعبة رأسان من البقر. قلت: وهذه الشعبة هي المسماة في بلد دمشق بالفدان فتكون جملة ما لكلّ واحد من أهل هذه الطبقة العالية في كلّ سنة مئة و [عشرين] «2» دينارا مسماة عنها ألف ومئتا درهم مغربية عنها من تفصيل مصر والشام ستّ مئة وخمسة وسبعون درهما «3» ، وما يتحصل من مغلّ [عشرين] «4» فدانا لعلّه لا يكون بأكثر من مثلها، فيكون تقدير جملة ما لهذا الرجل الكبير في الدولة في كلّ سنة (522) [ألفا] «5» وثلاث مئة وعشرة دراهم

[نقرة] «1» ، وهذا بمنزلة أحد الأمراء الألوف «2» بمصر والشام والنوين أمير التومان «3» بإيران، قال: وأما الأشياخ الصغار [لهم] «4» مع ذلك البركات لكلّ [واحد منهم] «1» محرث خمسة أزواج من البقر، قال: ولعامة الأشياخ الكبار والصغار والوقّافين والجند شيء آخر يفرقه السلطان عليهم يسمى المواساة، وشيء آخر يسمى الإحسان، فأما المواساة فهي غلة تفرّق عليهم عند تحصيل الغلات التي تتحصل في المخازن، وأما الإحسان فمبلغ يفرّق عليهم، وكلاهما من السنة إلى السنة، قال: وهذه الإحسان والمواساة «5» ، ليست بمضبوطة بقدر مخصوص بل على قدر ما يراه السلطان، وبحسب أقدار الناس، وإنما هو شيء ... «6» الجميع ويتفاوت مقدار العطايا بينهم، قال: وأما القبائل ومزاويرهم فمما يناسب هذا، ولكني لا أحرره. قال ابن القويع: والجند الغرباء يتميزون في العطيات على الموحّدين، وسألته عن حقيقة معنى الوقّافين ما هم، فقال: هؤلاء لهم خاصّية بالسّلطان يسكنون معه في القصبة يعني القلعة، وهم

طبقتان: [وقّافون كبار و] «1» وقّافون صغار وهؤلاء كلّهم يقفون بين يديه في أوقات جلوسه إذا جلس للناس، وهم بمنزلة الأمراء الخاصكيّة «2» بمصر. وقال لي القاضي أبو القاسم بن بنون: إنّ سلاطين إفريقيّة ليس يخلعون على من يولّونه وظيفة مثل ما يعمل في مصر، وإنما إذا أرادوا أن يخلعوا على أحد لأمر ما يكسونه، والكسوة [هي] «3» قماش يعطى للإنسان تفاصيل غير مفصلة يتصرف بها كيف أراد. وسألت الإمام أبا عبد الله بن القويع عن أرزاق القضاة والوزراء والكتاب، فقال: ليست بطائلة، وأما وزير الجند فهو مثل واحد من الأشياخ. قال ابن بنون: ومبلغ ما لقاضي الجماعة فهو خمسة عشر دينارا مسماة في كلّ شهر، وكان له معها عليق لبغلته، فقطع العليق، وما أعرف غير هذا وعلى هذا فقس. [وسألت] «4» (523) ابن القويع عن أرباب الوظائف ما هم؟ فقال: شيخ الموحّدين كأنّه نائب [السلطان] «5» ، ويسمّى الشيخ المعظّم، وهو يتولى عرض الموحّدين وأمورهم.

وأما الوزير فليس له كثير أمر ولا وضع ولا لسائر الوظائف إلا الأسماء، قال أبو عبد الله بن القويع: وعدّة العسكر لعلّها لا تبلغ عشرة آلاف فارس، وأمّا العرب أهل البادية فعدد جم، ولهم إقطاعات كثيرة، وشوكتهم قوية، ومنهم من يخرج مع السلطان إذا استدعاهم القائم بسلطنتها الآن، فأما [من] «1» قبله [فقلما] «2» كان يسكن شغبهم، أو يسكن أبيهم لانتظام أمر هذا السلطان وما طبع عليه من الشجاعة، ولاعتقاده بالسلطان أبي الحسن المرينيّ صاحب برّ العدوة منذ تزوج بنته «3» أبو الحسن فثبت بنيانه، ونفذ أمر سلطانه، وسيأتي ذكره في موضعه بما فيه دلالة. وأما زيّ صاحب إفريقيّة القائم الآن في لبسه فهو عمامة ليست بمفرطة في الكبر بحنك وعذبة صغيرة وجباب، ولا يلبس هو ولا عامة أشياخه وجنده خفا إلا في السّفر، وغالب لبسه ولبس أكابر أشياخه من قماش يسمى السّفساري يعمل عندهم من حرير وقطن أو حرير وصوف إما أبيض أو أحمر أو أخضر، وقماش يعرف بالحريري وهو صوف رفيع جدا، وقماش يعرف بالتلمساني مما يعمل بتلمسان، وهو نوعان: مختّم وغير مختّم، منها صوف خالص، ومنها صوف وحرير. قال ابن بنون: والسلطان يمتاز بلبس الخزّ ولونه لون الخضرة والسواد، قال: وهذا اللون هو المسمى بالجوزي وبالغبار وبالنفطي.

قال ابن سعيد: وهو مما يخرج من البحر بصفاقس المغرب، وأنا رأيته كيف يخرج، يغوص الغواصون في البحر فيخرجون كمائم [شبيهة] «1» بالبصل بأعناق في أعلاها زوبرة فتنشر في الشمس فتنفتح تلك الكمائم الشبيهة بالبصل عن وبر فيسمط ويخرج صفوه ويغزل ويعمل منه طعمة لقيام حرير وينسج منه ثياب مختّمة وغير مختّمة، وهو أفخر ثياب السلطنة بتونس، ويبلغ ثمن الثوب مئتي دينار من دنانيرهم (524) المسمّاة فيكون ثمن الثوب ألف درهم من نقد مصر والشام. قلت: وقد رأيت من هذا القماش على بعض أكابر الكتّاب بدمشق، ثم رأيته على بعض سفلة الكتّاب بمصر، وهو المسمّى بمصر والشام بوبر السّمك. وأما لبس الأشياخ والدّواوين والوقّافين والجند والقضاة والوزراء والكتاب وعامة الناس فعلى زي واحد، لا يكاد يتفاوت العمائم والجباب، ولا يمتاز الأشياخ والوقّافون والجند إلا بشيء واحد لا يكاد يظهر ولا يبين وهو صغر العمائم وضيق القماش. ولباس أهل إفريقيّة من الجوخ ومن الثياب الصوف ومن الأكسية، ومن الثياب القطن فمن لبس غير هذا «2» مما يجلب من طرائف الإسكندرية والعراق كان نادرا شاذا. قلت: وقد ذكر ابن سعيد في" المغرب" جملة من ترتيب سلاطين إفريقيّة زمان [سلطانها] «3» عبد الواحد بن أبي حفص «4» مما أذكره هنا لأنّه ليس بالعهد من قدم،

والسلطان القائم الآن من أبناء ذلك السلطان، ولو تغيرت الأحوال ما تغيرت [وزالت] «1» بالجملة، فلهذا نذكر ما ذكره ابن سعيد، قال:- وقد ذكر عبد الواحد بن أبي حفص- ما معناه: أنه كان يجلس في يوم السبت لمطالعة ما يقرأ عليه من قصص المتظلمين والسائلين حتى من شكا إليه الغربة سأل عنه، فإن كان مشكور السيرة أطلق له الصّداق وأجرى عليه رزقا. وذكر في ترجمة ولده أبي زكريا بن عبد الواحد أنّه يلبس الثياب الصوف الرفيعة ذوات الألوان البديعة، وأكثر ما يلبس المختّم الممتزج من الحرير والصوف، وكمّاه طويلان من غير كثرة طول، ضيّقان من غير أن [يكونا مزنّرين] «2» ، وثيابه دون شدّ نطاق إلا أن يكون في الحرب، فإنّه يشدّ المنطقة، ويلبس الأقبية، وله طيلسان «3» من صوف في غاية اللّطافة كأنّه شرب يتردى به، ولا يضعه على رأسه، وله عمامة كبيرة من صوف أو كتان، وفيها طراز من حرير، ولا يعمم أحد من أهل دولته على قدرها في الكبر، قد اختصت (به) وبأقاربه، وليس له أخفاف في الحاضرة (525) ولكنّه يلبسها في السّفر، وله عذبة خلف أذنه اليسرى، وهذه العذبة مخصوصة به وبأقاربه، وجنده مختلفو الأجناس، فمنه الموحّدون الذين أسّسوا له دولة يعني من أصحاب مهديّهم ابن تومرت، قال: ومن قبائل زناتة «4» المنضافين إليهم أصناف مشهورون بالفروسية وجموع من الغزّ «5» .

القدماء الذين هاجروا إلى المغرب في مدة بني عبد المؤمن، ونحو ألف فارس من المماليك الترك ابتيعوا له من مصر، وجميع الجموع من الأندلس والغرب. وقاعدته في مدينة مملكته يعني تونس أنه يخرج با (كر) كلّ يوم إلى موضع يعرف بالمدرسة، ويبعث خادما صغيرا يستدعي وزير الجند من موضعه المعين له فيدخل عليه رافعا صوته ب" سلام عليكم" من بعد من غير أن يومئ برأسه، ولا يقوم له السلطان، ويجلس بين يديه، ويسأله السلطان عما يتعلق بأمور الجند والحروب، ثم يأمره باستدعاء من يريد من أشياخ الجند أو العرب، أو من له تعلق بوزير الجند، ثم يأمر باستدعاء وزير المال وهو المعروف بصاحب الأشغال فيأتي معه ويسلمان جميعا من بعد على السلطان، وإن كان قد تقدم سلام وزير الجند ولكنّه عادة الدخول إليه، فيتقدم وزير المال إلى بين [يديّ] «1» السلطان، ويتأخر وزير الجند إلى مكان لا يسمع فيه حديثهما، ثم يخرج وزير المال، ويستدعي من يتعلق به، ثم يحضر صاحب الطعام بطعام الجند ويعرضه على وزيرهم لئلا يكون فيه تقصير، ثم يقوم السلطان من المدرسة إلى موضع مخصوص، ويستدعي وزير الفضل يعني كاتب السرّ، ويسأله عن الكتب الواردة من البلاد وعما تحتاج إليه خزانة الكتب، وعما تجدّد في الحضرة وفي البلاد مما يتعلق بأرباب العلم وسائر فنون الفضل والقضاة، ويأمره باستدعاء من يخصّه من الكتاب ويملي عليهم وزير الفضل ما أمر بكتابته ويعلّم عليه وزير الفضل بخطّه، والعلامة هي أن يكتب بعد بسم الله الرحمن الرحيم وصلّى الله على نبيّه محمد وآله اسم السلطان (526) . وفي ذلك المجلس يستدعي السلطان من شاء من العلماء والفضلاء ويتحاضرون محاضرة خفيفة، وإن كان وزير الفضل قد رفع قصيدة لشاعر وافد أو مرتب في معنى استجدّ أمر السلطان بقراءتها عليه إن لم يأمر بحضور الشاعر، وينشدها قائما أو قاعدا على ما يؤهل له، ويتكلم السلطان مع وزير الفضل ومن يحضر في ذلك، ويوقع على كلّ قصيدة بما يراه.

قال ابن سعيد: وقواعد الشعراء أن ينشدوا بين يديه في الأعياد والخروج إلى الأسفار أو القدوم منها. قلت: ومواضع مما ذكره ابن سعيد قد تقدم شيء منه، وإنما ذكرناه هنا لاتصاله شيئا بشيء، وليؤكد بعضه بعضا، وليعلم في بعض ما بينهما مقدار التّفاوت مما تغيّر مع قرب الزمان واقتفاء الولد لآثار الوالد، وكيف يكون مقدار التفاوت فيما يغيّر بدخول دول الأعداء بعد الأعداء وبعد الزمان. قلت: وهؤلاء ملوك الموحدين لم يزالوا منذ ملكوا ممد (و) حين تصغي إلى المديح مسامعهم، وتهتزّ به أنديتهم ومجامعهم، ومنهم من له النظم الفائق والنثر الفائت، ولأهل إفريقيّة لطف أخلاق وشمائل بالنسبة إلى أهل برّ العدوة وسائر بلاد المغرب، وما ذاك إلا بمجاورتهم لمصر وقربهم من أهلها ومخالطتهم لهم ولمن سكنها من أهل إشبيلية «1» ، وهم من هم خفة روح وحلاوة نادرة، وهم على كلّ حال أهل انطباع وكرم طباع، وسأذكر لهم عنوان قولهم. وأما اتصال الأخبار بين السلطان ونوابه، فإنّه إذا كتب الكتاب يجهّز مع من يقع الاختيار على تجهيزه من نوع النقباء أو الوصفان، وهم عبيد السلطان، ويركب ذلك المجهّز على بغل إما أن يكون ملكا له، أو يستعيره من أصحابه، ويسافر عليه إلى الجهة المجهّز إليها، فإذا أعيا بغله في مكان تركه عند الوالي بذلك المكان، وأخذ منه بغلا عوضه يعيره الوالي له، أو يسخره من الرعايا لركوبه إلى أن يبلغ جهة قصده إلى أن يعود، ووالي المدينة هو المسمى عندهم بالحافظ والمحتسب (527) بها، فإذا تجدّد عندهم أمر أعلموا به وزير الجند.

ومن عجائب إفريقيّة ما حدّثني به القاضي أبو الروح عيسى الزواويّ وأبو عبد الله السّلالجيّ [قالا] «1» : إن بين توزر قاعدة بلاد الجريد وبين بشترى «2» من بلاد نفزاوة «3» سبخة عظيمة آخذة في الجنوب إلى الصحراء المجهولة المسالك، (و) في وسط هذه السّبخة مع طرفها الشّمالي طريق سالكة للمارة يسلكها من يطلب السرعة لقريب مداها مع المخاطرة في سلوكها، لأنها طريق قليلة العرض، ضربها الله طريقا يبسا في وسط تلك السّبخة، من خرجت رجله عنها ولو قيد شبر واحد نزلت به قدمه، وهوى في تلك السّبخة وغاص فيها إلى أن يذهب، فلا يبين له أثر، ولا يعرف له خبر، ورفيقه إلى جانبه يراه وهو نازل ولا يقدر (أن) ينفعه بشيء، ولا (أن) يمدّ يده إليه خوفا أن يغوص معه، وهي مهلك عظيم، سباخ من ملح لا ماء [فيها] «4» كم خرج فيها عن تلك الجادة إنسان وفرس وجمل فهلك. قالا: وعلى جنبتي هذه الطريق أعلام منصوبة من الخشب يمنة ويسرة، والطريق بينهما، ولولاها لهلكت المارة من الجهال بها. قال السّلالجيّ: وسمعت أنّ هذه الأعلام نصبها هناك أبو إبراهيم إسحاق بن غانية الميورقيّ «5» الثائر على

الموحّدين بإفريقيّة. وقال لي الزواويّ: وفي هذه الطريق ضرر آخر على السفّار، وهو أنّه أيّ من وضع إناء ماء حلو على الأرض صار مرا زعاقا لوقته وساعته، و [إذا] «1» احتاج المسافر في ذلك الطريق أن يضع إناءه يعمل تحته شيئا يحول بينه وبين الأرض، قال: وطول هذه المسافة أكثر من نصف نهار، مقداره من الطريق الأخرى السالكة في العمران يوم وليلة، قال الزواويّ: وفي وسط هذه الطريق الآخذه في السّبخة فرجة يستريح فيها بالقعود السفّار، قال: وأنا سلكتها، ورأيت هذا كلّه بالمشاهدة والعيان. قال السّلالجيّ: نحن جئنا إلى أطراف هذه السّبخة، ولم ندخلها خوفا منها. (528) قال الزواويّ: والمشهور بين أهل تلك البلاد كلّها أنّ الصحراء التي في جنوب هذه السّبخة ما سلكت ولا تسلك، ولا يقدر أحد على سلوكها. وحكى لي السّلالجيّ أنّ أهل الجريد يتحدثون فيما بينهم أن رفقة كبيرة وقع أهلها في هذه السّبخة فلم يطلع أحد منهم، ولا عاد منهم ولا عنهم مخبر. قال أبو عبد الله السلالجيّ: ووقفت في تونس على شرح القصيدة الشّقراطسية «2» الشهيرة البديعة وتخميسها،

وشارحها القاضي الإمام أبو عبد الله محمد بن عليّ التوزريّ المصريّ «1» ، ورأيته قد تكلم في أوائلها عند ذكر ناظم هذه القصيدة، وتعرضه لموطنه ومسقط رأسه وهي شقراطس، وهي- غالب ظني على ما ذكر- من إقليم الجريد، ثم آخر كلامه إلى ذكر توزر، ومدحها وأثنى عليها، وذكر هذه السّبخة والصحراء التي تليها، وقال: إنّ مدينة النحاس بها مما يلي هذه السّبخة. قال السلالجيّ: وقفت على أول مجلدة من هذا الشرح، وهو يكون في أربع مجلدات كبار بمدينة تونس استعرته من بعض فضلاء أهل توزر لمطالعته، وشارح هذه القصيدة ناقل الحكاية أيضا، وهو مشهور ثقة مأمون معروف من أهل العلم المشاركين في كلّ علم، وله تصانيف كثيرة في الفقه والأدب. قلت: وهذه القصيدة الشّقراطسيّة في المديح الشريف النبويّ زاده الله شرفا، وأولها: (البسيط) الحمد لله منا باعث الرسل ... هدى بأحمد منا أحمد السّبل

الباب الثالث عشر في مملكة بر العدوة

الباب الثالث عشر في مملكة برّ العدوة

(في مملكة برّ العدوة) هو الآن مجموع لسلطان واحد «1» ، وفيه ثلاث ممالك: فاس وهي أعظمها، ومملكة تلمسان، ومملكة سبتة «2» مع ما أضيف إليه من بلاد الأندلس على ما يأتي ذكره. وبلاد برّ العدوة بلاد خصيبة ذات زرع وضرع (529) وفواكه. قال ابن سعيد: وبرّ العدوة في الثالث والرابع، ثم قال: والإقليم الثالث صاحب سفك الدماء والحسد والحقد والغل وما يتبع ذلك، ثم قال: وأنا أقول: إن الإقليم الثالث وإن كثر فيه الأحكام المرّيخيّة على زعمهم، فإن للغرب الأقصى من ذلك الحظّ الوافر ولا سيما في جهة سوس «3»

وجبال درن «1» فما قتل الإنسان عندهم إلا كعصفور، وكم قتل قتيل على كلمة، وبالقتل يفتخرون، ثم قال ابن سعيد: وأنا أقول: إنّ الغالب على أهل المغرب الأقصى كثرة التنافس المفرط، والمحاققة، وقلة التقاضي، والتهور، والمفاتنة، وليس البخل إلّا في أراذلهم، وفي كثير من أغنيائهم سماحة مفرطة ومفاخرة بإطعام الطعام، والاعتناء بالمؤمّل والقاصد، ولكنّ الأوقاف عندهم على عظمة سلطنة بني عبد المؤمن «2» والمرابطين «3» قبلهم قليلة: لا يقولون بها، ولا يرون الصّدقة على صحيح سويّ ولا بنيان المدارس، وقد بنى المتأخرون بها ما قلّ. قال أبو عبد الله محمد بن محمد السّلالجيّ: إن بمدينة فاس أربع مدارس وخانقاه واحدة. قلت: وكان الأليق بهمة أهل تلك الممالك مع أصالتهم في الدين وتمسكهم بسببه

المتين لو عمروا المدارس لينتشر العلم، ويتوفر الطالب على النفقة ولا تنقسم أفكاره، وتتشعب في طلب المعاش والاكتساب فيقلّ تحصيلهم. وأقول: فالأمر على ما ذكره ابن سعيد الآن في قلة الأوقاف والمدارس عندهم، وفي جمهورهم البخل وسوء الخلق، إلا الرؤساء، فإنّ الرئيس في كل أفق مطبوع على الرئاسة أو منطبع بها، له أتباع يحتاج (أن) يبسط لهم خلقه ويده، وأن لا يتجنبه من لا يعرفه، وينفر عنه من يعرفه. وقال ابن سعيد: والمغرب قليل الصواعق والزلازل. قلت: ومكان السلطان من برّ العدوة هو بفاس الجديدة (530) المسماة بالبيضاء «1» في دار لا يختصّ فيها بزيادة رفعة على نشز ولا ربوة، وتسمى القصر، وهو عالي البناء ذو قباب علية ضخمة لائقة بالملوك، وغرف مرتفعة ورفارف علوية، ومجالس سلطانيّة، وبداخلة القبة المعروفة بقبة الرّضا، وهي قبة عظيمة الارتفاع خارقة الاتّساع، وقدّامها بركة ممتدة بها مركب لاتساعها وكبرها، وخلفها بركة أخرى مثلها، بها مركب آخر لاتساعها وكبرها، ومساحة البركتين واحدة، والقبة العظمى بينهما، وفي نهاية كلّ بركة قبة لطيفة المقدار، وفي جميع جدر القباب شبابيك مطلة، والبستان حافّ [بالجميع] «2» ، وهو بستان جليل منوّع بصفوف الأشجار والغراس على اختلافها، ويجري الماء إلى قصر السلطان

من مكان يعرف بأساليس على بعد نصف نهار أو أقلّ مرفوعا في قناة على قناطر مبنية إليها، وإصطبلاته إلى جوانب قصره لا يسكن معه في قصوره إلا حريمه وفتيانه وهم الخدم الخصيان، ويبيت حوله في ظاهر قصره طائفة من الفرنج، وأناس يعرفون بالعدويين بمنزلة النّقباء، ووصفان السلطان و [البوابون] «1» ولا ينازله في قصره أحد من الأشياخ ولا الجند ولا الغرباء، ومرجع ملوك بني مرين سلاطين برّ العدوة في زناتة، وكذلك مرجع بني عبد الواد سلاطين تلمسان. فأما بنو مرين فملوكهم في بني عبد الحقّ، ومن قبائلهم: «2» بنو عسكر وبنو وطّاس، وبنو اتكاسن، وبنو بايان، وبنو اتنالفت وبنو بزنت، وبنو برلبان، وأما أتباعهم فهم الحسم وبنو فودود مع ما ينضاف إلى هؤلاء من الأفراد والأنجاد ممن له فروسية وشجاعة وهم كثير جدا فيدخلون في سلك وصفان السلطان أو وصفان أشياخ هذه القبائل المذكورة، وهم بنو مرين غير هؤلاء الأفراد. والذين كانوا مع بني عبد الواد (531) مغراوة وهم أفخاذ كثيرة، وبنو راشد، وبنو توجين، وبنو مليكس، وبنو سدويكش، ومن بني توجين بنو عبد القويّ، ومن بني عبد القويّ من كان قد تغلب وملك حتى قهرهم بنو عبد الواد وملكوا عليهم، واتخذوهم أعوانا، وقد صار الكلّ لهذا السلطان جندا مع من كان معه من قبائله، ومن جملة عساكره

قبائل من العرب كثيرة، منهم بنو حسان «1» ، والعاصم «2» ، وبنو جابر «3» ، والحلوط، ورياح، وسويد، والشّبانات، وبنو عامر «4» ، وبنو سالم، وغيرهم، وله في عسكره من الغزّ مقدار ألف وخمس مئة فارس، ومن الفرنج مقدار أربعة آلاف فارس أو أزيد، وهم يركبون خاصة خلف ظهره، وله علوج مماليكه مسلمون مقدار خمس مئة فارس فرسان رماة، ومن الجند رماة وهم الأندلسيون يرمون بقوس الرّجل أزيد من ألفي فارس، وطائفة كبيرة يقال لهم الوصفان خاصّون بالسلطان، يسكنون حواليه، وينزلون في السفر إلى جوانب محلته دائرين في جملة نواحيه يقال لهم أهل الدوّار، وكلّ جيوشه فرسان أبطال نقاوة لا يطاق هياج أسدهم ومصالتة سيوفهم. قال لي أقضى القضاة أبو الروح عيسى الزواويّ: إن بعض أبطال الغرب قال: إنه إذا كان منّا مئة ولاقاهم زناتي واحد هربوا قدّامه ولم يتجاسروا على إقدامه ولا ملاقاته «5» . وقال لي: إذا جاء الزناتيّ مغيرا فلا يعتقد أنّ أحدا يهجم عليه، وأما إذا طمع وأخذ الأخيذة وولى فربما ينال منه غرض. وقال شيخنا حجّة الأدب ولسان العرب أثير الدين أبو حيّان «6» : إنّ بني مرين يعدّ

منهم كلّ فارس شجاع مثل عنترة وأمثاله. قال لي السّلالجيّ: مثل أولاد إدريس عامر وحسين ومحمد ومثل ريان بن أبي يعلى وعامر بن عبد الله «1» وعبد الحقّ بن كندوز وعبد الحقّ بن عثمان وأبي رزين ثابت ابن أخيه [وهما] «2» اللذان قتلا مع (532) أبي تاشفين عبد الرحمن العبد الوادي حين دخلت عليه تلمسان «3» ، ومثل عثمان بن أبي العلاء «4» وأولاده وبني عمّه أولاد سوط النساء، وسيف المغراوي الباقي في قيد الحياة الآن وغيرهم من المشاهير، قال: ويقال إنّ كلّ واحد من هؤلاء يعدّ بخمس مئة فارس، وقد صوّرهم الفرنج عندهم في كنائسهم لعظم ما لاقوا بهم.

وقال الإمام أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد العقيليّ «1» : إنّ أبا يعقوب «2» أراد إنهاد ألف فارس لجهة من جهة أعدائه فعيّنت خمس مئة فارس فقيل له: وأين تكملة الألف، فقال: يوسف بن محمد بن أبي عياد بن عبد الحقّ «3» يقوم مقام الخمس مئة الأخرى، فكان كذلك، قال، ولقد خالف هذا يوسف بن محمد على أبي ثابت بمراكش، وخرج في نحو أحد عشر فارسا، ثم حمل بمفرده على سبع مئة فارس من العساكر ففرقها، قال: ومن هؤلاء يعيش بن يعقوب بن عبد الحقّ «4» تعرض له مرة نحو خمس مئة فارس، وهو مرتحل بأهله وعياله من بلاد [هسكورة] «5» إلى مراكش، فلما رأى عياله حداق الفرسان دهشوا فقال لهم: ما عليكم سيروا أنتم، ثم إنّه دفع فيهم ففرق جمعهم، ونجا بجميع أهله

وما معه، وقد كانوا أول خروجهم جهلة لا تختطم أنوفهم، قال رجل منهم اسمه أبو عامر عبد الله المعروف بالعجب: «1» ما أسفي إلا كوني لم أكن في زمان عليّ بن أبي طالب حتى ألقاه. «2» وعلى هذا، فقس ما كان في رجال هؤلاء القوم من الشجاعة والجهل. قال السّلالجيّ: وهم على شجاعتهم وأزيد، وأما جهلهم فزال من أكثرهم لسكناهم بالحاضرة ومداخلتهم الناس، قال: ولا تعدّ للكثرة فرسانهم، ولا تحصى في الأبطال وقائعهم، قال: وهذا عثمان بن أبي العلاء، وسيف المغراويّ وعبد الرحمن بن يعقوب وأخوه [الوطاسيان] «3» لم يزالوا في الأندلس تشدّ على الفرنج حملاتهم، وتعدّ على قلتهم في كثرتهم فتكاتهم، قال: ولقد أنشأ هذا السلطان من (533) فرسان هذا الزمان ورجالات الدهر من أخمل كلّ مذكور، وغلب على كلّ مشهور، مع ما هم عليه من العلم والتّقى لا يقدر أحد منهم لمهابته على ارتضاع كأس ولا إهمال صلاة، يناقشهم على هذا، ويؤاخذهم به حتى إذا كانوا في السفر وأذّن المؤذنون نزل ونزلوا حتى تقام الصلاة و [يصلوا] «4» جماعة. وحدّثني أبو عبد الله محمد بن محمد السّلالجيّ أن هذه المملكة طولها ... «5» يوما

أو أزيد، وعرضها ثلاثون يوما بالسّير المعتاد، وطولها من جزائر بني مزغنّانة، وهي بلد (ة) حسنة على ساحل البحر الشاميّ واقعة قبالة جزيرة ميورقة «1» بانحراف يسير، وبعدها عن بجاية ستة أيام إلى البحر المحيط، وعرضها من ساحل الزّقاق من سبتة إلى نهاية بلاد البربر المتصلة بالصحراء الكبيرة الفاصلة بين برّ العدوة وبين بلاد السّودان لم يخرج عن مملكة هذا السلطان من برّ العدوة الأندلس وأعمالها، خرج سلطان برّ العدوة الآن عنها للموحدين أصحاب إفريقيّة، وهبها إحسانا منه لكونها كانت قديما لهم، وانتزعها بنو عبد الواد أصحاب تلمسان منهم، وحدّ هذه المملكة من الجنوب الصحراء الكبيرة الآخذة طولا من بلاد البربر إلى جنوب إفريقيّة، ومن الشرق جزائر بني مزغنّانة وما هو آخذ على حدّها إلى الصحراء الكبيرة، ومن الشمال البحر الشاميّ، ومن الغرب المحيط. وقاعدة الملك بها مدينة فاس «2» ، ثم مرّاكش وهي التي كانت قديما في زمان بني عبد المؤمن قاعدة الملك العظمى، فلما انتقل الملك إلى بني مرين، وتحلّى جيده بعقدهم الثّمين أبو إلّا (أن) يتّخذوا لهم مدينة فاس دار ملك، فاستوطنوها وبنوا معها ثلاث مدن موازية لها على ضفة الوادي المعروف بوادي الجوهر غربا بقبلة. فأولها المدينة البيضاء، وتعرف بالبلد الجديد بناها أبو يوسف يعقوب بن عبد الحقّ وهو أول من استقلّ بالملك بعد الموحدين لأنّ أخاه [أبا يحيى] «3» أبا بكر ثار عليهم ومات وما

استقلّ له سلطان (534) ، ولا استقرّ له من عزّ الملك أوطان. ثم مدينة حمص ويعرف موضعها بالملاح، بناها ولده أبو سعيد عثمان بن أبي يوسف والد سلطانها القائم الآن، بناها إلى جانب البيضاء. وربض النصارى المتّخذ لسكنى الطّائفة الفرنجية المختصة بخدمة السلطان، ويطلق على هذه الثّلاث المتّخذات «1» اسم فاس الجديدة. وهذه المتّخذات كلّها على ضفة الوادي الغربية على ترتيب ما نذكره. فربض النصارى يقع قبالة فاس القديمة على بعد من ضفة الوادي من غير مسامتة ولا بر، والبيضاء وهي المسماة بفاس الجديدة آخذ (ة) من شمالي ربض النصارى إلى ضفة النهر، ويقع أول عمارة فاس الجديدة قبالة آخر عمالة فاس العتيقة. وحمص راكبة على النهر بشمال على جانب فاس الجديدة، آخذة إلى ربض النصارى (وقد) عقد على الوادي قناطر، وبنيت حمص على ضفّتيه، وهي فوق الجميع لأنّ الوادي منها ينحدر على ما بيّنته، وهو أنّ هذا النهر ينصب من الجنوب إلى الشّمال، ثم ينعطف على زاوية آخذا من الغرب إلى الشرق [حتى يصير] «2» كأنّه ينحدر من الغرب، وحمص على مجراه هناك، ثم يمرّ آخذا إلى الشرق على حاله فوق فاس الجديدة، ثم ينعطف عليها زاوية إلى الجنوب، ثم ينعطف إلى الشرق جائزا بها. وهناك فاس العتيقة على الضفّة الشمالية، والقصبة بها في غربيّها مرجلة على الأرض لا

تتميز على المدينة برفعة ولا ببناء عال، وتلك المتّخذات كلّها على الضفة الغربية، ويبقى النهر مستديرا بفاس الجديدة من جانبي الشّمال على المجرى المركبة عليه حمص، ومن الشرق حيث انعطف النهر [عند] «1» فاس العتيقة، وهذا الوادي هو متوسط المقدار يكون عرضه في المكان المتسع قريب أربعين ذراعا وفي المضايق دون هذا، وربما تضايق إلى خمسة عشر ذراعا وأقلّ من ذلك، وعمقه في الغالب يقارب قامة رجل، وعليه النّاعورة المشهورة برفع الماء إلى بستان السلطان المعروف بالمصارة، وهو بستان جليل (535) ، له فيه قصر جليل جميل، وهذا البستان خارج المدينة الجديدة، وهذه الناعورة مشهورة الذكر يضرب بها المثل، ويتحدث بها الرّفاق. وفاس العتيقة ذات عيون جارية، فيقال إنّ فيها أربع مئة عين سارحة. قال الإمام أبو عبد الله العقيليّ «2» : إنّها ثلاث مئة وستون عينا معدودة، والماء مسلّط على ديارتها ومساكنها، وأما المتّخذات فإنها على علو لا عيون بها، ولا يحكم الوادي عليها، وجميع أرض فاس العتيقة مجبلة غير مستوية، وأما المتّخذات فمستوية، وعلى كلّ من عتيقها وجديدها أسوار دائرة محصنة ذوات بروج وبدنات، وجميع أبنيتها من الحجر والآجرّ والكلس، موثقة البناء، مشيدة الأركان، وتزيد فاس الجديدة على فاس العتيقة في الحصانة والمنعة، والعتيقة بسور واحد من الحجارة، والجديدة بسورين من الطين المفرغ بالقالب من التراب والرمل والكلس المضروب، وهو أشدّ من الحجر، ولا تعمل فيه المجانيق ولا تؤثر فيه.

ويلي القصبة القديمة مخازن الغلال داخلها المطامير، وهي مجموعة في مكان واحد، يستدير بها سور منيع، عليه باب وغلق، ويسمى هذا الموضع بالمرسى القديم. وأبنية فاس ومتّخذاتها جميعها جليلة مفخمة وإن كانت لا تلحق بمرّاكش فيما كانت عليه من عظمة مبانيها وفخامة مغانيها، وهو باق منه كليل على ما كان، وسيأتي ذكرها في موضعه. وبفاس العتيقة داخل سورها جنائن ورياض ذوات أشجار ورياحين في دار الكبراء وبيوت الأعيان، وبها أرحاء كثيرة دائرة على الماء، قال السّلالجيّ: تقارب أربع مئة رحا، وبكلّ من فاس القديمة وفاس المجدّدة المسماة بالبيضاء وحمص الجوامع والمساجد والمواذن والحمامات والأسواق، فأما المدارس والخوانق والرّبط فما خلت صحائف حسنات أهل المغرب من أجورها إلا النزر اليسير جدا. وبفاس العتيقة مارستان، وعمائر العتيقة كما قدمنا (536) القول فيه بالآجرّ، فأما المتّخذات فغالبها بالقالب من نسبة أسوارها، وسقوفها بالأخشاب، وربما قرنصت بعض السقوف بالقصدير والأصباغ الملونة، وتفرش بالرّخام دياراتهم وبالزّيلخ «1» وهو نوع من الآجرّ [مدهون بدهان ملون] «2» كالقاشاني بأنواع الألوان البيض والسود والأرزق والأصفر والأخضر وما يتركب [من] «2» هذه الألوان وغالبه بالأزرق الكحلي، ومنهم من يتخذ منه وزرات لحيطان الدور، وأما دور هؤلاء فتفرش بآجر يسمى المزهري.

ولأهل فاس ولع ببناء القباب فلا تخلو دار كبير (ة) في الغالب من قبتين أو أزيد، وصورة تفسير أبنية دورهم مجالس متقابلة على عمد من حجر وآجرّ، ورفارف مطلة على صحن الدار، وقدّامها طفافير يجري إليها الماء، ثم يخرج إلى بركة في وسط الصّحن، وتسمى البركة عندهم صهريجا، وغالب أعيانهم يعملون لهم حمامات في بيوتهم أنفة من الدخول مع عامة الناس، لأنّ حماماتهم صحن واحد لا خلوة فيها تستر بعض الناس من بعض، ولهم تأنق في البناء، و [همم لا تقصر] «1» بهم عن الغاية فيه. قلت: وثمّ فائدة لا بأس بذكرها والتنبيه عليها، ذكرها ابن سعيد في" المغرب"، وهي أن فاسا القديمة هي أيضا مدينتان، أقدمهما المعروفة بمدينة الأندلسيين بنيت في زمان إدريس ابن عبد الله الحسنيّ «2» أحد خلفاء المغرب، ثم المعروفة بمدينة القرويين «3» بنيت بعدها. قلت: وهاتان المدينتا (ن) هما المعبّر عنهما الآن بفاس العتيقة، فجملة فاس الآن ما يذكر: مدينة الأندلسيين ومدينة القرويين، ومدينة البيضاء، ومدينة حمص، وربض

النصارى، والقصبة والذي يطلق على الجميع فاس القديمة، ولجميع الأندلسيين والقرويين وفاس الجديدة ولجميع البقية، وهي البيضاء، وحمص، والربض، ويطلق على الجميع اسم فاس، وقد ذكر ابن سعيد أنها إنما سمّيت [بفاس] «1» لأنهم لما شرعوا في بناء أساسها وجدوا فأسا فسموها به. وقد ذكر ابن سعيد فاسا، فقال: هي متوسطة بين مدن المغرب يعني الداخلة (537) من مرّاكش وسبتة وسجلماسة وتلمسان عشرة أيام. قلت: ولتوسطها صلحت أن تكون قاعدة الملك ليقرب الملك من جميع نواحيه. قال ابن سعيد: ولها جنات كثيرة وزروع وضروع وخيرات، وعلى نهرها الأعظم الغربيّ نحو ثلاثة آلاف رحا، وعلى حافته القرى والضياع والمدن الجليلة، وهي تشبّه بدمشق وبغرناطة، والجبال تكتنفها، وهي ممتدة بنفسها، ونهرها يلاقي نهر وادي سبو «2» ، وهو أعظم أنهار المغرب يصبّ في المحيط بين سلا «3» وقصر عبد الكريم «4» ، وفوهته هناك متسعة، وأمواجه مضطربة، وهي أكثر مياها من دمشق ومن غرناطة.

قال ابن سعيد: ولم أر قطّ حمامات في داخلها عين تنبع إلا بها، وأثنى الشريف الإدريسيّ «1» في أخباره على مالكها ومآكلها ومطاعمها، ولأهلها اليد الطّولى في صناعة المخروطات من الخشب والنحاس، وهي تشبّه بدمشق في البساتين، وأهلها يشبّهون بأهل إسكندرية في المحافظة على علوم الشريعة وتغيير المنكر والقيام بالنّاموس، وفي عامتها الزعارة والمفاخرة بالقتل، وبها بستان ابن خيدن يشقّه نهر فاس، قال ابن سعيد: وما [رأى] «2» أحد ما أنفق فيه من الأموال بين بنيان ونجارة وزخرفة وغرس، ثم قال: وفي فاس وظاهر من الإيوان ما يفوق به غيرها من البلدان، وقد قال ابن منقذ «3» رسول الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب إلى المنصور بن عبد المؤمن «4» رحمهما الله في رسالته

المغربية: ولقد أخرجوني إلى بستان بفاس يقال له البحيرة، أتفرج فيه، ضمانه خمسة وأربعون ألف دينار، [وفيه بركة ذرع كلّ جانب منها مئتان] «1» وستة عشر ذراعا بالمرفق، ويكون دور البركة ثماني مئة ذراع وأربعة وستين ذراعا، وعندهم ما هو أكبر من ذلك. والذي حكى لي السّلالجيّ أن أكثر عمائر المتنزهات في البساتين بها خفيفة الآن (538) [لا] «2» مبالغة لها ولا كلفة فيها، وقال: أما قول ابن سعيد، [إنّ على ضفة النهر ثلاثة آلاف رحا لا حقيقة له] ، «3» ولا [بعضه] «4» إلا ما تقدم ذكره. وفاس وخيمة البقعة، ثقيلة الماء، يعلو وجوه سكانها صفرة، ويحدث لأجسادهم [كسل] «5» وفترة. وقواعد الملك بهذه المملكة ثلاث، وهي: فاس وهي قاعدة الملك الثالثة، فأما سبتة، فإنا وإن كنا ذكرناها مملكة، وصدّرنا بها هذا الفصل بالممالك فإنّها ليست لملوك بني مرين بقاعدة، ولا ينظر إليها عندهم بعين الاحتفال، وأما كوننا ذكرنا هنا مرّاكش ولم نذكر (ها) في صدر هذا الفصل في الممالك فلأنها و [فاسا] «6» ذات مملكة واحدة، وإنما التقدمة اليوم لفاس، فلم يبق لذكرها معنى، وأما ذكرها هنا فلأنها ملحوظة عند ملوكها، يعدّونها بعد فاس. وأما تلمسان: فمملكة تمادى الأمر عليها، وهي مستقلة بنفسها، وقد استضافها هذا

السلطان إليه فصارت له قاعدة ثالثة. وأما المدن الكبار بهذه المملكة فهي اثنتان وأربعون مدينة، القائم فيها هذا السلطان عن آبائه ست وعشرون مدينة «1» وهي: فاس، ومرّاكش، وأغمات «2» ، وآسفي «3» ، وآنفا «4» ، وآزمّور «5» ، وتيط «6» ، وسلا، وأزيلا «7» ، والعرائش «8» ، وطنجة، والقصر الصغير «9» ،

وسبتة، وبادس «1» ، وتيجيساس «2» ، وعصاصة وهي المسماة باللدية البيضاء، و [قصر عبد الكريم] «3» ، وتازا «4» ، وصا، وسجلماسة، و [تطاوين] «5» ، ومليلة «6» ، والمزمّة «7» ، وتازوطة، ومكناسة «8» ، والمستجدّ لهذا السلطان عند فتحه بسيفه لمدينة تلمسان وقتل

ملكها أبي تاشفين عبد الرحمن بن أبي حمو عبد الوادي «1» فهو تسع عشرة مدينة «2» ، وهي: تلمسان، ووجدة «3» ، ومديونة، و [ندرومة] «4» ، وهنين «5» ، ووهران، وتيمزغران «6» ، وبرشك «7» ، وشرشال «8» ، وتونت، ومستغانم «9» ، وتنس «10» ، والجزائر، والقصبات، ومازونة «11» ، وتاحجحمت، ومليانة «12» ، والمدية «13» ، وأما صفروي «14»

وهي مما ورثه عن أبيه فهي قرية كبيرة لا مدينة، (539) [وكذا] «1» الطحا وتيمزّوعت مما فتحه، فمن عدّها في المدن جعل العدة خمسا وأربعين مدينة «2» ، وإلا فالصحيح ما بيناه، هذا ما تملّكه هذا السلطان مما على جنوب البحر الشاميّ من أول مخرج بحر الزّقاق المحيط إلى آخر عمالة جزائر بني مزغنّانة مع طول البحر وما يليه في الجنوب إلى الصحراء الكبيرة. وله بالأندلس الجزيرة الخضراء، ورندة، ومربلّة، وما فتحه بجيوشه المجهزة بها فهو بلد طريف، وجبل الفتح فتكون جملة المدن الكبار المنتظمة في مملكته ثمانيا وأربعين مدينة بما لها من المعاملات والرّساتيق والقرى والضياع والقلاع والحصون والبوادي، كلّ هذا بيد سلطانها القائم الآن يتصرف تصرف الاستقلال فيه، وبقية الأندلس لولا جيوشه مع الله تعالى لما بقيت، وقد كان على ملكها للفرنج في كلّ سنة أربعون ألف دينار، فمذ أجال بالأندلس خيله قطع تلك القطيعة، وأنعش بها رمق الإسلام. فأما إفريقيّة فقد نبهنا فيها على أنّه لولا إنجاد هذا السلطان لصاحبها على بني عبد الواد وعلى ذعّار العرب وثوار أهل بيته لما ثبتت له قدم، وقد ذكرنا أنّه أعاد عليهم مدينة تدلّس وبلادها، وكان قد أخذها بنو عبد الواد منهم. وحدّثني غير واحد من أهل إفريقيّة أنّ صاحبها ما بعث بنته «3» إلى السلطان أبي الحسن المريني صاحب برّ العدوة إلا ليبقي عليه ملكه، وقد كان بعث بمفاتيح بجاية، وأشهد على نفسه أنه خرج عنها للسلطان المرينيّ، ومن وفائه أنه ردّها عليهم وصرفها

إليهم، ولم يطمع لهم في شيء من بلادهم، بل أعاد لطارفهم وتلادهم مع المساعدة بالإنجاد حتى استولى على عدوّهم بالقتل، وتملك جميع بلاده كما قدمنا. ونحن وإن كنا ذكرنا إفريقيّة بذاتها مفردة بسلطان، فإنها في الحقيقة جزء من مملكة صاحب إفريقيّة فيها كالنائب له، وإنما صاحب برّ العدوة ينظر إليه بعين الإجلال لكونه بقية الموحدين، وهم أهل بيت ملك، ولهم أصالة السلطنة، وصاحب إفريقيّة إنما اشتدّ بمصاهرته له، وبهذا تمّ له في إفريقيّة (540) سلطانه، وانكفّت أطماع العرب عنه بعد أن استخفوا في إفريقيّة بالسلاطين، وهان عليه أمر الأمراء، وكانوا بأيديهم تتولى الملوك وتسمن السلطنة وتهزل. فأما السبب الباعث لصاحب إفريقيّة على إرسال بنته إلى هذا السلطان أبي الحسن المرينيّ فهو أنّ سلطان بني عبد الواد صاحب تلمسان «1» كان قد حاصر بجاية، ونزل عليها، ونازلها وضايقها، ولم يطق صاحب إفريقيّة دفعه فأراد تأكيد معاضدة المرينيّ له، فزوجه ابنته في أيام أبيه أبي سعيد عثمان، وبعث إليه في البحر يستنجده، فخرج لإنجاده ثم مات، وأوصى ابنه [أبا] «2» الحسن بإتمام النجدة لهم، فلم يزل على محاصرة تلمسان، حتى كان من فتوحه لها ما كان. وحدّثني من له إطلاع على ما حدّثني به، قال: وكان صاحب إفريقيّة مع انقياده إلى المرينيّ وعداوته لسلطان بني عبد الواد وقيام المرينيّ على عدوّه في هواه لا يؤثر في الباطن أنّ المرينيّ يظفر بصاحب تلمسان عدوّه، ليكون له به شغل عن قصده وانتزاع إفريقيّة منه لعلمه أنّ تلمسان حجاب بينهما، وأنّه لا طاقة له بالمرينيّ ولا قبل له به، ويحقّ له الخوف فإنّه في قبضته متى أراد.

قلت: ومع ترامي صاحب إفريقيّة للمرينيّ وادعاءاته له لا يخطب له على منابره، ولا تضرب السّكّة باسمه، ومع اقتدار المرينيّ عليه وكونه لا يعدّ إلا كأحد نوابه ما طلب هذا منه، ولقد قال أبو الحسن المرينيّ في كتابه الوارد إلى حضرة السلطان بمصر مخبرا بفتوح تلمسان إنّ مملكته اتصلت من البحر المحيط إلى برقة، وهذا يؤكد ما قلناه من أن إفريقيّة كجزء من بلاده وأن صاحبها كالنائب له لأنّه قال إن مملكته إلى برقة، وإفريقيّة هي داخلة في هذا الحد، وهذه المملكة المجتمعة لهذا السلطان أبي الحسن فإنها هي الغرب بمجموعه، منها ما هو بيده، ومنها ما هو بيد ملوك في طاعته، وحيث يقال اليوم صاحب الغرب، فهو المراد، ولقد كان الناس زمان أبيه في جور حتى (541) ولي فبسط بساط العدل، وحمل على محجة الإنصاف، وأبطل المظالم و (ضرب) على يد كلّ ظالم، وأسقط المكوس، ولم يدع إلا الخراج والزكاة والعشر، وما يوجبه موجب طلب الشرع، وحلّ عقد (ة) الضمان، وكانت سببا للظلم والطلب المجحف، وكان يقال إنه بعد أن حلّ البلاد من الضّمان تنقص الأموال فزادت، وأدلّ الله بالعدل من البركات أضعاف ما كان. قال أبو عبد الله السّلالجيّ: أما ما ازداد وتثمّر فلا أعلم كم هو، وأما ما كان في عقدة الضمان في زمان السلطان أبي سعيد والد هذا السلطان خارجا عما كان يؤخذ من أصحاب الماشية من الإبل والبقر والغنم فهو تفصيله: فاس: مئة وخمسون ألف مثقال. مرّاكش: مئة وخمسون ألف مثقال. سبتة: خمسون ألف مثقال.

آسفي: خمسة وعشرون ألف مثقال. أغمات: خمسة وعشرون ألف مثقال. آنفا: أربعون ألف مثقال. آزمّور: عشرون ألف مثقال. طنجة: ثلاثون ألف مثقال. بادس: عشرة آلاف مثقال. مكناسة: ستون ألف مثقال. صفروي: ستة آلاف مثقال. سجلماسة ودرعة «1» : مئة وخمسون ألف مثقال. [تازا] «2» : ثلاثون ألف مثقال. عصاصة ومليلة والمزمّة: ثلاثون ألف مثقال. تيط: خمسة آلاف مثقال. تيجيساس: خمسة آلاف مثقال.

% قال السّلالجيّ: وهذا الضمان كان جاريا على جميع المجابي ما كان يستأدى من وجوه الخراج والزكاة والموجبات والمكوس خارجا عن عداد المواشي وغلات المجاسر والحصون والقلاع والمجاسر وهي القرى، قال: وأما تطاوين، والقصر الصغير، وصا، فإنّها كانت بكفلها لا يتحصل شيء منها، قال: هذا المبلغ هو الذي كان يجري عليه الضمان، وقد كان يزيد وينقص باختلاف الأحوال والأوقات، وإنما هذا هو الغالب، ولا كثير تفاوت فيما يزيد وينقص منه، قال: والذي استفتحه الآن (542) لا يقصر عن نظر الثلاثين فإنما يقصر شيئا يسيرا، لأن تلمسان مملكة جليلة وسيعة المدى كثيرة الخيرات ذات حاضرة وبادية وبرّ وبحر. وسألت السّلالجيّ عن عدّة العسكر لاختلاف الأقوال فيهم، فمن مكثر إلى غاية، ومن متقارب، وكان ابن جرار قد قال إلي: إنهم مئة ألف وأربعون ألفا، قال السّلالجيّ: الذي نعرفه قبل فتح تلمسان فما كانت تزيد جريدة جيشه المثبتين في الديوان على أربعين ألف فارس لا غير، غير حفظة المدن والسواحل، وكان يمكنه إذا استجاش لحرب أن يخرج في جموع كثيرة جدا لا تنحصر بعدد ما، ويكون الآن قد زاد على ما أعرفه مثله لاستجداد تلمسان له، وهي مملكة كبيرة، وسلطنة جليلة تكون قريب الثلاثين مما كان بيده، ولطاعة أمم من أهل الجبال والأطراف، وقد كانوا يعصب رؤوسهم التيه، ويجنح بهم العصيان، وقد تثعلبت له اليوم آسادهم، وأصحرت له وعولهم. قال العقيليّ: أما جيشه الآن فيكون مئة وأربعين ألفا غير من يستجيش به. وسألت السّلالجيّ عن مقدار عمارة فاس عتيقها وجديدها، فقال:

تكون قدر ثلث مصر والقاهرة وحواضر هما لكن [عالمها] «1» أقلّ، وبالغ في وصف دياراتها وأوطانها، وما اشتملت عليه بساتينها المنوعة الثمار المطردة الأنهار، وما بها من الرّخاء الدائم والأمن والدعة، فسألته عن معاملاتها وأسعارها، فقال: المثقال الذهب بمائة وعشرين درهما من الدراهم الصغار، وهي ستون درهما من الكبار، لأنّ كلّ درهم من الكبار بدرهمين من الصغار، وكلّ درهم من هذه الدراهم الكبار يكون نظير درهم أسود في مصطلح أهل مصر، والدرهم الأسود بمصر هو ثلث درهم نقرة من معاملة مصر والشام، قال السّلالجيّ: وكلّ ثلاثة كبار بدرهم واحد نقرة من معاملة مصر والشام، هذا على جهة التقريب لا التحقيق. وأما الدراهم الصغار (543) فكلّ درهم منها نصف درهم كبير، وهو نصف درهم أسود يكون سدس درهم نقرة من معاملة مصر والشام، وحيث يقال درهم ويسكت، لا يراد به إلا الدرهم الصغير، وهو سدس درهم إلا بمرّاكش وما جاورها وقاربها (فإنه) حيث قيل درهم لا يراد به إلا الدرهم «2» الكبير بيض على الصغير، «3» هذا في مرّاكش وعملها وما قاربها خاصة دون بقية برّ العدوة على الإطلاق. والرّطل هو نظير رطل إفريقيّة سواء على ما تقدم ذكره، وأما الكيل فأكبره الوسق، ويسمى الصّحفة، وهو ستون صاعا من الصّاع النبويّ محررا، قال: وأما الأسعار، فإن أواسط الأسعار كلّ وسق قمح بأربعين درهما من الصغار، والشعير دون

ذلك، وكلّ رطل لحم بدرهم واحد من الصغار، وكلّ طائر من الدجاج بثلاثة دراهم من الصغار، هذا كلّه من المتوسط بالسعر المتوسط في غالب الأوقات. وبرّ العدوة به من أرزاق الحبوب القمح، والشعير، والفول، والحمص، والعدس، والدّخن، والسلت وغير ذلك إلا الأرزّ فإنّه قليل، وإن ازدرع في بعض الأماكن من برّ العدوة، ولكنّه يجلب إليهم من بلاد الفرنج، وما لهم نهمة في أكله ولا عناية به، ويزرع به السّمسم، ولكنه ليس بكثير لا يعتصر منه بالغرب شيرج، ولا يأكل الشّيرج منهم إلا من وصفه له الطبيب، وإنما أكلهم عوضه الزيت ومزورات الضعفاء، وهم يعملون الحلوى بالعسل والزّيت. وبها أنواع الفواكه المستطابة اللذيذة المتعددة الأنواع والأجناس من النخل والعنب، والتين، والرمّان، والزيتون، والسّفرجل، والتفاح على أصناف، والكمّثرى كذلك، ويسمى ببرّ العدوة الإنجاص كما يسمى بدمشق، والمشمش، والعين «1» والبرقوق، والقراسيا، والخوخ غالب ذلك على عدة أنواع، وأما التوت فقليل، وبها الجوز، واللّوز، ولا يوجد بها الفستق والبندق إلّا إن جاء مجلوبا. وبها الأترجّ، والليمون، والليم، والنّارنج، والزنبوع، وهو المسمى (544) بمصر والشام الكبّاد، والبطيخ الأصفر، وأما الأخضر فهو يسمى عندهم بالدلاع، وهو قليل والموجود منه لا يستطاب. وبها الخيار، والقثّاء، واللّفت، والباذنجان، والقرع، والجزر، واللّوبياء، والكرنب، والشّمار، والصّعتر، وسائر البقول، وأما القلقاس فلا يزرع عندهم إلا للفرجة على ورقه، «2» لا لأن يؤكل، ولا يوجد بها الموز إلا في بعض المواضع نادرا مما يهدى ويباع.

وأما قصب السكر فهو بجزائر بني مزغنّا وبالسوس وبنواحي مرّاكش وبسلا كثير، ولولا عدم استقامة أهل السوس وتلك الأطراف وكثرة التوائهم لكان كثيرا جدا، والموجود منه يعمل منه قند، ويسبك منه السكر، ولكنّه متوسط المقدار. وقد سألت ابن جرار عما يعمل بمرّاكش من السكر، فقال: يعمل منه أنواع ويخلص منه مكرر يجيء في نهاية البياض والصلابة ولطافة الذّوق، ويقارب مكرر مصر إن لم يكن مثله، لكنّ نوع السكر المعمول به بالغرب غير كثير، قال: ولو أنهم أكثروا من نصب الأقصاب لكثر. قال العقيليّ: إن بمرّاكش أربعين معصرة للسكر أو أزيد، وزادت على سوس، ومزارعه في أرض مرّاكش [بواد] «1» يعرف بوادي نفيس «2» ، وإنّ حمل حمار من القصب يباع بثلاثة دراهم يكون بدرهم واحد كامليّ، فسألته عن السبب المانع لهم من الاستكثار منه، فقال: لكثرة وجود عسل النحل واعتياد المغاربة لأكله، ووصف العسل عندهم ولذاذة طعمه وكثرة ألوانه. ولقد سألت كثيرا من المغاربة حتى ممّن أقام بمصر وتمصّر عن السكر فوجدتهم مائلين بالطباع إلى تفضيل العسل في الأكل عليه، واستطابتهم له أكثر من السكر واستعمالهم للعسل بدلا منه في أطعمتهم وحلوائهم، وزعموا أنّ ما يعمل من العسل ألذّ مما يعمل من السكّر، وهذا مما لا نسلمه إليهم ولا يدّعي هذه الدعوى ذو ذوق سليم ولا نظر مستقيم. ولقد قال لي كثير منهم إنّه ما يستعمل السكر عندهم في الغالب إلا المرضى والغرباء أو

الكبار من الناس (545) [في] «1» المواسم والضيافات. قالوا: وكذلك الأرزّ لا يؤكل عندهم إلا في يوم حفل أو دعوة أو مريض أو غريب اعتاد أكل الرزّ في بلاده، وقد طال ما جرّه الحديث في هذا، ونعود إلى تكملة ما يوجد في برّ العدوة. قال السّلالجيّ: بها من الرّياحين الورد، والبنفسج، والياسمين، والآس، والنرجس، والسّوسن، والبهار، وغير ذلك. وبها من الدوابّ الخيل، والبغال، والحمير، والإبل، والبقر، والغنم، ولا يعدم عندهم إلا الجاموس فإنّه لا يوجد عندهم. وبها أنواع من الطير من الأوزّ والحمام، والدجاج، وغير ذلك، والكركيّ كثير عندهم على بعد الديار وغربة الأوطان وتسمى عندهم الغرانيق، وهي عندهم صيد الملوك كما هو بمصر والشام، وفي صحاريها من أنواع الوحش الحمر، والبقر، والنّعام، والغزال، والمها، وغير ذلك. وأما مرّاكش «2» فهي متوسطة بين المحيط إلى الصحراء إلى البحر أربعين ميلا وإلى الصحراء وهي كما قدّمنا ثانية قواعد الملك. حكى لي غير واحد عن سعة دورها وضخامة عمائرها وما فيها من قصور بني عبد المؤمن وأولادهم وأجنادهم، حتى يقال إنّه إذا كان الرجل في صدر الدار ونادى رفيقه وهو في صدرها الآخر بأعلى صوته لا يكاد يسمعه لاتساعها.

قال ابن سعيد: ودورها سبعة أميال، وهي بسيطة يمتدّ فيها البصر بناها أمير المسلمين يوسف بن تاشفين «1» ، وأول ما بني بها القصر المعروف بقصر الحجر «2» ثم بنى الناس حوله، ثم إنّ يوسف العشريّ،- وهو أبو يعقوب بن عبد المؤمن- «3» كبّرها وفخّمها ومصّرها وضخّمها، وجلب إليها المياه والغراس، ومنارة جامعها المعروف بالكتبيّين «4» طولها مئة وعشرة أذرع من الحجر «5» وعلى باب جامعها ساعات ارتفاعها في الهواء خمسون ذراعا، ينزل عند انقضاء كلّ ساعة صنجة وزنها مئة درهم، يتحرك بنزولها أجراس يسمع وقعها من بعيد،

وتسمى عندهم المنجانة، «1» وهي الآن بطّالة لا تدور. قال ابن سعيد: وحضرة (546) [مرّاكش] «2» مما سكنتها وعرفتها ظاهرا وباطنا، ولا أرى العبارة تفي بما تحتوي عليه، ويكفي أنّ كلّ قصر من قصورها مستقل بالديار والبساتين والحمام والإسطبلات والمياه وغير ذلك حتى يغلق الرئيس منهم بابه على جميع خوله وأقاربه وما يحتاج [إليه] «3» ، ولا تخرج له امرأة إلى خارج داره. ولا يشتري شيئا من السوق لمأكل ولا يقرئ أولاده في مكتب خارج، ويخرج هو من بيته راكبا لا تقع عليه العين راجلا، «4» [قال: ولا أدري كيف أصل إلى غاية من الوصف أصف بها ترتيب هذه المدينة المحدثة، فإنها من عجائب همّات السلاطين، ذات أسوار ضخمة وأبواب عالية. وبظاهرها مدينة اختطّها المنصور يعقوب بن (يوسف) بن عبد المؤمن له ولخواصه تعرف بتامرّاكش، وبها قصر الخلافة الذي بناه] وبه ديار عظيمة منها دار البلّور، ودار الرّيحان، ودار المال، وكلّ دار منها لا تخلو من المياه والبساتين العجيبة والمناظر المرتفعة المشرفة على بسائط مرّاكش.

ولها ثلاثة أبواب مختصة بها: باب البستان وكان لا يراه إلا خواص بني عبد المؤمن يفضي إلى بستان يعرف بالبحيرة طوله اثنا عشر ميلا، فيها العمائر الجليلة والمصانع العظيمة والبركة التي لم يعمل مثلها. قال العقيليّ: وطولها ثلاث مئة وثمانون باعا، على جانبها الواحد أربع مئة شجرة من النّارنج، وبين كلّ اثنتين إما ليمونة وإما ريحانة. والباب الثاني: باب القراقين وهو في داخل المدينة مرّاكش، يتصرف منه إلى ما يحتاج إليه بالمدينة. والباب الثالث: باب الرياض أمامه رحبة عظيمة تحمل طراد الخيل، وكان بها أنواع من الوحوش في زمان بني عبد المؤمن، وبها قبّة الخلافة إلى جانب الباب، كان يخرج إليها خليفتهم بكرة كلّ نهار، وتكون بها الخدمة، وفي رحبة القصر دار الكرامة والأضياف، وفيها (547) يقول أبو بكر بن مجير المرسيّ- «1» رحمه الله: (الخفيف) ذاك داعي الهوى بمثوى الإمامه ... موجب للأنام دار الكرامه قد دعا دعوة العموم إليها ... معلنا كالنّداء أو كالإقامه فتباروا إلى نعيم عميم ... فتحوا بابه وفضّوا ختامه خير قوم دعوا إلى خير دار ... هي للملك نضرة وكمامه عالم السّبعة الأقاليم فيها ... وهمو في فنائها كالقلامه ما توسّمت قبل جمع أتاها ... أنّ ذا الحشر قبل يوم القيامه

تسام الريح حين تطوي مداها ... وتحول العيون دون بشامه وفي هذه الرحبة المدينة، وهي مكان جليل به خزائن الكتب، وفيه كان خلفاء بني عبد المؤمن يجالسون العلماء، وفيها دار مخصوصة للوزارة المحلّاة بوزير الجند، وتفضي هذه الرحبة إلى باب السّادة وهو يفضي إلى خارج مرّاكش كان مخصوصا ببني عبد المؤمن، إليه ينتهون على خيلهم وعليه سلسلة منها ينزلون، وهناك مقابر أكابرهم وجنائز الأعيان في نهاية حسن المباني والغراس. وفي الرحبة باب السقائف، وهو باب كبير يخرج منه إلى سقائف أهل الجماعة، وهم ذرية العشرة أصحاب مهديّهم ابن تومرت، وسقائف أهل الخمسين، وسقائف الطلبة، وهم أهل العلم والقراءة، وسقائف الحفاظ، وهم المقدّمون على الأعمال لحفظها، وسقائف أهل الدار، وهم غلمان الخلافة. ثم يخرج من هذه الرّحبة إلى سقائف القبائل وأعيان الغزّ والجموع، ثم يفضي إلى رحبة عظيمة فيها سقائف جنفيسة وجدميوة، والقبائل هسكورة وصنهاجة، وهؤلاء هم قبائل الموحّدين، وبها موضع صاحب الشّرطة، وبإزائها الجامع المبنيّ في تامرّاكشت على صحنه شبك من الصفر الأندلسيّ وهو في غاية الزّخرفة والإتقان، ولا يبرح المنبر مستورا في بيت المقصورة (548) ، وهو والمقصورة مستوران إلى يوم الجمعة قريب الصلاة ترفع ستورها، والنهر الذي جلبه المنصور إليها يخترق قصوره ثم يمرّ على السقائف والرّحاب المقدمة الذكر، ثم يحدق بالجامع، ثم يمرّ بالجامع وبين الأسواق قدر ميل إلى أن يخرج على باب الصالحية من أبواب مرّاكش في هذه الرحبة المقدمة الذكر. باب الكحل: كان منه دخول الموحدين، وأمامه فضاء عظيم يسع وقوف الخلائق و [صرفها] «1» .

وباب الربّ لا يدخل هذا النوع إلا منه «1» لاحتمال أن يدخل المدينة خمر. وبها الصّهريج الكبير، والصّهريج في [لغة أهل] «2» المغرب: البركة، وهي بركة عظيمة عليها سور وباب يصب فيها النهر الثاني الداخل إلى مرّاكش، وفيها يوزّع بقياس معلوم على قصور الناس، ثم ينحدر بقية الماء في نهر يشقّ المدينة «3» من جهة أخرى في وسط الأسواق وما يمرّ «4» ، وفيها برك تصبّ فيها المياه، وفي هذه الرّحبة باب الشريعة أمام مصلّى العيدين و [بينهما] «5» فسيح عظيم به سوق الخيل، وللسلطان به قصر مطلّ عليه. ويليه باب نفيس يخرج منه إلى بلد نفيس «6» المفضلة بالمياه والأعناب، وقدامه بركة اقنا يتعلم فيها الصبيان العوم. ويليه باب مخزن السلطان، كان به وإلى جانبه قصر سعيد، وقصر أمة العزيز، وقصر ابن جامع، لا يعلم كم غرّم على كلّ واحد منها حتى قال ابن سعيد في" المغرب" عن قصر ابن جامع وهو أحد وزراء بني عبد المؤمن: وإنّه كان في داره ساحة يلعب فيها خمس مئة جارية على خيل الخشب وتتطاعنّ. ويلي ذلك باب مسوفة يفضي إلى المقابر.

وباب دكّالة، وهو مفض إلى المتنزّهات. ويليه باب الرخاء. ويليه باب ناغورت. ويليه باب فاس، وهو مفض إلى فضاء يفضي إلى نهر كبير لا يخاض إلا في زمان الصّيف، وعليه بساتين جليلة ومتنزّهات. ويليه باب الدبّاغين. ويليه باب سان «1» . (549) ويليه باب إيلان «2» . ويليه باب أغمات، وأمامه منازل المخدومين لا يمازجون الحضرة. ويليه باب الصالحية، وخارجه مقابر وبساتين. ولمرّاكش بواد فسيحة وما اختار ابن تاشفين بقعتها إلا لمراعي إبله حولها وبها [كثير من] «3» أرباب العمائر. وأما تلمسان «4» وهي قاعدة الملك الذي فتحه هذا السلطان بسيفه، واستضافه إلى

ملكه، قال الشّريف في كتاب [رجّار"] «1» وهي في سفح جبل وبها آثار الأول، وماؤها مجلوب من عيون على ستة أميال، ولها أسواق ضخمة، ومساجد جامعة، وأنهار وأشجار، وشجر الجوز كثير بها، وفيها المشمش المقارب في حسنه لمشمش دمشق وعلى نهرها «2» الأرحاء، ويصبّ نهرها في بركة عظيمة من آثار الأول، ويسمع لوقعه خرير على مسافة ثم يصبّ في نهر آخر «3» بعد ما يمرّ على البساتين، ويستدير بقبليّها وشرقيّها، وتدخل فيه السفن اللطاف حيث يصبّ في البحر. وهي دار علم متوسطة في قبائل البربر، ومقصد تجار الآفاق، زكية الأرض من الزرع والضرع، وبها حصون كثيرة، وفرض عديدة أشهرها فرضة هنين وهي قبالة المريّة [من الأندلس] «4» ووهران [في شرقيّ تلمسان بشمال قليل على مسيرة يوم من تلمسان، ومستغانم تقابل دانية «5» من الأندلس] . «4» وتلمسان على ما بلغ حدّ التواتر في غاية المنعة والحصانة مع أنها في وطاءة لكنها محصّنة البناء، ولقد أقام أبو يعقوب يوسف عمّ هذا السلطان أبي الحسن نحو عشر

سنين «1» وبنى عليها مدينة سماها تلمسان الجديدة «2» ثم مات، وسمى أهل تلمسان تلك السنة سنة الفرج حتى كتبوا في سكّتهم ونقشوا: ما أقرب فرج الله، وشرع حينئذ أبو حمّو «3» بعد إتمام سنة من الفرج من رحيل بني مرين عنها، وهو والد سلطانها أبي تاشفين المأخوذة منه (في) تحصيل قوتها، وتحصين أسوارها، ولم يدع ما يحتاج إليه المحاصر لعدة سنين كثيرة حتى حصله من الأقوات والآلات «4» حتى سليت الشّحوم، وتملّيت بها الصّهاريج وملئت أبراج المدينة بالملح والفحم والحطب واختزن [أرضا] «5» (550) داخل المدينة كلّها زرع، ومات أبو حمّو وولي بعده أبو تاشفين فزادها تحصيلا من الأقوات، وتحصينا من الأسوار والآلات، وبنى بها البناءات العجيبة الشكل، والقباب الغريبة المثل، والبرك المتسعة، والقصور المنيفة، وغرس فيها بساتين، غرس بها من سائر أنواع الثمار إلى أن حاصر بجاية ونازلها وبنى عليها، فاستنجد الموحّدون المرينيّ، فأرسل إليه العلماء والصلحاء والأعيان، وندبوه إلى الصلح بينهم فأبى إلا عتوا وفسادا، فنهض إليه أبو الحسن وحاصره أشدّ حصار، وبنى عليه مدينة سماها المنصورة، وبقي أربع سنين محاصرا لها، مضيفا

عليها آخذا بخناقها، ونصب عليها المجانيق، وأخذ عليها المسالك من كلّ جهة، ولم يدع طريقا لداخل إليها ولا لخارج منها، وسلطانها أبو تاشفين وجميع أهلها في ضيق الخناق معهم، ولا يفكّ لهم وثاق، ولا يحلّ لهم خناق، ولا تبرق لديهم بارقة خلاص، وكانوا مع هذا التشديد الشديد في غاية الامتناع، لحصانة بلدهم وكثرة ما بها من الماء والأقوات، وكان في المدينة عين ماء لا يقوم بكفايتها، وكان يجري إليها الماء من عين خارجة عن البلد لم يعرف لها [أحد] «1» منبعا أخفيت بكثرة البناء المحكم، ولم يظهر لها على علم إلى أن خرج أحد من يعرفها من البنّائين المختصين بسلطانها الكاشف عنها حين بنائها، فأظهرها للسلطان أبي الحسن وكشف عنها فقطعها عنهم، وأبعدها منهم، وصرفها إلى جهة أخرى فقنعوا بالعين التي في داخل بلدهم، واكتفوا بالبلالة، ولم يظهر منهم وهن ولا خور لانقطاع الميرة لما كان عندهم من المخزون حتى قدائد اللحوم ومسليات الشحوم ولم يتغير طعمها لأن بلاد الغرب مخصوصة بطول مكث المخزونات بها، فإنه ربما بقي القمح والشعير في بعض أماكنها ستين سنة «2» لا يتغير ولا يسوّس ثم يخرج بعد خزن هذه المدة الطويلة فيزرع وينبت وخصوصا تلمسان في برّ العدوة، وطليطلة «3» في الأندلس.

حكى ابن ظافر «1» في كتابه (551) المترجم ب" سياسة الملوك" «2» أن القمح يقيم بطليطلة ثمانين سنة مخزونا في صهاريج، ثم يخرج ويزرع، قال: ولا يزيدها مدة الحزن إلا صفاء، ولا طول المكث إلا جدّة. ونعود إلى ذكر تلمسان، فنقول: إنها منحرفة إلى الجنوب الشرقيّ (من) فاس، ولها ثلاثة أسوار ومن جهة القصبة ستة أسوار بعضها داخل بعض، ولم يهجس بخاطر أنها تؤخذ ولكن يسر الله لهذا السلطان أبي الحسن المرينيّ صعبها وذللّ له إباءها حتى ملك ناصيتها، وبلغ دانيتها وقاصيتها، وإذ قد ذكرنا قواعد الملك الثلاث فلنذكر ما لا بأس بذكره من هذه البلاد. وأول ما نبدأ بذكره سبتة «3» لصيتها الطائر في الآفاق لمكان بحر الزّقاق منها، وهي على ضفة بحر الزّقاق الداخل من البحر المحيط، وهي في طرف من الأرض شديد الضيق من جهة الغرب، والبحر المحيط محيط بها شرقا وغربا وقبلة، ولو شاء أهلها أن يصلوها به من جهة الشمال لوصلوه فتكون جزيرة منقطعة، ولها فاكهة كثيرة وبها قصب سكر ليس بالكثير، وعليها أبراج كثيرة، وأسوارها عظيمة من صخر محيط بها، وكذلك يحيط بجبل مينائها الذي بشرقيّها وبربضها أسوار، وبها حمامات يجلب إليها الماء على الظهر من البحر في الشواني «4» وطول المدينة من السور الغربيّ المحيط على ربضها إلى آخر الجزيرة خمسة أميال،

ولم تزل دار علم وفقه، وقد ذكر الحجاريّ «1» أول مصنفي كتاب" المغرب" أنها أول ما بني في برّ العدوة، وهي من فرض البحر العظيمة لكثرة ما يرد عليها من مراكب المسلمين والنصارى من كلّ جهة، وجميع طرف الدنيا أو غالبها موجود فيها، وهي مليحة نزهة، والبحر عندها ضيق، وإذا كان الصّحو بصر أهلها منها الجزيرة الخضراء المسامتة لها (552) من الأندلس، وشرب أهلها من الماء مجلوب إليهم من البحر من بليونش «2» وغيرها من متنزّهاتها، وفي داخلها صهاريج من ماء المطر، والأغنام تجلب إليها، والقمح لا يزكو نباته في أرضها، وإنما يجلب إليها جلبا كثيرا، وبها الصخرة التي يقال «3» إنّ موسى عليه السلام آوى إليها ولا يصحّ، وبها سمك كثير منه نوع يسمى سمك موسى نسبة إلى حوته الذي اتخذ سبيله في البحر سربا، ولحمه نافع من الحصا، مقوّ للباه، وهو يوجد بالبحر قريب جبل سبتة المعروف بجبل [موسى بن نصير] «4» ، وبه رمال ينبط منها الماء العذب، وينبعث من

أجواف على ضفة البحر، ولقرب سبتة من الزّقاق الذي منه البحر الشاميّ يقال للبحر الشاميّ البحر السّبتيّ، وكانت سبتة دار ملك للعزفيين «1» حتى أخذها بنو مرين، تقرب بها صاحبها [إبراهيم] «2» إلى السلطان أبي سعيد «3» ، وتغلب له عليه صاحبها محمد بن القائد عليّ العزفيّ وأخذها بالملاطفة بالسيف وسلّمها إليه وعوضهم عنها بما أرضاهم من الإحسان والضّياع والمرتبات العظيمة، وأقاموا معه بفاس ملحوظين بالإكرام والتّقديم. ثم نذكر طنجة «4» لأنها لا يخلو مصنف في هذا الشأن من ذكرها، لأنّها كانت دار ملك قديم وذكر شائع، وهي مدينة مسوّرة متقنة على ساحل بحر الزّقاق، وهو محطّ السفن اللطاف، وكانت قاعدة تلك الجهات قبل الإسلام وحين الكتب القديمة المصنفة في هذا الشأن ذكرها «5» ، وهي كثيرة الفواكه، وخصوصا العنب والكمّثرى، وأهلها مخصوصون ومشهورون بقلة العقل وسخف الرأي على أن أبا الحسن بن بيّاع الصّنهاجيّ الطّنجيّ منها، وقد أثنى عليه الفتح صاحب" قلائد العقيان" فقال: طود سكون ووقار، وروضة نباهة يانعة الأزهار، ووصفه بالعلم والبلاغة (553) والطبّ، وأنشد له أشعارا منها يصف روضة ممطورة: (الكامل) وقفت عليها السحب وقفة راحم ... فبكت لها بعييونها وقلوبها

فعجبت للأزهار كيف تضاحكت ... ببكائها وتباشرت بقطوبها وقوله «1» : (الوافر) لقد جثمت بقلبك متلفات ... بكلّ ثنيّة منها صريع وقد تحمي الدروع من العوالي ... ولا تحمي من الحدق الدروع ومن أهل طنجة أيضا أبو عبد الله محمد بن أحمد الحضرميّ الطّنجيّ القائل «2» : (الطويل) فؤادي وإن راموا الحمول حمول ... ودمعي وإن بثّوا الوصول وصول ولم يرواش كالغرام بدمعة ... فإنّا سكتنا والدموع نقول وقالوا: رحيل كان قلنا: فإنّه ... حياة لها عنا نوى ورحيل وضنّوا بتوديع وجادوا بتركه ... وربّ دواء مات منه عليل وقد ذكرنا فيما ذكره صاحب" القلائد"، وأخرجنا للتقليب هذه الفوائد، لنعرف به أنّ من طنجة على ما نسب إلى أهلها من الحمق من هذا عنوان عقله وتبيان فضله. ثم نذكر سجلماسة «3» لأنها من أجلّ مدن برّ العدوة، وهي باب الصحراء إلى أرض السودان وبلاد مغزارة الذهب ولموقع عجيب في زرعها سنذكرها بمشيئة الله تعالى، فأول ما

نقول: إنّ سجلماسة مدينة جليلة في جنوبيّ برّ العدوة متصلة بالصحراء الكبيرة، من أكبر مدن الغرب وأشهرها ذكرا في الآفاق، وعليها نهر كبير «1» ، ذات قصور مشيدة، وأبنية عليّة وأبواب رفيعة، صحيحة الهواء لمجاورة البيداء، وأرضها سهلة سبخية، ولها أرباض كثيرة، مخصوصة بأن لا يجذم أحد من أهلها، لكن تلحقهم رطوبة في أجفانهم، وبها نخيل كثير، ثمره على أصناف يحمل منه إلى عامة الغرب، ويفضل ثمرها ما سواه حتى يضاهى به تمر العراق (554) وبتمرها يضرب في الغرب المثل، ولها بساتين خضرة نضرة، على قشف مكانها وجفاء سكانها. قال ابن حوقل «2» : ونهرها يزيد في الصيف كزيادة النيل، ويزرع بمائه مثل زرع مصر، وربما زرعوا الزرع ثم حصدوه، ويبقى جذره في الأرض إلى السنة الآتية، ثم يسقى فيطلع ويحصد، هكذا سبع سنين يستغلّ سبع مغلّات ببذار واحد. قال ابن سعيد: قال الجدّ «3» لي: مغلّ أول سنة هو القمح، ثم المغلّات الباقية السّلت وهو [حبّ] «4» ما بين الحنطة والشعير، قال ابن سعيد: وأهلها مياسير ولهم متاجر إلى بلاد السودان، قال: ولقد رأيت صكا فيه حقّ على رجل من سجلماسة لآخر من أهلها باثنين

وأربعين ألف دينار «1» . ومدينة سجلماسة آخر العمران ليس قبليّها عمران بل منها يدخل التجار إلى بلاد السودان بالملح والنحاس والودع، ويعودون بالذهب، وليس بعدها إلا [تافلالت] «2» في البرية إلى أولاتن وبينهما المفازة العظمى وهي أربعة عشر يوما لا يوجد بها ماء ولا يدخلها إلا الإبل المصبرة على الظمأ، وهي أرض موحشة الأقطار، مجهولة المسالك، لا يحمل سالكها على ركوب خطرها إلا الفائدة العظيمة على السودان، فإنهم يتوجهون بما لا قيمة له ويعودون بالذهب الصّامت وقر ركائبهم. وأما زيّ هذا السلطان وزيّ الأشياخ وعامة الجند فهي عمائم طو (ا) ل رقاق قليلة العرض من كتّان ويعمل فوقها إحرامات يلفونها على أكتافهم من الجباب، ويتقلدون بالسيوف تقليدا بداويا، والأخفاف في أرجلهم وتسمى الأنمقة و [يشدّون] «3» المهاميز ولهم [فوقها] «3» المضمّات وهي المناطق ولكنهم لا يشدونها إلا في يوم الحرب، أو يوم التمييز وهو يوم عرض سلطانهم لهم، وتعمل من فضة، ومنهم من يعملها ذهبا، ومنها ما يبلغ [ألفي] «4» مثقال، ويختصّ سلطانهم بلبس البرنس الأبيض الرفيع لا يلبسه ذو (555) سيف سواه.

فأما العلماء وأهل الصلاح واسمهم عندهم المرابطون، فإنهم لا حرج عليهم في لبسه هذا ما في البرانس البيض، فأما سائر الألوان فلا حرج عليهم في لبسها «1» كائنا من كان، ولا يدقّ طبل لأحد في سفر إلّا للسلطان خاصة لا غير. حكى لي السّلالجيّ أنّ بعض أرباب الحلق من مصر دخل إلى فاس وعمل بها حلقة وبقي يدقّ بطبلة له على عادته وعادة أرباب الحلق فحصل عليه الانكار وأمر بإبطاله، وضرب الطبول محفوظ لأهل بيت خاص بهم من أهل مرّاكش، هذا لبس ذوي السيوف. فأما القضاة والعلماء والكتاب وعامة الناس فقريب من هذا الزيّ إلا أنّ عمائمهم خضر ولا يلبس أحد منهم الأنمقة وهي الأخفاف في الحضر، فأما في السفر فلا جناح منهم على من لبسها، وليس لهؤلاء سيوف، ومن عادة هذا السلطان أن يعرض جنده في رأس كلّ ثلاثة أشهر ليعرف منهم الحاضر والغائب والقادر والعاجز فيخرج إلى مكان معدّ لهذا بظاهر قصوره، ويجلس على علو في ذلك المكان، ويجلس تحته الكتاب ويستدعي عسكرة بالأسماء اسما اسما، ويقابل على أسمائهم وحلاهم «2» ثم يصرف على كلّ واحد منهم راتبه، هذا للجند الأندلسيين الذين يرمون بقوس الرّجل والفرنج، وأما سائر العسكر فلهم إقطاعات وبلاد وإحسان من رأس السنة إلى رأس السنة، والراتب يسمى بإفريقيّة البركة ويسمى بمصر والشام النقد أو الإقطاع، ولكنه لا يقاس إفريقيّة بها في هذا ولا يعرف في هذه المملكة ما هم الأمراء اسما ولا معنى كما هو بمصر وإيران بل الأشياخ الكبار والصغار كما تقدم القول فيه في إفريقيّة، فإنّه ليس في الغرب من يطلق عليه هذا الاسم كما يعرف في مصر والشام أن هذا الاسم يصدق على حقيقة رجل له عدّة من الجند.

قال أبو عبد الله محمد بن محمد السّلالجيّ: والذي للأشياخ الكبار على السلطان [الإقطاعات الجارية عليهم] «1» : يكون لكلّ واحد منهم (556) في كلّ سنة عشرون ألف مثقال من الذهب «2» يأخذها من قبائل وقرى وضياع وقلاع، ويتحصل له من القمح والشعير والحبوب في تلك البلاد نحو عشرين ألف وسق، و [لكلّ واحد مع الإقطاع الإحسان] «1» في [رأس] «1» كلّ سنة [وهو] «1» حصان بسرجه ولجامه، وسيف ورمح محلّيان وسبنيّة، وهي بقجة قماش فيها ثوب طرد وحش مذهب إسكندري ويسمى عندهم الزّردخانة، وثوبان بياض من الكتّان عمل إفريقيّة، وإحرام وشاش طوله ثمانون ذراعا، وقصبتان من ملفّ يعني من الجوخ من أيّ لون كان وربما يزيد الأكابر [على ذلك] «3» ، وربما ينقص من لم يلحق بهذه الرتبة من أصاغر الأشياخ. وأما الأشياخ الصغار فيكون لهم من الراتب والمجاسر نصف ما للأشياخ الكبار، والحصان المسرج الملجم والسيف والرمح والكسوة، ومنهم من لا يلحق بهذه الرتبة فيكون أنقص. وأما ما للجند فأعلى طبقات الجند [المقربون] «4» إلى السلطان فيكون للرجل منهم ستون مثقالا من الذهب في كلّ شهر وقليل ما هم، وأما المعظم فأعلى طبقتهم من يكون له في الشهر ثلاثون مثقالا ثم ما دونها إلى أن تتناهى إلى أقلّ الطبقات وهي ستة مثاقيل في كلّ شهر، هذا المستقرّ لهم وليس لأحد منهم بلد ولا مزدرع، قال: وجميع أرزاقهم ناصبة

إليهم ميسرة عليهم، قال: ومن عادة هذا السلطان أن يجلس في بكرة كلّ يوم، ويدخل عليه الأشياخ الكبار، وهم في «1» دولته بمنزلة أمراء التوّامين بإيران ومقدمي الألوف بمصر، ليسلموا عليه ثم يمدّ لهم سماط ثرائد في جفان، وحولها طوافير وهي المخافي فيها أطعمة ملونة منوعة، ومعها الحلواء منها ما هو [بالسكّر] «2» ومعظمها بالعسل، ومنها النوعان موجودان إلا أنّ السكّر قليل وجمهور ما يعمل من العسل من الحلواء بالزّيت، فإذا أكلوا الطعام تفرقوا إلى أماكنهم، وربما ركب السلطان بعد هذا [والعسكر معه وقد لا يركب] «3» فأما أخريات كلّ نهار فقلّ أن لا يركب إلى نهر هناك بعد العصر، ويخرج في مكان فسيح من الصحراء (557) فيقف به على نشز، ويركب العسكر حوله ويتطارد قدامه الخيل فتتطاعن الفرسان، وتتداعى الأقران، وتمثل الحرب لديه وتقام صفوفها المرصوصة بين يديه كأنّه حقيقة يوم الحرب واللقاء على سبيل التّمرين، ثم يعود في موكبه إلى قصره وتتفرق العساكر إلى أماكنهم، ويحضر العلماء والفضلاء والأعيان إلى مسامرته ويمدّ لهم سماط بين يديه [فيأكلون] «3» ، ويؤاكلهم في ذلك الوقت (و) لكاتب سرّه معه خصوصية اجتماع للأخذ في المهم وعرض القصص والرّقاع ويبيتون عنده أكثر الليالي إلا كاتب السرّ فإنه في بعض الليالي قد يأمره بالمبيت فيبيت بخاصته.

وأما هيئة جلوسه للمظالم، فإنه يجلس على فرش مرفوعة في قبة معلومة للجلوس له بحضرته الأشياخ [مقلّدون] «1» بسيوفهم، فأما من لا له هذه الرتبة ولا له وضع من ذوي السيوف، فإنهم إذا دخلوا إلى مجلس السلطان وقفوا بعيدا منه مصطفين متكئين على سيوفهم، وإذا أراد صاحب الشكوى إبلاغ شكواه وهذا إنما يكون حين ركوبه وظهوره صاح من بعد: لا إله إلا الله انصرني نصرك الله، فيعلم أنه شاك فتؤخذ قصته وتعطى لكاتب سرّه فإذا رجع إلى مقرّه اجتمع مع كاتب سرّه، وقرأ عليه تلك القصة وغيرها فينظر في ذلك بما رآه، وإذا سافر السلطان وخرج من قصره، ونزل بظاهر بلده وارتحل من هناك ضرب له طبل كبير قبيل الصبح إشعارا بالسفر فيتأهب الناس ويشتغل كلّ أحد بالاستعداد للرحيل، فإذا صلّيت صلاة الصبح ركب الناس على قبائلهم وطبقاتهم ومنازلهم المعلومة، ووقفوا في طريق سلطانهم صفا بجانب صفّ ولكلّ قبيل وجند علم معروف به ومكان في الترتيب لا يتعداه، فإذا صلّى السلطان الصبح قعد أمام الناس ودارت عليه ما له من العبيد والوصفان و [العدويين] «2» الذين هم كالنقباء ويجلس حوله ناس يعرفون بالطلبة يجري عليهم ديوانه (558) يقرءون حزبا من القرآن الكريم، ويذكرون شيئا من الحديث الشّريف النبويّ على قائله أفضل الصلاة والسّلام، فإذا أسفر الصبح ركب وتقدم أمامه العلم الأبيض الذي هو سعد الدولة، ويقال له: المنصور، وبين يديه الرّجّالة بالسلاح والخيل المجنوبة «3» ببراقع الوشي، والبراقع من ثياب السّروج، وعندما يضع السلطان رجله في الرّكاب يضرب في طبل

كبير ثلاث ضربات يقال له تريال إشعارا بركوبه، ثم يسير السلطان بين صفيّ الخيل ويسلم كلّ صفّ عليه بأعلا صوته: سلام عليكم، ويكتنفانه يمينا ويسارا، وحينئذ تضرب جميع الطبول التي تحت البنود الكبار الملونة خلف الوزير على بعد من السلطان، وربما ركب إلى جانبه، ولا يتقدم راكب إلا عن بعد كبير أمام العلم الأبيض إلا من يكون من خواص علوجه، وربما يأمرهم بالجولان بعضهم على بعض، ثم ينقطع ضرب الطبول إلى أن يقرب من المنزل، فإذا قرب السلطان من المنزل وضربت الطبول تتقدم الزّمّالة إلى المنزل، وهؤلاء هم الفرّاشون، وتضرب شقة من الكتّان في قلبها جلود تقوم بها عصيّ وحبال من القنّب في أوتاد، وتستدير على كثير من أخبية وبيوت الشّعر الخاصة به وبعياله وأولاده الصغار، وتكون هذه الشقّة كالمدينة لها أربعة أبواب في كلّ جهة «1» باب، ويحفّ به عبيده وعلوجه ووصفانه. قال السّلالجيّ: وهؤلاء [بنو] «2» مرين أكثر ميلهم إلى بيوت الشّعر على عادتهم الأولى في البداوة مع أنهم اليوم (من) أشياخهم من ضرب أخبية كثيرة مع البيوت ولهم في ذلك تنافس، قال: ويضرب للسلطان أمام ذلك قبة كبيرة مرتفعة من كتّان تسمى قبة الساقة لجلوسه للناس فيها وحضورهم [عنده] «3» بها «4» ، وإذا ركب هذا السلطان لا يسايره إلا بعض الأشياخ الكبار من بني مرين أو بعض عظماء العرب، وكثيرا ما إذا استدعى أحدا (559) لا يجيء إليه إلّا ماشيا فربما حدّثه وهو ماش معه، وربما أكرمه فأمره أن يركب، وإذا عاد السلطان إلى

حضرة ملكه ضربت البشائر «1» له سبعة أيام، وأطعم الناس طعاما شاملا في موضع يسع الجماهير. وشعار هذه المملكة هو اللواء الأبيض المقدم الذكر، وهو المسمى عندهم" العلم المنصور" كما وصف، وهو أبيض مكتوب بالذهب نسيجا من الحرير آي من القرآن بدائر طرّته وحوله أعلام مختلفة الألوان. ومن شعاره إذا ركب في سفره من مدينة أو يوم دخوله أو في يوم عيد أن يركب الأشياخ حوله، وقدامه محمول سيف ورمح وترس وهي الدارقة عندهم يحملها ثلاثة من خاصّته من الوصفان، وهم من خدمة السلطان أو أبناء خدم أسلافه، وحوله من أهل الأندلس رجّالة بأيديهم [الطّبرزينات] «2» ، وهي كالأطبار، وقواد النصارى الكبار بأيديهم ذلك وهم خلفه، وقدامه خمسون نفرا مشاة، وأوساطهم مشدودة (و) بأيديهم رماح «3» طوال ورماح قصار بيد كلّ واحد منهم اثنان طويل وقصير، [وكلّ منهم مقلّد] «4» مع ذلك بسيف، وأمامه الجنائب وتسمى عندهم المقادات يجرّها أناس مشاة وهي مسرجة ملجمة وعلى السروج براقع حرير منسوج بالذهب وهي ثياب السروج، والسروج مخروزة بالذهب خرزا شبيها بالزّركش، وركابها ذهب مسبوك زنة ركابي السرج ألف مثقال ذهبا، فأما تحلية

السّروج بالأطواق وما يجري مجراها، فإنه لا يعرف عندهم. ومن عادته في العيدين أن لا تضرب الطبول خلفه إلا بعد أن يفرغ من الصلاة والخطبة. قال السّلالجيّ: وفي ليلة العيدين أو ليلة ورود السلطان على حضرته ينادي والي البلد في أهلها بالمسير، ومعناه أن أهل كلّ سوق يخرجون ناحية، ومع كلّ واحد منهم قوس أو آلة سلاح متجملين بأحسن الثياب، ويبيت تلك الليلة الناس أهل (560) كلّ سوق بذاتهم خارج البلد، ومع أهل كلّ سوق علم يختصّ بهم عليه رنك أهل تلك الصناعة بما يناسبهم، فإذا ركب السلطان بكرة اصطفوا صفوفا يمشون قدامه، وركب هو والعسكر ميمنة وميسرة، والعلوج خلفه [ملتفون] «1» به، والأعلام منشورة وراءه، والطبول خلفها حتى يصلي ثم يعود فينصرف أرباب الأسواق إلى بيوتهم، ولا يحضر طعام عيد السلطان إلا خواصّه وأشياخه، وله طعام عام يحضره الضعفاء والمساكين. وسألت أبا عبد الله السّلالجيّ عن أرزاق القضاة والكتاب عنده، فقال: أما قاضي القضاة فله في كلّ يوم مثقال من الذهب، وله أرض يسيرة يزرع فيها ما يجيء منه مؤونته وعليق دوابّه، وأما كاتب السرّ، وهو الفقيه الإمام العالم الفاضل أبو محمد عبد المهيمن بن الحضرميّ «2» ، فله في كلّ يوم مثقالان من الذهب، وله مجسران يعني قريتين يتحصل منهما متحصّل جيد وله رسوم كغيره على البلاد ومنافع وإرفاقات، ولكلّ واحد

منهما في كلّ سنة بغلة بسرجها ولجامها وسبنيّة قماش برسم الكسوة نظير ما للأشياخ الكبار إلا الثوب الزّردخاناه يعني الطردوحش، قال: وهذان هما المحبّيان «1» والبقية لا أعرف ما لهم، ولكن لا نسبة لأحد إلى هذين الرجلين، وإنما أعلم أنه تطلق الرواتب من المحارث والأرض للفقهاء والعلماء والفقراء والجسار وهم أرباب البيوت. وأما ما يكتب عن هذا السلطان فمن عادته أنّه إذا كتب عنه كتاب يكتب في أوله بخطّ الكاتب بعد بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة على النبيّ صلى الله عليه وسلم من أمير المسلمين المجاهد بهم في سبيل ربّ العالمين [أبي الحسن عليّ ابن أمير المسلمين المجاهد بهم في سبيل ربّ العالمين] «2» أبي سعيد عثمان ابن أمير المسلمين المجاهد بهم في سبيل ربّ العالمين أبي يوسف يعقوب بن عبد الحقّ، فإذا انتهى الكتاب إلى آخره وختمه الكاتب بالتاريخ، كتب هذا السلطان بخطّه في آخره ما صورته: وكتب في التاريخ المؤرخ به. قال أبو عبد الله (561) السّلالجيّ: ولم يكتب أحد من ملوك بيته هذا بيده، بل كان كاتب السّر هو الذي يكتب هذا إلّا هذا السلطان أبو الحسن وأخوه أبو حفص عمر «3» حين حياته هذا مع وثوقه العظيم بكاتب السرّ الفقيه الفاضل أبي محمد عبد المهيمن بن الحضرميّ واعتماده عليه ومشاركته

[له في كلّ أمره] «1» . وأما هذا السلطان أبو الحسن في ذاته فإنه ممن أصلح الله باطنه وظاهره، وعمر بالتقوى قلبه وسائره «2» ، يساوي العلماء ويواسي الفقراء، معدود في أبطال الرجال وشجعان الفرسان، ترد علينا أخباره ما يراوح النسيم، ويفاوح التسنيم، تدارك الله به أهل الأندلس، وقد جاذبت معاقلهم الكفار، وثبّت مدنهم، وهي على شفا جرف هار، قد أجرى الله على يديه أجر بقائها في يد الإسلام، واستوقف به ظعائنها وقد أذنت بسلام، وهو في هذا الطرف ماسك بأوتاده، سالك فيه سبيل جهاده، رادّ لأعداء الله عن منى أطماعهم، ما لاذ به خائف إلا أجاره، ولا أمله آمل فخاب ظنّه، قد وسع الخلق بخلقه، وجمع أممهم على ما أطعمه الله من رزقه، ولقد حدّثني غير واحد عن خلقه وخلائقه الرضيّة، وآثاره الوضيّة، وكمالاته التامّة وفضائله المنقية المرضيّة، ما لحق به من سلف من السلف، وهو ممن لا يثنى له عن الجهاد عنان، ولا يغمد له سيف ولا سنان، حتى يستردّ باقي ضالته المفقودة، وما استولى عليه العدوّ من الأندلس من البلاد، وجدير بمن هذه نيته أن يسهل الله له ببلوغ مرامه، واستكمال ما بقي في أيامه، وهو رجل فتل الأيام، وفتل غارب الأنام، وخالط العلماء، وتأدب بآدابهم وخالل الشجعان وزاد عليهم، لو صدع الحجر لأنفذه، أو صدف المتردي من السماك لأنقذه، لا يلتفت طرفه إلى ما نبذه، ولا إلى ما تركه من الدنيا أو ما أخذه، فلو رمى البحر لما زخر زاخره، أو قذف الزمان لما دارت دوائره، وقد أحيا حوله من صنائع آبائه ومن اتبعهم بهم من صنائعه، أسود غيل، وجنود صرير وصليل، لا يبدرهم إلى إجابة صريح، ولا يخبرهم بألطاف المتجدد مسمع فرس يصيح، (562) بهمم غطت على

من تقدّم، وأنست: عنتر والرماح كأنّها أشطان بئر في لبان الأدهم «1» . وأما كيفية انتقال الملك إليه، فنقول وبالله التوفيق: إنّ هذا السلطان ولد بفاس سنة ستّ وثمانين وستّ مئة، وأخذ الملك عن أبيه أبي سعيد عثمان، كان قد عهد إليه لما غضب على أخيه [أبي حفص] «2» عمر، وكان عمر المرشح عند أبيه أولا حتى خرج عمر على أبيه وغلبه على فاس ثم أخذها أبوه منه، وحاصره في المدينة البيضاء مقدار خمسة أشهر، وكان عمر في هذه المدة ضعيفا، فدخل العلماء والصلحاء بينهما فأعطاه سجلماسة، وأصار ولاية العهد إلى هذا السلطان أبي الحسن عليّ، ثم تغير عليه بسبب جرحه لقمر خادمه وهي التي بيدها مفاتيح بيت المال، وذلك أنّ أباه أبا سعيد عثمان سافر لزيارة ضريح سلفه بشآلة، وهو موضع على مقربة من سلا، وترك ولده عليا خلفا [عنه] «3» بفاس فاحتاج إلى شيء هو في بيت المال، فأراد أخذه، وطلب من قمر المهاجرة المفاتح فأبت أن تمكنه من ذلك ولا أن تبلغه (ما) هنالك، فاغتاظ عليها وجرّد سيفا كان معتقلا «4» به فجرحها فبلغ ذلك، أباه فغاظه ما سمع فكتب كتابا، وأمر بعض الأشياخ بمسيره إليه يأمره فيه بالخروج من البلد (ة) الجديدة، وسكناه بقصبة البلد العتيقة برأسه ليس إلّا على فرسه، وأن لا يركب معه أحد من جيشه، وسلبه عن كلّ شيء. فلما بلغه الكتاب وهو في قصره حيث جلوسه للناس قرأه وعرف ما فيه فأخذه وألقاه على رأسه وقبله بفيه، وخرج من حينه إلى الموضع الذي رسم له فيه، وبقي محجورا مدة إلى أن

دخل العلماء والصلحاء والخطباء والأعيان فشفّعهم فيه، ورضي عنه وأعاده إلى ولاية العهد. ثم إنّ أباه توجّه على قصد تلمسان بسبب وصول الأمير أبي زكريا يحيى صاحب بجاية إليه لاستنجاده لهم على ما تقدمت إليه الإشارة على عدوّهم المحاصر لهم «1» ، فعرض له المرض، وصدّه عن الوصول إلى تلمسان ضعف أصابه في طريقه، فرجع إلى مدينة تازي وهناك (563) وصلته ابنة الأمير أبي بكر «2» في الأصطول الذي بعثه إليها فرجع إلى فاس واشتدّ به المرض فمات بعقبة البقر قريب فاس، وحين مات والده وقف أبو الحسن راكبا فرسه حتى بايعه الناس ثم دخل فاسا ودفن أباه، وجلس موضعه، واستقلّ بالملك، وكتب إلى أخيه عمر يعزّيه بأبيه ويقرّه على حاله، فأبى عمر، وخرج فجهز إليه أبو الحسن ولده يعقوب «3» ثم إنّه في آخر الأمر قصده بنفسه بالجيوش والعساكر، وأراد أن يقبض عليه، ثم دخل بينهما العلماء وأهل الصّلاح فعفا عنه وأقرّه على حاله، وكتبت بينه وبينه وثيقة مشهودة بذلك، ثم بعد ذلك خرج أبو الحسن قاصدا إلى قتال [أخيه] «4» عمر إلى ممالأة أهل تلمسان عليه، فضرب أبو الحسن وجهه عن تلمسان إلى سجلماسة قاصدا لأخيه عمر فحاصره مدة ثم إنّه دخل عليه سجلماسة، وأمسكه قبضا باليد، ووجده قد ارتكب فظائع من المحرّمات من قتل عمّه أبي البقاء يعيش، وجمع بين حرائر ذوات عقود أزيد مما أباحت الشريعة فاستفتى أبو الحسن عليه العلماء فأفتي بقتله، ففصده في يديه وتركه ينزف دمه حتى مات، واستقلّ حينئذ أبو الحسن، وثبتت قواعد أركانه وانتشرت أعلام سلطانه.

ووالده أبو سعيد ورث الملك عن أمير المسلمين أبي الربيع سليمان بن عبد الله بن أمير المسلمين أبي يعقوب يوسف بن أمير المسلمين أبي يوسف يعقوب بن عبد الحقّ «1» . وأبو الربيع ورث الملك عن أخيه لأبيه أمير المسلمين [ «2» أبي ثابت عامر «3» . وأبو ثابت عامر ورث الملك عن جدّه أمير المسلمين أبي يعقوب يوسف بن أمير المسلمين أبي يوسف يعقوب بن عبد الحقّ] «4» وأبو يعقوب ورث الملك عن أبيه أبي يوسف يعقوب بن عبد الحقّ «5» ، وهو أول من

استقلّ بالملك من ملوك بني مرين «1» . وكان أصل انتقال الملك إليهم أن دولة الموحدين بمرّاكش كان قد انحلّ عقد نظامها، وانثلّ عقد أيامها لانهماك آخرهم على اللذات وتشاغلهم بها عن الأخذ بالحزم في الأمور، وكانت قبائل بني مرين رحالة نزالة أهل بادية (564) ذوي بأس ومنعة، فثار فيهم أبو يحيى أبو بكر بن عبد الحقّ «2» ، وجمع الجموع وتغلب على فاس فملكها وملك غيرها من البلاد، ثم مات أبو يحيى بن عبد الحقّ، فقام أخوه أبو يوسف يعقوب «3» بن عبد الحقّ فقصد مرّاكش فخرج إليه أبو دبوس أبو العلاء إدريس «4» فقتل أبو دبوس وهو آخر من كان قد انتهى إليه الملك من بني عبد المؤمن بن عليّ «5» ومن يومئذ ظهرت دولة بني مرين واستقلّ سلطانهم بالمغرب الأقصى.

الباب الرابع عشر في مملكة الأندلس

الباب الرابع عشر في مملكة الأندلس

(في مملكة الأندلس) المملكة الإسلامية بالأندلس حماها الله تعالى طول مسافتها عشرة أيام، وعرضها ثلاثة أيام، وسلطانها الآن أعني عام ثمانية وثلاثين وسبع مئة هو يوسف بن إسماعيل بن فرج بن نصر «1» ، مستقرّه غرناطة «2» ، وهي الآن دار هذه المملكة، وأضخم بلادها. مدينة كبيرة مستديرة رائعة المنظر، كثيرة الأشجار والأمطار والأنهار والبساتين والفواكه، قليلة مهبّ الرياح، لا تجري بها الريح إلا نادرا لاكتناف الجبال إيّاها. وأصل أنهارها نهران عظيمان شنّيل وحدرّه، أما شنّيل فينحدر من جبل شلير بجنوبها، وهو طود شامخ لا ينفكّ عنه الثلج شتاء ولا صيفا، فهو لذلك شديد البرد، وغرناطة كذلك في الشتاء بسببه، إذ ليس بينها وبينه سوى عشرة أميال. وفي برد غرناطة يقول [ابن صارة] «3» : (الطويل) «4» أحلّ لنا ترك الصلاة بأرضكم ... وشرب الحميّا وهو شيء محرّم

فرارا إلى نار الجحيم [لأنّها] «1» ... أرقّ علينا من شلير «2» وأرحم لئن كان ربي مدخلي في جهنّم ... ففي مثل هذا اليوم طابت جهنّم وفيه عيون ماء كثيرة، وأشجار مختلف ألوانها، وخصوصا التفاح والقراسيا البعلبكية التي لا تكاد توجد في الدنيا منظرا وحلاوة حتى إنها ليعصر منها العسل، وبها الجوز «3» ، والقسطل، والتين، والأعناب، والخوخ، والبلّوط وغير ذلك. وبذلك الجبل عقاقير كعقاقير الهند، وعشب يستعمل في الأدوية يعرفها الشجّارون (565) لا توجد لا في الهند ولا في غيره. ويمرّ شنّيل على غربي غرناطة إلى فحصها يشقّ منها أربعين ميلا بين بساتين وقرى وضيع كثيرة البيوت والعلالي «4» وأبراج الحمام وغير ذلك من المباني، وينتهي فحصها إلى لوشة حيث أصحاب الكهف على قول «5» . وأما حدرّه فينحدر من جبل بناحية مدينة وادي آش شرقي شلير فيمرّ بين بساتين ومزارع وكرمات إلى أن ينتهي إلى غرناطة، فيدخلها على باب الدفّاف بشرقيّها يشقّ المدينة نصفين

تطحن به الأرحاء بداخلها وعليه بداخلها قناطر خمس: قنطرة ابن رشبق، وقنطرة القاضي، وقنطرة حمّام جاش، والقنطرة الجديدة، وقنطرة العود «1» ، وعلى القناطر أسواق «2» و [مبان] «3» محكمة، والماء يجري من النهر في جميع البلد في أسواقه وقاعاته ومساجده، يبرز في أماكن على وجه الأرض ويخفي جداوله تحتها في الأكثر، وحيث طلب الماء وجد. وقلعتها «4» حيث (مقرّ) سلطانها تعرف بالحمراء، وهي بديعة متسعة كثيرة المباني الضخمة والقصور، ظريفة جدا يجري بها الماء تحت بلط كما يجري في المدينة ولا يخلو منه مسجد ولا بيت، وبأعلى برج منها عين ماء، وجامعها وجامع المدينة «5» من أبدع الجوامع وأحسنها بناء، وتعلّق بجامع الحمراء ثريّات الفضة، وبحائط محرابه أحجار ياقوت مرصوفة (و) في جملة ما نمّق به الذهب والفضة، ومنبره عاج وآبنوس. وبالمدينة جبلان يشقّان [وسطها] «6» ، وفحصها دور حسان وعلالي مشرفة على الفحص فترى منظرا بديعا من مزدرعاته، وفروع الأنهار تسقيها وغير ذلك مما يقصر عنه التخيل والتشبيه، يعرف أحد الجبلين بالخزّة وموزور، ويعرف الثاني بالقصبة القديمة وبالسّند.

وهنالك برج الديك عليه ديك نحاس رأسه رأس فرس، وعليه صورة راكب بحربة ودرقة من حيث هبت الريح دار وجه الراكب وباقي المدينة وطئ ولها ثلاثة عشر بابا: باب البيرة، وهو أضخمها، وباب الكحل «1» وهو باب الفخّارين، وباب الخندق، وباب الرّخاء، وباب المرضى، وباب المصرع (566) ، وباب الرملة، وباب الدباغين، وباب الطوابين، وباب الفخارين «2» ، وباب الدفّات، وباب البنود، وباب [الأسدر] «3» . وحول غرناطة أربعة أرباض: ربض الفخارين وربض الأجل، وهو كثير القصور والبساتين و [كلا] «4» الربضين يلي شنّيل وربض الرملة، وربض البيازين الذي بناحية باب الدفّاف، وهو كثير العمارة يخرج منه نحو من خمسة عشر ألف مقاتل كلّهم شجعان مقاتلون معتادون بالحروب، وهو ربض مستقل بحكامه وقضاته وغير ذلك. وجامع غرناطة محكم البناء، بديع جدا، لا يلاصقه بناء، تحفّ به دكاكين للشهود والعطارين، وقد قام سقفه على أعمدة ظراف، وبداخله الماء، وبه أسانيد منتصبون لإقراء العلوم وهو معمور بالخير كلّ حين. ومساجد المدينة و [رباطاتها] «5» لا تكاد تحصى لكثرتها ويقعد السلطان للناس بدار العدل بالسبيكة من الحمراء يوم الاثنين ويوم الخميس صباحا فيقرأ بمجلسه عشر من القرآن وشيء من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويأخذ الوزير القصص من الناس، ويحضر معه المجلس الرؤساء من أقاربه ونحوهم.

وأهل الأندلس لا يتعمّمون بل يتعهدون شعورهم بالتنظيف والحنّاء ما لم يغلب الشيب، ويتطيلسون فيلقون الطّيلسان على الكتف والكتفين مطويا طيّا ظريفا، ويلبسون الثياب الرفيعة الملونة من الصوف والكتّان ونحو ذلك، واكثر لباسهم في الشتاء الجوخ، وفي الصيف البياض، والمتعمم منهم قليل. وأرزاق الجند بها ذهب بحسب مراتبهم، وأكثرهم من برّ العدوة من بني مرين وبني عبد الواد وغيرهم، والسّلطان يسكنهم القصور الرفيعة وبينهم وبين الإفرنج حروب ووقائع جمة في كلّ سنة إلّا أن يكون بينهم صلح إلى أمد، وحروبهم سجال تارة [لهم وتارة] «1» عليهم، والنصر في الأغلب للمسلمين على قلّتهم وكثرة عدوّهم بقوة الله تعالى. وقد كانت لهم وقيعة في الإفرنج سنة تسع عشرة وسبع مئة على مرج (567) غرناطة قتل فيها من الإفرنج أكثر من ستين ألفا وملكان بطره وجوان عمّه، وبطره الآن معلق جسده في تابوت على باب الحمراء، وافتديت جبفة [جوان] «2» بأموال عظيمة، وحاز المسلمون غنيمة من أموالهم قلّما يذكر مثلها في تاريخ «3» وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ «4» . وبالبلاد البحرية أسطول حراريق «5» للغزو في البحر الشاميّ يركبها الأنجاد من الرّماة والمغاورين والرؤساء المهرة فيقاتلون العدوّ على ظهر البحر، وهم الظافرون في الغالب،

ويغيرون على بلاد النصارى بالساحل أو بقرب [الساحل] «1» فيستأصلون أهلها ذكورهم وإناثهم ويأتون بهم بلاد المسلمين فيبرزون بهم ويحملونهم إلى غرناطة إلى السلطان فيأخذ منهم ما يشاء ويهدي ما يشاء ويبيع. والبلاد البحرية أولها من جهة المشرق المريّة «2» ، وهي ذات مرسى على البحر الشاميّ، وهو أول مراسي البلاد الإسلامية بالأندلس، وكانت العمارة قبل [البجّانة] «3» فانتقلت إلى الساحل لمنافع الناس. و [بجّانة] «4» على وادي المريّة، وهي الآن قرية عظيمة جدا ذات زيتون وأعناب وفواكه مختلفة وبساتين ضخمة كثيرة الثمرات. ووادي المريّة يقال فيه إنّه أبدع الأودية على أنّ الماء فيه يقلّ في فصل الصيف، فيكون بالقسط للبساتين، ويبلغ متصلا بمرشانة «5» وقراها أربعين ميلا، والمريّة ثلاث مدن «6» : الأولى من جهة الغرب تعرف بالحوض الداخليّ لها سور محفوظ من العدوّ بالسّمّار

والحراس ولا عمارة بها، ويليها إلى الشرق المدينة القديمة، ويليها المدينة الثالثة المعروفة بمصلى المريّة، وهي أكبر الثلاث [ولها قلعة] «1» تحوز القديمة من جهة الشمال، وتسمى القصبة في ألسنتهم وهما قصبتان في غاية الحسن والمنعة. وساحل المريّة أحسن السواحل، وحولها حصون وقرى كثيرة، وجبال شامخة وجامعها الكبير «2» بالمدينة القديمة، وهو بديع. والمريّة كثيرة الفواكه، وأما الحنطة فبحسب السنين الممطرة لأنّ أكثر زرعها بالمطر، وترتفق بما يجلب إليها من الحنطة (568) من برّ العدوة. وبها دار الصّناعة لإنشاء الحراريق لقتال العدوّ، ويليها الآن ولاة من صاحب غرناطة، وقد كانت فيما مضى مملكة مستقلة وبينها وبين غرناطة مسير «3» ثلاثة أيام. ويلي المريّة من البلاد البحرية من جهة المغربين «4» شلوبين «5» ، وهي معدّة لإرسال من يغضب عليه السلطان من أقاربه ويرسل، ويزرع بها [قصب] «6» السكّر، وتقاربها المنكّب «7» ، وهي مدينة دون المريّة، وبها أيضا دار صناعة لإنشاء السفن، وبها قصب

السكر، والموز، ولا يوجد شيء في بلد من البلاد الإسلامية هناك إلّا فيها إلا ما لا يعتبر، ويحمل منها السكّر إلى البلاد، وبها زبيب مشهور الاسم. ويلي المنكّب بلّش «1» وهي كثيرة التين والعنب والفواكه، قال أبو عبد الله بن السّديد: إنه ليس في الأندلس أكثر عنبا وتينا يابسا منها. وأما مالقة «2» فمدينة بديعة كثيرة الفواكه، لها ربضان عامران أحدهما من علوّها، والآخر من سفلها، وبها دار صناعة لإنشاء الحراريق، وجامعها بديع وبصحنه نارنج ونخلة، وتختصّ بعمل صنائع الجلد كالأغشية والحزم والمدورات وبصنائع الحديد كالسكين والمقصّ، [وبها الفخار] «3» المذهّب الذي لا يوجد مثله في بلد، والتين الغزير الذي يجلب منها إلى جميع البلاد الغربية بالأندلس وغيرها فيعمّ البلاد شتاء وصيفا فلا يكاد يخلو منه دكان بياع، واللّوز مثله في الكثرة والحسن والطيب، وكذلك الزّبيب، وهي خصيبة جدا وفي تينها يقول الشاعر «4» : (السريع) مالقة حيّيت ياتينها ... فالفلك من أجلك ياتينها نهى طبيبي عنك في علّتي ... ما لطبيبي عن حياتي نهى

قال ابن السديد: إن بها سوقا ممتدا لأطباق تعمل من الخوص إلى غير ذلك مما يعمل منه. ويلي مالقة مدينة مربلّة «1» ، وهي صغيرة كثيرة الفواكه والسمك. وتليها أشبونة «2» ، وهي مثلها ساحلية كثيرة الفواكه. ويلي أشبونة (569) جبل الفتح «3» وهو طود شامخ يخرج في بحر الزّقاق ستة أميال، وبحر الزّقاق أضيق مكان في البحر الغربيّ سعته ستة فراسخ «4» وجرية الماء به قوية، ولا يكاد يركد، ويسمى بحر القنطرة، والقنطرة جسر أخضر من شلش إلى ألش يراه المسافرون إذا سكن البحر «5» وشلش وألش «6» ما بين طريف «7» والجزيرة «8» ، وقد كان هذا الجبل تملكه الإفرنج منذ

سنين، ثم أعلاه الله إلى الإسلام منذ قريب «1» وعمّره السلطان أبو الحسن المرينيّ، واتخذه عتادا لجنده إذا دخلوا الجزيرة لحرب الكفار، وقد كان أسكنه طائفة من عسكره، وأخذ الجزيرة الخضراء من السلطان يوسف بن الأحمر ملك الأندلس ليكون مستقرا لجيشه، وأعاضه عنها زروعا تؤدّى إليه، ومالا يؤدّى عنه، هكذا حدثني الثقات من بني مرين، والقاضي الفقيه إبراهيم بن أبي سالم، ثم أخذت الفرنج الجزيرة الخضراء حين قتل أبو مالك بن السلطان المرينيّ وانهزم جيشه «2» بعد النصرة العظمى «3» ، وحينئذ زادت الهمم المرينيّة في تشييد هذا الجبل وتحصينه وتعمير ما عمّر منه، والله يحمي هذا الملك لإكمال ما شرع فيه من غزو الفرنج واستعادة ... «4» الإسلام منهم، وينصره النصر المؤزّر، ويفتح عليه الفتح المبين، وهذا الجبل جبل منيع جدا يتمكن من حازه من الجزيرة وسبتة وما بينهما. ويلي الجبل الجزيرة الخضراء «5» المشار إليها، وهي مدينة محكمة كثيرة الزرع والماشية، وبها نهر يعرف بوادي العسل عليه بساتين وأرحاء وغير ذلك، وبها دار صناعة لإنشاء الحراريق، وهي آخر البلاد البحريّة الإسلامية بالأندلس، وليس بعدها [لهم بلاد] «6» ، وهي

بيد النصارى أعادها الله وقصمهم. ومن البلاد الكبار غير البحرية رندة «1» ، وهي والجزيرة الخضراء والجبل ومربلّه وما والاهم تحت يد صاحب برّ العدوة السلطان أبي الحسن أحسن الله إليه مراعاته، وبين رندة والجزيرة الخضراء مسيرة ثلاثة أيام وهي جبلية كثيرة الفواكه والمياه والحرث (570) والماشية، وأهلها موصوفون بالجمال ورقّة البشرة واللّطافة. ويليها بلدة أنتقيرة «2» ثم أرحصونة «3» ثم لوشة «4» وبين المريّة وغرناطة مدينة وادي آش «5» ، وهي بلدة حسنة بديعة منيعة جدا كثيرة المياه والفواكه والمزارع قريبة من شنّيل، فلذلك هي شديدة البرد بسبب الثلوج، وهي بلدة مملكة وأهلها موصوفون بالشّعر، ويحكم بها الرؤساء وهم من قرابة السلطان أو من يستقلّ بها [سلطانا] «6» أو من خلع من سلطان بنفسه، والمياه تشقّ أمام أبوابها كغرناطة. ويليها مشرقا بسطة «7» ، وهي كثيرة الزرع، واختصّت بالزعفران، وبها [منه ما

يكفي] «1» أهل الملة الإسلامية بالأندلس على كثرة ما يستعملونه. وبهذه المملكة من البلاد برجة «2» وبيرة «3» وأندرش «4» ، وهي مدينة ظريفة كثيرة الخصب وتختصّ بالفخار لجودة تربتها، فلا يوجد في الدنيا مثل فخّارها للطبخ. وحصونها كثيرة جدا فليس بها من بلد إلا وحوله حصون كثيرة محفوظة بولاة من السلطان ورجال تحت أيديهم وببعضها فرسان مرتّبون، وجند السلطان معظمهم بغرناطة ثم بمالقة وبيرة، وبالثغور البريّة. وأما الثغور البحرية كالمريّة فليس لها حاجة بالخيل إلا قليلا، وحاجتها إلى الحراريق آكد لأنّ بلاد البرّ تغزو وتغزى من البرّ، وبلاد البحر بالعكس، وأخبار الأندلس كثيرة مما سبق عليه الكتاب، وسلف حديثه في سلف هذه الأبواب مما فيه كفاية، وإليه انتهت الغاية.

آخر الجزء الثاني من كتاب" مسالك الأبصار في ممالك الأمصار"، يتلوه إن شاء الله تعالى في الجزء الثالث الباب الخامس عشر في ذكر العرب الموجودين في زماننا وأماكنهم. والحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا.

(2) الباب الخامس عشر في ذكر العرب الموجودين في زماننا وأماكنهم

(2) الباب الخامس عشر في ذكر العرب الموجودين في زماننا وأماكنهم

< توطئة >

(توطئة) في ذكر العرب الموجود [ين] «1» في زماننا وأماكنهم ومضارب أحيائهم ومساكنهم على افتراق فرقهم واختلاف طوائفهم وأشتات قبائلهم ومنازلهم من أطراف العراق إلى آخر المغرب دون من في اليمن وخراسان، فإنه لم يتحرّر لي [شيء] «2» من أمرهم، وإنما ذكرت من عرفت منهم إذ لم يكن بدّ من ذكرهم، وهم نزّال حول الحاضرة، و [ذوو] «3» ، توغل في البادية، ومنهم أسوار المدن، وحفظة الطرق، ولم يزل منهم أئمة للطلائع، و [جناح] «4» للجيش، ومنهم بممالكنا بمصر والشام حفظة الدروب، والقومة بخيل البريد، والحملة للسياق في غالب المملكة، ولم تزل الملوك تهش لوفادتهم، وتهب لهم جزيل الأموال، وتقطعهم جلّ البلاد، هذا إلى التنويه بأقدارهم، والتعويل على أخبارهم، ورفعهم في المجالس، وقد ذكرناهم على ما هم عليه الآن من النسب مع ما حصل من التداخل في الأنساب، والتّباين في الأسباب، والتنقل في الديار، والتبدل بالأوطان، واعتمدت في أكثر من ذلك على ما ذكره الأمير الثقة بدر الدين أبو المحاسن يوسف بن أبي المعالي بن زمّاخ المعروف بابن سيف الدولة الحمدانيّ المهمندار «5» ، وما حدثني به الشيخ الدليل النّسابة

محمود بن [عرّام] «1» من أصحاب قناة بن [حارث] «2» وهو من ذوي الثقة والعلم بقبائل العرب وأنسابها وبلادها وتفرق فرقها [في أغوارها وأنجادها، وأبوه عرّام بن كويب بن خليل بن ماجد بن ثابت] «3» بن ربيعة الذي ينسب إليه آل ربيعة قاطبة، إلى ما كنت نقلته عن أحمد بن عبد الله الواصليّ وغيره من مشيخة العرب، وقد كان كلّ من الأمير فضل بن عيسى «4» وموسى (3) بن مهنّا «5» يحدثني بطرف من أخبار العرب، وكذلك ما نقلته عن الشريف أبي عبد الله بن عمير «6» بن الإدريسيّ من أخبار عرب الغرب، وعن الشيخ زكريّا المغربيّ. وقد صحّحت ذلك بحسب [الجهد] «7» ، وما ألام في تقصير في هذا الباب الذي لم أتأنس قبلي بداخل منه، والطريق الذي لم أجد غيري سابقا فيه، ولا مستخبرا. على أنه يلزم من ذكر العربان الموجودين في زماننا الكلام على قبائل العرب [البائدة] «8»

والعاربة والمستعربة لأنّ هؤلاء أغصان تلك الشجرة، وفروع تلك الأصول، فلنتكلّم عليهم على مقتضى ما ذكره المؤرخون، و [نسقهم] «1» إلى أن بزغت شمس الإسلام، وآن مولد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وكان الأولى أن نذكر ذلك في جملة سكان الأرض لنلحق بعضه ببعض، وإنما أتينا به لمناسبة بينه وبين الأبواب السابقة في ذكر الممالك، إذ مساكن العربان متخللة لأكثر الممالك التي ذكرناها، أو مجاورة لها، وإذا تقدم شيء عن موضعه [لمعنى] «2» اقتضاه وأحيل على المتقدم في موضعه كان أولى من تأخيره وإلفات النظر إليه فنقول: قسّم المؤرخون العرب إلى ثلاثة أقسام: بائدة وعاربة ومستعربة «3» . أما البائدة فهم العرب الأول الذين ذهبت عنا تفاصيل أخبارهم لتقادم عهدهم، وهم عاد وثمود وجرهم الأولى «4» . وأما العرب العاربة، فهم عرب اليمن من ولد قحطان. وأما العرب المستعربة، فهم من ولد إسماعيل بن إبراهيم عليهما السّلام.

< العرب البائدة >

(العرب البائدة) فالعرب البائدة: طسم وجديس، وكانت مساكن هاتين القبيلتين باليمامة «1» من جزيرة العرب، وكان الملك عليهم في طسم، واستمروا على ذلك برهة من الزمان حتى انتهى الملك إلى رجل ظلوم غشوم قد جعل (4) سنّته أن لا تهدى بكر من جديس إلى بعلها حتى تدخل عليه فيفترعها. ولما استمرّ ذلك على جديس أنفوا منه، واتفقوا على أن دفنوا سيوفهم في الرمل، وعملوا طعاما للملك ودعوه إليه، فلما حضر في خواصّه من طسم عمدت جديس إلى سيوفهم فانتزعوها من الرّمل وقتلوا الملك وغالب طسم، فهرب رجل من طسم وشكا إلى تبّع بن حسّان ملك اليمن، فسار ملك اليمن إلى جديس وأوقع بهم وأفناهم، فلم يبق لطسم وجديس ذكر بعد ذلك «2» .

< العرب العاربة >

(العرب العاربة) والعرب العاربة: بنو قحطان بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام «1» ، فمنهم بنو جرهم ابن قحطان «2» ، وكانت منازلهم بالحجاز، ولما أسكن إبراهيم الخليل ابنه إسماعيل عليهما السلام مكة، [كانت] «3» جرهم نازلين بالقرب من مكّة واتصلوا بإسماعيل وزوّجوه منهم، وصار من ولد إسماعيل العرب المستعربة لأنّ أصل إسماعيل ولسانه كان عبرانيا، فلذلك قيل له ولولده العرب المستعربة. ومن العرب العاربة: بنو سبأ، واسم سبأ عبد شمس، فلما أكثر الغزو والسّبي سمّي سبأ، وهو ابن يشجب بن يعرب بن قحطان، وسيأتي نسب قحطان، وكان لسبأ عدة أولاد، فمنهم حمير وكهلان «4» وغيرهم، وجميع قبائل اليمن وملوكها المتتابعة من ولد سبأ

المذكور، وجميع تبابعة اليمن من ولد حمير بن سبأ خلا عمران «1» وأخيه مزيقياء «2» فانهما ابنا عامر بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد، والأزد من ولد كهلان بن سبأ، وفي ذلك خلاف فنذكر هنا أحياء عرب اليمن وقبائلهم المنسوبين إلى سبأ المذكور، ونبدأ بذكر بني حمير بن سبأ، فإذا انتهوا ذكرنا كهلان بن سبأ حتى آخرهم إن شاء الله [تعالى] «3» .

< بنو حمير بن سبأ >

(بنو حمير بن سبأ) فمن بني حمير بن سبأ: التبابعة، ومنهم: قضاعة، وهو قضاعة بن مالك بن عمرو بن مرّة بن زيد بن مالك بن حمير «1» ، وكان قضاعة «5» مالكا لبلاد الشّحر «2» ، وقبر قضاعة في جبل الشّحر. ومن قضاعة كلب «3» ، وهم بنو كلب بن وبرة بن ثعلبة «4» بن حلوان بن [عمران] «5» ابن الحاف بن قضاعة. وكانت بنو كلب في الجاهلية ينزلون في دومة الجندل «6» وتبوك وأطراف الشّام.

ومن مشاهير كلب زهير بن جنّاب الكلبي «1» ، وهو القائل «2» : (الطويل) ألا أصبحت أسماء في الخمر تعذل ... وتزعم أني بالسّفاه موكّل فقلت لها كفي عتابك نصطبح ... وإلّا فبيني فالتعزّب أمثل ومنهم: حارثة الكلبيّ «3» ، وهو أبو زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قد أصاب ابنه سبي في الجاهلية، فصار إلى خديجة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم، فوهبته للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وأنشد ابن عبد البرّ في كتاب" الصحابة" «4» لحارثة المذكور يبكي ابنه زيدا لما فقده «5» : (الطويل) بكيت على زيد ولم أدر ما فعل ... أحيّ يرجّى أم أتى دونه الأجل تذكرنيه الشمس عند طلوعها ... وتعرض ذكراه إذا قارب الطّفل «6»

وإن [هبّت] «1» الأرواح هيّجن ذكره ... فيا طول ما حزني عليه ويا وجل ثم اجتمع حارثة بزيد ولده عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فخيّره رسول الله صلى الله عليه وسلم فاختاره على أبيه وأهله. ومن قضاعة بهراء «2» . ومن قضاعة جهينة «3» ، وهو قبيلة عظيمة ينسب إليها بطون كثيرة، وكانت منازلها بأطراف الحجاز الشّماليّ من جهة بحر جدّة. ومن قضاعة بليّ «4» . ومن قضاعة تنوخ «5» ، وكان بينهم وبين اللّخميين ملوك الحيرة حروب.

ومن قضاعة بنو سليح «1» ، وكان لهم بادية الشام فغلبهم عليها ملوك غسّان وأبادوهم. ومن قضاعة بنو [عذرة] «2» منهم عروة بن حزام «3» ، وجميل صاحب بثينة. ومن قضاعة بنو نهد «4» ، منهم الصقعب بن عمرو النّهديّ، وهو أبو خالد «5» بن الصّقعب، وكان رئيسا في الإسلام. ومن بطون حمير «6» : شعبان «6» ، ومنهم عامر الشّعبيّ «7» الفقيه. انتهى الكلام في بني حمير.

< بنو كهلان بن سبأ >

(بنو كهلان بن سبأ) ومن بني كهلان بن سبأ المذكور أحياء كثيرة والمشهور منها سبعة وهي: الأزد، وطيّ، ومذحج، وهمدان، وكندة، ومراد، وأنمار. (الأزد) أما الأزد «1» ، فهم من ولد الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن أدد بن زيد بن كهلان. فمن قبائلهم الغساسنة «2» ملوك الشّام، وهم بنو عمرو بن مازن بن الأزد «3» . ومنهم: الأوس والخزرج «4» أهل يثرب، وهم الأنصار رضي الله عنهم. ومن الأزد: خزاعة، وبارق، ودوس، والعتيك، وغافق، فهؤلاء بطون الأزد.

أما خزاعة «1» ، فإنها انخزعت عن غيرها من قبائل اليمن الذين تفرقوا من سيل العرم، وسكنت ببطن مرّ «2» على قرب من مكة، وحصلت لهم سدانة البيت والرئاسة، ولما اصطلح رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قريش في عام الحديبية دخلت خزاعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد اختلف في نسب خزاعة بين المعدّية واليمانيّة، والأكثر أنّها يمانية، والذي تنسب إليه خزاعة هو كعب [بن عمرو] «3» بن لحيّ «4» بن حارثة بن عمرو [مزيقياء] «5» بن عامر بن حارثة ابن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد، وقد ذكر عمرو [مزيقياء] «6» . وما زالت سدانة البيت في خزاعة حتى انتهت إلى رجل منهم يقال له أبو غبشان «7» ،

وكان في زمن قصيّ بن كلاب، فاجتمع مع قصيّ بالطائف على شرب، فأسكره قصيّ، وخدعه واشترى منه مفاتيح الكعبة بزقّ خمر، وأشهد عليه، وتسلم المفاتيح، وأرسل ابنه عبد الدار بن قصيّ بها إلى مكة، فلما وصل إليها رفع صوته، وقال: يا معاشر قريش هذه مفاتيح بيت أبيكم إسماعيل قد ردّها الله عليكم من غير عار ولا ظلم، فلما صحا الخزا (عيّ) ندم حيث لا تنفعه الندامة، فقيل:" أخسر من بني غبشان" «1» ، وأكثرت الشعراء القول في (7) ذلك، فمنه: (البسيط) باعت خزاعة بيت الله إذ سكرت ... بزقّ خمر فبئست صفقة البادي باعت سدانتها بالنّزر وانصرفت ... عن المقام وظلّ البيت والنّادي وجمع قصيّ أشتات قريش، وأخرج خزاعة من مكة. ومن خزاعة بنو المصطلق «2» الذين غزاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم «3» . وأما بارق «4» ، فهم من ولد عمرو مزيقياء الأزدي، نزلوا جبلا بجانب اليمن يقال له بارق فسمّوا به «5» .

ومنهم معقّر بن حمار البارقيّ «1» ذكره صاحب" الأغاني"، وهو صاحب القصيدة التي من جملتها البيت المشهور: (الطويل) وألقت عصاها واستقرّ بها النّوى ... كما قرّ عينا بالإياب المسافر وأما دوس «2» ، فهو ابن [عدثان] «3» بن عبد الله بن وهزان بن كعب بن الحارث بن كعب بن مالك بن نصر بن الأزد. وسكنت بنو دوس إحدى السّروات المطلة على تهامة، وكانت لهم دولة بأطراف العراق، وأول من ملك منهم مالك بن فهم بن غنم بن دوس «4» ، وقد تقدم ذكر مالك بن فهم ومن ملك بعده «5» . ومن الدّوس أبو هريرة، وقد اختلف في اسمه، والصحيح عمير بن عامر «6» . وأما العتيك «7» وغافق «8» فقبيلتان مشهورتان في الإسلام، وهم من ولد الأزد.

< طيئ >

ومن الأزد: بنو الجلندى «1» ملوك عمان، والجلندى لقب لكلّ من ملك عمان منهم، وكان ملك عمان في أيام الإسلام، قد انتهى إلى [جيفر وعبّاد] «2» ابني الجلندى، وأسلما مع أهل عمان على يد عمرو بن العاص، انتهى الكلام في الأزد. (طيئ) وأما طيئ «3» ، فإنها نزلت بعد الخروج من اليمن بسبب سيل العرم بنجد الحجاز في جبلي أجأ وسلمى فعرفا بجبلي طيئ «4» إلى يومنا هذا. وأما طيئ فهو [ابن] «5» أدد بن زيد بن كهلان «6» ، فمن بطون طيئ: جديلة «7» ونبهان «8»

وبولان «1» وسلامان «2» وهنيء «3» وسدوس «4» - بضم السين- وأما سدوس «5» التي في قبائل» ربيعة بن نزار فمفتوحة السّين. ومن سلامان: بنو بحتر «6» . ومن هنيء: إياس بن قبيصة الذي ملك بعد النّعمان «7» . ومن طيّئ: عمرو بن المسبّح» ، وهو من بني ثعل الطائيّ «9» ، وكان عمرو أرمى الناس، وفيه يقول امرؤ القيس: (المديد)

< مذحج >

ربّ رام من بني ثعل ... مخرج كفيه من ستره «1» ومن بني ثعل الطائيّ زيد الخيل، وسمّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد الخير «2» . ومن طيئ حاتم طيئ المشهور بالكرم. (مذحج) وأما بنو مذحج «3» ، واسم مذحج مالك بن أدد «4» بن زيد بن كهلان، وهم بطون كثيرة فمنها: خولان «5» و [جنب] «6» ، ومنهم معاوية الخير الجنبي «7» صاحب لواء مذحج في

حرب بني وائل، وكان مع تغلب «1» . ومن مذحج أود «2» قبيلة الأفوه الأوديّ الشاعر «3» . ومن بني مذحج بنو سعد العشيرة «4» ، وسمّي بذلك لأنّه لم يمت حتى ركب معه من ولده وولد ولده ثلاث مئة رجل، وكان إذا سئل عنهم يقول: هؤلاء عشيرتي دفعا للعين عنهم، فقيل له: سعد العشيرة لذلك. ومن بطون سعد العشيرة [جعفيّ] «5» ، وزبيد «6» قبيلة عمرو بن معدي كرب الزّبيديّ «7» . ومن بطون مذحج النّخع «8» ، ومنهم الأشتر (النّخعيّ) واسمه مالك بن

< همدان >

الحارث «1» صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه. ومن النّخع سنان بن أنس قاتل الحسين. ومنهم القاضي شريك «2» . ومن مذحج عنس بالنون «3» ، وهي قبيلة الأسود الكذاب العنسي. وعنس أيضا رهط عمار بن ياسر «4» صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. (همدان) وأما همدان «5» ، فهم من ولد ربيعة بن حيان بن مالك بن زيد بن كهلان، ولهم صيت في الجاهلية والإسلام.

< كندة >

(كندة) وأما كندة «1» ، فهم بنو ثور، وثور هو كندة بن عفير بن [عديّ] «2» بن الحارث من ولد زيد بن كهلان، وسمّي كندة لأنه كند أباه، أي كفر نعمته. وبلاد كندة باليمن تلي حضرموت، وقد تقدم ذكر (9) ملوكهم «3» . ومن كندة حجر بن عديّ «4» صاحب عليّ بن أبي طالب، قتله معاوية صبرا. ومنهم شريح القاضي «5» . ومن بطون كندة السّكاسك «6» .

< مراد >

والسّكون بنو أشرس بن كندة «1» . فمن السّكون معاوية بن خديج قاتل محمد بن أبي بكر الصّديق «2» رضي الله عنهما. ومنهم حصين بن نمير السّكونيّ» الذي صار صاحب جيش يزيد بن معاوية بعد مسلم بن عقبة (صاحب) نوبة الحرّة «4» بظاهر مدينة الرسول صلّى الله عليه وسلّم. (مراد) وأما مراد «5» فبلادهم إلى جانب زبيد من جبال اليمن، وإليه نسب كلّ مراديّ من عرب اليمن.

< أنمار >

(أنمار) وأما أنمار «1» ففرعان وهما: بجيلة وخثعم «2» ، وبجيلة رهط جرير بن عبد الله «3» صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يقال لهذا جرير يوسف الأمة «4» لحسنه وفيه قيل «5» : (الرجز) لولا جرير هلكت بجيلة ... نعم الفتى وبئست القبيلة (بنو عمرو بن سبأ) وأما القبائل المنتسبة إلى عمرو بن سبأ «6» فمنهم لخم بن عديّ بن عمرو بن سبأ «7» .

< بنو الأشعر بن سبأ >

ومن لخم بنو الدار «1» رهط تميم الدّاريّ «2» . ومن لخم المناذرة ملوك الحيرة، وهم بنو عمرو ابن عديّ بن نصر اللخميّ «3» ، وكانت دولتهم من أعظم دول العرب، وقد ذكرناهم «4» . ومنهم [جذام بن عديّ بن عمرو بن] «5» سبأ، وهو أخو لخم، وجميع جذام من ابنيه حرام وحشم «6» . وكان في بني جذام «7» الشرف، ومن بطون حشم بن جذام عتيب بن أسلم «8» . (بنو الأشعر بن سبأ) أما بنو الأشعر بن سبأ «9» ، فهم الأشعريون، وهم رهط أبي موسى، واسمه عبد الله بن قيس «10» .

< بنو عاملة بن سبأ >

(بنو عاملة بن سبأ) وأما بنو عاملة بن سبأ «1» فمن القبائل الثمانية «2» التي خرجت إلى الشام زمن سيل العرم، ونزلوا قرب دمشق في جبل عاملة «3» . فمن عاملة عديّ بن الرّقاع «4» الشاعر. (العرب المستعربة) وأما العرب المستعربة فهم ولد إسماعيل، وقيل لهم المستعربة لأنّ إسماعيل لم يكن لغته عربية بل عبرانية (10) ودخل في العربية فلذلك سمّي ولده المستعربة. سبب سكنى إسماعيل وأمّه مكة [أنّ] «5» ذلك كان بسبب سارة رضي الله عنها، وأنّ الله تعالى أمر إبراهيم أن يطيع سارة، وأن يخرج إسماعيل عنها، فخرج إبراهيم من الشام ومعه إسماعيل، وقدم بهما مكة، وقال: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ «6» فأنزلهما إبراهيم هناك وعاد إلى الشام، وكان عمر إسماعيل أربع

عشرة سنة، وذلك لمضيّ مئة سنة من عمر إبراهيم، فمن سكنى إسماعيل عليه السلام مكة إلى الهجرة ألفان وسبع مئة وثلاث وتسعون سنة، وكان هناك قبائل جرهم، فتزوج إسماعيل منهم امرأة، وولدت له اثني عشر ولدا ذكرا فمنهم قيدار، وماتت هاجر ودفنت بالحجر «1» ، ومات إسماعيل ودفن معها، وقد اختلف المؤرخون كثيرا في أمر ملك جرهم على الحجازيين وبني إسماعيل، فمن قائل: الملك على الحجازيين في جرهم ومفتاح الكعبة في ولد إسماعيل، ومن قائل إنّ قيدار توّجته أخواله، وعقدوا له الملك عليهم بالحجاز، وأما سدانة البيت ومفاتيحه فكانت مع بني إسماعيل بغير خلاف حتى انتهى ذلك إلى نابت من بني إسماعيل، فصارت السّدانة بعده لجرهم، ويدلّ على ذلك قول عامر بن الحارث الجرهمي «2» من قصيدته منها: (الطويل) وكنّا ولاة البيت من بعد نابت ... نطوف بذاك البيت والأمر ظاهر كأن لم يكن بين الحجون «3» إلى الصّفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر بلى نحن كنّا أهلها فأبادنا ... صروف الليالي والجدود العواثر ثم ولد لقيدار ابنه حمل، ثمّ ولد لحمل نبت، ويقال: نابت، وقيل: هو ابن قيدار، وقيل: ابن إسماعيل، وفي ذلك خلاف.

< ذكر النسب النبوي الشريف >

ثم ولد لنبت سلامان، ثم ولد لسلامان الهميسع، ثم ولد للهميسع اليسع، ثمّ ولد (11) لليسع أدد، ثم ولد لأدد أدّ، ثم ولد لأدّ ابنه عدنان «1» ثم ولد لعدنان ولدان، وهما عكّ، ومنه بنو عكّ «2» ، ومعدّ «3» ، ثم ولد لمعدّ قضاعة «4» ومنه بنو قضاعة، ونزار «5» . (ذكر النسب النبوي الشريف) ثم ولد لنزار أربعة فمنهم مضر «6» على عمود النّسب النّبويّ، وثلاثة خارجون عن النّسب. أولهم إياد «7» ، وكان أكبر من مضر، وإليه يرجع كلّ إياديّ من بني معدّ، وفارق إياد الحجاز وسار بأهله إلى أطراف العراق، فمن بني إياد كعب بن مامة الإياديّ «8» ، وكان

يضرب بجوده المثل. والثاني ربيعة «1» ، ويعرف بربيعة الفرس لأنه ورث الخيل من أبيه، وولد لربيعة أسد «2» وضبيعة «3» ، فولد لأسد جديلة «4» وعنزة «5» ، ومن جديلة وائل «6» ، ومن وائل بكر «7» وتغلب «8» ، فمن تغلب كليب ملك بني وائل، وقتله جسّاس. ومن بكر بن وائل بنو شيبان «9» ، ومن رجالهم مرّة «10» وابنه جسّاس قاتل كليب، وطرفة ابن العبد الشاعر.

ومن بكر المرقشان الأكبر «1» والأصغر «2» . ومن بكر بنو حنيفة «3» ، ومنهم مسيلمة الكذّاب. وأما [عنزة] «4» بن أسد بن ربيعة فمنه بنو عنزة وهم أهل خيبر. ومن بني عنزة القارظان «5» . وأما ضبيعة بن ربيعة فمن ولده [المتلمّس] «6» الضّبعيّ الشاعر.

ومن قبائل ربيعة النّمر «1» ، ولجيم «2» ، والعجل «3» ، وبنو عبد القيس «4» و [هم] «5» من ولد أسد بن ربيعة. ومن ولد ربيعة سدوس «6» - بفتح السّين- واللهازم «7» . والثالث أنمار «8» ، ومضى أنمار إلى اليمن، فتناسل بنوه بتلك الجهات، وحسبوا من اليمن. (و) لما حضرت نزار الوفاة «9» ، دعا إيادا وعنده جارية شمطاء، وقال: هذه الجارية

[الشمطاء] «1» وما أشبهها «2» لك. [ودعا أنمارا، وهو في مجلس له، وقال: هذه البدرة «3» والمجلس وما أشبهها «2» لك] «1» . ودعا ربيعة فأعطاه حبالا سودا من شعر، وقال: هذا وما أشبهه «2» لك. «4» وأعطى مضر قبة حمراء، وقال: هذه وما أشبهها «2» لك، ثم قال: وإن أشكل عليكم شيء فأتوا الأفعى بن (12) الأفعى الجرهميّ «5» ، وكان ملك نجران. فلما مات نزار ركبوا رواحلهم آمّين الأفعى، فلما كانوا من نجران على يوم إذا هم بأثر بعير، فقال إياد: بعير أعور، فقال أنمار: وإنّه لأبتر، فقال ربيعة: وإنه لأزور، وقال مضر: وشارد لا يستقرّ، فلم ينشبوا أن وقع لهم راكب، فلما غشيهم قال: هل رأيتم من بعير ضال؟ فوصفوه له، فقال: إنّ هذه لصفته عينا فأين بعيري؟ قالوا: ما رأيناه، قال: أنتم

أصحاب بعيري وما أخطأتم من نعته شيئا [فتبعهم حتى قدموا نجران] «1» ، فلما أناخوا بباب الأفعى واستأذنوه وأذن لهم، صاح الرجل بالباب، فدعا به الأفعى وقال: ما تقول؟ قال: أيها الملك ذهب هؤلاء ببعيري، فسألهم الأفعى عن شأنه فأخبروه، فقال لإياد: ما يدريك أنّه أعور؟ قال: قد رأيته قد لحس الكلأ [من شقّ] «2» والشّقّ الآخر وافر، وقال أنمار: إنّما رأيته يرمي بعره مجتمعا ولو كان أهلب لمصع به فعلمت أنّه أبتر، وقال ربيعة: [رأيت] «1» أثر إحدى يديه [ثابتا] «3» وأثر الأخرى فاسد (ا) ، فعلمت أنّه أزور، وقال مضر: رأيته يرعى الشّقّة من الأرض ثم يتعداها فيمرّ بالكلإ [الملتفّ] «1» الغضّ فلا ينهش منه شيئا فعلمت أنّه شرود، فقال الأفعى: صدقتم [قد أصابوا أثر بعيرك] «1» وليسوا بأصحابك فالتمس بعيرك. ثم سألهم الأفعى عن نسبهم فأعلموه، فرحب بهم وحيّاهم ثم قصّوا عليه قصة أبيهم فقال لهم: كيف تحتاجون إليّ وأنتم على ما أرى؟ قالوا: قد أمرنا بذلك أبونا، فأمر خادم دار ضيافته أن يحسن إليهم ويكرم مثواهم، وأمر وصيفا له أن يلزمهم ويتفقد كلامهم، فأتاهم القهرمان بشهد فأكلوه، وقالوا: ما رأينا شهدا أعذب ولا أحسن منه، فقال إياد: صدقتم لولا أن نحله [ألقاه] «1» في هامة جبار، ثم جاءهم بشاة مشويّة فأكلوها واستطابوها، فقال أنمار (13) صدقتم لولا أنها غذّيت بلبن كلبة، ثم جاءهم بالشراب فاستحسنوه فقال

ربيعة: صدقتم لولا أنّ كرمته نبتت على قبر، ثم قالوا: ما رأينا منزلا أكرم قرى ولا أخصب [رحلا] «1» من هذا الملك، فقال مضر: صدقتم لولا أنّه لغير أبيه، فذهب الغلام إلى الأفعى فأخبره، فدخل الأفعى إلى أمّه، فقال: أقسمت عليك إلا ما [أخبرتني] «2» [من أنا و] «3» من أبي، قالت: أنت الأفعى ابن الملك الأكبر، قال: حقا لتصدقينني، فلما ألح عليها قالت: أيّ بنيّ: إنّ الأفعى كان شيخا قد أثقل فخشيت أن يخرج هذا الأمر عنا أهل البيت، وكان عندنا شاب من أبناء الملوك «4» اشتملت عليك منه، ثم بعث إلى القهرمان، فقال: أخبرني عن الشّهد الذي قدمته إلى هؤلاء النفر ما خطبه؟ قال: [أخبرنا بدبر] «5» في كهف «6» فيه عظام نخرة وإذا النحل قد عسلت في جمجمة من تلك العظام فأمرت باشتياره «7» فأتوا بعسل لم ير مثله قطّ، فقدمته إليهم لجودته، ثم بعث إلى صاحب مائدته، فقال ما هذه الشاة التي أطعمتها هؤلاء النفر؟ قال: إني [بعثت] «8» إلى الراعي أن يبعث لي بأسمن ما عنده، فبعث بها، فسألته عنها، فقال: إنها أول ما ولدت من غنمي فماتت أمّها [وكانت كلبة لي قد وضعت] «3» وأنست السّخلة بجراء الكلبة ترضع معهم فلم أجد في غنمي

مثلها، فبعثت بها إليك، ثم بعث إلى صاحب الشراب فسأله عن شأن الخمر فقال: هي كرمة غرستها على قبر أبيك فليس في بلاد العرب مثل شرابها، فعجب الأفعى من القوم، وقال: ما هم إلا شياطين، ثم أحضرهم وسألهم عن وصية أبيهم. فقال إياد: جعل لي خادما شمطاء وما أشبهها، فقال الأفعى: إنه ترك غنما برشا فهي لك ورعاؤها مع الخادم. وقال أنمار: جعل لي بدرة ومجلسه وما أشبههما «1» ، فقال: لك ما ترك من الرقّة والأرض. وقال ربيعة: جعل لي حبالا سودا (14) وما أشبهها «2» ، فقال: ترك أبوك خيلا دهما وسلاحا فذلك لك وما فيها من عبيد، فقيل: ربيعة الفرس. وقال مضر: جعل لي قبة حمراء وما أشبهها «1» ، قال: إنّ أباك ترك إبلا حمرا فهي لك (وما أشبهها) ، فقيل: مضر الحمراء، فكانوا كذلك حينا من الدهر إلى أن أصابتهم سنة فهلكت الشاة وعامة الإبل [وبقيت الخيل] «3» وذهبت بالرقّة والمتاع، وكان ربيعة يغزو على خيله ويغير ويعول إخوته، وكان سبب تحول أنمار إلى اليمن أنّه تعرق عظما في جنح الليل ثمّ دحا به وهو لا يبصر فققأ عين مضر، فصاح مضر [عيني عيني] «4» وتشاغل به إخوته

فاعرورى أنمار بعيرا من إبله فلحق بأرض اليمن. ثم ولد لمضر المقدم ذكره إلياس «1» على عمود النسب، وولد له خارجا عن عمود النّسب قيس عيلان «2» بن مضر بالعين، وقيل: إنّ عيلان فرسه، وقيل: كلبه، وقيل: عيلان أخو قيس وهو [إلياس] «3» بن مضر، وقد جعل الله تعالى من الكثرة لقيس أمرا عظيما. فمن ولده قبائل هوازن «4» ، ومن هوازن بنو سعد بن بكر بن هوازن «5» الذين كان فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم رضيعا. ومن قبائل قيس بنو كلاب «6» ، وصار منهم أصحاب حلب وكان أولهم صالح بن مرداس «7» .

[ومن قبائل قيس بنو عقيل] «1» الذين كان منهم ملوك الموصل المقلد «2» والقرواش «3» وغيرهما. (و) من ولد قيس بنو عامر «4» ، وصعصعة «5» وخفاجة «6» ، وما زالت لخفاجة إمرة العراق من قديم وإلى الآن. ومن هوازن أيضا بنو ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان «7» . ومن هوازن أيضا جشم بن معاوية بن بكر بن هوازن «8» ومن جشم دريد بن الصّمّة «9» .

ومن قيس أيضا بكر «1» ، وبنو هلال «2» ، وثقيف «3» ، واسم ثقيف عمرو «4» بن منبّه [بن بكر] «5» بن هوازن وقد قيل (15) إنّ ثقيفا من إياد، وقيل: من بقايا ثمود، وهم أهل الطائف. ومن قيس عيلان أيضا بنو نمير «6» ، وباهلة «7» ، ومازن «8» ، وغطفان وهو ابن سعد بن قيس عيلان «9» . ومن قيس أيضا بنو عبس بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس عيلان «10» ،

وكان بين عبس وذبيان «1» حروب داحس المقدم ذكرها «2» . ومن بني عبس عنترة العبسيّ، وادعاه أبو (هـ) شداد بعد أن كبر. ومن قيس أشجع «3» ، وهم أيضا من ولد غطفان. ومن قيس قبائل سليم «4» . ومن قيس بنو ذبيان بن بغيض، ومن بني ذبيان المذكورين بنو فزارة «5» ، فمنهم حصن بن حذيفة بن بدر الذي يمدحه زهير بقوله «6» : (الطويل) تراه إذا ما جئته متهلّلا ... كأنك تعطيه الذي أنت سائله وأسلم حصن ثمّ نافق، وكان بين ذبيان وبين عبس إحن وحروب معروفة. ومن بني ذبيان النابغة الذّبيانيّ.

ومن قيس: عدوان بن عمرو بن قيس عيلان «1» ، وكانوا ينزلون الطّائف قبل ثقيف، ومنهم ذو الإصبع العدوانيّ الشاعر «2» . انتهى الكلام عن قيس. وولد لإلياس مدركة «3» على عمود النّسب، وولد له خارجا عن العمود طابخة «4» ، وبعضهم ينسب مدركة وطابخة «5» إلى أمّهما خندف واسمها ليلى بنت حلوان بن عمران ابن الحاف بن قضاعة «6» وجميع أولاد إلياس من خندف، وإليها ينسبون دون أبيهم فيقولون: بني خندف ولا يذكرون إلياس. وصار من طابخة الخارج عن العمود قبائل فمنهم: بنو تميم بن طابخة «7» ، والرباب «8» ،

وبنو ضبّة» ، وبنو مزينة «2» وهم بنو عمرو بن أد بن طابخة نسبوا إلى أمهم مزينة بنت كلب بن وبرة. ثم ولد لمدركة بن إلياس خزيمة «3» على عمود النّسب، وولد له خارجا عن العمود هذيل «4» وغالب «5» وسعد «6» وقيس المنسوب إليهم أبناؤهم ومن هذيل (16) جميع قبائل الهذليين فمنهم عبد الله بن مسعود صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو ذؤيب الهذليّ «7» الشاعر، وغيره. ثم ولد لخزيمة المذكور كنانة «8» على عمود النّسب، وولد له خارجا عن العمود الهون

وأسد ابنا خزيمة، فمن الهون «1» عضل، وهي قبيلة، أبو هم [عضل] «2» بن الهون بن خزيمة «3» . ومنه أيضا الدّيش بن الهون وهو أخو عضل «4» ويقال لهاتين القبيلتين وهما عضل والدّيش القارّة «5» . وأما أسد بن خزيمة «6» فمنه الكاهلية «7» ودودان «8» وغيرهما، وإليه يرجع كلّ أسديّ. ثم ولد لكنانة المذكور النّضر بن كنانة «9» على عمود النّسب، فكان للنّضر عدة إخوة ليسوا على العمود وهم ملكان «10» ، وعبد مناة، وعمرو، وعامر، ومالك أولاد كنانة،

فصار من ملكان بنو ملكان، وصار من عبد مناة «1» عدة بطون، وهم بنو غفار «2» رهط أبي ذرّ، وبنو بكر «3» ، ومن بني بكر الدّئل «4» رهط أبي الأسود الدّؤلي «5» ، ومن بطون عبد مناة بنو ليث «6» ، وبنو الحارث «7» ، وبنو مدلج «8» ، وبنو ضمرة «9» ، وصار من عمرو ابن كنانة «10» العمريّون، ومن أخيه عامر «11» العامريون، ومن مالك بن كنانة «12» بنو

فراس «1» ، ومن بطون كنانة الأحابيش «2» ، وليسوا من الحبشة بل هم من عرب كنانة فهؤلاء إخوة النّضر وولدهم، وأما النّضر فقيل إنه قريش، والصّحيح أن قريشا هم بنو فهر. وولد للنّضر مالك «3» على عمود النّسب، (وولد له خارجا عن العمود) الصّلت «4» ، ويخلد «5» . وولد لمالك فهر «6» على عمود النّسب، وفهر هو قريش وكلّ من كان من ولده فهو قرشي «7» وسمي قريشا لشدّتة تشبيها له بدابة من دوابّ البحر يقال لها القرش، وقيل: إنّ قصيّا لما استولى على البيت وجمع أشتات بني فهر حول الحرم سمّوا قريشا لأنّه قرشهم أي

جمعهم كذا نقل ابن سعيد المغربي، فعلى هذا يكون لفظة قريش اسما لبني فهر لا له، ولم يولد لمالك (17) غير فهر على عمود النّسب. وولد لفهر غالب «1» على عمود النّسب، وولد له خارجا عن العمود ولدان محارب والحارث. فمن محارب «2» بنو محارب وهم شيبان «3» . ومن الحارث «4» بنو الخلج «5» ، ومنهم أبو عبيدة بن الجراح أحد العشرة رضي الله عنهم. ثم ولد لغالب لؤيّ «6» على عمود النّسب، وولد له خارجا عن العمود تيم «7» الأدرم، والأدرم الناقص الذقن، ومن تيم بنو تيم الأدرم، وكان لؤيّ سيد قومه فاق شجاعة وكرما وحلما وخطابة، وكان ذا مال وإبل كثيرة، وحكي أنه ندّ له بعير فخرج يردّه فاستصعب فتناول حجرا فضربه به في جبهته فأنفذه من الجانب الأخر، فعجب لذلك، ثم أخذ الحجر فوجده حديدا أخضر فأتى به قينا من يهود فقال له: اطبع هذا سيوفا، ثم أتاه يتقاضاه نجازها، وكانت قد نجزت، فأخذ القين سيفا منها وهزّه بيده ثم قال: (الطويل)

سيوف حداد يالؤيّ بن غالب ... حداد ولكن أين بالسّيف ضارب فتناوله لؤيّ بيده، وضرب به عنقه. ثم ولد للؤيّ أولاد: كعب «1» على عمود النّسب وإخوته خارجون عن العمود، وهم سعد «2» ، وخزيمة «3» ، والحارث «4» ، و [هو] «5» جشم «6» ، وعوف «7» وعمرو وعامر «8» و [سامة] «9» أولاد لؤيّ بن غالب، ولكلّ منهم ولد ينسبون إليه خلا الحارث. ومن ولد عامر بن لؤيّ بن عمرو بن عبد ودّ فارس العرب [الذي قتله] «10» عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه. ثم ولد لكعب مرّة «11» على عمود النّسب، وولد له خارجا عن العمود هصيص وعديّ ابنا كعب.

فمن هصيص «1» بنو جمح «2» ، ومن مشاهيرهم أمية بن خلف «3» عدوّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأخوه أبيّ بن خلف «4» وكان مثله في العداوة. ومن هصيص أيضا بنو سهم «5» ، ومن بني سهم عمرو بن العاص السهمي. ومن عديّ بن كعب» بنو عديّ، ومنهم عمر بن الخطاب (18) وسعيد بن زيد «7» من العشرة رضي الله عنه. ثم ولد لمرّة على عمود النّسب ابنه كلاب «8» ، وولد له خارجا عن العمود تيم ويقظة. فمن تيم «9» بنو تيم، ومنهم أبو بكر الصدّيق، وطلحة من العشرة رضي الله عنهم.

ومن يقظة «1» بنو مخزوم «2» ، ومنهم خالد بن الوليد رضي الله عنه، وأبو جهل بن هشام، واسمه عمرو المخزوميّ. ثم ولد لكلاب قصيّ «3» على عمود النّسب، وولد له خارجا عن العمود زهرة «4» ، ومنه بنو زهرة (ومنهم) سعد بن أبي وقّاص أحد العشرة، ونسب آمنة أمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونسب عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم. وقصيّ كان عظيما في قريش، وهو الذي استعاد سدانة البيت من خزاعة، وجمع قريشا، وأثّل مجدهم، وجاء الإسلام وهو على ذلك في التعظيم لشأنه، وكانوا لا يبرمون أمرا إلا بدار النّدوة لأنها كانت داره، وبه اجتمعت قبائل قريش في الحرم وفي ذلك يقول الشاعر «5» : (الطويل) أبوكم قصيّ كان يدعى مجمّعا ... به جمع الله القبائل من فهر ثم ولد لقصيّ عبد مناف «6» ، واسمه المغيرة على عمود النّسب، وولد له خارجا عن العمود عبد الدار وعبد العزّى ابنا قصيّ.

فمن بني عبد الدّار «1» بنو شيبة «2» الحجبة. ومن ولد عبد الدّار النّضر بن الحارث، وكان شديد العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر صبرا «3» . ومن عبد العزّى «4» خديجة بنت خويلد زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم. ومن عبد العزّى ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزّى. ولبني عبد مناف في قريش النسب الصميم والحسب الكريم، وإلى هذا أشار أبو طالب عمّ النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله «5» : (الطويل) إذا افتخرت يوما قريش بمفخر ... فعبد مناف أصلها وصميمها (19) وولد عبد مناف أربعة أبناء، وهم: نوفل «6» وعبد شمس «7» والمطّلب «8»

وهاشم «1» ، ويقال: إنّ عبد شمس و [هاشما] «2» شقّ التّوم، ولدا لبطن وجلداهما معتلقان، فلما فرّقا سال بينهما الدم، فقالوا: إنه سيكون بينهما، وهكذا كان، وقد تظارف من قال: (الخفيف) عبد شمس قد أو قدت لبني ها ... شم نارا يشيب منها الوليد فابن حرب للمصطفى، وابن هند ... لعليّ، وللحسين يزيد «3» وكان نوفل وعبد شمس متآلفين بينهما منافرين [هاشما] «4» والمطّلب، وكذلك كان هاشم والمطّلب متآلفين بينهما منافرين لنوفل وعبد شمس مذ كانوا، ولم يفترق هاشم والمطّلب في جاهلية ولا إسلام، وإلى هذا أشار النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله: [ «إنهم لم يفارقوني في جاهلية ولا إسلام، وإنما هم بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد» ] «5» ، ولهذا حرّمت الصدقة على بني [المطّلب] «6» مع بني هاشم ولم تحرّم على نوفل وعبد شمس، وكلّهم لأب.

فأما عبد شمس فهو أبو أمية «1» المنسوب إليه كلّ أمويّ، ومنه أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه، وهو عثمان بن عفّان بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف. ومنه معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية. ومنه مروان بن الحكم بن أبي العاصي بن أمية «2» ، وسيأتي إن شاء الله [تعالى] «3» ذكر معاوية ومروان وأبنائهما فيما بعد لمكانهما وأولادهما من الخلافة في موضعه. ومن ولد المطّلب الإمام الشافعيّ، وهو محمد بن إدريس بن العباس [بن عثمان] «4» بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن [المطّلب] «5» . وأما الابن الرابع من بني عبد مناف الذي علا قدره بأبنائه فهو هاشم، وعليه عمود النّسب فإليه انتهت سيادة قومه وكانت إليه الرّفادة والسّقاية، وكان رجلا موسرا، وكان إذا حضر الحجّ قام في قريش فقال «6» : «يا معشر قريش! إنكم جيران الله وأهل بيته، وإنه يأتيكم في هذا الموسم زوار الله

وحجّاج بيته (20) وهم ضيوف الله وأحقّ الضيف بالكرامة ضيفه، فاجمعوا لهم ما تصنعون لهم به طعاما أيامهم هذه التي لا بدّ لهم من الإقامة بها، فو الله لو كان مالي يسع ذلك ما كلفتكموه. [فيخرجون] «1» لذلك خرجا من [أموالهم] » كلّ امرئ بقدر ما عنده فيصنع به للحاجّ طعاما حتى يصدروا منها. وكان هاشم أول من سنّ الرّحلتين لقريش رحلة الشتاء والصيف وأول من أطعم الثّريد بمكة، وإنما كان اسمه عمرا فسمي هاشما لهشمه الثّريد بمكة فقال بعض العرب «3» : (الكامل) عمرو الذي هشم الثّريد لقومه ... قوم بمكة مسنتين عجاف كانت إليه الرّحلتان كلاهما ... سفر الشتاء ورحلة المصطاف وقبر هاشم بغزّة من الشام. (و) ولد (هاشم) ولدين «4» : أحدهما أسد أبو فاطمة «5» أمّ أمير المؤمنين عليّ عليه

السّلام، وعبد المطّلب «1» وعليه عمود النسب، وهو حفر بئر زمزم لرؤيا رآها، وكانت قد تتابعت على قريش سنون أقحلت الضّرع، وأذهبت العظم، فرأت رقيقة بنت [أبي] «2» صيفيّ بن هاشم «3» في منامها هاتفا يقول «4» : يا معشر قريش! إنّ هذا النبيّ المبعوث منكم قد أظلتكم أيامه فحيهلا بالخصب فانظروا رجلا منكم وسيطا، ووصف صفة عبد المطلب، فليخلص هو وولده وليهبط إليه من كلّ بطن رجل، فليسنوا من الماء «5» ، وليمسوا من الطيب واستلموا الركن ثم ارتقوا أبا قبيس، وليستسق الرجل وليؤمّن القوم فغثتم ما شئتم، فأصبحت رقيقة مذعورة، وقصّت رؤياها فقيل: هو شيبة الحمد عبد المطّلب ففعل ومعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غلام قد أيفع أو كرب، فقال: اللهمّ سادّ الخلّة وكاشف الكربة أنت معلّم غير معلّم، ومسئول غير مبخّل، وهذه عبدّاؤك وإماؤك بعذرات حرمك يشكون إليك سنتهم أذهبت الخفّ (21) والظّلف، اللهم فأمطر غيثا مغدقا ضريعا، قالت رقيقة: فو ربّ الكعبة ما راحوا حتى تفجرت السّماء بمائها، واكتظّ الوادي بثجيجه، فسمعت سادات قريش يقولون لعبد المطّلب: هنيئا لك أبا البطحاء أي عاش بك أهل البطحاء، وقالت رقيقة: (البسيط) بشيبة الحمد أسقى الله بلدتنا ... لما فقدنا الحيا واجلوّذ المطر

فجاد بالماء جونيّ له سبل ... سحّا فعاشت به الأنعام والشّجر مبارك الأمر يستسقى الغمام به ... ما في الأنام له عدل ولا خطر وولد عبد المطّلب عشرة أولاد «1» الذين أعقب منهم ستة: حمزة والعباس رضي الله عنهما وأبو طالب وأبو لهب والحارث وعبد الله. فأما حمزة فانقرض عقبه. وأما العباس رضي الله عنه فكانت إليه السّقاية (و) الرّفادة بعد أبيه عبد المطّلب، وفي سقيا الحجيج والفخر بزمزم، يقول القائل «2» : (الهزج) ورثنا المجد من آبا ... ئنا فسما بنا صعدا ألم نسق الحجيج ونن ... حر الدلافة الرّفدا فإن نهلك ولم نملك ... ومن ذا خالد خلدا فزمزم في أرومتنا ... ونفقأ عين من حسدا وهو أبو الخلفاء قدس الله أرواحهم، وسيأتي ذكرهم إن شاء الله تعالى في مكانه. وأما أبو لهب والحارث فلهما عقب باق. وأما أبو طالب فقد كثّر الله بركات البضعة الطاهرة النّبوية (من) أبنائه، ووصل نسبه وحسبه.

وكان عمر رضي الله عنه خطب أمّ كلثوم «1» إلى عليّ رضي الله عنه فقال عليّ: إنّها صغيرة، فقال عمر: زوّجنيها يا أبا الحسن، فإني أرصد من كرامتها ما لا يرصد أحد، فقال له عليّ: أنا أبعثها إليك، فإن رضيتها فقد زوجتكها، فبعثها إليه ببرد، وقال لها: قولي له هذا البرد الذي قلت لك، فقالت ذلك لعمر، فقال: قولي له قد رضيته رضي الله عنك، ووضع يده على ساقها فكشفها (22) فقالت له: أتفعل هذا! لولا أنّك أمير المؤمنين لكسرت أنفك، ثم خرجت حتى جاءت أباها وأخبرته الخبر، وقالت: بعثتني إلى شيخ سوء، فقال: مهلا يا بنية فإنّه زوجك، فجاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى مجلس المهاجرين في الروضة «2» (حيث) كان يجلس فيه المهاجرون الأوّلون، فجلس إليهم، وقال: رفئوني، فقالوا: بماذا يا أمير المؤمنين؟ قال: تزوجت أمّ كلثوم بنت عليّ بن أبي طالب، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «3» :" كلّ نسب وسبب وصهر منقطع يوم القيامة إلا نسبي وسببي وصهري" فكان لي به صلىّ الله عليه وسلّم النسب والسبب وأردت أن

أجمع إليه الصّهر فرفّؤوه. وولد أبو طالب أبناء ثلاثة، وهم: عقيل، وجعفر الطيار، وأمير المؤمنين وابن عمّ سيد المرسلين الواجب الحبّ أبو الحسن عليّ عليه وعليهما السّلام «1» ، ولكلّ من عقيل وجعفر وعليّ أبناء «2» ، وسنذكر المشاهير من أبناء عليّ رضي الله عنه إن شاء الله، فعليهم عمود النّسب المتصل بالنبيّ صلى الله عليه وسلم. وأما عبد الله فعليه عمود نسب النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو أبو سيدنا ونبيّنا وشفيعنا محمد خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم. انتهى الكلام على طوائف العرب البائدة والعاربة والمستعربة بتوفيق الله سبحانه وتعالى.

< طوائف العرب الموجودين في زماننا >

(طوائف العرب الموجودين في زماننا) (عرب الشام) وأما طوائف العرب الموجدين في زماننا فهم: عرب الشّام ثعلبة «1» الشام تلي مصر إلى الخروبة «2» وهم من درما «3» [آل] «4» غياث الجواهرة «5» ، ومن الحنابلة «6» ، ومن بني وهم «7» ، ومن الصّبيحيين «8» ، ومن أحلافهم فرقة من النّعيميين «9» ، ومن العار والخمان «10» . ثم جرم «11» ، وهي ببلاد غزة والداروم «12» مما يلي الساحل إلى الجبل وبلد الخليل عليه

السّلام، وفي العروب «1» جروم كثيرة: جرم قضاعة «2» ، ومنهم بنو جشم «3» ، وبنو قدامة «4» ، وبنو عوف «5» ، (23) وجرم بجيلة «6» وجرم عاملة «7» وجرم طيئ «8» ، ومنها هؤلاء الذين نحن في ذكرهم. قال الحمدانيّ: واسمه ثعلبة واسم أمّه جرم فحضنته فسمّي بها وهو [جرم بن عمرو بن الغوث] «9» بن طيئ وهم: [شمجى] «10» ، وقمران «11» ، وحيّان «12» ، قال: وكانوا متفقين مع ثعلبة بالشام يدا مع الإفرنج على المسلمين، فلما فتح السلطان صلاح الدين البلاد جاءت ثعلبة وطائفة من جرم ومضر وبقيت بقايا جرم مكانها، قال:

والمشهور من جرم هذه الآن جذيمة «1» ، ويقال (إنّ) لهم نسبا في قريش، وزعم بعضهم أنها ترجع إلى مخزوم. وقال آخرون: بل من جذيمة بن مالك بن حسل «2» بن عامر بن لؤيّ ابن غالب بن فهر، قال: وجذيمة هذه آل عوسجة، وآل أحمد، وآل محمود، وكلّهم في إمارة شاور بن سنان ثم في بنيه، وكان لسنان أخوان فيهما سؤدد وهما غانم وخضر. ومن هؤلاء جذيمة: جمائع الرائديين «3» جماعة منصور بن جابر، وجماعة عامر بن سلامة «4» . [ومنهم] «5» بنو أسلم، قال: وهذه أسلم من جذام لا من جذيمة لكنها اختلطت مع جذيمة. ومنهم شبل، ورضيعة (من) جرم، ونيفور «6» ، والقدرة جماعة عليم بن رميح، والأحامدة، والرفثة، وكور من جرم، جماعة جابر بن سعيد، وموقع، وكان كبيرهم مالك الموقعيّ، وكان مقدما عند السلطان صلاح الدين وأخيه العادل «7» .

ومنهم بنو [عوف] «1» قال: ويقال إنهم من جرم بن [حرمز] «2» من سنبس «3» ، ومن هؤلاء العاجلة، والضمان، والعبادلة، وبنو تمام، وبنو جميل، ومن بني جميل، بنو مقدام، ومن بني [عوف] «1» أيضا [آل] «4» نادر وبنو غوث، وبنو بها «5» ، وبنو خولة، وبنو هرماس، وبنو عيسى، وبنو سهيل، وأرضهم الداروم وكانوا سفراء بين الملوك وجاورهم قوم من زبيد تعرف ببني فهيد، ثم اختلطوا بهم. قال الحمدانيّ: فهذه جرم الشام (24) وحلفاؤهم ومن جاورهم ولاذ بهم، وبنو جابر [بدمرى] «6» من غزة وتعرف بالحريث (وهم) جماعة فهد بن بدران، وأما بنو صخر وهم الدعيجيّون «7» ، والعطويّون، والصّويتيون، وبلادهم ما حول الكرك «8» ومنهم طائفة بمصر، وبنو خصيب وهم أشتات بمصر والشام.

وبنو هوبر، ووفدت منهم طائفة على المعزّ أيبك «1» بمصر وبقيتهم بالشام، وبنو مرّة خفراء القدس، وبنو فيض وبنو شجاع بالقدس أيضا، والعناترة ببلد الخليل عليه السّلام، وبنو أيوب بجينين «2» ، وبنو نمير بن قيس خفراء غور الكفرين ونمرين، وبنو وهران بجبل عوف «3» وبنو [عمرو] «4» عرب الصّلت «5» ومرجعها إلى جذام. (و) بنو طريف من جذام. ومنهم مسهر، وعجرمة، ومهدي «6» ، وبنو مهديّ منهم: المشاطبة ومنهم: أولاد ابن عسكر ومن الأدعياء جماعة نعيم «7» ، ومن بني مهديّ أيضا [العناترة] «8» جماعة أولاد راشد، والبترات، واليعاقبة، والمطارنة، والعفير، والرّويم، والقطاربة، وأولاد الطابية، وبنو دوس، وآل سيار، والمخابرة، والسماعة، والعجارمة من بني

طريف، وكان شيخهم مسعود بن جرير ذا مكانة عند ولاة الأمور، وبنو خالد، والسلمان، والفرانسية، والدرالات، و [الحمالات] «1» ، والمساهرة، والمعاورة «2» ، وبنو عطاء، وبنو مياد، وآل شبل، وآل رويم وهم غير الرّويم «3» ، والمحارقة، وبنو عياض وهؤلاء ديارهم البلقاء «4» ، و [آل] «5» باير، و [آل] «5» الصوان و [آل] «5» علم أعفر، وهؤلاء بالبلقاء طائفة من حارثة، ولهم نسب بقرى بني عقبة «6» . ومن بني مهديّ أيضا بنو داود، وجماعة فضل بن عليم من المشاطبة، وجماعة زائد بن بشير من العناترة، وجماعة فرسة «7» بن جريان من السّماعة، وجماعة غضبان بن عمرو بن جرير من العجابرة، وجماعة سلمان العبّاديّ من بني عبّاد، وجماعة (25) عساكر بن حياش، وهؤلاء ديارهم حول الكرك، وبنو جوشن خفراء الموجب «8» و [بنو بعجة] «9» من

هلباء خفراء الزويرة، وبنو عجرمة خفراء الرقطانة والحسبة من بني عقبة، وعقبة من جذام وديارهم من الشّوبك «1» إلى حسمى «2» إلى تبوك إلى تيماء «3» إلى برد ورؤاف «4» إلى الحريداء «5» وهو شرقي الحجر «6» ، وآخر أمرائهم كان شطيّ بن عبيّة «7» وكان سلطاننا الملك الناصر قد أقبل عليه إقبالا أحلّه فوق السماكين، وألحقه بأمراء آل فضل وآل مرا، وأقطعه الإقطاعات الجليلة، وألبسه التشريف الكبير، وأجزل له الحباء، وعمّر له ولأهله البيت والخباء. وبنو زهير «8» عرب الشّوبك أيضا، والحريث وهم بالساحل الغزاوي، وغزوا عسقلان «9» أيام الملك الصالح مع بيبرس الكنجيّ فأقطعهم هناك. وبنو سعيد عرب صرخد «10» وهم من سعد جذام.

< آل ربيعة >

وزبيد فرق شتى بصرخد «1» منهم، وبغوطة دمشق «2» ، وببلاد سنجار «3» ، وبالحجاز «4» ، وباليمن «5» والذين بصرخد منهم آل ميّاس، وآل صيفيّ، وآل برّة، وآل محسن، وآل جحش، وآل رجاء، وبغوطة دمشق آل رحّال، وآل بدّال، والدّوس، والحريث وهم جماعة نوفل الزّبيدي. (آل ربيعة) وأما آل ربيعة «6» - وهم ملوك البرّ وأمراء الشام والعراق والحجاز- فهم: آل فضل، وآل مرا، وآل عليّ من آل فضل.

قال الحمدانيّ: وربيعة رجل من سلسلة «1» ، نشأ في أيام أتابك زنكي «2» وولده نور الدين «3» رحمهما الله تعالى ونبغ بين العرب، قال: ويقال إنّ أباه رجل من علقى «4» ، قال: وتقول ربيعة الآن إنّه من ولد جعفر بن خالد بن برمك «5» ، قال: وهذا ليس بصحيح. قلت: وأصلهم إذا نسبوا إليه أشرف لهم لأنّهم من سلسلة بن عنين بن سلامان من طيئ، وهم كرام العرب، وأهل البأس والنجدة فيهم، والبرامكة (26) وإن كانوا قوما كراما

فأنّهم قوم عجم وشتان بين العجم والعرب، وقد شرّف الله العرب إذ بعث فيهم محمدا صلىّ الله عليه وسلّم نبيّه، وأنزل فيهم كتابه، وجعل فيهم الخلافة والملك وابتزّ بهم ملك فارس والروم، وقرع بأسنتهم تاج كسرى وقيصر، وكفى بهذا شرفا لا يطاول وفخرا لا يقاول. قال المهمندار الحمدانيّ: وزعموا أنّه من ولد جعفر من أخت الرشيد «1» التي عقد له عليها كما قالوا لتخرج عليه على أن لا يطأها فوطئها على حين غرّة فحبلت بغلام وكان هذا ربيعة من بنيه، قال: وهذا الخبر ليس بصحيح، وإن كان صحيحا فقد دفنت المرأة وولدها كما قيل في تمام الحكاية، ولم يعلم لهما أثر، قالوا: وكانت نكبة البرامكة بهذا السّبب ومما يدلّ على بطلان هذه الدّعوى ما نقل عن ثقات أنّ مسرورا الخادم سئل عن سبب الإيقاع بالبرامكة فقال: كأنّك تظنّ حديث المرأة [صحيحا] » ، وأنّ الإيقاع بهم كان بسببه، فقلت: نعم، فقال: ما لهذا الخبر صحة، وإنما حسد موالينا وملكهم. قلت: ولا يبعد ذلك من ملك الملوك ولا سيما البرامكة كان قد علا صيتهم، وانتشر ذكرهم، وكثرت فيهم المدائح، وقصدهم الشعراء، ووفدت عليهم الوفود حتى تضاءلت الخلافة بهم. قال الحمدانيّ: والأصحّ في نسب ربيعة هذا أنّه ربيعة بن حازم بن عليّ بن مفرّج بن دغفل بن جرّاح بن شبيب بن مسعود بن سعيد بن حريث «3» بن السّكن بن رفيع بن علقى بن حوط بن عمرو

< آل فضل >

ابن خالد بن معبد بن عديّ بن أفلت بن سلسلة بن عمرو «1» بن غنم بن ثوب بن معن بن عتود بن عنين بن سلامان بن ثعل بن عمرو بن الغوث بن طيئّ، فهذا ما ذكره الحمدانيّ. وأما نسب ربيعة إلى برمك، فقالوا: ربيعة (27) بن سالم بن شبيب بن حازم بن عليّ ابن جعفر بن يحيى بن خالد بن برمك. قال الحمدانيّ: ولد ربيعة أربعة، وهم: فضل، ومرا، وثابت، ودغفل، وسنذكرهم على ما هم في وقتنا على ما ذكره لي محمود بن [عرّام] «2» من بني ثابت بن ربيعة، قال: (آل فضل) فضل «3» منهم آل عيسى «4» وقد صاروا بيوتا: بيت مهنّا بن عيسى «5» وأميرهم

وأمير سائر آل فضل أحمد بن مهنّا «1» وبيت فضل بن عيسى وأميرهم سيف بن فضل «2» ، وبيت حارث بن عيسى وأميرهم قناة بن حارث. وأما أولاد محمد بن عيسى «3» ، وأولاد حديثة بن عيسى، وآل هبة بن عيسى فتبّاع، وهذا البيت أسعد بيت في العرب وفي وقتنا الذي أشرقت فيه طوالع سعودهم، وأينع [فيه] «4» مخضرّ عودهم. وأما بقية بيوت آل فضل فمنهم آل فرج، والأمير فيهم زيد بن طاهر، وغنام بن وهيبة، وآل سميط، والإمرة فيهم في صافية بن حجير بن الصّميد، وآل مسلم والإمرة فيهم في طامي بن عباس، وآل عامر، والإمرة فيهم في بني عامر بن درّاج. وأما آل عليّ، فهم وإن كانوا من [ضئضئ] «5» آل فضل، فقد انفردوا منهم واعتزلوا عنهم حين صاروا طائفة أخرى وسيأتي ذكرهم، فهؤلاء آل فضل.

وأما من ينضاف إليهم ويدخل فيهم فمن يذكر وهم: زغب «1» والحريث «2» وبنو كلب وبعض بني كلاب، وآل بشار، وهم موال، وخالد حمص، وطائفة من سنبس، وسعيدة «3» ، وطائفة من فرير «4» ، وبنو خالد الحجاز، وبنو عقيل من كرز «5» ، وبنو رميم، وبنو حيّ، وقمران والسراحين، ويأتيهم من عرب البرّية من يذكر. فمن غزيّة: غالب، وآل أجود، والبطنين، وساعدة. ومن بني خالد: آل جناح، و [الصبيات] «6» من مياس، والجبور، والدّغم، والقرسة، وآل منيخر، وآل بيوت، [والمعامرة] «7» ، والعلجات وهؤلاء من خالد، وفرقة (28) من عائذ وهم آل يزيد وشيخهم ابن مغامس، والمرابدة وشيخهم كليب بن أبي محمد، وبنو سعيد وشيخهم محمد العليمي، والدواشر «8» وشيخهم رواء بن بدران، هؤلاء غير من يخالفهم في بعض الأحايين، على أنني لا أعرف في وقتنا من لا يؤثر صحبتهم ويظهر محبتهم، وأمير القوم كما تقدم أحمد بن مهنّا، وهذا نسبه إلى ربيعة [أبوه مهنّا بن عيسى بن مهنّا بن مانع بن حديثة بن عصيّة بن فضل بن ربيعة] «9» ، وديارهم من حمص إلى

قلعة جعبر «1» إلى الرّحبة «2» آخذين على سعة الفرات «3» ، وأطراف العراق حتى ينتهي حدّهم قبلة بشرق إلى الوشم «4» وآخذين يسارا إلى البصرة، ولهم مياه كثيرة ومناهل مورودة: (الخفيف) ولها منهل على كلّ ماء ... وعلى كلّ دمنة آثار قلت: وكان من خبر هذا البيت الذي رفعت عمده، وشدّ بطنب الجوزاء وتده، يد سلفت لعيسى بن مهنّا عند الظاهر بيبرس «5» حال تشريده وتطريده احتاج فيها إلى فرس يركبه، فبالغ في إكرامه، وأركبه خير خيله، فلما ملك قلّده الإمرة ورقّاه وأنهله ريّ الأمل ورواه، ثم لم [يزل] «6» يزداد سموا ويترقى في علو حتى مات.

وقلّد في الأيام المنصورية «1» مهنّا ولده الإمرة وعظم بنفسه وبأبيه، وعرف بعلوّ الهمم، وبلغ المرجوّ من رعاية الذّمم، وعفّ عن الفواحش إلا اللّمم، فزاد قدره ارتفاعا وصدره اتساعا. قلت: هذا البيت أوله رجل من طيئ من بني سلسلة بن عنين بن سلامان. نشأ هذا الرجل في أيام أتابك زنكي وأيام ولده نور الدين الشّهيد كما تقدم «2» ، وفد عليه فأكرمه وشاد بذكره، وإلى هذا عنين «3» ينتسب كلّ عرب عنين من كان من ولده أو من حلفائه أو من استخدمه الأمراء الذين من ولده، ومهنّا «4» جدّ مهنّا هذا [أبي أحمد] «5» الأمير الآن هو [ابن] «6» الأمير مانع بن حديثة [بن عصيّة] «6» بن فضل بن ربيعة الطائيّ (29) الشاميّ التدمريّ، وكان أمير عرب الشام في دولة طغتكين صاحب

دمشق «1» ، ولم يصرح لأحد من هذا البيت بإمرة على العرب بتقليد من السّلطان إلا من أيام العادل أبي بكر أخي السّلطان صلاح الدين أمّر منهم حديثة ثم إنّ ابنه الكامل «2» قسّم الإمرة نصفين نصفا لمانع بن حديثة ونصفا لغنّام أبي طاهر بن غنّام. ثم إنّ الإمرة انتقلت إلى أبي بكر [بن عليّ] «3» بن حديثة وعلا فيها قدره، وبعد صيته، فلما كان من البحرية «4» ما كان «5» ساقت تصاريف الدهر الملك الظاهر بيبرس إلى بيوتهم وهو طريد مشرّد، ولم يكن قد بقي معه سوى فرس واحد يعول عليه، فسأل عليّ ابن حديثة فرسا يركبه فلم يعطه شيئا، وكان ذلك بمحضر من عيسى بن مهنّا فأخذه عيسى

وضمّه إليه وآواه وأكرمه وقراه وخيّره في رباط خيله، فاختار منها فرسا فأعطاه ذلك الفرس وزوده وبالغ في الإحسان إليه فعرفها له الظاهر، فلما تملّك انتزع الإمرة من أبي بكر بن عليّ وجعلها لعيسى بن مهنّا، وأتاه أحمد بن طاهر بن غنّام وسأله أن يشركه معه في الإمرة، فأرضاه أن يعطيه إمرة ببوق وعلم، وبقي أبو بكر بن عليّ شريدا طريدا تارة بنجد وتارة بأطراف الشام إلى أن مات، وأمّنه الملك الظاهر غير مرة وحلف له فما وثق به ولا اطمأنّ، ثم إنّ درجة عيسى بن مهنّا علت عند الملك الظّاهر، ولم يزل معظّما إلى أن مات، ثم إنّ الإمرة صارت [لولده] «1» الأمير حسام الدين مهنّا بن عيسى في أيام الملك المنصور قلاوون، وعلت مكانته في أيام المنصور أكثر من مكانة أبيه. حكى لي شيخنا شهاب الدين أبو الثناء محمود «2» ، قال: حضرت طرنطاي المنصوريّ «3» وهو مخيم بالخربة «4» ، وقد حضره أحمد بن حجيّ «5» أمير آل مرا يدّعي

بألف بعير أخذتها آل فضل لعربه، ومهنّا (30) حاضر، وكلّ منهما جالس إلى جانب من طرنطاي، فألحّ أحمد بن حجيّ في المطالبة، واحتدّ وارتفع صوته، ومهنّا ساكت لا يتكلم، فلما طال تمادى في الضجيج وتمادى مهنّا في السكوت، أقبل طرنطاي على مهنّا، وقال: ما تقول يا ملك العرب؟ فقال: وما أقول نعطيهم ما طلبوا هم أولاد عمّنا وإن كانت لهم عندنا هذه البعيرات أعطيناهم حقّهم، وإن كان ما لهم شيء فما هو كثير إذا أعطينا بني عمّنا من مالنا، فقال له أحمد: لا، ألا قل أتكلم، وزاد في هذا ومثله ومهنّا ساكت فلما زاد رفع مهنّا رأسه إليه، وقال له: يا أحمد إن كان كلامك عليك هينا فكلامي علي ما هو هين، وهذه الأباعر أقلّ من أن يحصل فيها كلام، وأنا معطيك إياها، ثم قام فقال طرنطاي: هكذا والله يكون الأمير «1» ، ودام مهنّا على هذا حتى جاءت الدولة الأشرفية «2» ، ولما خرج الأشرف لفتح قلعة الروم «3» مرت

العساكر بسرمين «1» إقطاع مهنّا، فأكلت زروعها وآذت أهلها فشكوا إلى مهنّا أذية العساكر، فشكا إلى الأشرف فعزّ عليه واستنقص همته، وقال: كم جهد ما آذوا حتى تواجهني بالشكوى، وما كان يغتفر هذا الفعل لهذا الجيش العظيم الخارج لأجل إذلال العدوّ وقصّ جناح الكفر، وأسمعه من هذا ومثله. ثم لما كان الفتح ركب الأشرف في الفرات في خواصّه ومعه جلساؤه من بني مهديّ، وكانوا يضحكونه، فجاء مهنّا بن عيسى فأمر بمدّ الإسقالة ليدخل فلما دخل عليها غمز عليه فحركت الإسقالة فوقع في الماء وتلوث بالطين فهزئت به بنو مهديّ وضحك الأشرف ومن حوله، وطوى مهنّا جوانحه على ألمها، ثم إنه استأذن في الانصراف إلى بيوته فأذن له وقال إلى لعنة الله، فأسرّها مهنّا في نفسه ولم يبدها، وركب من وقته، وتوجّه إلى أهله، وأقام عندهم على حذر ثم (31) عاد الأشرف ونزل بحماة بعث إليه مهنّا بخيل وجمال فقبلها وخلع على رسوله وبعث له خلعة سنيّة ليطمئنه ثم يكبسه، فلما جاءت لبسها إظهارا للطاعة، وارتحل لوقته ضاربا في وجه البرّ فلم يتمّ للأشرف ما أراده منه، وعاد إلى مصر وفي نفسه من إمساك مهنّا وإخوته وبنيه، وظنّ مهنّا أن لا حقد عنده، فلم يلبث الأشرف أن خرج إلى الكرك وخرج إلى دمشق، وخرج منها على أنه يصيد كباش الجبل، ثم إن مهنّا عمل له ضيافة عظيمة فحضرها الأشرف وأكل منها، ولما فرغ ذلك أمسك مهنّا ومعه جماعة وجهزهم إلى مصر وحبسهم ببرج في القلعة وضيق عليهم إلا في الراتب لهم، وكان مهنّا في الحبس لا يأكل إلا بعد مدّة، وإذا أكل ما يقيم رمقه ويصلي الصبح، ويدير وجهه إلى الحائط ويصمت ولا يكلم أحدا حتى تطلع الشمس، ثم يقوم بعجلة وسرعة ويأخذ كفا من حصى وتراب كان هناك ثم يزمجر ويرمي به إلى الحائط كالأسد الصائل، فلما خرج الأشرف إلى الصّيد ترك ذلك الفعل، فقيل له في ذلك، فقال: قضي الأمر، ولم ير

منبسطا إلا في ذلك الحين. قال، وحدثني مظفر الدين موسى ولد مهنّا، قال: لما كنا بالاعتقال كان عمي محمد بن عيسى مغرى بدخول المرتفق والتطويل فيه، وكان المرتفق مقاربا لدور حريم السّلطان ولبعض الأمراء، فقلت له في ذلك، [فقال:] «1» يا ولد مهنّا لعلي أسمع خبرا من النسوان فإنهنّ يتحدثن بما لا يتحدث به الرجال، فبينا نحن ذات يوم، وإذا بمحمد قد خرج، وقال: بشراكم قد سمعت صائحة النساء تقول: وا سلطاناه!، فقلنا له: دعنا مما تقول، فقال: ما أقول لكم حقّ، وكان لنا صاحب من العرب تنكر وأقام بمصر، وكان يقف قبالة مرمى البرج الذي نحن فيه، ويومئ إلينا ونومئ إليه غير أنّه (32) لا يسمعنا ولا نسمعه، فلما كان في تلك الساعة ومحمد يحدثنا، وإذا بصاحبنا قد جاء وأومأ ثم مدّ يده الى التراب وصنع فيه هيئة قبر ونصب عليه عودا عليه خرقة صفراء كأنّها سنجق السلطان ثم نكسها، وقعد كأنه يبكي، ثم وقف قائما ورقص فتأكد الخبر عندنا بموت الأشرف، فلما فتح علينا من الغد سألنا الفتاح والسجّانين فأنكرونا ثم اعترف لنا بعضهم وكان ذلك أعظم سرور دخل على قلوبنا. ولما خرجوا من السجن شكوا احتياجهم إلى النساء فأطلق لهم جماعة من الجواري الأشرفيات ولم يكن مرادهم بذلك إلا التشفّي، وأعيد الجماعة الى أهلهم إلا مهنّا فإنه أخّر مدة ثم جهّز فلما خرج من دمشق لحقه البريد إلى ثنيّة العقاب «2» بأن يعود فامتنع وقد توجّه إلى أهله وكانوا قد ندموا على إطلاقه، ثم إنّه قدم مصر بعد ذلك مرات وهو كالطائر الحذر الذي نصب له الشّرك بكلّ مكان، وآخر مدة قدمها في أوائل الدولة الناصريّة

الأخيرة «1» سنة عشر وسبع مئة، وكان برلغي الكبير «2» مملوك مهنّا وهو الذي قدّمه «3» فلما وجده قد أمسك تحدث فيه مع السلطان، وقال: هذا مملوكي وقدّمته ليعطى إقطاعا في الحلقة، فأعطي فوق حقّه حتى جعلتموه ملكا من الملوك، وأنا أريد أن تأخذ كلّ ماله ومماليكه وتعطيني إياه برقبته ليكون عندي إلى أن يموت فوعد بذلك، ثم إنّ برلغي مات في ذلك الوقت فقيل له: قد مات، فعزّ ذلك عليه عدم قبول شفاعته مع ما كان يمتّ به من سوابق الخدم. ولما كان السلطان في الكرك فخرج مهنّا، وقد طار خوفا ورعبا ولما اجتمع بقراسنقر «4» وكانت بينهما صداقة قديمة مؤكدة، وكلّ منهما مستوحش، [فجدّدا] «5» الأيمان والعهود على المضافرة وأن لا يسلم واحد منهما (33) صاحبه فلما توجه قراسنقر إلى حلب زاره مهنّا فخلا به مهنّا فأراه قراسنقر كتابا من السلطان فيه إعمال الحيلة على إمساك مهنّا، فقال له مهنّا: ما أنت صانع؟ فقال أنا أطيعه فيك وأجاهره وهو يجعلني دأبه ووكده فمن

يحميني منه إذا قصدني فقال له مهنّا: تجيء إلينا فتحالفا على ذلك، ثم إنّ مهنّا [وفى] «1» لقراسنقر لما توجه إليه على ما هو معروف في موضعه حتى أنّ زوجة مهنّا عائشة بنت عسّاف بالغت في خدمة قراسنقر، وكانت تقول لمهنّا: يا مهنّا ذكر الدهر لا تدعه، وكذلك محمد بن عيسى «2» [إلا] «3» فضل بن عيسى أخو مهنّا فما كان رأيه إلا التقرب بإمساك قراسنقر والجماعة إلى السلطان، فكانت عائشة تقول: تعسا لأمّ ولدت الفضل بعد مهنّا و (محمد بن) عيسى. وكتب مهنّا إلى السلطان يستعطفه ويقول: هؤلاء مماليكك ومماليك أبيك وكبار بيتكم وقد هربوا من الموت وسألوا أن تكفّ عنهم وتجعل البيرة «4» لقراسنقر، والرحية للأفرم «5» ، وبهسنا «6» للزّردكاش «7» ، وإذا حضر مهمّ جامع للإسلام حضروا إليه، وجاهدوا بين يديك

فأجابهم بإطابة القلب، وأنه قد جعل الصّبيبة «1» لقراسنقر، وعجلون «2» للأفرم، والصّلت للزّردكاش، أو إمريّة كما كان فما اطمأنوا لذلك، وزادهم نفورا فجهزهم إلى خربندا «3» ، وقال له: متى حميت هؤلاء كنت أنا في طاعتك معهم، وأخفر الركب العراقيّ وسيّرهم مع ابنه سليمان «4» ، وبعث معهم من جهته لخربندا ومن حوله خيولا مسوّمة فقوبلوا بالإكرام والرعاية، وخلع على سليمان وأطلق له أموالا جمة، وجهّزت لمهنّا خلع وإنعامات وبرالغ «5» بالبصرة له ولأهله ومعها الحلّة والكوفة وسائر البلاد الفراتية، واشتدّت الوحشة بينه وبين السلطان الملك الناصر، وتأكدت فأعطى الإمرة لأخيه (34) فضل، وتظاهر مهنّا بالمنافرة والمباينة والوحشة، وحضر إلى عند خربندا فأكرمه غاية الإكرام وأجلّه نهاية الإجلال، وقرّر أمر الركب العراقيّ وأعطى عصاه خفارة لهم وتأمينا، وضاع الزمان وامتدت الأيام والليالي في المراوغة من مهنّا وهو يعد السلطان أنّه يحضر إليه ويمنيه، ويسوّف به من وقت إلى

تتميم

وقت، والبريد يروح ويجيء، والرسل تتردد، وجهز إليه أرسلان الدّوادار «1» وألطنبغا الحاجب «2» ، الذي عمل (في) نيابة حلب، والشيخ صدر الدين الوكيل «3» ولا ألوى ولا عاج، ثم كان أولاده وإخوته يتناوبون الحضور إلى السّلطان وهو ينعم عليهم بمئين ألوف وبالإقطاعات العظيمة والأملاك وهم يمنونه حضوره ويعدونه بقدومه، ومهنّا لا يزداد إلا حذرا، والسلطان لا يزداد إلا طمعا، وإذا حضرت للمسلمين نصيحة أو مصلحة كان مهنّا ينبه عليها ويشير بها، وكان السلطان يقبل نصحه ويعرف ديانته. ثم لما كانت سنة أربع وثلاثين توجّه مهنّا بنفسه إلى السلطان ودخل إلى مصر فأكرمه غاية الإكرام، وأنعم عليه إنعامات كثيرة إلى الغاية، وعاد مهنّا راجعا إلى بلاده، ولم يزل إلى أن توفي في ذي القعدة سنة خمس وثلاثين وسبع مئة بقرب سلميّة، وأقاموا عليه المآتم ولبسوا السّواد وعاش نيّفا وثمانين سنة، وكان وقورا متواضعا لا يحتفل بملبس. تتميم وهؤلاء آل عيسى هم في وقتنا ملوك البرّ ما بعد واقترب، وسادات الناس ولا تصلح إلا عليهم العرب «4» ، قد ضربوا على الأرض نطاقا، وتفرقوا فجاجها حجازا وشاما وعراقا، أنى

نزلوا خلت الأرض قد رمت أفلاذها أو السماء قد مرت رذاذها، ترتجّ بخيولها صهيلا، وتحتجّ (35) بسيوفها على الرقاب صليلا، تجمع قنابل «1» ، وتلمع مناصل، وتنبت قنا، و [تميت] «2» فتنا، قد نصبوا بمدرجة الطريق خيامهم، وأوقروا في علم الأسماع إعلامهم، أنّ الكرم أعلامهم، وتقارعوا في قرى الضّيفان، وسارعوا إلى تقريب الجفان، قد داروا على البلاد أسوارا حصينة، وسوارا على معصم كلّ نهر وعقدا في جيد كلّ مدينة، وأحاطوا بالبرّ من جميع أقطاره، وحالوا بين الطير المحلق وبين مطاره، وحفظوه من كلّ جهاته، وحرسوه من سائر مواضعه وآفاته، وصانوه من كلّ طارق يتطرق، وسارق يتسلّل أو يتسرق، فلا تبصر إلّا مرسى خيام، ومسرى هيام، ومورد كرام، وموقد ضرام، ومقعد همام، ومعقد ذمام، ومجال غمام وآجال رزق أو حمام، ومعهد أياد جسام، ومشهد يوم يرعف به أنف قناة أو حسام، وتكبير وتكثير [صلاة] «3» ومكان مفزع، وأمان من يجزع، وملجأ خائف، وملجم حائف، وسجايا ملكية، وعطايا برمكية، ومواهب طائيّة، ومذاهب حاتميّة، وبوادر ربيعيّة، ونوادر مرعيّة، وصوارم تتحسس بذيلها الرقاب، ومكارم يتحسر على آثارها السّحاب، لا يطرق لهم غاب، ولا يطرق لهم بذل رغاب، ولا يطرح لهم بيت مضيف، ولا يطيح إلا إليهم تابع مشتى ومصيف، لا يخلو ناديهم عن سيد مسوّد، وكريم مقدّم، وشجاع بطل، وجواد كريم، وحليم وقور، ووافد آمل، وقاصد [نائل] «4» وصارخ ملهوف، وهارب مستجير، لا تنفكّ لهم نارا قرى وقراع، ومنارا منى ومناع، يسرح عدد الرمل لهم إبل وشاء،

ومدد البحر ما يريد المريد منهم وما يشاء، تطلّ منهم على بيوت قد بنيت بأعلا الرّبى، وبلغت السحاب وعقدت عليها الحبى «1» قد اتّخذت من الشّعر الأسود وبطّنت (36) بالدّيباج والحرير والوشي المرقوم، وفرشت بالمفارش الرومية، والقطائف الكرجيّة، ونضّدت بها الوسائد، وقامت حولها الولائد، وشدّت بوتد السماء أطنابها، وأعدت لطوالع النجوم قبابها، وأرخيت سجفها وشرعت أبوابها إلى الهواء، واستصرخت واستغيث بها لدفع اللّأواء ورفعت عمدها، ووضعت حجلاتها وقرّر في الأرض وتدها، وطلعت البدور في أكلّتها، ورتعت الظّباء في مشارق أهلّتها، وحولهم خيول تحمي حجبها وترمي إزاء البيوت سحبها، وتعرف بين العرب الأتراب عربها، وتعرض في الشهب الحسان نخبها من كرائم الخيل المخبورة، وعظائم السيل معنى وصورة، قد تمايلت ألوانا، وتقابلت في مناسب الخيل إخوانا، وتنوّعت شياتها فبرزت بستانا، وتسرّعت أعوجيّاتها السوابق، فقصر مدى لاحق، وتقدمت قدّامه ميدانا. وتفرّعت من أصول العرب في ربيعة ومضر، وتبرّعت بما لا يلزمها، فمنها ما انتظر ما خلفه، ومنها ما فات النظر، وتقدمت وأمهلت وراءها الرياح، وأقدمت وأنهلت ظمأها مورد الصباح، ومرّ كلّ طرف منها وطرف البرق حائر، ومد [وجوار] «2» المجرّة ما فيها طريق لسائر، وحفّت والطير في وكناتها لم تبرح، ووفّت والوحوش في مكان بياتها لم تسرح، تمّت كأنّها كثبان، وهمّت كأنها عقبان، قد صلدت حوافرها كأنها قعب حالب، وصلدت مشاعرها كأنها وجه عاتب، واتّسع منخرها كأنّه وجار ثعالب، وارتفع مؤخّرها كأنه ربوة مراقب، وطال غرتها كأنّه انتظار غائب، ومالت نواصيها كأنها عقود ترائب ودقّ منخرها

كأنّه طرف قاضب، ورقّ أديمها كأنه حديث حبايب، واتسع ذيلها كأنّه ذيل راهب، و [تلبد] «1» (37) مغرزها كأنه إقعاء أرانب، وقصر [عجب] «2» ذنبها كأنه بقاء ذاهب، ونهد موضع لببها «3» كأنه نهد كاعب، و [نتأ] «4» صدرها كأنّه نهضة واثب، وولولت، آذانها كأنها [أقلام] «5» كاتب، ولانت شعرتها كأنما عليها لوف سليط ذائب، ولانت عريكتها كأنها للتأديب لعبة لاعب، ونظرت نظر حادر «6» ، وتلفتت التفات ربائب، وأشبهت الوحش والطير، فطورا تحلق وطورا تواثب، وقد برزت شهبا ودهما وحمرا وشقرا وصفرا وخضرا وما بين هذه الألوان، وما بين [صنوان] «7» وغير صنوان «8» ، قد رتعت كالظّباء، ورفعت كالخباء، وطلعت [كالكواكب] «9» وتطلعت كالرقباء، وحالت أمام بيوت الحي تهزّ ندوة عطفه وخطوة فارسه المعلم في موقف صفّه، فكم ترى من سابق وسابقة توافقا فلم تر أيّهما سليلة سابقين تناحلاها، ولا بأيّهما تعقد الظبية الأدماء «10»

طلاها «1» ، ولا أيّهما بلغ السماء واغتصب النجوم حلاها، ولا أيّهما الموصوف في كرائم الخيل، ولا أيّهما ائتزر «2» برداء النهار أو أطاح رداء الليل، من حصون كالحصون الشوامخ تتحصّن على صهواتها، ويتحصّل الظفر ولا تروى فواغر لهواتها، قد اشتدت مبانيها الوثيقة، وتشيدت فكانت حصونا لا حصنا على الحقيقة، ومن حجر كالحجر بل شيء أشدّ من الحجارة، وأشدّ من السّهم في مهاجمة الغارة، قد تبرجت تبرج الحسان، وتخرّجت تخرّج الكاعب وبرزت للفرسان، وأقبلت في ميدانها تتمطّر، وجالت وعنانها لا يزيد على أنّه «3» يتخطّر، كلاهما محفوظ النّسب، ملحوظ الحسب، محفوظ البخت لاعن غير سبب. فمن قرطاسية بيض ذاب على أعطافها اللّجين، وبقي عليها أثر الفضة وذهب العين، أقبلت كأنها البيض الكواعب، واستقبلت كأنها أيام وصل الحبايب، كأنما جلّلت بالنهار، أو حولت (38) إلى مطالع الأقمار، أو خولت مما تلبس الشمس من حلل الأنوار، وجاءت قرطاسية لما قرطست سهامها، وقرّبت مواعيد الظفر أيامها. ومن دهم لم ترض بالليل ردّ ردائها، ولا بلمم الشبيبة شبية ظلمائها، ولا بالأهلّة إلا تحت مواطئ حوافرها، ولا بالصباح إلا لما بين وظيفها ومشاعرها، فأما ما سأل أو استدار من الغدر الصّباح، فإنه مما قرّ أو [تموّج بين عينيها] «4» من لوامع الأسنة لا من طلائع الصّباح. ومن حمر أوقد الشفق عليها جمره، وبدّد الشقيق على كأسها خمره، منها معصم بسواد

كأنما ذرّ المسك على وردها، أو أمسك الليل فحمته [على] «1» وقدها. ومنها كميت يميل براكبه ميل الكميت بشاربها، ويستطيل باقي ظلماته في شفق الصباح على ذاهبها. ومنها ورد كأنه أباة قد قطف، أو رباة إذا شبّه بخدّ غانية أو وصف، وفيها صامت، وأعزّ منها ما طلع كوكب الصبح بمحلّقه، ومنها ما هاب خوض الدماء فتغطى بسجاف أفقه. فأما الحجول فمنها ما أدار عليه جباها، ومنها ما قال هذه حيلة لنقيصة فأباها، وبدت تعرف الأنفة في مناخيرها الشّم، وتقوض الجبال إذا أقبلت شوامخها الصّم. ومن شقر قدح الفرق فيها فما أفاد، وقرّح الذهب عينه حتى لبست منه جيدا من جساد، واصطدمت جياد الخيل فطار منها شرارة من زناد، واقتحمت حلبة السباق فجاءت سابقة عليها آثار الخلوق دون بقية الجياد، ومنها رافلة في أعلام الشيات، ومنها عاطلة من أعلامها، هذه قد تجلت بالغرر والحجول، وتلك جعلتها حلية لأيامها. ومن صفر هي في العصر الأصائل، وفي الفجر آخر ما بقي من شعاعه السائل، شاقت اللهب «2» وهو الطائر والطائل، وفاقت الذهب وهو الحائر والحائل، وراقت فهي الشّمول، ورقّت (39) فهي الشمائل، وتاقت إليها لمع البرق فحال دونها حائل، وضاقت بها الحزم واتّسعت مصبّغات الغلائل، وساقت إليها الشمس وأوقعتها من خيط سوادها الممتد في الحبائل، ونوّهت بالحبش لما قيل إنها حبشيّة، وأفاضت [عليهم] » النائل، من فواضل

حللها الموشية، وسعد بها هذا الجنس لما نسبت إليه، وحمد لّما كان النّسب يصحّ أن يطلق عليها وعليه، وفخر كلّ حبشيّ لكونها تعدّ منه وهو من أعدادها، وتطاول حتى موّه عليها بالشبه، وأخذ في وجهه محاسن التخطيط من خطّ سوادها، فكأنها نار ترفع في الليلة الظّلماء لها لهب، فتوقدت شعلها إلا ما اعتلق به الليل من العرف والناصبة والذّنب. ومن حصير ما منها إلا من بيت العرب، وما فيها إلا ما يهتدي إلا إلى الهرب، كأنها إليه ظلّ دائب أو علاها رحيق سحائب، أو ألقى عليها زبرجد، أو أبقي منها أثر شعاعة مهنّد، قد أفادتها الجباه نضرتها، والشّفاه من كثرة التّقبيل خضرتها، وبدت ولا هي بيض ولا جون، وغدت تنتشي وما قطعت بها عناقد النواصي ولا عصرت من أعطافها ابنة الزّرجون «1» . ومن بلق كرام ما قعدت بها هجنة، ولا بعدت عن شبهين أخذت من كلّ منها حسنه، لا كما يقال إنّ الطبيعة قصّرت في إنضاجها، ولا إنّ حسنها كلّه ذهب في ديباجها، بل كلّ منهما علم على صاحبه يعرف به إذا ركبه، ويحلف أنه اقتاد الروض وتوقّل منكبه. منها ما يقابل بين صباح وظلام، ومنها ما ماثل بين البياض والحمرة خدّ غلام، فأما الأول فقد طلع منظرا حسنا، وجمع بين ضدين لما اجتمعا حسنا «2» ، كأنه توليع السّحب وترضيع السّخب، أو قطع ليل يهزّ بالشهب، أو نقع (40) حرب ظهر في وجوه لمعان القضب، في كلّ منهما ما أظلم وما أنار «3» ، وما أظلّ جانبي الأرض ففي وقت واحد في هذا ليل وفي هذا نهار، وأما الثاني فكأنّه اختلاط ماء وراح، واختلاف مجاري شفق على صباح، لا

يقاس [به] «1» البرق، وهو أحقر، ولا يتشبّه به إلا كان هو إلى التشبيه [به] «1» أفقر، ولا يبالغ واصفه إلا قال كظهر الحصان الأنبط البطن «2» يكشف الجلّ واللون أشقر، ومما سوى ذلك جميعه من ألوان الخيل مما يمزج من أحمر [وأبيض] «3» يقق «4» وأصفر أصيل وأخضر سحر، وأشهب نهار، وأدهم ليل. ومنه كلّ ديزج «5» ، ذلك بفيروزج، كأنما لوّن من ماء يتموّج، أو كوّن من سماء صدره بصداد على سناه ينسج، وأصدأ لا يقدر جون الغمام لمعارضته يتصدى، وأكهب، لا هو كالأحمر أو كالأشهب، وهي فتيّة وما فيها إلا عتيق وكثيرة، وما فيها إلا ما هو قليل كالصّديق «6» ، ما استنكرها إلا من تجرّب، ولا استكبرها «7» إلا من جاء بنقعها في وجه السماء يترّب، وكأنما عنيتها، في قصيدة كنت في وصف الخيل بينتها «8» ، وهي: (الخفيف) أقبلت في ميدانها تتجارى ... هي والريح في المدى تتبارى ودعت سابق [الغمائم] «9» للسب ... ق فأضحى بذيلها يتوارى سابقات ما قصّر البرق لما ... أدرك البرق بعدها الآثارا

سابقات ما فاتت الطّرف حتى ... خلّت الشّهب في الظلام حيارى وأرتنا يوم الرّهان أناسيّ ... سكارى وما هم بسكارى «1» من جياد منسوبة في بيوت ... ليس ترضى من غيرها الإضمارا كلّ حجر كأنه الحجر الصّل ... د لهذا تفجر الأنهارا وحصان كأنه شعب رضوى «2» ... رابط الجأش لا يخاف وقارا نخبة الخيل من خيول كرام ... ردّدت في اختيارها الاختيارا (41) وأتت بالجياد من كلّ فجّ ... واستجادت منها الخيار خيارا علمتها في حربها كلّ شيء ... في مجال للموت إلّا الفرارا مشرقات كأنها روضة الحز ... ن بل الحزم أينعت أزهارا أبيض جاء مثل يوم وصال ... قد تعالى ضياؤه واستنارا ملفتا جيده إلى ذات حسن ... مثله قد بدت نهارا جهارا لا يباري الشهباء شيء سواها ... ليس مثل الشّهباء مما يبارى وكذا أخضر هو الآس غضالا ... أشبه المرد سالفا وعذارا وأتانا ما بين لونيه يحكي ... مذ تبدّى مساءة واعتذارا معه من شرواه «3» خضراء تجري ... حيث تجري زمرّدا منهارا

وأغرّ كأنّه الليل إلا ... ما بدا بين مقلتيه نهارا أدهم رقّ جلده فحسبنا ... منه ما رقّ في الدّجى إسحارا وشبيه بجنسه بنت دهما ... ء ببهماء «1» لا تخاف القفارا وكميت لو قابل في الكأ «2» ... س شربنا مما كساها العقارا ثم ورد يطيب منه شميم ... قد قطفنا من غصنه أنوارا بهما من لونيهما كلّ عذرا ... ء عليها يبدو حياء العذارى وكذا أشقر كريم مفدّى ... جاء كالبرق يستطير شرارا ثم شقراء كم تولّع صبّ ... بهواها وبات يشكو النارا وكذا أصفر تراه أصيلا ... سار نجم منه وسال نضارا ثم صفراء ما تشرّب طرف ... خمرها الحلّ ثم خاف الخمارا ثم وافى عقيبها الأبلق الفر ... د يضمّ الظلام والأقمارا معه مثله من البلق لاثت ... فوق ثوب الدجى عليها الإزارا فهي تحكي بيضاء مظلومة «3» الجس ... م فبعض دجا وبعض أنارا وكذا أبلق بأحمر قان ... فكّ عمدا عن جيبه الأزرارا (42) ثم بلقاء أقبلت تخجل الخدّ ... بياضا من لونها واحمرارا

تتهادى في مشيها كعروس ... أفرغوا فوقها الجيوب نثارا ما كفاهم أن نقّطوها إلى أن ... نقّطوا كلّ درهم دينارا ثم في الخيل ديزج ماج بحرا ... أو سماء وصارما بتّارا ثم حجر [تلزّه] «1» فرأينا ... جدولا منه صادف التيّارا ثم من سائر الجياد كرام ... أرسل الركض نوءها مدرارا وتذكر مع السوابق أصدا ... مثل ما تصدأ السيوف مرارا ثم صدياء لا تضاهى غمام ... مكفهرّ من سيلها الأمطارا بعدها أكهب تحيّر لونا ... لا شقيقا حكى ولا نوّارا لا ولكن بحكمها في امتزاج ... قد تردّى لذا وهذا شعارا ثم يتلوه في المحاسن حجر ... مثله لا يميل عنه ازورارا صافنات زادت على الخير حسنا ... في مداها وزانت الأخيارا وأتت في [فعالها] «2» وحلاها ... بصفات تعجّب النّظّارا ملكت حكم مالكيها الأماني ... وحوت للذي حواها الفخارا سبّق تجعل الأنام جميعا ... من رعاياه والبسيطة دارا

فأما هؤلاء العرب إذا ركبوا الهياج، أو وثبوا إلى معاركة الفجاج، سدّت الأفق قتاما، والطرف إبلا كراما، قد تقلدوا سيوفا تغرّق الأرواح [في] «1» لججها، وتقصّر مناظرات الرقاب لحججها، كأنما طبعت فيها حمر المنايا، أو أطبعت «2» عليها سود الرزايا، ترصّعت بالنجوم، وانتعلت بالهلال، وتقطّعت من الغيوم، وضربت مرهفات النصال، لا يخشى ورق حديدها الأخضر، ولا يجتلى وجه فرندها الصقيل ولا ينظر، قيل لها صوارم لأنها صرمت الأعمار، وقواضب لأنّها تقتضب الأجل وتعجّل الدمار، ومشرفيات لأنّها أشرفت على الرءوس، ومهنّدات (43) لأنها ترى رأي الهند في إحراق النّفوس، ومناصل لأنّها تتنصّل لا مما جنت، وقواطع لأنّها تقطع بالأمر أساءت أو أحسنت، كأنما تأكلّت فيها النار أو تشكّلت فيها الأنهار، وما على ضجيعها أين بات، ولا (على) قريعها عار لعدم الثبات، ولا على حاملها الجازر، إن كثرت لديه النحائر، أو كبرت عليه من حيث الأعداء الجرائر، كأنما رضعت زرق اليواقيت، أو علت قرى نمل أو قرى رمل لها فيها آثار مخافيت، وقد اعتقلوا من عوالي الرماح كل ردينية سمراء ما ماس مثلها قدّ، ولا مال أهيف ولعب مثلها دست بند «3» عواسل قصبها المرّان، عوامل شهبها تعمل في أطرافها النيران، تطاولت [لتثقب] «4» درّ الكواكب، أو لتنقب سدّ السحائب، ثم رأت أنّه لا تروى بغير الدماء حوائم أسنتها العطاش، ولا يقوم بكفايتها إلا ورود الوريد لا من المطر الرشاش، فرمت على لبّات الرجال عنقها، وبلّت صداها ونقعت [غليلها] «5» ، وما [رويت] «6» من دماء

أعدائها، ما دارت دوائرها على عدوّ إلا وخاف أن يصعد على أسوارها أو يتسوّر، ولا صبحت [بمصاعها] «1» ذا عنق إلا تطاير بها وتشاءم بكعبها المدوّر، ورأيت من الرجال في تلك البيد صقورا [تحمي] «2» محارمها، وسيولا تطمّ فجاجها ليوثا ضراغم، و [عقبانا] «3» كواسر، وأبطالا لا تعبأ بمن لاقت، ورجالا لا تبالي أين نزلت، تدخل على عزيز قوم بلاده، وتحمي عليه أرضه وترد دونه ماءه وتمنعه شربه، وتردّ عليه قوله، وتصدّ عنه قومه وتأخذ ماله، إذا شاءت غصبا، وتقسمه اقتساما لا نهبا، لا تحرس «4» في ليل ولا تجتمع في نهار، كفتها المهابة أن تخاف، والمنعة أن تتوقى، فإذا سارت قلت: الشّهب سارت، والسحب سالت، والجبال مادت، والرمال (44) مالت، تركب النّجب، وتجنب الجياد، فتختال الأرض في حلبة السماء ببدور أخفاف المطيّ، وأهلّة حوافر الخيل، ونجوم أسنة الخرصان، توطأ لهم الرواحل، وتطوى بهم المراحل، وتبدو ركائبهم كأنها قلل جبال أو حلل نزال، تتسع مجال الرياح بين فروجها، وترتفع طوال الرماح فوق بروجها، تمدّ أعناقها طلبا لقرب المنزل، وتجدّ أشواقها إلى أرض وتصبح عنها بمعزل، كأنها لتمام الخلق بنيان، أو لأكام الأرض تبيان، لا يقرّ بعينها الزئبق المتد حرج، ولا في بينها سيرها المتلجلج، يتثنى راكبها كأنه شارب ثمل، ولا يستقرّ كأنّه بارق عمل، ركب من الإبل السحاب وهو محتفل، ووثب وكأنّه لتمايلها يتخبط تخبط الظبي في أشراك محتبل، من امتطاها وركبها أضرم نشاطه، ومن استبطأها فضربها ظلمها وظلم بالضّرب لها سياطه، والأكوار تتراءى عليها كأنّها أهلة على غمام، والمجرة البطان، والجوزاء الزّمام، وأمامهم الظعائن تجري بها في الآل السّفائن، وقد شدّ كلّ

< آل علي >

هودج على كور راحلته الثّريا، وسعد بسعدى وطاب بريّا، فسايرتها نظرات الأحداق، وعادت ولم تخرج وعاجت وما وقف لها سائق الركب ولا عاجت ربة الهودج، فما فازت إلا من بعيد بنظرة، ولا فاءت إلا وبين الجوانح حسرة، وتعرض لها فلم تفعل ولم تخرج، وتعرّف بها فما زاد على أن فقد قلبه وعاد، وهو محرج، حتى إذا نزلوا بليل، ونزحوا غدير النهار وجاء الظلام بسيل، أوقدوا نارا يشبّ بالمندل الرطب وقودها ويشدّ بعنان السماء عمودها، رقص بها الليل في قميص أرجوان، وتنقّص ظلامته بأدنى ضوئها وهو وإن تشعشعت كالسّلاف، وتورّعت إلّا عمّا [هو] «1» إرث عن الآباء والأسلاف، نار كرمية ترمي بكل شرارة كطراف، (45) ضرميّة تشبّ بالعراق، وضوؤها يعشى نائل وأساف، تهتدي الضيفان بها لا بصوت النابح، وترتدي بشعاع دماء القرى من كلّ بازل كوماء «2» وطرف سابح. (آل علي) وأما آل عليّ «3» فأميرهم رملة بن جمّاز بن محمد بن أبي بكر بن عليّ بن حديثة بن عصيّة بن فضل بن ربيعة «4» ، وقد كان جدّه أميرا ثم أبوه، وقلّد الملك الأشرف جدّه محمد بن أبي بكر إمرة آل فضل حين أمسك مهنّا بن عيسى، ثم تقلّدها من الملك الناصر أخيه

حين بعث قجليس «1» في طرد مهنّا وسائر إخوته وأهله، ولما أمّر رملة كان حديث السّن فحسده أعمامه بنو محمد بن أبي بكر فقدموا على السلطان بتقادمهم وتراموا على الخواصّ وسائر الأمراء وذوي الوظائف، فلم يحضرهم السلطان لديه، ولا أدنى [أحدا] «2» منهم إليه، فرجعوا بعد معاينة الحين بخفّي حنين، ثم لم يزل [يتربصون] «3» به الدوائر و [ينصبون] «4» له الحبائل، ويقيه الله سيئات ما مكروا، ويدفع عنه بالسلطان ما قصدوا، وهاهو اليوم سيد قومه، وفرقد دهره، والمسوّد في عشيرته، المبيّض لوجوه الأيام بسيرته، وله إخوة ميامين كبراء أمراء فضل ومرا وهم أهل بيت عظيم الشأن مشهور السّادات إلى أموال جمّة، ونعم ضخمة ومكانة في الدول عالية، وديارهم مرج دمشق «5» وغوطتها بين إخوتهم آل فضل وبني «6» أعمامهم آل مرا ومنتهاهم إلى الجوف «7» و [الحيّانية] «8» ، إلى الشبكة «9» ، إلى تيماء، إلى البراذع.

< آل مرا >

(آل مرا) وأما آل مرا «1» ، فبيت الإمرة فيهم آل أحمد بن حجي، وبقيتهم آل منيخر وأميرهم سعد بن محمد، وآل نمي وأميرهم برجس بن سكال، وآل بقرة وأميرهم علوان بن أبي غراء، وآل شماء وأميرهم عمرو بن واصل، ثم صارت الإمرة في بيتين في آل أحمد (46) فمن بيت نجّاد بن أحمد، قناة بن نجّاد، ومن بيت سليمان بن أحمد [شطيّ] «2» بن عمرو بن توبة بن سليمان، وأحمد هذا هو ابن حجي بن يزيد «3» بن نبل بن مرا بن ربيعة، والإمرة مقسومة بين هذين الأميرين نصفين، ويدخل في إمرتهم من يذكر، وهم: حارثة، والحاص، ولام «4» ، وسعيدة، ومدلج، وفرير، وبنو صخر، وزبيد حوران وهم زبيد صرخد، وقد تقدم ذكرهم «5» ، وبنو غنيّ «6» ، وبنو عزّ، ويأتيهم من عرب البرية آل ظفير، والمفارجة، وآل سلطان، وآل غزّي، وآل برجس، والخرسان وآل المغيرة، وآل بني فضيل «7» ، والزّراق، وبنو حسين الشرفاء، ومطير، وخثعم، وعدوان، وعنزة.

وآل مرا أبطال مناجيد، ورجال صناديد، وأقيال، قل: كونوا من حجارة أو حديد «1» ، لا يعدّ معهم عنترة العبسيّ ولا عرابة الأوسيّ «2» ، إلا أنّ الحظّ لحظ بني عمهم أتمّ مما لحظهم ولم تزل بينهم نوب الحروب، ولهم في أكثرها الغلب، وقد كانت لهم بأحمد ابن حجيّ الأنفة الشّماء، والرتبة التي لا تتطاول إليها السّماء، ثم قتلت بينهم القتلى، وأنزف قوة بأسهم سفك الدّماء، وتشتتت كلمتهم بقسمة الإمرة على أنّه لو لم تقسّم لظلّ بينهم كلّ يوم قتيل، وأخذ بجريرتهم قبيل، لإباء نفوسهم، وعدم انقياد نظير منهم لنظير. وديارهم من بلاد الجيدور «3» والجولان إلى الزرقاء «4» والضليل «5» إلى بصرى «6» ، ومشرقا إلى الحرّة المعروفة بحرّة كشب «7» قريبة مكة المعظمة إلى شعباء «8» إلى نير ابن مزيد إلى الهضب المعروف بهضب الراقي، وربما طاب لهم البرّ، وامتدّ بهم المرعى أوان خصب الشتاء، فتوسّعوا في الأرض وأطالوا عدد الأيام والليالي حتى تعود مكّة المعظمة وراء ظهورهم، ويكاد سهيل يصير شامهم، و [يصيرون] «9» مستقبلين بوجوههم الشام.

وأما زبيد الغوطة والمرج (47) وقد تقدمت الإشارة إليهم «1» وإمرتهم في بني نوفل، وهم والمشارقة جيران، وليس للمشارقة إمرة، ولكن لهم شيوخ منهم، وأمر هؤلاء وهؤلاء إلى نواب الشام ليس لأحد من أمراء العرب عليهم إمرة. وديارهم جميعا المرج والغوطة بدمشق إلى لاهة إلى أم أوعال «2» إلى الرّويشدات «3» ، وعليهم الدّرك وحفظ الأطراف، وبهم تم ذكر بني ربيعة. قال الحمدانيّ، وقد ذكر أعيانهم: وفي آل ربيعة جماعة كثيرة أعيان لهم مكانة وأبّهة، فأول من رأيت منهم مانع بن حديثة وغنامّ أبو الطاهر على أيام الملك الكامل، ثم حضر الكلّ في هذه الأيام إلى أبواب السلاطين من دولة المعزّ أيبك وإلى أيام المنصور قلاوون، وهم زامل بن عليّ بن حديثة، وأخوه أبو بكر بن عليّ، وأحمد بن حجيّ وأولاده وإخوته، وعيسى بن مهنّا وأولاده وأخوه، وهم رؤساء أكابر (و) سادات العرب ووجوهها، ولهم عند السلاطين حرمة كبيرة، وصيت عظيم إلى رونق في بيوتهم ومنازلهم «4» : (البسيط) [من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم ... مثل النجوم التي يسري بها السّاري]

قال الحمدانيّ: إلا أنهم مع بعد صيتهم قليل عددهم، قلت «1» : (الطويل) تعيّرنا أنّا قليل عديدنا ... فقلت لها: إنّ الكرام قليل وما ضرّنا أنّا قليل وجارنا ... عزيز وجار الأكثرين ذليل قال المهمندار الحمدانيّ: وقد وفد فرج بن حيّة على المعزّ [أيبك] «2» وأنزلناه بدار الضيافة، وقعد أياما، فجاء مقدار ما وصل إليه من عين وقماش وإقامة له ولمن معه ستة وثلاثين ألف دينار، واجتمع أيام الظاهر جماعة من آل ربيعة وغيرهم فحصل لهم من الضيافة خاصة في المدة اليسيرة أكثر من هذا المقدار، وكلّ ذلك على يدي (48) ، قال: وما يعلم ما خرج على يدي من بيوت الأموال والخزائن والغلال للعرب خاصة إلا الله تعالى مما لا تحصيه إلا بالجهد فسبحان من سخرّ لهم وقسم. قلت: قد قال الحمدانيّ هذا واستكثره، وأطال في هذا واستعظمه واستكبره، فكيف لو عمّر إلى زماننا، ورأى إليهم إحسان سلطاننا، ورأى العطايا كيف كانت تفيض فيهم فيضا من الذهب العين والدراهم بمئين ألوف، والخلع الأطلس بالأطرزة الزراكش وأنواع القماش الذي يفصّل لملبوسهم بالسّمور والوشق والسّنجاب «3» والبرطاسي والأطرزة [الزّركش] «4» والملمع والباهي، والساذج، والعتّابي من الإسكندري وفاخر المقترح والمصبوغات المجوهرة، والذّهب، وأنواع الزّركش لنسائهم والسّكر المكرّر والأشربة المختلفة بالقناطير المقنطرة، وأحمال الجمال المقطرة إلى ما ينعم به على أعيانهم من الجواري التّرك والخيل للنّتاج،

والفحول للمهائر مع ما يطلق لهم من الأموال الجمة بالشام، ويقطع باسمهم من المدن والبلاد، ويملّك لهم من القرى والضّياع، ويعطى غلمانهم ويجرى من الإقطاعات لهم وللائذين بهم وللمتجوّهين بجاههم، مع المكانة العليّة والشّفاعات المقبولة في استخدام الوظائف وترتيب الرواتب وإقطاع الجند، والإطلاق من السّجون، والرعاية في الغيبة، والحضور، إلى غير ذلك من تجاوز أمثال الكفاية في الإنزال والمضيف لهم ولأتباعهم، منذ خروجهم من بيوتهم وإلى حين عودهم إليها مع مؤاكلة السلطان مدّة إقامتهم بحضرته غداء وعشاء، والدخول عليه في المحافل والخلوات، وملازمته أكثر الأوقات. وإن وجدت لسانا قائلا فقل: وهم إلى الآن يقلعون بتلك الريح (49) ويستضيئون بتلك المصابيح. قال الحمدانيّ: ولقد رأيتهم في الوقائع مع من غلب إلا نوبة حمص «1» يعني الكائنة أيام المنصور قلاوون، فإنهم أثّروا أثرا حسنا، وعملوا في التّتار عملا جيدا، وقاتلوا قتالا شديدا، وربما تقدموا الجيش في اللقاء، فكانوا سبب الكرّة، يعني المؤدية إلى النّصرة. قلت: وحكى لي شيخنا أبو الثّناء محمود أنّه رأى آل مرا حين جاؤوا تلك المرة، قال: كنت جالسا على سطح باب الإسطبل السّلطانيّ بدمشق، وقد أقبلوا زهاء أربعة آلاف فارس شاكين في السلاح على الخيل المسوّمة، والجياد المطهّمة، وعليهم الكزغندات «2»

الحمر من الأطلس المعدنيّ، والدّيباج الرومي، وعلى رؤوسهم البيض «1» مقلّدين بالسيوف، بأيديهم الرماح كأنهم صقور على صقور، وأمامهم العبيد تميل على الركائب، ويرقصون بتراقص المهاري، وبأيديهم الجنائب التي ظلّت إليهم عيون الملوك صورا، ووراءهم الظعائن والحمول، قال: وكانت معهم مغنية لهم تعرف بالحضرميّة وكانت لها سمعة طائرة في زمانها، ورأيتها سافرة من الهودج وهي تغني «2» : (الطويل) وكنّا حسبنا كلّ بيضاء شحمة ... ليالي لاقينا جذام وحميرا ولما لقينا عصبة تغلبيّة ... يقودون جردا للمنية ضمّرا فلما قرعنا النّبع بالنبع بعضه ... ببعض أبت عيدانه أن تكسّرا سقيناهم كأسا سقونا بمثلها ... ولكنّهم كانوا على الموت أصبرا فقال رجل كان إلى جانبي: هكذا يكون وربّ الكعبة، فكان الأمر كما قال، فإن الكسرة كانت أولا على المسلمين، ثم كانت النّصرة لهم، واستحرّ القتل بالتتار، فسبحان منطق الألسنة، ومصرّف الأقدار، فهو الفاعل لما (50) يشاء، الفاعل المختار.

< بقية العرب وديارهم >

(بقية العرب وديارهم) وإذ قد انتهينا [من] «1» ذكر آل ربيعة فلنذكر ما حضرنا من بقية العرب وديارهم فنقول: (بنو خالد) بنو خالد «2» عرب حمص: يدّعون النسب إلى خالد وقد أجمع أهل العلم بالنسب على انقراض عقبه «3» ، [ولعلهم] «4» من ذوي قرابته من مخزوم، وكفاهم ذلك فخرا أن يكونوا من قريش. (بنو كلاب) وبنو كلاب «5» : عرب أطراف حلب والروم، ولهم غزوات معلومة، وغارات لا تعدّ، ولا تزال تباع بنات الروم وأبناؤهم من سباياهم، وهم يتكلمون بالتركية، ويركبون الأكاديش، وهم عرب غزّ «6» ، رجال حروب وأبطال جيوش، ولإفراط نكاياتهم في الروم صنّفت السيرة

المعروفة ب" دلهمة والبطّال" «1» منسوبة إليهم بما فيها من ملح الحديث، ولمح الأباطيل، والكذب فيها يغلب الصحيح، وقد «2» رأيت لعبد الوهاب ذكرا في سواها فقيل: عبد الوهاب بن نوبخت، وذكر الحافظ أبو القاسم بن عساكر البطّال وسمّاه عبد الله الأنطاكيّ «3» ، وذكر أنّه كان أيام بني مروان وفيها هلك، ومصنف هذه السّيرة قد جعله أيام بني العبّاس وذلك حديث خرافة، ولم أقف ل" دلهمة" على ذكر البتّة فيما يوثق به وقد نبّهت على هذا ليعرف. قلت: وذكر لي رجال من بني [مروان] «4» أنهم ينتسبون إلى عبد الوهاب هذا. قال المهمندار الحمدانيّ ما معناه: فأمّا بنو كلاب عرب الروم فقد كانوا ظهروا على آل ربيعة لأنّ الملك الكامل كان طلب من مانع بن حديثة وغنّام بن الظّاهر «5» جمالا يحمل

عليها غلالا إلى خلاط «1» يقويها بها، فاعتذر (ا) بأنّ الجمال عزبت في البرية، وكان بعض بني كلاب حضورا لديه، فتكفل له بحاجته من الجمال، ووفى بقوله، فحقدها الكامل على مانع بن حديثة وغنّام بن الظّاهر، واستوحشا منه، ثم أتياه عند أخذه آمد «2» ، فوبّخهما (51) وقال: والله لو (لا) أنكما عربي لأفعلنّ بكما الواجب، فخرجا خائفين منه إلى أن فتح دمشق «3» فأتياه بأنواع التّقادم، وتقربا إليه بالخدمة، قال: وكانت بنو كلاب تخدم الملك الأشرف موسى «4» وتصحبه لمتاخمته لبلاد الروم «5» ، وكانوا مترصّدين لخدمه ومعدودين من خدمه.

قلت: وكان سلطاننا لا يزال متلفتا إلى تألف بني كلاب، وكان أحمد بن نصير المعروف بالتّتريّ قد عاث في البلاد والأطراف واشتدّ في قطع الطريق، فأمّنه وخلع عليه وأقطعه فانقادت بنو كلاب «1» . وحكى لي الأمير علاء الدين ألطنبغا أيام نيابته بالشام «2» أنّ بني كلاب أشدّ العرب بأسا، وأكثرهم ناسا، ولكنهم لا يدينون لامرئ منهم بجمع كلمتهم، قال: ولو انقادوا لأمير واحد لم يبق لأحد من العرب بهم قبل ولا طاقة، ولما توجه إلى حلب لإمساك طشتمر «3» أتاه مشاهير بني كلاب مثل أحمد بن نصير، ونديّ بن ضحّاك وغيرهم، فكانوا أعوانه وظهراءه، ولم يزالوا معه حتى حقّت عليه النوبة، ففارقوه من [المعيصرة] «4» وكان ذلك بمباطنة من سليمان بن مهنّا لهم، وكانوا قد صاروا أحلافا له، وكان الملك الناصر قد أمّره على عرب بني كلاب، وجعل عليه حفظ جعبر وما جاورها.

< آل بشار >

(آل بشّار) وآل بشّار «1» ديارهم الجزيرة» ، والأحصّ ببلاد حلب، والأحلاف «3» منهم حالهم في عدم الانقياد لأمير واحد حال بني كلاب، ولو اجتمعوا لما أمن بأسهم، وهم على تفرّق كلمتهم وتشتت جماعتهم لا يزال آل فضل منهم على وجل، وطالما باتوا وقلوبهم منهم ملأى من الحذر، وعيونهم وسنى من السّهر وبينهم دماء، وهم [وبنو ربيعة] «4» وبنو عجل «5» جيران، وديارهم من سنجار وما يدانيها إلى [البارة] «6» قريب الجزيرة العمرية «7» إلى أطراف بغداد. غزيّة «8» قال الحمدانيّ: هم بطون وأفخاذ، ولهم مشايخ منهم من وفد على السلاطين في

زماننا. وهم متفرقون في الشام (52) والحجاز وبغداد وفيما بين العراق والحجاز. فأما شيوخ غزيّة الذين في طريق بغداد إلى الحجاز الذين مياههم اليحموم «1» ، و [اللصف] «2» ، والنّخيلة «3» ، والمغيثة «4» ، مياه البطنين «5» ، ومياه الأجود لينة «6» ، والثعلبية «7» ، وزرود «8» . فمن غزيّة البطنين منهم آل دعيج، وكان شيخهم مانع بن سليمان قد وفد (على) الديار المصرية سنة ثلاث وستّ مئة، وآل روق، وآل رفيع، وآل سريّة، وآل مسعود، وآل تميم، وآل [شمرود] «9» ، هذه البطنين من غزيّة. (و) بطون الأجود من غزيّة: آل منيع، وآل سنيل «10» ، وآل سند، وآل منال «11» ، وآل أبي الحزم، وآل عليّ، وآل عقيل، وآل مسافر. هؤلاء هم المشهورون من بطون غزيّة، والله أعلم، هذا ما ذكره الحمدانيّ.

قلت: وذكر لي نصير «1» بن برجس المشرقيّ زيادة: أولاد الكافرة، وساعدة، و [بني] «2» جميل، وآل مالك «3» . وأما أحلاف آل فضل فقد قدّمنا ذكرهم فيهم. وديار آل أجود منهم: الرّخيميّة، والوقبى «4» ، والفردوس «5» ، ولينة، و [الحدق] «6» . و [ديار] «7» آل عمرو بالجوف. وديار بقاياهم: اللّصف، والكمن، واليحموم، والام، والمغيثة. و [يليهم] «8» ساعدة وديارهم من [الحضر] «9» إلى برية زرود، ولا محيد للركب العراقي

عنها، إلى سعارة إلى [البقعاء] «1» إلى التيب «2» إلى الساسة «3» إلى حفر «4» وخالد ودارها التنومة وضئيدة» و [أبو الزيدان] «6» والقويع، وضارج «7» ، والكوارة، والنّبوان «8» ، إلى ساقة العرفة، إلى الرّسوس، إلى عنيزة «9» ، إلى وضاخ «10» ، إلى جبلة «11» ، إلى السّر، إلى العردة «12» ، إلى العشيرية، إلى الأنحل «13» .

< خفاجة وعبادة >

(خفاجة وعبادة) وخفاجة «1» وعبادة «2» عرب بغداد والعراق، وقال ابن عرّام: منازل عبادة من بغداد إلى الموصل، وبمرج دمشق قوم من عبادة. وخفاجة من هيت «3» ، والأنبار «4» ، إلى الحلّة «5» ، إلى بئر ملاحا «6» ، إلى الكوفة، إلى قائم عنقاء، والثّرثار «7» ، إلى [المثنّى] «8» دون البصرة، وهو غاية مرماهم ونهاية بعدهم. قال الحمدانيّ: وفدوا على الدولة الظاهرية بعيد كسرة الخليفة المستنصر «9» المجهز من

عربان العذار

مصر (53) لاستفتاح العراق، وكان كبير جماعتهم خضر بن مقلد بن سلمان بن مهارش العبّادي، وشهرى بن أحمد الخفاجي في أشياخ منهم مقبل بن سالم، وعياش بن حديثة ووشاح وغيرهم، فأنعم الملك الظاهر عليهم وفتّاهم «1» ، وكانوا عينا له على التتار، وأعوانا له للانتصار. عربان العذار وهم عرب المسيّب بالبطائح «2» ، وقد كانوا يعصون على الخلفاء وملوك التتار لتمنعهم بالماء والمقاصب المعلقة والأجم المتأشّبة، ومقدمهم ابن رؤوف، وهم من سنبس، والجبور، وآل نطّاح، إلى بطون أخرى، وقد صاروا أهل مدرة وحلّال دارة لا يبارحونها، ورزقهم مقدّر عليهم. عرب العارض والعارض «3» وراء الوشم، والوشم هو الذي ينتهي إليه آل فضل إذا توسّعوا في البرّ، وهم بنو زياد، والجميلة، وعرب الخرج «4» وهم العقفان والبرحان، ومن بلادهم: البريك «5»

عائذ [بني سعيد]

والنّعام «1» ، و [هما] «2» قريتان في واد منيع إذا حصّن مدخله بسور كان أمنع بلاد الله. قال ابن عرّام: وإلى هذا الوادي أزمع تنكز «3» على الهرب حين خاف من الملك الناصر، وعليه طريق ركب الحسا «4» وعليه ممرّ الركب من الحسا والقطيف «5» ، وفيه يقول بعضهم: (الطويل) لعلك توطيني نعاما وأهله ... ولو بان بالحجّاج عنه طريق عائذ [بني سعيد] «6» دارهم من حرمة «7» إلى جلاجل «8» والتوّيب ووادي القرى وليس الوادي المقارب للمدينة

بنو يزيد

الشريفة النبوية «1» زادها الله شرفا، و [تعرف] «2» بالعارض ورماح «3» والحفر. قلت: وحدّثني أحمد بن عبد الله الواصليّ أن بلادهم بلاد خير ذات زرع وماشية بقرى عامرة، وعيون جارية، ونعم سارحة، ولأرضهم بذلك الوادي منعة وحصانة، قال: وقد كان المظفر بيبرس الجاشنكير اهتمّ بقصده واللحاق به والمقام فيه، وأن يكون كواحد من أهله (54) مرتزقا من سوائم الإبل والشاء. قال: ثم انثنى رأيه عن ذلك آخر وقت ولو وجّه إليه وجهه كان أحمد لمنتجعه، وأدنى لعوده إلى صلاح الحال ومرتجعه. بنو يزيد ودارهم ملهم «4» ، وبنيان «5» ، وحجر «6» ، ومنفوحة «7» ، وصباح «8» ، والبرّة «9» ، و [العويند] «10» ، وجو «11» .

< المزايدة >

(المزايدة) و [المزايدة] «1» دارها البخراء «2» ، وحرمة، وهي حرمة أخرى غير الذي تقدم ذكرها، وسبخة الدبيل «3» ، والحلوة «4» ، والهزيم «5» ، والبريك، ونعام، والخرج. عقيل وهم من آل عامر، قال الحمدانيّ: وهي غير عامر المنتفق، وغير عامر بن صعصعة «6» ، قال: ومنهم القديمات، والنّعائم، وقبات، وقيس، ودنفل وحرثان وبنو مطرّق، وذكر أنهم وفدوا في الأيام الظاهريّة صحبة مقدّمهم محمد بن أحمد بن العقديّ بن سنان بن عقيلة بن شبانة بن قديمة بن نباتة بن عامر، وعوملوا بأتمّ الإكرام وأفيض عليهم سابغ الإنعام، ولحظوا بعين الاعتناء. قلت: وتوالت وفاداتهم على الأبواب العالية الناصريّة وأغرقتهم تلك الصّدقات بديمها فاستجلبت النائي منهم، وبرز الأمر السّلطانيّ إلى آل فضل بتسهيل الطريق لوفودهم

شمر ولأم

وقصّادهم وتأمينهم في الورد والصّدر، فانثالت عليه جماعتهم، وأخلصت له طاعتهم، وأتته بأجلاب الخيل والمهارى، وجاءت في أعنّتها وأزمّتها تتبارى، وكان لا يزال منهم وفود بعد وفود، وكان منزلهم تحت دار الضيافة لا يزال يسدّ فضاء تلك الرّحاب، وتغصّ بقبابه تلك الهضاب، بخيام مشدودة بخيام، ورجال بين قعود وقيام، وكانت الإمرة فيهم في أولاد مانع إلى بقية أمراء فيهم وكبراء لهم «1» ، ودارهم الإحساء والقطيف وملج «2» وأنطاع والقرعاء «3» واللهابة «4» وجودة «5» ومتالع «6» . شمّر «7» ولأم «8» من عرب الحجاز، وديارهم جبلا طيئ أجأ وسلمى، وظفير «9» من بني لام، ومنزلهم الظعن «10» قبالة المدينة النبوية (55) على ساكنها أفضل الصلاة والسّلام.

حرب

حرب «1» وهي ثلاثة بطون، بنو مسروج وهم بنو سالم، وبنو عبد الله «2» ومنهم: زبيد الحجاز و [بنو عمرو] «3» وهم من أكثر العرب عددا، وأجرأهم رجلا باطشة ويدا، ومساكنهم الحجاز. أما بقية عرب الحجاز، والمصارحة، والمساعيد، والرزّاق وآل عيسى، ودغم، وآل جناح، والجبور، فدارهم تتلو بعضها بعضا بالحجاز، وقد تقدم من ذكر هؤلاء ما تقدم في آل ربيعة. وأما أكلب فبطون كثيرة وهم من خثعم بن أنمار «4» وقيل: من ربيعة خثعم «5» . قال الحمدانيّ: وهم جليحة «6» جماعة فروة «7» ، وبنو هزر، ومنازلهم بثينة «8» شرقيّ مكة المعظّمة.

< صليبة العرب >

وأما خثعم فمنهم بنو منبّه، و [الفزع] «1» ، وبنو نضيلة «2» ، و [مغوية] «3» ، وآل مهدي، وبنو نضر، وبنو حام «4» ، والموركة، وآل زياد، وآل العصافير «5» ، والشمّاء «6» ، وبلوس، ودارهم غير متباعدة ممّن تقدّم. (صليبة العرب) قلت: وبالشام من صليبة «7» العرب أقوام شتى في البلاد قد خرجوا بها عن حكم العرب وصاروا بها أهل حاضرة ساكنة، وعمّار ديار قاطنة، فبمدينة غزة وبلد الخليل عليه السّلام معمور بني تميم الداريّ رضي الله عنه. وبوادي بني زيد فرقة من بني جعفر بن أبي طالب، وفرقة من بني عمر بن الخطاب رضي الله عنهما وبالقدس منهما وبنابلس كثير من قحطان وطائفة من مضر بن نزار وبجينين وبلادها أقوام من حارثة «8» ومن بكر بن وائل، وبجبل عاملة صليبة عاملة، وبالأغوار «9» أخلاط من

الموالي، وبعجلون فرقة من بني عمر بن الخطاب، وبالبلقاء منهم ومن بني أمية ومن غسّان، وبصرخد وبلادها من عامر بن هلال يدّعون أنهم من بني جعفر بن أبي طالب، و [بعثليث] «1» وما ينضمّ إليها من بني أسد، وبزرع «2» وبصرى أقوام من تغلب، ومن الأزد وبأذرعات «3» قوم من بني جمح من قريش وفي بعض قراها قوم يدّعون أنهم من بني جعفر بن أبي (56) طالب، وباليرموك صليبة من غسان، وبنوى «4» قوم يذكرون أنهم من بني المنذر بن ماء السماء «5» ، وبالشّعراء «6» قوم من بني أمية، و [باللّجون] «7» قوم ينتسبون إلى كندة، وبمرج دمشق أخلاط من طوائف العرب، وبحمص قوم من غسّان، وبحماة أقوام من عبد الدار، ومن جهينة وشداد من الأنصار وبشيزر «8» قوم من بني كلب، وفرقة من بني مازن، وبالجبل المعروف بالظّنّيين «9» فرقة من همدان، وبسلميّة من بني

< مصر ودمشق >

الحسين بن عليّ، وبالمعرة «1» صليبة تنوخ، وبحلب وبلادها من بني الحسين بن عليّ، ومن بني عقيل، ومن بني كلاب، وكلب، [ومن جهينة، ومن بني قرّة «2» ، وبتدمر والمناظر رجال من أسلم وقوم من بني كلب] «3» وبالقريتين «4» نفر من بني تغلب، وبالرحبة المعروفة بمالك بن طوق قوم من بكر من وائل ورجال من مضر، وآخرون من ربيعة، وعامة أهلها من أبناء اليهود على ما يقال. وذكرت هذا مثالا لا استيعابا إذ لا قدرة على تحقيقه والإتيان [على جمعه] «3» . (مصر ودمشق) وأما مصر ودمشق فمصران جامعان، ولا يخلوان من بيوت العرب وذوي الحسب منهم والنسب. عرب مصر قيل: وبدمياط «5» سنبس، وهم من الغوث بن طيئ، وكان لهم أيام الخلفاء الفاطميين شأن

وأيام، وهم الخزاعلة، وجموح، وعبيد «1» ، وحلفاؤهم من عذرة «2» فرقة غير من تقدّم ذكره، ومدلج، وديار هؤلاء من ثغر دمياط إلى ساحل البحر يجاورهم فرقة من كنانة بن خزيمة أتوا أيام الفائز الفاطميّ «3» في وزارة الصالح بن رزّيك «4» ومقدمهم لاحق، ومن ولده قاضي القضاة شمس الدين بن عدلان «5» ، وفرقة من بني عديّ بن كعب وفيهم رجال من بني عمر بن الخطاب ومقدمهم خلف بن [نصر] «6» العمريّ فنزلوا بالبرلّس «7» وكانوا

هم والكنانيون من ذوي الآثار نوبة دمياط «1» . قلت: ونحن من ولد خلف بن [نصر] «2» المذكور وهو شمس الدولة أبو عليّ وقد وجد خاصة والوفد الكنانيّ عامة من ابن رزّيك (57) فوق الأمل، وحلّوا محلّ التكرمة عنده على مباينة الرأي ومخالفة المعتقد وقد أتيت بذلك مفصّلا في كتاب" فواضل السّمر في فضائل آل عمر" «3» . قلت: إنما قدمت هذا الفصل لغرض هو تعلقه بنسبي وقومي الذين أنا منهم. قال الحمدانيّ: أول من سكن مصر جذام حيث جاؤوا مع عمرو بن العاص «4» ، وأقطعوا فيها بلادا بعضها بأيدي بنيهم إلى الآن، ثم عدّ من بها بالصعيد من العربان في زمانه، فقال: أولهم بنو هلال ولهم بلاد أسوان وما تحتها، ثم بليّ ولهم بلاد إخميم «5» وما تحتها،

ثم جهينة ولهم بلاد منفلوط «1» وأسيوط، ثم قريش [ولهم] «2» بلاد الأشمونين «3» ، ثم لواثة «4» ويقال فيهم: لواثا ولهم معظم بلاد البهنسا «5» ، ومنهم أناس بالجيزة، وأناس بالمنوفية «6» ، وأناس بالبحيرة «7» ، وهم قبائل متفرقة تجمعهم لواثة. ثم بنو كلاب ولهم بلاد الفيّوم «8» قال: وهؤلاء القبائل المشهورة في الصعيد، ثم ذكر جملا من أحوالهم، وقال: فأما بنو هلال فيرجعون إلى عامر بن صعصعة من قيس عيلان، وكانوا أهل بلاد الصّعيد كلّها إلى عيذاب، وبإخميم منهم بنو قرّة، وبساقية قلتة «9» منهم بنو عمرو «10» وبطونهم،

وهم: بنو رفاعة، وبنو حجير، وبنو غرير، وبأصفون «1» وإسنا «2» بنو عقبة، وبنو جميلة، ثم [بنو] «3» جميلة منهم نجم الدين الأصفونيّ «4» الوزير وكان فقيها كاتبا عارفا بأمور الديوان ضابطا للأموال، ثقل على الشّجاعي «5» وكان مشدا معه، ولم تمتد له معه يد في مال السلطان، فدسّ له سما في كعكة وأعطى عبدا كان له مئة دينار ليطعمها له بكرة يكون فطره عليها، وأوهمه أنها عملت للتأليف بينهما فأطعمها ذلك العبد الجاهل سيده فكان فيها حتفه واحتاط الشجاعيّ على تركته، وأمسك العبد وقتله وأخذ ما كان يملكه (58) ووجد معه الدنانير بصرتها فأخذها. وأما بليّ فمن قضاعة وكانوا مفرقين فاتفقت هي وجهينة فصار لبليّ من جسر سوهاي «6» غربا إلى قريب قمولة «7» ، وصار لها من الشرق من عقبة فاو الخراب «8» إلى

عيذاب، قال: والموجود اليوم في هذه البلاد من أصول بليّ بن عمرو بنو هني، وبنو هرم، وبنو سوادة، وبنو خارفة، وبنو رائس، وبنو ناب، وبنو شاد، وهم الأمراء الآن، وبنو عجيل بن [الذّيب] «1» ، وهم العجلة، وفيهم الإمرة أيضا، ثم قال: ويقال إن بني شاد من بني أمية وصل يعني إذ طردوا إلى القصر الخراب المعروف بهم وكان معه رجل من ثقيف معه قوس فسمّوه القوس، وذريته يعرفون بالقوسية والقوسة، ودعوتهم لبني شاد وهم بطوخ «2» وكذلك يدعى لهم خلق سواهم منهم هذيل وهم بطوخ أيضا، ومنهم بنو حمّاد، وبنو فضالة بمنفلوط، وبنو خيار بفرشوط «3» ، وقال: إن قوما زعموا أن بني شاد من بني العجيل بن الذّيب وإنما هم إخوتهم، وإنما العجيل كان قد تزوج أخت إبراهيم بن شاد فولدت منه ولدا سمته شاديا فوهم الجهلة لذلك، قال: وقد قال قوم إنّ عجيل بن الذّيب من ولد الشّمر «4» قاتل الحسين عليه السّلام، وليس كذلك. وأما جهينة فمن قضاعة، وهم أكثر عرب الصعيد وكانت مساكنهم في بلاد قريش فأخرجتهم قريش بمساعدة عسكر الخلفاء المصريين فهم اليوم في بلاد إخميم أعلاها وأسفلها، قال: وروي أنّ بليّا وبطونها كانت بهذه الديار، وجهينة بالأشمونين جيرانا بمصر كما هم بالحجاز، فوقع بينهم واقع أدى إلى دوام الفتنة، فلما أتى العسكر المصريّ لإنجاد قريش على

جهينة خافت بليّ فانهزمت في أعلى الصعيد إلى أن أديلت قريش وملكت دار (59) جهينة ثم حصل بينهم جميعا الصلح على مساكنهم هذه التي هم بها الآن وزالت الشّحناء. قلت: وفي المثل:" وعند جهينة الخبر اليقين". قال أبو عبيدة: خرج حصن بن عمرو بن معاوية بن كلاب ومعه رجل من جهينة فنزلا منزلا فقتل الجهنيّ الكلابيّ، وأخذ ماله، وكانت للكلابيّ أخت اسمها صخرة فجعلت تبكية في المواسم، فقال الأخنس الجهنيّ فيها: (الوافر) كصخرة إذ تسائل في مراح ... وفي جرم وأعلمها ظنون تسائل عن حصين كلّ حيّ ... وعند جهينة الخبر اليقين وقيل: بل كان جهينة يخدم ملكا يمانيا، وكان له وزير إذا غاب الملك خلفه الوزير على [بعض] «1» حظاياه، فتبعه جهينة بحيث لم يره فلما جلس الوزير على مقعد الملك في لبسه والحظيّة إلى جانبه غنى وقد أخذ منهما السّكر: (الوافر) إذا غاب المليك خلوت ليلي ... أضاجع عنده ليلي الطويل كأن مطارح الوشحات منها ... هنال يطّردن على وهيل فلما دخل فيهما السكر قام جهينة فقتل الوزير ودفن رأسه تحت وسادة الملك فلما أتى الملك وفقد الوزير جهد في تعرف خبره فلم يقف عليه حتى سكر جهينة ليلة عنده فقال: (الوافر) تسائل عن نجيدة كلّ وقت ... وعند جهينة الخبر اليقين

فسمعه بعض النّدماء فأخبر الملك فسأله «1» فأوقفه على الخبر فأمّره على بلاد كثيرة وأجزل له العطاء. وأما قريش فمنهم الجعافرة وهم من الزّيانبة «2» . ومنهم: الشريف [حصن الدين بن] «3» [ثعلب] «4» صاحب ذروة سربام «5» ، ومسكنهم المتمرع من بحري منفلوط إلى سملّوط «6» غربا وشرقا، قال: ولهم أيضا حدود ببلاد أخرى يسرة «7» . قال: (60) وبجرجة منفلوط قوم من بني الحسن بن عليّ وفي سيوط أناس من أولاد إسماعيل بن جعفر الصادق يعرفون بأولاد الشريف قاسم. ثم ذكر بطون الجعافرة فقال: منهم بنو أيمن وهم الحيادر (ة) منسوبون إلى جدّهم حيدرة. ومنهم السّلاطنة أولاد أبي جحيش، والإمرة فيهم في بني تغلب، وسمت نفوسهم إلى الملك

وخصوصا الشريف حصن الدين «1» وقد كان أنف من إمارة المعزّ والدولة التركية، وكاتب الملك الناصر بن العزيز «2» وأرسل إليه الفائزيّ «3» الوزير وغيره في جيوش، وكانت له ولهم أيام، وآخر أمره نصب له الظاهر بيبرس حبائل الغدر، وصاده بغوائل المكر حتى شنقه بالإسكندرية. قال: وهذه نبذة من أخبار الأشراف بالصعيد، وحدود بلادهم وبلاد مواليهم وأتباعهم وحلفائهم من بلاد الأشمونين بالصعيد إلى بحري إتليدم «4» وما انحدر، ومعظمهم بالذّروة، قال: وأما غير الأشراف من قريش الساكنين بالصعيد فمنهم: بنو طلحة، وبنو الزّبير، وبنو شيبة، وبنو مخزوم، وبنو أمية، وبنو زهرة، وبنو سهم، [ومن موالي بني هاشم بنو منحر «5» ، وهم بنو قنبر] «6» مولى عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه.

< بنو طلحة >

(بنو طلحة) فأمّا بنو طلحة فمن بني طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه «1» ، وهم ثلاث فرق هم وأقرباؤهم، وأطلق على الكلّ اسم بني طلحة. فالأولى: بنو إسحاق، ويقال إن إسحاق ليس بجدّ لهم ولكن موضع تحالفوا عنده سمّوه إسحاق كناية كما تحالفت الأزد عند أكمة سمّوها مذحجا. والثانية: فضا طلحة «2» وهم بطون كثيرة وأكثرهم أشتات بالبلاد لا حدّ لهم. والثالثة: يعرفون ببني محمد من ولد محمد بن أبي بكر الصدّيق رضي الله عنهما. ومنازل بني طلحة (61) بالبرجين، وسفط سكّرة، وطحا «3» المدينة بالأشمونين. (بنو الزّبير) وأما بنو الزّبير «4» فمنهم بني عبد الله بن الزّبير، وهم بنو بدر، وبنو مصلح، وبنو رمضان، ومنهم بنو مصعب بن الزّبير «5» ، ويعرفون بجماعة محمد بن رواق، وبنو عروة بن

< بنو مخزوم >

الزّبير «1» ، وهم بنو غنيّ، وبلادهم بالبهنسا وما يليها، وأكثرهم ذوو معايش وأهل فلاحة وزرع وماشية وضرع. (بنو مخزوم) وأما بنو مخزوم فيدعون بنوة خالد بن الوليد، وكذلك ادعى ذلك خالد بالحجاز وخالد حمص وغير هؤلاء، وقد أجمع أهل العلم بالنسب على انقراض عقبه، ولعلّهم من سواهم فهم من أكثر قريش بقية، وأشرفهم جاهلية، وبلادهم متاخمة لما يليهم، وفيهم بأس ونجدة. (بنو شيبة) وأما بنو شيبة، فيعرفون بجماعة نهار، وهم من جماعة شيبة بن عبد الدار، وديارهم من نواحي سفط وما يليها ويقاربها ويدانيها. وأما بنو أمية فمن بني أبان بن عثمان بن عفّان «2» ، وبني خالد بن يزيد بن معاوية «3» ، وبني مسلمة بن عبد الملك «4» ، وبني حبيب بن الوليد بن عبد الملك «5» ، وديارهم

< كنانة طلحة >

تندة «1» وما حولها، قال: ومن هؤلاء المراونة من ولد مروان بن الحكم، ولهم قرابات بالأندلس وأشتات في المغرب، ومرّت الدولة الفاطمية وهم بأماكنهم من ديار مصر، لم يروّع لهم سرب، ولم يكدّر لهم شرب، وهم إلى الآن. وأما بنو سهم، فمن ولد عمرو بن العاص، وهم بالفسطاط وفرق منهم أشتات بالصعيد، ولهم حصة في وقف عمرو بن العاص على أهله بمصر. قلت: وقد ذكر القضاعيّ في" خطط مصر" دور السّهميين، قال: وهي حول المسجد «2» حيث كان الفسطاط، وهو موضع المحراب وما يليه من جانبيه إلى حيث السّواري القبلية، قال: وفي بلاد قريش أخلاط من الناس سواهم وذكرهم (62) فقال: (كنانة طلحة) وأما كنانة طلحة فهم من كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر، وهم بنو الليث وبنو ضمرة، وهما ابنا بكر بن عبد مناة بن كنانة، وبنو فراس بن غنم بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة، وفي بني فراس يقول عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه لبعض من كان معه: لوددت أنّ لي بألف منكم سبعة من بني فراس بن غنم بن ثعلبة، قال: ولم تمكنهم قريش من التعدية إلى بلادها إذ أتوا من بلاد بادية الحجاز إلا بمراسلة بني إبراهيم بن محمد «3» وكان مع كنانة جماعة من أخلاط العرب دخلت في لفيفها، وديارهم ساقية

< لواثة >

قلتة وما يليها، وبنو الليث، ومنهم خاصة سكان ساقية قلته. وأما الأنصار، فمنهم بنو محمد وبنو عكرمة بحري منفلوط، قال: وبنو محمد من حسّان ابن ثابت رضي الله عنه «1» وبنو عكرمة ينتمون إلى سيد الأوس سعد بن معاذ رضي الله عنه «2» . وأما عوف «3» فمن بني سليم، وفي سليم عوف أخرى «4» ، قال: ومنهم في الصّعيد والفيوم والبحيرة أناس كثير وفي برقة إلى الغرب منهم ما لا يحصى. وأما فزارة، فمن سعد بن قيس عيلان، فمنهم جماعة بالصعيد، وجماعة بضواحي القاهرة في قليوب» وما حولها وبهم عرفت البلد المسمّاة بخراب فزارة، قال: وقد مضى ذكر قريش ومن ساكنها. (لواثة) وأما لواثة «6» ، وهم يقولون: إنهم من قيس [من] «7» غطفان بن سعد بن قيس (عيلان) . وقال بعض النسابين: هم من ولد برّ من ولد قيدار بن إسماعيل كان قد ارتكب معصية

فطرده أبوه، وقال له: البرّ البرّ، اذهب يا برّ فما أنت برّ، فأتى فلسطين، فتزوج امرأة من العماليق، فولد له منها أولاد منهم: لواثة ومزاتة، وزنّارة، وهوّارة، وزويلة ومغيلة، ومليكة، وكتامة (63) ، وغمارة، ونفوسة، وكانوا من ذوي جالوت، فلما قتل دخلوا المغرب وقيل: إن البربر من ولد قفط بن حام، وقيل غير هذا كلّه. عاد الحديث إلى لواثة، وهم: بنو بلار (و) حد وخاص، وبنو مجدول، وبنو حديدي، وقطوفة، وبركين، ومالو، ومزورة، قال: وبنو حديديّ [تجمع] «1» أولاد قريش وأولاد زعازع وهم أشهر من في الصّعيد، وقطوفة تجمع مغاغة وواهلة، وبركين تجمع بني زيد وبني روحين، ومزورة تجمع [بني وركان] «2» وبني عرواس، قال: وأما بنو بلار ففرقتان: فرقة بالبهنساوية وفرقة بالجيزيّة، فالفرقة البهنساوية بنو محمد، وبنو عليّ، وبنو نزار، ونصف بني تهلان «3» . وأما الفرقة التي بالجيزيّة، فبنو مجدول وسفارة «4» وبنو أبي كثير، وبنو الجلاس «5» ، ونصف بني تهلان. قال، ويقال لهذه الفرقة حدو خاص، ويقال للأولى البلارية ومنهم مغاغة، ولهم سملّوط إلى الساقية ولبني بركين أقلوسنا «6» وما معها إلى بحري طنبدى «7» ولبني حدو

خاص الكفور [الصولية] «1» وسفط (أ) بو جرجة «2» إلى طنبدى وإهريت «3» ، ومنهم بنو محمد وبنو عليّ المقدم ذكرهما وأمراؤهم بنو زعازع. قال: ومزورة بنو وركان وبنو [عرواس] «4» ، وبنو جمّاز، وبنو الحكم، وبنو الوليد، وبنو الحجاج، وبنو المحربية «5» ، قال: ويقال إن بني الحجاج من بني حماس ولهذا [يؤدون معهم] «6» القطائع، وقال: وبنو نزار في إمارة بني زعازع وهم من بني رزب «7» ، ومنهم نصف بني عامر، والحماسنة والضباعنة وأفرد قوم منهم لإمارة تاج الملك عزيز بن [ضبعان] «8» ثم ولده. ومنهم أيضا بنو زيد وأمراؤهم أولاد قريش ومساكنهم نويرة دلاص «9» ، وكان قريش عبدا صالحا كثير الصدقة وهو والد سعد الملك الباقي بنوه، قال: وفي المنوفية من لواثة أيضا

جماعة يأتي ذكرهم في مكانهم، (64) قال: وبالصعيد من لخم قوم سكنهم بالبرّ الشرقي ومنهم من بني سماك: بنو مر، وبنو مليح، وبنو نبهان، وبنو عبس «1» ، وبنو كريم، وبنو بكر «2» ، وديارهم من طارق ببا «3» إلى منحدر دير الجمّيزة من البرّ الشرقي. ومنهم من بني حدّان: بنو محمد، وبنو عليّ، وبنو سالم، وبنو مدلج، وبنو رعيس «4» وديار [هم] «5» من دير الجمّيزة إلى ترعة صول «6» . ومنهم من بني راشد: بنو معمر، وبنو واصل، وبنو مرا «7» ، وبنو حبّان، وبنو معاذ، وبنو البيض، وبنو حجرة، وبنو سنوة، وديارهم من مسجد موسى «8» إلى أسكر «9» ونصف بلاد إتفيح، ولبني البيض الحيّ الصغير ولبني سنوة من ترعة شريف إلى معصرة بوش. ومنهم من بني جعد: بنو مسعود، وبنو حرير «10» ، وبنو زبير، وبنو نمال، وبنو أنصار «11»

< عرب الحوف >

وسكنهم ساحل إتفيح. ومنهم من بني عديّ: بنو موسى، وبنو محرب، ومساكنهم بالقرب منهم، و (منهم) من بني بحر: بنو سهل وبنو معطار، وبنو فهم، وبنو عشير «1» ، وبنو مسند، وبنو سباع، ومسكنهم الحيّ الكبير. ومنهم قسيس «2» ومساكنهم بلاد الأسكر، ولبني غنيم منهم العدوية» ودير الطين «4» إلى جسر مصر، ومنهم بنو عمرو مساكنهم من الرستق، ولهم نصف حلوان «5» ، ولبني حجرة النصف الثاني ونصف طرا. (عرب الحوف) وأما عرب الحوف «6» فمنهم جذام وجذام من كهلان من اليمن، وقد قيل إنهم من ولد يعفر «7» بن مدين بن إبراهيم الخليل عليه السّلام.

وروى محمد بن السائب «1» أنه وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد من جذام فقال «2» :" مرحبا بقوم شعيب وأصهار موسى"، وزعم بعضهم أنهم معدّ، وفي ذلك يقول جنادة بن خشرم «3» : (الوافر) ألا من مبلغ المضرين أنّا ... غصبنا كل [أجوف كالهلال] «4» وما قحطان لي باب وأمّ ... ولا يصطادني شبه الضلال وليس إليهم نسبي ولكن ... معدّيا وجدت أبي وخالي (65) قال: ومن إقطاعهم هربيط «5» ، وتلّ بسطة، ونوب «6» ، و [أم رماد] «7» وغير ذلك، وجميع إقطاع ثعلبة كان في مناشير «8» جذام من زمن عمرو بن العاص وإنما السلطان صلاح الدين وسّع لثعلبة في بلاد جذام ولذلك كانت فاقوس «9» وما حولها لهلبا سويد.

< بنو زيد بن حرام بن جذام >

(بنو زيد بن حرام بن جذام) قال: ونبدأ قبل كلّ شيء بولد زيد بن حرام بن جذام «1» ، وهم [بنو] «2» سويد، وبعجة، وبرذعة، ورفاعة، وناتل، ومن هؤلاء بطون كثيرة فمنهم هلبا مالك، ومالك هو ابن سويد، ومنهم [بنو عبيد، وهم بنو عبيد بن مالك، ومن بني عبيد المذكور] «2» الحسنيون. والغوارنة وهم أولاد الحسن والغور ابني [أبي] «2» بكر بن موهوب بن عبيد من مالك بن سويد، ومنهم بنو أسير وهو ابن عبيد بن مالك بن سويد، ومنهم العقيليون، [وهم] «3» بنو عقيل بن قرّة بن موهوب بن عبيد بن مالك بن سويد، وفيهم إمرة [وهي] «4» في نجم وبنيه، وفيهم من أمّر بالبوق والعلم وهو أبو رشد بن حبشي بن نجم بن إبراهيم بن مسلم بن يوسف بن واقد «5» بن غدير بن عقيل بن قرّة، ودحية وثابت [ابنا] «6» هانئ بن حوط بن نجم بن إبراهيم. عدنا إلى بقية بطونهم، ومنهم: اللّبيديون، ومنهم: البكريّون، وعدّ من أحلافهم أولاد الهوبربة والرداليين والحليفيين

والحصينيين والربيعيين، قال ويعرفون بحلف بني الوليد «1» وهم أولاد شريف النجابين، وذكر أن لهم نسبا في قريش إلى عبد مناف بن قصي، وذكر من ولد الوليد بن سويد طريف ابن مكنون «2» الملقب رزين الدولة، قال: وكان من أكرم العرب وكان في مضيفته أيام الغلاء اثنا عشر ألفا يأكل عنده كلّ يوم، وكان يهشم الثريد في المراكب، ومن أولاده فضل بن شمخ بن كمونة، وإبراهيم بن غالي وأمّر كلّ منهما بالبوق والعلم. عدنا إليهم [ومنهم] «3» الحيادرة من ولد حيدرة بن معروف «4» بن حبيب بن الوليد بن سويد وهم طائفة كثيرة، و [منهم] «5» بنو عمارة بن الوليد وفيهم عدد ولهم البيروم «6» ، والحييّون من بني حية بن راشد بن الوليد وأولاد منازل وكان منهم (66) معيد بن منازل وأمّر ببوق وعلم. وهلبا سويد ومنهم العطويون، والحميديّون، والجابريّون، والغثاورة، ويقال لهم أولاد طرّاح المكوس، وحمدان، ورومان، وحمران وأسود ويعرف هؤلاء الأربعة بالأخيوة، واللكين، والقتلان. قال: ومن بطون الحميديين أولاد راشد، ومنهم البراجسة، وأولاد سرير، والجواشنة، والكعوك، وأولاد غنّام «7» ، وآل حمود، والأخيوة، والزّرقان، والأساودة، والحماديون، ومن

< هلبا بعجة بن زيد >

بني راشد: الحراقيص، والحنافيش، وأولاد غالي، وأولاد جوال، وآل زيد، ومن النجايبة: أولاد نجيب، وبنو فضل. قال: ومن ولد مالك بن هلبا بن مالك بن سويد نميّ أبو خثعم، وأقطع خثعم وأمّر واقتنى عددا من المماليك الأتراك والروم وغيرهم، وبلغ من الملك الصالح أيوب «1» منزلة ثم حصل عند الملك المعزّ على الدرجات الرفيعة وقدّمه على عرب الديار المصرية، ولم يزل على هذا حتى قتله غلمانه، فجعل المعزّ ابنيه سلمى ودغش عوضه فكانا له نعم الخلف، ثم قدم دغش دمشق فأمّره الملك الناصر ببوق وعلم، وأمّر الملك المعزّ أخاه سلمى كذلك فأبى حتى يؤمّر مفرج بن سالم بن راضي مثله فأمّره، ثم أمّر مزروع بن نجم كذلك في جماعة كثيرة من جذام وثعلبة، قال: فهذه هلبا سويد بأنفارهم. (هلبا بعجة بن زيد) قال: وأما هلبا بعجة بن زيد بن سويد بن بعجة «2» فهم: [بنو] «3» هلبا ومنظور، ورداد «4» ، وناتل، فمن ولد هلبا مفرّج بن سالم المقدم ذكره، ثم خلفه على إمرته ولده حسان، ومنهم أولاد الهريم من بني غياث بن عصمة بن نجاد بن هلبا بن بعجة، وجوشن

صاحب السراة المضروب به المثل في الكرم والشجاعة من «1» منظور بن بعجة، والغويثية في عدد رداد بن بعجة. قال: ولناتل البئر المعروف ببئر ناتل على رأس السراة، ومن ولده مهنّا بن علوان بن عليّ ابن زبير بن حبيب بن (67) ناتل، وكان جوادا كريما طرقته ضيوف في شتاء ولم يكن عنده حطب يقده لطعام أراد أن يصنعه لهم فأوقد لهم» أحمال برّ كانت عنده، وكان له كفر برسوط بنواحي مرصفا «3» . و [منهم] «4» بنو ردينيّ، وهم من بني ردينيّ بن زياد بن حسين بن مسعود بن مالك بن سويد. ومنهم أولاد جياش بن عمران ولهم تلّ محمد «5» . وأما أولاد [محريّة] «6» أخي زيد، وهو ابن أمية، [وقيل: ميّة، وقيل: ليس هو بأخي زيد بل هو ابن زيد بن أمية أو ميّة] «7» وقيل: هو وزيد ابنا الضّبيب، وقيل: بل الضّبيب، أبو أمية. ومن بني محريّة أخي زيد رفاعة بن زيد بن ذؤيب «8» جدّ بني روح «9» وهو الذي وفد

على النبيّ صلى الله عليه وسلم وعقد له على قومه «1» ، فتوجّه إليهم فأسلموا على يديه ووهب لرسول الله صلى الله عليه وسلم مدعما العبد صاحب الشملة التي فيها الحديث «2» الذي [قيل] «3» بخيبر. ومنهم الشّواكرة من شاكر بن راشد بن عقبة بن محريّة ولهم شنبارة بني خصيب «4» . ومنهم أولاد العجار أدلاء الحاجّ من زمن السلطان صلاح الدين وهلمّ جرا إلى الآن. ومنهم حميدة بن صالح بن أسد بن عقبة، وفي عقبة هذا عدد يعرفون به، وفرقة منهم بالحجاز من واصل بن عقبة. قال:- فيما نقله عن المحدثين من ذوي المعرفة كما قال- إنّ عمرو بن مالك بن الضّبيب، وعثيرة، وزهير (ا) ، وخليفة و [حصنا] «5» أفخاذ من الضّبيبيين، وأنّ بني خليفة

وحصن قد انضافوا إلى بني عبيد بالحلف، ولهم موضع من حقوق هربيط يعرف بالأحراز. قال: وأما زهير فأكثرهم بالشام، والذين بمصر امتزجوا بولد زيد، وهم بحري الحوف إلى ما يلي أشموم وهم «1» بنو عرين «2» . قال: ومن بني جذام بنو سعد، وفي جذام [خمسة] «3» سعود: سعد [بن] «4» إياس ابن حرام بن جذام، وسعد بن مالك بن زيد بن أقصى بن سعد بن إياس بن حرام بن جذام، وإليه ينسب أكثر السّعديين، وسعد بن مالك بن حرام بن جذام، (68) وسعد بن أيامة بن عنبس بن غطفان بن سعد بن مالك بن حرام بن جذام، وسعد بن مالك بن أقصى بن سعد ابن إياس بن حرام بن جذام. قال: والخمسة اختلطت عندنا بمصر، وأكثرهم مشايخ بلاد وخفراؤها، ولهم مزارع ومآكل وفسادهم كثير (و) من مقدميهم أولاد فضل، والسلاجمة «5» وسكنهم منية غمر «6» إلى [زفيتا] «7» . ومنهم شاور «8» الوزير العاضديّ، وإليه ينسب بنو شاور كبار منية غمر وخفراؤها، وذكر

ابن خلّكان أنه من سعد حليمة مرضع النبيّ صلى الله عليه وسلم «1» . ومنهم بنو عبد الظاهر «2» [الموقعون] «3» . قلت: رأيته «4» ينسب نفسه إلى روح بن زنباع. ومنهم أهل برهمتوش «5» ومشايخها ومن هؤلاء بنو شاس. قال: وفي بني سعد عشائر كثيرة منهم شاس وجوشن وعلان «6» وفزارة بني سعد [في] «7» تلّ طنبيلول «8» إلى نوب طريف ومنهم [بدقدوس] «9» ودمريط «10» ووليلة

وبشلوس «1» ، وهؤلاء جميعهم ديارهم ضواحي القاهرة إلى أطراف الشرقية. وبالإسكندرية من جذام ولخم أقوام ذوو عدد وعدد وأهل شجاعة وإقدام وضرب بالسيف ورشق بالسّهام، ولهم أيام معلومة وأخبار معروفة ووقائع في البرّ والبحر مشهورة. وبرشيد «2» القراططة ومصفونة من مرديش «3» ، وبالبحيرة والغربية طوائف من مزاته وبقليوب طوائف من فزارة، ومنهم بنو بعاية وهم أعيان، ودارهم أطراف الشرقية وما أخذ شرقا وقبلة. وأما العائذ فكثير في العرب، والمشهور منها بمصر عائذ جذام، وبالحجاز عائذ ربيعة، وأما عائذ فرير، فلما تنافرت ثعلبة وجذام ادعوا في ثعلبة. وبالمنوفية كما تقدم فرقة من لواثة منهم بنو يحيى والوسوة وعبدة ومصلّة، وبنو مختار (69) ، قال: ومعهم في البلاد أحلاف من مزاته، وزنارة، وهوارة، وبني الشعرية إلى قوم آخرين، ومن زنارة مرديش، وبنو صالح، وبنو مسام، وزمران، وورديغة، وعرهان، ولقان ومن هوّارة بنو محريش وبنو أسرات «4» وبنو قطران وبنو كبريث. وأما ثعلبة مصر والشام فمن طيئ وفي كلّ من خندف وقيس ومراد ويمن وثعلبة قال: وكانوا كما ذكر يعني ثعلبة مصر يدا مع الفرنج قديما لكنني لم أرهم إلا غزاة مجاهدين لهم آثار في الفرنج، وهي بطنان درما وزريق ابنا عوف بن ثعلبة، ويقال: بل ابنا ثعلبة لصلبه. واسم درما عمرو، وإنما غلب عليه اسم أمّه درما، ومن أفخاذ درما بمصر: سلامة، والأحمر،

وعمرو، وقصير، وأويس. ومن أفخاذ زريق بها أشعث ولبنى، قال: وثعلبة، وعنين، ونيل إخوة، الثلاثة أولاد سلامان، قال ومن درما البقعة وشبل من ولد نافع بن قروان، والحنابلة وجدّهم حسين، والمراونة وجدّهم مروان والحيّانيون من ولد حيّان بن درما، ومن زريق بنو وهم، والطلحيون، وفي الطلحيين آل حجاج، وآل عمران، وآل حصيناة، والمصافحة، وكان مقدمهم سقير بن جرجي، وأمّر بالبوق والعلم. عدنا إلى بني زريق، ومنهم: الصّبيحيون، وفي الصّبيحيين: الغيوث، والرموث، والروايات، والنمول، و [السحميون] «1» ، والسّعالى وهم بنو حصن، والرمالي، و [الوريثيون، والسّنديون] «2» ، والبحابحة. عدنا إلى بني زريق ومنهم: العقيليون، والمساهرة، والجحافرة، ومنهم العليميّون وكان مقدّمهم عمرو بن عسيلة وأمّر بالبوق والعلم وفي العليميين القمعة، والرياحين [بنو] «3» مالك، والفرقة المعروفة بالأشعث بن زريق، وفيهم رجال ذوو ذكر ونباهة خدموا الدول وعضّدوا الملوك (70) وقاموا ونصروا. قال: ومن ثعلبة الجواهرة جماعة سنجر بن عمر بن هندي. وأما بنو بياضة، والأحادسة فبقطيا «4» وبنو صدر بالبدرية وهي طريق البرّ من الشام إلى مصر.

وأما حرام فهي جذام وقليل في عرب مصر من يعرفها وفي الخزرج حرام وحرام، قال: وما يدري أحد من أيّهما هذه التي بمصر. وفي خندف حرام «1» وفي تميم حرام «2» ، قال: وحرام هذه القاطنة بمصر من الخزرج وهم بنو حية، وبنو ذبيان، قال: وهم أشتات بمصر وفيهم مشايخ بلاد، وخولة، وقضاة، وفقهاء، وعدول وليست لهم دار خاصة ولا مكان معروف، وقد عد الحمدانيّ جماعة منهم ليس فيهم شهير. وفي الدقهلية والمرتاحية «3» عرب يدعون الجمارسة «4» ، وقوم ينسبون إلى قريش وهم نفر من بني عذرة وهم من كنانة بن عذرة «5» لا كنانة بن خزيمة. ومنهم بنو شهاب وبنو رندة «6» والرواشدة وهم غير رواشدة هلبا سويد، وبنو عصا، وبنو محمد، وبنو سنان، وبنو حمزة، وبنو فراس وهم بمنية محمود «7» ، ومنية عدلان «8» ، وبنو

لأم وليس بلأم الحجاز وبنو شمس والفضليون وقرارتهم كوم الثعالب «1» وما داناها، وبها فرق من عمرو وزهير المقدم ذكرهم، والحصنيين وردالة «2» ، والأحامدة وليسوا بأحامدة هلبا، و [الحمارنة] «3» ، وهم بنو حمران وبعضهم أصحاب إقطاع، وفي بني زهير هؤلاء من بني [عرين] «4» ، وبني شبيب، وبني عبد الرحمن، وبني مالك، وبني عبيد (غير عبيد) المقدم الذكر، وبني عبد القوي، وبني شاكر وهم غير شاكر عقبة «5» وبني حسن، وبني شمّاء وهم غير شمّاء آل ربيعة.

بنو سليم

بنو سليم وهم أكثر قبائل قيس (عيلان) ، قال: ومساكنهم ببرقة مما يلي الغرب، ومما يلي مصر، وفيهم الأبطال الأنجاد والخيل الجياد (71) والإمرة فيهم في أولاد عزاز بن مقدم، ومنهم مزيد بن عزاز وكان رجلا جليل القدر جميل الذكر، معظما في الدول، وبنوه زايد وحميد وريان كلّهم كرام سراة أماجد وعطاء الله بن عمر بن عزاز وكان للقرى والقراع، مطاعا في قومه، وهو أبو خالد وهم أهل بيت فيهم عدد جمّ من ذوي القدر وبنوه معزّ وعمر، ومن المشاهير منهم علويّ بن إبراهيم بن عزاز، وسلطان بن زيدان بن عزاز، وعمر بن مشعل بن عزاز، ومن أكابر جماعاتهم جماعة ابن مليح المنصوريّ أصحاب غازي بن نجم، وعليان بن عريف، وبلبوش، وكان قد هرب من الملك الظاهر بيبرس فأنهد جيشا وراءه فقاتله ثم نصر الجيش عليه وأمسك واعتقل ثم أفرج عنه، وهو والد زيد بن بلبوش، وجماعة سعيد بن العريب بن الأحمر يقاربه، ومن ذوي مخالفيهم جماعة محمد الهواريّ. قلت: وكان آخر عهدي أنّ الإمرة على عربان البحيرة لقائد بن مقدم، وخالد بن أبي سلمان، وكانا أميرين سيدين جليلين ذوي كرم وأمن يلاذ [بهما ويتحرم] «1» إلى شجاعة وإقدام وثبات رأي وإقدام ثم لم أعلم ما حالت به الأحوال، وجرت به بعدي تصاريف الدهور.

< قبائل العربان من مصر إلى أقصى المغرب >

(قبائل العربان من مصر إلى أقصى المغرب) فأما منازل العرب من لدن الجيزيّة ضاحية القاهرة على البحيرة آخذا إلى أقصى الغرب فسأذكر منه ما أملاه الشيخ المقرئ الورع أبو يحيى زكريّا المغربيّ أحد الأئمة بقلعة الجبل، حرست [قال] «1» ، قبائل العربان من مصر إلى أقصى المغرب: جماعة قائد: زنّارة، ومزاتة، وخفاجة، وهوّارة، وسماك، ومنازلهم من الإسكندرية إلى العقبة الكبيرة «2» . ثم لبيد «3» وهم جماعة سلام: فزارة، محارب، قطاب، الزّعاقبة، بشر، الجواشنة، البعاجنة، القبائص أولاد سلمان، القصاص، العلاونة ومنازلهم من العقبة الكبيرة «4» (72) إلى السوسة. ثم جماعة جعفر بن عمر وهم: قتيل، المثانية، الباسة، عرعرة، العظمة، العكمة، المزابيل، العزة، ومن جملة هؤلاء [العزة] «5» ، الجعافرة، جماعة جعفر بن عمر ومنهم البداري أيضا. وكذلك منهم السهاونة والجلدة منهم أيضا. وكذلك منهم أولاد أحمد أيضا، ومنازلهم من سوسة إلى بئر السدرة، وهي آخر حدود

الديار المصرية، ومسافتها عن الإسكندرية نحو شهر بسير القوافل. ثم منها طيموم العلاونة وهم غير أولئك، المهاملة، بنو بدر، ناصرة، وانتهاؤهم إلى قصر ابن أحمد في طرف مسراتة من الساحل، ومن القبلة أرض فزّان «1» وودّان «2» وحكمهما لأرض البرنو السودان ومسافة ما بين بئر السدرة وبين مسراتة عشرة أيام. ومنهم من أرض مسراتة (إلى) بلاد طرابلس «3» : سليمان جماعة غانم بن زايد، ولهم الأرض من مسراتة إلى باب مدينة طرابلس، ثم من طرابلس إلى قابس ذباب «4» ، وهي تجمع المحاميد، والجواري جماعة عبد الله بن صابر، وملغم بن صابر وليسا بأخوين بل هم بنو عمّ من القبيلة. قال الشريف أبو عمر عبد العزيز الحسنيّ الإدريسيّ: وهو من أهل غرناطة وله تعلق بخدمة السلطان أبي الحسن المريني، قال: ذباب مشيختهم لعبد الله بن رفيعة وأخيه إبراهيم، وأصلهم من سليم وأرضهم من طرابلس إلى قابس، ويجاورهم في هذه الأرض الجواري والمحاميد، وشيخ الجواري عبد الله بن سعيد (و) شيخ المحاميد عطية بن سعيد. ثم تنقسم الطريق من قابس، فطريق جنوبية على الجريد وطريق شمالية على الساحل، فالجنوبية الآخذة على الجريد أول قبائلها آل حجر وفيهم عدة أشياخ منهم مرغم وذؤيب ابنا جعفر، وسفيان بن عطاء الله ورثيمة بن يخلف، وأرضهم من قابس إلى بشري وتأخذ في الساحل على الثنية (73) وبينهم أولاد صورة ومشيختهم في ابن مهلهل وأخيه جرموز،

قال: وهم فرقة يسيرة وبينهم الكعبيون ويعرفون بالكعوب «1» ، وهم أكبر بيت بإفريقيّة من العرب ومشيختهم في قوم يعرفون بأولاد أبي الليل، وهم أربعة إخوة: يعقوب وأحمد وخالد وقتيبة و [يجاورهم قوم] «2» هم أعداء لهم يعرفون بأولاد أبي طالب ولهم شيوخ شتى، يعقوب ومحمد [ابنا] «3» طالب و [بنو] «4» عمهم سمير بن عبد الله، ويعقوب بن الحصين، والحاجّ عليّ بن شيحة، وأرضهم من بشري إلى بسكرة، ولهم في داخل البلاد إلى باب تونس، ولهم أماكن كثيرة. ويليهم فرقة كبيرة تعرف برياح «5» ، وفيهم ملك العرب القديم بالمغرب، وشيخهم يعقوب بن عليّ بن أحمد، وكان أبوه في غاية الكرم، بعث إليه ملك إفريقيّة بثلاثين حملا من البزّ الرفيع والتحف السّنبة فوهبها ثلاثين من المستعطين لوقته، ويجاوره ابنا عمّه حلوف بن عليّ ابن جابر ونطاح أخوه، وهم أهل إبل يكون عند الرجل منهم نحو ستين ألف بعير، هكذا ذكر وعليه عهدته. قال: ويليهم عرب الغرب الداخل، وأول بلادهم وطاءة حمزة وسكانها فرقة يسيرة تعرف بعوار تنزل حول قلعة حمّاد «6» .

ويليهم عرب بلاد ريغو وأركلة، وهما مدينتان داخلتان في الصحراء، وهم من فزارة، وشيخهم طلحة بن معهود، قال: وهو رجل من أولياء الله والصالحين من عباده، وتنتهي أرضهم إلى المدية في الساحل. ويليهم سويد «1» ، وشيخهم عريف بن عبد الله أبو زيدان وهو رجل جليل القدر، نبيه الذّكر، وافر العقل، مشارك في أنواع العلم والأدب والتاريخ والمعرفة بأيام العرب ووقائع الناس وصحبته في الحجّ سنة ثمان وثلاثين وسبع مائة فرأيت منه ما يملأ الصدر ويقرّ العين وهو بمنزلة من السلطان أبي الحسن المرينيّ لا تطاول ولا تحاول، ولا (74) يطمع بها طامح ولا طامع، وينتهي حدّهم إلى تافيللت من أرض سجلماسة. قال هذا الشريف: ولأبي زيدان عدو من بني عمّه يسمى صقير بن عبد الله، قال: وهو أكبر [سنا] «2» منه وحسبا. ويليهم عرب تعرف بالفرايض يملكون إلى البحر المحيط، وبلادهم حاحا وركراكة وسقساوة، ومسوفة هذه أهل لثام وبرقع أزرق لا يزال تمشي الرجال بتلك البراقع والنساء مكشفات الوجوه، وقال: وسبب براقعهم إظهار الحزن على المهديّ بن تومرت. قال: وأما الطريق الثانية الشامية الآخذة من قابس على الساحل فغالب أهلها بربر ومصامدة سكان مدرة وأهل زرع وحرث، قال: يلي آل حجر الآخذين من قابس إلى إسفاقس فيما هو إلى المهدية طائفة تعرف بحكيم وشيخهم سحيم، وكان قد دخل الأندلس غازيا وحضر يوم طريف، ولهذه الطائفة إلى القيروان. ويليهم دلاج، وكان شيخهم الحمير ثم قتل، وقام ولداه عبد الله ويحيى ابنا الحمير قال: وهم رماة يرمون بقوس اليد رميا صائبا، ولهم تفرد بذلك دون بقية عرب الغرب، وأرضهم

من سوسة إلى الحمامات إلى الجزيرة القبلية إلى تونس. ويليهم طائفة من البربر من تونس إلى تبسّة إلى بلد العنّاب، قال: وهؤلاء من هوارة، ولهم أشياخ كثيرة، ومرجعهم إلى أولاد حمزة والكعوب. ويليهم طائفة أخرى زراع من البربر وألهاصة وشيخهم صخر بن موسى. ويليهم سدويكش، وبلادهم من [قسنطينة] «1» إلى بجاية، وشيخهم عبد الكريم بن منديل، وله اعتلاق بخدمة السلطان أبي الحسن. ويليهم في جبال زواوة بربر من بني حسن وزواوة. ويليهم أرض متيجة، وسكانها بنو عبد الواد أصحاب تلمسان (و) بنو عباد، وفرقة تعرف بمغراوة، قال: ومغراوة نحو ثلاثين ألف فارس. (75) ويليهم تجين، وهم بأرض تلمسان على وادي شلف، قال: وكلّهم من بني عبد الواد وهم من زنانة، ويليهم بافراطة من تلمسان إلى فاس. وأما مسون فخالية من العرب. ويليهم من فاس إلى مرّاكش رياح أيضا، ثم المصامدة من مرّاكش إلى البحر المحيط. فهذا ما ذكره الشريف أبو عمر عبد العزيز الإدريسيّ، وحدثني بذلك كلّه في صفر سنة تسع وأربعين وسبع مئة.

< عرب الطرق المسلوكة إلى مكة المكرمة >

(عرب الطرق المسلوكة إلى مكة المكرمة) وأما عرب الطرق المسلوكة التي تتوجه فيها المحامل «1» إلى مكة المعظمة فقد ذكرنا فيما تقدم أنها أربعة طرق «2» ولا تقصد مكة غالبا إلا منها. وهي أربع جهات مصر ودمشق وبغداد وتعزّ، وقد ذكرنا آنفا من العربان الذين بهذه الطرق من ملّاكها ومن يتحكم عليهم إذا حلّ بأرضهم كآل فضل، وآل مرا، وبني عقبة من لم يكن بدّ من ذكره فيما تقدم، ونحن الآن نسوقهم طريقا طريقا، وفريقا فريقا فيكون أوضح، إذ ذكر هذه الطرق وعربانها من المهمّ المقدّم. (طريق الركب المصري) فأما طريق الركب المصريّ فمن القاهرة «3» إلى عقبة أيلة لعائذ «4» ، ومن العقبة إلى الدأماء «5» ما دون [عيون] «6» القصب «5» لبني عقبة «7» .

ومن الدأماء إلى أكدى، وهي فم الضيقة «1» لبليّ «2» . ومن أكدى إلى نما «1» وهي آخر الوعرات لجهينة «3» . ومن نما إلى نهاية بدر على الفرعاء «1» وإلى نهاية الصّفراء «4» على نقب «5» عليّ لبني حسن «6» أصحاب الينبع «7» . ويليهم من أقاربهم من بني حسن أصحاب بدر إلى رملة عالج «8» في طرف قاع [البزواء] «9» . ومن الصفراء إلى الجحفة «10» ، ورابغ «11» لزبيد الحجاز «12» .

< طريق الركب الشامي >

ومن الجحفة على قديد «1» وما حولها إلى [الثنيّة المعروفة بعقبة السّويق «2» لسليم «3» . ومن الثنيّة على خليص «4» إلى] «5» الثنيّة المشرفة على عسفان «6» للشريف جسّار من بني حسن. ومن الثنيّة المشرقة على عسفان إلى الفجّ «7» ، وهو المسمى بالمحاطب لبني جابر «8» ، وهم في طاعة صاحب مكة المعظمة. ومن المحاطب [إلى مكة] «5» لصاحب مكة المعظمة وبني حسن. (طريق الركب الشامي) وأما طريق الركب الشامي ... «9»

فهارس الكتاب

[فهارس الكتاب] 1- فهرس المصادر والمراجع 1- المصادر 1- القرآن الكريم ابن الأثير: عز الدين علي بن محمد (ت 630 هـ/ 1233 م) 2- أسد الغابة في معرفة الصحابة، 7 أجزاء تحقيق: محمد إبراهيم البنا، ومحمد أحمد عاشور، ومحمود عبد الوهاب فايد، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1970- 1973 م. 3- الكامل في التاريخ، 13 جزءا دار صادر ودار بيروت، 1965- 1967 م. ابن إياس: محمد بن أحمد المصري الحنفي (ت 930 هـ/ 1523 م) 4- بدائع الزهور في وقائع الدهور، 5 أجزاء، ط 2+ 3 أجزاء فهارس، ط 1 تحقيق: محمد مصطفى، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1982- 1986 م ابن أبيك الدواداري: أبو بكر بن عبد الله (ت بعد 736 هـ/ 1366 م) 5- كنز الدرر وجامع الغرر* الجزء الثامن: الدرة الزكية في أخبار الدولة التركية. تحقيق: أولرخ هارمان، (O.Harmann) القاهرة، 1971 م ابن بطوطة: محمد بن عبد الله اللواتي الطنجي (ت 779 هـ/ 1377 م) 6- رحلته" تحفة النظار في غرائب الأمصار" دار صادر، بيروت (لا. ت) ابن تغري بردي: يوسف بن تغري بردي (ت 874 هـ/ 1470 م)

7- المنهل الصافي والمستوفى بعد الوافي* الأجزاء: 1، 4 طبعة جديدة، تحقيق: محمد محمد أمين، ونبيل محمد عبد العزيز، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1984- 1986 م 8- الدليل الشافي على المنهل الصافي، جزءان تحقيق: فهيم محمد شلتوت، منشورات مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي بجامعة أم القرى، مكتبة الخانجي القاهرة، 1983 م 9- النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، 16 جزءا الأجزاء 1- 12- دار الكتب المصرية، القاهرة، 1929- 1956 ما لأجزاء 13- 16، الهيئة المصرية العامة للكتاب، والهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، القاهرة 1970- 1972 م ابن جبير: محمد بن أحمد الكناني الأندلسي (ت 614 هـ/ 1217 م) 10- رحلته" تذكرة بالأخبار عن اتفاقات الأسفار"، ط 2 دار مكتبة الهلال، بيروت، 1986 م ابن حبيب: الحسن بن عمر بن حبيب الحلبي (ت 779 هـ/ 1377 م) 11- تذكرة النبيه في أيام المنصور وبنيه، 3 أجزاء تحقيق: محمد محمد أمين، مركز تحقيق التراث، القاهرة، 1976- 1982 م ابن حجر: أحمد بن علي العسقلاني (ت 852 هـ/ 1448 م) 12- الإصابة في تمييز الصحابة، 4 أجزاء مطبعة السعادة بمصر، 1328 هـ 13- الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، 5 أجزاء تحقيق: محمد سيد جاد الحق، دار الكتاب العربي، القاهرة، 1385 هـ/ 1966 م

ابن حزم: علي بن أحمد بن سعيد الأندلسي (ت 456 هـ/ 1064 م) 14- جمهرة أنساب العرب دار الكتب العلمية، بيروت، 1418 هـ/ 1998 م ابن حنبل: الإمام أحمد (ت 241 هـ/ 855 م) 15- مسند الإمام أحمد بن حنبل، ط 2 مؤسسة التاريخ العربي، ودار إحياء التراث العربي، بيروت، 1414 هـ/ 1993 م ابن حوقل: محمد بن علي (ت 367 هـ/ 978 م) 16- صورة الأرض منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت، 1979 م ابن خلدون: عبد الرحمن بن محمد الحضرمي (ت 808 هـ/ 1406 م) 17- تاريخه" العبر وديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر"، 7 أجزاء، ط 1 تحقيق: تركي فرحان المصطفى، دار إحياء التراث العربي، ومؤسسة التاريخ العربي، بيروت، 1419 هـ/ 1999 م ابن خلكان: أحمد بن محمد بن إبراهيم (ت 681 هـ/ 1282 م) 18- وفيات الأعيان، 8 أجزاء تحقيق: إحسان عباس، دار صادر، بيروت، 1968- 1972 م ابن دقماق: إبراهيم بن محمد بن أيدمر (ت 809 هـ/ 1407 م) 19- الانتصار لواسطة عقد الأمصار تحقيق: كارل فوللرس،، (K.Vollers) أعادت تصويره دار الآفاق الجديدة، بيروت (لا. ت)

ابن الديبع: عبد الرحمن بن علي بن محمد (ت 944 هـ/ 1537 م) 20- بغية المستفيد في أخبار مدينة زبيد تحقيق: عبد الله الحبشي، مركز الدراسات اليمانية، صنعاء، 1979 م 21- قرة العيون بأخبار اليمن الميمون، ط 2 تحقيق: محمد بن علي الأكوع الحوالي، (لا. م) ، 1409 هـ/ 1988 م 22- نشر المحاسن اليمنية في خصائص اليمن ونسب القحطانية صنع: أحمد حموش، دار الفكر المعاصر، بيروت، ودار الفكر، دمشق، 1413 هـ/ 1992 م ابن رافع: محمد بن رافع السلامي (ت 774 هـ/ 1373 م) 23- الوفيات، جزءان، ط 1 تحقيق: صالح مهدي عباس، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1402 هـ/ 1982 م ابن سعد: محمد بن سعد (ت 230 هـ/ 845 م) 24- الطبقات الكبرى، 9 أجزاء دار بيروت للطباعة والنشر، بيروت، 1405 هـ/ 1985 م ابن سعيد المغربي: علي بن موسى بن محمد (ت 685 هـ/ 1286 م) 25- الجغرافيا، ط 1 تحقيق: إسماعيل العربي، المكتب التجاري، بيروت، 1970 م 26- المغرب في حلي المغرب، جزءان، ط 3 تحقيق: شوقي ضيف، دار المعارف بمصر ابن شاكر: محمد بن شاكر الكتبي (ت 764 هـ/ 1363 م) 27- عيون التواريخ

* الجزء العشرون، ط 1، تحقيق فيصل السامر، ونبيلة عبد المنعم داود، دار الرشيد، بغداد، 1980 م 28- فوات الوفيات، 5 أجزاء، ط 1 تحقيق: إحسان عباس، دار صادر، بيروت، 1973 م ابن شاهين الظاهري: خليل بن شاهين (ت 873 هـ/ 1468 م) 29- زبدة كشف الممالك وبيان الطرق والمسالك نشره: بول راويس، (P.Ravaisse) المطبعة الجمهورية، باريس، 1894 م ابن عبد البر: يوسف بن عبد الله بن محمد (ت 463 هـ/ 1071 م) 30- الاستيعاب في أسماء الأصحاب، 4 أجزاء طبع على هامش" الإصابة" المقدم ذكره لابن حجر العسقلاني 31- الإنباه على قبائل الرواة تحقيق: محمد زينهم محمد عزب، وعائشة التهامي، ومديحة الشرقاوي، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1418 هـ/ 1998 م ابن عبد ربه: أحمد بن محمد الأندلسي (ت 328 هـ/ 940 م) 32- العقد الفريد، 7 مجلدات، ط 1 دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1420 هـ/ 1999 م ابن عبد المجيد: عبد الباقي بن عبد المجيد اليمني (ت 743 هـ/ 1343 م) 33- بهجة الزمن في تاريخ اليمن، ط 1 تحقيق: عبد الله محمد الحبشي، دار الحكمة اليمانية، صنعاء، 1408 هـ/ 1988 م ابن عذاري: أحمد بن محمد (كان حيا سنة 712 هـ/ 1312 م) 34- البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب، 4 أجزاء

* الأجزاء: الثلاثة الأولى، ط 3، تحقيق ومراجعة: ج. س. كولان (S.G. ( Colin ، وليفي بروفنسال (L.Provencal) . * الجزء الرابع: تحقيق ومراجعة: إحسان عباس، دار الثقافة، بيروت، 1983 م ابن عساكر: علي بن الحسن بن هبة الله (ت 571 هـ/ 1175 م) 35- تاريخ مدينة دمشق، 71 جزءا، ط 1 تحقيق: محب الدين أبي سعيد عمر بن غرامة العمروي، دار الفكر، دمشق، 1416- 1419 هـ/ 1996- 1998 م ابن العماد: عبد الحي بن أحمد الحنبلي (ت 1089 هـ/ 1678 م) 36- شذرات الذهب في أخبار من ذهب، 8 أجزاء، ط 2 دار المسيرة، بيروت، 1399 هـ/ 1979 م ابن العميد: المكين جرجس (ت 672 هـ/ 1273 م) 37- تاريخ المسلمين* القسم الخاص ب" أخبار الأيوبيين"، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، (لا. ت) ابن الفرات: محمد بن عبد الرحيم بن علي (ت 807 هـ/ 1405 م) 38- تاريخ الدول والملوك، المعروف ب" تاريخ ابن الفرات"* الجزء الثامن، تحقيق: قسطنطين زريق، ونجلاء عز الدين، منشورات الجامعة الإمريكية، بيروت، 1936- 1942 م ابن فضل الله العمري: مؤلف الكتاب 39- التعريف بالمصطلح الشريف، ط 1 تحقيق: محمد حسين شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، 1408 هـ/ 1988 م

40- مسالك الأبصار في ممالك الأمصار* الباب السادس: في مملكة مصر والشام، دراسة وتحقيق: دوروتيا كرافولسكي، (D.Krawulsky) المركز الإسلامي للبحوث، بيروت، 1407 هـ/ 1986 م* الباب الخامس عشر: في ذكر العرب (القبائل) ، المحققة نفسها، المركز نفسه، 1406 هـ/ 1985 م ابن قيس الرقيات: عبيد الله (ت ما بين 84- 87 هـ/ 703- 706 م) 41- ديوان عبيد الله بن قيس الرقيات تحقيق: عمر فاروق الطباع، شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم، بيروت، (لا. ت) ابن كثير: إسماعيل بن عمر (ت 774 هـ/ 1373 م) 42- البداية والنهاية، 14 جزءا مطبعة السعادة، القاهرة، 1351- 1358 هـ ابن المجاور: يوسف بن يعقوب بن محمد (ت 691 هـ/ 1291 م) 43- تاريخ المستبصر (صفة بلاد اليمن ومكة وبعض الحجاز) ، ط 2 نشره: أوسكر لوففرين، (O.Lefevrin) منشورات المدينة، 1407 هـ/ 1986 م ابن منظور: محمد بن مكرم بن علي (ت 711 هـ/ 1311 م) 44- لسان العرب، 18 جزءا، ط 1 باعتناء: أمين محمد عبد الوهاب، ومحمد الصادق العبيدي، دار إحياء التراث العربي، ومؤسسة التاريخ العربي، بيروت، 1416 هـ/ 1996 م. ابن هشام: عبد الملك بن هشام المعافري (ت 213 هـ/ 828 م) 45- السيرة النبوية، 4 أجزاء تحقيق: طه عبد الرؤوف سعد، مكتبة ومطبعة الحاج عبد السلام بن محمد بن

شقرون (لا. ت) ابن الوردي: عمر بن مظفر بن عمر (ت 749 هـ/ 1349 م) 46- تتمة المختصر في أخبار البشر، جزءان، ط 1 تحقيق: أحمد رفعت البدراوي، دار المعرفة، بيروت، 1389 هـ/ 1970 م أبو داود: سليمان بن الأشعث السجستاني (ت 275 هـ/ 888 م) 47- سنن أبي داود، مجلدان، ط 1 دار الجنان، ومؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، 1409 هـ/ 1988 م أبو شامة: عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسي (ت 665 هـ/ 1267 م) 48- الذيل على الروضتين نشره: السيد عزت العطار الحسيني باسم" تراجم رجال القرنين السادس والسابع الهجريين"، القاهرة، 1947 م أبو الفدا: إسماعيل بن علي بن محمود (ت 732 هـ/ 1332 م) 49- تقويم البلدان نشره: رينو (J.T.Reinaud) ودي سلان، (M.C.De Slane) دار الطباعة السلطانية، باريس، 1840 م 50- المختصر في أخبار البشر، 4 أجزاء المطبعة الحسينية بمصر، 1325 هـ الإدريسي: محمد بن محمد بن عبد الله (ت 558 هـ/ 1163 م) 51- نزهة المشتاق في اختراق الآفاق مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة (لا. ت) - صفة المغرب وأرض السودان ومصر والأندلس، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة [لا. ت] الأشرف الرسولي: عمر بن يوسف (ت 696 هـ/ 1296 م)

52- طرفة الأصحاب في معرفة الأنساب، ط 2 تحقيق: ك. ف. زترستين، (K.W.Zettersteen) منشورات المدينة، بيروت، 1406 هـ/ 1985 م الأصبهاني: أبو الفرج علي بن الحسين (ت 356 هـ/ 966 م) 53- الأغاني، 24 جزءا، ط 1 دار الفكر، دمشق، 1407 هـ/ 1986 م امرؤ القيس 54- ديوان امرئ القيس، ط 1 دار الكتب العلمية، بيروت، 1403 هـ/ 1983 م) بامخرمة: الطيب بن عبد الله بن أحمد (ت 947 هـ/ 1540 م) 55- تاريخ ثغر عدن، ط 2 نشره: علي حسن علي عبد المجيد، دار الجيل، بيروت، ودار عمار، عمان، 1408 هـ/ 1987 م البخاري: محمد بن إسماعيل بن إبراهيم (ت 256 هـ/ 870 م) 56- صحيح البخاري، 4 مجلدات، ط 1 دار الفكر، بيروت، 1411 هـ/ 1991 م البكري: عبد الله بن عبد العزيز (ت 487 هـ/ 1094 م) 57- معجم ما استعجم من أسماء البلاد والبقاع، 4 أجزاء، ط 3 تحقيق: مصطفى السقا، عالم الكتب، بيروت، 1403 هـ/ 1983 م الجاحظ: عمرو بن بحر (ت 255 هـ/ 869 م) 58- البيان والتبيين، 4 أجزاء

تحقيق: عبد السلام محمد هارون، دار الجيل، ودار الفكر، بيروت (لا. ت) حاجي خليفة: مصطفى بن عبد الله (ت 1067 هـ/ 1656 م) 59- كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، جزءان طبعة استانبول، 1941 م الحسيني: محمد بن علي بن الحسن (ت 765 هـ/ 1364 م) 60- ذيل العبر- للذهبي، ط 1 نشره: أبو هاجر محمد السعيد بن بسيوني زغلول مع" ذيل العبر- للذهبي"، دار الكتب العلمية، بيروت، 1405 هـ/ 1985 م الحميري: محمد بن عبد المنعم (ت ترجيحا 727 هـ/ 1327 م) 61- الروض المعطار في خبر الأقطار، ط 2 تحقيق: إحسان عباس، مؤسسة ناصر للثقافة، بيروت، 1980 م الخزرجي: علي بن الحسن (ت 812 هـ/ 1409 م) 62- العقود اللؤلؤية في تاريخ الدولة الرسولية، جزءان، ط 2 عني بتصحيحه: محمد بن علي الأكوع الحوالي، مركز الدراسات والبحوث اليمني، صنعاء، 1403 هـ/ 1983 م دوقلة المنبجي 63- القصيدة اليتيمة، ط 3 تحقيق: صلاح الدين المنجد، دار الكتاب الجديد، بيروت، 1983 م الذهبي: محمد بن أحمد بن عثمان (ت 748 هـ/ 1347 م) 64- سير أعلام النبلاء، 23 جزءا، ط 1 باعتناء مجموعة من المحققين، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1401 هـ/ 1981 م

65- العبر في خبر من عبر، 3 أجزاء متسلسلة+ الجزء الرابع وهو: 66- ذيل العبر طبعا معا بالإضافة إلى" ذيل العبر- للحسيني" المقدم ذكره الزهري: محمد بن أبي بكر (ت بعد 541 هـ/ 1154 م) 67- الجعرافية محمد حاج صادق، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، (لا. ت) زهير بن أبي سلمى 68- شرح ديوان زهير بن أبي سلمى، ط 1 صنعة: أبي العباس ثعلب، تحقيق: فخر الدين قباوة، دار الآفاق، بيروت، 1402 هـ/ 1982 م 69- شعر زهير بن أبي سلمى، ط 3 صنعة: الأعلم الشّنتمري، المحقق نفسه، الدار نفسها، 1400 هـ/ 1980 م سبط ابن الجوزي: يوسف بن قزأوغلي (ت 654 هـ/ 1256 م) 70- مرآة الزمان في تاريخ الأعيان، المجلد الثامن- قسمان، ط 1 دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن بالهند، 1370 هـ/ 1951- 1952 م السبكي: عبد الوهاب بن علي (ت 771 هـ/ 1370 م) 71- طبقات الشافعية، 6 أجزاء نشره: أحمد بن عبد الكريم القادري الحسني، المطبعة الحسينية، القاهرة، 1324 هـ السموأل: ابن غريض بن عادياء 72- ديوان السموأل بن عادياء، ط 1

عمر فاروق الطباع، شركة دار الأرقم، بيروت، 1417 هـ/ 1997 م السيوطي: محمد بن عبد الرحمن بن محمد (ت 911 هـ/ 1505 م) 73- بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة، جزءان تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، مطبعة عيسى البابي الحلبي، القاهرة، 1964- 1965 م 74- حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة، جزءان، ط 1 المحقق نفسه، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، 1387 هـ/ 1967- 1968 م الشوكاني: محمد بن علي بن محمد (ت 1250 هـ/ 1834 م) 75- البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع، جزءان، ط 1 مطبعة السعادة بمصر، 1348 هـ الصفدي: خليل بن أيبك (ت 764 هـ/ 1363 م) 76- الوافي بالوفيات منشورات جميعة المستشرقين الألمان، 1931- 1982 م الصقاعي: فضل الله بن أبي الخير (ت 726 هـ/ 1326 م) 77- تالي كتاب وفيات الأعيان تحقيق: جاكلين سوبلة، (J.Sublet) منشورات المعهد الفرنسي بدمشق، 1974 م الطبري: محمد بن جرير (ت 310 هـ/ 923 م) 78- تاريخه" تاريخ الرسل والملوك"، ط 4 تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف بمصر (لا. ت) العلوي: علي بن محمد بن عبد الله العباسي

79- سيرة الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين، ط 2 تحقيق: سهيل زكار، دار الفكر، بيروت، 1401 هـ/ 1981 م عنترة بن شداد 80- ديوان عنترة العبسي نشره: عمر فاروق الطباع، دار القلم، بيروت، (لا. ت) الفيروزآبادي: محمد بن يعقوب (ت 817 هـ/ 1415 م) 81- القاموس المحيط، مجلد واحد، ط 4 بإشراف: محمد نعيم العرقسوسي، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1415 هـ/ 1994 م الفيومي: أحمد بن علي (ت 770 هـ/ 1370 م) 82- المصباح المنير، جزءان المكتبة العلمية، بيروت (لا. ت) القلقشندي: أحمد بن علي بن أحمد (ت 821 هـ/ 1418 م) 83- صبح الأعشى في صناعة الإنشاء، الجزء 14، ط 1 دار الكتب العلمية، بيروت، 1407 هـ/ 1987 م 84- قلائد الجمان في التعريف بقبائل عرب الزمان تحقيق: إبراهيم الأبياري، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1402 هـ/ 1982 م 85- نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب، ط 1 دار الكتب العلمية، بيروت، 1405 هـ/ 1984 م لسان الدين: محمد بن عبد الله بن الخطيب (ت 776 هـ/ 1374 م)

86- الإحاطة في أخبار غرناطة، 4 مجلدات، مج 1 ط 2، مج 2- 4، ط 1 تحقيق: محمد عبد الله عنان، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1973- 1977 م 87- اللمحة البدرية في الدولة النصرية، ط 3 دار الآفاق الجديدة، بيروت، 1400 هـ/ 1980 88- معيار الاختيار في ذكر المعاهد والديار تحقيق: محمد كمال شبانة، مطبعة فضالة بالمحمدية، المغرب (لا. ت) المبرد: محمد بن يزيد (ت 285 هـ/ 898 م) 89- الكامل، 4 أجزاء، ط 2 تحقيق: محمد أحمد الدالي، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1413 هـ/ 1993 م المتنبي: أحمد بن الحسين (ت 354 هـ/ 965 م) 90- ديوان أبي الطيب المتنبي، مجلدان، ط 1 بشرح الشيخ ناصيف اليازجي دار مكتبة الهلال، بيروت، 1996 م المخلافي: عبد الفتاح بن محمد (القرن العاشر الهجري/ السابع عشر الميلادي) 91- مرآة المعتبر في فضل جبل صبر، ط 1 محمد بن علي الأكوع، المعمل الفني للطباعة والتجليد، تعز، 1404 هـ/ 1984 م المرزباني: محمد بن عمران بن موسى (ت 384 هـ/ 994 م) 92- معجم الشعراء تحقيق: عبد الستار أحمد فراج، منشورات مكتبة النوري، دمشق، (لا. ت) المسعودي: علي بن الحسين بن علي (ت 346 هـ/ 957 م)

93- مروج الذهب ومعادن الجوهر، 4 أجزاء دار الأندلس، بيروت، 1401 هـ/ 1981 م مسلم: مسلم بن الحجاج القشيري (ت 261 هـ/ 874 م) 94- صحيح مسلم بشرح النووي، 6 مجلدات، ط 1 تحقيق: علي عبد الحميد بلطجي، دار الخير، دمشق، 1414 هـ/ 1994 م المقدسي: محمد بن أحمد بن أبي بكر (ت 380 هـ/ 990 م) 95- أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم، ط 3 مكتبة مدبولي، القاهرة، 1411 هـ/ 1991 م المقري: أحمد بن محمد التلمساني (ت 1041 هـ/ 1631 م) 96- نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، 8 أجزاء تحقيق: إحسان عباس، دار صادر، بيروت، 1388 هـ/ 1986 م المقريزي: تقي الدين أحمد بن علي (ت 845 هـ/ 1442 م) 97- السلوك لمعرفة دول الملوك، 4 أجزاء * الجزءان الأول والثاني: (6 أقسام) ، تحقيق: محمد مصطفى زيادة، دار الكتب المصرية، 1934- 1958 م * الجزءان الثالث والرابع: (6 أقسام) ، تحقيق: سعيد عبد الفتاح عاشور، الدار نفسها، 1970- 1972 م 98- المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، جزءان طبعة بولاق، 1270 هـ/ 1854 م المنصوري: بيبرس الدوادار (ت 725 هـ/ 1325 م)

99- زبدة الفكرة في تاريخ الهجرة، ج 9 ميكروفيلم عن مخطوط مكتبة المتحف البريطاني، رقم23325.Add: الميداني: أحمد بن محمد بن أحمد (ت 518 هـ/ 1124 م) 100- مجمع الأمثال، 4 أجزاء تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، مطبعة عيسى البابي وشركاه، 1398 هـ/ 1978 م النسائي: أحمد بن شعيب (ت 303 هـ/ 1915 م) 101- سنن النسائي بشرح الحافظ السيوطي، 4 أجزاء، ط 3 دار المعرفة، بيروت، 1414 هـ/ 1994 م نشوان: ابن سعيد الحميري (ت 573 هـ/ 1177 م) 102- ملوك حمير وأقيال اليمن تحقيق: علي بن إسماعيل المؤيد، وإسماعيل بن أحمد الجرافي، دار العودة، بيروت، 1986 م الهمداني: الحسن بن أحمد (ت بعد 344 هـ/ 955 م) 103- صفة جزيرة العرب تحقيق: محمد بن علي الأكوع الحوالي، دار اليمامة، الرياض، 1974 م الهيثمي: علي بن أبي بكر (ت 807 هـ/ 1405 م) 104- مجمع الزوائد ومنبع الفوائد دار المعارف، بيروت، 1986 م وهب بن منبه (ت 114 هـ/ 732 م)

105- التيجان في ملوك حمير، ط 2 تحقيق ونشر: مركز الدراسات والأبحاث اليمنية، صنعاء، 1979 م اليافعي: عبد الله بن أسعد (ت 768 هـ/ 1367 م) 106- مرآة الجنان وعبرة اليقظان، 4 أجزاء دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن بالهند، 1337- 1339 هـ ياقوت: الحموي (ت 626 هـ/ 1229 م) 107- المشترك وضعا والمفترق صقعا، ط 2 عالم الكتب، بيروت، 1406 هـ/ 1986 م 108- معجم البلدان، 5 أجزاء دار صادر، بيروت، 1397 هـ/ 1977 م يحيى بن الحسين: (ت 1100 هـ/ 1689 م) 109- أنباء الزمن في أخبار اليمن تحقيق: محمد عبد الله ماضي، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، (لا. ت) اليونيني: موسى بن محمد (ت 726 هـ/ 1326 م) 110- ذيل مرآة الزمان، 4 مجلدات * بعناية: ف. كرنكو، (F.Krenkow) دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن بالهند، 1374- 1380 هـ/ 1954- 1961 م (يمثل هذا القسم المطبوع الجزءين الأول والثاني) * مصورة مكتبة طوب قابي سراي باستنبول رقم 2907.Ms:عن الجزءين الثالث والرابع من" الذيل" المذكور.

2 - المراجع

2- المراجع آ- الكتب ابن العربي: الصديق 111- كتاب المغرب، ط 3 دار الغرب الإسلامي، ودار الثقافة، 1404 هـ/ 1984 م أبو سديرة: السيد طه 112- القبائل اليمنية في مصر منذ الفتح العربي حتى نهاية العصر الأموي مكتبة الشعب بالفجالة، القاهرة، 1408 هـ/ 1988 أحمد: محمد عبد العال 113- بنو رسول وبنو طاهر وعلاقات اليمن الخارجية في عهدهما دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 1989 م بروفنسال: ليفي (Provencal ,L) 114- الإسلام في المغرب والأندلس ترجمة السيد محمود عبد العزيز سالم، ومحمد صلاح الدين حلمي، مؤسسة شباب الجامعة، الإسكندرية، 1990 م البقلي: محمد قنديل 115- التعريف بمصطلحات صبح الأعشى الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1983 م حسين: حمدي عبد المنعم محمد

116- تاريخ المغرب والأندلس في عصر المرابطين مؤسسة شباب الجامعة، الإسكندرية، 1986 م 117- مدينة سلا في العصر الإسلامي- دراسة في التاريخ السياسي والحضاري المؤسسة نفسها، الإسكندرية، 1993 م دهمان: محمد أحمد 118- ولاة دمشق في عهد المماليك، ط 2 دار الفكر، دمشق، 1401 هـ/ 1981 م دوزي: رينهارت بيتر آن (Dozy ,R.P.A) 119- تكملة المعاجم العربية، 5 أجزاء ترجمة: محمد سليم النعيمي، دار الرشيد، بغداد، 1981 م الزركلي: خير الدين 120- الأعلام، 8 أجزاء، ط 5 دار العلم للملايين، بيروت، 1980 م سالم: السيد عبد العزيز 121- تاريخ مدينة المرية الإسلامية- قاعدة أسطول الأندلس مؤسسة شباب الجامعة، الإسكندرية، 1984 م 122- تاريخ المغرب في العصر الإسلامي، ط 2 المؤسسة نفسها، الإسكندرية، 1982 م 123- المساجد والقصور في الأندلس المؤسسة نفسها، الإسكندرية، 1986 م

سعيد: فرحان أحمد 124- آل ربيعة الطائيون، ط 1 الدار العربية للموسوعات، بيروت، 1983 م السويدي: محمد أمين البغدادي 125- سبائك الذهب في معرفة قبائل العرب، ط 1 دار الكتب العلمية، بيروت، 1409 هـ/ 1989 م الشجاع: عبد الرحمن عبد الواحد 126- تاريخ اليمن في الإسلام حتى نهاية القرن الرابع الهجري، ط 1 دار الفكر المعاصر، صنعاء، 1996 م شرف الدين: أحمد حسين 127- اليمن عبر التاريخ، ط 3 مطابع البادية، الرياض، 1400 هـ/ 1980 م طرخان: إبراهيم علي 128- النظم الإقطاعية في الشرق الأوسط في العصور الوسطى دار الكتاب العربي، القاهرة، 1388 هـ/ 1968 م عاشور: فايد حماد 129- العلاقات السياسية بين المماليك والمغول في الدولة المملوكية الأولى دار المعارف بمصر، 1980 م

العبادي: أحمد مختار 130- في تاريخ الأيوبيين والمماليك دار النهضة العربية، بيروت، 1995 م 131- في تاريخ المغرب والأندلس الدار نفسها، بيروت (لا. ت) العباس بن إبراهيم 132- الإعلام بمن حل مراكش وأغمات من الأعلام، 10 أجزاء تحقيق: عبد الوهاب بن منصور، المطبعة الملكية، الرباط، 1974- 1983 م عبد اللطيف: عبد الشافي محمد 133- العالم الإسلامي في العصر الأموي، ط 1 دار الوفاء، القاهرة، 1404 هـ/ 1984 م العرشي: حسين بن أحمد 134- بلوغ المرام في شرح مسك الختام في من تولى ملك اليمن من ملك وإمام عني بنشره: أنستاس ماري الكرملي، دار إحياء التراث العربي، بيروت (لا. ت) كحالة: عمر رضا 135- معجم قبائل العرب القديمة والحديثة، 5 أجزاء، ط 2 مؤسسة الرسالة، بيروت، 1398 م/ 1978 م كرد علي: محمد 136- غوطة دمشق، ط 3 دار الفكر، دمشق، 1404 هـ/ 1984 م

ماير: ل. ا (.Mayer ,L.A) . 137- الملابس المملوكية ترجمة: صالح الشيتي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1972 م مختار باشا: محمد 138- التوفيقات الإلهامية في مقارنة التواريخ الهجرية بالسنين الإفرنكية والقبطية، مجلدان، ط 1 دراسة وتحقيق وتكملة: محمد عمارة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1400 هـ/ 1980 م مخلوف: محمد بن محمد 139- شجرة النور الزكية في طبقات المالكية دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، (لا. ت) 140- المعجم الوسيط، جزءان في مجلد واحد (مجمع اللغة العربية بالقاهرة- الإدارة العامة للمعجمات وإحياء التراث) دار الدعوة، إستانبول 1989 م. المقحفي: إبراهيم أحمد 141- معجم البلدان والقبائل اليمنية، ط 3 منشورات دار الكلمة، صنعاء، 1998 م الواسعي: عبد الواسع بن يحيى 142- تاريخ اليمن المسمى فرجة الهموم والحزن في حوادث وتاريخ اليمن، ط 2 مكتبة اليمن الكبرى، صنعاء، 1990- 1991 م

ب- المجلات 143- المجلة التاريخية المصرية (القاهرة) : أحمد: أحمد عبد الرزاق «الرّنوك في عصر سلاطين المماليك» المجلد 21 (1974 م) ، ص 67- 116 القوصي: عطية- «أضواء جديدة على تجارة الكارم» المجلد 22 (1975 م) ، ص 17- 39 ج- الموسوعات ودوائر المعارف 144- دائرة المعارف الإسلامية، 15 مجلدا (إصدار: أحمد الشنتاوي، وابراهيم خورشيد، وعبد الحميد يونس، مراجعة: محمد مهدي علام، دار المعرفة، بيروت، طبعة مصورة عن طبعة القاهرة، لسنة 1933 م) : ايفر: ج (.Yver ,G) - مادة" بجاية"، 3/350- 354 بارتولد: فاسيلي فلاديميروفتش (.Berthold ,V.V) - مادة" البرامكة"، 3/492- 498 بل: الفرد (.Alfred ,B) - مادة" تلمسان"، 5/458 جيس (.Gicse ,F) : - مادة" بهنسا"، 4/267- 268 كارادي فو: البارون (.Carr De Vaux ,B) - مادة" ذو النون"، 9/408- 410 كريفه (.Grafe ,E) :

- مادة" دنقلة"، 9/298- 301 كور (.Cour ,A) : - مادة" أبو زيان"، 1/341- 342 هنكمان (.Honigmann ,E) : - مادة" الرّحبة"، 10/71- 79 145- الموسوعة العربية الميسرة، ط 2 (بإشراف محمد شفيق غربال، دار الشعب، ومؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر، القاهرة، 1972 م) : - مادة" نوبة"، ص 1851- 1852 146- الموسوعة اليمنية، ط 1 (إعداد وإشراف وتحرير مجموعة من الباحثين، مؤسسة العفيف الثقافية، صنعاء، 1412 هـ/ 1992 م) : الأرياني: مطهر علي- مادة" أفعى نجران"، 1/121- مادة" مذحج"، 2/850- 851 أستون: فرانسين- مادة" تهامة"، 1/286- 289 السري: أحمد علي- مادة" الغساسنة"، 2/706- 707 عبد الله: يوسف محمد- مادة" تبع"، 1/220- 221- مادة" تعز"، 1/240- 242- مادة" حمير"، 1/424- 427- مادة" سبأ"، 2/503- 508

العمري: حسين عبد الله- مادة" بنو رسول"، 1/173- 176- مادة" دولة الأئمة الزيدية"، 1/447- 459 المتوكل: إسماعيل محمد- مادة" القات"، 2/33- 735

2 - فهرس المحتويات

2- فهرس المحتويات هذا الكتاب 5 منهج التحقيق 9 1- وصف النسخ المعتمدة في التحقيق 9 2- خطة العمل 13 3- الرموز المستعملة في التحقيق 17 4- المختصرات الخاصة ببعض المؤلفين أصحاب الكتب المفردة وغيرهم 19 5- نموذجات مصورة عن النسختين المعتمدتين في التحقيق 21 مسالك الأبصار في ممالك الأمصار السفر الرابع الباب السابع: في مملكة اليمن 29 الفصل الأول: فيما بيد أولاد رسول 35 الفصل الثاني: فيما بيد الأشراف 49 الباب الثامن: في ممالك المسلمين بالحبشة 59 الفصل الأول: في أوفات 65 الفصل الثاني: في دوارو 73

الفصل الثالث: في أرابيني 75 الفصل الرابع: في هدية 77 الفصل الخامس: في شرحا 79 الفصل السادس: في بالي 81 الفصل السابع: في دارة 83 الباب التاسع: في ممالك مسلمي السودان على ضفة النيل إلى مصر 93 الفصل الأول: في الكانم 95 الفصل الثاني: في النّوبة 99 الباب العاشر: في مملكة مالي وما معها 105 الباب الحادي عشر: في مملكة جبال البربر 131 الباب الثاني عشر: في مملكة إفريقيّة 135 الباب الثالث عشر: في مملكة بر العدوة 167 الباب الرابع عشر: في مملكة الأندلس 225 الباب الخامس عشر: في ذكر العرب الموجودين في زماننا وأماكنهم 241 توطئة 243 العرب البائدة 247 العرب العاربة 248 العرب المستعربة 267

ذكر النسب النبوي الشريف 269 طوائف العرب الموجودين في زماننا: 299 عرب الشام: 299 آل ربيعة 306 آل فضل ومنهم آل عيسى 309 آل علي 335 آل مرا 337 * بقية العرب وديارهم في الشام والجزيرة الفراتية والعراق والحجاز وغيرها من جزيرة العرب 343 * صليبة العرب 358 * عرب مصر 360 * بنو سليم 389 * قبائل العربان من مصر إلى أقصى المغرب 390 * عرب الطرق المسلوكة إلى مكة المكرمة 395 1- فهرس المصادر والمراجع 399 - المصادر 399 - المراجع 417 2- فهرس المحتويات 427

[الجزء الخامس] مسالك الأبصار في ممالك الأمصار

الورقة الأولى من المخطوط

الورقة الثانية من المخطوط

الورقة قبل الأخيرة من المخطوط

الورقة الأخيرة من المخطوط

الجزء الخامس

مقدمة التحقيق بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، والصلاة والسلام على سيدنا محمد إمام المرسلين، وخاتم النبيين، المرسل رحمة للعالمين، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى صحابته الكرام الميامين، وعلى أهل العلم العاملين، ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد فإن بين أيدينا المجلد الخامس من كتاب" مسالك الأبصار في ممالك الأمصار" للعلامة المؤرخ الأديب، المدقق النحرير شهاب الدين أحمد بن يحيى بن فضل الله القرشي العدوي العمري (700- 749 هـ) ، أحد مجلدات موسوعته العلمية التاريخية الحضارية التي بلغت سبعا وعشرين مجلدة، إنها معلمة حضارية تاريخية شاملة. ضم هذا السفر القسم الثاني من الكتاب في سكان الأرض من طوائف الأمم، وهو أنواع: النوع الأول: في الإنصاف بين المشرق والمغرب. وفيه فصلان: الفصل الأول وهو الخطابي الفصل الثاني في الإنصاف بين المشرق والمغرب على حكم التحقيق في ظلال النوع الأول الذي وسمه" في الانصاف بين المشرق والمغرب" نلاحظ ابن فضل الله العمري في هذا العرض والموازنة الظاهرة بين المشرق والمغرب، يعرض لليونان والرومان والهنود والفرس قبل الإسلام، ثم يعرض لأكابر العلماء والحكماء في الإسلام في المشرق والمغرب، وأظنه قصد إبراز التواصل الحضاري

بين اللاحق والسابق، وبيان حضارة الإسلام والمسلمين في مشارق الدنيا ومغاربها في مختلف مناحي الحياة وميادينها، وحرص المسلمين على البحث والعلم وتطبيقه ونشره، والإبداع فيه، والزيادة عليه وحفظه ونقله إلى الآفاق لخير الإنسانية، وإذا عرّج على ذكر الخلافة والممالك والسلطنات، إنما أراد أن يبرز حسن سياسة المسؤولين، وحسن إدارتهم وصيانة رعاياهم، ودفع أعدائه، وقطع أطماع المتربصين بهم..... وحملته الأمانة التاريخية أن يبين في كل جانب من الجوانب التي عرضها ما له وما عليه، ليفيد الخلف من تجارب السلف، مهما يكن الأمر نحن أمام موسوعة علمية شاملة، تناولت معظم جوانب الحياة العلمية، والاجتماعية والمعاشية والسياسية، والأرض وما فيها من إنسان وحيوان ونبات، وما في باطنها من جواهر ومعادن، وبعض الصنائع في مشرق الدولة الإسلامية ومغربها في نحو سبعة قرون، وقد أوغلت أحيانا في أعماق تاريخ ما قبل الإسلام. وأما الفصل الأول الخطابي فقد ذكر في مطلعه أنه كان لا يرغب أن يفتح في هذا الفصل مغلق بابه، حتى لا يوغر عليه صدورا، ولأن فضل المشرق- في نظره- ظاهر كوضوح الشمس في رائعة النهار، ولكنه لما رأى تطاول بعض أهل المغرب وتفاخره بالمغرب- مع قصر باعه- على المشرق، رأى المؤلف أن يفتح هذا الباب، مع إقراره أن لكل من المشرق والمغرب فضله، ولا يخلو كل منهما من مدح وذم، فشرع ببيان فضل المشرق من حيث تقديم ذكر المشارق في القرآن الكريم على المغارب، وسعة سلطان المشرق، واتساع مساحة بره وزيادتها على المغرب، لدخول البحر المحيط فيه، فقلت مدنه وعمارته بالنسبة إلى المشرق التي اتصلت فيها العمارة فجاء كله مدنا آهلة وقرى عامرة، وقد أقر بهذا ابن سعيد المغربي (- 673 هـ) في كتابه الجغرافية، ثم انتقل من الأرض إلى ساكنيها،

وأنكر أن تسوى بلاد جنوبها الهند، وهم من أهل العلم والحكمة.... وحسن الصور وما فيها من عقاقير وأغذية وتوابل وجواهر- ببلاد جنوبها حثالة السودان.... وهم أقل للمعارف تأويلا ... وعتب ابن العمري على ابن سعيد المغربي في قوله" فوجب التسليم من المغاربة للمشارقة، لأنه يجب للمشارقة على المغاربة التسليم في كل شيء شاؤوا أو أبوا، اللهم إلا في القليل النادر الذي لا حكم له (ثم بدأ يبين فضل المشرق بأنه مظاهر الأنبياء ومباعث الرسل، وفيه قبورهم ومهابط الوحي والتنزيل عليهم، وفيه معارج الملائكة، وفيه أنزلت كتب الله تعالى، ومنه انتشرت شرائعه، وعلت رايات الدين، ومنه نشرت الفرق والملل، ومن الشرق انبثت التصانيف شرقا وغربا، وفي الشرق جزيرة العرب بسلطانها ولسانها، فينابيع الشعر تفجرت منها، وعن العرب طارت شهرته، فهم نبع البيان وسحره، واستشهد بما ذكره عماد الدين الكاتب الأديب (519- 597) من فضل المشرق على المغرب في هذا الباب ... ثم أضاف ابن العمري أنه لم تقع الجهات الشريفة كالحرمين ومكة والمدينة وبيت المقدس «1» التي لا تشد الرحال إلا إليها، إلا في المشرق، وعرّج على ذكر الحواريين ثم الصحابة رضي الله عنهم، والصناديد الأبطال الذين لم يسمع عنهم إلا في المشرق، وبخاصة في جزيرة العرب وما والاها من الجانب الشرقي، ومشاهد الكرام والعظماء، الذين طارت شهرتهم في المشرق، ومن العظماء ممن لا يعدون كثرة من أكاسرة وقياصرة وملوك اليمن والترك والعرب والعجم كلهم من المشرق، ثم تساءل هل في المغرب مثل عنترة العبسي وذكر عددا من مشاهير الجاهلية والإسلام كالزبير بن العوام والمقداد بن الأسود، والأشتر النخعي ... وغيرهم من

رجالات الفرس ... ثم عرض للأئمة الأعلام مثل أبي حنيفة والإمام مالك والشافعي وأحمد وغيرهم من أئمة التابعين وأتباعهم، وأئمة الحفاظ من المحدثين والتفاوت بين المشارقة والمغاربة في هذا الميدان ... ثم تساءل هل في الغرب من السادات الأولياء كما في الشرق كعبد الله بن المبارك، وعتبة بن إبان البصري، والجنيد وغيرهم ... وانتقل بعد ذلك إلى ذكر بعض المصنفات كرسالة القشيري، وحلية الأولياء وتاريخ السلمي، وعوارف المعارف للسهروردي، التي ظهرت في المشرق، وتساءل هل تجد للغرب مثل ذلك. وتساءل أي القطرين- الشرق والغرب- أقدم إسلاما وأكثر كراما، وأيهما بادر إلى حمل راية الفصاحة، وتلقين آية السماحة؟ ولم يصل إلى الغرب من السؤدد إلا ما فضل عن الشرق، ولم يتجل شيء من هذا قبل المائة الرابعة. ثم عرج على فلاسفة المشرق وحكمائه وعلمائه من اليونان والهند، ثم من كان في الإسلام كابن المقفع والفزاري الفلكي والخوارزمي الرياضي الفلكي، والرازي الطبيب ... والفارابي فيلسوف المسلمين وابن سينا ... ثم عرج على أصحاب الموسيقا وإجادة الغناء، وذكر أن المنصف يدرك أن قصبات السبق لرجال الشرق في هذا الميدان، وساق ثلاثة وعشرين من مشاهير هذا الفن من رجال ونساء ... " ممن يصغي الصم لسماعه، وتغني الطير على إيقاعه"، وذكر ثناء أديب الأندلس بل الغرب ابن بسام (- 542 هـ) على أدب أهل الأندلس في مقدمة كتابه (الذخيرة) إذ قال: (الذين صبوا على قوالب النجوم غرائب المنثور والمنظوم، بعجائب الأشعار والرسائل ... إلا أن أهل هذا الأفق أبوا إلا متابعة أهل المشرق، يرجعون إلى أخبارهم المعتادة ... ) . وكفى- عند ابن العمري- قضاء هذا الأديب الفريد على أهل الأندلس،

وهم صفوة أهل المغرب بولوعهم بما لأهل المشرق ... ". ويعجب ابن فضل الله العمري ما حكي عن الصاحب بن عباد الوزير الأديب (326- 385 هـ) حين اطلع على كتاب العقد الفريد لابن عبد ربه الأندلسي (246- 327 هـ) إذ قال: (هذه بضاعتنا ردت إلينا، ظننا أن هذا الكتاب يشمل على شيء من أخبار بلادهم، فإذا هو لا يشمل إلا أخبار بلادنا لا حاجة لنا فيه، وردّه) . ثم أخذ بعرض أصحاب الصنائع العملية، وأشرفها رسم الكتابة، وذكر خمسة من أعلام الخطاطين في الشرق، وغالب ظنه أن المغاربة لا يتطاولون إلى مفاخرة أهل الشرق فيها. ثم عرض لأصحاب الصنائع والمهن، وأجلها الفلاحة، وصناعة السيوف والرماح والأقواس العربية والدروع، والديباج، والأطلس والصوف، والوشي العراقي، وغضار الصين، وفخار قاشان وزجاج الشام في حين لا يسمع للمغرب في هذا حسّا، إلا ما كان من قباطي مصر، وأخيرا من قماش نيس ثم الإسكندرية، هذا لو سلم أن مصر من الغرب!! ثم عرض للملك فأشاد برسو قواعد الخلافة في المشرق منذ الخلافة الراشدة إلى الخلافة العباسية، ورد دعوى من يرى بعض حلل الخلافة في المغرب، بأنه لم يذكر إلا الخلافة المجمع عليها، واستشهد بقول ابن سعيد المغربي:" إن الاصطلاح أن لا تطلق هذه السمة- أي السلطنة والملك- إلا على من يكون في ولايته ملوك، فيكون ملك الملوك مثل الشام أو مثل أفريقية، أو مثل الأندلس، ويكون عسكره عشرة آلاف فارس أو نحوها، فإن زاد بلادا أو عددا في الجيش كان أعظم في السلطنة.... فإن خطب له في مثل مصر والشام والجزيرة ... كانت

سمته سلطان السلاطين ... والفضل في هذا للمشرق. ومع هذا فإن ابن فضل الله العمري يرى أن ابن سعيد المغربي لم يوف الشرق حقه، وأن الفارق بين سلطنة المشرق، وسلطنة المغرب ما بين الأرض والسماء والدر والحصباء، وإن كان لا يغمط ابن العمري للغرب حقه، فنقل عن الثقات من أهل كل قطر ما هو عليه.. وعرض لخلافة بني العباس في المشرق وللسلطنة الغزنوية وأصناف عساكرها، وملوك جرجان وطبرستان والهند والسند والترك ... ومظاهر الملك فيها من فرش وتيجان مرصعة بالجواهر واليواقيت ... وإلى أسمطة الطعام والشراب وأوانيها بما يقصر الوصف عنها، وعرض لبعض سلاطين وأمراء السلاجقة الشجعان الذين اتسع سلطانهم وملكهم كالسلطان ملكشاه بن ألب أرسلان وذكر حسن تدبير وزيره، وعلاء الدين ملك خوارزم وسعة سلطانه وولده السلطان جلال الدين محمد، إذ كان جيش كل واحد منهم ستمائة ألف فارس ... وبوفاتهما طمى سيل التتار على الآفاق الإسلامية.. ورأى انه لا يقاس أهل الغرب بأهل الشرق، وذكر بعض طرائف لأهل المغرب وعرّج بعد ذلك إلى الكلام في الحيوان والنبات والمعادن في المشرق بما لا يماثله في الغرب، فعرض لأنواع الخيول في المشرق والبراذين والبغال والجمال والأغنام وغير ذلك من الحيوانات التي يستفاد من جلودها كالنمور والسنجاب والغزال وغيرها ثم عرض لمعادن المشرق من ذهب وبيّن مواضعه كما ذكر مواضع الذهب والفضة في المغرب. وعرض لأنواع الجواهر في المشرق، ومنابت العود والصندل والكافور والراوند والقرنفل والفلفل وأنواع الطيب والعقاقير النافعة وأنه ليس في الغرب ما يضاهي

هذه المحاسن ... ثم ذكر جواهر الغرب ومعادنه وبين مواطنها وأن الزمرد الذي بجهة مصر أفضل- حرصا منه على العدل والإنصاف بين المشرق والمغرب، ومع ثبوت المحاسن للشرق فما يسلب ابن فضل الله العمري من المغرب حلله، ولا ينقصه حقه ولا يدعي ما ليس له ... فذكر في أيامه في المغرب ملكا صب على الكفار، يدرأ في نحورهم ويجاهد في سبيل الله من جاوره منهم برا وبحرا، والغرب هو أحد جناحي الأرض وبه من كرائم الخيل والمعادن، ويقذف بحره الحيتان ... وفيه من العقاقير النافعة، وفيه الكتان المعدوم المثيل إن صح أن مصر في القسم الغربي.. وذكر أنه سيورد في كل موضع ما يليق به، ويذكر في خصائص كل أرض ما بها، ولا ينكر أن بالغرب سادة أجلاء وأئمة فضلاء من ذوي العلم والحكمة.. ومنهم الصلحاء الأفراد، وفيهم بقايا المسكة في الدين والتشدد في الحق، وأثنى على الأندلس زمان بني أمية، وملوك الطوائف بعدهم.. لكن الدهر شتت جمعهم (وطمس آثارهم، وبدّلهم بعبّاد الصليب والكنائس بالمساجد والمذابح بالمحاريب، والله يؤيد من يقوم لاسترجاع هذه الضالة، وانتزاع هذه الأخيذة، إنه على ما يشاء قدير..) . وفي الغرب (من شجعان الرجال ممن لا يقص بهم للغرب جناح، ولا يقصر طماح، وإن لم يكن كالشرق في اليسار، ولا هو من الطائر قادمته اليمين، فهو قادمته اليسار) بهذه العبارة ختم الفصل الأول من هذا النوع. وأما الفصل الثاني: الإنصاف بين المشرق والمغرب على حكم التحقيق، فقد فصل القول فيما أجمله في الفصل الأول، وافتتحه ببيان حدود المشرق والمغرب، معتمدا على ما ذكره ابن سعيد المغربي في كتابه الجغرافية، ورأى أن ابن سعيد قد تعصب غاية التعصب للغرب، في كتابه (المغرب في حلى المغرب) ، واستعان ابن فضل الله العمري بما ذكره ابن سعيد في كتابه (المشرق في حلى

المشرق) ، وانطلق في بيان وجه التناظر والموازنة بين المشرق والمغرب في البقاع الجغرافية، ورأى أن المناظرة بينهما تحتمل كتابا، صنفه في بلاد الشام حين رأى من شدة اتحاد المشارقة على المغاربة، سماه (الشهب الثاقبة في الإنصاف بين المشارقة والمغاربة) ، واستشهد بقول البيهقي في المشرق وفضله: (وكل شيء يفخر به فإن المشرق فيه للمغرب رأس) ، وذكر ما قاله ابن سعيد في المشرق والمغرب من فضائل ومظاهر اجتماعية وحضارية، ومآكل ومشارب ومراكب ومجالس، وغير ذلك من عادات وتقاليد مغربية ومشرقية، متفاوتة ومتباينة، وقد استشهد ابن سعيد بقول بعض شعراء المغرب للمشارقة: نراح لفضل أن يكون لديكم ... فما لكم تأبون إن كان عندنا وإن كنتم في العد أكثر مفخرا ... فلا تظلمونا في القليل الذي لنا وبعد هذا انبرى ابن فضل الله العمري ينقض أكثر ما ذكره ابن سعيد، موازنا بين المشرق والمغرب في الملبس والمركب، والخدم والمأكل والمشرب، وفي الطهاة وأنواع المآكل والطيب وأمر الرفاهية، وتوظيف الوظائف، وترتيب طبقات الخدم.. الذي لم يخرج إلا من المشرق، ورد على ابن سعيد في اتهام المشارقة بخلف الوعد، ونبذ الحقوق بما فعله ابن تاشفين (- 500 هـ) ملك المغرب مع المعتمد بن عباد (431- 488 هـ) الذي كانت له يد عليه، وما آلت إليه حاله ممثلة بشعره، إذ يقول: تبدلت من ظل عز البنود ... بذل الحديد وثقل القيود وكان حديدي سنانا ذليقا ... وعضبا رقيقا صقيل الحديد وقد صار ذاك وذا أدهما ... يعض بساقي عض الأسود ووجه العمري أكثر ما استشهد به ابن سعيد لصالح المغرب ليصبح إقرارا منه

في فضل المشرق، فقال: (وكلام ابن سعيد كله لمن تأمله إثبات لفضل المشرق وأهله على الغرب وأهله الذي لا يمترى فيه) ، ثم انتقل إلى الحديث عن جود مناخ المشرق ورطوبة هواء المدن المغربية.... وطوّف في الحيوان والنبات والمعادن في كل منهما، وعرض لألوان وهيئات أهل المشرق والمغرب، مشيدا بالمشارقة ... ثم أشاد بحسن ديباجة الألفاظ لدى المغاربة، وحسن إحكام قواعد المعاني لدى المشارقة وذكر سبعة من أعلام شعراء المشرق، وأثنى على لطائف أهل المغرب، بأنها أعلق بالقلوب، وأدخل على النفوس في كل أسلوب. وعرض لتفوق المشرق في العلوم العقلية والرياضيات والإلهيات ... ثم طرق باب الموازنة بين المتنزهات في المشرق وما يناظرها في المغرب، ففصل القول في مواقعها وهضابها وأنهارها وأشجارها، ونسائمها ومناظرها وأسوارها، وبين خصائصها ومزايا بعضها على بعض، وذكر أقوال العلماء فيها وفي وصفها، وأقوال بعض الشعراء فيها، كما ذكر ما دار من سجال بين الشعراء في مدح متنزهات المشرق والمغرب، أو في مدحهما، كما ذكر أقوال بعض الرحالة الذين زاروا تلك الأقاليم، وتحدثوا في آثار البيئة في ألوان السكان وهيئاتهم وأخلاقهم وسلوكهم.... ومواليهم وغلمانهم، وذكروا الفروق بين أجناسهم، وبين خصائص كل جنس وأقوال المشاهير فيهم، حتى إن الإسكندر أجلّ ملوك الروم أقرّ بفضل الترك، واعترف بحكمة صاحب الصين وفضله ... واستجره الحديث عن الديار المصرية إلى الحديث عن حكامها من بعض الفرق الذين استعصوا على خصومهم إلا على صلاح الدين الأيوبي رحمه الله (532- 589 هـ) الذي طهر البلاد منهم. ورأى العمري مما يتكلم فيه من أحكام المناظرة بين المشارقة والمغاربة في النبوة، وهذا الفخر مسلّم به للمشرق، فذكر الأنبياء والرسل وأعدادهم

ومواطنهم من بلاد الشرق، ومواطن ولادتهم وأماكن قبورهم، ولا يعلم نبي ظهر في المغرب ما خلا الديار المصرية ... ثم عرض للخلافة وبيّن أن شأنها مسلّم للشرق أيضا منذ الخلافة الراشدة، وذكر تعاقب الخلفاء والأمراء والسلاطين وأولادهم، وحكمهم وموطنه ومن توارثه، وفصل القول في أحوال الخلفاء وتعاقبهم، وانتقال الخلافة من أسرة إلى غيرها. ثم عرض للمناظرة في أشخاص الخلفاء وأحوالهم، ومددهم بين أهل المشرق والمغرب في الحرب والسلم، والجود والكرم والفتنة والعدل والزهادة ... وحب العلوم واقتناء الكتب، وحب الشعر والشعراء، ومن ذكرت صولته وعظمت آثاره، وكثرت أسفاره وانتصاراته من المشارقة والمغاربة، وذكر بعض عجائب أولي الأمر فيهم، وعرض لعظمائهم وأكابر أمرائهم وذكر سلطنات ما وراء النهر وخراسان، وسجستان وكرمان والديلمان وطبرستان والجبال (عراق العجم) ، وفارس والأهواز والعراق وشهر زور والجزيرة، وبلاد الشام ومن تعاقب على ملك كل ما ذكر قبل الإسلام وبعده من خلفاء وأمراء، ومصر ومن تعاقب عليها من الجاهلية وبعد الإسلام إلى بني طولون، وعرّج على جزيرة العرب، وذكر من تعاقب عليها، وذكر سلطنات كثيرة في اليمن وحضر موت وهجر، واليمامة، ثم عرّج على البلاد في شمال بلاد الشام والجزيرة كأزربيجان والبيلقان، وباب الأبواب والراز وأرمينية، وبلاد الروم والصقلب، ولم يكن في هذه مسلمون إلا البلغار، ثم وصل التتر إلى بلادهم، كما تحدث عن ممالك الهند والصين الكثيرة، وداخل التتر أهل الصين في بلادهم. ثم ذكر سلطنات المغرب وأولها مما بأيدي المسلمين الديار المصرية وهي

عظيمة في الجاهلية والإسلام، ثم ذكر من تعاقب عليها إلى أن آلت إلى الناصر صلاح الدين، وعرّج على ذكر سلطنات برقة وأفريقية ومن توالى عليها من الأسر الحاكمة، وسلطنة المغرب الأقصى، وهي أعظم جهات المغرب، وقد توالى عليها الأدارسة ثم بنو مدران ثم يوسف بن تاشفين الذي بنى مراكش، ثم عرض للسودان، وأعظم قواعد السلطنة فيها الحبشة والنوبة، وبلاد التكرور سلطنة، وجزيرة الأندلس سلطنتان، سلطنة للمسلمين، وسلطنة للنصارى، وتوالى على سلطنة المسلمين ولاة بني أمية إلى أن ملكها صقر قريش، وتوارثها بنوه ثم بنو عبد المؤمن، كما عرض لغيرها من السلطنات في شمال البلاد الإسلامية. ثم ذكر ما قاله ابن سعيد المغربي في الجندية في المشرق، وأهم خصائصها ومميزاتها، وموازنتها بخصائص الجندية في المغرب ومميزاتها، من خلال مشاهداته في رحلاته، ولقاءاته بالمسافرين، وبيان ما لكل فارس في المشرق من مركوب وعتاد ومساعدين، مما ليس لأمثاله في الأندلس والمغرب الأوسط والأقصى وأفريقيا، كما وصف أنواع أسلحة كل من الفريقين، كما وازن بين فرسان المغرب والأندلس ومهاراتهم، وما لأمراء الجيوش في المشرق من مظاهر لم يحظ بها قادة المغرب، ومثل هذا في أعطياتهم وطعامهم وفراشهم وآلات اللباس، والفضيلة في كل هذا واضحة للمشارقة على المغاربة، وأثنى على انضباط جند المغاربة وسرعة نجدتهم، وبيّن أسباب ذلك، وناقشه ابن فضل الله العمري في بعض ما أثنى به على الجند المغربي. ثم عرض للوزارة في المشرق وأنها فيه أعظم منها في المغرب، وذكر مزايا الوزراء ودورهم في الحكم وآثارهم ... وعرض بعد ذلك لكتاب المشرق، وبراعتهم وسحر كلامهم، وأجاد في وصفهم، مما لا تجد للمغرب لدى المشرق يدا في فضل، ولا باعا في علياء.

ومهّد بعد ذلك للحديث عن أهل الفضل في الشرق والغرب بعد الأنبياء، ورأى أن أعلاهم كعبا القراء، ثم أهل الحديث الشريف، ثم الفقهاء، ثم أهل اللغة، ثم أهل النحو، ثم الفقراء أصحاب القلوب، فالحكماء والوزراء والكتاب.... الذين سيذكرهم في قسمي المشرق والمغرب، وسيأتي بمشاهيرهم في الجاهلية والإسلام إلى عصره، وسيذكر بعد الإنسان سائر الحيوان، ثم النبات، ثم المعادن، ناقلا كل ذلك من مصادره التخصصية، مصورا لما قدر على تصويره منها،، وقد رأى أن يبدأ بالقراء، لشرف القرآن العظيم، وبشرف القرآن العظيم شرف أهله، وتقدمهم تبع لفضله ... ثم ترجم للقراء تراجم وافية، على النحو الآتي: 1- مشاهير قرّاء المشرق. 2- القرّاء بالجانب الغربي. 3- القرّاء في مصر. 4- المحدّثون بالجانب الشرقي. 5- المحدّثون بالجانب الغربي. 6- من كان منهم بمصر. 7- فقهاء المحدّثين بالجانب الشرقي. 8- فقهاء الجانب الغربي. 9- فقهاء الديار المصرية. عرض ما قدمه بأسلوب إخباري حينا وتقريري أحيانا، وحواري في بعض الأحيان، ويؤيد ما يذهب إليه بالأدلة المنقولة، والوقائع التاريخية المشهورة،

وكثيرا ما يرد على ما يدلي به غيره، بالشعر تارة، وبالنثر تارات، وقد غلب على بيانه السجع المقبول، وقد تضطره المحافظة على فاصلة السجع أن يستعمل غريب الألفاظ، هذا إلى جانب كثرة الصناعة البديعية، ولا سيّما تراجم العلماء، التي يورد فيها من الحقائق واللطائف والطرائف، ما يثلج الصدور، ويدخل على النفوس الحبور. جزاه الله تعالى خير الجزاء، فقد حفظ لنا في موسوعته الكثير الكثير، والخير العميم، نفع الله تعالى بها العباد والبلاد، بيده الخير وهو على كل شيء قدير. أ. د محمد عجاج الخطيب الاثنين 16 صفر 1423 هـ الموافق 29 نيسان 2002 م

منهجنا في خدمة الكتاب وتحقيقه

منهجنا في خدمة الكتاب وتحقيقه 1- هذا السفر الذي بين أيدينا بخط نسخ جيد مقروء، إلا أنه في كثير من صفحاته لواحق تملأ حواشيها، وقد دوّن بعضها بخط غير مقروء، ساعدنا في التغلب على غامضه ومغلقه الرجوع إلى مظان المادة العلمية من مصادرها ومراجعها. 2- عزونا الآيات القرآنية إلى سورها وذكرنا أرقامها. 3- خرّجنا الأحاديث والآثار على وفق منهج المحدّثين وقواعدهم. 4- حاولنا ما بوسعنا عزو الأشعار إلى أصحابها. 5- عرّفنا بالأعلام الذين ورد ذكرهم في أخبار الكتاب تعريفا مختصرا. 6- كما عرّفنا بالأقاليم والمدن والأماكن والبحار والأنهار بما يناسب المقام. 7- شرحنا غريب الألفاظ بالاستعانة بالمعاجم اللغوية، كما عرّفنا ببعض النباتات والحيوانات والجواهر والمعادن التي ورد ذكرها بالاستعانة بالمصادر الخاصة بها. 8- وثّقنا المادة العلمية من مظان مصادرها الأصلية، ما أمكن السبيل إلى التوثيق. 9- حافظنا على نص المؤلف، ووضعنا ما اضطررنا إلى زيادته بين قوسين. 10- لم نكثر من بيان الاختلاف في رسم بعض الكلمات من مدود نحو" جمدى" بدلا من" جمادى" و" ثلث" بدلا من" ثلاث"، أو الاختلاف من الناحية الإملائية في وضع الهمزات، أو إهمالها في آخر الكلمة كالمقري في المقرئ، ولا إلى نقص النقاط أو سقوطها في أواخر الكلمات من" حمزة" أو"

الكسائي" ونحوها، أو جيت بدلا من" جئت" والملكئة عوضا عن" الملائكة" والعائذ بدلا من العائذ حتى لا تكثر الحواشي. 11- ذكرنا أرقام صفحات الأصل المخطوط، عند أول كل صفحة منه نحو (ص 12) . 12- وضعنا فهرسا للآيات القرآنية الكريمة. 13- فهرسا للأحاديث النبوية. 14- وفهرسا للأشعار. 15- وفهرسا للأماكن. 16- وفهرسا للأعلام المترجم لهم. 17- كما وضعنا فهرسا لمصادر التحقيق ومراجعه. 18- وفهرسا للموضوعات. سائلين الله تعالى أن نكون قد وفقنا إلى ما قصدنا، وأن يجعل عملنا خالصا لوجهه الكريم، وأن ينفع به العباد والبلاد، آملين أن يسددنا أهل العلم فيما أخطأنا، وأن يتجاوزوا زلاتنا، فالكمال لله وحده، وله الفضل والمنة في البدء والانتهاء. والحمد لله رب العالمين

القسم الثاني من الكتاب في سكان الأرض من طوائف الأمم، وهو أنواع: «1» النوع الأول في الإنصاف بين المشرق والمغرب، وهذا النوع له شبهان: شبه بالقسم الأول بحسب موضوعه، وما اندرج معه وتعلق بذيل المفاخرة بين الجانبين من النبات والمعدن، وله شبه بالقسم الثاني بحسب ما اندرج فيه من ذكر طوائف العلماء الذين هم أعيان الناس، وذكر سائر الحيوان إلا أن هذا الشبه أقوى لأن المقصود من المكان ساكنه فألحقناه بهذا القسم وفيه فصلان: الفصل الأول: خطابي الفصل الثاني: على حكم التحقيق

الفصل الأول: وهو الخطابي

الفصل الأول: وهو الخطابي [مقدمة المصنف] اعلم أن هذا مغلق لم يكن في عزمي أن أفتح بابه، ولا أتعرض إليه لأمرين: أحدهما لأني أخشى توغر صدر عليّ. والثاني لأن فضل الشرق ظاهر كوضوح الشمس منه، فلا يحتاج إلى قول. ثم إنني رأيت من أهل المغرب من يطاول ممتد الشرق بباعه القصير، ويكاثر بحره الزاخر بوشله «1» القليل، على أننا لا نجحد أن لكل منهما فضلا، وأن في كل منهما للمدح والذم أهلا، ولكنّ الأغلب يغلّب. وقد ذكر الله تعالى المشارق والمغارب في غير موضع من القرآن، فبدأ بالمشارق، وإن لم تكن الواو تقتضي الترتيب، ولكن/ (ص 3) «2» مداومة تقديم المشارق لا يخفى ما فيها من معنى، ومحاسن كل شيء غالبا في الشرق أكثر، ودست «3» ما فيها كل سلطنة بها أعظم، ولا يخالف في هذا من لم ينازع الحقّ أهله، ولقد همّ ابن

مشرق الأرض ومغربها

سعيد «1» في كتاب المغرب «2» بالتعصب لبلاده، ثم منعه الإنصاف، وإن كان في بعض الكلام قد أشار وما صرّح، مثل قوله وقد ذكر بعض الأقوال في مساحة الأرض من البحر المحيط بالصين، إلى البحر المحيط بالأندلس «3» ، وبرّ العدوة [مشرق الأرض ومغربها] وأن نصفها للمشرق، من البحر المحيط بالصين، إلى آخر الشام على البحر

السبتي، «1» والنصف الآخر للمغرب، من أول الديار المصرية، وبلاد الحبشة، وما في غرب خليج القسطنطينية، وما في خطّيه عرضا، مارّا في الطول إلى البحر المحيط بالأندلس وبرّ العدوة. قال: وقد ذكر البيهقي «2» : أن من أصحاب المساحة من قال: إن المشرق أطول وأعرض من المغرب، ثم قال ابن سعيد: وقيل: إن الذي نقّص من طول المغرب دخول البحر المحيط فيه، من جزائر الخالدات «3» ، التي هي منتهى العمارة إلى برّ طنجة. وإن قسم المشرق من أول المشرق إلى

الجزائر، التي في البحر المحيط بالصين المعروفة بصين الصين، هي أقرب في ذلك إلى المشرق من الجزائر الخالدات إلى أكثره في المغرب. ثم قال: وقد ذكر الإقليم الرابع الذي هو معظم المغرب والاعتدال «1» أنه ليس بالمغرب فيه إلا بعض الأندلس وبعض ساحل برّ العدوة، وجمهوره غلب عليه البحر، وقد ذكر البحر الرّومي يعني الشامي، الذي سماه هنا السبتي. قال: وفيه جزائر ليست مما تقارب جزائر الهند في الكثرة. ثم قال: والإقليم الرابع في المشرق بضد ذلك، يعني ضد ما هو عليه في المغرب، لأنه ليس فيه بحر يعطّله عن اتصال (ص 4) العمارة، وكثرة المدن المتوالية من الشام إلى الجزيرة، إلى عراق العجم، إلى خراسان، إلى ما وراء النهر، متصلا في بلاد الأتراك، إلى يأجوج ومأجوج «2» ، فلهذا كان الشرق أعظم عمارة من المغرب، وأكثر مدنا. ومعنى كلامه أن البحر الرّومي «3» جاء في الجانب الغربي في موضع الإقليم

تشبيه بعض الحكماء للأرض

الرابع إلا قليلا منه فلم يبق به مدن، بخلاف الشرق، فإنه خال من تعطيل البحر لأرضه، فقد جاء كله مدنا، آهلة، وقرى عامرة، ورساتيق «1» متصلة. قال ابن سعيد: فوجب التسليم من المغاربة في هذه المزية. [تشبيه بعض الحكماء للأرض] ولما ذكر ابن سعيد: أن بعض الحكماء شبّه الأرض بجسد آدمي، وعدد أعضاءه، وجعل الصين والهند رأسه، والغرب رجله كما تقدم ذكره في هذا الكتاب «2» قال: وبهذا التشبيه للمشرق غاية الفخر أن سلّمه إليهم المغاربة. قلت: وفي قول ابن سعيد (أن سلمه إليهم المغاربة) في هذا الموضع، وقوله فيما تقدم: (فوجب التسليم من المغاربة في هذه المزية) - من الشمس بمضاهاة الشرق ما فيه، ولو اكتفينا بهذه المزية لكان فيها كفاية، لأنه أي مماثلة لجهة، أكثر ما فيها بحار ملح غامرة، بجهة كلها أقاليم ممتدة، عامرة بالمدن والقرى، والثمار والزروع، والأناسي والدواب، يسافرها المسافر كيف شاء، ويضطرب فيها حيث أراد!!!؟ وكيف تسوى بلاد جنوبها الهند، وهم من أهل العلم والحكمة، مع صفاء الألوان، وحسن الصور، وكمال التخطيط، يعمّ الأرض طيبه، وينفحها أرجه «3» ، ويداوي مرضاها عقاقيره، ويصلح أغذيتها أفاويهه «4» ، ويزيّن أسرّة ملوكها جوهره- ببلاد جنوبها حثالة السودان المحترقة ألوانهم، المشوّهة صورهم،

تفضيل المشرق على المغرب

المختلفة/ (ص 5) تخاطيطهم، غاية الجهالة «1» ، والنفوس البهيمية، لا عقول لهم ولا أفهام، هم أقرب شبها من بني آدم بالأنعام. بل هم أضل سبيلا، وأذلّ قبيلا، وأقل للمعارف تأويلا. [تفضيل المشرق على المغرب] ولو أنصف ابن سعيد حق الانصاف، وأذعن لواجب الاعتراف، لما قال فوجب التسليم من المغاربة للمشارقة، لأنه يجب للمشارقة على المغاربة التسليم في كل شيء، شاؤوا أو أبوا، اللهم إلا في القليل النادر الذي لا حكم له. أو ليس مطاهر الأنبياء صلوات الله عليهم جميعا بالمشرق، إلا يوسف وموسى وهارون عليهم الصلاة والسلام، فإنهم كانوا بمصر وهي واقعة في القسم الغربي على قول ابن سعيد، إن سلم أهل مصر أنها من المغرب، أو سلم هذا من يدّعيه فيها، وعلى تقدير أن يسلم أن مصر من المغرب، فهذه السادة الأنبياء من الشرق، وكان من الشام منبعهم، وإليه عاد مرجعهم، فجموع الأنبياء صلوات الله عليهم

الأنبياء والرسل

من الشرق، فيه موالدهم، [الأنبياء والرسل] وإليه مباعث الرسل منهم، وبه قبورهم، ومهابط الوحي والتنزيل عليهم. وأما دخول يعقوب والأسباط ويوشع والمسيح عليهم الصلاة والسلام إلى مصر، فإنه ليس بدخول استمرار، ولا كانت بدار قرار، فهم لا يعدّون في أنبيائها، ولا يذكر خبرهم في أنبائها. وبالشرق معارج الملائكة صلوات الله عليهم «1» ، وبه أنزلت كتب الله المنزلة، ومدّت ينابيع الشرائع، وعلت سرادقات الدين «2» ، ونشرت ملاءات «3» الملل، وتفرعت العلوم، وانبثت التصانيف شرقا وغربا، وبه جزيرة العرب، والسلطان سلطانها، واللسان لسانها. فأما الشعر فمنهم طالت نبعته، وعنهم طارت سمعته، والشعر هو نبعه البيان، وحلته الفضل، ولله در العماد الكاتب «4» حيث تعصب لمشرقيته، والحق قال إذ ذكر المغرب،

قال في كتاب كتبه: وأما المغاربة فعلى مشارع «1» المشارقة مغار حيلها «2» ، ومن مساربها «3» معار سبلها «4» ، ومن حررها» شرقها. وفي موج بحرها غرقها، وعندها سور النور، وفيضه في غياضها تغور، وحسبها أن الغزالة الراتعة «6» في رياض الفلك، الكارعة «7» من حياض الملك، إذا وصلت إلى وردها، توردت بالشفق، واصفرت للفراق من الفرق، وأصابت عينها عين العين الحامية «8» ،

وعانقتها عنقاء المغرب المعادية «1» ، ووقعت في قبضة طفل الطفل «2» كالعصفور، وقرب منالك معادها، غداة غد يوم النشور. إن الله يأتي بالشمس من المشرق حجة بالغة، ومحجة واضحة للحق المحقق، والمنصف المصدّق، فإن تعلق المغربيون بأذيال السماء، ولووا الأنوار أجزاء. فالمشرقيون احتابوا حللها القشب «3» أولا، وإن تعلقوا على أسوار أسأرها «4» ، فالعراقيون فتحوها معقلا، ثم ها أنا لي فيه كلمة قلتها: [مجزوء الكامل] والصبح قد وافى البشي ... ر بقربه والليل ذائب وسرى النسيم كأنه ... شكوى الحبائب للحبائب قد جاء مبتل الردا ... ء تقول قد لمس السحائب وأتى كغرة أدهم ... فجر تبدّى في الغياهب أو ما ترى ضوء النها ... ر وقد بدا من كل جانب

الجهات الشريفة

وسرت سراياه وقد ... غصت من الليل الكواكب وبدا لنا وقت الصبا ... ح كأنه سمراء كاعب ورأيت ثعلب فجره ... أكل الثريا وهو لاعب وكأنما زهر النجو ... م دراهم في كف هارب وانظر إلى قوس الهلا ... ل كأنه للصبح حاجب هذي المجرة نهرها ... ما فيه من شيء لشارب لكنما الشرق المني ... رأتى يدق قفا المغارب [الجهات الشريفة] ثم ها أنا أرجع إلى الجداد فأقول: وهل وقعت في غير الشرق الجهات/ (ص 6) الشريفة المعظمة، كالحرمين الشريفين، مكة، والمدينة وبيت المقدس، التي «1» لا يشدّ الرحال إلا إليها «2» ، وكذلك جبل الطور، وهو بين القدس والحجاز. فأما الجانب الغربي في قوله تعالى:" وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر" «3» . فالغربي بالنسبة إلى المكان المخصوص، لا إلى مطلق الغرب. وكان موسى حينئذ بالشام، ثم إلى جهة الشام فرّ من فرعون وملئه. [الحواريون والصحابة] ومن أي القطرين جماعة الحواريين؟ ثم الصحابة رضي الله عنهم، وقد سمعنا

جماهير الكرماء والعظماء في الجاهلية والإسلام

فيهم بفارسي ورومي، ولم نسمع بمغربي، وهل كانت عباديد الرجال «1» ؟ وصناديد الأبطال «2» إلا في جزيرة العرب وما والاها من الجانب الشرقي!؟ [جماهير الكرماء والعظماء في الجاهلية والإسلام] وهل جماهير الكرماء ومشاهير العظماء إلا منهم؟ فمن كرمائهم حاتم طيء «3» ، وكعب بن مامه «4» ، ثم عبد الله بن جعفر «5» ، وعبيد الله بن العباس «6» ،

ومصعب بن الزبير «5» . وغير هؤلاء ممن لا يحصر. وأما من عظمائهم فما لا يعدّ كثرة، كالأكاسرة والقياصرة، والتبابعة «1» ، وملوك الترك وفرسان العرب، وبهالوين العجم «2» . وهل في الغرب مثل عنترة «3» وذي الخمار سبيع بن الحارث «4» ، وعمر بن ود

العامري «1» ، ودريد بن الصمة «2» ، ومهلهل «3» وبسطام بن قيس «4» ، وزيد الخيل، المسمى بزيد الخير «5» ، وعمرو بن معدي كرب «6» ، والزبير بن

العوام «1» ، والمقداد بن الأسود «2» ، وخارجة بن حذافة «3» ، وقيس بن

سعد «1» والأشتر النخعي «2» ، أو مثل رستم بن دستان المسمى أبوه زال «3» واسفنديار

بن كشتاسب «1» ، وبهرام جوبين «2» ، وبهرام الأرميني «3» مقاتل سعد بن أبي وقاص «4» .

الأئمة والفقهاء

[الأئمة والفقهاء] وهل شموس الأمة، وأقمار الأئمة إلا من المشرق!؟ مثل أبي حنيفة «1» ومالك «2» ،

والشافعي «1» وأحمد «2» ، وبقية الأئمة الذين انقطعت الآن مذاهبهم (ص 7) وبقيت في أسماء التصانيف كواكبهم. مثل الحسن البصري «3» ،

وسفيان الثوري «1» ، وطاوس «2» . ومن عاصرهم، أو تقدم أو تأخر عنهم، أو انسحب على آثارهم من ذوي العلوم المفنّنة، والأقوال المرجحة. وكذلك أئمة المحدّثين، وأعلام الحفاظ، وحسبك أصحاب الكتب الصحاح «3» ، الشرق دارهم، ومنه امتدت أنهارهم. وانظر إلى تفاوت درجات الرواة بين أهل القطرين، تعرف ما بين الأوج الحضيض، وتعلم أنهما الصحيح والمهيض «4» . وكفى المشارقة فخرا اتصال نسبهم القريب بالنبي صلى الله عليه وسلم في الرواية. وهل أطلع الغرب مثل ما أطلع الشرق من السادات الأولياء، أقطاب الأرض

السادات الأولياء أئمة التحقيق

[السادات الأولياء أئمة التحقيق] من مشايخ الطريق وأئمة التحقيق. مثل عبد الله بن المبارك «1» ، وعتبة الغلام «2» ، وأبي القاسم الجنيد «3» وأبي يزيد البسطامي «4» وأبي الحسن النوري «5» ،

ومعروف الكرخي «1» ، وبشر الحافي «2» ، وسري السّقطي «3» ، وإبراهيم بن أدهم «4» ، وأبي سعيد بن الجلّاء «5» ، ومن كان قبلهم، أو معهم أو جاء بعدهم من أهل هذا النمط. وتأمل رسالة القشيري «6» ، وحلية الأولياء لأبي نعيم «7» ، وتاريخ

السّلمي «1» ، والمعارف للسّهروردي «2» ، وما في معناها. هل تجد للغرب مثل ما سبق الشرق بإدراك فضله، وتحلى به من أهلّة أهله!؟ على أن لكل أرض أقطابا عليهم مدارها، ولكنهم بالشرق أشهر، ومع مكاثرة أنوار النّبوّة بها أظهر. وأي القطرين أقدم إسلاما؟ وأقوم أعلاما، وأكثر أولادا كراما، وآثر مآثر باقية وأياما. وأيهما بادر إلى تلقي راية الفصاحة، وتلقّن آية السماحة؟ وهل وصل

إلى الغرب من السؤدد إلا ما فضل عن الشرق؟ أو لبس إلا ما أعاره من الخليع «1» المبتذل، لما دخل عبد الرحمن الداخل «2» ، من بني مروان إلى جزيرة الأندلس، واجتمع إليه من شذاذ (ص 8) القوم من نفضتهم مزاود المشارق، ولفظتهم أسرّة الملك، فحينئذ صار الناس بالغرب ناسا، وإلا فقد كانوا كالبهم السائمة، فمن ذلك الوقت تكلموا باللغة العربية، وامتازوا بالنطق على «3» الحيوان، وكان ما أخلقه الشرق لهم جديدا.

الفلاسفة والحكماء والأطباء ورجال الفلك والعلوم

هذا بالأندلس «1» ، و (بقيت) «2» بقية الغرب على ما هم عليه، ما تحلى لهم عاطل، ولا عرف منهم إنسان إلى المائة الرابعة، فدبّ فيهم ماء الإنسانية. وراقت فيهم بشاشة الأدب، وأضحت تعدّ مع المدن قراها، وتكلّم مع الناس أهلها إلى أيام المرابطين «3» ، ثم الموحدين «4» ، ثم ملوكها الآن من بني مرين «5» ، فإنهم مصّروا مدنها. ومدّنوا قراها، وأجلّوا جليلها، وكثروا قليلها، فصارت لا تقصّر في مضمار، ولا تردّ عن غاية. [الفلاسفة والحكماء والأطباء ورجال الفلك والعلوم] وهل في الغرب من الفلاسفة والحكماء مثل الشرق؟ فأما قبل الإسلام فالمرجع إلى حكماء اليونان والهند. ومن اليونان مثل فيثاغورس «6» ،

وأرسطيغوس «1» ، وديوجانس «2» ، وفورون «3»

وأفلاطون «1» ، وأرسطاطاليس «2» ، وسقراط «3» ، ومن الهند مثل

كنكه الهندي «1» ، وطمطم الهندي «2» وصاحب كتاب السند هند في الفلك «3» ، وصاحب كتاب باقر في الموسيقا «4» ، وصاحب كتاب العدد «5» ، وصاحب كتاب كليلة ودمنة وهل مثل هذا الكتاب في إصلاح الأخلاق وتهذيب النفوس؟ «6» وأما من كان في الإسلام فمثل عبد الله بن

المقفع «1» ، ومحمد بن إبراهيم الفزاري «2» ، والحسن بن الأدمي «3» ، وأبي جعفر محمد بن موسى الخوارزمي «4» ، ويحيى بن أبي منصور المنجم «5» ، وخالد بن عبد

الله المروزي، والعباس بن سعيد الجوهري «1» ، وأحمد بن مروان السّرخسي «2» ، ومحمد بن زكريا الرازي، طبيب المسلمين غير مدافع «3» ، وأبي نصر محمد بن نصر الفارابي «4» فيلسوف المسلمين، غير مدافع، ويعقوب بن

طارق «1» ، صاحب كتاب المثالات، وما شاء الله الهندي «2» وأبي محمد بن (ص 9) ذي الدمينة الهمداني «3» ، وعمر بن فرحان الطبري «4» ، وأبي سهل بن نوبخت «5» ، وأبي جعفر بن محمد البلخي منجم المسلمين غير مدافع «6» ، وطراز

الدهر الرئيس أبي علي بن سينا «1» ، والإمام الحجة فخر الدين محمد بن عمر بن خطيب الري الرازي «2» .

هل ولد الغرب أمثالهم، أم حدا في الأنموذج مثالهم؟ إن الدّهر بمثلهم لعقيم، ولا عصبية للعظم الرميم، بل هو منهج الحقّ القويم، ومبهج الصدق المستقيم. فإن قلت أيها القائل لم خلطت بهؤلاء اليونان، ومدينتهم واقعة في الغرب بلا خلاف؟ قلنا: قد نسلّم إليك أن في الغرب مدينتهم، ومن أرضه طينتهم، ولكن من الشرق أصل مددهم، وحاصل ذات يدهم، فإنهم إنما أخذوا عن حكماء الهند غالب علومهم، وغامض معقولهم، ومنهم أوقدوا مصابيح أفهامهم. قال لي شيخنا الحجة فريد الدّهر، وارث العلم والحكمة، أبو الثناء محمود بن أبي القاسم الأصفهاني «1» - أطال الله بقاءه-: إن أرسطو استأثر بكتب الهند، لما غلب الإسكندر على أرضهم، واستعاد ما فيها، ثم أمر بها فحرقت «2» ، حتى لا تنسب حكمتها إلا إليه، ولا تعرف إلا به. فاعرف من أين الأصل، ولأيّ الأفقين الحكم الفصل. هذا إذا لم يرد عليك من يأتي بنيانك من القواعد، ويقول صحيح إن مدينة اليونان في الغرب، ولكن قد تدبّر الجانب الشرقيّ منهم أناس، وسكن شرقي الخليج القسطنطيني منهم فرق، وقد قرر ابن سعيد المتعصب لكم، والمنتصر لبلادكم أن الخليج القسطنطيني فاصل بين

أصحاب الموسيقى

الشرق والغرب. فأما غالب المتأخرين، بل جملة الآخرين فإنهم في الشرق بلا نزاع ولا دفاع، وفيه من بذّ «1» الأوائل واستدرك ما فاتهم من الفضائل. وأما حكماء الهند، وهم قبل اليونان السابقون الأولون، والحفظة المحصلون، فما سمع أن أحدا منهم تزحزح عن مكانه، ولا رضي مثل (ص 10) ما رضوا به بدلا من أوطانه. وهذا فخر لا يدفع، ودليل لا يرفع، وعلى تقدير أن يسلم أن مدينة اليونان مفضلة بهم، وإن برحوا عنها، وأن لليونان الفضل الباهر، اتبعوا أم ابتدعوا، فمدينتهم لتوغلها في الشمال أشبه بأن تنسب إليه من الغرب، وهي حقيقة أقرب إلى المحيط بالشمال منها إلى المحيط بالمغرب، وذلك مؤيد فيما ذكرناه لكل مقال، قاطع لكل جدال، فهي شمالية لا مغربية، لا شرقية ولا غربية. [أصحاب الموسيقى] فأما أصحاب الموسيقا وإجادة الغناء، فلمن تقدّم من هؤلاء الحكماء في الموسيقا ما يؤخذ عنهم علمه اليقين، وأما توقيع الألحان، وترتيب الأنغام، فإذا طالعت جامع أبي الفرج الأصبهاني «2» ، هداك النفس الطيب، وعلمت إلى

حكم الشرع في السماع وآلاته

الشرق أم إلى الغرب يميل سمعك، وبأيهما يهتز عطفك «13» ؟ [حكم الشرع في السماع وآلاته] وما قصبات

السبق إلا لمعبدها «1» ، مثل ابن مسجح «2» ،

وابن محرز «1» ، وابن سريج «2» ، والهذلي «3» ، والغريض «4» ، ومالك بن أبي

السمح «1» ، ومعبد «2» ، وحنين الحيري، «3» وحكم الوادي «4» ، وإبراهيم الموصلي «5» ،

وإسحاق «1» ، وابن جامع «2» ، ويحيى المكي «3» ، ومخارق «4» ، وعزة

الميلاء «1» ، وبصيص «2» ، وسلامة «3» ، وحبابة «4» ، والزرقا جارية ابن

زامين «1» ، وعنان جارية الناطفي «2» ، وبدل الكبيرة» ، وعريب «4» ، وغير هؤلاء ممن تصغي الصمّ لسماعه، وتغني الطير على إيقاعه «5» ، يتمنى كل ذي أذن لو كان له مستمعا، ويودّ كل عضو لو تحوّل لأجله مسمعا «6» ، تملى نغماته على الأوتار، وتحلى أوقاته بالمسار «7» ، يطرّف السمع بطرائف «8» الأناشيد،

قول ابن بسام في خطبة كتاب الذخيرة

ويطرب الجميع بلطائف الأغاريد، يسكر سامعه وما شرب بنت حان «1» ، ويهتز وما حركه سوى ألحان، تأخذ منه السعود بنصيب، ويعيد على العود شبابه وهو غصن رطيب، من كل مطرب ومطربة فاقا، وقاتا في صناعتهما حذّاقا، كما قال الحريري في جارية، قال: إن قرأت (ص 11) شفت المفؤود، وأحيت الموءود، وخلتها «2» أوتيت من مزامير آل داود، وإن غنت ظلّ معبد «3» لها عبدا، وقيل سحقا لاسحاق وبعدا «4» ، وإن زمرت أضحى زنام عندها زنيما «5» ، بعد أن كان لحيله «6» زعيما، وإن رقصت أمالت العمائم عن الرءوس، وأنشتك «7» رقص الحبيب في الكؤوس؛ [قول ابن بسام في خطبة كتاب الذخيرة] وهذا أديب الأندلس بل الغرب أبو الحسن علي بن بسام «8» قد قال في خطبة كتاب الذخيرة، وقد ذكر ما لأهل الأندلس من فضل أدب

فقال: لعبوا بأطراف الكلام المشقق ... لعب الدجى بجفون المؤرّق، وجدّوا بعيون السحر المنمق ... جدّ الأعشى ببنات المحلق «1» ،

فصبوا على قوالب النجوم غرائب المنثور والمنظوم، وباهوا «1» غرر الضحى والأصائل، بعجائب الأشعار والرسائل، (نثر) «2» لو رآه البديع «3» لنسي اسمه، أو اجتلاه ابن هلال لولّاه حكمه «4» ، ونظم لو سمعه كثير «5» ما نسب ولا مدح، أو تتبعه جرول «6» ما عوى ولا نبح، إلا أن أهل هذا الأفق أبوا إلا متابعة «7» أهل المشرق، يرجعون (إلى) «8» أخبارهم المعتادة «9» ، رجوع الحديث إلى قتادة «10» ، حتى لو نعق بتلك الآفاق غراب، أو طنّ بأقصى الشام

والعراق ذباب، لحنوا «1» على هذا ضما، وتلوا ذلك كتابا محكما، ثم قال: فغاظني منهم ذلك، وأنفت «2» مما هناك، وأخذت نفسي بجمع ما وجدت من حسنات دهري، وتتبعت محاسن أهل بلدي وعصري، غيرة «3» لهذا الأفق الغريب أن تعود بدوره أهلّة، وتصبح بحوره ثمادا «4» مضمحلة. ثم قال: وليت شعري من قصر «5» العلم على بعض الزمان، أو خص أهل الشرق بالإحسان؟ «6» قلت: وكفى المشرق قضاء هذا الأديب الفريد على أهل الأندلس، وهم صفوة أهل المغرب بولوعهم بما لأهل المشرق، حتى لو نعق غراب، أو طنّ ذباب، مع تصديقه لأبي علي البغدادي «7» في قوله، وقد قصد الأندلس: لما وصلت القيروان، وأنا أعتبر من مرّي من أهل الأمصار، فوجدتهم «8» درجات في

الغباوة وقلة الفهم، بحسب تفاوتهم في المواضع منها، بالقرب والبعد حتى كأن منازلهم من الطريق هي منازلهم من العلم محاماة ومقايسة. قال: فقلت: إن نقص أهل الأندلس عن مقادير من رأيت في أفهامهم، بقدر نقصان هؤلاء عمن قبلهم، فسأحتاج إلى ترجمان بهذه الأوطان، ثم قال ابن بسام عنه وبلغني أنه كان يصله كلامه هذا بالتعجب من أهل هذا الأفق في ذكائهم ويتغطّى عنهم عند المباحثة والمقايسة، ويقول لهم: إن علمي لعلم رواية وليس بعلم دراية، فخذوا عني ما نقلت، فلم آل لكم أن صححت «1» . قلت: فهذه شهادة لا ترد من أبي عليّ على أهل المغرب إلا الأندلس، وإقرار ابن بسام له على قوله شهادة عنه، وهذا أيضا على كثير المغرب أهل المشرق، فأما أهل جزيرة الأندلس يلغى بها ما قاله ابن بسام عن فضلاء أهلها آنفا: أنه لو نعق بالمشرق غراب أو طن ذباب لحنوا عليه ضما وتلوه كتابا محكما، وأما ما زعم من أنّ أبا علي البغدادي كان يتغطى عنهم عند المباحثة والمناقشة، ويقول إن علمي لعلم رواية، وليس بعلم دراية. فهذا إن صحّ وسلم إليه، عنه جوابان: الأول: أن أبا علي كما قال صاحب علم رواية، ليس عنده إلا ذلك، وقد يكون بلي برجل جدل، أو رجال كذلك فقصرت حجته عندهم بحق وبمعاناة، فقال ذلك، ولا يخلو قطر من ذي جدل فيه. فأما لو رموا بمثل ابن سينا وأضرابه، والفارابي وأشياعه لذابت حضارتهم فهامت خفافيشهم. والجواب الثاني: أنهم قد ألجؤوه في وقت إلى تأويل باطل لم يمنعهم منه إلا التسليم إليهم، فمن لم يستجز ذلك فقطعهم بذلك القول عن الحيلة إلى الباطل.

أصحاب الصنائع العملية (الكتابة) والفلاحة والسيوف، والرماح، والديباج

ويعجبني ما حكي عن الصاحب ابن عباد «1» . قيل إنه سمع بكتاب العقد، فحرص حتى حصل عنده، فلما تأمله قال: هذه بضاعتنا ردت إلينا، ظننا أن هذا الكتاب يشمل على شيء من أخبار بلادهم، فإذا هو لا يشمل إلا على أخبار بلادنا لا حاجة لنا فيه) «2» فرده «3» . [أصحاب الصنائع العملية (الكتابة) والفلاحة والسيوف، والرماح، والديباج] وليس في الغرب أحد في هذا الباب يذكر، ولا سمع له ما يذم ولا ما يشكر، اللهم إلا ما تكلفت له على ما يأتي، ثم نأخذ الآن في: أصحاب الصنايع العملية، وأشرفها رسم الكتابة، وما أظن أن المغاربة تتطاول إلى مفاخرة أهل الشرق فيها، ولا تنازع أهلها في القطر الشرقي، مثل أبي الحسن علي بن هلال الكاتب المعروف بابن البواب «4» . والولي علي التبريزي «5» ، والشيخ الكاتب عماد الدين أبي عبد الله محمد بن محمد بن هبة الله بن الشيرازي «6» . وجمال الدين ياقوت المستعصمي «7» . وشرف الدين محمد بن

الوحيد الزرعي «1» ، وغير هؤلاء من الكتاب ومن يطرب وضع خطهم الألباب. وأما سائر أصحاب الصنائع والمهن وأجل الصنائع الفلاحة، ولا يقال إلا الفلاحة النبطية «2» أو الفلاحة الرومية. وهي قوام المعايش، ومادة الرزق، وسبب العمارة، وحفظ بقاء النوع. وسمعنا يقال سيف هندي، ورمح يزني «3» ، وقوس عربية، وسردة «4» داوودية، وبيضة عادية «5» ، وديباج خسرواني «6» ، وأطلس رومي «7» ، وصوف أذري «8» ، وقطن

سابوري «1» ، وكتان روئي «2» وتوصف ملاءات «3» الهند، وحبرات «4» اليمن، وأبراد «5» صنعاء، ووشي «6» العراق، وغضار «7» الصين، وفخار قاشان «8» ، وزجاج الشام. ولا أسمع للمغرب هاتفة، ولا أحس به نابسة «9» ، إلا ما كان يقال من قباطي مصر «10» ، ثم في آخر العهد من قماش نيس، ثم الإسكندرية الآن، هذا إن سلم أن مصر من الغرب، وإلا فدون التسليم (ص 12) ألسنة «11» وحجج قاطعة. فأما الملك فما أظنّ مغربيا تسمو همته إلى المجاذبة في هذا بأطراف النزاع ولا

في الشرق رست قواعد الخلافة

تتعرض لأطراق الشجاع. [في الشرق رست قواعد الخلافة] وبالشرق رست قواعد الخلافة مستقر الخلفاء الراشدين، وبني أمية، والدولة العباسية وما لمغربي أن يقول: كيف تلبّس الشرق حلل الخلافة، ويعرّي معاطف الغرب، وبها دولة الخلفاء من بني أمية، وبني حمّود «1» وبني عبد المؤمن «2» ، فجوابه أننا لم نذكر إلا الخلافة المجمع عليها، ولم نذكر الناجمين بالشرق، كالعلويين بآمل كرسي ما زندران المسماة بطبرستان «3» ، وبني الأخيضر العلويين باليمامة، وأئمة الزيدين باليمن، إذ كل خلافة سوى المجمع عليها شذوذ، ولو أننا- أيها المدعي للغرب على الشرق- نظرنا من بويع بالجهتين، ونظرنا بين الفئتين لمحت سطوركم، ومحقت بدوركم، وتوهدت رباكم، وتوهنت صباكم، بما نحن نردكم إذعانا وسف «4» طائركم خضعانا، وانقطعتم دون الغاية، واجتمعتم وما رفعت لكم راية، والتحق بالعدم وجودكم، والتحف جناح الخمول مجيدكم، ولات حين مناص «5» ، وهيهات من يد المؤاخذة خلاص. وأما السلطنة والملك، فقد قال ابن سعيد عن السلطنة والملك: إن الاصطلاح أن لا تطلق هذه السمة إلّا على من يكون في ولايته ملوك، فيكون ملك الملوك، فيملك مثل الشام أو مثل مصر أو مثل إفريقية أو مثل الأندلس، ويكون عسكره عشرة آلاف فارس أو نحوها، فإن زاد بلادا أو عددا في الجيش

المقايسة بين سلاطين المشرق والمغرب والخلافة

كان أعظم في السلطنة، وجاز أن يطلق عليه السلطان الأعظم، فإن خطب له في مثل مصر والشام والجزيرة، ومثل خراسان وعراق العجم وفارس «1» ، ومثل أفريقيا والغرب الأوسط والأندلس كانت سمته سلطان السلاطين كالسلجوقية «2» - وقال وإذا قايسنا بين سلاطين المشرق وسلاطين المغرب كان الفضل للمشرق. قلت: وهذا القول وإن أنصف فيه ابن سعيد، فإنه ما وفى الشرق حقه، ولا أوصل اليه مستحقه، لأنه لا نسبة لأوضاع السلطنة في المغرب بالنسبة إلى السلطنة في (ص 13) المشرق فأين وأين وبعد بين الأرض والسماء، والدر والحصباء، وان كنا لا نغمط الغرب حقه، ولا نجحد له فضله، وها قد نقلت عن الثقات من أهل كل قطر ما هو عليه، والمنصف لا يلجّ في الباطل ولا يجنح إلى النزاع. [المقايسة بين سلاطين المشرق والمغرب والخلافة] وأما الخلافة فأي خلافة طاولت بني العباس، وقد عمت غالب الأرض دعوتهم، والسلطنة الشرقية عجمية الأوضاع، والسلطنة الغربية عربية الاتضاع، وفي التواريخ والسير النبأ الصادق، وهل أحد من سلاطين الغرب يماثل السلطان محمود بن سبكتكين «3» في عظمة سلطانه واتساع بلاده، ومهابة أوضاعه؟

مسعود بن محمود بن سبكتكين

ومن شك فليسأل أبا نصر العتبي «1» في تاريخه اليميني الموضوع باسم هذا السلطان، مما تقشعر الأرض وترجف به الآفاق، [مسعود بن محمود بن سبكتكين] ولقد حكى الصابي «2» عن بعض الرسل قال: دعينا إلى باب مسعود يعنى ابن محمود سبكتكين «3» بغزنة، فشاهدنا بالباب أصناف العساكر، وملوك جرجان وطبرستان وخراسان والهند والسند والترك، وقد أقيمت الفيلة عليها الأسرة، والعمّارات «4» الملبسة

السلطان ملكشاه بن ألب أرسلان

بالذهب مرصعة بأنواع الجواهر، وإذا بأربعة آلاف غلام مرد وقوف على سماطين «1» ، وفي أوساطهم مناطق الذهب، وفي أيديهم أعمدة الذهب، ومسعود جالس على سرير من الذهب، لم يوضع على الأرض مثله، وعليه الفرش الفاخرة، وعلى رأسه تاج مرصع بالجواهر واليواقيت وقد أحاط به الغلمان الخواص، بأكمل زينة، ثم قام مسعود إلى سماط من فضة عليه خمسون خوانا من الذهب، على كل خوان خمسة أطباق من ذهب، فيها أنواع من الأشربة، فسقاهم الغلمان، ثم قام مسعود إلى مجلس عظيم الأقطار، فيه ألف دست من الذهب، وأطباق (ص 14) كبار خسروانيّة «2» ، فيها الكيزان «3» ، وعلى كل طبق زرافة ذهب وأطباق ذهب، فيها المسك والعنبر والكافور، وأشجار الذهب مرصعة بالجواهر واليواقيت، وشموع من ذهب في رأس كل شمعة قطعة من الياقوت الأحمر تلمع لمعان النار، وأشجار العود «4» قائمة بين ذلك، وفي آخر المجلس رحى من ذهب تطحن المسك والكافور والعنبر، وفي جوانب المجلس بحيرة في جوانبها من الجواهر والعنبر والفصوص واللؤلؤ شيء يقصر الوصف عنها، وذكر أشياء أخر تحير الأسماء والأسماع. ثم قال: فما بقين ولا بقوا. [السلطان ملكشاه بن ألب أرسلان] أو هل أحد مثل السلطان ملكشاه بن ألب أرسلان «5» ، وما ضمّ سلطانه من

الأقطار وحواه، مما تشتمل عليه برده الليل والنهار، فلقد ملك من الصين إلى آخر الشام، وهو مسيرة نصف يوم كالشمس أو أزيد، وخطب له على منابر هذه الممالك، من خان بالق «1» الى غزة، وفتح له الحجاز واليمن، ولا يعلم بموته، لبعد الديار، وتنائي البلاد. وحدثني شيخنا العلامة فريد الدهر نخبة الآفاق، أبو الثناء محمود بن أبي القاسم الأصبهاني، أطال الله مدته «2» ، وقد ذكر حسن تدبير الوزير، وزير هذا السلطان، أن السلطان ملكشاه كان في بعض صيوده بخان بالق في الصين، وأنعم على بازيارييه، وهم البزادرة بمال، فأحالهم نظام الملك الوزير على انطاكية «3» من الشام، فشكوا إلى السلطان، فلام نظام الملك على البعد العظيم عنهم، فقال له: يا سلطان العالم أنا قصدت هذا حتى يقال إنك بالصين

السلطان علاء الدين خوارزم شاه

ومراسمك نافذة بالشام، وهذه بارقة تدل على ما بعدها، وعنوان ينطق بما في المضمون. [السلطان علاء الدين خوارزم شاه] أو هل يوجد مثل السلطان علاء الدين خوارزم شاه «1» أو (ص 15) ولده السلطان جلال الدين محمد «2» ، وكانت جريدة «3» كل واحد منهما ستمائة ألف فارس يجري عليهم ديوانه، ويفترض لهم إحسانه، سوى من ينضم اليهم وينتظم من أجناس الأمم فيهم، وما بالعهد من قدم، ولا بآثارها خفاء، ولقد كان على الاسلام السور المنيع، والحجاب المسبل، وقد حكى لي الملك الكامل محمد بن السيد عبد الملك «4» أن السلطان الملك العادل أبا بكر بن أيوب رحمه

الملك العادل، وجلال الدين محمد

الله «1» كان يقوم بالليل فيتوضأ ويصلي، ويدعو الله ويقول في دعائه: اللهم انصر عبدك محمدا وأيده، وظفّره بأعدائه، ومكّن سيوفه من أعناقهم ومقاتلهم، وما هذا معناه، [الملك العادل، وجلال الدين محمد] فلما تكرر هذا منه قالت له أم ولده الصالح إسماعيل: مسكين إسماعيل عن ابنها. فقال لها: كيف؟ حتى قالت «2» : لأنك ما تدعو إلا لولدك الكبير- تعتقد أنه يدعو للملك الكامل أبي المعالي محمد- فقال: ما أقل عقلك أبالله في ظنك أني أدعو لابني محمد؟ فقالت: نعم. وإلا فلمن؟ فقال لا والله لا والله أنا ما أدعو إلا للسلطان جلال الدين محمد خوارزم شاه فإنه السدّ بيننا وبين التتار، وهو الستر الجميل على الإسلام، فو الله ما بيننا وبين رواح البلاد من أيدينا إلا أن ينكسر، وإلا فما دام قائما نحن بخير، نحن بخير

فتنة البساسيري

يكررها، فلهذا أدعو له آناء الليل والنهار. قلت: ولقد صدق الملك العادل رحمه الله في قوله، فهكذا كان وما زال حمى الخلافة مصونا والبلاد محمية الأطراف متماسكة القوى حتى مات السلطان علاء الدين تكش «1» ، ثم ابنه السلطان جلال الدين محمد «2» رحمهما الله، فمالت التتار على الآفاق، وطمى سيلهم على الأرض فانتهكت حرمة الإسلام، وأخذت دار السلام، وأنهرت أوداج الأرض بالدماء، وسبت الكرائم، وترامت الهاشميات إلى دجلة، وقتل الخليفة، وشوهت الخليقة، وماج الثقلان، وكان ما كان، فرحم الله الملوك الخوارزمية، لقد (ص 16) جاهدوا في الله حق جهاده، وقاوموا التتار مدة سنين، إلى أن علا السيل الزبى، وبلغ الحزام الطبيبين، ولو شاء ربك ما فعلوه. فهل في الغرب من بلغ سلطانه هذا المبلغ، وعظم في الملك شأنه إلى هذا الحد، وهل فاض الملك من الشرق على الغرب، أم من الغرب على الشرق؟ قل وأنصف أيها المسؤول، ولا تقل عن المستنصر الفاطمي لما خطب له ببغداد، [فتنة البساسيري] فتلك سنة مظلمة كان سببها أرسلان البساسيري «3» ، لعداوة ابن

رئيس الرؤساء «1» ، ثم عاد الحق إلى أهله، بيد بني سلجوق، وقام القائم في مقامه، وقال «2» المعاند في حر انتقامه. ولم تكن تلك العارضة إلا شبهة بقضية سليمان عليه السلام إذ ألقي الجسد على كرسيه «3» . وقد قال ابن سعيد: إن السلطان من بلغ جيشه عشرة آلاف، فأين هو ممن بلغ ستمائة ألف، ولكنه تكلم على أعظم ما عنده مما رآه في بلاده ولو تخطى خطا إلى المشرق لما قال هذا المقال، ولا ضرب عن ضرب مثل هذا المثال. ومن المشرق الأنوار تفيض وفي الغرب تغيض «4» ، فالشمس لا تصل إلى الغرب إلا وقد ضعف فعلها، وقل تأثيرها، فلا يقابلها أهل المغرب إلا منكبّة عن أفقها، مولية على أدبارها، فهي في الشرق فتية، وهي في الغرب هرمة، وشتان ما بين الحالين، وبون كبير بين الجانبين، فهذا لا يقاس أهل الغرب بأهل الشرق في حسن الصور، وبهجة المرائي، ويكفيك النظر إلى الوجوه والشمائل، وحسبنا حكاية حكاها ابن سعيد في

المغرب، قال: إن تاجرا من أغنياء العجم سمع بسلطنة بني عبد المؤمن «1» فانتخب بالمشرق طرفا تليق أن تهدى إلى الملوك، وكتب الله سلامته حتى وصل إلى مراكش، وبها حينئذ العادل ابن المنصور «2» وهو يخطب (ص 17) له بالخلافة، فقدم له تلك الهدايا، وفي جملتها مملوك تركي زعم أن قيمته عليه عشرون ألف درهم مغربية، فلم يقبله العادل ولا وجد من يبتاعه منه، وصار إذا مشى به تعجب الناس من زيّه، وذهلوا في صورته التي لم يعتادوها، فبلغ ذلك قاضي القضاة وكان صاحب ناموس «3» مغربي، فأمره أن يغير زيّه بالزي المغربي، فقال ابن حوط كاتب العادل فيه: [الخفيف] بأبي شادن «4» من الترك أبدى ... زيّه زهرة حوتها كمامه متروا ردفه فأبدوا جبالا ... حين سارت قامت علينا القيامه فلما لبس الزي المغربي قال أبو الربيع الداني: [البسيط] يا حاكم المسلمين الله بينهم ... وبين جائر حكم أنت مظهره غيّرت زيا لظبي الترك ذا بدع ... يسبي نواظر أهل اللطف منظره قد كان ميّز منه كلّ جارحة ... بشكله يقرأ التفسير مبصره حجّبه عن أعين العشاق إن قدرت ... قساوة منك دون الناس تهجره وفيه قيلت هذه الأبيات مرافدة: [مجزوء الخفيف]

فتنة الترك قد أتت ... من بلاد المشارق أيّ شخص بدا له ... دينه لم يفارق إنّ أحدا قنا به ... أبدا في حدائق لم نطق سلوة ... مذ بدا في المناطق فها أنتم أهل المغرب رأيتم واحدا من أهل المشرق بزيه فتنكم حسنه، حتى خاف قاضيكم، المشفق عليكم الفتنة بحسنه وبحسن زيّه، وقال (ص 18) فيه شعراؤكم ما قالوا، حتى عرض أحدهم بمفارقة الدين في هواه، وما ترك خليفتهم- والله أعلم- قبوله نحلا بالعوض عنه، ولكن خوف الفتنة به، لإبداع حسنه في رأي عيون أهل المغرب، إذ لا نظير له عندهم فيقع في ظنونهم. إن مثل هذا لا صبر لأحد عنه، ولعل هذا المملوك ما كان حدّ نفسه، ولا واحد جنسه، وهل هو إلا واحد من أهل بلاد لا ينظر إليه فيها بعين الاستحسان، ولا يفرق فيها بينه وبين غيره من الغلمان. هذا وقد قال قائلكم واحتفل أن قيمة ذاك المملوك على ما زعم تاجره عشرون ألف درهم مغربية، ولعمرك لقد كثّر غير كثير، وعظّم غير عظيم، و «1» هل الدراهم المغربية إلا الدراهم السود كل ثلاثة بدرهم نقرة «2» من نقد مصر؟؟ وكان الترك في ذلك الوقت أغلى قيمة من وقتنا هذا بأضعاف مضاعفة، ولعله لو كان بمصر اليوم لما سوي أكثر من ألفي درهم. وكم في إصطبلات آحاد الأمراء مملوك بألفين وفوق الألفين، بل فيها من ثمنه عشرة آلاف درهم وما يزيد وينقص. فكيف لو رأيتم اليوم المماليك بمصر، وفيهم مع كثرة الجلب ورخص القيمة من بلغ ثمنه ثمانين ألف درهم، ثمنها من دراهمكم مائتا ألف وأربعون ألفا «3» لكنتم ترون ما تحار فيه عقولكم، ويعشي لمعانه أبصاركم، وأحسن ما فعله قاضيكم في تغيير زي هذا المملوك المشرقي بالزي

الحيوان والنبات والمعادن

المغربي، لو كان غير زيكم المغربي بالزي المشرقي فبدل القبيح بالحسن لا يعترض قائل، فيقول حسن في كل عين ما تود، وكل أحد يقول إن زيه هو الحسن، فجوابه أنه لو لم يكن في زي ذلك المملوك معنى يزيد في الحسن لما أمر قاضيكم بتغييره خوف الفتنة عليكم، كما فعل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله (ص 19) عنه في حلق رأس نصر بن حجاج لما سمع الهاتفة باسمه وهي تقول: هل من سبيل إلى خمر فأشربها ... أم هل سبيل إلى نصر بن حجاج «1» ولقد أجاد قاضيكم لكم الاختيار، إذ لم يأمركم بتغيير زيكم بمثل زي الرشاء الأغن الأغيد، فإنكم لو لبستم ذلك الزي لما يناسب معاطفكم الرشاق، وخصوركم الدقاق، ولكنه رحمه الله أحسن لكم النظر ولم يخط لكم في الاختيار. [الحيوان والنبات والمعادن] ثم نرجع إلى ما كنا فيه فنقول: وبالشرق ما لا يماثله ما في الغرب من الحيوان والنبات والمعادن، فأمّا الحيوان فأشرفه الإنسان، وقد بينا فضل أهل المشرق منهم على أهل المغرب، بمواهب الله من النبوة والولاية والخلافة والعلوم على أنواعها، والصور الجميلة على إطلاقها. فأما ما عدا الإنسان فللشرق أيضا في أكثره بل كله التفضيل. من الخيل العراب «2» بالحجاز ونجد والبحرين، وبلاد الفرات والشام وأطراف الجزيرة، وبراذين «3» الروم وكيلان، وبغال الروم وأرمينية والعواصم

والشام، والجمال البغراوات البساريك «1» والبخت «2» ذوات السنامين، وذوات السنم، والعباديات «3» وجمال بغداد وحلب، ومهاري «4» بلاد مهرة وعمان والبحرين وأطراف العراق والشام، والأغنام التركية، ذوات اللوايا المستديرة، بخلاف أغنام المغرب اللواتي كأنها المعز لا لوايا لها «5» ، وغير ذلك من الحيوانات التي لا يفتخر شيء من الملابس على جلودها، كالسمور «6» والقندس «7» والقاقم «8» والوشق «9» والسنجاب والبرطاسي «10» ، والجلد الواحد من هذا الحيوان يقسم

الجواهر والأحجار

على أنواع، كلها حسن جميل وغزال (ص 20) المسك «1» ودابة العنبر «2» ، وقط الرناد «3» وحيوان اللؤلؤ «4» ودود الحرير «5» ، وحسن الخرنوت «6» ، والسرطان البحري «7» ، المجلوب من الصين. وأما المعادن فكثيرة في الأرض، والذهب موجود في أماكن كثيرة بالجنوب، فبالشرق بالهند وبالدامغان «8» ، وبالغرب في غانة وبلاد السودان. وكذلك معادن الفضة في مواضع وحظ الشمال وافر منه، على أن المحيط يقذف منه ذهبا في بعض الأقطار الشمالية، على ما قدمنا ذكره. [الجواهر والأحجار] فأما الجوهر فللشرق معظمه وأثمنه وأعظمه وأحسنه، من البهرمان «9» واليواقيت

على اختلاف أنواعها، والماس واللعل المسمى بالبلخش، والفيروزج وما يندرج في ذلك من الأحجار. ومن ممتهنات الأحجار: اليشم «13» واليصم، ولو أنصفا لألحقا بالجواهر. والفولاذ والرصاص القلعيّ. ومن منابت الشرق العود «1» الهندي، والبلخوج «2» والصندل «3» والكافور «4» والرواند «14» التركي، والجوزبوا والسياسة والكباب «5» واللبان «6» الذي يزيد على الجاوي، والسنبل «7» والقرنفل «8» والفوفل والفلفل، وأنواع الطيب، والأفاويه والعقاقير النافعة، والمفردات التي لا تكاد تحمد، فهل في الغرب ما يضاهي هذه المحاسن؟؟ على أنني سأورد في ذكر كل جانب ما فيه، فإذا تأمله الناظر بعينه، وتدبره بفهمه، علم أنني لم أعدل عن الإنصاف، ولا قلت

بالجزاف، وأي حاجة بنا إلى هذا نعوذ بالله من الجور في الحكم، والميل مع كفة الظلم، وقد قلنا ما بجنوب المغرب من معادن الذهب، وفي بر العدوة معادن الفضة، ولكنه لا يعود لها عائد نفع لكثرة ما يخرج على [قلة] «1» ما يتحصل منها مثل معدن الذهب بالدامغان، وما بين مصر وما يليها (ص 21) من بلاد السودان معدن الزمرد والزبرجد «2» ، وبالهند معدن زمرد وزبرجد وهو الزمرد الذي يسمى المكي، والذي بجهة مصر أفضل، إن صح أن مصر من بلاد المغرب، فهذا مما لا يجحد من فضائلها، لعظيم نفع الزمرد خصوصا الذبابي منه. وما نصت عليه الأطباء، ولكنه وإن عظم نفعا، وغلا قيمة، فإنه لا يبلغ أكثر من قيمة البلخش، أو بعض أنواع اليواقيت، والذبابي ولو غلا ما غلا، وعلا ما علا لا يبلغ قيمة البهرمان، ولا يدانيه في علو الأثمان، فإن قال: بعض المغاربة: فلم لا ذكرت مع هذه المسميات ما عندنا من البلور والمرجان؟ قلنا له: صحيح، ولكن انظر إلى تفاوت الأثمان، فإن تشبّع بما ليس له، وقال: فأين أنت من الزمرد الذّبابي؟ قلنا له: فأين أنت من الياقوت البهرمان؟؟ وهل يضرب إلا به المثل، وتنشق إلا عليه مرارة الزمرد، ويحمرّ خدّ البلحش من الخجل. ومع ثبوت هذه المحاسن للشرق فما نسلب من المغرب حلله، ولا ننقصه حقه، ولا ندعي ما ليس له. بالغرب، في وقتنا ملك صبّ على عبّاد الصليب، يدرأ في نحور الأعداء، ويجاهد في سبيل الله من جاوره منهم برا وبحرا، والغرب هو أحد جناحي الأرض، وبه من كرائم الخيل والمعادن، ويقذف بحره

العقاقير

العنبر «1» ، ويجيء منه الشكر لاط «2» المنوّع، الذي لا يوجد في غير جزائر القطر العربي، والمصطكا والزعفران «3» المنقول إلى الآفاق، وبه الدّمنج الأفرنتي وأين هو ومتى يوجد؟ [العقاقير] وبه أنواع من العقاقير النافعة، والكتان المعدوم المثل إن صح أن مصر في القسم الغربي، على أن الهند والصين ومواضع من فارس بها الزعفران وبأودية سرنديب «4» البلور، وقد وردت من (ص 22) الآيات والأخبار النبوية في فضل المغرب وجنده، ما جاء مثله أو أزيد في مواضع بالشرق كمكة والمدينة والقدس والشام واليمن، وسنورد في كل موضوع ما يليق به، ونذكر في خصائص كل أرض ما بها، [بعض ما في المغرب مما سبق] ولا ننكر أن بالغرب سادة أجلاء، وأئمة فضلاء، من ذوي العلم والحكمة، وأجادوا في النحو والأدب، ومنهم الصلحاء الأفراد، وفيهم بقايا المسكة في الدين، والتشدد في الحق «5» . ولقد كان للأندلس بأهله حلية كأنما شعشعها الأصيل بذهبه، أو حلّاها الأفق بدرره، أو حيّاها النهار بشمسه، وحيّاها الليل بقمره، زمان بني أمية بقرطبة «6» ، وملوك الطوائف بعدهم «7» ،

وأكثر ما أعنى بني عبّاد «1» بإشبيلية، فلقد كان الأدب بهم غضا جديدا، والإحسان طارقا تليدا، فشتت الدهر جمعهم، وطمس آثارهم، وبدلهم بعبّاد الصليب، والكنائس بالمساجد، والمذابح بالمحاريب «2» ، والله يؤيد من يقوم لاسترجاع هذه الضالة، وانتزاع هذه الأخيذة «3» ، إنه على ما يشاء قدير. وأما بر العدوة الآن فهو على ما تقدم تفصيل حاله في موضعه، من اتساع الرقعة، وعظم السلطان، وكثرة العساكر والجيوش من شجعان الرجال، المعدود كل واحد منهم بزجال «4» ممن لا يقص بهم للغرب جناح، ولا يقصر طماح «5» ، وإن لم يكن كالشرق في اليسار، ولا هو من الطائر قادمته اليمين، فهو قادمته اليسار، وفيما ذكرناه كفاية.

الفصل الثانى فى الإنصاف بين المشرق والمغرب على حكم التحقيق

الفصل الثانى فى الإنصاف بين المشرق والمغرب على حكم التحقيق

خطا الأطوال والعروض ... الشرق والغرب أمر نسبي

الفصل الثاني في الإنصاف بين المشرق والمغرب على حكم التحقيق [خطا الأطوال والعروض ... الشرق والغرب أمر نسبي] والذي نقوله على سبيل التحقيق أنّ الذي صوّر في لوح الرسم على ما رسمه صاحب (ص 23) جغرافيا قسمة المعمور على قسمين، شرقي يلاقي فيه خطان وهميان في الطول والعرض على زوايا قائمة، وهما خطا الأطوال والعروض سمّوا ملتقى الخطين حيث انفرق المعمور على قسمين بقبة أرين، وهو وسط خط الاستواء الخارجة عنه الأقاليم إلى الشمال، والمقدّران بإقليمين إلى جهة الجنوب، وقد تقدمت الإشارة إلى هذا في مواضع في هذا الكتاب «1» ، فلما قسم المعمورة بقسمين وقع في الغربي منها أشرف البقاع: مكة والمدينة والقدس، والطور ومصر وطور سينا، والمواضع المذكورة بصريح الاسم في القرآن والمدائن المذكورة في الحديث المشهور على قائله أفضل الصلاة والسلام. وأجلّ الأقاليم الغربية كفارس والعراق والشام وجزيرة العرب، ولم يبق للشرق بقية يباهي بها المغرب، على أنّ الأمر ليس كذلك، والله أعلم. فإنّ كلا من الشرق والغرب من حيث هو أمر نسبي، ألا ترى أنّ أهل إفريقية يعدون برّ العدوة غربا، وبرقة شرقا، وأهل برقة يعدّون إفريقية غربا ومصر شرقا، وأهل مصر يعدّون برقة غربا، وأهل الشام شرقا، وأهل الشام يعدّون مصر غربا، والعراق شرقا، وهلمّ جرّا إلى نهاية المشرق، فتبيّن حينئذ أنّ قول الشرق والغرب أمر نسبي، وإذا تبيّن هذا، وقد تقرر أنّ العالم كروي «2» ، وأنّه لا يمتنع أن يكون ما انكشف عنه الماء من الناحية الأخرى مسكونا صار مشرق هذا العالم مغربا لتلك الجهة ومغربه مشرقا،

المشرق أطول من المغرب

فكيف يجوز الإطلاق، ولم يبق إلا المصطلح العرفي (ص 24) ، والمغاربة على هذا المصطلح أعني سكان الجانب الغربي عن مصر غاية ما سمت همتهم إليه، وتعلقت أيديهم بنسبته إلى قطرهم هو إقليم مصر. ألا ترى ما قدّمناه في الفصل الذي قبل هذا من قول ابن سعيد أنّ مصر أوّل المغرب والشام أوّل المشرق «1» وكذلك مما قال في هذا المعنى غير ذلك، وابن سعيد هو واحد فضلائهم في هذا الشأن، ولقد تعصب لأبعد غاية التعصب ووضع في ذلك كتابه المسمى ب (المغرب في حلى المغرب) ، ومع هذا فما زاد على ما ذكرنا على أنه لم يأل جهدا، ولا ترك قدرة في المقال، ولو وجد حجة لأتى بها، أو شبهة لاستند إليها، وقال ابن سعيد في كتاب (المشرق في حلى المشرق) «2» جملة الحد في نسبهم أن الله قسم المشرق من المغرب بالبحار فما كان في شرقي بحر الإسكندرية وخليج القسطنطينية فهو من حساب المشرق «3» وما كان في غربي ذلك فهو من حساب المغرب. [المشرق أطول من المغرب] قال البيهقي: فيكون المشرق على هذا أطول من المغرب، لأن جملة المعمور اثنا عشر ألف ميل «4» ، وطول بحر الإسكندرية إلى وقوفه بسواحل الشام حسب أول المشرق أربعة آلاف ميل «5» ، فيبقى للمشرق ثمانية آلاف ميل، ويعضد ذلك الحساب بالدرج في الطول، وذلك أن العمارة تنتهي

في الطول إلى مائة وثمانين درجة، فتحتاج أن يكون النصف حيث ينتهي إلى تسعين درجة، وذلك في خراسان حيث مرو وجهاتها، «1» ووجدنا بساحل البحر الشامي عسقلان «2» ينتهي في الطول إلى خمس وستين درجة، فهو قدر الثلث، والمشرق الثلثان، والمشرق مع ذلك أعمر من المغرب، وذلك أن الله تعالى قرن عمارة الأرض بقربها (ص 25) من البحار، وأن البحر إذا بعد من الأرض أكثر من خمسة عشر يوما بطلت عمارتها، والمشرق قد جعل الله في مواضع الحرارة منه حيث قلة السكنى في الإقليمين الأول والثاني، بحار الهند والصين والزنج التي خصت بكثرة الجزر العامرة، وما يقابل هذا المكان من المغرب صحار مقفرة، إلا خيط النيل المغربي بما على ضفتيه من بلاد السودان، والإقليم الرابع الذي هو معظم العمارة، والاعتدال استولى على أكثره بحر الرقاق» وهو في المشرق بضد ذلك من اشتباك العمارة المتصلة. والمناظرة بين المشرق والمغرب تحتمل كتابا. وقد صنفته بالشام لضرورة دعت إلى ذلك، من شدة اتحاد المشارقة على المغاربة من كل جهة حتى قال ابن دحية «4» في خطبة كتابه في أخبار المغرب يخاطبهم: [الطويل]

للمشرق الفخر

وإن كنتم في العدّ أكثر مفخرا ... فلا تظلمونا في القليل الذي لنا وسميت الكتاب الذي وضعته في ذلك (الشهب الثاقبة في الإنصاف بين المشارقة والمغاربة «1» ) والذي يسع هذا المكان أن يذكر ما استدل به المشارقة واستظهروا. [للمشرق الفخر] قال البيهقي: للمشرق الفخر بتقديمه في القرآن والحديث، وفي الحديث النبوي: (خير الأرض مشارقها) «2» قال وهي مطلع الأنوار، وإليها كانت قبلة الأوائل، وأنى للمغرب بمفاخرة المشرق، وعندنا ظهرت مباعث النبوة، وفينا نبتت شجرة الأبوة. ومنا نشأت الدول والملل، ومن أفقنا طلع العلم والعمل، وكل شيء يفخر به فإن المشرق فيه للمغرب رأس، وكلما أحكم عندكم بنيانه وإتقانه، فمنا كان فيه الأساس. وفاخر مشرقي مغربيا فطال بينهما (ص 26) الكلام إلى أن قال المشرقي: لو لم يكن لنا عليكم من الفضل إلا أن الشمس التي بها إنارة العالم وحياتهم تطلع من عندنا، فقال المغربي: ونحن أيضا تطلع من عندنا في وقت. فقال المشرقي: الله لا يرينا ذلك الوقت، قال وأنشدني العماد السلماسي «3» لنفسه: [المتقارب]

قول ابن سعيد.. المحاسن مقسمة.. الأغلب على البلاد المشرقية

إذا ذكر الشرق في محفل ... فلا يذكرن به المغرب طلوع الغزالة في أفقنا ... وفي أفقكم أبدا تغرب وتشرق أنوارها عندنا ... وعندكم نورها يسلب [قول ابن سعيد.. المحاسن مقسمة.. الأغلب على البلاد المشرقية] ثم قال ابن سعيد ما صورته: فصل جامع مختصر يليق بهذا المكان. أمعنت النظر فيما دخلته من بلاد المغرب والمشرق، من البحر المحيط إلى خراسان، فرأيت المحاسن مقسمة لم يقصرها الله على مكان، ولا إنسان، لكن الأغلب على البلاد المشرقية التظاهر بالمروءات، والتكاثر بالمزارات «1» ، والمشاهد والمدارس، والربط «2» والأوقاف الدارّة «3» ، التي ينتعش بها الفقراء، ويستعين بها العلماء والمتعلمون، ويحدها «4» الملوك في بعض الأوقات الضرورية، لكن أسباب الرياسة والرفاهية، جبّارية الإمكان، عالية الإيمان، ومرافق المغرب في المركوب والملبوس والمأكول والمشروب أرخص، وأقرب مرارا، ويمكن المرء أن يتجزى «5» في المغرب بما لا يمكنه أن يتجزى بأضعافه في المشرق لكثرة تجبرهم في العظمة الكسروية، والنعم التي لا تطمح إليها نفوس المغاربة، ولا يألفها في المغرب، والمشارقة لهم التظاهر بأمور

الرفاهية في مراكبهم ومجالسهم، فإذا دخلت منازلهم تعجبت من تفاوت بواطنهم عن ظهوارهم، بضد المغاربة، والأغلب على المشارقة التغاضي وترك الحقد، (ص 27) وقلة المؤاخذة على الأقوال والأفعال، ولكن تحت ذلك من المسامحة في القول والإخلاف للوعد، وقلة المبالاة والارتباط ونبذ الحقوق، ومراعاة الآداب الإنسانية، ما يقطع النفس حسرات، ولهم من القيام والبشاشة في السلام ما يطول ذكره، إلا أهل بغداد. وقال: في (المغرب) يا لله لأهل المشرق قولة غاصّ بها شرق هلا نظروا إلى الإحسان بعين الاستحسان، ولم يخرجهم الإزراء بالمكان عن حد الإمكان، لئن أرهقت بصائرهم البصرة «1» ، وأرقتها الرقتان «2» ، ومرجنا نحن بحيث مرج البحرين يلتقيان «3» ، فإنّ منهما يخرج اللؤلؤ والمرجان «4» ، وننشد ما قاله بعض شعرائنا في هذا الشأن: [الطويل]

رد ابن فضل الله العمري على ابن سعيد

[رد ابن فضل الله العمري على ابن سعيد] نراح لفضل أن يكون لديكم ... فما بالكم تأبون إن كان عندنا وإن كنتم في العدّ أكثر مفخرا ... فلا تظلمونا في القليل الذي لنا قلت: والذي قاله ابن سعيد منقوض عليه في أكثره. أما قوله إن المحاسن مقسمة لم يقصرها الله على مكان ولا إنسان، لكن الأغلب على البلاد المشرقية التكاثر بالمزارات والمشاهد إلى غير ذلك مما ذكره فصحيح، وإنما الكثير الغالب قسم الشرق في المحاسن، ومن نظر بعين التحقيق إلى الحيوان والنبات والمعادن، وعدّ ورجّح الأكثر علم أن حظّ الشرق أوفر. وأما قول ابن سعيد إنّ أسباب الرئاسة والرفاهية في المشرق جبّارية غالية، ومرافق المغرب أرخص وأقرب مراما. فحسبنا منه هذا القول، فإنّ المعالي غير رخيصة، ولا يخفى على ذي عقل سليم وفكر صحيح أن المدح الصريح للشرق فيما ذكره ابن سعيد، وقد كفانا الرجل (ص 28) بقوله همّ البحث معه ومنا قضته فإنه فرق بيّن بين من يلبس الحرير والسمور والعتك، ويركب جياد الخيل، ويقتني الغلمان الأتراك، ويأكل لحم الضأن والدجاج والإوز والحلوى، ويتخذ الطهاة لأنواع المآكل، ويدخن بالعنبر واليلنجوح، ويتطيب بالمسك، ويدّهن بالغالية. ويفخر بعضهم على بعض بكثرة الإنفاق، ولا يقنع في شيء بالقليل- وبين من يقضي أوقاته بضد ذلك: جلّ ملابسه الصوف والقطن، وأطيب مأكله العجين والزيت والسمن وأكثر ما يفخر الرجل منهم إذا كانت له فرس واحدة، أو اقتنى عبدا زنجيا، أو علجا فرنجيا، فإن دخّن كان باللادن، وإن تطيب كان بالغسول، أو ادّهن كان بالزيت، لا يتنافسون في فخار، ولا يحصلون من دنياهم على طائل. وأما قوله والمشارقة لهم التظاهر بأمور الرفاهية في مراكبهم ومجالسهم فإذا

دخلت منازلهم تعجبت من تفاوت بواطنهم عن ظواهرهم، بضد المغاربة- فهذا الكلام باطل منقوض، فإن المشارقة لهم في بيوتهم من الفرش الغالية، والخدم والقيان المطربات، وغير ذلك من أنواع الرفاهية ما لا هو لأهل المغرب، بل ولا تسمح نفوس ملوكهم في هذا بما تسمح به نفوس آحاد من أنعم الله عليه من المشارقة، من السوقة وعوام الناس. وهل خرج توظيف الوظائف، وترتيب طبقات الخدم إلّا من المشرق، كالطسخاناه «1» ، والفراش خانه «2» ، والشراب خاناه «3» ، وسوى ذلك، فهل للمغاربة هذا التوظيف في باطن أمر أو ظاهره، ويا ليت شعري هل صنّف كتاب الأغاني «4» في بواطن أحوال المشارقة أو المغاربة؟؟؟ وكله بل غالبه وصف أحوال المشارقة في مجالس أنسهم، وأوقات خلواتهم بالمطربين والمطربات، والجواري الحسان المثمنات، وتفريق الجوائز والصلات. فهل للمغاربة شيء من ذلك؟؟ وإن كان لبعض ملوكهم تلذذ فلعله لا يبلغ ما لبعض سوقة المشارقة «5» .

ما فعله يوسف بن تاشفين مع بني عباد ملوك الأندلس

وأما قوله: (والأغلب على المشارقة التغاضي وترك الحقد وقلة المؤاخذة على الأقوال والأفعال، ولكن تحت ذلك من (ص 29) المسامحة في القول والإخلاف بالوعد، وقلة المبالاة والارتباط، ونبذ الحقوق ومراعاة الأخلاق الإنسانية ما يقطع النفس حسرات) «1» . فأول هذا القول صحيح لا شك فيه إن عندهم التغاضي وترك الحقد، وقلة المؤاخذة. وهذا دليل رزانة حلومهم، وكرم شيمهم، ومؤاخذة الآباء للأبناء بحسن التخلق بأخلاق الكرماء، والتأدب بآداب الآباء والعظماء حتى صار هذا طبعا لهم، يتوارثه منهم خلف عن سلف. [ما فعله يوسف بن تاشفين مع بني عباد ملوك الأندلس] وأما آخر هذا الكلام فهو غير مسلّم والدليل عليه سير الخلفاء والملوك في الأفقين، وما يعجبني من حسن وفاء المغاربة إلا ما فعله يوسف بن تاشفين «2» ملك المغرب وبرّ العدوة مع بني عباد ملوك الأندلس فإنهم أدخلوه إلى بلادهم، وبذلوا له الطاعة، وقدموا إليه نفائس الأموال، وأخدموه البنين والبنات. فكافأهم

بانتزاع الملك، وأخذ ابن عباد «1» وأهله الأخذة الرابية، وقيده بالحديد، وغله وسلسله، وحمله هو وأهله في الفلك إلى أن سجنه بأغمات «2» ، ورمى أهله بالتفرق والشتات، ولم يجر عليه وهو في حبسه ولا رغيفا واحدا من الخبز، حتى كنّ «3» بناته يغزلن للناس بالأجرة، ويطعمن أباهم، ودخل إليه بعض بناته في يوم مطير ذالق ووحل، وهي حافية القدم، لعدم قدرتها على مشترى حذاء، فبكى على حاله، وقال في ذلك الأشعار المشهورة «4» ، والأقوال المذكورة، وأدى

حال بعض بنيه بعد الملك الضخم إلى أن صار أجير صائغ يعمل بالأجرة. ولابن اللبانة «1» شاعره في وصف حاله وحال أولاده ما يبكي السامع، ويحزن الفرح المسرور «2» (ص 30) فهذا من وفاء المغاربة، وعليه فقس بقية الأمور، وأما قوله ولهم من القيام والبشاشة في السلام ما يطول ذكره، فصحيح وهو مما تقدم القول فيه من مكارم الأخلاق، وحسن التخلق مع الناس، وللناس الظاهر والله يتولى «3» السرائر. ولله (در) «4» القائل: [البسيط] لقد أطاعك من يرضيك ظاهره ... وقد أجلك من يعصيك مستترا وإن سلم إلى ابن سعيد أنّ للمشارقة حسن الظاهر دون الباطن، فلقائل أن يقول: صدقت للمشارقة حسن الظاهر دون الباطن، والمغاربة لا لهم ظاهر ولا باطن «5» . وأما قوله: (نحن بحيث مرج البحرين يلتقيان، ومنهما يخرج اللؤلؤ والمرجان) فصحيح أن منهما يخرج اللؤلؤ والمرجان، وإنما اللؤلؤ من البحر

الموازنة بين المشرق والمغرب

الهندي، وما خرج منه، وأما البحر المغربي فليس فيه إلا المرجان، ليس إلا، فتأمل فرق ما بين الاثنين في اللون والكون والقيمة. وإنما تكثر ابن سعيد بما ليس له، ولو اقتصر على المرجان لسلمنا إليه، فإنه في بحر المغاربة، وإلا من أين هم واللؤلؤ وهو من بحر المشارقة!؟ والذي يظهر في معنى قوله تعالى:" مرج البحرين" «1» أنه عن الهندي والشامي، وحيث يلتقيان في المحيط لمخرجهما منه. وأما قول ابن سعيد: (فإن كنتم في العد أكثر مفخرا) البيت فهذا إقرار صريح منه، وممن قاله للمشارقة. [الموازنة بين المشرق والمغرب] ثم قال: (وللمشرق على المغرب الفخر في كتاب الله تعالى في قوله عزّ وجل رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ «13» وإن كانت الواو لا ترتبه فلا يخفى ما في التقديم، لا سيما إذا تكرر في أماكن من الاعتناء وقد تقدم مثل هذا. ثم قال: (وأما الحديث فللمغرب فيه الفخر على المشرق، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:" لا يزال (ص 31) أهل الغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة" «2» رواه ابن بشكوال مما أخرجه مسلم في صحيحه، وقد ذكر البخاري في تاريخه الكبير عن عمرو بن الحمق الخزاعي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه

قال:" ستكون فتنة خير الناس فيها الجند المغربي" «1» وعن أنس بن مالك قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" لا تزال عصبة من أمتي بالغرب يقاتلون على الحق لا يضرهم من خالفهم، حتى يروا قوما قياما، فيقولون غشيتم، فيبعثون سرعان خيلهم، فينظرون ويرجعون إليهم، فيقولون: الجبال سيّرت، فيخرون سجدا فتقبض أرواحهم" «2» . قال رسول الله صلى الله عليه

وسلم:" خير الأرض مغاربها" «1» ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ من فتنة المشرق. وقال ابن سعيد: (حسب المغرب وأهله هذه الأحاديث، التي لا يوجد مثلها في ذكر المشرق. «2» وفي أماكن من المشرق وأماكن من المغرب ما هو مذكور في القرآن والحديث مثل مكة والمدينة وبابل من المشرق، ومصر من المغرب، ومكة والمدينة والشام من المشرق، وذلك كثير، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أربع مدائن من الجنّة: مكة والمدينة وبيت المقدس ودمشق، وأربع مدائن من النّار: رومية وقسطنطينية وأنطاكية وصنعاء" «3» وقد قال إدريس: يعني أنطاكية المحرقة. وقال أبو عبد الله السفطي: إن المراد صنعاء بأرض الروم، وليست التي باليمن. قال ابن سعيد: فخرج من هذا الحديث أن ليس بالمغرب مدينة من هذه المدن، التي هي من الجنة. كما أنّ لهم الفخر أيضا بأن أنهار الجنة على ما جاء (ص 32) في الحديث:" الفرات وسيحان، وجيحان والنيل" «4» ، وليس منها في المغرب إلا واحد وهو النيل.

قلت: فانظر إلى ابن سعيد مع فرط تعصّبه للمغرب وأهله ما قدرأن يدعي أنّ من المغرب أشرف البقاع، ومدن الجنة، فلما ذكر الأنهار الأربعة قال: وليس منها في المغرب إلّا واحد، وهو النيل، فما تجاوز مصر في الدعوى على كثرة ما نظر في لوح الرسم المصوّر، وطالع الكتب الموضوعة عليه، والمقالات المتفرعة فيه، ولكنه ما (تحلى بما ليس له كلابس ثوبي زور) «1» ، ولا ادعى دعوى يفضحه فيها الحق، وهذا منه غاية الإنصاف والإذعان للحق وأهله، ولو وجد في الحق سبيلا بحق إلى سوى هذا لقاله، فإذا لم يدع هذا للغرب مغربي لا يدعيه له مشرقي. ثم قال ابن سعيد- نقلا عن البيهقي-: إن حد المغرب من الجهة التي ذكرها بطليموس في أنّ الله تعالى قسم الأرض نصفين ببحر جدّة وخليج القسطنطينية، على أن يجعل الديار المصرية أول الغرب، وكل هذا يؤيد بعضه بعضا في إثبات الفخار للمشرق لاشتماله «2» على أشرف البقاع، ومدن الجنة وأجل الأقاليم العرفية كالشام والعراقين وأذربيجان وخراسان إلى نهاية المشرق. وكلام ابن سعيد كله لمن تأمله إثبات لفضل المشرق وأهله على الغرب وأهله، وهو الحق الذي لا يمترى فيه، وقد قال الرئيس أبو علي بن سينا «3» المدن المشرقية صحيحة «4» جيدة الهواء، تطلع على ساكنها الشمس في أول النهار،

وتصفي هواءهم ثم تنصرف عنهم وقد تصفى، وتهبّ عليهم رياح لطيفة، ترسلها عليهم الشمس آخر النهار، ثم يتبعها طلوع الشمس في أول النهار الثاني وحال (ص 33) خروج الشمس عنهم حال دخول الهواء إليهم فهي صحيحة لذلك، والمدن المغربية لا توافيها الشمس إلى حين تنكب، وكما توافيها تأخذ في القصد عنها، لا في القرب إليها، فلا تلطّف هواءها، ولا تخففه، بل تتركه رطبا غليظا، وإن أرسلت رياحا إليهم أرسلتها ردية «1» ، وأرسلتها ليلا، فتكون أحكامها أحكام البلاد الرطبة المزاج، الغليظة المعتدلة الحرارة، ولولا ما يعرض من كثافة الهواء لكانت تشبه طباع الربيع، لكنها تقصر عن صحة هواء البلاد المشرقية قصورا كثيرا، فلا يجب أن يلتفت إلى قول من قال إن قوة هذه البلاد قوة الربيع قولا مطلقا، بل إنها بالقياس إلى البلاد التي في الأغوار جيدة، ومن المعنى المذموم أن الشمس لا توافيهم إلا وهي مستولية على تسخين الإقليم لعلوها، فتطلع عليهم لذلك دفعة بعد برد الليل، والرطوبة أمزجة هوائهم تكون أصواتهم باحة، وخصوصا في الخريف، وتكثر في بلادهم النوازل. انتهى كلام ابن سينا. وقد ذكرنا في الفصل المتقدم ما ذكره ابن سعيد من أن المشرق أتمّ وأعمد، وأن الجزائر بالبحر الهندي أعظم وأكبر، وبيّنا السبب في اتساع الشرق بما اقتطعه البحر الشامي من أجل الأقاليم المعمورة، كالثالث والرابع والخامس، الواقع فيها معظم العمارة ووقوع البحر بالشرق في جنوبه حيث لا مبالاة به من الأول والثاني، فتعطل في المغرب المعمور، ولم يتعطل في الشرق إلا العاطل، بل زاد موقع البحر هناك بالشرق عمارة للشرق وحسب ما قدمنا القول فيه لأنه رطّب هواءه، وأيفع ماءه وزاده عمارة، وزانه نضارة، وأوجب به العمارة، وراء خط الاستواء، وعمّر الجزائر فيما هو داخل (ص 34) الإقليمين اللذين أخذ فيهما ما

الحيوان والنبات

لو قيس بالمعمور فيها بالمغرب لزاد عليه، فإن قيل كيف تكون جزائر في البحر أوسع من العمارة في البر المتصل؟ قلنا: الجواب أن العمارة في البر المتصل بالإقليم الأول والثاني ليست متصلة بعضها ببعض، بل يتخلل بين العمارة والعمارة من البراري والقفار أكثر مما يتخلل بين الجزيرة والجزيرة من المياه والبحار. [الحيوان والنبات] فأما الحيوان والنبات والمعادن فإنها بتلك الجزائر أعظم مما في عمارة البر المتصل المسامتة «1» بلا نزاع. وانظر أشرف الحيوان وهو الإنسان، كيف صور أهل الإقليم الأوّل والثاني بالغرب: من شدّة سواد الألوان، وقحل «2» الأجسام، وتفلفل «3» الشعر، وتشقق مواطئ الأقدام، وبشاعة المنظر، وخفة العقل، وكيف هم أهل الجزائر فيهما بالشرق من حسن السمرة، ونعومة الأجسام، واسترسال الشعر، والتيام «13» مواطئ الأقدام، وبهجة المنظر، ورزانة العقل، وهكذا الفرق بين بقية الحيوان بالجهتين. وأما النبات فلا نزاع أن منابت الجزائر الشرقية وما هو في معناها كلها فاضلة كالعود الهندي «4» ، والصندل والفلفل «5» ، والكبابة «6» والإهليلجات «7» ،

المغرب والمشرق واللغة وبعض الشعراء

والنارجيل «1» ، والفواكه المستطابة، وليس هذا هكذا في الجانب الغربي. وكذلك المعادن في الجهات الشرقية أفضل مما هي في الجهة الغربية، فإن قيل: معادن التبر «2» بغانة في الغرب قلنا وسفالة التبر بالشرق- وهي كما نقله أصحاب هذا الشأن- أكثر مما في غانة، بما لا يقاس ويزيد بأرض الزنج، فمنها ما يكون ترابه حيث أوقدت به النار فضة خالصة لوقتها، من غير ريث «3» ، وقد ذكرنا من هذا في أوائل هذا الكتاب عند ذكر تقسيم الأقاليم ما فيه كفاية (ص 35) ولجميع ما ذكرناه للشرق على الغرب الفضل بلا نزاع، وبه القول الفصل بلا دفاع، فكان موقع البحر بالشرق زيادة فيه، وموقع البحر بالغرب نقصا له. [المغرب والمشرق واللغة وبعض الشعراء] وأهل المغرب أحسن رقما لديباجة الألفاظ «4» ، وأهل المشرق أحكم لقواعد المعاني، لأن الغالب على أهل المغرب العربية، وما هو منها من النظم والنثر، والغالب على أهل الشرق المعقولات وما هو منها، وإن كان في المشارقة من لا يقصر في غاية، وفيمن مضى منهم أكثر أفرادا: كبشار «5» ، ومسلم بن

الوليد «1» ، وأبي نواس «2» ، وأبي عبادة «3» ، وعلي بن الرومي «4» ، وابن المعتز «5» والمتنبي «6» ، ومن هم من هذا النمط العالي، والسمط الغالي، سوى

العلوم العقلية

القدماء، ولكن لأهل الأندلس لطائف دقت عن تلك الأفهام ورقت عن مزاج ذلك الكلام، وإن كان من المشرق أصل ما عندهم من الأدب: [البسيط] ففي السّلافة معنى ليس في العنب «1» فلقد لطفوا مسالك الأدب، وأفادوا شرف الحضارة محاسن العرب، وقلبوا الأعيان وسحروا الألباب بالبيان، فجاؤوا بأعجب العجب، وزادوا بحسن السبك خالص الذهب، وإن كان الشرق قد أنتج من طبقة أهل الأندلس من لا تحجم به المفاخر، ولا تحجب به المفاخر، ولكن للأندلسيين لطائف أعلق بالقلوب، وأدخل على النفوس في كل أسلوب. [العلوم العقلية] وأما العلوم العقلية كالطبيعي والرياضي والإلهي «2» فلا نزاع في تقدم أهل المشرق فيها، وإن كان قد نشأ له بالغرب أناس، وبرقت له في الأندلس على عهد الحكم بن هشام «3» لامعة، فالشرق فيه (ص 36) لا يكابر ولا يكاثر، ولا يناضل

المتنزهات.. والقلاع والمدن والأنهار

ولا يناظر، وقد تقدّم في الفصل الخطابي الأول في هذا الباب ما إن قيل إنه خطابي فهو الحق الذي لا يجحد، والصحيح الذي لا يكذّب «1» . [المتنزهات.. والقلاع والمدن والأنهار] قال ابن سعيد: المتنزهات التي تقع المناظرة فيها بين المشرق والمغرب فإننا نبني الكلام فيها على ما ورد في الكتب، من أن المتنزهات المشهورة بالحسن والتقديم على سواها أربعة: وهي غوطة دمشق بالشام «2» ، والأبلّة بالعراق «3» ، وشعب بوّان بأرض فارس «4» ، وصغد سمرقند وراء النهر «5» . وقد ذكر أبو بكر

الخوارزمي «1» : أنه رأى جميعها، فكان فضل غوطة دمشق عليها كفضل سائرها على متنزهات العالم، وجميع هذه الأماكن الأربعة قد أطنب في ذكرها البيهقي وعظمها على غيرها «2» . وقد رأيت غوطة دمشق وتقدم أنها أفضلها، فنبني الحكم عليها، والتي تشبّه بها من أماكن المغرب غرناطة «3» ، فنتكلم في المدينتين ظاهرا وباطنا، كلاما موجزا يحتمله هذا الموضع، وكلاهما قد أبصرته وحررت المناظرة بينهما: أما مسوّر بمسوّر فإن غرناطة أحسن من جهة أنّ سورها غير كدر اللون،

كسور دمشق، تنبو عنه العين. ومن جهة أن المدينة موضوعة على جبل ممتد السهل الأعلى بحيث تمهدت فيه الشوارع، وترتبت الأسواق، وقسمة النهر المعروف بنهر الذهب «1» ، وعليه قناطر يعبر الناس عليها، وهواؤها من أجل ارتفاعها أطيب وأصح، ولها زيادة أنها في وسط الإقليم الرابع المعتدل، ودمشق في الثالث، ولها كونها مكشوفة من جهة الشمال لها جبل يفصل بينها وبين هبوب (ص 37) النسيم الرطب ولها في الخبون جبل الثلج يهب منه في الصيف نسيم يتنسم منه روح الحياة، وهو الذي روّق أمزجة أهلها، وأكسبهم الألوان البديعة، من امتزاج الحمرة بالبياض، التي تخجل ورد الرياض، وتزيد عليها بأن المياه لا تنقطع منها صيفا ولا شتاء، لأن الأنهار تشقها وتدير الأرجاء، في داخل المسوّر، ودمشق محجوبة من الشمال منخفضة، إذا انقطع عنها الماء المجلوب لها في القنوات بقيت جيفة، وتزيد عليها غرناطة بكثرة الأنهار، فإن أنهار دمشق سبعة «2» ، وأنهار غرناطة التي تنصب إليها من جبل الثلج أكثر من ذلك، وأن أنهار غرناطة تنصب من الجبل على رؤوسها في صخور، تحسن بتقطيعها عليها، وجريتها ما بين الجنادل والحصى. وأنهار دمشق تأتي بين دمن البساتين في أرض سهلة رخوة، فيقل ماؤها، ويحدث منه من الوخامة ما هو مشهور، وكان القاضي الفاضل يقول ماء دمشق يتخلّل منه أراد أن الأزبال التي تتخذ للبساتين تمتزج معه، لأن أنهار الغوطة تشق بكليتها بساتينها، وأنهار غرناطة تخرج منها مذانب تنقي في تصرفها، ويبقى جماهير الأنهار تتخلل مروج البسائط، وتزيد غرناطة على دمشق في الفرجة العظمى بأنها تاج مشرف على بسيط يمتد نحو يومين، لا ترى

فيه إلا أبراجا كبروج السماء، وأنهارا كأنهار المجرة «1» ، ومروجا كبسط الخز، وأشجارا كالعرايس، وأطيارا كالقيان، يسافر في جميع ذلك بصرك في دفعة واحدة، من غير انعطاف. فسبحان من أفرغها في قالب الحسن، الذي لم تر له عيني مثالا، وفيها يقول أبو جعفر بن سعيد «2» (ص 38) : [الكامل] سرح لحاظك حيث شئت فإنه ... في كل موضع لحظة متأمل وفيها يقول ابن أخيه: [المجتث] غرناطة الحسن تيهي ... على دراري النجوم أشرقت مثل عروس ... على بساط رقيم وكلّ نهر عليه ... كمثل سلك نظيم ما جرّدت كسيوف ... إلا لقتل الهموم وقلعة غرناطة في أعلاها شديدة الامتناع، وقلعة دمشق مساوية معها يأخذها القتال، وتركبها المجانيق، لكنا لانغبن دمشق حسن واديها، والشرفين المحدقين به، وما احتوى عليه ذلك المنظر من القصور الزاهرة، والبساتين الفتانة، مع حسن ترتيب الأنهار واحدا تحت آخر، ومرورها في البساتين بمعظمها، ولقد نظرت من نهر ثورى «3» في مروره بمعظمه على البستان السلطاني، المعروف بالنيرب، وما

عليه من المصانع الملوكية، وينبع ماء نهر يزيد من قلبه بحركات بديعة إلى منظر لم أر مثله في غرناطة. وتأملت الربوة «1» حيث مقسم الأنهار، وانحدار نهر يزيد في مبانيها، وانصبابه على رأسه منها، فرأيت منظرا فتانا، يجب أن يفتخر به ويذكر. وإذا صعد المتأمل هذه الربوة امتد بصره في ألفاف الأشجار المنخفضة عنه نحو مسيرة يوم، وبان له من ذلك الموضع المرتفع ما لا يوجد في غرناطة، لمن أشرف على بسيطها إلا أنه لا تبين له أنهارها لتكاثف الأشجار عليها كما تبين في بسيط غرناطة، وكل واحدة منها مما يجب أن يتمثل فيه (ص 39) : [الوافر] ولو أني نظرت بألف لحظ ... لما استوفت محاسنك العيون وفي المشرق والمغرب متنزهات كثيرة، هذان أشرفها ولو لم يكن في الأندلس إلا مدينة بلنسية «2» ، وما في ظاهرها من المياه والبساتين، والبحيرة التي تقابلها الشمس فيكثر منها نور بلنسية لكفاها، فكيف وكل مكان بها ترتاح إليه النفس، ويعظم به الأنس، وفي بر العدوة أماكن للفرجة متعددة أخذها بمجامع القلوب، وأزمّة الأبصار، بليونش متنزه بظاهر سبته «3» ، على البحر في نهاية من حسن الوضع، وانحدار المياه، التي لها على الصخور دوي، والتفاف الأشجار،

وتزخرف المباني، وكثرة الفواكه الطيبة، المختلفة الأنواع، واجتمع على ابن سعيد صاحب كتاب المغرب «1» مع العماد السلماسي «2» في مجلس جرى بين أهله ذكر المشرق والمغرب، وزاد في ذلك المجلس من التنقص والتهكم بالغرب حتى كاد تقوم بينهم الحرب، فكتب إليه علي بن سعيد: لو ترك القطا ليلا لنام «3» ، وهذا ما أثاره ذلك المجلس ولا ملام، العجب ممن سأل عن المغرب في ذلك المجلس المعرب: هل فيه أنهار مثل المشرق؟ أو ليس فيه أنهار، بسؤال يظلم الجور على صفحاته، ويجول الازدراء في جنباته: [الطويل] رمتني سهام الدهر من حيث لا أدري ... فما بال من يرمي وليس برام وإني لأقسم بمن أجرى الأنهار من الصم الجبال، وسلك بها في بسيط الأرض ذات الجنوب والشمال لو أن السائلين عن المغرب هل به أنهار؟ عاينوا من نهر إشبيلية «4» نهرا يصعد من البحر المحيط فيه سبعون ميلا عابرا على المدينة، مصعدا إليها السفن بالأرزاق والبضائع من البحر، دون مكابدة، ثم يحدر

(ص 40) أمثالها الجزر دون جهد، ولم تتغير عذوبة الماء بالبحر الملح، وقد طرز الله جانبيه بطرازين من ألفاف البساتين، ذوات الثمر والظلال، ورصعهما فيما بين ذلك بمصانع درّيّة الألوان، كأنما وضعهما الخالق جل وعلا من خيم الجنان لأقروا بالتسليم إلى ذلك، وأحالوا بالتقديم على ما هنالك، ولو عاينوا خضرة سرقسطة «1» التي حف بها من الجهات الأربع أربعة أنهار كأنما تغايرت عليها فمالت بالمصافحة والتقبيل من كل جهة إليها- لعذروا القائل: [الكامل] نهر يهيم بحسنه من لم يهم ... ويجيد فيه الشعر من لم يشعر ما اصفرّ وجه الشمس عند غروبها ... إلا لفرقة حسن ذاك المنظر وليس هذا بموضع الإطناب، وقد عزمت أن أفرغ الفكر لكتاب أجعله بين الخصمين ميزانا، وأخلده عن الجهتين عنوانا. [الرجز] لبّث قليلا يدرك الهيجا حمل فأجابه العماد السلماسي كفى جوابا قول الله عز وجل (أتهلكنا بما فعل السفهاء منّا) «2» . لو لم يكن للمغرب إلا طلوعك علينا منه لصمتنا له عن كل نقيصة، وأغضينا عنه فكيف وقد ملئ فضائل، وطلعت علينا منه نجوم فوائد غير أوائل، نحن أولى بالثناء عليه من الذم، وماذا يبلغ من التكدير من رمى الحجر في اليم، وقد رأيت أن أشتغل برسالة أثني فيها على الغرائب، التي استفدناها من

شعر في مدح المشرق والمغرب وغلمانهما

المجلس، وأفرد فيها من ملح فضلاء المشرق ما يستغرب بالمغرب، إلا أني وقع لي معنى يفخر به المشرق على المغرب، نظمته على جهة المداعبة، وبعثته طلبا للمجاوبة، وهو: [المتقارب] [شعر في مدح المشرق والمغرب وغلمانهما] (ص 41) إذا ذكر الشرق في محفل ... فلا يذكرنّ به المغرب طلوع الغزالة في أفقنا ... وفي أفقكم نورها يغرب وتشرق أنوارها عندنا ... وعندكم حسنها يسلب فأجابه ابن سعيد: [مخلع البسيط] يفخر بالشرق أهل فخر ... قولهم بهرج شتيت «1» قالوا لنا الشمس في طلوع ... قلنا لهم عند من تبيت؟ تبيت حيث المهاد رحب ... والليل فيه مسك فتيت قلت: وقد أنصف الوداعي «2» أحد شعرائنا المتأخرين إذ قال: [الوافر] حوى كلّ من الأفقين فضلا ... يقرّبه الغبيّ مع النبيه فهذا مطلع الأنوار منه ... وهذا منبع (الأيمان) «3» (فيه)

وكذلك لقد أرضى جيراننا المغاربة بقوله: [المنسرح] في الغرب خير وعند ساكنه ... أمانة أوجبت تقدّمه فالشرق من يثريه عندهم ... يودع ديناره ودرهمه ثم نعود إلى ما كنا فيه، وما نحن بصدده. قال صاحب الكمائم «1» : إنّ الله تعالى جعل المعمور من الأرض مقسوما على سبعة أقاليم آخذة من مغرب الشمس إلى مشرقها، والمغرب والمشرق مشتركان فيهما بالسواء، لأن كل إقليم فيها للمشرق والمغرب فيه حظ، وإحكامه في المشرق من جهة الإقليمية، والتأثيرات النجومية إحكامه في المغرب، إلا أن لمشارق الشمس في مطالعها بالمشرق في تصفية الألوان والأذهان حكم يشبه الشمس عند شروقها، ولمغاربها بالمغرب في ضد ذلك حكم يشبه الشمس عند غروبها. قال ابن سعيد: وقد أقر بهذا الشأن لأهل المشرق على أهل المغرب الحافظ أبو محمد بن حزم الأندلسي «2» : في رسالته حيث قال: فإن قرطبة مسقط رؤوسنا،

ومعق تمايمنا مع سرّ من رأى في إقليم واحد، قلنا من الفهم والذكاء ما اقتضاه إقليمنا، وإن كانت الأنوار لا تأتينا إلا مغربة عن مطالعها على الجزء المعمور، وذلك عند المحسنين للأحكام التي تدل عليها الكواكب ناقص من قوى دلائلها، وقد جعل صاحب الكمائم ذلك (ص 42) سببا لتكدير أخلاق المغاربة في سائر أقاليمهم، وصيّر ذلك متعديا إلى مياههم. وقال إن الإقليم الرابع وإن كان أعدل الأقاليم فإن فعله في الألوان والخلق في رأس المشرق فوق فعله في ذنب المغرب، فقد عاينت من يرد من الغلمان الذين يفتنون الناظر من الأتراك، والخطا «1» الذين يسكنون الإقليم الرابع عن يمين خوارزم، وجهات تركستان، وعاينت جماعة ممن يصلون من إشبيلية وقرطبة إلى بغداد وإلى بلاد العجم، فكان بين الجنسين بالنظر إلى صفاء الألوان وحسن الصور بون لا يخفى على الناقد. قال ابن سعيد: نظر البيهقي من غلمان الأتراك والخطا الصور التي تنتخب في عنفوان شبابها وبهجتها، وتهدى إلى الملوك، وأراد أن يقيسهم مع أشياخ وكهول يصلون من إشبيلية وقرطبة، بعد ما قطعوا أكثر طول الأرض، وقد شربت الأهواء المختلفة، وأعالي السني المتوالية مياه وجوههم، وسودت بشائر الحسن خدودهم، فكسفت شموسهم، وخسفت بدورهم، وذوت غصونهم، وذبل وردهم، وطحلب وردهم «2» ، فكانوا كما قال ابن حريق البلينسي «3» في محبوبة

له نظر لها، وقد أخذ منها السّن، وصوّرها في الدرك الأسفل من الحسن: [الرمل] إنّ ما كان في وجنتها ... وردته السنين حتى نشفا وذوى العنّاب من أنملها ... فأعادته الليالي حشفا «1» وأقسم بما ضمنته الخدود من وردها، واشتملت عليه الثغور من وردها وأقلته الغصون من بدورها، واحتوت عليه الأزرار من عاج صدرها (ص 43) لو نظر البيهقي إلى غلمان إشبيلية، وما وشاهم الحسن به من بديع التوشية لعدل بالتفضيل إليهم، وأحال بالتقديم عليهم، وأنشد في كل واحد من سربهم ما قاله أبو القاسم بن طلحة الصقلي «2» ، وقد طلعت عليه إحدى شموسهم من أقصى مغربهم: [السريع] أيتها النفس إليه اذهبي ... فحبه المشهور من مذهب مفضض الثغر له مسكة ... قد طبعت في حدّه المذهب أيأسني التوبة عن حبه ... طلوعه شمسا من المغرب ولقد رأيت بالقاهرة غلمانا وصلوا إليها مع رسول الإمبراطور، من جزيرة صقيلية «3» ، وهي في الإقليم الرابع، قضيت العجب من كمال الحسن فيهم بين اعتدال قدّ، ودهم وهيف خصورهم، وصفاء ألوانهم، المشربة بالحمرة، التي

تعشقها النفس، وتسرح فيها العين، وحسن مجموع صورهم وتفاريقها، (فتبارك الله أحسن الخالقين) «1» . وكأن أهل القاهرة معجبون فيهم، وتهالك في الوجد بهم جماعة من الأمراء، وتوصلوا إلى إحضارهم في مجالس أنسهم، وكانوا يحسنون الكلام بالعربية، ويعلمون مواقع النوادر على عادة نصارى صقيلية، وخفي عن الناس هنالك مراد الإمبراطور بتوجيههم، وإنما أرادوا أن يتكشفوا «2» من الأحوال الباطنة على ما لا يتوصل إليه غيرهم، ممن لا يشفع في تقريبه حسنه، فما انفصلوا عن القاهرة إلا وقد حصلوا من الأخبار ما يسهّل طريقه إليهم، شفيع الحسن الذي لا يرد «3» . على أني أبصرت من غلمان الأتراك ذوي الأثمان الغالية ما أرجع فيه إلى الإنصاف. وأفضلهم على غلمان أصناف الرّوم.، الذين يجلبون إلى ملوك الأندلس، وسلاطين برّ العدوة، ولقد أخبرت أنه (ص 44) كان بحلب منذ مدّة قريبة مملوك تركي، خلف أحد المغاربة النقاد أنه لم ير أحسن من صورته في شرق ولا غرب، وأنه أعطي مولاه ثلاثين ألف درهم ناصرية «4» ، فامتنع من بيعه، فمات على إثر ذلك. ولو قيل بالمغرب إن مملوكا بلغ هذا الثمن لم يصدق الناقل، وجعل الناس يضحكون عليه من هذا الحديث. إذ المعتاد في المغرب ما خلا الديار المصرية، أن يكون المملوك الحسن الصورة من الإفرنج

وغيرهم بخمس مائة درهم من هذه الدراهم، وهي ألف من الدراهم المغربية، فيكون عند الملك بدل هذا المملوك الذي هو بثلاثين ألف درهم كتيبة فرسان من ستين فارسا، على أنهم أكثر ما يبتاعون المماليك الذين قيمة الواحد منهم خمسمائة درهم مغربية، وستمائة ونحو ذلك. قال: وهمّم أهل المشرق في هذا الشأن مسلمة لهم، وكل هذا الذي ذكرناه هنا مما ذكره ابن سعيد. قلت: أما قوله عن علو ثمن المملوك ثلاثين ألف درهم ناصرية فهو معذور فيه، ولكنه ما عمر إلى إمام سلطاننا ورأى ما جلب إليه، وما بذل من الأثمان، ولو رأى ذلك لاحتقر ما استكبر، واستقل ما استكثر، وأما قوله: إن الدرهم الناصري بدرهمين مغربية، فقد قدمنا القول أن الدرهم الكاملي «1» معاملها اليوم بثلاثة دراهم مغربية عتق، وهو بدرهمين مغربية جدد، ولعله أراد الجدد، وإلا فحينئذ لا يقال إنها جدد لا تكون إلا ثلاثة بدرهم. والناصرية التي ذكرها ضرب الناصر بن العزيز «2» وهي دون «3» الكاملية بقليل. أما الذي ذكره من حسن غلمان الروم فغير منكور، وإنما الترك أتم صورا

الإسكندر وبلاد فارس وأرسطو وصاحب الصين

وأكمل تخطيطا، وللترك حسن الوجوه، وللروم حسن الأبدان، فمحاسن الترك أفضل لأنها لا تغطى ولا تحجب، ومحاسن الروم أخفى لأنها تغطى وتحجب. [الإسكندر وبلاد فارس وأرسطو وصاحب الصين] فأما شرف الجنس وبعد الهمة ووفور العقل والشجاعة فأين الروم مما وهبه الله الترك من ذلك حتى إن الاسكندر «1» وهو أجل ملوك الروم بل الأرض، ولا خلاف في حكمته وفضله، وقد أقر للترك على نفسه، فإنه لا تطمح نفس أحد من الفرس إلى مطاولة الترك، وقد طاولت الروم، وكان لها الغلب على الروم غالبا، ولما أتى الإسكندر بلاد الفرس رأى من رجالهم ما بهر عقله فكتب إلى معلمه ووزيره أرسطو «2» يعلمه أنه شاهد بإيران شهر رجالا ذوي أصالة في الرأي، وجمالا في الوجوه لهم مع ذلك صرامة وشجاعة، وأنه رأى لهم (ص 45) هيئات وخلائق، ولو كان عرف حقيقتها لما غزاهم، إنما ملكها بحسن الاتفاق والبخت «3» ، وأنه لا يأمن إن ظعن عنهم وثوبهم، ولا تسكن نفسه إلا ببوارهم. فكتب إليه أرسطو: فهمت كتابك في رجال فارس، فأما قتلهم فهو من الفساد في الأرض، ولو قتلتهم جميعا لأنبتت البلد أمثالهم، لأن إقليم بابل يولد أمثال هؤلاء الرّجال، من أهل العقول والسداد في الرأي، والاعتدال في التركيب، فصاروا أعداءك وأعداء عقبك بالطبع، لأنك تكون قد وترت القوم وأكثرت الأحقاد على أرض الروم منهم وممن بعدهم، وإخراجك إياهم في عسكرك مخاطرة بنفسك وأصحابك، ولكني أشير عليك برأي هو أبلغ لك في كل ما تريد من القتل، وهو أن تستدعي أولاد الملوك، ومن يستصلح للملك، وهو مرشح له، فتقلدهم البلدان، وتولهم الولايات ليصير كل واحد منهم ملكا برأسه، فتفرق كلمتهم

تشبيه ابن سعيد الأرض بطائر

ويجتمعوا على الطاعة لك، ولا يؤدي بعضهم إلى بعض طاعة، ولا يتفقوا على رأي واحد، ولا تجتمع كلمتهم، ففعل الإسكندر ذلك، فتم أمره. فانظر إلى ما في هذا الابتداء والجواب من تعظيم الإسكندر وأرسطو لرجال فارس، وقول أرسطو إن أرض بابل تولد مثل هؤلاء الرجال. وهذا الإسكندر قد جال الأرض غربا وشرقا فما تراه أكبر إلا أهل الشرق، ولا عظمّ إلا لهم، وإذا كان هذا قوله في فارس فكيف كان قوله في الترك وفي الهند، مع ما هو مشهور من حكايات الإسكندر مع صاحب الصين «1» ، مما اعترف له فيه بالحكمة، وأقرّ له بالفضل، مما ليس هذا موضع ذكره. فيا هل تراه ذكر أهل المغرب أو وصفهم بقول أو فعل. [تشبيه ابن سعيد الأرض بطائر] وقد ذكر ابن سعيد أيضا أن الأرض تشبه بطائر رجلاه بر العدوه والأندلس «2» ، وقد تقدم ذكر هذا (ص 46) التشبيه، ثم قال: ولا أسلم في تشبيه الأندلس برجل إلا إن أرادوا في الاعتماد عليها وعمارتها بمثل ما تعمر به رجل العروس الخالية من الخلاخل، وأشباه ذلك. وأنشد قول الصولي «3» يخاطب

القائم بن عبيد الله الإسماعيلي «1» الذي خطب له بالخلافة في المغرب، وكان قد وجّه لبغداد قصيدة يفخر فيها ببيئته، وبما فتح من البلاد، فأجابه الصولي بقصيدة على وزنها ورويها: [الطويل] فلو كانت الدنيا مثالا لطائر ... لكان لكم منها بما حزتم الذنب قال ابن سعيد: وأنا استحسن هذا البيت فإنه وقع في موضعه لكون البلاد التي كانت بيد القائم في ذلك الزمان من الأرض بمنزلة ذنب الطير لكونها في آخر المعمور، وكونها رقيقة ضيقة العرض في المساحة قد خنقها البحر من جهة الشمال والصحراء من جهة الجنوب، وهذا البيت هو الذي حرّك همّة القائم، وقال والله لا أزال حتى أملك صدر الطائر ورأسه إن قدرت، وإلا أهلك دونه، فكابد على الديار المصرية من الحروب أهوالا، ومات ولم يظفر بحضرتها وإن كان قد عاث في أطرافها برا وبحرا على ما هو مذكور في التواريخ، وأوصى ابنه المنصور بما كان في عزمه، فشغلته الفتن التي دهمته في إفريقية، فكان الظافر بالديار المصرية المعزّ بن المنصور بن القائم «2» ، وتوالت عليها خلفاؤهم، وخطب لهم باليمن والحجاز والشام والجزيرة والعراق، وخطب لمستنصرهم الذي جاز في الخلافة ستين سنة «3» في حضرة الإمامة بغداد سنة، وخطب للنزارية

الإسماعيلية «1» منهم ببلاد العجم. قال ابن سعيد: وهم إلى الآن في بلد الموت، ولهم يخطب هؤلاء الإسماعيلية (ص 47) الذين في قلاع الشام فكان حديثهم المترتب على ذلك البيت من عجائب الدنيا، ولم تزل إمامتهم التي كانت قد رسخت في الأرض ودوخت الملوك «2» إلا السلطان الأعظم الناصر صلاح الدين بن أيوب رحمة الله عليه «3» . وملأ البلاد التي كانت بأيديهم بالخطب العباسية. قلت: لقد مرّت به

من أحكام المناظرة بين المشارقة والمغاربة

ليال طوال من حذر الإسماعيلية الأدناس، وخوف ما يتوقاه منهم من غوائل البلية، ثم ما زال منذ طهّر مصر من تلك الأدناس، ونظفها من وسخ أولئك الناس، حتى انقاد معها له ما وراءها، وتبعها ما خلفها، وأعاد إليها طلاوة الدين، ورونق الإيمان على أننا لا ننكر لأواخر تلك الدولة المصرية فضلا سلف إلى سلفنا، وقد وردوا إليهم من المدينة الشريفة فأكرموا وفادتهم وأجزلوا صنائع الإحسان إليهم، ولكن الحق أحق أن يتبع، وما على قائل القول الصدق جناح، فرحم الله صلاح الدين، وأصلى نار الكمد قلوب المعتدين. هـ. [من أحكام المناظرة بين المشارقة والمغاربة] قال ابن سعيد ومما يتكلم فيه من أحكام المناظرة بين المشارقة والمغاربة- النبوة، وهذا الفخر مسلم للمشرق، وذكر ابن قتيبة «1» في كتاب المعارف أن الأنبياء عليهم السلام مائة ألف وأربعة وعشرون ألف نبي، الرسل منهم ثلاث مائة وخمسة عشر، منهم خمسة عبرانيون، وهم: آدم وشيث وإدريس ونوح

وإبراهيم، وخمسة من العرب: هود وصالح وإسماعيل، وشعيب ومحمد. وغيرهم من بني إسرائيل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين «1» ، وقد عدد صاحب الكمائم «2» مباعث الأنبياء في الأرض، وهي المواضع التي بعثوا فيها، ولم يذكر بالمغرب إلا منف «3» حاضرة مصر، التي بعث فيها موسى عليه السلام لفرعون، ويوسف عليه السلام، ودخلها يعقوب والأسباط ويوشع، وفرت مريم عليها السلام بابنها المسيح إلى البهنسا «4» من أرض مصر، فجمهور مباعث الأنبياء عليهم السلام بالمشرق (ص 48) والفضل العام منه للشام، والخاص لجزيرة العرب بخيرة الرسل صلى الله عليه وسلم، وعليهم أجمعين. ومباعث جزيرة العرب مكة، بعث فيا آدم عليه السلام إلى ولده، وبعده ابنه شيث» ، وبعث بها إسماعيل إلى إخوانه «6» ، وبعث فيها محمد صلى الله عليه وسلم، وذكر الأزرقي «7» في كتاب مكة أن ما

بين الركن إلى المقام إلى زمزم قبور تسعة وتسعين نبيا، جاؤوا حجاجا فقبروا هنالك «1» . وتفخر المدينة وإن لم تكن مبعثا لنبي بأنها مهاجر سيد المرسلين وخاتم النبيين، ومدفنه صلى الله عليه وسلم. ومبعث هود بالأحقاف «2» ، مما يلي اليمن، وهنالك قبره، ومبعث صالح بوادي القرى بالحجاز، ومبعث شعيب في أرض مدين «3» ، التي تلي أرض مصر والشام. وقد عدّ الماوردي «4» أنبياء جملة بعثوا إلى أرض سبأ «5» باليمن، وأن أهلها ما نزل بهم العذاب حتى كذبوهم، والرّسّ «6» من جهة عمان مبعث نبي،

وكذلك حضور وعدن وبلاد بني عبس «1» . وأما الشام فالفخر الأعظم منها للبيت المقدس، بناه داود وأتمه سليمان عليهما السلام «2» ، وتوارثه بنوه، وهو كان يجمع أنبياء بني إسرائيل عليهم السلام. وولد المسيح عليه السلام ببيت لحم «3» ، على مقربة منه، وقبور إبراهيم وإسحاق ويعقوب ويوسف في المكان

المعروف بالخليل «1» . ومدائن لوط محسوبة من الشام، والبثنيّة «2» من عمل دمشق، موضع أيوب على جميعهم السلام، وبعلبك «3» بعث إليها يحيى بن زكريا عليهما السلام، وبها قتل، ونينوى من بلد الموصل بعث إليها يونس عليه السلام «4» ، وبابل بعث إلى نمرودها إبراهيم عليه السلام «5» . ومواضع الأنبياء والصحابة ورؤوس «6» الصالحين مسلم الفخر الجمهوري فيها للمشرق، وقد كان بالمغرب (ص 49) الأقصى والأندلس من ادعى النبوة مثل صالح البرغواطي «7» ، والمعلم

نشأة الخلافة

الشنتيري «1» ولا نعلم نبيا ظهر بالمغرب ما خلا الديار المصرية على ما ذكر قبل. قلت: وهذا صالح البرغواطي والمعلم الشنتيري كلاهما نكرة ومجهول لا يعرف، وفي أفسح العذر من سمع بهما فقال: ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين. [نشأة الخلافة] قال: وأما الخلافة فشأنها أيضا مسلم للمشرق، إذ الخلفاء الأربعة رضوان الله عليهم منه ظهروا، وفيه كانت أقطاب خلافتهم، فأبو بكر «2» وعمر «3»

وعثمان «1» رضي الله عنهم كان قطب خلافتهم المدينة، وبها قبورهم، وعلي «2» رضي الله عنه فكان قطب خلافته الكوفة «3» ، وبها قتل وفيها قبره على

الاختلاف الذي جاء فيه، وفيها بويع بالخلافة الحسن بن علي كرم الله وجهيهما «1» . وأخذ ابن سعيد يذكر ما استقرت عليه قواعد الخلافة بالشام، ثم بالعراق، مما كله بالمشرق، وقد تقدمت الإشارة إلى مثل ذلك. ثم قال: وهذا هو الفخر المسلم. وقد كان بالمشرق أقطاب خلافة غير مجمع عليها، إلا أنها كانت خلال سحائب، ولمع بوارق. وأما المغرب في شأن الخلافة فلم يكن به قط خليفة يجتمع عليه، وكان فيه من الخلفاء المتفردين به إدريس بن عبد الله بن الحسن بن علي «2» رضوان الله عليهم وبنوه، خطب لنفسه بالخلافة في سبتة وجهاتها من المغرب الأقصى في مدة هارون الرشيد «3» ، وتوارث بنوه الخلافة هنالك، ودارت

أقطابهم بين سبتة وبصرة المغرب «1» وفارس وتلمسان، وما قطع الخطبة لهم من المغرب إلا ظهور الخلافة العبيدية، التي أولها عبيد الله المهدي الإسماعيلي من ولد الحسين رضوان الله عليه «2» ، توارثها بنوه بعده بالمغرب ودارت أقطاب خلافتهم (ص 50) بين رقادة والمهدية والمنصورية «3» ، والقاهرة بمصر إلى أن أزالها السلطان الأعظم صلاح الدين رحمة الله عليه بخلع العاضد «4» آخر خلفائهم، ولم تكن بالمغرب خلافة أعظم منها، لأنهم كان يخطب لهم من

الديار المصرية إلى البحر المحيط، جميع نصف المعمور في الطول، وخطب لهم بجزيرة صقلية، وفاضت خلافتهم من المغرب على المشرق، فخطب لهم باليمن والحجاز وعمان والبحرين، والشام والعراق والجزيرة، وخطب لهم في بغداد أيام فتنة البساسيري «1» ، وإخراج الخليفة القائم منها إلى جزيرة عافة، وما ردّ الخلافة العباسية إلى بغداد مع الاعتناء الإلهي إلا الدولة السلجوقية «2» ، إلا أنهم لم يخطب لهم بجزيرة الأندلس لأن أعداءهم (بني) «3» أمية كانوا قد استولوا عليها وتوارثوها، وأول من اقتطعها عبد الرحمن الداخل المرواني «4» ، فتوارثها بنوه ولم يخطب لهم بالخلافة إلى أن ولي الناصر عبد الرحمن المرواني «5» ، فخطب له بالخلافة في مدة المقتدر «6» ، وتوارث بنوه هذه السمة إلى أن وقعت الفتنة فيما بينهم، فدخلت عليهم الخلافة الحمّودية، وبنو حمّود من ولد إدريس الحسينيين المتقدمي الذكر «7» ، وعادت المروانية، ثم انقرضت. وأقطاب الخلافتين دائرة على قرطبة والزهرا والزاهرة، ثم ضعفت خلافة بني حمود وبقيت في مالقة وسبتة، ثم انقطعت إلى أن نشأت خلافة بني عبد المؤمن بقيام مهديهم محمد

المناظرة بين الأشخاص: الخلفاء ونحوهم

ابن تومرت «1» ، وهو ينسب إلى بني إدريس الحسنيين، وقد أثبت نسبة الشريف الإدريسي صاحب كتاب أجّارو كتاب (الدوحة المايسة في أخبار الأدارسة) «2» ، ولم يسم بخليفة ولا أمير المؤمنين، بل خطب له بالمهدي المعلوم للإمام المعصوم وعهد بالخلافة لعبد (ص 51) المؤمن «3» . وهو- أعني عبد المؤمن- قيسي ليس بقرشي، فلا يصح له خلافة. ثم قال: فتوارثها بنوه وخطب لهم من برقة إلى البحر المحيط وبجميع الأندلس. [المناظرة بين الأشخاص: الخلفاء ونحوهم] وإذا تعرضنا للمناظرة في الأشخاص سلمنا جمهور الفخر أيضا للمشرق، إذ الخلفاء الأربعة فيه، وغيرهم من الخلفاء المرضيين إلا أنهم شبّهوا الناصر المرواني «4» في حزمه وجبره للدولة وصولته بالمعتضد «5» ، وشبهوه في طول المدّة

في الأمر بالناصر «1» لأنه ملك خمسين سنة ونصف، وشبهوه في كثرة البنيان وعظمة ما أنفق عليه بالمتوكل «2» ، وشبهوه بالحركات والغزوات بالمعتصم «3» ، وشبهوه في الجود بالرشيد «4» ، وشبهوا ابنه المستنصر «5» في العدل والزهادة وردّ المظالم، وتغيير المنكر بالمهتدي «6» ، وشبهوه في حب العلوم واقتناء كتبها

بالمأمون «1» . وشبهوا المستعين «2» في التجرد لطلب ما خاصمه فيه الزمان من الخلافة ومآل أمره إلى القتل بسميه المستعين «3» ، وشبهوه في الشعر بالرشيد، وأنشد صاحب الذخيرة قول المستعين: [الكامل] عجبا يهاب الليث حدّ سناني ... وأهاب سحر «4» فواتر الأجفان

وأقابل «1» الأهوال لا متهيبا ... منها سوى الإعراض والهجران وتملكت نفسي ثلاث كالدمى ... زهر الوجوه نواعم الأبدان «2» هذي الهلال وتلك شبه «3» المشتري ... حسنا، وهذي أخت غصن البان حاكمت فيهن السلوّ إلى الهوى «4» ... فقضى بسلطان على سلطاني وأبحن «6» من قلبي الحمى وتركنني ... في عزّ ملكي كالأسير العاني «5» إن لم أطع فيهن سلطان الهوى ... كلفا بهنّ فلست من مروان وقول الرشيد: [الكامل] ملك الثلاث الآنسات عناني ... وحللن من قلبي بكل مكاني مالي تطاوعني البرية كلّها ... وأطيعهنّ وهنّ في عصياني ما ذاك إلّا أنّ سلطان الهوى ... - وبه قوين- أعزّ من سلطاني «7»

وفضّل أبيات المستعين وزهزه لها وأطنب في الثناء عليها «1» . وكان في خلفاء العبيدين ممن ذكرت صولته وعظمت آثاره المنصور بن القائم عبيد الله المهدي» ، وهو مشبّه عندهم بالمنصور العباسي «3» ، لأن كلا منهما «4» اختلت عليه الدولة وأصفقت عليه الحروب «5» وكاد يسلّ من الخلافة، فهب له ريح النصر وتراجع له أمره حتى لم يبق مخالف، وأخبارهما في ذلك مذكورة مشهورة «6» والمعز بن المنصور طمحت همته إلى أن ترك إفريقية لبعض غلمانه وخدامه، وتجهز إلى مصر بعد ما أنهض لها مولاه جوهرا «7» ففتحها وبنى له

حضرة القاهرة، وسفرته من إفريقية إلى مصر وما ظهر منه من حسن التدبير، وهبوب النصر والحزم والاستيلاء، كسفرة المأمون «1» من خراسان إلى بغداد، وتسكينه ما اشتعل من نار الفتنة، وظهر من ابنه العزيز «2» من حسن المداراة والتسكين للناس ما ضرب من أجله المثل بأيامه في مصر، وصار يقال أحسن من أيام العزيز، وكان من عجائبهم المستنصر «3» فإنه جاوز في أمر الخلافة ستين سنة، ولم يبلغ هذه المدة خليفة في المشرق، وكانت له من خزائن الأموال وعظم الأسد ونفوذه، واتساع الخطبة وفيضها في أقطار المشرق والمغرب ما يطول ذكره، ثم انعكس عليه ذلك، فاقتنصت البلاد بالمشرق والمغرب منه (ص 53) واضطرمت الفتن بحضرته بالقاهرة، وافتقر وضعف أمره، وآل حاله إلى أن قال لشخص من خواصه طالبه بشيء: والله لقد أصبحت لا ينفذ لي أمر إلا من مكاني إلى باب قصري، ولا أملك مالا إلا ما تراه عليّ وتحتي «4» . وعبيد الله المهدي أوّل خلفائهم «5» يشبّه بالسفاح أول خلفاء بني

العباس «1» ، فإنّ السفاح خرج من الحميمة «2» بالشام طالبا الخلافة والسيف يقطر دما، والطلب مراصد، وأبو سلمة الخلال «3» يؤسس له الأمر، ويثبت دعوته، وعبيد الله خرج من سلمية «4» في الشام وفي رأسه طلب الأمر، والعيون قد أزكيت عليه، وأبو عبيد الله الشيعي يسعى في تمهيد دولته، وكلاهما تم له الأمر وبايعه صاحب دعوته. وقتل عبيد الله أبا عبد الله الشيعي القائم بدولته «5» ، وأصبح- أو سلمه- مقتولا في حضرة السفاح، فينسب قتله إليه.

وأما أدارسة الغرب فإن إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن رضي الله عنهم «1» فرّ من وقعة فخ «2» بظاهر مكة حين كانت الهزيمة على العلويين من قبل أصحاب الهادي «3» ، وقتل سليمان ابن عبد الله بن الحسن طالبا الخلافة «4» ، فتنكر إدريس وصار ملاحا في بحر جدة، وتنقل في بلاد المغرب إلى أن ثار

من عظماء الأدارسة ... الناصر علي بن حمود

وأدرك الخلافة بسبتة أقصى المغرب، وتوارثها بنوه، فكان أحد رجال العالم المتغلغلين في طلب الأمر حتى أدركوه، وهو مشبّه بالسفاح والمهدي في افتراغ الدول والابتداء لها، إلا أنهما كان لهما داع وطّد دولتهما، وإدريس ليس له داع إلا نفسه «1» . [من عظماء الأدارسة ... الناصر علي بن حمود] وكان من عجائب الأدارسة بالمغرب جنون بن أبي العيش ابن حنّون بن محمد بن القاسم بن إدريس بن إدريس «2» ، قدمه جميع بني إدريس عليهم، وصحت له الخلافة فيهم، وكان له خمسة وعشرون ولدا ذكرا منهم جنّون بن حنون (ص 54) الذي أضرم المغرب نارا. ومنهم محمد بن جنون نازع أباه رواء الخلافة، وحاربه واستولى على بصرة المغرب، وعظم فيها أمره. ومنهم الحسن الأعور ابن جنّون «3» ادعى النبوة في تسادلا في المغرب. ومن عظماء الأدارسة الذين يجب أن ننوه بأفعالهم الناصر علي بن

حمود «1» جاز من سبتة البحر إلى الأندلس وقلب الدولة المروانية وصيرها علويّة، واستولى على قطب الخلافة قرطبة، وسيق إليه الخليفة المستعين المرواني فضربت عنقه بين يديه «2» . ورسخت الدولة الحمودية بالأندلس، وكان منهم العالي إدريس بن يحيى بن علي الناصر بن حمود «3» ، خطب له بالخلافة بمالقة وغرناطة وسبتة، وكان من ألطف الخلفاء مجالسة، وأحبهم في الأدباء والشعراء، وكان يشبّه بالرّاضي العباسي «4» ، وهو الذي

بنو عبد المؤمن

لما أنشده ابن مقانا «1» الشاعر قصيدته التي منها: [الرمل] وكأن الشمس لما أشرقت ... فانثنت عنها عيون الناظرين وجه إدريس بن يحيى بن علي ... بن حمّود أمير المؤمنين والعالي وراء الحجاب على عادة خلفائهم في ذلك، فلما بلغ الشاعر إلى قوله: انظرونا نقتبس من نوركم ... إنه من نور رب العالمين «2» أمر برفع الحجاب حتى نظر إليه. [بنو عبد المؤمن] وأما بنو عبد المؤمن وهم ينسبون إلى بني سليم بن قيس، فإنّ مهديهم نصّ على عبد المؤمن «3» فولي الخلافة وتوارثها بنوه، وهو الذي افتتح البلاد، وقهر العباد، واستولى على حضرة مرّاكش، وقتل أمير المسلمين تاشفين «4» ، وأخذ الأندلس من أيدي الثوار بها، والغرب الأقصى والغرب الأوسط وأفريقية والمهدية

استرجعها من أيدي الفرنج فكان ممن عظم صيته (ص 55) وأغربت أخباره «1» ، وأعظم ولده الموسومين بالخلافة: المنصور بن يوسف بن عبد المؤمن «2» ظهرت منه شهامة عظيمة، وهمة عالية، واعتناء بالعلوم، وبنى المقابر العظيمة بمراكش، ورباط الفتح، وإشبيلية، وضبط الأمر بهيبة تملأ الصدور، وغزا بنفسه نصارى الأندلس فهزمهم الهزيمة التي أذلتهم، وأناح بعساكره على قاعدة أعظم ملك لهم وهي طليطلة، فحصرها وقطع أشجارها وعاث أجناده في ظواهرها، وفتح ما فتح من قلاعها «3» .

الشبه بين المأمون بن المنصور الموحدي والمأمون العباسي

[الشبه بين المأمون بن المنصور الموحدي والمأمون العباسي] وكان منهم المأمون بن المنصور «1» قلب الدولة عن قواعدها، وأسقط اسم مهديهم من الخطبة، وارتكب من الأهوال ما لا يسع ذكره إلا ترجمته، وهو مشبه بمأمون بني العباس في القيام على أخيه، والنهوض في الفتن وقلب الدول، لأن المأمون صيّر الدولة علوية، وأزالها عن بني العباس. وكان قد نزع منزع المأمون «2» في التنويه بالعلماء والمناظرة في مجلسه، وإدرار الأرزاق عليهم، وكان للشعراء منه حظ عظيم. قال ابن سعيد: وإذا قايسنا بين سلاطين المشرق وسلاطين المغرب كان الفضل للمشرق، وذلك أنّ ما كان بأيدي المسلمين منه هو سلطنة السند التي تداولها القرشيون وتوارثوها، وكان سريرهم بها مدينة المنصور «3» ، وما زالوا يتوارثونها إلى أن غلبت عليهم سلاطين العجم، وأضافها السلطان محمود بن سبكتكين إلى بلاده «4» ، وملكها شهاب الدين الغوري، صاحب غزنة «5» ، وآل أمرها إلى أن ملكها خوارزم شاه محمد بن

تكش «1» ، ولما فرّ أمام التتر ومات في بحر طبرستان تماسك ابنه جلال الدين بما بقي من العساكر والبلاد «2» تبعه التتر، وقاتلوه في بلاد السند (ص 56) وهزمهم وهزموه، وآل حاله معهم إلى أن أسلمها لهم، وطلب الغرب نحو أذربيجان وبلاد الكرج وأرمينيه، وكان بأيدي المسلمين من بلاد الهند ما يستحق أن يسمى سلطنة، لأنه كان عدة ممالك جليلة، ولا سيما مذ فتح فيها محمود بن سبكتكين ما فتح، وأضاف إلى ذلك شهاب الدين الغوري ما أضاف «3» ، وآل أمرها إلى أن ملكتها امرأة، واستولى عليها التتر بضرائب معلومة لهم «4» .

وما وراء النهر كان سلطنة عظيمة ذات ممالك كبيرة افتتحت مذ أول الإسلام في زمن قتيبة بن مسلم «1» وعظمت شيئا فشيئا، وكان كرسي سلاطين بني سامان «2» فيها حضرة بخارى ومن بني سامان أخذها الأتراك الخانية «3» وكان بينهم وبين محمود بن سبكتكين مرة حرب، ومرة صلح «4» ، إلى أن استولى عليها السلجوقيون «5» ، ثم صارت بعدهم لخوارزم شاه محمد بن تكش، ومنه

خراسان سلطنة عريضة

أخذها التتر «1» . [خراسان سلطنة عريضة] وأما خراسان فإنها سلطنة عريضة نابهة الذكر في القديم والحديث، وفيها قتل يزدجرد آخر سلاطين الفرس «2» ، فانقرضت دولتهم وكان سريرها في مدة طاهر بن الحسين «3» وبنيه مرو «4» ثم نيسابور «5» إلى أن أخذها منهم

الصفار «1» ، ثم قبض عليه بنو سامان فانضافت إليها «2» ، واستولى عليها محمود ابن سبكتكين بعد ذلك، وتداول عليها ولاة بنيه، وسرير سلطانهم بمدينة غزنة إلى أن استولى عليها السلجوقية وعاث فيها الخطا «3» بعد ذلك، وكانت فيها فتن إلى أن انضافت للسلطان خوارزم شاه محمد بن تكش، ومنه أخذها التتر. وأما غزنة وما انضاف إليها من بلادها وجهاتها وبلاد الغور فإنها كانت في الدولة السامانية (ص 75) مخصوصة بسبكتكين، ولما استولى محمود على الممالك الجليلة والسلطنات العظيمة اتخذ غزنة سريرا له، وكذلك فعل بنوه إلى أن دخلها سنجر شاه سلطان السلجوقية «4» ، وآل أمرها بعد ذلك إلى أن ملكها

سجستان ودولة بني الصفار

الغوريون «1» ، واستحوذ عليها التتر عند خروجهم على خوارزم شاه. وأما خوارزم فقد كان السلاطين الذين ملكوها في مدّة السامانية يدارونهم ويخطبون لهم، لعظم السامانية إلى أن صارت لهم، ثم صارت لمحمود بن سبكتكين «2» ثم للسلجوقية، ثم ملكها تكش ثم ابنه محمد المعروف بخوارزم شاه «3» ، وجاءت الممالك إليه وانثالت من كل جهة عليه، وصارت له خوارزم وما وراء النهر وغزنة وخراسان وجرجان وما انضاف إليها من بسطام ودهستان ومازندران وعراق العجم وكرمان وسجستان وفارس فعظم أمره، وعزم على قصد العراق، فرده الله عنه، ثم دهمه خروج التتر فتشاغل بهم، فلما هزموه وفر أمامهم إلى بحر طبرستان فمات في جزيرة هنالك فاض التتر على بلاد هلك رأسها، وكان سرير سلطانه مدينة خوارزم على نهر جيحون غرقها التتر بالنهر المذكور «4» . [سجستان ودولة بني الصفار] وأما سجستان فإنها سلطنة مذكورة، وعظمت فيها دولة بني الصفار

كرمان وديلمان

وتوارثوها «1» ، وهي الآن «2» من البلاد التي صارت في حكم التتر. [كرمان وديلمان] وأما كرمان فإنها سلطنة مشهورة «3» عظمت فيها دولة بني اليسع «4» ، وكانت في مدّة مضافة إلى بلاد بني بويه «5» . وأما ديلمان «6» فهي سلطنة كبيرة سريرها مدينة الري، وينضاف إليها بلاد

جرجان وبسطام ودهستان «1» وجبال الديلم، وجبال جيل وجيلان «2» ، وفيها قلعة (ص 58) الموت «3» التي توارثها النزارية «4» ولم يبرح التشيع فيها قديما، وأعظم السلاطين الذين اشتهروا بملكها بنو بويه، الذين منهم عضد الدولة «5» ، وآل أمرها إلى أن ملكها السلجوقية «6» ثم خوارزم شاه «7» ، ثم التتر إلا قلعة

مازندران (طبرستان)

الموت وما صعب من جبال الديلم فإنها في نهاية من الامتناع، وقد كان أنو شروان عظيم سلاطين الفرس «1» ملك ما بين العراق ونهر جيحون إلا جبال الديلم، فإنها امتنعت عليه. [مازندران (طبرستان) ] وأما مازندران «2» فهي البلاد المعروفة بطبرستان، وتوالى عليها أئمة العلويين «3» ، الذين كانوا يخطب لهم بالإمامة بها، ولم تزل في معظم حالها مخصوصة بأئمة العلويين، لأن أهلها جبلوا على التشيع، وعلى هذا المذهب، فكانوا لا يرون عنه بديلا، وكانت من البلاد التي صارت لخوارزم شاه، وبها استجاز أمام التتر، وركب مركبا في بحرها إلى جزيرة هلك بها. وكانت مدينة آمل «4» من مدنها قطبا لأئمة العلويين بها.

عراق العجم

[عراق العجم] وأما عراق العجم فهو المعروف في الكتب بالجبال «1» ، وهي سلطنة تلاصق العراق، وأعظم من توارث السلطان فيها بنو بويه «2» ، وكان سريرهم بها أصفهان «3» ، ولما صارت للسلجوقية واختاروا الإقامة فيها أكثر الأحيان، لتوسطها بين بلادهم اتخذوا همذان «4» سريرا. وهي من البلاد التي صارت لخوارزم شاه فاستولى عليها التتر. [فارس] وأما فارس فهي سلطنة القوم الذين عرفت باسمهم «5» وأعظم من ملكها في الإسلام وتوارثت بها دولهم بنو بويه، وملكها السلجوقية، وكان فيها من بقاياهم من امتنع بالحصون الشامخة، وجرت فيها خطوب طويلة.

خوزستان (الأهواز)

[خوزستان (الأهواز) ] وأما خوزستان فهي المعروفة (ص 59) في الكتب بالأهواز «1» ، وقد كان يعقوب الصفار «2» الذي خرج من سجستان وعاث في الأرض اختار الإقامة فيها. وبها مات، وسرير السلطنة فيها مدينة تستر «3» التي تقولها العامة بإعجام السين. [العراق السلطنة العظمى] وأما العراق فهي السلطنة العظمى التي هي من الدنيا بمنزلة القلب من الجسد، ومن ملكها فله الفضيلة على سلاطين العالم «4» ، وبها كانت أكاسرة

شهرزور

الفرس، وسريرهم المدائن «1» ، وكانت قبلها مدينة بابل «2» سريرا، ثم صارت في مدة بني العباس، أدامها الله مقرا للخلافة، وقطبها مدينة بغداد «3» وسامره «4» في بعض الأحيان. [شهرزور] وأما شهرزور «5» فإنها سلطنة تغلب عليها الجبال، وأكثر ما كان سلاطينها من الكرد على ما يذكرون، وآل أمرها إلى أن كانت للسلطان الأعظم صلاح الدين رحمة الله «6» عليه، وصارت لبيت (أوق سنقر) «7» وهم المعروفون

الجزيرة

بالأتابكية «1» . [الجزيرة] وأما الجزيرة فإن سلاطين الأثوريين «2» تداولوها قبل الإسلام فعرفت بجزيرة أثور، وكانت الأكاسرة والأقاصرة يتجاذبون بلادها بينهم، وتغلب كل منهم على ما يلي بلاده، وعظمت فيها سلطنة بني حمدان «3» إلى أن انقرضت وتوارثوها سلاطين بني عقيل «4» إلى أن غلبت عليها السلجوقية، وأسندوا أمرها إلى أتابك أق سنقر، وكانوا يجعلون فيها أولادهم، والأتابكية لأق سنقر ومن بعده من ولده، فتوارثوها إلى أن كان منهم السلطان الأعظم محمود بن زنكي «5» ، وآل

الشام سلطنة جليلة

أمرها إلى أن ملكها بدر الدين لولو الملقب بالملك الرحيم «1» ، ولم تكمل له سلطنتها، ولكن معظمها له. [الشام سلطنة جليلة] وأما الشام فهي سلطنة جليلة، كان فيها خلفاء بني أمية، واجتازوها على غيرها، وقطب إمامتهم دمشق «2» ، وكان (ص 60) منهم من يسكن البرية كهشام «3» في

الرصافة «1» ، وسليمان «2» في مرج دابق «3» ، وتوالت عليها ولاة بني العباس، وعظم فيها سلطان بني طغج «4» الذين ملكوا الديار المصرية، وكذلك بنو طولون «5» ، وسيف الدولة بن حمدان «6» ، وكان سرير سلطانه حضرة حلب «7» ، وكان له معظم الشام لما ملك دمشق، ثم خرجت عن يده، وجرت بعده فتن، فلم تخلص السلطنة بكليتها لأحد إلى أن ملكها السلجوقية، ثم آل أمرها إلى أن

جزيرة العرب

استولى عليها السلطان محمود بن زنكي «1» ، ثم انضافت إلى البلاد التي استولى عليها السلطان الأعظم صلاح الدين «2» ، ولم تكمل بعده لسلطان إلى أن ملك معظمها السلطان الأعظم الناصر صلاح الدين ابن الملك العزيز ابن الملك الظاهر ابن السلطان الأعظم صلاح الدين «3» ، وملك من سلطنة الجزيرة مملكة ديار مصر. [جزيرة العرب] وأما جزيرة العرب فإنها قطعة عظيمة، الحجاز منها سلطنة ولكنها قليلة الخراج والعمارة، كثيرة البركة بالبيت الشريف، والنور المحمدي، زاده الله إشراقا وفيضا على أقطار الأرض، وقد كانت مقرا للخلفاء المرضيين رضي الله عنهم «4» ، والمدينة مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقطب الخلافة «5» ، وكان فيها من الطالبين للإمامة من هو مذكور في موضعه، والغالب فيها أن تكون مقسومة غير كاملة لسلطان من العلويين بل هي على ما يذكر.

واليمن سلطنة ثانية من جزيرة العرب «1» ، فيها كانت تبابعة العرب في الجاهلية، وسريرهم ظفار «2» وصنعاء «3» وسبأ «4» ، وتداولت عليها ولاة الإسلام، وكان فيها من الملوك الذين توزعوا (ص 61) ممالكها جملة، وكملت سلطنتها لبني زياد الدّعي «5» ، ودامت وكملت للصليحيين «6» والزريعيين «7» ، إلا أن يكون أحد المنتزين في قلعة أوجهة لا يخلّ بمعظم السلطنة وعظم فيها أمر بني

مهدي «1» ، وادّعوا الخلافة، وخطب بأمير المؤمنين، فكانوا من الخوارج، ومنهم أخذها السلطان الأعظم صلاح الدين، فصارت مضافة إلى بلاده، وآل أمرها إلى أن كانت للسلطان مسعود ابن السلطان الأعظم الملك الكامل «2» ، فورثها عنه نور الدين بن الرسول «3» ، وكان سريرها في مدة بني زياد مدينة زبيد، وفي مدة الصليحيين صنعاء وجبلة، وفي مدة الزريعيين الدّملوه، وفي مدّة المسعود تعز «4» وحضر موت سلطنة «5» ، ولكنها طويلة ضيقة ومتجاذبة البلاد من جيرانها، وكذلك الشحر «6» وعمان سلطنة أضخم وأنبه من حضر موت

وهجر سلطنة واليمامة

والشّحر «1» . إلا أنها تجتمع لسلطان واحد، لأن الخارج استولوا على جبالها، وتوارثوا هنالك دولتهم. [وهجر سلطنة واليمامة] وهجر سلطنة وتعرف أيضا بالبحرين «2» وأعظم دولة استبدت بها دولة القرامطة «3» دامت وورثت، ومن أصحابها من ملك الشام والحجاز ملك فتك ونهب، وأخبارهم هائلة. واليمامة سلطنة صغيرة، وقد كان اقتطعها بنو الأخيضر العلويون، وتوارثوا بها الإمامة «4» .

أذربيجان

وأما البلاد التي في شمال بلاد الشام والجزيرة فإنّ أنبهها ذكرا، [أذربيجان] وأعلاها لجهة الشرق أذربيجان، وهي سلطنة جليلة وكان فيها صيت عظيم لأبي الساج، وبنيه «1» وبني البهلوان «2» ، وكانت من البلاد التي ملكها السلجوقية، وكان سريرها مدينة المراغة «3» (ص 62) وأما البيلقان فسلطنة تجاورها «4» سريرها

أرمينية.. وبلاد الروم

مدينة شروان «1» . وأما باب الأبواب وما انضاف إليها من بلاد الخزر فسلطنة سريرها مدينة الباب «2» . وأما الراز فسلطنة سريرها برذعة وتفليس، وقد يضاف إليها البيلقان والباب. وهذه كلها جهات متقاربة قد غلب عليها التتر «3» . [أرمينية.. وبلاد الروم] وأما أرمينية «4» فسلطنة كبيرة سريرها خلاط «5» ، وكانت من البلاد التي انضافت

إلى بني أيوب رحمهم الله، وجرى فيها فتن كثيرة، وهي من بلاد التتر الآن. وأما البلاد المعروفة ببلاد الروم التي في شرقي الخليج القسطنطيني «1» فإن السلجوقية افتتحوها، وهي بأيديهم إلى الآن يعني ابن سعيد في زمانه، وأما الآن فهي للتتر، وسرير سلطنتها قونيه «2» وقيصرية «3» ، ويشركهم فيها ملوك الأتراك بكلد شتى ودلبى مختلف «13» يخاطبون بالإمارة، قال ابن سعيد: وفي شمال هذه البلاد من بلاد أصناف الخزر والترك والبلغار والصّقلب «4» ما ذكر في هذا الكتاب في أوله، ولم يكن فيهم مسلمون إلا البلغار، وقد وصل التتر إلى بلادهم. وفي الهند والصين، التي بأيدي الكفار ممالك كثيرة عامرة جليلة، وقد داخل التتر أهل الصين في بلادهم، وسلطنة التتر «5» طمغاج، وسريرهم قراقرم،

سلطنات المغرب الديار المصرية

ومعناه الرمل الأسود «1» . [سلطنات المغرب الديار المصرية] وأما سلطنات المغرب، فأولها مما بأيدي المسلمين الديار المصرية، وهي عظيمة في الجاهلية والإسلام، وكان يعرف سلاطينها في الجاهلية بالفراعنة، وكان سريرهم مدينة منف «2» ، وجاء الإسلام وسرير سلطانها المقوقس مدينة الإسكندرية «3» ، ومدينة مصر التي تعرف الآن بالفسطاط «4» ، والجهة القديمة منها معروفة عندهم، ودام السرير بها في الإسلام، وأعظم من ملكها بنو طولون، بنو طغج «5» ، ومنهم (ص 63) أخذها العبيديون الذين خطب لهم بالخلافة،

برقة وإفريقية

وصيروا القاهرة قطبا لإمامتهم «1» إلى أن أخذها منهم السلطان الأعظم الملك الناصر صلاح الدين فأبقاها سريرا لسلطانه «2» ، وكذلك من بعده إلى أن سكن السلطان الكامل قلعة الجبل «3» . [برقة وإفريقية] وتجاور الديار المصرية برقة وهي سلطنة طويلة قد استولت عليها العرب «4» ، وكان سريرها في القديم مدينة طبرق «5» ، وتليها إفريقية، وهي سلطنة شهيرة، كان

يقال لسلطانها في الجاهلية جرجير «1» ، وكان سريره مدينة سبيطلة «2» ، ومدينة قرطاجنة «3» ، وصار سريرها في الإسلام القيروان «4» ، ثم هي الآن مدينة تونس «5» ، وتوارث سلطنتها في الأول بنو عقبة القرشيون وتوارثها بنو الأغلب التميميون، وأخذها منهم عبيد الله المهدي الإسماعيلي «6» فتوارث بها الإمامة بنوه إلى أن رحل المعز العبيدي إلى مصر «7» ، فولى على إفريقية صنهاجة من برابر

إفريقية، وكان أعظمهم في الشهرة وحب الفضل المعز بن باديس «1» ، ثم أفسدت العرب سلطنته، ووزعتها بين ممالك، وبقي لابنه تميم المهدية «2» وما قرب منها، وتوارثها بنوه، وزال رسم السلطنة منهم إلى أن استولى عبد المؤمن «3» عليها فتوالت بها ولاته وولاة بنيه «4» ، وكان يحيى بن غانيه الميورفي الملثم يناكدهم فيها «5» ، إلى أن صفت للسلطان الأعظم الأمير أبي زكريا يحيى بن عبد الواحد بن أبي حفص «6» ، وقد أضافت إليها همته العليّة وسعادته العلوية بلادا من برقة،

ومن الجزر البحرية، ومن الغرب الأوسط ومن المغرب الأقصى ومن الأندلس، وسرير ملكه كان تونس، ويليها الغرب الأوسط، كان في صدر الإسلام قد (ص 64) أقطعه بنو رستم «1» ، وكانوا خوارج ادعوا الخلافة، وكان قطب إمامتهم مدينة تيهرت «2» إلى أن أزال أمرهم الشيعي القائم بدعوة العبيديين «3» ، ومن أعظم من ملك سلطنتها جعفر بن علي «4» الذي يمدحه ابن هاني الأندلسي «5» ، وكان

سريره مدينة المسيلة «1» ، قلت: ومن قوله فيه: [الكامل] المدنفان من البرية كلها ... جسمي وطرف بابليّ أحور «2» والمشرقات النيرات ثلاثة ... الشمس والقمر المنير وجعفر ثم نعود إلى تتمة كلام ابن سعيد، قال رحمه الله، وملكها بعد رحيل المعز العبيدي إلى مصر بنو حماد الصنهاجي «3» ، وتوارثوها وكان سريرهم قلعة حماد

سلطنة المغرب الأقصى

المنسوبة إلى جدهم «1» ، ثم صار مدينة بجاية «2» ، [سلطنة المغرب الأقصى] ويليها سلطنة المغرب الأقصى، وهو المعروف ببر العدوة، وهذه الجهة أعظم جهات المغرب لأنها ذات حواضر جليلة، وجبال مشحونة، وعرض وطول، وكانت قد اجتمعت للأدارسة، الذين خطب لهم بالخلافة «3» ، ثم اقتطع منها بنو مدران «4» مملكة سجلماسة «5» ، وحاكاهم غيرهم فاختل عليهم نظامها إلى أن صارت للعبيديين «6» ، وكان بنو أمية أصحاب الأندلس ينازعونهم فيها «7» ، وصفت

بلاد السودان

لأمير المسلمين يوسف ابن تاشفين «1» ، وكان سريره حضرة اغمات «2» فبنى حضرة مراكش، وانتقل إليها وتداول عليها ولده إلى أن أخذها منهم عبد المؤمن الذي خطب له بالخلافة «3» . [بلاد السودان] وأما بلاد السودان فأعظمها عندهم من جهة قواعد السلطنة أرض الحبشة «4» ، وسمة سلطانهم النجاشي وسريره مدينة جرمي وأرض علوه، وما ينضاف إليها سلطنة. [أرض النوبة والكانم] وكذلك أرض النوبة وسريرها دنقله «5» وأرض الدمادم الذين خرجوا على أصناف السودان، فأهلكوا بلادهم وهم يشبهون بالتتر، وكان خروج الفريقين في عصر واحد «6» .

جزيرة الأندلس ومن تولى عليها

وأرض الكانم «1» وما انضاف إليها من بلاد التكرور «2» سلطنة (ص 65) طويلة ضيقة على ضفتي النيل طولها أربعون يوما، سلطانها مسلم من ولد سيف ابن ذي يزن سلطان اليمن «3» . وأرض كفار التكرور سلطنة، ويليها من الأمم الكافرة إلى غانة إلى البحر المحيط مع طول النيل «4» . [جزيرة الأندلس ومن تولى عليها] وأما جزيرة الأندلس فهي قطعة عظيمة انقسمت على سلطنتين، سلطنة للمسلمين، وسلطنة للنصارى، فكانت سلطنة المسلمين من أولها عند الباب الذي يدخل منه إليها من الأرض الكبيرة مع الساحل الجنوبي، وكان السرير فيها قبل الإسلام إشبيلية وماردة وطليطلة «5» ، وفي الإسلام إشبيلية قليلا. ثم استقر

بقرطبة «1» ، وتوالت عليها ولاة بني أمية من المشرق «2» إلى أن ملكها عبد الرحمن ابن معاوية المرواني، وتوارثها بنوه، ثم خطب لهم بالخلافة «3» ، واستولى المنصور ابن أبي عامر على خلافة المؤيد المرواني، فلم يكن له أمر «4» ، وورث السلطنة عنه

سلطنات رومية والقسطنطينية

ابنه المظفر ثم الناصر بن المنصور، فقتل وانقرضت سلطنتهم «1» . ولم تجتمع بعد ذلك سلطنة الأندلس لغير خلفاء بني مروان إلى أن ملكها بنو عبد المؤمن «2» . ولما ثار عليهم المتوكل بن هود اجتمعت سلطنة الإسلام بها، ولم يشذّ عنه إلى مملكة بلنسية «3» وكورة طبيرة وما انضاف إليها فاستحق اسم السلطنة بمعظمها، ولما مات توزعها ملوك «4» . [سلطنات رومية والقسطنطينية] وأما الأرض الكبيرة ذات الألسن الكثيرة فهي سلطنات مختلفات كثيرة، كسلطنة روميّة والقسطنطينية، وسلطنة البنادقة «5» ، وسلطنة الأنكبردا «6» وسلطنة الباشقرد والإسلام كثير في هذه السلطنة «7» .

الجندية في المشرق والمغرب رجالها عتادها وما يتبع ذلك وعطاؤهم

[الجندية في المشرق والمغرب رجالها عتادها وما يتبع ذلك وعطاؤهم] قال ابن سعيد وأما الجنديّة فإنها في المشرق أرفه وأضخم، وفي المغرب أضبط وأنجد وذلك (ص 66) أنّ القاعدة لهم في الشرق، وبمثل ما شاهدته في حلب «1» فقد أجمع المسافرون على رفاهية جندها، وضخامتهم أن يكون للفارس الواحد من عامة الفرسان فرس يركبه، وفرس يركبه غلامه وبنده «2» في يده، وفرس يجنبه «3» إلا لجندي حظيّ ذي همة «4» . وأكثر الجند عندنا بالأندلس أن يكون للجندي فرس يركبه، وفرس يركبه الذي يحمل سلاحه، وفي برّ العدوة الحال أخف من ذلك، أكثر جند إفريقية والمغرب الأوسط والمغرب الأقصى لا يكون للواحد منهم إلا فرس واحد، ويكون فارس الأندلس مدرّعا «5» ، وإن كان ذا همة وقدرة يكون لفرسه درع، واعتماده على الرمح الغليظ الطويل، والترس على عادة النصارى الذين يقاتلونهم. ولا يكون مدّرعا من فرسان البربر إلا أولو الهمة والقدرة، ولا يقاتلون بترس ولا رمح طويل غليظ، بل بالسيوف والأرماح الخفيفة يزرقون «6» لها زرقا عجيبا، لا يكاد يخطئ، ويكون لهم بدل التراس «7» درق «8» تصنع في المغرب من جلد حيوان يعرف

باللمط «1» تنبو عنها السيوف والرماح وأكثر السهام. وفرسان برّ المغرب البربري أحسن تصرفا على الخيل من فرسان البر الأندلسي، لأن الأندلسي يثقله الترس والرمح الطويل الثقيل والدرع، فلا يستطيع التصرّف، وإنما يحرص على الثبات، وأن يكون مثل الجوشن «2» على فرسه، وربما كان له في السرج مخاطيف «3» ينشبها في وسطه حتى لا يسقط إذا طعن. وسروج جند الأندلس عالية المؤخر حفظا من الطعن، وليست كذلك سروج البربر. وركاب «4» الأندلسي طويل، وركاب البربري قصير، والأمير عندهم (ص 67) في المشرق يباح له ضرب الطبول، ولا يباح ذلك في المغرب إلا لمن يلي مملكة، أو من يحلّ محله من عظماء قواده. والأمير في المشرق يكون له في خاصته ما لا يكون للقائد في المغرب لجميع جماعته، فقد سمعت أنه يكون للأمير بحلب في خاصته ما لا يكون ذلك للقائد وجميع جماعته ثمانون ألف درهم في السنة. والجندي في المشرق يحتاج أن يكون معه رأس مال من خيل وعدة. والأمير في المشرق تلزمه كلفة عظيمة من مدّ السماط «5» بالطعام في كل

يوم، والتجمل الكبير في الثياب الحريرية الرفيعة، ويكون معه في السفر خزانة لأمور الطبخ، وخزانة للأسلحة، وخزانة للفرش وآلات اللباس، وإن كان ذا همة كان معه من أنواع الأشربة والمعاجن والترياق «1» . ويكون له مملوك يحمل معه بقجة «2» للباسه، ويكون وراءه، وكذلك مملوك آخر يحمل على رأسه السلاح. والفضيلة في جميع هذا تتبين للمشارقة على المغاربة. ثم قال ابن سعيد أيضا: وإنما قلت إنّ جند المغرب أضبط وأنجد لأنهم في نهاية البعد عن الراحة والذم للرفاهية، وخصوصا الأندلس، يصيخون «3» لداع كلما سمعوا شعار الحركة بادروا، ومن أقام «4» مقدارا يزيد على العادة عوقب أشد العقاب، وربما أحل ماله ودمه، ويقيم الواحد منهم في الحصن الواحد عشر سنين وأكثر وأقل، لا ناصر لهم إلا سلاحهم، ومنعة قلعتهم، لا يسأمون الحصار، ولا يتذللون للغلبة. قلت: لو استحيا هذا الفاضل لما ذكر مع فخامة جند الشرق جند الغرب إلا أن جعل مصر كما قرر من الغرب، وما ذكر ذلك ههنا، ولو احتاج هذا إلى مؤاخذة له، وإقامة دليل عليه لو اخذته وأقمت الدليل عليه، ولكنه أوضح من النهار الشارق، وأظهر من الجبل الشاهق. والله لقد كان عند أمير من أمراء الدولة الناصرية بمصر مملوك محظيّ، أخبرت أن عنده ثمانين عليقة «5» ،

وكان عند أمير آخر مملوك محظي أخبرت أن عنده أربعين عليقة، فأما قوله: إن للأمير ثمانين ألف درهم في السنة لخاصتة فقول حق. ولكن أين هو عما بلغ خواص الأمراء عندنا، بما يزيد خاص الرجل منهم في السنة عن مائتي ألف دينار مشية «13» كما كان لبلمر الساقي، وقوصون وبستاك «14» ، وأما من دون هؤلاء فعدد جم لهم الخواص الكثيرة، منهم من يزيد خاصه على مائة ألف دينار ومنهم من ينقص، فأما من له ثمانون ألف منهم فمن لا يرمق بطرف ولا يرمى بالتفات. فأمراء الممالك الهولاكريتيه «1» فلرأيناهم «15» البحور التي لا تدرك أعماقها، والخزائن التي لا ينفد انفاقها. فأما الهند فعلى قدره وكفى قولنا هذا في تعظيم أمره «2» .

الوزارة

وأما قوله: إن الأمير يكون له مملوك يحمل لباسه، ومملوك يحمل سلاحه، فكلام قاله على ما رأى أو ظن، فأما أمراؤنا فمنهم من ملك ثمانمائة مملوك ثم كل على قدره. [الوزارة] قال ابن سعيد: وأما الوزارة فالسفاح أول من استوزر بالمشرق «1» وهي بها أعظم من المغرب، كأن الوزير نائب للخليفة أو الملك «2» (ص 68) . قلت: وهذا مما لا تفاضل فيه، فإن وزراء الغرب لو جمعوا أولهم وآخرهم، وباقيهم وغابرهم ما جاؤوا بواحد من مشاهير وزراء الشرق، ولا أقول هذا إلا بحق، وسأذكر من هؤلاء وهؤلاء ما يعرف به القول الصدق، ليعلم من أجال في هذا المكان نظره، وحقق منه خبره، في أي القطرين الوزراء الذين تفتقر إليهم الدول، ويقتصر عليهم الأمل، وتقرطس «3» إلى الغايات سهامهم، وتقرطق «4» بجليّ التصرّف أيامهم، ويفسح ديمهم «5» نوالا، وتشمخ همهم بما بعد منالا، قد أرغمت أقلامهم معاطس «6» الرماح حتفا، وأحرجت صدور السيوف وأغصّتها شرقا، فاحتاجت الملوك إلى مؤازرتهم، واحتالوا على إدناء مجالسهم ومزاورتهم، وكان منهم أرباب سيوف وأقلام ماضية، وبالبؤس والنعيم قاضية، وترفعوا عن رتبة

الكتاب بالمشرق

الوزارة إلى الملك والإمارة «1» ، وخرجت التواقيع تارة عنهم، وتارة مطرزة من أسمائهم بالإشارة، فبلغوا مبلغا عظيما، وحكموا في الممالك حكما عميما. ومنهم من أعطى الأقاليم، وأمطى المعاقل «2» ووهب الجسيم، واستأثروا دون الخلفاء والملوك، ببعد السمعة والصيت، وحجتهم الوفود، ووقتت إليهم المواقيت، وقبلت لديهم الأرض، وشرّفت حصباءها «3» على الدرّ واليواقيت، ومدحتهم الشعراء بغر القصائد «4» ، ونصبت على سوانح جودهم أشراك المصايد، وتناقلت الرواة سيرهم، ودونت تواريخهم واستكفت غيرهم، وكانوا مصابيح صباحه ومجاديح «5» سماحه، ومفاتيح أبواب الرزق والراحة، وكان منهم قادة جنود كثر، وجيوش دثر (ص 69) . [الكتاب بالمشرق] وأما الكتّاب بالمشرق ففيهم من يندى قلمه غضاره «6» ، ويبدي كلمه كالروض المبتل نضاره «7» ، ويتلقف من أفواههم سحر الكلام، ويلتقط من

جاء في المتأخرين من لم يرض طرق المتقدمين

أشباههم نجوم الظلام، ما منهم إلا من إذا كتب كبت «1» الصفايح، وكبت «2» وراءه القرائح، يحيد متسرعا، ويجيء بالدر، ولا تلقاه عما للناس إلا متورعا، يخرج زهره من أكمامه «3» ، وتخلف زهره النهار إذا وازاه جنح ظلامه، أو جناح غمامه. [جاء في المتأخرين من لم يرض طرق المتقدمين] وقد جاء في المتأخرين منهم من لم يرض طرق المتقدمين، ولم يرض جامح فكره حتى يلين، بل جاء بما هو أرق من النسيم نفسا، وأعذب مما ذاب في كؤوس الثغور لعسا «4» ، وتفنن «5» في الأساليب، وحكى ملحمة حرب ولا يظن سامعه إلا أنه فصل غزل أو نسيب «6» ، مع إحكام المعاني، وإتعاب من لها يعاني، واستيفاء شرط المعركة، وحظ شواجز «7» الرماح المشتبكة، لكن يكسوها من حلل ألفاظه ما يوهم السامع أن الحماسة غزل، وأن الأجفان «8» الأجنان «9» ، والسيوف

المقل «1» ، فيفيدها حلاوة من نطف «2» ألفاظه العذاب، ولطف بدائعه التي تبدو في فيه كأنها الأري المذاب «3» ، واخترعوا أنواعا من البديع زادت كلامهم رونقا، ونشرت منه روضا مؤنقا، وجرت من ينابيع خواطرهم سلسلا متدفقا، وسيلا سبق ارتداد الطرف وكأنه جاء مترفّقا، وأتوا في هذا بما لا قدرت عليه الأوائل، وربّما أتي لهم وما أتوا فيه بباطل، وإن كان أصل ما جاء للمتأخرين مما غبر، فإن السيوف تجز الرقاب، وتعجز عما تنال الإبر، وكذلك إذا نظرت بعين المنصف، واطرحت هوى النفس لا تجد للمغرب لدى المشرق يدا في (ص 70) فضل ولا باعا في علياء، وإن كنت قد ذكرت هذا مجملا فأفصله، أو مبهما فسأبينه، ولله عليّ أن لا أعدل عن سراط «4» الحق السوي، ولا أنكب «5» عن قصد الإنصاف الأمم «6» ، ولا أدعي ذلك في الأفراد بل في الجملة، ولا في الجزء بل في الكل، وبالله أسترشد، ومنه أسأل الإعانة، ثم إني لا أقصر ما وجدت طلقا ممتدا، إلا إذا خشيت أن أملّ، ولا أطيل ما رأيت إيجازا مغنيا إلا إن خفت أن أخل، وها أنا أقول: إن الذي يعرف به التفاضل منحصر في الحيوان، والنبات والمعدن، وأشرف الحيوان الإنسان، وهو طبقات متفاوتة، أعلاها ذروة الأنبياء عليهم

الصلاة والسلام، ثم من بعدهم أصحابهم، ثم الناس أشباه، وإن تفاوتت درجاتهم، وتباينت أقدارهم، لا يفضل فيهم إلا العلماء، الذين هم ورثة الأنبياء، والنفع بهم أعم من الأولياء. فأما الأنبياء صلوات الله عليهم فقد تقدّم ما فيه كفاية من تقرير شرف المشرق بهم، وشرّف المغرب بسببهم، إذا كان بالمشرق مواضعهم ميلادا، ومباعثهم أحياء، ومدافنهم أمواتا، إلا من كان بمصر أو دخل إليها ممن ليس من أهلها، ثم خرج منها على ما بين فيما تقدم ببعض تفصيل فيه غنى «1» ، وكذا الشأن في الصحابة الفائزين بفضل السابقة، وقد مضت في هذا لمع أو مضت أشعتها «2» ، ومضت وبقيت في الآذان سمعتها، ولو عدلوا بنظير في المغرب لذكرناهم، فإذ لم يكن فلنضرب عن ذكرهم صفحا، ولنكن لهم دون منبلج «3» الليل صبحا، اللهم إلا من لزم ذكره مع طائفة لم يكن من ذكره معهم بدّ، ولا لسيل هذا التصنيف عنه مردّ، فإن انتصر منتصر للغرب فقال: لا يلزم من عدم الاطلاع على أن من الغرب أنبياء أنه لم يكن به أنبياء لقوله تعالى: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ «4» ومن المحقق أن الغرب لم يزل فيه أمة بعد أمة. فالجواب: إنه ليس في الآية ما يدل على ذلك، لأنه تعالى قال: (خلا فيها نذير) ولم يقل منها التي هي للتبعيض، ليكون النذير من أمة الغرب، كما هو في قوله تعالى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ «5» بمن التي هي للتبعيض، وقد قرأ بعض

القراء من أنفسكم، بفتح الفاء «1» ، فأفاد أن منهم من أشرفهم، فاحتمل أن يكون النذير فيها، وليس منها، ويبقى أن يكون النذير الذي فيها منها موقوفا على النقل، ولم نعلمه، فهذا أمر الأنبياء بالجانب الغربي، وأما من بعدهم فأعلاهم كعبا «2» القراء، ثم أهل الحديث (ص 71) الشريف، ثم الفقهاء ثم أهل اللغة، ثم أهل النحو، ثم الفقراء، أصحاب القلوب «3» ، ثم الحكماء وهم أصحاب العلوم الثلاثة، والوزراء والكتاب، والخطباء والشعراء، والأذكياء وعقلاء المجانين، والحمقى والمغفلين، وها أنا ذاكر لهم في كل من قسمي المشرق والمغرب، على هذا الترتيب، وأسوقهم زمرا للدخول في هذا التبويب، وآتي بمشاهيرهم، جاهلية وإسلاما، وأمواتا وأحياء إلى عصرنا التي بدأت شمسه تجنح، وآن لبحر الليل على نهر نهاره أن يطفح، وحان للثور الحامل للدنيا أن يلقى قرنه «4» ،

ولإسرافيل الموكل بالنفخ في الصور أن يلقم قرنه، وللجديدين «1» أن يخلق ثوباهما، وللخافقين أن يلتقي جانباهما «2» ، وللأفق أن ينزع سواره من معصمه، وللشفق أن ينضح بماء الصباح ما تلطخ به ثوبه من دمه، ولقد كان لي بانتظار الأجل القريب «3» شغل عن زخرف القول الذي فيه تعليل لباطله، وتشقيق الكلام الذي فيه تعليق اللسان بحبائله، بل اللهم فيما أثبته ذكرى لمصارع الأموات، وبمواقع الصائد المجدّ في مصائد المنون، وقد ظنّ أنه قد سبق به الفوات، وإذ قد عرّضت عرضي بهذا التأليف هدفا لسهام الألسنة الراشقة «4» ، ودريئة «5» لرماح الطعن الماشقة «6» ، وسمحت به طرفة لكل خاطف، وثمرة لكل قاطف، ينهبه كل ناهب، ويذهب به كل ذاهب، وأقدمت على هذا البناء العظيم، ورعيت في هذا الكلام الوخيم، وهجمت على هذا الملأ، الذي لا أكاد أثبت معرفة واحد من أمه، ولا أميز صفه ذا غرة «7» من دهمه «8» ، واقتحمت هذا البحر وأنا أعرف خطره، ودخلت هذا البر وأنا أجهل خبره، قل هو نبأ عظيم أنتم عنه معرضون، فها قد رهنت بما قلت كلامي، وحاللت بما قالوا لوامي، وركبت الغمرة وأنا لا أعرف أسبح، وسريت الليل وأنا لا (ص 72) أدري فجره أين

أصبح، على أنني أرغب إلى من أعازه أدنى تأمل، أن يكشف ليتبين أتيت صوابا أم خطأ، وأصالة أم خطلا، فو الله ما قصرت جهد المقدرة، ولا فعلت إلا فوق الطاقة إن قبل مني المعذرة، وقد دخل في ذيل الحكماء أرباب الكلام وأصحاب الموسيقا، واشتمل ثوب الأدباء على أعيان الوزراء. وعيون الكتاب والخطباء والشعراء، وقدمت الكتاب على الخطباء، لأن الكاتب لو شاء جرّد من نفائس تقاليده ومناشيره «1» وتواقيعه «2» دواوين خطب، وأفانين «3» تهز بجذع منبره بها من خطب، والخطيب قد لا يقدر على إنشاء رسالة واحدة، وكذلك أرباب المقامات «4» التي لو حقق ما وضعت له لم يكن فيه كبير فائدة. ثم أذكر بعد نوع الإنسان سائر الحيوان، ثم النبات، ثم المعدن، ناقلا له من كتب الأطباء والعشابين مصورا لما قدرت على تصويره منه، محررا له بغاية الإمكان، بعد أخذ

مشاهير قراء المشرق

رأي أرباب هذا العلم فيه. ثم طاف بنظره في كتابنا هذا في الجانبين، وكمل دورة المشرقين والمغربين، رأي الشرف لمكانه والفضل لأهله، وهذا أوان الشروع، وبالله التوفيق. مشاهير قراء المشرق «13» [مقدمة] والبداءة بالقراء: وبدأنا بالقراء لشرف القرآن العظيم، ولما تضمنه من الآيات والذكر الحكيم، وإذ لا ترى إلا حائما على معينه، وهائما به، وما رأى أعين عينه «1» ، ومغري شغفا بسبب تنزيله «2» ، ومغرما «3» كلفا «4» بطلب تأويله، ومحتجا به لحقه، وآخر- وحاشاه- لأباطيله. هذا وما رابهم من ليلى الغداة سفورها ولا راعهم وراء الحجب ستورها بل أضحت لهم سافرة القناع، بارزة على يناع «5» ، وضوح معنى، ونزوح معنى، تستنبط منه هذه الأمة على اختلاف فرقها، وتستنسل منه الأدلة أجنحة طرقها، لا تجد إلا من يرد حياضه المتأنقة «6» (ص 73) ويجمع بين ضوالّه المتفرقة، ويصل

أعضاءه الموزعة وأشلاءه الممزقة، حتى فرق الخلاف للفرار من الاختلاف، لا ترى إلا من يدلي منه بدليل، ويصحح قوله الممرض منه بتعليل. (ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة، أليس في جهنم مثوى للمتكبرين) ، وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ «1» ، وهذا القول وحسبك. قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ . «2» واعلم أن بشرف القرآن العظيم شرف أهله، وتقدمهم تبع لفضله، وهم حملته البررة ونقلته وصدورهم له صحف مطهرة، وإذ هم حفظته هم به محفوظون. قال الله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ «3» وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) «4» . وقال: (ليس منا من لم يتغنّ بالقرآن) «5» فجعلهم منه. وهذا إلى ما لا يحصى مما جاء فيهم، وورد في فضلهم، وها نحن نذكر مشاهير قرّاء المشرق، حتى نتبع الأموات بالأحياء، ثم نتبعه بمثله في مشاهير قراء المغرب، وبدأنا بأبيّ بن كعب لأن منه زخر عباب هذا البحر الخضم، وإلى كنف الأخذ عنه أكثر القراء انضم، لقد فخر به المشرق حتى جر جلبابه خيلاء، وتهلل

1 - أبي بن كعب بن قيس بن عبيد بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك ابن النجار أبو المنذر الأنصاري

حتى أشرق وجهه «1» لألاء، وكذا بقية القراء السبعة، الذين آل إليهم التقصي، وانتهى الطلب المستقصي، ولقد أشرت إليهم في قول لي وهو «2» : (ص 74) ثم على نحو هذا يكون الشأن في ترتيب أمثالهم في هذا القسم حتى ننتهي بعون الله إلى آخره، وتقف على ساحله، لا تبالي لخوض زاخره، وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله، ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب. 1- أبيّ بن كعب بن قيس بن عبيد بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك ابن النجار أبو المنذر الأنصاري «3» أقرأ الأمة، وأرقأ «4» القراء رتبة، جلت ببدر الظلمة، شهد يومها المعلم، وكان ممن نفر يريد عير قريش مع النبي صلى الله عليه وسلم، حتى نصر الله نبيه، وأظهر معه من أبي أبيه، شرف بما عارضه به رسول الله صلى الله عليه وسلم من القراءة «5» . وشرع له في القراءة البدآاه «6» . وله سابق الصحبة، وسامق الرتبة من الأنصار الذين تبوءوا الدار والإيمان، وضمنوا النصر، وبذلوا نفوسهم في الضمان يحبون من هاجر إليهم، ويحبون إخوانهم بمشاطرة ما في يديهم، فعل من أحبّ الله وأحبّه، (رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه) . «7» عرض القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذ القراءة عنه عبد الله بن عباس، وأبو هريرة، وعبد الله بن السائب، وعبد

الله بن عياش بن أبي ربيعة، وأبو عبد الرحمن السلمي «1» . وحدث عنه سويد ابن غفلة، وعبد الرحمن بن أبزى وأبو المهلب وآخرون. شهد بدرا والمشاهد كلها، ومناقبة كثيرة، وكان ربعة من الرجال، شيخا أبيض الرأس واللحية «2» . روى أبو سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أرحم هذه الأمة بها أبو بكر، وذكر الحديث، وفيه (وأقرأهم لكتاب الله أبي بن كعب) «3» . وروى أبو قلابة مرسلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (ص 75) قال: (أقرؤهم أبي بن كعب) «4» وقال ابن عباس قال عمر: (أقضانا علي، وأقرؤنا أبي) «5» . وعن أنس أن صلى الله عليه وسلم قال لأبيّ: (إني أمرت أن أقرأ عليك، وفي لفظ (أن أقرئك القرآن. قال: الله سماني لك؟ قال: نعم. فبكي أبي) «6» . وقال أبو المهلب: كان أبيّ يختم القرآن في ثمان، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيّ آية معك في كتاب الله أعظم؟ قال: الله لا إله إلا هو الحي القيوم. فقال: ليهنك العلم أبا المنذر) «7» . وقال عمر يوم موت أبي: اليوم مات سيد المسلمين «8» . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (استقرءوا القرآن من أربعة: عبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وسالم مولى أبي حذيفة) «9»

2 - ومن أعلام القراء أبو عبد الرحمن السلمي مقرئ الكوفة

وتوفي أبيّ بالمدينة. قال ابن معين سنة عشرين أو تسع عشرة، وقال الواقدي وابن نمير والترمذي، وغيرهم سنة اثنتين وعشرين «1» . 2- ومن أعلام القراء أبو عبد الرحمن السلمي مقرئ الكوفة «2» واسمه عبد الله بن حبيب بن ربيعة، ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ووجد له ما يحق له أن يتقدم، لقي جلّ الصدر الأول حتى كاد يعدّ منهم «3» ، وصدر ريان «4» بما روى عنهم، قراءات «5» تلقى عنهم حفظها، وتلقن منهم لفظها، عرضها مكررا، وعرفها تدبرا، بحسن إيراد كأنه جني النحل المشار «6» ، وذكاء فهم كأنه ذكاء الشمس «7» ، ولهذا كان مثل عثمان «8» إذ سئل عن شيء إليه أشار. قرأ القرآن وجوّده وبرع في حفظه، وعرضه على عثمان وعلي وابن مسعود، وأبي بن كعب وزيد بن ثابت وحدث عن عمر وعثمان. وأخذ عنه القراءة عرضا

عاصم بن أبي النجود، ويحيى بن وثاب وعطاء بن السائب، وعبد الله بن عيسى بن أبي ليلي، وأبو عون محمد بن أيوب الثقفي والشعبي وإسماعيل بن أبي (خالد) خلد، وعرض عليه الحسن والحسين، وقال أبو مرثد تعلم أبو عبد الرحمن (ص 76) السلمي القرآن من عثمان، وعرضه على علي، قال أبو إسحاق السبيعي: كان أبو عبد الرحمن يقرئ الناس في المسجد الأعظم أربعين سنة. وقال سعد بن عبيد: أقرأ أبو عبد الرحمن في خلافة عثمان إلى أن توفي في إمرة الحجاج. وقال أبو عبد الرحمن أخذنا القرآن عن قوم أخبرونا أنهم كانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يجاوزوهن إلى العشر الآخر حتى يتعلموا ما فيهن، فكنا نتعلم القرآن والعمل به، وإنه سيرث القرآن بعدنا قوم يشربونه شرب الماء لا يتجاوز تراقيهم، بل لا يجاوز ههنا، ووضع يده على حلقه «1» . وجاء أبو عبد الرحمن إلى بيته فوجد فيه جلالا وجزرا، فقال: ما هذا؟ قالوا بعث بها عمرو بن حريث لأنك علمت ابنه القرآن. قال: ردوه إنا لا نأخذ على كتاب الله أجرا «2» . وروى أبو عبد الرحمن عن عثمان أن النبي (قال: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) «3» قال أبو عبد الرحمن فذلك الذي أقعدني هذا المقعد. وقال إسماعيل ابن أبي خالد: كان أبو عبد الرحمن: يعلمنا القرآن خمس آيات، خمس آيات «4» . وقال أبو عبد الرحمن خرج علينا علي بن أبي طالب وأنا أقرئ، وكان أبو عبد الرحمن يسأل عثمان عن القرآن، وكان ولي الأمر، فشق عليه، فقال:

3 - مجاهد بن جبر الإمام

إنك تشغلني عن أمر الناس، فعليك بزيد بن ثابت «1» ، فأقبلت على زيد فقرأت القرآن عليه ثلاث عشرة سنة «2» ، وقال أبو عبد الرحمن: حدثني الذين كانوا يقرئوننا: عثمان وابن مسعود وأبي بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرئهم العشر فلا يجاوزونها إلى عشر أخرى حتى يتعلموا ما فيها من العمل «3» . وقال عطاء بن السائب: دخلنا على أبي عبد الرحمن نعوده، فذهب بعضهم يرجّيه، فقال: أنا أرجو ربي قد صمت له ثمانين رمضانا. «4» وحديثه مخرج في الكتب الستة. توفي سنة أربع وسبعين، (ص 77) وقيل سنة ثلاث وسبعين، وقيل في إمرة بشر «5» على العراق، وقيل في أوائل ولاية الحجاج، والله أعلم. وأما قول بن قانع مات سنة خمس ومائة فغلط «6» . ومنهم 3- مجاهد بن جبر الإمام «7» أبو الحجاج المكي «8» المقرئ المفسر أحد الأعلام والمتقدمين من قرّاء الإسلام،

وأهل الرواية في حديث النبي عليه أفضل الصلاة والسلام، وممن يؤخذ عنه أسرار التنزيل، وحقائق التفسير بالنقل لا بالتأويل. بحر أخذ عن حبر الأمة علما جما غير قليل، وراو عن ابن عباس هو في سلسلة الذهب، كعب من كعابها أو قنديل. قرأ على ابن عباس، وروى عن عائشة وأبي هريرة. وسعد وعبد الله بن عمرو وجماعة من الصحابة. وقرأ عليه ابن كثير وأبو عمرو وابن محيصن وغيرهم. وحدث عن قتادة والحكم وعمرو بن دينار وخلق، وجاء عنه أنه قرأ القرآن على ابن عباس ثلاثين مرة «1» . والذي صح عنه أنه قال: عرضت القرآن على ابن عباس: ثلاث «2» عرضات، أقفه عند كل آية، أسأله فيما نزلت وكيف كانت «3» . وروى عنه أبو مرثد أنه قال: ختمت القرآن على ابن عباس تسعا وعشرين مرة. قال قتادة: أعلم من بقي بالتفسير مجاهد «4» ، وقال سلمة بن كهيل: كان مجاهد ممن يريد بعلمه الله. وتوفي سنة ثلاث ومائة، وقد نيّف على الثمانين «5» .

4 - عبد الله بن عامر بن يزيد بن تميم بن ربيعة

ومنهم 4- عبد الله بن عامر بن يزيد بن تميم بن ربيعة «1» أبو عمران اليحصبي، إمام أهل الشام في القراءة، وأحد السبعة، لكن تقدمت وفاته، فحصلت به البداءة. قرأ القرآن وأمّ به، وحكم فقضى بموجبه، ونظر في أمر جامع دمشق حين أمر ببنائه، فشيد بناءه، وصرف إليه اعتناءه، ثم كان رئيسا به «2» ، لا يرى فيه بدعة إلا غيرها، ولا ثغرة إلا عمرها، وولد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففاز ببركة ذلك (ص 78) المولد «3» ، ونشأ بين ظهراني الصحابة رضي الله عنهم في كرم المحتد، فأمسى وفضله تقصّ آثاره ولا يستقصى، وأصبح وبه شرف يحصب لا يحصى «4» . قال خالد بن يزيد المري: سمعت عبد الله بن عامر يقول: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولي سنتان، وانتقلت إلى دمشق ولي تسع سنين، وقرأت على معاذ وأبي الدرداء، وقرأت على معاوية ووائل بن الأسقع وقرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم «5» . وقيل إنه عرض على عثمان،

وقيل لم يقرأ عليه بل سمع قراءته في الصلاة «1» ، وذكر الأهوازي «2» في الإيضاح في قراءة ابن عامر اثني عشر قولا، وروى يحيى بن الحارث عن ابن عامر أنه عرض على أبي الدرداء، وهو خبر غريب، وعليه اعتمد أبو عمرو الداني وغيره في قراءة ابن عامر على أبي الدرداء «3» . والذي عند هشام وابن ذكوان والكبار أن ابن عامر إنما قرأ على المغيرة المخزومي عن عثمان، وهذا هو الحق «4» .

5 - عبد الله بن كثير بن عمرو بن عبد الله بن زاذان أبو معبد الكناني الداري المكي

وذكر الأهوازي في الإيضاح ستة وأربعين نفسا أخذوا القرآن عن ابن عامر «1» . ولي ابن عامر قضاء دمشق بعد أبي إدريس الخولاني وكان على نظر جامع دمشق. وقال يحيى بن الحارث: كان ابن عامر قاضي الجند، وكان رئيس المسجد لا يرى فيه بدعة إلا غيره «2» . وقال الهيثم بن عمران كان رأس المسجد بدمشق زمن عبد الملك، ومن بعده عبد الله بن عامر. وكان يغمز في نسبه «3» ، فجاء شهر رمضان فقالوا: من يؤمنا؟ فذكروا المهاجر بن أبي المهاجر، فقيل ذلك مولى ولسنا نريد أن يؤمنا مولى. فبلغت سليمان بن عبد الملك، فلما استخلف بعث إلى المهاجر فقال: إذا كان أول ليلة من رمضان فقف خلف الإمام فإذا تقدم ابن عامر فخذ بثيابه واجذبه وقل له تأخر فلن يتقدمنا دعيّ، وصلّ أنت يا مهاجر ففعل «4» . توفي ابن عامر سنة ثمان عشرة ومائة «5» . (ص 79) ومنهم 5- عبد الله بن كثير بن عمرو بن عبد الله بن زاذان أبو معبد الكناني الداري المكي «6»

مولى عمرو بن علقمة الكناني «1» ، إمام المكيين في القراءة، أصله فارسي إلا أنه عجميّ أتقن الكتاب العربي حفظا وأداء. وأجاد فيه قراءة وإقراء، وكان بمكة المعظمة إمام حرمها، وغمام كرمها، وتصدر لإقراء القرآن الكريم في أول بقعة نزل بها، وصدع بنوره جنح غيهبها «2» ، فامتد بها مشرعة «3» حيث نبع، وتلألأ في جوانبها فجره حيث انصدع، وكان حول الكعبة البيت الحرام مدارس آياته، ومدار منطقته حلق «4» جماعاته، لوجيء إلى زمانه جدّه زاذان لا زدان «5» ، وحل محل سيف يزن «6» في غمد غمدان «7» . قرأ على عبد الله بن السائب المخزومي ومجاهد ودرباس مولى ابن عباس «8» ، وتصدر للأقراء، وصار إمام أهل مكة في ضبط القرآن. قرأ عليه أبو عمرو بن

العلاء، وخلق «1» . قال سفيان رأيته يخضب بالصفرة، ويقصّ للجماعة، وكان فصيحا بليغا مفوها، أبيض اللحية، طويلا جسميا، أسمر أشهل العينين، عليه سكينة ووقار «2» ، وكان داريا بمكة وهو العطار. وهو من أبناء فارس، الذين بعثهم كسرى إلى صنعاء، فطردوا عنها الحبشة «3» . قال سفيان بن عيينة حضرت جنازة عبد الله بن كثير سنة عشرين ومائة. وقال ابن سعد سنة اثنتين وعشرين، وقيل عاش خمسا وسبعين سنة «4» . وبعض القراء يغلط ويورد هذه الأبيات لعبد الله بن كثير «5» : [المتقارب] بنيّ كثير كبير الذنوب ... ففي الحلّ والبلّ «6» من كان سبّه وإنما هي لمحمد بن كثير أحد شيوخ الحديث بعد المائتين، والله أعلم «7» . ومات شيخه عبد الله بن السائب بعيد السبعين، وقد قرأ على أبي بن كعب، وقرأ مجاهد على ابن عباس.

6 - يزيد بن القعقاع أبو فرج القاري أحد العشرة

(ص 80) ومنهم 6- يزيد بن القعقاع أبو فرج القاري أحد العشرة «1» مدني مشهور «2» ، رفيع الذكر قرأ على مولاه المخزومي وفاقا، وعلى أناس آخرين ممن أنس منهم إشفاقا. وصلى بابن عمر إماما اتفاقا «3» ، أقرأ دهرا، وعمر ثاني المساجد «4» عمرا، وحلى أطراف آنائه بسبح تسابيحه، ونور جباه محاريبه، بأزهى من مصابيحه، وقرأ القرآن كما تلقاه عن النبي صلى الله عليه وسلم على ضريحه. وكان إذا جلس يقرئ القرآن الكريم أمال له رأسا، ولقي منه أمنة نعاسا، وكان يتحيل بأنواع الحيل لطرد طارق كراه «5» الملم لينفضه عن هدبه «6» ، ويرحضه لينقي دنس تغطيته على قلبه. ويحرص ولا يجد سبيلا إلى تمزيق ما خاطه النعاس وعلى جفنيه، ويجهد في نزع مخيطه، ولا يقدر عليه. قرأ القرآن على عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي وفاقا، وقال غير واحد قرأ أيضا على أبي هريرة وابن عباس «7» عن قراءتهم عن أبي ابن كعب،

وصلى بابن عمر. وحدث عن أبي هريرة وابن عباس «1» ، وتصدى لإقراء القرآن دهرا فورد أنه أقرأ القرآن في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم من قبل وقعة الحرة، وكانت الحرة «2» سنة ثلاث وستين، وأنه كان يمسك المصحف على مولاه عبد الله بن عيّاش «3» ، وأنه أتي به إلى أم سلمة وهو صغير، فمسحت رأسه، ودعت له بالبركة «4» ، وكان يقوم الليل، فإذا أصبح جلس يقرئ الناس، فيقع عليه النوم، فيقول لهم خذوا الحصى فضعوه بين أصابعي، ثم ضموها، فكانوا يفعلون ذلك، وكان النوم يغلبه، فقال: أراني أنام على هذا، فإذا رأيتموني قد نمت فخذوا خصلة من لحيتي فمدوها، قال: فيمر عبد الله بن عياش مولاه فيرى ما يفعلون به، فيقول: أيها الشيخ ذهبت بك (ص 81) الغفلة، فيقول أبو جعفر: إن هذا الشيخ في خلقه شيء دوروا بنا وراء القبر موضعا لا يرانا «5» . وقال سليمان بن مسلم «6» رأيت أبا جعفر القاري على الكعبة «7» ، فقلت: أبا جعفر. قال: نعم، أقرئ إخواني السلام وأخبرهم أن الله جعلني من الشهداء الأحياء المرزوقين، وأقرئ أبا حازم السلام، وقل له: يقول لك أبو جعفر الكيس الكيس «8» ، فإن الله وملائكته يتراءون مجلسك بالعشيات. قال: وشهدت أبا

7 - عاصم بن أبي النجود بهدلة الأسدي

جعفر حين احتضر جاءه أبو حازم ومسيخة فأكبوا عليه يصرخون به، فلم يجبهم، فقال ختنه شيبة: ألا أريكم منه عجبا؟ قالوا: بلى. فكشف عن صدره فإذا دوارة بيضاء مثل اللبن، فقال أبو حازم وأصحابه هذا والله نور القرآن «1» . قال سليمان فقالت لي أم ولده بعد ما مات: صار ذلك البياض غرة بين عينيه. وقال نافع: لما غسل أبو جعفر نظروا ما بين نحره إلى فؤاده مثل ورقة المصحف، فما شك من حضر أنه نور القرآن «2» . وتوفي سنة سبع وعشرين ومائة في قول محمد بن المثنى، وقيل سنة ثمان وعشرين، وقال خليفة: سنة اثنتين وثلاثين، وقيل سنة إحدى وثلاثين، وقيل سنة ثلاث وثلاثين عن نيف وتسعين سنة «3» . ومنهم 7- عاصم بن أبي النجود بهدلة الأسدي «4» مولاهم الكوفي القارئ الحناط الإمام أبو بكر «5» ، أحد السبعة، وواحد الكل

في السمعة، ما قرأ عليه من حرم، ولا آوى منه إلى عاصم من أمر الله إلا من رحم. من حاج به أسلت «1» مخاصما، ومن حادّ «2» به كان له من الخطأ عاصما، ذو همز ومد في القرآن لا يجاري البحر مده «3» ، ولا يستطيع البرق من الهمز ما عنده، ولم يكن مثله في نسك، شمّر له إزراره، وزهد غض بصره عن النهار الواضح فلم يرض فيما فضّض الضحى لجينه «4» (ص 82) ولا فيما ذهب الأصيل نضاره «5» ، مع ميل إلى المساجد حيث مر بها عاج «6» بركابه، وانصرف حتى يكون سرا يحني عليه أضالع محرابه، حميت منه أسد بليث عرينها، وغيث قرينها، وناسك حيها الذي تصيب سهام دعائه «7» ، ما أخطأته رواشق النبل أعين عينها «8» . قرأ القرآن على أبي عبد الرحمن السلمي، وزر بن حبيش «9» ، وحدث عنهما وعن غيرهما، وقرأ عليه أبو بكر بن عياش، وأبو عمر البزار وخلق،

واختلفوا اختلافا كبيرا في حروف كثيرة، وتصدى لإقراء كتاب الله تعالى، وانتهت إليه الإمامة في القراءة بالكوفة بعد شيخه أبي عبد الرحمن السلمي «1» ، وكان أحسن الناس صوتا بالقرآن. وقال أبو إسحاق السبيعي: ما رأيت أحدا أقرأ من عاصم بن أبي النجود «2» ، وقال حسن بن صالح: ما رأيت أحدا قط كان أفصح من عاصم بن أبي النجود، إذا تكلم يكاد يدخله خيلاء «3» . وقال عاصم: ما قدمت على أبي وائل من سفر إلا قبل كفي «4» . وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: سألت أبي عن عاصم فقال: رجل صالح، خيّر، ثقة «5» ، فسألته أي القرّاء أحب إليك؟ قال: قراء أهل المدينة فإن لم يكن، فقراء عاصم «6» . وقال عاصم: مرضت سنتين، فلما قمت قرأت القرآن فما أخطأت حرفا «7» وكان عاصم صاحب همز ومد وقراءة شديدة، وسنة ونسك. قال ابن عياش: كان إذا صلى ينتصب كأنه عود وكان عابدا خيرا، أبدا يصلي ربما أتى حاجة فإذا رأى مسجدا قال: مل بنا إليه فإن حاجتنا لا تفوت، ثم يدخل فيصلي «8» ، قال: ودخلت عليه فأغمي عليه ثم أفاق، فقرأ ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ، أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ «9» فهمز فعلمت أن القراءة سجية منه «10» .

8 - حمزة بن حبيب الزيات

وقال عاصم: من لم يحسن من العربية إلا وجها واحدا لم يحسن شيئا «1» . وقال حفص بن سليمان: قال لي عاصم: ما كان من القراءة التي أقرأتك بها فهي القراءة التي قرأتها على أبي (ص 83) عبد الرحمن السلمي، وما كان من القراءة التي أقرأت أبا بكر بن عياش فهي القراءة التي كنت أعرضها على زر بن حبيش عن ابن مسعود «2» . وقال ابن عياش لم يكن عاصم يعد (ألم) آية ولا (حم) آية، ولا (كهيعص) آية، ولا (طه) ولا نحوها آية «3» . توفي في آخر سنة سبع وعشرين ومائة، وقيل سنة ثمان وعشرين ومائة، فلعله في أولها. وكانت وفاته في الكوفة رحمه الله «4» . ومنهم 8- حمزة بن حبيب الزيات «5» حمزة بن حبيب بن عمارة بن إسماعيل أبو عمارة الكوفي الزيات «6» ، أحد

السبعة «1» ، مولى آل عكرمة بن ربعي التيمي «2» . إمام أنس بالقرآن، وغرس في القلوب شجراته المثمرة الأفنان، وتحلى بالعفاف، وتخلى إلا عما يقوم به من الكفاف، قنع بما يقتات به من ربحه متّجرا، وبما تفيأ يجرّ له من فضل التقى مئزرا «3» . ذو معرفة بالفرائض لا يخطئ في الذهن فرضه «4» ، ومعارض لا يخطف الأبصار إلا ومضه، يغنيك فهما بشرق فجره، وعلما يغرق بحره، وهو حجة أهل الكوفة في القراءة، وفي علم كتاب الله وما وراءه، ناهيك به علما فردا، وواحدا تجاوز حدا. وفريدا جاء من معجز القرآن بما يتحدى «5» . ولد سنة ثمانين وأدرك الصحابة بالسّن، فلعله رأى بعضهم «6» ، وقرأ القرآن عرضا على الأعمش، وحمران بن أعين ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وغيرهم «7» ، وتصدر للإقراء مدّة، وقرأ عليه عدد كثير، منهم: أبو الحسن الكسائي «8» ، وحدّث عن خلق، وحدث عنه أمم، وكان إماما حجة

قائما «1» بكتاب الله، حافظا للحديث، بصيرا بالفرائض والعربية «2» ، عابدا خاشعا، قانتا لله، ثخين الورع، عديم النظير، وكان يجلب الزيت من العراق إلى حلوان، ويجلب من حلوان أعواضه إلى الكوفة «3» ، قال أبو عبيد (ص 84) : حمزة هو الذي صار أهل الكوفة إلى قراءته، من غير أن تطبق عليه جماعتهم. وقال شعيب بن حرب: أمّ حمزة الناس سنة مائة «4» ، ودرس عليه سفيان الثوري القرآن أربع درسات «5» . وقال حمزة: ولدت سنة ثمانين وأحكمت القرآن ولي خمس عشرة سنة. وقال مندل «6» : إذا ذكر القرآن فحسبك بحمزة في القرآن والفرائض «7» . وقال عبد الله العجلي: كان حمزة سنة يكون بالكوفة وسنة بحلوان فختم عليه رجل من أهل حلوان من مشاهيرهم، فبعث إليه بألف درهم، فقال لابنه: كنت أظن لك عقلا أنا آخذ على القرآن أجرا؟ أنا أرجو على هذا الفردوس!! وقال خلف بن تميم: مات أبي وعليه دين، فأتيت حمزة ليكلم صاحب

الدين. فقال: ويحك إنه يقرأ عليّ القرآن، وأنا أكره أن أشرب الماء من بيت من يقرأ علي. وقال حسين الجعفي: ربما عطش حمزة فلا يستسقي كراهية أن يصادف من قرأ عليه. وقال جرير بن عبد الحميد: مرّ بي حمزة فطلب ماء فأتيته به فلم يشرب لكوني أحضر القراءة عنده «1» . وقال أبو حنيفة لحمزة: شيئان غلبتنا عليهما، لسنا ننازعك فيهما: القرآن والفرائض «2» . وروى مسلم في صحيحه عن علي بن مسهر قال: سمعت أنا وحمزة من أبان بن أبي عياش خمس مائة حديث أو ذكر أكثر، فأخبرني حمزة بن حبيب قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فعرضتها عليه فما عرف منها إلا اليسير خمسة أحاديث أو ستة، فتركت الحديث عنه. «3» توفي سنة ست وخمسين ومائة «4» .

9 - أبو عمرو بن العلاء المازني المقرئ النحوي البصري

ومنهم 9- أبو عمرو بن العلاء المازني المقرئ النحوي البصري «1» أحد السبعة، ومقرئ أهل البصرة، ومؤوي أهلها إلى جناح النصرة، ما فتحت على مثله البصرة بصرها، ولا منحت شبيهه ممن نصرها، عدّلت به مازن «2» ميزانها، (ص 85) وسوّت بالقبائل الرجّح أوزانها، كان شرفا مذ ترقى على أطمها «3» ، وشرفا مذ ساقه القدر في أممها، وشنفا «4» إلا أنه مع زينته أسمع آذانها من صممها، وصلاحا لها لم تشك بعده مسّ «5» سقمها، وصباحا ما تفرّى «6» عن مثل وجهه المنير من ظلّ النخيل المتراكم سدف «7» ظلمها، ناهيك

رجلا ما بلّت الأبلّة «1» بمثله ريق نهرها «2» ، ولا حييت حدائق نهر معقل «3» شبيهه بيانع زهرها، ولا سلّمت سلامان «4» أنه دار على نظيره نطاق بحرها، ولا فساح البيد أنها ضمت برّا عديله إلى صدرها. وقد اختلفوا في اسمه على تسعة عشر قولا «5» ، أصحها زبّان بالزاي والباء الموحدة «6» . ولد سنة ثمان وستين، وقيل سنة سبعين «7» ، وعرض بمكة على مجاهد وابن جبير وعطاء وعكرمة وابن كثير «8» . وقيل: إنه قرأ على أبي العالية الرياحي. ولم يصح مع أنه أدرك من حياته نيفا وعشرين سنة «9» ، وقيل إنه عرض بالمدينة على أبي جعفر ويزيد بن رومان وشيبة، وعرض بالبصرة على يحيى بن

يعمر ونصر بن عاصم والحسن وغيرهم «1» . وقرأ عليه خلق منهم اليزيدي، وعبد الوارث الثوري، وشجاع البلخي وعبد الله بن المبارك. وأخذ عنه القراءة والحديث والأدب أبو عبيدة والأصمعي وخلق «2» . وانتهت إليه الإمامة بالبصرة. قال أبو عمرو: كنت رأسا والحسن حيّ «3» . وقال اليزيدي: كان أبو عمرو قد عرف القراءات، فقرأ من كل قراءة بأحسنها، وبما يختار العرب وبما بلغه من لغة النبي صلى الله عليه وسلم وجاء تصديقه في كتاب الله «4» . وقال شجاع بن أبي نصر: رأيت النبي (في المنام، فعرضت عليه أشياء من قراءة أبي عمرو، فما ردّ عليّ إلا حرفين، أحدهما (وأرنا مناسكنا) والآخر قوله (ما ننسخ من آية، أو ننسوها) «5» فإن أبا عمرو كانت قراءته (ص 86) أو (ننساها) . «6»

وقال سفيان بن عيينة: رأيت النبي (في المنام فقلت: يا رسول الله، قد اختلفت عليّ القراءات، فبقراءة من تأمرني أن أقرأ؟ فقال: بقراءة أبي عمرو بن العلاء «1» ) . وقال أبو عبيدة: كان أبو عمرو أعلم الناس بالقرآن والعربية. وأيام العرب والشعر وأيام الناس «2» . وقال الأصمعي (قال لي أبو عمرو بن العلاء) «3» : لو تهيأ لي أن أفرغ ما في صدري من العلم في صدرك لفعلت، لقد حفظت في علم القرآن أشياء لو كتبت ما قدر الأعمش على حملها، ولولا أن ليس لي أن أقرأ إلا بما قرئ لقرأت كذا وكذا وذكر حروفا «4» . قال أبو عبيدة: كانت دفاتر أبي عمرو «5» ملء بيت إلى السقف، ثم تنسك فأحرقها، وكان من أشراف العرب ووجوههم «6» . وقال الأصمعي: قال أبو عمرو: إنما نحن فيمن مضى كبقل في أصول نخل طوال، وقال: سمعت أبا عمرو يقول: ما رأيت أحدا قبلي أعلم مني. قال الأصمعي: وأنا ما رأيت بعد أبي عمرو أعلم منه، وكان إذا دخل رمضان لم يتمّ

فيه بيت شعر، وسمعته يقول: أشهد أن الله يضلّ ويهدي، ولله مع هذا الحجة على عباده «1» . وقال أبو عمرو: نظرت في هذا العلم قبل أن أختن ولي أربع وثمانون سنة «2» ، وكان أبو عمرو متواريا، فدخل عليه الفرزدق فأنشده: [البسيط] ما زلت أفتح أبوابا وأغلقها ... حتى أتيت أبا عمرو بن عمار حتى أتيت فتى ضخما دسيعته ... مر المريرة حر وابن أحرار تنميهم مازن في فرع نبعتها ... جدّ كريم وعود غير خوّار وقال أبو عمرو: وأنا زدت هذا البيت في أول قصيدة الأعشى وأستغفر الله منه «3» . [البسيط] وأنكرتني وما كان الذي نكرت ... من الحوادث إلا الشيب والصلعا وكان لأبي عمرو كل يوم بفلس كوز وبفلس ريحان، فيشرب في الكوز يوما، ثم يهبه، ويأمر (ص 87) فتدق الريحان مع الأشنان «4» . قال الأصمعي وغيره: توفي سنة أربع وخمسين ومائة «5» .

10 - نافع بن عبد الرحمن الليثي أبو رويم المقرئ

ومنهم 10- نافع بن عبد الرحمن الليثي أبو رويم المقرئ «1» نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم الليثي مولاهم أبو رويم «2» المقرئ المدني، أحد السبعة الأعلام، وأوحد من له أثر في الإسلام بقراءة حرر مناهجها، وحقق بأداء الحروف مخارجها، وكان أخضر الجلدة من بيت العرب «3» ، مسكي الطينة إذا فاح طيبه، لا عجب كان ذا سواد «4» آذن بسؤدده، وأتباع تدل كثرتها على تفرده، وروي أنه كان يتضوع شذا المسك من كلمه «5» ، ويفوح طيبا وما مسه سوى أن رأى النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في فمه «6» ، وحسبه به طيبا لا يحادثه الدهر بغيره، وروية رآها بعين بصيرته لما فاته أن يراها بعين بصره «7» . قرأ على طائفة من تابعي

أهل المدينة «1» . قال أبو قرة: سمعته يقول: قرأت على سبعين من التابعين «2» . وأقرأ الناس دهرا طويلا، وقرأ عليه خلق كثير، منهم من قرأ عليه، ومنهم من أخذ عنه الحروف. قال مالك بن أنس: قراءة نافع سنّة، وهو إمام الناس في القراءة «3» . روى أبو خليد الدمشقي عن الليث بن سعد أنه قدم المدينة سنة عشر فوجد نافعا إمام الناس في القرآن لا ينازع. والمحفوظ عن الليث أنه قال: قدمت المدينة سنة ثلاث عشرة» . وقال أحمد بن هلال المصري: قال لي الشيباني: قال لي رجل ممن قرأ على نافع: إن نافعا كان إذا تكلم شمّ من فيه رائحة المسك. فقلت له: يا أبا عبد الله أو يا أبا رؤيم: أتتطّيّب كل ما قعدت تقرئ؟ قال: ما أمس طيبا، ولكني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ في فيّ. فمن ذلك الوقت أشم من فيّ هذه الرائحة «5» . وقال نافع: قرأت على هؤلاء فنظرت إلى ما (ص 88) اجتمع عليه اثنان منهم فأخذته، وما شذ فيه واحد تركته حتى ألفت هذه القراءة. وقال قالون: كان نافع لا يهمز همزا شديدا «6» ، ويمد ويحقق القراءة «7» ، ولا يشدد، ويقرب

11 - إسماعيل بن عبد الله المخزومي قارئ أهل مكة

بين الممدود وغير الممدود. وقال نافع إنّ هذا القرآن لعظيم جاء من عند عظيم، فإذا قرأت فلا تشتغلنّ بغيره، وانظر من تخاطب، وإياك أن تملّ منه أو تؤثر عليه غيره، فإني لم أزل أتردد إلى الأعرج حتى قلت: حسبي «1» . وقال نافع: أرسل إليّ بعض الخلفاء مصحف عثمان لأصلحه، فقلت له: إن الناس يقولون إن مصحفه كان في حجره حين قتل فوقع الدم على قوله: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ «2» قال نافع: فنظرت عيني الدم على ذلك. ولما حضرت نافعا الوفاة قال له أبناؤه أوصنا قال: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ «3» الآية. وتوفي سنة تسع وستين ومائة «4» وهو معدود في صغار التابعين «5» ، وأصله من أصبهان، وكان أسود اللون حالكا صاحب دعابة وطيب أخلاق. ومنهم 11- إسماعيل بن عبد الله المخزومي قارئ أهل مكة «6» إسماعيل بن عبد الله بن قسطنطين أبو إسحاق المخزومي، مولاهم المكي المقرئ المعروف بالقسط «7» ، قارئ أهل مكة في زمانه، وآخر أصحاب ابن كثير

وفاة «1» ، وأول أمثاله فضلا إذا قدّم به كفاه، تصدر في البلد الحرام، وتصدى حيث يأمن الحمام، وكان في مكة واحدا ضمه حرمها، وأرضعه زمزمها، وآواه البيت العتيق إلى حجره، وأضاء ليل الحجر الأسود بتبلج فجره، وعرفه ركن الحطيم، وألفه لتقلب وجهه في السجود مقام إبراهيم، وأفرج شعب بني مخزوم له عن سكنه، وتنحى له سهم بني سهم عن سننه، وتبدل منه بالعاصي الطائع. وعوّض عن ذي النسب الصريح بخير منه مولى (ص 89) يقرئ الأميّ ويقري الجائع. عرض على ابن كثير وعلى صاحبيه: شبل بن عباد ومعروف بن مشكان «2» ، وأقرأ الناس دهرا، وكان الناس يجيئون بمصاحفهم فيصلحون بقراءته، وكان يجلس على موضع مرتفع. قال أبو عبد الله الشافعي: قرأت على إسماعيل، وكان يقول: القران اسم وليس بمهموز «3» ، ولو كان من قرأت كان كل ما «4» قرئ قرآنا، ولكنه اسم للقران مثل التوراه «5» والإنجيل، تهمز قرأت ولا تهمز القران، نقل أبو عبد الله القصاع أن وفاة القسط سنة تسعين ومائة، قال الحافظ أبو عبد الله الذهبي: فلعله سنة سبعين تصحفت عليه «6» .

12 - حفص بن سليمان أبو عمر الأسدي

ومنهم 12- حفص بن سليمان أبو عمر الأسدي «1» مولاهم الغاضري الكوفي البزاز صاحب عاصم وابن زوجته، كانت قراءته «2» تتصل بعلي رضي الله عنه نسبها، وتنشأ به عن عاصم نسجها، ضابطا للحروف التي قرأ عليه بها، كثير الفوائد لمن رغب إليه في طلبها، أقرأ الناس دهرا، رقّم صحفه، ونوّر أيامه وسدفه،. وجلّى به الليل وأماط سجفه «3» ، أقرأه عاصم بما أقرأه أبو عبد الرحمن السلمي فعقله «4» ، وأفاده خالص ذهبه الإبريز فحصّله، قال أبو هشام الرفاعي: كان حفص أعلمهم بقراءة «5» عاصم «6» . وقال أبو الحسين بن المنادي: قرأ على عاصم وكان الأولون يعدونه في الحفظ فوق أبي بكر بن عياش، ويصفونه بضبط الحروف التي قرأها على عاصم «7» . أقرأ الناس دهرا ممتدا، وكانت القراءة التي أخذها ترتفع إلى علي- «8» رضي الله عنه «9» .

13 - سليم بن عيسى بن سليم بن عامر

وقال يحيى بن معين: القراءة قراءة حفص بن سليمان «1» . وقال ابن مجاهد بينه وبين أبي بكر بن عياش من الخلف في الحروف في خمس مائة وعشرين حرفا في المشهور عنهما «2» . وقال حسين الجعفي سمعت حفص بن سليمان (ص 90) يقول: قلت لعاصم أبو بكر يخالفني. فقال: أقرأتك بما أقرأني أبو عبد الرحمن السلمي، وأقرأته بما أقرأني زر بن حبيش «3» . توفي سنة ثمانين ومائة ومولده سنة تسعين «4» . منهم 13- سليم بن عيسى بن سليم بن عامر «5» ابن غالب أبو عيسى، ويقال أبو محمد الحنفي مولاهم الكوفي المقري، الموفي على النجم إذا يسري، المولي مننا «6» تناط بالمسامع، وتنال بها الكلم الجوامع، غلب به غالب، وحضر به مجالس الذكر وهو غائب، وأصبحت سليم

الحمراء تاسف إذ لم يكن إليه منتهى قبيلتها» ، ومنتأى فخذها وفصيلتها «2» ، بل لو فطنت مرها كل عين لما اكتحلت إلا بجوهري جوهره، ولو تنبه كل كحال لعز إلى التشيف «3» بأصغر سليم إليه نسبه «4» . كان صاحب حمزة بن حبيب الزيات، وكان أمتن من أخذ عنه، وأحذقهم بالقراءة، وأقومهم بالحروف، وهو الذي خلف حمزة في الإقراء بالكوفة «5» . قرأ عليه خلف بن هشام البزار، وخلاد بن خالد الصيرفي، وأبو عمر الدوري «6» ، وعدد كثير حتى إن رفقاءه في القراءة على حمزة قرؤوا عليه لإتقانه، منهم: خالد الطبيب «7» وحمزة بن القسم «8» ، وجعفر الخشكني، وإبراهيم الأزرق، وعبد الله ابن صالح. وسمع الحديث من حمزة، وسفيان الثوري، وسمع منه جماعة «9» .

قال يحيى اليزيدي: كنا نقرأ على حمزة ونحن شباب، فإذا جاء سليم قال لنا حمزة: تحفظوا وتثبتوا قد جاء سليم «1» . وقال الدوري: حدثنا الكسائي قال: كنت أقرأ على حمزة فجاء سليم فتلكأت، فقال لي حمزة: تهاب سليما ولا تهابني!!؟ فقلت: يا أستاذ أنت إن أخطأت قوّمتني، وهذا إن أخطأت عيّرني «2» . وقال خلف «3» : افتتحت بسورة يوسف فقرأتها على سليم. فقال لي: كيف ابتدأت بها؟ قلت لصعوبتها. ثم ابتدأت بالفاتحة فلم أزل إلى سورة النور، فلم أغلط، ولم ألحن حتى قلت: (ليس على الأعمى حرج ولا على المريض خرج) فأومأ إليّ سليم فلم أدر ورددت كذلك (ص 91) فأخرج رجله ونصبها، وكان أعرج، ثم قال: وأين أنا؟ فقرأتها. فقال: لو ختمت ولم تخطئ لقلت إنك منافق. وقال ضرار بن صرد: سمعت سليم بن عيسى وأتاه رجل فقال: يا أبا «4» عيسى جئتك لأقرأ عليك بالتحقيق «5» . فقال: يا ابن أخي شهدت حمزة وأتاه رجل في مثل هذا فبكى، وقال: يا ابن أخي التحقيق صون القرآن، فإن صنته فقد حققته، هذا هو التحقيق، فمضى الرجل ولم يقرأ. وقال سليم: قرأت على حمزة عشر مرات «6» . قال خلف وهارون بن حاتم: توفي سنة ثمان وثمانين ومائة «7» . وقال أبو هاشم الرفاعي: توفي سنة تسع وثمانين

14 - علي بن حمزة الكسائي

ومائة- «1» . ومولده سنة ثلاثين ومائة. وقال خلف: بل سنة تسع عشرة «2» . ومنهم 14- علي بن حمزة الكسائي «3» الإمام أبو الحسن الأسدي مولاهم الكوفي المقرئ النحوي، أحد الأعلام «4» ، لف الفضل كله كساؤه، وردّ على العلم جميعه رداؤه، ونشر كساء كسائية أضواء من ملاءة النهار، وأظهر من غرر فوائده أمتع من كواكب الأسحار «5» ، وأسعد الله بصلته ببيت الخلافة جدّه، ولازم تأديب الأمين بن الرشيد حتى أوتي رشده «6» ،

وأغدقت عليه أم جعفر «1» المواهب، وأغصت بالعطايا إليه حلوق المذاهب، وأصبح بانضمامه إلى جناح ابنها يحلّق «2» حيث تقصّ القوادم «3» ، وتقصّر لوامع البروق «4» في الليالي العواتم، وعزّت إفاداته، حتى عدّت للقعود للطلبة أوقاته «5» . وكان لا يجلس إلا مجلسا عاما، وينصب له كرسيّ يصعده، وذو التحصيل يصغي إلى ما يقرأ به ويقيده، إذ كان زمانه لا يسع إشغال كل واحد بمفرده، ولا قوله بلسانه وتقييده بيده «6» . ولد في حدود سنة عشرين ومائة «7» ، وسمع من جماعة (ص 92) وقرأ القرآن وجوّده على حمزة الزيات «8» ، وعيسى ابن عمر الهمداني وزايده، ونقل أبو عمرو الداني وغيره أن الكسائي قرأ على محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى أيضا، واختار لنفسه قراءة «9» ، ورحل إلى البصرة فأخذ العربية عن الخليل بن أحمد «10» وأخذ الحروف أيضا عن أبي بكر ابن عياش وغيره «11» ، وخرج إلى البوادي فغاب مدّة طويلة، وكتب الكثير من اللغات والغريب عن الأعراب بنجد وتهامه، ثم قدم وقد أنفد خمس عشرة قنينة

حبر «1» ، وقرأ عليه أبو عمر الدوري وأبو الحرث الليث وخلق سواهم «2» ، وانتهت إليه الإمامة في القرآن والعربية. قال ابن معين: ما رأيت بعيني أصدق لهجة من الكسائي «3» ، وقال أبو عبيد في كتاب القراءات: كان الكسائي يتخيّر القراءات، فأخذ من قراءة حمزة بعضا، وترك بعضا «4» ، وكان من أهل القراءة، وهي كانت علمه وصناعته، ولم يجالس أحدا كان أضبط ولا أقوم بها منه «5» . وقال خلف: قرأ الكسائي على حمزة القرآن أربع مرات «6» ، وقال أبو بكر بن الأنباري اجتمعت في الكسائي أمور: كان أعلم الناس بالنحو، وواحدهم في الغريب، وكان أوحد الناس في القرآن، فكانوا يكثرون عليه، حتى لا يضبط الأخذ عليهم، فيجمعهم ويجلس على كرسي، ويتلو القرآن من أوله إلى آخره، وهم يسمعون ويضبطون عنه حتى المقاطع والمبادي «7» ، وكان في الكسائي تيه وحشمة، لما نال من الرياسة بإقراء محمد الأمين ولد الرشيد وتأديبه أيضا للرشيد، فنال ما لم ينله أحد من الجاه والمال والإكرام، وحصل له رياسة العلم والدنيا «8» . وقال خلف: عملت وليمة فدعوت الكسائي واليزيدي «9» ، فقال

اليزيدي للكسائي: يا أبا الحسن أمور تبلغنا عنك ننكر بعضها فقال الكسائي: أو مثلي يخاطب بهذا، وهل مع العالم (ص 93) من العربية إلا فضل بصاقي هذا، ثم بصق فسكت اليزيدي «1» . وكان الكسائي يؤدب الأمين بن هارون الرشيد ويعلمه الأدب، ولم تكن له زوجة ولا جارية، فكتب إلى الرشيد يشكو العزبة في هذه الأبيات: [الكامل المرفل] قل للخليفة ما تقول لمن ... أمسى إليك بحرمة يدلي ما زلت مذ صار الأمين معي ... عبدي يدي ومطيتي رجلي وعلى فراشي من ينبهني ... من نومة «2» وقيامه قبلي أسعى برجل منه ثالثة ... موفورة مني بلا رجل وإذا ركبت أكون مرتدفا ... قدّام سرجي راكب «3» مثلي فامنن عليّ بما يسكّن ... هـ عني وأهد الغمد للنصل فأمر له الرشيد بعشرة آلاف درهم وجارية حسناء بجميع آلاتها، وخادم وبرذون بجميع آلاته «4» . واجتمع يوما محمد بن الحسن الشيباني «5» والكسائي في مجلس الرشيد «6» . فقال الكسائي: من تبحر في علم تهدّى إلى جميع العلوم. فقال له محمد: ما تقول فيمن سها في سجود السهو هل يسجد مرة أخرى؟ فقال الكسائي: لا. قال: لماذا؟ قال: لأن النحاة يقولون: المصغر لا

يصغر «1» . فقال محمد: ما تقول في تعليق الطلاق بالملك؟ قال: لا يصح. قال: لم؟ قال: لأن السيل لا يسبق المطر. كذا وردت هذه الحكاية في عدة مواضع. وذكر أبو بكر الخطيب في تاريخه أن هذه القصة جرت بين محمد بن الحسن والفرّاء «2» . وقال الكسائي: صليت بهارون الرشيد فأعجبتني قراءتي، فغلطت في آية ما أخطأ فيها صبي قط أردت أن أقول: لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ «3» فقلت: لعلهم يرجعين. فو الله ما اجترأ هارون أن يقول أخطأت، ولكنه لما سلّم قال: أيّ لغة هذه؟ قلت: (ص 94) يا أمير المؤمنين قد يعثر الجواد. قال: أما هذا فنعم «4» . وقال ابن الدورقي: اجتمع الكسائي واليزيدي عند الرشيد فحضرت صلاة فقدموا الكسائي يصلي فأرتج «5» عليه قراءة يا أيها الكافرون. فقال اليزيدي: قراءة (قل يا أيها الكافرون) ترتج على قارئ الكوفة!!؟ قال: فحضرت صلاة فقدموا اليزيدي فأرتج عليه في الحمد فلما سلم قال: [الكامل] احفظ لسانك لا تقول فتبتلى ... إن البلاء موكّل بالمنطق «6» وعن الفرّاء قال: ناظرت الكسائيّ يوما وزدت فكأني كنت طائرا أشرب من

بحر «1» . قال: وإنما تعلم النحو على كبر لأنه جاء إلى قوم وقد أعيى «2» فقال: قد عييت. فقالوا له: تجالسنا وأنت تلحن!؟ قال: كيف لحنت؟ قالوا له: إن كنت أردت من التعب فقل: أعييت، وإن أردت انقطاع الحيلة والحيرة في الأمر فقل: عييت. فأنف من ذلك. وقام من فوره فسأل عمن يعلم النحو فدل على معاذ الهرّاء «3» فلزمه، ثم خرج إلى البصرة فلقي الخليل، ثم خرج إلى بادية الحجاز «4» . قال الشافعي: من أراد أن يتبحر في النحو فهو عيال على الكسائي «5» . وقال الفرّاء: لقيت الكسائي يوما، فرأيته كالباكي فقلت: ما يبكيك؟ فقال: هذا الملك يحيى بن خالد يحضرني فيسألني عن الشيء، فإن أبطأت في الجواب لحقني منه عتب، وإن بادرت لم آمن الزلل. فقلت: يا أبا الحسن من يعترض عليك؟ قل ما شئت فأنت الكسائي. فأخذ لسانه بيده وقال: قطعه الله إذا إن قلت ما لا أعلم «6» . وروى نصير بن يوسف قال: دخلت على الكسائي في مرض موته فأنشأ يقول: [الكامل] قدر أحلك ذا النخيل وقد أرى ... وأبي، ومالك ذو النخيل بدار

إلا كداركم بذي بقر اللوى ... هيهات ذو بقر من المزدار «1» (ص 95) فقلت: كلا ويمتع الله الجميع بك. فقال: لئن قلت ذلك: لقد كنت أقرئ الناس في مسجد دمشق فأغفيت في المحراب، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم داخلا من باب المسجد، فقام إليه رجل فقال: بحرف من تقرأ؟ فأومأ إليّ «2» . وقال أبو سعيد السيرافي رثى يحيى اليزيدي محمد بن الحسن والكسائي، وكانا خرجا مع الرشيد فماتا في الطريق، فقال: [الطويل] تصرمت الدنيا فليس خلود ... وما قد ترى من بهجة فيبيد «3» لكل امرئ كأس من الموت مترع ... وما إن لبا إلا عليه ورود ألم تر شيبا شاملا ينذر البلى ... وأنّ الشباب الغض ليس يعود سيأتيك ما أفنى القرون التي ... مضت فكن مستعدا فالفناء عتيد «4»

أسيت على قاضي القضاة محمد ... فأذريت دمعي والفؤاد عميد «1» وقلت إذا ما الخطب أشكل من لنا ... بإيضاحه يوما وأنت فقيد وأقلقني موت الكسائي بعده ... وكادت لي الأرض الفضاء تميد «2» وأذهلني عن كل عيش ولذة ... وآرق عيني والعيون هجود هما عالمانا أوديا وتخرّما ... وما لهما في العالمين نديد فحزني أن يخطر على القلب خطرة ... بذكرهما حتى الممات جديد «3» قال أبو عمر الدوري توفي الكسائي بالري بقرية أرنبويه، وقال مجاهد برنبويه سنة تسع وثمانين ومائة على الصحيح، وقيل إنه عاش سبعين سنة، ومات هو ومحمد بن الحسن في يوم واحد. فقال الرشيد: دفنا الفقه والنحو بالري «4» . وسمي الكسائي لأنه أحرم في كساء «5» . (ص 96) ومنهم

15 - أبو بكر بن عياش بن سالم الأسدي الكوفي

15- أبو بكر بن عياش بن سالم الأسدي الكوفي «1» أحد الأعلام «2» ، كان ذا علم نافع لا يمنعه، وعمل صالح لا يقطعه، وزهد أقل شيء يقنعه «3» . أخذ عن عاصم فعصم، وعمّر دهرا لم يعم ولم يصم «4» ، متع بالعمر المديد، وأدرك سلطان بني أمية وعمّر إلى أيام الرشيد «5» ، وكان حجة لا يسع خصمها الجحود، ولا تحتاج مع الإقرار إلى أداء الشهود، في اسمه ثلاثة عشر قولا أصحها كنيته وشعبه «6» . ولد سنة خمس وتسعين، وقرأ القرآن ثلاث مرات على عاصم وعمّر دهرا «7» ، وكان يقول أنا نصف الإسلام، وكان سيدا إماما حجة كثير العلم والعمل «8» ، منقطع القرين، قرأ عليه أبو الحسن الكسائي وجماعة، وروى عنه خلق «9» ، قال

عثمان بن أبي شيبة أحضر الرشيد أبا بكر بن عياش من الكوفة، فجاء ومعه وكيع، فدخل ووكيع يقوده، فأدناه الرشيد وقال: أدركت أيام بني أمية وأيامنا فأينا خير؟ قال: أولئك كانوا أنفع للناس وأنتم أقوم بالصلاة، فصرفه الرشيد، وأجازه بستة آلاف دينار «1» ، وأجاز وكيعا بثلاثة آلاف دينار «2» . قال أبو عبد الله الحنفي لم يفرش لأبي بكر بن عياش فراش خمسين سنة «3» . وروي أنه مكث أربعين سنة يختم القرآن في كل يوم وليلة «4» . وقال يحيى بن سعيد زاملت أبا بكر بن عياش إلى مكة فما رأيت أورع منه، ولقد أهدى له رجل رطبا فبلغه أنه من البستان الذي أخذ من خالد بن مسلمة المخزومي «5» ، فأتى آل خالد فاستحلهم وتصدق بثمنه «6» . وقال أبو عبد الله المعيطي رأيت أبا بكر بن عياش بمكة، فأتى سفيان بن عيينة فبرك بين يديه، فجاء رجل فسأل سفيان عن حديث فقال: لا تسألني ما دام هذا الشيخ قاعدا «7» . وقال أبو هشام الرفاعي: سمعت أبا بكر بن عياش يقول: أبو بكر خليفة رسول الله في القرآن إن الله تعالى (ص 97) يقول: (للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم) إلى قوله أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ «8» فما سماه الله صادقا فليس يكذب، هم قالوا: يا

خليفة رسول الله «1» . وقال يحيى الحماني: حدثني أبو بكر بن عياش قال: جئت ليلة إلى زمزم فاستقيت منه دلوا لبنا وعسلا «2» . وقال أبو هاشم الرفاعي: سمعت أبا بكر يقول: الخلق أربعة: معذور، ومخبور، ومجبور، ومثبور. فالمعذور الهائم «3» ، والمخبور ابن آدم، والمجبور الملائكة، والمثبور الجن «4» . وقال أبو بكر أدنى نفع السكوت السلامة، وكفى بها عافية. وأدنى ضرر المنطق الشهرة وكفى بها بلية «5» . وقال: من زعم أن القرآن مخلوق فهو عندنا كافر زنديق عدو لله لا نجالسه ولا نكلمه «6» . وقال أبو بكر: الدخول في العلم سهل والخروج منه إلى الله شديد «7» . وقال عبد الله بن المبارك: ما رأيت أحدا أسرع إلى السنة من أبي بكر «8» . وقال الحماني لما حضرت أبا بكر الوفاة بكت أخته، فقال لها ما يبكيك «9» ؟ انظري إلى تلك الزاوية، قد ختمت فيها ثمانية عشر ألف 1» ختمة. وتوفي في

16 - يحيى بن المبارك بن المغيرة العدوي

جمادى الأولى سنة ثلاث وتسعين ومائة «1» . قال أحمد بن حنبل: كان صاحب قرآن وخبر «2» . ومنهم 16- يحيى بن المبارك بن المغيرة العدوي «3» أبو محمد المقرئ النحوي اللغوي، عرف باليزيدي لاتصاله بيزيد بن منصور خال المهدي مؤدّب ولده «4» ، ويهدّب «5» سؤدده، وكان فصيح اللسان، صريح الإحسان، صحيح القصد في تصانيفه الحسان. علم هداية لا يضلّ من به اهتدى، ولا يضر من به اقتدى، قرأ عليه أعيان القراء «6» ، وكان له اختيار خالف

فيه أبا عمرو «1» ، ولم يعدل عن الطريقة الغراء «2» . جوّد القرآن على (ص 98) أبي عمرو، وحدّث عنه وعن ابن جريج «3» ، وقرأ عليه الدوري والسوسي، وطائفة «4» ، وله اختيار كان يقرئ به أيضا، خالف فيه أبا عمرو في أماكن يسيره، وهو الذي خلف أبا عمرو في القيام بالقرآن بعده «5» . قال ابن مجاهد إنما عولنا على اليزيدي وإن كان سائر أصحاب أبي عمرو أجل منه، لأنه انتصب للرواية عنه، وتجرد لها ولم يشتغل بغيرها، وهو أضبطهم «6» . قال الفضل: كان اليزيدي معلما على باب أبي عمرو، وكان يخدمه في حوائجه، وربما أمسك المصحف على أبي عمرو فقرأ عليه، وكان أبو عمرو يدنيه، ويميل إليه لذكائه، وكان صحيح الرواية «7» . واتصل اليزيدي أيضا بالرشيد وأدّب المأمون، وكان ثقة علامة فصيحا مفوّها بارعا في اللغات والآداب «8» ، أخذ عن الخليل وغيره، حتى قيل إنه أملى عن أبي عمرو خاصة عشرة آلاف ورقة «9» ،

وأخذ عن الخليل من اللغة شيئا كثيرا، وكتب عنه العروض في ابتداء وضعه له، إلا أنّ اعتماده كان على أبي عمرو أكثر لسعة علمه باللغة «1» ، وصنف عدة تصانيف «2» وله النظم الجيد، وشعره مدون «3» . قال: الأثرم: دخل اليزيدي يوما على الخليل بن أحمد وهو جالس على وسادة فأوسع له وأجلسه معه، فقال له اليزيدي: أحسبني ضيقت عليك. فقال الخليل: ما ضاق موضع على اثنين متحابين، والدنيا لا تسع متباغضين «4» . وسأل المأمون اليزيدي شيئا فقال: لا وجعلني الله فداك يا أمير المؤمنين. فقال: لله درك ما وضعت الواو قط في موضع أحسن من موضعها في لفظك هذا ووصله وحمله «5» . وقال اليزيدي: دخلت على المأمون يوما والدنيا غضّة وعنده نعم تغنيه، وكانت من أجمل أهل دهرها فأنشدت: [الكامل] وزعمت أني ظالم فهجرتني ... ورميت في قلبي بسهم نافذ (ص 99) فنعم هجرانك «6» فاغفري وتجاوزي ... هذا مقام المستجير العائذ

17 - يعقوب بن إسحاق بن يزيد بن عبد الله

هذا مقام فتى أضرّ به الهوى ... قرح الجفون بحسن وجهك لائذ ولقد أخذتم من فؤادي أنسه ... لا شلّ ربي كف ذاك الآخذ فاستعادها المأمون الصوت ثلاث مرات، ثم قال: يا يزيدي أيكون شيء أحسن مما نحن فيه؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين. قال: فما هو؟ قلت: الشكر لمن خوّلك هذا الإنعام الجليل العظيم، فقال: أحسنت وصدقت ووصلني، وأمر أن يتصدّق بمائة ألف، وكأني إلى البدر «1» وقد أخرجت، والمال يفرق «2» . توفي اليزيدي سنة اثنتين ومائتين، وله أربع وسبعون سنة «3» ، وكان له عدة أولاد فضلاء علماء «4» ، أخذوا عنه، وأخذ عنه أيضا ابن ابنه أحمد بن محمد. ومنهم 17- يعقوب بن إسحاق بن يزيد بن عبد الله «5» ابن أبي إسحاق الحضرمي بالولاء البصري المقرئ، المشهور قارئ أهل البصرة

في زمانه، أبو يوسف أحد القراء العشرة «1» ، وهو المقرئ الثامن، وكان بالبصرة قائما بمعناها، وعامرا لمغناها، يكاثر بعلمه مدّها، ويقادح بفهمه زندها، ويجلّي بقيامه في دياجي الليل مسودّها، يحيي بتهجده موات لياليها، ويصل في مواضع صلاته مساحة نواصيها، يأوي منه إلى أروح من ظلّ نخيلها، ويروى عنه أعذب من نطف سلسبيلها، ينافح طيبها الهندي أرجاه، ويفاخر لؤلؤها البحري ملجاه، ويحدّث عن عجائبه فيها، ما لا يقدر الواصف وإن جهد يوفيها. قرأ القرآن على أبي المنذر سلّام بن سليمان، وعلى أبي الأشهب العطاردي وغيرهما، وسمع من حمزة الزيات، وجماعة «2» ، وبرع في الإقراء، وكان أقرأ أهل زمانه، وكان لا يلحن في كلامه، وله في القراءات (ص 100) رواية مشهورة منقولة عنه، وكان من بيت العلم بالقراءات والعربية وكلام العرب، والرواية الكثيرة الحروف، والفقه وكان من أقرأ القرّاء، وأخذ عنه عامة حروف القرآن مسندا وغير مسند من قرّاء الحرمين والعراقين وأهل الشام، وغيرهم خلق كثير «3» ، قال أبو حاتم- وهو من بعض تلامذته-: هو أعلم من رأيت بالحروف والاختلاف في القرآن وعلله ومذاهبه، ومذاهب النحو «4» . وقال أبو القاسم

18 - يحيى بن آدم بن سليمان أبو زكريا القرشي

الهذلي «1» : لم ير في زمن يعقوب مثله، كان عالما بالعربية ووجوهها، والقرآن واختلافه، فاضلا تقيا نقيا ورعا زاهدا، بلغ من زهده أنه سرق رداؤه عن كتفه وهو في الصلاة، وردّ إليه ولم يشعر، لشغله بالصلاة، وبلغ من جاهه بالبصرة أنه كان يحبس ويطلق «2» ، ولبعضهم «3» : [الطويل] أبوه من القراء كان وجدّه ... ويعقوب في القراء كالكوكب الدّري تفرّده محض الصواب ووجهه ... فمن مثله في وقته وإلى الحشر قال طاهر بن غلبون: وإمام أهل البصرة بالجامع لا يقرأ إلا بقراءة يعقوب، يعني في الصلوات «4» . قال ابن سوار «5» وغيره، توفي في ذي الحجة سنة خمس ومائتين، عن ثمان وثمانين سنة «6» . ومنهم 18- يحيى بن آدم بن سليمان أبو زكريا القرشي «7» مولى أبي معيط الكوفي، صاحب أبي بكر بن عياش، روى حروف عاصم

سماعا، وروى بسلسلة العذب أسماعا، وكان للعلم جمّاعا، وللفهم زند ذكاء يقدح شعاعا «1» ، ولأهل الطلب قمرا يسوق وراءه النجوم أتباعا، وحدّث عن جماعة، وأخذ عنه أضعافها، ومثلت بين يديه الأهلة فلم ير إلا من مرآة قلمه أنصافها، (ص 101) وقد كان رأسا في زمانه، كما كان قبله الثوري فيمن غبر، وقيل كان فلان ثم فلان، كل واحد في وقته منه إلى عمر «2» . سئل أبو داود عنه، فقال ذاك واحد الناس «3» ، وقال علي بن المديني: يرحم الله يحيى ابن آدم أيّ علم كان عنده «4» . وقال أبو أسامة: ما رأيت يحيى بن آدم إلا ذكرت الشعبي «5» يعني أنه كان جامعا للعلم. كان عمر في زمانه رأس الناس، وكان بعده ابن عباس، ثم كان بعده الشعبي في زمانه، وكان بعد الشعبي الثوري في زمانه، وكان بعد الثوري يحيى بن آدم «6» ، وأثبت الروايات عن أبي بكر رواية يحيى بن آدم «7» ، وما ذكر صاحب التيسير «8» غيرها، وهي كما قال سماع لا تلاوة، وقال يحيى بن آدم سألت أبا بكر عن حروف عاصم التي

19 - حسين بن علي الجعفي مولاهم الكوفي

في هذه الكراسة أربعين سنة فحدثني بها كلها، وقرأها عليّ حرفا حرفا «1» . وتوفي يحيى بفم الصلح «2» في ربيع الأول سنة ثلاث ومائتين، وهو في عشر السبعين «3» . ومنهم 19- حسين بن علي الجعفي مولاهم الكوفي «4» أبو عبد الله الزاهد، أحد الأعلام «5» ، أشار الكسائي إلى فضله «6» ، وعلم الرشيد بنبله «7» ، وقبّل سفيان يده، ولو مكنه لما استنكف من تقبيل رجله، وأتاه قادما فوثب له قائما «8» ، وقال قدم أفضل رجل «9» ، وكان في عصره أجلّ من ينفض عليه صبغ أصل «10» ، وأقرأ من ترمي إليه متون الأينق «11»

الذلل «1» ، ما اشتمل في زمانه على مثله ضحى ولا هزيع «2» ، ولا اكتنفه أو انفرج عنه صدى «3» مساء ولا صديع «4» . قرأ القرآن على حمزة، وأخذ الحروف عن أبي عمرو وأبي بكر بن عياش «5» ، وبرع في القراءة والحديث، وأقرأ الناس بعد حمزة «6» . قال أحمد بن حنبل ما رأيت أفضل (ص 102) منه. وقال قتيبة قيل لسفيان بن عيينة قدم حسين الجعفي فوثب قائما، وقال: قدم أفضل رجل يكون قط «7» ، وقال موسى بن داود كنت عند ابن عيينة فأتاه حسين الجعفي فقام سفيان وقبل يده «8» . وعن الكسائي قال: قال لي الرشيد: من أقرأ الناس؟ قلت حسين الجعفي «9» . وقال أحمد بن عبد الله «10» : كان حسين يقرئ القرآن، ورأس فيه، ولم أر

20 - قالون أبو موسى

رجلا قط أفضل منه، وهو ثقة، ولم نره إلا مقعدا، ولم يطأ قط، وكان جميلا لبّاسا يخضب وخلف ثلاثة عشر دينارا «1» . وقال يحيى بن يحيى النيسابوري إن كان بقي من الأبدال أحد فحسين الجعفي «2» ، توفي في ذي القعدة سنة ثلاث ومائتين، عن أربع وثمانين سنة «3» . ومنهم 20- قالون أبو موسى «4» واسمه عيسى بن مينا بن وردان بن عيسى الزرقي مولى بني زهرة، قارئ أهل المدينة في زمانه ونحويهم «5» . كان لأهل المدينة المشرفة حلية مسجدهم، وزينة

معبدهم، وأنس قائمهم ومتهجدهم، لا يذمّ فيه المغالون، ولا يطاول به المتغالون، تزاحم عليه القراء حلقا، وتوكل به إسماعا وحدقا، وهم لسواه قالون «1» . وإليه غاية منتهاهم إذا قال قالون، غني بإفاك التربية عن شافع «2» ، وكفى في ثبوت فضله فلم يحتج إلى إبداء دافع «3» ، ووقي فلم يخش ضرا إذ أخذ عن نافع «4» . قيل إنه كان ربيب نافع «5» ، وهو الذي لقبه قالون لجودة قراءته، وهي لفظة رومية، معناه جيد، لم يزل يقرأ على نافع، حتى مهر وحذق «6» ، وتبتل لإقراء القرآن والعربية، وطال عمره، وبعد صيته، وكان شديد الصمم، وكان يقول للقارئ: لو رفعت صوتك لا إلى غاية لا يسمع، وكان ينظر إلى شفتي القارئ فيردّ عليه اللحن والخطأ «7» ، وقال قالون: قال لي نافع: كم تقرأ (عليّ) «8» (ص 103) اجلس إلى أسطوانة حتى أرسل إليك من يقرأ، وتوفي سنة عشرين

21 - أحمد بن محمد بن عبد الله بن القاسم بن أبي بزة

ومائتين، وله نيف وثمانون سنة «1» . ومنهم 21- أحمد بن محمد بن عبد الله بن القاسم بن أبي بزة «2» أبو الحسن البزّي «3» المكي، قارئ مكة ومؤذن المسجد الحرام، ومولى بني مخزوم. ثلاثة لكل منها فضل معلوم: يقرأ كتاب الله المنزل لدن بيته الحرام. ويؤذن والمؤذن ثاني الإمام، ومولى بني مخزوم. ومولى القوم منهم، ومن له بأن يكون من قريش!!؟ ومنهم النبي عليه أفضل السلام. وهو ممن أقرأ في أواخر المفصل بالتكبير «4» ، وبه إلى الآن يعمل، يعمل إذا ختم كتاب الله المنير. مولده سنة سبعين ومائة «5» ، وقرأ القرآن على عكرمة بن سليمان «6» ، وأبي الإخريط «7» ، وعبد الله بن زياد «8» عن أخذهم عن إسماعيل بن عبد الله

22 - خلاد بن خالد

القسط «1» . وأذن في المسجد الحرام أربعين سنة، وأقرأ الناس بالتكبير من والضحى «2» ، وروى في ذلك خبرا غريبا عن عكرمة بن سليمان قال: قرأت على القسط فلما بلغت والضحى قال: كبر عند خاتمة كل سورة حتى تختم، وأخبره ابن كثير أنه قرأ على مجاهد فأمره بذلك، وأخبره مجاهد أن ابن عباس أمره بذلك، وأخبره ابن عباس أن أبي بن كعب أمره بذلك، وأخبره أبي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بذلك. قال الحاكم هذا صحيح الإسناد «3» . وقال الحسين بن الحباب: سألت البزيّ كيف التكبير فقال: لا إله إلا الله والله أكبر. توفي البزي سنة خمسين ومائتين «4» . ومنهم 22- خلاد بن خالد «5» وقيل ابن عيسى أبو عيسى وقيل أبو عبد الله الشيباني مولاهم الصيرفي

الكوفي الأحول المقرئ صاحب سليم «1» (ص 104) وساحب ذيل ما تكشف عن مثله غيم الصيرفي، الذي لا يدخل عليه زيف، الكوفي الذي لا يسأل عن شيء وجّهه بكيف، له فضل نفس ووالد، وحسن ذكر إن نسب إليه فهو خلاد، أو إلى أبيه فهو خالد «2» . أقرأ الناس مدّة، وحدث عن زهير بن معاوية، والحسن ابن صالح بن حيّ «3» ، وقرأ عليه محمد بن شاذان الجوهري «4» ، ومحمد بن الهيثم قاضي عكبرا «5» ، ومحمد بن يحيى الخنيسي «6» ، والقاسم بن يزيد الوزان «7» ، وهو أنبل أصحابه «8» . وحدّث عنه أبو زرعة وأبو حاتم «9» ، وكان صدوقا. توفي سنة عشرين ومائتين «10» .

23 - خلف بن هشام بن تغلب أبو محمد البغدادي المقرئ البزار

ومنهم 23- خلف بن هشام بن تغلب أبو محمد البغدادي المقرئ البزار «1» أحد الأعلام، وجدّ الكلام، الذي أنفق للتحصيل ما شاء مالا «2» ، وأنفد لما تبقى مالا، فضل بفضله من سلف، وخلى وراءه في الأعقاب شكرا، لا يذمّ معه خلف، كان بزازا «3» إلا أنه ينشر حللا لا ترقم الأنامل طرزها، ولا ترقى يد الدهر الغالبة لتبتزها «4» ، ولا تحكي سجوف الغمام في الدفع بزّها، ولا تصنع مثلها صنعاء إذا حبت تعزها «5» ، له اختيار أقرأ به وخالف فيه حمزة «6» ، وكان عابدا فاضلا، قال حمدان بن هانئ المقرئ: سمعت خلف بن هشام يقول: أشكل باب

من النحو، فانفقت ثمانين ألف درهم حتى حذقته «1» ، وقال خلف: أعدت الصلاة أربعين سنة كنت أتناول فيها الشراب على مذهب الكوفيين «2» ، وقال إدريس: سمعت خلفا يقول: قرأت القرآن على سليم مرارا، وكنت أسأله عند الفراغ من آخر القرآن: أأروي عنك هذه القراءة التي قرأت عليك عن حمزة الزيات؟ فيقول نعم «3» . وسمعت خلفا يقول: حفظت القرآن وأنا ابن عشر سنين «4» (ص 105) وأقرأت أول شيء ولي ثلاث عشرة سنة. وورد أن خلفا كان يصوم الدهر «5» ، وقال قدمت الكوفة فصرت إلى سليم، فقال ما أقدمك؟ قلت: أقرأ على أبي بكر بن عياش، فقال لا تريده، قلت: بلى، فدعا ابنه وكتب معه ورقة إلى أبي بكر، لم أدر ما كتب فيها، فأتيناه فقرأ الورقة وصعّد فيّ النظر، ثم قال: أنت خلف؟ قلت: نعم. قال أنت لم تخلّف أحدا في بغداد أقرأ منك؟ فسكت. فقال لي: اقعد هات اقرأ. قلت عليك؟ قال نعم. قلت لا والله لا أقرأ على رجل يستصغر رجلا من حملة القرآن. فوجه إلى سليم يسأله أن يردّني فأبيت، ثم ندمت واحتجت فكتبت قراءة عاصم عن يحيى بن آدم عنه «6» ، توفي في جمادى الآخرة سنة تسع وعشرين ومائتين، ومولده سنة خمسين

24 - الليث بن خالد أبو الحارث البغدادي المقرئ

ومائة «1» . ومنهم 24- الليث بن خالد أبو الحارث البغدادي المقرئ «2» ذو العلم المروي «3» ، والفهم الموري «4» ، لا يوصف باع من نكل عنه بالقصور، ولا يطاق منه مغالبة الليث الهصور «5» ، لا تكشف عن مجادلته

المباحث، ولا تقتحم عليه غابته «1» وهو الليث وهو أبو الحارث، تقدّمه آفاق العراق حيث تعدّ جلتها، وتنقع أكناف «2» بغداد به من ما لا يبل إدامه دجلتها «3» ، وكان صاحب الكسائي، والمقدم من بين أصحابه «4» ، قرأ عليه وسمع الحروف من حمزة بن قاسم الأحول، وأبي محمد اليزيدي، «5» قال أبو عمرو وقد غلط أحمد بن نصر في نسبته، فقال الليث بن خالد المروزي. وذاك رجل آخر سمع من مالك بن أنس وجماعة يكنى أبا بكر «6» ، وممن قرأ على الليث: سلم بن عاصم ومحمد بن يحيى الكسائي الصغير «7» ، توفي سنة أربعين ومائتين «8» .

25 - عبد الله بن أحمد بن بشير بن ذكوان

ومنهم 25- عبد الله بن أحمد بن بشير بن ذكوان «1» أبو عمرو (ص 106) البهراني الدمشقي «2» مقرئ دمشق وإمام الجامع «3» . ومدام «4» حانها إلا أنه الذي يشرب بالمسامع حاشى «5» لله بل هو مصباح مسجدها، وصنو «6» فرقدها «7» ، وأثبت ما تعدّه منها، إرم ذات العماد من عمدها «8» ، ما الذي يوصف منه بالمدام إن لم يكن خلقه الدمث، ووجهه المنبسط وكفه المنبعث، لا بل هو أرق هواء، وأقل شغبا من المدام والتواء، بل هو النار توقّد ذهن، وتوفر حلم، يغدو والجبال معه كالعهن «9» ، كأن الذكاء أربى لابن ذكوان، والفطنة لا يشاركه فيها شريك إلا توقّد ذكاء إن كان، ولد يوم

عاشوراء سنة ثلاث وسبعين «1» ، وقرأ على أيوب بن تميم وغيره «2» ، وقيل إن الكسائي قدم دمشق فقرأ عليه ابن ذكوان «3» ، قال أبو زرعة: لم يكن بالعراق ولا بالحجاز ولا بالشام ولا بمصر ولا بخراسان في زمن ابن ذكوان أقرأ عندي منه «4» . وقال محمد بن الفيض الغساني: جاء رجل من الحرجلّة «5» يطلب لأخيه لعّابين لعرسه «6» ، فوجد ولي الأمر قد منعهم، فجاء يطلب المغبّرين «7» ، فلقيه صوفي ما جن فأرشده إلى ابن ذكوان وهو خلف المنبر، فجاءه وقال: إن السلطان قد منع المخنثين «8» ، فقال أحسن والله، فقال نعمل العرس بالمغبّرين وقد أرشدت إليك، فقال: لنا رئيس فإن جاء معك جئت «9» ، وهو ذاك وأشار إلى

26 - هشام بن عمار بن نصير

هشام بن عمار «1» ، فقام الرجل إليه وهو متكئ بحذاء المحراب، فقال لهشام: أبو من؟ فردّ عليه ردا ضعيفا وقال: أبو الوليد. قال: يا أبا الوليد أنا من الحرجلّة، قال: لا أبالي من أين كنت. قال إنّ أخي يعمل عرسه. قال فماذا أصنع؟ قال: قد أرسلني أطلب المخنثين له يعني المغاني، قال لا بارك الله فيهم ولا فيك. (ص 107) قال: وقد طلب المغبرين فأرشدت إليك، قال ومن أرشدك؟ قال: ذاك الرجل. فرفع هشام رجله ورفسه وقال: قم، ثم صاح يا ابن ذكوان قد تفرغت لهذا!!؟ قال إي والله أنت رئيسنا لو مضيت لمضينا «2» . وقيل إن هشاما كان الخطيب «3» ، وكان ابن ذكوان يؤم في الصلوات، أو لعله كان نائب هشام. وتوفي ابن ذكوان يوم الاثنين لليلتين بقيتا من شوال سنة اثنتين وأربعين ومائتين «4» . ومنهم 26- هشام بن عمار بن نصير «5» ابن ميسرة أبو الوليد السلميّ، ويقال الظفري الدمشقي، شيخ أهل دمشق

ومفتيهم، ومحدّثهم وخطيبهم ومقرئهم «1» ، رفعت به سليم رايتها الحمراء، ومهدت له دمشق بتربتها الخضراء، ونسب إلى ميسرة فتيسّر ما صعب من أمثلة القصي، وظفر بإجابة دعائه فلا عجب أن عرف بالظفري، تيمن المنبر، منبر المسجد الجامع، وتفنن فأودع الدرّ المسامع، وحدّث وخطب، وأقرأ وهو في هذا أحمد «2» وفي هذا قس «3» وفي هذا نافع «4» . ولد سنة ثلاث وخمسين ومائة «5» ، وقرأ القرآن على عراك بن خالد، وأيوب بن تميم وغيرهما من أصحاب يحيى الذماري «6» ، وسمع من مالك بن أنس «7» وخلق كثير، وحدّث عنه البخاريّ في صحيحه وأبو داود والنسائي وابن ماجه في سننهم، وحدّث الترمذي عن رجل عنه، وكان طلّابة للعلم واسع الرواية متبحرا في العلوم «8» ،

روى عنه عبدان الأهوازي، قال: ما أعدت خطبة منذ عشرين سنة «1» . وقال عبدان أيضا ما كان في الدنيا مثل هشام. وقال محمد بن خريم: كان هشام فصيحا (ص 108) مفوها سمعته يقول في خطبته: قولوا الحقّ ينزلكم الحقّ منازل أهل الحق يوم لا يقضى إلا بالحق «2» . وقال هشام: سألت الله سبع حوائج: سألته أن يغفر لي ولوالديّ، فما أدري ما صنع في هذه، وسألته الستة فقضاهنّ لي وهي الحج والعمرة، وأن يعمرني نحو المائة، وأن يجعلني مصدّقا على حديث نبيه، وأن أخطب على منبر دمشق، وأن يرزقني ألف دينار حلالا، وأن يغدو الناس إليّ في طلب العلم، فقيل له من أين لك الذهب؟ قال وجّه المتوكل بولده ليكتب عني لما قدم إلينا، فجلست فانكشف ذكري، فقال الغلام: يا عم استتر. فقلت: رأيته أما إنك لن ترمد فلما دخل على المتوكل ضحك، فسأله فأخبره، فقال: حسن «3» من الشيخ، احملوا إليه ألف دينار. فحملت إليّ من غير مسألة ولا استشراف نفس «4» ، وكان يخطب ويصلي بالناس الجمعة فقط «5» . قال أبو علي الأصبهاني لما توفي أيوب بن تميم رجعت الإمامة في القراءة إلى رجلين: ابن ذكوان وهشام. قال: وهشام كان مشتهرا بالنقل والفصاحة والعلم والرواية والدراية، رزق كبر السّن وصحة العقل والرأي، فارتحل الناس إليه في

27 - أبو عمر الدوري

القراءات والحديث «1» . زاد على ابن ذكوان بأخذه القراءة عن الوليد بن مسلم «2» ، وسويد بن عبد العزيز «3» ، وصدقة بن يحيى «4» وغيرهم، قال البخاري وغيره: مات في آخر المحرّم سنة خمس وأربعين ومائتين «5» . ومنهم 27- أبو عمر الدوري «6» واسمه حفص بن عمر بن عبد العزيز بن صهبان، ويقال: صهيب الأزدي البغدادي، المقرئ النحوي الضرير، نزيل (ص 109) سامراء مقرئ الإسلام، وشيخ العراق في وقته «7» ، والمحيط درّحبه كل كوكب عن سمته، يقال إنه أول من جمع القراءات وألفها، وبين للناس الروايات وأحرفها «8» ، وكان ممن تضرب

إليه الإبل آباطها «1» ، وتشد إليه الكران «2» مناطها «3» ، وتأتي إليه أفواج الطلبة لا تمدّ عليهم سجوف «4» المجرة «5» أنماطها «6» . ولا تفرش لهم إلا نمارق «7» البيد بساطها، وتقتحم إليه حوامل المزن «8» ترمي إليه من زناد «9» البروق أسقاطها، وتخوض إليه لجج الليل لا تستسقي إليه من نجوم الجوزاء أرسيتها «10» ولا من كواكب الدلو أقساطها «11» .

قرأ على إسماعيل بن جعفر، والكسائي، ويحيى اليزيدي «1» ، وسمع الحروف من أبي بكر «2» ، وروى عن أحمد بن حنبل، وهو من أقرانه «3» . وطال عمره، وقصد من الآفاق، وازدحم عليه الحذاق لعلو سنده وسعة علمه. قال الدوري: قرأت على إسماعيل بن جعفر ختمة بقراءة أهل المدينة، وأدركت حياة نافع ولو كان عندي عشرة دراهم لرحلت إليه «4» . وقال الأهوازي: رحل الدوري في طلب القراءات، وقرأ بالحروف السبعة وبالشواذ، وسمع من ذلك شيئا كثيرا «5» ، وذهب بصره في آخر عمره، وكان ذا دين وخير «6» . وقال أبو داود: رأيت أحمد بن حنبل يكتب عن عمر الدوري «7» . توفي في شوال سنة ست وأربعين ومائتين «8» .

28 - أبو شعيب السوسي

ومنهم 28- أبو شعيب السوسي «1» واسمه صالح بن زياد بن عبد الله بن إسماعيل الرستبي الرقي «2» ، حسبك به من صالح، ومن ابن زياد لأنه بالزيادة رابح، ومن أبي شعيب تشعبت طرق رواته، ومن رستبي ينمي في ثدي إسماعيل «3» عرق شجراته «4» ، قرأ وسمع وتبع وتبع، وجمع القراءة ثم له جمع، ما عرف (ص 110) قبله، رقيّ ترهف الأبصار نواحيه، ولا سوسي غيره لا يرغب إلا فيه. قرأ القرآن على اليزيدي «5» ، وسمع بالكوفة عبد الله بن نمير وأسباط بن محمد، وبمكة سفيان بن عيينة. وقرأ عليه جماعة «6» ، وأخذ عنه الحروف أبو عبد الرحمن النسائي «7» . قال المروذي: أخبرت أحمد بن حنبل أنّ أبا شعيب السوسي الرقي زوج بنته رجلا، فلما وقف في القرآن فرّق بينه وبين ابنته، وقد كان شاور النفيلي فأمره أن يفرّق بينهما.

29 - قنبل مقرئ أهل مكة

فقال أحمد: أحسن السوسي، عافاه الله «1» ومات السّوسي في أول سنة إحدى وستين ومائتين. وقد قارب تسعين سنة «2» . ومنهم 29- قنبل مقرئ أهل مكة «3» أبو عمر محمد بن عبد الرحمن المخزومي، مولاهم المكي «4» ، والبحر الزاخر لا الدّكي «5» كأنه ما سمّي قنبل إلا فراسة صدقت بأنه ينبل، رزن وقد خفّت الأجبل، وجمع وقد أنبتت الأحبل، وقرأ بمكة المعظمة وولي شرطتها، وما نقصه ولايتها، ولا غصّصه غايتها «6» ، وكان بها في سرّة بطائحها تسبل عليه الكعبة الغرّاء ستورها، وتشكر الصّفا والمروة لمساعيه بينهما مرورها، وتشرق به ليالي مني حتى كأنّها منه بسنا الصّباح تطرّف، وتشرف منه ثنية كدى

30 - أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد شيخ العصر أبو بكر البغدادي

وكداء «1» على ما لا ينفرد به جمع ولا ينكره المعرّف. جوّد القراءة على أبي الحسن القوّاس «2» ، وأخذ القراءة عن البزّي أيضا، وانتهت إليه رئاسة الإقراء بالحجاز «3» ، وقرأ عليه خلق كثير، منهم أبو بكر بن مجاهد، وأبو الحسن بن شنبوذ. وولي الشرطة بمكة في وسط عمره فحمدت سيرته، ثم إنه طعن في السّن وشاخ، وقطع الإقراء قبل موته بسبع سنين «4» ، قيل إنه كان يستعمل دواء يسقى للبقر يسمى قنيبل، فلما أكثر (ص 111) من استعماله عرف به، ثم خفف وقيل قنبل. وقيل هو من قوم يقال لهم القنابلة «5» . مولده سنة خمس وتسعين ومائة، وتوفي سنة إحدى وتسعين ومائتين «6» . ومنهم: 30- أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد شيخ العصر أبو بكر البغدادي «7» الأستاذ مصنف كتاب القراءات السبعة «8» ، ومشنف من أمال إليه سمعه، لم

يكن أكثر منه عدد طالب «1» ، ومدد راغب، وجدد فوائد تغصّ بها المذاهب، منور الآناء بقراءة لا يونّي في تلاوتها، ولا يولي وجهه صادا عن إبلاغ أمانتها، حتى قصد من شاسع الأرجاء «2» ، وأقدم على التحصيل منه طامع الرجاء، وكان عصره به ضحى، وبقي فضله أثرا على جبين الدهر إلا أنه ما انمحى. قرأ على ابن عبدوس عشرين ختمة، وعلى قنبل المكي، وسمع القراءات من طائفة كثيرة، ذكرهم في صدر كتابه، وسمع للحديث وتصدر للإقراء، وازدحم عليه أهل الأداء، ورحل إليه من الأقطار، وبعد صيته، وفاق في عصره سائر نظرائه من أهل صناعته، مع اتساع علمه وبراعة فهمه، وصدق لهجته، وظهور نسكه «3» . وتصدر للإقراء في حياة محمد بن يحيى الكسائي الصغير «4» . قال أبو الحسن بن سالم البصري: سمعت ابن مجاهد يقول: رأيت ربّ العزة في المنام فختمت عليه ختمتين، فلحنت في موضعين فاغتممت. فقال يا ابن مجاهد الكمال لي الكمال (لي) «5» .

وحكى ابن الأخرم أنه دخل بغداد فرأى في حلقة ابن مجاهد نحوا من ثلاث مائة متصدر «2» ، وسأل رجل أبا بكر بن مجاهد: لم لا يختار الشيخ لنفسه حرفا يحمل عنه؟؟ فقال نحن إلى أن نعمل أنفسنا في حفظ ما مضى عليه أئمتنا أحوج منا إلى اختيار حرف (ص 112) يقرأ به من بعدنا «3» . وانفرد ابن مجاهد عن قنبل بعشرة أحرف لم يتابع عليها. وكان في حلقته أربع وثمانون خليقة يأخذون عن الناس «4» ، وخمسة عشر رجلا أضرّاء «5» يتلقّنون لعاصم «6» . ومولده سنة خمس وأربعين ومائتين بسوق العطش ببغداد، وتوفي في شعبان سنة أربع وعشرين وثلاثمائة «7» .

31 - محمد بن أحمد بن أيوب بن الصلت ابن شنبوذ البغدادي.

ومنهم: «13» 31- محمد بن أحمد بن أيوب بن الصلت «1» ابن شنبوذ «2» البغدادي «3» . شيخ الإقراء بالعراق مع ابن مجاهد «4» ، ذو الرحلة التي وسعت الدنى حتى لم يجد مركنا «5» ، ودعت إليه علنا، ورعت حقه حين صوبت إليه أسنة الأعداء ألسنا «6» ، كان رجلا متبحرا، وعالما متكثرا، إلا أنه ما سلم من عثرة راعى له فيها دينه، فأقيلت «7» ، وزلة لم يكن قصدها، فإنها قيلت. قرأ القرآن على عدد كثير بالأمصار، وكان يرى جواز الصلاة «8» بما جاء في

مصحف أبي «1» ، ومصحف ابن مسعود «2» ، وبما صح في الأحاديث، ويتعاطى ذلك، وكان ثقة في نفسه صالحا ديّنا، متبحرا في هذا الشأن، لكنه كان يحط على ابن مجاهد، ويقول: هذا العطشي «3» لم تغبّر قدماه في طلب العلم- يعني أنه لم يرحل من بغداد-، وليس الأمر كذلك، قد حج وقرأ على قنبل «4» ، ولكن أين هو من سعة رحلة ابن شنبوذ، ولقيّه الأعيان في الأقطار؟ وكان ابن شنبوذ إذا أتاه رجل من القراء، قال له: هل قرأت على ابن مجاهد؟ فإن قال: نعم، لم يقرئه. «5» قال أبو عمرو الداني «6» : حدّثت «7» عن إسماعيل بن عبد الله الأشعري، حدثنا أبو القاسم بن زنجي الكاتب الأنباري قال: حضرت مجلس أبي علي بن مقلة «8» -

وزير الراضي «1» - وقد أحضر ابن شنبوذ، وجرت معه مناظرات في حروف حكي عنه أنه يقرأ بها، وهي شواذ «2» ، فاعترف بها بما عرف، مما عمل به محضر بحضرة (ص 113) أبي علي بن مقلة، وأبي بكر بن مجاهد، ومحمد بن موسى الهاشمي، وأبي أيوب محمد بن أحمد- وهما يومئذ شاهدان مقبولان-. نسخة المحضر «3» : سئل محمد بن أحمد المعروف بابن شنبوذ عما حكي عنه أنه يقرؤه، وهو: (فامضوا إلى ذكر الله) «4» فاعترف به، وعن (تجعلون شكركم أنكم

تكذبون) «1» فاعترف به، وعن (كل سفينة صالحة غصبا) «2» فاعترف به، وعن (اليوم ننحيك ببدنك) «3» فاعترف به، وعن: (تبت يدا أبي لهب وقد تب) «4» ، فاعترف به، وعن (فلما خرّ تبينت الأنس أن الجن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا حولا في العذاب المهين) «5» فاعترف به، وعن (الذكر والأنثى) «6» فاعترف به، وعن: (فقد كذب الكافرون فسوف يكون

لزاما) «1» ، وعن: يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ «2» ، وعن وَفَسادٌ كَبِيرٌ «3» فاعترف بذلك «4» . وفيه: اعترف ابن شنبوذ بما في هذه الرقعة بحضرتي، وكتب ابن مجاهد بيده يوم السبت لست خلون من ربيع الآخر سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة. ونقل ابن الجوزي «5» - وغير واحد- في حوادث سنة ثلاث هذه أن ابن شنبوذ أحضر، وأحضر عمر بن محمد بن يوسف القاضي، وابن مجاهد، وجماعة من القراء، ونوظر، فأغلظ للوزير في الخطاب، وللقاضي، ولابن مجاهد، ونسبهما إلى قلة المعرفة، وأنهم ما سافروا في طلب العلم كما سافر، فأمر الوزير بضربه سبع درر «6» وهو يدعو على الوزير بأن يقطع الله يده، ويشتت شمله، ثم

أوقف على الحروف التي يقرأ بها، فأهدر منها ما كان شنعا «1» ، وتوبوه عن التلاوة بها غصبا «2» ، وقيل: إنه أخرج من بغداد، فذهب إلى البصرة «3» . (ص 114) . ثم إن ابن مقلة عزل بعد نكبة الشيخ بسنة واحدة، فجرى عليه من الإهانة بالضرب، والتعليق والمصادرة أمر عظيم، ثم آل أمره إلى قطع يده ولسانه. وابن شنبوذ ما كان مصيبا فيما ذهب إليه، لكن خطأه في واقعة لا يسقط حقه من حرمة أهل القرآن والعلم، وكان الرفق أولى به من إقامته مقام الذعّار «4» والمفسدين، وكان اعتقاله والإغلاظ له كافيا «5» . وذكر ابن خلكان «6» أن ابن شنبوذ كتب بخطه ما صورته: يقول محمد بن أحمد بن أيوب- المعروف بابن شنبوذ- ما في هذه الرقعة صحيح، وهو قولي، واعتقادي، وأشهد الله- عز وجل-، وسائر من حضر على

32 - محمد بن النضر بن مر بن الحر الربعي الإمام أبو الحسن ابن الأخرم الدمشقي.

نفسي بذلك، وكتب بخطه، فمتى خالفت ذلك، أو بان مني غيره، فأمير المؤمنين في حل من دمي وسعة، وذلك يوم الأحد لسبع خلون من شهر ربيع الأول سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة، في مجلس الوزير أبي علي بن مقلة أدام الله توفيقه. وكلم أبو موسى السمسار «1» الوزير أبي علي في أمره، وسأله إطلاقه، وعرفه أنه إن صار إلى منزله قتلته العامة، وسأله أن ينفذه في الليل سرا إلى المدائن «2» . وتوفي ابن شنبوذ يوم الاثنين لثلاث خلون من صفر سنة ثمان وعشرين، وثلاثمائة «3» . وفيها هلك ابن مقلة. ومنهم: 32- محمد بن النضر بن مرّ بن الحر الربعي الإمام أبو الحسن ابن الأخرم الدمشقي «4» . سيد ربيعة «5» ، وسند أهل الشريعة، وابن الحر الذي ما مسه رق الصنيعة،

والفاخرة دمشق بطلوع نيّره «1» المحمدي في أفقها، والرابية جناتها المزخرفة من أبيه النضر أينع من ورقها، والمتصدر والناس دونه، والإمام وسهيل «2» قائم، وصفوف النجوم وراءه تتمنى أن تكونه (ص 115) . قرأ على هارون بن موسى بن شريك «3» ، وجعفر بن أحمد بن كزاز «4» ، وأحمد بن نصر بن شاكر «5» .، وانتهت إليه رئاسة الإقراء بالشام، وكانت له حلقة عظيمة، وتلامذة جلة. قال أبو عمرو الداني: روى القراءة عنه عرضا جماعة لا يحصى عددهم «6» . قال علي بن داود «7» : لما قدم ابن الأخرم بغداد حضر مجلس ابن مجاهد، فقال لأصحابه: هذا صاحب الأخفش الدمشقي فاقرؤوا عليه.

قال الشنبوذي «1» : قرأت على أبي الحسن ابن الأخرم، فما رأيت «2» أحسن معرفة منه بالقرآن، ولا أحفظ، وكان مع ذلك يحفظ تفسيرا كثيرا، ومعاني، قال لي: إن الأخفش لقنه «3» القرآن. وقال عبد الباقي بن الحسن «4» : قال لي ابن الأخرم: قرأت على الأخفش، وكان يأخذ علي في منزلي. قال عبد الباقي: كان أبوه يخلّص «5» للأخفش رزقه من السلطان في كل سنة. وحكى الأهوازي «6» عن ابن الأخرم قال: قدمت بغداد سنة عشرين وثلاثمائة في وفد الدمشقيين، فأتيت مسجد ابن مجاهد فحزرت «7» أن فيه ثلاثمائة متصدر، ولم أجد فيه موضعا، فجلست في أقصاه، فسمعت رجلا يقرأ على واحد منهم لابن عامر «8» ، ويغلط فيه، فرددت عليه، فانتهرني، وصاحوا علي فخرجت، فإذا بخياط، فجلست إليه ليخيط خرقا في درّاعتي «9» ، فقال:

من أين أنت؟ فقلت: من الشام، جئت إلى ابن مجاهد، فلم أصل إليه. قال: له امرأة شامية، فامض وسل عنها. فمضيت، وسألت عنها، فخرجت جارية، فقالت: من أي موضع أنت بدمشق؟ قلت: من قينية «1» - وكانت قائمة وراء الباب تسمع- فقالت:- هي بنفسها-: كيف مولاي أبو الحسن ابن الأخرم، وأخوه؟ قلت: أنا هو، ففرحت بي فرحا كادت أن تظهر لي، وأخذت تسألني عن (ص 116) أهلي، وجيراني، وقالت: ألك حاجة؟ قلت: أريد أن أقرأ على الشيخ. قالت: إذا كان من الغد، فاذهب إلى المسجد، فإنك تصل إلى ما تريده. فلما أصبحت وقفت على باب المسجد، فإذا الشيخ قد أومأ إلي بالدخول، وإذا جماعة من أصحابه قد تبادروا إلي، ووسعوا لي، فلما جلست، قال: أنت ابن الأخرم؟ قلت: نعم. فأخذ يسألني عن الحروف، وأنا أجيبه عن الغريب، وعن الشواذ، وعن معاني ذلك، فجذبني إلى عنده، وأقعدني بجنبه، ثم قال لأصحابه: هذا صاحب الأخفش. فلما قام ابن مجاهد، اجتمع إليّ جميع أصحابه، وقرأوا علي، وأدخلني ابن مجاهد على الوزير ابن عيسى «2» ، فقضى حوائجنا «3» ، وألزمني الوزير بالمقام

عنده، فلم أزل ببغداد سبع سنين، وبالجهد حتى أذن لي وقت وفاة أخي بالرجوع إلى دمشق قال أبو القاسم بن عساكر «1» : طال عمر ابن الأخرم، وارتحل الناس إليه، وكان عارفا بعلل القراءات، بصيرا بالتفسير والعربية، متواضعا، حسن الأخلاق، كبير الشأن. «2» قال محمد بن علي السلمي: قمت ليلة المؤذن الكبير «3» لأخذ النوبة على ابن الأخرم، فوجدت قد سبقني ثلاثون قارئا، فلم أدرك النوبة إلى العصر. وتوفي ابن الأخرم سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة، وقيل سنة اثنتين. وقال عبد الباقي بن الحس؟؟؟: توفي بعد سنة أربعين، وصليت عليه في المصلى بعد الظهر، وكان يوما صائفا وصعدت غمامة على جنازته من المصلى إلى قبره، فكانت شبه الآية له «4» . رحمه الله، ومولده سنة ستين ومائتين «5» .

33 - عبد الواحد بن عمر بن محمد بن أبي هاشم أبو طاهر (ص 117) البغدادي المقرئ.

ومنهم: 33- عبد الواحد بن عمر بن محمد «1» بن أبي هاشم «2» أبو طاهر (ص 117) البغدادي المقرئ. أحد الأعلام ومصنف كتاب البيان،، ومن انتهى إليه الحذق بأداء القرآن، تنصت لتلاوته، وينصف إذا قيل الزخرف من بدائعه، وجنى النحل من حلاوته، ذو فضل لو تمثل لتهدلت أفنانه بالثمر، وفعل ماذا يقال عنه إلا ما يحدث عن ابن عمر. قرأ القرآن على أحمد بن سهل الأشناني «3» ، وجماعة. وقرأ القرآن على ابن مجاهد. وأطنب أبو عمرو الداني في وصفه، وقال: لم يكن بعد ابن مجاهد مثله في علمه وفهمه مع صدق لهجته واستقامة طريقته، قرأ عليه خلق كثير، وكان ينتحل في النحو مذهب الكوفيين، وكان بارعا فيه. قال القفطي في تاريخ النحاة «4» : قرأ كتاب سيبويه «5» على ابن

درستويه «1» الفارسي، ولم ير بعد ابن مجاهد في القراءة مثله. قال الداني: سمعت عبد العزيز الفارسي «2» يقول: لما توفي ابن مجاهد «3» يوم موته أجمعوا على أن يقدموا شيخنا أبا طاهر، فتصدر للإقراء في مجلسه، وقصده الأكابر، فتحلقوا عنده، وكان قد خالف أصحابه في إمالة الناس لأبي عمرو «4» ، وكانوا ينكرون ذلك عليه. قال الخطيب «5» : كان ثقة أمينا. ومات في شوال سنة تسع وأربعين وثلاثمائة. وقال غيره: عاش سبعين سنة.

34 - محمد بن الحسن بن محمد بن زياد أبو بكر النقاش الموصلي ثم البغدادي

ومنهم: 34- محمد بن الحسن بن محمد بن زياد أبو بكر النقاش الموصلي ثم البغدادي «1» المقرئ المفسر أحد الأعلام. فضله البحر الذي ما زجر «2» ، وعلمه النقش في الحجر، فهما يجلي الغبش، وثباتا لا يمحو الدهر منه ما نقش، يفوق نقشه ما تتزين به الخدود، وتتسهم البرود «3» ، وينقش شبيهه الغمام الصناع زخرفا في حلل الروض المجود «4» . ولد سنة ست (ص 118) وستين ومائة، وعني بالقراءات من صغره وسمع الحروف من جماعة كبيرة، وطاف في الأمصار، وتجول في البلدان، وكتب الحديث وقيد السنن، وصنف المصنفات «5» في القراءات والتفسير، وطالت أيامه

فانفرد بالإمامة في صناعته، مع ظهور نسكه وورعه، وصدق لهجته، وبراعة فهمه، وحسن اضطلاعه، واتساع معرفته. روى القراءة عنه عرضا خلق الحصى عددهم. قال أبو بكر الخطيب: كان النقاش عالما بالحروف، حافظا للتفسير، صنف التفسير، وكتبا في القراءات، وغيرها، وسافر الكثير شرقا وغربا وكتب بمصر والشام والجزيرة وخراسان وما وراء النهر، وفي حديثه مناكير «1» بأسانيد مشهورة «2» . وقال الداني: سمعت عبد العزيز بن جعفر يقول: كان النقاش يقصد في قراءة ابن كثير «3» ، وابن عامر «4» لعلو إسناده «5» وكان له بيت ملآن كتبا، وكان الدارقطني يستملي له، وينتقي من حديثه، وقد حدث عنه ابن مجاهد، وكان حسن الخلق، ذا سخاء. وقال أبو الحسين القطان «6» : حضرت أبا بكر النقاش، وهو يجود بنفسه في

35 - محمد بن أحمد بن إبراهيم أبو الفرج البغدادي المقرئ الشنبوذي غلام ابن شنبوذ.

ثالث شوال سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة، فجعل يحرك شفتيه، ثم نادى بأعلى صوته لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ «1» يرددها، ثم خرجت نفسه- رحمه الله- «2» . ومنهم: 35- محمد بن أحمد بن إبراهيم أبو الفرج البغدادي «3» المقرئ الشنبوذي غلام ابن شنبوذ «4» . وإمام فضل عنه مأخوذ، [و] علم علم نافع، وأدب واسع، وطلب وجّه ركابه إلى كل شاسع، وحفظ لا يتخونه النسيان، وزكي من العلم مورود، لا يبلغ حاجته منه الصديان «5» ، حصل ما قصّر دونه جهد ابن مجاهد، وعزّ على ابن شنبوذ أن يأتي منه بشاهد، وانخرم على ابن الأخرم به نظامه، ونفذ (ص 119) إلى نفطويه «6» منه ما أحرقه ضرامه.

ولد أبو الفرج سنة ثلاثمائة، وقرأ على ابن شنبوذ، وابن مجاهد، وإبراهيم نفطويه، وابن الأخرم، وغيرهم، وأكثر الترحال في طلب القراءات وتبحر فيها، واشتهر اسمه، وطال عمره، وقرأ عليه خلق، وكان عالما بالتفسير، وعلل القراءات «1» قال أبو بكر الخطيب: سمعت «2» عبيد الله بن أحمد «3» يذكر الشنبوذي، فعظم أمره «4» وقال: سمعته يقول: أحفظ خمسين ألف بيت من الشعر شواهد للقرآن «5» . وقال أبو عمرو الداني: مشهور، نبيل، حافظ، ماهر، حاذق، كان يتجول في البلدان، سمعت عبد العزيز بن علي المالكي يقول: دخل أبو الفرج- غلام شنبوذ- على عضد الدولة «6» زائرا، فقال له: يا أبا الفرج، إن الله يقول يَخْرُجُ

36 - علي بن داود أبو الحسن الداراني القطان

مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ «1» ونرى العسل يأكله المحرور «2» فيتأذى به، والله الصادق في قوله؟ قال: أصلح الله الملك، إن الله لم يقل فيه الشفاء- بالألف واللام- اللذين يدخلان لاستيفاء الجنس، وإنما ذكره منكّرا، فمعناه فيه شفاء لبعض الناس دون بعض «3» . قال التنوخي: توفي أبو الفرج في صفر سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة «4» . ومنهم: 36- علي بن داود أبو الحسن «5» الداراني «6» القطّان «7» إمام جامع دمشق ومقرئه، حقيق أن يتنافس الناس على إمامته وتتحاسد

الأرض على إقامته، وتوجأ «1» أعناق المنابر إليه متلفتة، وتهدأ له هام المحاريب مخبتة، قطع الدنيا زهدا، وعاش في الأنام فردا، ما وقعت العيون عل صفاته الممثلة، ولا رأت في كل داراني مثل قطوفه المهدلة. (120) ولا أتى عنقود الثريا «2» منه بحبة، ومما «3» استعان بالسنبلة «4» ، ولا ادعت جني كرمه الكرام، ولا طمعت في رشف ريقته الآثام، ولا سمعت له قهقهة إبريق لأن الداراني لا يعصر منه المدام «5» . قرأ القرآن بالروايات على طائفة منهم: ابن الأخرم، وسمع من جماعة وقرأ عليه آخرون. قال رشأ بن نظيف «6» : لم ألق مثله حذقا وإتقانا في رواية ابن

عامر «1» . وقال عبد المنعم النحوي: خرج القاضي أبو محمد العلوي «2» ، وجماعة من الشيوخ إلى داريّا، إلى ابن داود، فأخذوه ليؤم بجامع دمشق في سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة، وجاءوا به بعد أن منعهم أهل داريا، وتنافسوا. قال الحافظ ابن عساكر: سمعت ابن الأكفاني «3» يحكي عن بعض مشايخه «4» أن أبا الحسن بن داود كان إمام داريا، فمات إمام الجامع، فخرج أهل البلد إلى داريا ليأتوا به، فلبس أهل داريا السلاح، وقالوا: لا نمكنكم من أخذ إمامنا، فقال أبو محمد عبد الرحمن بن أبي نصر «5» : يا أهل داريا، ألا ترضون أن يسمع في البلاد أن أهل دمشق احتاجوا إليكم في إمام «6» ؟ فقالوا: رضينا، فقدمت له بغلة القاضي، فأبى، وركب حماره «7» ، ودخل معهم، فسكن في

المنارة الشرقية، وكان يقرأ بشرقي الرواق الأوسط، ولا يأخذ على الإمامة رزقا، ولا يقبل ممن يقرأ عليه برا، ويقتات من غلة أرض له بداريا، ويحمل ما يكفيه من الحنطة «1» ، ويخرج بنفسه إلى الطاحون، فيطحنه، ثم يعجنه ويخبزه، وانتهت إليه الرئاسة في قراءة الشاميين، ومضى على سداد، وكان يذهب مذهب أبي الحسن الأشعري «2» . وتوفي في جمادى الأولى سنة اثنتين وأربعمائة «3» ، وقد نيف على الثمانين «4» .

37 - علي بن أحمد بن عمرو بن حفص أبو الحسن ابن الحمامي البغدادي.

(ص 121) ومنهم: 37- علي بن أحمد بن عمرو بن حفص «1» أبو الحسن ابن الحمامي «2» البغدادي. مقرئ العراق، ومسند الآفاق، وصدر قرّاء دار الخلافة بالاستحقاق، وشمس الشرق المشرقة بالعراق في أفق بغدادها، وبدر بلادها المتألق في جنح سوادها، الساطع بصاحبه الذي لا يمشي في ضوئه مريب، والطالع كوكبه الذي لا يخاف عليه مغيب، والجامع فضله الذي استمد منه جني الخطيب. قرأ على النقاش «3» ، وجماعة، وبرع في الفن، وسمع الحديث من خلق كثير، وحدث عنه أبو بكر الخطيب، والبيهقي «4» ، وطراد الزينبي «5» ، وغيرهم.

38 - أبو علي الأهوازي واسمه: الحسن بن علي بن إبراهيم المقرئ الأستاذ المحدث.

قال الخطيب: كان صدوقا، ديّنا، فاضلا تفرد بأسانيد القراءات، وعلوها «1» . مولده سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة، وتوفي في شعبان سنة سبع عشرة، وأربعمائة، وهو في تسعين سنة «2» . ومنهم: 38- أبو علي «3» الأهوازي «4» واسمه: الحسن بن علي بن إبراهيم المقرئ الأستاذ المحدث. بقي سهما في الكنانة «5» واحدا، ومخلفا لأهل جيله فاقدا، وأتته الوفود

تحث قلاصها «1» ، وتتمايل فوق ظهور المطي «2» أشخاصها، حتى انتهى به أجله، وارتمى إلى الغاية أمله، فأوتر له هلال الأجل قوسه، ثم رمى به إلى هدف ترابه، وأطاحه، وما نجا به ريش العقاب كاسره، ولا جرّه، وكان لابد أن سيرمى به، أو يكسر السهم كاسره. ولد سنة اثنتين وستين وثلاثمائة، وقدم دمشق سنة إحدى وتسعين فاستوطنها، وكان أعلى من بقي في الدنيا إسنادا في القراءات «3» ، عني بالرواية والأداء من صغره، وصنف عدة (ص 122) كتب في القراءات، ورحل إليه القراء لتبحره في الفن، وعلو إسناده، وكان عالي الرواية في الحديث أيضا، وله تواليف في الحديث، فيها أحاديث واهية، وله أيضا مصنف في الصفات «4» ، أورد فيه أحاديث موضوعة، فتكلم فيه الأشعريون لذلك، ولأنه كان ينال من أبي الحسن الأشعري، ويذمه «5» .

39 - عبد الرحمن بن أحمد بن الحسن بن بندار الرازي العجلي

قال ابن عساكر: «1» كان يقول بالظاهر، ويتمسك بالأحاديث الضعيفة «2» ، وقد تلقى القراء رواياته بالقبول، وكان يقرئ بدمشق في حياة بعض شيوخه من بعد سنة أربعمائة. وتوفي في رابع ذي الحجة سنة ست وأربعين وأربعمائة. ومنهم: 39- عبد الرحمن بن أحمد بن الحسن «3» بن بندار «4» الرازي «5» العجلي «6» المقرئ، أبو الفضل، أحد الأعلام، وشيخ الإسلام. قطع الأرض شتاتا،

ولقي الناس أشتاتا «1» ، وقنع باليسير، لا يملك بياتا، مع كسب له في عجل إلا أنه هدى قومه، وما أضل، وقضى يومه في الرشد، وظل، ولو بصر به السامري لحدثه عن موسى- صلوات الله عليه- بالأثر المنقول، وقال: فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ «2» بل لو رأى هو قريبه أبا دلف العجلي «3» لم يجعل له دالة بالقرى عليه، ولتنحى عن سحابه لئلا يدب دلف كرمه الدلفي إليه. وزد أن مولده بمكة، وما زال يتنقل في البلاد على قدم التجريد، والأنس بالله. قال أبو سعد السمعاني «4» : كان مقدما فاضلا كثير التصانيف حسن السيرة، زاهدا متعبدا، خشن العيش، منفردا، قانعا باليسير يقرئ أكثر أوقاته، ويروي الحديث، وكان يسافر وحده، ويدخل البراري. سمع بمكة والري، ونيسابور، وأصبهان، وطوس، وجرجان وبغداد،

والكوفة والبصرة ودمشق، ومصر.. قال: (ص 123) وكان الشيوخ يعظمونه، وكان لا ينزل الخوانق «1» ، بل يأوي إلى مسجد خراب، فإذا عرف مكانه تركه، وإذا فتح عليه بشيء آثر به. قال يحيى بن منده «2» في تاريخه: قرأ على «3» جماعة، وخرج من أصبهان إلى كرمان، وحدث بها، وبها مات، وهو ثقة ورع، متدين عارف بالقراءات، والروايات، عالم بالآداب، والنحو أكبر من أن يدل عليه مثلي، وهو أشهر من الشمس، وأضوأ من القمر، ذو فنون من العلم، مهيب، منظور، فصيح، حسن الطريقة. بلغني أنه ولد سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة. وله شعر رائق في الزهد. وقال أبو عبد الله الخلال» : لما توجه أبو الفضل من أصبهان إلى كرمان خرج الناس يشيعونه، فصرفهم، وقصد الطريق وحده، وقال: [الطويل] إذا نحن أدلجنا وأنت إمامنا ... كفى لمطايانا بذكراك حاديا قال الخلال: وكان في طريق، ومعه خبز، وشيء من الفانيذ «5» ، فقصده

40 - أبو علي - غلام الهراس - واسمه: الحسن بن القاسم ابن علي (ص 124) الواسطي المقرئ

قطاع الطريق، وأرادوا أن يأخذوا ذلك، فدفعهم بعصاه، فقيل له في ذلك، فقال: إنما منعتهم منه لأنه كان حلالا، وربما كنت لا أجد حلالا مثله. ودخل كرمان في هيئة رثة «1» ، فحمل إلى الملك، وقالوا جاسوس، فسأله الملك: ما الخبر؟ فقال: إن كنت تسألني عن خبر الأرض ف كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ «2» وإن كنت تسألني عن خبر السماء كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ «3» فتعجب الملك من كلامه، وهابه، وأكرمه، وعرض عليه مالا، فلم يقبله. وتوفي «4» في جمادى الأولى سنة أربع وخمسين وأربعمائة. ومنهم: 40- أبو علي «5» - غلام الهراس «6» - واسمه: الحسن بن القاسم ابن علي (ص 124) الواسطي «7» المقرئ

شيخ القراء، ومسند العراق، ومسار الركائب إليه من الآفاق، خلّف بعد جيله، وخلي فردا في قبيله، وأقام بمكة شرفها الله لاجئا إلى أبطحها، حائلا في أنيق مسرحها، حتى كان يقال له: إمام الحرمين. لتقدمه على أهل زمانه، وتأخرهم، وهو نزيل ذلك الحرم، ومصدّر ذلك المحراب الذي هو قبلة الأمم. ولد سنة أربع وسبعين وثلاثمائة، ورحل في القراءات شرقا وغربا، وقرأ على صاحب ابن مجاهد، وعمّر، وتأخرت وفاته عن رفقائه، وقرأ بالروايات قبل الأربعمائة، وبعدها على طائفة بواسط، وبغداد، والكوفة، والبصرة، وحرّان، ومصر، وقرأ بدمشق على أبي علي الأهوازي «1» ، وغيره، وتصدر للإقراء بدمشق في حياته، ثم حج، وجاور، وكان بفرد عين، ثم شاخ وعمي «2» ، ورحل الناس إليه من الآفاق وقرءوا عليه وكان يلقب" إمام الحرمين". وتوفي «3» يوم الجمعة السابع من جمادى الأولى سنة ثمان وستين وأربعمائة.

41 - أبو الطاهر بن سوار الضرير الحنفي صاحب المستنير في القراءات العشر،

ومنهم: 41- أبو الطاهر «1» بن سوار «2» الضرير الحنفي صاحب المستنير في القراءات العشر، أحد الحذاق المنور قلبه لا بصره، المسور، وما أسواره المنيعة إلا سوره، ابن سوّار، ومن للهلال أن يكون له سوارا، أبو طاهر كناية عن التصريح أنه المطهر إزارا، المأخوذ عنه كتاب الله يندى غضارة «3» ، وينأى أن يجف نضاره «4» ، القاهر هوى شهواته في طلبه، القائم به في قهر الأعداء متحصنا بيلبه «5» . ولد سنة اثنتي عشرة وأربعمائة. وقرأ القراءات «6» على عتبة بن عبد الملك العثماني «7» ، وأبي علي الشرمقاني «8» ، والحسن بن علي العطار «9» ، وجماعة

وسمع الحديث (ص 125) الكثير من طائفة، وقرأ عليه القرآن أبو علي بن سكرة الصدفي «1» ، وجماعة، وحدث عنه آخرون. قال ابن سكرة: هو حنفي المذهب، ثقة، خير، حبس نفسه على الإقراء، والتحديث. وقال ابن ناصر «2» : نبيل ثقة، ثبت، متقن. وقال السمعاني: كان ثقة أمينا، مقرئا، حسن الأخذ للقرآن، ختم عليه جماعة كتاب الله، وكتب بخطه الكثير من الحديث. قال السلفي «3» : سمعت منه معظم المستنير. وتوفي في شعبان سنة ست وتسعين وأربعمائة ببغداد «4» . واسمه: أحمد بن علي بن عبيد الله بن عمر بن سوار البغدادي.

42 - محمد بن الحسين بن بندار

ومنهم: 42- محمد بن الحسين «1» بن بندار «2» الأستاذ «3» أبو العز الواسطي «4» القلانسي «5» ، ومقرئ العراق، وصاحب التصانيف «6» ، وحاصب الدر في العقود بحسن التأليف، الواسطي الذي ما جالت في يد مثله أقلامها، ولا جاءت بشبيهه تحت ثياب العشي أيامها، ما التقى على شروى «7» ليث سراه رافداها، ولا طافت على نظير نضاره «8» دجلة،

وقد طفح جانباها، ولقد فخر به سالف نسبه، وكان لبندار البدار إلى ما أولاها. قرأ الروايات المشهورة، والشاذة على غلام الهراس «1» ، وغيره، وأخذ أيضا عن أبي القاسم الهذلي «2» ، ورحل إلى بغداد سنة إحدى وستين وأربعمائة، وسمع من جماعة، وتصدر للإقراء دهرا، ورحل إليه من الأقطار، وكان بصيرا بالقراءات وعللها، وغوامضها، عارفا بطرقها، عالي الإسناد. مولده سنة خمس وثلاثين وأربعمائة، وتوفي بواسط في شوال سنة إحدى وعشرين وخمسمائة.

43 - عبد الله بن علي بن أحمد. الأستاذ البارع أبو محمد البغدادي (ص 126) النحوي

ومنهم: 43- عبد الله بن علي بن أحمد «1» . الأستاذ البارع أبو محمد البغدادي (ص 126) النحوي «2» سبط أبي منصور الخياط «3» ، ممن يطرب له السماع، وأيّد بالملائكة، إذ أيّد بالشياطين ابن جامع «4» ، يحن إليه الجماد، ويحج «5» إليه أهل البلاد اتقانا في فنه، وإحسانا. ما مال إليه السامع حتى عاد بملء أذنه، له المحاسن الشاملة، والمصنفات المفيدة كتمام ميقات موسى تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ «6» .

ولد سنة أربع وستين وأربعمائة، وسمع من جماعة، وقرأ القراءات على طائفة كثيرة، وأقرأ الناس بمسجد ابن جردة «1» ، وأمّ به دهرا، وكان رئيس المقرئين في عصره، ختم عليه خلق كثير، وعرض عليه جماعة، وكان إماما محققا، واسع العلم، متين الديانة، وكان أطيب أهل زمانه صوتا بالقرآن على كبر السن، صنف التصانيف المليحة نحو العشرة «2» . قال أبو سعد السمعاني: كان متواضعا متوددا حسن القراءة في المحراب، سيما ليالي رمضان، كان يحضر عنده الناس لاستماع قراءته. له تصانيف في القراءات خولف في بعضها، وشنع عليه، وسمعت أنه رجع عن ذلك- والله يغفر لنا وله-. وقال أحمد بن صالح الجيلي «3» : سار ذكر سبط الخياط في الأغوار، والأنجاد، ورأس أصحاب الإمام أحمد، وصار واحد وقته، ونسيج وحده «4» ، لم أسمع في جميع عمري من يقرأ الفاتحة أحسن، ولا أصح منه، وكان جمال العراق بأسره، وكان ظريفا، كريما لم يخلف مثله في أكثر فنونه، وكان أيضا من كبار أئمة اللغة، ومن شعره: [الخفيف] أيها الزائرون بعد وفاتي ... جدثا ضمني ولحدا عميقا

44 - الحسن بن أحمد بن الحسين بن أحمد بن محمد. الأستاذ أبو العلاء الهمذاني العطار الحافظ المقرئ شيخ أهل همذان.

سترون الذي رأيت من الموت ... عيانا وتسلكون الطريقا وتوفي في ربيع الآخر سنة إحدى وأربعين وخمسمائة، وصلى عليه الشيخ (ص 127) عبد القادر الجيلي «1» ، ودفن عند جده أبي منصور على دكة «2» الإمام أحمد، وكان الجمع يفوت الإحصاء، وغلق أكثر البلد ذلك اليوم. قال ابن الجوزي «3» : ما رأيت جمعا أكثر من جمع جنازته- رحمه الله-. ومنهم: 44- الحسن بن أحمد بن الحسين بن أحمد بن محمد «4» . الأستاذ أبو العلاء الهمذاني «5» العطار الحافظ المقرئ شيخ أهل همذان. كل ما عنده من العلم الجم، والفضل الذي تم، هو العطار الذي عنده كل دوا،

ولديه كل ما يصلح للهوى، وهو القرآن الذي هو شفاء لما في الصدور، وصلاح لفساد الأمور، وكان يعنى بالعلم لتعليمه، ويقيده بالضبط لزيادة تفهيمه، رافقا ولو عمل عمل يوم في شهر، قاصدا للإصلاح، وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر؟. ولد سنة ثمان وثمانين وأربعمائة، وارتحل إلى أصبهان، فقرأ بها القراءات والحديث على أبي علي الحداد «1» ، وإلى بغداد، فقرأ على أبي عبد الله البارع «2» وغيره، وإلى واسط فقرأ على أبي العز القلانسي «3» ، وسمع من ابن بيان «4» وطبقته، وحصل الأصول النفيسة، والكتب الكبار، وانتهت إليه مشيخة العلم ببلده، وبرع في فني القراءات والحديث، وروى عنه خلائق، وقد أثنى عليه عبد القادر «5» ، وقال: تعذر وجود مثله في أعصار كثيرة، وأربى على أهل زمانه في كثرة السماعات مع تحصيل أصول ما سمع، وجودة النسخ، وإتقان ما كتب،

فما كان يكتب شيئا إلا معربا منقوطا، وبرع على الحفاظ «1» ، جاءته فتوى في أمر عثمان بن عفان، فكتب فيها من حفظه، ونحن جلوس درجا «2» طويلا «3» . وله التصانيف في الحديث، والزهد، والرقائق، وصنف" زاد المسافر" في خمسين مجلدا، وصنف في القراءات العشر، والوقف، والابتداء (ص 128) ، والتجويد، ومعرفة القراء، وأخبارهم، وهو كبير، وكان إماما في النحو، واللغة. سمعت أنه حفظ كتاب" الجمهرة" «4» ، وكان من أبناء التجار، فأنفق جميع ما ورثه في طلب العلم حتى سافر إلى بغداد، وأصبهان مرات ماشيا، وكان يحمل كتبه على ظهره، قال لي: كنت أبيت في بغداد في المساجد، وآكل خبز الدخن «5» ، إلى أن قال عبد القادر: ثم عظم شأنه حتى كان يمر بالبلد «6» فلا يبقى أحد رآه إلا قام، ودعا له حتى الصبيان واليهود. وكان يقرئ نصف نهاره القرآن، والعلم، ونصفه الآخر الحديث «7» وكان لا يغشى السلاطين، ولا تأخذه في الله لومة لائم، وكانت السنة شعاره، ودثاره «8» اعتقادا،

45 - عبد الله بن منصور بن عمران بن ربيعة، الأستاذ أبو بكر الربعي الواسطي، المعروف بابن الباقلاني

وفعلا، ولا يمس جزء الحديث إلا على وضوء» . توفي في تاسع عشر جمادى الأولى سنة تسع وستين وخمسمائة. ومنهم: 45- عبد الله بن منصور بن عمران بن ربيعة «2» ، الأستاذ أبو بكر الربعي «3» الواسطي «4» ، المعروف بابن الباقلاني «5» . مسند القراء بالعراق، ومورد الظماء ما راق، كم زاد منتجع «6» ربيعة، ورام مثله فلم يكن إلا من ربيعه، عرف بابن الباقلاني لأنه من خليطي المسك والكافور مصور، وعرف به أرج ذكره لو تضور «7» ، وجاء برواياته الباقلانية، وكان سوادها في البياض زهره المنور.

ولد في أول سنة خمسمائة، وقرأ القراءات على أبي العز القلانسي «1» ، وسبط الخياط «2» ، وغيرهما، ونظر في الفقه والعربية، وقال الشعر، وقدم دمشق، فسمع بها، وانتهى إليه علو الإسناد، ورحل إليه الطلبة، وطار ذكره، وبعد صيته، وروى عنه من شعره ابن السمعاني، وابن عساكر «3» ، وماتا قبله بدهر، وقرأ عليه بالروايات أبو الفرج ابن الجوزي، وابنه يوسف «4» وجماعة، ودار عليه (ص 129) إسناد العراق، وذكره ابن عساكر، فقال: قدم دمشق ومدح بها بعض الناس بقصيدة يقول فيها «5» : [البسيط] بأي حكم دم العشاق مطلول ... فليس يودى لهم في الشرع مقتول ليت البنان التي فيها رأيت دمي ... يرى بها لي تقليب وتقبيل وقال ابن الدبيثي «6» : انفرد في وقته برواية العشرة «7» عن أبي العز

46 - عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم العلامة ذو الفنون شهاب الدين أبو القاسم المقدسي ثم الدمشقي الشافعي المقرئ النحوي الأصولي عرف ب أبي شامة

القلانسي، وادعى رواية شيء آخر من الشواذ عنه، فتكلم الناس فيه، ووقفوا في ذلك، واستمر هو على رواية المشهور والشاذ شرها منه، وكان عارفا بوجوه القراءات، وحسن التلاوة، وأقرأ الناس أكثر من أربعين سنة. وتوفي في سلخ ربيع الأول سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة. وقال عبد المحسن بن أبي العميد الصوفي: رأيت في النوم كأن شخصا يقول لي: صلى عليه سبعون وليا لله. ومنهم: 46- عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم «1» العلّامة ذو الفنون شهاب الدين أبو القاسم المقدسي ثم الدمشقي الشافعي «2» المقرئ النحوي الأصولي عرف ب" أبي شامة" صاحب التصانيف المتنوعة، والتواليف المبدعة، والفضائل الذي لا ينتهى إلى قرارها، والفواضل التي لا يسع معها طوائف الحساد غير إقرارها، كان في وجنة الشام شامة، وفي وجنة جنانها رضوانا، أو عليه علامة. ما ألمت قبله بعيون دمشق سنتها، ولا سمّت فاضلها بأبي شامة إلا وهو حسنتها، يجف اللسان، وما بلغ في وصفه أدنى مناه، وتبذخ الشهب خيلاء إذا لقب بنعت أحدها، وأين

النجم من (ص 130) هدايته، والشهاب من سناه. ولد في أحد الربيعين سنة تسع وتسعين وخمسمائة، وقرأ القرآن صغيرا «1» ، وأكمل القراءات على شيخه السخاوي «2» سنة عشرة وستمائة، واعتنى بأولاده قبل الأربعين، وأسمعهم الكثير، وقرأ بنفسه، وكتب الكثير من العلم، وأحكم الفقه، ودرس وأفتى، وبرع في العربية، وصنف، وشرح واختصر «3» ، وحصل له الشيب، وهو ابن خمس وعشرين سنة، وولي مشيخة القراءة بالتربة الأشرفية «4» ، ومشيخة الحديث بالدار الأشرفية «5» ، وكان مع فرط ذكائه، وكثرة علمه

47 - أحمد بن يوسف بن حسن بن رافع، أبو العباس موفق الدين الكواشي الشافعي المقرئ المفسر الزاهد.

متواضعا، مطرحا للتكلف، وربما ركب الحمار بين المداويز «1» . وفي جمادى الآخرة سنة خمس وستين وستمائة جاءه اثنان من الجبلية «2» وهو في بيته عند طواحين الأشنان «3» فدخلا يستفتيانه، فضرباه ضربا مبرحا كاد أن يأتي على نفسه، ثم ذهبا، ولم يدر من سلطهما عليه، فصبر واحتسب. وتوفي في تاسع عشر من رمضان من السنة المذكورة «4» . وكان فوق حاجبه الأيسر شامة كبيرة فلذا قيل له أبو شامة. ومنهم: 47- أحمد بن يوسف «5» بن حسن بن رافع «6» ، أبو العباس «7» موفق الدين الكواشي «8» الشافعي المقرئ المفسر الزاهد. بقية الأعلام، وطوية خير أظهرها الله به للإسلام تفسيره الذي صنفه علما باقيا، وعلما هاديا من الضلال واقيا، صدر عن صدر ماج البحر في جانبه، ومال

الطود من مناكبه، وبر تقي ما شحب الفلك الدوار على نظير سبايب سباسبه «1» ، إن لقب بالموفق فهو الذي ما عدمه، أو عرف بالكواشي «2» فلأن كل شيء من علم كتاب الله علمه، أو ولد مثله الزمان فإنه حمد بعده عقمه. ولد في ربيع الأول سنة إحدى وتسعين «3» وخمسمائة وقرأ (ص 131) على والده، وقدم دمشق، وأخذ عن السخاوي «4» وغيره، وسمع من ابن روزبة «5» ، وتقدم في معرفة القراءات، والتفسير والعربية، وكان منقطع القرين، وعديم النظير زهدا وصلاحا وصدقا، وتبتلا وورعا، واجتهادا، صاحب أحوال، وكرامات، وكان السلطان فمن دونه يزورونه، فلا يقوم لهم، ولا يعبأ بهم، ولا يقبل صلتهم، أضر قبل موته بسنوات «6» ، وصنف التفسير الكبير، والتفسير الصغير «7» قال الحافظ أبو عبد الله الذهبي: بلغنا أنه اشترى قمحا من قرية" الجابية" «8» لكونها من فتوح عمر ثلاثة أمداد، وحملها إلى الموصل، فزرعها

48 - إبراهيم بن عمر بن إبراهيم الأستاذ برهان الدين أبو محمد الربعي الجعبري المقرئ الشافعي النحوي.

بأرض البقعة «1» ، وخدمها بيده، ثم حصده، وتقوت منه، وخبأ بذارا، ثم زرعه، فنمى، وكبر إلى أن بقي يدخل عليه من ذلك القمح ما يقوم به وبجماعته من أصحابه، وكان إذا أرسل إلى عند صاحب الموصل لا يرده «2» . وتوفي في سابع عشر جمادى الآخرة سنة ثمانين وستمائة. وكواشة: قلعة من بلاد الموصل «3» . ومنهم: 48- إبراهيم بن عمر بن إبراهيم «4» الأستاذ برهان الدين أبو محمد الربعي «5» الجعبري المقرئ الشافعي النحوي. شيخ بلد" الخليل"- عليه السلام- «6» بل شيخ القراء في وقته والسلام، نزيل

ذلك الحرم، وضيف ذلك الكرم، وجليس ذلك المحراب المعمور، وأنيس ذلك المكان المتألق مع وجود ذلك النور، المتقلل من كثير من الدنيا والموفي بنذره في طلب العليا، المناجي بلسان الخليل أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا «1» ، المنقطع إلى من تسمى باسمه إبراهيم، المجمع على أنه لا يرحل عن جواره الكريم، الذي ساد، وما خلت البقاع، وأشرق وما أطل فرع الليل البهيم. قرأ بالسبع «2» على أبي الحسن الوجوهي «3» صاحب (ص 132) الفخر الموصلي «4» ، وبالعشر على المنتجب بن حسن التكريتي «5» ، وروى القراءات بالإجازة «6» ، وتصدر للإقراء دهرا، وصنف التصانيف الرائقة في فنون العلم، وهاجر إليه الطلبة من الآفاق، وله شرح الشاطبية «7» كامل في معناه، وآخر للرائية «8» ، ونظم في السبع، والعشر، والرسم، والتجويد، وله نحو من مائة مصنف.

49 - محمد بن بصخان بن عين الدولة الإمام بدر الدين بن السراج.

ولد في حدود سنة أربعين وستمائة، أو قبلها بقلعة جعبر «1» ، واشتغل ببغداد، ثم قدم دمشق، فنزل بالسميساطية «2» ، وأعاد بالغزالية «3» ، ثم ولي مشيخة حرم الخليل بعد البديع «4» ، فبقي هناك إلى أن توفي في شهر رمضان سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة. ومنهم: 49- محمد «5» بن بصخان «6» بن عين الدولة الإمام بدر الدين بن السراج. متقدم بالعلم، ومفضل يحتج به أهل الإيمان، ومحلا ورده للطالب لا يرد عنه

بغلته «1» ظمآن، ومهنأ بفضل ما أوتي لا يضره فيه أهل الشنآن «2» ، وله في الموسيقا ما يقرع له العود، ويقر له الحسود، ويقرر أنه ما غاب نصيبه مما قيل اعملوا شكرا آل داود «3» ، إلا أنه لم يكن معتدل المزاج، ولا معتد الجسم للعلاج، لإفراط «4» سوداء «5» به منعته من المأكل كل بيضاء شحمة، وكل حمراء لحمة، وكل خضراء نضرة نعماء، وكل زرقاء نطفة ماء «6» ، وكل صفراء فلذة حلواء، تسمى باسم من الأسماء» ، فقضى مدة حياته منغصا، واستوفى رزقه من الدنيا إلا أنه أخذه منقصا، وهيهات هيهات بتجنب الطيبات من الرزق طول طيب الحياة: [الكامل] وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمة لا تنفع ولد سنة ثمان وستين، وسمع الكثير بعد الثمانين، واعتنى بالقراءات سنة (ص 133) تسعين وبعدها، وحج غير مرة، وانجفل «8» إلى مصر سنة سبعمائة «9» ،

وجلس في حانوت تاجرا، ثم أقبل على العربية فأحكمها «1» ، وقدم دمشق بعد ستة أعوام، وتصدر «2» لإقراء القراءات، والنحو «3» ، وقصده القراء والمشتغلون، وظهرت فضائله، وبهرت معارفه، وبعد صيته، ثم إنه أقرأ لأبي عمرو بإدغام الْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها «4» وبابه، ورآه واسعا «5» في العربية، والتزم إخراجه من القصيد «6» ، وصمم على ذلك مع اعترافه بأنه لم يقرأ به «7» ، وقال: أنا قد أذن لي أن أقرئ بما في القصيد وهذا مخرج منها، فقام عليه التونسي «8» ، وابن الزملكاني «9» وغيرهما، فطلبه قاضي القضاة" ابن صصرى" «10» بحضورهم، وراجعوه، وناظروه، فلم يرجع، وأصر فمنعه الحاكم المذكور من الإقراء به، وأمره بمراجعة «11» الجمهور فتألم، وانقطع في بيته، وامتنع من الإقراء جملة، ثم استخار الله تعالى، واستأذن الحاكم من الإقراء بجامع دمشق، فأذن له، وجلس للإفادة، وازدحم عليه الطلبة، وأخذوا عنه القراءات والعربية.

وكان له ملك يقوم بمصالحه، ولم يتناول من الجهات درهما، ولا طلب جهة مع كمال أهليته، ثم ولي مشيخة الإقراء بتربة أم الملك الصالح «1» بعد التونسي لكونه أقرأ من وجد بدمشق من المتصدرين، وكذلك ولي إمامة مسجد أبي الدرداء بقلعة دمشق، ثم تركها، وانتهت إليه رئاسة الإقراء بالشام. وتوفي في ذي الحجة سنة ثلاث، وأربعين، وسبعمائة. وهذا آخر من كان يعد في فنه واحدا في الزمان، وفردا لا يلز «2» بثان، فلما قرّ القبر بإيابه، ونفضت الأيدي من ترابه تساوت بعده الأنظار، وتواست «3» لواحد في عدم الإقرار على أن في الأيام منهم شموسا لوامع، وفي الليالي بدورا طوالع، إلا أنه لم ينبغ منهم في هذا الفن متفردا (ص 134) به واحد، ولا قنع به دون ضم أطراف العلوم الشوارد، بل ما في جلة الوقت ممن أتقن القراءات إلا من جعلها تماما لحليه «4» من غير نقيصة، ومشاركة في عموم معارفه، لا خصيصة، قلما من تمخض للقراءات، فما منهم رأس ارتفع، ولا واحد عليه مجتمع، وكان موته إذ حمل على أعناق الرجال، وقدم له النعش للارتحال، كما زعم الأول وقال:

تساوت الناس ومات الكمال تغمده الله بالرحمة والرضوان، وآنسه بالقرآن، فبموته ختم قراء الجانب الشرقي، وتظلّم لحظة الشقي «1» .

[قراء الجانب الغربي]

[قراء الجانب الغربي] فأما القراء بالجانب الغربي، ومن قرأ في بلاد البرابرة «1» العجم «2» الكتاب المنزل باللسان العربي، فسأذكر منهم طائفة لولا مصر لما جمع منهم جمع كثرة ولا قلة، ولا من يروي منه بنهله ولا عله «3» ، وها أنا أقول: منهم: 50- محمد بن عمر بن خيرون المعافري «4» أبو عبد الله المغربي «5» . شيخ الإقراء بالقيروان «6» ، مضى زمن وهو صدر ذلك الأوان، عمت به الإفادة، وحصل بجده محصل من جده من خير وزيادة، رحل وقرأ، وحذق في

قراءة ورش «1» ، وله مسجد بالقيروان منسوب إليه. قال أبو عمرو الداني: روى عنه عامة أهل القيروان، وسائر المغرب، وكان رجلا صالحا فاضلا كريم الأخلاق، إماما في القرآن «2» ، شديد الأخذ، ولم يكن يقرأ أهل إفريقية بحرف نافع «3» إلا خواص حتى قدم ابن خيرون، فاجتمع عليه الناس «4» . وتوفي بمدينة سوسة «5» في نصف شعبان سنة ست وثلاثمائة.

51 - أبو عمر الطلمنكي، واسمه: أحمد بن محمد بن عبد الله المعافري الأندلسي المقرئ، الحافظ.

ومنهم: 51- أبو عمر «1» الطلمنكي» ، واسمه: أحمد بن محمد بن عبد الله المعافري «3» الأندلسي المقرئ، الحافظ. نزيل قرطبة إذ كانت تزهر بحدائقها، وتزهى (ص 135) كالغادة العذراء بألايقها «4» ، وكان لقرطبة قرطا لأذنها، وللزهراء زهر [ا] تفيح في فننها، يفيد أهلها، ويفيت «5» الرياح اللواقح «6» أن يلحق فضلها، تقلدت منه صارما أفتك من يهزها، وأثبت على عواتقها من مستقر الخلافة في صدرها، فقام والدهر قد

قعد، وسح حبا فأنجز حر منه ما وعد. ولد سنة أربعين وثلاثمائة، وسمع سنة اثنتين وستين، وهو أول سماعه، وقرأ على أبي الحسن علي بن محمد الأنطاكي «1» ، وأبي الطيب بن غلبون «2» ، ومحمد بن علي الأذفوي- «3» وقيل: سمع منه ولم يقرأ عليه-. وروى عن جماعة، ورجع إلى الأندلس بعلم جم. وروى عنه: أبو عمر بن عبد البر «4» ، وأبو محمد بن حزم «5» ، وطائفة كثيرة. وكان رأسا في علم القرآن وإعرابه، وأحكامه، وناسخه ومنسوخه، ومعانيه، رأسا في علم الحديث، ومعرفة طرقه، حافظا للسنن، ذا عناية بالآثار والسنة، إماما في عقود الديانات، ذا هدي، وسمت، ونسك، وصمت.

قال أبو عمرو الداني: كان فاضلا ضابطا، شديدا في السنة. وقال ابن بشكوال- في كتاب الصلة-: كان سيفا مجردا على أهل الأهواء، والبدع، قامعا لهم، غيورا على الشريعة، شديدا في ذات الله، أقرأ الناس محتسبا، وأسمع الحديث، وأمّ بمسجد منعة «1» ، ثم إنه خرج إلى الثغر، فجال فيه، وانتفع الناس بعلمه، ثم قصد بلده في آخر عمره، فتوفي في ذي الحجة سنة تسع وعشرين وأربعمائة.

52 - مكي بن أبي طالب حموش (ابن محمد بن مختار) القيسي المغربي القيرواني، ثم الأندلسي القرطبي العلامة المقرئ

ومنهم: 52- مكي بن أبي طالب «1» حمّوش «2» (ابن محمد بن مختار) القيسي المغربي القيرواني، ثم الأندلسي القرطبي «3» العلامة المقرئ الماشي رويدا، والسحاب خلفه يجري، سمح به- على بخله الزمن-، وأصاب به من لم يقس قيسا بيمن، ووجلت منها يمن حتى حملت شعارها «4» الأصفر إشعارا بأنها من ذممها «5» ، وأوجفت عليها قيس (ص 136) تحت رايتها الحمراء مخضبة بدمها، ولقد عرفت له دعوة مجابة، وساعة ما مد فيها يده حتى فتحت له أبواب السماء بالإجابة.

ولد سنة خمس وخمسين وثلاثمائة بالقيروان، وحج وسمع بمكة، وقرأ القراءات على أبي الطيب بن غلبون «1» ، وابنه طاهر «2» ، وسمع من محمد بن علي الأذفوي «3» ، وكان متبحرا في علوم القرآن، والعربية، حسن الفهم، والخلق، جيد الدين، والعقل، كثير التأليف في علوم القرآن، محسنا مجودا، عالما بمعاني القراءات، سافر إلى مصر، وهو ابن ثلاث عشرة سنة، وتردد إلى المؤدبين بالحساب، وأكمل القرآن، ورجع إلى القيروان، ثم رحل، فقرأ القراءات على ابن غلبون سنة ست وأربعين، وقرأ بالقيروان- أيضا- بعد ذلك، ثم رحل سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة، وحج، وجاور ثلاثة أعوام، ودخل الأندلس سنة ثلاث وتسعين، وجلس للإقراء بجامع قرطبة، وعظم اسمه، وجل قدره. قال ابن بشكوال: قلده أبو الحزم [ابن] جهور «4» خطابة قرطبة بعد يونس ابن عبد الله القاضي «5» ، وكان قبل ذلك ينوب عن يونس، وله ثمانون تأليفا، «6» وكان خيرا متدينا، مشهورا بالصلاح، وإجابة الدعوة، دعا على رجل

53 - أبو عمرو الداني: واسمه عثمان بن سعيد بن عثمان بن سعيد ابن عمر الأموي - مولاهم -

كان يسخر به وقت الدعاء «1» ، فأقعد ذلك الرجل. توفي ثاني المحرم سنة سبع وثلاثين وأربعمائة. ومنهم: 53- أبو عمرو «2» الداني «3» : واسمه عثمان بن سعيد بن عثمان بن سعيد ابن عمر الأموي «4» - مولاهم- القرطبي، الإمام، العلم المعروف- في زمانه- بابن الصيرفي، وفي زماننا بأبي عمرو الداني لنزوله بدانية، وتزوجه منها إلى حيث النجوم بانية، هو أبو عمرو «5» وقته، ونافع «6» زمانه، أو مساميه في سمته الذي لم يتأخر إذ جاء في آخر الزمان،

ولم يتعذر ملاقاة القراء السبعة الأول، على من لم (ص 137) يعاصرهم وعاصر منهم عثمان. ولد سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة. قال أبو عمرو: ابتدأت بطلب العلم في سنة ست وثمانين وثلاثمائة، ورحلت إلى المشرق سنة سبع وتسعين، فمكثت بالقيروان أربعة أشهر أكتب، ثم دخلت مصر في شوال من السنة، فمكثت بها سنة، وحججت، ودخلت الأندلس في ذي القعدة سنة تسع وتسعين، وخرجت إلى الثغر سنة ثلاث وأربعمائة، فسكنت سرقسطة «1» سبعة أعوام [ثم رجعت إلى قرطبة، قال: وقدمت دانية سنة سبع عشرة. قال الحافظ أبو عبد الله الذهبي «2» : فاستوطنها حتى مات] ، وقرأ بالروايات.

وسمع كتاب ابن مجاهد «1» في اختلاف السبعة، وسمع الحديث. وقال ابن بشكوال «2» : كان أبو عمرو أحد الأئمة في علم القرآن، رواياته وتفسيره، ومعانيه، وطرقه، وإعرابه، وجمع في ذلكم «3» كله تواليف حسانا مفيدة يطول تعدادها «4» ، وله معرفة بالحديث وطرقه، وأسماء رجاله ونقلته، وكان حسن الخط، جيد الضبط، من أهل الحفظ، والذكاء «5» ، والتفنن، دينا فاضلا، ورعا، سنيا. وقال المغامي «6» : كان أبو عمرو مجاب الدعوة مالكي المذهب. ومن تصانيفه: كتاب" الأرجوزة في أصول السنة"، منها يقول: [الرجز] كلم موسى عبده تكليما ... ولم يزل مدبرا حكيما كلامه وقوله قديم ... وهو فوق عرشه العظيم والقول في كتابه المرتل ... بأنه كلامه المنزل على رسوله النبي الصادق ... ليس بمخلوق ولا بخالق «7»

من قال فيه إنه مخلوق ... أو محدث فقوله مروق أهون بقول جهم الخسيس ... وواصل وبشر المريسي «1» (ص 138) وتوفي بدانية يوم الاثنين منتصف شوال سنة أربع، وأربعين وأربعمائة، ودفن ليومه بعد العصر، ومشى صاحب دانية أمام نعشه، وشيعه خلق عظيم.

54 - سليمان بن أبي القاسم: نجاح أبو داود المقرئ - مولى الأمين المؤيد بالله ابن المستنصر

ومنهم: 54- سليمان بن أبي القاسم «1» : نجاح أبو داود المقرئ- مولى الأمين المؤيد بالله ابن المستنصر الأموي «2» الأندلسي. سند الإقراء، ومسند القراء، وعمدة الأداء، وعدة الظفر على الأعداء، أيد به المؤيد، ونصر المستنصر إذ كان له أبا، السيد الذي عمت تصانيفه نفعا، ونمت، فكادت لا تحصى جمعا، المتيقظ لكتاب الله يدرسه والعيون هجود «3» ، المستوقف بقراءته حتى الطير في السماء «4» ، ولا ينكر لسليمان أن يرث مزامير داود «5» .

أخذ القراءات عن أبي عمرو الداني، ولازمه مدة، وأكثر عنه، وهو أجل أصحابه، وقرأ عليه بشر كثير. قال ابن بشكوال: كان من جلة المقرئين، وفضلائهم، وأخيارهم عالما بالقراءات وطرقها «1» ، حسن الضبط، ثقة دينا «2» ، له تواليف كثيرة «3» (عدتها ستة وعشرون مصنفا) «4» ، أخبرنا عنه جماعة «5» ، ووصفوه بالعلم والفضل، والدين، ومن تصانيفه كتاب" البيان الجامع لعلوم القرآن" في ثلاثمائة

مجلد «1» ، و" عقود الديانة" «2» وهي أرجوزة ثمانية عشر ألف بيت، وأربعمائة وأربعون بيتا. قال ابن بشكوال: ولد سنة ثلاث عشرة وأربعمائة، وتوفي ببلنسية في سادس عشر رمضان سنة ست وتسعين وأربعمائة، وتزاحموا على نعشه.

55 - عبد الرحمن بن أبي بكر عتيق بن خلف، العلامة الأستاذ أبو القاسم ابن الفحام الصقلي المقرئ.

ومنهم: 55- عبد الرحمن بن أبي بكر عتيق بن خلف «1» ، العلامة الأستاذ أبو القاسم ابن الفحام الصقلي «2» المقرئ. صاحب كتاب التجريد «3» ، والمعروف في القراءة بالتجويد، الصقلي الصقيل المرآة، الجميل مرآه (ص 139) ابن الفحام الذي أفحم كل ذي جدل، وسود وجه كل معارض بما اختنق من دم الخجل، الموافق لابن الصديق «4» فما نقص ولا زاد عبد الرحمن بن أبي بكر عتيق، ولعله ما قيل: إنه عتيق إلا لأنه جواد. قرأ القراءات على أبي العباس أحمد بن سعيد بن نفيس «5» ، وأبي الحسين

نصر بن عبد الغافر الفارسي «1» ، وعبد الباقي بن فارس، وأبي إسحاق إبراهيم بن إسماعيل المالكي «2» . وقرأ العربية على ابن بابشاذ «3» ، وشرح مقدمته، وانتهت إليه رئاسة الإقراء بالإسكندرية علوا ومعرفة. قال سليمان بن عبد العزيز الأندلسي: ما رأيت أحدا أعلم بالقراءات منه لا بالمشرق ولا بالمغرب. وثقه السلفي، وقرأ عليه «4» ، وقرأ عليه- أيضا- أبو العباس بن الخطية، ويحيى بن سعدون «5» شيخ الموصل، وعبد الرحمن بن خلف بن عطية، وغيرهم. توفي في ذي القعدة سنة ستة عشرة وخمسمائة، وقد جاوز التسعين، وتردد في مولده هل هو في سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة، أو في سنة خمس وعشرين، والله أعلم.

56 - علي بن محمد بن علي بن هذيل الإمام. أبو الحسن البلنسي المقرئ

ومنهم: 56- علي بن محمد بن علي بن هذيل الإمام. «1» أبو الحسن البلنسي «2» المقرئ الزاهد المقر بفضله الخصم فلا يحتاج إلى شاهد، المتفرد كأنه سهيل، والراد به عصر أبي ذؤيب في هذيل، والنابه به الغرب على الشرق إذا جاء بابن هذيله، العلاف ليماثله، أو أقبل بجدله، وأكثره الباطل على هذا في الحق ليجادله. لازم أبا داود سليمان بن أبي القاسم مدة من الزمن «3» بدانية، وبلنسية، ونشأ في حجره «4» لأنه كان زوج أمه، فقرأ عليه القراءات «5» ، وسمع عليه شيئا كثيرا «6» ، وهو أجل أصحابه وأثبتهم، وصارت إليه أصوله (ص 140) العتيقة «7» ، وانتهت إليه رئاسة الإقراء في زمانه. قال الأبار: كان منقطع القرين في الفضل والدين، والورع والزهد «8» مع العدالة، والتواضع والإعراض عن الدنيا، والتقلل «9» صواما قواما كثير الصدقة

كانت له ضيعة يخرج لتفقدها، فتصحبه الطلبة، فمن قارئ وسامع وهو منشرح الصدر لذلك طويل الاحتمال على فرط ملازمتهم ليلا ونهارا «1» وعمّر، وهو آخر من حدث عن أبي داود «2» . وانتهت إليه رئاسة الإقراء عامة لعلو رتبته، وإمامته من الإتقان والتجويد، وحدث عنه جلة لا يحصون، وروى العلم نحوا من ستين سنة «3» . وولد سنة سبعين وأربعمائة، أو سنة إحدى وسبعين. وتوفي يوم الخميس سابع عشر رجب سنة أربع وستين وخمسمائة بحضرة السلطان أبو الحجاج يوسف بن سعد «4» ، وتزاحم الناس على نعشه ورثاه ابن واجب «5» بقوله: [البسيط]

لم أنس يوم تهادي نعشه أسفا ... أيدي الورى وتراميها على الكفن كزهرة تتهاداها الأكف فلا ... تقيم في راحة إلا على ظعن قال الأبار: قال لنا «1» محمد بن أحمد بن سلمون: هذا صحيح كان الناس يتعلقون بالنطق «2» ، والسقف «3» ليدركوا النعش بأيديهم، ثم يمسحون بها على وجوههم «4» . وكان يتصدق على الأرامل واليتامى، فقالت له زوجته: إنك لتسعى بهذا في فقر أولادك. فقال لها: لا والله، إلا أني شيخ طماع أسعى في غناهم «5» .

57 - القاسم بن فيرة بن خلف بن أحمد أبو محمد، وأبو القاسم الرعيني الشاطبي المقرئ الضرير

ومنهم: 57- القاسم «1» بن فيرة «2» بن خلف بن أحمد أبو محمد، وأبو القاسم الرعيني «3» الشاطبي «4» المقرئ الضرير أحد الأعلام، والمتحدي بمعجزة في شاطبيته «5» على علماء الإسلام، والفرد بلا نظير على كثرة الأنام، ولا شبيه (ص 141) يطمع أن يرى مثله حتى ولو «6» في المنام، المبصر قلبه لأن القرآن نوره، والإيمان مشكاة فهمه إذا اشتبهت أموره،

الذي قل من لا استقى من بحره، أو اغترف غرفة بيده من نهره «1» ، أو جاء بعده من القرّاء مجيد إلا وقصيدته" حرز الأماني" تميمة «2» معلقة على نحره. ولد في آخر سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة، وقرأ ببلده القراءات، وأتقنها، ثم ارتحل إلى بلنسية- وهي قريبة من شاطبة- فعرض بها القراءات والتفسير من حفظه، وسمع الحديث، وارتحل ليحج «3» ، واستوطن مصر، واشتهر اسمه، وبعد صيته، وقصده الطلبة من النواحي، وكان إماما علامة

ذكيا كثير الفنون «1» ، منقطع القرين، رأسا في القراءات، حافظا للحديث، بصيرا بالعربية، واسع العلم، قد سارت الركبان بقصيدتيه" حرز الأماني" و" عقيلة أتراب القصائد" اللتين «2» في القراءات والرسم، وحفظهما خلق لا يحصون، وخضع لهما فحول الشعراء وكبار البلغاء، وحذاق القراء، فلقد أبدع «3» وأوجز، وسهّل الصعب «4» . وقرأ عليه بالروايات عدد كثير.

58 - علي بن عبد الصمد بن عبد الأحد بن عبد الغالب أبو الحسن الهمداني السخاوي

قال الأبار في تاريخه: تصدر للإقراء بمصر، فعظم شأنه، وبعد صيته، وانتهت إليه الرئاسة في الإقراء «1» ، وكان موصوفا بالزهد والعبادة، والانقطاع، ومن شعره: [مجزء الكامل] قل للأمير نصيحة ... لا تركنن إلى فقيه إن الفقيه إذا أتى ... أبوابكم لا خير فيه وعاش اثنتين وخمسين سنة، وتوفي بمصر في خامس عشر من جمادى الآخرة سنة تسعين وخمسمائة. (ص 142) ومنهم: 58- «2» علي بن «3» عبد الصمد بن عبد الأحد بن عبد الغالب أبو الحسن الهمداني السخاوي «4» علم الدين المقرئ المفسر النحوي شيخ القراء بدمشق في

زمانه «1» إلا أنه مما جاز الغرب دينار شمسه، وهنأ موضع منشئه، ثم ضنّ بكوكبه الدري أن يهيئ له موضع رمسه، ما أهدى لغرب مثل نسيمه الخفاق، ولا أمد الشرق في نهاره المتدفق شبيه نهره الدفّاق، ولا قرّ هنا في قراره الغرب حتى كادت تتجاذبه الآفاق، لقد سخت سخا منه بما يعذر فيه الشحيح، ويحذر في مثله آفة ذي الفهم الصحيح، وصعد إلى السماء فجنى النجوم زهرات، وظهر على السحاب فرمى البروق زفرات، ووطئ جبهة الأسد وداس، وذل الجبل فما ارتفع له راس،، وغطس في البحر، فجاء بما لا قدر عليه قبله ابن غطاس. ولد سنة ثمان أو تسع وخمسين وخمس مائة، وقدم من" سخا" فسمع الحديث، وأخذ القراءات عن الشاطبي «2» ، وأبي الجود اللخمي «3» وغيرهما، واقتصر في إسناد القراءات عليهما، وأقرأ الناس نيفا وأربعين سنة، وقرأ عليه خلق كثير بالروايات، وكان إماما كاملا، ومقرئا محققا، ونحويا علامة، مع بصره بمذهب الشافعي «4» ، ومعرفته بالأصول، وإتقانه للغة، وبراعته في التفسير، وإحكامه لضروب الأدب، وفصاحته بالشعر، وطول باعه في النثر مع الدين والمروءة والتواضع، واطراح التكلف، وحسن الأخلاق، ووفور الحرمة، وظهور

الجلالة، وكثرة التصانيف «1» ، وكان من أفراد العالم، ومن أذكياء بني آدم، حلو النادرة، مليح المحاورة، ومن شعره: [السريع] قالوا غدا نأتي ديار الحمى ... وننزل الركب بمغناهم وكل من كان مطيعا لهم ... أصبح مسرورا بلقياهم (ص 143) قلت: فلي ذنب فما حيلتي؟ ... بأي وجه أتلقاهم قيل: أليس العفو من شأنهم ... لا سيما عمن ترجاهم ومن غرائب الاتفاق أن الشيخ علم الدين السخاوي مدح السلطان صلاح الدين «2» ، ومدح الأديب رشيد الدين الفارقي «3» ، وبين وفاتي الممدوحين مائة

59 - أبو عبد الله الفاسي

سنة «1» . وتوفي الشيخ علم الدين في ثاني عشر جمادى الآخرة سنة ثلاث وأربعين وستمائة بمنزله بالتربة المعروفة بأم الملك الصالح «2» وهو أول من أقرأ بها، وكان يقرئ أيضا بالجامع الأموي عند قبر زكريا- عليه السلام- «3» . ومنهم: 59- أبو عبد الله «4» الفاسي «5» الإمام العلامة جمال الدين محمد بن حسن بن محمد بن يوسف بن حسن

المغربي نزيل حلب، إلا أنه من طينة الغرب بعث، وروحه من نسيمه الغربي نفث، نزل بحلب تحلب «1» منه أسطرها «2» ، وتجلب منه أسطرها، ودفن في ترابها، ودفع إذ ذكرناه إلى أقصى الغرب، وما عد من أترابها «3» ، لأنه ما أتى حلب إلا مكتهلا «4» ، ولا قدم إليها إلا وقد رأى شيب رأسه مشتعلا «5» ، لكنه جرّ عليها ذلاذل «6» قطره، وحمل إليها أنفاس غربه، ما تضوع قطره الندي «7» من قطره. ولد بفاس سنة نيف وثمانين وخمس مائة، وقدم مصر بعد موت أبي الجود «8» فقرأ على اثنين من أصحاب الشاطبي «9» ، وأخذ القراءات بحلب عن

(60) - محمد بن عبد الرحيم بن الطيب أبو القاسم القيسي

بهاء الدين بن شداد «1» ، وتفقه على مذهب أبي حنيفة، وكان إماما متفننا ذكيا متقنا، واسع العلم، كثير المحفوظ، بصيرا بالقراءات وعللها، مشهورها وشاذها، خبيرا باللغة، مليح الكتابة «2» ، وافر الفضائل، موطأ الأكناف، متين الديانة ثقة حجة، انتهت إليه رئاسة الإقراء ببلد حلب «3» ، ومات «4» سنة ست وخمسين وستمائة. (ص 144) ومنهم: (60) - محمد بن عبد الرحيم بن الطيب «5» أبو القاسم القيسي «6» الضرير مقرئ المغرب «7» ، وموري المغرب، ومظهر المعجب، وممطر روض المجرة «8»

المعشب، كفاه أنه من قيس في سرواتها «1» ، وفي حيث ينقطع عنده غاية رواتها، هو ابن الطيب، ولهذا ذكاؤه ينفح، وغلاؤه لا يستكثر فيه بما يسمح، وأرجه «2» تتقاذف به الأرجاء، وورقه يندى، وقمريّه «3» يصدح «4» ، ولا عيب فيه ولا عيب «5» ، إلا أنه لا يبخل لكنه بما لا يزر عليه الجيب. ولد في حدود الثلاثين وستمائة بالجزيرة الخضراء «6» ، وقرأ القرآن على

61 - أحمد بن إبراهيم بن الزبير، أبو جعفر الثقفي الغرناطي

خطيبها أبي محمد الرعيني، وعلى أبي عبد الله الشريشي «1» ، ثم تحول إلى سبتة، فألزمه أميرها أبو القاسم محمد بن أبي العباس العزفي «2» ، فلما جاء رمضان سأله أن يقرأ السيرة على الناس، فصار يدرس كل يوم ميعادا ويورده، وكان من أسرع الناس حفظا، وأحسنهم صوتا، وكان إليه المنتهى في معرفة القراءات، وضبطها، وآدابها، وكان عارفا بالتفسير، والعربية، والحديث، حمل عنه أهل سبتة، وتوفي سنة إحدى وسبعمائة في رمضان. ومنهم: 61- أحمد بن إبراهيم بن الزبير «3» ، أبو جعفر الثقفي الغرناطي المقرئ الحافظ أحد الأعلام بالأندلس. والأعلام الشاهقة في القبور الدرس «4» ، لعمر أبيك قد سترت به ثقيف سوءة حجّاجها «5» ، وصدرت وتاج

الثريا فوق حجاجها «1» ، تاهت به عروس غرناطة، وتطاولت، ونسر دمشق الجاثم على قبة جامعها قد أظهر انحطاطه، بقية العلماء المكثرين، والفضلاء المتبحرين، والقراء الذين لكلام الله بهم بلاغ، ودونك هو، وانفض يديك للفراغ. ولد سنة سبع وعشرين وستمائة، وقرأ (ص 145) بالروايات على أبي الحسن علي بن محمد الشاري «2» ، وسمع التفسير من أبي عبد الله بن جوبر «3» البلنسي، وسمع الحديث من أبي الخطاب بن خليل «4» ، وأبي عبد الله الأزدي «5» ، وخلق، وانتهت إليه معرفة الحديث ورجاله «6» ، ثم معرفة القراءات «7» ، وقرأ عليه

خلق لا يحصون، ومات بغرناطة «1» في آخر سنة ثمان وسبع مائة، قال أبو عبد الله الذهبي: وقفت على إجازة ابن الزبير بالسبع لجماعة، وفيها فوائد نفيسة تدل على براعته، وأنه قرأ على جماعة، وقد أفردت ذلك في كراس. وبهذا ختمت القراء المقطوع بأنهم من أهل الغرب، وسأتبعهم بمن ألحق بهم من أهل مصر، إن لم يكن دون ذلك طعن وضرب، ليتلاحق المدد، وتتسابق الجياد والكل إلى أمد. فأقول:

[قراء مصر]

[قراء مصر] منهم: 62- عثمان بن سعيد بن عبد الله بن سليمان «1» أبو سعيد المصري القبطي «2» مولى آل الزبير بن العوام الملقب بورش، ويقال له الروّاس «3» لأنها كانت صناعته، ولأنه رأس ثقة، سكنت إليه النفوس، وخضعت أولا وآخرا له الرءوس، ما بلغ بلاغته ساكن المشان، ولا صحت فصاحته لذي شان، ولا تكلم إلا وسكت كل قائل، وقال في فنه ورش، أو غرد على فننه ورشان، بيانا يصدع العشاء، وقرب مستقى لم يحتج به أحد عند ورش يطيل الرشاء «4» . ولد سنة عشر ومائة «5» ، وقرأ القرآن، وجوده على نافع «6» عدة ختمات في

حدود سنة خمس وخمسين ومائة، ونافع هو الذي لقبه" ورش" لشدة بياضه، والورش شيء يصنع من اللبن، ويقال: لقبه" ورشان" «1» وهو طائر معروف «2» ، فكان يقول: اقرأ يا ورشان، وهات يا ورشان، ثم خفف، وقيل: ورش. وكان لا يكرهه، ويعجبه، ويقول: أستاذي سماني به «3» ، وكان (ص 146) أول أمره رأآسا» ، ثم اشتغل بالقرآن، والعربية، ومهر فيها، وكان أشقر أزرق «5» ، سمينا مربوعا «6» ، يلبس مع ذلك ثيابا مقدرة «7» ، وإليه انتهت رئاسة الإقراء بالديار المصرية في زمانه، قال أبو يعقوب الأزرق «8» : لما تعمق ورش في النحو، وأحكمه اتخذ لنفسه مقرئا، يسمى مقرء ورش. وقال ورش: خرجت من مصر لأقرأ على نافع، فلما وصلت إلى المدينة صرت إلى مسجد نافع، فإذا هو لا يطاق القراءة عليه من كثرتهم، وإنما يقرئ ثلثين،

فجلست خلف الحلقة، وقلت لإنسان: من أكبر الناس عند نافع؟ فقال لي: كبير الجعفريين، فقلت: كيف به؟ قال: أنا أجيء معك إلى منزله، وجئنا إلى منزله، فخرج شيخ، فقلت: أنا من مصر، جئت لأقرأ على نافع، فلم أصل إليه، وأخبرت أنك من أصدق الناس له، وأنا أريد أن تكون الوسيلة إليه. فقال: نعم وكرامة، وأخذ طيلسانه، ومضى معنا إلى نافع، فقال له الجعفري: هذا وسيلتي إليك جاء من مصر ليس معه تجارة، ولا جاء يحج، إنما جاء للقرآن خاصّة. فقال: ترى ما ألقى من أولاد المهاجرين والأنصار! فقال صديقه: تحتال له. فقال لي نافع: أيمكنك أن تبيت في المسجد؟ فقلت: نعم. فبت في المسجد، فلما أن كان الفجر جاء نافع، فقال: ما فعل الغريب؟ فقلت: ها أنا- رحمك الله- قال: أنت أولى بالقراءة «1» . قال: وكنت مع ذلك حسن الصوت، مدّادا به، فاستفتحت، فملأ صوتي مسجد رسول الله فقرأت ثلاثين آية، فأشار بيده أن اسكت، فقام إليه شاب من الحلقة فقال: يا معلم، أعزك الله، نحن معك، وهذا رجل غريب، وإنما رحل للقراءة عليك، وقد جعلت له عشرا، وأقتصر على عشرين «2» ، فقال: نعم (ص 147) وكرامة، فقرأت عشرا، فقام فتى آخر فقال كقول صاحبه «3» ، فقرأت عشرا، وقعدت حتى لم يبق أحد ممن له قراءة، فقال لي: اقرأ، فأقرأني خمسين آية، فما زلت أقرأ خمسين آية حتى قرأت عليه قبل أن أخرج من المدينة ختمات. وفي رواية: قال ورش: فكانوا يهبون لي أسباعهم حتى كنت أقرأ عليه كل

63 - عبد الله بن مالك بن سيف أبو بكر التجيبي المصري

يوم سبعا، وختمت في سبعة أيام، فلم أزل حتى ختمت عليه أربع ختم في شهر، وخرجت من المدينة «1» . توفي ورش بمصر سنة سبع وتسعين ومائة. ومنهم: 63- عبد الله بن مالك «2» بن سيف أبو بكر التجيبي «3» المصري شيخ الإقليم في الإقراء «4» في زمانه، وفي استحقاق البداءة به على أقرانه، طالت مدة إفادته، ودامت جدة «5» سعادته، وثبت بحره على الوفاء مع أخذه في زيادته، كأنما طبع من سيف جده زبرة «6» ذهنه، واستمد بحده قوة أمام وهنه فقوي من سلفه بما تجيب «13» ، ودعا من أبيه مالكا لو سمع بواعثه من وراء البحار لما عجزت أن تجيء وتجيب، قرأ القرآن على أبي يعقوب الأزرق «7» ، وعمّر دهرا طويلا،

64 - محمد بن علي بن أحمد

وحدث عن محمد بن رمح «1» ، صاحب الليث بن سعد «2» ، وقرأ عليه خلق «3» ، وتوفي في جمادى الآخرة سنة سبع وثلاثمائة، كذا أرخه أبو سعيد ابن يونس «4» ، وحدث عنه في تاريخه. ومنهم: 64- محمد بن علي بن أحمد «5» الإمام أبو بكر الأذفوي المصري المقرئ النحوي، المفسر، والصدر المتصدر، والمقرئ المقرر، والنحوي الذي لا يعجزه في توجيه غريب الإعراب متعذر،

والحافظ المجيد الذي ما (ص 148) هو بحلة الكسائي «1» متشبع، ولا بما عند ابن كثير «2» متكثر، فإن في تنقيح ما صنف، وتصحيح ما كتب، لا بل ما قرط «3» بحبب «4» لؤلؤه الحائل مسامع الإملاء وشنّف «5» ، وترجيح آراء وإن عنّ «6» وعنّف «7» ، قرأ القرآن على أبي غانم المظفر بن أحمد «8» ، وسمع الحروف من أحمد بن

جامع «1» ، وسعيد بن السكن «2» ، ولزم أبا جعفر النحاس «3» ، وحمل عنه كتبه، وبرع في علوم القرآن، وكان سند «4» أهل عصره بمصر. قال أبو عمرو الداني: انفرد أبو بكر بالإمامة في وقته في قراءة نافع «5» مع سعة علمه، وبراعة فهمه، وصدق لهجته، وتمكنه من علم العربية، وبصره بالمعاني، روى عنه القراءة جماعة من الأكابر، وله كتاب التفسير في مائة وعشرين مجلدا وهو موجود بالقاهرة «6» . قال سهل بن عبد الله البزاز: صنف شيخنا أبو بكر الأذفوي كتابه" الاستغناء في علوم القرآن" في اثنتي عشرة سنة. وتوفي في سابع ربيع الأول سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة، وعاش خمسا وثمانين سنة «7» ، سكن مصر، وكان خشابا يتجر. وأذفو: قرية من الصعيد مما يلي أسوان «8» .

(65) - غياث بن فارس بن مكي الأستاذ أبو الجود اللخمي المنذري المقرئ، الفرضي

ومنهم: (65) - غياث بن فارس بن مكي «1» الأستاذ أبو الجود اللخمي «2» المنذري «3» المقرئ، الفرضي «4» أعلى قدرا، وأغلى سعرا، وأفضل ما تعاملت به الناس، وتماثلت، إلا أنه إذا غاب والكرام أجناس استمدت منه، ولم ينقصه الاقتباس، ورأت منه غياثا، لا بل استمطرت غيثا لا يعرف الاحتباس، وقهرت به القاهرة المعزيّة «5» ما سواها، وعزت لا بل عزّ عليها أن تنبت مثله، وإن سقاها النيل ورواها.

قرأ القراءات على الشريف أبي الفتوح الخطيب «1» ، وسمع (ص 149) من عبد الله بن رفاعة «2» ، وتصدر للإقراء من شبيبته، وتلا بالتيسير وطرقه «3» ، واشتهر، وقرأ عليه خلق كثير منهم: علم الدين السخاوي «4» ، وخلق. آخرهم وفاة أبو الطاهر إسماعيل بن هبة الله المليجي «5» .

66 - محمد بن أحمد بن عبد الخالق بن علي بن سالم بن مكي (الشروطي)

قال الحافظ زين الدين المنذري «1» : أقرأ الناس دهرا، ورحل إليه، وأكثر المتصدرين للإقراء بمصر أصحابه، وأصحاب أصحابه «2» ، وكان ديّنا فاضلا، بارعا في الأدب، حسن الأداء «3» ، متواضعا، كثير المروءة، لا يطلب منه قصد أحد في حاجة إلا يجيب، وربما اعتذر إليه المشفوع إليه، فيطلب منه العود، فيعود، تصدر بالجامع العتيق بمصر «4» ، وبمسجد الأمير موسك «5» بالقاهرة، وبالمدرسة الفاضلية «6» إلى أن توفي في تاسع رمضان سنة خمس وستمائة، ومولده سنة ثمان عشرة وخمسمائة رحمه الله تعالى. ومنهم: 66- محمد بن أحمد بن عبد الخالق بن علي بن سالم بن مكي (الشروطي) «13» الإمام المقرئ مسند العصر، بقي الدين أبو عبد الله الصائغ المصري الشافعي

الشروطي، هو الصائغ المصري، والسائغ «1» ورده «2» الكوثري، المنوع فنونا، المنوه باسمه فتونا، المنوّل ما ترك البرق مضطربا يهجس ظنونا «3» ، لم يبق من قراء مصر إلا من نقع منه غلله «4» ، وأعرض عن النيل، وقنع بعقده المنظّم، وحلّى التاج بسبع وجوه، وجين الجبهة «5» ، وقد غصّ بالإكليل «6» . قرأ بعدّة كتب «7» وحصّل الفقه والقراءات وطرفا من العربية، وأعاد بالطيبرسية» وغيرها، وولي عقد الأنكحة وعمر دهرا، وازدحم عليه القراء

لتفرده، فتلا عليه بالسبع طلبة الديار المصرية، وكان عارفا بالقراءات معرفة جيدة، متين الديانة (ص 150) ، قوي العربية، وحجّ وجاور أشهرا، ولم يبق في طبقته إلى بعد العشرين وسبع مائة أحد. وكتب له شيخنا العلامة أبو حيان في إجازة شهد عليه فيها: أشهدني شيخنا الإمام العلامة شيخ المقرئين، ورئيس المتصدرين، حامل راية الرواية والإسناد، ملحق الأحفاد بالأجداد تقي الدين بما وضع به خطه في سنة تسع عشرة وسبع مائة. توفي الصائغ في صفر سنة خمس وعشرين وسبع مائة. و (كان) مولده سنة ست وثلاثين وستمائة. وبذكر هذا تم ذكر القراء، ونمّ «1» المسك بختام أهل الإقراء، وسنعقب بذكر المحدثين المفضلين بالاستقراء، ونصل بضوء الصباح سنا الليلة القمراء ليجيء الشيء ومثله، وينضم الشكل وشكله، ويعلم إذا انقضى ما ذكرنا من قراء الأمة في كل زمان، وكبراء الأئمة من حفظة القرآن أنه قد تم بهم الختمة، وكملت في الشرق والغرب بهم القسمة، ولم يبق إلا أن يلحق بأهل الكتاب أهل السنة.

[المحدثون من أهل المشرق]

[المحدّثون من أهل المشرق] وسنبدأ بالمحدّثين بالجانب الشرقي أخذا بالترتيب، وأبتدئ بالبحر الزاخر، ثم القليب «1» ، ونفتتحهم بالإمام العلم أحفظ أهل الأرض، وهو: 67- أبو هريرة الدوسي اليماني «2» صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. هو وإن كان من في الرواية واحدا من ركب نهلوا «3» من مكرع «4» ، وشربوا جميعهم من منبع، فإنه أمسّ هنا بالذكر من

بقية أصحابه لأنه هو الذي تروّى «1» حتى روي، وروّى، وربما تدأدأ «2» دون المطلع وتكأكأ «3» عن بعض ما عليه اطلع، خوفا في تلك الأيام التي وقدت «4» فتنتها، وقدّت «5» الطلا «6» والأبدان محنها، فكتم ولم يبح (ص 151) وكعم فمه «7» ولم ينح، وقعد قائمه عن شعب تلك الأهواء ولم يرح، وخمد برقه في عوارض «8» تلك الفتن ولم يلح، وروي أنه كان يقول: الصلاة خلف علي أفضل، وطعام معاوية أدسم، والقعود فوق التل أسلم، وقد كان أكثر القوم ملازمة للنبي صلى الله عليه وسلم. قال: كنت ألزمه لشبع بطني، وإخواننا يلهيهم البيع، والصفق بالأسواق «9» .

واسمه- على الأشهر-: عبد الرحمن بن صخر في الإسلام، وفي الجاهلية" عبد شمس" «1» وكني بأبي هريرة لأنه كان يرعى غنما، فوجد هرة وحشية، فلما أبصرههن، وسمع أصواتهن، أخبر أباه، فقال له: أبا هر «2» . قال أبو هريرة: نشأت يتيما، وهاجرت مسكينا، وكنت أجيرا لابنة غزوان «3» بطعام بطني، وعقبة رحلي، أحدو بهم إذا ركبوا، وأحتطب إذا نزلوا، «4» فالحمد لله الذي جعل الدين قواما، وأبا هريرة إماما «5» .

وقدم مهاجرا ليالي فتح خيبر «1» ، وذلك في صفر سنة سبع «2» ، وحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم الكثير،، وروي له نيفا وخمسة آلاف حديث «3» . قال الإمام أبو عبد الله البخاري «4» : روى عنه ثمان مائة نفس أو أكثر «5» . وقال أبو هريرة: حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعائين فأما أحدهما فبثثته للناس، وأما الآخر فلو بثثته لقطع مني هذا البلعوم" «6» .

وقال أبو صالح السمان «1» : كان أبو هريرة من أحفظ أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم «2» . وقال أبو هريرة: لا أعرف أحدا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أحفظ لحديثه مني «3» .

وقال الشافعي: أبو هريرة أحفظ من روى الحديث في دهره «1» . وكان أبو هريرة من كبار أئمة العلم، والفتوى مع الجلالة، والعبادة، والتواضع، وكثرة التلاوة، والذكر. قال أبو عثمان النهدي «2» : تضيفت (ص 152) أبا هريرة سبعا، وكان هو وامرأته «3» يعتقبون الليل أثلاثا، يصلي هذا، ثم يوقظ الآخر فيصلي، ثم يوقظ الثالث. وكان أبو هريرة من أصحاب الصّفّة «4» فقيرا، ذاق الجوع، ثم بعد النبي صلى الله عليه وسلم

صلح حاله، وكثر ماله. وقال أبو هريرة: لقد رأيتني أصرع من الجوع بين القبر والمنبر حتى يقولوا مجنون، فيجلس الرجل على صدري، فأرفع رأسي، فأقول: ليس الذي ترى، إنما هو الجوع «1» . ثم إن أبا هريرة ولي إمرة المدينة، وناب- أيضا- عن مروان «2» في إمرتها، وكان يمر في السوق يحمل الحزمة، وهو يقول: أوسعوا الطريق للأمير «3» . وكان يقول لابنته: لا تلبسي الذهب، فإني أخشى عليك من اللهب «4» . وقال أبو هريرة: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا تسألني من هذه الغنائم؟ فقلت: أسألك أن تعلمني ما علمك الله تعالى، فنزع نمرة على ظهري، فبسطها بيني وبينه حتى كأني أنظر إلى القمل يدب عليها، فحدثني حتى إذا استوعب حديثه، قال: اجمعها، فصرها إليك، قال: فأصبحت، وأنا لا أسقط حرفا «5» .

وقال أبو هريرة: إني لأستغفر الله تعالى، وأتوب إليه كل يوم اثني عشر ألف مرة، وذلك على قدر ديتي «1» . وكان له خيط فيه ألفا عقدة لا ينام حتى يسبح به «2» ، وكان آدم «3» ، بعيد ما بين المنكبين، أفرق الثنيتين «4» ، له ضفيرتان، يخضب بالحمرة، وكان من أصحاب الصفة، وله مسائل معروفة، أفتى بحضرة فقهاء الصحابة، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" اللهم حبب عبيدك هذا- يعني أبا هريرة- وأمه إلى عبادك المؤمنين، وحببهم إليهما. «5» "

68 - محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب القرشي الزهري المدني الإمام

توفي سنة ثمان وخمسين- في قول جماعة-، وقيل سنة سبع وخمسين، وقيل سنة تسع «1» . (ص 153) وأما ما نذكره من مشاهير الحفاظ، فمنهم: 68- محمد بن مسلم بن عبيد الله «2» بن عبد الله بن شهاب «3» القرشي الزهري المدني الإمام والمدني ما نأى على الأفهام، المتوقد لأنه ابن شهاب، المتوقل «4» لأنه على ذيل الأصحاب، المتوفي الزلل فما حفظ شيئا ثم نسيه، ولا استحضره ثم غاب، الناهض به شرف الأسرة في زهرة بن كلاب، والنابض عرقه في أعراق

السراب «1» ، والنافض صبغ دجى الليل بضوء صبحه المجاب «2» ، والناقض حبال الآراء إنكاثا «3» برأيه الصواب، الطالع في أقمار زهرة حيث تشرق خؤولة النبوة «4» ، ويشرب في قلوب الآباء حب البنوة، وتلوي ذوائب لؤي بن غالب على ما تجل مفارقه أن تمس بالطيب، أو تدخن باللألؤة «5» . ولد سنة خمسين، ورأى جماعة من الصحابة، وحدث عنهم، وعن كبار التابعين، وروى عنه جماعة من الأئمة منهم: مالك بن أنس «6» ، والسفيانان «7» . وقال أبو داود «8» : حديثه ألفان ومائتان، النصف منها مسند.

وقال أبو الزناد «1» : كنا نطوف مع الزهري على العلماء، ومعه الألواح والصحف يكتب كل ما سمع «2» . وقال الليث «3» : ما رأيت عالما قط أجمع من الزهري يحدث في الترغيب، فنقول: لا يحسن إلا هذا «4» وإن حدث عن العرب، والأنساب، قلت: لا يحسن إلا هذا، وإن حدث عن القرآن والسنة، فكذلك «5» . قال الزهري: ما صبر أحد على العلم صبري، ولا نشره أحد نشري. وقال عمر بن عبد العزيز «6» : لم يبق أحد أعلم بسنة ماضية من

الزهري «1» . وقال مالك: بقي ابن شهاب، وماله في الدنيا نظير. وقال عمرو بن دينار «2» : ما رأيت الدينار عند أحد أهون منه عند الزهري كان بمنزلة البعر. (ص 154) وروي عن عمرو بن دينار أنه قال: أي شيء عند الزهري؟! أنا لقيت ابن عمر، وابن عباس- رضي الله عنهم- ولم يلقهما، فقدم الزهري مكة، فقال عمرو: احملوني إليه.- وكان قد أقعد- فحمل إليه، فلم يأت إلى أصحابه إلا بعد ليل، فقالوا له: كيف رأيته؟ فقال: والله، ما رأيت مثل هذا الفتى القرشي. وقيل لمكحول «3» : من أعلم من رأيت؟ فقال: ابن شهاب. وكتب عمر بن عبد العزيز إلى الآفاق: عليكم بابن شهاب، فإنكم لا تجدون أحدا أعلم بالسنة الماضية منه.

وقال سعيد بن عبد العزيز «1» : أدى هشام «2» عن الزهري سبعة آلاف دينار، وكان يأدب ولده، ويجالسه. وقال سعيد- أيضا-: سأل هشام بن عبد الملك الزهري أن يملي على بعض ولده شيئا، فأملى عليه أربعمائة حديث، وخرج الزهري، فقال: أين أنتم، يا أصحاب الحديث، فحدثهم بتلك الأربع مائة، ثم لقي هشاما بعد شهر، أو نحوه فقال للزهري: إن ذلك الكتاب ضاع، فدعا بكاتب، فأملاها عليه، ثم قابل الكتاب الأول فما غادر حرفا واحدا. ومن حفظ الزهري: أنه حفظ القرآن في ثمانين ليلة، وقال: ما استعدت «3» عالما قط. وقال مالك: قدم الزهري المدينة، فأخذ بيد ربيعة «4» ، ودخلا بيت الديوان، فلما خرجا وقت العصر، خرج ابن شهاب وهو يقول: ما ظننت أن بالمدينة مثل ربيعة، وخرج ربيعة وهو يقول: ما ظننت أن أحدا بلغ من العلم ما بلغ ابن شهاب. وقال معمر: كنا نظن أنا قد أكثرنا عن الزهري، حتى قتل الوليد بن

يزيد، فإذا الدفاتر قد حملت على الدواب من خزائنه، نقول: من علم الزهري «2» . وكان الزهري إذا جلس في بيته وضع الكتب حوله يشتغل بها عن كل شيء من أمور الدنيا، فقالت له امرأته- يوما-: والله، لهذه الكتب أشد علي من ثلاث ضرائر «3» . ولم يزل الزهري مع (ص 155) عبد الملك، ثم مع هشام بن عبد الملك، وكان يزيد بن عبد الملك قد استقضاه. وتوفي ليلة الثلاثاء لسبع عشرة خلت من شهر رمضان سنة أربع وعشرين ومائة، وقيل: بعد ذلك «4» ، ودفن في ضيعته" أدامى" «5» بين الحجاز والشام.

69 - قتادة بن دعامة بن قتادة الحافظ

ومنهم: 69- قتادة بن دعامة بن قتادة الحافظ «1» العلامة، أبو الخطاب السدوسي «2» البصري الأكمه «3» المفسر، الأكمل في فتح المعسر، الأكمد «4» بسبقه لقلب البرق المتلظي «5» ، ونفس الرعد المتحسر، حجة إليه يرجع، وقدوة عنه لا يرجع، لم تعرف بعده تيها خطا البصرة كيف تدوس، ولا ضربت ترددا في رأيها أخماسها في أسداسها سدوس، ولا قدر أن

يستثبت شعاعه ذو نظر حسير «1» ، ولا ينازع ذو عينين أنه هو بالنسبة إليه ضرير، لا يطاوله ممتد، إلا ويرجع، وباعه القصير، ولا يناظره إلا ويعود، وقد ظهر عجزه، وقال قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ «2» قال معمر «3» : أقام قتادة عند سعيد بن المسيب «4» ثلاثة أيام، فقال له في اليوم الثالث، ارتحل يا عمي «5» ، فقد أنزفتني «6» . وقال قتادة: ما قلت لمحدث قط: أعد عليّ، وما سمعت أذناي شيئا قط إلا وعاه قلبي. وقال ابن سيرين «7» : قتادة أحفظ الناس. وقال معمر: سمعت قتادة يقول: ما في القرآن آية إلا وقد سمعت فيها شيئا.

وقال أحمد بن حنبل «1» : قتادة عالم بالتفسير، وباختلاف العلماء «2» . ووصفه بالفقه والحفظ. وقال: قل أن تجد من يتقدمه. وقال قتادة: (ما أفتيت بشيء من رأي) «3» منذ عشرين سنة «4» . قال معمر: قلت للزهري: أقتادة عندك أعلم أو مكحول؟ قال: بل قتادة. وقال أحمد بن حنبل: كان قتادة أحفظ أهل (ص 156) البصرة لا يسمع شيئا إلا حفظه، قرأت «5» عليه صحيفة جابر «6» ، فحفظها. وقال شعبة «7» : قصصت «8» على قتادة سبعين حديثا كلها يقول فيها: سمعت أنس بن مالك إلا أربعة. ومع حفظه، وعلمه بالحديث كان رأسا في العربية، واللغة «9» ، وأيام العرب،

والنسب. وقال أبو عمرو بن العلاء «1» : كان قتادة من أنسب الناس. وقال بكر بن عبد الله «2» : من سره أن ينظر إلى أحفظ من أدركنا، فلينظر إلى قتادة. وقال ابن المسيب: ما أتانا عراقي أحفظ من قتادة. ومات بواسط في الطاعون سنة ثماني عشرة ومائة، وقيل: سنة سبع عشرة، وله سبع وخمسون سنة.

70 - شعبة بن الحجاج بن الورد

ومنهم: 70- شعبة بن الحجاج بن الورد «1» الحجة الحافظ شيخ الإسلام «2» أبو بسطام الأزدي «3» العتكي «4» - مولاهم- الواسطي، نزيل البصرة، ومحدّثها وله قديمها ومحدّثها، زادت به الأزد أزد شنوءة شرفا في يمنها، وإشرافا على هامة ابن ذي يزنها «5» بقية فضل سبأ سبأها، وسبق على جناح الهدهد «6» نبأها، وأخرج بفيه الدر والبحر الذي صدره خبأها،

وأمد بقريحته «1» الرياح اللواقح، وأمسكت المهات «2» هبأها، وكان متحرجا في دينه لا يوسعه السمح به، ولا التبجح به «3» إلا في منقلبه، بقي يبذخ «4» بشرفه ويشمخ لولا التواضع في لين منعطفه «5» . قال الحاكم «6» : سمع من أربعمائة من التابعين «7» . وقال ابن المديني «8» : له نحو ألفي حديث «9» . وكان الثوري «10» يقول: شعبة أمير المؤمنين في الحديث.

وقال الشافعي «1» : لولا شعبة لما عرف الحديث بالعراق. وقال أبو بحر البكراوي «2» : ما رأيت أحدا أعبد لله من شعبة، لقد عبد الله حتى جف جلده على عظمه واسودّ. وقال عمر بن هارون «3» : كان يصوم الدهر. وقال أبو قطن «4» : ما رأيت شعبة قد ركع إلا ظننت (ص 157) أنه نسي، ولا سجد «5» إلا قلت: نسي، وكانت ثيابه لونها كالتراب، وقال أبو داود: سمعت من شعبة سبعة آلاف حديث. وقال أحمد بن حنبل: كان شعبة أمة وحده في هذا الشأن- يعني الرجال وبصره في الحديث- ووهبه المهدي «6» ثلاثين ألف درهم فقسمها، وأقطعه ألف جريب «7» فقدم البصرة فلم يجد شيئا يطيب له فتركها.

71 - عبد الرحمن بن مهدي

وقال الأصمعي «1» : لم نر أحدا قط أعلم بالشعر من شعبة، قال لي: كنت ألزم الطّرمّاح «2» أسأله عن الشعر «3» . وقال شعبة: كان قتادة يسألني عن الشعر، فقلت: أنشدك بيتا وتحدثني حديثا. وقال أبو قطن: قال لي شعبة: ما شيء أخوف عندي أن يدخلني النار من الحديث. اتفقوا على موته سنة ستين ومائة. ومنهم: 71- عبد الرحمن بن مهدي «4» أبو سعيد البصري الحافظ الكبير والعلم الشهير «5» ، والعلي الذي لا يتناولها

من النجوم منير، وقارا لا تفتح لديه عين، واستحضارا لا تمد عليه غين اشتهارا تخفى معه الشموس، وتغض مقل «1» النجوم الشوس «2» ، بحفظ لا تنافره الشوارد «3» ، ولا تنافيه الموارد «4» ، ولا تنافحه الصبا «5» ، إلا ويعد من فعلها البارد، ولا يشغله ورق «6» الدنيا عن الدين، ولا يشغفه شك الباطل بحق اليقين. قال أيوب بن المتوكل «7» : كنا إذا أردنا أن ننظر إلى الدين والدنيا ذهبنا إلى دار عبد الرحمن بن مهدي. وقال إسماعيل «8» : سمعت علي بن المديني يقول: أعلم الناس بالحديث عبد

الرحمن بن مهدي. قلت له- وقد أتقنت حديث الأعمش-: من يفيدني عن الأعمش «1» ؟ فأطرق ثم ذكر ثلاثين حديثا ليست عندي (ص 158) تتبع أحاديث الشيوخ الذين لم ألقهم «2» . وقال محمد بن أبي بكر المقدمي «3» : ما رأيت أحدا أتقن لما سمع، ولما لم يسمع، ولحديث الناس من عبد الرحمن بن مهدي، إمام ثبت، أثبت من يحيى ابن سعيد «4» ، وكان عرض حديثه على سفيان «5» . وقال القواريري «6» : أملى عليّ ابن مهدي عشرين ألف حديث. وقال ابن مهدي: ما تركت حديث رجل إلا دعوت الله له، وأسميه. وقال يحيى بن عبد الرحمن: قام أبي ليلة- وكان يحيي الليل- فلما طلع الفجر رمى نفسه على الفراش حتى طلعت الشمس، فجعل على نفسه أن لا

يجعل بينه وبين الأرض شيئا، فقرحت فخذاه. وقال ابن مهدي: لو كان لي سلطان لألقيت من يقول بخلق القرآن في دجلة، بعد أن أضرب عنقه. وقال العجلي «1» : شرب ابن مهدي حب البلاذر «2» ، فبرص «3» ، وكان فقيها بصيرا بالفتوى، عظيم الشأن، وكان لا يتحدث في مجلسه، ولا يبرى قلم، ولا يقوم أحد، كأنما على رؤوسهم الطير، وكأنهم في صلاة. وقال علي بن المديني: لو حلفت بين الركن والمقام لحلفت أني لم أر مثل عبد الرحمن. وكان يقول: أعلم الناس بقول الفقهاء السبعة «4» : الزهري، ثم بعده مالك،

72 - أبو داود الطيالسي

ثم بعده ابن مهدي، وكان ورده كل ليلة نصف القرآن «1» . وقال الذهلي «2» : ما رأيت في يد عبد الرحمن كتابا قط. ومات في جمادى الآخرة سنة ثمان وتسعين ومائة، وورثه بنوه، وأبوه مهدي- وكان عاميا-. ومنهم: 72- أبو داود الطيالسي «3» واسمه سليمان بن داود بن الجارود الفارسي الأصل البصري «4» ، من أهل الطلب الذين بلغوا الفضل، وتداولوه، ورجال (ص 159) فارس الذي لو كان

العلم في الثريا لتناولوه «1» . روى الحديث، ولقي أهله، وتروى منه، ولم يقنع بنهله «2» ، وعجل إليه تلقفه من الأفواه، وتلقمه فم القلم، وحلق الدواة، وإشفاقا أن يختانه «3» النسيان، أو يحتاله الضياع في الأحيان، على أنه ما خلا من تغليط، ولا خبا كوكبه، وقد أكثر عليه غبش «4» غلبه التخليط. قال الفلاس «5» ، وابن المديني «6» : ما رأينا أحفظ منه. وقال رفيقه ابن مهدي «7» : هو أصدق الناس. قال أبو داود: كتبت عن ألف شيخ.

وقال وكيع «1» : ما بقي أحد أحفظ لحديث طويل من أبي داود، فبلغه ذلك، فقال: ولا قصير. وقال عمر بن شبة «2» : كتبوا عن أبي داود من حفظه أربعين ألف حديث «3» . قال الذهبي: كان يتكل على حفظه فغلط في أحاديث «4» . مات سنة أربع ومائتين» ، وكان من أبناء الثمانين.

73 - يحيى بن يحيى

ومنهم: 73- يحيى «1» بن يحيى «2» أبو زكريا التميمي «3» النيسابوري «4» الحافظ شيخ خراسان «5» وموضع نطق كل لسان، نسب إلى نيسابور، وحسب أنه الطود «6» الصبور، وصدرت منه في خراسان ما ملأ كل صدر، وخبأ الخمول معه كل قدر، عجائب شيبت لمم جبالها، وشببت ديم «7» أنوائها رواشق «8» نبالها، كان تميمة لتميم، وضميمة إليه غولة «9» كل حميم «10» ، أنشز «11» من رفاتها كل رميم «12» ،

وأنشق «1» من عبق ريحها كل شميم، وأنسأ عهد كل سالف إلا أنه غير ذميم «2» . قال الحاكم: هو إمام عصره بلا مدافعة، ولد سنة اثنتين وأربعين ومائة. قال ابن راهويه «3» : ما رأيت مثل يحيى بن يحيى، ولا أظنه رأى مثل نفسه. وقال أحمد بن حنبل: ما رأى يحيى بن يحيى مثل نفسه «4» . (ص 160) . وقال الذهلي: ما رأيت أحدا أجل، ولا أخوف لربه من يحيى بن يحيى، ولو أشاء لقلت: هو رأس المحدثين في الصدق. وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل «5» : سمعت أبي يثني على يحيى، ويقول: ما أخرجت خراسان مثله «6» ، كنا نسميه" يحيى الشكّاك" من كثرة ما كان يشك في الحديث- يعني- «7» أنه كلما توقف في كلمة أبطل سماعه لذلك الحديث، ولم يروه.

74 - علي بن عبد الله بن جعفر بن نجيح السعدي

وقال ابن راهويه: ظهر ليحيى نيف وعشرون ألف حديث، ومات يوم مات، وهو إمام أهل الدنيا «1» . ومات في صفر «2» سنة ست وعشرين ومائتين، وكان أسن من الشافعي بثمانية أعوام «3» . ومنهم: 74- علي بن عبد الله «4» بن جعفر بن نجيح «5» السعدي «6» - مولاهم- المديني «7» ثم البصري، حافظ العصر، وقدوة أرباب هذا

الشأن، صاحب التصانيف الكثير عددها، الكبير مددها، النثير «1» كالنجوم بددها «2» ، الغزير معينها لا تدرك أقمارها داديها «3» ولا ددها «4» ، ولا يعادل وزنه الرجيح، ولا يوازي حبه وهو نجيح، حفظ المضاع» ، وحيز له الحديث كأنما تلقاه بولادته في سعد من الرضاع «6» . ولد سنة إحدى وستين ومائة «7» . قال أبو حاتم: كان ابن المديني علما في الناس في معرفة الحديث والعلل، وما سمعت أحمد بن حنبل سماه قط، إنما كان يكنيه تبجيلا له. وقال ابن عيينة: تلومونني على حب ابن المديني، فو الله لما أتعلم منه أكثر مما يتعلم مني. وكان ابن عيينة يسميه" حية الوادي".

وقال عبد الرحمن بن مهدي: أعلم الناس بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن المديني، وخاصة بحديث سفيان «1» . وقال النسائي «2» : كأنّ ابن المديني خلق لهذا الشأن. وقال البخاري «3» : ما استصغرت نفسي عند أحد إلا عند (ص 161) علي بن المديني. وقال أبو داود: علي بن المديني أعلم من أحمد باختلاف الحديث «4» ، ومناقبه جمة لولا ما كدرها بتعلقه بشيء من مسألة القرآن، وتردده إلى أحمد بن أبي دؤاد «5» إلا أنه تنصل، وندم، وكفّر من قال بخلق القرآن «6» ، فالله يرحمه. ومات بسامراء في ذي القعدة «7» سنة أربع وثلاثين ومائتين. قال العلامة أبو زكريا النووي «8» : لابن المديني نحو مائتي مصنف.

75 - يحيى بن معين بن عون بن زياد بن بسام البغدادي

ومنهم: 75- يحيى بن معين بن عون «1» بن زياد بن بسام البغدادي «2» الحافظ المشهور، الحامل سحابة المشرق على الربى أنار ذيله المجرور، الذي تدفق منه ابن معين، وأشرق به على بغداد ليل طلع صباحه من كمين «3» ، وعلا نسبه إلى بسام وضحاك سرورا بما قدم، وحبورا بأنه على ما أسلف من عمل صالح تقدم، ويقينا بأنه سيقدم على الله تحت راية رواية حديث نبيه صلى الله عليه وسلم. كان أبوه كاتبا لعبد الله بن ملك، وقيل: إنه كان على خراج الري، فمات، فخلف لابنه يحيى المذكور ألف ألف درهم، وخمسين ألف درهم، فأنفق المال جميعه على الحديث حتى لم يبق له نعل يلبسه، وسئل: كم كتبت من الحديث؟ فقال: كتبت بيدي هذه ستمائة ألف حديث «4» .

وخلف من الكتب مائة قمطر «1» ، وأربع حباب «2» شرابية «3» مملوءة كتبا. وهو صاحب الجرح والتعديل، وروى عنه الحديث كبار الأئمة كالبخاري، ومسلم، وأبي داود «4» ، وغيرهم من الحفاظ، وكان بينه وبين الإمام أحمد من الصحبة والألفة والاشتراك في الاشتغال بعلوم الحديث ما هو مشهور لا حاجة إلى الإطالة بذكره. وقال أحمد بن حنبل: كل حديث لا (ص 162) يعرفه يحيى بن معين فليس هو بحديث. وكان يقول: صاحبنا خلقه الله لهذا الشأن، ويظهر كذب الكذابين- يعني يحيى بن معين-.

وقال علي بن المديني: انتهى العلم بالبصرة إلى يحيى بن أبي كثير «1» ، وقتادة، وعلم الكوفة إلى أبي إسحاق «2» ، والأعمش، وعلم الحجاز إلى ابن شهاب، وعمرو بن دينار «3» ، وصار علم هؤلاء الستة بالبصرة إلى سعيد بن أبي عروبة «4» ، وشعبة «5» ، ومعمر «6» ، وحماد بن سلمة «7» ، وأبي عوانة «8» ، ومن أهل الكوفة سفيان الثوري، وسفيان بن عيينة، ومن أهل الحجاز إلى مالك بن

أنس، ومن أهل الشام إلى الأوزاعي «1» ، وانتهى علم هؤلاء إلى محمد ابن إسحاق «2» ، والهيثم «3» ، ويحيى بن سعيد «4» ، وابن أبي زائدة «5» ، ووكيع «6» ، وابن المبارك «7» ، وهو أوسع هؤلاء علما، وابن

مهدي «1» ، ويحيى بن آدم «2» ، وصار علم هؤلاء جميعا إلى يحيى بن معين «3» ، وكان يحج، فيذهب إلى مكة على المدينة، ويرجع على غير المدينة، فلما كان آخر حجة حجها، خرج على المدينة، ورجع على المدينة، فأقام بها ثلاثة أيام، ثم خرج حتى نزل المنزل مع رفاقه، فباتوا، فرأى في النوم هاتفا يهتف به: يا أبا زكريا، أترغب عن جواري؟ فلما أصبح، قال لرفاقه: امضوا، فإني راجع إلى

76 - عبد الله بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان العبسي

المدينة، فمضوا ورجع، فأقام بها ثلاثا، ثم مات، فحمل على أعواد النبي صلى الله عليه وسلم «1» وذلك سنة ثلاث وثلاثين ومائتين، كذا قال الخطيب. ومنهم: 76- عبد الله بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان العبسي «2» - مولاهم- الكوفي أبو بكر الحافظ «3» ، العديم النظير، الثبت النحرير، صاحب المسند والمصنف، والمقلد، والمشنف، حرر النقول، وحبّر تصانيفه بأحاديث الرسول، وأبقى بعده ما هو قدوة للأتباع، وذروة للاتباع، وأسوة في (ص 163) إزالة الابتداع. علما ظهر، وفضلا بهر، ورواية لا تحدث كإروائها عن البحر ولا النهر، وتفننا لا يلقط شبيه أفنانه من الثمر ولا الزهر، وظهورا كالشمس لا بل ما سار ضوءها مثله ولا اشتهر «4» . قال الفلاس وأبو زرعة الرازي «5» : ما رأينا أحفظ من أبي بكر بن أبي شيبة.

وقال أبو عبيد «1» : انتهى الحديث إلى أربعة فأبو بكر بن أبي شيبة أسردهم له، وأحمد أفقههم له، وابن معين أجمعهم له وابن المديني أعلمهم. وقال صالح بن محمد «2» : أعلم من أدركت بالحديث وعلله علي بن المديني، وأحفظهم له عند المذاكرة أبو بكر بن أبي شيبة. وقال أبو عبيد: أحسنهم وضعا لكتاب أبو بكر بن أبي شيبة. وقال الخطيب «3» : كان أبو بكر متقنا حافظا، صنف المسند والأحكام والتفسير. قال البخاري «4» : مات في المحرم «5» سنة خمس وثلاثين ومائتين.

77 - عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل

ومنهم: 77- عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل «1» ابن بهرام بن عبد الصمد التميمي الدارمي «2» السمرقندي «3» صاحب المسند العالي والمقلد «4» بالدر الغالي، والذي إذا عرضت على مناقبه الدرر قال: لا تصلح هذه اللآلي إلا لي، تعرضت له الدنيا، فأعرض عن زخارفها، وتنكر لها لمعرفته بمعارفها، وردّ عليها ما خولت «5» من غرورها «6» ، ونولت «7» من سرورها، هذا وهو بسمرقند حيث يضرب المثل رونق صغدها «8» ، ومونق رغدها، ومشرق

ضحوات يومها وغدها، أنفة أن يتدنس بآثامها، أو يفتن بما تحت لثامها ورعا وزهدا، ودينا، عمر به دارا ولحدا «1» ، سمع بالحرمين ومصر والشام والعراق وخراسان، وحدث عنه مسلم وأبو داود والترمذي وخلائق. قال (ص 164) أبو بكر الخطيب: كان أحد الحفاظ والرحّالين «2» ، موصوفا بالثقة والزهد، والورع، استقضى على سمرقند، فقضى قضية واحدة ثم استعفى، فأعفي، وكان على غاية العقل، وفي نهاية الفضل يضرب به المثل في الديانة والحلم «3» والاجتهاد والعبادة، والتقلل، صنف المسند والتفسير وكتاب الجامع. وذكر أحمد بن حنبل الدارمي، فقال: عرضت عليه الدنيا فلم يقبل. وقال رجاء بن مرجّا «4» : رأيت الشاذوكني «5» ، وابن راهويه، وسمى جماعة، فما رأيت أحفظ من الدارمي. وقال أبو حاتم «6» : عبد الله الدارمي إمام أهل زمانه.

78 - الإمام العلم أبو عبد الله البخاري

توفي يوم التروية «1» سنة خمس وخمسين ومائتين. ومنهم: 78- الإمام العلم أبو عبد الله البخاري «2» واسمه محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة الجعفي- مولاهم- صاحب الجامع الصحيح المقدم على الصحاح، والمجرب للنجاح، والمشهور منه في نوب النوائب «3» سلاح يعرف على التجريب، ونجاح يتحف بالفرج القريب، وجناح يلحف «4» بشعار «5» النصر، وقد كادت سهام الأعداء تصيب، والمعد

مفتاحا لأبواب الحوائج إذا تعسرت أقفالها، وصلاحا لأدواء الأيام إذا فسدت أحوالها، وصباحا إذا طغت في سيل الليل النجوم، وطفئت ذبالها «1» ، وهو الذي ما سبق إلى ترتيبه، ولا عرف كيف الوصول إليه من تبويبه، ولا ادّعى أحد مثل ضبطه، ولا قدر على التوفية بشرطه وما برح من فضله يغترف، وبتفضيله يعترف، وأكثر الناس على أنه في كتب الحديث أصح كتاب، وأسح سحاب «2» ، وأفسح مغنى «3» ، يدخل إليه من كل باب. تدفق فاستوشلت «4» (ص 165) البحار، وتألق فتدأدأت «5» الأقمار، وطلع من بخارى فعقد الشكر عليها سحاب عنبر من بخار، وهمع «6» ما وراء النهر نوءه «7»

فرقصت في وشاح «1» الجيب «2» الأنهار، وقطع مؤلفه به الدنيا حتى دخلت عليه الملائكة قائلة: سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ «3» . رحل في طلب الحديث «4» إلى أكثر محدثي الأمصار، وكتب بخراسان والجبال ومدن العراق والشام ومصر والحجاز، ولما قدم «5» اجتمع إليه أهلها واعترفوا بفضله، وشهدوا بتفرده في علم الرواية والدراية. قال محمد بن أبي حاتم الوراق «6» : قلت لأبي عبد الله البخاري: كيف كان

بدء أمرك في طلب الحديث؟ قال: ألهمت حفظ الحديث، وأنا في الكتّاب، وقد أتى علي عشر سنين أو أقل، ثم خرجت من الكتّاب بعد العشر، فجعلت أختلف إلى" الداخلي" وغيره، وقال يوما- فيما كان يقرأ للناس-: سفيان على «1» أبي الزبير عن إبراهيم، فقلت له: إن أبا الزبير لم يرو عن إبراهيم، فانتهرني، فقلت له: ارجع إلى الأصل، إن كان عندك، فدخل ونظر فيه ثم خرج، فقال لي: كيف هو يا غلام؟ فقلت: هو الزبير بن عدي عن إبراهيم، فأخذ القلم مني، وأحكم كتابه. فقال: صدقت. فقال له بعض أصحابه: ابن كم كنت إذ رددت عليه؟ فقال: ابن إحدى عشرة سنة، فلما طعنت في ست عشرة سنة حفظت كتب ابن المبارك ووكيع، وكلام هؤلاء، ثم خرجت مع أمي وأخي أحمد إلى مكة، فلما حججت رجع أخي أحمد، وتخلفت بها في طلب الحديث، فلما طعنت في ثماني عشرة جعلت أصنف" قضايا الصحابة والتابعين وأقاويلهم «2» " وذلك أيام عبيد الله بن موسى «3» عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم في الليالي المقمرة. وقال الفربري «4» : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم، فقال لي: أين تريد؟ فقلت: أريد محمد بن إسماعيل. فقال (ص 166) : أقره مني السلام.

وكان البخاري إذا كان أول ليلة من شهر رمضان يجتمع إليه أصحابه فيصلي بهم ويقرأ في كل ركعة عشرين آية، وكذلك إلى أن يختم القرآن، وكان يقرأ في السحر ما بين النصف إلى الثلث من القرآن، فيختم عند السحر في كل ثلاث ليال، وكان يختم بالنهار كل يوم ختمة، ويكون ختمه عند الإفطار كل ليلة، ويقول: عند كل ختم دعوة مستجابة. وقال البخاري: أرجو أن ألقى الله ولا يحاسبني أني اغتبت أحدا، وكان يصلي ذات يوم فلسعه الزنبور سبع عشرة فلما قضى صلاته قال: انظروا إيش هذا الذي آذاني في صلاتي، فإذا الزنبور قد ورمه في سبعة عشرة موضعا، ولم يقطع صلاته. وقال محمد بن بشار «1» : حفاظ الدنيا أربعة: أبو زرعة بالري، ومحمد بن إسماعيل ببخارى، ومسلم بن الحجاج بنيسابور، وعبد الله بن عبد الرحمن الدارمي بسمرقند. وقال البخاري: ذاكرني أصحاب عمرو بن علي «2» بحديث فقلت: لا أعرفه، فسروا بذلك وصاروا إلى عمرو فقالوا: ذاكرنا محمد بن إسماعيل بحديث فلم يعرفه، فقال: حديث لا يعرفه محمد بن إسماعيل ليس بحديث. وقال أبو علي البغدادي: كان البخاري يجلس ببغداد وكنت أستملي له، ويجتمع في مجلسه أكثر من عشرين ألفا.

وقال أبو أحمد بن عدي «1» : سمعت عدة مشايخ يحكون أن البخاري قدم بغداد فسمع به أصحاب الحديث فاجتمعوا، وعمدوا إلى مائة حديث، فقلبوا متونها وأسانيدها، وجعلوا متن هذا الإسناد لإسناد آخر، وإسناد هذا المتن لمتن آخر، ودفعوا إلى عشرة أنفس إلى كل رجل عشرة أحاديث، وأمروهم إذا حضروا المجلس يلقون ذلك على البخاري، وأخذوا الموعد للمجلس، فحضر المجلس جماعة أصحاب الحديث (ص 167) من الغرباء من أهل خراسان وغيرها، فلما اطمأن المجلس انتدب إليه رجل من الغرباء فسأله عن حديث من تلك الأحاديث، فقال البخاري: لا أعرفه فسأله عن آخر، فقال: لا أعرفه، فما زال يلقي عليه واحدا بعد واحد حتى فرغ من عشرته، والبخاري يقول: لا أعرفه، فكان الفقهاء ممن حضر المجلس يلتفت بعضهم إلى بعض ويقولون: فهم الرجل، ومن كان منهم غير ذلك، يقضي على البخاري بالعجز والتقصير، وقلة الفهم، ثم انتدب رجل آخر من العشرة، فسأله عن حديث من تلك الأحاديث المقلوبة، فقال البخاري: لا أعرفه، فسأله عن آخر فقال لا أعرفه، حتى فرغ من عشرته، والبخاري يقول في كل ذلك: لا أعرفه. ثم انتدب إليه الثالث ثم الرابع، إلى تمام العشرة حتى فرغوا كلهم من الأحاديث المقلوبة المائة، ولا يزيدهم البخاري على قوله لا أعرفه، فلما علم البخاري أنهم قد فرغوا التفت إلى الأول منهم، وقال: أما حديثك الأول فهو كذا، وحديثك الثاني كذا والثالث والرابع على الولاء حتى أتى على تمام العشرة، فرد كل متن إلى إسناده وكل إسناد إلى متنه، وفعل بالآخرين مثل ذلك، ورد متون الأحاديث إلى أسانيدها وأسانيدها إلى متونها، فأقر له الناس بالحفظ،

وأذعنوا له بالفضل «1» وقال سليم بن مجاهد: كنت عند محمد بن سلام البيكندي «2» ، فقال لي: لو جئت قبل لرأيت صبيا يحفظ سبعين ألف حديث. قال: فخرجت في طلبه حتى لقيته، فقلت: أنت الذي تقول: أنا أحفظ سبعين ألف حديث؟ قال: نعم. وأكثر منه، ولا أجيئك بحديث من الصحابة أو التابعين إلا عرفت مولد أكثرهم، ووفاتهم ومساكنهم (ص 168) ولست أروي حديثا من حديث الصحابة أو التابعين إلا ولي في ذلك أصل أحفظه من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال أبو سعيد بن منير: بعث الأمير خالد الذهلي «3» والي بخارى إلى البخاري: أن احمل كتاب الجامع والتاريخ وغيرهما لأسمع منك. فقال البخاري لرسوله: أنا لا أذل العلم، ولا أحمله إلى أبواب الناس، فإن كانت لك إلى شيء منه حاجة، فاحضرني إلى مسجدي، أو في داري، فإن لم يعجبك هذا فأنت سلطان فامنعني من المسجد ليكون لي عذر عند الله يوم القيامة، لأني لا أكتم

العلم لقول النبي صلى الله عليه وسلم «من سئل عن علم فكتمه ألجم بلجام من نار» «1» قال: وكان سبب الوحشة بينهما هذا. وقال ابن أبي حاتم «2» : كان البخاري إذا كنت معه في سفر يجمعنا بيت واحد إلا في القيظ أحيانا، فكنت أراه يقوم في ليلة خمس عشرة مرة إلى عشرين مرة، في كل ذلك يأخذ القداحة، فيوري نارا بيده، ثم يخرج أحاديث، فيعلم عليها، ثم يضع رأسه، وكان يصلي في وقت السحر ثلاث عشرة ركعة يوتر بواحدة، وكان لا يوقظني في كل ما يقوم، فقلت له: إنك تحمل على نفسك كل هذا، ولا توقظني، قال: أنت شاب فلا أحب أن أفسد عليك نومك، ورأيته استلقى على قفاه يوما، ونحن بفربر في تصنيف كتاب التفسير، وكان أتعب نفسه في كثرة إخراج الحديث، فقلت له: يا أبا عبد الله سمعتك تقول يوما: إني ما أتيت شيئا بغير علم قط منذ عقلت، قلت: وأي علم في هذا الاستلقاء؟ قال: أتعبنا نفسنا في هذا اليوم، وهذا ثغر من الثغور خشيت أن يحدث حدث من أمر العدو، فأحببت أن أستريح (ص 169) وآخذ أهبة ذلك، فإن عافصنا «3» العدو كان بنا حراك «4» .

وقال البخاري: صنفت كتابي الصحيح في ست عشرة سنة، وخرجته من ستمائة ألف حديث، وجعلته حجة فيما بيني وبين الله تعالى، وما وضعت فيه حديثا إلا اغتسلت قبل ذلك، وصليت ركعتين، وكتبت عن ألف شيخ، وأكثر ما عندي حديث إلا أذكر إسناده، ورب حديث سمعته بالبصرة كتبته بالشام، ورب حديث سمعته بالشام كتبته بمصر. وقال عبد القدوس بن عبد الرحمن السمرقندي: جاء البخاري إلى خرتنك وكان له بها أقرباء «1» فنزل عندهم، قال: فسمعته ليلة من الليالي وقد فرغ من صلاة الليل يدعو ويقول في دعائه: " اللهم إنه قد ضاقت علي الأرض بما رحبت فاقبضني إليك" قال: فما تحرّ الشهر حتى قبضه الله إليه، وقبره بخرتنك. وقال عبد الواحد بن أحمد الطواويسي: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم ومعه جماعة من أصحابه، وهو واقف في موضع ذكر، فسلمت عليه، فقلت: ما وقفك يا رسول الله؟ فقال: أنتظر محمد بن إسماعيل البخاري. فلما كان بعد أيام بلغني موته، فنظرنا، فإذا هو قد مات في الساعة التي رأيت النبي صلى الله عليه وسلم فيها، وكان ذلك ليلة السبت عند صلاة العشاء، وكانت ليلة عيد الفطر بعد صلاة الظهر سنة ست وخمسين ومائتين بخرتنك، ومولده يوم

79 - محمد بن يحيى بن عبد الله بن خالد بن فارس

الجمعة بعد صلاة العشاء لثلاث عشرة ليلة خلت من شوال سنة أربع وتسعين ومائة. ومنهم: 79- محمد بن يحيى بن عبد الله بن خالد بن فارس » أبو عبد الله النيسابوري «2» الذهلي «3» - مولاهم- شيخ الإسلام وحافظ نيسابور وحافل سحابها المجرور (ص 170) حفظه متسع ولفظه يدل على أنه مطلع، ورده عدّ وفرنده «4» عقد، استفاء «5» من إليه آوى، واستفاد من أقبل عليه

وروي بتقريب يسوّغ «1» لطالب موارده المناهل «2» ، ويفطّن الراغب لفوائده، وما هو عن ذهلية الحي ذاهل، تفردا في ذلك الأوان، وإشحاء ما زاد قرنه الذي قطعه الحصر معه على أن تعرّض للهوان، وأظهر المسالمة لجملة قومه، وقال: صفحنا عن بني ذهل وقلنا القوم إخوان. سمع بالحرمين ومصر والشام «3» ، والعراق، والري وخراسان، واليمن والجزيرة، ونزع إلى هذا الشأن، وحدث عنه خلق، والجماعة «4» سوى مسلم «5» ، وانتهت إليه مشيخة العلم بخراسان مع الثقة والصيانة والدين، ومتابعة السنن. وقال محمد بن سهل بن عسكر «6» : كنا عند أحمد بن حنبل، فدخل محمد بن يحيى الذهلي فقام إليه أحمد، وتعجب الناس منه، وقال لأولاده، وأصحابه: اذهبوا إلى أبي عبد الله، فاكتبوا عنه، وقال أحمد: ما رأيت أحدا أعلم بحديث الزهري من محمد بن يحيى.

وقال الذهلي: قال علي بن المديني: أنت وارث الزهري. وقال أبو حاتم: هو إمام أهل زمانه. وقال أبو بكر بن زياد «1» : كان الذهلي أمير المؤمنين في الحديث. وقال الذهلي: ارتحلت ثلاث رحلات، وأنفقت على العلم مائة وخمسين ألفا. وقال الدارقطني «2» : من أراد أن يعرف قصور علمه، فلينظر في علل حديث الزهري لمحمد بن يحيى «3» . وقال أبو عمرو أحمد بن نصر الخفاف «4» : رأيت محمد بن يحيى «5» ، فقلت: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي قلت: فما فعل بحديثك؟ قال: كتب بماء الذهب، ورفع في عليين. توفي في ربيع الأول سنة ثمان وخمسين ومائتين، وهو في عشر التسعين (171) .

80 - أحمد بن الفرات الحافظ الحجة أبو مسعود الرازي

ومنهم: 80- أحمد «1» بن الفرات «2» الحافظ الحجة أبو مسعود الرازي «3» ، محدث أصبهان وصاحب التصانيف الحسان، رقت حواشيها، وقرت عيونا بأن النجوم لا تماشيها، صنفها ابن الفرات، وكأنها بين ضفتيها تترقرق وبين دفتيها تجمع من جدا جداولها ما تفرق، فهي عذبة سلسال ذات تدفق واسترسال، وسعت الزمان إملاء فيما يفيد، وأخذت الزمام وقد ضاقت بمدارجها البيد، أكثر الترحال في لقي الرجال. قال أبو مسعود: كتبت عن ألف وسبع مائة شيخ، فعملت من ذلك في تواليفي خمس مائة ألف حديث «4» . وقال أحمد بن حنبل: ما أظن بقي أحد أعرف بالمستندات من ابن الفرات. وقال- أيضا-: ما تحت أديم السماء أحفظ لأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم من ابن الفرات.

81 - مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري

وقال ابن عدي: لا أعرف له رواية منكرة، وهو من أهل الصدق والحفظ «1» . وكانت وفاته في شعبان سنة ثمان وخمسين ومائتين «2» . ومنهم: 81- مسلم بن الحجاج «3» بن مسلم «4» القشيري النيسابوري أبو الحسن، أحد الأئمة الحفاظ أعلام المحدّثين، وفي أعلى مقام المتقدمين والمحدثين، المفضل- بعد صحيح البخاري- كتابه، إلا ما ذهب إليه بعضهم من أنه هو المقدم، والأولى بأن يقدم، وحذاق المحدثين إذا خرجوا مما خرجاه- مما اختلفا في لفظه- جعلوا اللفظ لمسلم على ما خرجه في صحيحه، وعملوا عليه لكثرة تصحيحه، وعنت تنقيحه، ولأهل المغرب في التعويل عليه ميل، ولهم إلى الانصباب إليه سيل، وعذرا، لمن أغري بصحيحه (ص 172) عذرا لقد وفى في شروط تصحيحه نذرا، حتى لقد كاد يعدّ فردا لا يقاس إلى شبهه وراويا للخير يجيء به كما قيل في حديث عائشة في الأضاحي" لقد أتتك بالحديث على

وجهه". لقد أبطل شبهة كل مضل مذ جلا كل مظلم وأزال دعوى كل باطل بما صح من حديثه، فإنه لا شيء أصح من حديث مسلم. رحل إلى الحجاز والعراق والشام ومصر «1» ، وقدم بغداد غير مرة، وآخر قدومه إليها سنة تسع وخمسين ومائتين. قال مسلم: صنفت هذا المسند الصحيح من ثلاثمائة ألف حديث مسموعة. وقال الحافظ أبو علي النيسابوري «2» : ما تحت أديم السماء أصح من كتاب مسلم في الحديث «3» . وقال أحمد بن سلمة «4» : رأيت أبا زرعة، وأبا حاتم يقدمان مسلم بن الحجاج في معرفة الصحيح على مشايخ عصرهما. وقال أحمد بن عمر الزاهد: سمعت الثقة من أصحابنا- وأكبر ظني أنه أبو سعيد بن يعقوب- يقول: رأيت فيما يرى النائم كأن أبا علي الزغوري يمضي في

شارع «1» الحيرة «2» ، وفي يده جزء من كتاب مسلم، فقلت: ما فعل الله بك؟ قال: نجوت بهذا وأشار إلى ذلك الجزء. وقال أحمد بن سلمة: عقد لأبي الحسين مسلم مجلس للمذاكرة، فذكر له حديث لم يعرفه، فانصرف إلى منزله وأوقد السراج، وقال لمن في الدار: لا يدخل أحد منكم هذا البيت، فقيل له: أهديت لنا سلة فيها تمر. فقال: قدموها، فقدموها إليه، وكان يطلب الحديث، ويأخذ تمرة تمرة، فيمضغها، فأصبح وقد فني التمر، ووجد الحديث. قال الحاكم: زادني الثقة من أصحابنا أنه منها مات «3» . قال الحاكم: قرأت بخط أبي عمرو المستملي «4» : أملى علينا إسحاق بن منصور «5» سنة إحدى وخمسين ومائتين، ومسلم ينتخب عليه، وأنا أستملي، فنظر إسحاق بن منصور إلى مسلم، فقال له: لن نعدم الخير ما أبقاك الله للمسلمين. (ص 173) .

82 - عبيد الله بن عبد الكريم بن يزيد بن فروخ القرشي

توفي مسلم عشية يوم الأحد، ودفن يوم الاثنين لخمسين- وقيل: لست- بقين من رجب سنة إحدى وستين ومائتين بنيسابور، ومولده سنة ست ومائتين وقيل: سنة أربع ومائتين. ومنهم: 82 «1» - عبيد الله بن عبد الكريم «2» بن يزيد بن فروخ القرشي «3» - مولاهم- الرازي «4» : أبو زرعة سيد من سادات القوم وسند ما انقطع إلى اليوم، من موالي قريش النجباء، وبقاياهم الألباء «5» ، فضل الصريح «6» ، وفضّل بالصحيح، اشتهر فيمن روى الحديث، ورأى أدنى مطالبه موكلا بالسير

الحثيث «1» ، فشد (ص 174) اليعملات، وسدّ مهابّ الفلاة حتى وسع فروج الارتحال «2» وخروج التحصيل به من حال إلى حال، حتى صار مأوى إليه تحط الرحال، وحقا «3» في الطلب بلا محال. سمع بالحرمين، والشام ومصر والعراق، والجزيرة وخراسان، وكان من أفراد الدهر حفظا وذكاء، ودينا وإخلاصا، وعلما وعملا. قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: نزل عندنا أبو زرعة، فقال لي أبي: يا بني قد اعتضدت على نوافلي بمذاكرة هذا الشيخ. وقال أبو زرعة: كتبت عن ابن أبي شيبة مائة ألف حديث، وعن إبراهيم بن موسى الرازي مائة ألف حديث. فقيل له: تقدر أن تملي ألف حديث من حفظك؟ قال: لا، ولكني إذا ألقي علي عرفت. واستفتى رجل أبا زرعة قال: حلفت بالطلاق أنك تحفظ مائة ألف حديث. فقال: تمسك بامرأتك. وقال ابن أبي شيبة «4» : ما رأيت أحفظ من أبي زرعة. وقال علي بن الجنيد: ما رأيت أعلم من أبي زرعة.

وقال أبو يعلى الموصلي «1» : كان أبو زرعة مشاهدته أكبر من اسمه، يحفظ الأموات والشيوخ والتفسير. وقال صالح- جزرة «2» - سمعت أبا زرعة يقول: أحفظ في القراءات عشرة آلاف حديث. وقال يونس بن عبد الأعلى «3» : ما رأيت أكثر تواضعا من أبي زرعة. وقال عبد الوارث بين غياث «4» : ما رأى أبو زرعة مثل نفسه. وقال أبو حاتم: ما خلف أبو زرعة بعده مثله، ولا أعلم منه كان يحفظ هذا الشأن مثله «5» ، وقلّ من رأيت في زهده.

83 - - محمد بن يزيد بن ماجه الربعي

توفي أبو زرعة في آخر يوم من سنة أربع وستين ومائتين. ومنهم: 83- «1» - محمد بن يزيد «2» بن ماجه الربعي «3» - بالولاء- القزويني أبو عبد الله الحافظ، مصنف كتاب السنن وحسبك بابن ماجه بحرا ماج فطفا من دره ما رسب، وطودا مال لو لم يمسك الغمام من ذيله بحسب، وحبرا مار «4» ما رأى أحدا أفضل مما منه يكتسب، ربعي بالولاء، لا بل هو ربيع توالى قطره الساكب، وتولى الغمام ثم جرى في أرضه نهرا، لأنه ما استطاع أن يمر بها وهو راكب، طاف وارتحل، وطاب موقعه كالغيث حيث حل، وأعمل نظره فيما فرضه الشارع وسنه، وفسّر كتاب الله، وروى حديث رسوله فقام بالكتاب والسنة. كان إماما في الحديث عارفا بعلومه، وجميع ما يتعلق بعلومه، وارتحل إلى العراق والبصرة، والري والكوفة وبغداد ومكة والشام ومصر لكتب الحديث،

84 - سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير الأزدي السجستاني أبو داود

وله: تفسير القرآن، وتاريخ مليح، وكتابه أحد الكتب الستة. توفي يوم الاثنين، ودفن يوم الثلاثاء لثمان بقين من شهر رمضان سنة ثلاث وسبعين ومائتين وصلى عليه أخوه أبو بكر، ومولده سنة تسع ومائتين. ومنهم: 84- سليمان بن الأشعث «1» بن إسحاق بن بشير الأزدي «2» السجستاني «3» أبو داود أحد حفاظ الحديث، وعلمه، وعلله، وحيفاز الفهم الصحيح في معرفة سداده «4» وخلله «5» ، ممن فقه في الدين، وفهق «6» غديره الصافي مما امتلأ

للواردين، زاد على من سبقه (ص 175) وما قصروا ذكاء وفهما، وأصاب وما أخطأوا ظنا ومرمى، وأشبهت فطنته السليمانية «1» فطنة مسماه، فوافق المسمى المسمي «2» وما تعداه، لقد أظله وإياهم سحاب تغشاهم رحمته، إلا أنه أخطأهم، وقدح له ولهم زنادا «3» أراهم ضياه، لكنه أصابه وما أخطاهم، ثم قال التثبت إذ سبق الأوائل: مهلا سبقت، وما توانى أولئك أناة وحلما، وقال الفهم حين أصاب الصواب (ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما) «4» كان في الدرجة العالية من النسك والصلاح. طوّف البلاد وكتب عن العراقيين والخراسانيين والشاميين، والمصريين، والجزريين «5» ، وجمع كتاب السنن قديما، وعرضه على أحمد بن حنبل فاستجاده «6» واستحسنه، وعده أبو إسحاق الشيرازي في طبقات الفقهاء من جملة أصحاب الإمام أحمد.

قال إبراهيم الحربي «1» - لما صنف أبو داود كتابه السنن-: ألين له الحديث كما ألين لداود الحديد «2» . وكان يقول: كتبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس مائة ألف حديث انتخبت منها ما ضمنته هذا الكتاب- يعني السنن- جمعت فيه أربعة آلاف وثمان مائة حديث ذكرت الصحيح وما يشبهه ويقاربه، ويكفي الإنسان من ذلك أربعة أحاديث «3» : أحدها: قوله: «الأعمال بالنيات «4» »

والثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه «1» » والثالث: قوله: «لا يكون المرء مؤمنا حتى يرضى لأخيه ما يرضاه لنفسه» «2» والرابع: قوله: «الحلال بيّن والحرام بيّن» «3»

85 - محمد بن إدريس بن المنذر الحنظلي

وجاء سهل بن عبد الله التّستري «1» ، فقيل له: يا أبا دواد هذا سهل قد جاءك زائرا، قال: فرحب به وأجلسه، فقال: يا أبا دواود لي إليك حاجة (ص 176) قال: وما هي؟ قال: حتى تقول قضيتها. قال: أقضيها مع الإمكان. قال: أخرج لسانك الذي حدثت به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أقبّله. قال: فأخرج لسانه فقبّله. توفي بالبصرة يوم الجمعة منتصف شوال سنة خمس وسبعين ومائتين. ومولده سنة اثنتين ومائتين. ومنهم: 85- محمد بن إدريس «2» بن المنذر الحنظلي «3» أبو حاتم الرازي أحد الأعلام، وأحد سيوف الإسلام، ممن تجوّل وطاف لا

تسعى به إلا قدمه، ولا تصحبه إلا هممه، يقطع الأرض ركضا، ويقنع بما هو عليه من الدأب، ويرضى؛ حتى أخذ من الحديث الشريف النبوي- زاده الله شرفا- ما شد به إليه لأجله الرّحل «1» والقتب «2» ، وألاق «3» له كل طالب دواته وكتب. قال أبو حاتم: أول ما رحلت أقمت سبع سنين، ومشيت على قدمي زيادة على ألف فرسخ، ثم تركت العدد وخرجت من البحرين إلى مصر ماشيا، ثم إلى

الرملة «1» ماشيا، ثم إلى طرسوس «2» ولي عشرون سنة، وكتبت عن النفيلي «3» نحو أربعة عشر ألفا. قال موسى بن إسحاق الأنصاري: ما رأيت بعد محمد بن يحيى الذهلي أحفظ للحديث، ولا أعلم بمعانيه من أبي حاتم. وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: قلت على باب أبي داود الطيالسي «4» : من أغرب عليّ حديثا صحيحا «5» ، فله درهم. وكان ثمة خلق أبو زرعة، فمن دونه، وإنما كان مرادي أن يلقى عليّ ما لم أسمع به، لأذهب إلى راويه، وأسمعه، فلم يتهيأ لأحد أن يغرب عليّ. قال: وسمعت أبي يقول: قدم الري محمد بن يحيى «6» ، فألقيت عليه ثلاثة عشر حديثا من حديث الزهري، فلم يعرف إلا ثلاثة أحاديث. وقال: بعت ثيابي (ص 177) سنة أربع عشرة ونفقت «7» ثمنها حتى نفد، وجعت يومين، فأعلمت رفيقي، فقال: معي دينار، فأعطاني نصفه، وطلعنا مرة من البحر «8» قد فرغ زادنا، فمشينا ثلاثة أيام لا نأكل شيئا، فألقينا بأنفسنا، فسقط

86 - أبو عيسى الترمذي

رفيقنا شيخ مغشيا عليه، فجئنا نحركه وهو لا يعقل، فتركناه ومشينا فرسخا، فسقطت مغشيا علي، ومضى صاحبي، فرأى على بعد سفينة، فنزلوا الساحل، فلوّح بثوبه فجاءوه، فسقوه، فقال: أدركوا رفيقين لي، فما شعرت إلا برجل يرش على وجهي، ثم سقاني، ثم أتوا بالشيخ، فبقينا حتى رجعت إلينا أنفسنا. توفي أبو حاتم في شعبان سنة سبع وسبعين ومائتين، وله ثنتان وثمانون سنة. ومنهم: 86- أبو عيسى الترمذي «1» محمد بن عيسى بن سورة بن موسى ابن الضحاك السّلمي «2» الحافظ «3» المشهور. أحد الأئمة المقتدى بهم في علم الحديث، والمقتفي وفد الرياح إليه في السير الحثيث، أخذ عن البخاري وما نهنه «4» عن طلبه، ولا ضحضح «5» في قلبه حين

استقى من سحبه، وارتوى بأعذبه، حام حيث حلق، وطار معه أو به تعلق، وأتقن التصنيف، وقال وحقق، فاز قدح ترمذ منه بأحد الأئمة المشاهير، وعاشت به ما عاشت، وما علمت أن ابنها من قريش في الجماهير، كيف لا يكون منهم وقد ذكر من حديث سيدهم، بل سيد البشر ما كأنه حضر به معهم في أنديتهم، وعلم من أخبارهم ما كأنه كان به في جلابيب «1» أرديتهم وتبرحت «2» سليم فخرا به، وسرورا بنسبه، لقد أعقبت ابن مرداسها العباس «3» بجده الضحاك «4» ، وقاست به من مضى ثم قالت: أين- لولا سابق الصحبة- هذا من ذاك، ثم نقعت «5» قبيلته غلل «6» صداها «7» (ص 178) بكوثره.

وجلت «1» حايل «2» قذاها «3» منه بما لا يعزوه الكمال إلى سليم من نفع أصغره «4» . صنف كتاب الجامع «5» والعلل «6» تصنيف رجل متقن، وكان يضرب به المثل في الحفظ وهو تلميذ أبي عبد الله البخاري، ومع هذا فشاركه في بعض شيوخه «7» . «8» ................ ............. توفي ليلة الاثنين لثلاث عشرة ليلة خلت من رجب سنة تسع وسبعين ومائتين.

87 - أبو عبد الرحمن النسائي

ومنهم: 87- أبو عبد «1» الرحمن النسائي «2» . أحمد بن علي بن شعيب «3» بن علي بن سنان بن بحر الحافظ. أنسى كثيرا ممن تقدم، وأرسى ثبيرا «4» أو يلملم «5» ،

وأشرى «1» للطلب والريح قد ونت «2» ، والنجم قد هوّم «3» ، وكان بجديه لا يجبن له جبان، ولا يخطا نحره، ولا ترد له حمله وهو يطعن بسنان، ويكاثر ببحر، رفعت به متلعة «4» جيدها نسا، وطلعت في سطور تصانيفه الشموس مسا، وقام في أهل دمشق ليقوم مناد نصبهم «5» ، ويقشع «6» عنهم مدهام «7» غضب ربهم، وأراد أن يكرمهم بما لعلي- كرم الله وجهه- من علو قدر، وسابقة إن أنكرتها الطلقاء «8» ، فسل عنها سيفه يوم بدر، فعجلت الحمية لهم نار الغضب، وكوت حنق صدورهم ببعض ما أعد لهم في المنقلب، ووثبوا بالرجل، ولكن الطود لا يزعزعه من وثب، وكان إمام عصره في الحديث (ص 179) سكن مصر، وانتشرت بها تصانيفه وأخذ عنه الناس.

قال محمد بن إسحاق الأصبهاني «1» : سمعت مشايخنا بمصر يقولون: إن أبا عبد الرحمن فارق مصر في آخر عمره، وخرج إلى دمشق فسئل عن معاوية وما روي من فضائله، فقال: أما يرضى معاوية أن يخرج رأسا برأس حتى يفضل. وفي رواية أخرى: ما أعرف له فضيلة إلا" لا أشبع الله بطنك «2» " وكان يتشيع، فما زالوا يدفعون في خصييه حتى أخرجوه من المسجد، ثم حمل إلى الرملة فمات بها. وقال الدارقطني: لما امتحن النسائي بدمشق، قال: احملوني إلى مكة، فحمل إليها، فتوفي بها، وهو مدفون بين الصفا والمروة. وكانت وفاته في شعبان سنة ثلاث وثلاثمائة. وقال أبو نعيم: كان قد صنف كتاب الخصائص في فضائل علي بن أبي طالب وأهل البيت، وأكثر روايته فيه عن أحمد بن حنبل، فقيل له: ألا تصنف كتابا في فضل الصحابة؟. فقال: دخلت دمشق والمنحرف عن علي كثير، فأردت أن يهديهم الله بهذا الكتاب، وكان يصوم يوما، ويفطر يوما، وكان مليح الوجه ظاهر الدم مع كبر

السن، يؤثر لباس البرود النوبية «1» والخضر «2» ، ويكثر الاستماع «3» ، ويكثر أكل الديوك الكبار، تشترى له وتخصى وتسمن، وكان موصوفا بكثرة الجماع. قال ابن عساكر: كان له أربع زوجات يقسم لهن وسراري. وقال ابن يونس في تاريخ مصر: قدم أبو عبد الرحمن النسائي مصر قديما، فكان إماما في الحديث ثقة ثبتا حافظا، وخرج من مصر في ذي القعدة سنة اثنتين وثلاثمائة، ثم حكى وفاته كما قدمناه «4» . قال ابن خلكان «5» : ورأيت في مسوداتي أن مولده بنسا سنة خمس عشرة ومائتين.

88 - أبو جعفر الطبري

ومنهم: 88- أبو جعفر «1» الطبري «2» محمد بن جرير بن يزيد (ص 180) بن كثير «3» الإمام العلم الفرد صاحب التصانيف، فلا لمخر «4» البيداء، ولحر يهب ظلم الليلة السوداء، بل ركب جنح غمامها المربدّ «5» ، وقبل ثغر برقها المبيض، عارضه المسود، وقذف في فائض بحره سفنه، ومدّ مع عارض فجره سنه «6» ، وألقى حبل حوزائه «7» على

غاربه «1» ، وحدا «2» ظعن «3» ظلماته إلى مغاربه، وأقبل يشق الأرض شقا، ويمشق «4» حروف المطي في سطر المهمه «5» الممتد مشقا، لا يدع سهلا حتى يطوي ذيل نمرقه «6» ، ولا جبلا حتى يغصه فوق مفرقه، ولا بحرا إلا قطعه، ولا ألا إلا قطّعه، إلى أن لقي بغيته وأحرزها، ومطلبه وحصل جواهره وكنزها، لكنها علوم نافعة، وغيوم ناقعة «7» ، وحديث نبوي جمع أطرافه، وضم أطرافه، حتى صنف التفسير الذي صدقت فيه الأحلام وسبقت لتلقيه الأقلام، أنقذ به من الضلالات، وأخرج إلى نور المعرفة من ظلم الجهالات، وأقام به الحق بأوضح الدلالات بفرط اجتهاد شق به الصديعين «8» ، وشد رحلة الشتاء والصيف والربيعين، ولم ير هلال شهر ثم عرف متى انمحق «9» ، ولا كيف اتصل بالعدم والتحق، لشواغله بالطلب الذي لا ينتهي والأرب الذي بغيره لا يلتهي، والفضل

المكتسب الذي لو قال له: ما مناك في الدنيا؟ لقال: أنت هي. ولا كان تخاط جفنة «1» بغرار «2» ولا يحاط قلبه بقرار، ولا يزال يهمه رجل يلقاه، وعلم لا يضره أنه يحصله، ويموت إذا أبقاه. قال أبو بكر الخطيب: كان ابن جرير أحد الأئمة «3» يحكم بقوله، ويرجع إلى رأيه لمعرفته وفضله، وجمع العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره، وكان حافظا لكتاب الله «4» بصيرا بالمعاني فقيها في أحكام القرآن (ص 181) عالما بالسنن وطرقها، سقيمها وصحيحها، ناسخها ومنسوخها، عارفا بأقوال الصحابة والتابعين «5» ، بصيرا بأيام الناس وأخبارهم، له الكتاب المشهور الكبير في تاريخ الأمم «6» ، وله كتاب التفسير الذي لم يصنف مثله، وله كتاب تهذيب الآثار لم أر مثله في معناه «7» ولم يتمه، وله في الأصول والفروع كتب كثيرة «8» ، وله اختيار من أقاويل الفقهاء، وقد تفرد بمسائل حفظت عنه، قيل: إن المكتفي «9» أراد أن يقف وقفا يجتمع عليه أقاويل العلماء، قال: فأحضر له ابن

جرير، فأملى عليهم كتابا لذلك، فأخرجت له جائزة، فلم يقبلها، فقيل له: فلا بد من قضاء حاجة، قال: أسأل أمير المؤمنين أن يأمر بجمع السائلين من الفقراء يوم الجمعة- يعني في المساجد- ففعل ذلك. وكذا التمس منه الوزير أن يعمل له كتابا في الفقه، فلما ألّفه، وجه إليه ألف دينار، فردها. وقيل: مكث أربعين سنة يكتب كل يوم أربعين ورقة. وقال تلميذه أبو محمد الفرغاني «1» : حسب تلامذة أبي جعفر منذ احتلم إلى أن مات، فقسموا على المدة مصنفاته، فصار لكل يوم أربع عشرة ورقة. وقال أبو حامد الإسفراييني «2» : لو سافر رجل إلى الصين في تفسير ابن جرير لم يكن كثيرا. وقال أبو بكر بن خزيمة «3» : ما أعلم على أديم الأرض أعلم من محمد بن جرير.

وقال الفرغاني: كان ابن جرير لا تأخذه في الله لومة لائم مع عظم ما يؤذى، فأما أهل الدين، والعلم فغير منكرين عمله، وزهده، ورفضه للدنيا، وقناعته بما يجيئه من حصة خلفها له أبوه بطبرستان. وقال عبيد الله بن أحمد السمسار: قال ابن جرير- يوما- لأصحابه: هل تنشطون لتاريخ العالم. قالوا: كم يجيء؟ فذكر نحو ثلاثين ألف ورقة (ص 182) قالوا: هذا مما تفنى الأعمار قبل تمامه، فقال: إنا لله، ماتت الهمم، فأملاه في نحو ثلاثة آلاف ورقة. ولما أراد أن يملي التفسير، قال لهم كذلك، ثم أملاه على نحو من التاريخ. وقال الفرغاني: بث ابن جرير مذهب الشافعي ببغداد سنين، واقتدى به، ثم اتسع علمه، وأداه اجتهاده إلى ما اختار في كتبه، وعرض عليه القضاء، فأبى. وقال ابن جرير: من قال: إن أبا بكر وعمر ليسا بإمامي هدى يقتل. توفي «1» عشية الأحد ليومين بقيا من شوال سنة عشر وثلاثمائة، ودفن بداره برحبة يعقوب. [وشيعه إلى المسجد، ثم إلى القبر خلق لا يحصرون، وصلى على قبره عدة شهور، ورثاه أهل الأدب والدين» ] ، وكان السواد فيه كثيرا، ولم يغير شيبه، وكان أسمر إلى الأدمة، أعين «3» ، نحيف الجسم فصيحا.

89 - محمد بن إسحاق بن خزيمة أبو بكر السلمي النيسابوري

ومنهم: 89- محمد بن إسحاق بن خزيمة «1» أبو بكر السّلمي النيسابوري «2» إمام الأئمة، شيخ الإسلام، ومن شهد له خزيمة فحسبه «3» ، ومن جحد فضله فجحوده حصبه «4» ، فاحت خزامى «5» تصانيفه مما قصم دونه القيصوم «6» ، وتحدر عن لمم الشيح «7» لؤلؤ الطل المنظوم، وغدا بها أبو بكر من كل تصنيف وأخو كل عذراء، من كل معنى لطيف، وهيّج بها كل وجد، وجاء يقص بها الأخبار عمن حل بنجد، فما انتظر بها جفن صب خيالا من أميمة، ولا أنكر

شنشنة «1» قال: أعرف هذه من أخزم ولا شيمة «2» ، قال: وهذه أعرفها من ابن خزيمة. ولد سنة ثلاث وعشرين ومائتين، وعني بهذا الشأن في الحداثة، وسمع فأكثر، وجوّد، وصنّف، واشتهر اسمه وانتهت إليه الإمامة والحفظ بخراسان، وحدّث عنه الشيخان في غير الصحيحين، ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم «3» أحد شيوخه، وخلق لا يحصون. قال ابن خزيمة: كنت إذا أردت (ص 183) أن أصنف الشيء دخلت في الصلاة مستخيرا حتى يفتح لي فيها، ثم أبتدئ ثمّ. قال أبو عثمان الزاهد: إن الله ليدفع البلاء عن أهل نيسابور بابن خزيمة. وسئل ابن خزيمة: من أين أتيت العلم؟ فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ماء زمزم لما شرب له «4» » وإني لما شربت ماء زمزم سألت الله علما نافعا.

وقيل له: لو حلقت شعرك في الحمّام، فقال: لم يثبت عندي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل حماما، ولا حلق شعره- يعني في غير حج أو عمرة- إنما يأخذ شعري جارية لي بالمقراض. وقال حفيده محمد بن الفضل بن أبي بكر «1» : كان جدي لا يدّخر شيئا جهده، بل ينفقه على أهل العلم ولا يعرف الشّحّ، ولا يميز بين العشرة والعشرين. وقال أبو أحمد حسينك «2» : سمعت أبا بكر بن خزيمة يحكي عن علي بن

خشرم «1» عن ابن راهويه «2» أنه قال: أحفظ سبعين ألف حديث، فقلت لأبي بكر: فكم يحفظ الشيخ، فضربني على رأسي، وقال: ما أكثر فضولك، ثم قال: يا بني ما كتبت سوادا في بياض إلا وأنا أعرفه. وقال أبو علي النيسابوري: كان ابن خزيمة يحفظ الفقهيات من حديثه كما يحفظ القارئ السورة. وقال أبو حاتم محمد بن حبان: ما رأيت على وجه الأرض من يحسن صناعة السنن، ويحفظ ألفاظها الصحاح، وزياداتها حتى كأن السنن كلها بين يديه إلا ابن خزيمة فقط. وحكى أبو بشر القطان: أن جارا- من أهل العلم- لابن خزيمة رأى كأن لوحا عليه صورة نبينا صلى الله عليه وسلم وابن خزيمة يصقله، فقال المعبر: هذا رجل يحيي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال ابن سريج «3» :- وذكر له ابن خزيمة- فقال: يستخرج النكت من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمنقاش (ص 184) . وقال الحاكم- في علوم الحديث «4» -: فضائل ابن خزيمة مجموعة عندي في

أوراق كبيرة، ومصنفاته تزيد على مائة وأربعين كتابا سوى المسائل المصنفة، وهي أكثر من مائة جزء، وله في فقه حديث بريرة «1» في ثلاثة أجزاء. وسئل ابن أبي حاتم [عنه] «2» ، فقال: ويحكم، هو يسأل عنا، ولا نسأل عنه، وهو إمام يقتدى به. توفي في ذي القعدة سنة إحدى عشرة وثلاثمائة، وهو في تسع وثمانين سنة.

90 - أبو عوانة الإسفراييني

ومنهم: 90- أبو عوانة «1» الإسفراييني «2» يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم بن يزيد النيسابوري «3» الحافظ صاحب المسند الصحيح «4» المخرج على كتاب مسلم بن الحجاج «5» ، المسلم إليه في الاحتجاج، الإسفراييني الذي ما حط له رحل من سفر، ولا حل له عقد منى إلا عن ظفر، ولا تجنّب ناحية من الأرض إلا وهو نحو أخرى يريدها، ولا أقل مدة مقام في بلد إلا لمدة في سواها يستزيدها، رميت الفجاج منه بحليم، يوقر بوخد «6» مطيه

سفهها، وعليم يجلي بصدق يقينه مشتبهها، طاف البلاد حتى ملت من سراه، وواصل الأيام حتى يئست الليالي من كراه، «1» وانتهت السباسب «2» وخدا، وأفنى الحقائب «3» شدا، وطلب الحديث فحصله حتى صار سواء عليه ما أعاد، وما أبدى. طاف الشام، ومصر، والبصرة، والكوفة، وواسط، والجزيرة، وأصبهان، وفارس، والري، والحجاز، واليمن، وحج خمس مرات. قال الحاكم: أبو عوانة من علماء الحديث، وأثباتهم، ومن الرحالة في أقطار الأرض لطلب الحديث. توفي سنة ست عشرة وثلاثمائة «4» ، وقبره بإسفرايين مزار العالم، ومتبرك الخلق.

91 - عبد الله بن أبي داود - سليمان بن الأشعث - الأزدي السجستاني

ومنهم: 91- عبد الله بن أبي داود «1» - سليمان بن الأشعث- الأزدي السجستاني «2» (ص 185) أبو بكر العلامة قدوة المحدثين صاحب التصانيف والمقتدر على حسن التصريف، رحل رحلة بعدت أطرافا، وعقدت على مشرق الشمس ومغربها طرافا وعمدت إلى الأرض من جانبيها تحاول عليها إشرافا، وتقاول على طرفيها إسرافا، ثم قال «3» في بلد دار الخلافة، وقال: ولا مخافة، وأملى وما أمل، وقال ما لا قلّ، وجلب طريف الحديث إلى تلك السوق، وطفق يحث الركاب مسحا بالأعناق والسوق «4» ، وحل ببغداد، وأشامها «5» ، وقال: لا مسك الأين والتعب بعدها يا نوق. ولد بإقليم سجستان، سنة ثلاثين ومائتين وسمع سنة أربعين باعتناء أبيه ولذكائه بخراسان والعراق، والحرمين ومصر والشام، وغير ذلك، وبرع وساد

الأقران، وحدث عنه خلق كثير. قال الخطيب: رحل به أبوه من سجستان فطوف به شرقا وغربا يسمع ويكتب، واستوطن بغداد وصنف المسند والسنن والتفسير والقراءات، والناسخ والمنسوخ، وغير ذلك، وكان فقيها عالما حافظا. قال عبد الله بن أبي داود: دخلت الكوفة ومعي درهم واحد فاشتريت به ثلاثين مد «1» باقلا «2» ، فكنت آكل منه وأكتب عن الأشج «3» ، فما فرغ الباقلا حتى كتبت عنه ثلاثة آلاف حديث ما بين مقطوع «4» ومرسل «5» . قال أبو بكر بن شاذان: قدم ابن أبي داود أصبهان- وفي نسخة سجستان- فسألوه أن يحدثهم، فقال: ما معي أصل، فقالوا: ابن أبي داود، وأصل؟! قال: فأثاروني، فأمليت عليهم من حفظي ثلاثين ألف حديث، فلما قدمت بغداد، قال البغداديون: مضى إلى سجستان ولعب بهم، ثم فيجوا فيجا «6» اكتروه بستة

دنانير إلى سجستان ليكتب لهم النسخة، فكتبت وجيء بها وعرضت (ص 186) على الحفاظ، فخطئوني في ستة أحاديث ثلاثة منها حدثت بها كما حدثت، وثلاثة أخطأت فيها «1» . وقال الحاكم: سمعت أبا علي الحافظ «2» يقول: ألزموني فحدثت من حفظي بأصفهان بستة وثلاثين ألفا، الوهم منها في سبعة أحاديث، فلما انصرفت وجدت في كتابي خمسة منها على ما كنت حدثتهم به. وقال الحافظ أبو بكر الخلال «3» : كان ابن أبي داود أحفظ من أبيه. وقال صالح بن أحمد الهمذاني «4» الحافظ: كان ابن أبي داود إمام أهل العراق ونصب له السلطان المنبر، وكان في وقته في العراق مشايخ أسند منه، ولم يبلغوا في الآلة والإتقان ما بلغ هو. وقال ابن شاهين «5» : أملى علينا ابن أبي داود، وما رأيت بيده كتابا إنما كان

يملي حفظا، وكان يعقد على المنبر بعد ما عمي، ويقعد دونه بدرجة ابنه بيده كتاب، فيقول له: حديث كذا فيسرده من حفظه، حتى يأتي على المجلس. قرأ علينا يوما حديث القنوت من حفظه، فقام أبو تمام الزينبي، وقال: لله درك ما رأيت مثلك إلا أن يكون إبراهيم الحربي «1» ، فقال: كل ما كان يحفظ إبراهيم الحربي، فأنا أحفظه، وأنا أحفظ النجوم وما كان يعرفها. وكان أبو بكر مع سعة علمه قوي النفس مدلا «2» . حكى أبو حفص بن شاهين أن علي بن عيسى الوزير «3» أراد أن يصلح بين ابن أبي صالح «4» وبين ابن أبي داود، فجمعهما، وحضر أبو عمر

القاضي «1» ، فقال الوزير: يا أبا بكر، أبو محمد أكبر منك، فلو قمت إليه، قال: لا أفعل، فقال الوزير: أنت شيخ زيف «2» ، قال: الشيخ الزيف الكذاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الوزير: من الكذاب على رسول الله؟ قال: هذا، ثم قام، وقال: تتوهم أني أذل لك لأجل رزقي، وأنه يصل على يدك؟ والله لا أخذت من يدك (ص 187) شيئا. قال: وكان المقتدر «3» يزن رزقه بيده، ويبعث به في طبق على يد الخادم، وكان قد روى شيئا من قول النواصب، فأخطأ بنقله، فشنع عليه أنه نال من علي رضي الله عنه فسعي في قتله، فخلصه من القتل عبد الله بن حفص الذكواني «4» ، ونقله ابن الفرات «5» من بغداد إلى واسط، ثم رده علي بن

92 - عبد الرحمن بن أبي حاتم محمد بن إدريس بن المنذر التميمي الحنظلي الرازي أبو محمد

عيسى، فحدث، وأظهر فضائل علي، ثم تحنبل، فصار شيخا فيهم. قال محمد بن عبيد الله بن الشخير: كان ابن أبي داود زاهدا ناسكا، صلى عليه يوم مات نحو من ثلاثمائة ألف إنسان، وأكثر، ومات في ذي الحجة سنة ست عشرة، وثلاثمائة، وله سبع وثمانون سنة، وصلي عليه ثمانون مرة «1» . ومنهم: 92- عبد الرحمن بن أبي حاتم «2» محمد بن إدريس بن المنذر التميمي الحنظلي الرازي أبو محمد شيخ الإسلام، سنىّ لتميم طريق الفخار، وسنّ لها عدم الفرار، وزاد كرم أسرتها المفضلة، وأعذب مشارعها «3» ، فحلى مر، ولم يعد الحلاوة حنظلة،

ولدت منه تميميا لا ينبو منه سيغها «1» ، ولا يجفو حلم الزابن «2» طيفها، كفاك به، وحبك رجلا، ملأ قلوبا، وجلا، طاف البلاد، وجاء بالحديث عجلا وطاب مجناه «3» كأنما قطف نواره «4» بكرا، وقاله مرتجلا. ولد سنة أربعين ومائتين، وارتحل به أبوه، فأدرك الأسانيد العالية، وسمع بالأقاليم خلائق لكنه لم يرحل إلى خراسان. قال أبو يعلى الخليلي «5» : أخذ علم أبيه، وأبي زرعة، وكان بحرا في العلوم، ومعرفة الرجال، صنف في الفقه، واختلاف الصحابة والتابعين، وكان زاهدا يعد من الأبدال «6» ، «7» وكتابه في الجرح والتعديل يقضي له بالرتبة المنيفة في الحفظ (ص 188) ، وكتابه في التفسير عدة مجلدات، وله مصنف

كبير في الرد على الجهمية «1» يدل على إمامته «2» . قال علي بن أحمد الفرضي: ما رأيت أحدا ممن عرف عبد الرحمن ذكر عنه جهالة قط. ويروى أن أباه كان يعجب من تعبد عبد الرحمن، ويقول: من يقوى على عبادة عبد الرحمن لا أعرف له ذنبا. وقال علي بن إبراهيم الرازي الخطيب: كان عبد الرحمن قد كساه الله بهاء ونورا يسرّ به من نظر إليه. سمعته يقول: رحل بي أبي سنة خمس وخمسين، وما احتلمت بعد، فلما بلغنا ذا الحليفة «3» احتلمت، فسر أبي «4» حيث أدركت حجة الإسلام. وقال ابن أبي حاتم: كنا بمصر سبعة أشهر، لم نشرب فيها مرقة، نهارنا ندور على الشيوخ، وبالليل ننسخ، ونقابل، فأتينا يوما أنا ورفيق لي شيخا، فقالوا: هو

عليل، فرأينا سمكة أعجبتنا، فاشتريناها، فلما صرنا إلى البيت حضر وقت مجلس بعض الشيوخ، فمضينا، فلم تزل السمكة ثلاثة أيام، وكادت تتغير، فأكلناها نية، ولم نتفرغ نشويها، ثم قال: لا يستطاع العلم براحة الجسد. وقال ابن أبي حاتم: وقع عندنا الغلاء، فأنفذ بعض أصدقاء لي حبوبا من أصبهان، فبعته بعشرين ألفا، وقال: اشتر لي بها دارا، فأنفقتها على الفقراء، وكتبت إليه: اشتريت لك بها قصرا في الجنة، فقال: رضيت إن ضمنت. فكتبت على نفسي صكا بالضمان، فأريت في المنام: قد قبلنا ضمانك، ولا تعد لمثل هذا «1» . وقال محمد بن مهرويه «2» : سمعت ابن الجنيد «3» يقول: سمعت يحيى بن معين: إنا لنطعن على أقوام لعلهم قد حطوا رحالهم في الجنة من مائتي سنة «4» . قال محمد بن مهرويه: فدخلت على ابن أبي حاتم، وهو يحدث بكتاب الجرح والتعديل، فحدثته بهذا، فبكى، وارتعدت (ص 189) يداه، وسقط الكتاب، وجعل يبكي، ويستعيدني الحكاية «5» . توفي في المحرم سنة سبع وعشرين وثلاثمائة.

93 - أحمد بن محمد بن سعيد أبو العباس الكوفي

ومنهم: 93- أحمد بن محمد بن سعيد أبو العباس الكوفي «1» - مولى بني هاشم «2» - المعروف بابن عقدة «3» . حافظ العصر، والمحدث البحر، والمصيب في اللبة «4» والنحر، لولا كثرة تخليطه، وتسليط نار الأعداء على سليطه «5» ، لكان قبسا لهدى، وملتمسا لندى، لكنه خبط العشواء «6» ،

وخطب عقيلة الشمس العشاء «1» ، فحبط عمله أو كاد، وأنبت أمله أو ماد «2» ، ونسب إليه الرفض «3» ، والله أعلم ببواطن الاعتقاد، والله المجازي، وإنما للناس الانتقاد «4» حدث عن أمم لا يحصون، وكتب العالي «5» والنازل «6» والحق والباطل، حتى كتب عن أصحابه، وكان إليه المنتهى في قوة الحفظ، وكثرة الحديث، وصنف وجمع، وألف في الأبواب «7» والتراجم، ورحلته قليلة، فلهذا كان يأخذ عن الذين رحلوا إليه، ولو صان نفسه وجوّد لضربت إليه أكباد الإبل، ولضرب بإمامته المثل، لكنه جمع فأوعى، وخلط الغث «8» بالسمين «9» ، والخرز بالدر الثمين، ونسب إلى التشيع «10» فمقت.

قال الدارقطني: أجمع أهل الكوفة أنه لم ير بالكوفة من زمن ابن مسعود إلى زمن ابن عقدة أحفظ منه. وقال أبو أحمد الحاكم «1» : قال لي ابن عقدة: دخل البرديجي «2» الكوفة، فزعم أنه أحفظ، فقلت: لا تطوّل، نتقدم إلى دكان وراق، ونزن بالقبان من الكتب ما شئت، ثم يلقى علينا، قال: فبقي «3» . وقال الدارقطني: قال ابن عقدة: أنا أجيب في ثلاثمائة ألف حديث من حديث أهل البيت وبني هاشم. وقال ابن عقدة: أحفظ مائة ألف حديث بأسانيدها. وقال الدارقطني: يعلم ما عند الناس، ولا يعلم (ص 190) الناس ما عنده. وقال أبو سعد الماليني «4» : أراد ابن عقدة أن ينتقل، فكانت كتبه ستمائة حملة «5» .

94 - محمد بن حبان بن أحمد بن حبان الحافظ العلامة أبو حاتم التميمي البستي

مولده سنة تسع وأربعين ومائتين، وتوفي سنة إحدى، وقيل: سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة. ومنهم: 94- محمد بن حبان بن أحمد بن حبان «1» الحافظ العلامة أبو حاتم التميمي «2» البستي «3» صاحب كتاب الانواع والتقاسيم «4» ، وهو الذي ما سبقه إلى مثله مؤلف،

ولا سمق «1» فرع برق إلا وقلمه له ورآه مخلّف، وضرب مؤلفه سرادقه «2» في علياء العلم على رباه، واحتبى «3» مصنفه له فما حلت سوى الفرائض حباه، وسرت نوافحه فود «4» مسكي السحر لو غلف به صباه، وتمكن حب حباته من القلوب، فلم يبق سويداء قلب إلا أمدت نقشه «5» ، ولا سواد طرف إلا حباه بكر ما افترعته «6» كف حادثه لتأليف، ولا اخترعته فكرة قريحه، وإنما هو بنص الحديث لا بتزويق التصنيف، سمع أمما لا يحصون من مصر إلى خراسان، وحدث عنه خلق. قال أبو سعد الإدريسي: كان على قضاء سمرقند زمانا، وكان من فقهاء الدين، وحفاظ الآثار عالما بالظن والنجوم، وفنون العلم. صنف المسند الصحيح، والتاريخ، وكتاب الضعفاء «7» ، وفقه الناس بسمرقند.

وقال ابن حبان في كتاب الأنواع: لعلنا قد كتبنا عن أكثر من ألفي شيخ «1» . وقال الحاكم: كان ابن حبان من أوعية العلم في الفقه واللغة، والحديث والوعظ، ومن عقلاء الرجال. وذكره ابن الصلاح «2» في طبقات الشافعية، وقال: ربما غلط الغلط الفاحش في تصرفاته. توفي في شوال سنة أربع وخمسين وثلاثمائة، وهو في عشر الثمانين (ص 191) .

95 - أبو بكر بن الجعابي

ومنهم: 95- أبو بكر «1» بن الجعابي «2» واسمه: محمد بن عمر بن محمد بن سلم التميمي البغدادي قاضي الموصل، الحافظ فريد الزمان، ولسان الإحسان وإن مان من مان «3» ، رمي بأنه كان يتشيع، ومضى إلى الله واتبع لهذا القول يتتبع، جرح وهو لا يتكعكع «4» ، وطعن فيه وهو لا يتضعضع، وتكلم فيه الناس، ومن هو الذي من أيديهم سلم! أو بمضارب ألسنتهم الحداد ما ثلم «5» ، من رام منهم السلامة طلب شططا «6» ، وظن غلطا، وضل (وكان أمره فرطا) «7» هيهات، هل هم إلا نار تأكل بعضها بعضا، وفأر تأكل نابا بناب قرضا، وقالوا: رافضي. أكلّ من أحب آل بيت محمد سموه بهذا، وسموا حبه رفضا؟! سمع، وصنف الأبواب والشيوخ، والتاريخ،

وحدث عنه الدارقطني، وابن شاهين «1» ، وابن رزقويه «2» ، وأبو عبد الله الحاكم «3» ، وأبو نعيم «4» الحافظ- وهو خاتمة أصحابه- وخلق. قال أبو علي النيسابوري: ما رأيت في أصحابنا أحفظ من أبي بكر الجعابي، وذلك أني حسبته من البغداديين الذين يحفظون شيخا واحدا، وترجمة واحدة، أو بابا واحدا، فقال لي أبو إسحاق بن حمزة «5» يوما: يا أبا علي لا تغلط، ابن الجعابي يحفظ حديثا كثيرا، قال: فخرجنا يوما من عند ابن صاعد «6» ، فقلت له: يا أبا بكر إيش أسند الثوري «7» عن منصور «8» ، فمر بي في الترجمة، فما زلت أجره من مصر إلى حديث الشام إلى العراق، وإلى أفراد الخراسانيين، وهو يجيب إلى أن قلت: فإيش

روى الأعمش «1» عن أبي صالح «2» عن أبي هريرة «3» ، وأبي سعيد «4» بالشركة، فذكر بضعة عشر حديثا، فحيرني حفظه. وقال ابن الجعابي: دخلت الرقة وكان لي ثمّ قمطرين «5» كتب، فجاء غلامي مغموما، وقال: ضاعت الكتب، فقلت: يا بني لا تغتم (ص 192) فإن فيها مائتي ألف حديث لا يشكل علي منها [حديث] لا إسناده ولا متنه «6» . وقال أبو علي التنوخي «7» : ما شاهدنا أحدا أحفظ من أبي بكر ابن الجعابي، وسمعت من يقول: إنه يحفظ مائتي ألف حديث، ويجيب في مثلها، وكان يفضل الحفاظ بأنه كان يسوق المتون بألفاظها، وأكثر الحفاظ يتسمحون في ذلك، وكان إماما في معرفة العلل، وثقات الرجال، وتواريخهم، وما يطعن على الواحد منهم، لم يبق في زمانه من يتقدمه.

وروى الخطيب بسنده عن الجعابي قال: أحفظ أربع مائة ألف حديث، وأذاكر بستمائة ألف حديث. [وقال الخطيب: سمعت ابن رزقويه «1» يقول: كان ابن الجعابي يمتلئ مجلسه، وتمتلئ السكة التي يملي فيها، والطريق، ويحضر ابن المظفر «2» ، والدارقطني «3» ، ويملي الأحاديث بطرقها من حفظه.] . وروى عن رجاله «4» أن الجعابي كان يشرب في مجلس ابن العميد. وقال السلمي «5» : سألت الدارقطني عن ابن الجعابي، فقال: خلط، وذكر مذهبه في التشيع. قال الدارقطني: وحدثني ثقة أنه خلي ابن الجعابي نائما «6» ، قال: فكنت أراه ثلاثة أيام لم يمسه الماء.

قال الأزهري «1» : لما مات ابن الجعابي أوصى أن تحرق كتبه، فأحرقت، فكان فيها كتب الناس، فحدثني أبو الحسين ابن البواب: أنه كان له عنده مائة وخمسون جزءا، فذهبت في جملة ما احترق. وقال محمد بن عبيد الله المسبحي «2» : كان ابن الجعابي قد صحب قوما من المتكلمين، فسقط عند كثير من المحدثين، وأمر عند موته أن تحرق دفاتره بالنار، فاستقبح ذلك منه. وكان وصل إلى مصر، ودخل إلى الإخشيد «3» ، ثم مضى إلى دمشق، فوقفوا على مذهبه فشردوه، فخرج هاربا. قال ابن شاهين «4» : دخلت أنا وابن المظفر «5» والدارقطني على ابن الجعابي وهو مريض، فقلت له: من أنا؟ قال: سبحان الله، ألستم فلانا وفلانا، وسمانا، فدعونا وخرجنا (ص 193) .

فمشينا خطوات وسمعنا الصائح بموته، ورجعنا من الغد، فرأينا كتبه تل رماد. توفي ابن الجعابي ببغداد في رجب سنة خمس وخمسين وثلاثمائة. قال الأزهري: كانت سكينة نائحة الرافضة «1» تنوح في جنازته، ومولده في صفر سنة أربع وثمانين ومائتين.

96 - سليمان بن أحمد بن أيوب بن مطير اللخمي الشامي الطبراني

ومنهم: 96- سليمان بن أحمد بن أيوب بن مطير اللخمي «1» الشامي الطبراني «2» . أبو القاسم، مسند الدنيا، وآية الزمان الكبرى، خاض القفار لا يتخشى «3» زاخرها، ولا يتخشع «4» أولها، ولا آخرها، بعزيمة لا يفل «5» مضربها، ولا يفك مضرّبها، ولا تنقص من السفر نهمتها «6» ، ولا تفرغ من الوطر «7» همته، يركب الحزن «8» ، والسهل، ويبعث عند الأجنبي والأهل، ويقطع بها الليل، لا يلائم

جنبه أرضا، ولا يطعم جفنه غمضا، ولا يعد الغربة إلا إذا كان في وطنه مبوّءا «1» ، وفي سكنه مهنّأ، حرصا على طرائف الفائدة، وطلبا للمعارف الزائدة، حتى حصل من الحديث ما أوقر «2» منه أثباج «3» الإبل، وملأ حضن «4» المحتبل «5» ، وحفظ منه الخلف نعم ما أحرزه السلف، وأتى منه بهدى ضل بعده من شك، أو اختلف. ولد سنة ستين ومائتين، وسمع سنة ثلاث وسبعين، وهلم جرا بمدائن الشام، والحرمين، واليمن، ومصر، وبغداد، والكوفة، والبصرة، وأصبهان، والجزيرة، وغير ذلك، وحدث عن ألف شيخ، أو يزيدون، وصنف المعجم الكبير، وهو المسند، سوى حديث أبي هريرة، فكأنه أفرده في مصنف، والمعجم الأوسط في ست مجلدات كبار على معجم شيوخه، يأتي عن كل شيخ بما له من الغرائب، والعجائب، فهو نظير كتاب الأفراد للدارقطني، بيّن فيه فضيلته، واسعة روايته، وكان يقول: (ص 194) هذا الكتاب روحي، فإنه تعب فيه، وفيه كل نفيس، وعزيز، ومبتكر، وصنف المعجم الصغير، وهو عن كل شيخ له

حديث واحد، وصنف من المسانيد، وغيرها شيئا كثيرا، وكان من فرسان هذا الشأن مع الصدق والأمانة، وسئل عن كثرة حديثه، فقال: كنت أنام على البواري «1» ثلاثين سنة. وقال أبو نعيم: دخل الطبراني أصبهان سنة تسعين، فسمع، وسافر، ثم قدمها، فاستوطنها ستين سنة. وقال ابن فارس «2» - صاحب اللغة-: سمعت الأستاذ ابن العميد «3» يقول: ما كنت أظن أن في الدنيا كحلاوة الوزارة، أو الرئاسة التي أنا فيها حتى شاهدت مذاكرة الطبراني، وابن الجعابي بحضرتي، فكان الطبراني يغلبه بكثرة حفظه، وكان أبو بكر الجعابي يغلبه بفطنته حتى ارتفعت أصواتهما، فقال ابن الجعابي: عندي حديث ليس في الدنيا إلا عندي، فقال: هات. فقال: حدثنا أبو خليفة «4» ، حدثنا سليمان بن أيوب ... وذكر حديثا، فقال الطبراني: فأنا

97 - أبو الحسن الدارقطني

سليمان بن أيوب، ومني سمعه أبو خليفة، فاسمعه مني عاليا، فخجل ابن الجعابي، فوددت أن الوزارة لم تكن، وكنت أنا الطبراني، وفرحت كفرحه. وقال ابن عقدة «1» : ما أعرف لسليمان بن أحمد نظيرا. توفي لليلتين بقيتا من ذي القعدة سنة ستين وثلاثمائة، وقد كمل من العمر مائة عام، وعشرة أشهر. ومنهم: 97- «2» أبو الحسن الدارقطني «3» واسمه: علي بن عمر بن أحمد بن مهدي البغدادي الحافظ المشهور. والحامل راية الرواية إلى يوم النشور، الدارقطني، ولا قطن إلا ما رآه بياضا من نور شيب الإسلام، أو نشره من صحيفته البيضاء بأيدي الملائكة الكرام، أو طهربه

قلبه الأبيض المطهر (ص 195) من دنس الآثام، أو بدا من عرضه النقي في غرر الأيام، أو غسل به من جبال فيها من برد «1» ، أو ندفه من قطن الثلج قوس الغمام، ابن مهدي الذي ما عدل عن آثار مهديه، ولا عدا طريقة سلف له من أهل العلم، ويهاب كل منهم على انفراده، ويخضع له في نديه «2» . كان عالما حافظا فقيها على مذهب الشافعي، أخذ الفقه عن أبي سعيد الإصطخري «3» ، وقيل: بل أخذه عن صاحب لأبي سعيد، وأخذ القراءة عرضا، وسماعا عن النقاش «4» ، ومن في طبقته، وتصدر في آخر أيامه للإقراء ببغداد «5» ، وكان عارفا باختلاف الفقهاء، ويحفظ كثيرا من دواوين العرب منها: ديوان السيد الحميري «6» ، فنسب إلى التشيع لذلك، روى عنه الحافظ أبو

نعيم «1» وجماعة كثيرة، وقبل القاضي ابن معروف «2» شهادته في سنة ست وسبعين وثلاثمائة، فندم على ذلك، وقال: كان يقبل قولي على رسول الله صلى الله عليه وسلم بانفرادي، فصار لا يقبل قولي على نقلي إلا مع آخر. وصنف كتاب السنن، والمختلف والمؤتلف، وغيرهما، وخرج من بغداد إلى مصر قاصدا أبا الفضل جعفر بن الفضل «3» ، وزير كافور الإخشيدي ليساعده على تأليف مسند عزم عليه الوزير، فأقام عنده مدة، وبالغ أبو الفضل في إكرامه، وأنفق عليه نفقة واسعة، وأعطاه شيئا، وحصل له بسببه مال جزيل ولم يزل عنده حتى فرغ المسند، وكان يجتمع هو والحافظ عبد الغني بن سعيد «4» على تخريجه إلى أن نجز. قال الحافظ عبد الغني بن سعيد: أحسن الناس كلاما على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة: علي بن المديني «5» في وقته

وموسى بن هارون «1» في وقته، والدارقطني في وقته (ص 196) . وسأل الدارقطني- يوما- بعض أصحابه: هل رأى الشيخ مثل نفسه، فامتنع من جوابه. وقال: قال الله تعالى: فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ. «2» فألح عليه، فقال: إن كان في فن واحد، فقد رأيت أفضل مني، وإن كان من اجتمع فيه ما اجتمع فيّ فلا. وقال الحاكم: صار الدارقطني أوحد عصره في الحفظ والفهم، والورع، وإماما في القراء، والنحويين، وأقمت في سنة سبع وستين ببغداد أربعة أشهر، وكثر اجتماعنا، فصادفته فوق ما وصف لي، وسألته عن العلل والشيوخ وله مصنفات يطول شرحها فأشهد أنه لم يخلف على أديم الأرض مثله. وقال الخطيب: انتهى إليه علم الأثر، والمعرفة بالعلل، وأسماء الرجال مع الصدق والثقة، وصحة الاعتقاد، والاضطلاع من علوم كالقراءات فإن له فيها مصنفا سبق إلى عقد الأبواب قبل فرش الحروف «3» ، وتأسى القراء به بعده، ومن ذلك المعرفة بمذاهب الفقهاء، بلغني أنه درس الفقه على أبي سعيد الإصطخري، ومنها المعرفة بالأدب والشعر، فقيل: كان يحفظ دواوين جماعة. قال: وحدثني الأزهري «4» قال: بلغني أن الدارقطني حضر في حداثته

مجلس إسماعيل الصفار، فقعد ينسخ، والصفار «1» يملي، فقال رجل: لا يصح سماعك وأنت تنسخ فقال: فهمي خلاف فهمك، أتحفظ كم أملى الشيخ؟ قال: لا أدري، قال، أملى ثمانية عشر حديثا، الحديث الأول عن فلان عن فلان، ومتنه كذا، والثاني عن فلان عن فلان ومتنه كذا، ومر في ذلك حتى أتى على الأحاديث، فتعجب الناس منه.. أو كما قال. وقال أبو الطيب الطبري «2» : الدارقطني أمير المؤمنين في الحديث. وجاء أبو الحسين البيضاوي إلى الدارقطني برجل غريب، وسأله أن يملي عليه أحاديث (197) فأملى عليه من حفظه مجلسا تزيد أحاديثه على العشرين، متون جميعها" نعم الشيء الهدية أمام الحاجة «3» " فانصرف الرجل، ثم جاءه بعد وقد أهدى له شيئا، فقربه وأملى عليه من حفظه سبعة عشر حديثا

متونها" إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه" «1» «2» مولده في ذي القعدة سنة ست وثلاثمائة، وتوفي يوم الأربعاء لثمان خلون من ذي القعدة- وقيل ذي الحجة- سنة خمس وثمانين وثلاثمائة ببغداد. وصلى عليه أبو حامد الإسفراييني «3» الفقيه، ودفن قريبا من معروف الكرخي «4» .

98 - محمد بن إسحاق بن محمد بن أبي زكريا يحيى بن منده

قال أبو نصر ابن ماكولا «1» : رأيت كأني أسأل عن حال الدارقطني في الآخرة، فقيل لي: ذلك يدعى في الجنة الإمام. ومنهم: 98- محمد بن إسحاق بن محمد بن أبي زكريا يحيى بن منده » أبو عبد الله الإمام الحافظ الجوال، محدث العصر، تقاذفت المطي منه بجواب كل تنوفة «3» ، وجوّال كل مخوفة، ونزّال كل وهدة «4» بالماء محفوفة، وطلاع كل بلية بالسماء مكفوفة، حتى كادت تعرض به المهامه «5» ، وتدحض حجج سراه أقطار البر المتشابه، فلم يبق بلد لم يطأها منسمه «6» ، ولا جهة لم يشرق عليها

منسمه، ولا ثغر ناحية لم يقبله في البرق الضاحك مبسمه إلى أن نظم البلاد سلكا، وركب إليها الركائب فلكا، واخترق إليها الفجاج، والرياح قد ألقت جنبها إلى الأرض، وأقبلت تشتكي، أوقرت كتبه الإبل وشق ظهورها، وأملت على الصحف ملء صدورها، وحدث عمن لقي وهيهات أن أحدا يؤبه إليه من أهل الأرض بقي. ولد سنة عشر وثلاثمائة، وقيل: في التي تليها، وسمع بالبلاد من ألف وسبع مائة شيخ، ولما رجع من الرحلة الطويلة كانت كتبه (ص 198) عدة أحمال حتى قيل: إنها كانت أربعين حملا، وكان ختام الرحالين، وفرد المكثرين مع الحفظ والمعرفة والصدق، وكثرة التصانيف. وقال الباطرقاني «1» : حدثنا أبو عبد الله إمام الأئمة في الحديث لقاه الله رضوانه. وقال الحافظ أبو نعيم «2» - في تاريخه «3» -: هو حافظ، من أولاد المحدثين، اختلط في آخر عمره، وتخبط في أماليه، ونسب إلى جماعة أقوالا في المعتقدات لم يعرفوا بها، وهذا قول لا يعبأ به من الحاكم «4» للعداوة المشهورة بينه وبين ابن منده.

وقال عبد الرحمن بن أبي عبد الله «1» : كتب أبي عن أربعة مشايخ أربعة آلاف جزء، وهم: ابن الأعرابي «2» ، والأصم «3» ، وخيثمة «4» ، والهيثم بن

كليب «1» . وقال جعفر المستغفري «2» : ما رأيت أحدا أحفظ من أبي عبد الله بن منده، سألته يوما: كم تكون سماعات الشيخ؟ قال: تكون خمسة آلاف من- والمن عشرة أجزاء كبيرة-. وقال أحمد بن جعفر: كتبت عن أزيد من ألف شيخ ما منهم أحفظ من ابن منده. وقال أبو إسماعيل الأنصاري «3» - شيخ هراة-: أبو عبد الله بن منده سيد أهل زمانه. وقال الباطرقاني: سمعت أبا عبد الله يقول: طفت الشرق، والغرب مرتين. توفي في سلخ ذي القعدة سنة خمس وتسعين وثلاثمائة.

99 - أبو عبد الله الحاكم

ومنهم: 99- أبو عبد الله الحاكم «1» واسمه: محمد بن عبد الله بن محمد بن حمدويه بن نعيم الضبي «2» الطهماني «3» النيسابوري الحافظ المعروف بابن البيّع «4» . له التصانيف، والأمالي، والأسانيد عن العوالي، لو بذلت تصانيفه للعيون لسرح فيها الأمل، أو ضنّت «5» أماليه على الأسماع لما كانت إلا صمّا كالجبل، بل لو تقدمت كتبه المصنفة لضببت «6» عليها ضبة أبوابها،

وفضضت «1» بلجين قراطيسها (ص 199) البيض أحسابها، بل لو حملت معه في ذلك الأوان لقال قومه: نحن بنو ضبة أصحاب الجمل، وانتصروا بأقلامه إذ كتب، ولم يقولوا: نبغي ابن عفان بأطراف الأسل «2» ، بل لو تحاقت «3» البلاد، وتحاكمت في فضل الميلاد لقضت على ما سوى بلده نيسابور بأن تبور «4» ، وأذنت بأن كل بناء يحق له أن يهدم إلا ما شيّد بناءه سابور «5» ، بل لو تفاضلت الأوقات لأجمعت على وقته الفكر، وفضل بتصنيفه أمالي العشيات «6» سواد العشايا على بياض البكر «7» . كان إمام الحديث في عصره، ألف فيه الكتب التي لم يسبق إلى مثلها، وتفقه على أبي سهل الصعلوكي الشافعي، ثم انتقل إلى العراق، وقرأ على أبي علي بن أبي هريرة الفقيه، ثم طلب الحديث، وسمعه سنة ثلاثين، وغلب عليه، فاشتهر به، وسمعه من جماعة لا يحصون كثرة، فإن معجم شيوخه يقرب من ألفي رجل، وصنف في علومه ما يبلغ ألفا وخمس مئة جزء «8» منها:

الصحيحان «1» ، والعلل، والأمالي، وفوائد الشيوخ، وأمالي العشيات «2» ، وأملى بما وراء النهر سنة خمس وخمسين، وبالعراق سنة سبع وستين، وأما ما تفرد بإخراجه «3» : فمعرفة علم الحديث «4» ، وتاريخ علماء نيسابور، والمدخل إلى علم الصحيح، والمستدرك على الصحيحين، وما تفرد به كل واحد من الإمامين، وفضائل الإمام الشافعي «5» . وله إلى الحجاز، والعراق رحلتان، وكانت الرحلة الثانية سنة ستين وثلاثمائة، وناظر الحفاظ، وذاكر الشيوخ، وكتب عنهم أيضا، وباحث الدارقطني، فرضيه، وتقلد القضاء بنيسابور سنة تسع، وخمسين وثلاثمائة في أيام الدولة السامانية «6» ، ووزارة أبي نصر العتبي «7» ، وقلد بعد ذلك قضاء جرجان،

فامتنع، وكانوا ينفذونه في الرسائل إلى بني بويه «1» (ص 200) . وقال عبد الغافر بن إسماعيل: أبو عبد الله الحاكم هو إمام أهل الحديث في عصره، العارف به حق معرفته، ولقد سمعت مشايخنا يذكرون أيامه، ويحكمون أن متقدمي عصره مثل الصعلوكي، وابن فورك «2» ، وسائر الأئمة يقدمونه على أنفسهم، ويراعون حق فضله، ويعرفون له الحرمة الأكيدة، وأطنب في تعظيمه. وقال الخطيب: كان يميل إلى التشيع، جمع أحاديث، وزعم أنها صحاح على شرط البخاري، منها حديث الطير «3» ، وحديث" من كنت مولاه «4» ،

فأنكرها عليه أصحاب الحديث، ولم يلتفتوا إلى قوله، وقد أخرج حديث الطير في المستدرك، قال ابن طاهر «1» : كان شديد التعصب للشيعة في الباطن، وكان يظهر التسنن في التقديم والخلافة، وكان منحرفا عن معاوية، وآله، ويتظاهر بذلك، ولا يعتذر منه، ومع هذا فهو معظم للشيخين بكل حال، فهو شيعي لا رافضي. مولده في شهر ربيع الأول سنة إحدى وعشرين، وثلاثمائة بنيسابور، وتوفي بها يوم الثلاثاء ثالث صفر سنة خمس وأربع مائة. وقال الخليلي «2» :- في كتابه الإرشاد- توفي سنة ثلاث، وأربع مائة، وكان دخل الحمام، واغتسل، وخرج، فقال: آه، وخرجت روحه، وهو متزر لم يلبس قميصه بعد.

100 - أبو نعيم أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق بن موسى بن مهران المهراني الأصبهاني الصوفي الأحول الحافظ.

ومنهم: 100- أبو نعيم أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق «1» بن موسى بن مهران المهراني «2» الأصبهاني الصوفي الأحول الحافظ. صاحب كتاب" حلية الأولياء"، وراقي ذروة العلياء، محدث ضابط، ومؤرخ لا يفرط عليه فارط، مهر لأنه ابن مهران، ووطئ الجبال الصم لأنه سكن أصبهان، ضبط قلمه التاريخ، واقتصر به على أهل بلده، وأخذ الفوائد قبضا بيده، وأصبح به عراق العجم يهنئ أم ممالكه أصفهان بمولده، ولد سنة ست وثلاثين (ص 201) ، وثلاثمائة، وأجاز له مشايخ الدنيا سنة نيف، وأربعين، وثلاثمائة، وله ست سنين، وتهيأ له من لقي الكبار ما لم يقع لحافظ، وتفرد في الدنيا بالإجازات من جماعة، وبالسماع من آخرين، ورحلت الحفاظ إلى بابه لعلمه، وحفظه، وعلو أسانيده. قال ابن مردويه «3» : كان أبو نعيم في وقته مرحولا إليه، لم يكن في أفق من

الآفاق أحد أحفظ، ولا أسند منه، كان حفاظ الدنيا قد اجتمعوا عنده، وكل يوم نوبة واحد منهم يقرأ ما يريده إلى قرب الظهر، فإذا قام إلى داره ربما كان يقرأ عليه في الطريق جزء، وكان لا يضجر، لم يكن له غداء سوى التسميع، والتصنيف. وقال حمزة بن العباس العلوي: بقي أبو نعيم أربع عشرة سنة بلا نظير، لا يوجد شرقا ولا غربا أعلى إسنادا منه، ولا أحفظ منه، وكانوا يقولون- لما صنف كتاب الحلية-: حمل في حياته إلى نيسابور فاشتروه بأربع مئة دينار. وله كتاب" تاريخ أصبهان"، و" دلائل النبوة"، و" المستخرج" على كل واحد من الصحيحين، و" فضائل الصحابة" وغير ذلك من تصانيف كبار، وصغار. توفي في صفر، وقيل: في الحادي والعشرين من المحرم سنة ثلاثين، وأربعمائة بأصبهان.

101 - أبو ذر الهروي

ومنهم: 101- أبو ذر الهروي «1» واسمه عبد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن غفير «2» الأنصاري المالكي «3» ، عرف بابن السماك. شيخ الحرم، طلع على الكعبة الغراء حيث يطلع سهيل، وأرسى بمكة البطحاء حيث يرسي السيل، وزمزم «4» الحادي له بذكر زمزمها، وزمّ «5» المطي إلى مأزمها «6» ، فاتخذ الله جارا، وأقام ببيته بالبلد الحرام دارا، وكان من أفضل

من ضمه في عصره أخشباها «1» ، وحوته أباطح «2» مكة، ورباها، وأشرقت به تلاع «3» ذلك الوادي حيث لعبت بأعطاف (ص 202) المبان مهات صباها. سمع بهراة، وسرخس، وبلخ، ومرو، والبصرة، وبغداد، ودمشق، ومصر، وجاور بمكة، وألف معجما لشيوخه، وعمل الصحيح، وصنف التصانيف. قال أبو بكر الخطيب: قدم أبو ذر بغداد، وأنا غائب، فحدث بها، ثم حج، وجاور، ثم تزوج في العرب، وسكن السروات «4» ، فكان يحج كل عام، ويحدث، ويرجع، وكان ثقة ضابطا دينا. وقال الحسن بن بقي المالقي: حدثني شيخ قال: قيل لأبي ذر: أنت هروي، فمن أين تمذهبت بمذهب مالك، ورأي الأشعري؟ قال: قدمت بغداد، وكنت ماشيا مع الدارقطني، فلقينا القاضي أبا بكر بن الطيب «5» ، فالتزمه الدارقطني،

وقبل وجهه، وعينيه، فلما افترقنا قلت: من هذا؟ قال: هذا إمام المسلمين، والذاب عن الدين، القاضي أبو بكر بن الطيب، فمن ذلك تكررت إليه، وتمذهبت بمذهبه. وقال عبد الغافر- في تاريخ نيسابور-: كان أبو ذر زاهدا ورعا سخيا لا يدخر شيئا، وصار من كبار مشيخة الحرم مشارا إليه في التصوف، خرج على الصحيح تخريجا حسنا «1» ، وكان حافظا كثير الشيوخ. قال: وتوفي سنة خمس وثلاثين، وأربع مائة. والصواب قول أبي علي بن سكرة أنه توفي في عقب شوال سنة أربع وثلاثين.، وقال الخطيب: في ذي القعدة سنة أربع (مائة) .

102 - أحمد بن الحسين بن علي بن عبد الله البيهقي

ومنهم: 102- أحمد بن الحسين «1» بن علي بن عبد الله البيهقي «2» الخسرو جردي «3» الفقيه الشافعي، الحافظ المشهور أبو بكر واحد زمانه، وفرد أقرانه، أجل أصحاب أبي عبد الله الحاكم في الحديث، ثم الزائد عليه في أنواع العلوم، لا بل أنواء «4» الغيوم، لا بل أنداء» معين الصباح (ص 203) الطافي على حدائق النجوم، تتجلى الشمس لمشابهة علمه المضيء، بما اتفق، ويتسلى

البدر لمشابكة أصله البيهقي فيما يرمى به من البهق «1» ، قام بنصر الشافعي إمامه، ونشر أيامه، وتخريج الحديث الصحيح أدلة على أحكامه، وكان متقللا إلا من الخير ومتعللا باليسير من الدنيا مخفا لسرعة السير، لم يعد طريقة من مضى، ولم يعدّ عليه ما يعاب به في مدة حياته، رحمه الله حتى قضى. أخذ الفقه عن أبي الفتح ناصر بن محمد العمري المروزي «2» ، وغلب عليه الحديث وأشهر به، ورحل في طلبه إلى العراق والجبال والحجاز، وسمع بخراسان من علماء عصره، وكذلك ببقية البلاد التي انتهى إليها، وشرع في التصنيف، فصنف كثيرا حتى قيل: تبلغ تصانيفه ألف جزء، وهو أول من جمع نصوص الشافعي في عشر مجلدات، ومن مشهور مصنفاته: السنن الكبير والسنن الصغير، ودلائل النبوة، والسنن والآثار، وشعب الإيمان، ومناقب الشافعي، ومناقب أحمد، وكان قانعا من الدنيا بالقليل. وقال إمام الحرمين «3» : ما من شافعي المذهب إلا وللإمام الشافعي عليه منة إلا أحمد البيهقي فإن له منة على الشافعي، وكان من أكثر الناس نصرا لمذهب الشافعي. وطلب إلى نيسابور لنشر العلم، فأجاب، وانتقل إليها، وكان على سيرة السلف، وأخذ الحديث عنه جماعة من الأعيان منهم زاهر الشحامي «4» ،

103 - الخطيب أبو بكر بن أحمد بن علي بن ثايت بن أحمد البغدادي، خطيب بغداد

ومحمد الفراوي «1» ، وعبد المنعم القشيري «2» . ومولده في شعبان سنة أربع وثمانين وثلاثمائة، وتوفي في عاشر جمادى الأولى سنة ثمان وخمسين وأربع مائة بنيسابور، ونقل إلى بيهق، رحمه الله تعالى. (ص 204) ومنهم: 103- الخطيب أبو بكر بن أحمد بن علي بن ثايت بن أحمد البغدادي، خطيب بغداد «3» الحافظ حقا، والحافل سحابا قدح فهمه برقا، والحافز صبا «4» هبت غربا،

ونشأت شرقا، والحافر معدنا لا يذهب ذهبه، ولا تبقى جذوة الشرق، إلا أنها لا تتلهب وحلة بغداد، ودجلة كمها الأزرق، وشعاع البدر طرازها المذهب، شرف منبرها برقيه، وواصل سندها، وعن أبي بكر يروي حديث علية، وصاحب تاريخها الذي فل «1» معه جمع ابن عساكر، وصديت مرآة ابن الجوزي في وجه الناظر، وأصبح كل معجم سبق قبله لا يبين، أو جاء بعه منقطع القرين، لا بل كل تاريخ جرى به سابق قلم، وراءه قد وقع مغشيا عليه، ساكت الحس، خافت الأنين. كان من الحفاظ المتقنين، والعلماء المتبحرين، ولو لم يكن له سوى التاريخ لكفاه، فإنه يدل على اطلاع عظيم، وصنف قريبا من مائة مصنف، وفضله أشهر من أن يوصف، أخذ الفقه عن أبي الحسين المحاملي «2» ، وأبي الطيب الطبري «3» ، وغيرهما، وكان فقيها، فغلب عليه الحديث، والتاريخ. قال ابن ماكولا: كان أبو بكر الخطيب آخر الأعيان ممن شاهدناه معرفة، وحفظا، واتقانا، وضبطا لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتفننا في علله، وأسانيده، وعلما بصحيحه، وغريبه، وفرده، ومنكره، ومطروحه. قال: ولم يكن للبغداديين بعد الدارقطني مثله.

وقال أبو إسحاق الشيرازي «1» : أبو بكر الخطيب يشبه بالدارقطني، ونظرائه في معرفة الحديث، وحفظه. وقال السمعاني: كان الخطيب مهيبا وقورا، ثقة، متحريا، حجة، حسن الخط، كثير الضبط، فصيحا، ختم به الحفاظ. وقال الفضل بن عمر النسوي: كنت بجامع صور عند الخطيب، فدخل عليه علوي، وفي كمه دنانير، فقال: (ص 205) هذا الذهب تصرفه في مهماتك، فقطب، وقال: لا حاجة لي فيه، فقال: كأنك تستقله. ونفض كمه على سجادة الخطيب، وقال: هي ثلاثمائة دينار، فخجل الخطيب، وقام، وأخذ سجادته وراح، فما أنسى عز خروجه، وذل العلوي، وهو يجمع الدنانير. وقال أبو الفرج الإسفراييني «2» : كان الخطيب معنا في الحج، فكان يختم كل يوم قريب الغياب، قراءة ترتيل، ثم يجتمع عليه الناس، وهو راكب، يقولون: حدثنا، فيحدث. وقال عبد المحسن الشيحي «3» : عادلت الخطيب من دمشق إلى بغداد، فكان له في كل يوم، وليلة ختمة، وقيل: إن الخطيب قدم بغداد، فظفر بجزء فيه سماع

القائم بأمر الله «1» ، فأتى دار الخلافة يستأذن في قراءة الجزء، فقال الخليفة: هذا رجل كبير، وليس غرضه السماع، فانظروا، هل له حاجة؟ فسألوه: ما حاجته؟ قال: أن يؤذن لي في أن أملي بجامع المنصور، فأذن له. وحكى ابن عساكر «2» بسنده أن الخطيب ذكر أنه لما حج شرب من ماء زمزم ثلاث شربات، وسأل الله ثلاث حاجات أخذا بالحديث، فالأولى: أن يحدث بتاريخ بغداد بها. والثانية: أن يملي بجامع المنصور. والثالثة: أن يدفن عند بشر الحافي. فقضى الله ذلك. ومولده في جمادى الآخرة سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة، وتوفي في سابع ذي الحجة سنة ثلاث وستين وأربعمائة ببغداد. وقيل: إن الشيخ أبا إسحاق الشيرازي من جملة من حمل نعشه لأنه انتفع به كثيرا، وكان يراجعه في تصانيفه. والعجب أنه كان في وقته حافظ المشرق، وأبو عمر بن عبد البر حافظ المغرب، وماتا في عام واحد. وذكر ابن النجار في تاريخه: أن أبا بكر بن زهر كان قد أعد لنفسه قبرا إلى جانب بشر الحافي، وكان يمضي إليه كل أسبوع مرة، وينام فيه، ويقرأ القرآن كله، فلما مات أبو بكر (ص 206) الخطيب وكان قد أوصى أن يدفن إلى جانب

قبر بشر الحافي فجاء أصحاب الحديث إلى أبي بكر بن زهر، وسألوه أن يدفن الخطيب في القبر الذي كان أعده لنفسه، وأن يؤثره به فامتنع من ذلك امتناعا شديدا، وقال: موضع أعددته لنفسي من مدة سنين يؤخذ مني! فلما رأوا ذلك جاؤوا إلى والد الشيخ أبي سعد، وذكروا له، فأحضر الشيخ أبا بكر بن زهر وقال: أنا لا أقول لك أعطهم القبر، ولكن أقول: لو أن بشر الحافي في الأحياء وأنت إلى جانبه فجاء أبو بكر الخطيب يقعد دونك، كان يحسن بك أن تقعد أعلى منه؟ قال: لا، بل كنت أقوم وأجلسه مكاني. قال: فهكذا: ينبغي أن يكون الساعة. قال: فطاب الشيخ، وأذن لهم في دفنه، فدفنوه إلى جانبه بباب حرب. وكان قد تصدق بجميع ماله، وهو مائتا دينار فرّقها على أرباب الحديث والفقهاء والفقراء في مرضه، وأوصى أن يتصدق بجميع ما عليه من الثياب، ووقف جميع كتبه على المسلمين، ولم يكن له عقب، وصنف أكثر من ستين كتابا «1» ، ورويت له منامات صالحة بعد موته، وكان قد انتهى إليه علم الحديث وحفظه في وقته.

104 - أبو نصر بن ماكولا

ومنهم: 104- أبو نصر بن ماكولا «1» واسمه: علي بن هبة الله بن علي بن جعفر بن علي بن محمد بن دلف بن الأمير الجواد أبي دلف القاسم بن علي العجلي الجرباذقاني «2» ، ثم البغدادي الأمير الكبير الحافظ النسابة، نبعة من ذلك العرق، ولمعة من ذلك الحذق، طلع حيث لا يوقد قبس، وجرى حيث ينقطع كل نفس، وسرى وريح السعادة يجري السفن على اليبس، واقتعد «3» ذروة كل بازل «4» ، وأطل على كل نازل،

وفرى «1» جلد كل ليل عن صباحه، وقطع نهر كل نهار يتدفق في بطاحه، حتى طاف أكثر البلاد، وأطال عمر الكد والاجتهاد، حتى تلقى العلم، وتلقنه، (ص 207) وانتقى محاسنه، وأتقنه، وعدّ لكل سيئة من سيئات السرى ألف حسنة لا بل يزيد، إنما هذا شيء يجري على الألسنة، هذا إلى ما ينقل من أنساب، ويعرف به أيم قلمه إذا انساب، وغير هذا مما أوتي منه بغير حساب. مولده في شعبان سنة اثنتين وعشرين، وأربعمائة بعكبرا «2» ، وسمع ببغداد، ودمشق، ومصر، وبما وراء النهر، وخراسان، والجبال، والجزيرة، والسواحل، ولقي الحفاظ، والأعلام، وحدث عنه شيخه أبو بكر الخطيب، وآخرون. وقال شيرويه «3» في طبقاته: كان الأمير أبو نصر يعرف بالوزير سعد الملك ابن ماكولا، قدم رسولا مرارا «4» ، وكان حافظا متقنا، وعني بهذا الشأن، ولم يكن في زمانه بعد الخطيب أحد أفضل منه، حضر مجلسه الكبار من شيوخنا، وسمعوا منه.

وقال أبو القاسم بن عساكر: وزر للقائم أمير المؤمنين «1» ، وولي عمه قضاء القضاة ببغداد، وهو الحسين بن علي. قال: وولد في شعبان سنة إحدى وعشرين «2» . وقال الحميدي «3» : ما راجعت الخطيب في شيء إلا وأحالني على الكتاب، وقال: حتى أكشفه، وما راجعت ابن ماكولا في شيء إلا وأجابني حفظا كأنه يقرأ من كتاب. وقال السمعاني «4» : كان ابن ماكولا لبيبا عالما عارفا حافظا، ترشّح للحفظ حتى كان يقال له: الخطيب الثاني، وكان نحويا مجودا، وشاعرا مبرزا، جزل الشعر، فصيح العبارة، صحيح النقل، ما كان في البغداديين في زمانه مثله، طاف الدنيا، وأقام ببغداد. وقال ابن النجار «5» : أحب العلم من الصبى، وطلب الحديث، وكان

يحضر المشايخ إلى منزلهم، ويسمع منهم، ورحل، وبرع في الحديث، وأتقن الأدب، وله النظم، والنثر، والمصنفات، ونفذه المقتدي بالله «1» رسولا إلى سمرقند، وبخارى لأخذ البيعة (ص 208) له على ملكها طمغان الخان. وقال هبة الله بن المبارك «2» : اجتمعت بالأمير ابن ماكولا، فقال لي: خذ جزأين من الحديث، فاجعل متون هذا الجزء لأسانيد هذا الجزء، ومتونه لأسانيد الأول حتى أرده إلى حالته الأولى. وقال مؤتمن الساجي «3» : لم يلزم ابن ماكولا طريق أهل العلم، فلم ينتفع بنفسه. وقال ابن عساكر: سمعت إسماعيل ابن السمرقندي- يذكر أنّ ابن ماكولا كان له غلمان ترك أحداث، فقتلوه بجرجان سنة نيّف وسبعين، وأربعمائة. ونقل ابن النجار أنه كان قد سافر نحو كرمان، ومعه مماليكه الأتراك، فقتلوه، وأخذوا ماله سنة خمس وسبعين، وأربعمائة. وفي تاريخ قتله خلاف كثير.

105 - أبو الفضل محمد بن طاهر بن علي المقدسي

ومن شعره: [البسيط] قوض خيامك عن دار أهنت بها ... وجانب الذلّ إن الذلّ يجتنب وارحل إذا كانت الأوطان مضيعة ... فالمندل الرطب في أوطانه حطب ومنه: [الطويل] ولما تواقفنا تباكت قلوبنا ... فممسك دمع العين يوم ذاك كساكبه فيا كبدي الحرّى البسي ثوب حسرة ... فراق الذي تهوينه قد كساك به ومنهم: 105- أبو الفضل محمد بن طاهر بن علي المقدسي «1» الحافظ المكثر الجوال،- ويعرف بابن القيسراني- الشيباني، وليس هو من أولاد القيسراني الكذاب. سرى «2» للطلب سري الخيال، وركب شهب الأيام، ودهم «3» الليال، وقطع قفر البيد يلمع آله، «4» ويجمع الشتات ضلاله، وسلك منه مسالك تجار الرياح في أفواجها، ويغرق الصباح في أمواجها، ويصدى صديع

النهار «1» بظلمها «2» (ص 209) وتخفق أحشاء النجوم في عتمها، إلى أن آب مملكا، وآل أمره إلى أن أصبح كما أمسى الليل مدركا. سمع ببلده، وبمكة، ومصر، والثغر، ودمشق، وحلب، وبغداد، والجزيرة، وأصبهان، ونيسابور، وهراة، وجرجان، وآمد، واسترآباذ، وبوشنج، والبصرة، والدينور، والري، وسرخس، وشيراز، وقزوين، والكوفة، والموصل، ومرو الروز، وتوقان، ونهاوند، وهمذان، وواسط، وساوة، واسترآباذ «3» ، والأنبار، وأسفرايين، وآمل، والأهواز، وبسطام، وخسرو جرد، وغير ذلك. قال ابن عساكر: سمعت إسماعيل بن محمد الحافظ «4» يقول: أحفظ من رأيت محمد بن طاهر. وقال أبو زكريا ابن منده «5» : كان ابن طاهر أحد الحفاظ، حسن الاعتقاد، جميل الطريقة، صدوقا، عالما بالصحيح، والسقيم، وكثير التصانيف، لازما للأثر. قال السلفي: سمعت ابن طاهر يقول: كتبت الصحيحين، وسنن أبي داود سبع مرات بالأجرة، وسنن ابن ماجه عشر مرات بالري.

وقال ابن طاهر: بلت الدم في طلب الحديث مرتين، مرة ببغداد، ومرة بمكة، كنت أمشي حافيا في الحر، فلحقني ذلك، وما ركبت دابة في طلب الحديث قط، وكنت أحمل كتبي على ظهري، وما سألت في حال الطلب أحدا، كنت أعيش على ما يأتي. وقيل: كان يمشي دائما في اليوم والليلة عشرين فرسخا، وكان قادرا على ذلك. ومصنفاته كثيرة لكنه كثير الوهم، وكان لحنة، «1» ويصحّف، ويرى إباحة السماع «2» ، ومولده سنة ثمان وأربعين، وأربعمائة. قال ابن شيرويه- في تاريخ همذان-: ابن طاهر سكن همذان، وبنى بها دارا، وكان ثقة حافظا، عالما بالصحيح والسقيم، حسن المعرفة بالرجال، والمتون، كثير التصانيف، جيد الخط، لازما للأثر، بعيدا عن الفضول والتعصب، خفيف الروح (ص 210) قوي السير في السفر. قال شجاع الذهلي «3» : مات عند قدومه بغداد من الحج يوم الجمعة في ربيع الأول سنة سبع وخمسمائة.

106 - إسماعيل بن محمد بن فضل بن علي القرشي التيمي الطلحي الأصبهاني،

من شعره: [البسيط] ساروا بها كالبدر في هودج ... يميس محفوفا بأترابه فاستعبرت تبكي فعاتبتها ... خوفا من الواشي وأصحابه وقلت: لا تبك على هالك ... بعدك ما يبقى على ما به وأحسن الموت بأهل الهوى ... من مات من فرقة أحبابه ومنهم: 106- إسماعيل بن محمد بن فضل بن علي القرشي التيمي الطلحي «1» الأصبهاني، شيخ الإسلام، أبو بكر، الملقب" بقوام السنة"، صاحب الترغيب والترهيب من قريش في شذر «2» ذؤاباتها «3» ، وزأر «4» غاباتها، وزهر سماواتها، الممرعة «5» الحدائق، المرتفعة الطرائق، المسرعة الأنواء، وسهيل عائم، وصاحب السفينة غارق، رغب في الخير، وعمله، ورهب من الشر، وسوء عاقبة دوله، ودعا به إلى سبيل ربه بالحكمة، والموعظة الحسنة، والموقظة التي لم تدع على

جفن وسنه «1» ، ووسع صدره الإخوان على ضيق ما في يده، وقلته، وتقاعد الزمان عن سد خلته، وتقاعس عنان الحظ في يده إذ جمح، وسن مداه «2» لخلده «3» إذ جرح. ولد سنة سبع وخمسين، وأربعمائة، ورحل، وسمع بعدة مدائن، وأملى، وصنف، وتكلم في الرجال، وأحوالهم، وحدث عنه خلق. وقال أبو موسى المديني «4» : إسماعيل الحافظ إمام وقته، وأستاذ علماء عصره، وقدوة أهل السنة في زمانه، لا أعلم أحدا غاب عليه قولا، ولا فعلا، ولا عانده أحد إلا ونصره الله عليه، وكان نزه النفس عن المطامع لا يدخل على السلاطين، ولا على من اتصل بهم، قد أخلى دارا من ملكه لأهل العلم مع خفة ذات يده، ولو أعطاه الرجل الدنيا بأسرها لم يرتفع عنده، أملى ثلاثة آلاف، وخمس مائة مجلس، وكان يملي على البديه، وأصمت في صفر سنة أربع وثلاثين، ثم فلج بعد مدة. وقال يحيى بن منده: كان حسن الاعتقاد، جميل الطريقة، قليل الكلام، ليس في وقته مثله. وقال عبد الجليل بن محمد: سمعت أئمة بغداد يقولون: ما دخل بغداد بعد الإمام أحمد أفضل، وأحفظ من الإمام إسماعيل. قال أبو موسى المديني- في ذكر من هو على رأس المائة الخامسة-: لا أعلم

أحدا في ديار الإسلام يصلح لتأويل الحديث «1» إلا إسماعيل الحافظ. قال أبو موسى: صنف التفسير في ثلاثين مجلدا سماه" الجامع"، وله تفسير آخر في أربع مجلدات، والموضح في التفسير في ثلاث مجلدات، وكتاب" المعتمد" في التفسير عشر مجلدات، وله مصنفات كثيرة مفيدة، وكان عالما باللغة، والأدب، عارفا بالأسانيد، والمتون، ووهب أكثر أصوله في آخر عمره. قال: وكانت وفاته يوم الأضحى سنة خمس وثلاثين، وخمس مائة، واجتمع في جنازته خلق كثير لم أر مثلهم كثرة- رحمه الله تعالى-.

107 - أبو سعد عبد الكريم بن تاج الإسلام أبي بكر بن محمد بن منصور التميمي السمعاني المروزي، صاحب التصانيف.

ومنهم: 107- أبو سعد عبد الكريم بن تاج الإسلام «1» أبي بكر بن محمد بن منصور التميمي السمعاني «2» المروزي، صاحب التصانيف. قسما لقد أسمع بها السمعاني آذانا، ولقد طرق بها القلوب لا يطلب استئذانا، ولقد رحل، فلم يدع موضعا يسمع به أذانا، ولقي الرجال فما خلى جماعات، ولا شذانا «3» ، طلبا اتسع به ذيل ارتحاله، واندفع سيل جداله،

وضخم به قدر معجمه، وفخم (ص 212) طرر «1» معلمه «2» ، وفخر لظهور تقدمه، وأدّبه طول التغرب، فصفا زلالا «3» ، وأدّى به إلى أن شف «4» ذبالا «5» ، حتى قيل: السمعاني، فسكت من أراد أن يتكلم، وطارت سمعته، فوقع دونه كل من حوّم، وخاض تيار الكفار لزيارة شدّ إليها رحله، ولم يهب موجهم المتلاطم، وشق شقاشق «6» رعودهم، ولم يخف نوأهم المتراكم. ولد في شعبان سنة ست وخمس مائة، وحمله والده إلى نيسابور في آخر سنة تسع، فلحق بحضوره عدة شيوخ، ومات أبوه سنة عشر، فتربى مع أعمامه، وأهله، وحفظ القرآن والفقه، ثم حبب إليه شأن الحديث، فاعتنى به، ورحل إلى

الأقاليم النائية، وعمل المعجم «1» في عدة مجلدات، وكان ذكيا فهما، سريع الكتابة، مليحها، درّس، وأفتى، ووعظ، وأملى، وكتب عمن دب، ودرج، وكان ثقة، حافظا حجة، واسع الرحلة، عدلا، دينا، جميل السيرة، حسن الصحبة، كثير المحفوظ. قال ابن النجار: سمعت من يذكر أن عدد شيوخه سبعة آلاف شيخ، وهذا شيء لم يبلغه أحد، وكان مليح التصانيف، كثير النشوار «2» ، والأناشيد، لطيف المزاج، ظريفا، سمع منه مشايخه، وأقرانه، ثم سرد ابن النجار تصانيفه، ونقل أسماءها من خطه في نيف وعشرين سطرا «3» . وقد ذهب أبو سعد إلى بيت المقدس، وزاره، والنصارى يومئذ ولاته، وكانت وفاته في ربيع الأول سنة اثنتين وستين وخمس مائة «4» .

108 - أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله بن الحسين بن عساكر

ومنهم: 108- أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله بن الحسين بن عساكر «1» الإمام الحافظ، فخر الأئمة، محدث الشام، ثقة الدين، صاحب التصانيف، والتاريخ الكبير، ممن ولدتهم دمشق، وولته ما يستحق، وشرّفته على أبنائها، وصرّفته في أنبائها (ص 213) ، وعرفته أسرار بنائها، وأخبار أنبيائها، وأوقفته على أندية «2» سكانها، ووافقته على تطهير أوطانها، وخاطبته شفاها لو أنها

تتكلم، ولاعبته أعطاف «1» صباها، فإما عرف حقائق أخبارها، وإما تنسم «2» ، فاستطالت به، وطال لسانها، وشكر إحسانها، وعاد بها عصر آل جفنة وحسانها «3» ، ومثلت خلفاؤها من بني مروان، ومن خلفهم إلى من آواهم ذلك الأوان، ومن وفد عليها، وورد إليها، وبحث عما بين العريش «4» إلى الفرات حتى حسرت عن كنوزها، وسحرت برموزها، وشنأت «5» العراق، وعيرتها بغدر ابن جرموزها «6» ، وعابتها إذ ذكرت أيام صفين «7» بنشوزها، وأصغرت قدر تاريخها،

وقد جهد فيه الخطيب، وحمد عليه، وما اهتز غصنه الرطيب، حمية توقدت بين جانبيه لبلدته التي أخرجته من أقدم بيوتها، وجاءت به مفاخرها لثبوتها من بقية كان زمان يزيد بن معاوية أولهم، ثم انتهى إليه موئلهم، ثم ما ارتفع بعده لبيته المنيف جدار، ولا ألمّ الفضل له بدار. ولد سنة تسع وتسعين، وأربع مائة في أولها، وسمع سنة خمس، وخمس مائة باعتناء أبيه، وأخيه الإمام صائن الدين هبة الله «1» ، وعدد شيوخه ألف وثلاثمائة شيخ، ونيّف، وثمانون امرأة، وصنف التاريخ في ثمانين مجلدا «2» ، وله مصنفات أخر تقارب ثلاثين مجلدا، وأما الأجزاء فشيء كثير، وأملى في أبواب العلم أربع مائة مجلس، وثمانية مجالس «3» ، وخرج لجماعة. قال السمعاني «4» : أبو القاسم حافظ، ثقة، ديّن، خيّر، حسن السمت، جمع بين معرفة المتن، والإسناد، وكان كثير العلم، غزير الفضل، صحيح القراءة، متثبتا، رحل، وتعب، وبالغ في الطلب، وجمع ما لم يجمعه غيره، وأربى على الأقران (ص 214) .

وحكي عن الفراوي «1» قال: قدم ابن عساكر، فقرأ ثلاثة أيام، فأكثر، وأضجرني، وآليت على نفسي أن أغلق بابي، فلما أصبحنا قدم علي شخص، وقال: أنا رسول رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إليك، قلت: مرحبا بك فقال: قال لي في النوم: امض إلى الفراوي، وقل له: قدم بلدكم رجل شامي، أسمر اللون، يطلب حديثي، فلا تمل منه. قال الراوي: فما كان الفراوي يقوم حتى يقوم ابن عساكر. وقال المحدث بهاء الدين القاسم «2» : كان أبي- رحمه الله- مواظبا على الجماعة، والتلاوة، ويختم كل جمعة، ويختم في رمضان كل يوم، ويعتكف في المنارة الشرقية، وكان كثير النوافل والأذكار، ويحيي ليلة النصف، والعيدين بالصلاة، والذكر، ويحاسب نفسه على لحظة تذهب، قال لي: لما حملت أمي، قيل لها في منامها: تلدين غلاما يكون له شأن.

وحدثني أن أباه رأى رؤيا معناها: يولد لك ابن، يحيي الله به السنة. وقال أبو المواهب بن صصرى «1» : كنت أذاكر أبا القاسم الحافظ عن الحفاظ الذين لقيهم، فقال: أما ببغداد فأبو عامر العبدري «2» ، وأما بأصبهان فأبو نصر اليونارتي «3» ، لكن إسماعيل بن محمد «4» الحافظ كان أشهر، فقلت: فعلى هذا، ما رأى سيدنا مثل نفسه! قال: لا تقل هذا، قال الله: فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ «5» قلت:: فقد قال وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ «6» فقال: لو قال قائل: إن عيني لم تر مثلي لصدق. قال أبو المواهب: وأنا لم أر مثله، ولا من اجتمع فيه ما اجتمع فيه من لزوم طريقة واحدة مدة أربعين سنة من لزوم الصلوات في الصف الأول إلا من عذر، والاعتكاف في رمضان، وعشر ذي الحجة، وعدم التطلع إلى تحصيل

الأملاك، وبناء الدور، قد أسقط ذلك عن نفسه، وأعرض عن طلب المناصب (ص 215) من الإمامة، والخطابة، وأباها بعد أن عرضت عليه، وأخذ نفسه بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. قال لي: لما عزمت على التحديث- والله المطلع أنه ما حملني على ذلك حب الرئاسة، والتقدم بل قلت: متى أروي كل ما سمعت؟ وأي فائدة في كوني أخلفه صحائف- فاستخرت الله، واستأذنت أعيان شيوخي، ورؤساء البلد، وطفت عليهم، فكلهم قال: من أحق بهذا منك؟! فشرعت في ذلك سنة ثلاث وثلاثين، وخمس مائة، وكان حافظ العصر أبو الحجاج المزي «1» يميل إلى أن ابن عساكر لم ير مثل نفسه. وقال الحافظ عبد القادر «2» : ما رأيت أحفظ من ابن عساكر. وقال ابن النجار «3» : أبو القاسم إمام المحدثين في وقته، انتهت إليه الرياسة في الحفظ، والإتقان، والثقة، والمعرفة التامة، وبه ختم هذا الشأن، وكان فقيها أديبا سنيا.

[كان قد توجه لزيارة القدس، ثم أتى مصر، فأكرم الملك العزيز» مقدمه، وسرّ به كافة أهل مصر، كتب الفاضل «2» إلى الملك الناصر «3» في أمره كتابا منه:" المملوك يقبل الأرض بين يدي مولانا الملك الناصر لا زالت عواطفه مرجوة، ومحاسنه متلوة، وعوارفه برة بالحظوظ المحفوة، ومكارمه تأخذ كتاب السؤال بقوة، وينهي- إن كان وصل الخبر- بأن الشيخ الفقيه الإمام الحافظ أبا القاسم بن عساكر قد زار بيت المقدس، قدّس الله فاتحه، ومنح النصر مانحه، فاستشرف أهل مصر شرف منادمته لقربه، واستشفعوا بالإمام «4» أولادهم للقراءة، والإجازة، فلما توجه منصب إمامته «5» ولا خفاء عن مولانا أنه أقرب رسل

رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هذه الأمة عهدا، إسنادا عاليا، وفهما واعيا، وأدبا، ولسانا راويا، ولما لقيه المملوك عرفه أنه جمع بين الغرضين، وهو الزيارة الشافعية، والإسماع لأهل الديار المصرية، ومن الوفادة على مولانا عز جنابه، وسعد بالوافدين بابه، ذكر منه ما استأذن عليه أن يحيى به.] «1» توفي في حادي عشر رجب سنة إحدى وسبعين، وخمس مائة، ورئي له منامات حسنة، ورثي بقصائد، وقبره يزار بباب الصغير «2» .

109 - أبو موسى المديني

ومنهم: 109- أبو موسى «1» المديني «2» واسمه محمد بن أبي بكر عمر بن عيسى الأصبهاني «3» الحافظ المشهور فما به حاجة إلى التعريف، والمشهود فضله نورا يشف في زجاج التصنيف، الأصبهاني الذي ما تنور البصائر إلا بكحل مداده، ولا يجلو بياض العين أنفع من كحل سواده، وزنت به الجبال فرجح على سؤددها «4» ، وازّينت به أصفهان،

وليس سوى سيادته صيت «1» إثمدها «2» ، رحل عن بلده أصفهان، ثم عاد إليها مشرفا مدينيّه «3» لمدينتها، مشرفا أسوارها لحمايتها به ولزينتها، فحل بها حيث يأوي الأسد من الغيل «4» ، وأقام يدوس لممها، وغيره يتمنى أن يكتحل من ترابها بميل «5» . (ص 216) ولد في ذي القعدة سنة إحدى وخمس مائة بأصبهان، وكان إمام عصره في الحفظ والمعرفة، وله في الحديث تواليف مفيدة، وصنف كتاب" المقيت" كمل به كتاب" الغريبين" «6» للهروي «7» ، واستدرك عليه، وله مصنفات أخر، ورحل من أصبهان في طلب الحديث، ثم رجع إليها، وأقام بها، وانتهى إليه التقدم في هذا الشأن مع علو الإسناد، والمعرفة التامة، والرواية الواسعة. قال الدبيثي «8» : عاش أبو موسى حتى صار أوحد وقته، وشيخ زمانه

إسنادا، وحفظا. وقال عبد القادر «1» : حصل من المسموعات بأصبهان ما لم يتحصل لأحد في زمانه، وانضم إلى ذلك الحفظ، والاتقان، وله شيء يسير يتريح به، وينفق منه، ولا يقبل من أحد شيئا قط، أوصى إليه غير واحد بمال فردّه، فيقال: فرقه على من ترى. فيمتنع، وكان من التواضع بحيث إنه يقرئ الصغير والكبير، ويرشد المبتدئ، رأيته يحفظ الصبيان القرآن في الألواح، ويمنع من يمشي معه «2» ، فعلت ذلك مرة، فزجرني، وترددت إليه نحوا من سنة، ونصف، فما رأيت منه، ولا سمعت عنه سقطة تعاب عليه. وكان أبو مسعود كوتاه «3» يقول: أبو موسى كنز مخفي. وقال الحسين بن يوحن الباورني «4» : كنت في مدينة الخان «5» ، فسألني سائل عن رؤيا قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توفي، فقلت: إن صدقت رؤياك يموت إمام لا نظير له في زمانه، فإن مثل هذا المنام رؤي حال وفاة الشافعي،

والثوري، وأحمد، فما أمسينا حتى جاءنا الخبر بوفاة الحافظ أبي موسى، وكانت وفاته ليلة الأربعاء تاسع جمادى الأولى سنة إحدى وثمانين وخمس مائة بأصبهان (ص 217) . قال عبد الله بن محمد الخجندي: لما مات أبو موسى لم يكادوا أن يفرغوا حتى جاء مطر عظيم في الحر الشديد، وكان الماء قليلا بأصبهان.

110 - عبد الغني بن عبد الواحد بن علي بن سرور المقدسي، ثم الصالحي الحنبلي الحافظ، تقي الدين، أبو محمد.

ومنهم: 110- عبد الغني بن عبد الواحد «1» بن علي بن سرور المقدسي «2» ، ثم الصالحي «3» الحنبلي الحافظ، تقي الدين، أبو محمد. صاحب التصانيف، والجبل الذي لا تنسفه الزعانيف «4» ، والقائم في ذات

الله لا تأخذه لومة لائم، تمضّه «1» تعنيفه، ويمضي فيه تصريفه، ويقضي عليه سيفه الماضي إما يقتله، وإما يخيفه، ما لان لمن قصد به غضاضة «2» ولا هان، وقد قذف نجمه يريد انقضاضه، بل رفعه الله من حيث أراد العدو أن يضعه، وقربه من حيث أبعد موضعه، ما ضره وهو الغمام أن أنأى محله، ولا نقصه- وهو الذهب- حيث أحله، وعاش لا يبالي بالخمول، وقد أنامه في مرقده وأسكنه في قرارة ملحده «3» ، وألقاه في جانب بيته لا يستطيع حراك لسانه ولا يده، وبقي لا يشكو قترا ولا قتارا «4» ، ودام على هذه الحال حتى مات فتعوض خيرا من الأهل أهلا، ومن الدار دارا. ولد سنة إحدى وأربعين وخمس مائة، هو وابن خالته موفق الدين «5»

بجماعيل «1» ، واصطحبا مدة في أول اشتغالهما ورحلتهما، وحدث أبو محمد بالكثير وصنف في الحديث التصانيف الحسنة، وكان غزير الحفظ، من أهل الإتقان والتجويد، قيّما بجميع فنون الحديث، تكلم في الصفات والقرآن بشيء أنكره أهل التأويل، فعقد له مجلس بدار السلطان بدمشق، فأصر وأباحوا قتله، فشفع فيه أمراء الأكراد على أن ينزح من دمشق فذهب إلى مصر، وأقام به خاملا إلى أن مات (ص 218) قال أبو موسى المديني: قل من وفد علينا من الأصحاب من يفهم هذا الشأن كفهم الإمام عبد الغني زاده الله توفيقا، وقد وفق لتبيين هذه الغلطات- يعني التي في كتاب معرفة الصحابة لأبي نعيم «2» -، ولو كان الدارقطني وأمثاله في الأحياء لصوبوا فعله، وقل من يفهم في زماننا ما فهمه. وقال الحافظ ضياء الدين «3» : خرج عبد الغني إلى أصبهان، وليس معه كيس فلوس، فسهل الله من حمله، وأنفق عليه، فأقام بأصبهان مدة، وحصل بها الكتب الجيدة، قال: وسمعت إسماعيل بن ظفر «4» يقول: جاء رجل إلى الحافظ عبد الغني، فقال: رجل حلف بالطلاق أنك تحفظ مائة ألف حديث. فقال: لو قال أكثر لصدق.

قال: وشاهدت عبد الغني- غير مرة- بجامع دمشق يسأله بعض الحاضرين، وهو على المنبر: اقرأ لنا من غير الجزء. فيقرأ علينا بأسانيدها عن ظهر قلبه، فقيل له: لم لا تقرأ دائما من غير الجزء؟ فقال: أخاف العجب. وقال تاج الدين الكندي «1» : لم يكن بعد الدارقطني مثل عبد الغني المقدسي، قال: ولم ير مثل نفسه. وقال الشيخ موفق الدين: كان عبد الغني رفيقي، وما كنا نستبق إلى خير إلا سبقني إليه إلا القليل، وكمل الله فضيلته بابتلائه بما أوذي به، وصبر عليه، ورزق العلم، وتحصيل الكتب الكثيرة إلا أنه لم يعمر حتى يبلغ غرضه في روايتها، ونشرها. وقال الضياء: كان عبد الغني لا يرى منكرا إلا غيره بيده، أو بلسانه، وكان لا يأخذه في الله لومة لائم، رأيته مرتين يريق خمرا، فسل صاحبه السيف، فلم يخف، وكان قويا، فأخذ السيف من الرجل، وكان يكسر الشبابات «2» ،

والطنابير «1» (ص 219) . قال: وسمعت أبا بكر بن أحمد الطحان يقول: جعلوا الملاهي عند باب جيرون «2» ، فجاء الحافظ عبد الغني، فكسر كثيرا، وصعد المنبر، فجاء رسول القاضي يطلبه ليناظره في الدف «3» ، والشبابة، فقال: ذاك حرام، ولا أمشي إليه، إن كان له حاجة يجيء هو. قال: فعاد الرسول يقول: لا بد من مجيئك، قد أبطلت هذه الأشياء على السلطان، فقال: ضرب الله رقبته، ورقبة السلطان، فمضى الرسول، وخفنا من فتنة، فما أتى من جديد. قال أبو موسى عبد الله بن عبد الغني: مرض والدي أياما ووضأته وقت الصبح، فقال: يا عبد الله صلّ بنا، وخفف فصليت بالجماعة وصلى معنا جالسا ثم قال: اقرأ عند رأسي (يس) فقرأتها، وقلت: هنا دواء تشربه، فقال، ما بقي إلا الموت. فقلت ما تشتهي شيئا؟ قال: أشتهي النظر إلى وجه الله فقلت: ما أنت عني راض؟ قال: بلى. وجاءوا يعودونه، ففتح عينيه، وقال: ما هذا؟ اذكروا الله، قولوا" لا إله إلا الله" ثم دخل درع النابلسي فقمت لأناوله كتابا من جانب

المسجد، ورجعت، وقد توفي يوم الاثنين الثالث والعشرين من ربيع الأول سنة ستمائة بمصر. قال الضياء: وسمعت يقول لي: رأيت أخاك عبد الرحيم في المنام، فقلت: أين أنت؟ قال: في جنة عدن فقلت: أيما أفضل الحافظ عبد الغني، أو الشيخ أبو عمر؟ فقال: لا أدري، وأما عبد الغني فينصب له كرسي تحت العرش، وينثر عليه الدر، وهذا نصيبي منه، وأشار إلى كمه. وكان عبد الغني ليس بالأبيض الأمهق «1» ، يميل إلى سمرة، حسن الثغر، كث اللحية، واسع الجبين، عظيم الخلق، تام القامة، كأن النور يخرج من وجهه، ضعف بصره من كثرة النسخ، والمطالعة، والبكاء وكان جوادا كريما لا يدخر درهما، وقيل: كان يخرج ليلا بالقفاف فيها الدقيق (ص 220) فإذا فتحوا له ترك ما معه، ومضى لئلا يعرف، وربما كان عليه ثوب مرقع «13» .

111 - ومنهم محمد بن عبد الواحد بن أحمد بن عبد الرحمن السعدي المقدسي ثم الدمشقي الصالحي

111- ومنهم محمد بن عبد الواحد بن أحمد بن عبد الرحمن السعدي «13» المقدسي ثم الدمشقي الصالحي «1» الحنبلي ضياء الدين أبو عبد الله الحافظ، الحجة محدّث الشام شيخ السنة. طلب «2» وما نهنه «3» ، ولغب «4» وما أغبّ «5» المهمه «6» ، ولم يلق حبل قلمه عن غاربه «7» ، ولم يلق مداد دواته إلا بعرق متاعبه «8» ، أخذ لرحلته أهبتها، وعاجل الأيام ووثبتها، وشدّ نسوع نجائبه «9» ، وأجدّ شسوع مذاهبه «10» ، وتعب حتى استراح، وتمنّى حتى فرّغ الامتراح «11» ، ولم يدع واديا

تفد «1» ، أفواج ريحه، ولا جبلا تسرّج لمم شيحه «2» ، حتى جال بين جنبيه، أو داس مفرقه وصعد عليه، إلى أن ضبط عن كل امرئ ما هو به لافظ، وهبط عن مطامطيّه «3» وهو يدعى للإمام الحافظ. ولد سنة تسع وستين وخمس مائة، ورحل مرتين إلى إصبهان وسمع بها مالا يوصف كثرة، وحصّل أصولا كثيرة، ونسخ وصنّف وصحح وليّن، وجرح وعدّل، وكان مرجوعا إليه في هذا الشأن، قال تلميذه عمر بن الحاجب «4» : شيخنا أبو عبد الله شيخ وقته، ونسيج وحده علما وحفظا وثقة ودينا، من العلماء الربانيين، وهو أكبر من أن يدلّ عليه مثلي، وكان شديد التحرّي في الرواية، مجتهدا في العبادة. ذكروه فأطنبوا في حقه، ومدحوه بالحفظ والزهد. وقال ابن النجار «5» : حافظ، متقن، حجة، عالم بالرجال، ورع تقي، ما رأيت مثله، توفي في جمادى الآخرة سنة ثلاث وأربعين وستمائة.

112 - محمد بن محمود بن الحسن بن هبة الله بن محاسن البغدادي، المعروف بابن النجار

ومنهم 112- محمد بن محمود بن الحسن بن هبة الله بن محاسن البغدادي، المعروف بابن النجار «1» صاحب التصانيف، بحر فسيح الجوانب، طليح المقانب «2» ،/ (ص 221) متسع المدى، لا تحصى لديه ذنوب المذانب «3» ، ورث من جده محاسن، وأرّث بجهده الأحاسن، ورحل رحلة أمضت أكثر العمر، وأفنت الليالي العتم والقمر، ولقي جما غفيرا، وسمع خلقا كثيرا، كأنما ضرب لهم نفيرا، وأعار التاريخ طرفه فما فاته منه طرفة عين، ولا طرفه عين «4» ، ولا بقي في بغداد من لا ضبط قلمه، وضمّه لقمه «5» ، وحواه تأليفه، وآواه تصنيفه، واراه أو وازاه تصريفه. ولد سنة ثمان وسبعين وخمسمائة، وسمع وله عشر سنين، واعتنى بالطلب وهو ابن خمس عشرة سنة، وتلا بالروايات الكثيرة، وسمع بأصبهان ونيسابور «6»

وهراة ودمشق ومصر وغير ذلك، وكتب العالي والنازل، وجمع فأوعى، وخرّج لغير واحد، وجمع تاريخ مدينة السلام، ذيّل «1» به واستدرك فيه على الحافظ أبي بكر الخطيب «2» ، ومقداره ثلاثمائة جزء، وكان من أعيان الحفاظ الثقات، مع الدين والصيانة والنسك والفهم وسعة الرواية، وكانت رحلته سبعا وعشرين سنة، واشتملت مشيخته «3» على ثلاثة آلاف شيخ، ووقف كتبه ومصنفاتة وهي تزيد على خمسة عشر مصنفا «4» بالمدرسة النظاميّة وكان من محاسن الدنيا رحمه الله، توفي في خامس شعبان سنة ثلاث وأربعين وستمائة.

113 - القاسم محمد بن يوسف بن محمد بن يوسف بن محمد بن أبي يداش البرزالي

ومنهم 113- القاسم محمد بن يوسف بن محمد بن يوسف بن محمد بن أبي يدّاش البرزاليّ «1» الإشبيلي الأصل الدمشقي الشافعي أبو محمد الحافظ، عمدة الحفاظ مؤرخ الشام، ممن ولدته دمشق والفحل فحل معرق «2» ، وأوجدته الأيام فسطع ضوؤها المشرق، وتمخضت منه الليالي عن واحدها وأحد أهل/ (ص 222) المشرق، ومشى فيها على طريق واحد ما تغيّر عن سلوكها، ولا تقهقر في سلوكها، يصحب الخصمين وهما من هما «3» ، والنظيرين والضرغامة الأسد منهما، وكل منهما راض بصحبته واثق به لا يعدّه إلا من أحبته. كان عند شيخي الإسلام آخر المجتهدين ابن تيمية «4» وابن الزملكاني «5» .

وما منهما إلا من هو عليه مرتبط، وبه مغتبط، يذيع إليه سرّه في صاحبه، ويتبسّط لديه في معاتبه. وهو ساكت لا ينطق بحرف، ولا يشارك حتى ولا بإيماء طرف، وعرف بهذا واشتهر حتى صار عندهما موضع الثقة، ومكان المقة «1» . ومحل الصداقة المحققة، ثم كان يسعى في صلاح ذات بينهما فيعجز، ويعده كل منهما به ولا ينجز، فأغمد لسانه، وترك كلّ امرئ منهما وشأنه، وكان ممن ينفع الطلبة، ويستلذ في راحتهم تعبه، ويحرص على إسماعهم، ويقيّد مجالس سماعهم، لا يشغله عنهم ما كان معدّا له من حضور مجالس الحكام، والتسجيل عنهم بالأحكام، وحضور الوظائف، ومجالسة أكثر الطوايف، ثم بلغني أنه توجه إلى الحج فمات بخليص «2» وقد استقبل مكة ميمما، وكفّن في ثياب إحرامه ليبعث يوم القيامة ملبيا محرما «3» . ولد في عاشر جمادى الأولى سنة خمس وستين وستمائة، واعتنى بالرواية من صغره، فقرأ بنفسه الكتب الكبار، ورحل إلى الديار المصرية، والثغر «4» والبلاد الشمالية، وسمع مما ينيف على ألفي شيخ، وأجاز له ألف آخر، فاشتمل معجمه على نيف وثلاثة آلاف شيخ، وكتب من الأثبات «5»

والتعاليق «1» والأجزاء والتاريخ «2» والتخاريج «3» ما لا يحصى كثرة، وحرّر مسموعاته، وصار مقتدى به مرجوعا إليه في هذا الشأن مع الحفظ والإتقان والصدق والتحري، وكتب الشروط «4» / (ص 223) فأحكمها، والسجلات «5» فأتقنها، وله فيهما مصنفات وكان محسنا إلى الطلبة متلطفا بهم، صبورا على التعليم، سهل العارية لكتبه وأجزائه، يقضّي أوقاته في السماع والتسميع، وكتابة الطباق «6» ، وقضاء حوائج الناس، والمواظبة على وظائفه من غير انقطاع إلا لعذر مانع شرعا. وولي المشيخات «7» ، وصحب الأكابر من أهل العلم، وولد له عدة أولاد توفوا كلهم في حياته، فصبر واحتسب، منهم المحصّل بهاء الدين أبو الفضل محمد اعتنى به واجتهد إلى أن حفظ المحافيظ، وقرأ القرآن للسبع، وشهد على الحكّام ولم ينبت، وحج به، وتوفي وهو شاب «8» ، ومنهم فاطمة، اجتهد عليها وعلمها الخط، وكتبت ربعة «9» شريفة، وشرعت في صحيح البخاري، فكتبت منه مقدار النصف، ثم حصل لها نفاس، وأعقبها مرضا، أشرفت فيه على الموت مرات، حتى إن كثيرا من الأعيان كانوا يبطلون مهماتهم ويتهيؤون لتشييع

جنازتها، ثم نقهت من ذلك، فأكملت الصحيح كتابة في ثلاثة عشر مجلدا بخط واضح، فلما فرغت، شرعت في تحصيل الورق وغيره لكتابة صحيح مسلم، فتوفيت قبل شروعها في الكتابة، وذلك بعد فراغها من صحيح البخاري بنحو شهر. وحكى والدها: أنها كانت في أثناء مرضها المذكور، كانت تتأسف على عدم تكميل البخاري، وتودّ لو عاشت إلى أن تكمله ثم تموت، فكان كذلك، وصبر والدها واحتسبها عند الله، وقابل النسخة المذكورة مرتين، واعتنى بها، وصارت عمدة في الصحة، وحج أبو محمد البرزالي خمس حجج سمع وأسمع فيها بدرب الحجاز والحرمين والأماكن المعظمة ثم قصد الحج مرة سادسة عقب مرض فعاوده بدرب الحجاز، ودخل المدينة النبوية محمولا لمرضه، ثم أحرم فتوفى بخليص بكرة الأحد رابع ذي الحجة سنة تسع وثلاثين وسبع مائة، فعزم على نقله ودفنه بمكة، فحصل خلاف بين الفقهاء الحجاج في هذه السنة، وكانوا جماعة من شيوخ المذاهب في جواز النقل «1» ، وخيف عليه من الحر، فصلّي عليه بمخيم الحاج ودفن إلى جانب البرج بخليص، ووصل خبره إلى الديار المصرية ثم إلى دمشق في خامس المحرم سنة أربعين، وصلّي عليه صلاة الغائب بالبلاد، ووقف كتبه وأجزاءه، وتصدق بثلث ماله، (ص 224) وقلت أرثيه لما بلغني وفاته، وكنت إذ ذاك بالقاهرة المعزّية: [البسيط]

تراهم بالذي ألقاه قد علموا ... شطّ «1» المزار وبان البان «2» والعلم لهفي عليهم وقد شدّوا ركائبهم ... عن الديار ولا يثني بهم ندم قد كان يدنيهم طيف يلمّ بنا ... فالآن لا الطيف يدنيهم ولا الحلم الله أكبر كم أجرى فراقهم ... دمعا وعاد بمن لا عاد وهو دم أمّوا الحجاز فما سارت مطيّهم ... حتى استقلت نعوشا قدّمت لهم وأحرموا لطواف البيت لا حرموا ... من لذة العيش طول الدهر ما حزموا زاروا النبيّ وساروا نحو موقفهم ... حتى إذا قاربوا مطلوبهم جثموا يا سائرين إلى أرض الحجاز لقد ... خلّفتم في حشاي النار تضطرم هل منشد فيكم أو ناشد طلبا ... أضللته وادلهمّت بعده الظلم قد كان في قاسم من غيره عوض ... فاليوم لا قاسم فينا ولا قسم «3» من لو أتى مكة مالت أباطحها ... به سرورا وجادت أفقها الديم «4» أقسمت منذ زمان ما رأى أحد ... لقاسم شبها في الأرض لو قسموا هذا الذي يشكر المختار هجرته ... والبيت يعرفه والحل والحرم ما كان ينكره ركن الحطيم به ... لو أخّر العمر حتى جاء يستلم له إليه وفادات تقرّ بها ... جبال مكة والبطحاء والأكم محدّث الشام صدقا بل مؤرخه ... جرى بهذا وذا فيما مضى القلم يا طالب العلم في الفنّين مجتهدا ... في ذا وهذا «5» ينادى المفرد العلم

تروى حديث العوالي عن يراعته ... وماله طاعن فيها ومتّهم (ص 225) قد كان يدأب في نفع الأنام ولا ... يزلّه ضجر منه ولا سأم وحقّق النقد حتى بان بهرجه «1» ... وصحّح النقل حتى ما به سقم وعرّف الناس كيف الطرق أجمعها ... إلى النبي فما جاروا «2» ولا وهموا وبعض ما جهلوا أضعاف ما علموا ... وعلّم الخلق في التاريخ ما جهلوا يريك تاريخه مهما أردت به ... كأنّ تاريخه الآفاق والأمم ما فاته فيه ذو ذكر أخلّ به ... ولو يروم لعادت عاد «3» أو إرم إذا نشرت له جزأ لتقرأه ... تظل تنشر أقواما وهم رمم يا أيها الموت مهلا في تفرّقنا ... شتّت شمل المعالي وهو منتظم تجدّ فينا وتسعى في تطلّبنا ... اصبر سنأتيك لا تسعى بنا قدم ها قد ظفرت بفرد لا مثيل له ... وإن أردت له مثلا فأين هم يا ذاهبا مالنا ألّا تذكّره ... آها عليك وآه كلها ألم جادت عليك من الغفران بارقة ... غراء يضحك فيها البارد الشّبم «4» تروي ثراك وتسقى من جوانبه ... إلى جوانب حزوى «5» البان والسّلم «6» وحل أرض خليص كلّ ريح صبا ... بنشرها تبعث الأرداف «7» واللمم

114 - يوسف بن الزكي عبد الرحمن بن يوسف بن عبد الملك القضاعي

وختّمت دون عسفان «1» لها سحب ... تسقى بأنوائها السكان والخيم لهفي عليك لتحرير بلغت به ... ما ليس تبلغه أو بعضه الهمم ما الحافظ السلفي الطّهر إن ذكرت «2» ... أسلافك الغرّ والآثار والكرم قطعت عمرك في فرض وفي سنن ... هذي الغنيمة والأعمار تغتنم / (ص 226) ومنهم 114- يوسف بن الزّكي عبد الرحمن بن يوسف بن عبد الملك القضاعي الكلبي المزّي الدمشقي أبو الحجاج جمال الدين «3» الحافظ الجهبذ «4» حجة الحفاظ، انتهت إليه معرفة الرجال، ومدد الآجال، وزمر البطايا «5» منهم

والعجال، إتقانا للمواليد والوفيات، والتكميل والفوات، والجرح والتعديل بالأمور الظواهر والخفيّات، وصنّف الكتب التي ما شنّف بمثلها قبله أذن الدنيا مشنّف، ولا صنف مثله قبلها مصنّف، سعة معرفة لا يضيق بها حصر، ولا يضيع في جانبها أهل عصر، مع اطلاع على اللغة آنس به غريبها، وحبس عليه عريبها «1» ، بمعارف قصرت مدته عن تحصيلها، وجملته عن تفصيلها، إلا أن الله سهّل له صعابها، وهوّن عليه أتعابها، فبلغ منها ما لم يصل إليه أمل آمل، ونبغ فيها وأنبه أهل زمانه معه خامل، إلا أنه كان ظاهر الجمود، لا يتكلم كأنه جلمود «2» ، ولم يكن فيه وحاشاه ما يعاب، ولا ما يدنّسه من قبح العاب «3» ، إلا أنه كان يتهوّس بالمطالب والكنوز، ويتفّرس أنه لها بمساعيه يحوز، وكان يتبذّل لأجلها مع العوام، ويقتحم بسببها الموت الزؤام «4» ، ولا يدع نفسه النفيسة، ويدعّ عنها أطماع هذه الخسيسة، وهيهات لقد ظفر من حديث الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام بمطلب لا يفنى، وذهب خلاص لابل أين الذهب من ذلك الجوهر الأسنى، فوا أسفا لرتبته العليا، ووالهفا كيف ضيّع وقتا من أوقاته بطلب سحت «5» الدنيا.. «6»

مولده بظاهر حلب سنة أربع وخمسين وستمائة، ونشأ بالمزّة «1» وحفظ القرآن، وتفقّه قليلا ثم أقبل على هذا الشأن، ورحل سنة ثلاث وثمانين «2» ونسخ بخطه المليح المتقن كثيرا لنفسه ولغيره، ونظر في اللغة ومهر/ (ص 227) فيها وفي التصريف، وقرأ العربية، وأما معرفة الرجال فهو حامل لوائها، والقائم بأعبائها، لم تر العيون مثله، وخرّج لغير واحد، وأملى مجالس وأوضح مشكلات ومعضلات، ما سبق إليها من علم الحديث ورجاله، وكان ثقة كثير العلم، غزير الفضل، حسن الاخلاق، كثير السكون، قليل الكلام جدا، صادق اللهجة، لم تعرف له صبوة، وكان يطالع وينقل الطباق «3» إذا حدّث، وهو في ذلك لا يكاد يخفى عليه شئ مما يقرأ، بل يرّد في المتن والإسناد ردا مفيدا «4» ، بحيث يتعجب منه فضلاء الجماعة وكان متواضعا حليما صبورا مقتصدا في ملبسه ومأكله، كثير المشي في مصالحه.

ترافق هو وشيخ الإسلام ابن تيمية في سماع الحديث، وفي النظر في العلم، وكان يقرّر طريقة السلف في السنّة، ويعضد ذلك بمباحث نظريّة وقواعد كلامية، وكان له عمل كثير في المعقول «1» ، وما وراء ذلك بحمد الله إلا حسن إسلام وخشية لله، وصحب في وقت العفيف التلمساني «2» ، فلما تبيّن له انحلاله واتحاده تبرأ منه وحطّ، وكان ذا مروءة وسماحة، وتقنع باليسير، باذلا لكتبه وفوائده ونفسه، كثير المحاسن، ولقد آذاه أبو الحسن ابن العطار «3» وسبّه فما تكلم فيه ولا فيمن آذاه، وقرأ بدمشق مرة تاريخ بغداد للحافظ أبي بكر الخطيب «4» ، فوثب عليه جماعة من الروم الحنفية، ورفعوه إلى قاضي القضاة، حسام الدين الرازي «5» ، وهو إذ ذاك حاكم بدمشق فتلطف الحاكم المذكور مع الفقهاء الحنفية المذكورين، ووعدهم ومنّاهم وعفا عنه، ومنعه بالحسنى منهم

115 - محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز ابن الذهبي أبو عبد الله شمس الدين

وأخرجه ليلا فغيّب مدة حتى سكنت الثائرة، وخمدت الفتنة وعصمه الله منهم، وكانوا قد عزموا على قتله بأيديهم «1» ، وكانت وفاته في ثاني عشر صفر سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة، وصليّ عليه الغد بجامع دمشق ودفن بمقبرة الصوفية. ومنهم (ص 228) / 115- محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز ابن الذهبي أبو عبد الله شمس الدين «2» بقية الحفاظ. هو شمس العصر لا غابت، ولا اعتلت أصلها ولا خابت، بقي في هذا الزمن الأخير بقاء الشمس في العصر، وتفرّدها بالمحاسن التي تجل عن الحصر، فضائل لا يستطيعها أهل التحصيل، وفواضل تحلي ذهبيّ العصر بمثل ذهبيّة العصر من الأصيل» ، معدن لا غرو أن نسب إلى ذهبيّة الذهب أو حسب للهبيّة «4» ما لا ينكر لقريحته من اللهب، ما المزّيّ عنده إلا ممّن تمزّز وما شرب حتى اضطلع «5» ، ووقف دون العقبة الكؤود وما طلع، فاقه بل ساوى كل سابق

متقدم إن لم يكن فاقه، وضبطه فيما قيّده ثم ما حلّ وثاقه، علم حديث وتاريخ أصبح فيهما فردا لا يخلف، وسابقا ونحن نسأل الله أن يتخلّف «1» ، وإماما بقي في أثناء الدهر حتى صلوا خلفه وسلّموا، وعرفوا حقه فودّوا أن يتأخر ويقدّموا، وواحدا لو أن لأهل هذا الزمان همّة من كان قبلهم لشدوا إليه المطي تلطم وجوه السباسب «2» ، وتشق جلباب الضحى والغياهب «3» ، ولا تزال تحط لديه رجال وتشدّ رحال، وتعدّ سويّ لقيّه محالا كل حال «4» . مولده في ربيع الآخر سنة ثلاث وسبعين وستمائة «5» ، وعمل مع والده صناعة الذهب، ثم في سنة تسعين أحب القراءات، فقرأ التجويد وقرأ للسوسي بالإدغام «6» في سنة إحدى وتسعين، وقرأ لنافع «7» بكماله على الشيخ محمد

المزراب «1» ولازمه وحصّل شرح الشاطبي «2» ، وفي أيام العريق «3» منها شرع في القراءات السبعة جمعا على الشيخ جمال الدين الفاضلي «4» ، وذهب إلى الجمال البدوي «5» فوشمه «6» في كيفية الجمع، ومات الفاضلي وقد جمع عليه إلى أواخر القصص سنة اثنتين وتسعين، في ربيع الآخر. قال الذهبي: فتألمت لكوني لم أكمّل، ففتح الله علينا/ (ص 229) بشمس الدين الدمياطي «7» ، فذهبنا إليه وكلمناه، فوجدناه ذاكرا للقراءات ذكرا جيدا، أجود من الفاضلي، فإن الفاضلي كان قد استولى عليه الفالج، وتغيّر حفظه،

فقعد لنا الدمياطي في الكلاسة «1» طرفي النهار، وكان مستحضرا للشاطبية، فكمّلت عليه القراءات في مدة يسيرة، وكذا ابن بضحان «2» وابن غدير «3» ، وقرأت عليه ختمة واحدة لابن عامر «4» ، وكملت القراءات على الإسكندري «5» في تلك المدة، وقرأت في تلك المدة على الشمس

الحياضري «1» ، وكملت عليه في أول سنة ثلاث وتسعين، ثم لازمت الشيخ مجد الدين التونسي «2» في أثناء سنة اثنتين وتسعين، وشرعت عليه في ختمه للسبعة، وبرّحنا «3» عليه في القصيد أنا وابن غدير والعلم الحلبي «4» وابن بضحان، وتفقهنا في بحوث القراءات به، وقرأت النحو على ابن أبي الفتح «5» ، وحضرت دروس النحو في العادلية «6» عند الشيخ شرف الدين

الفزاري «1» ، وقرأت النحو أيضا على الشهاب «2» الشاغوري. وفي رجب سنة اثنتين وتسعين سمعت الحديث أول ما سمعت فيها على ابن عساكر «3» ، وابن البزوري «4» ، وعائشة بنت المجد «5» وجماعة، ثم دللت على

ابن القواس «1» بعربيل «2» فأخذت المبهج «3» في القراءات، وطلعت إليه، فقرأت عليه يومئذ منه نحو عشرة كراريس، وذلك أول يوم من سنة ثلاث، ثم دخل المدينة «4» ، وسمعت عليه الحديث، وغويت بالحديث «5» ، وقرأت على النظام التبريزي «6» ختمة لأبي عمرو «7» ثم استأذنت والدي في الرحلة إلى بعلبك «8» فأذن لي بعد تكرر سؤالي له فلازمت التاج عبد الخالق «9» والموفق بن قدامة «10» والشيوخ نسمع، وقرأت على الشيخ موفق الدين بن قدامة ختمة للسبعة في نحو

خمسين يوما، وكملتها في سلخ سنة ثلاث وتسعين، وقرأت في تلك المدة عدة كتب من المسندات، ثم عزمت على الرحلة إلى الديار المصرية فاستأذنت والدي فغضب/ (ص 230) وضج وحلف بالطلاق أنه ما يعطيني فلسا إن رحت، فحزنت وقعدت أنسخ بالأجرة، حتى كنت أحس ظهري ينقطع وأنا أتجلد وأكابد، حتى إني كنت يوم سبت في بستان ضمنّاه، وهم فيما هم، وأنا قد شددت خلف ظهري دفّة خشب من الوجع، وأنا لا أستريح، وصمّدت مائة وثمانين درهما ثم مرضت وبرد عزمي، وأيست من السفر، ثم هيّجني السفر قليلا، فألقيت في ذهن أمي السفر، فقالت لوالدي، وقلت: معي هذه الدراهم أتوصل بها، فقال والدي: إن الغريب الطويل الذيل ممتهن، فكيف حال غريب ماله قوت وضرب لي الأمثال، ثم قال: قد بلشت باليمين «1» ، فأعطتني أختي خواتيم ذهب وغير ذلك، فسافرت في رجب سنة خمس وتسعين، ومعي ما قيمتة ثمانمائة درهم، فسمعت بالبلاد التي بالطريق، ونزلت بزاوية ابن الظاهري «2» ، وقرأت السيرة

لابن هشام «1» على الأبرقوهي «2» في ستة أيام فكنت أقرأ من بكرة النهار إلى المغيب، في النهار نستريح ساعة في وسط النهار، ثم سافرت في أوائل رمضان إلى الإسكندرية في النيل، فلقيت بها يحيى بن الصواف «3» ، فرغت عليه في ختمة جمعا فأقرأني آيات، وقال: قف وكان قد أصمّ وعمي، وهو عسر الأخذ، وانقطع صوتي مما أرفعه ليسمع، فسلوته وسمعت عليه ثلاثة أجزاء من الخلعيات، ثم مضيت إلى سحنون «4» ، فكنت أقرأ عليه من القرآن كل يوم جزئين وأكثر لنافع «5»

وعاصم «1» ، فأكملت عليه الختمة في أحد عشر يوما، ومات ثاني يوم ختمت، وذلك في رابع شوال، ثم رجعت في خليج الإسكندرية إلى القاهرة، وشرعت في تتمة ما قدّر لي أن أسمعه، وعدت إلى دمشق، وزرت الخليل (عليه الصلاة والسلام) «2» والقدس. وقرأت على الجعبري «3» كتابه في القراءات العشر الذي نظمه مرموزا كالشاطبية وسمعت بنابلس من العماد بن بدران «4» / (ص 231) هذا ملخص ما ذكره في ابتداء طلبه، ثم إنه ولي خطابة قرية كفر بطنا من قرى غوطة دمشق، فسكنها مدة ولازم الاشتغال والتخريج والاختصار والتصنيف، ولم يكن له هم غير ذلك، ولا له عنه شاغل. ثم انتقل عن الخطابة المذكورة لما ولي مشيخة دار الحديث الظاهرية «5» ،

وولي معها مشيخة الحديث بتربة أم الملك «1» الصالح، ومشيخة الدار «2» التنكزية ومشيخة الدار النفيسية «3» ، وانتهت إليه الرئاسة في معرفة الحديث وعلله، وصحيحه وسقيمه ورجاله، وجرح وعدّل، وصحّح وضعّف، واستدرك على الحفاظ، ولم يزل يكتب وينتقي ويصنف الكتب الكبار، هذا دأبه، مع مباشرة الوظائف وإفادة الطلبة إلى أن أضر بأخرة «4» . وأما التاريخ فتفرد بمعرفته وصنّف فيه تاريخ الإسلام في أحد وعشرين مجلدا واختصر تاريخ بغداد، وتاريخ دمشق في عشر مجلدات، وتاريخ ابن المديني «5» ، وانتخب كثيرا من تاريخ ابن النجار «6» ، وذيل السمعاني «7»

ووفيات المنذري» ، والشريف «2» والبرزالي «3» ، واختصر تاريخ نيسابور «4» وتاريخ أبي شامة «5» . وصنّف طبقات القرّاء مرتين، الثانية مهذّبة، وطبقات الحفّاظ المهرة في مجلدين، وعمل ميزان الاعتدال في نقد الرجال ثلاث مجلدات، ونبأ الدجال، وألّف كتاب المشتبه في الأسماء والأنساب، ومناقب العشرة، وكتاب العبر في خبر من غبر مجلدين، وتاريخ دول الإسلام مجلد وتجريد أسماء الصحابة مجلد كبير، وكتاب المغني في الضعفاء مجلد، والضعفاء كتاب آخر أصغر من المغني، وكتاب النبلاء في شيوخ الأئمة الستة، وكتاب مختصر الكنى، وصنّف تراجم أعيان النبلاء من الأئمة والحفاظ والكبراء والوزراء والملوك في عشرين مجلدا، وكتاب الممتع في ستة أسفار. وأما ما صنّفه من المسائل وغيرها من الأبواب مما هو جزء/ (ص 232) : فكتاب الزيارة المصطفوية

جزء، وآخر كبير، وآية الكرسي جزء، وسيرة الحلّاج «1» جزءان، وتحريم أدبار النساء صغير وآخر ضخم، وكتاب الكبائر ثلاثة كراريس، وجزء في الشفاعة، وجزءان في صفة الجنة، وجزء في حديث القهقهة، طرق حديث ينزل ربنا، طرق حديث الطير، طرق من كنت مولاه، ما تصح به التلاوة ثلاثة أجزاء، مسألة الاجتهاد، مسألة خبر الواحد، التمسك بالسنن، التلويح بمن سبق ولحق، معرفة آل منده «2» ، أهل المائة عام، مهم تقييد المهمل، مختصر في القراءات، الوصية العفيفية، اللآلي السفطية في الليالي الغوطية مجلد، هالة البدر إلى أهل بدر، مسألة السماع جزء، ومسألة الخميس، ومسألة الغيبة، جزء، الخضاب جزء أربعة تعاصروا، ومسألة الوعيد، وكتاب الموت وما بعده، رؤية الباري. وأما ما اختصره من الكتب الكبار، فكتاب السنن الكبير للبيهقي «3» في

مقدار النصف مع المحافظة على المتون، واختصر المدخل إليه، واختصر الروض الأنف واختصر من تهذيب الكمال تجريد الأسماء، عمله عشر طبقات، وكتابا سماه تذهيب التهذيب، واختصر منه الكاشف مجلد، واختصر الفاروق وهذّبه، واختصر الرد على ابن طاهر «1» ، وكتاب جواز السماع لجعفر الأدفويّ «2» . واختصر المحلّى لابن حزم «3» في ثلاث مجلدات ونصف سماه المستحلى، واختصر المستدرك للحاكم «4» ، واختصر الأطراف في مجلدين، واختصر تقويم البلدان لصاحب حماه. وأما ما خرّجه لكبار شيوخه من المعاجم الكبار والصغار فينيف على

العشرة، وخرّج لنفسه معجما مرتين ومعجما لطيفا منقى، وغالب مصنفاته موشحة بمروياته. قال وعملت عدة تواليف في السنّة والعرش أخفيتها خوف الفتن والأهواء «1» . هذا ما حضرني من كتبه،/ (ص 233) وبه تمام حفاظ المشرق، وسحب هذا النوء المغدق، ولا أعرف معه آخر فأذكره، وأشهده محفل هذا الكتاب وأحضره.

فأما الحفاظ بالجانب الغربي

فأما الحفاظ بالجانب الغربي فلولا مصر ما نهضت قوادمهم «1» المحصوصة «2» ، وسدّت خصاصتهم «3» المعروفة بهم فواقرها «4» المخصوصة، وسأذكر من لاح نجمه مصوّبا في غربهم، وسقي صيّبا من «5» سحّهم: فمنهم 116- يحيى بن يحيى بن كثير بن وسلاس «6» الليثي الأندلسي، راوي كتاب الموطأ وعاقل الأندلس، وعاقد أزمّتها الشمس، والمقدّم في حفّاظها، والميمّم بقصد ألحاظها، والمعدود في معارف أعلامها، وثانيا في عوارف أيامها، وثالثا لدافق بحرها وساكب غمامها، ورابعا لنجوم سمائها وشموس ضيائها وبدور ظلامها، وخامسا إلى ما لا نهاية له من العدد من المحاسن المؤذنة بتمامها، مشدّد في دين، ومسدّد لا يلين، ومشيّد

لأركان الشريعة فرد ماله خدين «1» . سمع من مالك المؤطأ غير أبواب في الاعتكاف، شكّ في سماعها، فأثبت روايته فيها عن زياد بن عبد الرحمن اللخمي «2» عن مالك. وسمع بمكة من ابن عيينة «3» وبمصر من الليث بن سعد «4» وعبد الله بن

وهب «1» وعبد الرحمن بن القاسم «2» . وتفقه بالمدنيين والمصريين من أكابر أصحاب مالك بعد انتفاعه بمالك وملازمته له، وكان مالك يسميه عاقل الأندلس، وكان سبب ذلك فيما روي: أنه كان في مجلس مالك مع جماعة من أصحابه فقال قائل: قد حضر الفيل، فخرج أصحاب مالك كلهم لينظروا إليه ولم يخرج يحيى، فقال له مالك: ما لك لا تخرج تراه، لأنه لا يكون بالأندلس؟ فقال: أنا جئت من بلدي لأنظر إليك، وأتعلم منك هديك وعلمك، ولم أجئ لأنظر إلى الفيل. فأعجب به مالك وسماه/ (ص 234) عاقل الأندلس. ثم إن يحيى عاد إلى الأندلس وانتهت إليه الرئاسة بها، وبه انتشر مذهب مالك في تلك البلاد، وتفقه به جماعة لا يحصون عددا، وروى عنه خلق كثير، وأشهر روايات الموطأ وأحسنها روايته، وكان مع إمامته ودينه معظما عند الأمراء، مكينا عفيفا عن الولايات، متنزها، جلّت رتبته عن القضاء، فكان أعلى قدرا من القضاة عند ولاة الأمر هنالك لزهده في القضاء،

وامتناعه منه، قال ابن حزم «1» : مذهبان انتشرا في بدء أمرهما بالرياسة والسلطان مذهب أبي حنيفة، فإنه لما ولّى قضاء القضاة أبو يوسف «2» ، كانت القضاة من قبله فكان لا يولي قضاء البلدان من أقصى المشرق إلى أقصى إفريقية إلا أصحابه ومن انتمى إلى مذهبه، ومذهب مالك بن أنس عندنا في بلاد الأندلس، فإن يحيى بن يحيى كان مكينا عند السلطان مقبول القول في القضاة، وكان لا يلي قاض في أقطار بلاد الأندلس إلا بمشورته واختياره، ولا يشير إلا بأصحابه، ومن كان على مذهبه، والناس سراع إلى الدنيا، فأقبلوا على ما يرجون به بلوغ أغراضهم به على أن يحيى بن يحيى لم يل القضاء قط ولا أجاب، وكان ذلك زايدا في جلالته عندهم، وداعيا إلى قبول رأيه لديهم. وقال أحمد بن أبي الفياض «3» : كتب الأمير عبد الرحمن بن الحكم «4»

المرتضى صاحب الأندلس إلى الفقهاء يستدعيهم إليه، فأتوا إلى القصر، وكان عبد الرحمن المذكور قد نظر في شهر رمضان إلى جارية له كان يحبها حبا شديدا فعبث بها ولم يملك نفسه أن وقع عليها، ثم ندم شديدا، فسأل الفقهاء عن توبته من ذلك وكفارته، فقال يحيى بن يحيى: يكفّر ذلك يصوم شهرين متتابعين، فلما بدّر يحيى إلى هذه الفتيا سكت بقية الفقهاء/ (ص 235) حتى خرجوا من عنده، فقال بعضهم لبعض، وقالوا ليحيى مالك لم تفته بمذهب مالك؟ فعنده أنه مخير بين العتق والطعام والصيام، فقال: لو فتحنا له هذا الباب سهل عليه أن يطأ كل يوم ويعتق رقبة ولكن حملته على أصعب الأمور لئلا يعود. وقال محمد بن عمر بن لبابة «1» : فقيه الأندلس عيسى بن دينار «2» ، وعالمها عبد الملك ابن حبيب «3» ، وعاقلها يحيى بن يحيى، وكان أحمد بن

خالد «1» يقول: لم يعط أحد من أهل العلم بالأندلس منذ دخلها الإسلام من الحظوة وعظم القدر وجلالة الذكر ما أعطيه يحيى بن يحيى، وقال ابن بشكوال «2» : كان يحيى بن يحيى مجاب الدعوة، وكان قد أخذ في نفسه وهيئته ومقعده هيئة مالك. وحكي عنه أنه قال: أخذت ركاب الليث بن سعد «3» فأراد غلامه أن يمنعني، فقال: دعه، ثم قال لي الليث: خدمك العلم فلم تزل بي الأيام حتى رأيت ذلك. ثم قال ابن بشكوال: توفي يحيى في رجب سنة أربع وثلاثين ومائتين، وقبره بظاهر قرطبة بمقبرة ابن عيّاش يستسقى «4» به. وزاد الحميدي «5» أن وفاته كانت لثمان بقين من الشهر المذكور.

117 - بقي بن مخلد

ومنهم 117- بقيّ بن مخلد «1» الإمام شيخ الإسلام أبو عبد الرحمن القرطبي الحافظ صاحب المسند الكبير، والتفسير الجليل، والتقرير الجميل، والتقريب لما لم يدر في خلده، ولم يدر ما لابن مخلد منه خلد، أسوة أنظاره، وقدوة زمانه، والناس على آثاره، لو لم يكن للأندلس سواه لما فنيت عروشه، ولا فتئت في سن الفتاء «2» شموسه، ولا تجاسر الأصيل إذا غرّبت الشمس بذلك الأفق أن تشعشع كؤوسه، أقلع نوءه، وهذه غدره «3» وغاض بحره وهذه درره، وذهب زمانه وهذه/ (ص 236) مصنفاته وهذا خبره. ولد في شهر رمضان سنة إحدى ومائتين، وطوّف الشرق والغرب وشيوخه مائتان ونيّف وثمانون شيخا، وروى عنه جماعة، وكان إماما علما قدوة مجتهدا لا يقلّد أحدا، ثقة حجة صالحا عابدا متهجدا أواها منيبا عديم النظير في زمانه. قال أحمد بن أبي خيثمة «4» : ما كنا نسميه إلا المكنسة، وهل يحتاج بلد

فيه بقي أن يأتي منه إلينا أحد، وقال أبو الوليد «1» الفرضي: ملأ بقي الأندلس حديثا، وقال أبو عبد الملك القرطبي «2» في تاريخه: كان بقي طوالا أقنى ذا لحية مضبّرا «3» ، وكان متواضعا، ملازما لحضور الجنائز، وكان يقول: إني لأعرف رجلا كان تمضي عليه الأيام في وقت طلبه ليس له عيش إلا ورق الكرنب «4» . وقال بقي: لما رجعني من العراق أجلسني يحيى بن بكير «5» إلى جنبه وسمع مني سبعة أحاديث. وقد تعصبوا على بقي، لإظهاره مذهب أهل الأثر، فدفعهم عنه أمير الأندلس محمد بن عبد الرحمن «6» المرواني، واستنسخ كتبه، وقال

118 - محمد بن أبي نصر فتوح بن عبد الله بن فتوح بن حميد الأزدي الحميدي الأندلسي الميورقي

لبقي: انشر علمك، وقال بقيّ لقد غرست للمسلمين غرسا بالأندلس لا يقلع إلا بخروج الدجّال. وقال ابن حزم «1» : كان بقي ذا خاصة من أحمد بن حنبل وجاريا في مضمار البخاري ومسلم والنسائي، وقال بقي: كل من رحلت إليه فماشيا على قدمي، وكان بقي مجاب الدعوة، ويؤثر عنه إيثار حتى بثوبه، وقيل إنه كان يختم القرآن كل ليلة في ثلاث عشرة ركعة، ويسرد الصوم، وحضر سبعين غزوة، ومات في جمادى الآخرة سنة ست وسبعين ومائتين. ومنهم 118- محمد بن أبي نصر فتوح بن عبد الله بن فتوح بن حميد الأزدي الحميدي الأندلسي الميورقي «2» الحافظ المشهور، تنازعت فيه الجزائر، وسارعت/ (ص 237) إلى تلقي خياله الزائر، أفرشه الأندلس نمارقه الخضر فأباها، وأحلّه مفارقه البيض فنفس بنفسه على رباها، وأخذ يسمو سمّو حباب «3» الماء حالا على حال، ويتعقب سفائن بحر وسفائن آل «4» ، إلى أن نزل بكنف بغداد المخصب، وتطرّف بمطرف «5» العراق

المعشب، ثم حرّم على الرحال ظهورها، وإلى الارتحال ظهورها، وسكن بجانب دجلة لا يسقى إلا بمائها، ولا يظلّل إلا بسمائها، وحبّب إلى أهلها لوجود الملاءمة ووجوه المحاسن التي تخلّق بأخلاقها، وعداه اللائمة، أصله من قرطبة من ربض «1» الرصافة، وهو من أهل جزيرة ميورقة تجاه شرق الأندلس، روى عن أبي محمد ابن حزم واختص به، وأكثر من الأخذ عنه وشهر بصحبته، وعن أبي عمر بن عبد البر «2» وغيرهما من الأئمة، ورحل إلى الشرق سنة ثمان وأربعين وأربعمائة، فحج وسمع بإفريقية والأندلس وبمكة حرسها الله وشرّفها، وبمصر والشام والعراق، واستوطن بغداد، وكان موصوفا بالنباهة والمعرفة والإتقان والدين والورع، وكانت له نغمة حسنة في قراءة الحديث. وقال أبو نصر بن ماكولا «3» لم أر مثله في عفّته ونزاهته وتشاغله بالعلم، وكان من اجتهاده ينسخ بالليل في الحرّ، وكان يجلس في إجانة «4» ماء يتبرد به وكان إماما في الحديث وعلله ورواته، متحققا في علم التحقيق والأصول على مذهب أصحاب الحديث، متبحرا في علم الأدب والترسل، وله كتاب الجمع بين الصحيحين، وهو مشهور، وأخذه الناس عنه، وله مصنفات أخر مفيدة، توفي ليلة الثلاثاء سابع عشر ذي الحجة سنة ثمان وثمانين وأربعمائة ببغداد، ودفن من الغد بالقرب من قبر الشيخ

أبي إسحاق الشيرازي «1» ، وصلى عليه أبو بكر الشاشي «2» في جامع القصر، ثم نقل بعد ذلك في صفر سنة إحدى وتسعين وأربعمائة إلى/ (ص 238) مقبرة باب حرب، ودفن عند قبر بشر الحافي «3» ، ومولده قبل العشرين وأربعمائة، ومن نظمه: [الوافر] لقاء الناس ليس يفيد شيئا ... سوى الهذيان من قيل وقال فأقلل من لقاء الناس إلا ... لأخذ العلم أو لصلاح حال ومنه قوله: [الوافر] طريق الزهد أفضل ما طريق ... وتقوى الله بادية الحقوق فثق بالله يكفك واستعنه ... يعنك وذر بنيّات الطريق ومنه قوله: [الوافر] كتاب الله عز وجل قولي ... وما صحّت به الآثار ديني وما اتفق الجميع عليه بدءا ... وعودا فهو عن حق مبين فدع ما صدّ عن هذي وخذها ... تكن منها على عين اليقين

119 - خلف بن عبد الملك بن مسعود بن موسى بن بشكوال أبو القاسم الأنصاري الأندلسي

ومنهم 119- خلف بن عبد الملك بن مسعود بن موسى بن بشكوال أبو القاسم الأنصاري الأندلسي «1» القرطبي، محدث الأندلس ومؤرخها، ومتعب المساعي في مجاراته وموبّخها، ومسمع رممها الأموات بنداء تاريخه ومصرّخها، وكاتب آثارها بيديه ومستنسخها، حفظ عن السلف، وتأخّر ونعم الخلف خلف، وفخر وما تكلم إلا تصنيفه وما ثمّ إلا معترف، وذخر وما هو إلا علمه الطود الذي ما نسف، والبحر الذي ما نزف. ولد سنة أربع وتسعين وأربع مائة، قال أبو عبد الله الأبار «2» : كان متسع الرواية شديد العناية بها، عارفا أخباريا تاريخيا ذاكرا لأخبار الأندلس، سمع العالي والنازل وأسند/ (ص 239) عن شيوخه أزيد من أربع مائة كتاب، بين صغير وكبير، ورحل إليه الناس وأخذوا عنه، ووصفوه بصلاح الدخلة، وسلامة الاعتقاد، وصحة التواضع، وصدق الصبر للطلبة، وطول الاحتمال، ألّف خمسين تأليفا في أنواع العلم، وولي بأشبيلية قضاء بعض جهاتها نيابة لأبي بكر بن العربي» ،

120 - عبد الحق بن عبد الرحمن بن الحسين بن سعيد الحافظ أبو محمد الأزدي الإشبيلي

وعقد الشروط، ثم اقتصر على إسماع العلم وعلى هذه الصناعة، وهي كانت بضاعته، والرواة عنه لا يحصون، واستوعب ابن الزبير «1» ترجمته، وقال: كان يؤثر الخمول «2» والقناعة بالدون من العيش، ولم يتدنّس رحمه الله بخطة تحطّ من قدره، حتى لم يجد أحد إلى الكلام فيه من سبيل، توفي في ثامن شهر رمضان سنة ثمان وسبعين وخمسمائة عن أربع وثمانين سنة. ومنهم 120- عبد الحق بن عبد الرحمن بن الحسين بن سعيد الحافظ أبو محمد الأزدي الإشبيلي «3» ويعرف بابن الخرّاط، فاضل أرشفته الدنيا ريقها، وألحفته وريقها، ثم نغصت له جرعها، وخلعت عن منكبيه خلعها، واستردت منه أيّام عواريها، وردّت إليه سهام عواديها، وقلبت له ظهر مجنّها، ودهر أمنها، فنابته نوائبها، وأصابته صوائبها، وأخذ فيها من حيث ظنّ أنها سالمته، وقد اغترّ بأنها في زخرفها ساهمته، وخدعته بغرورها، وما عرف أنها أوهمته، سكن إليها وهي التي لا يسكن إليها ذو حجى، واطمأن بها وكيف يطمئن خابط في الدجى، سكن

بجاية وقت الفتنة التي زالت فيها الدولة اللمتونية «1» فنشر بها علمه، وصنّف التصانيف واشتهر اسمه، وبعد صيته وسعد قسمه، وولي خطابة بجاية. ذكره أبو عبد الله الأبار «2» فقال:/ (ص 240) كان فقيها حافظا عالما بالحديث وعلله، عارفا بالرجال، موصوفا بالخير والصلاح والزهد والورع، ولزوم السنة، والتقلل من الدنيا، مشاركا في الأدب وقول الشعر، وصنّف في الأحكام نسختين: كبرى وصغرى، سبقه إلى مثل ذلك أبو العباس بن أبي مروان «3» الشهيد بلبله، فحظي عبد الحق دونه، وله في الجمع بين الصحيحين مصنّف، وله أيضا مصنّف كبير جمع فيه بين الكتب الستة، وله مصنفات أخر، منها كتاب في اللغة حافل، ضاهى به كتاب الغريبين للهروي «4» . وتوفى ببجاية بعد محنة نالته من قبل الدولة في ربيع الآخر سنة إحدى وثمانين وخمس مائة. ومن شعره قوله: [الخفيف] إن في الموت والمعاد لشغلا ... وادّكارا لذي النهى وبلاغا فاغتنم خطّتين قبل المنايا ... صحة الجسم يا أخي والفراغا

121 - محمد بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن يحيى بن سيد الناس اليعمري الأندلسي الإشبيلي

ومنه قوله: [السريع] واها لدنيا ولمغرورها ... كم شابت الصفو بتكديرها إنّ امرءا أمّن في سربه ... ولم ينله سوء مقدورها وكان في عافية جسمه ... من مس بلواها وتغييرها وعنده بلغة يوم فقد ... حيزت إليه بحذافيرها «1» ومنهم 121- محمد بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن يحيى بن سيّد الناس اليعمري الأندلسي الإشبيلي «2» عالم المغرب، فاضل أشهر من ظهور النجوم في العتم، وأنفع من وجود الغنى في العدم، علم علم لا ينكر، وفضل لا يستحق معه أحد أن يذكر، وكان يرى مذهب أهل الظاهر لا يتعدّاه إلى قياس، ولا يوسع نظره في رأي خوف الالتباس، رقي صهوة المنبر معلنا بالخطب، وأعاد غصنا غضا/ (ص 241) تحته عود ذلك

122 - يزيد بن أبي حبيب الإمام الكبير أبو رجاء الأزدي

الحطب، ببلاغة جنى ثمرها يانعا، وجلا قمرها ولم يجد مانعا. ولد سنة سبع وتسعين وخمسمائة، وذكره الشريف عز الدين «1» في وفياته فقال: كان أحد حفّاظ الحديث المشهورين، وفضلائهم المذكورين، وبه ختم هذا الشأن بالمغرب. وقال ابن الزبير «2» : أجاز له نحو من أربعمائة، وانتقل إلى حصن القصر، ثم إلى طنجة، وأقرأ بجامعها وأمّ وخطب، ثم انتقل إلى بجاية، فخطب بجامعها، ثم طلب إلى تونس، فدرّس بها وكان ظاهريّ المذهب، توفي في رجب سنة تسع وخمسين وستمائة. وهذا آخر المحدّثين بالغرب الممحّض، ويأتي بعده من كان منهم بمصر، لأنها لسوء بختها في الغرب واقعة، وفي قسمها محسوبة إن لم يكن ثمّ أجوبة دافعة. فمنهم 122- يزيد بن أبي حبيب الإمام الكبير أبو رجاء الأزدي «3» مولاهم المصري، الفقيه الذي لو أودع الغمام لكان بجفنيه يقيه، ولو عقل الزمان لما سأل إلا أن الله (ينذر) حياته ويبقيه، أبدل أراجيف مصر سكونا، وتخاويف أهلها تأمينا، وسلّت فيها ملاحاة الملاحم، وملاواة الملاوم، حتى أعادها غرّآء آمنة في مدّته، بيضاء كصحيفة عمله الصالح لا جلدته، قال ابن يونس «4» : كان مفتي أهل

مصر، وكان عليما عاقلا، وهو أوّل من أظهر العلم بمصر، والمسائل في الحلال والحرام، وقبل ذلك كانوا يتحدثون في الترغيب والملاحم والفتن. وقال الليث بن سعد «1» : يزيد سيدنا وعالمنا، وقيل: إنّ يزيد أحد ثلاثة جعل إليهم عمر بن عبد العزيز «2» الفتيا بمصر، وقال ابن «3» لهيعة: كان أسود نوبيّا، ولد سنة ثلاث وخمسين، سمعته يقول: كان أبي من أهل دمقلة، ونشأت بمصر وهم/ (ص 242) علويّة يعني شيعة فقلبتهم عثمانية، وقال الليث: حدّثنا عبيد الله «4» بن جعفر، ويزيد بن أبي حبيب- وهما جوهرتا البلاد- كانت البيعة إذا جاءت لأحد كانا أول من يبايع.

123 - عبد الغني بن سعيد بن علي بن سعيد بن بشر بن مروان، الحافظ النسابة أبو محمد الأزدي المصري

وقال ابن لهيعة: مرض يزيد فعاده أمير مصر الحوثرة بن سهيل «1» ، فقال يا أبا رجاء ما تقول في الصلاة في الثوب فيه دم البراغيث؟ فحوّل وجهه، ولم يكلمه، فقام ونظر إليه يزيد، وقال: يقتل كل يوم خلقا، ويسألني عن دم البراغيث!! وقال يزيد: لا أدع أخا لي يغضب عليّ مرتين، بل أنظر الأمر الذي يكره فأدعه، وأرسل زبّان «2» بن عبد العزيز إلى يزيد ايتني لأسألك عن شئ من العلم، فأرسل إليه، بل أنت فأتني فإن مجيئك إليّ زين لك ومجيئ إليك شين عليك. توفي سنة ثمان وعشرين ومائة. ومنهم 123- عبد الغني بن سعيد بن علي بن سعيد بن بشر بن مروان، الحافظ النّسابة أبو محمد الأزدي المصري «3» مفيد تلك الناحية ومفيد شموسها الضاحية، وأيامها الممطرة إلا أنها الصاحية، ولياليها المطّهرة من قول اللّاحية «4» ، وأوقاتها التي جاءت بآية النهار لآية الليل ماحية، فطن لا يحتاج أن يكدح، وألمعيّ «5» في زناد ذهنه لا يقدح،

عارف بالنسب تعد منه خصائله، وتعدد به قبائله، وشعوبه وفصائله، ردّ جوهر كل نسب إلى معدنه، وتبين من آدم مرمى كل فريق تفرّق وموطنه، عارف فيهم بالممادح والمذامّ لكنه لم يتعود من القول غير أحسنه. قال البرقاني «1» : لما قدم الدارقطني «2» من مصر سألته هل رأيت في طريقك من يفهم شيئا من العلم؟ قال: ما رأيت في طول طريقي إلا شابا بمصر يقال له عبد الغني/ (ص 243) كأنه شعلة نار، وجعل يفخم أمره، ويرفع ذكره، وقال منصور بن علي الطرسوسي «3» : لما أراد الدارقطني الخروج من عندنا من مصر، خرجنا نودعه وبكينا، فقال: تبكون وعندكم عبد الغني بن سعيد وفيه الخلف، وقال عبد الغني: لما رددت على أبي عبد الله «4» الحاكم الأوهام التي في المدخل إلى الصحيح بعث إليّ يشكرني ويدعو لي، فعلمت أنه رجل عاقل. وقال العتيقي «5» : كان عبد الغني إمام زمانه في علم الحديث وحفظه، ثقة مأمونا، ما رأيت بعد الدارقطني مثله، وقال البرقاني: ما رأيت بعد الدار

قطني أحفظ من عبد الغني المصري، وقال الصوري «1» : قال لي عبد الغني ابتدأت بعمل كتاب المختلف والمؤتلف، فقدم علينا الدارقطني، فأخذت عنه أشياء كثيرة منه، فلما فرغته «2» ، سألني أن أقرأه (لأسمعه) «3» مني، فقلت: عنك أخذت أكثره، فقال: لا تقل هذا، فإنك أخذته عني مفرّقا، وقد أوردته مجموعا، وفيه أشياء عن شيوخك، فقرأته عليه. وذكر أبو الوليد «4» الباجيّ عبد الغني فقال: حافظ متقن، قلت لأبي «5» ذر: أخذت عنه؟ قال: لا إن شاء

124 - أبو طاهر الأصبهاني واسمه أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن إبراهيم بن سلفة الأصبهاني

الله، على معنى التأكيد، وذلك أنه كان له اتصال ببني عبيد «1» . توفى في سابع صفر سنة تسع وأربعمائة، وكان له جنازة عظيمة، تحدث بها الناس، ونودي له: هذا نافي الكذب عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومنهم 124- أبو طاهر الأصبهاني واسمه أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن إبراهيم بن سلفة الأصبهاني «2» صدر الدين، أحد الحفاظ المكثرين، أتى مصر، ومذهب الإسماعيلية «3» بها قد أخذ على كل مذهب، وأخذ بكل مذهب/ (ص 244) ، وعقارب تلك العقائد المسمومة قد دبّت في تلك الأقطار، وضلال تلك الأفاعي المساورة «4» قد تمكنت في تلك الديار، وقد أميت علم الحديث والتاريخ والنسب، وأفيت «5»

في فايت الحقب، وجعل إلى أذية «1» من عرفه أو قال به أعظم سبب بأضعف سبب، ليحفوا «2» تلك الأنساب الدعية المدخولة، ويطيروا بقوادم تلك الأحساب الوضيعة المرذولة، فقام مشمرّا للعزائم مجاهرا لا ترده اللوائم، حتى أحيا ميت السّنّة، وأمات حيّ البدعة، وفعل ما شكر الله له والإسلام عليه صنعه، وكأنما كان ممهّدا لبني أيوب «3» ومقدما لمآثرهم التي أقسمت الأيام أنها بمثلها لا تؤوب. رحل في طلب الحديث ولقي أعيان المشايخ، وكان شافعي المذهب، ورد بغداد واشتغل بها على الكيا الهرّاسي «4» في الفقه، وعلى أبي زكريا «5» يحيى

التبريزي اللغوي في اللغة، وجاب البلاد وطاف الآفاق، ودخل ثغر الإسكندرية سنة إحدى عشرة وخمسمائة، وأقام به، وقصده الناس من الأماكن البعيدة، وسمعوا عليه وانتفعوا به، ولم يكن في آخر عمره في عصره مثله، وبنى له العادل أبو الحسن عليّ بن السلّار «1» وزير الظافر «2» صاحب مصر سنة ست وأربعين وخمسمائة مدرسة بالثغر المذكور، وفوّضها إليه، وهي معروفة به إلى الآن، وكتب الكثير، وأماليه وتعاليقه كثيرة، ومولده سنة اثنتين وسبعين وأربعمائة تقريبا بأصبهان، وتوفي ضحوة نهار الجمعة، وقيل ليلة الجمعة خامس شهر ربيع الآخر سنة ست وسبعين وخمسمائة بالإسكندرية.

125 - عبد المؤمن بن خلف بن أبي الحسن التوني الدمياطي الشافعي شرف الدين أبو محمد

ومنهم 125- عبد المؤمن بن خلف بن أبي الحسن التوني الدمياطي الشافعي شرف الدين أبو محمد «1» الفقيه الحافظ النّسابة، صاحب التصانيف، أكثر من أدركت/ (ص 245) بمصر من السادات- بل كلهم- عن علمه أخذ، ومن فهمه فلذ، وبسهمه نفذ فأصاب المفاصل، ونبذ به ماء جرى، رويقا في المناصل، ولم أجد إلا لهجا بذكره لا يفتر منه لسانه، ولا ينكر لديهم في غاية إحسانه، وكان الناس في رتبة ما عداه أشباه وأنظار ما فيهم غيره من تعقد عليه حباه، وله رحلة هي قصارى من ارتحل في زمانه، وحل بلادا غير بلاده، وأوطانا غير أوطانه. ولد في آخر سنة ثلاث عشرة وستمائة بتونة «2» ، وتفقه بدمياط، وبرع ثم طلب الحديث فارتحل إلى الإسكندرية ومصر ودمشق وحماه وحلب وماردين وحرّان وبغداد. وحمل عن ابن خليل «3» حمل دابّة كتبا وأجزاء وكتب العالي والنازل وجمع

فقهاء المحدثين: الجانب الشرقى

فأوعى وسكن دمشق فأكثر عن ابن مسلمة «1» وغيره. ومعجم شيوخه يبلغ ألفا وثلاثمائة نفر، وكان صادقا حافظا متقنا جيّد العربية، غزير اللغة، واسع الفقه، رأسا في علم النسب ناقلا للقراءات دينا كيّسا، متواضعا بسّاما، محببا إلى الطلبة مليح الصورة، نقي الشيبة، كبير القدر. قال أبو الحجاج المزي «2» : ما رأيت في الحديث أحفظ منه، وروى عنه، وتوفي فجأة بعد أن قرئ عليه الحديث، فأصعد إلى بيته مغشيا عليه في منتصف ذي القعدة سنة خمس وسبعمائة بالقاهرة. وصلّي عليه بدمشق في أول جمعة من ذي الحجة. وبه تم الحفّاظ بالجانب الغربي ممن أخرج من سباسب «3» الأوطان، وأدرج في سبايب الأكفان، وأصبح أثرا بعد عين، وحبرا يسأل عنه بكيف بعد أين. [فقهاء المحدثين: الجانب الشرقى] وسنذكر بعدهم فقهاء المحدثين: إذ كانوا المستنبطين لأحكامه، والمتبسطين لإحكامه، والمنبئين في علمه بالوصول، والمبينين بفهمه لمراد الرسول وتبيين ما أراده عليه أفضل الصلاة والسلام فيما يقول. (ص 246) وأبدأ فيهم بالجانب الشرقي فأقول:

126 - علقمة بن قيس بن عبد الله بن مالك

منهم 126- علقمة بن قيس بن عبد الله بن مالك «1» فقيه العراق، الإمام أبو شبل النخعي الكوفي، خال إبراهيم «2» ، وعم الأسود «3» . لقن «4» بالحديث وفقهه، وفطن للأمر وشبهه، تصدر في الصدر الأول، وتصوّر الحقائق حتى كان عليه المعوّل، وكان في ذلك الجبل واضطربوا ولم ينكل «5» ، واضطروا إلى أن سألوا منه عما أشكل، ولم تكن لتعرض عليه مبهمة إلا يجليها لوقتها، ولا مشكلة إلا يزيل لباس مقتها «6» ، وكان مما إذا قرأ حرّك

127 - القاضي شريح بن الحارث بن قيس بن الجهم الكندي

الجماد، وإذا قرر علما استنبط الثّماد «1» ، وإذا قدّر شيئا لا يخطئه ولو بعدت به الآماد. ولد في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولحق الجاهلية «2» وسمع من عمر وعثمان وعليّ وابن مسعود وأبي الدرداء. وجوّد القرآن على ابن مسعود وتفقّه به، فكان أنبل أصحابه، حتى قال ابن مسعود: ما أقرأ شيئا وما أعلم شيئا إلا علقمة يقرؤه ويعلمه، وقال قابوس بن ظبيان «3» : قلت لأبي: لأي شئ كنت تدع الصحابة وتأتي علقمة؟ قال: أدركت ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يسألون علقمة، ويستفتونه. وكان فقيها إماما بارعا، طيّب الصوت بالقرآن، ثبتا فيما ينقل، صاحب خير وورع، كان يشبّه بابن مسعود في هديه وسمته ودلّه وفضله وكان أعرج، أخذ عنه طائفة، ومات سنة اثنتين وستين. ومنهم 127- القاضي شريح بن الحارث بن قيس بن الجهم الكندي «4» هو الذي إلى الآن يضرب به المثل، ويحدّث عنه العجب، بحر لجيّ لا يمشى

فيه إلا مساحله، وبرّ فسيح لا يسلك إلا مساهله، وربّ فضل لا تعدّ فواضله، وفعل يرضيك/ (ص 247) جدّه ويلهيك باطله، لا يسأم معه في مراح «13» ، ولا يسأم له حقّ يحببه مزاح. أرضى مثل عمر بن الخطاب رضي الله عنه قضاؤه، ومات على الرضى عنه «1» وحسبك من مثل ذلك الشديد في دين الله إرضاؤه. كان من كبار التابعين، وأدرك الجاهلية، واستقضاه عمر بن الخطاب على الكوفة، فأقام قاضيا خمسا وستين سنة، لم يتعطل فيها إلا ثلاث سنين امتنع من القضاء فيها، في فتنة ابن الزبير «2» ، واستعفى الحجاج بن يوسف «3» ، من القضاء فأعفاه، ولم يقض بين اثنين حتى مات، وكان أعلم الناس بالقضاء، ذا ذكاء وفطنة ومعرفة وعقل وإصابة.

قال ابن عبد البر «1» : كان شاعرا محسنا، وهو أحد السادات الطلس «2» وهم أربعة: عبد الله بن الزبير، وقيس بن سعد بن عبادة «3» ، والأحنف بن قيس «4» - الذي يضرب به المثل في الحلم- والقاضي شريح المذكور.- والأطلس الذي لا شعر في وجهه- وكان مزّاحا، دخل عليه عديّ بن أرطأة «5» فقال له: أين أنت- أصلحك الله-؟ قال: بينك وبين الحائط، قال: اسمع مني. قال: قل أسمع، قال: إني رجل من أهل الشام، قال: مكان سحيق، قال: وتزوجت عندكم، قال:

بالرفاه والبنين. قال: وأردت أن أرحلها «1» ، قال: الرجل أحق بأهله، قال: وشرطت لها دارها. قال: الشرط لها. قال: فاحكم الآن بيننا، قال: قد فعلت، قال: فعلى من حكمت؟. قال: على ابن أمك، قال: بشهادة من؟ قال: بشهادة ابن اخت خالتك. وروي أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه دخل مع خصم ذميّ على القاضي شريح فقام له، فقال: هذا أوّل جورك، ثم أسند ظهره إلى الجدار، فقال: أما إن خصمي لو كان مسلما لجلست بجنبه. وتزوج شريح امرأة من بني تميم تسمى زينب، فنقم عليها شيئا فضربها، ثم ندم وقال: [الطويل] رأيت رجالا يضربون نساءهم ... فشلّت يميني يوم أضرب زينبا/ (ص 244) أأضربها من غير ذنب أتت به ... فما العدل مني ضرب من ليس مذنبا فزينب شمس والنساء كواكب ... إذا طلعت لم تر منهن كوكبا وروي أن عليا رضي الله عنه قال: اجمعوا لي القراء، فاجتمعوا في رحبة المسجد، فقال: أوشك أن أفارقكم، فجعل يسائلهم- يقولون في كذا ما تقولون في كذا- وشريح ساكت، فلما فرغ منهم، قال: اذهب فأنت من أفضل الناس، أو من أفضل العرب.

ويروى أن زياد بن أبيه «1» كتب إلى معاوية «2» : يا أمير المؤمنين، قد ضبطت لك العراق بشمالي، وفرّغت يميني لطاعتك، فولّني الحجاز، فبلغ ذلك عبد الله بن عمر «3» ، وكان مقيما بمكة، فقال: اللهم اشغل عنا يمين زياد، فأصابه الطاعون في يمينه، فجمع الأطباء، واستشارهم فأشاروا عليه بقطعها، فاستدعى القاضي شريحا، وعرض عليه ما أشار به الأطباء، فقال له: لك رزق معلوم وأجل مقسوم، وإني أكره إن كانت لك مدّة أن تعيش في الدنيا بلا يمين، وإن كان قد دنا أجلك، أن تلقى ربك مقطوع اليد، فإذا سألك لم قطعتها؟ قلت: بغضا في

128 - سعيد بن المسيب بن حزن بن أبي وهب بن عمرو بن عايذ بن عمران بن مخزوم القرشي المدني

لقائك. فلام الناس شريحا على منعه من القطع، لبغضهم له. فقال: إنه استشارني، والمستشار مؤتمن، ولولا الأمانة في المشورة، لوددت أن قطع رجله يوما، ويده يوما، وسائر جسده يوما يوما، ومات زياد في يومه ذلك. وتوفي شريح سنة سبع وثمانين وهو ابن مائة سنة، وقيل سنة ثمان وسبعين. قاله الحافظ أبو عبد الله الذهبي «1» . ومنهم 128- سعيد بن المسيّب بن حزن بن أبي وهب بن عمرو بن عايذ بن عمران بن مخزوم القرشي المدني «2» أحد الفقهاء السبعة بالمدينة، والنبهاء الفضل الموقدينه، والنبلاء الممدين الغمام المرفدينه، أجل التابعين/ (ص 249) وأجدّ ما يلج المسامع طربا لو وعين، سر ذلك الصدر المكتنف، وعميم ذلك البر المؤتنف، والفطن كأنه إذا سئل يعلم المغيّب، والفذ الفريد وكفى إذا قيل قال أو فعل سعيد بن المسيّب. ولد لسنتين مضتا من خلافة عمر، وسمع منه شيئا وهو يخطب، وكان سيّد التابعين من الطراز الأول، جمع بين الحديث والفقه والزهد والعبادة والورع، قال عبد الله بن عمر لرجل سأله عن مسألة: إيت ذاك فسله- يعني سعيدا- ثم ارجع إليّ فأخبرني، ففعل ذلك وأخبره، فقال: ألم أخبركم أنه أحد العلماء

السبعة؟ وقال في حقه أيضا لأصحابه: لو رأى هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم لسرّه. وكان قد لقي جماعة من الصحابة وسمع منهم، ودخل على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأخذ عنهن، وأكثر روايته [المسندة] «1» عن أبي هريرة. وكان زوج ابنته «2» ، وسئل الزهري «3» ومكحول «4» : من أفقه من أدركتما؟ فقالا: سعيد بن المسيّب. وحج أربعين حجة، وقال: ما فاتتني التكبيرة الأولى منذ خمسين سنة، وما نظرت إلى قفا رجل في الصلاة منذ خمسين سنة، لمحافظته على الصف الأول، وقيل: إنه صلّى الصبح بوضوء العشاء خمسين سنة. وكان واسع العلم، وافر الحرمة، متين الديانة، قوّالا بالحق، فقيه النفس، قال قتادة «5» : ما رأيت أحدا أعلم من سعيد بن المسيب، وكذا قال الزهري ومكحول وغير واحد، وصدقوا.

وقال علي بن المديني «1» : لا أعلم في التابعين أوسع علما من سعيد، هو عندي أجل التابعين. وكان لا يقبل جوائز السلطان، وله أربعمائة دينار يتّجر فيها. وقال سعيد: ما أعلم أحدا أعلم بقضاء قضى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم/ (ص 250) ولا أبو بكر وعمر مني، وكان الحسن «2» إذا أشكل عليه شئ كتب إلى ابن المسيّب يسأله، وقال المطلب بن السائب «3» : كنت جالسا مع ابن المسيّب في السوق، فمرّ بريد لبني مروان «4» ، فقال له سعيد: من رسل بني مروان أنت؟ قال: نعم. قال: كيف تركت بني مروان؟ قال: بخير، قال: تركتهم يجيعون الناس، ويشبعون الكلاب؟ فاشرأب «5» الرسول، فقمت إليه، فلم أزل أرجّيه حتى انطلق، فقلت لسعيد: يغفر الله لك تشيط «6» بدمك بالكلمة هكذا تلقيها؟

فقال: اسكت يا أحيمق، فو الله لا يسلمني الله ما أخذت بحقوقه. وقال مصعب بن عثمان «1» : أراد مسلم بن عقبة «2» قتل سعيد بن المسيّب فشهد عمرو بن عثمان «3» ، ومروان بن الحكم أنه مجنون فخلى سبيله. وقال ابن سعد توفي عبد العزيز بن مروان «4» ، فعقد عبد الملك «5» لابنيه «6» العهد، وكتب بالبيعة لهما إلى البلدان، فدعا هشام المخزومي «7» - عامله على المدينة

- الناس إلى البيعة، فبايعوا، وأبى سعيد بن المسيّب أن يبايع لهما، وقال: حتى أنظر، فضربه ستين سوطا، وطاف به في تبان «1» من شعر حتى بلغ به رأس الثنيّة «2» ، فلما كرّوا به قال: إلى أين؟ قالوا السجن. قال: والله لولا أني ظننت أنه الصلب ما لبست هذا التبان أبدا، فردّوه إلى السجن، وكتب هشام إلى عبد الملك بخلافه، فكتب إليه عبد الملك يلومه فيما صنع به، ويقول سعيد كان والله أحوج إلى أن تصل رحمه من أن تضربه، وإنا لنعلم ما عند سعيد شقاق ولا خلاف، فندم هشام وخلّى سبيله. وقال عمران بن عبد الله «3» : أرى نفس سعيد بن المسيّب كانت أهون عليه في الله من نفس ذباب. ومن مفردات سعيد بن المسيّب أن المطلقة ثلاثا تحلّ للأول بمجرد عقد الثاني من غير وطء «4» / (ص 251) توفي على الصحيح سنة أربع وتسعين.

129 - عروة بن الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى القرشي الأسدي

ومنهم 129- عروة بن الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزّى القرشي الأسدي «1» أحد الفقهاء السبعة بالمدينة. والعلماء أهل الدرجات المكينة، والصلحاء أصحاب الديانة المتينة، والأكفاء من رجال طيبة أخت البلدة الأمينة، والقرناء لما بين لابتيها «2» ونعم القرين ونعم القرينة، كان في صباه بين لدات من أقرانه وإخوته وإخوانه بالمسجد الحرام فتمنوا الأماني من الدنيا والملك وتمنى الجنة والنساء، فلم يبق رجل منهم حتى نال أمنيته، ونال الواحدة ولا عجب أن يكون بلغ الثانية لما بلغ منيّته. ذكر العتبي «3» أن المسجد الحرام جمع بين عبد الملك بن مروان «4» ، وعبد الله بن الزبير «5» وأخويه مصعب «6» وعروة أيام تألفهم بعهد معاوية بن أبي

سفيان، فقال بعضهم: هلمّ فلنتمنّه فقال عبد الله: منيتي أن أملك الحرمين وأنال الخلافة، وقال مصعب: منيتي أن أملك العراقين وأجمع بين عقيلتي قريش سكينة بنت «1» الحسين وعائشة بنت «2» طلحة، وقال عبد الملك بن مروان: منيتي أن أملك الأرض كلها، وأخلف معاوية. فقال عروة: لست في شئ مما أنتم فيه، منيتي الزهد في الدنيا، والفوز بالجنة في الآخرة، وأن أكون ممن يروى عنه هذا العلم. قال: فصرّف الدهر من صروفه إلى أن بلغ كل واحد منهم أمله، فكان عبد الملك بعد ذلك يقول: من سرّه أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة في الدنيا فلينظر إلى عروة بن الزبير. ولد عروة سنة نيف وعشرين للهجرة وأمّه أسماء بنت أبي بكر الصديق ذات النطاقين «3» ، وإحدى عجائز الجنة، وهو شقيق عبد الله بن الزبير بخلاف مصعب فإن أمه غير أسماء

وقد وردت الرواية عنه في حروف القرآن، وسمع خالته/ (ص 252) أم المؤمنين عائشة، وروى عنه خلق، وكان عالما صالحا، وأصابته الأكلة في رجله وهو بالشام عند الوليد «1» بن عبد الملك، فقطعت رجله في مجلس الوليد، والوليد مشغول عنه بمن يحدّثه، فلم يتحرك ولم يشعر الوليد أنها قطعت حتى كويت، فوجد رائحة الكيّ، كذا قال ابن قتيبة «2» ، ولم يترك ورده تلك الليلة، ويقال: إنه مات ولده محمد في تلك السفرة، فلما عاد إلى المدينة، قال: لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا، وعاش بعد قطع رجله ثمان سنين. وذكر المبرّد «3» في كتاب التعازي أن عروة قدم على الوليد بن عبد الملك ومعه ولده محمد بن عروة، فدخل محمد دار الدواب فضربته دابّة فخر ميتا، ووقعت في رجل عروة الآكلة، ولم يدع تلك الليلة [ورده] «4» فقال له الوليد اقطعها، قال: لا، فترقت إلى ساقه، فقال له الوليد: اقطعها وإلا أفسدت عليك جسدك، فقطعها بالمنشار، وهو شيخ كبير ولم يمسكه أحد، وقال: لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا. وقدم على الوليد بن عبد الملك قوم من بني عبس تلك السنة فيهم رجل

ضرير، فسأله الوليد عن عينه، فقال: يا أمير المؤمنين بت ليلة في بطن واد، ولا أعلم عبسيا يزيد ماله على مالي، فطرقنا سيل فذهب بما كان لي من أهل ومال وولد غير بعير وصبي مولود، وكان البعير صعبا فندّ، فوضعت الصبيّ واتّبعت البعير، فلم أجاوز إلا قليلا حتى سمعت صيحة ابني ورأسه في فم الذئب وهو يأكله، ولحقت البعير لأحبسه، فنفحني برجله على وجهي فحطمه وذهبت عيناي، وأصبحت لا مال لي ولا أهل ولا ولد ولا بصر. فقال الوليد: والله ما بك حاجة إلى المشي ولا أرب في السعي وقد تقدّمك عضو من أعضائك وابن من أبنائك إلى الجنة، والكل تبع للبعض/ (ص 253) إن شاء الله تعالى، وقد أبقى الله لنا منك ما كنّا إليه فقراء، وعنه غير أغنياء من علمك ورأيك، نفعك الله وإيانا به، والله وليّ ثوابك والضمين لحسابك «1» . ولما قتل عبد الله بن الزبير قدم أخوه عروة على عبد الملك بن مروان، فقال له يوما: أن تعطيني سيف أخي عبد الله، فقال: هو بين السيوف ولا أميّزه من بينها فقال عروة: إذا حضرت السيوف ميّزته أنا، فأمر عبد الملك بإحضارها فلما حضرت أخذ منها سيفا مفلّل «2» الحد، فقال: هذا سيف أخي، فقال عبد الملك، كنت تعرفه قبل الآن، فقال: لا. فقال: كيف عرفته؟ فقال بقول النابغة الذبياني «3» : [الطويل] ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب واحتفر عروة بئرا بالمدينة وهي منسوبة إليه ليس بالمدينة بئر أعذب من مائها.

130 - أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي المخزومي

وتوفي بالفرع «1» في سنة الفقهاء وهي سنة أربع وتسعين، ودفن هناك رحمه الله. ومنهم 130- أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي المخزومي «2» أحد الفقهاء السبعة، الذين هم السبعة الشهب السواري، والكواكب الدراري، والأيام السبعة التي هي الدهر كله، والأفلاك السبعة التي هي العالم أو جلّه. وكان يسمى راهب قريش لملازمة معبده، ومداومة تعبده، دينا عمّر باطنه، وعمّ مواطنه، حتى شفّ من وراء زجاجته، وخفّ معه فلم يقعد في طلب مراضي الله عن قضاء حاجته. اسمه في الصحيح كنيته، ويقال: اسمه محمد، وكان من سادات التابعين، وانتشر عنه وعن باقي الفقهاء السبعة العلم والفتيا في الدنيا. / (ص 254) واستصغر يوم الجمل فردّ من عسكر طلحة «3» ، وكان ثقة

131 - سعيد بن جبير الوائلي مولاهم الكوفي

فقيها إماما كثير الرواية، سخيا صالحا عابدا متألها وكان مكفوفا، توفي بالمدينة سنة أربع وتسعين، ومولده في خلافة عمر. ومنهم 131- سعيد بن جبير الوائلي مولاهم الكوفي «1» الفقيه أحد الأعلام والتابعين في صدر الإسلام، قتل في وفائه، وختل دون تكدير صفائه، أعطى موثقا لم يخنه والموت يصالته جهرا، والسيف ينظر إليه شزرا، وعدوا لله مبير «2» ثقيف تتوقد نار غضبه، وتثوقل «3» الكبرياء في هضبه، وهو بجنان لا يخامره الوهل، ولا يخادعه حبّ المهل، مقدما بين يديه المسير متقدما لا يحب التأخر لما يعرفه من حسن المصير. سمع ابن عباس فأكثر عنه، وروى عن عدي بن حاتم «4» وعبد الله بن

مغفل «1» وطائفة، وروى عنه خلق، وكان ابن عباس إذا حج أهل الكوفة وسألوه يقول: أليس فيكم سعيد بن جبير؟ وقال أشعت بن إسحاق «2» : كان يقال لسعيد بن جبير جهبذ «3» العلماء، وقال القاسم بن أبي أيوب «4» : كان يبكي بالليل حتى عمش، وسمعته يردد هذه الآية؟ واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله.. بضعا وعشرين مرة، وقيل: إنه قام ليلة في جوف الكعبة فقرأ القرآن في ركعة، وروي أنه كان يختم القرآن في كل ليلتين، وروى الثوري «5» عن عمر بن سعيد «6» قال: دعا سعيد بن جبير ولده لما قتل فجعل يبكي، فقال: ما يبكيك؟ قال: ما بقاء أبيك بعد سبع وخمسين سنة؟ وقال ابن عيينة «7» : لما أتي بسعيد ابن جبير إلى الحجاج، قال: أنت شقي بن كسير. قال: أنا سعيد بن جبير، قال: لأقتلنك، قال: أنا إذا كما سمتني أمي. ثم قال:/ (ص 255) دعوني أصلي

ركعتين، قال: وجهوه إلى قبلة النصارى، قال: «فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ» البقرة/ 115، ثم قال: إني أستعيذ منك بما عاذت به مريم «إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا» مريم/ 18، وقال عتبة «1» مولى الحجاج: حضرت سعيد بن جبير، فجعل الحجاج يقول له: ألم أفعل بك؟ فيقول: بلى، قال فما حملك على ما فعلت؟ قال: بيعة كانت عليّ، فغضب وصفّق بيديه، وقال: بيعة أمير المؤمنين كانت أسبق وأولى، وأمر به فقتل، وكان قتل الحجاج له لكونه قاتل مع ابن الأشعث «2» . وكان سعيد قد هرب من الحجاج إلى مكة، فأرسل الحجاج [يطلب] «3» من الوليد «4» جماعة قد التجئوا إلى مكة، فكتب الوليد إلى عامله على مكة خالد ابن عبد الله القسري «5» يأمره بإرسال من يطلبه الحجاج، فطلب الحجاج سعيد

132 - إبراهيم بن يزيد بن الأسود الفقيه الكوفي النخعي

ابن جبير وغيره، فأرسل خالد بن عبد الله كل من طلبه الحجاج، وكان فيهم سعيد بن جبير فقتله الحجاج. وكان قتله في شعبان سنة خمس وتسعين، وله تسع وأربعون سنة على الأشهر، وقيل عاش بضعا وخمسين سنة، وكان أسود اللون، أبيض الرأس واللحية، قال ميمون بن مهران «1» ، مات سعيد وما على ظهر الأرض رجل إلا ويحتاج إلى علمه. وكان لا يدع أحدا يغتاب عنده، وكان يصلي في الطاق «2» ولا يقنت في الصبح، ويعتمّ عمامة ويرخيها شبرا من ورائه. ومنهم 132- إبراهيم بن يزيد بن الأسود الفقيه الكوفي النخعي «3» أحد الأئمة المشاهير تابعي، ما خرج عن الطريق، ولوذعي تشبّ لنار فطنته حريق، وألمعي «4» لا يخطئ رأيه رائد التوفيق، تقيّل «5» سنّة داوود صياما، وتقلل من الدهر فقسّمه أياما مع خوف لمقام ربه، واستعداد للموت وكربه، حتى

إذا حضره الموت، وحصره عدم الفوت، وتحقق المسير دون المصير، تمنّى بقاء حالة النزاع، ومعالجة سكرات الموت البشاع، خوفا مما لا يدري ما يقدم عليه ويقدّم إليه، قول صادق غير كاذب، ومنى حق لا يخادعها وحبل وريده في يد الجاذب. رأى عائشة رضي الله عنها، ودخل عليها وهو صبي، ولم يثبت له منها سماع، وأخذ عنه خلق، وكان من العلماء ذوي الإخلاص، قال مغيرة «1» : كنا نهاب إبراهيم كما نهاب الأمير، وقال الأعمش «2» : ربما رأيت إبراهيم يصلي، ثم يأتينا فيبقى ساعة/ (ص 256) كأنه مريض. وقال الأعمش: كان إبراهيم صيرفيا في الحديث، وكان يتوقّى الشهرة، ولا يجلس إلى أسطوانة، وقال الحسن بن عمرو الفقيمي «3» : كان إبراهيم يشتري الوزّ ويسمّنه ويهديه إلى الأمراء، وقال ابن عون «4» : كان إبراهيم يأتي الأمراء ويسألهم الجوائز، وقال حماد «5» : بشّرت إبراهيم بموت الحجاج، فسجد وبكى من الفرح، وقال سعيد بن جبير: تستفتونني وفيكم إبراهيم النخعي؟ وكان يصوم يوما ويفطر يوما، ولا يتكلم في العلم إلّا أن يسأل، ولما حضرته الوفاة جزع جزعا شديدا، فقيل له في ذلك،

133 - عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي

فقال: وأي خطر أعظم مما أنا فيه، أنا أتوقع رسولا يرد عليّ من ربي، إما بالجنة، وإما بالنار، والله لوددت أنها تلجلج «1» في حلقي إلى يوم القيامة. توفي سنة ست وقيل سنة خمس وتسعين للهجرة. قال الشعبي «2» : ما خلف بعده مثله. ومنهم 133- عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي «3» أحد الفقهاء السبعة وابن أخي عبد الله بن مسعود «4» ، لقي خلقا كثيرا من الصحابة رضي الله عنهم، حلّق إليهم فصحب، ولحق بهم وما سحب، وكان فيه ظرف عبّاد الحجاز، ولطف عشّاق ذلك الزمان مع الزيادة على ما فيهم من عفاف وكرم، وورع لا ينكر لأهل الحرم، كان من أعلام التابعين، وأعلى المتابعين، والمقفين على آثار من سلف تحت الشجرة «5» من المبايعين، والذين مضت فرّاطهم «6» أمما قبلهم ومضوا بعدهم متتابعين، سمع ابن عباس وأبا هريرة

134 - خارجة بن زيد بن ثابت بن الضحاك بن زيد بن لوذان أبو زيد الأنصاري

وعائشة: قال الزهري «1» : أدركت أربعة بحور فذكر منهم عبيد الله المذكور، وقال أيضا: سمعت من العلم شيئا كثيرا، فظننت أني اكتفيت حتى لقيت عبيد الله ابن عبد الله، فإذا كأني ليس في يدي شيء، وقال عمر بن عبد العزيز «2» : لأن يكون لي مجلس/ (ص 257) من عبيد الله أحب إلي من الدنيا، وكان ناسكا، وتوفي سنة ثمان ومائة، وله شعر، فمن ذلك ما أورده له صاحب الحماسة «3» فيها: [الوافر] شققت القلب ثم ذررت فيه ... هواك فليم فالتأم الفطور «4» تغلغل حب عثمة «5» في فؤادي ... فباديه مع الخافي يسير توغّل حيث لم يبلغ سراب ... ولا حزن ولم يبلغ سرور ولما قال هذا الشعر، قيل له: أتقول مثل هذا؟ فقال: في اللدود «6» راحة المفقود «7» ، وهو القائل لا بدّ للمصدور أن ينفث. ومنهم 134- خارجة بن زيد بن ثابت بن الضحاك بن زيد بن لوذان أبو زيد الأنصاري «8» أحد الفقهاء السبعة، والعلماء أهل السمعة، ولد المستأمن على جمع القرآن،

والمستأمر في عظيم هذا الشأن ابن كاتب الوحي، وصاحب الوعي، ما قصّر عن السّبق، ولا تأخر إذ حلّق، ولا انقطع عن ذيل ذلك السلف الذي به تعلّق، ما جحد علوّ قدره إلا من لا يعرف مدارجه، ولا أمّل الرقيّ إليه إلا أنكر معارجه، ولا فضّل عليه سواه إلا ظهر له باطل رأيه، فقال أردت عمرا، وأراد الله خارجة. قال مصعب بن عبد الله» كان خارجة بن زيد وطلحة «2» بن عبد الله بن عوف في زمانهما يستفتيان، وينتهي الناس إلى قولهما، ويقسمان المواريث من الدّور والنخل والأموال بين أهلها، ويكتبان الوثائق للناس. وقال خارجة: والله لقد رأيتنا ونحن غلمان شباب في زمان عثمان، فدفن في مؤخّر البقيع، وقال ابن سعد «3» : قال خارجة: رأيت في المنام كأني بنيت سبعين درجة، فلما فرغت منها تدهورت، وهذه السنة لي سبعون سنة قد

أكملتها، قال: فمات فيها./ (ص 258) قال الواقدي «1» والهيثم «2» بن عدي والجماعة: توفي سنة مائة، وقال الفلّاس «3» : توفي سنة تسع وتسعين، وقال رجاء بن «4» حيوة لعمر بن عبد العزيز: يا أمير المؤمنين قدم قادم الساعة فأخبرنا أن خارجة بن زيد مات، فاسترجع وصفق بإحدى يديه على الأخرى، وقال: ثلمة والله في الإسلام.

135 - عامر بن شراحيل بن عبد بن ذي كبار الشعبي الكوفي

ومنهم 135- عامر بن شراحيل بن عبد بن ذي كبار الشعبي الكوفي «1» ذو اللفظ المتشعب، والحفظ المستوعب، والفهم الذي يذلل المستصعب، والعلم المريح إلا أنه لغيره المتعب، وكان يدمّث حواشي علمه بمزاح يندى أطاريفه، وبسط يوطّا رئفه «2» ، فكاهة تصقل الأفهام، وتزيل صدى الأوهام، وتحلّ عقد النشاط، وتمد طرف الانبساط، يمزح ولا يعدو الحق وإن لعب، ولا يزيد على أن يريح من حبسه الانحصار التعب، ولد سنة إحدى وعشرين، وقيل قبل ذلك، ويقال إنه أدرك خمسمائة من الصحابة، وروي أن ابن عمر مرّ به يوما وهو يحدّث بالمغازي فقال: شهدت القوم وهو أعلم بها مني. وحكى الشعبي قال: أنفذني عبد الملك بن مروان إلى ملك الروم، فلما وصلت إليه جعل لا يسألني عن شئ إلا أجبته، وكانت الرسل لا تطيل الإقامة عنده، فحبسني أياما كثيرة، حتى استحثثت خروجي، فلما أردت الانصراف، قال: من أهل بيت المملكة أنت؟ فقلت: لا، ولكني رجل من العرب في الجملة، فهمس بشيء، فدفعت إليّ رقعة، وقال: إذا أديت الرسائل إلى صاحبك، فأوصل إليه هذه الرقعة، قال: فأديت الرسائل عند وصولي إلى عبد الملك، وأنسيت الرقعة، فلما صرت في بعض الدار أريد الخروج فذكرتها، فرجعت فأوصلتها إليه، فلما قرأها قال: أقال لك شيئا قبل أن يدفعها/ (ص 259) إليك، قلت: نعم، قال لي: من أهل بيت المملكة أنت؟ قلت لا، ولكني رجل من العرب في الجملة. ثم خرجت من عنده، فلما بلغت الباب رددت، فلما مثلت بين يديه، قال لي: أتدري ما في

هذه الرقعة قلت: لا، قال: اقرأها، فقرأتها، فإذا فيها: عجبت من قوم فيهم مثل هذا كيف ملّكوا غيره؟ فقلت: والله لو علمت ما فيها ما حملتها، وإنما قال هذا لأنه لم يرك. قال: أفتدري لم كتبها، قلت: لا، قال: حسدني عليك، وأراد أن يغريني بقتلك. قال: فتأدّى ذلك إلى ملك الروم، فقال: ما أردت إلا ما قال. وروي أن الشعبي كلّم [عمرو] بن هبيرة «1» أمير العراقين في قوم حبسهم ليطلقهم فأبى، فقال له: أيها الأمير: إن حبستهم بالباطل فالحق يخرجهم، وإن حبستهم بالحق فالعفو يسعهم، فأطلقهم. وكان قد ولد هو وأخ آخر في بطن، وأقام في البطن سنتين، ويقال: إن الحجاج قال له يوما: كم عطاءك في السنة؟ فقال: ألفين. فقال: ويحك كم عطاؤك؟ فقال: ألفان، فقال: كيف لحنت أولا؟ قال: لحن الأمير فلحنت، فلما أعرب أعربت، وما أمكن أن يلحن الأمير فأعرب أنا، فاستحسن ذلك منه وأجازه. وكان مزّاحا، يروى أن رجلا دخل عليه يوما ومعه امرأة في البيت، فقال: أيكم الشعبي؟ فقال: هذه. وكان نحيفا ضئيلا، فقيل له يوما: ما لنا نراك ضئيلا، فقال: زوحمت في الرحم، أشار إلى توءمه المذكور. وكان إماما حافظا ذا فنون، قال أحمد العجلي «2» : مرسل الشعبي صحيح،

136 - طاووس بن كيسان الخولاني الهمداني اليماني أبو عبد الرحمن

لا يكاد يرسل إلا صحيحا. وقال الشعبي ما كتبت سوداء في بيضاء. وروى عن جماعة من الصحابة، وروى عنه طائفة كبيرة منهم: أبو حنيفة «1» والأعمش «2» . توفي سنة أربع ومائة، ويقال: سنة ثلاث والله أعلم./ (ص 260) ومنهم 136- طاووس بن كيسان الخولاني الهمداني اليماني أبو عبد الرحمن «3» من أبناء الفرس الذين سيّرهم كسرى إلى اليمن. أحد الأعلام التابعين، طار بجناح العلم المأنوس، وزاد به حسنا إذ جناح طاووس، ذو حق يلهو بمن مزح، ورياش ما فضل منه عن ريش طاووس إلا ما فضل لقوس قزح، وحلي ما ازدانت به عقايل «4» الأرض، وحلل ما لبست ثيابه الخود «5» والبعض أقصر من بعض، هذا من علم نافع به ينبّأ، وعمل صالح له يخبّأ، ويقين ما عليه أن الليل بفجره المماطل يربأ، ولا أنّ الصباح في جيشه المطل يعبأ، لنور جلاله الصدق صفيحته، وأري بصر بصيرته صبيحته. قال عمرو بن دينار «6» : ما رأيت أحدا مثل طاووس.

وقال قيس بن سعد «1» ، كان طاووس فينا مثل ابن سيرين في أهل البصرة، وقال ابن طاووس: إني لأظن طاووسا من أهل الجنة. وقال النعمان بن الزبير الصنعاني «2» : بعث أمير المؤمنين «3» إلى طاووس بخمسمائة دينار فلم يقبلها، وقال إبراهيم بن ميسرة «4» : ما رأيت أحدا الشريف والوضيع عنده بمنزلة إلا طاوسا. وكان طاووس شيخ أهل اليمن وبركتهم ومفتيهم، له جلالة عظيمة، وكان كثير الحج، فاتفق موته بمكة قبل التروية بيوم سنة ست ومائة وصلى عليه هشام ابن عبد الملك «5» .

137 - سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب القرشي العدوي

وقال الحافظ أبو عبد الله الذهبي «1» : من زعم أن قبره ببعلبك فهو مخطئ غالط، ولعله قبر رجل آخر اسمه طاوس، كما يطابق قبر أبيّ وليس بالصحابي. ومنهم 137- سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب القرشي العدوي «2» أحد فقهاء المدينة، ابن ذينك الأبوين «3» ، وثالث ذينك الاثنين، ووارث ذلك التراث، وحايز ذلك الميراث، بقيّة طينة الضجيع، ولمعة ذلك السيف الصنيع. قال عمر بن عبد العزيز «4» : لو كان لي من الأمر شئ- يعني بعده- لما عدوت بها القاسم بن محمد «5» أو سالم بن عبد الله أو إسماعيل صاحب الأحوص «6» ، وصدق عمر فإن الخلافة بعده كانت بعهد من سليمان «7» إلى أخيه يزيد بن عبد الملك «8» . وقد ضمّنت/ (ص 261) كتابي فواضل السّمر من ذكره ما هو المسك لمنتسق «9» والغاية لمستبق، وكان من سادات التابعين وعلمائهم وثقاتهم.

روى عن أبيه وغيره، وروى عنه الزهري وطائفة. قال أحمد «1» وإسحاق «2» : أصح الطرق: الزهري عن سالم عن أبيه. وقال ابن إسحاق «3» : رأيت سالما يلبس الصوف ويعالج بيديه ويعمل. وقال مالك «4» : لم يكن أحد في زمانه أشبه بمن مضى من الصالحين في الزهد والفضل [منه] «5» . وكان علج الخلق «6» ، شديد الأدمة «7» ، خشن العيش. ودخل هشام بن عبد الملك «8» الكعبة فرأى سالما، فقال له: سلني حوائجك فقال: والله لا سألت في بيت الله غير الله تعالى. وكان يأتدم الخل والزيت حتى كانت له منه عكنة «9» ، فقال له هشام وقد رأى

138 - القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق القرشي التيمي

عكنته-: ما إدامك؟ قال: الخل والزيت. قال: أفما تمله؟ قال: إذا مللته تركته حتى أشتهيه. فمرض سالم فمات. فقال أهل المدينة: إنه أصاب بعينه عالمنا. وكانت وفاته في آخر ذي الحجة سنة ست ومائة. وقيل سنة ثمان ومائة وكان هشام بن عبد الملك يومئذ بالمدينة، وكان قد حجّ بالناس تلك السنة، ثم قدم المدينة، فوافق موت سالم، فصلىّ عليه بالبقيع لكثرة الناس، فلما رأى هشام كثرتهم، قال لإبراهيم بن هشام المخزومي «1» : اضرب على الناس بعث أربعة آلاف فسميّ عام أربعة آلاف. ومنهم 138- القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق القرشي التيمي «2» أحد الفقهاء السبعة، سلالة ذلك الصديق، وسلافة «3» ذلك الرحيق، المفضّل العالم، والمفضل على سالم. وبه بدأ عمر بن عبد العزيز الثلاثة «4» ، وكاد ينص عليه باستحقاق على أنها لو أتته، وجاءته صفوا وواتته، لما قبل لوبها «5» ، ولا حمل

حوبها «1» ، ولا/ (ص 262) رضي بها من تراث كريم لا يبالي العواقب، ولا يوالي إلا المناقب، وحسبك من رجل يفضّل حتى على سالم بن عبد الله بن عمر، وإن نبغ عليك قومك لا يبغ عليك القمر، كان أفضل أهل زمانه من سادات التابعين، روى عن جماعة من الصحابة، وروى عنه طائفة من كبار التابعين. قال يحيى بن سعيد «2» : ما أدركنا أحدا نفضّله على القاسم بن محمد، وقال مالك: كان القاسم بن محمد من فقهاء هذه الأمة، وقال ابن إسحاق «3» : جاء رجل إلى القاسم فقال: أنت أعلم أم سالم؟ فقال: ذاك مبارك، سالم، قال ابن إسحاق: كره أن يقول هو أعلم مني فيكذب، أو يقول: أنا أعلم فيزكي نفسه، وكان القاسم أعلمهما، وقال أبو الزناد «4» : ما رأيت فقيها أعلم من القاسم، وما رأيت أحدا أعلم بالسنّة منه، وقال ابن عيينة «5» : كان أفضل أهل

139 - سليمان بن يسار

زمانه، وأمه هي ابنة يزدجرد «1» ، وربيّ يتيما في حجر عمته عائشة رضي الله عنها، وتوفي سنة سبع ومائة بقديد «2» ، وقال: كفّنوني في ثيابي التي كنت أصلّي فيها، قميصي وإزاري وردائي، فقال ابنه: يا أبه ألا تريد ثوبين جديدين؟ فقال: هكذا كفّن أبو بكر في ثلاثة أثواب، والحيّ أحوج إلى الجديد من الميّت، وكان عمره سبعين سنة، وقيل اثنتين وسبعين. ومنهم 139- سليمان بن يسار «3» مولى ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ورضي عنها، أبو أيوب، أحد الفقهاء السبعة، وآخرهم وفاة، ورع لا تجره المطامع، ولا تغرّه المجامع، ولا يسرّه خيلاء الكبر إذا ألقيت إليه المسامع، ولا يضره كلمة الحق إذا قالها وغصّت بها المدامع، مشرّف بولاء ذلك الحجاب الممنّع، والجناب الذي لا تعلّق به مطمع، والستر الذي يتدانى له السحاب ويخضع، ويخشع الرعد علما بأنه بوميض البرق لا يخدع، زهّده في الدنيا/ (ص 263) معرفته بحقيقتها، وأنفته من سوء طريقتها، لعلمه الغزير، ودينه وما هو منه بكثير، كان عالما ثقة عابدا ورعا حجة، قال قتادة «4» :

قدمت المدينة فسألت من أعلم أهلها بالإطلاق؟ فقالوا: سليمان بن يسار، وقال الحسن بن محمد بن الحنفية «1» : سليمان أفهم عندنا من سعيد بن المسيّب «2» ، وكان المستفتي إذا أتى سعيد بن المسيّب يقول له: اذهب إلى سليمان بن يسار. روى عن طائفة من الصحابة، وروى عنه جماعة من التابعين. قال مصعب ابن عثمان «3» : كان سليمان بن يسار من أحسن الناس، فدخلت عليه امرأة فراودته، فامتنع، فقالت: إذا أفضحك فتركها في منزله وهرب. وهو أخو عطاء «4» وعبد الملك «5» ابني يسار، توفي في سبع ومائة، وهو ابن ثلاث وسبعين سنة، وقيل قبل ذلك.

140 - الحسن بن أبي الحسن يسار البصري أبو سعيد

ومنهم 140- الحسن بن أبي الحسن يسار البصري أبو سعيد «1» السيد المذكور، والفرد الموصوف، والندرة في الدهر، والواحد في الزمان، والعديم النظير على كثرة الأقران، ما كشفت البصرة عن مثله سجوف «2» مشارقها، ولا أبصرت شبهه أحداق حدائقها، ولا سقت نظير نضرة أبلّتها «3» . ولا شفيت بمثل رواء أريه غلّتها، ولا جال بين جنبي برها وبحرها أفضل منه بعد السلف الأوّل رجلا، ولا أرجى منه في الخلف الصالح عملا، ولا أسير في الآفاق وأعلق بالأسماع إذا ذكر مثلا. ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر بالمدينة، ويقال: إنه ولد على الرق، فإن أباه مولى زيد بن ثابت «4» ، ويقال: مولى جميل «5» بن قطبة، وأمه

خيرة «1» مولاة أم سلمة «2» زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت أمه ربما غابت في حاجة فيبكي فتعطيه أم سلمة رضي الله عنها ثديها، تعلّله به إلى/ (ص 264) أن تجيء أمه، فيدرّ ثديها عليه فيشربه، فيرون أن تلك الحكمة والفصاحة من بركة ذلك، ثم نشأ بوادي القرى وحفظ كتاب الله في خلافة عثمان وسمعه يخطب مرات، وكان يوم الدار «3» ابن أربع عشرة سنة، ثم كبر ولازم الجهاد والعلم والعمل وكان أحد الشجعان الموصوفين، يذكر مع قطري بن الفجاءة «4» ، وصار كاتبا في دولة معاوية لوالي خراسان، الربيع بن زياد «5» . قال ابن سعد: كان عالما رفيعا ثقة مأمونا عابدا ناسكا كثير العلم فصيحا جميلا وسيما، وما أرسله فليس

بحجة. وقال أبو عمرو بن العلاء «1» : ما رأيت أفصح من الحسن البصري ومن الحجاج بن يوسف، وكان عرض زند الحسن شبرا. ومن كلامه: ما رأيت يقينا لا شك فيه أشبه بشك لا يقين فيه إلا الموت. ولما ولي عمر بن هبيرة «2» الفزاري العراق، وأضيفت إليه خراسان في أيام يزيد بن عبد الملك «3» استدعى الحسن البصري ومحمد بن «4» سيرين والشعبي «5» ، وذلك سنة ثلاث ومائة، فقال لهم: إن يزيد خليفة الله استخلفه على عباده، وأخذ عليهم الميثاق بطاعته، وأخذ عهدنا بالسمع والطاعة، وقد ولّاني ما ترون، فقال ابن سيرين والشعبي قولا فيه بقيّة «6» . فقال ابن هبيرة: ما تقول يا حسن؟ فقال: يا ابن هبيرة، خف الله في يزيد ولا تخف يزيد في الله، إن الله يمنعك من يزيد، وإن يزيد لا يمنعك من الله، وأوشك أن يبعث إليك

141 - مكحول بن عبد الله الشامي

ملكا فيزيلك عن سريرك، ويخرجك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك، ثم لا ينجيك إلا عملك، يا ابن هبيرة إن تعص الله فإنما جعل الله هذا السلطان ناصرا لدين الله وعباده فلا تتركن دين الله وعباده بسلطان الله، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. فأجازهم ابن هبيرة وأضعف جائزة/ (ص 265) الحسن. ورأى الحسن يوما رجلا وسيما حسن الهيئة، فقيل: إنه يسحر للملوك ويحبّونه فقال: لله أبوه ما رأيت أحدا طلب الدنيا بما يشبهها إلا هذا. ودخل يوما على أمه وفي يدها كرّاثة تأكلها، فقال لها: يا أمّ ألق هذه البقلة الخبيثة من يدك، فقالت يا بني إنك قد كبرت وخرفت، فقال: يا أمّه أينا أكبر؟ وأكثر كلامه حكم وبلاغة. ومناقبه كثيرة، وقد جمعها الحافظ أبو عبد الله الذهبي «1» في جزء سماه الزخرف القصري في مناقب الحسن البصري وتوفي بالبصرة في مستهل رجب سنة عشر ومائة عن ثمان وثمانين سنة وكانت جنازته مشهورة، وكان من بحور العلم، فقيه النفس، كبير الشأن، عديم النظير مليح التذكير، بليغ الموعظة رأسا في أنواع الخير رحمه الله. ومنهم 141- مكحول بن عبد الله الشامي «2» من سبي كابل مولى لامرأة من قيس لم يعده مأمول، ولم يعدّه سبب موصول، لعلم لم يسه عنه ولم يطر مذهول، ولم يله من غيره بأغرّ غضيض الطرف مكحول، تديّر بيروت مدة مرابطا حيث البحر تجول أساطيله، والعدو تجوز أباطيله، فلاطف بحسناه وإحسانه، وجاهد بسنانه ولسانه، وجرد لذلك

142 - عطاء بن أبي رباح

البحر أمضى من صوارمه، وجلا في ذلك الثغر أضوأ من مباسمه، وأطال الحافظ ابن عساكر «1» في ترجمته التي ذكرها، وقالها على رؤوس العلماء فما فيهم من أنكرها. قال الزهري: العلماء أربعة: سعيد بن المسيب بالمدينة والشعبي بالكوفة والحسن البصري بالبصرة ومكحول «2» بالشام. ولم يكن في زمنه أبصر منه بالفتيا، وكان لا يفتي حتى يقول: / (ص 266) لا حول ولا قوة إلا بالله، هذا رأي، والرأي يخطئ ويصيب، وكان سنديا لا يفصح وفي لسانه عجمة ظاهرة ويبدل بعض الحروف ببعض، وكان مقامه بدمشق، توفي سنة ثلاث عشرة ومائة. ومنهم 142- عطاء بن أبي رباح «3» القرشي مولاهم مفتي أهل مكة ومحدثهم، القدوة العلم أبو محمد، لقد عرّف به فضله حيث لا أنساب، وأعطي الزمان منه عطاء بلا حساب، لقد عبقت أرادنه «4» بمسكها، وفتّت كافور الصباح في مسكها «5» ، ووقفت عليه الركائب بمكة لتمام نسكها، لا يردّ عليه إذا أفتى، ولا يعدّ معه أكرم يدا منه ولا أفتى، ولقد كانت بقايا الصحابة تشير إليه بالتعظيم، وتشير منه بالتعليم، وتثير منه

لأهل المطالب كنزا لا يردّ منه عديم، ولد في خلافة عثمان وقيل في خلافة عمر وهو أشبه، وسمع عائشة وأبا هريرة وابن عباس وطائفة، وروى عنه جماعة من الأئمة كابن إسحاق «1» والأوزاعي «2» وأبي حنيفة «3» ، وخلق كثير، وكان أسود مفلفلا فصيحا كثير العلم من مولّدي الجند، قال أبو حنيفة: ما رأيت أفضل من عطاء، وقال ابن جريج «4» : كان في المسجد فراشه عشرين سنة، وكان أحسن الناس صلاة، وقال الأوزاعي: مات عطاء يوم مات وهو أرضى أهل الأرض عند الناس. وقال إسماعيل بن أمية «5» : كان عطاء يطيل الصمت، فإذا تكلم خيّل إلينا أنه يؤيّد «6» ، وقال عبد الله بن عباس «7» : يا أهل مكة تجتمعون إلي وعندكم عطاء، وقدم ابن عمر مكة فسألوه، فقال: تجمعون لي المسائل وفيكم عطاء، وقال جعفر «8» الباقر: ما بقي على وجه الأرض أحد أعلم بمناسك الحج من عطاء.

143 - أبو الزناد عبد الله بن ذكوان المدني القرشي

توفي في رمضان سنة أربع عشرة ومائة وقيل سنة خمس عشرة بمكة. ومنهم (ص 267) / 143- أبو الزناد عبد الله بن ذكوان المدني القرشي «1» مولاهم أبو عبد الرحمن فقيه المدينة، وفقيد المثل لا تجد قرينه، بزغ في علم، ونزع حتى لا يراد منه إلا السّلم، كان إذا لذّ «2» بالقرناء وهزّ للفناء «3» ، طال وقصّروا، ونصر واستنصروا، واعترف له بالنجاحة، وعرف لمجاهدته في الليل ما ينوّر صباحه، وولىّ جند الحندس «4» مهزوما وفي جنبه البرق جراحه، سمع أنس ابن مالك «5» ، وأبا أمامة «6» بن سهل وعبد الله «7» بن جعفر وسعيد بن المسيّب،

وهو راوية عبد الرحمن «1» الأعرج، وحدّث عنه «2» مالك وشعيب «3» بن أبي حمزة، والليث «4» والسفيانان «5» ، وابنه «6» عبد الرحمن، وخلق، وكان أحد الأئمة الأعلام، قال الليث بن سعد: رأيته وخلفه ثلاثمائة تابع من طالب فقه وطالب شعر وصنوف. قال ثم لم يلبث أن بقي وحده وأقبلوا على ربيعة، وقال أبو حنيفة: رأيت أبا الزناد وربيعة وأبو الزناد أفقه الرجلين، وقال أحمد بن حنبل: هو أعلم من ربيعة، قال: وكان سفيان يسمي أبا الزناد أمير المؤمنين في

144 - ربيعة بن أبي عبد الرحمن فروخ مولى آل المنكدر

الحديث، وقال مصعب الزبيري «1» : هو كان فقيه أهل المدينة، وكان صاحب كتابة وحساب، وفد على هشام بحساب ديوان المدينة، وكان يعاند ربيعة، وقال إبراهيم بن المنذر «2» : كان هو سبب جلد ربيعة، فولي بعد أمير فطيّن على أبي الزناد بيتا، فشفع فيه ربيعة، وقيل: إن أبا الزناد هو ابن أخي أبي «3» لؤلوة قاتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، توفي سنة إحدى وثلاثين ومائة. وقيل سنة ثلاث وثلاثين. ومنهم 144- ربيعة بن أبي عبد الرحمن فرّوخ مولى آل المنكدر «4» التيمي، أبو عثمان، ويقال: أبو عبد الرحمن المعروف بربيعة الرأي فقيه أهل

/ (ص 268) المدينة إمام ما دجت مشكلة إلا أن كان سراجها، ولا أعيت مسألة إلا فرى بأول ضربة أوداجها. ولا فخرت رتبة إلا كان تاجها، ولا زخرت حجة إلا خرق برأيه الصائب أمواجها، سعد بن مالك وشقي، وتقدم عليه وبقي، وحدّث عنه والمسجد يجمعهما، وضيق ذكره الطائر مسالكه والمدينة تسعهما، رزق دونه الحظوة، وتمسك بذيله وحلّ قبله الذروة، ولم يؤخره إلا شقاشق «1» جعلت صواب مقاله هدرا، وصفو زلاله كدرا، وطالع نجمه منكدرا، ومحلّق سهمه منحدرا، وما هي إلا إحاظ قسّمت وجدود، وشقاوة قدّرت في سابق القدم وسعود، أدرك جماعة من الصحابة، وروى عن أنس وغيره وعنه أخذ الثوري ومالك وسليمان «2» بن بلال، وإسماعيل «3» بن جعفر وأنس «4» بن عياض، وكان حافظا حجّة فقيها

مجتهدا حاذقا، قال بكر بن «1» عبد الله الصنعاني: أتينا مالك بن أنس، فجعل يحدثنا عن ربيعة الرأي فكنا نستزيده من حديث ربيعة، فقال لنا ذات يوم: ما تصنعون بربيعة وهو نائم في الطاق «2» ، فأتينا ربيعة فأنبهناه، وقلنا له: أنت الذي يحدث عنك مالك بن أنس؟ قال: نعم، قلنا: كيف حظي بك مالك، وأنت لم تحظ بنفسك؟ قال: أما علمتم أن مثقالا من دولة خير من حمل من علم، وكان ربيعة يكثر الكلام ويقول: الساكت بين النايم والأخرس، وكان يوما يتكلم في مجلسه، فوقف عليه أعرابي دخل من البادية، فأطال الوقوف والإنصات إلى كلامه، فظن ربيعة. أنه قد أعجبه كلامه، فقال له: يا أعرابي ما البلاغة عندكم؟ فقال: الإيجاز مع إصابة المعنى، فقال: وما/ (ص 269) العيّ قال: ما أنت فيه مذ اليوم، فخجل ربيعة، وكانت وفاته سنة ست وثلاثين «3» ومائة بالهاشمية وهي مدينة بناها السفاح «4» بأرض الأنبار، وكان يسكنها، ثم انتقل إلى الأنبار، قال مالك: ذهبت حلاوة الفقه منذ مات ربيعة.

145 - يحيى بن سعيد بن قيس بن عمرو الحافظ

ومنهم 145- يحيى بن سعيد بن قيس بن عمرو الحافظ «1» شيخ الإسلام أبو سعيد الأنصاري النجاري المدني، قاضي المدينة ثم قاضي القضاة للمنصور، المقدّم في سالف العصور، والمقدم على ذلك الليث الهصور، اختاره مثل ذلك الرجل، وأقامه حيث تضرب إليه آباط الأنياق الذلل، وقدّمه في ذلك الجيل، ولحظه بما يستحق من التبجيل، وأخلي له الميدان كيف شاء يجيل، فلهذا رمّ ما فسد، وتم له ما أرضى ذلك الضرغامة الأسد. حدّث عن أنس بن مالك «2» ، والسايب بن يزيد «3» ، وأبي أمامة ابن سهل «4»

وسعيد بن المسيّب «1» والقاسم بن محمد «2» وخلق، وروى عنه شعبة «3» ومالك «4» والسفيانان «5» والحمادان «6» وابن المبارك «7» ويحيى القطان «8» ، ويزيد ابن هارون» ، وأمم سواهم.

قال أيوب السختياني «1» : ما تركت بالمدينة أحدا أفقه من يحيى بن سعيد، وقال أبو حاتم «2» : ثقة يوازي الزهري «3» ، وقال يحيى بن القطان هو مقدّم على الزهري، اختلف على الزهري، وهو لم يختلف عليه، وقال الثوري: كان من الحفّاظ، وقال سليمان بن بلال، كان يحيى بن سعيد قد ساءت حاله، وأصابه ضيق شديد، وركبه الدّين، فجاءه كتاب المنصور «4» بالقضاء، فوكّلني بأهله، وقال لي: والله ما خرجت وأنا أجهل شيئا، فلما قدم العراق كتب إلي،: والله لأوّل خصمين جلسا بين يدي، فاقتضيا شيئا، والله ما سمعته قط فإذا جاءك كتابي. فسل ربيعة «5» واكتب إليّ بما يقول، واكتم هذا./ (ص 270) قال سليمان: ولما سار خرجت معه أشيعه، فاستقبله جنازة فتغيّرت فقال لي: يا أبا محمد أراك تغيرت؟! فقلت: اللهم لا طير إلا طيرك، قال والله لئن صدق طيرك لينعشنّ أمري، قال: فما أقام إلا شهرين حتى قضى دينه وأصاب

خيرا، وقال أحمد بن حنبل «1» : يحيى بن سعيد أثبت الناس، وقال يحيى بن أيوب المقابري «2» : حدّثني أبو عيسى «3» وغيره: أن قوما كان بينهم وبين المسيّب بن زهير «4» خصومة فارتفعوا إلى يحيى بن سعيد قاضي أبي جعفر، فكتب إليه يحيى أن يحضر فأتوا المسيّب بكتابه فانتهرهم وتمنّع، فأتوا يحيى فأخبروه، فقام مغضبا، يريد المسيّب، فوافقه وقد ركب بين يديه نحو المائتين من الخشّابة «5» ، فلما رأوا يحيى أفرجوا له، فأتى المسيّب وأخذ بحمايل سيفه ورمى به إلى الأرض، ثم نزل عليه يحيى يخنقه، قال: فما خلص حمايل السيف من يده إلا أبو جعفر المنصور بنفسه. وقال يحيى بن سعيد: أهل العلم أهل توسعة، وما برح المفتون يختلفون، فيحلّل هذا ويحرّم هذا، فلا يعيب هذا على هذا، ولا هذا على هذا، وإن المسألة لترد على أحدهم مثل الجبل، فإذا فتح له بابها، قال:

146 - سليمان بن مهران

ما أهون هذه، وقال يزيد بن هارون «1» : حفظت ليحيى بن سعيد ثلاثة آلاف حديث فمرضت فنسيت نصفها. توفي بالهاشمية سنة ثلاث وأربعين ومائة./ (ص 271) ومنهم 146- سليمان بن مهران «2» مولى بني كاهل أبو محمد المعروف بالأعمش الكوفي الإمام المشهور شهرة الأعلام، المذكور ذكر الروض للغمام، الدمث الأخلاق المنبعث انبعاث الشمس في الآفاق، المخضر عوده الرطيب، المفترّ ثغره الشنيب «3» ، المنهلّ ندى ورقاته، المخضلّ نديّ أوقاته للفاكهة تؤتي أكلها كل حين، وآداب لو تومي إلى الحنادس لمحين، مداعبه ألطف من كؤوس الأندرين «4» ، وأخفّ من وصل الحبايب إن درين.. قدم أبوه الكوفة وامرأته حامل بالأعمش، فولدته بها سنة ستين للهجرة، وقيل: إنه ولد يوم مقتل الحسين وهو يوم عاشوراء سنة إحدى وستين وحضر أبوه قتل الحسين، وعدّه ابن قتيبة «5» في المعارف في جملة من حملت به أمه سبعة

أشهر، ولا يعرف بغير الكوفي، وكان يقارن الزهري «1» في الحجاز، ورأى أنس ابن مالك «2» ، وكلمه لكنه لم يرزق السماع عليه، وما يرويه عنه فهو إرسال، ولقي كبار التابعين، وروى عنه خلق كثير من جلّة العلماء، وقال أبو معاوية الضرير «3» : بعث هشام بن عبد الملك «4» إلى الأعمش أن اكتب لي مناقب عثمان ومساوي علي، فأخذ القرطاس وأدخلها في فم شاة فلاكتها وقال لرسوله: قل له هذا جوابك، فقال له الرسول: إنه قد آلى أن يقتلني إن لم آته بجوابك، وتحمّل عليه بإخوانه، فقالوا: يا أبا محمد خلّصه من القتل، فلما ألحوا عليه، كتب: بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد يا أمير المؤمنين، فلو كانت لعثمان مناقب أهل الأرض ما نفعتك، ولو كانت لعلي مساوي أهل الأرض ما ضرّتك، فعليك بخويصة نفسك. وقال زائدة بن قدامة «5» : تبعت الأعمش يوما، فأتى المقابر فدخل قبرا محفورا، فاضطجع فيه، ثم خرج منه وهو ينفض التراب عن رأسه/ (ص 272) ويقول: واضيق مسكناه. قال علي بن المديني «6» : له نحو

ألف وثلاثمائة حديث، وقال ابن عيينة «1» : كان الأعمش أقرأهم لكتاب الله، وأحفظهم للحديث، وأعلمهم بالفرائض، وقال أبو حفص الفلاس «2» : كان الأعمش يسمّى المصحف من صدقه، وقال القطّان «3» : هو علّامة الإسلام، وقال وكيع «4» : كان الأعمش قريبا من سبعين سنة لم تفته التكبيرة الأولى. وقال الحربيّ «5» : ما خلف أعبد منه، وكان صاحب سنّة، وكان مع هذا كله مزّاحا جاء أصحاب الحديث يوما ليسمعوا عليه، فخرج إليهم وقال: لولا أن في منزلي من هو أبغض إليّ منكم ما خرجت إليكم، وجرى بينه وبين زوجته يوما كلام، فدعا رجلا ليصلح بينهما، فقال لها الرجل: لا تنظري إلى عمش عينيه، وحموشة ساقيه، فإنه إمام وله قدر، فقال له الأعمش خزاك الله ما أردت إلا أن تعرفها

147 - محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى أبو عبد الرحمن

عيوبي، وقال له داود بن عمر الحايك «1» ما تقول في الصلاة خلف الحايك؟ فقال لا بأس بها على غير وضوء، قال: ما تقول في شهادة الحايك، قال تقبل مع عدلين، ويقال: إن الإمام أبا حنيفة عاده يوما في مرضه، فطوّل القعود عنده، فلما عزم على القيام، قال له: ما كأني إلا ثقلت عليك فقال: والله إنك لثقيل عليّ وأنت في بيتك، وعاده أيضا جماعة فأطالوا الجلوس عنده، فضجر منهم، فأخذ وسادته، وقام وقال: شفا الله مريضكم بالعافية، وله أخبار، وملح مشهورة. توفي في ربيع الأول سنة ثمان وأربعين ومائة. ومنهم 147- محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى أبو عبد الرحمن «2» الفقيه المقرى مفتي الكوفة وقاضيها، قام بها حتى أكمد قلوب المعتدين، وأرمد عيون أعداء الدين، بفضل يبهر الشموس اللامعة، والغصون اليانعة،/ (ص 273) والبروق الخواطف والسحب المبتلة المعاطف، لم تزل آفاته وإفادته للمستظل والمستبين، وفتاويه وفتوته للجهول والمسكين، بشيء تفرد به في زمانه سجيّة طبع عليها نقده المبين، وجمع عقده الثمين، فسلّم بها الكمال لواهبه، والجمال لما يزرّر عليه في جلاببه، حدّث عن الشعبي «3» وعطاء «4»

والحكم «1» ونافع «2» وعمرو بن مرة «3» وطائفة، وكان أبوه من كبار التابعين، فتوفي وهو طفل فلم يدرك الأخذ عنه، وحدّث عنه شعبة «4» والسفيانان «5» وزائدة «6» ووكيع «7» وأبو نعيم «8» وعمران «9» ابنه، قال أحمد بن يونس «10» : كان محمد بن أبي ليلى أفقه أهل الدنيا، وقال أحمد بن عبد الله العجلي «11» ،

148 - عبد الملك بن عبد العزيز ابن جريج الرومي

كان فقيها صدوقا، صاحب سنّة، جايز الحديث، صاحب سنة، جايزا عالما بالقرآن، قرأ عليه حمزة الزيات «1» ، وقال أبو حفص الأبّار «2» عن ابن أبي ليلى قال: دخلت على عطاء فجعل يسألني، فكأنّ أصحابه أنكروا ذلك، فقال: وما تنكرون هو أعلم منيّ، توفي في شهر رمضان سنة ثمان وأربعين ومائة. ومنهم 148- عبد الملك بن عبد العزيز ابن جريج الرومي «3» الأموي مولاهم المكي الحافظ صاحب التصانيف أبو الوليد فقيه الحرم، ونزيل ذلك الحمى الذي لم يرم، عالم كان يخاف منه الفوات، وتعج لديه الطلبة حتى لا يكاد تفهم بناديه الأصوات، انصبت سعوب «4» فكره، وأصبت تصانيفه لأنها عقايل «5» ما أوت غير خدره، وأتى منها بما لا يأتي به الصيّب من بدائع الألوان، ووشائع «6» الحبر التي لا تتغير بتغير الأوان.

ولد سنة نيّف وسبعين، وأدرك صغار الصحابة لكنه لم يحفظ عنهم، وروى عنه أمم. قال أحمد بن حنبل «1» : كان من أوعية العلم، هو وابن أبي عروبة «2» ، أوّل من صنّف الكتب وقال/ (ص 274) عبد الرزاق «3» : ما رأيت أحسن صلاة من ابن جريج، وقال يحيى بن سعيد «4» القطان: لم يكن ابن جريج عندي بدون مالك «5» في نافع «6» ، وقال ابن المديني «7» : لم يكن في الأرض أعلم بعطاء «8» من ابن جريج. وقال ابن جريج: كنت أتتبع الأشعار العربية والأنساب، فقيل لي

149 - عبد الرحمن بن عمرو بن محمد الأوزاعي

لو لزمت عطاء، فلزمته ثمانية عشر عاما. وقال جرير «1» : كان ابن جريج يرى المتعة، تزوّج ستين امرأة، وقيل: سمع من مجاهد «2» حرفين في القرآن، وكان إماما ثقة صاحب عبادة، وقيل: إنه جاز مائة سنة، وتوفي في أول الحجة سنة خمسين ومائة. ووهم ابن المديني حيث يقول: مات سنة تسع وأربعين. ومنهم 149- عبد الرحمن بن عمرو بن محمد الأوزاعي «3» إمام أهل الشام، وغمام برقه الذي يشام، وواحد زمانه ولا احتشام، كان في زمان بني أمية يرمى إليه طرف كل مؤمّر، ويومئ إليه حتى طرف البنان البنان المخمر، وجاءت الدولة العباسية فزادته راياتها السود المطلة سؤددا، وأعلمته أن مع اليوم غدا، وشدت باسمه محافلها، واقتدت بعلمه جحافلها، ولم يقدم لمكانه أمير جيشهم القادم إلى الشام على إسراف في إطلال الدماء، واستحلال لإتلاف نفوس أولئك العظماء إلا ما سبق السيف فيه العذل، وقبل سرعان الجيش من سومهم السائب ما بذل، حتى ألجمهم بفتياه «4» ، وألجأهم إلى الوقوف دون

منتهاه، وكان ربّ جهاد في الثغر، وسدّاد للثغر، ينام والعدو الأزرق من البحر ينظر شزرا، وينوي للرقاب الممتدة جزرا، أقام ببيروت وكتب في عددها، وحسب ريادة في عمدها، وكان محط الرحلة، ومحل الفضل الذي لا يجنى مثله مجاجة «1» النحلة، علما جما ما نقص/ (ص 275) وفضلا مقبلا ما نكص، ورسائل هي قطع الروض المنوّر، وصفو الزلال المتحدّر. وعدد النجوم إلا أنه يضعها غير متكثّر، ويفرعها الشامخ غير متكبّر، ولجلالة مكانه في العلم لم أذكره إلا لحلة فضله طرازا، ولجملة كماله تماما لا إعوازا، كل هذا إلى دين لا يجاذبه فيه منازع، وتقى كمن عساه يزع إن لم يكن منه للأوزاعي وازع. ولد ببعلبك سنة ثمان وثمانين للهجرة، وقيل سنة ثلاث وتسعين، ونشأ يتيما، بالكرك بالبقاع، ثم نقلته أمه إلى بيروت، وكان فوق الرّبعة خفيف اللحية به سمرة، وكان يخضب بالحناء، ولم يكن بالشام أعلم منه، قيل: إنه أجاب في سبعين ألف مسألة، روي أن سفيان الثوري «2» بلغه مقدم الأوزاعي فخرج حتى لقيه بذي طوى، فحل سفيان رأس بعيره عن القطار، ووضعه على رقبته، فكان إذا مر بجماعة قال: الطريق للشيخ، قال إسماعيل بن عيّاش «3» : سمعتهم يقولون سنة أربعين ومائة: الأوزاعي اليوم عالم الأمّة، وقال أبو إسحاق

الفزاري «1» : لو خيّرت لهذه الأمة لاخترت الأوزاعي يعني في الخلافة، وقال بشر ابن المنذر «2» : رأيت الأوزاعي كأنه أعمى من الخشوع، وقال أبو مسهر «3» : كان الأوزاعي يحيي الليل صلاة وقرآنا وبكاء، وقال الأوزاعي: رأيت كأن ملكين عرجا بي إلى الله فأوقفاني بين يديه، فقال: أنت عبدي عبد الرحمن الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؟ قلت: بعزتك ربي، فردّاني إلى الأرض، وقال الوليد ابن مزيد «4» : تعجز الملوك أن تؤدّب أولادها أدبه في نفسه، ما سمعت منه كلمة إلا احتاج مستمعها إلى إثباتها عنه، ولا رأيته ضاحكا بقهقهة، ولقد كان إذا أخذ في ذكر المعاد أقول: ترى في المجلس قلب لم يبك؟ وقال أبو زرعة «5»

الدمشقي: كانت صنعته/ (ص 276) الكتابة والترسل ورسائله تؤثر، فمما يؤثر من كلامه: عليك بآثار من سلف وإن رفضك الناس، وإيّاك ورأي الرجال وإن زخرفوه بالقول، فإن الأمر ينجلي وأنت على طريق مستقيم، وقال: إذا بلغك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث فإياك أن تقول بغيره فإنه كان مبلغا عن الله، وقال: ما ابتدع رجل بدعة إلا سلب ورعه، وقال: ويل للمتفقهين لغير العبادة، والمستحلين الحرمات بالشبهات. واجتمع سفيان «1» والأوزاعي وعبّاد «2» بن كثير، فقال سفيان: يا أبا عمرو حدثنا حديثك مع عبد الله بن علي «3» - يعني عمّ السفاح- فقال: لما قدم الشام وقتل بني أميّة جلس على سريره، وعبى أصحابه أربعة أصناف، مع كل صنف نوع من أنواع السلاح، ثم بعث إليّ، فلما صرت إلى الباب أنزلوني عن دابتي، وأخذ اثنان بعضديّ وأدخلوني بين الصفوف، حتى أقاموني بحيث يسمع كلامي، فقال لي: أنت عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي؟ قلت: نعم- أصلح الله الأمير، قال: ما تقول في دماء بني أمية؟ فقلت: قد كان بينك وبينهم عهود، كان ينبغي أن يفوا لك بها، قال: ويحك، اجعلني وإياهم لا عهد بيننا، فأجهشت نفسي وكرهت القتل، فذكرت مقامي

بين يدي الله فلفظتها، فقلت: دماؤهم عليك حرام، فغضب، وانتفخت عيناه وأوداجه، فقال لي: ويحك، ولم؟ قلت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يحل دم امرء مسلم إلا بإحدى ثلاث: ثيّب زان ونفس بنفس وتارك لدينه «1» . فقال: ويحك أو ليس الأمر لنا ديانة؟ قلت: كيف ذاك؟ قال: أليس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى إلى عليّ؟ قلت: لو أوصى إليه ما حكّم الحكمين، فسكت، وقد اجتمع غضبا، فجعلت أتوقع رأسي يسقط بين يدي، فقال بيده هكذا يومئ أن أخرجوه، فخرجت، فما أبعدت حتى لحقني فارس/ (ص 277) فنزلت وقلت: قد بعث ليأخذ رأسي، أصلي ركعتين، فكبّرت وصليت، فسلّم، وقال: إن الأمير بعث إليك بهذه الدنانير، قال: ففرقتها قبل أن أدخل بيتي، وقال الأوزاعي: كنا نمزح ونضحك، فلما صرنا يقتدى بنا خشيت أن لا يسعنا التبسم، وكان أهل الشام، ثم أهل الأندلس على مذهب الأوزاعي مدّة، ثم فني العارفون به وبقي منه ما يوجد في كتب الخلاف. وقال عقبة بن علقمة البيروتي «2» : دخل الأوزاعي حماما في بيته، وأدخلت معه زوجته كانونا ليدفأ به ثم أغلقت عليه وتشاغلت فهاج الفحم فمات، قال عقبة فوجدناه متوسدا ذراعه إلى القبلة، قال أبو مسهر «3» : أغلقت عليه غير متعمدة فمات، فأمرها سعيد بن عبد العزيز «4» بعتق رقبة، ولم يخلّف

150 - سفيان بن سعيد بن مسروق بن حبيب بن رافع بن عبد الله بن موهبة أبو عبد الله الثوري الكوفي الفقيه الإمام

إلا ستة دنانير، فضلت من عطائه، وكان قد كتب في ديوان الساحل، وكانت وفاته يوم الأحد لليلتين بقيتا من صفر، وقيل في ربيع الأول سنة سبع وخمسين ومائة ببيروت، وقبره في قرية على باب بيروت يقال لها: حنتوش «1» ، وأهلها مسلمون، وهو مدفون في قبلة المسجد، وأهل القرية لا يعرفونه، بل يقولون: ههنا رجل صالح ينزل عليه النور ولا يعرفه إلا الخواص من الناس. والأوزاعي منسوب إلى أوزاع بطن من ذي كلاع وقيل بطن [من همدان] «2» . ومنهم 150- سفيان بن سعيد بن مسروق بن حبيب بن رافع بن عبد الله بن موهبة أبو عبد الله الثوري الكوفي الفقيه الإمام «3» سيد الحفاظ، ومرتمى الألفاظ، ومرتمق الألحاظ، ذو المذهب الواضح، الذي لا يضل سالكه، ولا يظلم به إن دجى الليل حالكه، تمذهب به جماعة، وكاد الزمان يعقد عليه إجماعه، والآن هو إنما محي رسمه، وبقي حكمه، هذا وقد فرّقت أوصاله الدود، ومزقت أعضاءه اللحود، وأبلى جدته التراب، وأطال مدّته

الذهاب، لكن هو العلم/ (ص 278) الذي يورث صاحبه الخلود، ويحييه وقد بليت محاسن أوجه وخدود، قال سفيان بن عيينة «1» : ما رأيت رجلا أعلم بالحلال والحرام من سفيان الثوري، وقال عبد الله بن المبارك «2» : كتبت عن ألف ومائة شيخ ما فيهم أفضل من سفيان الثوري، ولا أعلم على وجه الأرض أفضل من سفيان. وقال الأوزاعي «3» : لم يبق من تجمع عليه الأمة بالرضا والصحة إلا سفيان، وقال يحيى القطان «4» : سفيان فوق مالك في كل شئ، وقال أبو أسامة «5» : من أخبرك أنه رأى مثل سفيان فلا تصدقه، وقال ابن أبي ذئب «6» : ما رأيت بالعراق أحدا يشبه ثوريّكم، وقال سفيان: العالم طبيب الدّين، والدرهم داء الدّين، فإذا اجترّ الطبيب الداء إليه متى يداوي غيره، وقال القعقاع بن حكم «7» :

كنت عند المهدي «1» وأتى سفيان الثوري، فلما دخل سلّم عليه تسليم العامّة، ولم يسلّم بالخلافة، والربيع «2» قائم على رأسه متكئا على سيفه، يرقب أمره، فأقبل المهدي عليه بوجه طلق، وقال له: يا سفيان تفرّ مناههنا وههنا، وتظن أنا لو أردناك بسوء لم نقدر عليك؟ فقد قدرنا عليك الآن، أفما تخشى أن نحكم فيك بهوانا؟ قال سفيان: إن تحكم فيّ يحكم فيك ملك قادر يفرق بين الحق والباطل. فقال له الربيع: يا أمير المؤمنين ألهذا الجاهل أن يستقبلك بمثل هذا؟ ائذن لي أن أضرب عنقه، فقال له المهدي: اسكت ويلك، وهل يريد هذا وأمثاله إلا أن نقتلهم فنشقى بسعادتهم؟ اكتبوا عهده على قضاء الكوفة، على أن لا يعترض عليه، فكتب عهده ودفع إليه، فأخذه وخرج فرمى به في دجلة وهرب، فطلب في كل بلد فلم يوجد، ولما امتنع من قضاء الكوفة وتولّاه شريك «3» بن عبد الله النخعي، قال الشاعر/ (ص 279) : [الطويل] تحرر سفيان وفرّ بدينه ... وأمسى شريك مرصدا للدراهم وحكي عن أبي صالح المدائني «4» أنه قال: إني لأحسب سفيان الثوري يوم

151 - حماد بن سلمة بن دينار

القيامة حجة من الله على الخلق، يقال لهم: لم تدركوا نبيكم صلى الله عليه وسلم فقد رأيتم سفيان الثوري، هلا اقتديتم به؟ مولده سنة بضع وتسعين للهجرة، وتوفي بالبصرة سنة إحدى وستين ومائة متواريا من السلطان ودفن عشاء ولم يعقب. ومنهم 151- حماد بن سلمة بن دينار «1» الإمام الحافظ شيخ الإسلام أبو سلمة الربعي مولاهم البصري البزاز البطائني النحوي المحدّث، شرارة زند، ونوارة رند «2» ، وسحابة ندّ. وسحّاة عنبر ختم بها معاقد بند، سلّم به إلى أبيه سلمة، وحمد لدين ما أسلمه، جددا ما نكّب عن طريقه ولا كلّ عن فريقه، ولا نكّد به إلا عدوا جرّعه غيظا بريقه. قال وهيب «3» : حماد بن سلمة: سيدنا وأعلمنا، وقال أحمد بن حنبل:

حمّاد أعلم الناس بثابت البناني «1» ، وأثبتهم في حميد «2» ، وقال علي بن المديني «3» : كان عند يحيى بن ضريس «4» عن حماد عشرة آلاف حديث، وقال شهاب بن معمر «5» : كان حماد بن سلمة يعدّ من الأبدال. وهو أول من صنّف التصانيف مع ابن أبي عروبة «6» ، وكان بارعا في العربية فقيها فصيحا مفوّها صاحب سنة. وقال ابن مهدي «7» : لو قيل لحماد إنك تموت غدا ما قدر أن يزيد

152 - عبد الله بن المبارك

في العمل شيئا، وقال عفان «1» : ما رأيت أشدّ مواظبة على الخير وقراءة القرآن والعمل لله منه، وقال: عمرو بن عاصم «2» كتبت عن حماد بن سلمة بضعة عشر ألف حديث. وقيل إن حمادا تزوج سبعين امرأة ولم يولد له ولد، وقال أحمد بن حنبل: إذا رأيت الرجل ينال من حماد بن سلمة فاتهمه على الإسلام، توفي بعد عيد النحر سنة سبع وستين ومائة. وقد قارب الثمانين/ (ص 280) ومنهم 152- عبد الله بن المبارك «3» ابن واضح المروزي مولى بني حنظلة، والمؤتى من كل شئ أفضله، هو المبارك وابنه، وأصله الزاكي وغصنه لعلم جدّ جدوله، وصال منصله، وصاد الشوارد أجدله، هذا إلى دماثة خلق خف على القلوب محمله، وأسرع إلى الخواطر توصّله، ينزهه ورع ما رنّق غديره قذى، ولا نبع منه أذى، بنقاء سريرة أصفى من الماء في المزن،

153 - سفيان بن عيينة بن أبي عمران ميمون الهلالي

وأغسل للغماء من السرور غبّ الحزن، تفقه على الثوري «1» ومالك «2» وروى عنه الموطأ، وكان كثير الانقطاع محبّا للخلوة، شديد التورّع جامعا بين العلم والزهد، نقل أبو عبد الله الجبّائي «3» أن عبد الله بن المبارك سئل أيّما أفضل معاوية بن أبي سفيان «4» أم عمر بن عبد العزيز «5» ؟ فقال: والله إن الغبار الذي دخل في أنف معاوية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من عمر بألف مرة، صلّى معاوية خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: سمع الله لمن حمده، فقال معاوية ربنا ولك الحمد، فما بعد هذا؟ ومن كلامه: تعلمنا العلم للدنيا فدلنا على ترك الدنيا. ومن شعره: [البسيط] قد يفتح المرء حانوتا لمتجره ... وقد فتحت لك الحانوت بالدّين صيّرت دينك شاهينا تصيد به ... وليس يفلح أصحاب الشواهين توفي منصرفا من الغزو بهيت في رمضان سنة نيف وثمانين ومائة، ومولده بمرو سنة ثمان عشرة ومائة. ومنهم 153- سفيان بن عيينة بن أبي عمران ميمون الهلالي «6» قمر طلع من هلال، ودرّ تجسّد من زلال، من خير من تنقلت به الأصلاب،/ (ص 281)

ونفّلت له الأسلاب، ونقلت له خوص المطايا الأجلاب «1» ، وأقبلت إليه الطلبة في هيئة الأطلاب «2» ، وحطّت عليه بأملها الركايب الطلاح «3» ، وخطت إليه بفللها السحايب الدلاح «4» ، طالما شكم الموقف بالصخرات موقفه وحمد منه معرّف المعرفة، وأجمع جمع أنه ما رأى مثله بالعيان ولا بالصفة، ولد بالكوفة في منتصف شعبان سنة سبع ومائة، ونقله أبوه إلى مكة، وكان إماما عالما ثبتا زاهدا ورعا، مجمعا على صحة حديثه وروايته، وحج سبعين حجة، وروى عن جماعة من الأعيان، وروى عنه خلق كثير، قال ابن خلكان «5» رحمه الله: رأيت في بعض المجاميع أن سفيان خرج يوما إلى من جاءه يسمع منه وهو ضجر، فقال: أليس من الشقاء أن أكون جالست ضمرة بن سعيد «6» وجالس هو أبا سعيد الخدري «7»

وجالست عمرو بن دينار «1» وجالس هو عبد الله بن عمر «2» ، وجالست الزهري «3» ، وجالس هو أنس بن «4» مالك حتى عدّ جماعة ثم أنا أجالسكم، فقال له حدث في المجلس أتنصف يا أبا محمد، قال: إن شاء الله تعالى فقال: والله لشقاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بك أشدّ من شقائك بنا. فأطرق وأنشد قول أبي نواس «5» : [مجزوء الرمل] خلّ جنبيك أرام «6» ... وامض عنه بسلام مت بداء الصمت خير ... لك من داء الكلام وتفرق الناس وهم يتحدثون برجاحة الحدث، وكان ذلك الحدث يحيى بن أكثم «7» ، فقال سفيان: هذا الغلام يصلح لصحبة هؤلاء، يعني السلطان. وقال

154 - إسحاق بن أبي الحسن إبراهيم بن مخلد بن إبراهيم بن عبد الله الحنظلي المروزي المعروف بابن راهويه أبو يعقوب

الشافعي «1» : ما رأيت أحدا فيه آلة الفتيا ما في سفيان، وما رأيت أكف منه عن الفتيا، وقال سفيان: دخلت الكوفة ولم يتم لي عشرون سنة، فقال أبو حنيفة «2» لأصحابه،/ (ص 282) ولأهل الكوفة: جاءكم حافظ علم ابن دينار، قال: فجاء الناس يسألونني عن عمرو بن دينار، فأوّل من صيرني محدثا أبو حنيفة فذاكرته. توفي بمكة في آخر جمادى الآخرة سنة ثمان وتسعين ومائة ودفن بالحجون. ومنهم 154- إسحاق بن أبي الحسن إبراهيم بن مخلد بن إبراهيم بن عبد الله الحنظلي المروزي المعروف بابن راهويه أبو يعقوب «3» الحافظ الكبير، نزيل نيسابور وعالمها، إمام لا يعام في بحره، وتمام لا يغام على بدره، لسان جدل لا يحج، وبيان جدل للمحتج، أثنت عليه الأئمة، وثنت إليه الأزمّة، وخلف في الخير سالف الأمة، وخلف الناس بعده تتمة، وأقامت إليه المطيّ صدورها، وأدامت به سرورها، وترامت إليه بالطلبة أشباحها، وأمّت به حيث يطلع صباحها، وكان لحنا بالحجج إذا ناظر، محسنا إذا حاضر، لا تمل مجالسته ولا تخل بالصّواب مناقشته. ذكره الدارقطني «4» فيمن روى عن الشافعي «5» ، وعدّه البيهقي «6» في

أصحاب الشافعي، وكان قد ناظر الشافعي في مسألة جواز بيع دور مكة، فلما عرف فضله نسخ كتبه وجمع مصنفاته، قال أحمد بن حنبل: إسحاق عندنا إمام من أئمة المسلمين، وما عبر الجسر أفقه منه. قال محمد بن أسلم الطوسي «1» لما بلغه موت إسحاق: ما أعلم أحدا كان أخشى لله من إسحاق، يقول الله إنما يخشى الله من عباده العلماء، وكان أعلم الناس، ولو كان الحمادان والثوري في الحياة لاحتاجوا إليه، وقال أحمد أيضا: لا أعلم لإسحاق نظيرا بالعراق لم يلق مثله، وقال إسحاق: أحفظ سبعين ألف حديث وأذاكر بمائة ألف، وما سمعت قط شيئا إلا حفظته، ولا حفظت شيئا قط فنسيته. وقال أيضا: كأني أنظر إلى مائة ألف حديث/ (ص 283) في كتبي وثلاثين ألفا أسردها، وقال أبو داود الجفّان «2» : أملى علينا إسحاق من حفظه أحد عشر ألف حديث، ثم قرأها علينا فما زاد حرفا ولا نقص حرفا. وقال أبو حاتم «3» : العجب من إتقانه وسلامته من الغلط مع ما رزق من الحفظ، وقال أبو زرعة «4» : ما رؤي أحفظ من إسحاق، وله مسند مشهور، رحل إلى الحجاز والعراق واليمن والشام، وسمع ابن عيينة «5» وطبقته، وسمع منه البخاري ومسلم والترمذي،

155 - إبراهيم بن خالد بن أبي اليمان الكلبي الفقيه البغدادي أبو ثور

وكانت ولادته سنة إحدى وستين ومائة وسكن آخر عمره بنيسابور، وتوفي بها ليلة النصف من شعبان سنة ثمان وثلاثين وقيل سنة سبع وثلاثين ومائتين، وله سبع وسبعون سنة. ومنهم 155- إبراهيم بن خالد بن أبي اليمان الكلبي الفقيه البغدادي أبو ثور «1» ورد البحر فاستقل السواقي، وظفر بالمنى فهان عليه ما كان يلاقي، وصحب الإمام المعرق في قريش وأنشد: كلما فات في الليالي المواضي ... فهو في ذمّة الليالي البواقي صحب الإمام الشافعي، ونقل الأقوال عنه، وكان أحد الفقهاء الأعلام والثقات المأمونين في الدين، واشتغل أولا بمذهب أهل الرأي، حتى قدم الشافعي العراق، فاختلف إليه واتّبعه ورفض مذهبه الأول، ولم يزل كذلك إلى أن توفي لثلاث بقين من صفر سنة أربعين ومائتين ببغداد، وله الكتب المصنفة في الأحكام جمع فيها بين الحديث والفقه. ومنهم 156- محمد بن نصر الإمام أبو عبد الله المروزي «2» أحد الأئمة الأعلام، والأزمّة فيما تمليه الأقلام، ضرب الآفاق في طلب

الحديث/ (ص 284) واغترب لا يقنعه السير الحثيث، ثم لم يرض بمجرد الرواية حتى وصلها بالدراية، وتفقه فيما اتصل به حتى أبرزه علما جليا، ومثّله عيانا مرئيا، ولد ببغداد، ونشأ بنيسابور، وسكن سمرقند وغيرها، وكان أبوه مروزيا. تفقه أبو عبد الله على أصحاب الشافعي بمصر وعلى إسحاق بن راهويه «1» ، ورحل في طلب الحديث والعلم إلى الآفاق، قال الحاكم «2» : هو إمام الحديث في عصره بلا مدافعة، وقال الخطيب «3» : كان من أعلم الناس باختلاف الصحابة ومن بعدهم، وقال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم «4» : كان محمد بن نصر إماما بمصر فكيف بخراسان. وقال القاضي محمد بن محمد «5» كان الصدر الأول من مشايخنا يقولون: رجال خراسان أربعة: ابن المبارك «6» ، وابن راهويه، ويحيى بن يحيى «7» ومحمد بن نصر: وقال السليماني «8» : محمد بن نصر

المروزي إمام الأئمة الموفق من السماء، له كتاب تعظيم قدر الصلاة، وكتاب رفع اليدين، وغيرهما من الكتب المعجزة، وكان له مال يقارض عليه وينفق عليه من غلته، وكان إسماعيل بن أحمد «1» والي خراسان وأخوه يصله كلّ منهما بأربعة آلاف في السنة، ويصله أهل سمرقند بأربعة آلاف، فكان ينفقها من السنة إلى السنة فقيل له: لو ادخرت لنا منه! فقال: سبحان الله أنا بقيت بمصر كذا كذا سنة قوتي وثيابي وكاغدي وحبري وجميع ما أنفقه على نفسي في السنة عشرون درهما، أفترى إن ذهب ذا لا يبقى ذاك، وقد ذكرت له كرامات، منها ما رواه أبو الفضل محمد بن عبيد الله «2» قال: سمعت الأمير إسماعيل بن أحمد يقول: كنت بسمرقند فجلست يوما للمظالم/ (ص 285) وجلس أخي إلى جنبي فدخل أبو عبد الله محمد بن نصر فقمت له إجلالا لعلمه، فلما خرج عاتبني أخي وقال: أنت والي خراسان تقوم لرجل من الرعية، هذا ذهاب السياسة، فبتّ تلك الليلة وأنا منقسم الفكر، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ بعضدي، فقال لي: ثبت ملكك وملك بنيك بإجلالك محمد بن نصر، ثم التفت إلى إسحاق وقال: ذهب ملك إسحاق وملك بنيه باستخفافه بمحمد بن نصر. وقال

157 - محمد بن إبراهيم بن المنذر أبو بكر النيسابوري

ابن حزم «1» في بعض تواليفه: أعلم الناس من كان أجمعهم للسنن وأضبطهم لها وأذكرهم لمعانيها، وأدراهم بصحتها، وبما أجمع الناس عليه مما اختلفوا فيه، وما نعلم هذه الصفة بعد الصحابة أتم منها في محمد بن نصر المروزي، فلو قال قائل: ليس لرسول الله صلى الله عليه وسلم حديث ولا لأصحابه إلا وهو عند محمد بن نصر لما بعد عن الصدق توفي بسمرقند سنة أربع وتسعين ومائتين. ومنهم 157- محمد بن إبراهيم بن المنذر أبو بكر النيسابوري «2» الحافظ الفقيه شيخ الحرم مشكاة النقل، ومرآة العقل، ألقى ما أغلق إليه الأقاليد، وأقال عثرات دينه من آفة التقليد، وجعل كتبه حججا لا تخصم، ولججا ما منها معصم، لم يخلّ ثنيّة ما طلع، ولا خفيّة ما استطلع، فبنت مصنفاته مع الإعلاق، وحفظت حفظ الضنين من الإملاق، فكانت مما تغلق عليه الخزائن أبوابها وتقفل، ويتفطن للاحتراز عليها ثم لا يبالي بما تغفل. عدّه الشيخ أبو إسحاق «3» في طبقات الفقهاء الشافعية، وقال: صنّف في اختلاف الفقهاء كتبا لم يصنّف أحد مثلها، واحتاج إلى كتبه الموافق والمخالف،

158 - أبو سليمان الخطابي حمد بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب القرشي العدوي البستي من ولد زيد بن الخطاب ابن نفيل

ولا أعلم عمّن أخذ الفقه، قال: وتوفي بمكة سنة تسع أو عشر/ (ص 286) وثلاثمائة، وهذا لا يصح فإن ابن عمار «1» لقيه وسمع منه في سنة ست عشرة وثلاثمائة، وأرّخ ابن القطان «2» وفاته سنة ثمان عشرة وثلاثمائة، ومن مصنفاته كتاب المبسوط في الفقه، وكتاب الإشراف في اختلاف العلماء وكتاب الإجماع، وكان غاية في معرفة الخلاف والدليل، مجتهدا لا يقلد أحدا. ومنهم 158- أبو سليمان الخطابي حمد بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب القرشي العدوي البستي من ولد زيد بن الخطاب ابن نفيل «3» ومن بقية أبناء ذلك القيل، وغدر ما غادر ذلك السيل، والطراز الذي امتد رقمه في ذلك الثوب من الكم إلى الذيل. هو ممن أتيت على ذكره في فواضل السمر، وهو به أولى ولهذا ما كدت أذكره هنا لولا أن مثله ممّن يباهى به، ويباهل الشرق والغرب بتذهيبه، سمع بالعراق أبا عليّ الصفار «4» وأبا جعفر

الرذاذ «1» وغيرهما، وروى عنه الحاكم أبو عبد الله النيسابوري «2» ، وعبد الغافر الفارسي «3» ، وكان فقيها أديبا، صنّف التصانيف البديعة منها: غريب الحديث، ومعالم السنن في شرح سنن أبي داود، وأعلام السنن في شرح البخاري، وكان يشبّه في عصره بأبي عبيد القاسم بن سلّام «4» علما وزهدا وأدبا وورعا وتدريسا وتأليفا، توفي في ربيع الأول سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة، وذكره صاحب اليتيمة، وأنشد له قوله: [الطويل] وما غربة الإنسان في شقّه النوى ... ولكنها والله في عدم الشكل وإني غريب بين بست وأهلها ... وإن كان فيها أسرتي وبها أهلي وقوله: [البسيط] شر السّباع العوادي دونه وزر ... والناس شرهم ما دونه وزر

159 - الحسن بن محمد بن الحسن بن حيدر بن علي أبو الفضائل القرشي العدوي العمري عرف بالصغاني الحنفي

كم معشر سلموا لم يؤذهم سبع ... وما ترى بشرا لم يؤذه بشر «1» ومنهم/ (ص 287) 159- الحسن بن محمد بن الحسن بن حيدر بن علي أبو الفضائل القرشي العدوي العمري عرف بالصغّاني الحنفي «2» المحدّث الفقيه اللغوي رضي الدين، صاحب التصانيف، إمام مشهور، وغمام مشكور، وكمام تفتّح بالشذور «3» ، وتمام سلّم مما يعتري من النقص للبدور، وقد ذكرته في فواصل السمر في فضائل آل عمر، وهو أمسّ به وأمدّ لسببه على أن المطنب فيه مقصر، والموفى متعذر، وهيهات أن تبلغ السماء أو تحصى الأسماء، أو توفّى حق شكرها النعماء. ولد بمدينة كوهور من بلاد الهند في عاشر صفر سنة سبع وسبعين وخمس مائة ونشأ بغزنة، ودخل بغداد سنة خمس عشرة وستمائة، وسمع بعدّة بلاد قال عبد المؤمن الدمياطي «4» : كان شيخا صالحا صدوقا صموتا عن فضول الكلام

ملازما للصوم، إماما في الحديث واللغة والفقه، وقال ابن الشعّار «1» في عقود الجمان: كان فاضلا في النحو والعربية، إماما في اللغة، قدم العراق، وأقام ببغداد مديدة ثم حج ودخل اليمن، ونفق له بها سوق، ثم قدم العراق وأقام ببغداد وتامر هناك، وكان عنده خبرة بلعب الرمح والنصال والنبل والخرندازات وركوب الخيل، والتصيد بالكلاب، وجميع الآداب الملوكية، وأثرى وكثر ماله، ونفّذ إلى الخليفة يشعره أنه قد حوى من الذهب العين سبعين ألف دينار، ومثل ذلك أثاث وقماش وكتب، وغير ذلك من آلات السلاح. وله من المصنفات في الحديث والفقه واللغة والنحو والتصريف بضع وعشرون مصنفا، منها مشارق الأنوار في الجمع بين الصحيحين، وشرح البخاري، وكتاب في علوم الحديث، ووكف السحابة في وفيات الصحابة، وكتاب/ (ص 288) مجمع البحرين في اللغة اثنا عشر مجلدا، والعباب الزاخر واللباب الفاخر في اللغة أيضا عشرون مجلدا، وصنف كتابا في مناسك الحج ختمه بأبيات وهي: [البسيط] شوقي إلى الكعبة الغراء قد زادا ... فاستحمل القلص الوخادة الزادا إذا قلا الحنظل العامي منتجعا ... وعيرك انتجع السعدان والرادا «2» أسرت سرحك حتى آض «3» عن كثب ... نياقها رازحا والصعب منقادا فاقطع علايق ما ترجوه عن عرض ... واستودع الله أموالا وأولادا

160 - أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان بن موسى بن أبي نصر الكردي الشهرزوري، عرف بابن الصلاح

ومما أورد له ابن الشعار أيضا: [الوافر] أطرف العين مالك لا تنام ... عسى طيف يؤرقه حمام فينقع غلة وتثيب أجرا ... ويشفى من أضرّ به السّقام تقضّت بالمنى أيام عمري ... وأخلق جدتي شهر وعام ولي أرب لو ان الدهر يوما ... يقربه ويلبسني الحمام لروض ما تصوّح من شبابي ... وأضحى الشيخ وهو به غلام توفي ببغداد ليلة الجمعة تاسع عشر شعبان سنة خمسين وستمائة ودفن بداره ثم نقل إلى مكة شرفها الله تعالى بمقتضى وصيته وإعداده لمن يحمله إليها خمسين دينارا. ومنهم 160- أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان بن موسى بن أبي نصر الكردي الشهرزوري، عرف بابن الصلاح «1» تقي الدين الفقيه الحافظ شيخ الشافعية، رجل يرجع إلى فتاويه، ويمنع كبرياؤه من يناويه، دوّنت فتاويه وأشير إليها، وأدير زمانا العمل عليها، وكان لقنا بالحديث وأجوبته، ويفاضل ما بين رجاله وأسولته، أذهب في هذا صدر شبيبته، ولقي الخصم لا يبالي بصدم كتيبته ووطي حجج/ (ص 289) أهل المنازعة بكلكله، ورمى شمس أرباب المقاذعة بأنكله «2» ، وكان لا يعاين

بترخيص في دين، ولا تنقيص إلا لمعتدين، لكنه كان يسرّ على ابن عبد السلام «1» دقائق الضغناء، ويشحن له باطنه بحقائق الشحناء، ويعين عليه غير أهل مذهبه، ولا يخليه من حريق لهبه، ويغري به الملك الأشرف «2» شاه، إن من موسني على ألسنة حاشيته، ويسري إليه المكايد في ليل ناشيته، ويسلط عليه قوارض الدياب، ويرمي على جسمه قوارض الذباب، إلى أن امتلأ صدر الملك الأشرف عليه حنقا، وابتدأ لا يبل عليه لغليله حرقا، لمكانة كانت لابن الصلاح ولأهل عصبيته من خاطره، ولانحراف منه على ابن عبد السلام كان يراه به قذى ناظره، إلى أن كان ما هو معروف، مما أرج به ذكر ابن عبد السلام، وعرج إلى حيث ينجلي عن الصبح الظلام، والسكوت أولى من نبش ما كان كامنا بين أئمة الإسلام، وكان أحد فضلاء عصره في التفسير والحديث والفقه وأسماء الرجال، وما يتعلق بعلم الحديث ونقل اللغة، وكان له مشاركة في فنون عديدة، وكانت فتاويه مسدّدة، قرأ الفقه على والده، وكان من جلة المشايخ الأكراد، المشار إليهم، ثم نقله والده إلى الموصل فاشتغل بها مدة ثم سافر إلى خراسان، وأقام بها مدة،

161 - يحيى بن شرف بن مزي بن الحسن بن الحسين الحزامي النووي

وحصّل علم الحديث هناك، ثم رجع إلى الشام، وتولى تدريس المدرسة الصلاحية ببيت المقدس، وأقام مدة وأشغل الناس وانتفعوا به، ثم عاد إلى دمشق فولي تدريس الرّداحيه، ومشيخة دار الحديث الأشرفية، وتدريس الشامية التي داخل/ (ص 290) دمشق، وقام بالوظائف الثلاث من غير إخلال بشيء إلا لعذر شرعيّ، وكان من العلم والدين على قدم حسنة، وله مصنفات مفيدة وإشكالات على الوسيط، وجمعت فتاويه في مجلّد ولم يزل أمره جاريا على سداد وصلاح حال، واجتهاد في الاشتغال والنفع، إلى أن توفي يوم الأربعاء، وقت الصبح، وصلّي عليه بعد الظهر وهو الخامس والعشرون من شهر ربيع الآخر، سنة ثلاث وأربعين وستمائة بدمشق، ودفن بمقبرة الصوفية، ومولده سنة سبع وسبعين وخمس مائة. ومنهم 161- يحيى بن شرف بن مزي بن الحسن بن الحسين الحزامي النووي «1» الشافعي الحافظ شيخ الإسلام علم الأولياء، قدوة الزهاد محيي الدين أبو زكريا صاحب التصانيف، رجل علم وعمل ونجاح سؤل وأمل، وكامل وقلّ مثله في الناس من كمل، وفّق للعلم وسهّل عليه ويسّر له وسيّر إليه، من أهل بيت من نوى من كرام القرى وكرام أهل القرى، لهم بها بيت مضيف لا تخمد ناره ودار قرى لا يخمل مناره، طلع من أممهم سادات، وسمع لكرمهم عادات، وجمع لهممهم أطراف السعادات، ونبت فيهم نباتا حسنا، ونبغ ذكاء ولسنا، وأتى دمشق متلقنا للأخذ عن علمائها، متقللا من عيشها حتى كاد يعفّ فلا يشرب من مائها، فنبه شكره ونهب مدى الآفاق ذكره، وحلق اسمه، وذكر تصنيفه

وعلمه، فلما سوّلت للملك الظاهر «1» بيبرس أمانيه، وحدثته نفسه من الظلم بما كاد يأتي/ (ص 291) قواعده من مبانيه، وكتب له من الفقهاء من كتب، وحمله سوء رأيه على بيع آخرته بشيء من الذهب، ولم يبق سواه فلما حضر هابه وألقى إليه الفتيا فألقاها وقال: لقد أفتوك بالباطل ليس لك أخذ معونة حتى ينفذ أموال بيت المال، وتعيد أنت ونساؤك ومماليكك وأمراؤك ما أخذتم زائدا عن حقكم، وتردوا فواضل بيت المال إليه. وأغلظ له في القول، فلما خرج قال: اقطعوا وظائف هذا الفقيه ورواتبه، فقيل: إنه لا وظيفة له ولا راتب، قال: فمن أين يأكل؟ قالوا: مما يبعث إليه أبوه من نوى، فقال: والله لقد هممت بقتله، فرأيت كأن أسدا فاغرا فاه بيني وبينه لو عرّضت له لالتقمني. ثم وقر له في صدره ما وقر، ومدّ إليه يد المسالمة يسأله وما افتقر. ثم كانت سمعة النووي التي شرّقت وغرّبت، وبعدت وقربت، وعظم شأن تصانيفه، وبيان البيان في مطاوي تواليفه، ثم هي اليوم محجة الفتوى وعليها العمل وما ثمّ سوى سببها الأقوى. ولد في المحرّم سنة إحدى وثلاثين وستمائة، وقدم دمشق سنة تسع وأربعين فسكن في الرواحية، وتناول خبز المدرسة، وحفظ التنبيه في أربعة أشهر ونصف، وقرأ ربع المهذب حفظا في باقي السنة، ثم حجّ مع أبيه، ومرض أكثر الطريق، قال مخبرا عن نفسه: إنه كان يقرأ كل يوم اثني عشر درسا على

مشايخه، شرحا وتصحيحا في الحديث والفقه والنحو والأصلين والتصريف، وأسماء الرجال. قال: وكنت أعلّق جميع ما يتعلق بها من شرح مشكل ووضوح عبارة، وضبط لغة، وبارك الله لي في وقتي، وخطر لي أن أشتغل في/ (ص 292) الطب واشتريت كتاب القانون، فأظلم قلبي، وبقيت أياما لا أقدر على الاشتغال، فأفقت على نفسي، وبعت القانون فأنار قلبي. وسمع الكتب الستة والمسانيد والموطأ وغير ذلك، ولازم الاشتغال والتصنيف ونشر العلم، والعبادة والأوراد، والصيام والذكر، والصبر على العيش الخشن في المأكل والملبس ملازمة كلّية لا مزيد عليها، ملبسه ثوب خام، وعمامته شبختانيّة صغيرة، وتخرّج به جماعة من العلماء، وكان لا يضيّع له وقتا في ليل ولا نهار إلا في اشتغال حتى في الطرق، ودام على هذا ستّ سنين، ثم أخذ في التصنيف والإفادة والنصيحة، وقول الحق مع ما هو فيه من المجاهدة لنفسه والعمل بدقائق الورع والمراقبة، وتصفية النفس من الشهوات والشوائب ومحقها من أغراضها، وكان حافظا للحديث وفنونه ورجاله وصحيحه وعلله، رأسا في معرفة المذهب، [حكى أبو الحسن ابن العطار «1» عنه أنه قال: كنت مريضا بالرواحية فبينا أنا ليلة في الصفة (الشرقية) بها ووالدي وإخوتي نائمون إلى جانبي إذ عافاني الله من ألمي ونشطني للذكر فجعلت أسبّح بين السر والجهر، فبينما أنا كذلك إذا بشيخ حسن الصورة جميل المنظر يتوضأ على البركة قريبا من نصف الليل، فلما فرغ من وضوئه أتاني وقال لي: يا ولدي لا تذكر فتزعج

أباك وإخوتك وأهل المدرسة فقلت: يا شيخ من أنت؟ قال: أنا ناصح لك، ودعني أكون من كنت، فوقع في نفسي أنه إبليس، فقلت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ورفعت صوتي بالتسبيح، فأعرض عني ومشى نحو باب المدرسة، فقمت أتبعه فلم أجده، ووجدت الباب مقفلا، وفتشتها فلم أجد أحدا فيها، غير من كان فيها، فقال لي والدي: ما خبرك يا يحيى؟ فأخبرته، فجعل هو وإخوتي [يتعجبون وقعدنا كلنا نسبح ونذكر ... «1» ] . قال ابن فرح «2» : صار الشيخ محيي الدين إلى ثلاث مراتب كل مرتبة منها لو كانت لشخص لشدّت إليه الرحال: العلم والزهد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. حكى لي العلامة أبو اليسر «3» : أنه جرى في مجلس أبيه قاضي القضاة أبي عبد الله بن الصايغ «4» ذكر النووي وشيخه العالم الرباني أبا إبراهيم إسحاق

ابن أحمد بن عثمان المغربي «1» الشافعي رحمهما الله، فقال ابن الصايغ: لو أدرك القشيري «2» - صاحب الرسالة- النووي وشيخه لما قدّم عليهما أحدا من مشايخ الرسالة، لما جمع فيهما من العلم والعمل والزهد والورع والنطق بالحكم وغير ذلك. [وحكى الشيخ القدوة المسلك أبو الحسن علي «3» المقيم بجامع بيت لهيا «4» بها قال: مرضت بالنقرس رجلي فعادني النووي فلما جلس إلي جعل يتكلم في الصبر، وجعل الألم الذي بي يذهب، فلما انتهى كلامه جميعه زال الألم جميعه، فعلمت أن ذلك ببركته. أو كما قال] . «5»

وقال شمس الدين بن «1» الفخر كان إماما بارعا حافظا متقنا، أتقن علوما شتىّ وصنّف التصانيف الجمّة، وكان شديد الورع والزهد، تاركا لجميع ملاذ الدنيا من المأكول إلا ما يأتيه به أبوه من تين وكعك، وكان يلبس الثياب المرقّعة الرثّة ولا يدخل الحمام، ولا يأكل الفواكه، ولم يتناول من الجهات درهما، وحكى أبو الحسن ابن العطار أنه عذل في عدم دخوله الحمام، وتضييق العيش في مأكله وملبسه وأحواله وخوّف/ (ص 293) من مرض يعطّله عن الاشتغال. فقال: إنّ فلانا صام وعبد الله حتى اخضر جلده، وكان يمتنع من أكل الفواكه والخيار، ويقول: أخاف أن ترطّب جسمي وتجلب النوم، وكان يأكل في اليوم والليلة أكلة، ويشرب مرة واحدة عند السحر. قال ابن العطار: كلمته في الفاكهة، فقال: دمشق كثيرة الأوقاف، وأملاك من تحت الحجر والتصرّف لهم لا يجوز إلا على وجه الغبطة لهم، ثم المعاملة لهم فيها على وجه المساقاة، وفيها خلاف، فكيف تطيب نفسي بأكل ذلك. [وأيضا فغالب من يطعم إنما يأخذ الأقلام والعين غصبا أو سرقة، لأن أحدا ما يهون عليه بيع أقلام أشجاره وكشط لحائها، ولا جرت بذلك عادة ولا تجارة أحد من خلق الله تعالى، فيطلع الثمر في نفس ذلك المغصوب أو المسروق، فتكون الثمرة ملكا لصاحب القلم أو العين لا لصاحب الشجرة ويبقى بيعه وشراؤه حراما] . «2» وكان لا يقبل من أحد شيئا إلا في النادر ممّن لا يستغل عليه، أهدى له فقير

إبريقا فقبله، وعزم عليه البرهان الإسكندري «1» للفطر عنده في رمضان، فقال أحضر الطعام إلى هنا ونفطر جملة فأكل من طعامه، وكان لونين، وربما جمع بعض الأوقات بين أدمين، وكان يواجه الملوك والظلمة بالإنكار ويكتب إليهم ويخوّفهم بالله، كتب مرة إلى سلعك الخزاندار «2» كافل الممالك: من عبد الله يحيى النووي سلام الله ورحمته وبركاته على المولى المحسن ملك الأمراء بدر الدين أدام الله له الخيرات وبارك له في جميل أحواله آمين، ونهي إليّ العلوم الشريفة، أن أهل الشام في ضيق وضعف حال بسبب قلة الأمطار، وذكر فصلا طويلا، وفي طيّ ذلك ورقة إلى الملك الظاهر «3» ، وله غير رسالة إلى الملك الظاهر في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ووافقه مرة بدار العدل، فحكى أن الظاهر قال: أنا أفرغ منه، وحدث له معه فصول، ثم إن الشيخ سافر فزار القدس ثم عاد إلى نوى، فمرض عند والده وحضرته المنية، فانتقل إلى الله عز وجل في الرابع والعشرين من شهر رجب الفرد سنة ست وسبعين وستمائة، وقبره ظاهر مقصود بالزيارة رحمه الله تعالى. [وحكى لنا أخوه الشيخ عبد الرحمن عنه أنه لما مرض مرض موته اشتهى التفاح فأتي به فلم يأكله، فلما مات رآه بعض أهله فقال له: ما فعل الله بك فقال: أكرم نزلي وتقبل عملي، وأوّل قرى جاءني التفاح، وحكى لنا أنه لما دفن حيث هو إلى أن أراد أهله أن يبنوا على ضريحه قبّة فرأته عمته وهو يقول لها: قولي لأخي والجماعة لا يفعلوا هذا الذي عزموا عليه من البنيان عليه، فإنهم كلما بنوا شيئا يهدم عليهم] . «13»

162 - أحمد بن عبد الحليم (ابن تيمية)

ومنهم 162- أحمد بن عبد الحليم (ابن تيمية) «1» (ص 294) أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم الحراني العلامة الحافظ الحجة المجتهد المفسر شيخ الإسلام، نادرة العصر، علم الزهاد تقي الدين أبو العباس ابن تيمية، هو البحر من أي النواحي جئته، والبدر من أي الضواحي أتيته، جزت آباده لشأو «2» ما قنع به، ولا وقف عنده طليحا «3» مريحا من تعبه طلبا لا يرضى لغاية، ولا يقضى له بنهاية، رضع ثدي العلم منذ فطم، وطلع وجه الصباح ليحاكيه فلطم «4» ، وقطع الليل والنهار دائبين، واتخذ العلم والعمل صاحبين، إلى أن أنسى السلف بهداه، وأنأى الخلف عن بلوغ مداه:» [الوافر]

وثقّف الله أمرا بات يكلؤه ... يمضي حساماه فيه السيف والقلم بهمة في الثريا أثر أخمصها ... وعزمة ليس من عاداتها السأم على أنه من بيت نشأت منه علماء في سالف الدهور، ونشأت منه عظماء على المشاهير الشهور، فأحيا معالم بيته القديم إذ درس، وجنى من فننه الطريب ما غرس، وأصبح في فضله آية، إلا أنه آية الحرس، عرضت له الكدى «1» فزحزحها، وعارضته البحار فضحضحها «2» ، ثم كان أمة وحده، وفردا حتى نزل لحده، أخمل من القرناء كل عظيم، وأخمد من أهل الفناء كل قديم، ولم يكن منهم إلا من يجفل عنه أجفال الظليم «3» ، ويتضاءل لديه العديم. ما كان بعض الناس إلا مثلما ... بعض الحصا الياقوتة الحمراء جاء في عصر مأهول بالعلماء مشحون بنجوم السماء، تموج في جانبيه بحور خضارم، وتطير بين خافقيه نسور قشاعم «4» ، وتشرق في أنديته (ص 295) بدور دجنّة، وصدور أسنّة، وتثأر جنود زعبل «5» ، ويزأر أسود عيل «6» ، إلا أن

صباحه طمس تلك النجوم، وبحره طمّ على تلك الغيوم، ففاءت سمرته على تلك التلاع، وأطلت قسورته على تلك السباع، ثم عبيت له الكتائب فحطّم صفوفها وخطم أنوفها، وابتلع غديره المطمئن جداولها، واقتلع طوده «1» المرجحن جنادلها «2» ، وأخمدت أنفاسهم ريحه، وأكمدت شراراتهم مصابيحه. [الوافر] تقدم راكبا فيهم إماما ... ولو لاه لما ركبوا وراءه فجمع أشتات المذاهب، وشتات المذاهب، ونقل عنه أئمة الإجماع فمن سواهم مذاهبهم المختلفة واستحضرها، ومثل صورهم الذاهبة وأحضرها، فلو شعر أبو حنيفة «3» بزمانه وملك أمره لأدنى عصره إليه مقتربا، أو مالك «4» لأجرى وراءه أشبهه ولو كبا، أو الشافعي «5» لقال: ليت هذا كان للأم «6» ولدا وليتني كنت له أبا، أو الشيباني ابن حنبل «7» لما لام عذاره «8» إذا غدا منه، لفرط

العجب أشيبا، لا بل داود الظاهري «1» وسنان الباطني «2» لظنا تحقيقه من منتحله، وابن حزم والشهرستاني لحشر كل منهما ذكره أمة في نحله «3» ، والحاكم النيسابوري والحافظ السّلفي لأضافه هذا إلى استدراكه وهذا إلى رحله «4» . ترد إليه الفتاوى ولا يردها، وتفد عليه فيجيب عليها بأجوبة كأنه كان قاعدا لها يعدها. [الكامل] أبدا على طرف اللسان جوابه ... فكأنما هي دفعة من صيّب يغدو مساجله بغرّة صافح ... ويروح معترفا بذلة مذنب ولقد تضافرت عليه عصب الأعداء فأقحموا إذ هدر فحله، وأفحموا إذ زمزم (ص 296) ليجني الشهد نحله، ورفع إلى السلطان غير ما مرة ورمي بالكبائر، وتربصت به الدوائر، وسعي به ليؤخذ بالجرائر، وحسده من لم ينل سعيه وكثر فارتاب، ونم وما زاد على أنه اغتاب، وأزعج من وطنه تارة إلى مصر ثم إلى

الإسكندرية، وتارة إلى محبس القلعة بدمشق «1» ، وفي جميعها يودع أخبية السجون، ويلدغ بزباني المنون، وهو على علم يسطر صحفه، ويدخر تحفه، وما بينه وبين الشيء إلا أن يصنفه، ويقرظ به، ولو سمع امرئ واحد ويشنفه، حتى تستهدي أطراف البلاد طرفه، وتستطلع ثنايا الأقاليم شرفه، إلى أن خطفته آخر مرة من سجنه عقاب المنايا، وجذبتها إلى مهواتها قرارة الرزايا، وكان قبل موته قد منع الدواة والقلم، وطبع على قلبه منه طابع الألم، فكان مبدأ مرضه ومنشأ عرضه حتى نزل قفار المقابر، وترك فقار المنابر، وحل ساحة تربه وما يحاذر، وأخذ راحة قلبه من اللائم والعاذر، فمات لا بل حيي، وعرف قدره لأن مثله ما ربي، وكان يوم دفنه يوما مشهودا، ضاقت به البلد وظواهرها، وتذكّرت به أوائل الرزايا وأواخرها، ولم يكن أعظم منها منذ مئين سنين جنازة رفعت على الرقاب، ووطئت في زحامها الأعقاب، وسار مرفوعا على الرءوس متبوعا بالنفوس «2» ،

تحدوه العبرات وتتبعه الزفرات، وتقول له الأمم لا فقدت من غائب، ولأقلامه النافعة لا أبعد كن الله من شجرات، وكان في مدد ما يؤخذ عليه في مقاله، وينبذ في حفرة اعتقاله، لا تبرد له غلة بالجمع بينه وبين خصمائه بالمناظرة، والبحث حيث العيون ناظرة، بل يبدر حاكم فيحكم باعتقاله، أو يمنعه من الفتوى أو بأشياء من نوع هذه البلوى (ص 297) أبعد إقامة بيّنة ولا تعدم دعوى ولا ظهور حجة بالدليل ولا وضوح محجة للتأميل، وكان يجد لهذا ما لا يزاح فيه ضرر شكوى، ولا يطغى ضرم عدوى، وكل امرئ حاز المكارم محسود: [الكامل] كضرائر الحسناء قلن لوجهها ... حسدا وبغضا إنه لدميم كل هذا لتبريزه في الفضل حيث قصرت النظراء، وتجليته كالمصباح إذ أظلمت الآراء، وقيامه في دفع حجة التتار، واقتحامه وسيوفهم تتدفق لجة البدار، حتى جلس إلى السلطان محمود غازان «1» ، حيث تجم الأسد في

آجامها «1» ، وتسقط القلوب في دواخل أجسامها، وتجد النار فتورا في ضرمها، والسيوف فرقا في قرمها «2» ، خوفا من ذلك السبع المغتال، والنمروذ المختال، والأجل الذي لا يدفع بحيله محتال، فجلس إليه وأومأ بيده إلى صدره، وواجهه ودرا في بحره، وطلب منه الدعاء فرفع يديه، ودعا دعاء منصف أكثره عليه، وغازان يؤمن على دعائه، وهو مقبل إليه، ثم كان على هذه المواجهة القبيحة، والمشاتمة الصريحة أعظم في صدر غازان، والمغل من كل من طلع معه إليهم، وهو سلف العلماء في ذلك الصدر، وأهل الاستحقاق لرفعة القدر، هذا مع ماله من

جهاد في سبيل الله، لم يفزعه فيه طلل الوشيح «1» ، ولم يجزعه فيه ارتفاع النسيح «2» ، مواقف حروب باشرها، وطوائف ضروب عاشرها، وبوارق صفاح كاشرها، ومضايق رماح حاشرها، وأصناف خصوم لد اقتحم معها الغمرات، وواكلها مختلف الثمرات، وقطع جدالها قوي لسانه، وجلادها «3» سبا سنانه، قام بها وصابرها، وبلي بأصاغرها، وقاسى أكابرها، (ص 298) وأهل بدع قام في دفاعها، وجهد في حط يفاعها، ومخالفة ملك بين لها خطأ التأويل، وسقم التعليل، وأسكت طنين الذباب في خياشم رؤوسهم بالأضاليل، حتى ناموا في مراقد الخضوع، وقاموا وأرجلهم تتساقط للوقوع بأدلة أقطع من السيوف، وأجمع من السجوف، وأجلى من فلق الصباح، وأجلب من فلق الرماح: [الطويل] إذا وثبت في وجه خطب تمزقت ... على كفتيه الدرع وانتثر السرد إلا أن سابق المقدور أوقعه في خلل المسائل، وخطل خطأ لا يأمن فيه مع الإكثار قائل، وأظنه- والله يغفر له- عجّلت له في الدنيا المقاصّة، وأخذ نصيبه من بلواها عامة وله خاصّة، وذلك لحطّه على بعض سلف العلماء، وحلّه لقواعد كثيرة من نواميس القدماء، وقلّة توقيره للكبراء، وكثرة تكفيره للفقراء «4» ،

وتزييفه لغالب الآراء، وتقريبه لجهلة العوام وأهل المراء، وما أفتى به آخرا في مسألتي الزيارة والطلاق «1» ، وإذاعته لهما حتى تكلم فيهما من لا دين له ولا خلاق، فسلّط ذبال الأعداء على سليطه، وأطلق أيدي الاعتداء في تفريطه، ولقّم نارهم سعفه «2» ، وأرى أقساطهم «3» شرفه، فلم يزل إلى أن مات عرضه منهوبا، وعرضه موهوبا وصفاته تتصدع، ورفاته لا يتجمع، ولعل هذا الخير أريد به، وأربع «4» له لحسن منقلبه، وكان لتعمده للخلاف، وتقصده لغير طريق الأسلاف، وتقويته للمسائل الضعاف، وتقويضه عن رؤوس السعاف، تغير مكانته من خاطر السلطان، وتسبب له التغرّب عن الأوطان، وتنفذ إليه سهام الألسنة الرواشق، ورماح الطعن في يد كل ماشق، فلهذا/ (ص 299) لم يزل منغصا عليه طول مدّته، لا تكاد تنقدح عنه جوانب شدّته، هذا مع ما جمع من الورع، وإلى ما فيه من العلى، وما حازه بحذافير الوجود من الجود، كانت تأتيه القناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسوّمة والأنعام والحرث فيهبه بأجمعه، ويضعه عند أهل الحاجة في موضعه، لا يأخذ منه شيئا إلا ليهبه، ولا يحفظه إلا ليذهبه، كله في سبيل البر، وطريق أهل التواضع «5» لا أهل الكبر، لم يحل به حب الشهوات، ولا حبب إليه من ثلاث الدنيا غير الصلاة، ولقد

نافست ملوك جنكيزخان عليه، ووجهت دسائس رسلها إليه، وبعثت تجدّ في طلبه فنوسيت «1» عليه الأمور أعظمها خوف توثبه، وما زال على هذا ومثله إلى أن صرعه أجله، وأتاه بشير الجنة يستعجله، فانتقل إلى الله، والظن به أنه لا يخجله. ولد بحرّان يوم الاثنين عاشر ربيع الأول سنة إحدى وستين وستمائة، وقدم مع والده وأهله دمشق وهو صغير «2» ، فسمع ابن عبد الدائم وطبقته «3» ، ثم طلب بنفسه قراءة وسماعا من خلق كثير، وقرأ بنفسه الكتب، وكتب الطباق والأثبات ولازم السماع مدّة سنين واشتغل بالعلوم، وكان من أذكى الناس، كثير الحفظ، قليل النسيان، قلّما حفظ شيئا فنسيه «4» ، وكان إماما في التفسير، وعلوم القرآن، عارفا بالفقه واختلاف الفقهاء، والأصلين والنحو وما يتعلق به، واللغة والمنطق، وعلم الهيئة والجبر والمقابلة وعلم الحساب، وعلم أهل الكتابين وأهل البدع، وغير ذلك من العلوم النقلية والعقلية، وما تكلم معه فاضل في فن من الفنون إلا ظن أن ذلك الفنّ فنّه، وكان حفظة للحديث مميّزا بين صحيحه وسقيمه، عارفا برجاله متضلعا من ذلك، وله تصانيف كثيرة وتعاليق مفيدة «5» ، (ص 300) وفتاوى مشبعة في الفروع والأصول كمل منها جملة في الفقه والحديث وردّ البدع بالكتاب والسنة، مثل كتاب الصارم المسلول على منتقص الرسول، وكتاب تبطيل التحليل، وكتاب اقتضاء الصراط المستقيم، وكتاب

تأسيس التقديس في عشرين مجلدا وكتاب الرد على طوائف الشيعة أربع مجلدات، وكتاب رفع الملام عن الأئمة الأعلام، وكتاب السياسة الشرعية، وكتاب التصوف، وكتاب الكلم الطيب، وكتاب المناسك في الحج «1» . وكان من أعرف الناس بالتاريخ، وكثير من مصنفاته مسوّدة ما بيّضت، وتوفي والده وهو شاب فولي مشيخة الحديث بدار الحديث السكرية «2» ، وحضر عنده جماعة من الأعيان، فشكروا علمه وأثنوا عليه، وعلى فضائله وعلومه، حتى قال الشيخ إبراهيم الرقي: الشيخ تقي الدين يؤخذ عنه ويقلّد في العلوم، فإن طال عمره ملأ الأرض علما، وهو على الحق، ولا بدّ ما يعاوده الناس فإنه وارث علم النبوة، وقال ابن الزملكاني: لقد أعطي ابن تيمية اليد الطولى في حسن التصنيف وجودة العبارة والترتيب والتقسيم والتبيين، وقد ألان الله له العلوم كما ألان لداود الحديد، ثم كتب على بعض تصانيف ابن تيمية من نظمه هذه الأبيات: [الكامل المرفل] ماذا يقول الواصفون له ... وصفاته جلت عن الحصر هو حجة لله قاهرة ... هو بيننا أعجوبة العصر «3» هو آية في الخلق ظاهرة ... أنوارها أربت على الفجر «4» ثم نزغ الشيطان بينهما وغلبت على ابن الزملكاني أهويته، فمال عليه مع من مال، ولما سافر على البريد إلى القاهرة سنة سبعمائة نزل عند عميّ الصاحب شرف الدين تغمده الله «5» / (ص 301) برحمته، وحضّ على الجهاد في سبيل

الله، وأغلظ في القول «1» ، ورتّب له مرتب في كل يوم، وهو دينار وصحفة (طعام) وحاجته بقجة قماش، فلم يقبل من ذلك شيئا «2» ، وقال القاضي أبو الفتح ابن دقيق العيد: لما اجتمعت بابن تيمية رأيت رجلا، كل العلوم بين عينيه، يأخذ ما يريد ويدع ما يريد، وحضر عنده شيخنا العلامة شيخ النحاة أبو حيّان وقال: ما رأت عيناي مثله ثم مدحه أبو حيان على البديّة في المجلس بقوله: [البسيط] لما أتينا تقي الدين لاح لنا ... داع إلى الله فرد ماله وزر على محياه من سيما الألى صحبوا ... خير البريّة نور دونه القمر حبر تسربل منه دهره حبرا ... بحر تقاذف من أمواجه الدرر قام ابن تيمية في نصر شرعتنا ... مقام سيد تيم إذ عصت مضر فأظهر «3» الحق إذ آثاره درست «4» ... وأخمد الشرّ إذ طارت له شرر «5» كنا نحدث عن حبر يجئ بها «6» ... أنت الإمام الذي قد «7» كان ينتظر قلت: ثم دار بينهما كلام جرى فيه ذكر سيبويه فتسرّع ابن تيمية فيه بقول نافره عليه أبو حيان وقطعه بسببه، ثم عاد أكثر الناس ذما له، واتخذه له ذنبا لا يغفر «8» .

ولما قدم غازان «1» دمشق خرج إليه ابن تيمية في جماعة من صلحاء الدماشقة، منهم القدوة الشيخ محمد بن قوام فلما دخلوا على غازان كان مما قال ابن تيمية للترجمان: قل للقان: أنت تزعم أنك مسلم ومعك قاض وإمام وشيخ ومؤذنون على ما بلغنا فغزوتنا، وأبوك وجدّك هولاكو كانا كافرين وما عملا الذي عملت عاهدا فوفيا، وأنت عاهدت فغدرت وقلت فما وفيت. وجرت له مع غازان وقطلو شاه ومولاي أمورونون قام فيها كلها لله وقال الحق، ولم يخش إلا الله. أخبرنا قاضي القضاة أبو العباس ابن صصري «2» : أنهم لما حضروا مجلس غازان، قدم لهم طعام فأكلوا منه إلا ابن تيمية، فقيل له: لم لا تأكل؟ فقال: كيف آكل من طعامكم وكله مما نهبتم من أغنام الناس، وطبختموه مما قطعتم من أشجار الناس. ثم إن غازان طلب منه الدعاء. فقال في دعائه: اللهم إن كنت تعلم أنه إنما قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، وجهادا في سبيلك فأن تؤيده وتنصره، وإن كان للملك والدنيا والتكاثر، فأن تفعل به وتصنع- يدعو عليه وغازان يؤمّن على دعائه- ونحن نجمع ثيابنا خوفا أن يقتل فتطرطش بدمه، ثم لما خرجنا قلنا له: كدت تهلكنا معك، ونحن ما نصحبك من هنا، فقال: ولا أنا أصحبكم. فانطلقنا عصبة، وتأخرت خاصة من معه، فتسامعت الخواص والأمراء فأتوه من كل فج عميق، وصاروا ملاحقون به ليتبركوا برؤيته، فأما هو فما وصل إلا في نحو ثلاثمائة فارس في ركابه، وأما نحن فخرج علينا جماعة فشلحونا. وكان لا يسمح لما ظهر في بلوغ مرادهم من ضرورة ويقول: مالي وله. وكان

قاضي القضاة أبو عبد الله الحريري «1» يقول: إن لم يكن ابن تيمية شيخ الإسلام فمن هو. ثم بعد ذلك تمكن ابن تيمية في الشام حتى صار يحلق الرءوس ويضرب الحدود، ويأمر بالقطع والقتل «2» ، ثم ظهر الشيخ نصر المنبجي، واستولى على أرباب الدولة القاهرة، وشاع أمره وانتشر، فقيل لابن تيمية إنه اتحادي وإنه ينصر مذهب ابن العربي (ص 302) وابن تشفين «3» فكتب إليه نحو ثلاثمائة سطر ينكر عليه، فتكلم نصر المنبجي مع قضاة مصر في أمره، وقال هذا مبتدع، وأخاف على الناس من شره، فحسّن القضاة للأمراء طلبه إلى القاهرة وأن يعقد له مجلس، فعقد له مجلس بدمشق فلم يرض المنبجي «4» ، وقال لابن مخلوف «5» : قل للأمراء: إن هذا يخشى على الدولة منه، كما جرى لابن تومرت «6» في بلاد المغرب، فطلب من الأفرم نائب دمشق فعقد له مجلس ثان، وثالث بسبب العقيدة الحموية «7» ثم سكنت القضية إلى أيام الجاشنكير، فأوهمه الشيخ نصر

أن ابن تيمية يخرجهم من الملك ويقيم غيرهم، فطلب إلى الديار المصرية، فمانع نائب الشام وقال: قد عقد له مجلسان بحضرتي، وحضرة القضاة والفقهاء، وما ظهر عليه شيء، فقال الرسول لنائب دمشق: أنا ناصح لك وقد قيل: إنه يجمع الناس عليك، وعقد لهم بيعه فجزع من ذلك، وأرسله إلى القاهرة في رمضان سنة خمس وسبعمائة «1» ، وكتب معه كتابا إلى السلطان، وكتب معه محضر فيه خطوط جماعة من القضاة وكبار الصلحاء والعلماء بصورة ما جرى في المجلسين، وأنه لم يثبت عليه فيهما شيء، ولا منع من الإفتاء، فما التفت إلى شيء من ذلك، وسجن بالإسكندرية مدة ثم عاد إلى دمشق «2» [وحكي من شجاعته في مواقف الحرب فوق شقحب وبون كسروان «3» ما لم يسمع إلا عن صناديد الرجال وأبطال اللقاء وأحلاس الحرب «4» تارة يباشر القتال وتارة يحرض عليه، وركب البريد إلى مهنّا بن عيسى واستحضره إلى الجهاد «5» وركب بعدها إلى السلطان واستنفره وواجه بالكلام الغليظ أمراءه وعسكره «6» ، ولما جاء السلطان إلى شقحب لاقاه إلى قرن الحرة، وجعل يشجعه ويثبته فلما رأى السلطان كثرة التتار قال: يا لخالد بن الوليد، فقال له: لا تقل هذا بل قل يا الله، واستغث بالله ربك ووحده وحده ينصر، وقل: يا مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين، وما زال ينفتل تارة على الخليفة وتارة على السلطان ويهدئهما،

ويربط جأشهما حتى جاء نصر الله والفتح. وحكي أنه قال للسلطان: اثبت فأنت منصور، فقال له بعض الأمراء، قل إن شاء الله، فقال إن شاء الله تحقيقا لا تعليقا، فكان كما قال «1» . وحكى أبو حفص عمر بن علي بن موسى البزاز البغدادي قال: [حدثني الشيخ المقري تقي الدين عبد الله بن سعيد قال: مرضت بدمشق مرضة شديدة، فجاءني ابن تيمية فجلس عند رأسي وأنا مثقل بالحمى والمرض، فدعا لي، ثم قال: قم جاءت العافية، فما كان إلا أن قام وفارقني وإذ بالعافية قد جاءت، وشفيت لوقتي «2» . قلت: وكان يجيئه من المال في كل سنة مالا يكاد يحصى، فينفقه جميعا آلافا ومئين، لا يلمس منه درهما بيده ولا ينفقه في حاجة له، وكان يعود المرضى، ويشيّع الجنائز ويقوم بحقوق الناس ويتألف القلوب «3» ، ولا ينسب إلى ناحب لديه مذهبا ولا يحفظ المتكلم عنده زلة، ولا يشتهي طعاما، ولا يمتنع من شيء منه بل هو مع ما حضر، لا يتجهم مرآه ولا يتكدر صفوه ولا يسؤم عفوه] «4» وآخر أمره أنه تكلم في مسألتي الزيارة والطلاق، فأخذ وسجن بقلعة دمشق في قاعة، فتوفي بها في العشرين من ذي القعدة سنة ثمان وعشرين وسبعمائة، وحضر جمع كبير إلى القلعة وأذن لبعضهم في الدخول، وغسّل وصلي عليه بالقلعة ثم حمل على أصابع الرجال إلى جامع دمشق ضحوة النهار، وصلي عليه

به، ودفن بمقبرة الصوفية، وما وصل إلى قبره إلى وقت العصر «1» ، وخرج الناس من جميع أبواب البلد، وكانوا خلقا لا يحصيهم إلا الله تعالى، وحرز الرجال بستين ألفا والنساء بخمسة آلاف امرأة، وقيل أكثر من ذلك «2» ، ورؤيت له منامات صالحة، ورثاه جماعات من الناس بالشام ومصر والحجاز والغرب من آل فضل الله عليه: / (ص 303) ورثيته بقصيد لي وهي «3» : [البسيط] أهكذا بالدياجي يحجب القمر ... ويحبس النور حتى يذهب المطر أهكذا تمنع الشمس المنيرة عن ... منافع الأرض أحيانا فتستتر أهكذا الدهر ليلا كله أبدا ... فليس يعرف في أوقاته سحر أهكذا السيف لا تمضي مضاربه ... والسيف في الفتك ما في عزمه خور أهكذا القوس ترمي بالعراء وما ... تصمي «4» الرمايا وما في باعها قصر أهكذا يترك البحر الخضمّ ولا ... يلوى عليه وفي أصدافه الدرر أهكذا بتقي الدين قد عبثت ... أيدي العدى وتعدّى نحوه الضرر ألا ابن تيمية ترمى سهام أذى ... من الأنام ويدمى الناب والظفر بذّ السوابق ممتد العبادة لا ... يناله ملل فيها ولا ضجر ولم يكن مثله بعد الصحابة في ... علم عظيم وزهد ماله خطر

طريقة كان يمشي قبل مشيته ... بها أبو بكر الصديق أو عمر فرد المذاهب في أقوال أربعة ... جاؤوا على أثر السبّاق وابتدروا لما بنوا قبله عليا مذاهبهم ... بنى وعمّر منها مثل ما عمروا مثل الأئمة قد أحيا زمانهم ... كأنه كان فيهم وهو منتظر إن يرفعوهم جميعا رفع مبتدأ ... فحقه الرفع أيضا إنه خبر أمثله بينكم يلقى بمضيعة ... حتى يطيح له عمدا دم هدر يكون وهو أمانيّ لغيركم ... تنوبه منكم الأحداث والغير والله لو أنه في غير أرضكم ... لكان منكم على أبوابه زمر مثل ابن تيمية ينسى بمحبسه ... حتى يموت ولم يكحل به بصر (ص 304) مثل ابن تيمية ترضى حواسده ... بحبسه أو لكم في حبسه عذر مثل ابن تيمية في السجن معتقل ... والسجن كالغمد «1» وهو الصارم الذكر مثل ابن تيمية يرمى بكل أذى ... وليس يجلى قذى منه ولا نظر مثل ابن تيمية تذوي خمائله ... وليس يلقط من أفنانه الزهر مثل ابن تيمية شمس تغيب سدى ... وما ترق بها الآصال والبكر مثل ابن تيمية يمضي وما عبقت ... بمسكه العاطر الأردان والطرر «2» مثل ابن تيمية يمضي وما نهلت ... له سيوف ولا خطيّة سمر «3»

ولا تجارى له خيل مسوّمة ... وجوه فرسانها الأوضاح والغرر ولا تحف به الأبطال دائرة ... كأنهم أنجم في وسطها قمر ولا تعبّس حرب في مواقفه ... يوما ويضحك في أرجائه الظفر حتى يقوّم هذا الدين من ميل ... ويستقيم على منهاجه البشر بل هكذا السلف الأبرار ما برحوا ... يبلى اصطبارهم جهدا وهم صبر تأسى بالأنبياء الطهر كم بلغت ... فيهم مضرّة أقوام وكم هجروا في يوسف في دخول السجن منقبة ... لمن يكابد ما يلقى ويصطبر ما أهملوا أبدا بل أمهلوا لمدى ... والله يعقب تأييدا وينتصر أيذهب المنهل الصافي وما نقعت ... به الظماء وتبقى الحمأة الكدر «1» مضى حميدا ولم يعلق به وضر «2» ... وكلهم وضر في الناس أو وذر «3» طود من الحلم لا يرقى له قنن «4» ... كأنما الطود من أحجاره حجر بحر من العلم قد فاضت بقيّته ... فغاضت الأبحر العظمى وما شعروا يا ليت شعري هل في الحاسدين له ... نظيره في جميع القوم إن ذكروا (ص 305) هل فيهم لحديث المصطفى أحد ... يميز النقد أو يروى له خبر «5» هل فيهم من يضمّ البحث في نظر ... أو مثله من يصمّ «6» البحث والنظر هلا جمعتم له من قومكم ملأ ... كفعل فرعون مع موسى لتعتبروا

قولوا لهم قال هذا فابحثوا معه ... قدّامنا وانظروا الجهّال إن قدروا تلقى الأباطيل أسحار لها دهش ... فيلقف الحق ما قالوا وما سحروا فليتهم مثل ذاك الرهط من ملأ ... حتى تكون لكم في شأنهم عبر وليتهم أذعنوا للحق مثلهم ... فآمنوا كلهم من بعد ما كفروا يا طالما نفروا عنه مجانبة ... وليتهم نفعوا في الضيم «1» أو نفروا هل فيهم صادع بالحق مقولة ... أو خائض للوغى والحرب تستعر رمى إلى نحر غازان «2» مواجهة ... سهامه من دعاء عونه القدر بتل راهط «3» والأعداء قد غلبوا ... على الشآم وطال الشر والشرر وشق في المرج والأسياف مصلتة ... طوائفا كلّها أو بعضها التتر هذا وأعداؤه في الدور أشجعهم ... مثل النساء بظل الباب مستتر وبعدها كسروان والجبال وقد ... أقام أطوادها والطور منفطر «4» واستحصد القوم بالأسياف جهدهم ... وطالما بطلوا طغوى وما بطروا قالوا قبرناه قلنا إنّ ذا عجب ... حقا أللكوكب الدريّ قد قبروا وليس يذهب معنى منه متقد ... وإنما تذهب الأجسام والصور لم يبكه ندما من لا يصب دما ... يجري به ديما تهمي وتنهمر «5» لهفي عليك أبا العباس كم كرم ... لما قضيت قضى من عمره العمر

سقى ثراك من الوسمي «1» صيّبه «2» ... وزار مغناك قطر كله قطر (ص 306) ولا يزال له برق يغازله ... حلو المراشف «3» في أجفانه حور «4» لفقد مثلك يا من ماله مثل ... تأسى المحاريب والآيات والسور «5» يا وارثا من علوم الأنبياء نهى ... أورثت قلبي نارا وقدها الفكر يا واحدا لست أستثني به أحدا ... من الأنام ولا أبقي ولا أذر يا عالما بنقول الفقه أجمعها ... أعنك تحفظ زلات كما ذكروا يا قامع البدع اللاتي تجنّبها ... أهل الزمان وهذا البدو والحضر ومرشد الفرقة الضلّال نهجهم ... من الطريق فما حاروا ولا سهروا ألم يكن للنصارى واليهود معا ... مجادلا وهم في البحث قد حصروا «6» وكم فتى جاهل غرّ أنبت له ... رشد المقال فزال الجهل والغرر» ما أنكروا منك إلا أنهم جهلوا ... عظيم قدرك لكن ساعد القدر قالوا بأنك قد أخطأت مسألة ... وقد يكون فهلّا منك تغتفر غلطت في الدهر أو أخطأت واحدة ... أما أجدت إصابات فتعتذر

ومن يكون على التحقيق مجتهدا ... له الثواب على الحالين لا الوزر ألم تكن بأحاديث النبي إذا ... سئلت تعرف ما تأتي وما تذر «1» حاشاك من شبه فيها ومن شبه ... كلاهما منك لا يبقى له أثر عليك في البحث أن تبدي غوامضه ... وما عليك إذا لم تفهم البقر قدّمت لله ما قدّمت من عمل ... وما عليك بهم ذمّوك أو شكروا هل كان مثلك من يخفى عليه هدى ... ومن سمائك تبدو الأنجم الزّهر وكيف تحذر من شيء تزل به ... أنت التقي فماذا الخوف والحذر

فأما من نذكر من مشاهير الجانب الغربي فمنهم:

(ص 307) فأما من نذكر من مشاهير الجانب الغربي فمنهم: 163- أبو عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر النمري القرطبي «1» إمام عصره في الحديث والأثر «2» ، وكتبه زمام من استقام أو عثر، بحر يتموّج، وصبح ينبلج، وضيغم «3» إلا أنه لا يخاف، ومفعم «4» إلا أنه بطيب ما جمع من تفاريق الكتب واللخاف «5» ، هو ممّن شيّد مباني الأندلس، وجدّد معالمه الدرس، بكتبه التي صقل منها حسنه اليوسفي «6» مرآة الشمس ثم لم يصدها، ومعارفه التي ما أسرّها في نفسه ثم لم يبدها. روى بقرطبة عن جماعة «7» ، وكتب إليه من الشرق جماعة، قال أبو الوليد الباجي: لم يكن بالأندلس مثل أبي عمر بن عبد البر في الحديث، وهو أحفظ

أهل المغرب «1» ، طلب العلم بقرطبة، وتفقه بها ولزم أبا الوليد بن الفرضيّ الحافظ، وأخذ عنه كثيرا من علم الحديث، ودأب في طلب العلم وتفنن فيه وبرع براعة فاق فيها من تقدمه من رجال الأندلس، وألّف في الموطأ كتبا مفيدة منها كتاب التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد «2» ، ومنها كتاب الاستذكار لمذاهب الأمصار فيما تضمنه الموطأ من معنى الرأي والآثار «3» ، ومنها كتاب الاستيعاب في أسماء الصحابة «4» ، وله غير ذلك «5» . وكان موفقا في التأليف معانا عليه، ونفع الله به، وكان مع تقدمه في علم الأثر وبصره بالفقه ومعاني الحديث، له بسطة كثيرة في علم النسب. وفارق قرطبة وجال في غرب الأندلس مدة ثم تحوّل إلى شرق الأندلس، وسكن دانية من بلادها وبلنسية وشاطبة في أوقات مختلفة، وتولى قضاء الأشبونة وشنتزين في أيام مالكها المظفّر بن الأفطس «6» . وتوفي في يوم الجمعة آخر يوم من شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وستين (ص 308) وأربعمائة بمدينة شاطبة من شرق الأندلس، ومولده يوم الجمعة وقت

164 - أبو عبد الله محمد بن علي بن عمر التميمي المازري

الخطبة لخمس بقيت من ربيع الآخر سنة ثمان وستين وثلاثمائة «1» . ومنهم 164- أبو عبد الله محمد بن علي بن عمر التميمي المازري «2» الفقيه الحافظ المالكي، أحد الأعلام المشار إليهم في حفظ الحديث، والكلام عليه، والاهتمام الذي صرف إليه «3» ، شرح فشرح الصدور، وكتب فكبت البدور، هذا إلى تنوع ما نقص به في مشاركه، ولا قصّر به عن علم تضع له أجنحتها الملائكة، مقترنا بآداب أغضّ من تفاح الخدود، وأهزّ من رماح القدود، أحلى من رشفات الرّضاب، وأغلى من مشنّفات النبت في أكاليل الهضاب، يزين هذا جميعه ورع قام باسمه ونهض «4» ، وأجمع على علمه وأبرم ثم ما نقض، وناضل بسهمه حتى سبق إلا أنه لغباره في وجوه الكواكب نفض. شرح صحيح مسلم شرحا جيدا، وسماه كتاب المعلم بفوائد مسلم، وعليه بنى القاضي عياض كتاب الإكمال «5» ، وله أيضا المحصول من برهان الأصول، وله

165 - القاضي أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض اليحصبي

في الأدب كتب متعددة «1» ، وكان فاضلا متقنا زاهدا ورعا، توفي في ثامن عشر شهر ربيع الأول سنة ست وثلاثين وخمسمائة، وقيل في ثاني الشهر بالمهدية، وعمره ثلاث وثمانون سنة «2» . ومنهم 165- القاضي أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض اليحصبي «3» السبتي أبو الفضل، الفقيه الحافظ جمال الأعلام «4» ، وقدوة أئمة الإسلام، شغف بخير الخلق حبّا، وكلف بنبي الله حبّا «5» ، وهام بسكان العقيق «6» حتى

أجراه دمعا، وبنزال الأبيرق «1» حتى كاد يفنيه جزعا وولع بأهيل الحيّ حتى ظلّ دمعه بالحمى صبّا «2» ، وبات (ص 309) كراه «3» لا يلائم مضجعه من الجفون جنبا، وتشوّق ديارا كان يودّ لو طاف بربوعها، وطاح مرطه في مسارح ربيعها، وأسف لزمان أخّره عن زمان تلك الأقمار الطّلع، والسمّار ومقل الكواكب مفضية لا تجسر أن تتطلّع وغشيان نادي النبوة والقرآن ينزل عليه، وجبريل يؤدي ما اؤتمن على إبلاغه إليه، وسيّد الكونين محمد خاتم الأنبياء، وإمام الأتقياء حيّ يأتلق قمره في ذلك النادي، ويتدفق مطره في ذلك الوادي، وطيبة «4» به تأرج «5» جنبات أرجائها نشرا. وتخلّق أردان فنائها بشرا، وتلك المعالم مأهولة بأهلتها، وتلك المعاهد معهودة لا تستسقي السحب لغلتها، فلما فاته سالف تلك الأيام أن يكون من بينها، وبعدت عليه شقة تلك المنازل أن يكون فيها، جعل فيها غرر تأليفه، ودرر تصنيفه، وصنف كتاب الشفا في شرف المصطفى «6» ، وأوقد مصباحه مذ

كان فما انطفى، ينطق بغرام برسول الله صلى الله عليه وسلم أسكنه شغاف قلبه، وأنزله سعاف حبه، وذكر في في تعظيمه أوصاف ربّه، وأخلص فيه النية، فما جاء بعده كتاب ألّف في بابه ثم كان له مدانيا، ولا منه دانيا، بل عليه المعتمد دون بقيّة تلك الكتب على كثرتها، والمخصوص بالأثرة عليها على أثرتها، وجرّب أنه لم يكن عند رجل فنكب، ولا في رحل فأخذ، ولا في بيت فخرب، ولقد كان مصنفه رحمه الله أنفع لمدينته سبتة «1» من بحرها، وأجمع لقطريها مما تخنقه جوانبها الثلاث من برها. وقد ذكره الفتح فقال: جاء على قدر، وسبق إلى نيل المعالي وابتدر، فاستيقظ لها والناس نيام، وورد حياضها وهم حيام «2» ، فتحلت به للعلوم نحور، وتجلّت له منها حور، كأنهن الياقوت/ (ص 310) والمرجان، لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان، وقد ألحفته الأصالة رداءها، وسقته الجلالة أنداءها، وأزرت محاسنه بالبدر اللياح «3» ، وسرت فضائله سرى الرياح، فتشوفت لعلاه الأقطار، ووكفت «4» تحكي نداها الأمطار، وهو على اعتناء بعلوم الشريعة، واختصاصه بهذه الرتبة الرفيعة، يعني بإقامة أود الأدب، وتنسلّ إليه أربابه من كل حدب، إلى سكون ووقار كما رسا الطود، وجمال مجلس كما حلّيت الخود «5» ،

وعفاف وصون ما علما فسادا بعد الكور «1» ، ورواء لو رأته الشمس ما تاهت بأضواء الخضر، أو كان الصبح ما لاح ولا أسفر، قال ابن بشكوال: دخل الأندلس طالبا للعلم فأخذ بقرطبة عن جماعة «2» ، وجمع من الحديث وكان له عناية كبيرة به، وبالاهتمام بجمعه وتقييده، وهو من أهل التفنن في العلم، واستقضي بسبتة مدة طويلة، فحمدت سيرته فيها ثم نقل عنها إلى قضاء غرناطة «3» ، فلم يطل أمده فيها، صنف التصانيف المفيدة منها: كتاب الإكمال في شرح مسلم كمّل به كتاب المعلم لأبي عبد الله المازري «4» ، وله كتاب الشفا بتعريف حقوق المصطفى «5» ، لم يسبق إلى مثله، وله مشارق الأنوار في غريب الحديث، المختص بالموطإ والبخاري ومسلم «6» ، وله كتب أخر «7» ، وكان إمام وقته في الحديث

وعلومه، والنحو واللغة وكلام العرب وأيامهم وأنسابهم. ومن نظمه قوله في خامات زرع بينها شقائق نعمان هبت عليه ريح: [السريع] انظر إلى الزرع وخاماته ... تحكي وقد ماست أمام الرياح كتيبة خضراء مهزومة ... شقائق النعمان فيها جراح «1» (ص 311) ومنه قوله: [البسيط] الله يعلم أني منذ لم أركم ... كطائر خانه ريش الجناحين فلو قدرت ركبت البحر نحوكم ... فإن بعدكم عني جنى حيني «2» وأورد له العماد في الخريدة في لزوم ما لا يلزم: [المتقارب] إذا [ما] نشرت بساط انبساط ... فعنه فديتك فاطو المزاحا فإن المزاح كما قد حكى ... ألو العلم قبلي عن العلم زاحا ومدحه أبو الحسن المالقي الفقيه بقوله: [الكامل] ظلموا عياضا وهو يحلم عنهم ... والظلم بين العالمين قديم جعلوا مكان الراء عينا في اسمه ... كي يكتموه وإنه معلوم لو لاه ما فاحت أباطح سبتة ... والروض حول فنائها معدوم «3» مولده بسبتة في نصف شعبان سنة ست وسبعين وأربعمائة وتوفي بمراكش

166 - أبو بكر محمد بن عبد الله بن أحمد المعروف ب (ابن العربي) المعافري

يوم الجمعة سابع جمادى الآخرة، وقيل في رمضان سنة أربع وأربعين وخمسمائة «1» . ومنهم 166- أبو بكر محمد بن عبد الله بن أحمد المعروف ب (ابن العربي) المعافري «2» (ص 312) الأندلسي الحافظ المشهور «3» ، والحامل له الزمان راية الظهور، تجوّل في الأرض طلبا للعلم، وتقديما لأمره المهم، وتكميلا لمعوز فضله ليتم، ورحل من أقصى الأندلس حتى أتى الحجاز وخيّم بالعراق، وعاد من الشرق بما ملأ الغرب بالإشراق، وتنقل في أفقيها فتهلل هذا فرحة باللقاء، وعلت الآخر صفرة الفراق، قال ابن بشكوال: هو الحافظ المستبحر ختام علماء الأندلس، وآخر أئمتها وحفاظها، لقيته بمدينة إشبيلية في جمادى الآخرة سنة ست عشرة

وخمسمائة فأخبرني: أنه رحل إلى الشرق مع أبيه سنة خمس وثمانين وأربعمائة، وأنه دخل الشام ولقي بها أبا بكر الطرطوشي، وتفقه عنده، ودخل بغداد وسمع بها من جماعة «1» من أعيان مشايخها، ثم دخل الحجاز وحج سنة تسع وثمانين ثم عاد إلى بغداد، وصحب أبا بكر الشاشي «2» وأبا حامد الغزالي «3» وغيرهما من العلماء والأدباء ثم صدر «4» عنهم ولقي بمصر والإسكندرية جماعة من المحدثين فكتب عنهم، واستفاد منهم وأفادهم، ثم عاد إلى الأندلس سنة ثلاث وتسعين، وقدم إشبيلية بعلم كثير لم يدخل به أحد قبله ممن رحل إلى الشرق، وكان من أهل التفنن في العلوم والاستبحار فيها، والجمع لها، مقدما في المعارف كلها متكلما في أنواعها نافذا في جميعها، حريصا على آدابها ونشرها، ثاقب الذهن في تمييز الصواب منها، ويجمع إلى

ذلك كله آداب الأخلاق مع حسن المعاشرة، وكثرة الاحتمال، وكرم النفس، وحسن العهد، وثبات الود. استقضي ببلده فنفع الله به أهلها لصرامته وشدته، ونفوذ أحكامه، وكانت له في الظالمين سورة «1» مرهوبة، ثم صرف عن القضاء وأقبل على نشر العلم/ (ص 313) وبثه، وسألته عن مولده فقال: ولدت يوم الخميس لثمان بقين من شعبان سنة ثمان وستين وأربعمائة، وتوفي في شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة، ودفن بمدينة فاس، ومن مصنفاته: عارضة الأحوذي في شرح الترمذي.

167 - أبو القاسم السهيلي عبد الرحمن بن عبد الله ابن أحمد بن أبي الحسن

ومنهم: 167- أبو القاسم «1» السهيلي «2» عبد الرحمن بن عبد الله ابن أحمد بن أبي الحسن الخثعمي «3» ، ويكنى أيضا أبا زيد «4» ، الإمام المشهور صاحب التصانيف البديعة، والتفاويق «5» الصنيعة «6» ، ما جمع مثله ليل، ولا طلع به ولا علا

شبهه سهيل، كان بحضرة مرّاكش، بغداد المغرب نجم هداها الطالع، وطود حجاها «1» ، الأشب «2» المطالع، يملأ أكنافها، ويكلأ أضيافها، وينشر فيها من علومه المفننة ضرائر «3» الحبرات «4» ، ونظائر ما تجره وشائع «5» البيض «6» الخفرات «7» ، كان ببلده يتسوّغ «8» بالعفاف، ويتبلغ «9» بالكفاف «10» ، حتى نمي خبره إلى صاحب مراكش، فطلبه إليه، وأحسن إليه، وأقبل بوجه الإقبال عليه، وأقام بها نحو ثلاثة أعوام كأنها ساعة منام، وكان إماما محدثا فقيها

أصوليا تصريفيا عروضيا نحويا خبيرا بالأنساب والمشتبه منها «1» . ومن مصنفاته كتاب الروض الأنف «2» في شرح السيرة النبوية لابن إسحاق «3» ، [أملاه في نحو خمسة شهور من نيف على مائة، وعشرين ديوانا غير ما نقحه فكره، ولقنه عن مشيخته] «4» وكتاب التعريف والإعلام فيما أبهم في القرآن من الأسماء والأعلام «5» ، وكتاب نتائج الفكر ومسألة رؤية الباري في المنام ورؤية النبي صلى الله عليه وسلم، والسر في عور الدجال، «6» ومسائل كثيرة مفردة لم

يسبق إليها ولا حام أحد قبله عليها، وغالب مصنفاته إملاء، فإنه كان مكفوفا. وتوفي بحضرة مراكش يوم الخميس، ودفن وقت الظهر سادس عشر من شعبان سنة إحدى وثمانين وخمسمائة، ومولده سنة ثمان، وخمسمائة بمالقة- رحمه الله-. (ص 314) . قال أبو الخطاب ابن دحية: أنشدني السهيلي، وقال: إنه ما سأل الله تعالى بها حاجة إلا أعطاه إياها، وكذلك من استعمل إنشادها، وهي: [الكامل] يا من يرى ما في الضمير ويسمع ... أنت المعد لكل ما يتوقع يا من يرجّى للشدائد كلها ... يا من إليه المشتكى والمفزع يا من خزائن رزقه في قول: كن «1» ... امنن، فإن الخير عندك أجمع ما لي سوى فقري إليك وسيلة ... فبالافتقار إليك ربي أضرع ما لي سوى قرعي لبابك حيلة ... فلئن رددت فأي باب أقرع ومن الذي أدعو، وأهتف باسمه ... إن كان فضلك عن فقيرك يمنع حاشا لمجدك أن يقنّط عاصيا ... الفضل أجزل والمواهب أوسع «2»

168 - أبو الخطاب عمر بن الحسن بن علي بن محمد بن الجميل بن فرح بن دحية بن خليفة الكلبي

ومنهم: 168- أبو الخطاب «1» عمر بن الحسن بن علي بن محمد بن الجميل بن فرح بن دحية بن خليفة الكلبي المعروف بذي النسبين «2» ، الأندلسي البلنسي «3» الحافظ. وقف للإطلاع على كل ثنية، وهتف للاستطلاع بكل قضية، وقاد نافر اللغة عنفا حتى جعل الغريب قريبا، والحوشي «4» ربيبا «5» ، وأتى بها إلى الحاضرة قسرا من باديتها، وقهرا في تأديتها، فعادت إلى الحسنى، ورقّ كلامها، ودق حتى خفي

أكمامها «1» ، وله رسائل حوشية كتبها لتدل على غزارة مادته، وإنارة جادته، وقد أضربت عن ذكرها صفحا، ولم أسمع لها صدحا، لثقل وطأتها على الأسماع، وشدة نفرتها للطباع، كأنها كلام النائم، ونقيق الضفادع في الليالي العواتم، تظن أنها ليست مركبة من الحروف، ولا دالة على معنى معروف، على أن له في أخر ما يخف، ولكنه مما لا يشف، ولا يندى (ص 315) ورقه، ولا يرف، فلذلك- أيضا- ألغيتها، وأعرضت عنها، فما أردتها، ولا ابتغيتها. كان من أعيان مشايخها، ومشاهير الفضلاء، متقنا لعلم الحديث النبوي، وما يتعلق به، عارفا بالنحو، واللغة، وأيام العرب وأشعارها. اشتغل بطلب الحديث في أكثر بلاد الأندلس الإسلامية، ولقي بها علماءها، ومشايخها، ثم رحل منها إلى بر العدوة، ودخل مراكش، واجتمع بفضلائها، ثم ارتحل إلى إفريقية، ومنها إلى الديار المصرية، ثم إلى الشام، والشرق، والعراق، وسمع ببغداد من بعض أصحاب ابن الحصين «2» ، ودخل إلى عراق العجم، وخراسان، وما والاها، ومازندران «3» ، كل ذلك في طلب الحديث، والاجتماع

بأئمته، وأخذ عنه وهو في تلك الحال، وقدم مدينة إربل سنة أربع وستمائة، وهو متوجه إلى خراسان، فرأى صاحبها الملك المعظم مظفر الدين «1» مولعا بعمل مولد النبي صلى الله عليه وسلم عظيم الاحتفال به، فعمل له كتابا سماه" التنوير في مولد السراج المنير"، وقرأه عليه بنفسه، وختمه بقصيدة طويلة، فأعطاه المعظم ألف دينار، وله عدة تصانيف «2» . وتوفي يوم الثلاثاء رابع عشر ربيع الأول سنة ثلاث، وثلاثين، وستمائة بالقاهرة، ودفن بسفح المقطم، ومولده في مستهل ذي القعدة سنة أربع، وأربعين، وخمسمائة.

ومن متقدميهم بالديار المصرية:

ومن متقدميهم بالديار المصرية: 169- الحافظ الفقيه «1» أبو جعفر بن محمد بن سلامة الأزدي الطحاوي «2» الحنفي . الذي جمع بفقهه بين المذهبين، وطلع بتصنيفه في المذهبين «3» ، تاهت به طحا، وباهت به الشمس في الضحى، وأصبحت تضاهي النجوم بقعتها، وتظاهر صفيح (ص 316) الغيوم نقعتها «4» ، وتشرق سنى، وتغدق منى، ويعرج عليها ساري كل ركاب، وسائر كل طلاب «5» ، ويقف بها مغبّطا لبلده الذي فتنت بفوائده، وكلفت «6» بعوائده، يهيم بغرر «7» فوائده الحسان، وقلائده المقلدة

للإحسان، وقالت: [الطويل] صحا بك نوء للإحسان سكوب ... وطحا بك قلب للحسان طروب طحا بك بغل نوائب الزمان ... فهل نون مخلب كاسر أو نوب ولد سنة تسع وثلاثين ومائتين، وتفقه بمصر على أبي جعفر أحمد بن أبي عمران «1» ، وبدمشق على القاضي أبي خازم «2» ، وتفقه عليه أحمد بن محمد بن منصور الدامغاني «3» ، وغيره، وحدث عن خلائق سمع منهم، وصنف التصانيف المطولة الدالة على تبحره، وتفقه أولا على مذهب الشافعي، ثم انتقل إلى مذهب أبي حنيفة، وسبب انتقاله أن خاله أبا إبراهيم المزني «4» - صاحب

الشافعي- قال له يوما في أثناء مذاكرة-: والله لا جاء منك شيء. فغضب أبو جعفر من ذلك، وأنف «1» لنفسه، وانتقل إلى ابن أبي عمران، فأول ما صنف من الكتب" مختصره" في الفقه، وهو على ترتيب كتاب المزني، فلما فرغ منه قال: رحم الله أبا إبراهيم، لو كان حيا لكفّر عن يمينه «2» ، وذكر أبو يعلى الخليلي «3» في كتاب الإرشاد «4» أن إبراهيم بن محمد الشروطي قال: قلت للطحاوي: لم خالفت خالك، واخترت مذهب أبي حنيفة، قال: لأني كنت أرى خالي يديم النظر في كتب أبي حنيفة، فانتقلت إلى مذهبه لذلك. وذكره الحافظ أبو محمد بن خلف في كتابه" الدر المنظّم فيمن دفن بسفح المقطّم" فقال: فريد دهره، ووحيد عصره، له التصانيف المفيدة، والآثار الحميدة، صاحب فقه، ورواية، ونظر، ومن تصانيفه الفقهيات المعروفات الكبار، والمختصرات/ الخالية من الإكثار، وكتبه في الوراقة مشهورة- أيضا-، وفضائله أكثر من أن تعد، ومناقبه أوفر من دخولها تحت الحصر والعد، وروى عنه القضاة المحققون، والعلماء المبرزون، وبلغ من العمر ثمانين سنة، وكان السواد أغلب على لحيته من البياض. توفي في ذي القعدة سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة بمصر، ودفن بالقرافة، وقبره مشهور.

ومن متأخريهم:

ومن متأخريهم: 170- القاضي أبو الفتح «1» محمد بن علي بن وهب بن مطيع بن أبي الطاعة القشيري «2» المنفلوطي «3» الصعيدي «4» المالكي «5» ، والشافعي تقي الدين، عرف بابن

دقيق العيد «1» . صاحب التصانيف، آخر المجتهدين، وفاخر درر المقلدين، حجة العلماء، والأعلام، ومحجة القصد والسلام، رافع منار الشرع المطهر، ومعلي قدر فرقده «2» ، ومعلن اسم سؤدده، ومعلم البروق اللامعة بأنها لا طاقة لها بتوقده، ومعلق طيبه بمفرق الدهر مسك ليلته، وكافور غده، قام بالحق والكل قاعد، وهب، وكل على جفنه النوم عاقد، وتخلق بخلائق السلف الذي عليه مضوا، وبه جاءوا، وعليه قضوا، من علم تلافى الفساد، وأوفى بقدر السلف وزاد، وورعا ما دنّس ثوبه، ولا كدر صوبه «3» ، إلا أنه كان مغرى بالنكاح، مغرما منه بالمباح، يغالي في شراء الجواري، واستسراء قيم السواري، ولم تكن له جدة للإنفاق، فكان يشتريهن بالثمن الربيح إلى أجل يستدينه، فإذا حل يغدو وهو رهينه، فيتسامع به أهل اليسار ممن ربطه عليه حب علمه، وحسن ظنه في دينه، لا خاب في زعمه، فيتكفل بوفاء ذلك الدين (ص 318) وغسل ذمته، وتنقيته من ذلك الشين، حتى إذا صار بريئا من الطلبات، خالصا من المطالبات، عنّ له أن يشتري جارية، أو يزيد نفقة جارية، فلا يلبث شهرا، حتى يعود أثقل ما كان ظهرا، ويدوم على هذا في الزمان دهرا، فيقدر له آخر فيوفي عنه ما اشتغلت به

ذمته، واشتعلت بسبب همه لمته «1» ، واستجيزت بسببه عند أهل الورع مذمته، هكذا كان دأبه، ودأب ما يحمل نفسه، من أثقال التكاليف وإنفاق جمل المصاريف، كأنه يحتقر الذهب، أو أن وفاء دينه على أهل الدنى وجب، وكان على فور علمه ودينه، وشواغله بالتصنيف «2» في كل حينه، يكمن تارة في زناده، ويحبس أواره «3» في فؤاده، ويلبس الرجال على بغضها، ويسلب كل الأعمال لبعضها، وربما قدر فعفر «4» ، وواخذ فما غفر، إلا أن التقوى كانت تمنعه من أليم المجازاة، وترده عن بلوغ الغاية من التشفي «5» ، وفي النفس

حزازات «1» . ولد في شعبان سنة خمس وعشرين وستمائة بقرب ينبع «2» من أرض الحجاز، وسمع الحديث، وخرّج لنفسه أربعين تساعية «3» ، وكان من أذكياء زمانه، واسع العلم كثير الكتب مديما للسهر، مكبا على الاشتغال، ساكنا وقورا، ورعا، قل أن ترى العيون مثله «4» ، وله اليد الطولى في الأصول والمعقول، وخبرة بعلل المنقول، ولي قضاء الديار المصرية سنوات إلى أن مات، وكان في أمر الطهارة والمياه في نهاية الوسوسة «5» . قال الحافظ قطب الدين الحلبي «6» : كان إمام أهل زمانه، وممن فاق بالعلم

والزهد على أقرانه، عارفا بالمذهبين، إماما في الأصلين «1» ، حافظا متقنا في الحديث وعلومه، يضرب به المثل في ذلك، وكان آية في الحفظ، والإتقان والتحري، شديد الخوف، دائم الذكر، لا ينام الليل (ص 319) إلا قليلا، ويقطعه فيما بين مطالعة، وتلاوة، وذكر، وتهجد حتى صار السهر له عادة، وأوقاته كلها معمورة، ولم ير في عصره مثله- وعدّ مصنفاته- ثم قال: عزل نفسه من القضاء غير مرة، ثم يسأل، ويعاد وقال: وبلغني أن السلطان حسام الدين «2» لما طلع الشيخ إليه، قام للقيه، وخرج عن مرتبته «3» ، وكان كثير الشفقة على المشتغلين، كثير البر لهم. توفي في صفر «4» سنة اثنتين وسبعمائة. ومن نظمه «5» : [البسيط] الحمد لله كم أسعى «6» بعزمي في ... نيل العلى، وقضاء الله ينكسه

كأنني النجم يبغي «1» الشرق، والفلك ال ... أعلى يعارض مسراه فيعكسه ومنه قوله: [الطويل] لعمري لقد قاسيت بالفقر شدة ... وقعت بها في حيرة وشتات فإن بحت بالشكوى هتكت «2» مروءتي ... وإن لن أبح بالصبر خفت مماتي فأعظم به من نازل بملمة ... يزيل حيائي، أو يزيل حياتي ومنه قوله: [السريع] تهيم نفسي طربا عندما «3» ... استلمع البرق الحجازيا ويستخف الوجد عقلي وقد ... أصبح لي حسن الحجى «4» زيّا «5» يا هل أقضّي حاجتي من منى ... وأنحر البزل «6» المهاريا «7» وأرتوي من زمزم فهي لي ... ألذ من ريق المها «8» ريّا (ص 220)

ومنه قوله: [البسيط] أهل المراتب «1» في الدنيا، ورفعتها ... أهل الفضائل مرذولون بينهم فما لهم في توقي ضرنا نظر ... ولا لهم في ترقي قدرنا همم قد أنزلونا لأنا غير جنسهم ... منازل الوحش في الإهمال عندهم «2» فليتنا لو قدرنا أن نعرّفهم ... مقدارهم عندنا أو لو دروه هم لهم مريحان من جهل «3» وفضل غنى ... وعندنا المتعبان العلم والعدم فناقضه في ذلك الفتح البققي- المقتول على الزندقة-، فقال: [البسيط] أين المراتب، والدنيا ورفعتها ... عند الذي حاز علما ليس عندهم لا شك أن لنا قدرا رأوه، وما ... لقدرهم عندنا قدر ولا لهم «4» هم الوحوش ونحن الأنس حكمتنا ... نقودهم حيثما شئنا، وهم نعم وليس شيء سوى الإهمال يقطعنا ... عنهم لأنهم وجدانهم عدم لنا المريحان من علم ومن عدم ... وفيهم المتعبان الجهل والحشم عدنا إلى ذكر قاضي القضاة أبي الفتح رحمه الله ومن شعره قوله: [الكامل] نفرت سليمى نضرة لما رأت ... وضح المشيب بعارضيّ ومفرقي قد أبصرت منه عدوا أبيضا ... أربى أذاه على العدو الأزرق وقوله: [السريع] كم ليلة فيك وصلنا السرى «5» ... لا نعرف النوم ولا نستريح

وكادت الأنفس مما بها ... تزهق والأبدان منها تطيح واختلف الأصحاب ماذا الذي ... يرد من شكواهم أو يريح فقيل تعريسهم «1» ساعة ... وقلت: بل ذكراك، وهو الصحيح قلت هكذا فليكن- وإلا فلا- أدب الفقهاء، وفي مثل هذا يذهب أهل الحزم أضعاف ذهب السفهاء، هذا الذي لا يقدر عليه من قدّر عليه رزقه، واتسم بسمة أهل الفضل وهو لا يستحقه. ومنه قوله: [الطويل] أتيتك والآمال تسري إلى مدى ... بعيد أراه باصطناعك يقرب وقد شنع الأعداء أن مطالبي ... ترد على أعقابها وهي خيّب وما تركوا من حجة أو أتوا بها ... على أنني مالي ببحرك مشرب وو الله لا صدّقت أنك مربحي؟ ... لدفع ملمّ حادث فتخيب وقوله: [الخفيف] أنكرتني لما ادعيت هواها ... وأصرت على العناد جحودا قلت إن الدموع تشهد لي قا ... لت صحيح، لكن قذفت الشهودا (321) ومنه قوله: [الوافر] أودّعكم وأودعكم حياتي ... وأنثر دمعتي نثر الجمان وقلبي لا يريد لكم فراقا ... ولكن هكذا حكم الزمان

ومن نثر القاضي أبي الفتح ما كتبه إلى نوابه بالحكم في الوجه القبلي البحري عند ما فوّض إليه قضاء القضاة بالديار المصرية، بعد البسملة: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ «1» صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس السامي وفقه الله لقبول النصيحة، وآتاه لما يقربه قصدا صالحا ونية صحيحة، أصدرناها إليه بعد حمد الله الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور «2» ، ويمهل حتى يلتمس الإمهال على المغرور، تذكرة بأيام الله وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ «3» ، ويحذره صفقة من باع آخرته بدنياه فما أحد سواه مغبون «4» ، عسى الله أن يرشده بهذا التذكار وينفعه، وتأخذ هذه النصائح بمحجزته «5» عن النار فإني أخاف أن يتردى فيخرّ من ولّاه والعياذ بالله معه، والموجب لإصدارها ما تلمحناه من الغفلة المستحكمة على القلوب، ومن تقاعد الهمم عن القيام بما يجب للرب على المربوب، ومن أنسهم بهذا الدار وهم يزعجون «6» عنها، وعلمهم بما بين أيديهم من عقبة كؤود «7» ، وهم لا يتخففون منها، ولا سيما القضاة الذي تحملوا أعباء الأمانة

على كواهل ضعيفة، وظهروا بصور كبار، وهمم نحيفة، وو الله إن الأمر لعظيم، وإن الخطب لجسيم، ولا أرى أن مع ذلك أمنا ولا قرارا ولا راحة، اللهم إلا رجلا نبذ الآخرة وراه واتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ «1» ، وقصر همه وهمته على حظ نفسه ودنياه فغاية مطلبه/ (ص 322) حب الجاه، والرغبة في قلوب الناس، وتحسين الزي والملبس والمركب والمجلس، غير مستشعر خسة «2» حاله، ولا ركاكة مقصده، وهذا لا كلام معه، فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى «3» وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ «4» فاتق الله الذي يراك حين تقوم «5» ، واقصر أملك عليه، فالمحروم من فضله غير مرحوم، وما أنا وأنتم أيها النفر إلا كما قال الحبيب العجمي «6» - رضي الله عنه- وقد قال له قائل: ليتنا لم نخلق- فقال: قد وقعتم فاحتالوا. وإن خفي عليك بعض هذا الخطر، وشغلتك الدنيا أن تقضي من معرفته الوطر «7» ، فتأمل قوله «8» :"

القضاة ثلاثة" «1» ، وقوله مشفقا:" لا تأمرن على اثنين ولا تلينّ مال يتيم" «2» ، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. [المتقارب] وما أنا والسير في متلف ... نبرّح «3» بالذكر الظابط هيهات، جف القلم، ونفذ أمر الله فلا راد لما حكم، إيه، ومن هنالك شم الناس من فم الصديق رائحة الكبد المشوي، وقال الفاروق: ليت أم عمر لم تلده، واستسلم عثمان وقال: من أغمد سيفه فهو حر. وقال علي والخزائن بين يديه مملوّة: من يشتري مني سيفي هذا، ولو وجدت ما اشتري به ما بعته. وقطع الخوف نياط قلب عمر بن عبد العزيز فمات من خشية العرض. وعلق بعض السلف في بيته سوطا يؤدب به نفسه إذا فتر. أفترى ذلك سدا؟ أم وضح أنا نحن المقربون، وهم البعدا، وهذه أحوال لا تؤخذ من كتاب السلم والإجارة والجنايات، نعم إنما تنال بالخضوع والخشوع، وبأن تظمأ وتجوع، وتحمي عينيك الهجوع، ومما يعينك على الأمر الذي/ (ص 323) دعوت إليه، ويزودك في مسيرك إلى العرض عليه، أن تجعل لك وقتا تعمره بالتفكر والتدبر، فإنها تجعلها معدة لجلاء قلبك، فإنه إن استحكم صداه «4» صعب

171 - علي بن عبد الكافي بن علي بن تمام

تلافيه «1» ، وأعرض عنه من هو أعلم بما فيه، واجعل أكثر همومك الاستعداد للمعاد، والتأهب لجواب الملك الجواد، فإنه يقول فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ «2» ومهما وجدت من همتك قصورا، أو استشعرت من نفسك عما يذللها نفورا، فاجأر «3» إليه، وقف ببابه واطلب منه، فإنه لا يعرض عمن صدق، ولا يعزب عن علمه خفايا الضمائر أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ هذه نصيحيتي إليك، وحجتي بين يدي الله إن فرطت عليك، أسال الله لي ولك قلبا شاكرا، ولسانا ذاكرا، ونفسا مطمئنة بمنه وكرمه. ومنهم: 171- علي بن عبد الكافي بن علي بن تمام «4» ابن يوسف بن موسى بن تمام من حامد بن يحيى بن عمرو بن عثمان بن علي ابن مسوار بن سليم الأنصاري الخزرجي السبكي ثم المصري الشافعي حجة المذاهب، مفتي الفرق، قدوة الحفاظ، آخر المجتهدين قاضي القضاة تقي الدين أبو

الحسن صاحب التصانيف، التقي، البر العلي القدير سميّ العلي كرم الله وجهه، الذي هو باب العلم «1» ، ولا غرو إن كان هو المدخل إلى ذلك الباب، والمستخرج من دقيق ذلك الفضل هذا اللباب، والمستمير «2» من تلك المدينة التي ذلك الباب بابها، والواقف عليها مع سميّه فذاك بابها وهذا بوّابها، بحر لا يعرف له عبر «3» وصدر لا يدخله كبر، وأفق لا تقيسه كف الثريا بشبر، وأصيل قدره أجلّ مما يموه به لجين «4» النهار ذائب التبر «5» / (ص 324) إمام ناضح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنضاله «6» ، وجاهد بجداله، ولم يلطخ بالدماء حد نصاله «7» ، حمى جناب النبوة الشريف بقيامه في نصره، وتسديد سهامه للذب عنه من كنانة مصره «8» ، فلم يخط على بعد الديار سهمه الراشق «9» ، ولم تخف

مشام «1» تلك الدسائس فهمه الناشق «2» ، ثم لم يزل حتى نقّى الصدور من شبه دنسها، ووقى من الوقوع في ظلم حندسها «3» ، قام حين خلّط على ابن تيمية «4» الأمر، وسوّل له قرينة الخوض في ضحضاح «5» ذلك الجمر، حين سد باب الوسيلة «6» ، يغفر الله له لا حرمها، وأنكر شد الرحال لمجرد الزيارة «7» لا واخذه الله وقطع رحمها، وما برح يدلج ويسير حتى نصر صاحب ذلك الحمى الذي لا

ينتهك نصرا مؤزرا، وكشف من خبء الضمائر في الصدود عنه صدرا موغرا، فأمسك ما تماسك من باقي العرى، وحصل أجرا في الدنيا يسمع، وفي الآخرة يرى، حتى سهّل إلى زيارة صاحب القبر عليه الصلاة والسلام وقد كادت تزورّ «1» عنه قسرا، صدور الركائب وتجر قهرا، أعنة القلوب وهن لوائب «2» بتلك الشبهة التي كادت شرارتها تعلق بجذام الأوهام، وتمد عيهب «3» صدها صدأ على مرايا الأفهام، وهيهات كيف يزار المسجد ويجفى صاحبه أو يخفيه الإبهام، أو تذداد المطي عنه وهي تتراشق «4» إليه كالسهام، ولولاه عليه الصلاة والسلام لما عرف تفضيل ذلك المسجد، ولا تم إلى ذلك المحل تاميل المغير ولا المنجد، ولولاه لما قدس الوادي، ولا أسس على التقوى مسجد «5» في ذلك النادي، وكذلك قبلها شكر الله له قام في لزوم ما انعقد عليه الإجماع وتعد الظهور بمنلفته على الأطماع، ومنع في مسألة الطلاق أن يجري في الكفارة مجرى اليمين «6» ، وأن يجلى في صورة إن/ (ص 325) حققت لا تبين، خوفا على محفوظ الأنساب، ومحظوظ الأحساب، لما كانت تؤدي إليه

هذه العظيمة، وتستوي عليه هذه المصيبة العميمة، وصنف في الرد في هاتين المسألتين كتابيه، بل جرد سيفه وأرهف ذبابيه «1» ، ورد القرن «2» وهو ألد «3» خصيم، وشد عليه وهو يشد غير هزيم «4» ، وقابله وهو الشمس التي تعشي الأبصار «5» ، وقاتله وكم جهد ما يثبت البطل لعلي وفي يده ذو الفقار «6» . [الكامل] وتطاعنا وتواقفت خيلاهما ... وكلاهما بطل اللقاء مقنع وما زال حتى تفصدت «7» الصفاح «8» ، وتقصفت «9» الرماح وتحيّفت «10» الكلم الأدلة، وجف القلم حتى لم يبق فيه بلّة، وانجلت

غياهب «1» ذلك العشير تبرق فيه صفحات الحق السوب «2» ، والحظ السعيد النبوي، والنصر المحمدي، إلا أنه بالفتوح العلوي، بجهاد أيّد صاحب الشريعة وآزره، ورد على من سد باب الذريعة وخذل ناصره، وأمضى يسابق إليه مرمى طرفه، جواد جرى على أعراقه «3» ، وجاء على أثر سبّاقه، من عصابة الأنصار حيث تعرف في الحب التليد «4» ، وتدخر شرف النسب للمواليد، وتصغّر عظائم الأخبار، وتصعّر «5» هامة «6» كل جبار، وتنثر ذو عابة يعرب على كتف شرفها، وتركز عصابة المجد المؤثل «7» لسلفها، ولله أوس آخرون وخزرج، لابل هو والله ممن تشيدت به حصونهم الحصينة، وحجبت به أن يدخل الدجال لنقاب المدينة «8» ، واستلّه الفقار من بقايا تلك الأسرة في أكرم ظهورها، وأعظم شموسها المجللة للآفاق بظهورها، وأعلى إبائها في مراقي الشريعة درجا، وأسرى في أرجاء طيبة الطيبة أرجا، وأحوى لعلومها أشتاتا «9» ، ولعلوها في أسانيد

العوالي أثباتا،/ (ص 326) ولحنوها على من نزل بها فيما هو أدفأ وأكنّ أبياتا، وأسكن محافلها «1» من الأسرار، وأطلع في أفق جحافلها «2» من الأقمار، نبوغ من مطلع الصحابة «3» - رضي الله عنهم- ونزع به عرقه إلى التابعين «4» لهم بإحسان وهو مثلهم إن لم يكن منهم، ثم خرج من بيت الوزارة حيث تتقاصر النجوم وتتناصر ثم تتناصف الخصوم، وتخفض أعناق الغيوم، وتجري رحضاء «5» البرق كأنه محموم، وتحضر أندية الأفق وسهيل قد نبذ بالعراء كأنه ملوم «6» ، ويسري هودج النجم وكأنه برسن «7» الجوزاء مزموم «8» ، ويبارى صدر صدره الليل فيرتد حنقا ولو ألقى في تياره لما استطاع أن يقوم، وتتطاير زبد شهبه ويتنغش «9» سحره كأنه مظلوم، ويظهر على آخر فجره ثم يخفي كأنه غيظ مكظوم، ويضاهي مرآة الضوي النهار وأنى له ووجه صباحه كأنه من حمرة الشفق ملطوم، وهبدل ألفا مثل دينار شمسه لما بلغ ما يروم، وبرز في طلب العلم حتى أسكت لسان كل متكلم، وأمات ذكر كل متقدم، وأحيا أمامه الشافعي

بنشر مذهبه، ونصر ذي النسب القرشي في علياء رتبه، وقام بالاحتجاج لإمام بني المطلب في الائتمام بشريعة سيد بني عبد المطلب، وإقامة الحجة في سبب تقديمه، وحسب ما أحرز في حديثه مضافا إلى قديمه، يحتج لقوليه ويحيل كتف مذهبه الممنع من طريقه، حتى أضحت تسفر له وجوهه سافرة الثغب «1» ، ظاهرة المحاسن من وراء الحجب، لا ترد الهيم «2» إلا حياضه، ولا يفد المسيم «3» إلا رياضه، حتى تفرّد والزمان بعدد أهله مشحون، والعصر بمحاسن نبيه مفتون، وساوى أهل مصر قاطبة، واستوطنها وضرتها الشام له خاطبة/ (ص 327) وكان بها لدين يقيمه، ويقين يديمه، وتقى هو وصفه، وعلى أراد مطاولته الطور وما هو نصفه، وقطع بها مدة مقامه في علم ينشره، وحق ينصره، وضالّ يهديه، وطالب يجديه، وسنّة يؤيّدها، وبدعة في دكادك «4» الخذلان يلحدها، وزيغ يقوّم منماده، وزيف يعجّل انتقاده، وطريقة سلف ما عداها، وحقيقة صلف «5» ما أنكرتها عداها، وفتاو يعتمد عليها فقهاء الآفاق ويستند إليها علماء مصر والشام والعراق، وتصانيف هي جادّة السبيل ومادة الدليل، وتصدّ الأضاليل، وتردّ الأباطيل، وترد على العلماء فغاية المجيد أن يستحضر ما حوته من نقول، أو

يمتد إلى أن يعدّ نفيسه معه فلا يزيد على أن يكتب تحت خطّه كذلك أقول، ثم ولي قضاء الشام فزان عطله «1» وأزال خطله «2» ، وأصلح فاسده، ونفّق كاسده، وتوقل «3» ذروة منصبه حتى لا يمتطي السنام، ولا يستصلح الأنام، ولا يوجد المؤهّل واحد في مصر ولا شامه في الشام، فحكم بسيرة العمرين «4» في الإنصاف، وحكى صورة القمرين في الأوصاف، وانتهت إليه مشيخة دار الحديث بالاستحقاق فوليها، وعرّضت له أخواتها فما رضيها، وتدارك العلم ولم يبق منه إلا آخر الرمق «5» ، وصان المذهب، وماله وجه إلا ظاهر الرهق «6» ، وانتاش «7» الطلبة من مراقد الخمول، ومقاعد الونى «8» عن أوابل الحمول «9» ،

حتى نفضت كواكبهم عن مقلها الكرى، ورفضت سحائبهم إلا مواصلة السرى إلى أن كثر العلم وطالبه، وعدّ ذو الفضل وصاحبه، بكرم لله درّه ما أغزره، وجود ما أقل لديه جدا البحر وما أنزره، لو عاصره حاتم وهو (ص 328) في الكرم لما ذكره، أو كعب بن مامة «1» وقد سمع حتى يخص جناحه لما شكره، بندى يغص به البحر شرقا، ويتفصّد جبين السحاب عرقا، ويتهيبه البرق فترتعد فرائصه فرقا، ويخشى صوائبه الرعد فيتعوّذ ولا تنفعه الرقى، هذا كله وهو بعض ما في كرم سجاياه، وأقل ما في كثير مزاياه، هذا إلى جبين كالهلال، ووقار عليه سيماء الجلال، وأدب أعذب في القيل من الماء الزلال، وأطيب في المقيل من برد الظلال، بنوادر أحرّ من الجمر، وألعب بالعقول- استغفر الله- من الخمر، حذا على طريق سلفه العرب ما قصّرت عن مداه الأوائل، واستجدت من نداه النائل، وطرّف علمه منه بمقدار ما أعانه على التفسير الذي أسكت عارضة كلّ قائل، وغير هذا من انتزاع المثل وإقامة الدلائل، ثم سرح إلى حيث يسرح الطرف ويذوب الظرف، ويلمّ بنادي المتيميّن، وينزل بوادي سّلف أهل الصبابة المغرمين، ويخالط تلك العصابة في كيسها، ويذكر حديث ليلى وقيسها، لطائف لو أنها لأهل ذلك الزمان السالف لما قالوا الأسمار إلا في طرائف طرائفها، ولا قالوا في سمرات الحيّ إلا في ظل وارفها، ولا زادوا من ربيع ابن أبي ربيعة إلا بعض زخارفها، ولا عدوّا جميلا إلا ما نشر من فضل مطارفها، ولا رجعوا عنها إلى مذهب جرير في أوبة، ولا ختموا غزل الأناشيد بتوبة، كل ذلك تطرّف أدب غض الجنى ليس منه إلا إطراب السامع، وتنويع مالا إثم فيه إذا قيل في فضله الجامع، هو والله الجامع الذي لا تضاهى بيوت عبادته المساجد، ولا تساهر مقل قناديلها (ص 329) طرفة الهاجد، ولا تضم ضلوع محاريبها مثل صدره، ولا يشتمل أحناء عقودها

مثل سرّه، بسيرة زينها العفاف فما تدنست صحف أيامها وأقنعها الكفاف، فما رأت ما زاد عليه إلا من آثامها، وقد عادت دمشق به معمورة الندية، مأثورة الأنحية، باهرة العلماء، ظاهرة بزينة نجوم السماء، ماضية على منهج القدماء، قاضية على سواها بأن العلم فيها بالحقيقية وفي غيرها بالأسماء، وها هو اليوم- والله يبقيه- خير من أظلته خضراؤها، وصغرت لدى قدره الجليل كبراؤها، قد ملك أهواء القلوب المتنائية، وساق بعصاه سوائم شرّدها المتقاصية، واستوسق به أمر الشام لعليّ وكان لا يطيع إلا معاوية، مولده سنة ثلاث وثمانين وستمائة وسمع من الحافظ أبي محمد الدمياطي وطبقته، وبالثغر من يحيى بن الصواف وأقرانه، بدمشق من ابن مشرّف وابن الموازيني، وبالحرمين «1» ، وكانت رحلته إلى دمشق سنة سبع وسبعمائة، وقرأ الروايات على تقي الدين الصائغ، وصنّف التصانيف المتقنة، انتهت إليه رئاسة العلم في القراءات والحديث والأصلين والفقه، وخرج له الإمام شهاب الدين الدمياطي «2» معجما كبيرا، وقصده به بدمشق، فحدث به بالكلاسة من جامع دمشق بحضره الحافظين أبي الحجاج المزي وأبي عبد الله الذهبي وجماعة من أعيان العلماء (ص 330) وأنشدني له تذييلا على قول عبد القاهر الجرجانيّ: [الوافر] طلبت من الحبيب زكاة حسن ... على صغر من القمر البهيّ فقال وهل على مثلي زكاة ... على رأي العراقيّ الكميّ فقلت: الشافعي لنا إمام ... وقد فرض الزكاة على الصبيّ

والذي قاله ذيلا على هذا. [الوافر] فقال اذهب إذن فاقتصّ زكاتي ... بقول الشافعي من الوليّ فقلت له فديتك من فقيه ... أيطلب بالوفاء سوى المليّ نصاب الحسن عندك ذو امتناع ... بلحظك والقوام السمهريّ فإن أعطيتنا طوعا وإلا ... أخذناه بقول الشافعيّ قلت ولما وقع إليه ما صنّفه ابن تيمية في مسألة الطلاق، وجده قد أكثر ذكر/ (ص 331) ليلى ويمنها وردد ذكرها في غير موضع فلما ردّ عليه قال: [البسيط] في كل واد بليلى واله شغف ... ما إنّ زال به من مسها وصب ففي بني عامر من حبّها دنف ... ولابن تيمية من عهدها شغب وأراد بعهد ليلى ظاهرا ما هو له وباطنا يمينها واليمين العهد. ومن تصانيفه: الدر النظيم في تفسير القرآن العظيم، شفاء السقام في زيارة خير الأنام، إبراز الحكم من الحديث رفع القلم، السيف المسلول على من سبّ الرسول، تكملة المجموع في شرح المهذب في الفقه، الابتهاج في شرح المنهاج في الفقه، التجير المذهب في تحرير المذهب ولم يتمه، التحقيق في مسألة التعليق، رافع الشقاق عن مسألة الطلاق، وكلاهما في الرد على الشيخ تقي الدين ابن تيمية، منبه الباحث عن حكم دين الوارث، الرياض الأنيقة في مسألة الحديقة، أمثلة المشتق، إحياء النفوس في إلقاء الدروس، كشف القناع عن حكم الامتناع، ضوء المصابيح في صلاة التراويح، واختصره مرات، أحكام كلّ وما عليه تدلّ، القول الموعب في القضاء بالموجب، المناسك، المناسك الصغرى، منتخب طبقات الفقهاء، القراءة خلف الإمام، المناسخات، تلخيص التلخيص وتاليه، الرد على الشيخ زين الدين ابن الكناني، المناقشات المصلحيّة، جواب سؤال على ابن عبد

السلام، كشف اللبس، منتقى من المكمل، نقد الاجتماع والافتراق، بيع المرهون في غيبة المديون، بيان حكم الربط في اعتراض الشرط على الشرط، نور الربيع من كتاب الربيع، الرقم الإبريزي في شرح مختصر التبريزي في الفقه، رفع الحاجب عن مختصر ابن حاجب في الأصول، الإبهاج في شرح المنهاج في الأصول، فصل المقال في هدايا العمال، عقود الجمان في عقود الرهن والضمان، طليعة الفتح والنصر في صلاة الخوف والقصر، كشف الغمة في ميراث أهل الذمة/ (ص 332) التهدّي إلى معنى التعدي، حسن الصنيعة في أحكام الوديعة، الطوالع المشرقة في الوقف على طبقة بعد طبقة، الغيث المغدق في ميراث ابن المعتق، السهم الصائب في قبض دين الغائب، الاتساق في بقاء وجه الاشتقاق، العارضة في البنية المعارضة، قطف النور في مسائل الدور، الكلام على قوله (ما لم تمسوهنّ) وأما غير ذلك مما بسط فيه الكلام في المسائل المفردة، وأجوبة الفتاوى وغير ذلك فيزيد على ثلاثين مسألة، نفع الله بذلك. آخر السّفر الخامس من كتاب مسالك الأبصار ويتلوه في السفر السادس إن شاء الله تعالى. وإذ قد ختمنا فقهاء المحدثين بالجانبين، ولم ندع منهم زينة مشرق ولا مغرب، ولا مطلع هلال ولا كوكب الحمد لله رب العالمين. وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا. حسبنا الله ونعم الوكيل «13»

فهرس المصادر والمراجع

فهرس المصادر والمراجع - القرآن الكريم 1- آثار البلاد وأخبار العباد: الإمام العالم زكريا بن محمد بن محمود القزويني ط دار صادر. بيروت 1998. 2- أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم: شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد المقدسي مطبعة. بريل ليدن 1906. 3- أحمد بن حنبل- الإمام أحمد. 4- أبو حنيفة- الإمام أبو حنيفة. 5- أخبار العلماء- كتاب أخبار العلماء. 6- أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار: أبو الوليد محمد بن عبد الله الأزرقي، تحقيق رشدي الصالح ملحس. دار الأندلس. بيروت 1416 هـ 1996 م. 7- الأدارسة (ملوك تلمسان وفي وقرطبة) : إسماعيل العربي. دار الغرب الإسلامي بيروت. 1403/1983 م. 8- أدب الوزير: الإمام أبو الحسن الماوردي. تحقيق د. محمد سليمان داود، ود. فؤاد عبد المنعم أحمد. دار الجامعات المصرية الاسكندرية 1396 هـ/ 1976 م. 9- الأدب المفرد: الامام محمد بن إسماعيل البخاري بتحقيق محب الدين الخطيب، القاهرة. 10- أساس البلاغة: لأبي القاسم جار الله محمود بن عمر الزمخشري، ط دار المعرفة.

11- الاستذكار الجامع لمذاهب علماء الأمصار وعلماء الأقطار: الحافظ يوسف بن عبد البر. دمشق دار ابن قتيبة 1993 م. 12- الإسلام في آسيا منذ الغزو المغولي: د. محمد نصر مهنا. المكتب الجامعي الحديث/ الاسكندرية. 13- الإسلام والحضارة العربية: محمد كرد علي ط 2 القاهرة 1959. 14- أصول الحديث: علومه ومصطلحه أ. د محمد عجاج الخطيب دار الفكر لبنان/ دار المنارة جدة. 15- أطلس تاريخ الإسلام: د. حسين مؤنس، الزهراء للإعلام العربي القاهرة 1407 هـ/ 1987. 16- أعلام النساء في عالمي العرب والإسلام: عمر رضا كحالة، مؤسسة الرسالة بيروت 1977. 17- الأغاني: أبو الفرج علي بن الحسين الأصبهاني، المؤسسة المصرية 1948. 18- إكمال المعلم بفوائد مسلم: الحافظ أبو الفضل عياض بن موسى اليحصبي؛ بتحقيق يحيى إسماعيل؛ دار الوفاء المنصورة مصر. 19- الإمام أحمد بن حنبل: العلامة الشيخ محمد أبو زهرة دار الفكر العربي، القاهرة. 20- الإمام أبو حنيفة: الشيخ محمد أبو زهرة. دار الفكر العربي القاهرة. 21- الإمام الشافعي: الشيخ محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي القاهرة. 22- الإمام مالك بن أنس: الشيخ محمد أبو زهرة دار الفكر العربي القاهرة. 23- بلاد الشام إبان الغزو المغولي: أ. د محمد ألتونجي. دار الفكر بيروت 1998.

24- تاريخ الإسلام السياسي والديني والثقافي والاجتماعي: د. حسن إبراهيم حسن؛ مكتبة النهضة القاهرة. 25- التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية: أ. د أحمد شلبي ط 4 1975 مكتبة؛ نهصة مصر. 26- تاريخ الأمم والملوك: الإمام المؤرخ أبو جعفر محمد بن جرير الطبري. 27- تاريخ الحكماء: الشيخ جمال الدين علي بن يوسف القفطي ط مصر. 28- تاريخ الحكماء: محمد بن محمود الشهرزوري الإشراقي، تحقيق عبد الكريم أبو شويرب ليبيا 1988. 29- تاريخ ابن خلدون- موسوعة ابن خلدون. 30- تاريخ علماء بغداد (المسمى منتخب المختار على تاريخ ابن النجار) محمد بن رافع السلامي؛ الدار العربية للموسوعات بيروت 2000 م. 31- الترغيب والترهيب: للإمام الحافظ زكي الدين المنذري، تعليق مصطفى محمد عمارة ط 3 1388 هـ 1968 م دار إحياء التراث العربي بيروت. 32- تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأحاديث الشنيعة الموضوعة: الحافظ (ابن عراق الكناني) بعناية د. عبد الوهاب عبد اللطيف. 33- تهذيب حلية الأولياء: أ. صالح أحمد الشامي المكتب الإسلامي دمشق وبيروت، وعمان 1419 هـ. 34- تيسير التفسير: الشيخ عبد الجليل عيسى ط 2 مصر. 35- ابن تيمية حياته وعصره: الشخ العلامة محمد أبو زهرة دار الفكر العربي القاهرة.

36- ابن تيمية الفقيه المعذب: أ. عبد الرحمن الشرقاوي دار الشروق القاهرة 1410 هـ. 37- ابن تيمية وموقفه من أهم الفرق والديانات في عصره: د محمد حربي عالم، الكتب بيروت 1407. 38- الجامع لأحكام القرآن: للإمام المفسر محمد بن أحمد الأنصاري الأندلسي القرطبي، دار الكتب المصرية. 39- جمال القراء وكمال الإقراء: للعلامة أبي الحسن علم الدين علي بن محمد السخاوي (558- 643 هـ) تحقيق مروان العطية ومحسن خرابة دار المأمون دمشق هدية سمو الشيخ محمد بن راشد. 39- الجغرافية: ابن سعيد، العلامة الأديب علي بن موسى بن سعيد الأندلسي القرطبي الغماري بتحقيق أ. إسماعيل العربي المكتب التجاري للنشر بيروت 1970 م. 40- جمع الفوائد في الجمع بين جامع الأصول ومجمع الزوائد، للشيخ محمد بن محمد المغرب السوسيي المدينة المنورة، مكتبة النمنكاني. 41- جمهرة أشعار العرب في الجاهلية والإسلام: محمد بن أبي الخطاب القرشي، تحقيق علي محمد البجاوي دار. النهضة القاهرة، وطبعة بيروت 1984. 42- الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح: الإمام ابن تيمية مطبعة المدني القاهرة 1959 م. 43- حضارة العرب: غوستاف لوبون، ترجمة عادل زعيتر ط 3 القاهرة 1956. 44- حياة الحيوان الكبرى: كمال الدين الدميري مصر، وط دار الفكر بيروت.

45- الحياة العربية من الشعر الجاهلي: أ. د أحمد محمد الحوفي دار القلم بيروت 1972. 46- خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب: الأديب عبد القادر بن عمر البغدادي، تحقيق أ. عبد السلام هارون. القاهرة مكتبة الخانجي. 47- خزائن الكتب العربية في الخافقين: ألفيكنت فيليب دي طرازي بيروت 1947/1948. 48- الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة شيخ الإسلام ابن حجر العسقلاني دار الجيل. 49- الرسالة القشيرية: للأستاذ الشيخ أبي القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري الخراساني ط مصر، وبيروت. 50- السنة قبل التدوين: محمد عجاج الخطيب ط مصر مكتبة وهبة حسن وهبة، ودار الفكر بلبنان. 51- سير أعلام النبلاء: للإمام الحافظ محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي طبع مؤسسة الرسالة. وطبعة دار الفكر دمشق. 52- السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة: أ. د محمد محمد أبو شهبة دار القلم دمشق وبيروت. 53- الشعر والشعراء: عبد الله بن مسلم بن قتيبة، تحقيق أحمد شاكر مجلدان دار الحديث القاهرة. 54- الشفا بتعريف حقوق المصطفى: القاضي عياض، تحقيق علي محمد البجاوي. دار إحياء الكتب العربية 1977. مصر. 55- صبح الأعشى في صناعة الإنشاء: للأديب العلامة أحمد بن علي

القلقشندي (- 821 هـ) شرح وتعليق محمد حسين شمس الدين، منشورات محمد علي بيضون بيروت، والطبعة الأميرية. 56- صدق الأخبار، تاريخ ابن سباط: حمزة بن أحمد بن عمر المعروف بابن سباط الغربي (توفي بعد 926 هـ) تحقيق عمر عبد الاسلام تدمري. جروس برس/ طرابلس ط 1 1413 هـ/ 1993 م) . 57- صحيح البخاري: محمد بن إسماعيل البخاري، بتحقيق. د مصطفى ديب البغا، دار ابن كثير واليمامة دمشق/ بيروت. 58- صحيح الجامع الصغير وزيادته الحافظ جلال الدين السيوطي تحقيق الشيخ ناصر الألباني المكتب الإسلامي بيروت. 59- صحيح مسلم بشرح النووي: الإمام شرف بن يحيى النووي دار أبي حيان 1415 هـ/ 1995 دمشق. 60- الطبقات الكبرى: (طبقات ابن سعد) المؤرخ محمد بن سعد كاتب الواقدي ط ليدن. 61- طبقات سلاطين الإسلام: استانلي لين بول الدار العالمية للطباعة 1406 هـ/ 1986 م. 62- طبقات فحول الشعراء: ابن سلام الجمحي. 63- العقد الفريد: شهاب الدين أحمد. ابن عبد ربه الأندلسي ط مصر، تقديم أ. خليل شرف الدين، منشورات دار الهلال. بيروت 1990 م. 64- العلم عند العرب وأثره في تطور العلم العالمي: الأدوميلي، ترجمة د. عبد الحليم النجار ود. محمد يوسف موسى، طبع بإشراف الإدارة الثقافية في جامعة الدول العربية، 1381 هـ/ 1972 م.

65- العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده: أبو علي الحسن بن رشيق الأزدي القيرواني، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، بيروت دار الجيل 1934. وط مكتبة الهلال بيروت 1416 هت/ 1996 م بعناية د. صلاح الدين الهواري وأ. هدى عودة. 66- العلوم عند العرب: أ. قدري حافظ طوقان مكتبة مصر القاهرة 1960. 67- عوارف المعارف: شيخ الإسلام شهاب الدين عمر بن محمد بن عبد الله السهروردي، الجزء الأول منه بتحقيق، الإمام الدكتور عبد الحليم محمود شيخ الجامع الأزهر والدكتور محمد الشريف دار المعارف مصر 1993. 68- فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية في التفسير: للإمام محمد بن علي الشوكاني، البابي الحلبي مصر. 69- الفتح الكبير في ضم الزيادة إلى الجامع الصغير: الشيخ يوسف بن إسماعيل النبهاني، بتحقيق محمد نزار وهيثم نزار تميم/ دار الأرقم بيروت، ومكتبة الصفا أبو ظبي 1995. 70- الفصل في الملل والأهواء والنحل: للإمام علي بن أحمد بن حزم الظاهري. مكتبة محمد أمين الخانجي 1321. 71- فضل العرب على أوربا: د. سيجريد هونكه، ترجمة وتعليق د. فؤاد حسنين علي، مصر 1964 م. 72- الفقه الإسلامي وأدلته: أ. د وهبة الزحيلي دار الفكر دمشق. 73- الفقه على المذاهب الأربعة، الجزيري، دار الفكر. 74- قاموس الحيوان: كوكب ديب دياب وجروس برس، طرابلس لبنان

1415 هـ/ 1995 م. 75- قاموس الغذاء والتداوي بالنبات: أحمد قدامة، دار النفائس بيروت. 76- قصة الحضارة: ول وايزيل ديورانت دار الفكر دار الجيل بيروت، بالتعاون مع المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم- تونس. 77- كتاب إخبار العلماء بأخبار الحكماء: للوزير جمال الدين علي بن القاضي يوسف القفطي دار الآثار للطباعة والتوزيع والنشر بيروت. كتاب الجغرفيا- الجغرافيا سبق ذكره. 78- كتاب المعجب في تلخيص أخبار المغرب: عبد الواحد المراكشي (ت 647 هـ) تحقيق أ. سعيد العريان، نشر المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية لجنة إحياء التراث القاهرة 1963 م. 79- لمحات في المكتبة والبحث والمصادر: أ. د. محمد عجاج الخطيب ط 19 مؤسسة الرسالة بيروت. 80- مجلة الرسالة السنة الرابعة: (أنقذوا تراث الأندلس) أ. محمد عبد الله عنان. القاهرة. 81- مجمع الأمثال: لأبي الفضل أحمد بن محمد الميداني، دار الكتب العلمية بيروت 1408 هـ/ 1988 م. 82- مختار الصحاح: محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي، ط دار الكتاب العربي بيروت. 83- مختصر تفسير ابن كثير: الشيخ محمد علي الصابوني ط دار القرآن بيروت. 84- المسالك والممالك: لأبي القاسم عبيد الله بن عبد الله المعروف ب (ابن

خرداذبه) (ت 300 هـ) ط مكتبة الثقافة الدينية بور سعيد. 85- معجم الحيوان: الفريق أمين المعلوف، ط دار الرائد العربي بيروت لبنان ط 3 1985. 86- معجم الحيوان: عبد الحافظ حلمي محمد. مؤسسة الكويت للتقدم العلمي الكويت 1999. 87- المعجم الذهبي فارسي عربي: د. محمد ألتونجي بيروت دار العلم للملايين 1980 م. 88- معجم الشعراء الجاهليين: د. عزيزة فوال بابتي ط دار صادر بيروت 1998. 89- المعجم الفارسي الكبير: فرهنك بزرك فارسي: د. إبراهيم الدسوقي شتا، مكتبة مدبولي القاهرة. 90- معجم الفلاسفة (الفلاسفة، المناطقة، المتكلمون، اللاهوتيون، المتصوفون) : جورج طرابيشي، دار الطليعة ط 2 1997 م. 91- معجم القراءات القرآنية مع مقدمة في القراءات وأشهر القراء: د. أحمد مختار عمر ود. عبد العال سالم مكرم، ط عالم الكتب القاهرة ط 3 1997 م. 92- مسالك الأبصار: العلامة ابن فضل الله العمري ط المجمع الثقافي أبو ظبي. 93- معجم النباتات الشافية: نقله إلى العربية وأحمد الطبال طرابلس لبنان 1989. 94- معجم النباتات الشافية لأكثر من 200 مرض: ميكائيل كاستلمان،

ترجمة هلا طريفي دار المؤلف بيروت 1997. 95- المغرب في حلى المغرب: المؤرخ الأديب علي بن موسى (ابن سعيد الأندلسي، تحقيق خليل المنصور دار الكتب العلمية بيروت 1997. 96- معرفة القراء الكبار على الطبقات والأعصار: الحافظ شمس الدين أبو عبد الله الذهبي، تحقيق الشيخ محمد سيد جاد الحق، ط 1 دار الكتب الحديثة القاهرة 1387 هـ/ 1967 م. 97- المعرب في ترتيب المعرب: الإمام اللغوي أبو الفتح ناصر الدين المطرزي، تحقيق محمود فاخوري وعبد الحميد مختار، كتبة لبنان ط 1 1999. 98- مغول إيران بين المسيحية والإسلام: د. مصطفى طه بدر، دار الفكر العربي القاهرة. 99- الملل والنحل للشيخ عبد الكريم الشهرستاني. دار المعرفة. 100- موسوعة ابن خلدون (تاريخ ابن خلدون) ط دار الكتاب المصري القاهرة ودار الكتاب اللبناني 1420 هـ/ 1999 م. 101- موسوعة أعلام الفلاسفة: أ. اروني إيلي ألفا، مراجعة د. جورج نخل دار الكتب العلمية بيروت 1412 هـ/ 1992. 102- موسوعة الحديث النبوي الكتب التسعة: صخر. 103- الموسوعة الفقهية: وزارة الأوقاف الكويت. 104- موسوعة الفلاسفة: د. فيصل عباس دار الفكر العربي 1996. 105- موسوعة المورد: منير البعلبكي دار العلم للملايين. 106- الوزارة- انظر أدب الوزير.

107- أبجد العلوم: صديق حسن القنوجي (1307) هـ أعده للطبع عبد الجبار زكار- من منشورات وزارة الثقافة- دمشق (1978) م. 108- ابن عساكر" في ذكرى مرور تسعمائة سنة على ولادته" ط المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية- سورية. 109- أخبار القضاة: وكيع بن محمد بن خلف بن حيان (306) ت: عبد العزيز المراغي- مطبعة الاستقامة، القاهرة (1947، 1950) م. 110- الأدب المفرد للبخاري: محمد بن إسماعيل (256 هـ) ط. محمد فؤاد عبد الباقي، المطبعة السلفية (1375 هـ) . 111- إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب: انظر معجم الأدباء: ياقوت الحموي. 112- إرشاد طلاب الحقائق إلى معرفة سنن خير الخلائق للنووي (676 هـ) تحقيق د. نور الدين عتر، نشر دار البشائر الإسلامية- بيروت (1411 هـ) . 113- الاستبصار في نسب الصحابة من الأنصار، ابن قدامة عبد الله بن أحمد موفق الدين (620 هـ) تحقيق علي نويهضة، بيروت. 114- الاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البر (463 هـ) تحقيق طه الزيني- نشر مكتبة الكليات الأزهرية، ط. أولى القاهرة (مع الإصابة) . 115- أسد الغابة في معرفة الصحابة لابن الأثير الجزري (631 هـ) تحقيق. 116- الإصابة لتمييز الصحابة لابن حجر أحمد بن علي العسقلاني (852 هـ) تحقيق طه الزيني، نشر مكتبة الكليات الأزهرية ط. أولى القاهرة. 117- الأعلام: خير الدين الزركلي (1396) هـ، ط 4 (1979) م. 118- أعمال الأعلام فيمن بويع قبل الاحتلام من ملوك الإسلام: لسان الدين الخطيب. محمد بن عبد الله (- 776 هـ) بالرمو 191، وبيروت 1956 م.

119- أعيان الشيعة: العاملي السيد محسن الأمين (1371) هـ، ط 4، مطبعة الإنصاف، بيروت (1960) م. 120- الإكمال في رفع الارتياب عن المؤتلف والمختلف في الأسماء والكنى، والأنساب: ابن ماكولا الأمير علي بن هبة الله (475) هـ، دار الكتب العلمية، بيروت ط 1 (1411) هـ 1991 م. 121- الإقناع في القراءات السبع: ابن الباذش أبو جعفر أحمد بن علي بن أحمد بن خلف الأنصاري (540) هـ ت د. عبد الحميد قطامش. ط 1 دار الفكر بدمشق (1403) هـ- مركز البحث العلمي- جامعة أم القرى. 122- إنباه الرواة على أنباء النحاة: القفطي علي بن يوسف (646) هـ، ت: محمد أبو الفضل إبراهيم القاهرة (1950، 1973) م. 123- الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل: مجير الدين عبد الرحمن بن محمد العليمي (928) هـ ط المطبعة الحيدرية بالنجف (1388) هـ. 124- الأنساب: السمعاني أبو سعد عبد الكريم بن محمد (562) هـ تعليق البارودي- (1988) م. 125- أنساب الأشراف: أحمد بن يحيى البلاذري (279) -، ت: د. إحسان عباس، المطبعة الكاثوليكية، بيروت. 126- البدء والتاريخ: مطهر بن طاهر المقدسي المنسوب إلى أبي زيد أحمد بن سهل البلخي- ت د. كليان هوار- مكتبة الأسدي- طهران (1920) م. 127- بدائع الزهور في وقائع الدهور، ابن إياس محمد بن أحمد (930) هـ، القاهرة، (1311) هـ. 128- إيضاح المكنون في الذيل على كشف الظنون عن أسامي الكتب

والفنون: إسماعيل باشا البغدادي (1933) هـ، مطبعة وكالة المعارف العثمانية- استانبول (1364 هـ/ 1945 م) . 129- البداية والنهاية: الحافظ ابن كثير المشقي (774) هـ- مكتبة المعارف بيروت، ط 5 (1403) هـ 1983) م. 130- بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة: السيوطي جلال الدين أبو بكر بن عبد الرحمن (911) هـ ت: محمد أبو الفضل إبراهيم، نشر الخانجي، القاهرة (1966) م. 131- بغية الملتمس في تاريخ رجال أهل الأندلس: أحمد بن يحيى بن أحمد بن عميرة الضبي (599) هـ، ت: روحية عبد الرحمن السيوفي، دار الكتب العلمية، بيروت ط 1 (1417 هـ/ 1997) م. 132- البيان المغرب في أخبار ملوك الأندلس والمغرب: ابن عذارى محمد المراكشي (695) هـ تحقيق: ج س. كولان، وليفي بروفنسال، دار الثقافة- بيروت- والجزء الرابع تحقيق إحسان عباس (1967) م. 133- البيان والتبيين: الجاحظ عمرو بن بحر ت: عبد السلام هارون- القاهرة (1948) م. 134- تاج العروس من جواهر القاموس للفيروز أبادي: محمد مرتضى الزبيدي الحسيني الواسطي الحنفي نزيل مصر (1205) هـ منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت (1413 هـ/ 1993 م) . 135- تاريخ أبي الفداء: انظر" المختصر في أخبار البشر". 136- تاريخ الأدب العربي: كارل بروكامان (1375) هـ، ترجمة عبد الحليم النجار، ط 3 القاهرة، دار المعارف (1974، 1977) م.

137- تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام: الذهبي (748) هـ دار الكتاب العربي، بيروت. 138- تاريخ أصبهان لأبي نعيم: انظر ذكر تاريخ أصبهان. 139- تاريخ بغداد: الخطيب البغدادي علي بن أحمد بن ثابت (463 هـ) وطبعة السعادة، القاهرة (1394 هـ) . 140- تاريخ التراث العربي: فؤاد سزكين- الهيئة المصرية للكتاب، القاهرة. 141- تاريخ جرجان: حمزة بن يوسف السهمي (427) هـ ت: المعلمي اليماني، ط عالم الكتب بيروت (1401) هـ. 142- تاريخ الجهمية والمعتزلة: القاسمي. 143- تاريخ الخلفاء: السيوطي جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر (911) هـ، دار الفكر. 144- تاريخ خليفة بن خياط (240) هـ تحقيق: أحمد ضياء العمري، دار الفكر، دمشق، (1977) م. 145- تاريخ الخميس في أحوال أنفس نفيس: حسين بن محمد بن الحسن الديار بكري (966) هـ القاهرة (1283) هـ. 146- التاريخ الصغير: البخاري محمد بن إسماعيل (256) هـ، ت: محمود إبراهيم زايد- دار الوعي والتراث حلب (1977) م. 147- تاريخ الطبري (تاريخ الأمم والملوك) أبو جعفر محمد بن جرير الطبري (310 هـ) - ت: محمد أبو الفضل إبراهيم، القاهرة. 148- تاريخ علماء الأندلس: أبو الوليد بن الفرضي عبد الله بن محمد بن يوسف الأسدي (403) هـ- الدار المصرية (1966) م.

149- التاريخ الكبير: البخاري محمد بن إسماعيل (256) هـ، دار الفكر بيروت. 150- تاريخ مدينة دمشق: ابن عساكر أبو القاسم علي بن الحسن (571) هـ ت محب الدين عمر بن غرامة العمروي- دار الفكر (1418) هـ. 151- التاريخ: يحيى بن معين (233) هـ، مركز البحث العلمي بجامعة أم القرى- مكة المكرمة. 152- تاريخ اليعقوبي: أحمد بن أبي يعقوب إسحاق الكاتب العباسي (284) - دار صادر دار بيروت (1960) م. 153- تالي وفيات الأعيان: فضل الله أبي الفخر الصقاعي ت: جاكلين سويليه- دمشق المعهد الفرنسي (1974) م. 154- التبصرة والتذكرة، شرح ألفية العراقي في المصطلح، للعراقي زين الدين عبد الرحيم بن الحسين (806 هـ) ، نشر دار الكتب العلمية- بيروت (1399 هـ) . 155- تبصير المنتبه بتحرير المشتبه: ابن حجر العسقلاني أحمد بن علي (852) هـ، ت: علي محمد البجاوي، الدار المصرية للتأليف والترجمة والنشر. 156- تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري: ابن عساكر أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله الدمشقي (571) هـ. نشر دار الكتاب العربي بيروت (1404 هـ/ 1984 م) . 157- تتمة المختصر: ابن الوردي عمر بن مظفر (749) هـ المطبعة الحيدرية النجف (1389) هـ.

158- التحبير في المعجم الكبير: أبو سعد السمعاني عبد الكريم بن محمد التميمي (562) هـ. ت: منيرة ناجي سالم- مطبعة الإرشاد بغداد. 159- تدريب الراوي شرح تقريب النووي للسيوطي جلال الدين عبد الرحمن (911 هـ) تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف، نشر دار إحياء السنة النبوية ط. 2 (1399 هـ) . 160- تذكرة الحفاظ: الذهبي (748 هـ) تعليق عبد الرحمن المعلمي، حيدر آباد الدكن الهند، نشر دار إحياء التراث العربي بيروت. 161- ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك: القاضي عياض اليحصبي ت: د. أحمد بكير محمود- مكتبة الحياة- بيروت (1968) م. 162- تسمية من أخرجهم البخاري ومسلم. 163- تفسير الطبري: (جامع البيان عن تأويل القرآن) . 164- تقريب التهذيب: ابن حجر العسقلاني (852 هـ) تحقيق محمد عوامة، دار الرشيد- حلب. 165- التقييد لمعرفة رواة السنن والمسانيد: ابن نقطة أبو بكر محمد بن عبد الغني البغدادي الحنبلي (629) هـ ت: كمال يوسف الحوت، دار الكتب العلمية بيروت ط 1 (1408 هـ/ 1988 م) . 166- التكملة لكتاب الصلة: ابن الأبار أبو عبد الله بن أبي بكر القضاعي البلنسي (658) هـ، ت: د. عبد السلام الهراس- دار الفكر بيروت (1415 هـ/ 1995 م) . 167- التكملة لوفيات النقلة: المنذري زكي الدين عبد العظيم بن عبد القوي

(656) هـ ت: بشار عواد معروف- مطبعة الآداب، النجف (1388 هـ/ 1968 م) . 168- تلخيص مجمع الآداب في معجم الألقاب: كمال الدين عبد الرزاق ابن أحمد الفوطي الشيباني (723) هـ ت: د. مصطفى جواد- دمشق (1962) هـ. 169- تهذيب الأسماء واللغات: النووي أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف (676) هـ، دار الكتب العلمية بيروت، مصور عن المنيرية. 170- تهذيب تاريخ دمشق: عبد القادر بدران- دمشق (1329، 1358) هـ 171- تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني (852 هـ) تصوير دار صادر بيروت. 172- تهذيب الكمال: للمزي يوسف بن الزكي عبد الرحمن الكلبي القضاعي (742 هـ) تحقيق د. بشار عواد، نشر مؤسسة الرسالة، بيروت ط أولى (1400 هـ) . 173- الثقات: ابن حبان محمد البستي (354) هـ، ت: محمد عبد المعين خان، ط حيدر آباد الدكن، دائرة المعارف العثمانية (1973) م. 174- الثقات: ابن شاهين (385) هـ، ت: عبد المعطي قلعجي، دار الكتب العلمية، بيروت. 175- جامع البيان عن تأويل القرآن: محمد بن جرير الطبري (310) هـ ت: محمود محمد شاكر، ط دار المعارف، مصر، والبابي الحلبي القاهرة. 176- جامع الأصول: ابن الأثير الجزري المبارك بن محمد (606) هـ، ت: الشيخ عبد القادر الأرناؤوط، المكتب الإسلامي دمشق (1969) م.

177- جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله: يوسف بن عبد البر النمري القرطبي (463) هـ، ت: عبد الكريم الخطيب، دار الكتب الحديثة- بيروت. 178- الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب البغدادي (463 هـ) تحقيق أ. د. محمد عجاج الخطيب (1412) هـ. 179- جامع المسانيد: أبو المؤيد محمد بن محمود الخوارزمي (665) هـ. دار الكتب العلمية بيروت. 180- الجامع المختصر في عنوان التواريخ وعيون السير: ابن الساعي علي بن أنجب (674) هـ، ت مصطفى جواد، بغداد (1934) هـ. جذوة المقتبس في ذكر ولاة الأندلس: الحميدي محمد بن فتوح (488) هـ، الدار المصرية (1966) م. 181- الجرح والتعديل لابن أبي حاتم الرازي عبد الرحمن بن محمد (327) هـ، ط: حيدر أباد الدكن، الهند (1371) هـ. 182- الجمع بين رجال الصحيحين: ابن القيسراني أبو الفضل محمد بن طاهر بن علي المقدسي الشيباني (507) - دار الكتب العلمية- بيروت. (مصور) . 183- جمهرة أنساب العرب: ابن حزم الأندلسي أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد (456) هـ، ت: عبد السلام هارون، دار المعارف، القاهرة (1382 هـ/ 1962 م) . 184- جمهرة نسب قريش: الزبير بن بكار (256) هـ ت: محمود محمد شاكر، مكتبة دار العروبة القاهرة (1381) هـ.

185- الجهاد لعبد الله بن المبارك (181) هـ، بيروت. 186- الجواهر المضيّة في طبقات الحنفية: أبو محمد عبد القادر بن محمد القرشي الحنفي (775) هـ، ت: عبد الفتاح محمد الحلو، ط عيسى البابي الحلبي (1399 هـ/ 1979 م) نشر مكتبة الإيمان. 187- حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة: السيوطي جلال الدين أبو بكر بن عبد الرحمن (911) هـ. 188- حلية الأولياء: أبو نعيم الأصبهان أحمد بن عبد الله بن أحمد المهراني (430) هـ مطبعة السعادة (1351 هـ) مصر. 189- الحوادث الجامعة: مؤلف مجهول، وينسب لابن القوطي عبد الرزاق ابن أحمد (723) هـ، ت مصطفى جواد، بغداد (1351) هـ. 190- خريدة القصر وجريدة العصر: للعماد الكاتب الأصفهاني محمد بن محمد (596) هـ. (شعراء الشام) المطبعة الهاشمية، دمشق (1955، 1964 م) (شعراء مصر) ، لجنة التأليف والترجمة والنشر (1991) م. (شعراء العراق) - مطبعة المجمع العلمي العراقي. 191- خلاصة تذهيب تهذيب الكمال في أسماء الرجال: صفي الدين الخزرجي ط مصر (1301 هـ) . 192- دائرة المعارف الإسلامية: أصدرها باللغة العربية أحمد الشنتناوي وإبراهيم خورشيد، وعبد الحميد يونس، مصر (1933) م. 193- دائرة معارف القرن العشرين: محمد فريد وجدي، ط 3، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت (1971) م.

194- الدارس في تاريخ المدارس: عبد القادر محمد النعيمي الدمشقي (927) هـ دار الكتب العلمية، بيروت (1410) هـ. 195- دلائل النبوة: أبو نعيم الأصفهاني (430) هـ، ت: محمد رواس قلعجي، دار ابن كثير. 196- دلائل النبوة: البيهقي أحمد بن الحسين (458) هـ، ت: عبد المعطي قلعجي، ط: دار الكتب العلمية، بيروت (1405) هـ. 197- دول الإسلام: الذهبي محمد بن أحمد (748) هـ، دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد- الهند (1364، 1365) هـ. 198- الديباج المذهب في معرفة أعيان المذهب: برهان الدين إبراهيم بن علي ابن فرحون المالكي المدني (799) هـ القاهرة، ط 1 (1351) هـ. 199- الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة: ابن بسام الشنتري (542) هـ، ت: إحسان عباس، دار الثقافة بيروت (1979 م) . 200- ذكر أخبار أصفهان (تاريخ أصفهان) : أبو نعيم أحمد بن عبد الله ابن أحمد المهراني الأصفهاني (430) هـ، ت: سيد كسوي حسن، دار الكتب العلمية- بيروت (1410 هـ/ 1990 م) . 201- ذيل تاريخ بغداد: ابن النجار محب الدين محمد بن محمود (643) هـ دائرة المعارف العثمانية- الهند (1398 هـ) . 202- ذيل تاريخ بغداد: الدبيثي محمد بن سعيد (637) هـ، ت: بشار عواد معروف بغداد (1394 هـ/ 1990 م) . 203- ذيل تاريخ بغداد: ابن الدمياطي أبو الحسين أحمد بن أيبك بن عبد الله الحسامي (749) هـ طبع مع تاريخ بغداد.

204- ذيل تذكرة الحفاظ: الحسيني محمد علي، (765) هـ، دمشق، 1347 هـ. 205- ذيل التقييد في رواة السنن والمسانيد: تقي الدين أبو الطيب محمد ابن أحمد الفاسي المكي المالكي (832) هـ ت: كمال يوسف الحوت- دار الكتب العلمية- بيروت ط 1 (1410 هـ/ 1990 م) . 206- ذيل الروضتين: أبو شامة عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسي الدمشقي (665) هـ القاهرة، ط 1 (1947) م. 207- ذيل طبقات الحنابلة: ابن رجب الحنبلي عبد الرحمن بن أحمد بن رجب السلامي البغدادي (795) هـ ت: محمد حامد الفقي، مطبعة السنة المحمدية (1952) م. 208- ذيل العبر: الذهبي (748) هـ ملحق بالعبرات: زغلول، دار الكتب العلمية. 209- رجال صحيح البخاري (الهداية والإرشاد في معرفة أهل الثقة والسداد الذين أخرج لهم الباري في جامعه) : أبو نصر أحمد بن محمد بن الحسين البخاري الكلاباذي (398) هـ، ت: عبد الله الليثي، دار الباز مكة المكرمة، دار المعرفة بيروت (1407 هـ/ 1987 م) . 210- الرسالة المستطرفة في مشهور كتب السنة المشرفة: عبد الحي الكتاني- ت. محمد المنتصر الكتاني- دار الفكر- دمشق (1964) م. 211- الرسالة للإمام الشافعي (204 هـ) تحقيق أحمد محمد شاكر- مصطفى البابي الحلبي مصر (1358 هـ) . 212- روائع البيان في تفسير آيات الأحكام للشيخ محمد علي الصابوني- ط

أولى دار القرآن الكريم بيروت. 213- روضات الجنات: الخوانساري محمد باقر الموسوي (1313) هـ، طهران (1347) هـ. 214- الروض المعطار: الحميري محمد عبد الله (900) هـ، تحقيق د. إحسان عباس. 215- الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية: أبو شامة شهاب الدين عبد الرحمن بن إسماعيل (665) هـ تحقيق: محمد حلمي محمد أحمد، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة (1956) م. 216- الزهد: أحمد بن حنبل (241) هـ، دار الكتب العلمية، بيروت (1403) هـ. 217- الزهد: عبد الله بن المبارك (181) هـ ت: الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي، دار الكتب العلمية. 218- السلوك لمعرفة دول الملوك: أبو العباس أحمد بن علي بن عبد القادر العبيدي المقريزي (845) هـ، ت: محمد عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية- بيروت (1418 هـ/ 1997 م) . 219- السنن: ابن ماجه محمد بن يزيد (273 هـ) تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي ط عيسى البابي الحلبي، مصر. 220- السنن: أبو داود سليمان بن الأشعث (275 هـ) تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد إحياء التراث العربي. 221- السنن: الترمذي محمد بن عيسى بن سورة (279 هـ) تحقيق أحمد شاكر وفؤاد عبد الباقي نشر دار الفكر، بيروت.

222- السنن: الدارقطني علي بن عمر (385 هـ) دار الفكر بيروت. 223- السنن: الدارمي أبي محمد بن عبد الرحمن (255 هـ) انظر فتح المنان. 224- السنن الكبرى: البيهقي أحمد بن الحسين (458 هـ) نشر دار الفكر بيروت. 225- السنن الكبرى: النسائي أحمد بن شعيب (303) هـ نشر دار الكتب العلمية بيروت- ط أولى (1411 هـ) . 226- السنن: النسائي: أحمد بن شعيب (303 هـ) نشر دار الفكر بيروت. 227- السنة لابن أبي عاصم. تحقيق الألباني- ط المكتبة الإسلامية- بيروت. 228- السيرة النبوية: لأبي محمد عبد الملك بن هشام (281 هـ) ، ط الكليات الأزهرية، القاهرة. 229- شجرة النور الزكية في طبقات المالكية: محمد بن محمد مخلوف، (1360) هـ دار الفكر، بيروت. 230- شذرات الذهب في أخبار من ذهب: ابن العماد الحنبلي عبد الحي (1089) هـ، دار الفكر، بيروت. 231- شرح السنة للبغوي: الحسين بن مسعود (510 هـ) تحقيق شعيب الأرناؤوط، طبعة المكتب الإسلامي، بيروت. 232- شرح علل الترمذي: ابن رجب الحنبلي زين الدين عبد الرحمن بن أحمد (795) هـ، ت: صبحي جاسم الحميد، وزارة الأوقاف، بغداد (1396) هـ. 233- شرح مشكل الآثار: لأبي جعفر الطحاوي: أحمد بن محمد بن

سلامة (321 هـ) تحقيق شعيب الأرناؤوط، ط مؤسسة الرسالة (1415 هـ) . 234- شرح معاني الآثار للطحاوي، نشر دار الكتب العلمية بيروت (1399 هـ) . 235- الشعر والشعراء (طبقات الشعراء) : ابن قتيبة الدينوري أبو محمد عبد الله بن مسلم (276) هـ، ت: د. قميحة، دار الكتب بيروت (1985) م. 236- الصحاح" تاج اللغة وصحاح العربية": إسماعيل بن حماد الجوهري (393) هـ، ت: أحمد عبد الغفور عطار، ط 3، القاهرة (1402 هـ/ 1982 م) . 237- صحيح ابن حبان (375 هـ) الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان لابن بلبان الفارسي (739 هـ) ط أولى، دار الفكر، بيروت. 238- صحيح ابن خزيمة: أبو بكر محمد بن إسحاق (311 هـ) تحقيق د. محمد مصطفى الأعطي، المكتب الإسلامي بيروت (1391 هـ) . 239- صحيح البخاري: انظر فتح الباري. 240- صحيح مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري (261 هـ) عناية محمد فؤاد عبد الباقي، مصر. 241- صفحات من صبر العلماء: الشيخ عبد الفتاح أبو غدة ط حلب. 242- صفة جزيرة الأندلس: الحميري محمد بن عبد الله (900) هـ، القاهرة، (1937) هـ. 243- صفة الصفوة: ابن الجوزي أبو الفرج عبد الرحمن بن علي (597 هـ) نشر مكتبة الثقافة الدينية، مصر. 244- صلة الصلة في تراجم أعلام الأندلس: أبو جعفر أحمد بن الزبير

الغرناطي (708) هـ، ت: ليفي بروفنسال، الرباط، المطبعة الاقتصادية (1937) م. 245- الصلة في تاريخ أئمة الأندلس، وعلمائهم، وفقهائهم، وأدبائهم: ابن بشكوال أبو القاسم خلف بن عبد الملك (578) هـ، ت: عزت العطار الحسيني، نشر مكتبة الخانجي القاهرة ط 2 (1414 هـ/ 1994 م) . 246- الطالع السعيد: كمال الدين بن ثعلب الأدفوي، ت: سعد حسن، الدار المصرية للتأليف والنشر والترجمة، القاهرة (1966) م. 247- طبقات الأطباء والحكماء: ابن جلجل سليمان بن حسان الأندلسي (377) هـ، ت: فؤاد السيد مؤسسة الرسالة، بيروت ط 2 (1985) م. 248- طبقات الأولياء: ابن الملقن تاج الدين أبو حفص عمر بن علي المصري (804) هـ، ت: نور الدين شريبة، ط 2، دار المعرفة- بيروت (1986) م. 249- طبقات الحفاظ: السيوطي جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر (911) هـ، ت: علي محمد عمر، مكتبة وهبة، ط 2، مصر (1415 هـ/ 1994 م) . 250- طبقات الحنابلة: الفراء القاضي محمد بن محمد بن أبي يعلى (526) هـ، ت: محمد حامد الفقي، مصر. 251- الطبقات: خليفة بن خياط شباب العصفري (240) هـ، ت: د. أكرم ضياء العمري، دار طيبة، الرياض ط 2 (1402 هـ/ 1982) . 252- طبقات الشافعية، ابن قاضي شهبة، أبو بكر بن أحمد (851) هـ، ت: عبد العليم خان، حيدر آباد 1978 م.

253- طبقات الشافعية: أبو بكر بن هداية الله الحسيني (1014 هـ) حققه وعلق عليه عادل نويهض، منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت (1402 هـ) . 254- طبقات الشافعية: الأسنوي جمال الدين عبد الرحيم بن الحسن (772) هـ، ت: عبد الله الجبوري، بغداد (1970) م. 255- طبقات الشافعية الكبرى: تاج الدين عبد الوهاب بن تقي الدين السبكي (771 هـ) ط ثانية، نشر دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت. 256- طبقات الفقهاء: أبو إسحاق الشيرازي إبراهيم بن علي الشافعي (476) هـ، ت: د. إحسان عباس، دار الرائد العربي، بيروت (1970) م. 257- طبقات الفقهاء الشافعية: أبو عاصم محمد بن أحمد العبادي (458) هـ، ط بريل ليدن (1964) م. 258- الطبقات الكبرى لمحمد بن سعد (230 هـ) دار التراث العربي، بيروت. 259- طبقات المحدثين بأصبهان والواردين عليها: أبو الشيخ أبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان الأنصاري (369) هـ، ت: عبد الغفور عبد الحق حسين البلوشي، مؤسسة الرسالة، ط 1 (1407 هـ/ 1987 م) . 260- الطبقات: مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري (261) هـ، تحقيق أبو عبيدة مشهور ط أولى (1411 هـ) . 261- طبقات المفسرين: الأدنوي أحمد بن محمد- ت: سليمان بن صالخ الخزي- ط مؤسسة الرسالة- نشر مكتبة العلوم والحكم المدينة المنورة (1417 هـ/ 1997 م) . 262- طبقات المفسرين: الداودي محمد بن علي بن أحمد (945) هـ ت:

علي محمد عمر، نشر مكتبة وهبة، مصر، ط 1، (1392 هـ/ 1972) . 263- طبقات المفسرين: السيوطي جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر (911) هـ، ت: د. هاينريخ أنجلين فايرز، بريل، ليدن (1839) م. 264- العبر في خبر من غبر: الذهبي شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز (748) هـ، دار الفكر- بيروت (1418 هـ/ 1997 م) . 265- العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين: محمد بن أحمد الفاسي المكي (832) هـ، مطبعة السنة المحمدية، القاهرة (1378) هـ. 266- عمل اليوم والليلة: أبو بكر بن السني (364) هـ ت. عبد القادر عطا- دار ابن زيدون بيروت ومكتبة الكليات الأزهرية القاهرة- (1407 هـ/ 1987 م) . 267- عمل اليوم والليلة: النسائي: أحمد بن شعيب (305 هـ) تحقيق د. فاروق حمادة. 268- عيون التواريخ: محمد بن شاكر الكتبي- ت: د. فيصل السامر، ود. نبيلة عبد المنعم داود، وزارة الإعلام العراقية، بغداد (1977، 1980) م. 269- غاية النهاية في طبقات القراء: ابن الجزري محمد بن محمد الدمشقي (833) هـ، ت: برجشتراسر، القاهرة (1932، 1933) م. 270- الفائق في غريب الحديث لجار الله محمود بن عمر الزمخشري (538 هـ) تحقيق علي محمد البجاوي ومحمد أبو الفضل إبراهيم طه، الحلبي ط 2. 271- فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني (852 هـ) الريان ط. الأولى. 272- فتح المنان شرح وتحقيق كتاب الدارمي أبي محمد بن عبد الله بن عبد

الرحمن للسيد أبي عاصم نبيل بن هاشم الغمري- دار البشائر الإسلامية والمكتبة المكية (1419) هـ. 273- فتوح البلدان: البلاذري أحمد بن يحيى، (279) هـ، ت رضوان محمد رضوان، ط. السعادة، القاهرة (1959) م. 274- الفلاكة والمفلوكين: الدلجي أحمد بن علي (828) هـ، القاهرة (1322) هـ. 275- فهرسة ما رواه عن شيوخه: محمد بن خير بن عمر الأموي الأشبيلي (575) هـ، ط مكتبة المثنى بغداد (1893) م. 276- الفهرست: ابن النديم محمد بن إسحاق (380) هـ، المكتبة التجارية الكبرى، ومطبعة الاستقامة، القاهرة. 277- الفهرست: الطوسي أبو جعفر محمد بن الحسن (460) هـ، ت: السيد محمد صادق آل بحر العلوم، النجف، المطبعة الحيدرية (1961) م. 278- فهرست مخطوطات الظاهرية (حديث) الشيخ محمد ناصر الألباني- مطبوعات مجمع اللغة العربية- دمشق (1979) م. 279- فوات الوفيات: محمد بن شاكر الكتبي (764) هـ، ت: إحسان عباس، دار صادر بيروت. 280- القاموس المحيط: الفيروزآبادي محمد بن يعقوب (817) هـ، ط. مؤسسة الحلبي، القاهرة. 281- القانون: ابن سينا، ط مؤسسة عز الدين، بيروت (1413) هـ. 282- القلائد الجوهرية في تاريخ الصالحية: شمس الدين محمد بن طولون الدمشقي (953) هـ، ت: محمد أحمد دهمان، دمشق، ط 2 (1401) هـ.

283- الكاشف في معرفة من له رواية في الكتب الستة: الذهبي (748) هـ، دار الكتب العلمية بيروت. 284- الكامل (في التاريخ) : ابن الأثير الجزري أبو الحسن علي بن أبي الكرم محمد الشيباني (630) هـ، دار صادر بيروت. 285- الكامل في ضعفاء الرجال ابن عدي الإمام الحافظ أحمد بن عبد الله الجرجاني (365) هـ، ت: عادل أحمد عبد الموجود وآخرين، دار الكتب العلمية- بيروت (1418 هـ/ 1997 م) . 286- كشف الأستار إلى زوائد البزار للهيثمي: نور الدين علي بن أبي بكر (807 هـ) تحقيق: عبد الرحمن الأعظمي، نشر مؤسسة الرسالة، بيروت (1399 هـ) . 287- كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس: للشيخ إسماعيل العجلوني، مؤسسة الرسالة بيروت ط 7 سنة 1418 هـ/ 1997 م. 288- كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون: حاجي خليفة (كاتب شلبي) (1067) هـ، دار الفكر، بيروت. 289- الكنى والأسماء: الدولابي محمد بن أحمد (310) هـ، دار الكتب العلمية، بيروت (1403) هـ. 290- اللباب في تهذيب الأنساب، لعز الدين بن الأثير الجزري علي بن أبي الكرم محمد الشيباني (630) هـ نشر مكتبة المثنى ببغداد. 291- لحظ الألحاظ بذيل طبقات الحفاظ: تقي الدين أبو الفضل محمد بن محمد بن فهد المكي (871) هـ، دار إحياء التراث العربي، بيروت.

292- لسان العرب لابن منظور: محمد بن مكرم الإفريقي (711) هـ، ترتيب يوسف خياط ونديم مرعشلي، ط. دار لسان العرب، بيروت. 293- لسان الميزان: ابن حجر العسقلاني (852) هـ، مؤسسة الأعلمي- بيروت (1390) هـ. 294- مجمع الزوائد ومنبع الفوائد للهيثمي، نور الدين علي بن أبي بكر (807 هـ) نشر دار الكتاب العربي، بيروت (1402 هـ) . 295- محاسن الاصطلاح وتضمين علوم الحديث لابن الصلاح لسراج الدين البلقيني عمر بن نصر (805 هـ) تحقيق د. عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ) ط. دار المعارف، مصر (1411 هـ) . 296- المحتسب في تبيين وجوه القراءات والإيضاح عنها: أبو الفتح عثمان ابن جني (392) هـ ت: محمد عبد القادر عطا- نشر دار الكتب العلمية- بيروت لبنان (1419) هـ. 297- المحدث الفاصل بين الراوي والواعي لحسن بن عبد الرحمن الرامهرمزي (360 هـ) تحقيق أ. د. محمد عجاج الخطيب، دار الفكر بيروت (1404 هـ) . 298- مختصر تاريخ دمشق: ابن منظور محمد بن مكرم (711) هـ، ت: مجموعة- دار الفكر- دمشق (1404 هـ/ 1984 م) . 299- المختصر في أخبار البشر: الملك المؤيد عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن علي بن محمود (732) هـ، علق عليه محمود ديوب، نشر دار الكتب العلمية- بيروت (1417 هـ/ 1997 م) . 300- المختصر المحتاج إليه من تاريخ ابن الدبيثي: الذهبي (748) هـ، ت: د.

مصطفى جواد ود. ناجي معروف، المجمع العلمي العراقي (1397) هـ. 301- مرآة الجنان وعبرة اليقظان: أبو محمد عبد الله بن أسعد اليافعي اليمني (768) هـ، حيدر آباد الدكن، (1337، 1339) هـ. 302- مرآة الزمان في تاريخ الأعيان: سبط ابن الجوزي أبو المظفر قره أوغلي (654) هـ، ط حيدر آباد الدكن، الهند (1951) م. 303- مروج الذهب ومعادن الجوهر لأبي الحسن علي بن الحسين المسعودي (346 هـ) دار الكتاب اللبناني ومكتبة المدرسة، بيروت (1402 هـ) . 304- المستدرك على الصحيحين للحاكم أبي عبد الله النيسابوري (405 هـ) نشر دار المعرفة، بيروت. 305- المستفاد من ذيل تاريخ بغداد: أحمد بن أيبك الدمياطي (749) هـ، دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد الدكن، الهند (1399) هـ. وذكرت له نسخة أخرى في الذيول ملحقة بالتاريخ. 306- مسند ابن الجعد علي بن الجعد الجوهري (230 هـ) تحقيق عبد المهدي عبد الهادي مكتبة الفلاح، الكويت (1405 هـ) . 307- مسند أبي عوانة يعقوب بن إسحاق الإسفراييني (316) هـ، ط. حيدر أباد، الهند. 308- المسند: أبو يعلى أحمد بن علي التميمي (307 هـ) حققه حسين سليم أسد ط. دار المأمون، دمشق. 309- المسند: أحمد بن حنبل (241 هـ) ط المكتب الإسلامي، بيروت. 310- المسند: للحميدي عبد الله بن الزبير (219 هـ) تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، نشر عالم الكتب، بيروت.

311- مسند الشهاب القضاعي (454 هـ) تحقيق حمدي عبد المجيد السلفي، مؤسسة الرسالة بيروت. 312- مسند الطيالسي: سليمان بن الجارود (204 هـ) ط. الهند (1321 هـ) . 313- المسند: عبد بن حميد (249 هـ) تحقيق: السامرائي والصعيدي، نشر عالم الكتب (1408 هـ) بيروت. 314- مشاهير علماء الأمصار: أبو حاتم بن حبان البستي محمد بن أحمد (354) هـ ت: مجدي بن منصور بن سيد الشورى، دار الكتب العلمية، بيروت ط 1 (1416 هـ/ 1995 م) . 315- المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي (623) هـ: تصنيف أحمد بن محمد بن علي المقرئ الفيومي (770) هـ، ط دار العلم- بيروت. 316- المصنف: ابن أبي شيبة عبد الله بن محمد (235 هـ) تعليق سيد اللحام، نشر دار الفكر، بيروت. 317- المصنف: عبد الرزاق بن همام الصنعاني (211 هـ) تحقيق الأعظمي، توزيع المكتب الإسلامي، بيروت. 318- المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية: ابن حجر العسقلاني (852) هـ- ط دار الكتب العلمية، بيروت. 319- المعارف: ابن قتيبة الدينوري أبو محمد عبد الله بن مسلم (276) هـ، ت: ثروت عكاشة، دار المعارف، القاهرة (1969) م. 320- معجم الأدباء: ياقوت بن عبد الله الحموي الرومي البغدادي (626) هـ ط 3، دار الفكر- بيروت (1400 هـ/ 1980 م) . 321- معجم البلدان: ياقوت الحموي (626) هـ، نشر دار صادر-

بيروت (1955، 1957) . 322- معجم المؤلفين: (تراجم مصنفي الكتب العربية) : عمر رضا كحالة- دار إحياء التراث العربي، بيروت. 323- معجم الشعراء: المرزباني محمد بن عمران، (384) هـ، دار الكتب العلمية، بيروت. 324- معجم شيوخ الذهبي: شمس الدين محمد بن أحمد (748) هـ- ت. روحية السيوفي، دار الكتب العلمية- بيروت ط 1 (1410 هـ/ 1990 م) . 325- المعجم في أصحاب أبي علي الصدفي: ابن الأبار محمد بن عبد الله القضاعي (658) هـ، القاهرة، (1967) م. 326- المعجم الصغير للطبراني (360 هـ) مع الروض الداني، تحقيق محمد شكور، المكتب الإسلامي بيروت (1405 هـ) . 327- معجم الفرق الإسلامية: شريف يحيى الأمين، دار الأضواء- بيروت- ط 1 (1406 هـ/ 1986 م) . 328- معجم القراءات القرآنية مع مقدمة في القراءات وأشهر القراء: د. أحمد مختار عمر ود. عبد العال سالم مكرم، ط 1 عالم الكتب، مصر. 329- معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع: البكري أبو عبد الله عبد الله بن عبد العزيز الأندلسي (487) هـ ت: د. جمال طلبة، دار الكتب العلمية- بيروت ط 1 (1418 هـ/ 1998 م) . 330- معجم المطبوعات العربية والمعربة: يوسف إليان سركيس- مطبعة سركيس، مصر (1346 هـ/ 1928 م) . 331- المعجم الكبير للطبراني، تحقيق السلفي ط. 2

332- المعجم المختص بالمحدثين: الذهبي أبو عبد الله (748) - ت: محمد الحبيب، مكتبة الصديق، السعودية (1408) هـ. 333- المعجم المشتمل على ذكر أسماء شيوخ الأئمة النبل: ابن عساكر أبو القاسم علي بن الحسين هبة الله المشقي (571) هـ- ت: سكينة الشهابي- دار الفكر، بيروت (1979) م. 334- معجم مقاييس اللغة لأحمد بن فارس، تحقيق عبد السلام هارون. 335- المعجم الوسيط قام بإخراجه إبراهيم مصطفى وآخرون، ط مجمع اللغة العربية، مصر. 336- معرفة الصحابة: أبو نعيم الأصبهاني أحمد بن عبد الله بن أحمد (430) هـ- ت: عادل العزازي، دار الوطن للنشر، الرياض، السعودية، ط 1 (1419 هـ/ 1998 م) . 337- معرفة القراء الكبار: الذهبي أبو عبد الله (748) ت: محمد سيد جاد الحق، ط 1، دار الكتب الحديثة- مصر (1387 هـ/ 1967 م) . 338- المعرفة والتاريخ: أبو يوسف يعقوب بن سفيان الفسوي (277) هـ- ت: أكرم ضياء العمري، مطبعة الإرشاد- بغداد (1394 هـ/ 1974 م) . 339- المعين في طبقات المحدثين: الذهبي أبو عبد الله () ت: د. همام سعيد- دار الفرقان- ط 1 (1404 هـ/ 1984 م) . 340- مفتاح السعادة ومصباح السيادة: أحمد بن مصطفى (طاش كبري زادة) (968) هـ ت: كامل بكري وزميله، مطبعة الاستقلال الكبرى، القاهرة (1968) م. 341- المفردات في غريب القرآن: أبو القاسم الحسين بن محمد (الراغب

الأصفهاني) (502) هـ، ت: محمد سيد كيلاني- مصطفى البابي الحلبي- مصر (1381 هـ/ 1961 م) . 342- المقصد الأرشد في ذكر أصحاب الإمام أحمد: برهان الدين إبراهيم بن محمد بن مفلح (884) هـ، ت: عبد الرحمن بن سليمان العثيمين- مكتبة الرشد، الرياض (1410 هـ/ 1990 م) . 343- المكنز الكبير: طبع مؤسسة التراث، الرياض. 344- منادمة الأطلال ومسامرة الخيال: الشيخ عبد القادر بن أحمد بن بدران (1346) هـ- المكتب الإسلامي دمشق (1379) هـ. 345- منتخبات التواريخ لدمشق: محمد أديب الحصني (1358) هـ، بيروت 1979 م. 346- المنتظم في تاريخ الملوك والأمم: أبو العز عبد الرحمن بن علي ابن الجوزي (597) هـ، دراسة محمد عبد القادر عطا وأخوه- دار الكتب العلمية- بيروت. 347- المنتقى لابن الجارود عبد الله بن علي (307) هـ، نشر حديث أكادمي باكستان. 348- المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج للنووي أبي زكريا يحي بن شرف (676 هـ) نشر دار إحياء التراث العربي، بيروت (1392 هـ) . 349- المنهاج في شعب الإيمان للحليمي الحسين بن الحسن دار الفكر بيروت (1979 م) . 350- المنهج الأحمد: مجير الدين عبد الرحمن بن محمد العليمي (928) هـ. ت عادل نويهض، عالم الكتب، بيروت (1403) هـ.

351- المنهل الأوفى والمستوفى بعد الوافي: بن تغري بردي يوسف الأتابكي (874) هـ، ت: أحمد يوسف نجائي، القاهرة 1956 م. 352- موارد الخطيب: البغدادي: أ. د أكرم ضياء العمري، دار القلم. 353- موسوعة الفرق والجماعات الإسلامية: د. عبد المنعم الحفني، دار الرشيد، القاهرة (1413 هـ/ 1993 م) . 354- الموطأ لمالك بن أنس الأصبحي (179 هـ) الإمام، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي ط. الحلبي، مصر. 355- مولد العلماء ووفياتهم: أبو سليمان محمد بن عبد الله بن زبر الربعي الدمشقي (379) هـ ت: د. عبد الله الحمد، دار العاصمة الرياض، ط 1 (1410) هـ. 356- ميزان الاعتدال في نقد الرجال: الذهبي أبو عبد الله محمد بن أحمد (748) هـ ت: علي محمد البجاوي، دار المعرفة، بيروت. 357- النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة: جمال الدين أبو المحاسن يوسف بن تغري بردي الأتابكي (874) هـ- طبعة مصورة عن طبعة دار الكتب المصرية- وزارة الثقافة المصرية. 358- نزهة الألباء في تراجم الأدباء: ابن الأنباري عبد الرحمن بن محمد (577) هـ، ت: إبراهيم السامرائي، بغداد (1959) م. 359- نزهة المشتاق في اختراق الآفاق: الشريف الإدريسي. مصر. 360- نسب قريش: مصعب بن عبد الله الزبيري (236) هـ، ت: ليفي بروفنسال، دار المعارف. 361- النشر في القراءات العشر: ابن الجزري أبو الخير محمد بن محمد

الدمشقي (833) هـ، إشراف محمد علي الصباغ، دار الفكر، بيروت. 362- نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، وذكر وزيرها لسان الدين الخطيب: أحمد بن محمد المقري التلمساني (1041) هـ، ت: محمد محيي الدين عبد الحميد، ط المكتبة التجارية الكبرى- مصر (1367 هـ/ 1949 م) . 363- نكت الهميان في نكت العميان: صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي (764) هـ، المكتبة التجارية، القاهرة (1911) م. 364- نهاية الأرب في فنون الأدب: شهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب النويري (732) هـ، دار الكتب المصرية (1374 هـ/ 1955 م) . 365- النهاية في غريب الحديث والأثر: ابن الأثير مجد الدين أبو السعادات المبارك بن محمد الجزري (606 هـ) نشر دار الفكر، بيروت (1418 هـ) . 366- هدية العارفين (أسماء المؤلفين وآثار المصنفين) : البغدادي إسماعيل بن محمد بن أمين (1339) هـ.، ط 3، طهران- المكتبة الإسلامية، 1976 م. 367- الوافي بالوفيات: صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي (764) هـ عناية أيمن فؤاد السيد، دار النشر فرانز شتايز شتوتغارد (1411 هـ/ 1991 م) . 368- الوافي في شرح الشاطبية: عبد الفتاح بن عبد الغني القاضي (1403) هـ- مكتبة الدار- المدينة المنورة. 369- الوفيات: ابن رافع السلامي، ت: صالح مهدي عباس، مؤسسة الرسالة، بيروت (1983) م. 370- الوفيات: ابن قنفذ أبو العباس أحمد بن حسن بن علي الخطيب

القسنطيني (809) هـ، ت: عادل نويهض، دار الآفاق الجديدة- بيروت، ط 4 (1403 هـ/ 1983 م) . 371- وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان: أحمد بن محمد (ابن خلكان) (681) هـ- ت: د. إحسان عباس، دار صادر بيروت (1397 هـ/ 1977 م) . والحمد لله رب العالمين

فهرس الكتاب

فهرس الكتاب مقدمة التحقيق 9 منهجنا في خدمة الكتاب 23 الفصل الأول وهو الخطابي 27 مقدمة المصنف 27 مشرق الأرض ومغربها 28 تشبيه بعض الحكماء للأرض 31 تفضيل المشرق على المغرب 32 الأنبياء والرسل 33 الجهات الشريفة 36 الحواريون والصحابة 36 جماهير الكرماء والعظماء في الجاهلية والإسلام 37 الأئمة والفقهاء 43 السادات الأولياء أئمة التحقيق 46 الفلاسفة والحكماء والأطباء ورجال الفلك والعلوم 50 أصحاب الموسيقى 59 حكم الشرع في السماع وآلاته (هامش) 60 قول ابن بسام في خطبة كتاب الذخيرة 68

أصحاب الصنائع العملية (الكتابة) والفلاحة والسيوف، والرماح، والديباج 73 في الشرق رست قواعد الخلافة 76 المقايسة بين سلاطين المشرق والمغرب والخلافة 77 مسعود بن محمود بن سبكتكين 78 السلطان ملكشاه بن ألب أرسلان 79 السلطان علاء الدين خوارزم شاه 81 الملك العادل، وجلال الدين محمد 82 فتنة البساسيري 83 الحيوان والنبات والمعادن 87 الجواهر والأحجار 89 العقاقير 92 بعض ما في المغرب مما سبق 92 الفصل الثاني في الإنصاف بين المشرق والمغرب على حكم التحقيق. 97 خطّا الأطوال والعروض.. والشرق والغرب أمر نسبي 97 المشرق أطول من المغرب 98 للمشرق الفخر 100 قول ابن سعيد.. المحاسن مقسمة.. الأغلب على البلاد المشرقية 101

رد ابن فضل الله العمري على ابن سعيد 103 ما فعله يوسف بن تاشفين مع بني عباد ملوك الأندلس 105 الموازنة بين المشرق والمغرب 108 الحيوان والنبات 113 المغرب والمشرق واللغة وبعض الشعراء 114 العلوم العقلية 116 المتنزهات.. والقلاع والمدن والأنهار 117 شعر في مدح المشرق والمغرب وغلمانهما 124 الإسكندر وبلاد فارس وأرسطو وصاحب الصين 130 تشبيه ابن سعيد الأرض بطائر 131 من أحكام المناظرة بين المشارقة والمغاربة 134 نشأة الخلافة 139 المناظرة بين الأشخاص: الخلفاء ونحوهم 144 من عظماء الأدارسة ... الناصر علي بن حمود 152 بنو عبد المؤمن 154 الشبه بين المأمون بن المنصور الموحدي والمأمون العباسي 156 خراسان سلطنة عريضة 159 سجستان ودولة بني الصفار 161

كرمان وديلمان 162 مازندران (طبرستان) 164 عراق العجم 165 فارس 165 خوزستان (الأهواز) 166 العراق السلطنة العظمى 166 شهرزور 167 الجزيرة 168 الشام سلطنة جليلة 169 جزيرة العرب 171 وهجر سلطنة واليمامة 174 أذربيجان 174 أرمينية.. وبلاد الروم 176 سلطنات المغرب الديار المصرية 178 برقة وإفريقية 179 سلطنة المغرب الأقصى 184 بلاد السودان 185 أرض النوبة والكانم 185

جزيرة الأندلس ومن تولى عليها 186 سلطنات رومية والقسطنطينية 188 الجندية في المشرق والمغرب رجالها عتادها وما يتبع ذلك وعطاؤهم 189 الوزارة 193 الكتاب بالمشرق 194 جاء في المتأخرين من لم يرض طرق المتقدمين 195 * مشاهير قراء المشرق 201 مقدمة 201 1- أبي بن كعب بن قيس 203 2- أبو عبد الرحمن السلمي 205 3- مجاهد بن جبر 207 4- عبد الله بن عامر 209 5- عبد الله بن كثير 211 6- يزيد بن القعقاع 214 7- عاصم بن أبي النجود 216 8- حمزة بن حبيب الزيات 219 9- أبو عمرو بن العلاء المازني 223 10- نافع بن عبد الرحمن الليثي 228

11- إسماعيل بن عبد الله المخزومي 230 12- حفص بن سليمان الأسدي 232 13- سليم بن عيسى 233 14- علي بن حمزة الكسائي 236 15- أبو بكر بن عياش بن سالم الأسدي الكوفي 244 16- يحيى بن مبارك بن المغيرة العدوي 247 17- يعقوب بن إسحاق 250 18- يحيى بن آدم بن سليمان 252 19- حسين بن علي الجعفي الكوفي 254 20- قالون أبو موسى 256 21- أحمد بن محمد (ابن أبي بزه) 258 22- خلاد بن خالد 259 23- خلف بن هشام بن تغلب البغدادي البزاز 261 24- الليث بن خالد أبو الحارث البغدادي 263 25- عبد الله بن أحمد بن بشير بن ذكون 265 26- هشام بن عمار 267 27- أبو عمر الدوري 270 28- أبو شعيب السوسي 273

29- قنبل مقرئ أهل مكة 274 30- أحمد بن موسى بن العباس البغدادي 275 31- محمد بن أحمد بن أيوب (ابن شنبوذ) 278 32- محمد بن النضر بن مر (ابن الأخرم الدمشقي) 284 33- عبد الواحد بن عمر البغدادي 289 34- محمد بن الحسن بن محمد النقاش 291 35- محمد بن أحمد بن إبراهيم (الشنبوذي) 293 36- علي بن داود أبو الحسن الداراني 295 37- علي بن أحمد بن عمرو الحمامي البغدادي 299 38- أبو علي الأهوازي 300 39- عبد الرحمن بن أحمد بن الحسن الرازي العجلي 302 40- أبو علي غلام الهراس 305 41- أبو الطاهر بن سوار 307 42- محمد بن الحسين بن بندار 309 43- عبد الله بن علي البغدادي النحوي 311 44- الحسن بن أحمد بن الحسين أبو العلاء الهمذاني 313 45- عبد الله بن منصور بن عمران (ابن الباقلاني) 316 46- عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسي (أبو شامة) 318

47- أحمد بن يوسف بن حسن الكواشي 320 48- إبراهيم بن عمر بن إبراهيم الربعي الجعبري 322 49- محمد بن بصخان (الإمام بدر الدين بن السراج) 324 * قراء الجانب الغربي 50- محمد بن عمر بن خيرون المعافري 329 51- أبو عمر الطلمنكي المعافري 331 52- مكي بن أبي طالب (حموش) 334 53- أبو عمرو الداني 336 54- سليمان بن أبي القاسم 340 55- عبد الرحمن بن أبي بكر عتيق الصقلي 343 56- علي بن محمد بن علي البلنسي 345 57- القاسم بن فيرة الشاطبي 348 58- علي بن عبد الصمد الهمداني السخاوي 351 59- أبو عبد الله الفاسي 354 60- محمد بن عبد الرحيم بن الطيب 356 61- أحمد بن إبراهيم بن الزبير الغرناطي 358

* قراء مصر 62- عثمان بن سعيد القبطي 361 63- عبد الله بن مالك التجيبي 364 64- محمد بن علي بن أحمد الأذفوي 365 65- غياث بن فارس بن مكي اللخمي 368 66- محمد بن أحمد بن عبد الخالق الشروطي 370 * المحدثون من أهل المشرق 67- أبو هريرة الدوسي اليماني 373 68- محمد بن مسلم بن عبيد الله (ابن شهاب الزهري) 381 69- قتادة بن دعامة السدوسي 387 70- شعبة بن الحجاج 391 71- عبد الرحمن بن مهدي 394 72- أبو داود الطيالسي 398 73- يحيى بن يحيى التميمي النيسابوري 401 74- علي بن عبد الله السعدي المدني 403 75- يحيى بن معين 406 76- عبد الله بن محمد بن أبي شيبة أبو بكر الكوفي 411 77- عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي 413

78- الإمام العلم أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري 415 79- محمد بن يحيى بن عبد الله الذهلي 424 80- أحمد بن الفرات أبو مسعود الرازي 427 81- مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري 428 82- عبيد الله بن عبد الكريم أبو زرعة الرازي 431 83- محمد بن يزيد (ابن ماجه) القزويني 434 84- سليمان بن الأشعث أبو داود السجستاني 435 85- محمد بن إدريس أبو حاتم الرازي 439 86- أبو عيسى محمد بن عيسى الترمذي 442 87- أبو عبد الرحمن أحمد بن علي النسائي 445 88- أبو جعفر محمد بن جرير الطبري 449 89- محمد بن إسحاق بن خزيمة 454 90- أبو عوانه الإسفراييني 459 91- عبد الله بن أبي داود السجستاني 461 92- عبد الرحمن بن أي حاتم الرازي 466 93- أحمد بن محمد بن سعيد أبو العباس (ابن عقدة) 470 94- محمد بن حبان بن أحمد أبو حاتم البستي 473 95- أبو بكر بن الجعابي 476

96- سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني 482 97- أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني 485 98- محمد بن إسحاق بن محمد (ابن منده) 491 99- أبو عبد الله الحاكم النيسابوري 495 100- أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني 500 101- أبو ذر الهروي (ابن السماك) 502 102- أحمد بن الحسين البيهقي 505 103- الخطيب أبو بكر بن أحمد بن علي البغدادي 507 104- أبو نصر بن ماكولا 512 105- أبو الفضل محمد بن طاهر المقدسي 516 106- إسماعيل بن محمد بن فضل الأصبهاني (قوام السنة) 519 107- أبو سعد عبد الكريم بن تاج الإسلام السمعاني 522 108- أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله (ابن عساكر) 525 109- أبو موسى المديني 533 110- عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي 537 111- محمد بن عبد الواحد السعدي المقدسي 543 112- محمد بن محمود بن الحسن بن هبة الله (ابن النجار) 545 113- القاسم محمد بن يوسف البرزالي 547

114- أبو الحجاج يوسف بن الزكي عبد الرحمن المزي 553 115- محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي 557 * الحفاظ بالجانب الغربي 116- يحيى بن يحيى بن كثير الليثي الأندلسي 572 117- بقي بن مخلد 578 118- محمد بن أبي نصر فتوح الأزدي الأندلسي 580 119- خلف بن عبد الملك بن مسعود (ابن بشكوال) الأندلسي 583 120- عبد الحق بن عبد الرحمن الإشبيلي 585 121- محمد بن أحمد بن عبد الله اليعمري الأندلسي 586 122- يزيد بن أبي حبيب أبو رجاء الأزدي 587 123- عبد الغني بن سعيد بن علي الأزدي الحافظ النسابة 589 124- أبو طاهر الأصبهاني السلفي 592 125- عبد المؤمن بن خلف بن أبي الحسن الدمياطي 595 * فقهاء المحدثين: * الجانب الشرقي 126- علقمة بن قيس النخفي الكوفي 597 127- القاضي شريح بن الحارث 598 128- سعيد بن المسيب بن حزن القرشي 603

129- عروة بن الزبير بن العوام 608 130- أبو بكر عبد الرحمن بن الحارث 612 131- سعيد بن جبير الوائلي 613 132- إبراهيم بن يزيد بن الأسود النخعي 616 133- عبيد الله بن عبد الله بن عتبة الهذلي (المسعودي) 618 134- خارجة بن زيد بن ثابت الأنصاري 619 135- عامر بن شراحيل الشعبي 622 136- طاووس بن كيسان الخولاني 624 137- سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب العدوي 626 138- القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق 628 139- سليمان بن يسار 630 140- الحسن بن أبي الحسن البصري 632 141- مكحول بن عبد الله الشامي 635 142- عطاء بن أبي رباح 636 143- أبو الزناد عبد الله بن ذكوان المدني 638 144- ربيعة بن أبي عبد الرحمن (ربيعة الرأي) 640 145- يحيى بن سعيد بن قيس الأنصاري 643 146- سليمان بن مهران الأعمش 647

147- محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى 650 148- عبد الملك بن عبد العزيز (ابن جريج) 652 149- عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي 654 150- سفيان بن سعيد الثوري 659 151- حماد بن سلمه بن دينار 662 152- عبد الله بن المبارك 664 153- سفيان بن عيينة بن أبي عمران الهلالي 665 154- إسحاق بن أبي الحسن إبراهيم (ابن راهوية) 668 155- إبراهيم بن خالد بن أبي اليمان الكلبي (أبو ثور) 670 156- محمد بن نصر الإمام عبد الله المروزي 670 157- محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري 673 158- أبو سليمان الخطابي حمد بن محمد البستي 674 159- الحسن بن محمد بن الحسن العدوي العمري 676 160- أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن (ابن الصلاح) 678 161- يحيى بن شرف بن مزي النووي 680 162- أحمد بن عبد الحليم (ابن تيمية) شيخ الإسلام 687

* مشاهير الجانب الغربي 163- أبو عمر يوسف (ابن عبد البر) القرطبي 709 164- أبو عبد الله محمد بن علي المازري 711 165- القاضي أبو الفضل عياض اليحصبي 712 166- أبو بكر محمد (ابن العربي) المعافري 717 167- أبو القاسم السهيلي 720 168- أبو الخطاب عمر بن الحسن الكلبي (ذو النسبين) 724 ومن متقدميهم بالديار المصرية 169- الحافظ الفقيه أبو جعفر بن محمد بن سلامة الطحاوي 727 ومن المتأخرين 170- القاضي أبو الفتح محمد بن علي (ابن دقيق العيد) 730 171- علي بن عبد الكافي الأنصاري الخزرجي المصري الشافعي 741 * فهرس المصادر والمراجع 755 * فهرس الكتاب (الموضوعات) 797 والحمد لله رب العالمين

الجزء السابع

[الجزء السابع] مقدمة لا يغمض لأرباب الأقلام جفن، ولا يهدأ لهم بال، ولا يسلك لهم بصر ما لم يروا أن نتاجهم قد اصفرّ سنبله، وآتى أكله، وردّدت الأروقة رجع صدى نتاجه من طالب العلم فيما كتبه. ولعمري إنّ هذا الطموح لهو أحقّ بما هو مخطوط من تراث الأمم من غيره؛ لأنّ جهد العلوم لا ينمو غرسه إلّا فيما هو موروث من مداد أولئك الأئمة الأعلام الذين ذابت أفئدتهم، وتقرّحت أجفانهم بين المحابر والمنابر، ولم تثن عزيمتهم عوادي الزمن، أو غضب الأيام؛ وإنّما كسروا قيود المحال، وشمّروا عن سواعد الجدّ، فجادت نفوسهم بزاد المعاد الذي ما فتئت الأمم تتبارى متفاخرة به في ميدان سباق العلوم والآداب. لقد حقّ ل (شهاب الدين أبو العبّاس، أحمد بن يحيى بن فضل الله بن مجلّي القرشي العمري الشافعي القاضي الكبير، الإمام الأديب البارع) (700- 749 هـ) أن تبصر جهوده النور، كما كان يطمح إليها، وعلى وفق مراده، لكنّما ذلك لم يكن بالأمر اليسير، فالنسخة التي قام عليها التحقيق تناءت عن زمنة، لما خالطها من جهالة لا يمكن أن تكون إلا من فعل النسّاخ المتكسبين في تحرير المخطوطات، ممّا وقعوا فيه من هنات، لا يقوى أحد على أن ينسبها إلى مؤلفها الذي يشهد له ببراعة الخط، وجودة الأسلوب، والتصرّف الرفيع في صياغة العبارة (المسجوعة) الموشّاة بأبهى الصور البلاغية التي عهدت في قلم ابن فضل الله؛ لأنه كان وزيرا للإنشاء، خلفا لأبيه، وزير الإنشاء عند حكام مصر آنذاك؛ لذا عجّت المخطوطة بالكثير من اللحن والخطأ الإملائي، وإهمال النقاط، وإضافة الهمزة إلى كلمة (ابن) الواقعة بين اسم الابن وأبيه، والاستعاضة بالمدّة الخنجرية عن الألف في مفردات، وعدم استعمالها في مفردات أخر، ممّا يدلّ على أن أقلاما عديدة تعاورت على نسخ المخطوطة؛ إذ وردت بعض الحروف معجمة تارة، وغير معجمة تارة أخرى، كالباء والياء والنون والغين؛ وإن كانوا قد توحّدوا في قلب الهمزة ياء، في مثل: فوايد، ومسائل والسايل.

إن استخلاص المفردات وتحقيقها من قلم ناسخ التوت حروفه، وتعثّرت نقطه بعد أن عفت الأيام رسومها، وحارت أنامله بعد أن زاغت عيناه في فكّ طلاسم نسخة اعتمدها لأمر بالغ الصعوبة، بل هو أصعب من خلع ضرس غير مرّة وإنما هو عند كل مفردة وفي صفحات عديدة؛ لأنّ الناسخ- كما هو ماثل في المخطوطة- كان ينقل كثيرا من المفردات رسما من نسخته المعتمدة، ولهذا جاءت كثرة من الأبيات الشعرية، فيما استشهد له ابن فضل الله غير موزونة أحيانا ومبتورة، أو مسطورة من غير تشطير؛ فضلا عن أنّ النتف والمقطوعات الشعرية الواردة في ثنايا المخطوطة لم ينسب الكثير منها إلى قائليها، ممّا جعلني أجهد في ردّها إلى أصحابها، ممّن عرفوا بالشهرة وذيوع الصيت. أما الآيات القرآنية الكريمة فجاءت مبثوثة في ثنايا السطور من دون إسنادها إلى سورها، الأمر الذي حدابي إلى وضعها بين قوسين صغيرين، مع بيان رقم السورة والآية، وبالنسبة إلى المفردات التي توجّب إضافتها في التحقيق عضدناها بين عضادتين، فضلا عن الاهتمام بالشكل والترقيم، مع ضبط القصائد وزنا وشكلا وإسنادها إلى بحورها. اختص السفر السابع من «مسالك الأبصار» الذي وقفت على تحقيق نسخته بتراجم أهل النحو وأرباب المعاني والبيان من الجانب الشرقي (العراق) ، والجانب الغربي (الأندلس) ، ثم مصر، حيث بدأها ابن فضل الله ب (النّضر بن شميل) (- 204 هـ) ، وختمها ب (ابن أبي الإصبع) (- 624 هـ) ، وإن كان قد أفاض في ترجمة بعض أعلامها، وأوجز (مقلّا) عند بعضهم، كما هو الحال فيما ذكره عن السكّاكي (- 626 هـ) ، حيث لم يتجاوز فيه خمسة الأسطر من دون أن يذكر له مؤلّفا، أو إبداعا واحدا. لقد أفاض ابن فضل الله في ترجمة (أبو حيان الأندلسي) (- 745 هـ) ، وأطنب كثيرا في تدوين قصائده التي كان أغلبها مناجاة ومساجلات بينهما؛ ناهيك عن الإطراء والمديح الذي أثنى فيه عليه؛ بوصفه شيخا من شيوخه الذين درس عليهم، وأتقن صنعة الكتابة بهم. كما أفاض كثيرا في ترجمة ابن المعتز (- 247 هـ) سالكا درب المؤرخين فيه، ومعرّجا على ريادته لفنّ البديع، واصفا إياه- بحقّ- رائدا لهذا اللون من فنون البلاغة، مع عدم

تقصيره فيما دوّن له من قصائد شعرية عصماء، جادت بأبهى الصور البديعية، ذاكرا له بعض القصائد والمقطوعات الشعرية التي لم يحفل بها محقق ديوانه، الدكتور يونس أحمد السامرائي. ولعلّ إفاضته في حياة ابن المعتز وشعره له ما ينصفه ويثني عليه؛ وذلك لأنه (ابن المعتز) علم البديع، ومصنّف أبوابه وأشكاله، وصاحب أفضل القرائح نظما واتّساق أسلوب، وأمهر الشعراء في خلق الصورة البديعية، الأمر الذي دفع ابن فضل الله إلى أن يفتي بنزاهة ابن المعتز، وإبعاد كلّ ما لا يليق بشخصه، على الرغم ممّا ورد في قصائده التي تعبّر عن حاله وحياته التي تعجّ بما يناقض ذلك. لقد اعتمد ابن فضل الله في تراجمه على مصادر جعلها موردا ينهل منه تاريخ مولدهم ووفاتهم، وما يؤثر عنهم بعد أن يفيض بسجعه عليهم؛ فكان (وفيات الأعيان وأنباء أنباء الزمان) لابن خلكان (- 681 هـ) المصدر الأول له، واعتمد أيضا على (تاريخ إربل) لابن المستوفي (- 637 هـ) ، لكنّ إشارات ابن فضل الله لهذا الكتاب فيما حققه الدكتور سامي الصقّار غير واردة، وربّما يكون لما ورد ذكره من مدوّنات ابن المستوفي التي ولمّا تزل تئنّ من وطأة تراكم غبار السنين ترقب أكفّ المحققين في إنقاذها. وهو الحال نفسه مع كتاب (بغية الألبّاء) الذي ورد ذكره كثيرا، وكان من المكانة في الاعتماد عليه، ممّا يجعله بعد كتاب وفيات الأعيان، إلّا أن هذا الكتاب مفقود هو الآخر. كذلك اعتمد ابن فضل الله على كتاب (خريدة القصر وجريدة العصر) لعماد الدين الأصبهاني (- 597 هـ) ، الذي حقّقه الأستاذ محمد بهجت الأثري. جاءت المخطوطة التي عني بإحياء إصدارها الأستاذ فؤاد سزكين، من معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية في جامعة فرانكفورت- ألمانيا الاتحادية-، وقد بدأت بعبارة: (وأمّا من حفظ ألسنة العرب، وسعى في تحصيل لغاتها، وانتهت بعجز بيت مقطوعة شعرية: (ولكنّه من مقتلي سرق المعنى) لابن أبي الإصبع، ولم يرد فيها من البياض إلا القليل، ولم يكن فيها من (خرم) الصفحات، وكان تعداد صفحاتها ثلاثمئة وأربعا وخمسين صفحة. في كل صفحة عشرون سطرا، وفي كل سطر عشر كلمات، قياس كل صفحة ثمانية عشر سنتمترا

طولا، وأحد عشر سنتمترا عرضا، ربط فيها ابن فضل الله بين تراجمه بكلمة (ومنهم) ، مع الإشارة إلى ما نقله كثيرا بكلمة: قال ابن خلكان، وقال ابن المستوفي، وجاء في بغية الألبّاء. لقد حرصت كثيرا على إنعام النظر وإمعانه في كل مفردة، عصيّة كانت أم يسيرة في أثناء التحقيق لهذه المخطوطة؛ لكنّما لا أبرئ نفسي من الوقوف عند فهم بعضها، ممّا كان لا يقصده ابن فضل الله، وهذا أمر غير غريب على المحققين كافة، ولا سيّما في كلامه المسجوع الذي بدأ به ترجماته إلّا أنّ ذلك لا يضاهي النهوض بالكشف عنه وتحريره، مما يدعو الباحث والقارئ على حدّ سواء إلى إسداء الشكر والعرفان للجهود القيّمة التي عني بها المجمع الثقافي في أبو ظبي، لحرصه واهتمامه بإحياء التراث العربي والسعي الحثيث لدى القائمين عليه في البحث عن مكنونات كنوز التراث العربي الإسلامي لتبصر النور ثانية، ولتأخذ دورها في تبصرة الجيل القادم بما له من أهمية في إنهاض أسباب المعرفة. ولا يفوتني أن أثني على جهود ذلكم الفريق الذي ظل يؤازر أقلام التحقيق، ويمدها بالعون على الوصول إلى أمهات الكتب ومصادرها من أجل التثبت والتوثيق. والله أسأل التوفيق والسّداد، إنّه نعم المولى، ونعم النصير. عبد العباس عبد الجاسم أبو ظبي 12/آب/ 2001

الورقة الأولى من المخطوطة

الورقة الأخيرة من المخطوطة

[أهل اللغة بالجانب الشرقي]

[أهل اللغة بالجانب الشرقي]

1 - النضر بن شميل

1- النضر بن شميل «13» وأمّا من حفظ ألسنة العرب. وسعى في تحصيل لغاتها واضطرب فأعلام لا تخفى، وسرج لا تطفى. فأمّا من كان منهم بالجانب الشرقي، ممّن غبر منهم وبقي، فمنهم أبو الحسن النضر ابن شميل التميمي المازني النحوي البصري، عالم قلّما بقوته، وعادم نضير لا يسع مناظره إلا خفوته، سلك لغة العرب فذلّل مطاياها، وقلّل بالنسبة إليه عطاياها. ترع الثنايا، وطلع شعاب الأماني قبل المنايا، فأصاب الرمية، وصال في لسان الأمّة، فجمع الغرائب، وجرع في مناهل الرغائب، حتى توفّر قيسمه، وظفر فوق الأسماء اسمه، وأصبح باللغة قيّما، وأبكار الكلم يعرض عليه بكرا وأيّما «1» . قال ابن خلّكان «2» : كان عالما بفنون من العلم صدوقا ثقة، صاحب غريب وفقه ومعرفة بأيام العرب، ورواية الحديث، وهو من أصحاب الخليل بن أحمد وذكره أبو عبيدة «3» ، وقال: ضاقت عليه المعيشة بالبصرة فخرج يريد خراسان، يشيّعه من البصرة نحو من ثلاثة آلاف رجل ما فيهم إلّا محدّث أو نحوي، أو لغوي أو عروضي أو أخباري. فلمّا صار بالمربد جلس، فقال: يا أهل البصرة يعزّ عليّ فراقكم، وو الله لو وجدت كل يوم كيلجة «4» باقلّاء ما فارقتكم، فسلّم فيهم أحدا يتكلّف له ذلك، وسار حتى وصل خراسان فأفاد بها مالا

عظيما، وأقام بمرو، وصحب المأمون «1» ، وحظي عنده فقال المأمون له يوما: حدّثنا هشيم «2» عن مجالد عن الشعبي عن ابن عباس، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : إذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها كان فيه سداد من عوز (بفتح سين سداد) . فأعاد النضر الحديث بكسر السين، فاستوى المأمون جالسا وقال: يا نضر أتلحنني؟ فقال: إنما لحن هشيم، فتبع أمير المؤمنين لفظه. فقال: ما الفرق بينهما؟ فقال: السداد بالفتح في الدّين والسبيل والسّداد بالكسر، البلغة «3» ، وكلّما سدد به شيئا فهو سداد (بالكسرة) . وأنشد من عمرو العرجي «4» : [الوافر] أضاعوني وأيّ فتى أضاعوا ... ليوم كريهة وسداد ثغر فأمر له المأمون بخمسين ألف درهم. سمع الحديث، وسمع من هشام بن عروة، وإسماعيل بن أبي خالد وحميد الطويل، وعبيد الله بن عوف، وهشام بن حسان وغيرهم من التابعين. وروى عنه يحيى بن معين، وعلي ابن الديني، وكل من أدركه من أئمة عصره. ودخل نيسابور غير مرّة، وأقام بها زمانا، وسمع منه أهلها. وله تصانيف كثيرة مفيدة، وتوفي سلخ ذي الحجة سنة أربع ومئتين بمرو، من خراسان وبها ولد، وإنما نشأ بالبصرة فكذلك نسب إليها.

2 - أبو عبيدة معمر بن المثنى التيمي

ومنهم: 2- أبو عبيدة معمر بن المثنى التيمي «13» بالولاء، تيم قيس، البصري النحوي العلّامة، وافته كرائم العرب فجدّد إحسانها، وأكدّ أحصانها. هذا ولم ينزل بهدونها «1» ولا قنع بهونها، وإنّما اقتطفها قطف الثمار، وكشفها كشف الخمار. وكان أوسع القوم رواية وأرفعهم راية. وقف مع النقل، وقام فيه بالفرض والنّفل، فأخذ باللغة وترائبها «2» ، وبلغ قصارى مراتبها ثم دوّن غريبها، ودوّر على السنة قريبها. قال الجاحظ في حقه: لم يكن في الأرض خارجي ولا جماعي أعلم بجميع العلوم منه. وقال ابن قتيبة: كان الغريب أغلب عليه وأخبار العرب وأيامها، وكان مع معرفته ربّما لم يقم البيت إذا أنشده حتّى يكسره، وكان يخطئ إذا قرأ القرآن، وكان يبعض العرب، وألّف في مثالبها كتبا، وكان يقوّي رأي الخوارج. وقال غيره: أقدمه الرشيد من البصرة إلى بغداد سنة ثمان وثمانين ومئة وقرأ عليه وأسند الحديث إلى هشام بن عروة وغيره، وروى عنه ابن المغيرة الأثرم، وأبو عبيد القاسم بن سلّام، والمازني والسجستاني، وعمرو بن شيبة النميري وغيرهم. وقال أبو عبيدة: أرسل إليّ الفضل بن الربيع إلى البصرة في الخروج إليه، فقدمت عليه، وكنت أخبر عن تجبّره، فأذن لي فدخلت عليه، وهو في مجلس طويل عريض فيه بساط واحد قد ملأه، وفي صدره فرش عالية، لا يرقى عليها إلّا بكرسيّ، وهو قاعد على الفرش، فسلمت عليه بالوزارة، فردّ وضحك إليّ واستدناني حتى جلست مع فرشه، ثم سألني

وبسطني، وتلطّف بي، وقال أنشدني، فأنشدته من عيون أشعار أحفظها، جاهلية. فقال: قد عرفت أكثر هذه، وأريد من ملح الشعر، فأنشدته فضحك وطرب وزاد بساطا. ثم دخل رجل في زيّ الكاتب، وله هيئة خشنة، فأجلسه إلى جانبي. وقال له: تعرف هذا؟ فقال: لا، فقال: هو أبو عبيدة، علّامة أهل البصرة، أقدمناه لنستفيد من علمه، فدعا له الرجل، ثم التفت إليّ، وقال لي: كنت إليك مشتاقا، وقد سألت عن مسألة، أفتأذن لي أن أعرّفك إياها، فقلت: هات، فقال «1» : قال الله تعالى: «طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ «2» » ، وإنما يقع الوعد والإيعاد بما قد عرف مثله، وهذا لم يعرف. قال: فقلت: إنّما كلّم الله تعالى العرب على قدر كلامهم، أما سمعت كلام امرئ القيس: [الطويل] أتقتلني والمشرفيّ مضاجعي ... ومسنونة زرق كأنياب أغوال «3» وهم لم يروا الغول قطّ؛ ولكنّه لمّا كان الغول يهولهم أرعدوا به، فاستحسن الفضل ذلك واستحسنه السائل. وأزمعت من ذلك اليوم أن أضع كتابا في القرآن لمثل هذا وأشباهه، ولما يحتاج إليه من علمه. فلمّا رجعت إلى البصرة عملت كتابي الذي سميته (المجاز) ، وسألت عن الرجل فقيل لي هو من كتّاب الوزير وجلسائه. وقال المازني: سمعت أبا عبيدة يقول: أدخلت على الرشيد فقال لي يا معمر بلغني أنّ عندك كتابا في صفة الخيل، أحبّ أن أسمعه منك، فقال الأصمعي: وما نصنع بالكتب؟ يحضر فرس، ونضع أيدينا على عضو عضو منه، ونسميه ويذكر ما فيه. فقال الرشيد: يا غلام. فرس. فقام الأصمعي، فجعل يده على عضو عضو منه، ويقول هذا كذا، قال فيه الشاعر كذا، قال فيه الشاعر كذا حتى انقضى قوله. فقال لي الرشيد ما تقول فيما قال؟ قلت: أصاب في بعض وأخطأ في بعض، والذي أصاب فيه متى تعلّمه، والذي أخطأ فيه ما

أدري من أين أتى؟ وزعم الباهلي «1» أن طلبة العلم كانوا إذا أتوا مجلس الأصمعي اشتروا البعر في سوق الدّر، وإذا أتوا مجلس أبي عبيدة اشتروا الدرّ في سوق البعر؛ لأنّ الأصمعي كان حسن الإنشاد والزخرفة، رديء الأخبار والأشعار حتى يحسن عنده القبيح، وإن الفائدة عند ذلك قليلة. وانّ أبا عبيدة كان معه سوء عبارة مع فوائد كثيرة وعلوم جمّة، ولم يكن أبو عبيدة يفسّر الشعر. قال المبرد: كان أبو زيد سعيد بن أوس الأنصاري أعلم من الأصمعي وأبي عبيدة بالنحو، وهما بعده يتقاربان، وكان أبو عبيدة أكمل القوم، وكان ابن المديني يحسن ذكر أبي عبيدة، ويصحّح روايته، ولا يحكي عن العرب الشيء الصحيح، وحمل أبو عبيدة والأصمعي إلى الرشيد للمجالسة، فاختار الأصمعي؛ لأنه كان أصلح للمنادمة وكان أبو نواس يتعلم من أبي عبيدة، وينصفه وينسى الأصمعي ويهجره، فقيل له: ما تقول في الأصمعي؟ فقال: بلبل في قفص. قيل: فما تقول في خلف الأحمر؟ فقال: جمع علوم الناس وفهمها. قيل: فما تقول في أبي عبيدة؟ فقال: ذاك أديم طوي على علم، قال عن تصانيفه تقارب مئتي تصنيف. وقال أبو عبيدة: لمّا قدمت على الفضل بن الربيع، قال لي: من أشعر الناس؟ قلت: الراعي «2» . فقال: كيف فضلته على غيره؟ فقلت: لأنه ورد على سعيد بن عبد الرحمن الأموي، فوصل في يومه الذي لقيته فيه، فقال يصف حاله معه؟ [الوافر] وأنضاء «3» تحنّ إلى سعيد ... طروقا «4» ثمّ عجّلن ابتكارا حمدن مناخة وأصبن منه ... عطاء لم يكن غده ضمارا

3 - إسحاق بن مرار الشيباني

فقال له الفضل: ما أحسن ما اقتضيتنا يا أبا عبيدة، ثمّ غدا إلى الرشيد فأخرج له صلة، وأمر لي بشيء من ماله وصرفني. وكان أبو عبيدة لا تقبل شهادته؛ لأنه كان يتّهم بالميل إلى الغلمان. قال الأصمعي دخلت أنا وأبو عبيدة يوما المسجد، فإذا على الأسطوانة التي يجلس إليها أبو عبيدة: [البسيط] صلّى الإله على لوط وشيعته ... أبا عبيدة قل بالله آمينا فقال: يا أصمعي أمح هذا، فركبت ظهره ومحوته بعد أن أثقلته إلى أن قال: أثقلتني، وقطعت ظهري، فقلت له بقيت الطاء، فقال ويحك هي شرّ. حروف هذا البيت، كتبه أبو نواس. ولد في رجب سنة عشر ومئة، وقيل غير ذلك، والأول أصح لأنه سئل متى ولدت" فقال: قد سبقني إلى الجواب عن مثل هذا عمر بن أبي ربيعة، وقد قيل له متى ولدت؟ فقال: في الليلة التي مات فيها عمر بن الخطاب، فأي خير رفع، وأي شرّ وضع؟ واني ولدت في الليلة التي مات فيها الحسن البصيري، فجوابي جواب عمر بن أبي ربيعة. وتوفي سنة تسع ومئتين، وقيل غير ذلك بالبصرة، وكان سبب موته أن محمد بن القسم بن سهل البوسجاني أطعمه موزا فمات منه، ثم أتاه أبو العتاهية فقدم إليه موزا فقال له: ما هذا يا أبا جعفر؟ قتلت أبا عبيدة بالموز، وتريد أن تقتلني به، استحليت قتل العلماء. ومنهم: 3- إسحاق بن مرّار الشيباني «13» مولاهم أبو عمرو النحوي اللغوي صاحب العربية كوفي، نزل بغداد. عرف القبائل بتفضيلها، ركب قفار الفقار «1» وقرأ أسفار الأسفار، وولج البوادي ولجّ حتى جفّت في فم

4 - سعيد بن أوس بن ثابت بن زيد بن قيس بن النعمان بن مالك بن نولية بن كعب ابن الخزرج

السحاب ريقه الغوادي ونزل على كل خباء، وفصّل عنه بأنباء، ولم يسلم على حفاظه ومحاسنه على ألفاظه؛ بل قبل فيه، وأظهر ما يخفيه، على أنه ما أضاع وتوقى أفاويق «1» الرضاع. قال ابن خلكان «2» ، هو من رمادة الكوفة، ونزل إلى بغذاد، وحاور شيبان للتأديب فيها فنسب إليها، وكان من الأئمة الأعلام في فنونه، وهي اللغة والشعر والذي قصّر به عند العامة أنه كان مشتهرا بشرب النبيذ، وأخذ عنه جماعة كبار، كالإمام أحمد بن حنبل، وأبي عبيد القاسم بن سلّام، ويعقوب بين السكيت. وقال في حقه: عاش مئة وثماني عشرة سنة، وكان يكتب بيده إلى أن مات، وكان قد قرأ دواوين الشعراء على المفضل «3» ، وكان الغالب عليه النوادر وحفظ الغريب، وأراجيز العرب. قال ولده عمر: ولما جمع أبي أشعار العرب ودوّنها كانت نيّفا وثمانين قبيلة، وكان كلّما عمل منها قبيلة وأخرجها إلى الناس كتب مصحفا، وجعله في مسجد الكوفة، حتى كتب نيفا وثمانين مصحفا بخطّه. ومنهم: 4- سعيد بن أوس بن ثابت بن زيد بن قيس بن النعمان بن مالك بن نوليّة بن كعب ابن الخزرج «13» الأنصاري اللغوي البصري أبو زيد، حسبه محض، ولبنه لا يحتاج إلى

مخض «1» ، باقي طراز الحسب المذهّب، والنسب الذي يرغب إليه ويرهب. لم تنس أيامه الأول ولا إقدامه أمام الدول، هذا القديم عليا، وعميم سابقه لا يدرك بالأعيا. نشرت أيامها أجنحة نورها، وحدّقت على الليالي وراء سورها، وبرّزت عقايل شموسها تتبرج في لجبها، وتوشّع «2» حلل النهار بذهبها، والزمان كلّه نوائب ويشرق، والضحى لجنبه جامد وذوائب، فبلغ من المجد قصاراه، ونال جلّ ما سمعه ورواه. قال ابن خلكان: كان من أئمة الأدب، وغلبت عليه اللغة والنوادر والغريب وكان يقوّي رأي القدر، وكان ثقة في روايته. قال المازني: رأيت الأصمعي وقد جاء إلى حلقة أبي زيد فقبّل رأسه، وجلس بين يديه، وقال: أنت سيّدنا ورئيسنا منذ خمسين سنة. وقال أبو زيد: حدّثني خلف الأحمر، قال: أتيت الكوفة، لأكتب عنهم الشعر، فبخلوا عليّ به، فكنت أعطيهم المنحول وآخذ الصحيح، ثم مرضت فقلت لهم: ويلكم أنا تائب إلى الله هذا الشعر لي، فلم يقبلوا منّي، فبقي منسوبا إلى العرب. وحكى بعضهم أنه كان في حلقة شعبة بن الحجاج فضجر من إملاء الحديث، فرمى بطرفه فرأى أبا زيد الأنصاري في أخريات الناس فقال: يا أبا زيد: [البسيط] استعجمت دارميّ ما تكلّمنا ... والدار لو كلّمتنا ذات أخبار إليّ يا أبا زيد، فجاءه فجعلا يتحدثان ويتناشدان الأشعار، فقال له بعض أصحاب الحديث: يا أبا سطام، نقطع إليك ظهور الإبل لنسمع منك حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فتدعنا وتقبل على الأشعار؟ قال: فغضب شعبة غضبا شديدا، ثم قال: يا هؤلاء، أنا أعلم بالأصلح لي، أنا والله الذي لا إله إلا هو في هذا أسلم مني في ذاك، وقارب المئة، ومات بالبصرة سنة خمس عشرة، وقيل أربع عشرة، وقيل ست عشرة ومئتين «3» .

5 - عبد الملك بن قريب بن عبد الملك بن علي بن أصمع بن مطهر بن رباح بن عمرو بن عبد شمس الباهلي أبو سعيد الأصمعي البصري

ومنهم: 5- عبد الملك بن قريب بن عبد الملك بن علي بن أصمع بن مطهّر بن رباح بن عمرو بن عبد شمس الباهلي أبو سعيد الأصمعي البصري «13» إزاره كميش «1» وإيناره يحيي من يسمع، تتبع ألسنة العرب وجال في آفاقها، وركب واضطرب فيها الصعب والذلول. وصحب المحافظ والملول، ولم يخف هجيرا تلفّح سمومه، ولا برّا بقدح ديمومه؛ بل شقّ الرمال شقّ الأراقم، وشدّ الرحال على الخطب المتفاقم، وسرى وسرّ الليل مبهم والفجر وهم لمن يتوهّم، وقذف في النهار سفن عيشه، وألقى عن الوجناء منن تعريشه «2» ، حتى ولج الأحيا، وتجنب في سؤاله الحيا، فعاد بأمنيّته، وبلغ سؤله قبل منيّته، وهو أحد أئمة اللغة والنحو والغريب والأخبار والملح والنوادر قال يحيى بن معين «3» : كان أعلم الناس بفنه. قال الربيع: سمعت الشافعي يقول: ما عبّر أحد من العرب بأحسن من عبارة الأصمعي. وقال الشافعي: ما رأيت بذلك العسكر أصدق لهجة من الأصمعي. وقال عمر بن شبه «4» ، سمعت الأصمعي يقول، أحفظ ستة عشر ألف أرجوزة. وقال أبو داود السخي، سمعت الأصمعي يقول: إن أخوف ما أخاف على طالب العلم إذا لم يعرف النحو أن يدخل في جملة قول النبي صلى الله عليه وسلم «من كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار «5» » لأنه عليه السلام لم يكن يلحن، فمهما رويت عنه ولحنت فقد كذبت عليه.

6 -[أبو] عبيد القاسم بن سلام الأنصاري

وقال أيضا: من لم يحتمل ذلّ التعليم ساعة، بقي في ذلّ الجهل أبدا. وقال الأصمعي: رآني أعرابي وأنا أطلب العلم، فقال: يا أخا العرب عليك بلزوم ما أنت عليه؛ فإن العلم زين في المجلس. وصلة من الأحزان وصاحب في الغربة، ودليل على المروءة، ثم أنشأ يقول: [الطويل] تعلّم فليس المرء يخلق عالما ... وليس أخو علم كمن هو جاهل وإنّ كبير القوم لا علم عنده ... صغير إذا التفّت عليه المحافل وتوفي الأصمعي سنة ثلاث عشرة، وقيل خمس عشرة، وقيل سبع عشرة ومئتين. ومنهم: 6-[أبو] عبيد القاسم بن سلام الأنصاري «13» مولاهم البغدادي القاضي، ذكر استحقاقا لا حظّا، واسترقاقا للفضل معنى ولفظا، تقدم في أول السلف وتناسب فعله فما اختلف، زاحم الشماريخ «1» الشمّ وأسمع الآذان الصمّ وهم السادة الجحاجح، وأهل السيادة الرواجح، فأعجز الأنظار وأعجب النظّار، وفاق الأمثال وفات المثال، فجرى ذكره نورا في الأمصار، وحلي لمى في كل ذوق ونقع صدى لكل شوق ثم غيّبه الضريح، ومات فلم يرف دمعه الجفن القريح. أحد أئمة الإسلام فقها ولغة وأدبا، صاحب التصانيف المشهورة، والعلوم المذكورة. قال محمد بن سعد: كان مؤدبا صاحب نحو وعربية، طلب الفقه والحديث، وولي قضاء ترسوس أيام ثابت بن نصر بن ملك، ولم تزل معه ومع ولده، وقدم بغداد، فسّر بها غريب

الحديث وصنّف كتبا، وسمع الناس منه، وحجّ. توفي في مكة سنة أربع وعشرين ومئتين، وقال إبراهيم بن أبي طالب: سألت أبا قدامة عن الشافعي وابن حنبل وإسحاق وأبي عبيد، فقال: أما أفهمهم فالشافعي، وأما أورعهم فأحمد بن حنبل، وأما أحفظهم فإسحاق، وأما أعلمهم بلغات العرب فأبو عبيد، وقال إسحاق بن راهويه: «1» لله أبو عبيد الله، أفقه مني وأعلم مني، أبو عبيد أوسعنا علما، وأكثرنا أدبا، وأجمعنا جمعا. إنّا نحتاج إلى أبي عبيد، وأبو عبيد لا يحتاج إلينا. وقال الإمام أحمد: أبو عبيد ممن يزداد كل يوم عندنا خيرا. وقال أيضا: أبو عبيد أستاذ. وقال يحيى بن معين: ثقة. وقال، وقد سئل عن أبي عبيد: أبو عبيد يسأل عن الناس. وقال أبو داود: ثقة مأمون. وقال الدارقطني: إمام ثقة جلّ وسلّام والده رومي. وقال الإمام: هو الإمام المقبول عند الكل. وقال إبراهيم الحربي: أدركت ثلاثة لن ترى مثلهم أبدا، تعجز النساء أن تلد مثلهم، رأيت أبا عبيد القاسم بن سلّام، ما سألته إلّا كأنه جبل نفخ فيه روح ورأيت بشر بن الحارث «2» فما شبّهته إلا برجل ملئ من فرقه إلى قدمه عقلا، ورأيت أحمد ابن حنبل فرأيت كأنّ الله جمع له علم الأولين من كل صنف، يقول ما يشاء ويمسك ما شاء وقال أحمد بن حنبل بن خلف القاضي: كان أبو عبيد فاضلا في دينه وعلمه، ربانيا مفتيا في أصناف من علوم الإسلام من القرآن والفقه والأخبار والعربية، حسن الرواية صحيح النقل، لا أعلم أحدا من الناس طعن عليه في شيء من أمره ودينه. وقال عبد الله بن أحمد: عرضت كتاب الغريب لأبي عبيد على أبي فاستحسنه، وقال جزاه الله خيرا. قال وكتبه أبي. قال الحارث بن أبي أسامة: حمل غريب الحديث لأبي عبيد إلى عبد الله بن طاهر، قال: فلما نظر فيه قال: هذا رجل عاقل دقيق النظر، فكتب إلى إسحاق بن إبراهيم بأن يجري عليه في كل شهر خمسمئة درهم وقال هلال بن العلا الرقّي:

منّ الله على هذه الأمة بأربعتهم في زمانهم بالشافعي يفقه بحديث رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وبأحمد بن حنبل ثبت في المحنة، ولولاه كفر الناس. ويحيى بن معين «1» نفى الكذب عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وبأبي عبيد القاسم بن سلام فسّر الغريب من حديث رسول صلى الله عليه وسلم، ولولا ذلك لا قتحم في الخطأ. وكان أبو عبيد قد جزّأ الليل ثلاثة أجزاء، فثلثا ينام وثلثا يصلّي وثلثا يطالع الكتب، وصنّف كتبا كثيرة في القرآن والفقه وغريب الحديث وغريب المصنّف والأمثال ومعاني الشعر، وغير ذلك نحو بضعة وعشرين كتابا. وقال الفسطاطي: كان أبو عبيد مع عبد الله بن طاهر فوجّه إليه أبو دلف يستهديه أبا عبيد منه شهرين، فأنفذ أبا عبيد إليه فأقام شهرين، فلمّا أراد الانصراف وصله أبو دلف ثلاثين ألف درهم، فلم يقبلها، وقال: أنا في جنّة ما تحوجني إلى صلة غيره، ولا أجد ما فيه على نقص، فلمّا عاد إلى ابن ظاهر وصله بثلاثين ألف دينار بدل ما وصله أبو دلف، فقال له: أيها الأمير قد قبلتها منك، ولكن قد أعييتني بمعروفك وبرّك وكفايتك عنها، وقد رأيت أن أشتري بها سلاحا وخيلا، وأوجّه إلى الثغر؛ ليكون الثواب متوفرا على الأمير ففعل. قال البخاري: مات أبو عبيد سنة أربع وعشرين ومئتين، وقال غيره سنة ثلاث وعشرين بمكة، وقيل سنة ثلاثين في خلافة المعتصم.

- 7 - أبو عبد الله محمد بن زياد

ومنهم: - 7- أبو عبد الله محمد بن زياد «13» المعروف بابن الأعرابي الكوفي اللغوي، مولى آل العباس ابن محمد الهاشمي، حذّ ركابه أغذاذا «1» وقطّع اغترابه كبد الفلاة أفلاذا وعلا اهتماما. ورشا شماما «2» ، وأفاد جلّ الفوائد، وولّد الكلم مع ألف وائد «3» ، وكان سريع الاستحضار، سري الحصار تحضره الأماثل، وتنتابه وتقدمه على المماثل، وتهابه كشقق من أكنار «4» ، ويعطي عطاء الإينار، أشرقت ليلة مولده بنجمه الطالع، وقد أودعت الثرى قمرها، وظن الموت أنه قد قبرها، فما أبعدت إلّا كارتداد الطرف، ووفت بقيمه الدنيا الذي قبضه الصّرف. قال ثعلب: لزمت ابن الأعرابي تسع عشرة سنة، وكان يحضر مجلسه زهاء مئة إنسان، ما رأيت بيده كتابا قطّ. وسمعته يقول: ولدت في الليلة التي مات فيها أبو حنيفة سنة خمسين ومئة «5» ، وذكره أبو منصور الأزهري الهروي «6» في كتابه. فقال، كوفي الأصل، صالح زاهد، ورع صدوق، حفظ من الغريب والنوادر ما لم يحفظه غيره، وسمع من الأعراب

8 - أبو يوسف يعقوب بن السكيت

الذين ينزلون بظاهر الكوفة، بني أسد، وبني عقيل، فاستكنّ. وأخذ عن الكسائي النحوي، وكان أبوه سنديا، أكثر السماع من المفضّل الضبّي، وهو زوج أمه، وله عدّة تصانيف، توفي سنة إحدى وثلاثين ومئتين، ولم يكن في الكوفيين أشبه برواية البصريين منه. يزعم أنّ الأصمعي وأبا عبيد لا يعرفان شيئا. ومنهم: 8- أبو يوسف يعقوب بن السكّيت «13» رجل قصده معروف، ورفده في سبيل الخير مصروف حاط العلم فلم يخرج عن دائرته، ولم يلج جحر غيره لمعايرته، علق بالخليفة، ووضحت إليه سبله، وسفحت سحابه ووبله، فاستوثق بسبب هاشمي لا ينقطع، وشدّ منه بوتد لا ينقلع فمدّ عليه الظل كهفه، وامتدّت إليه بالفضل كفّه، وكان ممن يسرف بالحضور لديه ويوالي السرور بالإقبال عليه، وكان خليقا يقرب إمامه وورث صنيعه واهتمامه، لم يوله الدهر إلا ما استحق، ولا قضى له إلّا بحق. ذكره الحافظ ابن عساكر فقال: حكى عن أبي عمرو وإسحاق بن مراد ومحمد بن مهنى وابن السماك الواعظ، وحكى عنه أحمد بن الفرج المقري «1» ، ومحمد بن عجلان، وأبو عكرمة الضبّي وأبو سعيد السكري، وميمون بن هارون الكاتب، وكان يؤدب أولاد المتوكل. وروي عن ابن السماك أنه قال: من عرف الناس داراهم، ومن جهلهم ماراهم ورأس المداراة ترك المماراة. وروى أيضا عن الأصمعي، وأبي عبيدة والفراء وغيرهم، وهو مؤلف كتاب إصلاح المنطق، وغيره، ولم يكن له نفاذ في علم النحو، وكان يميل إلى مذهب من

يرى تقديم علي بن أبي طالب رضي الله عنه «1» . قال أحمد بن عبيد «2» : وشاورني ابن السكيت في منادمة المتوكل فنهيته فحمل قولي على الحسد. ونادمه، فبينا هو مع المتوكل إذ أقبل ابناه المعتز والمؤيد، فقال المتوكل: يا ابن السكيت، أيّما أحبّ إليك ابناي هذان أم الحسن والحسين؟ فغضب ابن السكيت من ابنيه، وذكر الحسن والحسين بما هما أهله، فأمر الأتراك فداسوا بطنه، فحمل إلى داره فمات. وقيل إنه قال: والله إنّ قنبر خادم عليّ (رضي الله عنه) خير منك ومن ابنيك. فقال: سلّوا لسانه من قفاه، ففعلوا ذلك، فمات، وذلك لخمس خلون من شهر رجب سنة أربع وأربعين ومئتين، وقيل سنة ست وأربعين. وبلغ عمره اثنتين وخمسين سنة. وقال المبرد: ما رأيت للبغداديين كتابا أحسن من كتاب ابن السكيت في المنطق «3» . وقال: أجمع أصحابنا أنه لم يكن بعد ابن الأعرابي أعلم باللغة من ابن السكيت. قال ابن أبي شدّاد: شكوت إلى ابن السكيت ضائقة، فقال: هل قلت شيئا؟ قلت: لا. قال: فأقول أنا، ثم أنشدني: [البسيط] نفسي تروم أمورا لست مدركها ... ما دمت آخذ ما يأتي به القدر ليس ارتحالك في كسب الغنى سفرا ... لكن مقامك في ضرّ هو السفر وقال: كتب رجل إلى صديق له قد عرضت لي قبلك حاجة، فإن نجحت فألفاني فيها حظي والباقي حظك. وإن تعذرت فالخير مظنون بك والعذر مقدم لك والسلام. ولمّا جاءه المعتز ليؤدبه، فقال له: بأي شيء تبدأ؟ أتريد من العلم؟، فقال المعتز بالانصراف. قال له ابن السكّيت، فأقوم، فقال له المعتز: فأنا أخفّ نهوضا منك، فقام، فاستعجل، فعثر بسراويله فسقط، والتفت إلى ابن السكّيت خجلا، وقد احمرّ وجهه،

9 - سهل بن محمد بن عثمان بن يزيد الجشمي السجستاني

فأنشد ابن السكيت: [الطويل] يصاب الفتى من عثرة بلسانه ... وليس يصاب المرء من عثرة الرّجل فعثرته في القول تذهب رأسه ... وعثرته بالرّجل تبرى على مهل فلما كان من الغد دخل ابن السكيت على المتوكل، فأخبره بما جرى، فأمر له بخمسين ألف درهم، وقال له، قد بلغني البيتان. وقال ابن خلكان: وكان لا بن السكّيت شعر، وهو ممّا تثق النفس به، فمن ذلك قوله: [الوافر] إذا اشتملت على اليأس القلوب ... وضاق لما به الصّدر الرّحيب وأوطنت المكاره واستقرّت ... وأرست في أماكنها الخطوب ولم تر لا نكشاف الضرّ وجها ... ولا أغنى بحيلته الأريب أتاك على قنوط منك غوث ... تمنّ به اللطيف المستجيب وكلّ الحادثات إذا تناهت ... فموصول بها فرج قريب «1» ومنهم: 9- سهل بن محمد بن عثمان بن يزيد الجشمي السجستاني «13» اللغوي المقري أبو حاتم، نزيل البصرة وعالمها وسابح لججها الغزار، وعائمها. سبق في الأدب إحسانا، ونطق للعرب لسانا، وكان لا يفلّ غربه «2» ، ولا يستنفذ عضبه «3» ، ولم يكن مثله من جشم ولا مثله مهابا في غير حشم، لم يزل تؤم منه سهلا، ويؤمل منه ما كان

له أهلا، تتوسّمه فلا ترى محيّاه إلا طلقا، ولا ترد ماءه إلّا طرقا «1» . ولم يكن شبهة في حساب، ولا في خلائق بغير اكتئاب. قال ابن خلكان «2» : كان إماما في علوم الآداب، وأخذ عنه علماء عصره، كابن دريد والمبرّد وغيرهما، وكان حسن العلم بالعروض، وإخراج المعمّى، وكان صالحا عفيفا، يتصدّق كل يوم بدينار، ويختم القرآن في كل أسبوع. وكان إذا اجتمع مع المازني في دار عيسى بن جعفر الهاشمي يشاغل حلقته، وكان غلاما وسيما، فقال فيه أبو حاتم: [مجزوء الكامل] ماذا لقيت اليوم من ... متمجّن خنث الكلام حركاته وسكونه ... تجنى بها ثمر الأنام وإذا خلوت بمثله ... وعزمت فيه على اعتزام لم أعد أفعال العفا ... ف وذاك أوكد للغرام نفسي فداؤك يا أبا ال ... عبّاس جلّ بك اعتصامي فارحم أخاك فإنّه ... نزر الكرى بادي السّقام وأنله ما دون الحرا ... م فليس يرغب في الحرام ومن شعره قوله، وأظنه في المبرّد أيضا: [مجزوء الخفيف] أبرزوا وجهه الجمي ... ل ولاموا من افتتن لو أرادوا عفافنا ... ستروا وجهه الحسن وكانت وفاته في المحرم، وقيل في رجب سنة ثمان وأربعين ومئتين بالبصرة.

10 - أبو الفضل العباس الفرج الرياشي النحوي اللغوي البصري

ومنهم: 10- أبو الفضل العباس الفرج الرياشي النحوي اللغوي البصري «13» ذو حّد. ترك السيف مسلولا، وردّ الجيش مفلولا، كان يرجع إلى أكرومة وحسب وأرومة «1» وحبّ بكرم على الوجود مطلولا، والجود مملولا، ولم يزل منذ كان خيط عهاده محلولا، ومنهل ورّاده معلولا. عانى الطلب ففتح عليه، ومنح ما لم يصل فسعى إليه. ولم يبق تخوما «2» قصده، ولا عدوا ما حصده، ولا نجم عليا ما رصده، فما وفى بحق شكره لسان ولا سطع مثله محمر ورد عليه كافور سوسان. قال ابن خلكان: كان راوية ثقة عالما بأيام العرب كثير الاطلاع. وروى عن الأصمعي وأبي عبيدة، وروى عنه الحربي وابن أبي الدنيا. ومما روى عن الأصمعي قال: مرّ بنا أعرابي ينشد ابنا له، فقلنا: صفه لنا، فقال، كأنه دنينير، فقلنا له: لم نره، فلم نلبث أن جاء بصغير أسود كأنه جعل «3» ، قد حمله على عنقه، فقلنا له، لو سألتنا عن هذا لأرشدناك، فإنه ما زال اليوم بين أيدينا، ثم أنشد الأصمعي: [المنسرح] نعم ضجيع الفتى إذا برد اللي ... ل سحيرا وقرقف الصّرد زيّنها الله في الفؤاد كما ... زيّن في عين والد ولد قتل بالبصرة بأيدي الزنج في شوال سنة سبع وخمسين ومئتين وسئل في عقب ذي الحجة سنة أربع وخمسين ومئتين، كم تعد سنة قال: أظن سبعا وسبعين «4» .

11 - أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري

ومنهم: 11- أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدّينوري «13» وقيل المروزي النحوي اللغوي، بلغ من الغاية مبلغها، وملك من مطالع الشموس مبزغها، رغب في العلم فحصر الخلطا وحنى البطا «1» ، وقرب الأمد، وقصّر المدد، وكان يرجع إلى ورع، يكفّ الخطرات وينم عرفه عن برودة العطرات، فسقت عهده السماء بريعها، وحفظت دهمه في مراعيها وأخذ عنه الثقات، والتقت عليه الطرقات، ثم كان في الفضائل بدر أفقها وبحر تدفّقها، وسحاب علمها الممتدّ الطراف، ومعلم علمها المذهّب الأطراف. قال ابن خلكان: كان فاضلا ثقة ديّنا، سكن بغداد، وحدّث بها عن ابن راهويه، وأبي إسحاق الزيادي، وأبي حاتم السجستاني، وروى عنه أحمد وابن درستويه، وتصانيفه كلّها مفيدة وله: المعارف، وأدب الكاتب «2» ، والإقواء «3» وغير ذلك. ولد سنة ثلاث عشرة ومئتين، وتوفي فجأة في ذي القعدة سنة ست وسبعين على أصح الأقوال. وذكر محمد بن اسحاق النديم أن ابن قتيبة كوفي، ولي قضاء الدينور. وقال غيره إنه أكل هريسة حارّة فصاح منها ثم هذى، فمازال يتشهد إلى السحر ومات.

12 - أبو بكر بن دريد

ومنهم: 12- أبو بكر بن دريد «13» وهو محمد بن الحسن بن دريد بن عتاهية بن حنتم الأزدي اللغوي البصري. رجل كلامه يداوي المغيظ، وكرمه يفرج اللظيظ «1» ، وعلمه يعلّم الجهول، ويفهّم الذهول، ويعرّف بلسان العرب من جهله، ويرد بإحسان الطلب منهله، بفطن أذابت ما جمد من الألباب، وأذكت ما خمد من الالتهاب، ففتّقت كمام الأفهام، ودفقت جمام الإبهام، فأبدت دقائق العلم وبينت فيه شرفه المخول المعم، فمدّت إليه وهو أخفى من مدارج النمال، وأسرع تغيرا من مناهج الرمال، فأضرب كل ضريب عن مداناته، ولم يحمل فهمه السقيم قدر مداواته. قال المسعودي: كان ابن دريد ببغداد ممن برع في زماننا هذا في الشعر وانتهى في اللغة، فقام مقام الخليل بن أحمد فيها، وكان يذهب إلى الشعر كل مذهب، فطورا يجزل وطورا يرق، وشعره أكثر من أن نحصيه أو نأتي على أكثره، ومن جيّد شعره مقصورته الفائقة. قال: وقد عارضه فيها جماعة من الشعراء، منهم أبو القاسم بن أبي الفهم الأنطاكي. ومن ملح شعره: [الكامل] غرّاء لو جلت الخدور شعاعها ... للشمس عند طلوعها لم تشرق غصن على دعص تأوّه فوقه ... قمر تألّق تحت ليل مطبق لو قيل للحسن احتكم من بعدها ... أو قيل خاطب غيرها لم ينطق وكأننا من فرقها في مغرب ... وكأننا من وجهها في مشرق تبدو فيهتف في العيون ضياؤها ... الويل حلّ بمقلة لم تطبق «2»

ولد بالبصرة في سكة صالح سنة ثلاث وعشرين ومئتين، ونشأ بها وأخذ عن السجستاني والرياشي وغيرهما، ثم انتقل إلى عمان وأقام بها اثنتي عشرة سنة، ثم عاد إلى البصرة، وسكنها زمانا، ثم خرج إلى نواحي فارس بصحبة ابني ميكال، وعمل لهما كتاب الجمهرة، وقلّداه ديوان فارس، وكانت الكتب تصدر عن رأيه، ولا ينفذ إلا بعد توفيقه، فأفاد أموالا عظيمة، وكان لا يمسك درهما سخاء وكرما، ثم أتى بغداد سنة ثمان وثلثمئة بعد انتقال بني ميكال إلى خراسان. وأجرى عليه المقتدر خمسين دينارا في كل شهر، ولم تزل عليه إلى حين وفاته. وكان واسع الرواية لم ير أحفظ منه، تقرأ عليه دواوين العرب، ويسابق إلى إتمامها حفظه. وسئل الدارقطني أثقة هو أم لا، فقال: تكلموا فيه. وقال الأزهري: دخلت عليه فرأيته سكران، فلم أعد إليه. وقال ابن شاهين: كنا ندخل فنستحي مما نرى من العيدان المعلقة والشراب المصفّى. وذكر أن سائلا سأله أشياء فلم يكن عنده غير دنّ من نبيذ فوهبه له، فأنكر عليه بعض غلمانه، وقال: تتصدّق بالنبيذ، فقال: لم يكن عندي شيء سواه، ثم أهدي له بعد ذلك عشرة دنان من النبيذ فقال لغلامه: أخرجنا دنا فجاءنا عشرة. وعرض له رأس السبعين من عمره فالج ثم سقي الترياق فبري وصحّ، ورجع الى أحسن أحواله، ثم عاوده الفالج بعد سنة لغذاء كان يتناوله فظل ثم كان يقول: [الطويل] فواحزني أن لا حياة لذيذة ... ولا عمل يرضى به الله صالح وتوفي يوم الأربعاء لاثنتي عشرة ليلة بقين من شعبان سنة إحدى وعشرين وثلثمئة، ودفن بالمقبرة المعروفة بالعباسية، وهو اليوم الذي مات فيه الجبائي المتكلم. فقال الناس اليوم مات علم اللغة والكلام.

13 - إسماعيل بن القاسم بن عيذون بن هارون بن عيسى بن محمد بن سليمان القالي

ومنهم: 13- إسماعيل بن القاسم بن عيذون بن هارون بن عيسى بن محمد بن سليمان القالي «13» اللغوي مؤلف غرائب سهل مساغها وحجل أرساغها، فردّ منها ما ندّ، وأقبل ما صدّ. ربى في ظلّ دوحة فرعاء، وأهل أمانة واستدعاء، فحلّق قشعما، وقشع من عمى، فكفى النوازغ، وكفل الأهلة البوازغ، ودجت الشبهة فكشط جلدتها، وحفظ المعاني وجدّتها، فسالت العلوم بالمذانب، وسارت بالمقالب، وجلس جلوس الشيوخ في ثبات «1» المراتب، وجرى جريا قصرت دونه خطا الأرانب، وطار من مشرق الشمس إلى مغربها، وأتى ملوك تلك البلاد بأدبها، وكان بأماليه للجحور مالئا وللثغور كالئا «2» ، إلا أنه هجر أوطانه ساليا، وترك بلاده، فلا عجب إن قيل قاليا. هذا إلى سعة معارف، وسمعة عوارف. جازبها البلاد برّا وبحرا وأفنى من بطون الجواري وظهور الخيل بطنا وظهرا. [قال] ابن خلكان: كان أحفظ أهل زمانه في اللغة والشعر ونحو البصريين، أخذ الأدب عن ابن دريد وابن الانباري ونفطويه وغيرهم، وطاف البلاد. سافر إلى بغداد ثم خرج إلى الأندلس، ودخل قرطبة واستوطنها، ومولده في جمادى الآخرة سنة ثمان وثمانين ومئتين، وتوفي في ربيع الآخر وقيل في جمادى الأولى سنة ست وخمسين وثلثمئة ليلة السبت لست خلون منه «3» .

14 - أبو منصور محمد بن أحمد بن الأزهر

ومنهم: 14- أبو منصور محمد بن أحمد بن الأزهر «13» الأزهري الهروي اللغوي الإمام المشهور في اللغة. حاز صنوف الفضائل وجمعها، وشذّب أنوف القبائل وجدعها، علا محلّا وفضل كل مجلّى ... ، وترقى غاية تتشكى دونها الرياح الكلال، ويتوقى الليل منجنون «1» الهلال، فجمع مالم يجمع، وسمع ما لم يسمع، فقصّر فيه الإطناب، ومدّ على السماء الأطناب، وملأ عجبا بما نشر، وبلغ طلبا ما كان ليظنّ لبشر، فتقدم ذكرا، وكفل أيامى الكلم وكأنما كفل كلّا منهن بكرا. قال ابن خلكان: كان فقيها شافعي المذهب، غلبت عليه اللغة فاشتهر بها متفق على فضله وثقته ودرايته وورعه. روى عن المنذري اللغوي وعن ثعلب وغيره، ودخل بغداد وأدرك بها ابن دريد، ولم يرو عنه، وأخذ عن نفطويه، وابن السراج، وقيل إنه لم يأخذ عنه. وطاف في أرض العرب في طلب اللغة، وروى بخطه قال: امتحنت بالأسر سنة عارضت القرامطة الحاج بالهبير، كان القوم الذين وقعت سهمهم عربا نشأوا في البادية، يتبعون مساقط الغيث أيام النجع «2» ، ويرجعون إلى إعداد المياه في محاضرهم زمان القيظ، ويرعون النعم، ويعيشون بألبانها، ويتكلمون بطباعهم البدوية، ولا يكاد يوجد في منطقهم لحن أو خطأ فاحش، فبقيت في أسرهم دهرا طويلا. وكنّا نشتي بالدهناء ونربع بالصّمّان ونقيظ بالسّتارين «3» . واستفدت من محاورتهم ومخاطبة بعضهم

15 - أبو عمر محمد بن عبد الواحد بن أبي هاشم البغدادي

بعضا ألفاظا جمّة، ونوادر كثيرة، أوقعت أكثرها في كتابي، يعني التهذيب «1» . وذكر في تضاعيف كتابه أنه أقام بالصمّان شتوتين. وكان أبو منصور المذكور جامعا لشتات اللغات مطلعا على أسرارها ودقائقها. وصنّف في اللغة كتاب التهذيب، وهو أكثر من عشرة مجلّدات، وله تصنيف في غريب الألفاظ التي يستعملها الفقهاء في مجلّد واحد. وهو عمدة الفقهاء في تفسير ما يشكل عليهم من اللغة المنغلقة بالفقه وكتاب التفسير، وكتب ولادته سنة اثنتين وثمانين ومئتين، وتوفي سنة سبعين وثلثمئة في أواخرها، وقيل سنة إحدى «2» بمدينة هراة رحمه الله تعالى. ومنهم: 15- أبو عمر محمد بن عبد الواحد بن أبي هاشم البغدادي «13» المعروف بالمطرّز غلام ثعلب. بحر لا يقاس، وجواد لا يخوّف بلزز «3» ، ملك ألسنة العرب بأطرافها، وقاد وشزب «4» اللغات بأعرافها، ولم ينس ما حفظ، ولا غاب عنه ما لحظ، فكان لا يذهب محفوظ من ذاكرته ولا يرهب عند محاضرته. وقد جدّ به أهل النقد فلم يروا له زيفا، وجهدوا ولم يروعوا له طيفا، فخجل مبكوه، ووجل قوم ظنّوا أن يسكتوه، وعلم أنّه الحافظ الذي قلّ أن ينسى، والمحافظ الذي به يتأسى، فلم يبق إلّا من علم أنه المبرّز؛ وأنّ علم ردائه لا يرقم مثله إلّا المطرّز.

قال الخطيب: سمعت غير واحد يحكي عن أبي عمران: الأشراف والكتّاب كانوا يحضرون عنده؛ ليسمعوا منه كتب ثعلب وغيرها، وكان له جزء قد جمع فيه فضائل معاوية، فكان لا يترك واحدا منهم يقرأ عليه شيئا حتى يبتدئ بقراءة ذلك، وكان جماعة لا يوثّقون أبا عمر في علم اللغة حتى قال لي عبيد الله بن أبي الفتح فقال: إن أبا عمر لو طار طائر لقال حدّثنا ثعلب عن ابن الأعرابي، ويذكر في معنى ذلك شيئا. فأما الحديث فرأيت جميع شيوخنا يوثّقونه فيه. وحدثنا ابن أبي علي عن أبيه قال: ومن الرواة الذين لم نر أحفظ منهم أبو عمر غلام ثعلب، أملى من حفظه ثلاثين ألف ورقة لغة فيما بلغني، وجميع كتبه إنما أملاها بغير تصنيف ولسعة حفظه اتّهم، وكان يسأل عن الشيء الذي يقدّر السائل أن واضعه مجيب عنه، ثم يسأل غيره بعد سنة فيجيب بجوابه؛ أخبرت أنه سئل عن قنطرة صحفت، فقيل له: ما القنطرة؟، فقال: هي كذا. قال: فتضاحكنا. ولمّا كان بعد شهور هيّأنا من سأله عنها، فقال: أليس قد سئلت عن هذه منذ شهور وأجبت. قال الخطيب: حكى لي رئيس الرؤساء أبو القاسم علي بن الحسن «1» عمّن حدّثه أن أبا عمر الزاهد كان يؤدب ولد القاضي أبي عمر محمد بن يوسف، فأملى يوما على الغلام ثلاثين مسألة لغة، وختمها ببيتين. وحضر ابن دريد وابن الأنباري، وأبو بكر بن مقسم عند القاضي، فعرض عليهم المسائل، فقال ابن الأنباري: أنا مشغول بتصنيف مشكل القرآن، وقال ابن مقسم: أنا مشغول بالقراءات، وقال ابن دريد هي من وضع أبي عمر: فبلغ أبا عمر ذلك، فسأل القاضي إحضار دواوين جماعة عيّنهم له، ففتح خزانته، وأخرج تلك الدواوين. فلم يزل أبو عمر يعمد إلى كل مسألة، ويخرج له شاهدا ويعرضه على القاضي حتى تمّمها. «2» ثم قال: والبيتان أنشدناهما ثعلب بحضرة القاضي، وكتبها القاضي على ظهر الكتاب

الفلاني، فأحضر القاضي الكتاب فوجدهما، وانتهى الخبر إلى ابن دريد، فما ذكر أبا عمر بلفظة حتى مات. ثم قال رئيس الرؤساء: وقد رأيت أشياء كثيرة ممّا استنكر على أبي عمر ونسب إلى الكذب فيها مدوّنة في كتب أئمة العلم وخاصة في غريب «1» المصنف لأبي عبيد، أو كما قال. قال عبد الواحد بن برهان: لم يتكلم في علم اللغة أحد من الأولين والآخرين أحسن من كلام أبي عمر الزاهد، وله غريب الحديث ألّفه على مسند أحمد. وقال أبو الحسن بن المرزبان: كان ابن ماسي ينفذ إلى أبي عمر غلام ثعلب وقتا بعد وقت كفايته ما ينفق على نفسه، فقطع مدة لعذر، ثم أنفذ إليه جملة ما كان في رسمه وكتب إليه يعتذر فردّه، وأمر من كتب على ظهر رقعته، ألزمتنا فملكتنا ثم أعرضت عنّا فأرحتنا. قال الخطيب: وابن ماسي لا أشكّ أنه إبراهيم بن أيوب والد أبي محمد.، وأخبرني عباس بن عمر. قال: سمعت أبا عمر الزاهد يقول: ترك قضاء حقوق الإخوان مذلة، وفي قضاء حقوقهم رفعة. توفي أبو عمر سنة خمس وأربعين وثلثمئة. واعتلّ أبو علي محمد بن الحسن الحاتمي، فتأخر عن مجلس أبي عمر، فسأل عنه فقيل إنه كان عليلا، فجاءه من الغد، فاتفق أن كان في الحمام، فكتب بخطّه على بابه. [المتقارب] وأعجب شيء سمعنا به ... عليل يعاد فلا يوجد

16 - أبو علي الحسين بن محمد بن خالويه

ومنهم: 16- أبو علي الحسين بن محمد بن خالويه «13» النحوي اللغوي. أتته الغرائب فداوى دويّها ودارى سويّها، فأكفى موادّها وألفت صوادها، وقرّبها للمتناول وقرّبها في يد المتطاول، فقصّر طيلها «1» ، وغلب حيلها، ويسّرها للطالب فدنت لمرامه، وذكت في ضرامه، وحسرت له عن لثامها، وحذرت إلّا من لمامها، ثم لم يبرح في كسر بيته، ومعادا له أكثر قوته، حتى عوجل بموته، ومدّ حجاب الصريح دون صوته، إلا أنه لم يخل مثله في سالف العصور، ولا نهض مثل نهضه الليث الهصور. قال ابن خلّكان: أصله من همذان، دخل بغداد، وأدرك جلّة العلماء، وبها أبو بكر الأنباري، وابن مجاهد المقرئ «2» ، وأبو عمر الزاهد، وابن دريد وأخذ عنهم، وقرأ على السيرافي، وانتقل إلى الشام واستوطن حلب، وصاربها أحد أفراد الدهر في كل قسم من أقسام الأدب، وكانت إليه الرحلة من الآفاق، وآل حمدان يكرمونه. وقال: دخلت يوما على سيف الدولة بن حمدان، فلّما مثلت بين يديه، قال لي: اقعد ولم يقل اجلس، فتبينت اعتلاقه بأهداب الأدب أن يقال للقائم اقعد، وللنائم أو الساجد اجلس. ولا بن خالويه مع المتنبي مجالس ومباحث عند سيف الدولة، وله شعر. وأنشد الثعالبي في كتاب اليتيمة قوله: [الطويل] إذا لم يكن صدر المجالس سيد ... فلا خير فيمن صدرّته المجالس وكم قائل مالي رأيتك راجلا ... فقلت له: من أجل أنّك فارس

17 - أبو محمد يوسف بن أبي سعيد بن الحسين بن عبد الله بن المرزبان السيرافي

وتوفي بحلب سنة سبعين وثلثمئة للهجرة «1» . ومنهم: 17- أبو محمد يوسف بن أبي سعيد بن الحسين بن عبد الله بن المرزبان السيرافي «13» النحوي اللغوي الأخباري الفاضل ابن الفاضل أبو المناضل ابن الناضل «2» ؛ بزّ السلف الخالي، وبرز في الخلف التالي. لم يعقه السؤدد عن تأدية المفترض، ولا أوقف سهمه ذو الغرض، شرّف قدره العلم وأحلّه، وعلّمه حتى قهر حاسده، وأذلّه وحيّره على علم وأضلّه. وكان يهب الدهر ذنوبه ويستر على التقصير عيوبه، ويباري البحر العذب ويستل الغطا، فلا يكشفه الجدب لفضائل لم تملك غيره فهاما ملك، ولا سلك منها فوق سبيل الجرّة ما سلك. قال ابن خلكان: كان عالما بالنحو، وتصدّر في مجلس أبيه بعد موته، وخلفه على ما كان عليه، وكان يفيد الطلبة في حياة أبيه، وأكمل كتابه المسمى بالإقناع، وهو كتاب جليل، ثم صنّف كتبا عدة جلائل، وكانت كتب اللغة تقرأ عليه مرة رواية ومرة دراية، ولد سنة ثلاثين وثلثمئة، وتوفي ليلة الأربعاء لثلاث بقين من ربيع الأول سنة خمس وثمانين وثلثمئة للهجرة، وعمره خمس وخمسون سنة وشهور، ودفن من الغد «3» .

18 - أحمد بن فارس بن زكريا بن محمد بن حبيب الرازي اللغوي، أبو الحسين، نزيل همذان

ومنهم: 18- أحمد بن فارس بن زكريا بن محمد بن حبيب الرازي اللغوي، أبو الحسين، نزيل همذان «13» لا يدركه سعي مجد ولا يفركه سعد مستجد، اغتنى به مجده، واعتلى برتبه جدّه حتى تدفقت المجرّة نهرا في حديقته، ودلّت تباشير الصبح على حقيقته، وقامت وراءه الثريا تقتفي آثار خطاه والجوزاء تحدب ممتطاه، حتى لم ير الشمس دون قلله إلا زائلة. قال ابن خلكان «1» : إمام في علوم شتى، وخصوصا في اللغة، فإنه أتقنها وألف كتابه (المجمل في اللغة) ، وهو على اختصاره، جمع شيئا كثيرا، وكان مقيما بهمذان، وعليه اشتغل بديع الزمان، وأنشد له قوله: [السريع] مرّت بنا هيفاء مجدولة ... تركية تنمي لتركيّ ترنو بطرف فاتر فاتن ... أضعف من حجّة نحويّ [وقوله] «2» : [مجزوء الكامل] اسمع نصيحة ناصح ... جمع النّصيحة والمقه «3» إياك واحذر إن بلي ... ت من الثّقات على ثقه وقوله: [المتقارب] إذا كنت في حاجة مرسلا ... وأنت بها كلف مغرم فأرسل حكيما ولا توصه ... وذاك الحكيم هو الدرهم

19 - أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهري

وتوفي بالريّ سنة خمس وسبعين وثلاثمئة، وقيل سنة سبعين، وقال ياقوت سنة تسع وتسعين. ومنهم: 19- أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهري «13» أنس بالقفار واجتنى كلّ خلوة، قرّب لغة العرب وآنس منها ما اغترب، وكفى شرّ ألّا يجاحّ «1» ، وجاء بما لا ينكر للجوهري من الصحاح. هو الذي فاق سعادة جدّه، وأمات ذكره كل كتاب في جلده. لم يسبق إلى وضعه، وما أتى فيه من صنعه لما أتى به فيه من حسن الترتيب وقرب المأخذ في التبويب، فجمع في الأمور ملاكها، ومن لغة الجمهور أسلاكها، وهو اليوم مرادّ الأمل ومراد العمل، وشهرته وافية بذكره، كافية في شكره. يعتّق منه الألوة «2» ، ويشرق المحاسن المجلوة، ولا تتميز قيم الفرائد ما لم تكن منسوبة إلى صحاحه، ومحسوبة فيما وسم بصلاحه فلو دعا الأصمعي لعذر مثله في السرد، أو انتظمت أقوال النظّام لأنبت به الجوهر الفرد. وهو من أعاجيب الدنيا ذكاء وفطنة وعلما. وأصله من الفاراب من بلاد الترك. وكان يضرب به المثل في اللغة وفي حسن الكتابة، ويذكر خطّه مع خط ابن مقلة ومهلهل واليزيدي. وكان يؤثر الغربة على الوطن، ودخل بلاد ربيعة ومضر في طلب الأدب، وحين قضى وطره من قطع الآفاق، والأخذ من علماء الشام والعراق عاود خراسان، فأنزله أبو علي الحسن بن علي الكاتب عنده، وبالغ في إكرامه ثم سكن نيسابور يدرّس ويؤلف ويعلّم

الكتابة ويكتب الختم. ومن العجب أن أهل مصر يروون صحاحه عن ابن القطّاع، ولا يرويه أحد بخراسان، وقد قيل: إن ابن القطّاع رتب له طريقا لمّا رأى رغبة المصريين فيه فرواه لهم في كتابه أشياء لا شك أنها نقلت من صحف فصحفت على الجوهري فانتدب لها علماء مصر وأصلحوا أوهامها. وقيل إنّه اختلط في آخر عمره ومات مترديا من سطح داره بنيسابور في شهور ثلاث وتسعين وثلاثمئة وقيل في حدود الأربعمائة. قال ياقوت الحموي: جاريت أبا الحسن علي بن يوسف القفطي أمر الجوهري. وما وقع له من حسن التصنيف، ثم قلت: ومن العجب أني بحثت عن مولده ووفاته بحثا شافيا، وسألت عنها الواردين من نيسابور فلم أجد مخبرا عن ذلك. فقال لي: لقد بحثت قبلك عن ذلك فلم أر مخبرا عنه. فلمّا كان من غد ذلك اليوم جئته فقال لي: ألا أخبرك بطريقة أني رأيت في بارحتنا في النوم قائلا يقول لي: مات إسماعيل بن حماد الجوهري سنة ست وثمانين وثلاثمئة. ولعمري، وإن كان المنام ما لا يقطع به، ولا عمل عليه فهذا بلا شك زمانه وفيه كان أوانه. وكان يجيد الشعر. فمنه قوله: [السريع] لو كان لي بدّ من النّاس ... قطعت حبل الناس بالياس العزّ في العزلة لكنّه ... لا بدّ للنّاس من النّاس وقوله: [الوافر] فها أنا يونس في بطن حوت ... بنيسابور في ظلم الغمام فقلبي والفؤاد ويوم دجن ... ظلام في ظلام في ظلام قوله: [السريع] يا صاحب الدّعوة لا تجزعن ... فكلّنا أزهد من كرز

والماء كالعنبر في قومس «1» ... من عزّه يجعل في الحرز فأسقنا ماء بلا منّة ... وأنت في حلّ من الخبز وقوله «13» : [المتقارب] رأيت فتى أزرقا أشقرا ... قليل الدّماغ كثير الفضول يفضّل من حمقه دانيا ... يزيد بن هند على ابن البتول وقوله: [مخلع البسيط] يا ضائع العمر بالأماني ... أما ترى رونق الزّمان فقم بنا يا أخا الملاهي ... نخرج إلى نهر بستغان لعلّنا نجتني سرورا ... حيث جنى الجنّتين كأننا والقصور فيها ... بحافتي كوثر الجنان والطير فوق الغصون تجلي ... بحسن أصواتها الأغاني وراسل الورق عندليب ... كالزّبر والتمّ والثّاني وبركة حولها أباحت ... عشر من الدّلب وابنتان «2» فرصتك اليوم فاغتنمها ... فكلّ وقت سواه فاني قال ابن خلكان: كان أحد الأعلام المشاهير المطبقين المكثرين. أخذ الأدب عن أبي عمر الزاهد، وروى عنه جماعة من النبلاء بينهم أبو القاسم التنوخي، وهو صاحب الواقعة مع أبي الطيب المتنبي، وله الرسالة التي ذكّرها موافقة المتنبي قدماء الحكماء في كثير من حيل المعاني. ولمّا قدم المتنبّي بغداد، وترفع عن مدح الوزير المهلبي ذهابا بنفسه عن مدح غير الملوك شقّ ذلك على المهلبي، وأغرى به شعراء بغداد «3» ، وفيهم ابن الحجاج وابن شكر

20 - أبو علي الحاتمي

الهاشمي والحاتمي وأسمعوه ما يكره وتماجنوا وتنادروا عليه، فلم يجبهم ولم يفكر فيهم، فقيل له في ذلك: أني قد عزفت من إجابتهم بقولي لمن هو أرفع طبقة في الشعراء منهم. [الوافر] أرى المتشاعرين غروا بذمّي ... ومن ذا يحمد الداء العضالا ومن يك ذا فم مرّ مريض ... يجد مرّا به الماء الزّلالا «1» ومنهم: 20- أبو علي الحاتمي «13» واسمه محمد بن الحسن بن المظفر، الكاتب اللغوي البغدادي، عقد شوارد اللغة وقد نفرت إبلها، وأقفرت سبلها، وراضت فدلّت صنعته أيّ إدلال، واهتدت بعد أي إضلال، وأضحت لا تفارق أوطانها، ولا تألف إلّا أعطانها «2» ، فاستفاد القصي واستعاد العصيّ، وجرت على ألسنه الكلم الفصاح وانتظمت في سلكه الجواهر الصحاح، وقد كان قصد أبا الطيب المتنبي في أبهة ورواء وهيبة، لا تخفى على ذوي الآراء، فما رفع إليه رأسا ولا صنع به إيناسا، فواجهه بما فيه. إعضاض القدر وإغضاض الصدر؛ هذا وأبو الطيب قد ترفع عن رتبة السّوقة وقعد في غلمان روقة، ثم قطع بينهما الخصام، ومرمر برهما وأشرف على الانفصام إلّا أن الصلح كان أقرب للتقوى وأغلب عندهما على ما يقوى إلى أهل العلم فهجاه ابن الحجاج وغيره بأهاج مرّة، وتوفي سنة ثمان وثمانين وثلاثمئة. ومن شعره قوله في قصر الليل: [البسيط]

21 - جنادة بن محمد اللغوي الأزدي الهروي

يا ربّ ليل سرور خلته قصرا ... كعارض البرق في أفق الدّجى برقا قد كان يعثر أولاه بآخره ... وكان يسبق منه فجره الشفقا كأنّما طرفاه طرن إذ نفر ال ... حصان منه على الأطراف وافترقا وقوله في وصف الثريا: [الطويل] وليل أقمنا فيه نعمل كأسنا ... إلى أن بدا للصّبح في اللّيل عسكر ونجم الثّريّا في السّماء كأنّه ... على حلّة زرقا حبيب مدثّر ومنهم: 21- جنادة بن محمد اللغوي الأزدي الهروي «13» أبو أسامة، إمام كلم سبّاق جناتها، وواصل وثباتها فأوثق سببها وحقق نسبها، فجوهر تلك الألفاظ وعنبر أنفاسها ما يفوق مسك الألحاظ، فأترعت جلابها «1» الدوافق، وجابت أجلابها إلى سوقه النافق، فقيّد تلك النوافر، وقلّد ذهب الشفق صبحها السوافر. وأوسعت له المواهب فضل عطاياها، وأسرعت إليه قصد مطاياها، حتى أصبح يفدى بالنجايا «2» ، ويتقرّى له سواد الليل عن كل السؤدد لا بقايا. قال ابن خلكان: كان مكثرا من حفظ اللغة ونقلها، عارفا بحوشيّها ومستعملها لم يكن في زمانه مثله في فنّه. وكانت بينه وبين الحافظ عبد الغني بن سعيد المصري وأبي الحسن علي بن سليمان المقرئ النحوي الأنطاكي مؤانسة واتحاد كثير، وكانوا يجتمعون في دار العلم، وتجري بينهم مذاكرات ومفاوضات في الآداب. ولم يزل ذلك دأبهم حتى قتل الحاكم

22 - أحمد بن محمد بن أبي عبيد العبدي الهروي الفاشاني

صاحب مصر أبا أسامة هذا وأبا الحسن الأنطاكي في يوم واحد من ذي القعدة سنة تسع وتسعين وثلاثمئة، واستتر الحافظ عبد الغني خوفا منه «1» . ومنهم: 22- أحمد بن محمد بن أبي عبيد العبدي الهروي الفاشاني «13» «2» المؤدب، أبو عبيد صاحب كتاب الغريبين.. مقدم لا يلحق في عمل، ولا يلحى في أمل، ولا يلحظ مثله إلّا القمر في السماء مع أنه ما كمل. وفي تصنيفه ما يدل على حسن تصريفه. قال ابن خلكان: وكتب على ظهر كتابه في الغريبين، إنه أحمد بن محمد بن عبد الرحمن والله أعلم. وقال: كان من العلماء الأكابر، وكان يصحب أبا منصور الأزهري اللغوي، وعليه اشتغل، وبه انتفع، وكتابه المذكور. وجمع فيه من غريب القرآن الكريم والحديث النبوي، وسار في الآفاق، وهو من الكتب الشافعية. وقيل إنه كان يحب البذلة «3» ويتناول في الخلوة «3» . ويعاشر أهل الأدب في مجالس اللهو والطرب. وكانت وفاته في رجب سنة إحدى وأربعمائة.

23 - أبو القاسمي عبد الله، وقيل عبد الكافي بن محمد بن ناقيا

ومنهم: 23- أبو القاسمي عبد الله، وقيل عبد الكافي بن محمد بن ناقيا «13» اللغوي الشاعر «14» . رجل مشهور، وعالم يومه بشهور. لم يكن وقته مضيّعا، ولا يومه بغير الطلب مشبعا حتى ملأ صدر زمانه، وأعلى قدر جمانه «1» . ولم يمض طفل «2» يوم من الأيام ولا تجلت سحابة ليله مطبقة الظلام إلّا عن علم ازداد وعمل ضاعف فيه إمداد. ولم يقف عند طلب ولا قصّر حتى ولا في الطرب، وكان إماما لا يعنيه تقدم صفّ، ولا انقباض في ظرف، حتى مضى على هذا عمره، وذهب وما أبدى عذره. قال ابن خلكان: كان فاضلا بارعا، له مصنفات كثيرة حسنة مفيدة. ومن شعره ما كتب به إلى بعض الرؤساء وقد اقتصد «3» : [الخفيف] جعل الله ذا المواهب عقب ... اك من الفضل «4» صحة وسلامه قل ليمناك كيف شئت استهلّي ... لا عدمت النّدى فأنت غمامه ولد منتصف ذي القعدة سنة عشر وأربعمائة، وتوفي ليلة الأحد رابع المحرم سنة خمس وثمانين وأربعمائة، ودفن بباب الشام.

24 - أبو زكرياء يحيى بن علي بن محمد بن الحسن بن بسطام الشيباني الخطيب

ومنهم: 24- أبو زكرياء يحيى بن علي بن محمد بن الحسن بن بسطام الشيباني الخطيب «13» فرد لا تسلك له مناهج ولا تملك مباهج، أظل على الجوزاء من فوقها، وأمسك جيد العذراء بطوقها، أناف رتبة على العلماء وزينة للسماء، وفخرت به شبيبة شيبان وشيبها، وبعيد أنسابها وقريبها. هذا على هنات قلّت وعثرات ما أقلّت، وأخذ في الارتحال، والتنقل من حال إلى حال، حتى أسفرت له حنادس الظلماء، وسما سموّ حباب الماء. قال ابن خلّكان: أحد أئمة اللغة. له معرفة تامة بالأدب والنحو واللغة قرأ على المعري وأبي القاسم الرقي وأبي محمد الدهان وغيرهم، وسمع الحديث وروى عنه أبو بكر خطيب بغداد وغيره، وتخرّج عليه خلق كثير. وأثنى عليه السمعاني وعدّد فضائله، ثم قال: ما كان بمرضي الطريقة وذكر عنه أشياء، ثم قال: لكنه كان ثقة في اللغة، وما كان ينقله. وله المصنفات المشهورة المفيدة. وكان قد دخل مصر في عنفوان شبابه، وقرأ على ابن بابشاذ ثم عاد إلى بغداد، واستوطنها حتى مات. وله شعر، منه قوله: [الوافر] فمن يسأم من الأسفار يوما ... فإني قد سئمت من المقام أقمنا بالعراق على رجال ... لئام ينتمون إلى لئام «1» وروى عن أبي الحسن محمد بن المظفر بن تحرير البغدادي قوله: [الطويل] خليليّ ما أحلى صبوحي بدجلة ... وأطيب منه بالصّراة غبوقي

25 - أحمد بن محمد بن أحمد بن إبراهيم الميداني النيسابوري

شربت على المائين من ماء كرمة ... وكانا كدرّ ذائب وعقيق على قمري أفق وأرض تقابلا ... فمن شائق خلو الهوى ومشوق فمازلت أسقيه وأشرب ريقه ... وما زال يسقيني ويشرب ريقي وقلت لبدر التمّ تعرف ذا الفتى ... فقال نعم هذا أخي وشقيقي وروي عنه أيضا قوله: [المديد] يا نساء الحيّ من مضر ... إنّ سلمى ضرّة القمر وبياض الثّغر أسكنها ... في سواد القلب والبصر ولد الخطيب التبريزي سنة إحدى وعشرين وأربعمائة وتوفي فجأة يوم الثلاثاء لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة سنة اثنتين وخمسمئة ببغداد. ومنهم: 25- أحمد بن محمد بن أحمد بن إبراهيم الميداني النيسابوري «13» أبو الفضل، سابق لا يلحق في ميدان، ولا يدانيه عبد المدان، تهدّلت أفنانه فنونا، وسلبت حسانه فتونا، وضربت به الأمثال أمثال ما جمع وأضعاف ما ليس لأحد معه طمع، وله من كل فن أحسنه وأحسبه إذن عرف حسنه، وتضاعيفه تمتع العين وتوسع الطروس بمثل الذهب العين «1» . قال ابن خلكان: كان أديبا فاضلا عارفا باللغة، اختص بصحبة الواحدي صاحب التفسير، ثم قرأ على غيره، وأتقن من العربية، خصوصا اللغة وأمثال العرب. وله كتاب الأمثال، ولم يعمل مثله في بابه، قال: وكان ينشد بيتين وأظنهما له: [الطويل]

تنفّس صبح الشّيب في ليل عارضي ... فقلت عساه يكتفي بعذاري فلمّا فشا عاتبته فأجابني ... ألا هل ترى صبحا بغير نهار «1» وله أيضا: [السريع] يا كاذبا أصبح في كذبه ... [أعجوبة] «2» أية أعجوبه وناطقا ينطق في لفظة ... واحدة سبعين أكذوبه شبّهك الناس بعرقوبهم «3» ... لما رأوا أخذك أسلوبه فقلت كلّا إنّه كاذب ... عرقوب لا يبلغ عرقوبه ولما صنّف كتاب الأمثال وقف عليه الزمخشري فحسده وأخذ القلم وزاد في لفظة الميداني سنّة «4» فصار النميداني، ومعناه بالفارسية الذي لا يعرف شيئا. فلما وقف الميداني على ذلك أخذ بعض تصانيف الزمخشري وزاد في نسبته سنة وعمل الميم نونا ومعناه بالفارسية تابع زوجته. وكان جماعة من كبار أصحابه يقولون: لو كان لنا للذكاء والشهامة والفضل صورة لكان الميداني تلك الصورة. توفي يوم الأربعاء لخمس بقين من رمضان سنة ثمان عشرة وخمسمئة بنيسابور.

26 - أبو منصور موهوب بن أبي طاهر أحمد بن الخضر الجواليقي

ومنهم: 26- أبو منصور موهوب بن أبي طاهر أحمد بن الخضر الجواليقي «13» البغدادي، رجل لم يخف ضلالا، ولم يخش ملالا، تزينت به بغداد فأصبح من شموسها المشرقة وعروسها المونقة، ولم يزل بها في جدّ شمّر له ساعده، وهجر به منامه وباعده وقاطع به اللذات، ومانع به الملذات حتى أصبح كامل الذات، فاضل النفس التي لا تتبع بالأذى، ثم كان ابن بجدتها «1» وأخاها الملتف في شملتها، واتصل بالخلافة حتى كان طوقا لمجلسها وغلا لمبلسها، مجليا لديا جيرها، وركنا لمستجيرها، ثم أتته المنايا سرعا وبدأته وما دعا. قال ابن خلكان: هو من مفاخر بغداد، قرأ الأدب على الخطيب التبريزي، ولازمه حتى برع في فنّه، وهو ثقة عزيز الفضل، وافر العقل مليح الحظ كثير القسط، حسن التصانيف المفيدة، وانتشرت عنه، وكان يختار في بعض مسائل النحو مذاهب عربية وكان في اللغة أمثل منه في النحو، وكان إماما للإمام المقتفي «2» يصلي به الفرائض وألّف له كتابا لطيفا في العروض، ودخل عليه أول دخلة فما زاد أن قال السلام على أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، فقال له ابن التلميذ الطبيب «3» ، وكان قائما بين يدي المقتفي وله إدلال الخدمة والصحبة، ما هكذا يسلّم على أمير المؤمنين، فلم يلتفت ابن الجواليقي إليه، وقال للمقتفي: يا أمير المؤمنين سلامي هو ما جاءت به السنة النبوية، وروى له خبرا في صورة السلام ثم قال يا أمير المؤمنين لو حلف حالف أن يهوديا أو نصرانيا لم يصل إلى علمه نوع من أنواع العلم

27 - سعيد بن المبارك بن علي الأنصاري أبو محمد المعروف بابن الدهان

لما لزمه كفارة الحنث؛ لأن الله تعالى ختم على قلوبهم، ولن يفكّ ختم الله إلا الإيمان، فقال له: صدقت وأحسنت فيما نقلت، وكأنما ألجم ابن التلميذ مع فضله وغزارة أدبه «1» . وسمع ابن الجواليقي من مشايخ زمانه وأكثر، وأخذ الناس عنه علما جمّا ونوادر كثيرة. ولد سنة ست وستين وأربعمائة، وتوفي يوم الأحد منتصف المحرّم سنة تسع وثلاثين وخمسمئة. ومنهم: 27- سعيد بن المبارك بن علي الأنصاري أبو محمد المعروف بابن الدهان «13» البغدادي صاحب لغة رقّى صفيحها «2» وأبقى صحيحها، روى عن أعرابها وتروّى في إعرابها، وما زال يدعو إليها حتى أغرى بها، وأزال إغرابها فأقام من أمتها «3» ، وجمع بين الكلمة وأختها فاستقامت من عوجها واستقلت من عرجها، وأصبحت به أوانس خدور، وكوانس نجوم وبدور. لا يخاف من نفار ولا يخفى في أسفار، ولا تزال بها الكتب مفتحة للأبواب مصفحة الفواتح بالذهب والخواتم بالصواب. قال ابن خلكان فيه: وكان في زمن أبي محمد ببغداد من النحاة ابن الجواليقي وابن الخشاب، وابن الشجري، وكان الناس يرجحون أبا محمد عليهم مع أن كل واحد منهم إمام ثم إن أبا محمد رحل عن بغداد إلى الموصل قاصدا جناب الوزير الجواد جمال الدين

الأصفهاني فتلقاه بالإقبال وأحسن إليه وأقام مدة في كنفه، وعمي لكثرة ما كان يحرر كتبه التي علقت بالأذن. ومولده عشية الخميس لخمس بقين من رجب سنة أربع وتسعين وأربعمائة وتوفي يوم الأحد من شوال سنة تسع وستين وخمسمئة. وله شعر أنشد له، قوله: [البسيط] لا تجعل الهزل دأبا فهو منقصة ... والجدّ تعلو به بين الورى القيم فلا يغرّنك من ملك تبسّمه ... ما تصخب السّحب إلا حين تبتسم وقوله: [المجتث] لا تحسبن أنّ بالشّع ... ر مثلنا ستصير فللدجاجة ريش ... لكنّها لا تطير وقوله: [مجزوء الكامل] لا غرو أن أخشى فرا ... قكم وتخشاني اللّيوث أو ما ترى الثّوب الجدي ... د من التفرّق يستغيث وكان له ولد وهو أبو زكريا يحيى، وكان أديبا شاعرا. ومن شعره: [الخفيف] إن مدحت الخمول نبّهت أقوا ... ما نياما فسابقوني إليه هو قد دلّني على لذّة العي ... ش، فما لي أدلّ غيري عليه وقوله: [الوافر] وعهدي بالصّبا زمنا وقدري ... حكى ألف ابن مقلة في الكتاب فصرت الآن منحنيا كأني ... أفتّش في التّراب على شبابي «1» وقوله مما يعزى إليه وإنما هي لأبيه: [البسيط]

بادر إلى العيش والأيّام راقدة ... ولا تكن لصروف الدّهر تنتظر فالعمر كالكأس يبدو في أوائله ... صفو وآخره في قعره الكدر وقال ابن عساكر: سمعت سعيد ابن الدهان يقول، رأيت في النوم منشدا ينشد محبوبه: [مجزوء الرمل] أيّها الماطل ديني ... أسليّ وتماطل علّل القلب فإني ... قانع منك بباطل وهذا آخر ما ذكرناه من أهل اللغة بالجانب الشرقي إلى حين انقطع بهم الزمان ولم يوجد من نصلهم به إلى الآن.

[أهل اللغة من الجانب الغربي]

[أهل اللغة من الجانب الغربي]

1 - أبو بكر اللؤلؤي القيرواني

1- أبو بكر اللؤلؤي القيرواني «13» فأمّا من الجانب الغربي من أهل هذا الشأن فإنما طّنت لغة العرب في آذانهم وتعلّموا النطق بلسانهم بعد أن أتى عليهم حين من الدهر، وأمسكت مخانقهم بيد القهر، فمنهم أحمد ابن إبراهيم بن أبي عاصم، أبو بكر اللؤلؤي النحوي القيرواني صاحب لغة، حقق علومها وحرّر عمومها، وحطّم أنوفها، وعلم صنوفها واقتادها ذللا ونشرها حللا، وجمع شتاتها واستدرك فوائتها ولم يقنع من الدنيا بدونها، ولا ترك بأرض هدونها «1» ، يخيم بشرف على الهضاب، وحتم ألّا يرشف إلّا الرضاب، وكان لا يسرح إلّا في أنية مرهومة «2» ، ولا يرى لديه إلّا أردية مرقومة، والعزوم قدّامه جاثية، والأيدي ممّا لديه حاثية «3» . وكان من النقّاد العلماء في الغريب والنحو وشعر العرب، وله الشعر الفائق، ثم تركه في الآخر وأقبل على طلب الحديث والفقه. توفي سنة ثمان عشرة وثلاثمئة وله ست وأربعون سنة.

2 - أحمد بن أبان بن سيد اللغوي

ومنهم: 2- أحمد بن أبان بن سيّد اللغوي «13» صاحب شرطة قرطبة، دافع الصفوف ودارى الصروف، وتفرّغ للعلم، والموانع شاغلة، والمواضع فتنها شاملة، والأوقات أضيق من حلقة الخاتم، وأتعب من قعدة الجاثم. لا يقلّب المحدّق بصرا، ولا ينطق المنطق حصرا. وكان إذا سئل ورد الجياد ساحته، ولم يخرج النطق منه إلا حاجته؛ هذا لأنه لم يتكلم بمجان، ولا يزال كأنه يتكمم ولسانه يهتز كأنه جانّ، وكان ظنّه يصدق ولا يتوهم، وفنّه وما راق من برد الليل المسهم. وكان مقدما في معرفة اللغات ذا قلم جار، صنّف كتاب العالم في اللغة مئة مجلد على الأجناس. وتوفي سنة اثنتين وثمانين وثلاثمئة. ومنهم: 3- تمام بن غالب بن عمر اللغوي «14» المرسي، أبو غالب التيّاني من أهل قرطبة سكن مرسيّة «1» ، بلغ فضله حدّ الاستفاضة، وصعب جامح العلم فراضه، وقضت له الرتبة أن يكون صدر مجالسها وأنس مجالسها فأضاء في غسقها، وأضاف فرائده إلى نسقها، ولم يزل يحوط أوانسها، ويجمع كوانسها، فقرّر القواعد وأنجز المواعد وأسعفه الزمان المساعد، وعني بالغرائب حتى ردّها إلى الرياض،

4 - علي بن أحمد وقيل ابن إسماعيل أبو الحسن ابن سيدة

وأوردها على الحياض، فوصل الأسباب، وسمعت منه كل طنانة لغيره منها هرج الذباب. كان مقدما في علم اللسان، أجمعه مسألة له اللغة. طلب إليه أبو الجيش مجاهد بن عبد الله العامري لما غلب على مرسيّة أن يزيد في كتابه في اللغة مما ألفه أبو غالب لأبي الجيش مجاهد ووجه إليه بألف دينار فامتنع وقال لا استجير الدنيا بالكذب؛ فإنما صنفته للناس عامة، توفي بالمرسيّة سنة ست وثلاثين وأربعمائة. ومنهم: 4- علي بن أحمد وقيل ابن إسماعيل أبو الحسن ابن سيدة «13» الأندلسي الضرير رجل مشهور، كان الداعي باسمه صرّح، وكان الدهر بعلمه لمّا تقدّم فسح، لم يقاومه بصير، ولا لازمه إلا من حسن له المصير، أحاط باللغة علما، وكشف منها كلّ معمّى، وبصر بطرقها وهو أعمى، وجمع ما ضرب عليه نطاقها، وجذبت إليه بناقها «1» ، وصعد لارتقائه الكتب، وحط عن نقابه في المكتب ثم عمل له صوانا، وجعل له ديوانا، ومنه يكشف كلّ مبهم ويكفّ من لم يفهم، فمنه غاية الكشف وبه نهاية الكف. قال ابن خلكان: كان إماما في اللغة والعربية، استولى في آخر عمره على صاعد البغدادي «2» وعلى أبي عمر الطلمنكي «3» ، وألّف المحكم في اللغة نحو عشرين مجلدا، لا يعرف قدره إلّا من وقف عليه. فلو حلف أنه لم يصنّف مثله لم يحنث، وكان نادرة وقته،

5 - علي بن جعفر بن علي السعدي الصقلي اللغوي الكاتب المعروف بابن القطاع

وله شعر جيّد، وكان منقطعا إلى الأمير أبي الجيش مجاهد بن عبد الله العامري، وكان أعمى ابن أعمى، توفي سنة ثمان وخمسين وأربعمائة. وكانت وفاته بدانيه لأربع بقين من ربيع الآخر «1» . ومنهم: 5- علي بن جعفر بن علي السعدي الصقلّي اللغوي الكاتب المعروف بابن القطّاع «13» بطل لا يناجز وجبل لا يناهز، أعجز بحره من عام به، ورد بحره كل كميّ هز عامله، قعد للإفادة كل أيامه. متح غدر طرفيها ورادا، ويلزّ بنقعها سعدا وورّادا حتى أفاق آنية أفهامهم فأترعها، وأخصب أندية أيامهم فأمرعها «2» ، ونقلت الألسنة [ما] سمعتها فملأت بها الآذان، ونقلتها إلى حيث تسمع الأذان، تجاوز محدودا ولم يكن مثله في القوم على كثرتهم معدودا، فلهذا عرف معماه، وبقي اسمه وقد ذهب مسمّاه. ولد بصقلية سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة، وقرأ على ابن البرّ اللغوي وله التصانيف المفيدة، ورحل عن صقلّية لما أشرف الفرنج على تملّكها، وقدم مصر في حدود الخمسمائة، وأكرم في الدولة المصرية، وقد كان نقدة المصريين ينسبونه الى التساهل في الرواية. فمن ذلك لما قدم، سألوه عن كتاب الصحاح للجوهري فذكر أنه لم يصل إليهم، ثم لما رأى اشتغالهم به ركب له طريقا، وأخذ الناس عنه مقلدين له. وكان ذكيا شاعرا. توفي في صفر سنة خمس عشرة وخمسمئة.

6 - أبو عبد الله محمد بن الصايغ القرشي

ومنهم: 6- أبو عبد الله محمد بن الصايغ القرشي «13» الأموي، أغزر من أغرف أدبا، وألّف في تحصيله دأبا، وأنقد من رأيت لمعنى، وأوقد من رضيت ذهنا. هو في اللغة إمام مبرّز بجميع كلام العرب، محرز مع نحو ما ترك منه شعبا، ولا خلّى من العربية ذلولا ولا صعبا. ملك نوافر الكلم حتى اقتاد جوامحها، وارتاد مسارحها، وسدّ في العروض خلل الخليل «1» ، وبرز على التبريزي في مصنّفه الخليل، وطرق قدامة بن الحاجب حاجبا، وانقطع ابن القطّاع وما أدّى واجبا، وركب بحوره ولم يخش الغرق، وأتى بقوافيه وما أزعجها في أماكنها القلق. وله في الصناعتين ما فاق الدرر، مفرطة وسلكا، ولم يخط خطوة منهما مخلوجة. وسلكيّ أدب ولذي وثب. فرائده لديّ طالما اجتنيت منه ثمرا واجتلبت منه بالمذاكرة سمرا. وهو ممن يأوي بالمرتبة إلى بيت عريق، وأصل مرواني أينع له غصن وريق، ذكر أنه من ولد هشام بن عبد الملك، وأنه من النسب الأموي في السنام لا في الورك، نسبة تداولتها ولاة بيته، ورواة بلده عن حيّه وميته. وها هو الآن بالقاهرة أحد أعلامها المطبب لسقام آلامها والمطنب في محاسن كلامها. وما النيل من خلائقه الحسنى بأعذب، ولا المغناطيس من إبداعه بأجذب. ومن نثره قوله: وقف الحجاح ووقفنا دون ما عهد إلينا ... وسعوا وسعينا فما تعود لائمته علينا قوله: نفروا وانقلبنا بالوزر عن الارتكاض ... وأفاضوا وأفضنا بقداح القدح في الأعراض

قوله: ران الهوى على القلب ففسد ... وسرى الحسد فينا سريا في الجسد قوله: وحضرت مجالس الذكر وكان ليس بالمحاضر ... قست القلوب فما تتأثر لزجر زاجر قوله: حاضر استيقظوا فقد لاح نور الصباح ... وأجيبوا فقد حيعل داعي الفلاح وأصلحوا أحوالكم فقد فاز بالجنّة أهل الفلاح قوله: واضرعوا إلى الله فيما ينجّيكم ... وتوسّلوا إليه يطعمكم فيما لديه ويرجّيكم ومن شعره قوله: [الكامل] برق الثنيّة أم ثناياك التي ... خطف الفؤاد ببرقها الخطّاف مراك بستاني وذكرك مطربي ... وهواك سكري لا كؤوس سلاف سلسال ورد لو يباح لظامئ ... ورياض ورد لو دنت لطّاف غارت فغارت منه أقمار الدّجى ... لمّا انجلى في فرع ليل صافي تقسو عليّ وما بها لو أنّها ... رقّت لرقّة قلبي التّرجاف سائل رياض الحسن من وجناتها ... ما أنبت الأغصان في الأحقاف

وقوله: [الكامل] بعد المزار ولوعة المشتاق ... حكما بفيض مدامع الآماق أمعلّلي إنّ التواصل في غد ... من ذا الذي لغد فديتك باق عج بالمطيّ على الحمى تسقي الحمى ... صوبا كصيّب دمعي الرّقراق منه لدى القلب السليم وداده ... قلب سليم ماله من راق قلب عداه فراقكم فارقته ... لا كان في الأيّام يوم فراق وهذا آخر ما ذكرناه من أهل اللغة بالجانب الغربي.

[أهل اللغة في مصر]

[أهل اللغة في مصر]

1 - جمال الدين بن المكرم

1- جمال الدين بن المكرّم «13» فأمّا من وقع بمصر منهم وأمثالهم. ومنهم جمال الدين بن المكرّم، وهو من ولد رويفع بن رفاعة الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلّم، مقيم لأثره إحسان ومقيل لعثرة لسان. حصل على شرف لا ينال، وطرف دونه النجم في المنال، ولم يتخذ سوى الليل سميرا، ولا غير طلب العلم ضميرا، فلم يذق النوم إلّا عرارا «1» ولا عرف الليل إلّا سرارا «2» ، وكتب على عينه السهر ومنادمة الكواكب إلى السحر فأحيا الليالي، وقد مات حنين النهار في أحشائها، وذهب لجين الصباح في ذهب غشائها. وتوقّد وقد أطفئت شعلة المريخ، ولم يحصل شفق النهار إلّا على التلطيخ، فكتب أوقارا، وذاب ليلا ونهارا حتى كفّ بصره، وثنى عنانه مقصره على أنه كان مولعا برضاع الكؤوس ورضى الكاعب العروس. وولي التتار حين غلبتهم، وجرى معهم في حلبتهم، ثم ذهب وكان يقال: إنه يكون منظرا، ووجدوا ما عملوا محضرا، وكان أبوه جلال الدين مكرم ممن له اتصال بخدمة الملك الكامل وحضور في مجلسه الخاص كالنديم له، وكان من ذوي المروءة والعصبية كثير العناية بالناس، وقضاء حاجة ذوي الحاجات، ودام على هذا إلى الممات وفيه قيل: [مجزوء الكامل] قالوا المكرّم قد مضى ... قلت السّلام عليك مصر ما بعد يوم مكرّم ... للفضل إمّا عاش عذر ونشأ ولده وقرأ وتأدب، وصحب شرف الدين أبا العباس التيفاشي، وأخذ عنه واستمد منه وألّف كتاب سرور النفس مما كان التيفاشي جمعه، وضنّ به فما أبرزه من خدره ولا أطلعه. هو كتاب ممتع، وفيه لأهل المحاضرة مقنع. وكتب جمال الدين بديوان الإنشاء بمصر،

وترقّى حتى جلس في الدست «1» لقراءة القصص، والتوقيع عليها. ولمّا قدم السلطان محمود غازان دمشق، كان فيمن كتب له وكتب التقاليد لقبجاق وبكتمر السلحدار، والفارس البكي. وكان قادرا على كثرة الكتابة مطيقا لها مع اطلاع كثير على فنون عدّة. وألّف في اللغة كتابا جليلا أظنّه سمّاه نهاية الأدب في لغة العرب «2» ، جمع فيها مشاهير كتب اللغة الجليلة ورتّبه ترتيب الجوهري لكتاب الصحاح، وكتب عليه شيخنا أبو الثناء محمود الحلبي وأبو حيّان تقريض الكتاب وشكره، ووقفت على أجزاء منه على كل منها تقريض خاص، منه قول شيخنا أبي الثناء: وكان ابن المكرم مغرى باختصار الكتب المطولة، فممّا اختصر، تاريخ الحافظ أبي بكر الخطيب، والذيل عليه لابن النجار، وتاريخ الحافظ أبي القسم ابن عساكر، والجامع في المفردات لابن البيطار، ورأيت أطباء ديار مصر الأجلاء كالسديد الدمياطي وفرج الله بن صغير، وغيرهما يثنون على حسن اختياره، ويقولون: إنه مع اختصاره لم يخلّ فيه مقصد من مقاصده، ولا ترك موضعا لم يأت عليه من فوائده إلى غير هذا مما كتب وآونة احتطب. وكان على هذا كله مقصّرا في صناعة الإنشاء غير محصد الرشاء على أنه كان يأتي بالأبيات من الشعر؛ وإن لم يكن ممّا يبهر حسنها، ولا يسرف فنّها. وكلّها من باب المقبول أو ما يدانيه، ويقال: إنّه كتب بخطّه خمسمئة، وكان كلّما يكتب على طريقة واحدة بقلم دقيق كتابة مغلقة التعليق لا يكاد يبين. ولم يزل يكتب ويسهر الليل في الكتابة، حتى كان يقضي الليالي الطوال كلها سهرا لا يلمّ فيها بكرى، ولا يطعم جفونه فيها بهجعة، وكان يتخذ إلى جانبه إناء فيه ماء، فإذا غلبه السهر وكاد يصرعه الكرى، أخذ من الماء فسكب في عينيه فعمي وعدم نور بصره، وجلس في مجلس العمى في آخر عمره، وكان مع هذا رجلا مغرما بالنساء مغرى بالنكاح، لا يكاد تربط له تكّة، ولا يقبضه عنه مسكة إلى ولع كما يقال بالخمر عفا الله عنه لا يترك كؤوسها عن مطي

2 - محمد بن إبراهيم النجادي البجلي

راحه «1» ، ولا يتعدّاها أمل اقتراحه، وكان رفقته يعيرونه بشرب الخمر، ويسمعونه فيها الملام، ويلحقون بسببه عليه الكلام، وكان يحتمل ويتذرع الصبر ويستملّ. فإذا أمضته ألسنتهم الراشقة، وطعنته أسنّتهم الماشقة قال: لو كان للزنا واللواط رائحة تشم مثل الخمر حتى نهتك كلّ مستتر، ولكن بليته بما تشمّ له رائحة، وابتلوا بما لا تشمّ له رائحة. وتزوج قريب موته بنت أقوش قتّال السبع، وكان أحد أمراء الدولة الأكابر، فكان يطير بجناحه ويقاتل رفاقه المعتدين عليه بسلاحه وكان ينتسب إلى قضم الأعراض وهتك الأحساب، والتجوز في الأذى والتقصد والضرر. ومنهم: 2- محمد بن إبراهيم النجادي البجلي لغوي سوى كلامه الذي يلقى وغير مكامن النقص الذي به يطغى، أتقن لغة العرب وضبطها، وقيّد شواردها النادّة كالإبل وربطها، لا يدانيه ابن قريب «2» ، ولا أبو عبيدة له إلّا من عبيد الغريب، زيّن هذا بتفنّن في الأدب وتنوع في العلم مكتسب، وكان يتونس في ذرى ملك كساه العلا أثواب البقا، وعلا السماء مرتقى، وفضل أجود من الغمام، وإن لم يسأل حوى سبقا، فقات الأمم وفاء، محاماة على الذمم، وقد ذكره شيخنا أبو حيّان، وأثنى عليه بما لا تذهبه الأحيان، ومما أنشد له قوله: [مجزوء الرجز] كم قلت إذ غادر من ... كان الفؤاد منزله أأشعريّ خدّه ... أم من المعتزله

وقوله: [البسيط] قطفت باللحظ من بستان وجنته ... تفاحة ضرّجتها حمرة الخفر «1» وقلت هذا أمان من قطيعته ... فالشّرع قد نصّ أن لا قطع في الثمر

أهل [علم النحو]

أهل [علم النحو]

1 - أبو الأسود الدؤلي

1- أبو الأسود الدؤلي «13» وأما علم النحو الذي هو رأس علوم الإسلام، وبه تتبين سبل الكلام؛ فإنما نبع من المشرق وامتدّ منه سحابه المغدق، ثم منه بقية الآفاق امتاروا، وحملت أهل المغرب أوقار «1» الركائب وساروا. وسنذكر إن شاء الله مشاهير أهله، وننبّه على فضل كل منهم ونبله، ونبدأ بأول من وضع هذا العلم، وهو أبو الأسود الدؤلي ظالم بن عمر بن سفين بن جندل بن يعمر ابن حلس بن بقاية بن عدي بن الدئل بن بكر بن عبد مناة، أول أهل النحو. هذا الذي استنبط معينه واستنشط معينه، وانتصر للعرب وقد فسدت ألسنتها وضفيت حسنتها، وقام قياما حملته عليه العربية وحمية الغضب لهم والعصبية، ورأى العرب وقد استوطنت ريف العراق، كثر اختلاطها بفارس والروم وسائر أخلاط العجم، وانحبس من قطرها ما انسجم، وزاده استفهام ابنته عن الأحسن من نجوم السماء ما زاد باعثه وأحدث حادثه، فبات بليلة كأنما قصّت قوادم غرابها ولم ير من عدد الصباح إلّا لوامع سرابها. فلمّا انفجر دمّل ليله، وقرّت في منبثق النهار قرارة سيله أتى مدينة العلم من بابها، وهبّ لحاجته ما أعدّ من أسبابها، فقوّم له أمير المؤمنين علي رضي الله عنه ذلك المناد «2» ، وعاد صلاحه على ذلك الفساد، وعلّمه كلمات بها تاب الله على لسان العرب وأمسك منه ما كان قد اضطرب. ويروى أن الذي قال له: الكلمات ثلاث لم يزده عليها، وقال بعضهم قاله: الكلمات ثلاث اسم وفعل وحرف. قال آخرون: قال له، اعلم أنّ الكلمات ثلاث لا يمكن الزيادة عليها، ولا النقص منها وهي اسم وفعل وحرف. وقد زعم كثير أنه إنما استأذن في ذلك زياد

ابن أبيه، فقال له هذا الكلام، والأول أثبت لصحبته لعليّ رضي الله عنه، ولأن الحكمة منه أشبه. قال ابن خلكان: كان من سادات التابعين، وصحب علي بن أبي طالب رضي الله عنه وشهد معه صفّين، وهو مصري، وكان من أكمل الرجال رأيا وأشدهم عقلا وهو أول من وضع النحو. فقيل إن عليا رضي الله عنه وضع له الكلام فقال: الكلام كلّه ثلاثة أضرب اسم وفعل وحرف، ثم دفعه إليه وتمّم على هذا. وقيل إنه كان يعلّم أولاد زياد بن أبيه وهو والي العراقين يومئذ، فجاءه يوما فقال: أصلح الله الأمير إني رأيت العرب قد خالطت هذه الأعاجم وتغيرت ألسنتهم، أفتأذن لي أن أضع للعرب ما يعرفون كلامهم، قال: لا. فجاء رجل إلى زياد وقال: أصلح الله الأمير:، توفّي أبانا وترك بنون. قال: ادعوا لي أبا الأسود، فلمّا حضر قال: ضع للناس الذي كنت نهيتك أن تضع لهم. وقيل: إنه دخل يوما بيته فقال له بعض بناته: يا أبت ما أحسن السماء، فقال: إني لم أدر أيّ شيء منها أحسن وحكى ولده أبو حرب، قال: أول باب وضع أبي باب التعجب، وسمّي النحو نحوا لأن أبا الأسود قال: استأذنت على علي بن أبي طالب أن أضع نحو ما وضع، فسمي لذلك، وكان لأبي الأسود بالبصرة دار وله جار يتأذى منه، فقيل له: بعت دارك، فقال بعت جاري، فأرسلها مثلا. وأنشد من شعره قوله: [الوافر] وما طلب المعيشة بالتّمنّي ... ولكن ألق دلوك في الدّلاء تجيء بملئها طورا وطورا ... تجيء بحمأة وقليل ماء وقوله: [الكامل] صبغت أميّة بالدّماء أكفّنا ... وطوت أميّة دوننا دنياها «1» ويحكى أنه أصابه الفالج، وكان يخرج إلى السوق يجرّ رجله، وكان موسرا ذا عبيد وإماء، فقيل له: قد أغناك الله عن السعي في حاجتك، فلو جلست في بيتك فقال: لا؛

2 - عبد الله بن أبي اسحاق الحضرمي

ولكني أخرج وأدخل فيقول الخادم قد جاء ويقول الصبي قد جاء. ولو جلست في البيت، فبالت عليّ الشاة ما منعها أحد عني. وكان معروفا بالبخل، وكان يقول: لو أطعنا المساكين في أموالنا لكنّا أسوأ حالا منهم. وقال لبنيه: لا تجاودوا الله فإنه أجود وأمجد، ولو شاء أن يوسع على الناس كلهم لفعل. ولا تجهدوا أنفسكم في التوسع فتهلكوا هزالا. وسمع رجلا يقول: من يعشّي الجائع؟ فقال: عليّ به، فعشّاه ثم ذهب ليخرج فقال: أين تريد؟ فقال: أهلي فقال: هيهات، ما عشّيتك إلّا على أن لا تؤذي المسلمين الليلة. ثم وضع في رجله القيد حتى أصبح. وتوفي بالبصرة سنة تسع وستين من الهجرة «1» . ومنهم: 2- عبد الله بن أبي اسحاق الحضرمي «13» أبو بحر النحوي العلّامة البصري، حليف عبد شمس. رجل لا ينال بالآمال، ولا يطال بالأعمال، طار وراء الظلماء وسبح في غدير السماء. سخت سماوات أمطاره، وسمحت غايات أوطاره، وكان في يده قلم التصنيف فتصادحت الحمائم على أنهاره، وصدحت حديدة ليله بفضة نهاره. طالما قاطع جفنه الكرى على أن لا يعود، ولا يطمع إنسان «2» عينه منه بوعود، فما رفقت سنة في أجفانه، ولا تدفقت إلّا شعبة من طوفانه. قيل: إنّه من أوّل من صنّف، وقيل، بل هو من دوّن النحو، وقيل غير هذا. أخذ القرآن عن

3 - أبو عمرو عيسى بن عمر الثقفي

يحيى بن يعمر ونصر بن عاصم، وأثنى عليه يونس بن حبيب وبالغ في وصفه. وقال محمد بن سلام «1» : أول من بعج النحو، ومدّ القياس وشرح العلل عبد الله بن أبي إسحاق، وكان أسدّ قياسا، وكان أبو عمرو بن العلاء أوسع علما بكلام العرب وجمع بينهما بلال بن أبي بردة «2» أيام هشام بن عبد الملك. قال يونس: قال أبو عمرو: فغلبني ابن أبي إسحاق يومئذ بالهمز ففطرت فيه بعد وبالغت فيه. وقال يونس: كان أبو عمرو أشدّ تسليما للعرب. وكان ابن أبي إسحاق وعيس بن عمر يطعنان على العرب. توفي سنة سبع وعشرين ومئة، وهو ابن ثمان وثمانين سنة، وكان يعيب الفرزدق في شغله، وينسبه إلى اللحن فهجاه الفرزدق بقوله: [الطويل] فلو كان عبد الله مولى هجوته ... ولكن عبد الله مولى مواليا فقال له عبد الله: لحنت في قولك مولى مواليا، ينبغي أن تقول: مولى موال. ومنهم: 3- أبو عمرو عيسى بن عمر الثقفي «13» البصري المقرئ النحوي، ألّف أشباها وألف طريقة لا يخاف اشتباها، وقام بالعربية مقام أحراسها، وجاء يسوقها بأخلاسها «3» ، فنطق بلسانها، وسبق إليها من عدا بلبانها، ووجّه بفطنته. عمل العوامل ولم يقبل بفطرته عذل العواذل ولم يزل حتى انقادت له في إتيانها

وعادت إليه بعد ليانها، فقلّدته السراة النّحور، وفدته مما بين الحضور والنّحور فزاد على المراد، وأتاه النحو نحو ما أراد. قيل، هو مولى خالد بن الوليد، نزل في ثقيف وكان من طبقة أبي عمرو بن العلاء، وعنه أخذ الخليل بن أحمد. ونذكر أن عيسى صنّف نيفا وسبعين مصنّفا في النحو وأن بعض الأغنياء جمعها وأتت عليها آفة فهلكت، وقيل: إن مادة كتاب سيبويه من كتاب الجامع لعيسى بن عمر. وله كتاب الإكمال، وفيه أنشد الخليل بن أحمد يخاطب سيبويه: [الرمل] بطل النحو جميعا كلّه ... غير ما أحدث عيسى بن عمر ذاك إكمال وهذا جامع ... فهما للنّاس شمس وقمر وقال محمد بن سلام الجمحي، كان عيسى بن عمر ينزع إلى النصب إذا اختلفت العرب، ويقال، إن أبا الأسود الدؤلي لم يضع من النحو إلّا باب الفاعل والمفعول فقط وإن عيسى بن عمر وضع كتابا على الأكثر بوّبه، وكان يطعن على العرب، ويخطّئ مثل النابغة، وكان صاحب تقعير «1» في كلامه، واستعمال للغريب، وكان بعض جلساء خالد بن عبد الله القسري قد أودعه شيئا فنمى ذلك إلى يوسف بن عمر، وكتب إلى واليه بالبصرة، يأمره بحمل عيسى بن عمر مقيدا، فدعا به وأمر الحداد بتقييده وقال، لا بأس؛ إنما أرادك الأمير لتأديب ولده، قال، فما بال القيد إذن، فبقيت مثلا بالبصرة. فلما ضربه يوسف بالسياط جزع وأقرّ، فأخذت الوديعة منه، وأدركه بعد ذلك ضيق نفس، فكان يداويه بإجاص يابس وسكّر. وقال ابن معين: عيسى بن عمر بصري ثقة، ووقع مرّة في الطريق من ضيق النّفس، فدار الناس حوله، يقولون، مصروع، فمن بين قارئ ومعوّذ، فلمّا أفاق نظر ازدحامهم، فقال، مالي

4 - عبد الحميد بن عبد المجيد أبو خطاب الأخفش الكبير

أراكم تكأكأتم عليّ كتكأكئكم على ذي جنّة افرنقعوا عنّي، فقال رجل، إنّ جنيّه هذا يتكلم بالهندية، توفي سنة تسع وأربعين ومئة قبل أبي عمرو «1» بخمس سنين. ومنهم: 4- عبد الحميد بن عبد المجيد أبو خطاب الأخفش الكبير «13» مسرج حدوه ومبهج جلوه، امتدّت أفياؤه، واعتدت للمحاسن أحياؤه، وتحصّنت ربائبه في كناسها، وتحسنت في أجناسها، وضاءت في الليل البهيم، وضاعت في ربا الروض النسيم، وأتت مسرج طرف ومطمح رجاء من صرف، وكان لا يخلو مجلسه من منتدين، ويكنسه من ضلال للمهتدين، هذا وهو أحد الأئمة الذين يهدون، وأعلام الأئمة الذين يهتدون. وكان بحرا لا النوء بعض نبقه «2» تسد ولا يجاريه إلا بغير غمام وإطناب برقه، وأخذ عن أبي عمرو بن العلاء وطبقته وأخذ عنه أبو عبيدة، وسيبويه والكسائي ويونس ابن حبيب، وكان ديّنا ثقة ورعا. قال المرزباني، هو أول من فسّر الشعر تحت كل بيت منه، وما كان الناس يعرفون ذلك قبله؛ وإنما كانوا إذا فرغوا من القصيدة فسروها. وحدّث الأصمعي، قال وقف أبو الخطاب على أعرابي يريد الحج، فقال، أتقرأ أشياء من القرآن قال نعم. قال فاقرأ، قال: [الطويل] فإن كنت قد أيقنت أنك ميّت ... وأنك مجزيّ بما كنت تفعل فكن وجلا من سكرة الموت خائفا ... ليوم به عنك الأقارب تشغل

5 - الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم الفراهيدي

فقال: ليس هذا من القرآن، قال: بلى. فأقرأ أنت، فقرأ: «وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ «1» » ، فقال: هذه أخت التي تلوتها سواء إلّا أنها بعد لم تنتظم لك، وكان له أشياء ينفرد بها عن العرب. والأخافش أربعة، هذا أولهم والأوسط سعيد بن مسعدة صاحب سيبويه، والصغير علي بن سليمان، والرابع اسمه عبد العزيز بن أحمد المغربي الأندلسي أبو الإصبع. ومنهم: 5- الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم الفراهيدي «13» الأزدي، أبو عبد الرحمن، هو من أغصان الأدب ووريقها «2» ، ورشف ألسنة العرب وريقها. وهو إمام القوم ولسان القول. رأس أهل التعليم، والخليل وحاسده الكليم، ومؤسس القواعد، وإن لم يكن الخليل إبراهيم ومستنبط العلم الذي ما سبق إليه، ولا وقع خاطر امرئ قبله. افترع منه العذراء «3» واخترع منه ما ضبط به الشعراء. أتى منه بعلم جليل وأحسن إحسانا، أصبح فيه الناس ضيوف الخليل. استخرجه من صوت جرّة تقرعها جارية تتغنى عليها، وصنّفه بمكة وشرع فيه وهو طائف بالكعبة. وقد حكى صاحب بغية الألبّاء في ذلك عن عبد الله ابن المعتز أن الخليل مرّ في سكة الصفارين بالبصرة، فسمع دقّ الكوادين بأصوات مختلفة فوقف يسمع اختلافه، قال: والله لأضعنّ على هذا المعنى علما غامضا، فوضع العروض. وحدّث النضر بن شميل، قال: كان أصحاب الشعر يمرّون بالخليل

فيتكلمون في النحو، فقال الخليل: لا بدّ لهم من أصل، فوضع العروض، وخلا في بيت ووضع بين يديه طستا، وما أشبهه، وجعل يقرعه بعود، يقول: مستفعلن فاعلن فعولن، فسمعه أخوه، فخرج إلى المسجد، فقال إن أخي قد أصابه جنون، وأدخلهم وهو يضرب الطست، فقالوا: يا أبا عبد الرحمن مالك، أصابك شيء، أتحب أن نعالجك؟ فقال: وما ذاك؟ قالوا: أخوك يزعم أنك قد خولطت، فأنشأ يقول: [الكامل] لو كنت تعلم ما أقول عذرتني ... أو كنت تعلم ما تقول عذلتكا لكن جهلت مقالتي فعذلتني ... وعلمت أنّك جاهل فعذرتكا ويروى أن ابنه فعل ذلك. قال ابن خلكان: كان إماما في علم النحو، وهو الذي استنبط علم العروض، وحصر أقسامه في خمس دوائر، يستخرج منها خمسة عشر بحرا، وزاد فيه سعيد بن مسعدة الأخفش الأوسط بحرا سمّاه الخبب، وهو المتدارك. وقيل إن الخليل دعا بمكة أن يرزق علما لم يسبقه إليه أحد ولا يؤخذ إلا عنه. فلما رجع من حجّه فتح عليه بعلم العروض وكانت له معرفة بالإيقاع والنغم «1» . وقال حمزة بن الحسين الأصفهاني «2» في حقه: وبعد فإن دولة الإسلام لم تخرج أبدع للعلوم الذي لم يكن لها عند علماء العرب أصول من الخليل، وليس على ذلك برهان أوضح من علم العروض، الذي لا عن حكيم أخذه، ولا عن مثال تقدمه احتذاه إنما اخترعه من ممرّ له بالصفارين من وقع مطرقة على طست، ثم قال: فلو كانت أيامه قديمة ورسومه بعيدة لنسك فيه بعض الأمم لتصنيفه مالم يصنفه أحد منذ خلق الله الدنيا. قال ابن خلكان: وكان الخليل رجلا صالحا عاقلا حليما وقورا ومن كلامه: لا يعلم الإنسان خطأ معلّمه حتى يجالس غيره.

وقال تلميذه النضر بن شميل: أقام الخليل في خصّ من أخصاص البصرة، لا يقدر على فلسين وأصحابه يكسبون بعلمه الأموال. ولقد سمعته يوما يقول: إني لأغلق بابي فما يجاوزه همي. وكان له راتب على سليمان بن حبيب بن المهلب بن أبي صفرة، وكان والي فارس والأهواز، فكتب إليه يستدعيه، فكتب الخليل إليه: [البسيط] أبلغ سليمان أنّي عنه في سعة ... وفي غنى غير أني لست ذامال سخّى بنفسي أنّي لا أرى أحدا ... يموت هزلا ولا يبقى على حال والرّزق في «1» قدر لا الضّعف ينقصه ... ولا يزيدك فيه حول محتال والفقر في النّفس لا في المال نعرفه ... ومثل ذاك الغنى في النّفس والمال فقطع سليمان عنه الراتب فقال الخليل: [السريع] إن الذي شقّ فمي ضامن ... للرزق حتّى يتوفّاني حرمتني مالا قليلا فما ... زادك في مالك حرماني فبلغت سليمان فأقامته وأقعدته، وكتب إلى الخليل معتذرا إليه، فقال: [البسيط] وزلّة يكثر الشّيطان إن ذكرت ... منها التعجّب جاءت من سليمانا لا تعجبنّ لخير زلّ عن يده ... فالكوكب النّحس يسقي الأرض أحيانا وأنشد ولم يذكر لنفسه أو لغيره: [الطويل] يقولون لي: دار الأحبّة قد دنت ... وأنت كئيب إنّ ذا لعجيب فقلت: وما تغني الديار وقربها ... إذا لم يكن بين القلوب قريب «2» وتوفي بالبصرة سنة ستين ومئة، وقال ابن الجوزي سنة ثلاثين ومئة، وهو غلط ولكن نقله الواقدي. وكان سبب موته أنه قال: أريد أن أقرّب نوعا من الحساب تمضي به الجارية إلى

6 - يونس بن حبيب النحوي، أبو عبد الرحمن

إلى البياع ولا يمكنه ظلمها. ودخل المسجد وهو يعمل فكره في ذلك فصدمته سارية وهو غافل عنها بفكره فانقلب على ظهره فكانت سبب موته. والفراهيد بطن من الأزد كذلك يحمد. ومنهم: 6- يونس بن حبيب النحوي، أبو عبد الرحمن «13» قائم بقسط «1» ، وعالم بما في قسط، ومدن لنازح، ومجنّ لنافح، ومغن دونه كلّ ناصح. وضح بارقا وأضحى لا يردّ طارقا، فهبّ والناس نائمون، وذهب وأجناس الطلبة قائمون. وحصل ما لم تنله أيديهم ولم تصله ليالي أقمارهم، ولاذ أدبهم حتى عرس في عرسه «2» العلم، وقد أخلته أسوده لثعالبه وحلّته حماته لغالبه، فأقر فيه أسوده: وسرّه، وأكمد حسوده. قال المرزباني في المقتبس في أخبار النحويين، مولده سنة تسعين، ومات سنة اثنتين وثمانين ومئة «3» ، وكان يقول: أذكر موت الحجاج. قال: ويقال: إنّ مولده سنة ثمانين، وعاش مئة سنة وسنتين. وأخذ الأدب عن أبي عمرو بن العلاء، وحماد بن سلمة «4» ، وسمع من العرب، وروى عن سيبويه، وسمع منه الكسائي والفرّاء. وله قياس في النحو، ومذاهب ينفرد بها. وكانت حلقته بالبصرة يرتادها الأدباء وفصحاء العرب وأهل البادية.

7 - عمرو بن عثمان بن قنبر أبو بشر [سيبويه]

قال أبو عبيدة: اختلفت إلى يونس أربعين سنة أملأ كلّ يوم ألواحي من حفظه. وقال أبو زيد الأنصاري: جلست إلى يونس عشر سنين وجلس إليه قبلي خلف الأحمر عشرين سنة. وقال لي يونس: قال لي رؤبة بن العجاج: حتّام تسألني عن هذه البواطل وإن حرّفتها لك، أما ترى الشيب قد بالغ في لحيتك. وقال إسحاق الموصلي: قارب يونس تسعين سنة ولم يتزوج ولم يتسرّ، وكان يونس يقول: ما بكت العرب على شيء في أشعارها كبكائها على الشباب وما بلغت كنهه. قال: يقول العرب: فرقة الأحباب سقم الألباب. ومنهم: 7- عمرو بن عثمان بن قنبر أبو بشر [سيبويه] «13» أبو الحسين. جمع الأزمّة، وشرع في الأمور المهمة. عرف العلم بتفصيله، وأجمع عليه المنجد والمتهم والمعرق والمشئم، وتساوى في وصفه العجمي والعربي والمشرقي والمغربي. تكلّم بألسنة كل القبائل وحوى حسنه كل قائل، وتدفقت شعوبه بالمسائل، وذهبت أيامه كلّها مذهب الأصائل. فمذهبه هو اليوم الجاد، والمهيع «1» والطريق المتبع، وعليه المنهج المسلوك، ولديه ما يؤخذ وما سواه متروك. وكان شيخنا أبو حيان يقول: لا يقاس في هذا العلم رجل بسيبويه. ولمّا قدم شيخ الإسلام من مصر في بعض قدماته لازمه أبو حيان ومدحه وأطنب في شكره، وذكر فضله ولم يزل على هذا حتى ذكر يوما سيبويه بنقص، فهجر ابن تيميه وقاطعه وأخذ في ذكر عيوبه وتعديدها وكان يقول: لو كان ابن تيمية عاقلا لما ذمّ سيبويه. وما برح هذا قوله فيه إلى آخر ما فارقه في شوال، سنة ثلاث وأربعين وسبعمئة.

قال ابن خلكان: كان أعلم المتقدمين والمتأخرين بالنحو، ولم يوضع فيه مثل كتابه. وذكره الجاحظ يوما فقال: لم يكتب الناس في النحو كتابا مثله، وجميع كتب الناس عليه عيال. وقال الجاحظ: أردت الخروج إلى محمد بن عبد الملك الزيات وزير المعتصم، ففكرت في شيء أهديه له، فلم أجد شيئا أشرف من كتاب سيبويه، فلما وصلت إليه قلت، لم أجد شيئا أهديه لك مثل هذا الكتاب، وقد اشتريته من ميراث الفرّاء، فقال: والله ما أهديت لي شيئا أحبّ إليّ منه. ورأيت في بعض التواريخ أن الجاحظ لما وصل إلى ابن الزيات بكتاب سيبويه أعلمه به قبل إحضاره، فقال له ابن الزيات: أو ظننت أن خزانتنا خالية من هذا الكتاب، فقال الجاحظ: ما ظننت ذلك ولكنها بخط الفرّاء وقائله الكسائي وتهذيب عمرو ابن بحر الجاحظ فقال ابن الزيات: هذه أجلّ نسخة توجد، وأعزّها فأحضرها إليه، ووقعت منه أجلّ موقع. وأخذ سيبويه النحو عن الخليل بن أحمد وعيسى بن عمر ويونس بن حبيب وغيرهم، وأخذ اللغة عن أبي الخطاب المعروف بالأخفش الأكبر وغيره وقال ابن النطاح: كنت عند الخليل بن أحمد، فأقبل سيبويه، فقال الخليل: مرحبا بزائر لا يملّ. وجرى للكسائي مع سيبويه البحث المشهور في قولك، كنت أظنّ لسعة العقرب أشدّ من لسعة الزنبور فإذا هو هي، فقال الكساني، فإذا هو إيّاها، وانتصر الخليفة للكسائي فحمل سيبويه من ذلك هّما فترك العراق ودخل إلى شيراز، وتوفي بقرية من قرى شيراز يقال لها البيضاء في سنة ثمانين ومئة. وقال ابن قانع: توفي بالبصرة في سنة إحدى وستين ومئة، وقيل سنة ثمان وثمانين. وقال الحافظ أبو الفرج ابن الجوزي توفي سنة أربع وتسعين ومئة، وعمره اثنان وثلاثون، وإنه توفي بمدينة ساوة.

وذكر الخطيب في تاريخ بغداد عن ابن دريد أنه قال، مات سيبويه بشيراز وقبره بها، وقيل إن ولادته كانت بالبيضاء المذكورة، لا وفاته. قال أبو سعيد الطّوال: رأيت على قبر سيبويه هذه الأبيات وهي لسليمان بن يزيد العدوي. [الكامل] ذهب الأحبّة بعد طول تزاور ... ونأى المزار فأسلموك وأقشعوا تركوك أوحش ما تكون بقفرة ... لم يؤنسوك وكربة لم يدفعوا قضي القضاء وصرت صاحب حضرة ... عنك الأحبّة أعرضوا وتصدّعوا وقال معاوية بن بكر العليمي، وقد ذكر عنده سيبويه، رأيته وكان حدث السنّ وكنت أسمع في ذلك العصر أنه أثبت من حمل عن الخليل بن أحمد، وقد سمعته يتكلم وكنت أسمع في ذلك العصر. وقال أبو زيد الأنصاري، وكان سيبويه غلاما يأتي مجلسي وله ذؤابتان، فإذا سمعته يقول، حدثني من أثق بعربيته فإنما يعنيني. وكان سيبويه كثيرا ما ينشد هذا البيت: [الطويل] إذا بلّ من داء به ظنّ أنه ... نجاوبه الداء الّذي هو قاتله وسيبويه لقبه وهو لفظ فارسي، معناه بالعربية رائحة التفاح. وقيل إنما لقّب به لأنه كان جميل الصورة، وجنتاه كأنهما تفاحتان «1» .

8 - أبو فيد مؤرج بن عمرو بن الحارث السدوسي

ومنهم: 8- أبو فيد مؤرّج بن عمرو بن الحارث السّدوسي «13» النحوي البصري، صدر ملئ علما وتلي فضله المفضل لما شيل منه غّما، ولم يكن فيه سبيل للنازعات ولا عبس إلا لوجوه المنازعات. اشتدت به قوادمه حيث خلق، وامتدت قوائمه فلم تلحق، بعلوم برقت لها السحب الهوامل، ونزلت إليها البدور الكوامل، ونزعت إلى نحو ظهرت فيه العوامل، فلم يكن له إلا من يعترف، ويعرف أنه لا ينصوف. قال ابن خلكان: أخذ العربية عن الخليل بن أحمد، وروى الحديث عن سعيد بن الحجاج وأبي عمرو بن العلاء وغيرهما. وكان يقول: قدمت من البادية ولا معرفه لي بالقياس في العربية؛ وانما كانت معرفتي قريحة، وأول ما تعلمت القياس في حلقة أبي زيد الأنصاري، وله عدّة تصانيف. وممّا أورد له من شعره ابن المنجم: [البسيط] ورّعت بالبين حتّى ما أراع به ... وبالمصائب من أهلي وجيراني لم يترك الدهر لي علقا أضنّ به ... إلا اصطفاه بنأي أو بهجران قال ابن المنجم: وهذان البيتان من أملح ما يقول في معناهما. ونقل ابن النديم أو وجد بخط ابن المعتز مؤرخا، مات سنة خمس وتسعين ومئه، في اليوم الذي توفي فيه أبو نواس. قال ابن خلكان وهذا ما يستقيم إلا على أحد الأقوال في تاريخ وفاة أبي نواس «1» .

9 - قطرب أبو علي محمد بن المستنير

ومنهم: 9- قطرب أبو علي محمد بن المستنير «13» وهو النحوي اللغوي البصري، وقيل اسمه أحمد بن محمد، وقيل الحسن بن محمد، والأول أصح. بجلي «1» غيهب، وحافظ متاع لا يذهب. هبت صباه ونعاماه، ونهبت الأفئدة أنكاده وأياماه، وفشت أعين عينه، وتفجّرت ينابيع معينه، وأصبت محاسن حسانه، وظهرت معادن إحسانه، وحلبت سوقه الطلاب، وأدنت المرام والطلاب، فأتعب المتسامي، وبصّر حاسده المتعامي وقرّح قلب عدوّه، وأجفانه الدوامي، وزاد على مدد البحار والسحب الهوامي. قال ابن خلكان «2» : أخذ العلم عن سيبويه وغيره، وكان يبكّر إلى سيبويه قبل حضور التلاميذ. فقال له: ما أنت إلا قطرب ليل، فبقي عليه ذلك اللقب. وله التصانيف المفيدة، وهو أول من وضع المثلث في اللغة، وكتابه وإن كان صغيرا فله فيه فضيلة السبق. وكان قطرب يعلّم أولاد أبي دلف. وروى له ابن المنجم في كتاب البارع قوله: [البسيط] إن كنت لست معي فالذّكر منك معي ... يراك قلبي إذا عيّيت عن بصري والعين تبصر من تهوى وتفقده ... وباطن الأرض لا يخلو من النّظر وتوفي سنة ست ومئتين.

10 - أبو زكرياء يحيى بن زياد بن عبد الله بن منظور الأسلمي الديلمي الفراء

ومنهم: 10- أبو زكرياء يحيى بن زياد بن عبد الله بن منظور الأسلمي الديلمي الفرّاء «13» الكوفي، روى العطش وأورى الغطش «1» ، وكان يبكر إلى العلم والليل ما نصل خضابه، والظل ما رشف من ثغور الأقحوان رضابه، ويواصل على هذا الاجتهاد أزمنته ويفرج بهذا الجهاد أزمّته؛ انفرج عنه صدر النهار، واندفق به سيل النضار وطال ظلّ منتابيه «2» ، وقال مادحه لا يحابيه، ثم أتاه أجله وجمع إليه مستعجله، ومات إلا إفاداته، ونسي إلا عاداته. قال أبو العباس ثعلب: كان السبب في إملاء الفرّاء في المعاني أن عمر بن بكير كان من أصحابه، وكان منقطعا إلى الحسن بن سهل فكتب إلى الفرّاء أن الأمير الحسن بن سهل ربّما سألني عن الشيء بعد الشيء من القرآن فلا يحضرني فيه جواب، فإن رأيت أن تجمع لي أصولا، أو تجعل في ذلك كتابا أرجع فيه، فقال الفرّاء لأصحابه اجتمعوا حتى أملي عليكم كتابا في القرآن، وجعل لهم يوما، فلما حضروا خرج إليهم، وكان في المسجد رجل يؤذن ويقرأ بالناس في الصلاة، فالتفت إليه الفرّاء، فقال له: اقرأ فاتحة الكتاب ففسّرها، ثم مدّ في الكتاب كلّه يقرأ الرجل، ويفسّر الفرّاء، فقال أبو العباس: لم يعمل أحد قبله مثله، ولا أحسبه أحدا يزيد عليه. قال ثعلب: وكان السبب في إملائه الحدود «3» أن جماعة من أصحاب الكسائي صاروا إليه وسألوه أن يملي عليهم أبيات النحو ففعل ذلك، فلما كان المجلس الثالث قال بعضهم لبعض: إن دام على هذا علم النحو الصبيان، والوجه أن يقعد عنه، فقعدوا عنه فغضب، وقال سألوني القعود، فلما قعدت تأخّروا، والله لا سهلنّ النحو ما اجتمع اثنان، فأملى ست عشرة سنة ولم ير في يده كتاب إلا مرة واحدة.

11 - سعيد بن مسعدة المجاشعي

قال ثعلب: وكان الفرّاء يجلس للناس بمسجد إلى جانب منزله، وكان الواقدي ينزل بإزائه. قال: وكان الفرّاء يتفلسف بالتفاته وتصنيفاته حتى يسلك في ألفاظه كلام الفلاسفة. وكان أكثر مقامه ببغداد، وكان يجمع طوال دهره، فإذا كان آخر السنة خرج إلى الكوفة فأقام بها أربعين يوما في أهله يفرق فيهم ما جمعه ويبرّهم. قال النديم: ولم يؤثر من شعره غير هذه الأبيات، رواها أبو حنيفة الدّينوري: [الخفيف] يا أميرا على جريب «1» من الأرض ... [له] تسعة من الحجّاب جالسا في الخراب يحجب فيها ... ما سمعنا بحاجب في خراب لن تراني لك العيون بباب ... ليس مثلي يطيق ردّ الجواب وتوفي بطريق مكة سنة سبع ومئتين. ومنهم: 11- سعيد بن مسعدة المجاشعي بالولاء، النحوي البلخي أبو الحسن الأخفش الأوسط «13» ، أحد نحاة البصرة، محكم أواخي ومحكم تدنّ في زمن متراخي، فقام بالأعباء وقال بلا إعياء، فأخرس ألسنة لدّا، وأنطق أسنة ملدا «2» ، وقد كان في بلهنية شبابه، وزمان نفاق رتبه على أحبابه، قد أتعب نفسه حتى أراحها، وجنى من المأساة أفراحها، وكانت أيامه محلاة الأطراف لمعانيها محشاة الأصايل بما تنير عليها الشموس من معادنها. كأنما غمز الحبايب أو إيماء العشاق بالحواجب. ولم يكن في لياليه ما تعاب به غير تقاصرها، ولا في أيامه ما تعاف له إلّا قلّة تناصرها، مع

12 - صالح بن إسحاق الجرمي

ما جمع من صنوف شتات، وجدع من أنوف شبهات قعدت وبدا وبقي مثل السيف فردا. قال ابن خلكان: كان من أئمة العربية، وأخذ النحو عن سيبويه، وكان أكثر منه. وكان يقول: ما وضع سيبويه في كتابه شيئا إلا وعرضه عليّ، وكان يرى أنه أعلم به منّي. وحكى ثعلب عن آل سعيد بن سلمة، قالوا: دخل الفراء على سعيد المذكور فقال لنا قد جاءكم سيّد أهل اللغة، وسيّد أهل العربية، فقال الفرّاء: ما دام الأخفش بعائش فلا. قال: وهذا الأخفش هو الذي زاد في العروض بحر الخبب، وكانت وفاته سنة خمس عشرة ومئتين، وقيل بل سنة إحدى وعشرين [ومئتين] ، ونسبته إلى ولاء المجاشع بن دارم التميمي «1» . ومنهم: 12- صالح بن إسحاق الجرمي «13» النحوي أبو عمرو، صاحب المختصر في النحو. بصري سام في القدماء شططا، وسار في السماء خططا، وأينعت له ثمرته فهذّبها، وتنوعت له مسرتها فنهبها، وعزت عليه أعماله فما أذهبها، كان لا يضيع الأعمال في غير عمل يقدّمه، وميل يقوّمه، وأود يقيمه، وحدد لاحب «2» يديمه. عاهد زمانه على عرض يقيه وعلم يبقيه وعمر في غير التقوى لا يبليه، وكرم في سوى الجميل لا يوليه، فحمدت مدّته، وحسنت على طوال الليل جدّته، وكان ذا فكر لا يحتجب عليه مخبأة في خدر، ولا محجبه من وراء ستر، فلم يباعده مدام، ولم

13 - بكر بن محمد بن عثمان

يجالسه [إلا] الكرام. قال ابن خلكان: كان فقيها عالما بالنحو واللغة، وهو من البصرة وقدم بغداد وأخذ عن الأخفش وغيره، ولقي يونس بن حبيب ولم يلق سيبويه، وأخذ اللغة عن أبي عبيدة، وعن أبي زيد الأنصاري والأصمعي وطبقتهم، وكان ديّنا ورعا حسن المذهب صحيح الاعتقاد، وحدّث عنه المبرّد. قال قرأت ديوان هذيل على الأصمعي، فلما فرغت منه قال، يا أبا عمر إذا فات الهذلي أن يكون شاعرا أو راميا أو ساعيا فلا خير فيه، وأنشد له قوله: [الوافر] يكلّفني سويق الكرم جرم ... وما جرم وما ذاك السويق ولا شربته جرم وهو حلّ ... وما غالت به مذ كان سوق فلمّا نزّل التحريم فيها ... إذا الجرميّ منها لا يفيق قال: وكنّى بالسويق عن الخمر لاتّساقها الخلق، فسمّاها سويقا لذلك «1» وتوفي سنة خمس وعشرين ومئتين. ومنهم: 13- بكر بن محمد بن عثمان وقيل عديّ بن حبيب المازني «13» البصري النحوي أبو عثمان. أقامت به مازن أوزانها، ولبست بمفاخره مازانها، وكان من ثعلبة في وسط وجارها «2» ، وخطته النجوم وجارها، طالما

حسده من لم يحم معه على المناهل، وشغل بغيره، فقيل متى أنت عن دهليّة «1» الحي داهل، هذا مع ورع كلّه تقى لا يقيه، ومآثر سلفت لسلفه. وكانت لجدّه بقية نسب لو عرف به الليل لما وسم ينكره، أو آل إلى وائل لقدّمه بكره لم يجهل بالفضل اعتناقه ونهوضه، بما لو أنه لبكر سواه لشدّ خناقه. قال ابن خلّكان: كان إمام عصره في النحو والأدب، أخذ الآداب عن أبي عبيدة والأصمعي وأبي زيد، وأخذ عنه المبرّد، وبه انتفع، وكان في غاية الورع. وبذل له بعض الذمّة «2» مئة دينار على إقراء كتاب سيبويه له فامتنع. قال المبرّد: فقلت له جعلت فداك أتردّ هذه المنفعة مع فاقتك وشدّة إضاقتك. فقال: إنّ هذا يشتمل على ثلاثمئة كذا وكذا آية من كتاب الله عزّ وجلّ، ولست أرى أن أمكّن منها ذميّا غيرة على كتاب الله وحميّة له، قال: فاتفق أن غنّت جارية بحضرة الواثق تقول للعرجي: [الكامل المرفل] أظلوم إنّ مصابكم رجلا ... أهدى السّلام تحية ظلم «3» فاختلف في إعراب، رجل، فمنهم من نصبه وجعله اسم، إنّ، ومنهم من رفعه على أنه خبرها، والجارية مصرّة على أن أبا عثمان لقّنها إياه بالنصب، فأمر الواثق بإشخاصه، قال أبو عثمان: فلما مثلت بين يديه، قال ممّن الرجل؟ قلت. من بني مازن، قال: أيّ الموازن، أمازن تميم أم مازن قيس أم مازن ربيعة؟ قلت: من مازن ربيعة، فكلمني بكلام قومي، وقال ما اسبك؛ لأنهم يقلبون الميم باء والباء ميما، فكرهت أن أجيبه على لغة قومي لئلّا أواجهه بالكبر، قلت، بكر يا أمير المؤمنين، ففطن لما قصدته، وتعجّب، وقال: ما تقول في قول الشاعر: أظلوم إن مصابكم رجلا أترفع رجلا أم تنصبه؟ فقلت: بل الوجه النصب يا أمير المؤمنين، فقال ولم ذلك: فقلت؟

14 - المبرد أبو العباس محمد بن يزيد بن مالك بن الحارث الثمالي

إنّ (مصابكم) مصدر بمعنى إصابتكم فأخذ الزيدي «1» في معارضتي، فقلت، هو بمنزلة قولك إنّ ضربك زيدا، فالرجل مفعول مصابكم، وهو منصوب به، وقال هل لك من ولد؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين، قال: ما قال لك عند مسيرك. قلت أنشدت قول الأعشى: [المتقارب] يا أبت لا ترم عندنا ... فإنا بخير إذا لم ترم أرانا إذا أضمر تك البلاد ... بها «2» وتقطّع منّا الرّحم فما قلت لها، قلت قول جرير: [الوافر] ثقي بالله ليس له شريك ... ومن عند الخليفة بالنّجاح قال: على النجاح إن شاء الله، ثم أمر لي بألف دينار، وزودني مكرما، فلما عاد إلى البصرة، قيل لي كيف رأيت يا أبا العباس؟ [قلت] : رددنا لله مئة، فعوضنا ألفا «3» وتوفي سنة تسع وأربعين ومئتين، وقيل سنة ثمان وأربعين بالبصرة. ومنهم: 14- المبرد أبو العبّاس محمد بن يزيد بن مالك بن الحارث الثّمالي «13» الأزدي البصري، رام العلياء فنالها، وأمّ النجوم فأدنى منالها، فصار علما يعشى إلى ضوء ناره، وقمرا يهتدى بأنواره، تميّز في إعلام زاد صيته فهمّ على الغيوث السواكب وتزينت الأرض بهم زينة السماء بالكواكب، فشاع فضله، وشاء الله أن يمتد ظلّه، ففضل على إياس في ذكائه، وحفظ به الفضل بعد ذهاب دمائه، ولم تذهب

ساعة من أيامه إلّا في محاضرة، ولا لفظة من كلامه إلّا في مناظرة، إلى أن كان سهمه من الحظ موفرا، وقيل كلّ الصيد في جوف الفرا، فأخذ في كل فنّ، وشذّ وجود مثله في ظنّ، حتى كان إليه المرجع في كل مرام، والمبرّد الذي لا يخبو له ضرام. قلت. جرى مرة ذكر علم النحو وأهل العلم به، وانتصر رجل حضرنا لليزيدي وفضّله على المبرّد، وسئلت في ذلك فقلت: [الطويل] لئن أصبحت أهل العلوم مواردا ... ويصدر عنها بالرواء ويورد فورد اليزيديّ الذي ليس مثله ... لديّ عطاش والشّراب المبرّد قال ابن خلكان: نزل بغداد، وكان إماما في النحو واللغة، وله التواليف النافعة في الأدب، منها الكامل والروضة والمقتضب، أخذ عن المازني والسجستاني وأخذ عنه نفطويه وغيره، وكان المبرد وثعلب صاحب الفصيح عالمين متعاصرين قد ختم بهما تاريخ الأكفاء، وكان المبرد يحب الاجتماع بثعلب للمناظرة والاستكثار منه، وكان ثعلب يكره ذلك، ويمتنع منه، وكان المبرّد كثير النوادر. حكي أن المنصور ولى رجلا على الإجراء على العميان والأيتام والقواعد من النساء، فدخل عليه بعض المتخلفين ومعه ولده، فقال له: إن رأيت أصلحك الله أن تثبت اسمي مع القواعد، فقال له القواعد نساء، فكيف أثبتك فيهنّ، قال: ففي العميان، قال: أما هذا فنعم؛ لأن الله تعالى يقول لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور، فقال: وتثبّت ولدي في الأيتام، فقال هذا أفعله أيضا، فإنه من تكن أنت أباه فهو يتيم وقد عناه ابن المعذل فقال: [الوافر] سألنا عن ثمالة كلّ حيّ ... فقال القائلون ومن ثماله فقلت محمد بن يزيد منهم ... فقالوا زدتنا بهم جهاله فقال لي المبرّد خلّ عنّا ... فقومي معشر فيهم نذاله وقال ابن خلكان: ويقال إنّ المبرّد قال هذه الأبيات لتحفظ [و] ليشتهر نسبه في ثمالة. ولد المبرّد يوم عيد الأضحى سنة عشر، وقيل سنة سبع وثلاثين وتوفي في ذي الحجة سنة ست وثمانين، وقيل في ذي القعدة سنة خمس وثمانين ومئتين ببغداد. وفي ثعلب قال أبو

15 - أحمد بن يحيى بن زيد بن سيار

بكر بن العلاف: [الكامل] ذهب المبرّد وانقضت أيّامه ... وليذهبن إثر المبرّد ثعلب بيت من الآداب أصبح نصفه ... خربا وباقي بيتها فسيخرب فابكوا لما سلب الزمان ووطّنوا ... للدّهر أنفسكم على ما تسلب وأرى لكم أن تكتبوا أنفاسه ... إن كانت الانفاس مما يكتب والمبرد لقب غلب عليه، قيل إنه كان عند بعض أصحابه، وإن صاحب الشرطة طلبه للمنادمة، فكره المبرّد ذلك، وألحّ الرسول عليه، وكان هناك مزملة لتبريد الماء فارغة، فدخل المبرّد فيها واختفى في غلاف المزملة، فدخل الرسول في تلك الدار وفتش على المبرّد فلم يجده، فلما مضى الرسول جعل صاحب الدار يصفق وينادي على المزملة المبرّد المبرّد وتسامع الناس بذلك فلهجوا به وصار لقبا عليه «1» . ومنهم: 15- أحمد بن يحيى بن زيد بن سيار «13» النحوي الشيباني بالولاء، أبو العباس المعروف بثعلب، إمام الكوفيين في العربية. ذو أمد لا يغلب وصيد للشوارد لا يعرف [إلا] من ثعلب، لا يحاذر الصقر المحلّق، ولا يبادر السهم المخلّق، لأفعاله طراوة، ولمقاله طلاوة، ولم يوجد مثله بالأشقرا «2» ، ولا حصل مثله عند الفرا «3» ، ولا نظن إلّا تغلّبه، ولا نعدّ في غير السباع ثعلبه. طالما قهر به المغالب، وودّت قمم

الأعداء لو أنها وجار الثعالب. فلم يزل مناظره معه يتغلب، ويعطيه حلاوة من طرف اللسان ويروغ كما يروغ الثعلب، فلم تعرف له أوقات فراغ، ولا وصف وصف ثعلب ذهب فراغ، فحمد رايته رأيه في مطلع ومغيب، وطلع عليه فقال: صباحك ثعلب ومساك ذيب. قال ابن خلكان: كان إمام الكوفيين في النحو واللغة، وكان ثقة حجة صالحا مشهورا بالحفظ وصدق اللهجة والمعرفة بالعربية، ورواية الشعر القديم، مقدما منذ هو حدث. وكان ابن الأعرابي إذا شكّ في شيء قال له: ما تقول يا أبا العباس في هذا؛ ثقة بغزارة حفظه. وكان يقول: نظرت في حدود الفرّاء وسنّي ثماني عشرة سنة وبلغت خمسا وعشرين سنة، وما قرئت عليّ «1» إلا وأنا أحفظها. وقال أبو بكر بن مجاهد المقرئ «2» ، قال لي ثعلب: يا أبا بكر اشتغل أصحاب القرآن بالقرآن ففازوا، واشتغل أصحاب الحديث بالحديث ففازوا، واشتغل أصحاب الفقه بالفقه ففازوا، واشتغلت أنا بزيد وعمرو، فليت شعري ماذا يكون حالي في الآخرة، فانصرفت من عنده فرأيت النبي صلى الله عليه وسلّم في تلك الليلة في المنام فقال لي: أقرئ أبا العبّاس عنّي السلام، وقل له أنت صاحب العلم المستطيل. قال أبو بكر: أراد أن الكلام به يكمل والخطاب به يحمل، وأن جميع العلوم مفتقرة إليه. وكان له شعر. قال أبو بكر بن القاسم الأنباري: انشدني ثعلب ولا أدري هي لغيره أم لا. [الطويل] إذا كنت قوت النفس ثم هجرتها ... فكم تلبث النّفس التي أنت قوتها ستبقى بقاء الضبّ في الماء أو كما ... يبقّي لدى ديمومة البيد حوتها «3»

ولد في سنة مئتين لشهرين مضيا منها، وتوفي يوم السبت لثلاث عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى، سنة إحدى وتسعين ومئتين ببغداد.، وقيل إنه قال: رأيت المأمون لمّا قدم من خراسان في سنة أربع ومئتين، وقد خرج من باب الحديد يريد الرصافة والناس صفّان فحملني أبي على يده، وقال هذا المأمون وهذه سنة أربع فحفظت ذلك عنه إلى الساعة. وكان سبب وفاته أنه خرج من الجامع يوم الجمعة بعد العصر، وكان قد لحقه صمم لا يسمع إلا بعد تعب فصدمته فرس فألقته في هوّة، فأخرج منها وهو كالمختلط «1» ، فحمل إلى منزله على تلك الحال وهو يتأوه فمات ثاني يوم، وكتب إليه ابن المعتز: [الرّجز] ما وجد صاد في الجبال موثق ... بماء مزن بارد مصفّق بالرّيح لم يطرق ولم ترنّق ... جادت به أخلاق دجن مطبق في صخرة لم ترشمسا تبرق ... فهو عليها كالزّجاج الأزرق صريح غيث خالص لم يمذق «2» ... إلا كوجدي بك لكن أتّقي يا فاتحا لكلّ باب مغلق ... وصيرفيّا ناقدا للمنطق «3» إن قال هذا بهرج لم ينفق ... إنّا على البعاد والتفرّق لنلتقي بالذكر إن لم نلتق ... إنّا على البعاد والتفرّق لنلتقي بالذكر إن لم نلتق ... فأجابه من رقعة نحن كما قال، وفيه: [الرّجز] إني وإن [لم] ترني فإنّني ... أراك بالغيب وإن لم ترني

16 - سليمان بن محمد بن أحمد النحوي البغدادي أبو موس الحامض

ومنهم: 16- سليمان بن محمد بن أحمد النحوي البغدادي أبو موس الحامض «13» عرف بين البرية بفضل نسكها، وقوة مسكها، وصلاح سيرتها وإصلاح سريرتها، أضاءت به الأسارير وأضيئت اللجج كأنها صرح ممرّد من قوارير، ففاقت سمراته، وفات ضوء النهار مقمراته وأبعد وضوحا، وأوعد الصباح فصوحا، ولم يزل يحاول الغاية في العلم وتحصيله، وإطالة غرته منه وتحجيله، حتى استملّ السنام، واستمسك به الأنام، فطفحت المجرّة دون مجراه، ولم تتنبه النجوم لمسراه. قال ابن خلكان: كان أوحد المذكورين من العلماء بنحو الكوفيين، أخذ عن ثعلب وهو المتقدم من أصحابه، وجلس موضعه وخلفه بعد موته، وصنّف كتبا حسانا في الأدب، وكان ديّنا صالحا، وكان أحد الناس في البيان والمعرفة بالعربية واللغة والشعر. وكان قد أخذ عن البصريين أيضا وخلط النحوين، وكان يتعصب على البصريين، وكان حسن الوراقة في الضبط. وتوفي لتسع بقين من ذي الحجة سنة خمس وثلثمئة ببغداد «1» . ومنهم: 17- أبو عبد الله محمد بن العباس بن محمد اليزيدي «14» النحوي. رجل يطير بجناحي المضرحي «2» ، ويسلك الفجاج سلوك الأداحي «3» . طالما

بكر مجدّا والليل ما انشقّ رداؤه، والسّحر ما بلّت أعطاف الزهر أنداؤه، واستدام حتى هدم النوم، وحرّم على الجفن جفا النوم. فامتلأ ما وسعه إناؤه، وأودعه منه الدهر وآناؤه، ثم أضحى يصول صولة الشجاع، ويفرق تفاريق الشعاع. قال ابن خلكان: كان إماما في النحو والأدب، ونقل النوادر وكلام العرب. ومما رواه أن أعرابيا هوي أعرابية، فأهدى إليها ثلاثين شاة وزقا من خمر مع عبد له أسود، فأخذ العبد شاة في الطريق فذبحها، وأكل منها وشرب بعض الزقّ، فلما جاءها بالباقي عرفت أنه خانها في الهدية، فلمّا عزم على الانصراف سألها، هل لك من حاجة، فأرادت إعلام سيّده بما فعل العبد، فقالت: اقرأ عليه السلام وقل له إن الشهر كان عندنا محاقا، وإن سحيما راعي غنمنا جاء مرثوما «3» فلم يعلم العبد ما أرادت بهذه الكتابة. فلمّا عاد إلى مولاه أخبره برسالتها، ففطن ما أرادته، فدعا له بالهراوة، وقال: لتصدقني وإلا ضربتك بهذه ضربا مبرحا، فأخبره الخبر فعفا عنه. وهذه من لطايف الكنايات وأحلى الإشارات «4» . وله تصانيف مذكورة، وطلب آخر عمره ليعلّم أولاد المقتدر. وتوفي لا ثنتي عشرة ليلة بقيت من جمادى الآخرة سنة عشر وثلثمئة.

18 - ابن السراج أبو بكر بن محمد بن السري بن سهل

ومنهم: 18- ابن السراج «13» أبو بكر بن محمد بن السري بن سهل النحوي، صاحب المبرّد. نحوه «1» لا يملك، ونحوه لا تسلك، بعد مرمى، وصعد منمى، وحمد منه كل وصف يقال فيه، لمّا لاح في سماء السعد فرقدا، وفاح للعبنر الورد موقدا، وبات الأدب يشب على نار خاطره، ويثب بسقيا ماطره، وزيّن شعره بالغنا، وزيد قدره على نفع الغذا. وكان من حلفاء العشاق، وخلفاء الروض في الانتشاق. وكأن رايته لا تزال تعلق به نظرته وتعبق بأدبه حضرته فلا يملّه جليس، ولا يملّه حلّ عقدة تكة أو كيس. قال ابن خلكان: كان أحد الأئمة المشاهير، المجتمع على فضله ونبله وجلالة قدره في النحو والآداب. أخذ عن المبرّد وغيره، وأخذ عنه السيرافي والرماني وغيرهما، ونقل عنه الجوهري في الصحاح في مواضع عديدة، وله التصانيف المشهورة في النحو. وأنشد ما ذكر أنه منسوب إليه وهو: [الكامل] ميّزت بين جمالها وفعالها ... فإذا الملاحة بالخيانة لا تفي حلفت لنا أن لا تخون عهودنا ... فكأنما حلفت لها أن لا تفي والله لا كلّمتها ولو أنّها ... كالبدر أو كالشّمس أو كالمكتفي «2»

19 - أبو الحسن علي بن سليمان بن الفضل

ومنهم: 19- أبو الحسن علي بن سليمان بن الفضل «13» الأخفش الأصغر. تعين فضله وتحتّم، وتزين بالثريا. ونصب على مدرجة الطريق خيامه، وأكثر ولعه بالفضائل وهيامه. وقد فصل عن العظام، وحلّ من قمطه القدام «1» ، يكلف العلم كلف غيلان بمي، ويهيم في طلبه هيام قيس في كل حيّ، حتى صفّت له عدد الطناف «2» ، ودنت إليه ثمرة للقطاف. قال ابن خلكان: روى عن المبرّد وثعلب وغيرهما. قال المرزباني: لم يكن بمتسع في الرواية والأخبار والعلم «3» بالنحو، وما علمته صنّف مسألة ولا قال شعرا وكان إذا سئل عن مسائل النحو ضجر وابتهر كثيرا ممّن تواصل، كثير الطيرة. وكان الأخفش كثير المزاح، فكان يباكر قبل كل أحد فيطرق الباب على ابن الرومي، فيقول من بالباب، فيقول الأخفش: حرب من مقاتل وما أشبه ذلك، فكان ابن الرومي كثير الهجاء للأخفش، فلمّا رأى ابن الرومي أنه لا يألم بهجائه ترك هجوه، ومدحه بعد ذلك. وكان الأخفش يواصل المقام عند أبي علي بن مقلة، ويراعيه أبو علي ويبرّه، فشكا إليه في بعض الأيام الإضاقة، وسأله أن يكلم أبو الحسن علي بن عيس، وهو يومئذ وزير في أمره، ويسأله إجراء رزق عليه أسوة بأمثاله، فخاطبه أبو علي في ذلك، فانتهره علي بن عيس وردّ عليه في مجلس حافل، فشقّ على ابن مقلة ما عامله به، وقام من مجلسه، وقد اسودّت الدنيا في عينيه، وصار إلى منزله لائما لنفسه على سؤال علي [بن] عيسى ما سأله، وحلف أنه يجرد في السعي عليه. ووقف الاخفش على الصورة فاغتمّ وانتهت به الحال إلى أن أكل

20 - إبراهيم بن السري بن سهل الزجاج

السلجم «1» النيئ، فقيل: إنه قبض فمات فجأة، وذلك في شعبان سنة خمس عشرة، وقيل سنة عشر وثلثمئة «2» . ومنهم: 20- إبراهيم بن السريّ بن سهل الزجّاج 1» النحوي، أبو إسحاق. كان يؤخذ من أدبه، ويدرأ في نحور الأعداء بكتبه، ولا عذر لمن وجد الجوهر ألا يلتقطه، ولمن ملك الجوهر ألا يخترطه، وكان قدر هذه في الدنيا معرفته بها وقطعه عنه صلته بسببها. وكان ما يتصدّق به أحب مآليه إليه، وأعزّ ما يدّخره ما يقدّمه مما في يديه لديه. لا يخيفه سؤال، ولا يخفيه عذر عن نوال. وصحب بني وهب، وعني به الوزير فبيّض سواد أمله، وروّض سوءة ممحله. وكان الوزير ممّن خلقت يده للجود، ورفده لما لا يسع معه الجحود، فاتسعت جوانب ماله، وسعت مواهب كفه لماله. ذكره ابن خلكان وقال: كان من أهل العلم بالأدب والدين المتين، وأخذ الأدب عن المبرّد، وثعلب، وكان يخرط الزجاج ثم تركه واشتغل، واختص بصحبة الوزير عبيد الله بن سليمان بن وهب، وعلّم ولده القاسم الأدب، ولمّا استوزر أفاد بطريقته مالا جزيلا. وحكى أبو علي الفارسي، قال: دخلت مع شيخنا أبي إسحاق الزجاج على القاسم بن عبد الله الوزير، فسارّه خادم له بسرّ استبشر له ثم نهض، ولم يكن أسرع مما عاود في وجهه أثرا لوجوم فسأله شيخنا عن ذلك فقال له: كانت تختلف إلينا جارية لأحد الفتيان فسميتها أن تتبعني أياما فامتنعت من ذلك، ثم أشار عليها أحد من ينصحها بأن يهديها إليّ رجاء أن

21 - إبراهيم بن محمد بن عرفة

أضاعف لها ثمنا، فلمّا جاءت أعلمني الخادم بذلك، فقمت مستبشرا لا فتضاضها، فوجدتها قد حاضت، فكان مني ما ترى، فأخذ شيخنا الدواة من بين يديه وكتب: [المديد] فارس ماض بحربته ... حاذق بالطّعن بالظّلم رام أن يدمي فريسته ... فاتّقته من دم بدم قلت: وقد مرّ قبل هذا في ذكر المأمون، ويحتمل أنّ الزجاج يمثل بهما. وتوفي سنة إحدى وعشرين وثلثمئة «1» . ومنهم: 21- إبراهيم بن محمد بن عرفة «13» ابن سليمان بن المغيرة بن حبيب بن المهلب بن أبي صفرة الأزدي، أبو عبد الله الملقب نفطويه النحوي الواسطي. ذو الفضائل الحسان والآداب والفضائل التي ما تمسك فيه بالأهداب، وله قريحة أكرم من الغمام، وأندى من الزهرة في الكمام. على أنه لم يخل من حاسد، ولا جاء إلا في زمن فاسد، فما بلغ مدى الاستحقاق، ولا بكّ بغير الدمع الآماق. ذكره ابن خلكان وقال: كان عالما بارعا، ولد سنة أربع وأربعين ومئتين، وقيل سنة خمس بواسط، وسكن بغداد، وتوفي في صفر سنة ثلاث وعشرين وثلثمئة، يوم الأربعاء لست خلون منه بعد طلوع الشمس بساعة. وقيل: توفي سنة أربع وعشرين. ولقّب نفطويه على

22 - أبو بكر ابن القاسم بن محمد بن بشار الأنباري

مثال سيبويه؛ لأنه كان ينسب في النحو إليه، ويجري على طريقته ويدرس كتابه، وأنشد له قوله: [الكامل] قلبي أرقّ عليك من خدّيكا ... وقواي أوهى من قوى جفنيكا لم لا ترقّ لمن يعذّب نفسه ... ظلما ويعطفه هواه عليكا وفيه قال أبو عبد الله محمد بن زيد الواسطي المتكلم المشهور: [السريع] من سرّه ألّا يرى فاسقا ... فليجتهد ألّا يرى نفطويه أحرقه الله بنصف اسمه ... وجعل الأرض صراخا عليه «1» وأنشد نفطويه أيضا لنفسه: [السريع] الإلف لا يصبر عن إلفه ... أكثر من يوم ويومين وقد صبرنا عنكم جمعة ... ما هكذا فعل المحبّين ومنهم: 22- أبو بكر ابن القاسم بن محمد بن بشار الأنباري «13» النحوي، صاحب التصانيف المشهورة في النحو والأدب، وساحب ذيول المفاخر المجرورة لفضائل، يروي كلّ صاديه، وترد كلّ صافيه بكل بديعة جلست مع الملاح في مقاصيرها، وهبّت مع الرياح أعاصيرها. رفضت عن المدام ختاما، وفوضت عن الغمام خياما، فهطلت

سكابا، وطلعت مع كل ناشبة «1» سحابا. قال ابن خلكان: كان علّامة وقته في الأدب، وأكثر الناس حفظا لها، وكان صدوقا ثقة ديّنا خيّرا من أهل السنّة، وصنّف كتبا كثيرة. وذكره الخطيب في تاريخ بغداد «2» وأثنى عليه. وقال: بلغني أنه كتب عنه وأبوه حيّ، وكان على ناحية من المسجد وأبوه في ناحية أخرى. وكان أبوه عالما في الأدب، موثقا في الرواية أمينا، سكن بغداد. قال القالي: كان أبو بكر الأنباري يحفظ ثلثمئة ألف بيت شاهد في القرآن الكريم. وقيل له: قد أكثر الناس في محفوظاتك، قال: أحفظ ثلاثة عشر صندوقا. وقيل: إنه كان يحفظ مئة وعشرين تفسيرا للقرآن بأسانيدها. وحكى الدارقطني أنه حضر مجلس إملائه يوم الجمعة، فصحّف اسما أورده في حديث. قال الدارقطني: فأعظمت أن يحمل عن مثله، وهممت أن أوقفه على ذلك، فلما انقضى الإملاء تقدمت إلى المستملي فذكرت له وهمه، وعرّفته صواب القول فيه وانصرفت، ثم حضرت الجمعة الثانية في مجلسه، فقال أبو بكر: عرّف الجماعة الحاضرين أنّا صحّفنا الاسم الفلاني لما أملينا حديث كذا في الجمعة الماضية، ونبهنا ذلك الشاب على الصواب، وهو كذا، وعرّف ذلك الشاب أنّا رجعنا إلى الأصل فوجدناه كما قال «3» . ولد لإحدى عشرة ليلة خلت من رجب سنة إحدى وسبعين ومئتين، وتوفي ليلة النحر سنة ثمان وعشرين، وقيل سبع وعشرين وثلثمئة. وتوفي أبوه سنة أربع وثلثمئة ببغداد، وقيل في سنة خمس.

23 - عبد الله بن جعفر بن درستويه

ومنهم: 23- عبد الله بن جعفر بن درستويه «13» ابن المرزبان، أبو محمد الفارسي الفسوي النحوي. مغامر جاز أودية الظنون، وحارب أردية المنون، وجال إذ مدّت له ميدانها السنون فشبّ عمره معه، حتى نوّر أقاح مشيبه، وأخذ شعرة من تفضيضه بعد تذهيبه، إلا أنه كبر وعمره منتهب. وبرد ولم يخمد له لهب، ولم يفقد طالب منه طول مدّته إحسانا، ولا جنى منه في غمرته إلا آسا وسوسانا «1» ، وخفقت عليه راية الرواية، وحققت فكره ورايه، ودان لسانا متكلما وبنانا. لازمه الفن متسلما وعرى حين دنا حينه «2» من برديه، ولم يعد من فوائد منكب، ولا علا بأحد معه منصب، فمذ مات تساوى الناس، وتشابهت الأعضاء بذهاب الراس. روى عن المبرد، وعبد الله بن سلمة بن قتيبة، وقدم بغداد شابا وسكنها، وتصانيفه في غاية الجودة، منها: تفسير كتاب الجرمي، وكتاب الهجاء، هذا من أحسن كتبه، ومعاني الشعر، وشرح الفصيح، وغريب الحديث، والردّ على ثعلب في اختلاف النحويين، وتصانيف أخر ذكرها القفطي «3» . ولد سنة ثمان وخمسين ومئتين. وكان شديد الانتصار لمذهب البصريين في المذهب والنحو واللغة، وهو من مسند المحدّثين.

24 - الحسن بن عبد الله بن المرزبان السيرافي

روى عنه جماعة من الحفاظ كالدارقطني وابن المظفر شاهين وابن مسندة وابن رزقويه، وأبي علي بن شادان، ووثّقه ابن مسندة وغيره. وتوفي في صفر سنة سبع وأربعين وثلاثمئة. ومنهم: 24- الحسن بن عبد الله بن المرزبان السيرافي «13» النحوي، المعروف بالقاضي أبو سعيد، نزيل بغداد. صنو البحر الذي هو سور سيراف، وذيل بلده الممتد الطراف. علّامة العلما، وغمامة السما، وشمس النهار المشرقه، وسحابة الأنواء المغرقه. تجلى بالورع ولبس التقى، وادّرع فلم يكن بمشتبه، ولا رئي مثله هاجع ولا منتبه. قال ابن خلكان: سكن بغداد وتولى القضاء بها نيابة عن أبي محمد بن معروف وكان من أعلم الناس بنحو البصريين، وشرح كتاب سيبويه، وأخذ اللغة عن ابن دريد، والنحو عن ابن السرّاج، وكان الناس يشتغلون عليه في عدّة فنون في القرآن الكريم، وفي علومه، وفي النحو واللغة والفقه والفرائض والحساب، والكلام والشعر والعروض والقوافي. وكان نزها عفيفا جميل الأثر، حسن الأخلاق، وكان معتزليا، ولا يظهر ذلك عليه. وكان لا يأكل إلا من كسب يمينه، ينسخ ويأكل منه. وكان أبوه مجوسيا اسمه بهزاد، فأسلم، فسمّاه ابنه عبد الله. وكان كثيرا ما ينشد في مجالسه: [الكامل المرفل] اسكن إلى سكن تسرّ به ... ذهب الزمان وأنت منفرد ترجو غدا وغد كحاملة ... في الحيّ لا يدرون ما تلد

25 - الحسن بن أحمد بن عبد الغفار

وكانت بينه وبين أبي الفرج الأصفهاني صاحب الأغاني ما جرت العادة بمثله بين الفضلاء من التنافس. فقال أبو الفرج فيه: [الخفيف] لست صدرا ولا قرأت على صد ... رولا علمك البكيّ بشاف لعن الله كلّ نحو وشعر ... وعروض يجيء من سيراف وتوفي يوم الاثنين، ثاني رجب سنة ثمان وستين وثلاثمئة ببغداد، وعمره أربع وثمانون سنة «1» . ومنهم: 25- الحسن بن أحمد بن عبد الغفار ابن محمد بن سليمان بن أبان، أبو علي الفارسي «13» الفسوي النحوي، رجل خط بيراعه، وحطّ الصبح عن قناعه، وكفّ الدهر عن قراعه فلفّ المجد في ملائه، وخفّ الوفد إلى آلائه. وسعت إليه الزمر، وسعدت لديه بالثمر، وجاءته الوفود، وتزاحمت لديه على الورود. وصدرت عنه الركائب وقد أودعت «2» حقائبها طيبا وحقائقها ما كان لسقام الأفهام طبيبا. وكان على هذا لا يسلم من لسان حاسد وثالب حاشد، وثباته على هذا عجب، وإثباته في أهل التقدم قد وجب. قال ابن خلكان: ولد بمدينة فسا، واشتغل بمدينة بغداد، وكان إمام وقته في علم النحو. ودار البلاد، وأقام بحلب عند سيف الدولة بن حمدان مدة وجرت بينه وبين المتنبي مجالس،

ثم انتقل إلى بلاد فارس، وصحب عضد الدولة بن بويه، وتقدّم عنده، وعلت منزلته؛ حتى قال عضد الدولة: أنا غلام أبي علي الفسوي في النحو. وصنّف له كتاب الإيضاح والتكملة في النحو. ويحكى أنه كان يوما في الميدان بشيراز، يساير عضد الدولة فقال له: لم انتصب المستثنى زيدا؟ فقال له عضد الدولة: هلّا رفعته، وقدرت الفعل، نحو: امتنع زيد، فانقطع أبو علي «1» ، وقال له: هذا الجواب ميداني، ثم إنه لمّا رجع إلى منزله وضع في ذلك كلاما، وحمله إليه فاستحسنه. وذكر في الإيضاح، أنّه بالفعل المقدّم بتقوية إلّا. وحكى أبو القاسم أحمد الأندلسي، قال: جرى ذكر الشعر بحضرة أبي علي وأنا حاضر، فقال: إني لأغبطكم على قول الشعر فإن خاطري لا يوافقني على قوله، مع تحقيقي العلوم التي هي مراده، فقال له رجل: فما قلت قط شيئا منه؟ قال: ما أعلم أن لي شعرا إلا قولي في الشيب: [الوافر] خضبت الشّيب لمّا كان عيبا ... وخضب الشّيب أولى أن يعابا ولم أخضب مخافة هجر خلّ ... ولا عيبا خشيت ولا عتابا قال ابن خلكان: «وقد أخذ في ذكره وبالجملة، فهو أشهر من أن يذكر فضله، ويعدّد. وكان متهما بالاعتزال» . ومولده سنة ثمان وثمانين ومئتين، وتوفي لسبع عشرة ليلة خلت من أحد الربيعين، سنة سبع وسبعين وثلاثمئة ببغداد. وفسا من بلد فارس «2» .

26 - أبو الحسن علي بن عيسى بن عبد الله الرماني

ومنهم: 26- أبو الحسن علي بن عيسى بن عبد الله الرمّاني «13» الورّاق، المعروف بالإخشيدي رجل صفو زلاله لم يكدر، وصنو حلال عليه لم يقدر، ورد العلّ والنهل «1» ، وجرى الناس وراءه وهو على مهل. وكم سبح في بحره السماكان، وما فيهما اسم كان، إلى [أن] فتل غارب الشارق، وفعل ابن ذكا «2» في المشارق. وقبس منه الضرام وأضاء نهاره، وغيّره بخيط في الظلام. كان إماما في علم العربية، علامة في الأدب في طبقة أبي علي الفارسي، وأبي سعيد السيرافي. أخذ عن ابن السرّاج وابن دريد والزجاج. وله تصانيف في جميع العلوم، من النحو واللغة والنجوم والفقه والكلام على رأي المعتزلة. وكان يمزج كلامه في النحو بالمنطق؛ حتى قال أبو علي الفارسي: إن كان النحو ما يقوله الرماني فليس معنا منه شيء، وإن كان النحو ما نقوله نحن فليس معه منه شيء. وكان يقول «3» : النحويون في زماننا ثلاثة: واحد لا يفهم كلامه وهو الرماني، وواحد يفهم بعض كلامه وهو أبو علي الفارسي، وواحد يفهم جميع كلامه بلا أستاذ وهو السيرافي. وقال القاضي أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي «4» : سمعت شيخنا الرماني يقول، وقد

27 - محمد بن الحسين بن محمد بن عبد الوارث الفارسي

سئل فقيل له: لكل كتاب ترجمة، فما ترجمة كتاب الله عزّ وجلّ؟ فقال: (هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ، وَلِيُنْذَرُوا بِهِ «1» ) . وقال أبو حيان التوحيدي: سمعت عليّ بن عيسى يقول لبعض أصحابه: لا تعادين أحدا وإن ظننته أنه لن ينفعك، فإنه لا تدري متى تخاف عدوّك أو تحتاج إليه، ومتى ترجو صديقك أو تستغني عنه. وإذا اعتذر عدوك فاقبل عذره، وليقلّ عتبه على لسانك. ومما تمثل به، وقد شتمه بعض سائليه عن مسائل أجاب عنها بما لا وصل إلى ذهن السائل: [الوافر] ولولا أن يقال هجا نميرا ... ولم يسمع لشاعرها جوابا أغبنا عن هجاء بني كلاب ... وسوف يشاتم النّاس الكلابا قال التنوخي: وممن ذهب في زماننا إلى أن عليا أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلّم من المعتزلة أبو الحسن الرمّاني الإخشيدي، ولعلّه كان تلميذ ابن الإخشيد المتكلم، أو على مذهبه. توفي في جمادى الأولى سنة أربع وثمانين وثلاثمئة، في خلافة القادر بالله «2» . ومنهم: 27- محمد بن الحسين بن محمد بن عبد الوارث الفارسي «13» النحوي، أبو الحسين ابن أخت أبي علي الفارسي. رجل تنقل في الارض تنقّل السحاب، وتوقّل «3» الذرى توقّل العقاب. وخاطر في اقتحام المهامه، وخاض غمرات الموت المشابه، ولم

28 - أبو منصور عبد الملك بن أحمد بن إسماعيل الثعالبي

يهب جنح الدجى، ولا وقف دون مرتجى. فطوى البيد ونشرها، وساق البدر ونحرها حتى جال في القلوب، وجاب أكثر ما تحت السماوات، وسمابه الدهر حتى قرع باب السلطان، وولج سماه وابتهج نعماه، وحصل أضعاف ما تجرّه الموارث وساد فوق سؤدد آبائه وجدّه عبد الوارث. وكان أحد أفراد الدهر وأعلام الفضل. وهو الإمام في النحو بعد خاله، وعنه أخذ حتى استغرق علمه واستحق مكانه. أوفده خاله على الصاحب بن عباد، فأكرم مورده ومصدره، ونال منه أو فر حظ، ثم ورد خراسان، وأملى بنيسابور الأدب، ثم قدم على صاحب خوزستان وحظي عنده ثم رجع إلى غزنة ثم أتى نيسابور وأقام بأسفدانين ثم استقر بجرجان، وأخذ عنه أهلها فضلا كثيرا. ومن تلاميذه عبد القاهر الجرجاني. وتوفي سنة إحدى وعشرين وأربعمائة. ومن شعره قوله: [الكامل] ومطهّم ما كنت أحسب قبله ... أنّ السّروج على البوارق توضع فكأنما الجوزاء حين تصوّبت ... لبب «1» عليه والثّريا برقع «2» ومنهم: 28- أبو منصور عبد الملك بن أحمد بن إسماعيل الثعالبي «13» جامع أدب ما ترك، وسامع طرب لا يملك معه الحرك. ألف كتاب اليتيمة، وتصرف بها في سحاب دررما لها قيمة. جمع فيها فأوعى، لكن من مسك الحقائب، واستدعى لكن غرر الغرائب. وضمن فيها ذكر من لا شبهة في فضله، وضم الشيء إلى مثله، وأبدع في تأليفه، وشرع به منهجا جاء الدوح المثمر في لفيفه، والروض المزهر في

تفويفه «1» ، والدرّ الثمين في ترصيفه، والشهب الرقى هنّ في تصنيفه، والقمر والهلال وهما لا يبلغان مدى مدّه، ولا تصنيفه بكلام تنكل السيوف عن حدّ مقوله، وتكل الأفهام في نسيج تأوّله، وتنكر لوامع البرق أن تقاس بتطوله، وتذكر الأيام لا بل نجوم الظلام. ولا تجاري نسبة الثعالبي ثعلب فخره ولا سرحان. أو له معجز يتحدى به على البلغاء ولا يغلب، وموجز يعطي من طرف اللسان حلاوة، ويروغ كما يروغ الثعلب وفيها يقول ابن قلاقس: [الرجز] أبيات أشعار اليتيمه ... أبكار أفكار قديمه ماتوا وعاشت بعدهم ... فلذاك سمّيت اليتيمه «2» وقد مرّ في تراجم من تقدّم من الشعراء من كلامه ما حلي ذوقا، وتدفق نهرا شق عن مائه الفضي طوقا مما خفّ موقعه، وشفّ حتى كاد يراه من يسمعه وطفا، فالتقط الدرّ من يجمعه. ولم يبق إلا من كتبه ولوعا يحسنه، وتهافتا وهو غزير، وابتذل وهو في موضع من الضنانة حرير. فسار وما كان أحد لا عتلاقه به أخلى منه سمعه، وصار أرخص القيمة. كأنه الياسمين ما يساوي جمعه. ومن شعره المروي، بل نثره الذي لو ظفرت به ذات غيد لما ضاعت من سواه حلية سوارها الملوي. وقوله: [الرجز] إنسانة تيّاهة «3» ... بدر السّما منها خجل إذا رنا طرفي بها ... بدمع عيني يغتسل وقوله، وكتب به إلى الأمير أبي الفضل المكيالي: [الكامل] لك في المفاخر معجزات جمّة ... أبدا لغيرك في الورى لم تجمع

29 - أبو الفتح عثمان بن جني

بحران بحر في البلاغة شأنه ... شعر البلاغ وحسن لفظ الأصمعي كالنّور أو كالسّحر أو كالبدر أو ... كالوشي في برد عليه موسّع شكرا فكم من فقرة لك كالغنى ... وافى الكريم بعيد فقر مدقع وإذا يفيق بنور شعرك ناظر ... فالحسن بين مرصّع ومصرّع أرجلت فرسان الكلام ورضت أف ... راس البديع وأنت أجمل مبدع ونقشت في فصّ الزّمان بدايعا ... تزري بآثار الرّبيع الممرع «1» وقوله: [البسيط] لما بعثت فلم توجب مطالعتي ... وأمعنت نار شوقي في تلهّبها ولم أجد حيلة تبقي على رمقي ... قبّلت عينيّ رسولي إذ رآك بها «2» ومنهم: 29- أبو الفتح عثمان بن جني «13» الموصلي النحوي، صاحب التصانيف؛ ناهيك به من أعور، عينه نضّاخة «3» ، وأرضه مما تنبت سوّاخه «4» . لم ير مثله في توجيه المعاني وشدّ بيوت القصائد الوثيقة المباني. وكان أبو الطيب المتنبي إذا سئل عن معنى قاله، أو توجيه إعراب حصل فيه إغراب دلّ عليه، وقال: عليكم بالشيخ الأعور ابن جني، فسلوه فإنه يقول ما أردت، وما لم أرد. ما أبقى له نهدا وفخرا بمثله يتميز، وبفضله يتعزّز. قال ابن خلكان: كان إماما في علم العربية، وقرأ الأدب على أبي علي الفارسي ثم قعد

30 - أبو الحسن علي بن أحمد بن علي بن متويه الواحدي

للإقراء بالموصل، فاجتازبه شيخه فرآه، فقال له: زببت وأنت حصرم. فترك حلقته وتبعه، ولازمه حتى تمهّر. وكان أعور. وفي ذلك يقول: [المتقارب] صدودك عنّي ولا ذنب لي ... يدلّ على نيّة فاسده فقد وحياتك مما بكيت ... خشيت على عيني الواحده ولولا مخافة أن لا أراك ... لما كان في تركها فائده وسأل شخص المتنبي، فقال: كيف أتيت الأدب في قولك: باد هواك صبرت أم لم تصبرا «1» ؟ فقال: لو كان هناك ابن جني أبو الفتح لأجابك. وولد قبل الثلاثين والثلاثمائة بالموصل. وتوفي لليلتين بقيتا من صفر سنة اثنتين وتسعين وثلاثمئة «2» . ومنهم: 30- أبو الحسن علي بن أحمد بن علي بن متّويه الواحدي «13» صاحب التفاسير المشهورة. نجمه ما غرب، وسهمه موفّى لا من نبع ولا غرب. وشب كما شبّ الغلام؛ حتى افترّ له ثغر السؤدد وابتسم، واستهم على الفضل واقتسم؛ فما ثقل بيت عارضه إلا وقد نبت نباتا حسنا، وثبت ثباتا يجعل له الجوارح ألسنا وقنا. أقلت آثاره

السهوب والسهول، وعلت به شباب تسامت للعلى وكهول. قال ابن خلكان: كان أستاذ عصره في النحو والتفسير، ورزق السعادة في تصانيفه. وأجمع الناس على حسنها، ومنها البسيط والوسيط، وشرح ديوان المتنبي شرحا مستوفى. ليس في شروحه مع كثرتها ملّة. وذكر فيه أشياء غريبة منها أنه قال في شرح هذا البيت وهو: [الكامل] وإذا المكارم والصّوارم والقنا ... وبنات أعوج كلّ شيء يجمع تكلم على هذا البيت فقال: أعوج، أنه فحل «1» كريم كان لبني هلال بن عامر، وأنه قيل لصاحبه: ما رأيت من شدّة عدوه؟ قال: ضللت في بادية وأنا راكبه، فرأيت سرب قطا يقصد الماء فسقته، وأنا أغضّ «2» من لجامه حتى توافيا الماء دفعة واحدة وهذا أغرب شيء يكون؛ فإن القطا شديد الطيران، وإذا قصد الماء اشتدّ طيرانه أكثر من غيره قصد الماء، ثم ما كفى حتى قال: كنت أغضّ من لجامه، ولولا ذلك لكان يسبق القطا وهذه مبالغة عظيمة. وإنما قيل له أعوج؛ لأنه كان صغيرا وقد جاءتهم غارة، فهربوا منها وطرحوه في خرج «3» ، وحملوه لعدم قدرته على متابعتهم لصغره، فاعوجّ ظهره من ذلك، فقيل له أعوج. وهذا البيت من جملة القصيدة التي رثا بها فاتكا «4» المجنون. وكان الواحدي المذكور تلميذ الثعلبي صاحب التفسير. وتوفي في جمادى الآخرة سنة ثمان وستين وأربعمائة بنيسابور «5» .

31 - الشريف الشجري

ومنهم: 31- الشريف الشجري «13» أبو السعادات هبة الله بن علي بن محمد بن حمزة الحسني. مطبل «1» غرر وسمات، ومزيل حسنات من سيئات. كان يتيما يرتع في ميدانه، ويربع على أخدانه، إذا به قد قطب، وتنكر، ورأى منه ما ينكر؛ ولكل امرئ نفسان، والخير والشر في اللسان، إلّا أنه كان علما، وكان وجود الناس سواه عدما؛ لفواضل كأنما جعلت رزقا للنسيم أو حقّا له منه أوفر القسيم. قال ابن خلكان: كان إماما في النحو واللغة، وأشعار العرب وأيامها وأحوالها، كامل الفضائل، متضلعا من الآداب. صنّف فيها عدّة تصانيف أكثرها وأجلّها كتاب (الأمالي) ، وهو من الكتب الممتعة. ولمّا فرغ من إملائه، حضر إليه ابن الخشاب، والتمس منه عليه فلم يجبه إلى ذلك، فعاداه وردّ عليه في مواضع منه، ونسبه فيها إلى الخطأ. فوقف عليها الشريف، فردّ عليه ردة، بيّن وجوه غلطه في كتاب جمعه، وسمّاه (الانتصار) . وهو على صغر حجمه مفيد جدا. وكان حسن الكلام، حلو الألفاظ فصيحا، جيّد اللسان والتفهيم. وقرأ الحديث بنفسه على جماعة من المتأخرين، مثل أبي الحسن المبارك بن عبد الجبار الصرفي وابن شهاب الكاتب، وغيرهما. وذكره السمعاني في الذيل، وكان الشريف أبو السعادات ينوب عن والده الظاهر في النقابة بالكرخ، وله شعر حسن، ومنه قوله: [الكامل]

هذي السّديرة والغدير الطافح ... فاحفظ فؤادك إنني لك ناصح يا سدرة الوادي الذي إن ظلّه ال ... سّاري هداه نشره المتفاوح هل عائد قبل الممات لمغرم ... عيش تقضّى في ظلالك صالح ما أنصف الرّشأ الضّنين بنظرة ... لّماّ دعا مصغي الصّبابة طامح شطّ المزاربه وبوّأ منزلا ... بصميم قلبك فهو دان نازح غصن يعطّفه النّسيم وفوقه ... قمر يحفّ به ظلام جانح وإذا العيون تساهمته لحاظها ... لم يرو منه النّاظر المتراوح ولقد مررنا بالعقيق فشاقنا ... فيه مراتع للمها ومسارح ظلنا به نبكي فكم من مضمر ... وجدا أذاع هواه دمع سافح مرت «1» الشؤون رسومها فكأنما ... تلك العراص المفقدات نواضح يا صاحبيّ تأمّلا حيّيتما ... وسقى دياركما الملثّ «2» الرايح أدمىّ بدت لعيوننا أم ربرب ... أم خرّد «3» أكفالهن رواجح أم هذه مقل الصوار «4» رنت لنا ... خلل البراقع أم قنا وصفائح لم تبق جارحة وقد واجهتنا ... إلا وهنّ بصيدهنّ جوارح «5» كيف ارتجاع القلب من أسر الهوى ... ومن الشّقاوة أن يراض القادح لو بلّه من ماء ضارج «6» شربة ... ما أثّرت للوجد فيه لواقح ولد في رمضان سنة خمس «7» وأربعمائة، وتوفي يوم الخميس، السادس والعشرين من

32 - ابن الخشاب عبد الله بن أحمد بن أحمد

رمضان، سنة اثنتين وأربعين وخمسمئة. وعندي ما ذكره ابن خلكان في مدة عمره نظر؛ فإنه قلّ أن يبلغ أحد هذا المدى من العمر في زماننا الأخير، الواقع في خطّه العمر القصير «1» . ومنهم: 32- ابن الخشّاب «13» عبد الله بن أحمد بن أحمد النحوي، تنكرت المعارج حتى أزاح شهبها، وأزال سمومها، وأزار الألباب نزهها، ففتح المغلق وأقاد الصعاب وأفاد الصحاب. وكان ندى يتفجر لآلا، ولا تعرف أيامه زوالا. وشقّ البحر وراءه والتطم، وبلغ السيل آثاره وارتطم. ورجع خلفه السحاب بغيظه محنقا، والبرق بناره محرقا. فما نهنه «2» في طلب، ولا رهزه لطرب، إلى أن فصّل عليه الكفن. ولم يشك أن ضافيه للشمس قد دفن. قال صاحب بغية الألباء: كان غاية في الذكاء والفهم، آية في علم العربية خاصة، وفي سائر العلوم كافة. ورأيت قوما من نحاة بغداد يفضّلونه على أبي علي الفارسي. زعموا أنه كان يعرف ما عرف أبو علي، وزاد عليه في علم الأدب وغيره؛ لتفنّنه في جميع العلوم. قد سمع حديث النبي- صلى الله عليه وسلّم- وأكثر تفهّمه، وعرف صحيحه وسقمه، وبحث عن أحكامه وتبحّر في علومه. ورأيت بخطه كثيرا من كتب الحكمة. وكان حسن السيرة، سالكا طريقة الأوائل في هديه وسمته؛ لا يتكلف في شيء من أمر ملبوسه

وهيئته. وإذا سمعت كلامه ظننته عاميّا لا يفقه شيئا. وكان مع ما شاع من فضله مشتهرا بلعب الشطرنج. وكان رؤساء زمانه ووزراء وقته يودّون مجالسته، ويتمنون محاضرته، فيتركهم ويمضي إلى حريف «1» له زنجي قبيح الصورة سمج الألفاظ، يعرف بشنشل، فيجلس معه على قارعة الطريق في بعض الدكاكين، ويلاعبه ويسافهه، ويهزأ به، أو يمضي إلى الرحبة أو شاطىء دجلة فيقف على الخلق وأرباب الحكايات والشعبذة وما ناسبهم؛ فكان إذا لاموه على ذلك يقول: إنه يندر منهم نوادر لا يكون أحسن ولا ألطف منها، وصحة قرائحهم وتصدّيهم لما هم بصدده. وكان مع ذلك لا يخلو كمّه من الكتب وأنواع العلوم. فكان بينما هو يمشي في الطريق يخطر له قراءة شيء، فيجلس كيف اتّفق، ويخرج الدفاتر فيطالع فيها. وكان يعتم العمّة فتبقى أشهرا معتمة حتى تتسخ أطرافها من عرقه فتسودّ. وكان إذا رفعها عن رأسه ثم أراد لبسها تركها على رأسه كيف اتفق. فتارة عدّيتها تلقاء وجهه، وتارة عن يمينه وتارة عن شماله فلا يغيّر. فإذا قيل له في ذلك، قال: ما استوت العمّة على رأس عاقل، هذه كانت حجته. وكان الوزير ابن هبيرة «2» يلومه على تبذله فلا يلتفت إليه، ولا يتغيّر عن سجيّته. وما حلّت عليه ودام لا يصغي للائم، ولا ينقاد لمناف ولا ملائم. ومن نوادره [أنّ] بعض من كان يحضر مجلسه، قال له يوما: القفا، يقصر، أو يمدّ؟ ومنها: أن الكمال عبد الرحمن الانباري لمّا صنّف كتاب (الميزان) في النحو، وعرض على ابن الخشاب، قال: احملوا هذا الميزان إلى المحتسب ففيها عين «3» . ومنها: أنه كان يوما في داره في وقت القيلولة، والحرّ شديد وقد نام؛ إذ طرق الباب عليه

طرقا مزعجا، فانتبه وخرج مبادرا، وإذا رجلان من العامة، فقال: ما خطبكما؟ فقالا: نحن شاعران، وقد قال كلّ منّا قصيدة. وزعم أنها أجود من قصيدة صاحبه، وقد رضيناك. فقال: لينشد أحدكما. قال: فأنشد أحدهما وهو مصغ إليه، فلمّا فرغ منها همّ الآخر بالإنشاد. قال ابن الخشاب: على رسلك، شعرك أجود. فقال: كيف خبرت شعري ولم تسمعه؟ فقال: إنه لا يمكن أن يكون شيء أنحس من شعر هذا. قال أبو محمد بن الخشاب: خرجت من الحلّة «1» السيفية قاصدا زيارة مشهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وكان في الصحبة رجل من سكّان المشهد يعرف بابن الشوكية، علويّ، فنزل بنا على بطن من خفاجة؛ ليستصحب معنا منهم خفيرا. فأكرموا نزلنا، وجاء منهم في الليل صبيّ، ما أظنّه بلغ سبعا، وعليه آثار مرض قد نهكه، فسلّم علينا. فقال له العلوي: ما بك يا فلان؟ وسمّى الصبي. فقال مجيبا له: في أنّ لي مدّة أجهد وأمعد، يريد بأجهد، أفعل، من قولك: رجل مجهود، من جهد الحمّى. وأمعد، أن يصيبني وجع في المعدة. فقال: معّد، فهو ممعود، كما يقال: كبد فهو مكبود، إذا أصاب كبده مرض. وكذا: فهد فهو مفهود. وباقي الأعضاء. وكذا يقال فيمن أصيب هذا العضو منه برمية، فقال: أميديّ أم مرجول، أي: أصيبت يده أم رجله. فتعجبت من فصاحة الصبي. وكان في الرفقة شيء من أهل المشهد، فسمعته، وقد أعيا من السير يقول لعبد له: يا مقبل فرّكني. فقلت لبعض من معنا: ما معنى قوله فرّكني؟ فقال: يريد اغمزني ليزول تعبي. فقلت: لا إله إلا الله، خالق ذلك الصبي وهذا الشيخ واحد، فكم بين اللسانين والسنّين. وكان أبو محمد يؤدب أولاد المستنجد المستضيء، وأخاه الأمير أبو القاسم، فكان يشدّ

عليهما في التعليم، فلمّا أفضى الأمر إلى المستضيء رضي ابن الخشاب أن يخلص منه رأسا برأس؛ وذلك أنه كان يظهر منه تفضيل أخيه عليه، فلم يذكره بنفسه. قال العادل مسعود بن يحيى بن النادر: كنت يوما بين يدي المستضيء فقال لي: كلّ من نعرفه قد ذكرنا بنفسه، ووصل إليه برّنا إلا ابن الخشاب، فما خبره؟ فاعتذرت عنه بعذر، أقصاه الحال، ثم خرجت فعرّفت ابن الخشاب ذلك. فكتب إليه هذين البيتين: [الكامل] ورد الورى سلسال جودك فارتوى ... فوقفت دون الورد وقفة حاتم ظمآن أطلب خفّة من زحمة ... والورد لا يزداد غير تزاحم قال ابن النادر: فأخذتها منه وعرضتها على المستضيء، فأمر له بمائتي دينار. فقال: لو زادنا لزدناه. وأنشد لنفسه: [الكامل] أفديه من متعتّب متجنّب ... قد ضنّ حتّى بالخيال الطّارق ما زال يمطلني بوعد كاذب ... حتّى تكشّف عن صدود صادق واجتمع جماعة من الحنابلة بمسجد ابن شافع، يسمعون كتاب ابن مندة في فضائل أحمد بن حنبل ومحنته في القرآن، وما جرى له مع الخلفاء من بني العباس، فذمّومهم ولعنوهم، وذمّوا فلانا وفلانا. وكان الكتاب يقرأ على ابن الخشاب، فأنكر عليهم إنسان دمشقي فقيه، وقال: هذا لا يجوز يلعنون أئمة المسلمين وفقهاء الدين. فقاموا إليه وسبّوه، وهمّوا به. ووصل الخبر إلى الخليفة، فتقدم إلى حاجب الباب يأخذهم، وأخذ ابن الخشاب وأن يركبوا بقرا ويشهروا في البلد. فقبض على جماعة منهم، وهرب ابن الخشاب، فلحق بالحلة إلى أن شفع فيه، فعاد، فقال ابن الخشاب في غيبته: [الوافر] إذا دار السّلام نبت بمثلي ... فحبّبت السّلامة والسّلاما ولا جرت الصّبا إلا سموما ... وهبّت [من] سحائبها شماما «1»

ومن شعره قوله في زعيم الدين ابن جعفر، صاحب المخزن، وكان قد ورد من مكة يعتذر فيها عن تأخره عن قصده بطريق مرض عرض له في دجلة: [الطويل] لئن قعدت بي عن تلقّيك علّة ... عدوت بها جلسا لربعي من شهر رمتني في رجلي بقيد تقاصرت ... خطاي له والقيد ما زلال ذا قصر إذا قلت قد أفرقت «1» منها تجدّدت ... فأودى بها نهضي وهيض «2» بها كسري فما قعدت عنّي دعاء أفيضه ... ولا قصرت عنّي ثناء وعن سكري قدمت علينا مثل ما قدم الحيا ... على بلد ميت فقير إلى القطر فأصبح مغبرّ البلاد منوّرا ... به زهر غضّ كأخلاقك الزّهر وعدت وبالبيت الحرام صبابة ... إليك وبالرّكن المعظّم والحجر وقد صحب الحجّاج منك مباركا ... عزيز النّدى طلقا محيّاه ذا بشر أخا كرم إن أخلف الغيث أخلفت ... يداه بمنهلّ من البيض والصّفر فملكهم مثن عليك وشاكر ... لنعماك معمور بنائلك الغمر خصصتك بالمدح الذي أنت أهله ... لجاهك من صدر امرئ ناحل الصّدر وأيسر ما أخفيه ما أنا مظهر ... فدع عنك شعري جلّ قدرك عن شعري وقوله فيه وقد ورد كتابه من فيد: [الوافر] فإن تك محرما من ذات عرق ... فقد حرّمت غمضي بالعراق شمائلك الشّمول فكيف تقضي ... فروض الحجّ بالكأس الدّهاق وأنت الطّيب إن صافحت كفّا ... تحلّل محرما بدم مراق ولما جاءت البشرى بكتب ... وكانت كالقميص على الحداق ضممت إلى الفؤاد كتاب فيد ... فضاعف برده حرّ اشتياقي فخبّر بالسّلام فثمّ بين ... بأنّ الماء ضاق على الرّفاق

33 - أبو نزار الحسن بن أبي الحسن ملك النحاة

وكيف يضيّق ماء عن حجيج ... وسحب نداك غيث ذو انبعاق سلمت على الأنام ولي خصوصا ... وحاطك رافع السّبع الطّباق ومنهم: 33- أبو نزار الحسن بن أبي الحسن ملك النحاة «13» النحوي. وشيخ الأوشاخ «1» وصبيّ العقل وقد شاخ. طلع من القدر، وطبع من المقدر. وأيّ منه نوع وحي حيوان. عجيب لا يدخل عقله في حدّ، ولا يحصى جهله بعد. لو عجب أحد عليه، ونادى هلمّوا إليه لأتي الناس إليه إتيان الحجيج، ولم يسمع ما حوله من الضجيج، ورأوا عجبا ما رأوا مثله، ولا جاء نظير مثله. وكان له قطّ، له معه أسمار، وأحاديث يتحاكاها السمّار. وسيأتي من خبره وخبر قطّه العجب العجاب ويعرف به غدر القطاط إذا هرّت على الكلاب، إلى غير هذا من قلّة عقله وكثرة جهله، وسوء حركاته وفعله. وما لا ينكر من حاله ولا يتعجب من محاله. فشكرا لقبر أزاح معاينه، وأراح معاتبه. فلقد جبر القبر ذلك القبر المنهاض «2» ، وغطّى التراب ذلك الذي ما رمي في المرحاض؛ لكن التراب لم يوار سوءته، ولا أذهب هفوته. فعجبا لدود أكله كيف ما قاه! ولقبر حلّ فيه كيف ما كره بقاه! فجوزيت تلك العظام النخرة، وتلك النفس المفارقة لتلك الجيفة القذرة. وقال فيه العماد الكاتب: أحد الفضلاء المبرزين؛ بل واحدهم فضلا، وماجدهم نبلا،

وكبيرهم قدرا، ورحيبهم صدرا. قد غلبت عليه سمة ملك النحاة، وشهدت بفضله ألسن خلّانه، والعداة. سمح البديهة في المقاصد النبيهة. كثير الأبيّة «1» عن المطامع الدنيّة بالمطالب النزيهة، والمراتب الوجيهة. ولقد كانت تحاببه تحبيبة للنحاة بضاعة وافية، وبراعة براعته للكفاة كافية. يأخذ القلم فيمشق الطرس في عرضه نظما يعجز، ونثرا يعجب ونكتا ترقص ونتفا تطرب. طرق بلاد العجم، ولقي كرما [في] كرمان، ووصل إلى أصبهان. وكان مطبوعا مناسب الأحوال والأعمال. تحكم على أهل التمييز بحكم ملكه، فيقبل ولا يستثقل. يقول: هل سيبويه إلا من رعيتي وحاشيتي، ولو عاش ابن جني لم يسعه إلا حمل غاشيتي «2» ، مرّ الشيمة، حلو الشتيمة. يضمّ يده من الذهب على المئة والمئتين، ويمشي منها وهو صفر اليدين. مولع باستعمال الحلاوات السكريه. وإهدائها لجيرانه وإخوانه، مغرى بإحسانه إلى خلصائه وخلّانه. وقد ناهز الثمانين، ولقي العرانين «3» . وجرّب الغثّ والسمين، وقد وصلت إليه خلعة مصرية وجائزة سنيّة، فأخرج القميص الدّبيقي «4» إلى السوق فبلغ دون عشرة دنانير. فقال: قولوا هذا قميص ملك كبير، أهداه لملك كبير؛ ليعلم الناس قدره فخلّوا عليه البدر على البدار «5» ، وليحلوا قدره في الأقدار، ثم قال: أنا أحقّ به إذا جهلوا حقّه، وتنكّبوا سبل الواجب وطرقه. قال العماد الكاتب: كتب إلي لمّا أخذت المدرسة بدمشق: أنا أهنئ تلك المدرسة

بخصائص فلان، فإنها زالت عنها ظلمة الجهل إلى نور الفضل، وأنا بمشيئته وحسن توفيقه على عزم المسير إلى زيارته يوم الثلاثاء. [الخفيف] فارتقب أيّها العماد حضوري ... وانتظر أن أزور يوم الثّلاثا وارض بالعالم الوليّ ودع ... حبل المعالي يا ذا العلا أنكاثا «1» والجانب الغربي، معتد لي بهذه، إلى أن أحضر؛ لأخدم فضله. قال: وكتب إليّ أبياتا ومعها رقعة إلى نور الدين فيها: [السريع] قولوا لنور الدّين يا مالكا ... إنعامه قام إلى النّاس لا تنسني يا ذا العلا والنّهى ... حاشاك أن توسم بالياس «2» أو حشني الدّهر وأنباؤه ... فاختر لك الخير بإيناسي والرقعة أولها شكرت اهتمام فلان وسعيه، واعتذرت إليه من التصديع، ولكن نيّته وفضله يحثانه على احترام الفضل؛ فليس لغيره، وقد أثّرت فيّ الشيخوخة والكبر، ولولا ذلك لقصدت خدمته، وقد قال الأول: وما بقي في المستمتع إلا لساني وكفاني لسان. والأبيات: [السريع] قل لعماد الدّين يا كاتبا ... يفزع من أقلامه (الصابي) «3» وشاعرا الفاظه عذبة ... إن كان لفظ الغير كالصّاب «4» ويا فقيها راميا خصمه ... في الحفل إن جاثى بأوصاب «5» قد كنت قبل اليوم أشعرتني ... بأن نور الدين أوصى بي فأوصل المكتوب لي واستعض ... من فرط إجداب وإخصاب

وكتب إليّ: [السريع] قل لعماد الدّين وهو الّذي ... يمتّ بالفقه وبالشّعر وإنّه يخجل إنشاؤه ... الصابئي ذا المجد والفخر لا تنس حقّ العالم الأوجد ال ... ناجح بالنظم وبالنّثر فإنني مثن على فضل ... ك الباهر في سرّ وفي جهر ألا فاسعد وابق ما رجّعت ... صادحة في وضح الفجر وكتب إليّ وقد طلب منّي السكّر فأبطأ عليه: [السريع] قل لعماد الدين عنّي إذا ... رأيته في بهرة الحفل ضننت بالسكّر يا من له ... سنّة فرض الفعل والنفل فاستدرك الفارط «1» واسلم إذا ... ما صدحت ورقاء في أثل «2» قال: ومكتوباته إليّ كثيرة؛ وإنّما أوردت هذه اللّمعة ليستدلّ بها على مذاهبه، ومآربه ورغائبه وغرائبه «3» . وقد ذكره ابن المستوفي، وفيما قال: إنه ولد ببغداد سنة تسع وثمانين وأربعمائة، وقرأ العلوم، وسمع من الشريف أبي طالب الزيتي، وقرأ علم المذهب على الشيخ أحمد الأسنهي، وقرأ علم أصول الدين على أبي عبد الله المغربي القيرواني، وقرأ أصول الفقه على ابن برهان، وقرأ علم الخلاف على أسعد المهيني. وقرأ النحو على الفصيح الاسترابادي وقرأ الفصحى على عبد القاهر الجرجاني وفتح له الجامع، ودرّس فيه، ثم سافر إلى بلاد خراسان وكرمان وغزنة، ثم دخل إلى الشام، ثم قدم دمشق وخرج منها ثم عاد إليها واستوطنها إلى أن مات بها. وذكر مصنفاته في النحو والعروض والفقه على مذهب الشافعي والأصول. وذكر أن له ديوان شعر، ومنه في المديح الشريف النبوي، زاده الله شرفا، قوله: [البسيط]

لله أخلاق مطبوع على كرم ... ومن به تشرف العلياء والكرم أغرّ أملح يسمو عن مساجلة ... إذا تذوكرت الأخلاق والشّيم سمت علاك رسول الله فارتفعت ... عن أن يشير إلى آياتها قلم يامن رأى الملأ الأعلى فراعهم ... بالعزّ وهو على الكونين يحتكم يا من له دانت الدّنيا وزخرفت (م) ... الأخرى ومن بعلاه يفخر النّسم «1» يا من به عاد وجه الأرض متّضحا ... من بعد أن ظوهرت بالباطل الظلم ومن تواضع جبريل الأمين له ... ودون حقّ نهاه هذه القسم علوت عن كلّ مدح يستعاض فما ... الجلال الذي تنحوه والعظم على علاك سلام الله متّصلا ... ما شئت والصّلوات العزّ تبتسم ومنه قوله: [السريع] أراجع لي عيشي الفارط ... أم هو عنّي نازح شاحط ألا وهل يسعفني أو به ... يسمو بها نجم المنى الهابط أرفل في فرط ارتياح وهل ... يطرق سمعي هذه واسط يا زمني عدلي فقد رعتني ... حتّى عراني شيبي الواخط «2» لم أقطع البيداء في ليلة ... يقنص ظلّي خوفها الباسط أأرقب الراحة أم لا، وهل ... يعدل يوما دهري القاسط أيا ذوي ودّي أما اشتقتم ... إلى إمام حاله رابط وهل عهودي عند كفم غضّة ... أم أنا في ظنّي إذن عابط «3» ليهنكم ما عشتم واسط ... إني لكم يا سادتي غابط وحكى فتيان الشاغوري ما معناه: أن ملك النحاة كان له سنّور يألفه ويقوم به. فدأبه يطعمه ويعلفه، ويغلق عليه الأبواب خوف نفاره، ويمسح عليه بيده. لا يخاف حدّ نابه

وأظفاره. فبينما هو يوما يمر عليه بيده، ويريد أنسه وتودّده، وإذا به قد عضّه عضة زلزلت قوى الشيخ الفاضل وأنسته جميع الفضائل. فربطها بمنديل عظيم وتصدّى للعواد، وأضحك عليه حتى لم يبق مع أحد فؤاد. فقال فيه قيان: [المتقارب] عتبت على قطّ ملك النّحاة ... وقلت أتيت بغير الصّواب عضضت يدا خلقت للنّدى ... وبثّ العلوم وضرب الرّقاب فأعرض عني وقال اتّئد ... أليس القطاط أعادي الكلاب فلما بلغته الأبيات غضب حتى دارت أمّ راسه، وسلّت من قحفه خيوط العلم بأمراسه؛ إلا أنه لم يدر من رماه بداهيتها الدهيا وتركه لا يبصر في ليلته العميا. فانقطعت عنه حياء أن يقع على ظنّه العروف ويعلم فيها ما بشم من نفسه المعروف. وكتبت إليه شعرا أعتذر فيه وتبيينه على أنه قد يقدر في قول سفيه فكتبت إليه: [الخفيف] يا خليليّ نلتما النّعماء ... وتنّسمتما العلا والعلاء ألمما بالشّغور بالمسجد المعمو ... رواستمطرا به الأنواء وامنحا صاحبي الذي فيه منّي ... كلّ يوم تحية وثناء ثمّ قولا له اعتبر بالذي فه ... ت به مادحا فكان سماء وقبلنا فيه اعتذارك عمّا ... قاله الجاهلون عنك افتراء وكان هذا الفاضل بحمقه وخروجه عن طرقه مضغة «1» لكل ماضغ، وشغلا لكل فارغ. يجرّب فيه كلّ أحد سيفه الكهام «2» ، ويجر إليه جيش حربه اللهّام. وفيه يقول ابن منير: [المجتث] يا نحاة الزموا الشكك «3» ... ثم حلّوا عن التكك «4»

واكشفوا عن فقاحكم «1» ... قد أتت لحية الملك لحية سرم «2» سيبويه ... عليها قد انتهك «3» وحكي أن ملك النحاة كان يكثر ذكر مصر، ويؤمل حلولها، ويودّ أن يطلّ دمه ويروي طلولها. وكان بها رجل اسمه زيد صديقا لعرقلة الدمشقي فولي بها الحسبة «4» واستغرر في متاجرها كسبه، وأتت الأخبار بروايته وحصوله على أكثر من كفايته. فداخل ملك النحاة له الحسد. وقال: لو أتيت مصر لكسد. فقال عرقلة: [مخلع البسيط] قد جنّ شيخي أبو نزار ... يذكر مصر وأين مصر والله لو حلّها لقالوا ... فقاه «5» يا زيد فهو عمرو ووقف يوما عرقلة على حلقته وقد كبّر العمامة، وطوّل أكمامه ونفش سباله وفتل من شواربه الطوال حباله. وأخذ في ذكر علم النحو، وقد شمخ يماريه الاحتيال به والزهو. فطلب عرقلة رجلا من الحلقة، فلما أتي جذبه على أنه يسرّ إليه في مقال، ثم رفع صوته وقال: [مجزوء الرّجز] قل لابن صافي الحمل ... سارق علم الجمل صدعت بالنّحو الورى ... ارحم عيال الدؤلي «6» توفي يوم الثلاثاء، تاسع شوّال سنة ثمان وستين وخمسمئة.

34 - البحراني

ومنهم: 34- البحراني «13» وهو أبو عبد الله محمد بن يوسف بن محمد بن قائد الخطيب موفق الدين. سبوق لا تردّ له سائرة «1» وسبوح لا تجري معه في دائرة. طلع والشهب في مطالعها، والسحب في مطامعها، والليالي ثغور وكواكبها مقبلة ووجنات الأيام بخضرة أسحارها مبقلة «2» . فانمحت آية الليل إذ طلع واستقام الزمان، وكان به طلع وسطع نهارا في تلك الدجنات، ونهارا يفوح في أيدي الجنّات، ثم لم يزل عليه عقد الجماعة، وعقد الخواطر للجمّاعة. فلما حمّ له أن يفارق، ويودّع وداع المفارق أبقى ما كنز، ومضى لطيته «3» وقضى بما في طويته «4» . ذكره ابن المستوفي، قال: بحراني المولد والمنشأ، إربليّ الأصل. نسب أبيه وأهله في عداد الإربيليين الآن. وكان جدّه خطيبا. وسبب مولده بالبحرين، أنّ أباه (يوسف) كان تاجرا، وكان كثير السفر إلى البحرين لجلب اللؤلؤ، فتزوج امرأة من نساية. فحدثني أحمد بن علي بن محمد البحراني الحجازي أنها كانت تدعى الصوفية، فولدت له محمدا هذا، وأقام بالبحرين إلى أن ترعرع، وماتت أمه. وخرج من البحرين فصار إلى إربل، وهو على هيئة الحفاة من العرب. وكان إماما في علم العربية، مقدّما، مفنّنا في أنواع الشعر معظما، واشتغل بشيء من علوم الأوائل. فحدثني القاضي أبو محمد جعفر بن محمد بن محمود بن هبة الله أنه حلّ

كتاب أو اقليدس على المظفر بن المظفر القارئ الطوسي من رساتيق سوس في مدة ثلاثة أشهر. ورأيته حلّ كتاب الكرة والأسطوانة على نفسه من غير توقف، وأراد حلّ كتاب المجسطي، فحل منه جملة من أوله، ثم رأى أن ثمرة هذا العلم مرّ جناها، وعاقبته مذمومة أولاها وأخراها فنبذه وراء ظهره مجانبا، ونكّب عن ذكره جانبا. وكان حسن الظّنّ بالله واكب علم النحو فبلغ منه الغاية، وجاوز النهاية، وصار فيه آية، ولم يكن أخذه عن إمام قرأه عليه، ولا تناوله من عالم أسنده إليه؛ إنما كان يحل مشكله بنفسه، ويراجع في غامضه صادق حسّه؛ حتى جرى بينه وبين أبي حفص عمر بن محمد بن علي بن أبي نصير الموصلي المعروف بابن الشحنة مناظرة في قوله: [الطويل] وقد علم الأيقاظ أخفية الكرى ... يرجّحها من حالك واكتحالها علاه في جميعها، فلم يكن له قرار إلا أن قال: أنت صحفي. فلحق بشيخنا أبي الحرم رحمهما الله، وأقام عنده مدة قريبة قرأ عليه أصول أبي بكر محمد بن السري السرّاج، وقرأ عليه كثيرا من الكتاب، ولم يفعل ذلك حاجة به إلى إفهام؛ وإنما أراد أن ينتمي على عادتهم في ذلك إلى إمام. وكان بينهما منافرة، فسمع عمر بن محمد بهذا، وكان شيخنا أبو الحرم كثيرا ما يراجعه في كثير من المسائل المشكلة، ويعاوده في عدّة من المواضيع المعضلة. وكان أبدا يرجع إليه في أجوبة ما يورد عليه. قال ابن المستوفي: وأخبرني من أثق به أنه سمع عمر بن محمد يعتب عليه في هذه القصيدة أيضا قوله في الخمرة: [الكامل] وكأنّها وجه ابن مودود إذا ... ما لاح رونق بشره للمجتدي «1» فقال: فعل الله بوجهه، وصنع لا يكنى، كيف يشبه وجه ملك بالخمرة؟ وهذا ميل منه عليه؛ وإلا فما زال الشعراء يشبهون الخمرة بالشمس والمصابيح، ويبالغون في صفة نورها،

وهذا معلوم لا يحتاج إلى برهان. وإذا كان كذلك، فأيّ عيب إذا شبّه الوجه بما يشبه الشمس، وقد شبّه كلّ واحد منهما بها؟ وأكثر الدواعي الموجبة للمعاداة بينهما كون محمد بن عمر كان الولوع بشيخنا، أبي الحرم، شديد التعصب عليه؛ حتى إنه كتب إليه بعض المرات ونقلته من خطّه: [الكامل] ثكلتك أمّك هبك من نفر الفلا ... ة أكنت تحظى مرّة بصواب وكان أبو عبد الله محمد بن يوسف يتتبّع معايبه، ويشيع مثالبه؛ نصرة لشيخنا أبي الحرم، وذبّا عنه؛ لأن شيخنا لم يكن ممن يجيبه على قول يقوله ببنت شفة ولا يردّ عليه. فحضرت شيخنا رحمه الله بعد أن توفي أبو عبد الله وقد أجري بين يديه ذكره، وأجمع الجماعة كلهم على تفضيله، فقال: كان لي منه العضد الأشدّ والساعد الأسدّ «1» ، أو كلاما هذا معناه، ثم بكى وأنشد: [البسيط] لو كان يشكى إلى الأموات ما لقي ال ... أحياء بعدهم من شدّة الكمد إذا شكوت وأشكاني وساكنه ... قبر بسنجار أو قبر على قهد وقد أنشد من شعره جانبا، فمنه قوله: [الطويل] كلا مدمعينا يا غمامة ساجم ... ولكنّ قلبينا سليم وسالم لئن رويت منّي جفون نواهل ... لقد ظميت مني ضلوع جواثم ومبتسم عن عقده عقد ثغره ... سقاني دهاقا والوصال منادم بكأس يزيل العقل عن مستقرّه ... يطوف بها منها على الشّرب صارم فلمّا سرت في كل عرق ومفصل ... جفاني وقد يجفو الحبيب الملائم

وقوله: [الطويل] هلمّوا فهذا الجود والحسب الغمر ... حموم العطايا لا بكيّ ولا نزر تأملت مرتادا فقلت لصاحبي ... أبن لي أهذا البحر أم مثله البحر وقوله منها: يسرّ أناسا أن يقال به أذى ... فلا فرحوا أخرى الليالي ولا سرّوا يودّون بالأهلين لو أنّ دارهم ... معالمها من ذكره طلل قفر بواق شجاياه على وعكاته ... كراما يبقيها على الصدأ الأثر يزيد القنا عمر النّفاق استقامة ... ويصفو من الأكدار باللهب النبر ومنها: أيوسف إن الفقر ساق مطامعي ... إليك ولم يظلم بما صنع الفقر إذا كان عسر المرء ممّا يفيده ... لقاؤك فليفرح فداك هو اليسر ثناؤك أحلى في القلوب من المنى ... وأشهى من الصّهباء خالطها عطر وما طاب حتى طاب جودك قبله ... إذا ما زكا نبت الريّاض زكا البشر أما وجلال الله إنك للّذي ... به تدفع البلوى ويستنزل القطر إذا ما عذارى الشّعر كان لقاحها ... عطاؤك كانت من نتائجها الشّكر إذا شئت أن أثني عليك تفرّضت ... غرائب حمد لا يحيط بها الفكر وأوضح عذري أنّ وصفك معجز ... ولست بمعتوب إذا وضح العذر وقوله: [الكامل] قل للّذي اغبرّت فجاج بلاده ... بالجدب واسودّت وجوه طلابه إن تبغ معروف المليك مهنّأ ... رغدا فشمس الدّين من أسبابه والبحر لا يسقيك ماء فراته ... حتى يرقرق في أديم سحابه وقوله: [الطويل]

ألا لكم البشرى فهذا أوانها ... ودونكم النّعمى طليقا عنانها فإن التّقاويم التي مال صفوكم ... إلى حكمها ضلّ السبيل بنانها وقالوا قرانات الكواكب تقتضي ... رياحا ونارا مدلهمّا دخانها يذيب حصاة البين حرّ شواظها ... ويخمد أنوار الهدى لمعانها أباطيل دعوى لا يقوم دليلها ... وظمآن زور لا يصحّ ضمانها وهب أنه حقّ فما بالنا نرى ... نجوم الثريّا لا يضرّ اقترانها وما بال أطراف القنا وهي أنجم ... إذا اجتمعت شاد المعالي طعانها أفي كفّة الميزان فيما علمتم ... يخاف حلول الظّلم من شفآنها أهاويل ما زالت تروّع جاهلا ... بأخبارها حتى تجلّى عنانها أخوف ورايات ابن أيّوب يوسف ... يحوطك من ريب الزّمان أمانها هي الآية الكبرى التي لا جنانها ... يطيش ولا يعنى بقول لسانها يمدّ المعالي حلمه وبلاغه ... فيأنق فيها كعبها وسنانها ويستغرب الآجال رجع حديثها ... إذا خاطبتها فالدّجى ترجمانها أيا مالكا ألقى رحالة جوده ... بعلياء لا يخفى علينا مكانها أتاك بأبكار القوافي وليّها ... وما يتساوى بكرها وعوانها يؤمّل يسرا منك لا تستفزّه ... قطوب وكفّ لا يفيض سنانها فكنت له كفؤا كريما ولم يزل ... يزفّ إلى الكفء الكريم حسانها وقوله: [الطويل] شربنا على ذكر الأمير فلم تزل ... ندامتنا من طيبه تتأرّج هو المزن أمّا كفّه فسحابة ... دفوق وأمّا وجهه فهو أبلج وقوله في لاعب بالكرة ضرب بعض أطرافه بالصولجان فتألم لذلك: [الكامل] إن يجن كفّك مرة فلطالما ... كانت إغاثة كلّ جان محرم وردت سبيل الدم إلا أنّها ... لم تخل يوما من نوال أو دم

وقوله: [الخفيف] لم يخف أنه يفتّت قلبي ... إنما خيفتي على أسراره لا يكاد الإناء يحفظ ما اس ... تودع من أن يضيع بعد انكساره وقوله في مليح كان أمرد فالتحى ورقم بالعذار خدّه، ثم فشا سواده فانمحى، وكان يعرف بالسهم، ويفعل في القلوب ما يفعل جنباته الوهم: [مخلع البسيط] قالوا التحى السّهم قلت حصّن ... نفسك فالآن لا يطيش لا ينفذ السهم في الرمايا ... إلا إذا كان فيه ريش وقوله: [البسيط] تخفي المدامة سرّي أن أبوح به ... وربّما كشفت أسرار أقوام لم يبصر النّاس قبلي في محبّته ... من يستعين على سرّ بتمّام وقوله: [المنسرح] تساهم العاشقون واقتسموا ... وكنت حظّي فبئس ما اتّفقا لا بارك الله في الهوى فلقد ... صيّرني عبرة لمن عشقا إذا القرينان صحّ ودّهما ... وافترقا بعده فما افترقا وقوله: [المنسرح] وماجد ملء ثوبه كرم ... مثل أبي حامد إذا انتدبا إذا اقتعدت الرجاء تطلبه ... رهوا «1» تلقّاك جوده خببا وقوله: [البسيط] يثني عليك بخير من بذلت له ... فضلا من العيش أو فضلا من النّسب لا تأمنن من مرجّ أنت مانعه ... دوما ولو كان ذا قربى وذا نسب

ما زلت أسمع لمّا كنت في حلب ... أحدوثة عنك تجلو غمّة الأدب فلم أزل بالأماني كلّ بارقة ... أنوطها بك والأطماع تأخذ بي حتى رأيتك بالحدباء فانقطعت ... تلك الأماني وقرّت سورة «1» الطلب فالحمد لله إذ لم يأت بي حلبا ... فقد وقاني من الحرمان والتّعب وقوله يمدح أتابك مسعود بن مودود، ويذكر إنجاده الملك الناصر بن أيوب على الفرنج: [الكامل] وأدرت كأسا للفرنج مديرة ... حمدت لدائف سمّها المنقوع عرضت لدين الله تطفئ نوره ... ناهيك من أمر أتاه شنيع نصبت عداوتها له فرددتها ... محفوظة بلوائك المرفوع كالقوس قرّت في اليدين وصدّعت ... كبد الرمّي بسهمها المنزوع ومما أورده من نثر قوله: لمّا كانت الرسائل- أطال الله بقاء فلان- عنوان السرائر، وترجمان الضمائر ورائد المودّة إلى القلوب، ووصلة الحبل المقضوب؛ وناطقا لا يتجمّم، وبليغا لا يعجم. اكتفى بها المشتاق عن حثّ النياق، واستراحت إليها النجائب «2» عن خوض السباسب «3» . ولقد ورد كتاب فلان مشتملا من كريم، أجابه على ثناء جزيل، وحمد جميل، وفضل عريض طويل، مشحونا بحمد الله تعالى، والصلاة على رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- فيما منّ به من قمع الفئة الطاغية واستئصال الشجرة الخبيثة الباغية، التي مرقت عن الدين، وجاهرت بعداوة أمير المؤمنين، صلوات الله عليه وعلى آبائه وأسلافه المنتجبين. وبعد، فإنّ الخادم لم يرم سهما إلى نحورهم إلا وعزم المواقف الشريفة الإمامية الناصرية،

أيّد الله اقتدارها مسدّدة، ولا أشرع سنانا في صدورهم إلا ونصر مورده، ولا حمل سيفا إلى هامهم إلا وتأييده مجرّدة. فما طاش له سهم، ولا ارتعش رمح، ولا فلّ نصل، وفات أعداء العتبة الشريفة، وأعاذ الله بين صريع مقتول وأسير مكبول، وطريد منهزم ومال مقتسم قد أدال الله من طاعنهم، وأمكن من نواصيهم. وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. وتأييد من المواقف الشريفة، وهمّة من المجلس الفلاني دام سعد الذي قام مقام الجيش العرمرم، وناب مناب كل حسام ولهذم «1» . ففتّ في عضدهم، وقذف الرعب في قلوبهم. ولولا ما منحنا الله به من نصر أمير المؤمنين وآرائه الباقية لكنّا على شفا جرف هار، فالحمد لله الذي وفّقنا لمرضاته، وهدانا إلى أوضح سبيله، وجعلنا ممّن يعمل بنفله وفرضه، ويرضي خليفته في أرضه. وقوله: وبلغني بفضل فلان، أنار الله نجم إقباله، وأسبغ عليه ثوب أفضاله وجعله قبلة للمحامد، وكعبة للصادر والوارد، وأوزعني شكر نعمائه، وألهمني نشر ثنائه، وكفاني في مودته مالا أتوقّع، وحرس لي مهجته بعينه التي لا تهجع. فلم يزدني ذلك زيادة على ما أعتقد فيه. أدام الله نعمته من سحاجة «2» الأخلاق، وطهارة الأعراق؛ وإنما كانت تزيد في هذه التفضلات عقيدة في كرمه وجميل مودّته، لو كنت أتوسم فيهما نقيضه. فأما إذا تيقّنت كما هما، فلا. وأما الشكر فإن شكرت فأهل له، وإن أمسكت فمودة بيننا؛ أكرم من أن يحتاج إلى روابط الشكر. وبعد، فقد رفّت عليّ من شوارد غرره، وفرائد درره عروس غضّة المعاني، عذبة الألفاظ حلوة الدلال، فاترة اللحاظ. قد بلغت النهاية في الإبداع حتى ملكت الأبصار والأسماع. وقد عوّزها فلان بتواضعه؛ ليصرف عنها عين الكمال، ويتكررها في حلل الجمال.

فأما قوله: [الكامل] طابت منابته فطاب وداده ... وزكا فيالك من أخ لك صالح يوليك إشفاقا ومحض نصيحة ... فاشدد يديك على الشفيق النّاصح فبيتان قد بلغا النهاية في الجودة من سلاسة اللفظ وسهولة المأخذ وبيان المعنى، وانتظام العروض، والمقابلة الصحيحة والترديد الرشيق، والتمثيل الناصح، وإن كانت لا تخلو مع ما أتيت فيها من إحسان. ولكن على هذين البيتين وقع اختياري. وبعد فإنه أتى بالواضح معرّفة بالألف واللام في قافية عروض البيت الأول، ثم أتى بها فكرة في قوله: على سهل الطريقة واضح، وكذلك قوله: الصالح، مع قوله: صالح. وهذا جائز، وليس كل جائز بحسن. فليجتنب؛ فإنه يكاد يكون أبطأ، وليس هذا بردّ؛ إنما هو مطالبة بالأحسن ولله الحمد. قال ابن المستوفي: وإنما أتيت هذه الرسالة لقلة رسائله وعدمها. وأردت ألا يخلو هذا الكتاب من شيء منها، فأثبتّ بها: ولست بمعتوب إذا وضح العذر وأنشدني لنفسه قبل وفاته: [البسيط] إن الشّباب نذير الموت ثم إذا ... جاء المشيب فذاك القبر والكفن ومرض مرض اليأس، وهو السل. وتوفي ليلة الأحد، لثلاث خلون من ربيع الآخر، سنة خمس وثمانين وخمسمئة «1» .

35 - محمد بن الحسين الجفني البغدادي

ومنهم: 35- محمد بن الحسين الجفني البغدادي من كرخ بغداد، يعرف بابن الدبّاغ «13» . رجل يخال به الليل يتضح، ويخاف النهار ألا يفتضح. أشرق ضيا وأشرف على الصباح في بقية حيا. لم تلد مثله بغداد في زمانه بين جانبي شطّها، ولا وفت بشبهه في شرطها. كاد بنار فطنته يتآكل، وبما فطرته مبهم، حتى ماء دجلة أشكل. هذا إلى أدب غضّ المكاسر، بضّ الجثم فيما يتجرد عنه الحاسر. جمع في الصناعتين أسناهما وطلع أسماهما، وأتى بهما ذللا، ونشرهما بعد طول اللطى طللا. ذكره ابن المستوفي، وقرأ على ابن الشجري، وأقرأ النحو والقرآن. وتوفي سلخ رجب سنة أربع وثمانين وخمسمئة. وأورد له ابن المستوفي قوله: [البسيط] سقى ديارك غاد ملؤه نعم ... كالقرم «1» يسدم «2» فهو الهادر الواغي «3» وليفرع السعد فيه قادر صمد ... فلست أقنع من دجن بإفراغ ما يوم خضل الجناب زجل الرباب «4» ، أدكن الجلباب، مذهّب الإهاب، مرج الحقاب «5» ، أرج النقاب «6» ، يزجّي العاميّ عشار غمامه المثقلة، وتمرّ الظباء جفل أخلاقه المهلّة، وتراعي قروم رعوده المجلجلة. وبقضب منابضة قواضب البوارق المسلّلة. عنبري الأرجاء عبيري

الأجواء. درر مزنه دارية، وحجا نظره بدريّة. وأنفاس جوده نديّة، ومعشوقة يومه سعدية، وسيوف إيماضه هبرية، وشنوف «1» مزنه تبرية «2» ، ومطوقة اليوم كدريّه، ونفحات نسيمه عبيرية. عارض مغضب على المحل لا يخطر إلا وسيفه مسلول، والسحاب مرشوف الرضاب بمياسم الرياض والعبهر «3» مشغوف. يرنو الشقيق حدق مراض، وقيان الطير قد اصطفّت على أفنانها، وحبست مثاني عيدانها فسوّف ألحانها. مالك بأداة الطوق. ما أجمل غرامك والشوق! ضعفت فهتفت، وألقت فأشفت. ناحت فأسهرت، وبالهديل لإلفك سحرت ألّحت فأفضحت، ونحت فاسترجت، أصحرت بغرامك فسلمت، وأسمحت بزمامك فما أمّلت. [السريع] هل لك يا ورقاء يا حمامه ... ناصبة بالوجد مستهامه أن أكون في الحب تلميذك، وأتقلّد بهمّتك، وبعوذك الذي أردت من الوجدان يعيذك، فأبدي كما أبديت، وأنتهي إلى حيث انتهيت. وأمضى في ذاك الصريمة حتى أنسى مسمّها ندماني جذيمة. وأفضّ القيمة من كل لطيمة، بأطيب من لحظات أفضيهن بإسلام المكتوب العالي الفلاني، أدام الله سلطانه فإني ما أزال أدافع بلثمه فاه، وشوقي إلى ذلك الجلال وبرحاه، وأسكن به غلواء الزفر واعتلاه. [الطويل] كتمت الهوى يوم النّوى فترفّعت ... به زفزات ما بهنّ جفاء يكدن يقطّعن الحيازيم كلّما ... تمطّت بهنّ الزّفرة الصعداء وبتّ يوم بهق «4» الأديم يقق «5» الضريم، سدر الصريم «6» ، حذر البريم «7» ، يحمد نفس

المهجور، ويخمد قبس المسجور. قد أرزمت الحرجف «1» مرزمه، وهدمت من السماك لهدمه، وخذمت «2» من النسر قوادمه، وجذمت «3» من الأسد معاصمه. وألقمت العواء حجر جليدها، وزبنت «4» الزباني عن أن تبلغ جيدها، والضريب «5» شنب «6» في أفواه الغيران، ووضح في أديم النيران، وعذب على أعنان الرعان «7» ، والدجى لمى في شفاه القيعان، وكحل في أحداق القنان. وقد يدفع الصبر معارف صاحبه، وينير أشآب «8» الضباب، فودى حضن وأراب، وعمّم بالعبير يلملم، وشعفات «9» عمائه ويرمرم «10» . كان مصطليه والوقود يحفّه بحزم في الأطراف شوك العقارب. رددت زمهرير ذلك اليوم بأخفت أنفاسي الصعدا، وأضعف زفراتي البرما، مهيف الأحشاء، وميض الأجواء، أنفاس يومه محرقة، وظلاله مطرقة، يذيب الصيخود «11» أواره «12» ، ويمنع الجلمود شراره يحرق الحجر، ويعرق الشجر، ويذهل الحربا عن استجلاء عروس الخربا. ويشتد لي لهبه فنشده عن الضرير جندبه فتستعر أجدال الأجزال عنده نار الحباحب «13» ، ويتولج العفراء جليس الفقراء

فيكون لها أسلم صاحب، فترى لغاب الغزالة دابيا، ومحيي اليوم ساحبا يلتهب فضاه، وينش أضاه، وتفوح رياضه، وتلوح حياضه. وقد غار في مكنس، وأخذ من اللهب الظبا والقسور. ولم لا يطيل الشوق إلى ذلك الكرم الواسع، والجود المتتابع ليلي، وقد أساءت الأيام بتخلفي عن اعتمار ربعة العزيز من قسم السعادة كيلي. فكم ليلة بتّها نجيّ أرق، شكيّ حرق! ولي من الزفير فرق ومن الدمع شرق ومن اللّعج حرق، اطفئ بوهج الأضايع بتوكاف المدامع، وأتبرّم بالزهر الطوالع، والسهب النواصع، وأتمنى جفاهن وهن دراري دوافع، مسلّيات شوافع كأنمار بطن ناركان شروري «1» وأحضان متالع. وأقول والكمال وازع والجلد نازع: متى ينبعث ثقال الليل الكسير الطالع؟ متى يطير غرابه الواقع؟ متى يهتدي نجمه الحيران؟ متى يوسن طرفه اليقظان؟ متى يفتر غباشه الغيران؟ متى يميل النجم إلى غربه؟ متى يفل شنب ذؤاله مسنون غربه؟ متى يتوشّى أدهمه بالبلق؟ متى يغشى معلمه بالفلق؟ متى ينحر غسقه بالشفق؟ متى يسخر نسقه بالنفق؟ متى أرى زنجيّه قد أبق «2» ؟ متى يركب طبقا عن طبق؟ متى يكرع خطّاره في ذات الآصاد «3» من الصباح؟ متى يقطع أعوجيه مرر الشياح؟ هل جار الفسق فيرشد؟ هل طل الفلق فينشد؟ ثم إلى أن أصبح يقظا جسرا من مماصعة «4» الزفرات، ويصبو طليحا من مكافحة الحشرات وإلى الله سبحانه وتعالى أرغب في فك الأسير، وجبر الكسير، وتسهيل العسير في تقريب المسير إلى ذلك الجلال الأثير والمجد الخطير. فربّ عان في زيّ طليق، وربّنا بالإجابة جدير المثال العالي قد كان كنزه الاستلام والقبيل، وليس إلى نفع علّة الشوق إلا برشفة سبيل والإنعام العميم، والطول الجسيم مرجوّ في أن يشفع بمكتوب ثان أتخذه عوذة من ريب الزمان، كالسبع المثان. ولم أغلب في حساب الحول لأني كتبت ذلك المكتوب الأول في العام الماضي صبيحة ليلة النصف من شعبان والله سبحانه

يقول: «وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ «1» » . وأنا هاجرت بخدمتي في العام الأول وأتممت هجرتي، وكان مبداها صبيحة نصف شعبان. وعلى ذلك أجري الحساب على ممرّ الأحقاب. وكذا هذه الخدمة شرعت في سطرها صبيحة نصف شعبان من عامنا هذا، بعد أن ختمت عليها ختمات، أشفعهن بصالح الدعوات لمولانا أعزّ الله إبصاره وأعلى اقتداره. كان مسلم بن قتيبة في مصاف الترك. فسأل عن محمد بن واسع، فقيل إنه في ناحية من الجيش متوكئا على سيّة قوسه، يشير بإصبعه إلى السماء. فقال: والله لتلك الإصبع الفاردة أحبّ إلي من عشرة آلاف ذراع، وأنا من متجندة الخدمة العالية في ليلي وإعلاني وإسراري، أرغب إلى الله سبحانه بالأدعية الصالحة لبهي دولته وسابغ نعمته إلى مضانّ الإجابة مشفوعة بصدق الإنابة. تقبّلها الله برحمته، والرأي أعلى. قال ابن المستوفي: ونقلت من خط ابن الجيمي، من شعر الجفني: [الطويل] لهجت بليلى حبّها وودادها ... وأكرم بها في قربها وبعادها يلذّ لعيني لادّكار وصالها ... وأيامنا بالجزع طول سهادها وأخشى وعيد الطيف إن زار قائلا ... أعيناك تلتذّان طيب رقادها فدع ذا وعدّ القول في ذكر ماجد ... تسنّم في العلياء أسمى نجادها حلفت بها كالخال في جنة العلا ... تباري لدى أطوادها ووهادها رحلن نواء كالهضاب توامكا «2» ... تناضل في غيطانها وصمادها «3» فلم يزل الإيغال يعرق «4» لحمها ... ويجفن من نون الذؤوب وصادها إلى أن بدت مثل الأهلّة شفّها ... نحول المحول في سنين جمادها

36 - أبو حفص الضرير

عليها الملبّون الطلاح «1» يهزّهم ... إلى ركنها والخيف خوف معادها يمينا لإبراهيم أكرم ماجد ... نخته المهارى أو شجا في اعتمادها يرود النفوس في رياضه كماله ... وأخلاقه الحسنى كريم مرادها طويل رداء الفضل والعلم والنّهى ... حميد قصير الرأي مولى سدادها تمنّته عيني أن تراه وإنّه ... أعزّ وأوفى عندها من سوادها ومنهم: 36- أبو حفص الضرير «13» عمر بن أحمد بن أبي بكر بن أحمد بن مهران النحوي. رجل على ضرر عينيه وإظلام الأمور عليه مبصر بالتجارب، مدّرع لبسة المحارب. هذا على حبسة لسانه، وعدم امتداد أرسانه؛ إلا أنه كان سيفا لا يثلم، وسيلا لا يظلم. يحطّ من شاهق، ويردّ كلّ زاهق. ولم يزل به الجدّ حتى تجاوز الحدّ. وجاوز المدّ. وصارت آراؤه هدى وأنواؤه جدا وآلاؤه لا يكذب من قال لي إنها أكثر عددا. وأغزر من البحر مددا. قال ابن المستوفي: تخرّج على أبي الحرم، وبرع في علم النحو، وتصدّى بعد وفاته للقراءة عليه. له ذكاء وعنده فكرة حسنة. يقال: إنه حفظ في ليلة واحدة ثلاثمئة بيت. قال: وقيل: إن من الذي حفظه قول أمية بن أبي عائذ الهذلي «2» : [المتقارب] ألا يالقوم لطيف الخيال ... أرّق من نازح ذي دلال

وقدم إربل وأراد مناظرة ابن الأرملة فلم يجبه إلى ذلك؛ خوفا منه. وكانت في لسانه حبسة عظيمة، وعنده ثقل في كلامه لا يكاد يبين. وأنشد له شعرا، منه قوله: [مجزوء الكامل] يا أيّها الدّهر الّذي ... قد لجّ في بغضي وفركي اغمد حسامك إننّي ... مولى عماد الدّين زنكي قوله: [الطويل] إلام أقاسي لاعج الشّوق والحزنا ... ويضني هواكم والجفا جسدي المضنى أأحبابنا إن حلتم عن عهودنا ... فإنا على تلك المواثيق ما حلنا رعى الله أياما تقضّت بقربكم ... فما كان أحلاها لديّ وما أهنا «1» أحنّ إليها بالاصائل والضّحى ... وما ينفع الصبّ الكئيب إذا جنّا إذا لم يكن لي عندكم مثلما لكم ... بقلبي فلا أجدى الحنين ولا أغنى فقد كان يغشى النّوم عيني بقربكم ... فمذ غبتم ما صافح النوم لي جفنا وأحسنت ظنّي فيكم لا عدمتكم ... فما بالكم أخلفتم ذلك الظنّا فما كان أغناكم سوانا فإنّنا ... على كلّ حال لم نجد عنكم مغنى تشاغلتم عنّا بصحبة غيرنا ... وأظهرتم الهجران ما هكذا كنّا وهذا البيت تضمين، سئل أن يضمّنه فقال هذه الأبيات، وضمّنه فيها. مات في حدود الستمائة «2» .

37 - ابن الأرملة

ومنهم: 37- ابن الأرملة «13» وهو أبو الثناء محمود بن الحسن بن علي بن الحسن كمال الدين الضرير العراقي. مبدي سلوك، ومهدي سلوك. لم يزل بفرائده العز منمّق تاج ومفتّق رتاج، ومولي جميل، ومولى جليل. ولسان قويم وإحسان دهر. ويوم جلّ به قدر بلده، وفخر، وبذل منه ما ذخر. تضافرت طلابه بأقصى المطالب، وأطيب المطارب. ولولاه لما بلغوا المناصب. ولنفضوا منها أيديهم نفض المناكب، ولأظلم في عيونهم سنا الكواكب. ولم تقل العلياء لأحد منهم أيها الراكب. وبقي إلى أن أذنه أجله بانصرامه، وهبت العواصف لإطفاء ضرامه. فقرّب مداه، وقرّت عيون عداه. قال ابن المستوفي: أخذ النحو عن أبي المنقّى الموصلي. وابن الدهان البغدادي. انتقل إلى إربل، وكان صدر الجامع بها يقرئ القرآن والنحو. قال: وكان فيما نقل إليّ عنه كثير العصبية على الطالبيين، شديد العصبية للأمويين. وكان يسلك في أشعاره الوحشي المتكلف، والنأي المتعسّف ومن أجوده قوله كالمجير لقول ابن المهدي وهي عليه، وقد سئل ذلك: [الكامل] ما إن عصيتك والغواة تمدّني ... أسبابها إلا بنيّة راجع والذي قاله: [و] مسيّر فعل المورّى أمره ... متمسك أخذ النبيّ الشّارع قسما بمجدك إنني لك طائع ... ولأنت تعلم ما تحنّ أضالعي قسما بتربة يوسف ما الغدر من ... شيمي ولا شرع العقوق شرائعي يا أيها الملك الذي ملك الورى ... أين الفرار من القضاء الواقع قال: وتوفي في سادس عشر ربيع الآخر سنة ست وستمئة.

38 - أبو الحرم

ومنهم: 38- أبو الحرم «13» مكي بن ريّان بن شيبة بن صالح الماكسيني صائن الدين. لسان من ألسنة العرب، وإنسان لا يقاومه نبع ولا غرب. لا يكون البدر التمام إلا نحوه «1» ، ولا يسلك الصباح المعرب إلا نحوه «2» . انتفع به الخلق، وارتقع به من كلام العرب الخرق. وكان في بلده يستسقى صيّبه «3» ويستدنى أدبه. ولم يكن من أنباتها الطلبة، ورؤسائها أهل المرتبة إلا من ينظر حيث السهى، وترى أنه إذا بدا بالأخذ عنه انتهى. قال ابن المستوفي: هو شيخنا جامع فنون الأدب، وحجة كلام العرب. واحد القصر وفريد الدهر، المجمع على دينه وعقله، والمتفّق على علمه وفضله. ولد بماكسين من ولاية سنجار، ونزل الموصل بعد أن رحل في طلب العلم إلى بغداد، ولقي بها مشايخ النحو واللغة والحديث. وكان واسع الرواية، شائع الدراية. أخبرني لما رحلت إليه الرحلة الثانية بالموصل سنة سبع وثمانين وخمسمئة أنه ورد إربل، وأقام بمسجد قريب من باب القلعة الغربي بعد أن أضرّ وكان سبب عماه جدريا لحقه، وهو ابن ثمان أو تسع سنين. وكان يقول: أعرف من الألوان الأحمر. وكان على غاية الذكاء والفطنة. فكنت أقرأ عليه كتاب المجمل، لأبي الحسين أحمد بن فارس معارضا بأصل، وهي من كتابة في وسطه. فلمّا انتهت بي القراءة إلى أول تلك الورقة، قال لي: هذه الورقة بغير خطّ الأصل؛ فتأنّ في القراءة ليصلحها المعارض «4» لك. وأحكم القراءات كلّها، الأصول

منها والشواذ. وكان يقرأ عليه القرآن في كل يوم تلقينا وتحريرا جماعة تزيد على الخمسين، ونصّب نفسه للانتفاع عليه بالقرآن العزيز، وجميع ضروب الأدب. فكان لا يتفرّغ إلا للصلاة المكتوبة أو لما لا بدّ منه. ويخرج عليه جماعة من أصحابه شهّروابه سوى من تردّد إليه، فلم يظفر بمطلبه. أخذ النحو عن أبي البركات الأنباري، وأبي محمد ابن الدهّان، واتصل أبو الحرم بالملك الظاهر غازي، وأقام بحلب مدّة، وهمت عليه سحب إكرامه واتصلت به ضروب إنعامه. وكان حيث خرج من الموصل لم يمكّنه سلطانها من السفر، حتى ضمن على نفسه بالعود إليها، وكفله أبو السعادات ابن الجزري. وكان قد جعل سبب سفره زيارة بيت المقدس، فأقام بحلب. فلمّا بلغ تأخره صاحب الموصل، قال: ما يضرّ الموصل ألا يكون فيها أبو الحرم، فأحسن المحدّث له الاعتذار عنه، ثم وصل إلى الموصل عائدا من حلب في رمضان سنة ثلاث وستمئة، وأقام بها مريضا مدّة يسيرة، ثم توفي بها ليلة السبت سادس شوال منها، وخلّف ولدا صغيرا. قال أبو المعالي ظافر بن الوهاب الموصلي: كان رحمه الله ربّما فرض في بعض الأوقات الأبيات من الشعر. ولم يكن شعره على قدر فضله؛ إذ هو فلك النكت والعيون، وأنا أورد من مختاره وجيّده، فمن ذلك قوله: [الوافر] سئمت من الحياة فلم أردها ... تسالمني وتشجيني بريقي عدوّي لا يقصّر في أذاتي ... وتفعل مثل ذلك في صديقي وقد أضحت لي الحدباء دارا ... وأهل مودتي بلوى العقيق قال: ومن جيّد قوله: [الطويل] على الباب عبد يسأل الإذن طالبا ... به أدب لا أنّ نعماك تحجب فإن كان إذن فهو كالخير داخل ... عليك وإلا فهو كالشرّ يذهب وكان أبدا يتعصب لأبي العلاء المعرّي، ويطرب إذا قرئ عليه شعره للجامع بينهما من

العمى والأدب، فسلك مسلكه في أبيات تائيته، أولها: [البسيط] هات الحديث عن الخابور لا هيتا «1» ... ولا المحلّين بغداد وتكريتا قومي وأين كقومي في الورى بشر ... يأتون في كل حال شئت ما شيتا ومنها: فيا أخلاي هنّيتم به قطنا ... وأنت أيضا بذاك السكن هنيّتا إن فاتني فيكم عيش ألذّ به ... فإنّ شوقي إليكم قطّ ما فيتا ويا منبّئي الأنباء عن بلدي ... إن كنت حيّيتهم عني تحيّيتا هناهم بي في الآفاق طيب بنا ... يفوّق العرف عرف المسك مفتوتا وقائل قال تسلاه فقلت له ... حبّ المواطن فرض كان موقوتا وذكر بعد ذلك أسماء مواضع من بلد ماكسين ينفر عنها الطبع، ويمجها لغلظها السمع. وقال يخاطب البرق المومض من نواحيها، ويأمره سقيا أماكن عدّدها فيها: واذكر مغاني من أرض الحصين ومن ... تحناس والمنحنى إن كنت أنسيتا وغير ناس إذا لم تنس جلدتها ... العليا وأوسعها هاميك نبيّتا وأختهن عرايانا «2» ومجد لها ... ودامسا وصحاريها الأماريتا «3» فإن فعلت وإلا كنت معتمرا ... أتى المقام ولم يأت المواقيتا هم المعاشر لا مجد كمجدهم ... وأبعد الناس ما بين الورى صيتا والقوم في الأمن أملاك مسالمة ... وفي الهياج يخالون العفاريتا وفي الرّحال إذا صاحبتهم خدموا ... وفي المجالس توقيرا وتثبيتا ويتلوه منها ما أغمض معناه وأبعد مغزاه قوله:

لم يمس قوت امرئ من غيرهم نشبا ... إلا وأمسى لهم إعطاؤه قوتا وطالما قلت والأشواق تلعب بي ... إليهم ويريني الناس مسبوتا لو أنهم وصلوا حبلي بحبلهم ... جعلته من جميع الناس مبتوتا قال ابن المستوفي: كتب إليّ أبو الحرم رحمه الله بخط أبي الحسن علي بن أبي بكر الصفّار يتنجّز فيه إعادة كتاب الهمز، وهو قصائد مهموزة بخط أبي منصور ابن الجواليقي، قرأتها عليه واستعرتها منه ونسختها. ولم يقع له بقية بعدها على يديه، فتأخّر ردّها، أو خشي فراق فلان، بلّغه الله أنفس الأعمار وأبلغ الأمد، وقربه من أبعد الأماني بعد بعد المدد، وأنجز أمل غايته وغاية أمله، وجمل غاية أمله بفسحة أجله؛ حتى يحوز من المراتب أسناها وتقتني من المعاني والمعالي منتهاها. ويشعره أن الحاجة داعية في هذا الوقت إلى كتاب الهمز، وقد تكررت كتبي في هذا المعنى، وما عرّفني سبب تعويقه وفي ذلك أقول: [الطويل] متى أنا راء نسخة الهمز في يدي ... وقلبي خلاء من مساورة الهمز فإن يد الإنسان أهون عارضا ... من القلب يرمي بالوساوس والوخز أفي خيمكم أني أعرّض للأذى ... وأنتم أولو الإحسان في اليأس والمزّ «1» وقد كنت أرضى دفعكم عن حقيقتي ... إذا ما سواكم رام منّي ما يجزي لك الله لا تذعر خليلا بشيء ... ولا تجزه إلّا جزاه الذي يجزي فإن لم تعجّل لي جواب رسالتي ... شكوت إلى كافي الكفاة أبي العزّ أبو العزّ، هو المظفر بن أحمد بن المبارك بن موهوب. وكنيته اسمه، إلا أنّ بعض الناس كان يسميه المظفر. وتوفي له ابن كان سمّاه محمدا، فكتب إليه أبو عبد الله البحراني كتابا يعزيه. أوّله: [الكامل] لا زالت الأيّام واهية القوى ... تشكو مضاجعها جفاء العوّد وتبدّلت أيامهنّ لياليا ... إذ كان فيها مثل يوم محمّد

39 - أبو عبد لله الحلي النحوي

فكتب إليه رحمه الله: [الطويل] محمّد إن غال الحمام محمدا ... فأنت لنا أخ وخلّ وناصح فليت الليالي جدن منك بنظرة ... تعادي ولو أن الحمام يراوح ومما رواه أبو الحرم عن علي بن موسى الرضا: ثلاثة موكل بها ثلاثة تحامل الأيام على ذوي الأدوات الكاملة، واستيلاء الحرمان على المتقدم في صنعته، ومعاداة القوام لأهل المعرفة. ومنهم: 39- أبو عبد لله الحلي النحوي وهو محمد بن أبي الفوارس بن أبي الهوا عفيف الدين المؤدب. ذو نظر أحسن مارمق، وأحسب إذ رتق. فكفى العظائم، وكيّف العزائم؛ خلا أنّه لم يخل من مبغض، ولم يجل عليه غير وجه حاسد برأسه مبغض، فلم يقدر له على اهتضام، ولم يقدّر له غير إجلال وإعظام؛ إلا أنه نغّص عليه ونقص، وإن لم يصل النقص إليه على عادة الدهر في الكبر على الأفاضل، ورجوع ذنب السهم على المناضل. وكان لا يزال منكّدا، ولا يبرح حاله بعضه لبعض مؤكّدا فلم تسق له زرع ولم يزل من دهر على جزع؛ حتى أرته المنية مؤدّه، وحنت إليها مورده. قال ابن المستوفي: قرأ شيئا من النحو على أبي البقاء، ثم قرأ على أبي الحرم مكي وانتقل إلى إربل، وأقام بها مدّة معلّما، ثم ترك التعليم واتصل بخدمة بعض الأمراء، فنقل عنه أشياء قبيحة توهن العرض فعاد إلى الموصل سنة ثمان وستمئة. ووصفه بأنه متشيع لا يعمل تآليفه. قال: وكتب إليّ صدر كتاب ولم يصل إليّ. وكان ذلك أول ما بدا عليه القول بالتشيع: [الرّجز] يا غارسا غصن الحيا ... ة بجود راحته التقيّه ومعوّدا كسب الثنا ... ء بحسن أخلاق زكيّه قد صرت مأكولا لأبنا ... ء الجهالة والدنيّه فانهض إليّ حمية ... فالحرّ تنهضه الحميّه

ومما ذكره من نثر قوله: إن تأخّرت كتبي، أدام الله أيام مولاي، وجعلها موشحة بالخلود منسمة بالإقبال والسعود ما لاحت ذكاء «1» ، وطلعت الجوزاء بمحمد وآله، فنشر نبأي وإخلاص دعائي يشفع إليه، ويوصلني إلى ما أعوّل عليه من جميل صفحه، وحسن تجاوزه. وكيف لا أرجو ذلك، وقد حيي غصن حياتي بحيا «2» جوده، وترعرع في ظل سعوده، فأطال الله بقاه، وصل أو قطع، وأهان أو أكرم. وقوله نظما ونثرا: [الكامل] يا غارسا بيدي أكفّ ظالما ... أترى به العافون وهو عميم حاشا لمجدك أن أضام وأنت لي ... عضد وجاهي بالظلال وشيم أو تستطيع يد الحوادث بسطة ... فيما يضعضعني وأنت سليم حاش لله أن يعبث بي الزمان، وتهضمني العدوان، وأنا وسيم خدمته وغزير نعمته، لا سيّما وقد اعيرت اليّ حلقة عبيد، ألفيته مختارا لذلك، رغبة في معاليه، معترفا بأنعمه وأياديه، وقد صدر إليه تصور عبده من يد خصمه، مع تقدّم علمه بعناية فلان في إصلاح حاله وإعشاب أمحاله. قال ابن المستوفي: وما أعلم الأبيات الميمية له أم لا، والظاهر أنّها له.

40 - أبو المبارك ابن أبي طالب

ومنهم: 40- أبو المبارك ابن أبي طالب المبارك بن الأزهر سعيد، الملقّب الوجيه المعروف بابن الدهّان «13» النحوي الضرير الواسطي. استفسر الفضائل فأصبحت، واستنفر الفواضل «1» فأصحّت. ودعا العربية فأطاعت، ودعا إلى الفنون الأدبية فبذلت ما استطاعت. وبرع في النحو فقوّم صعدته، وقدّم للنجار «2» عدّته. وكان على خفاء منهاجيه وانطفاء سراجيه ذا بصيرة بالحقائق منوّرة، وللدقائق مصوّرة. ينظر فطنته حوافيها، ولا يجد فطرته الخوافيها. فلبّسه الفضل حليته، ورأسه في حلبته، وكان مرج البحرين دون قلتيه، وسرهج النيرين عوض مقلتيه. ولد ببلده ونشأ به وحفظ القرآن هناك، وقرأ القرآن. واشتغل بالعلم، وسمع بها من أبي السوادي الشاعر. ثم قدم بغداد واستوطنها. وكان يسكن بالظاهرية وجالس أبا محمد ابن الخشاب. وصحب أبا البركات ابن الأنباري، وجلّ ما أخذ عنه. وسمع الحديث من أبي زرعة المقدسي. وتفقّه على مذهب أبي حنيفة بعد أن كان حنبليا، ثم شغر منصب تدريس النحو بالمدرسة النظامية، وشرط الواقف أنه لا يفوّض إلا إلى الشافعي المذهب، فانتقل الوجيه المذكور إلى مذهب الشافعي وتولّاه. وفي ذلك يقول المؤيد أبو البركات ابن زيد التكريتي. [الطويل] ومن مبلغ عني الوجيه رسالة ... وإن كان لا تجدي إليه الرسائل تذهّبت للنّعمان بعد ابن حنبل ... وذلك لمّا أعوزتك المآكل وما اخترت رأي الشافعيّ تديّنا ... ولكنّما تهوي الذي منه حاصل وعمّا قليل أنت لا شكّ صائر ... إلى مالك فانظر لما أنا قائل

41 - زيد بن الحسين بن زيد بن الحسن بن سعيد الكندي

كانت ولادته سنة اثنتين وثلاثين وخمسمئة بواسط، وتوفي ليلة الأحد، السادس والعشرين من شعبان سنة اثنتي عشرة وستمئة ببغداد ودفن من الغد بالوردية. ومنهم: 41- زيد بن الحسين بن زيد بن الحسن بن سعيد الكندي «13» أبو اليمن تاج الدين البغدادي المؤلف والمنشأ، الدمشقي الدار والوفاة، المقرئ والنحوي الأديب. وهو الذي تضرب به النحاة المثل، وتضرب عنه الملل. بلغ شأو القدما، وزاد عليهم زيادة الألف والنون في بعض الأسما. أجمل بذكره المشاهير، فانسلخ أبو الأسود من جلدته، ويئس الكسائي من حدته، وفرّ الفرّاء، وعرف أن سبب موت سيبويه ممّا ضرب زيدا عمرا. وعذر جمر نفطويه إذا أصبح وهو جامد، والمازني إذا لم يذكروا وقبله زيد وعمرو وبكر وخالد. أعملت الركائب إليه السير، وعرف الخير منه، فسميّ زيد الخير. تقدّم في الدولة الناصرية الصلاحية من أولها، وأثرى من تموّلها، وكان له من بني أيوب ما زاد في زهوه وأكرم به لذلك ونحوه. وكان عليه طريقنا في رواية أكثر كتب الأدب وتلقيها ممن كتب. وهي على جلالته وعلمه الذي يسم منكره بجهالته ما خلا من غمز غامز، وذكر نقص، وما هو عايز؛ إلا أنه تلي شيطان ساء قرينا، وقال ولم يرقب دينا. قال ابن خلكان: كان أوحد عصره في فنون الآداب، وعلوّ السماع، وشهرته تغني عن الإطناب في وصفه. أخذ عن الشريف الشجري وابن الخشّاب، وأبي منصور الجواليقي، وصحب عزّ الدين فرّخشاه «1» بن شاهنشاه ابن أيّوب، وهو أبن أخي الملك صلاح الدين.

واختصّ به وسافر معه إلى مصر واقتنى من كتب خزانتها كل نفيس. قال ابن الجيمي: كنت بالقاهرة، فكتب إليّ الشيخ أبو اليمن من دمشق أبياتا: [الخفيف] أيها الصّاحب المحافظ قد حمّ ... لتنا من وفاء عهدك دينا نحن بالشام رهن شوق إليكم ... هل لديكم بمصر شوق إلينا قد عجزنا عن أن ترونا لديكم ... وعجزتم عن أن نراكم لدينا حفظ الله عهد من حفظ العه ... د أوفى به كما قد وفينا قال: فكتبت إليه من أبيات: [الخفيف] أيّها السّاكنون بالشّام من كن ... دة إنّا بعهدكم ما وفينا لو قضينا حقّ المودّة كنّا ... بحبّنا بعد بعدكم قد قضينا وكتب إليه ابن الدهان الفرضي: [البسيط] يا زيد زادك ربّي من مواهبه ... نعمى يقصّر عن إدراكها الأمل لا غيّر الله حالا قد حباك بها ... ما دام بين النّحاة الحال والبدل النّحو أنت أحقّ العالمين به ... أليس باسمك فيه تضرب المثل ومن شعر الكندي وقد طعن في السنّ: [الطويل] أرى المرء يهوى أن تطول حياته ... وفي طولها إرهان ذلّ وإرهاق تمنّيت في عصر الشّبيبة أنّني ... أعمّر والأعمار لا شكّ أرزاق فلمّا أتاني ما تمنّيت ساءني ... من العمر ما قد كنت أهوى وأشتاق يخيّل لي فكري إذا كنت جالسا ... ركوعي على الأعناق والسّير إعناق «1» ويذكرني منه النسيم وروضة ... حفائر يعلوها من الترب أطباق وها أنا في إحدى وتسعين حجّة ... لها فيّ إرعاد مخوف وإبراق يقولون ترياق لمثلك نافع ... وما لي إلا رحمة الله ترياق «2»

وقوله: [الطويل] عليك حقوق للمعالي وأنعم ... وأنت بها إن لم يحدّث بها رهن حملت يدا من جود أفضل ذي يد ... هي المنّ لا يغتال رونقها المنّ تو خّاك عزّ الدّين بالفضل باديا ... وحازك من وسميّ «1» نائله مزن فريضا إذا شتم الرواة فريضة ... تمنت له لو أنّها للورى أذن إذا شامت الهيجاء سيف انتقامه ... فليس له إلا رقاب العدا جفن عنت لك سادات الشجاعة والنّدى ... ومن ذا الّذي يرنو إليك ولا يعنو وقوله: [البسيط] لولا ثقالة طبع فيّ أعرفها ... وحدي وإن أغفلتها خبرة الناس لزرت لا أجعل الأعياب محمدة ... ولا أزال طفيليّا بإيناسي لكن علمت نداي أنه خلق ... وماله غير ترك النّاس من آسي واعذر فشعري كطبعي لست أنكره ... النّفس نفسي والأنفاس أنفاسي وله: [الطويل] فرخشاه عزّ الدين مكتفل العلا ... وباعث روح الجود والجود دارج لئن حالت الأقدار دون ازدياره ... وسدّت بأعذار إليه المباهج فمن ذكره عندي خيال مسامر ... ومن شوقه بين الجوانح لا عج وكم عاشق يدنو المزار وقلبه ... يكابد أثقال النّوى ويعالج وقوله: [مخلع البسيط] ربّ مليح الدلال غرّ «2» ... داني الهوى صدره سليم يسلبني عن ضنا فؤادي ... وهو بأسبابه عليم

رغبت عنه إلى وداد ... على زوال الرّضا يقيم محتضر بالوفاء باق ... يرنم «1» رضوا ولا يريم «2» من ماجد الجود أريحيّ ... نصاب آبائه كريم معشره في الوغى أسود ... وفي صميم العلا قروم وفي الهدى والنّدى ملاذ ... فهم نجوم وهم غيوم وله: [البسيط] بدا النّوى لكؤوس الوصل خادجة ... ما راق إلا وللتفريق ترنيق «3» يا من تكدّر صفو العيش بعدهم ... اليوم أيقنت أنّ الوصل راووق «4» أستودع الله ربعا دون ساكنه ... لواحد العيش تغريب وتشريق ولا سقى واصبا أصغو لزخرفه ... فإنه غمر الأحباب فاروق وله: [الطويل] بملكك فخر الدين رثّت ممالك ... تقضّت بأطراف الرماح العدا عنها نهاها عن الرّشد المخالف حقبة ... فكنت له بالسّيف عن غيّه أنهى بك اليمن الكبرى تضاعف يمنها ... فما يبلغ الوصل المحيط لها فيها يمينا لقد حازت بمجدك سؤددا ... على المدن أضعاف الذي حزته منها وله: [الطويل] ذريني وخلقي ما أهمّ فإنني ... رأيت الذي اقنو الذي أنا أبدل «5» عجبت لمن ينتابه الموت غيلة ... تروح به أو تغتدي كيف ينحل

وهب أنه ممن محا الموت آمن ... مسرّته بالعيش لا تتبدل أليس ترى أنّ الذي خلق الورى ... بأرزاقهم ما عمّروا يتكفّل وله: [الخفيف] أرعينا بكت بدمع فعيني ... عوض الدّمع قد بكت بالسّواد أعوزتني الدّواة عند كتابي ... فأقامته لي مقام المداد وله: [الخفيف] لا مني في اختصار كتبي حبيب ... فرّقت بينه الليالي وبيني كيف لي قد أطلت لكنّ عذري ... فيه أنّ المداد إنسان عيني «1» وله: [الخفيف] أيها الغمّ هل بذا القلب فرحه ... من غضوب ما زلت أطلب صلحه يتجنّى ظلما ويمزح بالهج ... ر ومن ذا يطيق بالهجر مزحه كلّ يوم يجني ذنوبا وعذري ... واقفا يرتجي رضاه وصفحه طال ليلي مذ غبت عنه فما (م) ... أبصر إلّا يوم التواصل صبحه لا مني فيه ناصح غير أنّي ... لست ذا سلوة فأقبل نصحه ما ألذّ القبول لو نفحتني ... بالهنا من علا فرّخشاه نفحه منحتني خدمة علياه فكا ... نت لديّ أشرف منحه أخرستني عن مدحه بلساني ... ثم أملت من حسن حالي مدحه لم تر النّفس فرجة من سرور ... في بعادي ولا رأى الجسم صحّه بك أبصرت حسن وجه زماني ... حين غيري رأى بغيرك قبحه وله: [الطويل]

أيا مالكي رقّي وليس بفرصة ... لنفسي إني بعد ملكي أعتق لقد غشيتني حيرة في فراقكم ... تكاد لها نفس التحمّل تزهق فوالله ما أدري إذا ما ذكرتكم ... وقد حال بعد بيننا وتفرّق أأعلن بالشكوى إليكم من النّوى ... وما فعلت إني إذن متملّق أأسكت أي أنّي جليد وصابر ... على فقدكم إني إذن متخلّق سلام عليكم من مشوق لسانه ... بغير حديث عنكم ليس ينطق وله: [الطويل] أيا مالكا يقري صوارم عزمه ... إذا حلّ خطب بالكرامة نازل أينكر إن ماجت بلادك مرّة ... بزلزلة ترتجّ منها المنازل وأنت الذي هدّ الطّغاة ببأسه ... ففي كلّ قلب من سطاه زلازل سرت رعدة الأجسام فيما اعترتهم ... إلى الدّار منهم فاعترتها الأكافل «1» وله: [الطويل] على جوجر «2» من شاطئ النيل منزل ... .......... به ملك تزهى الصوارم والقنا ... به والوغى تزهى به والكتائب عظيم فلا ترجى الطوائل عنده ... ولكنّه ترجى لديه الرّغائب جواد بكى والبحر ينضب خجلة ... به وتحرّى أن تصوب السّحائب ومن عبر أنّ الأحبّة أهله ... وإنيّ عنه بالعوائق غائب فداؤك عزّ الدين كلّ مؤمّل ... لفضل وعنه من جنابك جادب وهنّئت بالنّجل السّعيد الذي له ... تزقّ من اليوم العلا والمراتب يلوح من المهد المجلّل ذكره ... كما لاح نجم في الدجنّة ثاقب فلازلت للأحرار مولى وموئلا ... تحاذر إلا في ذراك العواقب

وله: [البسيط] قدّست من مرتد بالملك مؤتزر ... بالكبرياء ولكن بالورى رؤف يشكو مطال اللّيالي كلّما وعدت ... بأن تزيل وصالا من نوى قذف بالله أحلف أيمانا مغلّظة ... والله يعلم حسن الصّدق في حلفي لو نلت في بعدك الدنيا بأجمعها ... ما كان في حرزها بالبعد عنك يفي وله: [الطويل] علقت بتسحار اللّواحظ فاتن ... كأنّ بعينيه بقايا خماره يكسّر إعراضي بتكسير طرفه ... إذا ظلّ طرفي حائرا في احوراره وله: [البسيط] لم يسأل الله من جلّى مواهبه ... إلا وكنت له في السؤل أوّله ولم يزر بابك الأعلى ليخدمه ... إلّا وقد رفض الأدمى وأهمله وله: [البسيط] بالله أحلف أيمانا مغلّظة ... وبالكتاب الذي يتلى ويعتقد لو أن ألف لسان لي أبثّ بها ... شوقي إليك لما استوعبت ما أجد وإن يكن ابطأت يوما مكاتبتي ... فما على مثل ودّي ذاك ينتقد أنا الذي ليس يحصى ما أكابده ... من الصّبابة لا وصف ولا عدد الصّحف لا تسع الشّكوى فاذكرها ... ولا المطايا بأعباء الهوى تجد لم يخل ربعك من رسلي ومن كتبي ... إلا وذكرك مملوء به الخلد ولست أنكر تقصيري على شغفي ... لكن على حسن ظنّي، فيك أعتمد وله: [الطويل] بنفسي من أعلقت ظنّي بحبله ... فأصبح لي من ذروة المجد غارب تعمّد إيناسي إلى أن ألفته ... كأني له من ضجعة المجد صاحب

وأدنى سراري من سرائر قلبه ... فلم يبق من دون الضّميرين حاجب وكان عصا موسى لديّ وداده ... أصلّي ولي ما عشت فيه مآرب ولا عجب أن غيّر الدّهر صاحبا ... وكل تصاريف الزّمان عجائب وما كان ذنبي غير أني ذخرته ... لدهري إلا أنّي للدهر تائب ولست على هجرانه الدّهر ناكبا ... على الودّ لكني على الوصل ناكب «1» سأمنحه هجرا كما هو مشته ... فإنّي فيما يشتهيه لراغب وإن هو بعدي جرّب النّاس كلّهم ... ليحظى بمثلي قد رمته التّجارب وله أيضا: [الطويل] قدمت فلم أترك لذي قدم حكما ... كذلك عادى في العدا والنّدى قدما إذا وطئ الضّرغام أرضا تطانفت ... خطا وحشها عنه فوسّعها هزما «2» كما مرّ باز بالفضاء محلّق ... رأته بغاث الطّير حتفا لها حمّا وإن أك في صدر من العمر شاردا ... فكم نفر عن همّتي لقن الهمّا سبقت إلى غايات كلّ فضيلة ... تعزّ على طلّابها العرب والعجما وملّكني رقّ المناقب أنّني ... أحطت بآداب الورى كلّها علما فما منصب ممن ترقّت به العلا ... ترى فرقه من أخمصي فوقه وصما أبى لي مجدي أن يراني شاعرا ... يريه منانا أخذ جائزة غنما ولكنّني أهدي الثّناء لأهله ... وأكبره عن أن أملّكه قدما فآونة نثرا يحلّ [به] الحيا ... وآونة تنشا العقول بها نظما قريضا هو السّحر الحلال بيانه ... تروق معانيه ولو ضمن الشّتما تعظّم إلا عن عظيم محلّه ... يعظّم ما فيه من الحكمة العظمى هو الفضل في الإنسان أمّا أعزّه ... فنقص إذا ما سامه الذلّ والهضما ولولا على الملك الّذي عزّ مثله ... على الدهر فرّخشاه ذي الشرف الأسمى

لأظمأني ثغر المراد ولم أرد ... به موردا عذبا ولا مشربا جمّا وجدت به من كنت لولا لقاؤه ... يئست لعيني أن ترى مثله قرما مليكا رأيت المجد والفهم عنده ... ولم أر خلقا جمّع المجد والفهما متى عزّ أفراد المعالي فإنهّ ... لأوّل من يسمى وآخر من يسمى إذا قوله والفعل في ملّة جرى ... يبدّيه في الآراء مقتضبا حكما رأيت العقول الباهرات بهيرة ... فأفضلها ما كان بالحكم مؤتما أرى فيه مولى كلّ مولى رأيته ... مناقب إلا عن نقيبته تحمى يحاول كتمان العطاء بجهده ... ويأبى شروق الشّمس أن يألف الكتما تصوب على ظنّ العفاة يمينه ... كما أرعفت في الحرب أرماحه الصمّا تناهى وغالى في الشّجاعة والنّدى ... فأقنى الورى حربا وأعناقهم سلما حوى من أبيه فخره بعد جدّه ... ومن عمّه الفخر الذي شاع بل عمّا وبالله ما احتاجت مفاخر نفسه ... إلى نسب يبدي أبا، لا ولا عمّا رويدك عزّ الدين لم تبق همّة ... ترقّى إلى حيث التقينا ولا وهما ملكت على الأملاك في كلّ ساعة ... غدا عجزهم عنها عليهم بها وسما وحزت العلا حتى كأنك أقسمت ... سجاياك لا خلّيت منها لهم قسما وأوتيت حكم الشّيب في رنق الصّبا ... كما فقتهم رأيا ولم تبلغ الحلما أقلني من بعد المعاني ولفظها ... وخذ بيدي إن زلّ فكري أو غمّا فقرّك لا بل ندّ خاطرك الذي ... تدقّ معانيه إذا ما رمى أصمى «1» وأنت الذي لو سمت كلّ مهذّب ... يخافك في فهم لسمّيتهم ظلما ولست بمدحي تستزيد قمامة ... ولكن لي من مدحك الشرف الفخما بقيت على الأيام في ظل نعمة ... بها البؤس للطاغي وللطائع النّعما مراضيك تستدعى وراجيك يرتجى ... وعونك يستعدى وغيّك يستهما

وله: [الطويل] ومذ قيل لي تشكو سقام جفونه ... تغيّض بي وجدي وجفّ غرامي فقير غريب في المناصل حمرة ... وغير عجيب في الجفون سقام وكتب إليه ركن الدين الوهراني: وصلت رقعة مولاي تاج الدين أطال الله بقاه بلفظ أحسن من نور يفتحه الصّبا، وخط كبيض العطايا في سواد المطالب. يشهد من رآه وسمعه أنه رجل عليّ الهمّة، ريّان من الحكمة والأدب. ولولا تفاضحه في أول لفظه فيه، وهي قوله: ما نقبا، فإنّها وإن كانت فضيحة عربية نطق بها الكتاب العزيز فإنها تقبله الحركة قليلة الاستعمال، لم يأت بعدها ما يناسبها من اللغة، كأنّها من حديث سكان نجد وتهامة، عليها روائح الشيح والقيصوم «1» . فلو أنّ الشنفرى يخاطب عمر بن برّاق بها فما فهمها إلا بعد جهد جهيد. إنّها لا ينطق بها اللسان حتى ينخلع منك الفك مع ما فيها من الندّ يصرم، والرفاعة المعجونة بالتبصرم ولأجل ذلك جاوبتها الألسن بأنواع من الضراط. فصل منها: وأما كلامه على بيت المتنبي فلله درّه لقد جاءه ثابت الأصول سالم الفصول في نهاية ما يكون من الحسن والإتقان، وفرح الخادم به فرحا عظيما، كالخصيّ المفتخر بإحليل مولاه، وعرضه على طالبيه من أهل الأدب، فانتقده عليه أفضلهم وزيّف أكثر كلامه. وقال: المتنبي في واد وهذا المتكلم في واد. لعمري لقد حكم بالشهوة ومال مع الهوى: [الكامل] كضرائر «2» الحسناء قلن لوجهها ... حسدا وبغيا إنه لدميم حتى سجد له عجبا، وقام به وجدا. ورقص عليه طربا. والفضل ما شهدت به الاعداء.

فالحمد لله الذي حقّق فيه الأمل، ونصر به الخاطر، ولم يخيّب فيه الظنّ والسلام. فصل منها: أليس يعلم بسعادته أن الإنسان إذا تعصب لا يحسن العالم جعله أوحد الزمان، ونصر بخاطره بالحق الباطل. ولا يشتهي أن يظهر من ذلك الشخص إلا الحسن الجميل؛ فلأجل هذا عيب عليه الخادم في قوله: تحرّك الحار العزيزي وشاه ظهور ذلك ما كان يحتاج إلى تأكيد. وأظنّه، ودام الله عزّه، خاف أن يقول: الحرارة العزيزية، فيشبه كلامه كلام العامة والسّوقة، وكوادن «1» الأطبّة، وجهّال الطبيعيين، فتخطّى هذه الطبقة إلى رتبة الفارابي وابن سينا، فحمل على أفلاطون عشرة آلاف حمار. يا مولاي تاج الدين لا تجرد على المدين الأنجس. فصل: وأما تعريضه لخادمه بالقيادة وعتبه له على زواج النساء العواهر، فسيدنا معدود في ذلك؛ لأنه لم يذق حلاوة هذه الصناعة ولا تطعّم بنعيمها. ولو أنّه، أدام الله عزّه، خرج من بيته يوما، ولم ينزل لبيته إلا ثمن الخز والخبز، ورجع بعد ساعة وجد فيها المكائب الرفخة والسنبوسك المورّد والفراخ المصوص، والدجاج المسمّن والقناني المزوّقة والفاكهة النبيلة، والرياحين الطريّة، فيربع في الصدور، وجلس على بطون الفرش. وظهور المخادّ وهشم الثرائد، وفقء عيون البيض، وقطع قلوب الخسّ وأخذ الملآن وردّ الفارغ. واقترح الأصوات، واستعاد الغناء. ولم يخرج في هذا كلّه إلا التغافل وحسن الحظ، وقلّة الفضول لعشق هذه الحالة. ودخل فيها بجملته، وسأل الله تعالى أن يحييه قوادا ويميته قوّادا ويحشره في زمرة القوادين. ويظن الخادم فيما يتلوه عليه من الأساطير كجالب التمر إلى هجر «2» . وربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه. [البسيط]

وابن اللّبون إذا ما كنّ في قرن ... لم يستطع صولة البزل القناعيس «1» ومهما فضّل من جهل النساء العواهر الحسان فلا يجهل أن أكل الحلاوة مع الناس خير من أكل الجزاء مفردا. فصل: وأمّا اتّهامه للخادم بأنه استقرض منه البقيار «2» للبيع أنّه استعرض به للطلب، فقد حلف على نفي التهمة، وهو لا يصدقه، فما بقي إلا الكلاب على عيال من رآه أهلا لذلك قط. ويحمل الحمير على أم الذي يعطيه إيّاه أبدا. ولا شك أن الخوف على البقيار غلب عليه، حتى لو كتب إليه الخادم لا إله إلا الله. قال: هذا تعريض بالبقيار، كما قال تعالى: «يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ «3» » ، إذا رأى غير شيء ظّنه رجلا، فكيف يجوز للوهراني أن يطلب بقيارا جديدا من رجل بغدادي الحسب، تاجر المكتسب أشعري المذهب. كندي الأصل. وهذه الخلال لا تجتمع في كريم قط. ألا ترى أن أول من اجتمعت فيه ملك كندة امرؤ القيس بن حجر، وهو القائل يوم دارة جلجل، وقد نحر ناقة تساوي ثلاثة دنانير لنساء فيهن محبوبته: [الطويل] ويوم نحرت للعذارى مطيّتي ... فواعجبا من رحلها المتحمّل فظلّ العذارى يرتمين بلحمها ... وشحم كهدّاب الدّمقس المفتّل «4» فلو كانت محبوبته عاقلة شحّمت وجوه العذارى بشحمها، وأدخلت ما بقي منها في استها. وهذا أبو الأسود الدؤلي شاعر مفلق، وهو أول من تكلّم في النحو. خرج ليلة من داره فسمع حمارا له يعتلف، فقال: إني لنائم في فراشي وأنت تسرّي «5» في مالي؟ والله لا بقيت لي في ملك. وأصبح به إلى السوق فباعه بأبخس الأثمان. وهذا أبو الطيب المتنبي،

شاعر كندي، لمّا أفرغت بين يديه الجائزه المشهورة، وأمر بردّها إلى كيسها، فعلقت قطعة منها في خلال الحصير، فجعل يعالجها ويقول: [الطويل] تبدّت لنا كالشّمس تحت غمامة ... بدا حاجب منها وطنّت بحاجب ولمّا ظفر بها، وخاف العتب من الحاضرين، قال: لا تحقروها فإنّها تحضير المائدة. فكان عذره أنجس من ذنبه. ولو بيع هذا لطال، ودع عنك هذا كله لو كان الخادم ممّن يهون عليه التبذل لكدي بني شادي الذين هم فتيان الجود وبرامكة الزمان، لا سيّما المولى عزّ الدين أدام الله نعمته، الذي يمينه أندى من الغمام، وعزيمته أمضى من الحسام، ووجهه أبهى من البدر ليلة التمام. وهو على الحقيقة نهر للجود من ماء السماء ابن بحر السماح. [الكامل] ورث المكارم من أبيه وجدّه ... كالرّمح أنبوب على أنبوب «1» وأي رجل أخسّ وأعتى من رجل يكدي الكندي الذي لقبه أبى أن يأخذ ويترك المولى عزّ الدين الذي لقبه أبو المواهب. وما هو في ذلك إلا كرجل ورد على هذا النيل فتركه ناحية، وحفر إلى جانبه في أرض صلبة سبخة كبريتية، لعلّه أن يخرج له ماء ملحا زعاقا «2» ، ويترك الماء العذب الزلال بغير كلفة ولا عناء. وأنشد: [المتقارب] وإني وتركي ندى الأكرمين ... وقدحي بكفّي زندا شحاحا كتاركة بيضها بالعراء ... وملبسة بيض أخرى جناحا كأني أدام الله عزّه إذا قرأ هذا البيت قال: أحسنت. وهذا ممّا كنّا فيه، لمّا يئس من العبد رجع إلى المولى. والله لا تمّ لي معي مضرب أبدا يئيس الأمن، كما ظنّ. والوهراني ما هو مجنونا يطمع فيّ فيمن يسمع قولك. ويرجع إلى رأيك، وأنت الغالب على أمر، امرأة الواهراني طالق ثلاثا البتة، لا آخذ منه درهما أبدا. وأشهد أنّ ماله عليه حرام، كالدم والميتة ولحم الخنزير.

42 - ابن الشحنة الموصلي

وأمّا تعريضه له بالصفع، فليته فعل حتى يستوفي ماله عليه، ويترادّ منه في الدنيا والآخرة. وهو أهون عليه من أن يستوفي ذلك منه في حظيرة الجحيم بأنامل من نار. ورأيه العالي في التقاضي والسلام. ومولد الكندي بكرة نهار الأربعاء، لخمس بقين من شعبان سنة عشرين وخمسمئة وتوفي يوم الاثنين لخمس خلون من شوال سنة ثلاث عشرة وستمئة. ومنهم: 42- ابن الشحنة الموصلي «13» وهو أبو حفص عمر بن محمد بن علي بن أبي نصر. جدّ في اعتنائه، ووجد في اجتنائه. ماثل الصباح باجتلائه، وقابل القمر الليّاح في اعتلائه. كتب لأخيه، وكبّ إلحاء إلى أضيق نواحيه. فسعدت به أصدقاؤه، وصعدت إذ علا به ارتقاؤه. وجهد في مقتبل عمره، وتلف شبابه في خضره وقطع الليل مواصلا للسهر، وواصلا عاتق العشاء بذيل السحر؛ حتى دعا بالإمامة وعرف بالعلامة، وانتصب للإقراء؛ وإنما نصّب للتمييز لا للإغراء. فلم يحجب عن علياء، ولا مشى على استحياء؛ لفضله البارع وإفضاله المسارع. ذكره ابن المستوفي، وقال: عالم بالنحو واللغة، أخذ ذلك عن رجال بغداد العلماء، مثل ابن الأنباري وأبي الحسن القصّار، وغيرهما. وسمع كثيرا من كتبهما، وسمع عليه كتاب إصلاح المنطق. وكان ختم القرآن، وقرأ بمستعمل القراءات «1» وشواذّها. وكان بينه وبين أبي الحرم شحناء عظيمة. كان أبدا يفتري

عليه ويأخذ من عرضه، وشيخنا لا يجيبه عن ذلك؛ لورعه ودينه. وكان خبيث اللسان سيّئ العقيدة، مقيما على شرب الخمر. يتمثل إذا أخذ منه السكر: اليوم خمر وغدا أمر. هجّاء لكل من صحبه. لم يحسن أحد إليه إلا وقابله بالإساءة. كثير الاستهزاء بالأمور الدينية، كثير الخلطة لأوباش الناس والشرب معهم. رحل في صحبة أبي إسحاق إبراهيم بن عبد السلام إلى السلطان أبي المظفر يوسف بن أيوب، فمدحه فأحسن صلته. ولمّا وصل إلى الموصل تنكّر له صاحبها أبو الفتح مسعود بن مودود. فلمّا ولي ولده أبو الحرث أرسلان بن مسعود أحسن إليه، وولاه بعض أعماله. وكان يحضر مجلس شرابه، فنقل إليه أنه هجاه فلم يصدّق ذلك لعدم الموجب له. فاتفق أن أمر بإحضاره وسأله عن ذلك، فأنكر، فأمر بضربه بالدّرة، فلما ضرب سقطت ورقة من عمامته، فيها الهجو الذي نقل عنه، فشهره في الموصل بأسرها، وحلق لحيته وحبسه، فأقام مدّة طويلة. وولد له بالحبس ولد وتوفي، كما ذكر المواصلة «1» محبوسا. قال ابن المستوفي: وحدثني أبو المهنّد سيف بن محمد الزيلعي قال: نزل بي إنسان بدوي، كان حبسه أتابك، أبو الحرث لمّا أسره مع من أسر من العرب في وقعة كانت له عليهم. قال: رأيت في محبس الموصل رجلا فاضلا شاعرا، فسألته عن سبب حبسه، فذكر أنه حبس لهجو بلغ عنه الأتابك. قال: وو الله ما هجوته؛ وإنما قلت قصيدة منها: [البسيط] أعيذ مجدك من قدم أقول له ... إني زهير ولكن ليس لي هرم فحبسني كما ترى. ومن شعره قوله: [الكامل] طربا أقول إذا الحمام ترنّما ... عيش لنا بالأنفقين تصرّما قصرت مسافته فكان كزائر ... وافاك في سنة الرّقاد مسلّما أشكوتنا عدة تعيّن كلّما ... نهنهت فيض دموعها فاضت دما

فاعص اللوائم في هواك فإنّما ... رشد المتيم أن يعاصي اللوّما واشرب على زهر الربيع مدامة ... كالشمس تبدي المرح فيه أنجما أو ما ترى نوّاره وكأنه ... نشوان أصبح باكيا متبسّما رقد النسيم بجانبيه فنبّهت ... أنفاسه منه عيونا نوّما وسرى ينمنم وشيه فحسبته ... وافى بأخبار الأحبّة نعما صقلت حواشي روضه فكأنّه ... من حسنه قد همّ أن يتكلّما وكأنما ورق الحمام فواقد ... في الدوح يبكي النائح المترنّما تشدو فتخبر مغرما عن مغرم ... فيها ويفصح معرب عن أعجما بدع كبدع في السما حديثه ... كالغيث أنجد في البلاد وأتهما أضحت أغضّ من الصبا وألذّ من ... شكوى المحبّ إلى حبيب أنعما ملك له المجد القديم وكلّما ... قدمت مباني المجد أصبح محكما متواضع وأقلّ ما يعتدّه ... فيه التواضع أن يكون معظّما إن ضاق دهر كان مسرح همّه ... رحبا وإن عيش الزمان تبسّما فإذا ارتقى من قلّة من سؤدد ... هتفت به أخرى لكي يتقدّما راض الخطوب الجامحات فاصبحت ... وأعاد منأدّ «1» الزمان مقوّما وتآلفت فيه القلوب فما ترى ... منهن إلا منبيا ومعظّما تتلو الصوارم والقنا غبّ القنا ... في كفّه مفلولة ومحطّما في كل أرض قد أقام لنصره ... عرسا ومن زاد الأعادي مأتما تلك النواحي من نصيبين غدت ... غيرى وأم النشر ثكل أيّما فالجوّ أكلف والجناب لحربه ... مجل وضوء نهارها قد أظلما جور الصوارم في البرية عادل ... فإذا سفكن دما حقنّ به دما لا يدرك الآمال من يقتاده ... وسن التعلّل نحو ليت وعلّما هذا النبي وكان أفضل مرسل ... زجرت قريش منه طيرا أشأما

حجدت نبوته فقام مجاهدا ... وأعاد مشركها حنيفا مسلما قطعوا له الرحم القرينة بينهم ... عددا وقاطع مثلها أن يرحما وافى ابن عمك حاسرا من كنزة ... رأسا فراح من الهوان معمّما لا قى شكائم شدّة من فارس ... رجعت به مضمى وكان مضمّما «1» لا قى الأماني عذبة حتى إذا ... ما ذاقها عادت أجاجا علقما نجّاه ما نجىّ أباه وقد رأى ... طير المنايا من عباده حوّما متدفّق لولا تمطّره به ... لرأيته بسنا الأسنّة ملخما «2» لمّا رأى علميك ولّى معلنا ... بالويل منه وبالمذلة معلما سدما تذم له قوائم سابح ... لو أنها غدرت به لتذمّما لا يغرينّ به الملام فإنما ... يلقى المتيّم أن يكون متيّما ومنها يطلب فرسا: جد لي بأجرد إن تعرّض خلته ... سيدا تمطّر في الدّجى فتقحّما ينمي إلى آل الوجيه ولا حق ... متلاحق الأقراب ليس بأهضما مثل الظليم إذا تهادى مدبرا ... والظبي إن لاقيته متقدّما متناصب الأذنين تحسب أنه ... بهما يحاول أن يرى أو يعلما هرج الصهيل كأنّما ترجيعه ... ترجيع نشوان غدا مترنّما ومن آخرها: قيّدت بالإحسان نطقي أن يرى ... في غير حمدك معرقا أو مشئما وحميتني غدر اللئام فإن أعد ... مرتادهم فغدوت منهم ألأما فلقد نصبت من الثناء حباله ... فاصطدت حبّك لي جوادا منعما وعلمت أن الشكر عندك غرسه ... يضحي لمن أولاه غرسا مطعما

كن معدما ومن المعالي مقربا ... من جدّ في العلياء أصبح معدما واسمع أقامت في جنابك دولة ... يخشى لها البؤسا ونرجو الأنعما مدحا كنور بات يصقله الندى ... ليلا وباكره النسيم مهينما «1» غرّا كريم الأيد غير مصونها ... إلا إذا ألفت أغرّ مكرّما ما صافحت فكر الفصيح ونطقه ... إلا أعادته عييّا مقحما لو شام رونقها الوليد جفالها ... أمحلّتي سلمى بكاظمة اسلما واسلم ليسلم كلّ مجد إنّه ... لن تسلم العلياء حتى تسلما شرّفت أبكار القوافي مثلما ... شرّفت دهرا كنت فيه القيّما قال ابن المستوفي: نقلت من أوّل مجموع بخطّه ما صورته: لمّا أنفذ الله سبحانه وتعالى في سهام قضائه، وامتحنني في الدنيا ببلائه، ونظمني في سلك من غبر من أوليائه، ومن اجتباه من أنبيائه وأصفيائه الذين أنطق بمدحهم كتابه وأجزل لهم ثوابه. فقال: «وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ «2» » ، مدّت إليّ الأيّام باعها، وقرتني الأجداف ذراعها، وأدارت على كأس مدامها، وغرّتني بابتسامها؛ فلم أفق من نشوتها ولا فقأت خمّار خمرتها ألا وقد بدّلت بكل قريب بعيدا، وبكل وصل صدودا. وأصبح السجن لي منزلا أهلا، والأشجان لي مناهلا؛ حتى رمقتني من الله عين رحمته، وكنفتني ظلال رأفته، فأتاح لي جليسا، جعل الله بوحشة السجن به آنسة الربع والمربع، ومقر متارعه عذبة المكرع. يقصر الخاطر عن تعداد معاليه، ويقصر النطق عن إظهار معانيه. وما محاسن شيء كلّه حسن؟ فاقترح عليّ أن أجمع تذكرة ممّا يمليه الخاطر عليّ، ونسخ به إليّ، تكون له، إن منّ الله تعالى علينا وعليه بفكاك الأسر؛ لمذاكرة أيّام البؤس، والزمن العبوس؛ ليواصل حمد الله سبحانه على ما انجاب من غمامها، وانجلى من ركامها. فأجبته إلى ذلك بصدر غير منشرح، وقلب غير فرح، والثغر يفتر، والأحشاء تحترق، والله المستعان وإليه الشكوى من كلّ بلوى.

وهو حسبي ونعم الوكيل. فانجدر ما يبتدي به ما يغنينا من وصف حالنا، وهو ما يقال في السجن قد قيل: إنّ السجن محكّ العقول وتجربة المأمول. به يمتحن الصبر من الأحرار، ويكشف العقل والوقار. وألطف ما قيل فيه قول بعضهم، وهو معلقة: [البسيط] السّجن أصبح مثل النار مضرمه ... والحرّ فيه إذا فكّرت كالذهب يصلى بنار هموم في جوانحه ... تنفي المآثم من حسد ومن لغب «1» وبشعره أبيات ابن الجهم «2» بين الناس لم يذكرها، وهي قوله: [الكامل] قالوا حبست فقلت ليس بضائري ... حبسي وأيّ مهنّد لا يغمد ولمعلقه: [البسيط] لا عار في السجن للأحرار إن سجنوا ... لغير جرم ولكن سجنهم شرف فإنّ آل رسول الله كان لهم ... منه نصيب ولم يجنوا ولا اقترفوا كالسيف والدرّة الزهراء سجنهما ... خوفا وضنّا بها الأغماد والصدف قال: وكتب: بعض الأوقات منضجعا في علوّ، كنت آوي أيّام سجني بقلعة الموصل، وإذا بحمامة تهتف في أعلى ذلك الموضع، فعرض لي طرب حزن، وجدت منه راحة بالبكاء. فقلت: لله درّ غيلان «3» كأنه أوحى إليه قوله: [الطويل] فإنّ انحدار الدمع يعقب راحة ... من الوجد أو يشفي نجيّ البلابل «4» فعملت أبياتا، وهي: [الكامل] وحمائم غنيّن في رأد الضحى ... طربا فقلت مقالة المحزون

غنّين فالوجد الذي تبدينه ... وجدي المكتّم والشجون شجوني ما جامدات الدمع كالجاري ولا ... حال الطليق كحالة المسجون ثم كتبتها على حائط ذلك الموضع. قال: ورأيت كثيرا من المتقدّمين يحكون عن دعبل الخزاعي أنه كان يقول: أين من قولي أنا: [مجزوء الكامل] لا تعجبي يا سلم من رجل ... ضحك المشيب برأسه فبكى «1» وليس هو بأجود من غيره على أنه أخذه من قول الحسين بن مطير الأسدي: تضحك الأرض من بكاء السّماء «2» ولي في هذه المعنى: [البسيط] أما ترى الروض قد حيّاك مبتسما ... لمّا استهلّت عليه أعين السّحب وغنّت الورق في أعلى الغصون ضحى ... حتى تمايلن أعطافا من الطرب ولي في الورد: [البسيط] روض أنيق يروض العين منظره ... أتاك في خير وقت غير منعوت كأنما الطلّ في أوراقه سحرا ... لآلئ نثرت في صحن ياقوت ولي في الشقائق: [البسيط] هذا الشقائق قد أبدت محاسنه ... إلى العيون عيونا كلّها دعج «3» كأنّه فوق ساق من زمرّدة ... مداهن من عقيق حشوها سبج «4»

ولي في الثلج: [المنسرح] أما ترى اليوم قد غدا ثملا ... من مستهل الغمام مخمورا والجوّ في حلّة ممسّكة ... ينثر فوق الرياض كافورا ومن قصيدة: [البسيط] رقّ النسيم وراق الماء والراح ... وافترّ من حلل النوّار إصباح هذا الربيع ينادينا علانية ... هبّوا فقد هبّ للأرواح أرواح أما ترى الروض مهتز الغصون كما ... يهتز من ذكر الأحباب مرتاح فللغمائم في إقطاره زجل ... وللحمائم في أعلاه إفصاح فاتبع ضلال الهوى فالرشد مرتبع ... لا ظلّ فيه ولا روح ولا راح واشرب مشعشعة كالشمس مشرقها ... على الندامى أباريق وأقداح من كفّ معتدل لا عدل فيه ولا ... لطالب النّجح من أحيته إنجاح لي من عذار به ريح ومن فمه ... خمر ومن خدّه ورد وتفاح هذا النعيم فعاد اليوم فيه فتى ... له على القصف إصرار وإلحاح واعمد إلى من بجاتيل «1» فإن به ... محاسنا لسرور النفس مفتاح كم فيه من أشعث باد سجومته ... تهفو لرتبته تلك الأكيراح «2» ولي في هذا الدير، والله يتجاوز عمّا عثر به اللسان، وأسأله الصفح: [الكامل] يا من بجاتيل وإن بعد المدى ... سقّيت صوب سحائب وبوارق يا حبّذا نوّار روضك إذ غدا ... يفترّ من دمع الغمام الدافق معنى خلعت به العذار تصابيا ... في غنج أحداق وزهر حدائق أيام أجري في ميادين الصّبا ... متخايلا جري الجموح السابق أجتاب ثوب ظلالها فكأنني ... ما بينها طيف الخيال الطارق

ألهو بنشوان القوام بوجهه ... شغل الخلي ونزهة للوامق «1» ما زلت أسقيه ويسقيني إلى ... أن شيّب الظلماء وخط السّارق كأسا إذا الساقي اجتلاها في الدّجى ... جعلت على خدّيه ثوب شقائق طورا أنا شده النسيب وتارة ... يشدو فيطربني بلحن مخارق حتى رأيت السّكر يخفض صوته ... وبدا النّعاس يحل عقد عقائق فلثمته عند الكرى فإذا به ... سلس القياد مطيّة للفاسق فجرت هنالك في مطاوي سرّها ... مرضاة إبليس وسخط الخالق قال ابن المستوفي: ونقلت من مجموعه المذكور بخطّه ولمعلّقه: [الكامل] يا من يدكّ على كريم في الورى ... حتى أملّكه كرائم مالي هذا الزمان إذا تيمّم «2» آمل ... أحدا يعود مخيّب الآمال ومنه قال معلقه: كان لي في عنفوان الشبيبة وزمن اللهو صديق كنت آنس به ويأنس بي، ويطلعني على الخاص من سرّه. وكان من أولاد الكتّاب، فهوي صبيا من أولاد الجند. فكنت إذا ذكرته عنده يضرب عن ذكره صفحا، ويقول متمثلا: [الطويل] ودع عنك نهبا صيح في حجراته ... ولكن حديثا ما حديث الرواحل وان قلت له ها هو قد أقبل انظر إليه، يلوي وجهه عني. ومع هذا كله فكان به كلفا، وكنت أعلم ذلك منه. فقلت له يوما وقد خرجنا إلى بعض الرياض للخلوة: ما أبرد حبّك لمن لا يعلم به، ولا تعمل الحيلة في الوصول إليه، والجلوس معه؛ حتى إنك تضرب عن ذكره، وتكفّ نظرك عنه إذا قيل لك: قد أقبل. فقال لي: يا هذا، إنّ غرامي به لأحرّ من لظى على ساكنها، ولكن أخاف الفضيحة. وإن يفطن به الناس، أو أني أنظر إليه فيستحي مني. فإن نظر إليّ قتلني لا محالة. فأريد أن

تعمل في هذا المعنى شيئا. ثم قال: أزيدك شيئا إنني لأضرب عن الفكر؛ لتوهمي ربّما خطر ذلك بباله فيخجل منه. فقلت له: يا سيدي، وإلى هذه الغاية؟ فقال: نعم. فعملت هذه الأبيات: [البسيط] إني لأنساه خوفا أن يلمّ به ... فكري فيخرج منّي الفكر خدّيه وأمنع الطرف يوما أن يلاحظه ... فإنّ سهم المنايا بين عينيه هذا اعتذاري لخدّيه ومقلته ... فما يكون اعتذاري من عذاريه قال معلّقه: كتبت إلى بعض إخواني في يوم دجن، وكان قد وقع فيه الميلاد، واتّفق أنه يوم سبت، ولم أقدر على الخروج من منزلي من كثرة الوحول والمطر، وشدّة القرّ. حبانا الله بلقيائك، وأحيانا ببقائك يوم طلعت سعوده وغاب حسوده، وتبرقعت بدجنّه شمسه، وانهزم من طلائع إقباله نحسه، ورقّت حواشيه، أمنّا رقى واشيه. لم يقترح مثله على الدهر مقترح، ولا ظفر بشكله مغتبق «1» ، ولا مصطبح. [البسيط] سبت ودجن وكانون وميلاد ... وماجن لرياض اللهو مرتاد وقهوة من محيّا من كلفت به ... أو كاعتقاد خليع فيه إلحاد رقّت وراقت فخلنا أنها شفق ... ملألئ في نواحي الكأس وقّاد تذكو فيطفئها بالمزج آونة ... عنّا ويجمح أحيانا وتنقاد يسقيكها ذو دلال في لواحظه ... برء وسقم وموعود وإبعاد ومجلس ظل محفوفا بأربعة ... تآلفت وهي في الأوصاف أضداد فالبرق مبتسم والغيث منسجم ... والورق نائحة والغصن ميّاد فوافيا دار تشويق يحط به ... موسوس همّه نسك وإرشاد فليس يحظى بصفو العيش غير فتى ... يفنى بطالبه غيّ وإفساد ولا يصاحبك من هذا الورى أحد ... إلا خليع وخمّار وقوّاد عصابة رغبت فيما تعجّل من ... هذي الحياة وفيما قيل زهّاد

وقال معلّقه: [الطويل] سلوتك إن حدثّت نفسي بسلوة ... لحبّك مذ حدّثت أني هائم وأصغيت نحو اللؤم إن كان مسمعي ... تغلغل فيه ما تقول اللوائم أتيتك وجدا إن تلجلج منطقي ... به أفصحت عنه الدموع السواجم فإن هيج ذا الشوق الحمائم في الضحى ... فمنّي استعارت شجوهنّ الحمائم وفي آخره عند خاتمته هذه نفسه مصدور، وضجره مأسور، علقتها ولم أعد فيها نظري، ولا عددتها من مهام وطري؛ لأنني مثمود القريحة، دامي الجريحة، مأسور الخاطر والبدن، مشغول بصروف الزمن، وعلى الله، وهو المستعان. وقد أورد ابن المستوفي من شعره قوله يمدح السلطان صلاح الدين رحمه الله: [الطويل] سلام مشوق قد براه التشوّق ... على الحي من وادي الغضا إذ تفرّقوا أأحبابنا كيف التداني وركبكم ... غدا مشئما حقا وركني معرق فلمّا بلغ من مديحها قوله: وقالت لي الآمال إن كنت لا حقا ... بأبناء أيّوب فأنت الموفّق قال له السلطان رحمه الله: لقد وفّقت، وأجازه جائزة سنيّة. فكان هذا ممّا نقمه عليه أتابك، وأثّر في حاله عنده. وقال ابن المستوفي: أنشدني ابن بكاجك، قال: أنشدني ابن الشحنة لنفسه، وأتمّها على أبيات الصوري التي أوّلها: [السريع] يا جار إنّ الركب قد جاروا ... فاذهب تحسّس لمن النار تبدو وتخبو إن بدت عرّسوا «1» ... وإن أضاءت لهم ساروا كأنها برق بذات الغضا ... تبدو ودون البرق أستار

43 - أبو زكريا يحيى بن سعيد بن المبارك

عمرك إن آنست من أهلها ... فالمم بنا نحوك يا جار لعلّها النار التي أضرمت ... في كبدي من أجلها النار يطربني الشوق إليها جوى ... بطرب نحو النّوى ظار ويطّبيني لادّكار الحمى ... شيئان أوطان وأوطار قال: وأنشدني بعض المواصلة لابن الشحنة: [الكامل] صلى الإله على أمية إنه ... بصلاتهم تتمحّض الآثام قوم هم القوم الألى أيامهم ... عن ثغرها تتبسّم الأيام لا مثل أقوام غدوا من هاشم ... ما سلّ فيهم للفخار حسام أما النهار فسامدون «1» ودأبهم ... تحت الدياجي الفسق والأزلام الفضل نزر والمثالب جمة ... والذمّ حلّ والثناء حرام إن كان قائمهم يضاهيهم فلا ... نشرت له بين الورى أعلام قال ابن المستوفي: وزاد فيها من أنشدني: لا تفخروا بموالد فببعض ما ... تاقوا به تتقطع الأرحام قال ابن المستوفي: أخبرت أنه توفي بالحبس في قلعة الجديدة سنة ست وستّ مئة. ومنهم: 43- أبو زكريا يحيى بن سعيد بن المبارك «13» ابن علي بن عبد الله، من ولد أبي اليسر كعب بن عمرو الأنصاري. همّه بقية الأولى، ورمية العلا. معدود في أبناء الصحابة، وممدود له في الإصابة. قلّ قرينا، وقرّ؛ إذ كان بيته عرينا. لم يستطع دفاع سيله، ولا رفع شراع ليله.

44 - أبو البقاء، يعيش بن علي بن يعيش

رمت به أرومته «1» على السما، وسقت جرثومته «2» طيب الما. ولم يحل معه قداحا، ولا عنت سواه امتداحا. وساق ابن المستوفي نسبه، وقال: يخرج على أبي الحرم. وكان نحويا جيدا فيه ذكاء. ورد إربل ثم عاد إلى الموصل. بشّر به أبوه وقد أسنّ. فقال: [مجزوء الرمل] قيل لي جاءك نسل ... ولد شهم وسيم قلت عزّوه بفقدي ... ولد الشيخ يتيم ثم توفي أبوه وهو صغير، فلمّا كبر انقطع إلى أبي الحرم، فأخذ عنه النحو، وصرف إليه عنايته مراعاة لحقّ والده. وأنشد ابن المستوفي أشعارا منها، قوله: [البسيط] ما البدر حسنا يضاهي من خلقت «3» به ... ولا القضيب اعتدالا حين يعتدل كم يعذلون «4» عليه لا أبا لهم ... وكم يلومون لا لاموا ولا عذلوا قال: وبلغتني وفاته في ربيع الآخر سنة ست عشرة وستمئة. ومنهم: 44- أبو البقاء، يعيش بن علي بن يعيش «13» ابن أبي السرايا الموصلي الأصل، الحلبي المولد والمنشأ، موفق الدين المعروف بابن الصانع. رجل يورد منه النيل والفرات ودجلة والصرات، ويقابل منه الأسد الضرغام، والذهب إلا أنه

الذي لا يسكن الرغام «1» . هذا وغصنه في ورق شبابه، وطيبه يعبق في جلبابه. وازداد حين نوّر أقاحه، ودرّ درّه ولفاحه. واشتعل رأسه بالمشيب وراع العيون لباسه القشيب. وساوى النجوم ولم يبلغ حدّ الارتقاء. ومات وهو يذكر، أبو البقا. قال ابن خلكان: قرأ على أبي السخاء الحلبي والنيروزي، وسمع الحديث على أبي الفضل الخطيب الطوسي، وابن سويدة التكريتي والثقفي والطرسوسي، وخالد ابن القلسواني وأبي اليمن الكندي وغيرهم. وحدّث بحلب. وكان ماهرا في النحو والتصريف. رحل إلى بغداد؛ ليدرك أيام [أبي] البركات ابن الأنباري بالعراق، فأتاه في الموصل خبر وفاته. فأقام بالموصل مديدة، ثم عاد إلى حلب وتصدّر للإقراء. وكان حسن التفهيم لطيف الكلام طويل الروح على المبتدئ والمنتهي، خفيف الروح ظريف الشمائل، كثير المجون مع سكينة ووقار. حكى ابن خلكان، قال: حضرت يوما حلقته وبعض الفقهاء يقرأ عليه اللّمع لابن جني، فقرأ بيت ذي الرمّة في باب النداء: [الطويل] أيا ظبية الوعساء «2» بين جلاخل ... وبين النقا آأنت أم أمّ سالم «3» فشرع الشيخ يبينه، ويقول: إن هذا الشاعر لعظم وجده بهذه المحبوبة وكثرة مشابهتها للغزال شبها غلبه الحال، هل هي امرأة أم ظبية؟ وبقي يعيد هذا القول ويكرّره؛ ليفهمه الفقيه، وهو منصب، فقبل على كلام الشيخ بكليته؛ حتى توهّم الحاضرون أنه قد فهم. فلما فرغ الشيخ قال له ذلك الفقيه: يا مولانا، أيش في المرأة الحسناء يشبه الظبية؟ فقال الشيخ: قرونها وذنبها. فضحك الحاضرون وخجل الفقيه، ثم ما عدت رأيته حضر مجلسه.

45 - أبو عمرو عثمان بن عمر بن أبي بكر بن يونس الدولي

ولد لثلاث خلون من رمضان سنة ثلاث وخمسين وخمسمئة بحلب، وتوفي بها في الخامس والعشرين من جمادى الأولى سنة ثلاث وأربعين وستمئة. ودفن بتربته بالمقام «1» . ومنهم: 45- أبو عمرو عثمان بن عمر بن أبي بكر بن يونس الدّولي «2» ثم المصري، الفقيه المالكي المعروف بابن الحاجب «13» ، جمال الدين. فاضل أحسن في كل فنونه، وأحسب من داء الدهر وجنونه. شدّ جلابيبه للطلب واتّزر وقدّر، ولا عجب إن مدّ البحر وجزر، ولم يزل في جدّ يتزيّد، يزيد الأهلّة، ويتعهّد تعهّد السحب المستهلّة؛ إلى أن فّوض الدجى وأعجب، ورمّض الثرى فأعسب «3» ، فذلّل أعناق الكلام، وفتّق أخبية الكمام. وكان قديرا على الاختصار، مدبّرا للعلم على ما يريد من الاختيار فكلف بتصانيفه حذّاق المتكلمين، وجاء وفاق المتعلمين. قال ابن خلكان: كان والده حاجبا للأمير عزّ الدين موسك الصلاحي، وكان كرديا، واشتغل ولده بالقاهره في صغره بالقرآن الكريم، ثم بالفقه على مذهب مالك، ثم بالعربية

والقرآن وبرع في علومه وأتقنها غاية الإتقان، ثم انتقل إلى دمشق ودرس بجامعها في زاوية المالكية. وأكبّ الخلق على الاشتغال [عليه] «1» والتزم لهم الدروس، وتبحّر في الفنون. وكان الأغلب عليه علم العربية. وصنّف مختصرا في مذهبه، ومقدّمة وجيزة في النحو، وأخرى مثلها في التصريف، وشرح المقدمتين، وصنّف في أصول الفقه وكلّ تصانيفه في نهاية الحسن والإفادة. وخالف النحاة في مواضع، وأورد عليهم إشكالات وإلزامات تبعّد الإجابة عنها، وكان من أحسن خلق الله ذهنا. ثم عاد إلى القاهرة وأقام بها، والناس ملازموه للاشتغال عليه. وانتقل في آخر عمره إلى الإسكندرية للألفة بها، فلم تطل هناك. وتوفي بها يوم الخميس، سادس عشر شوّال سنة ست وأربعين وستمئة «2» . ومولده بأسنا في أواخر سنة سبعين وخمسمئه. ومن شعره قوله: [البسيط] إن عبتم صورة عن ناظريّ فما ... زلتم حضورا على التحقيق في خلدي مثل الحقائق في الأذهان حاضرة ... وان يرد صورة من خارج يجد وقوله في المعنى: [الخفيف] إن تغيبوا عن العيون فأنتم ... في قلوب حضوركم مستمرّ مثل ما قامت الحقائق في الذ ... هن وفي خارج لها مستقرّ

46 - ابن عدلان

ومنهم: 46- ابن عدلان «13» ابن حماد بن علي الموصلي عفيف الدين. شدّ للطلب فما تراخى، وامتدّ في أنفاق عمر وتساخى «1» . فحمد عار إنفاقه، وكسد كلّ سوق بنفاقه فأنس الحلم بعد نفاره، وارتوى من العلم حتى خرج من أظفاره. ولم يزل لتلك الأفاويق «2» مرتضعا، ولتلك التفاريق مجمعا. لا يدع فيها موضعا؛ حتى رأس وساد، وثني له الوساد. فأمات حسادا، وبات وما أبقى فسادا. قال ابن المستوفي: ورد إربل غير مرّة، وآخر ما وردها في شهر ربيع الآخر سنة أربع عشرة وستمئة من بغداد. وكان رحل إليها للاشتغال على أبي البقاء عبد الله بن الحسين وغيره، فأخذ عنه النحو. وكان قبل، فيما أظنّ قرأ على أبي حفص عمر بن رافع الضرير. وكان بينه وبين أبي عبد الله محمد بن أبي الوفاء القيبظي العمري منافرة. وأورد له شعرا ليس بطائل. وأنشد عنه لرجل من أهل الحلّة: [الكامل] وكأن نمنمة العذار «3» بخدّه ... خطّ من الظلماء فوق صباح وكأن نملا قيّدت خطواته ... في عارضيه فدبّ في الأرواح قال: ووجدت هذين البيتين في كتاب الخريدة، في ترجمة أبي الجوائز مقدار بن بختيار المطاميري «4» . ومن شعره فيه:

وكأن خيط عذاره لمّا بدا ... خيط من الظلماء فوق صباح قال: وأنشدنا لعلي بن محمد بن حسباني الكوفي، وكان عنده مع جماعة من الشعراء يداعبه: [البسيط] داعبت وهنا فتى عدلان معتمدا ... إيقاد سمعته لما دجا الغسق فاصفرّ ثم انثنى بالغيظ مشتغلا ... وأقبل الدمع من عينيه يستبق فخلته شمعة أخرى وأقسم لو ... لم أطفها كنت بالأنفاس أحترق فقال ابن بطريق: موفق الدين يا من في فكاهته ... وفيه يحلو لعين الساهر الأرق إنّ ابن عدلان في إيقاد شمعته ... ما شأنه الغيظ من نحل ولا الحنق لكن رأى الليل أولى أن يقضّيه ... في نيّرات معان منك تأتلق لا شيء أحسن منها إذ بدت شغلا ... شيء ينظم فيها لؤلؤ نسق قال: ومرّ الكوفي برأس عين بعد مدة طويلة، فأنشد لنفسه في المعنى: [الطويل] متى ما يصف ربع ابن عدلان متصل ... بأبيض مطروق العشيات مفضل دعاني ملحّا فاستحيت ومن يكن ... أخا سعة في النّفس يدع ويفضل فإذ كنت من سود النواحل سمعة ... إلى الدهر أبقى من شماريخ يذبل توارثها آباؤه عن جدوده ... وكانت قديما عندهم للتجّمل أضاءت لنا وهنا فأظلم وجهه ... وقال أتذكى شمعة عند مشعل وذكره اليونيني في الذيل، وقال: كان عالما فاضلا أديبا مفنّنا شاعرا، ومولده بالموصل في الخامس والعشرين من جمادى الأولى، وتوفي تاسع شوال سنة ست وستين وستمئة. «1»

47 - أبو بكر ابن محمد بن إبراهيم عز الدين الإربلي النحوي

ومنهم: 47- أبو بكر ابن محمد بن إبراهيم عزّ الدين الإربلي النحوي رجل سلك كلّ سويّ، وملك كلّ رويّ. ولّف بيوت الشعر فصارت مدنا، ومدّت سجفها «1» على بيوت الشعر ردنا. وأتمّ مقاصد القصائد، وكثّر قلائل القلائد. جاء بالأسنى، وحاز كالطيف إلى المقلة الوسنى، وهاجر من بلده حين اشتدّ بها عظائم البلاء، وسلّت يد الآلاء ونجا بنفسه؛ خوفا أن يغشاه اللّيل، وتخشاه في أحشائه اللّيل، فسلم من لفحتها وفرّ وقد أفرجت له السيوف عن صفحتها. ففرّ إلى دمشق وقرّبها. فلم يشق. ذكره ابن اليونيني «2» ، وقال: كان ديّنا خيرّا صالحا حسن العقيدة، كثير الذكر والتلاوة عارفا بالنحو والعربية. عنده فضائل تامة بحلّ المترجم، وله اقتدار على نظم الشعر. وتوفي بدمشق في ثالث عشر ذي القعدة سنة تسع وستين وستمئة. وممّا أنشد له من شعره قوله: [الطويل] وما زال يرميني بكل بليّة ... ويتحفني من هجره بالعظائم إلى أن رماه الله بالحبّ بغتة ... وأصغر ممشاه إلى غير راحم وقفت له كالمشتفي في طريقه ... وأنشدته بيتا كضرب الصوارم بليت بما قد كنت تبلى بمثله ... ولا ظالم إلا سيبلى بظالم وقوله: [الوافر] رفضت هواهم وسلوت عنهم ... بلا جزع كذا فعل الكرام

48 - ابن مالك

وها أنا قد هجرت النوم كيلا ... أرى منهم خيالا في المنام وقوله: [الكامل] ومورّد الوجنات معسول اللّمى ... يزهو كغصن التائه الميّاس لما رأى ورد الملاحة يجتنى ... باللحظ سيّج خدّه بالآس عجبا له حمل الثياب وجسمه ... كالماء كيف يضم قلبا قاسي [وقوله] «1» : [الطويل] يريك سواد العين في صحن خدّه ... فيحسبه خالا وليس بخال وأعجب من ذا أنّ من رقّة به ... يؤثر فيه اللحظ كيف خيالي ومنهم: 48- ابن مالك «13» وهو أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن مالك الطائي الجيّاني النحوي جمال الدين. مقيم أود «2» ، وقاطع لدد «3» ، ومزين سماء. موّهت الأصيل ديباجتها، وشعشعت البكر زجاجتها. وجاءت أيامه صافية من الكدر، ولياليه وما فيها شابية من الكبر. قد حلقها العشاء بردعه، وخلقها الصباح بريعه. فطالت النهار غررا، وأمدّت الأنهار غدرا. فكأن كل مستعين حول مسجده، وكل عين فاخرة بعسجده. هذا وزمر الطلاب وطلبة الأجلاب لا

تزال تزجي إليه القلاص، ويكثر من سربه الاقتناص وكلها تفنن عيونا، وتحسن أبكارا وعونا. قال أبو الفتح ابن اليونيني: كان أوحد عصره في علم النحو واللغة العربية مع كثرة الديانة والصلاح والتعبّد والاجتهاد. وسمع وحدّث. وكان مشهورا بسعة العلم والإتقان والفضل، موثوقا بنقله، حجّة في ذلك. وله عدّة تصانيف حسنة مفيدة، وإليه انتهى علم العربية. ولم يكن في زمنه من يجري مجراه، وفي غزارة علمه ووفور عمله. وكانت وفاته بدمشق في ثاني عشر شعبان سنة اثنتين وسبعين وستمئة. ودفن بسفح قاسيون، وهو في عمر الثمانين. ورثاره ابن الظهير بقصيدة منها: [الخفيف] أدرى الخطب من أصابت سهامه ... واستخفّ الحلوم حزنا حمامه أم درى زائر المنيّة إذا قدّ ... م ماذا أذاقنا إقدامه بالإمام ابن مالك فجع الدي ... ن فغشّى ضوء النهار ظلامه بإمام أفنى اللّيالي والأيا ... م في البرّ والكتاب أمامه خلّدت ذكره الجميل علوم ... خلّدتها من بعده أقلامه كم سقيم من الكلام شفاه ... بعد ما أيأس الأساة سقامه ومفهّم من الدقائق ما أم ... كن منها الفهوم إلا اهتمامه خلّف الفاضل الفريد أبا بش ... روآنست أيّامه أيّامه لو حواه ومن تقدّم عصر ... لأقرّت بفضله أعلامه من لأهل الآداب من بعده ها ... د إلى منهج الصواب كلامه فقروا راغمين منه أبا برّ ... اعطوفا فكلّهم أيتامه أولع النقص بالكمال فما ... أوجب هذا السرار إلا تمامه

49 - شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي الفتح ابن الفضل البعلي

ومنهم: 49- شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي الفتح ابن الفضل البعلي «13» الحنبلي. متدارك للدما، سالك سبيل القدما. نهج إليهم سبيلا، واتّخذ لديهم قبيلا، ولم يرض من غيرهم قيلا، ولا في أكناف سواهم مقيلا. فما ترك من منهج، ولا أدرك إلا من أبهج. قيل إنّه طالما بادر السهر والنهار ما ارتحل، والليل طرفه بالظلماء أول ما اكتحل. وقام ليلته وشهبها قعود وفجرها لا ينتظر منه غير وعود. وكان على مثل هذا غمر نهاره الذاهب، وطول يومه إلى أن يلبس حلّة الراهب. عائما في نهره الطافح، ومحلقا تحت جانحه الطائح، إلى أن تقدّم إماما، وحاز الفضائل تماما. وحدث ابن أبي الفتح، قال: حدثني صاحبنا الفقيه أبو عبد الله محمد بن عبد المولى بن خولان الحنبلي، قال: لمّا كنت ببعلبك، كنت بمقبرة باب سطيحة من مقابر بعلبك في جماعة من الناس، منهم رجل صالح اسمه إسماعيل بن يعقوب الإسكافي، فقرأ القرّاء سورة تبارك، وإسماعيل المذكور تجاهي واقف، ولم يكن به مرض، بل كان سويّا. فلمّا سمع القراءة تغيّر وجهه، إلى أن وصلوا إلى قوله تعالى: «إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ «1» » ، رفع يديه كالمصلّي، وخرّ على وجهه وأنا أنظر إليه، فابتدره رجل فرفعه، فإذا هو ميّت، ثم كان بعد سبت خرجت إلى المقبرة القبلية في جنازة، فلما وضع الميّت في القبر شرع القرّاء في سورة تبارك، وكان القمر ابن عزائم واقفا تجاهي، فلمّا سمع القرّاء تغيّر لونه، فلما وصلوا إلى الآية المذكورة سقط على جنبه الأيمن، ولم يكن به مرض فابتدره رجل فرفعه مسرعا فإذا هو ميّت. قال: فهاذان رجلان قتلتهما آية واحدة من كتاب الله. وأنا أنظر لمن يخبرني بذلك مخبر.

50 - أحمد بن سباع بن ضياء الفزاري

ومنهم: 50- أحمد بن سباع بن ضياء الفزاري «13» الشافعي الخطيب، شرف الدين أبو العباس. رجل وجد له إلى الخير ابتعاثا، وجدّ حتى علق الثريا رعاثا «1» . أعرف في فزارة، وأعتق إلى العلم قراره. وسكت فطنا، وسكن العلياء وطنا. ورقي المنابر فكان المنى بروائه، والريّ بأنوائه. فنوّر البصائر، وصوّر ما إليه المرء صائر. هذا كله مع تجنّب التعقيد، وتسلية الفقيد، والتبصير بالدنيا وغرورها، والتذكير بما ردّ العقول إناثا من عدم سرورها. ولم يزل على هذا حتى صار مثلا من أمثالها العوابر. وواحدا من سفارها إلى أن حضر المقابر فلا تسمع إلا همسا، ولا تطلع لهم إلى يوم القيامة شمسا. كان من أكابر العلماء الفضلاء، بصيرا بالفقه، فردا في النحو والعربية ومعرفة اللغة، ضابطا محرّرا خطيبا فصيحا، لسنا كيّسا ظريفا، دمث الأخلاق ممهّد الأكناف. ليس بالجافي اللفظ، ولا بالشحيح، لكن إلى دين متين، وورع زائد، يحب الناس ويحبّونه، ويليهم ويلونه. من أخذ عنه أخذ، ومن أخذ عن غيره أتاه عند الانتهاء ليأخذ عنه، وإن كان في غنى بما حصل؛ تشرفا بالأخذ عنه والانتساب إليه. وكان على رأي أخي العلامة تاج الدين يحضر السماع، ويخرج إلى البساتين والمتنزّهات، ويتمشّى تحت قلعة دمشق، ويقف على الخلق بها. وربّما قعد كيّسا وتطرّفا من غير كبر يرفعه ولا تبذّل يضعه، ومن كان فوق محلّ النجم موضعه. وكان يحب الوجوه الصباح، ويميل إلى الكلف بالملاح، مع عفاف يشهد به، ويتقرّى الليل عن صاحبه. وكانت تجري بينه وبين أخيه تاج الدين نوادر ما تراشق بمثلها

الظرفا، ولا نودم بشبيهها الخلفا. وحكى لي شيخنا ابن قاضي شهبه، رحمه الله: أنه كان معه مرة في بستان دعي إليه، فأقاموا به يومهم. فلما جاء وقت العشاء قدّمت إليهم أنواع من الأطعمة، منها لبنيّة، فلمّا أكلوا قال رجل هناك لأصحاب البستان: هذه اللبنية مليحة، بيّتوها لنا عندكم إلى غد. فقال الشيخ شرف الدين: لا والله لا كيد ولا كرامة بغد، إنها مليحة ما يبيتها إلا أنا ولا تبات إلا عندي. وحكى لي المحبّر أبو القسم ابن مبشّر الحولاني، قال: لمّا شغرت وظيفة الخطابة بدمشق تطلّع كلّ متعيّن إليها. فقال والدك: مالها إلا الفزاري وعيّنه. فلمّا وصل التوقيع الشريف له بعثني به إليه، وهو لا يعلم، ففرح ثم قال: قل له يا سيدي قد وصلت الوريقة وبقيت الخريقة، يعني الخلعة. فأتيت والدك وبلّغته ما قال فضحك، ثم أمر بالخلعة فعينّت له وجهّزت إليه. وحكى عنه اليونيني قال: حججت سنة خمس وسبعين وستمئة، فاجتمع في تلك السنة في الحج جماعة من علماء الأقطار: ابن العجيل من اليمن، وابن دقيق العيد من مصر، وأخي تاج الدين الفركاح من الشام في ناس آخرين، فاجتمعوا في الحرم، وكان عبد السلام بن غانم الواعظ قد حجّ من مصر، فجلس تجاه الكعبة المعظمة وحضر أمير مكّة، وأمر عبد السلام بأن يتكلّم، فقال: الحمد لله ذي القدرة التي لا تضاهى، والحكمة التي لا تتناهى، والقسمة التي لا يطيق خلق يتعدّاها. ثم ذكر خطبته، ومنها في ذكر الكعبة المعظمة. فسبحان من شرّف هذه البنيّة واصطفاها، وجعلها حمى لمن حول حماها، وحرما آمنا لمن وفّى عليه لما وافاها، ووجهة لمن واجهها اتجاها، وأراد عندها جاها فهي التي هاجر منها الحبيب وما هجرها ولا قلاها، وما انقلب قلبه إلى قبلة سواها حتى أنزل عليه جبريل في آيات تلاها: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها «1» .

51 - كمال الدين عبد الوهاب بن محمد ابن ذؤيب الشهبي الشافعي

قوله: [الوافر] فولّ بوجهك الحسن المفدّى ... إليها حيث وجّهت اتجاها فإن أباك إبراهيم قدما ... لأجل رضاك عنّا قد بناها وإسماعيل طاف بها ولبّى ... وطهّرها لمشتاق أتاها هي البلد الأمين وأنت حلّ ... فطاها «1» يا أمين فأنت طه فهلّل عند مشهده عيانا ... وزمزم «2» عند زمزمه شفاها فيا حجّاج بيت الله طوفوا ... بكعبتها ولبّوا في ذراها فهذا الفخر إن حاولت فخرا ... وهذا الجاه إن حاولت جاها ومنهم: 51- كمال الدين عبد الوهاب بن محمد ابن ذؤيب الشهبي الشافعي أبو محمد المشهور بابن قاضي شهبة «13» . حافظ بقية أحيا مواتها وحيي أمواتها. جهد دهره، وجهل من حسب يومه أو شهره. وجدّ لا يثنيه نهار يتوقد سعيره، ولا ليل يملّ منه سميره. وكان سواء عليه أقبل الصيف بقيظه، والحرّ يتحرق صدره بغيظه، وقد انتصبت حرباؤه وانتصفت من الليل حوباؤه «3» ، أوجاء الشتاء يمدّ مضارب غيومه ويقرر ضرائب عمومه. ويرشق نبال وبله، ويربط خيط سحابه الناس في حبله؛ بل لا يزال على حالة واحدة في الحالتين وعدم استحاله في بلواهما الحالتين.

أخذ الفقه عن الشيخ تاج الدين، والنحو عن أخيه شرف الدين وغيره، وبرع فيهما، واقتصر من بقية العلوم عليهما. وعرف بالنحو حتى صار دليلا يرشد إليه، وعلما دالا عليه. كان يجلس بمسجد الجامع الأموي للاشتغال ويقرئ الفقه والنحو. وكانت الرغبة في أخذ النحو عنه أكثر، وكان به أشهر وكان على سعة فضله وكثرة فقهه لا يفتي؛ تورعا. وإذا أتاه مستفت يقول له: رح إلى فلان. وأكثر ما يدل على ولد شيخه، الشيخ برهان الدين. وكان معظما في الصدور. أراده قاضي القضاة ابن صيصري على أن ينوب عنه فامتنع، ثم طلبه شيخنا قاضي القضاة القزويني الخطيب لذلك فأبى. وكان عنده وسواس، لا يمسّ كتابا بيده ولا ورقة ولا غير ذلك. فإذا أراد إمساك شيء أمسكه بمنديل، أو بطرف ثوبه، ثم يغسله بعد ذلك في الغالب. وكان رجلا ليّن الجانب حسن الخلق. تحدث عن مشيخة الفزاريين، بما كان يجري بينهما من المحاورات الظريفة والمراجعات اللطيفة إلى غير ذلك ممّا هو مشهور عمّا كان يكون بينهما. وأول ما قرأت النحو عليه في عنفوان العمر وأوان البداه. وكان يجيد التفهيم، ويقرّب طرق التعليم؛ ولهذا كانت الرغبة إليه مصروفة، والطلبة عليه موقوفة. حكى لي من غريب الاتفاق: أنه لما كانت نوبة مرج الصفر، وبقي الناس بين قائل: إنّ السلطان خرج للقاء العدوّ، وقائل إنه ما خرج، قال: فبينما الناس في ذلك، وأنا في مكاني بالجامع، وإلى جانبي النبيه أخذ رفقتنا في الاشتغال؛ إذ أتاني رجل يريد القراءة عليّ، فشرعت اعتذر إليه بشغل الخاطر بما الناس فيه، ويأبى إلا أن يقرأ، فلمّا رأى النبيه الحاجة عزم على أن أقرئه، فقلت له: في أي شيء تريد أن تقرأ؟ قال: في كتاب الجمل للجرجاني وأخرج نسخته، فأخذها النبيه، وقال: نأخذ منها فألا للناس، فقلت له: وأي شيء يكون في هذا الكتاب؟ فقالك لا بدّ من أخذ فأل منه، ثم فتح الكتاب فإذا في أول الصفحة ما صورته، جاء زيد، وطاب الخبر، وذهب القوم. فاستبشرنا وقلنا: الله أكبر، جاء السلطان، وطاب خبر الناس، وذهب العدو وكان كذلك.

52 - الضياء العجمي

وحكى لي أن أباه القاضي شرف الدين كان كثيرا ما يقول: يا ليت شعري ما في الأموات عاقل يرجع إلينا ويخبرنا بما جرى لهم. فلما مات جلسنا يوما على قبره، فذكرنا ما كان يقول، فقال رجل من أصحابه كان حاضرا عندنا: يا قاضي شرف الدين، أنت رجل عاقل وقد صرت من الأموات، فهلا رجعت وخبّرتنا بما جرى لكم؟ وإذا برجلين مارّين على خيل لم يسمعوا كلامنا ولا يعرفهم منّا أحد، وإذا أحدهما يقول للآخر: تريد الصحيح، سلّم إلى الأنبياء تستريح. فقال: هذا والله الجواب، وهذا أيضا من عجائب الاتفاق، وهو من أول شيوخي الذين عليهم قرأت، ومنهم استمرأت، قرأت عليه النحو. ثم كان جلّ استفادتي على قاضي القضاة ابن مسلم رحمهما الله تعالى. ومنهم: 52- الضياء العجمي ذو جدّ. عدم الانبساط وعدل على الأقساط، فعكف عليه وعرف ما لديه. ترقّت أسارير مزنته، وصدقت تباشير منّته. فأعاد العلم إلى أحسن حاله، وجاد يخضّب أمحاله. وكان يأبى على الاستعجال بما يعجز على طول المجال؛ فلا يجسر أحد على بحره، ولا يسعه إلى الاستسلام لسحره؛ ولهذا كانت الطلبة تبتدر فوائده بدار الطير إلى طلب أقواتها، وتؤدي إليه الفرائض في أوقاتها. فكان الطالب لا يزال مغترفا من نهره، ولا يغتر بغيره متاعا من دهره؛ إلا أنه عرض له هوى جذبه بأطواقه، وسلبه إلا من أشواقه، إلى بعض أبناء الأمراء بدمشق، فطار هواه بلبّه، وأذكى جواه بقلبه. وكان الصبّي يعرف بابن دمرداش. وكان يعيّر الغزال إذا التفت، ويغيّر الهلال محاسنه إذا اختفت. وكان على هذا الحسن ذا كيس ينتهب الأحشاء ويحدث الانتشاء فآل به حاله في عشقه وتملّكه له، حتى يئس من عتقه إلا أنه سلب عقله، وأهمل غفله، وسافر إلى مصر سفرا ساقه لحينه، وسباه بطول بينه. وكان قد تمّ

مقتله بسيف السلطان لا بالعشق وتسويل الشيطان. كان فقيرا متصوفا بالخانقاه السميساطية. وكان يجلس للإقراء بالكلاشة، ويقرأ عليهم النحو واللغة. وكان أكثر إقرائه في مقدّمة ابن الحاجب، وكان يحبّها. ويثني عليها ويقول: هي نحو ظريف، واستفاد به جماعة. وكان دمث الاخلاق حسن العشرة عشاقا طامح النظرات. وأحبّ في آخر عمره صبيا من أبناء الجند يعرف بابن الدمرداش. وكان له أخ أحسن منه، وكان يخرج إلى سوق الخيل فيقف به ليراه إذا مرّ به في المركب، فقال له شيخنا ابن الزملكاني: يا شيخ ضياء الدين، لأيّ الآتيين أنت عاشق؟ فقال: لغلام، سمّاه. فقال له ابن الزملكاني: يا شيخ ضياء الدين، فلأي شيء ما عشقت هذا، فاعشق أنت ذاك. فقال له: إذا أذنت لي عشقته. فقال له: أنت ما تحتاج إلى إذن. قال: ولم قال لآذانك طوال؟ وكان يأخذ في يده حزمة من الرياحين، ويطوف بها أكناف المدينة، فإذا رأى مليحا أدنى إليه تلك الرياحين فشمّمه إيّاها، فإذا عتب به أحد من الرجال، وذو اللّحى، وقال له شمّمني قلب الحزمة وضربه بالعروق على أنفه. وقال له رجل يوما بحضوري: أنت لا تزال في عشقة بعد عشقة، فابتدرت منشدا قول القائل: [البسيط] الحب أولى بي في تصرّفه ... من أن يغادرني يوما بلا شجن فصاح صيحة عظيمة، ثم قال: أحسنت. اطّلعت على قلبي، وقلت بلساني، ثمّ خرّ مغشيّا عليه. وأتى يوما ديوان الإنشاء، ونحن به، وشيخنا شهاب الدين أبو الثناء محمود جالس، ونحن عنده، فلمّا رأى ما به من البلاء، وخروجه حيّز العقلاء أنشده: [الطويل] يقولون لو دبّرت بالعقل حبّها ... ولا خير في حبّ يدبّر بالعقل فصاح صيحة شديدة، وقال: يا مولانا حبّه جنّة، ولم يزل يقولها إلى أن غاب عن صوابه، وسقط إلى الأرض مغشيا عليه، وبقي عامة نهاره ملقى على تلك الحال، ثم زاد به

53 - علي بن داود

الحال، فخرج سائحا كالهائم على وجهه؛ حتى أتى مصر وكان له عكّاز يتوكأ عليه، وكان فيه سيف على عادة الفقراء المتجولين، فرأى نصرانيا نازعه في بعض الأمر، فاخترط السيف وضربه به، فأنهي أمره إلى السلطان وحمل عليه كريم الدين لتعصبه للنصرانية. ولم يزل به، حتى أمر السلطان به فقتل، وكان قد أتى خبره الفقراء المتصوفة بمصر والقاهرة فجسروا وطلعوا إلى القلعة ليخاطبوا السلطان فيه، فما وصلوا، حتى قضي الأمر فأخذوه، وتولّوا غسله وتجهيزه، والصلاة عليه ودفنه. ومنهم: 53- علي بن داود «13» ابن يحيى بن كامل بن يحيى بن جبارة بن عبد الملك بن يحيى بن عبد الملك بن موسى بن جبارة بن محمد بن زكرياء بن كليب بن جميل بن عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير بن العوام القرشي الأسدي الحنفي، أبو الحسن نجم الدين الفجفاري. علامة علما، وعمامة سما، ولسان عرب وبيان أدب، وملقي دروس، ومبقي سحب عنبر على كافور طروس. وفارس منبر وغارس موعظة في قلب من برّ. عرض عليه منصب القضا فلم يقابله بالارتضا زهدا في منصبه وكرها أن يسرح في مجدبه أو مخصبه. هذا مع كيف ممهد للمحاضر، ولطف منشط للمناظر، وحسن إقبال على الجليس وبشر، لولا أنه حنفي المذهب لما نظره بالبرق من يقيس. وكان ملجأ لمؤمل، ومنجى لسائر متحمل، وصار موئلا يثاب ومؤملا لديه حسن مآب، تتخذه الطلبة ثمالا وترد إليه خفافا وتصدر ثقالا. لم تزل تشدّ به افتقارها، وتوسق منه أوقارها «1» . ولم يبرح على هذا حتى أمسى بلدي المنايا، سلّوا ممزّعا، وقسما موزعا، بعد أن كان إنسان عين، وآي جمال وزين. مزنه سحاب، ومزيّه

صحاب. بعد مفرعا وينشر أحسن من ثوب السماء مجزعا؛ ولكنها المنيّات وحوادث الدهر والبليّات. شيخ أهل دمشق في عصره، خصوصا في العربيّة. قرأ عليه الطلبة وانتفع به الجماعة، وله النظم والنثر والكتابة المليحة القويّة المنسوبة. قال أبو الصفاء الصفدي «1» : وله التبدير الحلو والتدريب الزايد، يكثر من ذلك في كلامه، ويشحن أشغاله الطلبة بالزوايد، ويورد لهم النوادر والحكايات الظريفة والوقائع الغريبة المضحكة. سمعته يوما يقول لمنصور الكتبي رحمه الله تعالى: يا شيخ منصور، هذا أوان الحج، اشتر لك منهم مئتي جراب، وارمها خلف ظهرك إلى وقت موسمها تكسب فيها جملة. فقال: والله الذي يشتغل عليك في العلم يحفظ منك جرابا قدره عشر مرّات. وقال أبو الصفاء الصفدي: حكى لي نور الدين علي بن إسماعيل الصفدي، قال: أنشد الشيخ نجم الدين يوما لغزا للجماعة وهم بين يديه في الحلقة يشتغلون: [الرجز] يا أيها الحبر الذي ... علم العروض به امتزج «2» ابن لنا دائرة ... فيها بسيط وهزج ففكّر الجماعة فيها زمانا، فقال واحد منهم: هذا في الساقية. فقال له: درت فيها زمانا حتى ظهرت لك. يريد أنه ثور يدور في الساقية. وقرأ القرآن على ابن المطرّز، وأخذ الفقه عن ابن الحريري والصدر علي، وكذلك أخذ الفرائض عنه، وأصول الفقه والهيئة على ابن جماعة، وعن جلال الدين الجاري الأصول خاصة، والنحو عن الفزاري والتونسي، والبلاغة عن ابن النحوية، والمنطق والجدل عن السرّاج الرومي. وسمع الحديث من ابن الدرجي وجمال الدين الزواوي وشرف الدين البارزي.

كتبت إليه: [المنسرح] من زاخر البحر يلقط الدرر ... ومن فروج الغمامة المطر ومن جنى الدّوح كلّ مانعة ... كأنها الشّهد واسمها النمر ومن بديع الرّياض لا عجب ... إذا اجتنى من خلالها الزهر ومن سنا النجم كلّ لامعة ... غرّا تجلّى بنورها البصر نجم على هدي وفاض ندى ... وهكذا النجم بل هو القمر حبر أعار الربيع حلّته ... حسنا إلام هذه الحبر «1» مكمّل والبحار تشبهه ... لكنها من نداه تختصر فواضل لا يعدّ أيسرها ... والرمل في العدّ ليس ينحصر زادت على حاتم مكارمه ... ما حاتم عند جوده بشر هذا عليّ وذو الفقار له ... من حلّة اللفظ هذه الفقر فتى قريش ورأس سؤددها ... ما ضرّ رايته إن نأت مضر لا يبلغ المدح فيه غايته ... أستغفر الله حيث أعتذر من مثله والسماء موضعه ... والزاهر النجم رهطه الزّهر أنعم بعيش النعمان حيث أتى ... وهو له في الحتوف ينتصر وقوله الفصل فوق منبره ... لا الطول يسيء به ولا القصر لو يحضر الفارقي خطبته ... لمّا تعدّى لسانه الحصر وأبيض الوجه يوم قاصده ... فمن أبو الأسود الذي ذكروا لو أنشد الغرّ من قصائده ... ليلا لطالت في دهمه الغرر ولا لعبد الرحيم واجده ... شبيه إنشائه ولا الدّرر إن لم تعدّوها فدونكم ... ممّا ادّعيناه البحث والنظر يا طالبا في العلا طريقته ... أقصر وإلا سوف تقتصر ويا مطيل المدى ليلحقه ... البرق في السّبق ماله أثر

يا ابن البهاليل من بني أسد ... ومن سطاه الناب والظفر يا ابن الزبير الذي يفلّ به ... حدّ المواضي وكلّها زبر لكنا بالنّهى محجبة ... أنّى نراها وحجبها الفكر وجاء يا ابن الزبير يخطبها ... إليك كفؤ وجدّه عمر وأنت من لا يردّ سائله ... وها أنا للجواب منتظر فكتب إليّ: [المنسرح] يا منعما رمت شكر أنعمه ... فحال بيني وبينه الحصر وأنفق الفكر واللسان معا ... عليّ واستعصيا ولا وزر وأظهر العجز عن قيامهما ... بشكر ما لا يحصى ومنحصر وبان لي في الإباء عذرهما ... ودافع الحق بالهوى بطر والحرّ من دأبه وعادته ... يرقّ للحر حين يعتذر وكيف لي بالذي أروم إذا ... لم يسعد النطق لا ولا الفكر لكنني للحسود أذكر ما ... يخرج من ذاك صدره الوجر «1» سحب أياد سحّت على جرز ... فأنبت الشكر سحّها الحصر وغادرت من نميرها غدرا ... لا جنّ «2» ماؤها ولا كدر أضحت ظلال الوداد وارفة ... به تهادى وأينع الثمر في ضمن ذاك الحيا عقود ندى ... أصدافها السود حشوها الدّرر يشرق منها الدجى مفصّلة ... بعنبر عرف طيبه عطر تنعم ريّاه أنف كل فتى ... أذابه في حلى العلا غرر وليس فيما وصفته عجب ... سيول غيث يزيدها بحر يا ملبس الطّرس من بلاغته ... حلّة وشي بقوسها فقر

وغارسا فيه كل عارقة «1» ... فرائد الجوهري لها ثمر تودّ زهر النجوم من حسد ... لو أنّها في غصونها زهر إذا تأملتها يقابلني ... من كل وجه من أفقها قمر هذا وكم قلّدت عقود علا ... يمناك قيلا تحفّه زمر وكم أمور أودعتها فغدت ... تشبه أرواح معشر قبر مالي وعدّي لما حويت وهل ... بالعدّ تحصى الرمال والمطر لكن جداي لبعضها منن ... حمّلتها عاتقي لها خطر وحثّني نحوها مقالك لي ... بأنني للجواب منتظر فسبقها سير وجهها يدها ... يمنعها كشفة لك الحقر وكيف لا والذي آتيك به ... وطرفها بالحياء منكسر هدية جلّ ثمرها حشف ... إلى كريم جنابه هجر «2» فاقبل يسيري ولا تلم كرما ... منا فقا في ذراعه قصر قد أعجزته عن القيام بما ... يلزم حالان الضعف والكبر ومن نظمه قوله في المنثور: [الطويل] ولم أر في المنثور عرفا ومنظرا ... وفرط سخاء في جميع البدائع تراه إذا السارون مرّوا بغفلة ... عليه مشيرا نحوهم بالأصابع وقوله وقد طلب منه في جارية اسمها قلوب: [السريع] عاتبني في حبّكم عاذل ... يزعم نصحي وهو فيه كذوب وقال ما في قلبك اذكره لي ... فقلت في قلبي المعنّى قلوب وقوله: [السريع]

حاولت من أهواه في قتله ... فقال ما يشفق من عارضي فقلت يا بدر الدجى مذهبي ... أنّي لا اعتدّ بالعارضي وقوله: [السريع] أضمرت في القلب هوى شادن ... مشتغل في النحو لا ينصف وصفت ما أضمرت يوما له ... فقال لي المضمر لا يوصف وقوله، صدر كتاب إلى ابن نصحان حين سافر إلى البلاد المصرية: [الكامل] يا غائبا قد كنت أحسب قلبه ... بسوى دمشق وأهله لا يعلق إن كان صدّك نيل مصر وأهلها ... عنهم فلا غرو إلا العدو والأرق وقوله من أبيات أجاب بها الفاضل تاج الدين اليماني: [المديد] أقبلت تختال في حلل ... وشيها من صنعة اليمن فرعها يملي خلائطها ... ما يقول القرط في الأذن ومن خطبه التي تلج القلوب، وتخرج إلى الإقلاع والإقلال من الذنوب قوله: أيها الناس تأنّسوا في المكارم وسارعوا إلى المغانم، وجانبوا مكاسب المآثم؛ فإنها معادم. وأيقظوا عيون العزائم فإنّها نوائم، واغتنموا أوقات الطاعات فإنها مواسم. هذا، عباد الله شعبان وأخذه بكم ركائبه، مملوءة بمتاجر أعمالكم حقائبه، فالسعيد من زكّى فيه بالإخلاص مكاسب أعماله، والشقيّ من أضحت زيوف المعاصي رأس مال آماله. سحقا له من مغبون. ما أخسر صفقته! ومدلج في دياجي الأطماع ما أبعد شقّته! باع الباقي بما يفنى، واعتاض عن النفيس العالي بالأدنى. تبرّجت له الدنيا فأخلد إليها، وضمنت له كواذب الآمال سلامته المآل فاعتمد عليها؛ حتى إذا استرجعت منه الأيام ما وهبت، وأخلفته الآمال المواعد وكذبت، ورأى وجود أمانيه عدما، وصحة ظنونه سقما، عضّ على يديه ندما، وبكى بذلّ الدموع بالدما، واستصرخ فلم يجد مسعدا ووجد منسي أعماله حاضرا، ولا يظلم ربك أحدا.

وقوله: اغتنموا أيام المهل قبل انقراضها. وداووا سقم النفوس بذكر هجوم الأجل قبل استحكام أمراضها، وروّضوها عن جماحها في الشهوات فإنّه لا نهاية لأعراضها. واعملوا ليوم لا يجزي فيه والد عن ولده ولا مولود عن والده. ولا محيد لمن غلبت عليه الشّقوة عن مناهل عذابه وموارده، وابتهلوا إلى ربّكم في أوقات البركات؛ فما حرم فيها من قصده بركة مقاصده. ومنها الخطبة التي خطب بها أول جمعة أقيمت بالجامع السيفي يشكر كافل الممالك الشامية، وهي: الحمد لله منشئ أصناف الأمم وصانعها، ومؤلف أشلائها بعد العدم وجامعها، ومنطق جوارحها بما اخترجت وسامعها، وباعث هممها على الخير ووازعها «1» ، ومجري سوابق آمالها في ميدان آجالها، نحو مطامع مطامعها الذي أجزل مواهب السعادة لمن شيّد بيوت العبادة، وشكر صنيع من قدح بالإحسان زناده؛ فوعده الحسنى وزيادة. وفضّل بقاع الأرض بعضها على بعض، فاعل في الشرف محلّها، وناط بها أسباب السيادة فاتخذها صالح عباده معاهد للعبادة. فطوبى لمن حلّها، وادّخر من القرب نفائس يحق في مثلها التنافس، ثم وفّق لها قوما كانوا أحقّ بها وأهلها. أحمده على ما أسبغ من نعم زكت مغارسها فصفت ملابسها، وأولاه من منن صيغت مشارعها فنمت مراتعها. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. شهادة أحكم الإخلاص بالقلب معاقدها، وصفّي من شوائب أكدار الشكوك مواردها، وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله، والكفر مخصبة مراتعه أهله بالأشقياء مرابعه، قد مدّ في الأرض خطاه، وتجاوز الحدّ في الطغيان وتخطّاه. فلم يزل صلى الله عليه وسلّم يهيج بنانه بجنوب الحق

وضاه، وبيد طغاته رطى «1» الأثمان وشباه «2» ؛ حتى أصبح وارف زرعه غثاء، وأمسى أنس ربعه قواء «3» صلى الله عليه وعلى آله غدوة ومساء، صلاة يبلغهم بها من النعيم المقيم أملا، ويحقّق لهم رجاء. أيها الناس جدّوا في الطاعة قبل تعذّر الاستطاعة، وجذّوا حبائل الأطماع بمدى القناعة. فكم أطلعكم الدهر تقلّبه على الحقائق فاغفلتم اطّلاعه، وكم أسمعكم لسان حوادثه أبلغ المواعظ لو وعيتم إسماعه! فيالها غفلة شاملة، وأمنية باطلة وأطماعا كاذبة. وآمالا خابية وقلوبا عن العظات لاهية، وأسبابا من التعلّلات واهية، فوجهوا رحمكم الله إلى جهة الاعتبار عيون أفكارهم، وانبوا إلى تأمل الإشارات عنه أسماعكم وأبصارهم؛ فإن من استمع بخطوب الأيام غني عن خطب الأنام، ومن اقترع معالق الآثام استأذن على الانتقام. ومن خطبة في رأس السنة: الحمد لله الذي لا تدرك عظمته ثواقب الأفهام، ولا يحيط بمعارف عوارفه خطوات الأوهام، ولا يبلغ مدى شكر نعمه محامد الأيام. الذي طرّز بعسجد الشمس حواشي الأيام، ورصّع بجواهر النجوم حلّة الظلام، وفصّل بلجين الأهلة عقود الشهور والأعوام. أحمده على نعمه الجلائل العظام، ومننه الشوامل الجسام. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له شهادة لا ينقص لها تمام، ولا يحقر لها ذمام، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله وسوق الباطل قد قام، ومحبّ الضلال قد هام، وطرف الرشد قد نام، وأفق الحقّ قد عام. فجرّد سيف العزم وسام «4» ، وعنّف على الغي ولام، واقتاد الخليفة إلى السعادة بكل زمام. صلى الله عليه وعلى آله الخير الكرام، صلاة لا انفصام لمسابغها ولا انفصام.

وقوله في خطبة عيد الأضحى: الحمد لله العظيم شأنه، العزيز سلطانه، القديم إحسانه، الذي أسمع دعوته إلى عرفات عرفاته من كل طريق. قلّبتها قلوب أولي الإنابة، مسرعة في الإجابة، ووافتها من كل فجّ عميق. حمده على نعمته التي أحلّت مغنى الغنى فتحلّت بفرائد الأجياد، ومننه التي بلغت منى المنى، وكل الأيّام بها أعياد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة لا يخلق «1» الملوان «2» جديدها، ولا تنال يد الشك مشيدها. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. أرسله رحمة للبرايا، ومحذرا من سوء عواقب الخطايا، فطهّر من رجسها السجايا، وساق إلى محلها الهدايا، وبعث الهمم على الضحايا صلى الله عليه وعلى آله المنزّهين عن الدنايا، صلاة لا تنفكّ سعادة في البكر والعشايا.

[علماء النحو بالمغرب]

[علماء النحو بالمغرب]

1 - عبد الله بن محمود المكفوف النحوي القيرواني

وأما علماء النحاة بالمغرب فذو عدد، وأولو مدد، وأصحاب لسان فيه وتد «1» . 1- عبد الله بن محمود المكفوف النحوي القيرواني «13» ذو ذهن ثاقب، وأخو علا ومناقب. ظهر في بلاد المغرب ظهور وجود من عدم، واشتهر اشتهار نار على علم، وكثرت بتلك الأرض أتباعه، وتنوّر باطنه لمّا انعكس إليه من ظاهره شعاعه. وكان مفرط الذكاء يكاد يتوقّد، ولا يزيد حفظ شيء سمعه إلا وكان قد «2» ؛ حتى كان لا يناضل إلا في الاعتلاء، ولا يفاضل إن كان إلا بينه وبين أبي العلاء. كان من أعلم خلق الله بالعربية والغريب والشعر وأيام العرب، وأخبارها وله كتاب في العروض يفضله أهل اللغة على سائر الكتب. وإليه كاتب الرحلة من جميع إفريقية والمغرب. وكان إذا قرئ عليه الكتاب مرتين حفظه. توفّي سنة ثمان وثلاثمئة. ومنهم: 2- إبراهيم بن عثمان أبو القاسم ابن الوزّان القيرواني «14» النحوي اللغوي. إمام الناس في النحو بالمغرب، والإلمام منه بكل مغرب. هذا إلى لغة

3 - أبو بكر محمد بن عبد الله مذحج

جمع أطرافها ومدّ طرافها «1» ، وفصائل استتمّ أوصافها، واستكمل جملها لإنصافها. وكان لو وزن به فتى مازن، أو أبو عثمان لخفّ في كفّة ابن الوزّان. وكانت العلماء تجلّه، وتستملي منه وما تملّه. وكان ذا بصر حديد، وفكر نفسه مديد. حفظ كتاب العين للخليل والمصنّف لأبي عبيد وإصلاح المنطق لابن السكيت، وكتاب سيبويه وأشياء، وكان يميل إلى كلام أهل البصرة. ويفضل المازني في النحو، وابن السكّيت في اللغة، وقال فيه بعضهم: لو أن قائلا قال إنه أعلم من المبرّد وثعلب لصدّقه من وقف على علمه. وذكر جماعة ممّن جالس ابن النحاس بمصر، وأكمل نظرا. ولقد كان يستخرج من العربية ما لم يستخرجه أحد. وكان غاية في استخراج المعمّى. توفي يوم عاشوراء سنة ست وأربعين وثلاثمئة. ومنهم: 3- أبو بكر محمد بن عبد الله مذحج ابن محمد بن عبد الله بن بشر الزبيدي الإشبيلي «13» نزيل قرطبة. رجل كانت له ظلاله وارفة، وأفعاله لا تخلو من عارفة. لم يزل وسنه لم يتغير، وفمه للاكتساب لم يفغر. يغادي العلم ويراوحه، ويماسي الطلب ويصابحه. يوافي كل شيء لميقاته، ويقطع فيه عمر أوقاته. ورسنه ممتد، ووسنه قد أقسم لا يرتدّ. فلم يستدر خدّه بلثام عارضه، وحان خذّه «2» ألا يلتأم بسيف معارضه إلا وكان قسورة يتأبى مهاجمته، ويخاف أن يهجم عليه أجمته، فأعملت

إليه اليعملات «1» ، وأضحت فوائده مؤمّلات. واهتدى به هدي الركائب بالعلم، واستهلّ استهلال السحائب، يرش رشاش ماء الورد. قال ابن خلّكان: كان أوحد عصره في علم النحو وحفظ اللغة، وكان أخبر أهل زمانه بالإعراب والمعاني والنوادر، وعلم السّير والأخبار ولم يكن بالأندلس في فنّه مثله في زمانه. أخذ عن القالي لمّا دخل الأندلس. وله كتب تدلّ على وفور علمه، واختاره المستنصر لتأديب ولده، وليّ عهده هشام المؤيد، فعلّمه الحساب والعربية، ونفعه نفعا كثيرا. ونال به الزبيدي دنيا عريضة. وولي قضاء إشبيلية والشرطة. وحصل نعمة ضخمة لبسها بنوه بعده زمانا. وكان يستعظم أدب المؤيد زمان صباه، ويصرف رجاحته وحجاه. وللزبيدي شعر كثير منه قوله: [الطويل] أبا مسلم إنّ الفتى بجنانه ... ومقوله لا بالمراكب واللّبس وليس ثياب المرء تغني قلامة «2» ... اذا كان مقصورا على قصر النّفس وكان في صحبة المستنصر. وقد ترك جاريته بإشبيلية، فاشتاق إليها، فاستأذنه في العود إليها فلم يأذن له. فكتب إليها: [مخلع البسيط] ويحك يا سلم لا تراعي ... لا بدّ للبيّن من زماع «3» لا تحسبيني صبرت إلا ... كصبر ميت على النزاع ما خلق الله من عذاب ... أشدّ من فرقة الوداع ما بينها والحمام فرق ... لولا المناجات والنواعي وعاش ثلاثا وستين سنة «4» ، وتوفي يوم الخميس، مستهلّ جمادى الآخرة سنة تسع وسبعين وثلاثمئة بإشبيلية.

4 - محمد بن جعفر

ومنهم: 4- محمد بن جعفر أبو عبد الله القزاز «13» التميمي. لا ينسج له طرح، ولا يغار لبزّه على شرح. هو أدرى بنسيج حلله، وأعرف بقدر خلله. يسلم القريض منه إلى بزازه. ويقدم منه إلى العلم بما هو أوفق لطرازه. لو سبق ميلاده في تميم لألحقته بفرزدقها «1» ، ولرنت شمسه فقمره في أفقها. قال ابن رشيق: كان الغالب عليه النحو واللغة والافتنان في التأليف. وله شعر ربّما جاء به مفاكهة وممالحة من غير تحضر له ولا تجفل. فبلغ بالرفق والدعة أهل القدرة على الشعر من توليد المعاني، وتوكيد المباني علما بمفاضل على الرحب والسعة أقصى ما يحاوله الكلام وفواضل النظام ومما أنشد له، قوله: [البسيط] هذا أخي وشقيقي المرتضى ويدي (م) ... اليمنى وموضع أسراري وإعلاني دعا فعمّ الورى طورا وأسقطني ... إسقاطك النون من ترخيم عثمان وكنت في النفري «2» أدعى فصرت لقى «3» ... لا أوّل الجفلى أدعى ولا الثّاني وقوله وذكر ثلاثة أقبر فاقتص أثر النجوى في الوزن والرويّ والمعنى ثم أجاد وزاد: [الطويل] ألا قل لدهر فرّق الدهر شملهم ... فمن منجد بادي المحل ومتهم إذا يمّم الحادي بكم قصد بلدة ... فسرتم على قبر هناك معظّم تحلّ بمثواه الوفود رحالها ... وتنحر أبناء الجديل وشدقم «4»

فعرّج به واستوقف الرّكب وابكه ... وصلّ على المقبور فيه وسلّم ولا تطأ الأرض الفضاء وإن نأت ... بذي سنك رحب ولا ذات منسم «1» فقد ضمّ قطراها ثلاثة أقبر ... تضمّ نواحيها ثلاثة أنجم بعيدة مسرى الزائرين غريبة ... معظمة فيها رمائم أعظم تمرّ عليها الريح وهي مريضة ... ويشفي ثراها كلّ بهتان منجم وقد فرّقت أيدي الفراق لجودها ... أيادي سيأتي كلّ عقل ومعلم كأن الردى خاف الرّدى في اجتماعهم ... فقسّمهم في الأرض كلّ مقسّم فبالغدوة النّضوى من الغرب واحد ... واخر ضمّته رجام المقطّم وبينهما قبر غريب ببرقة ... بنوه على بحر من الجود خضرم «2» وأعجب شيء قيس شبر تضمّنت ... نواحيه قطري يذبل ويلملم أمستودع الترب المضمّن جسمه ... طويل البلى من بعد طول التنعم سأبكيك لا أنّ البكا عدل لوعتي ... ولا أنّ وجدي فيك كفء تنهّم «3» وقلّ لعيني أن تفضّ دموعها ... عليك ولو أنّ الذي فاض من دم وأغضي حياء أن أعيش مسلّما ... وما أنت ممن يتّقى بمسلّم وقوله في اسم لؤلؤ ملغزا به: [الكامل المرفل] لم يكفه أنّ اسمه علم ... ينبيك مبسمه بصورته حتّى أراد بأن يعنونه ... فصفات صدغيه وطرّته قال ابن رشيق: الاسم لؤلؤ وهو الذي أبانه المبسم، والأصداغ بوصف اللامات، والطور يشبه بالواوات، فكأن كلّ صدغ لام يليها واو من واوات الطرّة، فيصح ما أراد.

5 - أبو محمد عبد العزيز بن أحمد بن السيد بن مغلس الأندلسي البلنسي

ومنهم: 5- أبو محمد عبد العزيز بن أحمد بن السيد بن مغلّس الأندلسي البلنسي 1» رجل لاين صعاب اللغة حتى اقتاد أنوفها، وارتاد صنوفها. حسن لما ساعده؛ حتى تسلّك سبلها وملك ذللها. وكانت قد لجّت نفارا، ودجت حتى جلاها، وجعلها في التصانيف أسفارا، وخلاها قدوة وأسوة النجوم للمهتدي. فملأ عين المطالع، وقطع بعدها بين طلب التزيد والمطامع. قال ابن خلكان: كان من أهل [العلم] باللغة والعربية، مشارا إليه فيهما. رحل من الأندلس وسكن مصر، وقرأ على صاعد والنجيرمي، ودخل بغداد واستفاد وأفاد. وله شعر منه: [المتقارب] مريض الجفون بلا علّة ... ولكنّ قلبي [به] ممرض أعاد السّهاد على مقلتي ... بفيض الدّموع فما تغمض وما زاد شوقا ولكن أتى ... يعرّض لي أنه معرض وتوفي لست بقين من جمادى الأولى سنة سبع وعشرين وأربعمائة بمصر ودفن بها. ومنهم: 6- إبراهيم بن محمد بن زكريا ابن مفرّج بن يحيى بن زياد بن عبد الله بن خالد بن سعد بن أبي وقاص القرشي الزهري أبو إسحاق المعروف بالإفليلي «14» من أهل قرطبة، وممّن أهل العلياء [في] المرتّبة. برزت به

7 - أحمد بن عمار بن أبي العباس المهدوي

الأندلس في أثوابها القشب وظفرت أقطارها بقطار ينبت العشب. فجرّت به ذيل الأحيان، وهمت النجوم بالأعيان. قال ابن خلكان: كان من أهل النحو واللغة، وله معرفة تامة بالكلام على معاني الشعر، حافضا للأشعار ذاكرا للأخبار وأيام الناس. وكان مصدّرا بالأندلس وإقراء الأدب. وولي الوزارة للمكتفي بالأندلس. ولد في شوال سنة اثنتين وخمسين وثلاثمئة، وتوفي في ثالث عشر ذي القعدة سنة إحدى واربعين وأربعمائة «1» . ومنهم: 7- أحمد بن عمار بن أبي العباس المهدوي «13» النحوي المفسّر. نيّر لا يخفى وشمعة صباح لا تطفى. فتّق للعلم الأذهان، وفتح مقفله حتى هان. ونشأ بالمهدية، القرية التي هي حاضرة البحر، والضاربة منه في النحر كرسيّ الخلافة ومحلّ الأنافة. فكان حيث كان أسناها، ومكان حسناها. ولم يعد يذكر بحرها الزاخر معه، ولا ملكها المطاع إذا دخل معمعه. فسّر القرآن وألقى الجران «2» ، وأضهر الآي وكف اللأي. أجاد فيه الكلام، وأجال الرأي والأقلام. أصله من المهديّة من إفريقية، ودخل الأندلس في حدود الثلاثين وأربعمائة، وألّف كتبا نافعة مثل كتاب التفضيل في التفسير، وهو كثير مشهور في الآفاق. وله تعليل القرآن، أنفع من الحجة لابي علي الفارسي.

8 - إسماعيل بن خلف بن سعد بن عمران الأنصاري

ومنهم: 8- إسماعيل بن خلف بن سعد بن عمران الأنصاري أبو الظاهر المقري النحوي الأندلسي السرقسطي «13» . جدع أنوف الأبطال، وقرع ومنع صنوف الرجال. وكرع وورد المناهل من برنق «1» ، ولم يقدر عليها النسيم إلا في آخر رمق. فشرب واضطلع وأناف على الشرفات، واطلع فنشر ما طوي من الأيام السوالف، وأعاد الليالي في أحسن الطرر والسوالف. وغازل بألحاظ كلمه الفواتر، وقطع بألفاظ حكمه البواتر. ذكره ابن خلكان: وكان إماما في علوم الآداب، ومتقنا لفنّ القراءات «2» وذكره ابن بشكوال في كتاب الصلة وأثنى عليه، وعدّد فضائله. وتوفي يوم الأحد مستهل المحرّم سنة خمس وخمسين وأربعمائة. ومنهم: 9- أبو الحجاج يوسف بن سليمان بن عيسى النحوي، المعروف بالأعلم «14» . كان من إخوان الصفا، وأخدان الوفا. برع في الفضائل، وترع مترع الأوائل. وكان على عمى عينيه ينظر في العواقب نظر البصير، ويعرف إلى أين

10 - عبد الله بن محمد ابن السيد البطليوسي

المصير؛ إلى فصاحة لم تحل بالغلمة «1» ميمه، ولا أتت بها في أخواتها ضميمه. وكان بالعيوب منطقا، وبما يبريه من العيون ممنطقا. ولم يمت حتى أنذر بدنوّ أجله، وأخبر بقرب وفاته وعجله. قال ابن خلكان: رحل إلى قرطبة سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة، وأقام بها مدّة، وأخذ عن الإفليلي وأبي سهل الحراني، وأبي بكر ابن أحمد الأديب. وكان عالما بالعربية واللغة ومعاني الأشعار. كثير العناية بها مشهور بمعرفتها، حسن الضبط. أخذ الناس عنه كثيرا. وكانت الرحلة في وقته إليه. وأخذ عنه أبو علي الجيّاني وغيره. وكفّ بصره آخر عمره وله تصانيف عدّة. وكان مشقوق الشفة العليا شقاقا فاحشا. وهو العلم يعرف به. ولد سنة عشر وأربعمائة. ومات في ذي القعدة سنة ست وسبعين وأربعمائة «2» . قال الرعيني خطيب إشبيلية: مات أبو عبد الله محمد بن شريح يوم الجمعة منتصف شوال سنة ست وسبعين وأربعمائة، فسرت إلى الأستاذ أبي الحجاج الأعلم فأعلمته بوفاته؛ لأنهما كانا كالأخوين محبّة فانتحب وبكى كثيرا واسترجع ثم قال: لا أعيش بعده إلا شهرا. وكان كذلك. ومنهم: 10- عبد الله بن محمد ابن السّيد البطليوسي «13» النحوي، أبو محمد. مادة نحو وأدب، وتصنيف ولغة عرب، لا نحّى أحد معه فيها يد

ولا تصنيف، ولا يعدّ في رحله شيء ولا مضيف. غطّى سيله على الفرا «1» وطفا درّه فكثر مدد الجوهرى. وكان عالما بالآداب واللغات متبحرا فيهما، مقدما في معرفتهما وإتقانهما. سكن مدينة بلنسية، وكان الناس يجتمعون إليه، ويقرءون عليه ويقتبسون. وكان حسن التعليم جيّد التفهيم، ثقة ضابطا. ألّف كتبا نافعة ممتعة، وشرح عدّة كتب. وكل شيء يتكلّم فيه فهو في غاية الجودة. ومولده سنة أربع وأربعين وأربعمائة بمدينة بطليوس. وتوفي في منتصف رجب سنة إحدى وعشرين وخمسمئة. ومن نظمه قوله: [الطويل] أخو العلم حيّ خالد بعد موته ... وأوصاله تحت التّراب رميم وذو الجهل ميت وهو ماش على الثرى ... يظنّ من الأحياء وهو عديم وقوله في طول الليل: [الطويل] ترى ليلنا شابت نواصيه كبرة ... كما شبت أم في الجوّ روض بهار كأن اللّيالي السّبع في الجوّ جمّعت ... ولا فصل فيما بينها بنهار قوله من أول قصيدة مدح بها المستعين بن هود: [الطويل] وهم سلبوني حسن صبري إذ بانوا ... بأقمار أطواق مطالعها بان لئن غادروني باللّوى إنّ مهجتي ... مسايرة أضعانهم حيشما كانوا سقى عهدهم بالخيف عهد غمائم ... ينازعها مزن من الدمع هتّان أأحبابنا هل ذلك العهد راجع ... وهل لي عنكم آخر الدهر سلوان ولي مقلة عبرا وبين جوانحي ... فؤاد إلى لقياكم الدهر حنّان تنكّرت الدنيا لنا بعد بعدكم ... وحلّت بنا من معضل الخطب ألوان

11 - محمد بن الحسن بن سعيد الأستاذ

ومن المديح: [الطويل] رحلنا سوام الحمد «1» عنها لغيرها ... ولا ماؤها صدّ ولا النّبت سعدان إلى ملك حاباه بالحسن يوسف ... وشاد بها البيت الرفيع سليمان من النّفر الشمّ الّذين أكفّهم ... غيوث ولكنّ الخواطر نيران وهي طويلة. ومنهم: 11- محمد بن الحسن بن سعيد الأستاذ «13» أبو عبد الله ابن غلام القرشي الأندلسي الداني المقري النحوي. أحد الأئمة وأحد السيوف في الملمّة. دنت له لدانيه السما، ودرّت على أكتافه النعما. وأصبحت به أكناف الأندلس مخضرّة وأيام الأنس بها لا تخاف مضرّة. قد وضعت مباسمها، ونفحت نواسمها، وهبت أصلها الصحائح معتلّة، وغدت حدائقها المجنّنة بسلاسل الأنهار معتلّة. وكانت الحياة بها سهلة المحيّا، وأيامه الزّهر ودانية الدنيا. قرأ القرآن واللغة. وارتحل بابنه إبراهيم سنة بضع وعشرين وخمسمئة، ورجع فتصدّر للإقراء والحديث وتعليم العربية. وكان صاحب ضبط وإتقان، مشاركا في علوم جمّة، يحقق بها. وكان حسن الخط أنيق الوراقة. وكانوا يرحلون إليه للسماع والقراءة. توفي بدانية في ثالث عشر المحرّم سنة سبع وأربعين وخمسمئة، وقد أصابه خدر قبل موته بسنة، مولده سنة اثنتين وسبعين وأربعمائة. وكان ذا حظّ من علم الحديث ومعرفة رجاله. وولي خطابة دانية في آخر عمره.

12 - عبد الله بن عيسى بن عبد الله بن أحمد بن أبي حبيب الاندلسي

ومنهم: 12- عبد الله بن عيسى بن عبد الله بن أحمد بن أبي حبيب الاندلسي «13» أبو محمد الخزرجي. من بيت علم وحشمة، وعلا وهمّة؛ إلا أن صروف النوى قذفت به وثلمت سيفه من غربه «1» ، فرمت به من حيث لم يك ظنّت، ولا قدّ لها ما تمنّت. فأهوي في الأرض هوي الأجدل «2» ، وانحطّ انحطاط الجندل. وشق المخارم بهوي مضيقها وفجاجها، وبرد عذبها وأجاجها حتى كاد ينسى من المغرب ذكر بلده، ويظن المشرق موضع مولده. وأتى خراسان ولم يعرف، أما لها من إحسان؟ وحلّ من ذلك الأفق دارا نسي بها قديم محتده، ولقّط من مطلع الشهب شيب بدده. ووقف على عين الشمس واغترف غرفة بيده. أقبل على العلم بإشبيلية، وحصل ما لم يحصل غيره. وولي القضاء بالأندلس مدّة، ثم خرج عنها على عزم الحج. وجاوز سنة ودخل مصر ثم قدم العراق، ثم سار إلى خراسان، فنزل هراة مدة ومرو. وكان خبيرا بالحديث والفقه والنحو والأدب. وسمع وأفاد. ومولده سنة أربع وثمانين وأربعمائة. وتوفي بهراة في شعبان سنة ثمان وأربعين وخمسمئة. ومنهم: 13- أبو موسى عيسى بن عبد العزيز بن يللبخت بن عيسى الجزولي «14» إمام يلقب دونه النواظر، وتكف عليه المحاضر. أجاب مصرخا وانجاب به الروع مفرّحا.

وسارت إليه الطلبة يستعجل الشوق حنانها، وتصل الأسباب ربّانها إلى رأي رصين، وعلم بالدين قد صين. فلم يكن مثله في العليا، وزهد خلص من الربا. فسار ذكره كالشمس مغذّا، ووجد له كالسحر إلى كل قلب نفذا. قال ابن خلكان: كان إماما في علم النحو كثير الاطلاع على دقائقه وغريبه وشاذّه. وصنّف فيه المقدمة التي سمّاها القانون. ولقد أتى فيها بالعجائب، وهي في غاية الإيجاز مع الاشتمال على شيء كثير من النحو، ولم يسبق إلى مثلها. واعتبرها جماعة من الفضلاء فشرحوها. ومنهم من وضع لها أمثلة. ومع هذا كلّه فلا تفهم حقيقتها. وأكثر النحاة ممن لم يكن أخذها عن موقّف يعترفون بقصور إفهامهم عن إدراك مراده منها، فإنها كلّها رموز وإشارات. ولقد سمعت من بعض أئمة العربية المشار إليهم في وقته، وهو يقول: أنا ما أعرف هذه المقدمة، وما يلزم من كوني ما أعرفها ألّا أعرف النحو. وبالجملة فإنّه أبدع فيها. قال: وسمعت أن له أمالي في النحو ولكنّها لم تشتهر. ورأيت له مختصر التفسير لابن جنّي في شبه ديوان المتنبي. ونقل أنه كان يدري شيئا من المنطق. ودخل الديار المصرية، وقرأ على الشيخ محمد بن بري المتقدم ذكره. وقد نقل «الجمل» «1» على ابن برّي، وسأله عن مسائل في أبواب الكتاب، فأجابه ابن برّي عنها، وجرى فيها بحث من الطلبة حصلت منه فوائد علّقها الجزولي مفردة فجاءت كالمقدمة، فيها كلام غامض، وعقود لطيفة وإشارات إلى أصول صناعة النحو غريبة، فنقلها الناس عنه واستفادوها منه، ثم قالوا هذا المصنف. وبلغني أنه كان إذا سئل عنها، هل هي من تصنيفك؟ قال: لا؛ لانه كان متورعا: ولمّا كانت من نتائج خواطر الجماعة عند البحث من كلام شيخه ابن بري، لم يسعه أن يقول: هي من تصنيفي؛ وإن كانت منسوبة إليه؛ لأنه الذي انعزل بترتيبها. ثم رجع الجزولي إلى بلاد المغرب بعد أن حجّ وأقام بمدينة بجاية مدة، والناس يشتغلون

14 - علي بن محمد بن عبد الله

عليه، وانتفع به خلق كبير. قال ابن خلكان: ورأيت جماعة من أصحابه. توفي في سنة عشر وستمئة بمدينة مراكش رحمه الله تعالى. هكذا سمعت جماعة يذكرون تاريخ وفاته ثم وقفت على ترجمته وقد رتّبها أبو عبد الله ابن الأبّار فقال: توفي سنة ست أو سبع مات الجزولي «1» . ومنهم: 14- علي بن محمد بن عبد الله المعروف بالشلوبيني «13» الأندلسي الأشبيلي النحوي. بحر لا يشقّ، وسحاب لا يصدع إياه برق. تبوّأ فوق السماء مسكنا وفرّق النجوم سكنا. حلّ الذروة والغارب، وجلّت أصل ذكره المشارق والمغارب. أوضح النحو وبيّنه وجعل منه على بيّنة، فاستصحب آبيه، واستبحر آتيه؛ حتى فتح مقفله ووشم مغفله. فقرّ قراره، واستبشر البدر ولم يخفه سراره. قال ابن خلكان: كان إماما في علم النحو. مختصرا له غاية الاختصار. اشتغل على أبي بكر محمد بن خلف بن محمد بن عبد الله بن صافي اللخمي الإشبيلي. ومن شعره قوله: [البسيط] قالوا حبيبك معلول فقلت لهم ... نفسي الفداء له من كل محذور يا ليت علّته بي غير أن له ... أجر العليل وإني غير مأجور

15 - أبو القاسم المغربي

ولقد رأيت جماعة من أصحابه وكلّهم فضلاء، وكل واحد يقول: ما يتقاصر الشيخ أبو علي الشلوبيني عن الشيخ أبي علي الفارسي، ويغالون فيه مغالاة زائدة. وقالوا: فيه مع الفضيلة غفلة وصورة بله في الصورة الظاهرة؛ حتى قالوا: إنه كان يوما على جانب نهر وبيده كراريس، فوقع منه كرّاس في الماء، وبعدت عنه فلم تصل يده إليها ليأخذها، فأخذ كراسة أخرى وجذبها، فتلفت الأخرى بالماء. وكان له مثل هذه الأسباب الدالة على البله. وشرح المقدمة الجزولية شرحين كبيرين. وله كتاب في النحو، سمّاه التوطئة. وكانت إقامته بإشبيلية، وأخباره متواصلة إلينا، وتلامذته واردة في كل وقت، وبالجملة؛ فإنه على ما يقال كان خاتمة أئمة النحو، وكانت ولادته بإشبيلية سنة اثنتين وستين وخمسمئة، وتوفي في آخر الربيعين، وقيل في صفر سنة خمس وأربعين وستمئة بإشبيلية «1» . ومنهم: 15- أبو القاسم المغربي «13» وهو محمد بن أحمد بن الموفق الأنصاري الأندلسي المرسي. رجل حظّه موفور، وسعيه غير مكفور. ركب البحر من بلده حين ضاق به جانب ذلك البرّ، وساءه طول المقام وأضرّ؛ فطارت به فتحا لا يردّ من جماحها، ولا يعد فضل جناحها. سمت به في أمواج كالجبال، وأفواج كقطع الجمال؛ حتى ألقاه البحر إلى الساحل، وآذى به السفر المراحل. وجعل الشام دار مقامه، ودواء أسقامه، ثم رحل مشرقا وجمع شتيت العلم مفرقا. وكان لا يعدّ الغربة إلا وطنه، والغلّة «2» إلا إذا ورد ماء بلده، أو سكنه. وهو معدود في أهل الحديث الشرقي؛ إذ قدم إليه أول ما عنّ تمائمه وريش قوادمه.

16 - يحيى المالقي

ذكر ابن المستوفي أنه أخذ النحو عن الكندي وأبي البقاء العكبري، وأقام بدمشق سنتين، ثم قدم إربل سنة عشر وستمئة، وقد جاوز الأربعين. قال: وأنشدني لنفسه: [الكامل] درس الخلاف فما يقول مسلّم ... مني وقولي كلّه ممنوعه إفساد وضع في سؤال محبّة ... أم أصله قد خالفته فروعه إن فقت بين دلاله ودليله ... لمّا تبيّن في الدليل شروعه الاقتصاص لعبده في ذاته ... يا ليت شعري ما يكون صنيعه وأخذه من قول البستي «1» : [الطويل] خذوا بدمي هذا الغزال فإنّه ... رماني بسهمي مقلتيه على عمد ولا تقتلوه إنني أنا عبده ... وفي مذهبي لا يقتل الحرّ بالعبد ومنهم: 16- يحيى المالقي «13» وهو أبو زكريا يحيى بن علي بن أحمد بن محمد بن غالب الحضرمي الأندلسي المالقي. رجل تحط دونه الأجادل «2» ، وتدك بأدناه الجنادل، ويسكت إذا ناباه من تجادل. نجم والرجال نبات، وانسجم والنوال مغمض الجفون بالسبات؛ فسما سمو حباب الماء حالا فحالا، ونما نموّ فروع الشجر أغصانا طوالا. ولم يبرح منه زنده يقدح شرارا. وندّه يفوح وإن لم يوقد نارا؛ إلى أن أخمده انصرام العمر المكتئب، وكمل له عمله واستتب.

17 - زين الدين المالقي

قال ابن المستوفي: ورد إربل سنة اربع عشرة وستمئة راحلا إلى خراسان لسماع الحديث، وكان قد أقام بدمشق، وأخذ عن أبي اليمن الكندي. قال: وحدّثني من أثق به أنه كان له حلقة بجامع دمشق للنحو وأثنى عليه أبو الحسن ابن علي بن عبد الكريم الجزري. وقال: لطيف الأخلاق من بين المغربة، حسن العشرة. جرى بيني وبينه عدة مباحثات سألته عن مولده، قال: لا أحقه؛ إلا أني ولدت بمالقة. وممّا أنشد له قوله: [الطويل] فؤادك موقوف الهوى حين يمموا ... وأنت بهم هيمان صبّ متيّم إذا أعرقوا أو أشأموا كنت سائما «1» ... بروقا بها سحب المدامع تسجم يسائل عنهم كلّ يوم وليلة ... نسيم الصّبا أين استقلّوا وخيّموا تفوت وجوه اليمن واليمن فيهم ... ويسترشدون النجم والنجم منهم ومنهم: 17- زين الدين المالقي «13» ضيف قوم كرام، وقطيف قوم بلغ المرام. برع نحوا وأدبا. يصلح لكل نجوى. أتى من الأندلس حاجا ومعتمرا، وركب ليلا دجوجيا ومقمرا؛ حتى قضى بقيته، وأمضى ما حمله عليه العزم وبغته. وقد قدم دمشق واستوطنها، واجتنى بطائنها، ونزل على بني السيرجي «2» . وسم في أرباب البيوت بها صدور مجالسها وجنى مغارسها، وامتار أسواقها، وأقمار أنديتها الطالعة من أطواقها؛ بيد أنهم من عدد عدولها، ومدد سيولها، وذوي

التصرف في خدم السلطان وخدم الملوك منذ حلّوا تلك الأوطان، فألقى إليهم رحل رحلته، وجمع شمل شملته وأقام بينهم يرفد بالجنى الموفور، ويولي الأيادي التي ما استدت إليّ كنور وله فيهم مدائح كنت وقفت على بعضها، ووقعت بين دارين والشر في أرضها وفيما وقفت له على قصيدة وصف فيها طير الواجب تحرك إلى البزز لرمي البندق سواكن الهمم، وبعيد نشاط الشباب لأهل الهرم لعنة كانت لسببه هذا البيت في رمي الطير الجليل والخروج إليه بالصاحب والخليل. وأولها: [الكامل] ركب الدّجى لا يرهب الأخطارا ... ودنا على بعد المزار وزارا ومن نثره من قدمة كتبها للصدر شرف الدين أبي الفتح أحمد ابن السيرجي أولها: الحمد لله مسخّر الطير في جوّ السما، ومحيي الأرض بما منّ عليها من النعما. الواجب وجوده، فلا يغير بخلقه. المانّ بجوده، وكل حيّ يرزقه، المتفضّل على عباده بمحاسن الأخلاق، المتكفل الأجناس مخلوقاته بإدرار أنواع الأرزاق، الحاكم بإقعاد من انتهك حمى حرمه، القادر على إسعاد من تعرض لكرمه. ومنها: فالربيع يكسب الأرض برطوبته جمالا وزخرفة، ويلبس الأرض من صنعة يد الشتاء حللا مفوّفة «1» ، وأشجاره ترشح من عيونها بماء ورد، وأشجاره تتنفّس فتخال تنفسها عنبرندّ؛ حتى كأن الجوّ عطار يعدّ طيبا والهزار قد أقام على رؤوس الأغصان خطيبا. ومخايل الأوراق قد لاحت على تلك الخمايل والورق قد غنت على عيدانه والغصن مايل، والروض قد وردت عليه من جداوله مسائل. والشتاء يجود على البطحاء بجود تهطّله، وتعقب ظله يصيب وبله. وترى سنا برقه بين رعد وسحاب، وتزخ دموعا شوقا لأيام الشباب، كأن السماء والرعد فيه تذكر أهوالهما فاستعبرت وتنهّدا. ومنها: ولمّا كان فلان ثمرة غصن زكت مغارسه، ودرّة بحر قذفت نفائسه، وزهرة حديقة أينعت أرجاؤها، ونجل رئاسة تشرّف آباءها أبناؤها، من نسب يعقد بالنجوم دوالبه، وحسب

تحط في مفارق النسر ركائبه، وعندما تمت أخلاقه الحميدة، وكملت والتحفت به هذه الأوصاف الجميلة واشتملت؛ رام أن يأخذ حبل السعادة بطرفيه، ويجمع بين محاسن الجدّ والهزل ليحصل من السعد على شرفيه، ولم يزل يقلّب طرفه في محاسن لهو برنصيه «1» ، ويدير فكره فما يصلح له فيقتضيه؛ إلى أن شهرا كذا من سنة كذا فعمد إلى نيته المقبولة فأمضاها، ولم تكن إلا حاجة في نفس فلان قضاها. فخرج وقد أرجت نوافح المسك الأذفر «2» ، وماست معاطف الزند الأخضر. والأنهار مطردة بمائها، والأطيار غردة بغنائها إلى مظان الطير الجليل ومكامنه. وطلب كمل يطلب الخير من معادنه، واستصحب معه من الرماة الأزكياء السادة الأذكياء، كل صادق القول زكيّ الفعل كثير الإمساك قليل المثل، ممّن برز في البرزات، وأظهر من يديه خوارق المعجزات. وله الوجوه المشكورة من غير نفاق، والنكت المشهورة بين الرفاق، وقد ارتدوا ملابس الغيار، وأطلعوا من أطواقها وجوها كالأقمار، وشدّوا بالمناطق خصورا تدقّ عن الأفكار، وتقلّدوا حمائل جيوش صانت النجوم عن الأبصار. والتثموا بفضلات العمائم، واستغنوا بالخالق عن الرقى والتمائم. وقصدوا في طالع السعد والأمان دير سلمان؛ فلما أذنت الشمس بالفراق، وكادت تبلغ نفس النهار التراق استدارت الجماعة استدارة الأنامل بالأقداح، وامتزاج الأشباح بالأرواح. ودارت عليهم بالسؤال للسرور كؤوس، ومالت منهم للطرب أعناق ورؤوس؛ فلما أنفقت خطتهم، وافترقت خلطتهم انتشروا في تلك الرياض انتشار العيوث «3» ، ووثبوا في تلك النواحي وثوب الليوث. فلله درّهم من فرسان مواكب وشجعان كتائب. إن ركبوا خلت آساد جفان، وإن ترجلوا قلت ظبا وغزلان. هذا وهو بينهم كالقمر بين النجوم، والشمس في خلال الغيوم.

قوله: [الكامل] السّعد في نظراته والموت في ... سطواته والفضل من أفضاله والشمس تحجب وجهها عن وجهه ... والبدر يبدو خاضعا لجماله وعند ما تهندمت الرماة من مواضعها، وبرزت الطيور التي كتب عليها القتل إلى مضاجعها، مرّت به جفة «1» من العنانيز «2» ، كانت على الميت حراصا، وعادت إلى مطرحها بطانا بعد أن راحت إلى مطرحها خماصا، فرنا إليها بطرف لو خطّ به الارض لاهتزّت وربت، ورمقها بنظر لو رمق به النجوم شررا لا نقضت وهوت وسار إليها مسير الشمس عند الشروق، وطرقها طروق الطيف، فحبّذا ذاك الطروق، وقد أغذّ في يمناه التي لو نازلتها السحب الهاطلة لخجلت، أو باهتها البحار الزاجرة لخلت. [البسيط] فبطنها حجر الأسباط منبجس ... وظهرها حجر الإسلام مستلم ندبا من البندق المنتسب شكله، الطيب أصله. بعيد الناظر، رزقا مقسوما، ويعدّه الطائر أجلا محتوما. وفي يسراه الميسرة للأزرق المعينة على الإطلاق. [الطويل] هي البحر والطّرس النّفيس سفينه ... فآونة منجى وآونة يردى قوس رشق خطار مستوي العنق والبستار، قد اختيرت له روق «3» الأوعال وسطانا الردينية العوال، فكأنه قضيب شيخ ارتدى بثوب نظار، أو سبيكة ذهب أحرق شطرها بنار وبدا للعيون عاريا؛ ولا إثم عليه في ذاك ولا عار. فياحسنه من موقف رأيت فيه القمر يقذف شيطان الهموم عن هلال بكوكب وضم كافور، يدير في بحر العطايا حركات المنايا بلولب.

ولم يزل برقها حتى دخلت المقدار، ونادته السعادة البدار البدار، فأرسل إليها رسل المنايا من بنادقه، وأخرج إليها ضبايا الروايا من زوايا جلاهقه «1» ، فأصاب منها طائرا خرّ لديه صريعا، وناداه التقدير فأجاب، ولم يكن قبلها سامعا ولا مطيعا. [الرجز] لم يدر من آمن ينجو خيفة ... وإنما الرّامي درى كيف رمى وذكر في أحدها قصيدة البدر يوسف بن لؤلؤ، وهي: [الكامل] هل ذاك برق بالغوير أنارا ... أم أضرموا بلوى المخصّب نارا وكلاهما إن لاح من هضب الحمى ... لي شائق ومهيّج تذكارا فيم التعلّل والشّتات منكّب ... عني وقد شطّ الحبيب مزارا وقد استردّ الدهر أنواب الصّبا ... وكذاك يوجد ما يكون معارا فارفق بدمعك في الفراق فما الذي ... يبقى ليسقي أربعا وديارا ودع النسيم يراوح القلب الذي ... أورى زناد الشّوق فيه أوارا مع أنني أصبو إلى بان الغضا ... إن سمت برقا أو شممت عرارا فاليوم لا دار بمنعرج اللّوى ... تدنو بمحبوب لنا فيزارا كلّا ولا قلبي المشوق بصائر ... عنهم فأبدت دمنة أودارا فسقى اللّوى لا بل سقى عهد اللّوى ... صوت الغمائم هاميا مدرارا ولقد ذكرت على الصّراة مراميا ... ينسى بحسن وجوهها الأقمارا وعلى الحمى يوما ونحن بلهونا ... نصل النّهار ونقطع الأنهارا في فتية مثل النجوم تطلّعوا ... وتخيرّوا صدق المقال شعارا من كلّ نجم في الدياجي قد لوى ... في كفّه مثل الهلال فدارا متعطّفا من جرم داود الذي ... فاق الأنام صناعة وفخارا فالآن قد حنّ المشوق إلى الحمى ... وتذكّر الأوطان والأوطارا وصبا إلى البرزات قلّت كلّما ... طارت به جزر اللغالغ «2» طارا

فلأي مرمى أرتميه وليس لي ... قوس رشيق مدمج خطّارا حليّ على ضعفي إذا استعطفته ... ألوى عليّ العنق والدستارا نكت له من كل صنف قد حوى ... أعيا الرّماة بحسنها إكثارا وبوجهه المنقوش أوّل ما بدا ... وبه أقام وأقعد الشّطّارا وغدا بتحريمي بلا سبب بدا ... منّي وأودعه الرماة مرارا يا حسنه من مخلف لكنّه ... في الجوّ عال لا يسفّ مطارا ويطير حفظا عن مقامي عامدا ... ولشقوتي لا يدخل المقدارا لا يندمي مهما خطرت بباله ... أنّى ينال مراوغا طيّارا وسنان من جزر اللغالغ لم يزل ... يرعى الرّياض وليس يرعى الحارا لا راحل بل قادم عنّي إلى ... ماء الفرات يخوض منه غمارا وأنا تراني فاقدا ومنعّما ... في الجو ليلا خلفه ونهارا وغنى فقد برد الهواء وقد أتى ... أيلول يطفي للهجير جمارا ووراءه سربان جاء ورغده ... عجلان يحدو للسّحاب قطارا والبارق الهامي على قلل الحمى ... سدّى هناك خيوطه وأنارا والفيض طام ماؤه متدفق ... والطّير فيه يلاعب التيّارا والنهر جنّ به فراح مسلسلا ... صبّا ببحر لا يصيب قرارا نهر النواظر حيث آتت شطّه ... للناظرين شقائقا وبهارا والصّبح في آفاقه يا سعد قد ... أخفى النجوم وأطلع العذّارا فانهض إلى المرمى الأنيق بنا وقد ... هبّ الصباح ونبّه الأطيارا وتتابعت خفقاتها في أفقها ... مثل النّعام قوادما تتبارى من خود حوراء العراق قوادما ... يا مرحبا بقدومها زوّارا فاصح إلى رشق القسيّ إذا ارتمت ... مثل الحريق أطار عنه شرارا واطرب على نغمات أطيار بدت ... في الجوّ وهي تجاوب الأطيارا من كلّ طيّار كأنّ له دما ... عند الرّماة فثار يبغي الثّارا هل جاء في طلب القسيّ لحتفه ... أم جاء يطلب عندها الأوتارا

فالتمّ يضرب بالجناح كأنّه ... أبدى البيان يحرّك الأوتارا خاض الظلام وغبّ فيه فسوّ ... د الرّجلين منه وسوّد المنقارا وأتى يبشّر باللقاء فضمّخت ... تلك المغارز عنبرا ونضارا والكي «1» كالشيخ الرئيس مزّمل ... في بردتيه هيبة ووقارا يسطو على الأسماك يوما كلّما ... أذكى له حرّ المجاعة ثارا والوزّ همّ هاجنا تنغيمه ... ليلا وكم قد شاقنا أسحارا فاذا تباشير الصباح ثنى له ... عطفا وصفّق بالجناح وطارا وترى اللغالغ تستبيك بأعين ... حورية صفر الجفون صغارا فكأن ورسا ذاب في أجفانها ... فحكى النّضار وحيّر النظّارا وترى الانسياب النوافر تنثني ... بين الرّياض كأنهن عذارى يسلبن أرباب العقول عقولهم ... ويرعن منه حيلة ونفارا وترى الحبارى كالقطا أرياشها ... أو كالرياض تفتحا أزهّارا هجرت مناهلها على برح الظما ... واستبدلته ذوبة وقفارا والنّسر سلطان لها لكنّه ... لم تلفه لدمائها هدّارا قد شاب منه رأسه من طول ما ... كثرت عليه عصوره أدوارا أرخى جناحيه عليه كجوشن «2» ... لو كان يمنع دونه الأقدارا وإذا العقاب سطا وصال بكفّه ... عاينت منه كاسرا جبّارا يعطي ويمنع عزّة وتكرّما ... ويلجّ ممنوعا ويمنع جارا وترى الكراكي «3» كالرماد وربما ... فرقت فأذكت في القلوب النّارا قد سطّرت في الجوّ منها أسطرا ... وطوت سماء سجلّها أشعارا فإن انصرعن فلا تكن ذا غفلة ... عن أن ينقّط حليهنّ مرارا

18 - البياسي

وبدت غرانيق لهنّ ذوائب ... لولا البياض لخلتهنّ عذارى حمر العيون تدير من أحداقها ... فينا كؤوسا قد ملين عقارا «1» والصوغ في أفق السماء محلّق ... مثل الغمام إذا استقلّ وسارا ذو مغرز ذرب فلو تسطو به ... فضح السنان وأخجل البتّارا ومرازم بيض وحمر ريشها ... كمراوح أضرمن منه جمارا وعجبت كيف صبت إلى صلبانها ... تلك الرماة وما هم بنصارى وشبيطر ما إن يحلّ له دم ... مهما علا شجر وجلّ جدارا والشرّ فيه إلفه لمنازل ... فاصبر له حتّى يفارق دارا هل عبّ في صرف العقار بمغرز ... أم كان خاض من الدّماء بحارا وهذه القصيدة وإن لم يكن هذا موضعها، ولا صاحب هذه الترجمة مسيّر شهبها ومطلعها، فقد ذكرتها للاستشهاد بها؛ لأنه كان من سببها. ولما تفرّدت من حسن مذهبها، وأظنّه إنّما قصد معارضتها بقصيدته التي ذكرت مطلعها: إن السماء تطير الماء في الرّزق ومنهم: 18- البياسي «13» وهو أبو بكر سعيد بن أحمد بن محمد المغربي البياسي، عماد الدين لا يبلغ خضيضه، ولا يسوغ تذهيبه ولا تفضيضه. أحيا الليالي، وقد أمات النوء الثرى. وأبات السحاب. لا يغمض جفنه الكرى إلى هواجر كان يصلى تلهبها، ويغلّ في مديد لبّها. لا يتوسد إلّا مرفقيه، ولا يبيت غير النجم والسهاد مرافقيه؛ حتى مات فخشع له هامد التراب، وخضع له

19 - الصهاجي

هامل السحاب، وبكى بكاء الأتراب. ذكره ابن المستوفي، ومما قال: إنه ورد الموصل فنزل في بعض مدارسها متفقها، واستظهر بعض كتاب سيبويه، واتصل بأبي الفضائل لؤلؤ المنصوري. مدّت وحسنت حاله عنده، ثم قطعه عنه، وأخذ جميع ما حصل بيده من مال وكتب، وضربه ضربا شديدا. ولم يظهر خبره، وذلك في شوال سنة ست عشرة وستمئة. وكانت وفاته بقلعة الجديدة. قال: وكان هذا المغربي كما قيل لي رديء الطبع. سمع أبو الفضائل لؤلؤ إنسانا يشكو منه، ويذكر أنه يأخذ من عرضه، فقال: لعلّك أحسنت إليه. ومنهم: 19- الصهاجي «13» وهو أبو علي عمر بن عبد النور بن ماخوخ بن يوسف النحاس النحوي الصهاجي اللزبي. واللّزب قبيلته. أورق ظل الفضائل وأسبغها، وفوّف حلل العلوم حتى أجمل إصبعها. بهر به المشرق والمغرب، وتفرّد به المألوف والمغرب. وامتدّ ذكره من المغرب امتداد ظلاله، وورد على الشرق وزوّد زلاله؛ فنفث في روع المطلع الشرقي السحر الحلال، وحلي الجانب الغربي بما لاق بمعصم طوده المنيف من سوار الهلال. ذكره ابن المستوفي، وأنشد له من شعره: [الكامل] ومعقرب الصّدغين خلت عذاره ... نونا أتى في رسمه الخيلان فوقفت أبكيه بعيني غزوه ... حزنا عليه كأنني غيلان وله في كاتب: [الكامل] إن كان وصلك قد تراه ممنعا ... خوفا عليك ملامة العذّال فالآن مشرف عارضيك مخبّر ... أن العذار موقّع لوصال

وحكى أنه أتى إلى الفقيه العلّامة كمال الدين بن يونس فألفاه على دجلة وحوله جماعة يتفقهون به، فرأى بحرمته ومنها وعجتين إذ أخذت عنه وعنها، فقال: [الوافر] تجرّ الموصل الأذيال فخرا ... على كلّ المنازل والرّسوم بدجلة والكمال هما شفاء ... بهيم أو لذي فهم سقيم فذا بحر تدفّق وهو عذب ... وذا بحر ولكن من علوم وحكى أنه أتى دمشق فرأى صبيا من أبناء الكتّاب، يعرف بابن عصيفير، قد عصفرت ديباجته، وتمت فيه من الحسن حاجته، فوقف حائرا، وسقط قلبه في يده طائرا، فقال: [الوافر] متى نيل المؤمّل من غزال ... على الأحياء سلّط مقلتيه كأنّ فؤاد عاشقه المعنّى ... سميّ أبيه يخفق في يديه وهذا من قول المجنون: [الطويل] كعصفورة في كفّ طفل يظلّها ... تقاسي حياض الموت والطفل يلعب «1» عدنا إليه. حكى أنه كان يتعهد درس الفقيه العلامة كمال الدين بن يونس لصحبة كانت بينهما أكيده، وسوالف مدّه عديده. وكان ابن يونس لا يبقي من أهل الفضل محصل ولا من هو من أفنان العلم متوصل، حتى يحل بداره، ويحمل مما كنز تحت جداره، فأتاه يوما وقد حضر جماعة قد تطيلسوا «2» ، وتعاقدوا على إسكاته. فلما تكلم أبلسوا «3» ، فقال الصّهاجي: [الطويل] كمال كمال الدين للعلم والعلا ... فها هو ساع في مساعيك يطمع

20 - محمد بن عبد الله بن محمد بن أبي الفضل السلمي الأندلسي النحوي

إذا اجتمع النظّار في كل موطن ... فغاية كلّ أن يقول ويسمع فلا تحسبوهم عن عناد تطيلسوا ... ولكن حياء واعترافا تقنّعوا وحكي أنه مرّ ببلدة فرأى فيها غلامين كأنهما الفرقدان، أو النيران؛ إلّا أنهما أخدان قد تحابّا حبّا أكّد ألفتهما، ورأيت في ديوان المحبّة معرفتهما، يعرف أحدهما بابن صقر، والآخر بابن فهد، فقال: [الطويل] أليس عجيبا جارحان تصايدا ... وذلك شيء لا يكاد يرام فمن لي بفرخ الصّقر أمسك سبقه ... وأوتى بجرو الفهد ثمّ ينام ومنهم: 20- محمد بن عبد الله بن محمد بن أبي الفضل السلمي الأندلسي النحوي «13» شرف الدين أبو عبد الله. فريد كان بغير نفسه. لا يتأنس ولا يسامر إلّا من الجواري الكنّس. ألف الوحدة، وعرف بما تفرّد به وحده، ولم يجزم إلّا بفضله ولم يجرّ ذيل الأفق على مثله إلى دار حتى زهرتها، وجلا من تحت خدر المجرّة زهرتها، فبرزت باسمة لا تغيرها القطوب، ولا تنكرها الخطوب؛ كأنّما ضرّست بدرر، أو غرست في منابت اللآلئ، فضمتها غزلان المسك في السرّ. وذكره ابن اليونيني، ووصفه بالمعرفة بالفقه على مذهب مالك، وبعلم الكلام والأصول، والتصنيف في التفسير. وقال: مولده في ذي الحجة سنة تسع وستين، وقيل سنة سبعين، وقيل إحدى وسبعين

21 - حافي رأسه

وخمسمئة. وقرأ القرآن الكريم ببلده على أبي محمد بن غلبون، وأخذ النحو عن الشلوبين، وسمع بالمغرب والحجاز والشام العراق وخراسان. وحدّث بالكبير «1» ، وجاور بمكة زمانا طويلا. وكان من الأئمة العلماء الفضلاء، ذا معارف متعدّدة، بارعا في علم النحو واللغة العربية والتفسير. وهو على هذا كلّه متزّهد مطّرح تارك للرئاسة، حسن الطريقة قليل المخالطة للناس، كثير الصلاح والعبادة والحج. مقتصد في أموره. له قبول، لا يحل ببلد إلا ويكرمه رؤساؤه وأهله. وتوفي في خامس عشر ربيع الأول سنة خمس وخمسين وستمئة بين الزعقة والعريش وأنشد له: [الطويل] أتجهل قدري في الورى ومكانتي ... تزيد على متن السّماكين والنّسر ولي خصب «2» لو أنه متقسّم ... على أهل هذا العصر تاهوا على العصر ومنهم: 21- حافي رأسه «13» محمد بن عبد الله بن عبد العزيز بن عمر الزناتي المازني النحوي محيي الدين، أبو عبد الله. لا يعدل الدرّ لفظه الموزون، ولا ودائع المعادن حفظه المخزون. ولا يقاس أبو عثمان فتى مازن. عرف بحافي رأسه، وكان وافي رئاسه وكافي من شبهه بالبحر، أو قاسه. لم يجهد منهله المباح، ولم يجهل فضله المماح «3» . ذكره شيخنا أبو حيّان، وقال: كان شيخ أهل الإسكندرية في النحو. تخرّج به أهلها، وكان منجبا. ولا أعلمه صنّف شيئا في النحو. رأيته في درس قاضي القضاة ابن المنير سنة تسع وسبعين وستمئة أول قدومي من الغرب، ثم رأيته سنة إحدى وتسعين وفيها توفي. وله نظم، فمنه قوله: [الطويل]

22 - علي بن إبراهيم التجاني البجلي

ومعتقد نيل الرئاسة في الكبر ... فأصبح ممقوتا بها وهو لا يدري يجرّ ذيول الكبر طالب رفعة ... ألا فاعجبوا من طالب الرفع بالجر وقوله في أهل الثغر: [الكامل] يا منكرا من بخل أهل الثّغر ما ... عرف الورى أنكرت ما لم ينكر أقصر فقد صحّت نتانة أهلها ... ومن الثغور كما علمت الأبخر «1» قلت: والبيتات الأولان أنشدني إياهما الأديب جمال الدين محمد بن نباتة، وزعم أنهما للصاحب تاج الدين محمد بن جنا. وقول شيخنا أبو حيّان أثبت «2» . ومنهم: 22- علي بن إبراهيم التّجاني البجلي «13» بحرمته مدد القاله، ويدر عليه مجمع الهاله. كان بتونس صدر إقراء، يؤخذ من حفظه ورتبته الذرى، ذا قبس بلفظه وجلّى، وندي يد ملكها، وتفرّد في المكارم ومسكها. وكان لا يعقب الصفو منه كدر، ولا يقاس بنائله المطر، ولا يشبه بسواه إلا إذا استوى حجر الياقوت والحجر. لعلم نفعه كثير، وحلم يغفر الذنب ويعفو عن كثير. يناظر به السحاب وقد تلظّى حقدا، وأعطى قليلا وأكدى. هذا إلى بأس يكاد منه قلب البرق ينفطر. وقد الخطا بناظر، وكان لا يزال يعمر به مجلسه، ويدنيه منه ويؤنسه، ويأخذ منه العلم ببلده ويغرسه. وقد ذكره شيخنا أبو حيان في مجاني النصر، وقال فيه: أستاذ يقرأ عليه بتونس النحو والأدب، قدم علينا القاهرة حاجّا.

23 - أبو حيان محمد بن يوسف بن علي بن حبان النفزي

وأنشد له قوله: [السريع] إنّ الّذي يروي ولكنّه ... يجهل ما يروي وما يكتب كصخرة تنبع أمواهها ... تسقي الأراضي وهي لا تشرب «1» وقوله يمدح رجلا وهبه مالا عونا على الحج: [السريع] يا سيّدا قامت لدهري به ... على الّذي بغيته الحجّه جودك للنّاس ربيع ولي ... منك ربيعان وذو الحجّه ومنهم: 23- أبو حيان محمد بن يوسف بن علي بن حبّان النّفزي «13» سحاب الفضل المنهل وسخا ختام الفضل، من قبل طريقه سهل، وتحقيقه يثرى من ذا الجهل. تاه به الأندلس على كل إقليم، وملك به عنان التقديم. ولو تقدم عصره حتى كان منذ قرنين في ذلك المكان، حيث يتغادى على الآداب من ملوك الطوائف، وتتهادى رياحين تلك اللطائف، لما احتفظ صاحب الذخيرة بأكثر من جوهره. ولا استضاء الحميدي في جذوة المقتبس إلّا بنور نيّره؛ بل كان يفتح به القلائد الفتح بن خاقان، ويقدم ابن الإمام ذكره في سمط الجمان، ولما كان يسع ابن اليسع إلّا أن يقتصر عليه في المغرب، ولا يجيد ابن دحية في المطرب. ولكان في الاختيارات لأبي سهل حظّه الوافر، ولهان بدّرة اليتيم ما جاء به ابن بحر في زاد المسافر. بشرّ به التوحيدي أبو حيان، وبصّر. سمّى حفيده ابن حيّان. وقدم مصر منذ ستين حجّة، وأتمّ نسكه وحجّه، ثم عاد إلى القاهرة واستوطنها، واستطاب في

الأرض وطنها. ومنذ قدمها خوطب بالإمام؛ ومع هذا ممّا تأبّى عن لقاء الأعلام. ولم يكن يقصر بجناح إلى تمام يقع في الأوهام؛ وإنما أراد الزيادة بما يحصل باقتداح الأفهام. ومنذ ذاك الطلبة إلى إفادته ومن حياض آفاته تكرع؛ حتى انتشر مددهم في البلاد انتشار الصباح، ونظر أهل الشغف بالعلم من كتبه ما ينظر في الوجوه الصباح. وهو الآن نفع الله به هودج اللآلئ الذاهبين وكنز الطالبين. كل الطلبة من عشبه درجوا ومن نبت دواسته خرجوا، وبشذاه أرّجوا، وبسناه سقوا عطاء الإفهام وفرجوا، وبشهاب توفيقه أدلجوا، ومن أثواب تصنيفه إلى العلم ولجوا. وأنا ممن قرأ عليه، وتشرفت لّما مثلت لديه. وأمّا تصانيفه فسارت أوقار الإبل، وأما تفريقه للأدب بشيء عليه جبل. إن شعر أخفى ابن خفاجة، أو نثر كثم «1» خصاله ابن أبي الخصال وأطفأ سراجه فإذا نحا من شبه سيبويه، وإذا تكلّم في اللغة محا ابن سيده ما أحكم في المحكم وضرب عليه. وإذا روى عن الأعراب فإليه تقريب ابن قريب «2» ، وأبو عبيدة عبده الواقف بين يديه، وإن فسّر رأيت ابن عطية منقصا، والقرطبي لا يجد مثل بلدة الماسورة مخلصا، أو السريري قد علل إلى بعض الدواوين منكصا، وابن القيّم واقفا على بابه في يده العصا. مع رواية في حديث النبي صلى الله عليه وسلّم وفقه؛ كأنما طبع منه في مرآة جليّه، ودين يعتصم به المرء، وعدم محاباة إن لاقت به، فلا غرور مع ما بلغه من هذا السنّ والعمر الذي تهدأ به البديهة وتسكن، لا تخمد له قريحة ولا تطمئن به فكرة مريحة، ولا تعزب عن ذاكرته قضية ولو كانت حقيرة أو قصيّة؛ هبة من الله لا تكافى ولا تجدها في غيره، ولو عددت آلافا. قرأ القرآن بالروايات، وسمع الحديث بجزيرة الأندلس وبلاد إفريقية، وثغر الإسكندرية وديار مصر والحجاز، وحصل الإجازات من الشام والعراق، واجتهد وطلب وحصّل وكتب، وله اليد الطولى في علوم التفسير والحديث، والشروط والفروع وتراجم الناس وطبقاتهم وحوادثهم. وله التصانيف العديدة، وتنيف على خمسين مصنّفا. ولّما قدم البلاد لازم الشيخ بهاء الدين ابن

النحاس كثيرا، وأخذ عنه كتب الأدب. وقرأت عليه الأشعار الستة، والفصيح لثعلب والمقصورة لابن دريد، وشعر أبي تمام إلى آخر المديح. وكتبت عنه من أخبار العرب وأدباء الأندلس وفوائد الأئمة شيئا كثيرا. وكانت المراجعات لا تكاد تنقطع بيني وبينه. كتبت إليه: يقبل البساط المنيف، بل البساط الشريف لا زال فوق السها «1» ، وفي الغاية التي لا تبلغ إلى منتهى، ويسأل في شيء مما سمح به فكره، وقذفه في البحر درّه من النثر الذي لا يقدر عليه في النظم المحضور بالقوافي، المقدور بالميزان. ولا يمكن الترجيح في وزنه الوافي؛ ليثبته في مكانه، وينبته روحا مثمرا في بستانه والمسؤول منه ما هو من الدرّ أعلى قمة وأخف حملا؛ مع التعجيل ببرقه المومض وودقه الذي لساعته يرفضّ «2» ؛ فإن الدفتر قد خرج صدره لكنه في شفافه، والناسخ قد فتح فاه لالتقافه، والقلم قد سابق البيان لا ختطافه، والسمع قد علّق مقطفه لاقتطافه، والمراد الإسراع قبل غلبة السكر بما يمنى من سلافه. فكتب إليّ يقبل الباسط، ويقول: أشغل الخلّ أهله أن يعارا وينشد: [الطويل] وبلّغت من عمري ثمانين حجة ... وسبعا أرى الأشياخ ليست كما هيا وفي عيبتي اليسرى وفي شقّ هامتي ... وقلبي فكر يترك الفكر نابيا ولا نظم إلّا بانتظام منيّتي ... ولا نثر إلّا بانتثار عظاميا أيها الإمام اكفف عن عزمك فما نحن من ضربك من باراك بالنظم حتى بأبهى درّه، وجعلته يرفل في أسنى حبره، فأنت أشعر هذا الجنس، بل أنت أشعر الجنّ والإنس. إن أوجزت أعجزت، أو أسهبت دهيت، أو مدحت أعليت، أو قدحت أوريت. وكتب من نثره قوله: وقد استوحش المملوك لمولانا عند التفرج في مصر ونيلها، وحادرها وحيلها، وبهجتها وخيرها، والصور المتولدة بين الترك وغيرها التي يجول السحر في

عيونها والصبا في فنونها، ذوي الذوائب المضفرة، والمحاسن الموفرة. إن سدلوا الشعور فبدور تحت الدياجي، أو ضفروها فأراقم سواجي. من كل أملد «1» أهيف القوام، كأن ريقه مدام، وشعره ظلام، ووجهه بدر تمام؛ إن نطق فالسحر في كلامه، أو رشق فالموت في سهامه. وقوله: ورد على القلب ما شّرفه، وعلى السمع ما شنّفه «2» من الأدب الغضّ، والفضل الخالص المحض، نظم يودّ الغواني لو يكون لها عقدا على النحر، أو تاجا على الرأس فاق تأرّجه الزهر، وراق تبلّجه الأنجم الزهر. وكيف لا، ونور أهل الأدب من نور الشمس يستمد، ولتحصيل فضائله وفواضله يستعدّ؛ لكن صادف مني ذهنا كليلا، وجسما عليلا، وقلبا جريحا، وطرفا قريحا. وماء قريحة قد غاض وهمي تيه قد فاض. يتجلى في خلب كبدي، والمحبوب من ولدي، واغترافي من اللكن لفقد السكن، ومن الوجل يورد الخجل؛ ما حضر لساني أن يفوه في حق هذا الفاضل بما يحب، وأن يتهذب في الثناء عليه كما ينبغي أن ينتدب فعيّ فاضح، وعذري إليه واضح. وقوله: إن دفق فالبحر، وإن نطق فالسحر. ألفت إليه الآداب عنانها، وتفتقت به بديعها وبيانها. وأطاعه عصيّها، ودنا إليه قصيّها. فمن فقره دره وتقسيم قسيم، وترجيز وجيز، وقافية وافية طرزت بأنواع البديع، ووشعت «3» به أحسن التوشيع؛ فأصبحت آدابها في جيد الزمان قلائد وفي سلك الأوان فرائد. يجنس فيها الجنس، وتنوّع وتأصل منها وتفرّع. نزلت من الآداب

منزلة الإنسان «1» ، والذهب الإبريز من العين. وقضت بالتمييز على ذوي التبريز، وبالاختيار على ذوي الاختبار. تطرب الأسماع للسامع، وتحسد العيون عليها المسامع، وكالحميّا «2» شجت بماء غمامها، والثريا علّقت في مصامها. فكأن سامعها لا لتذاذه في أغناء الفجر، ووصل الحبيب بعد الهجر، يتوقل «3» منها نوعا نوعا، ويتعجب منها بما جمع فأوعى، ويوشّيها ما كان مرتّقا، وسبق إلى أعلى مرتفقا، وأضحى بها الفرد الذي لا نظير له في الاجساد، والأوحد الذي يرى فضله على الأنداد والأضداد. وقوله: وإني وإهدائي الصدف للدرر، والوشل «4» للذر كمهدي البرية إليهما والنغبة «5» للدما. أما السيد عينه في قديم شرف ارتجاه الأكابر باتساق رباه، وفنيت المحابر في وصف محاسن محيّاه. تضمّخ النادي بنشره «6» ، وأعلن المنادي بنشره «7» ؛ فهو الشرف المشهد، والمحتد الذي شرف به المشيّد؛ ولكنها السيادة إلى مدى ما تحلت به المآثر، وتجلب به من المفاخر، ويظهر به من الأدب الغضّ ما يقال فيه، كم الأول للآخر، ولا يمكن أن يعصى الأمر، بل يمتثل ما رسمت به الأوامر. وكان شيخنا أبو حيّان رحمه الله قد ذللت له صعاب اللغات فاقتادها بأعناقها، وجذبها أخذا بدائرة نطاقها. وتعدّى لغة العرب إلى العجم، فصنّف عدة كتب في تراجم اللغات المختلفة، والتزم فيها بالصحيح. وإن من تكلم فيها بلغه من تلك اللغات

الشّتى على ما ضبطه كان خارجا عن النقل المسموع في تلك اللغة عن صريح أهلها. وكأن المتكلم به قد تكلّم بخطإ أو لحن؛ إما منه، وإمّا مما طرأ على أهل تلك اللغة بمداخلة من ليس منهم. كما داخل العرب بمداخلة النبط وفارس والروم؛ حتى كان ينكر على رجال من صليبة الترك، ورجال من صليبة الفرس في كلمات تقع على غير الصحيح في أصول لغاتهم. ورأيت رجالا منهم ممن عرف معرفته يتحاكمون إليه فيما شجر بينهم في ذلك، ولقد أراني فيما صنّف في ذلك، فمنه: الإدراك في لغة الأتراك، ومنه: زهو الملك نحو الترك، ومنه: منطق الخرس في لسان الفرس، ومنه: جلاء الغبش في لسان الحبش، ومنه: المخبور في لغة الخمور، وهي لغة قديمة كانت لأهل دمياط، يتحدثون بها في قديم الزمان، فرأيت منها العجب، وعلمت بها أنه قد حكم على ألسنة العجم والعرب. هذا ولم يكن رحمه الله يعرف هذه الألسنه معرفة يخيّل في ميدانها لسنه؛ وإنما كان قد أكثر التقصي عن كل لسان، والسؤال من أهل المعرفة عن مفردات كلمها اسماء وأفعالا وحروفا وتصريف الأفعال، وتركيب الكلم، ثم نزّلها على قواعد اللغة العربية، وأجراها عليها في مصطلح الترتيب بعد إتقان معرفة ما في تلك اللغة من صيغة الجمع والمثنى والمضاف والمضاف إليه، وغير ذلك؛ حتى ضبطه كلّ الضبط. وكان يراني أتهلّل به بشرا وسرورا؛ باعتلاقي بسببه، وما يسّر لي من إدراك مثله والاستضاءة بقبسه. وكان لي من شكره حظّ علمه أهل عصري وحسدي عليه أهل مصري، ومنها: أنه لما أوقفني على هذه التأليفات الغرائب وأراني من بحره العجائب، أشار لتشريف قدري وتعريف نكري أن أكتب عليها ما يبلغ به الجاهل مبلغها، ومقدار النعمة التي سوّغها، ومدى الهمة التي حطّم بها أنوف هذه الصفات النوافر، وأبرز من ليل الأعجمية صباحها السافر فقيّدت في أسفارها ما سنح، وأعدت إليه ما منح، وأعدتها إليه إلّا منطق الخرس؛ فإن بعض الأصدقاء آثر الوقوف عليه، فأوقفته عليه، على أن يقضي منه أربه، ثم

يوصله إليه. وعرضت لي عوارض حال، فيها الجريض دون القريض «1» ونوائب يكفي في ذكرها العريض. ثم تمادت المدّة وطالت ودالت دول الشواغل واستطالت. ومؤدى تلك الأمانة قد شغله عنها النسيان، وأغفله عنها عدم مرورها منه على الخاطر. وكان شيخنا رحمه الله على سعة بحره يظنّ من حزازاته حتى بقدر ظفر الإبهام، ويغزو بالمطالبة لها غزو الجيش اللهام. وداخله الظنّ أنني تعمّدت تأخيرها لقصورها عن حسن أخواتها، أو لأدرجها بالمطالة تحت ذيل قواتها، فكتب إليّ: [البسيط] منطق الخرس صبرا لا يراك أبو ... حيّان حتى يعود القارظ العنزي حصلت في كفّ شهم لا ينال له ... غور كريم الثنا والأصل محترز إذا استعار كتابا لا يعود لمن ... أعاده فعل أب للضّيم محتجز حبّ الفضائل قد ألهاه لا طمع ... منه ولا يحلّ إلى نداه عزي هذا وشيمته بذل اللهى ويرى ... إسداءه للنّدى من أعظم النّهز اضطرّ قلبي لتأليفي لتبصره ... عيني كما اضطرّ صدر اللّبيب للعجز ومن يقابل بالنبراس شمس ضحى ... كمن يقابل لجّ البحر بالنّزز وقد تشوّقت للبكر التي نشأت ... من فكره طفلة «2» ليست من العجر فابعث بها يا إمام العصر سالمة ... وحلّها بنفيس الدرّ لا الخرز بحر تناءى يفوق المسك نافحه ... إنّ الكرام لما قد حزت لم تحز يسرى ثنائي في الآفاق منتهبا ... يجوز حيث الدّراري السبع لم تجز ما فاز ذو شرف بالمدح من أحد ... إذا بمدح أبي حيّان لم يفز ولم يمز جاهلا من عالم أحد ... إذا يكون أبو حيّان لم يمز وقد جزيت مسيئا بالجميل فلا ... أكون ممن بسوء في الجميل جزي

إني لأخزى بكثر الرّسل مطّلبا ... بنات فكري وغيري لا أراه خزي وإنّ من سامني سوء الفعال كمن ... يرش بالطلّ صخر التّربة الجرز أرض بها ينبت الشّري «1» الكريه فمن ... يذقه ذاق وجيّ الحبّة الجمز «2» لكنّما صنعتي حول القريض فما ... نسجي سوى برد قدح معلم الطّرز وقد تقدّم لي في مدحكم مدح ... قصائد ثبتنا عنه ولم نجز ولما أتاني قاصده بهذه القصيدة وقف يطلب الجواب، وأبى أن ينصرف إلّا به. وألحّ في الطلاب هذا. وعندي من بقايا تلك الهموم ما أصدأ مرآة الخاطر وقشع سحاب الفكر الماطر، ولم يسعني إلّا إجابة داعيه، وإحالة رائد القريحة لمساعيه، فنقفت «3» ما حظر عليه. وكتبت به إليه وهو: [البسيط] مديح مثلك كالعلياء بالطّرز ... في بعضه فرصة تبدو لمنتهز لو جاء شعرك والصّهباء دائرة ... ورمت تمييزه في الذوق لم يمز مكمّل ليس يحتاج الصّدور به ... إلى تتمّة ما ينساق في العجز في كلّ بيت له معنى يتيه به ... وربّة البيت ذات الخصر والعجز ممكورة طفلة عزّت أماثله ... يسقي عجوز طلىّ ليست من العجز في طيّها كلّ ما يغنى الأنام به ... كأن أبياتها كنز من الكنز بديع نظم أبو حيان ناظمه ... ولا قصيدي يحاكيه ولا رجزي اسمع بقيت أبا حيّان ما بقيت ... زهر الكواكب قولا غير محتجز ولا تبادر إلى عيني معاجلة ... واعرف حقيقة عذري حيث لم أجز من ذا يطاول آفاق السّماء علا ... ومن يقابل نظم الدرّ بالخرز والله يعلم أني لا أقول سدى ... قولا ولا المين «4» في طبعي بمرتكز

وإنما العذر أبديه وتعلمه ... واسمع يميز مقالي أحسن الميز بأننّي عند موت الوالد اجتمعت ... عليّ أنواع همّ دغدغت نشزي «1» حتى رحلت ولا ألوي على أحد ... رحيل محتفل للبين محتفز وعدت والسّقم ملتاث به جسدي ... ومثله سقم قلب حرّ كالحرز وليتني لم أعد من سفرة كتبت ... عليّ حتّى يعود الفارط العنزي وربّما قد علمت الحال أجمعه ... وكيف حال فتى فيما يحب رزي وجاءت الرّسل تترى يستحثّ بها ... منطّق الخرس يبغي أعظم النّهز ولم أكن شهد الله العظيم بمن ... يضيعه وهو عندي أشرف الحيز لكنني كنت في نفسي يضيق به ... وسع الفضاء وحالي حال محترز فلم أجد لي وقتا أستعين به ... على تطلّبه لو كان في حجزي وعدت أرسلته مع من وثقت به ... وكان ظنّي به إيصاله فخزي وما أضاع على علمي أمانته ... ما خان قطّ ولا هذا إليه عزي أما يكون من النّسيان آخرها ... وإنه بعد بالعذراء لم يفز اسمع وقيت أبا حيّان كلّ أذى ... وعشت شرّ العطايا غير ذي نزز أفي كريريسة إن ضاع ضائعها ... يغدو كما لك فيها ظاهر العوز إن فتّقت فمقالات وجدت لها ... من مثلها حلّةّ محبوكة الدرز تقول من سامني سوء الفعال يرش ... بالظلّ حرّاء صخر التربة الجرز بالله قل لي هذا منك عن حنق ... أو للفكاهة أو هذا من الطنز «2» لو قال غيرك هذا كنت تنكره ... ولو سألناك عنه قلت لم يجز ولو يكون سمين الضّأن قد جمعت ... لهان لكنّه عيب من المعز واستغفر الله هذا نزعه عرضت ... كما الجواد بها من شدّة اللّزز وأنت سيّدنا حقّا ووالدنا ... وحزت بالسّبق تفضيلا ولم يحز

ومن تطير مع النّسرين أرجله ... فليس يدركه بضّي ولا خرزي «1» فامنن بعفو جميل لا تكدّره ... فالعفو في شيم الأشراف كالطّرز فكرّ رسوله راجعا في بكرة غده، وأتى إليّ بورقة يحملها في يده ثم ناولنيها، وقد برقعه الحياء بصفرة، وأطرق كأنه يردى في حفرة. وكان الشيخ قد علّم ذلك الصبي هذه الحيلة، وأراد أن يكبر عندي هذه الطلابة القليلة. وفطنت للمراد ووطيت من جمره على الرماد، وقرأت قصيدته غير مكترث، وقلت له: يعين الله على خلاصي من الذمة قول منبعث، فقال: أنا في قيد الجواب، لا أبرح حتى استصحبه، وأرى معي أبيات إنباته مصحبه، فتتبعت أثره ورددت عليه أو أكثره، وعدلت له فرحا بمصاب، وخلطت له عسلا بصاب، وعرّفته قدر صنائعه وقيمة رائعه وإنّ تحفته ليست سنيّه، وثمرات رطبه غير جنيّه. ثم ثبت له على الحق وقطعت بإرسالها سبية من غير رقّ؛ إلّا أنني أخّرت له أوراقا من الكتاب المعار، والطلب الذي عقد لأجله النقع المثار؛ حبّا لمداعبته، وإيثارا لدوام مطالبته. وكان الذي كتب إليّ: [البسيط] ما إن للكرم الموعود إنجاز ... يا من له الفضل والإحسان ينجاز أشبهت في النظم باللفظ البديع وبال ... معنى الغريب لنظم فيه إنجاز ما يشبه البحر في أمواجه ثمد «2» ... ولا الصدور نشا المذكيّ إعجاز إن كان أشبهك الأعلام في شرف ... فأنت بالعمّة العلياء تمتاز سموت للعالم العلويّ حيث يرى ... للنيّرات به فخر وإعزاز يمضي زمان ونور النيّرين معا ... يخفى وللشّهب في الآفاق إبراز فلا يملن إلى ما كان من عرض ... للجوهر الفرد فالأعراض أوفاز في لذّة العلم ما يعني الأريب به ... عن ريبه غيركم ما إن بها فازوا ما كان إلّا انتقال من عل لعل ... فيه لمنصب فضل الله إحراز

أنت الكبير وقد هدّيته زمنا ... وليس بينكم في الفضل إفراز من ذايساميك في علم وفي أدب ... ما الجاسميّ ومن ضمّته شيراز «1» إنّ البراعة قد حطّت براعتكم ... في طرس نفس به للملك أنشاز لأنتم زهرة الدّنيا وبهجتها ... لها جمال بكم ما فيه إعواز أثني عليك ولا أنفكّ ذا طلب ... فمنطق الخرس أوبى للثّرى حاز فلا تجزني بوعد منك يمطلني ... إن الملحّ لعطف الجود هزّاز الحجب في هزّ عطف للنّدى خطل ... خلّ الوعود فمثلي ليس ينجاز وأما جوابها التي ملأته بما حوى، وعكست عليه ما نوى، وأتيت به على ما تفتحت به بادرة القريحة، وبلغته ركائب الخاطر وهي غير مستريحة، فهي هذه: [البسيط] بديع شعرك للأعطاف هزّار ... وفيه معنى لقلب المرء جزّاز خلطت بالصاب فيه الأري «2» فاختلطا ... حتّى تعذّر للتمييز إفراز يلذّ في ذوق راويه وسامعه ... وكلّما قال إكرام وإعزاز حلو اللّمى سكريّ الرّيق معدنه ... أرض الجزيرة لا مصر وأهواز من المنكّب أو ما حلّ جانبه ... ووادي أشّ وفي الحمراء ركّاز من أرض حيّان حيّان الحرير وذا ... بزّ الحرير وذا إذ بزّ بزّاز ممكّن في القوافي القفر تعرف من ... صدوره ما حوته منه إعجاز كأنّهنّ النجوم الغرّ واضحة ... وليس فيهنّ إلغاء وألغاز بعثت لي يا أبا حيّان زائدة ... ومنه للرّوضة الغنّاء إحراز أبديت لي آية غرّاء محكمة ... للخلق منها مع الإعجاب إعجاز رفعت قدري بأبيات شرفت بها ... فيها من الفضل إيجاب وإنجاز حزن الكمال فلا شيء يقال به ... هذا ينقّص أو ذا فيه إعواز أصبحت بالحلم طودا لا ارتقاء له ... بل دونه فلك الأطواد أنشاز

سبقت بالعفو ما ضاق المسيء به ... وحان من فعله المستور إبراز بعثت لي تتقاضى الوعد بل تتقا ... ضى فورّي وبالأعضاء يمتاز ولم أكن مهملا حتى تذكرني ... هل زاد جري جياد الخيل مهماز «1» وقلت إنّيّ لا أنفكّ ذا طلب ... منطّق الخرس أوبي للنّدى حازوا وما تأخّر إلّا أنّ حامله ... أمدّ أوقاته في البيت أوفاز «2» أرسلت تلقاه في رسلي فما ظفروا ... به وجدّوا للقياه فما فازوا ولم يزل دابيا حتى وقفت به ... وكاد يمنعه ظنّ وإحراز منطّق الخرس كنز لا نفاد له ... وهل يجود بما في الكنز كنّاز ولا أصرّح من هذا بقيّته ... فما الكريم على الإخوان غمّاز وما أتيتك عذرا لست تعلمه ... وفي البريّة همّاز ولمّاز من كان مثلك قد أبلى بهجرته ... هذا الزمان فقل لي كيف ينحاز جاوزت في الأفق الجوزاء جوزتها ... وللكواكب في الآفاق أجواز لا بل ديارك في أعلى منازلها ... وفي المنازل أطراف وأجواز بلغت من قدرهم فوق الذي بلغوا ... وحزت من فضلهم أضعاف ما حازوا مفسّر لكتاب الله يفهمه ... على الحقيقة فهم منك ممتاز وعدتني بلقاء بتّ أرقبه ... ولي من القول نظّام ورجّاز موكّل بطلوع النّجم في نظر ... كأنّما نظري للنجم جوّاز فاسمح بزورتك الحسناء إنّ لها ... من النواظر حسنا حيث يجتاز يكحّل الطرف مرآها بنور هدى ... يمتار من رشده الهادي ويمتاز ودم وعش تمنح الآداب زاجره ... وأنت بحر وكلّ الناس أنزاز «3» أبليتني بحروف الزاي أنظمها ... ثلاثة تتجافى وهي تنحاز لقدّمت لي في الشطرنج واحدة ... وذي وتلك وحرف الزّاي معواز

إن كنت مختبرا فاعنت وقل أبدا ... ما شئته لتراني لست أعتاز ومن عديّ بن كعب أسرتي ولنا ... ببطن مكة في البطحاء أركاز والآن أرسلت ما أرسلت تطلبه ... منطّق الخرس قول الحق أرماز نجزت وعدك لّما قلت منتدبا ... ما إن للكرم الموعود إنجاز فأخذ قاصده الجواب، ومعه منطّق الحزس، خلا ما أخرته؛ قصدا للمطايبة وحبّا لدوام المطالبة، ثم ذهب هذا وعمر اليوم قد تصرّم، ولهب الأصيل قد تضرّم، والنهار سائل لجينه على المغرب قد تكرم. والطير قد أكثر الصياح كأنه لفراقه قد تبرّم. وقطعت سواد تلك الليلة مفكرا في الشيخ ونشاطه وخفة روحه وانبساطه. ولا أظن أنه يزورني في صبيحة غد؛ ليتم ما يصنعه في الغضب، ولا يظهر أن زاخره الهائج نضب. فما كان إلّا أن شقّ النور ثوب الظلماء، وبدّل بياقوت الشفق لؤلؤ سماء، ووقت الفجر ما ضاق، وجدول الصباح قد شرع بتموج نهره الرقّاق؛ وإذا بالباب يطرق وحسّ حمار ينهق. فأمرت من حضر بفتح الباب للطارق، وزجر شيطان ذلك الحمار الناهق وقلنا: ألا طارق يطرق بخير، وراكب حمار لا يخاف منه ضير، وإذا بالشيخ قد دخل، وسلّم، وسكت وإلّا كان تكلّم. فلم أر ساعة أسرّ من حين مقدمه، ولا خفا كان وفيه أكثر من تقبيل قدمه، وما كان إلّا أن حضر يطوي ما كان في أمس وطلع علينا هو والشمس. وطلّنا في يوم لا عيب فيه غير قصر، وسرور لا شيء فيه إلا فرط نداه في يد مهتصر «1» . واستشدى موشحات كبت نظمها وبلغته، ولم يقف عليها ولا سوغته. فأبرزت له ما ظنّ أنه من الأندلس وزفّ من الغرب فاق العرس، فقال فيها ما هو أهله من الجميل، وما عهدت من جنابه الجزيل. ثم أخذ يسألني عن الشخص الذي أشرت إليه في القصيدة فوفيت بما ضمنت من كتمانه وبحثه عن طريقه؛ فظنّ أنّ الفاضل شمس الدين محمد ابن الصائغ الزمردي هو ذلك الشخص. وكان لا يراه إلّا بعين النقص فلما اشتدّ هذا عنده وتصوّره، ورجع بباطنه فيه إلى آرائه المنكره، فبعث إليّ بقصيدة يذكّر فيها، ويذكر الإمام أبا عبد الله ابن الصائغ الأموي ذكرى متوافية، ولم يك للأول كنت ولا للثاني،

وانما أساء في ذلك الظن، وهذا ما جرّته القافية. وهذه القصيدة هي التي بعثها، ولوافح سمومه التي نفثها: [الطويل] أيا سيّدا جاز المعالي والمجدا ... ليهنك مولى محسن أنجز الوعدا على أنه قد راح جزء من اوّل ... وجز آن فاختلّ الكتاب وما أجدى يذكرني ما قد بقي حسن ما مضى ... فينشئ لي غمّا وينبت لي حقدا وفقدي لبعض منه فقدي لكلّه ... فياليت أني كنت أذكره فقدا فابكيه ما شبّته نار بفارس ... بطرف زكا دمعا وقلب ذكا وقدا واندبه ندب الهلول «1» وحيدها ... وقد نظمت من دار أدمعها عقدا ومن عرض الحسناء يبدى عصارة ... بلا خطأ من راغب في الورى نقدا أراك ازدرت عيناك حسن شبابها ... فأزريت بالمهدى وما كان قد أهدى ولو سحت نجلا لا غنى عزّ أمة ... فلم ينتجز وعدا ولم ينتهز ردّا ولو كنت قد شطّت بنا غربة النّوى ... فأذكرني ما قد جرى السؤدد العدّا فلا تعجبن من سيّد نجل سيّد ... يلاطف بالإحسان رقّا له عندا ببابك أضحى الناس يجمعهم هوى ... ولم أر فيه من غدا للورى ضدّا كمشتركين اسما ووصفا كلاهما ... يميّزه وصف غدا لقبا فردا أنافا على الصّوّاغ في أذنيهما ... فمن صاعد نجدا ومن هابط وهدا ينفّق بالإيمان سلعة ما ادّعى ... فيعرفه علما وينكره جحدا كتابي ملكي إن أكن بائعا له ... ولا واهبا بل مزج نظم له أدّى أيسلبه هذا الصّويّغ عنوة ... وأتركه إني إذن لم أكن جلدا فلا تحسبن أني تروك طلابه ... ولو أنني في الرمس أسكنه لحدا فإن أحضر الديوان يقضي إلى الرضا ... ويقضى له بالسّكن أتبعه حمدا وإن لا يكن علما فإني أبينها ... عقارب سمّ تلسب «2» العظم والجلدا

وهأنذا أرسلت سهوا رسالة ... يخبّطه مسّا ويربطه شدّا يطوف به بحرا وبرّا إذا أتى ... بذنب فقد ألقى بها هائما بردا يعلّم فيه النحو من كان من بني ... أبي مرّة عندى الطلى بدنا مردا فيعنى بمرد الجنّ عن مرد إنسنا ... ينادمهم فيما أعاد وما أبدى وما الشعر والآداب إلّا فكاهة ... ترى الجدّ هزلا أو ترى هزله جدّا ومن لم يكن في طبعه أدب فما ... يلذّ به أن سمعه عنه قد سدّا ومحكم نفح للكلام هو الذي ... يقلّب في أنواعه باذلا جهدا يقبّل روض العلم أحصله الندى ... فيقطفه زهرا وينشقه ندّا وينظم ممّا كان نثرا وينشر الّ ... ذي كان نظما سالكا منتهى قصدا فلا بمدال اللفظ سوقية ولا ... بحوشية قد بات ينحته صلدا ولكنّه سهل المناحي لطيفه ... فلذّ به سمعا ويرشفه شهدا ومن حاز آدابا وعلما وسؤددا ... يكن كابن فضل الله أسنى الورى حدّا على أنه لا مثل أحمد في الورى ... أعزّهم نفسا وأشرفهم جدّا وأوقدهم ذهنا وأنقدهم لغا ... وأبعدهم صيتا وأقربهم ودّا يلوذ الندى والعلم والحلم والتقى ... بحقويه «1» لا يلقى له أبدا ندّا غنيّ بأوصاف الكلام فلا يرى ... يريد بمدح لا تجارا ولا مجدا فوقفت على هذا الجواب، ورأيت السكوت الصواب؛ إذ لا يمكنني الممالاة عليهما، لا سيّما وهما أبريا. ولا الممالاة على الشيخ لما يقتضيه الحيا. واضطربت على القصيدة صفحا، وأضرمت خاطري فتآكل بنار لفحا. وخفت أن يؤدي الفحص إلى معرفة الشخص، فحيل الوفاء بالضمان، وبحل ما عقد الزمان. وقلت للرسول الحامل بصحيفته ما لا يحضرني الآن نصه، ولا أعرف كيف كان عنقه ونصّه؛ إلّا أنّ معناه المباسطة، وباطنه للمغالطة؛ خشية على تلك الشياه من ذلك الذئب الغائب والرجل المغايب. استغفر الله، بل الأسد الملتقم

والبحر الملتطم، والسهم الذي لا يردّ إذا خرج من اليد، والسيف الذي إذا ضرب، لا يرجع حتى يفجع. والأرقم الذي لم يقبل بل أسقم. وتماديت على ناظر ما أسقطت، وإظهار الضنانة بما التقطت. فلم ألبث أن عاد رسوله إليّ مسرعا وسلّم عنه، إمّا أدى الأمانة أو قال متبرعا، ثم أخرج إليّ منه ورقة كاغد، فقرأتها، فإذا فيها: [الطويل] أتاني من الأوراق ثنتان فلتجد ... بثالثة من كان جاد وأفضلا بها يكمل الجزء الذي كان ناقصا ... وكم ناقص كمّلته فتكمّلا وكم لشهاب الدين عندي من يد ... بتقبيلها كادت يدي أن تقبّلا ومن يكن الفاروق جدّا له يكن ... لذي العالم العلوي أشرف منزلا دعوت أمير المؤمنين لأنه ... به بدأ الإيمان واعتزّ واعتلى فأنجله منه مشابه علمه ... وعزة نفس قد أتتّ أن تذلّلا تجافى عن الدنيا وعن زهراتها ... وأعرض عمّا غيره كان مبتلى فلا ذكر إلّا في علوم يبينها ... ولا فكر إلّا في القران إذا تلا فأرسلت له الورقة المعوّزة، وتقاضيت بتجهيزها مدائحه المنجزة، وأعدت إليه الرسول على الحافر، بقصيدة تحكي صبحها السافر: [الطويل] بقيت أبا حيّان كنزا مؤملا ... ودمت لأهل الفضل كهفا وموئلا فأنت إمام العصر غير منازع ... ولا نازل إلّا السّماكين منزلا سحاب الندى بحر الجدا علم الهدى ... خصيم الردى كبت العدا كوكب العلا وأقسمت ما ضمّت شبيها لفضله ... مجاري مدار الشّهب برّا مفضّلا إمام تقيّ ما تقدّم مثله ... أتى آخرا عصرا وقد بزّ أوّلا عقائل تصبينا ولم تدر ما بنا ... لهان عليها أن تقول وتفعلا أما وهواها لم أقل لصبابتي ... أما وهواها غدرة وتنصّلا فعند رضا الأحباب جبر وديمة ... وعند العتاب الموجري متنصّلا تألّق برقا ثم أرسل مزنة ... فخوّف أحيانا بها ثم حوّلا أتاني قصيد منه ما السحر غيرها ... فكم غادرت لفظا لبالي مبلبلا

بعثت أثير الدين بردا منمّقا ... بعثت أثير الدين عقدا مفصّلا فيعذب فيها للمسامع مجتنى ... ويحسن فيها للنواظر مجتلى بلا ميّة حسناء ما لام عارض ... بأحسن منها في الخدود مقبّلا ومن قبلها جاءت على الدال مثلها ... وقد جليت مثل الأهلّة منجلى فعاينت نور النيّرين مقابلا ... وعاينت نوء «1» الغيث والبحر مقبلا بدال ولام بعدها قد توافيا ... وذلك ممّا دلّ فكرا مضلّلا ذللت على ما ضاع لو كان لحظه ... له عن عواديه فداء معجّلا صحيفة تصنيف أحاط بعينه ... بكل لغات الفرس في الدولة الألى منطّق خرس لا يفوه بلفظة ... من القول لولاه ولم يدر مقولا بألسن فرس كان يخفى حديثهم ... فعرّفنا منه طريقا موصّلا وما هو إلا ترجمان لعلمهم ... سنفتح منه كلّما كان مقفلا له الثمن الغالي على لطف حجمه ... كذلك حجم الدرّ في القدر والغلا لبثنا على تلك الصحيفة مدّة ... نحاول منه للصحيفة صيقلا «2» ونسأل عنها وهي ليست تجيبنا ... كذلك ذات الجود أن تتبدّلا فعاد إليّ رسوله بالجواب إلّا أنه انتقل في الوزن والرويّ، وجاء بما أضاء به من قدح زنده: [البسيط] منطّق الخرس إنس قد كملت فلا ... ترى كمثلك شعرا قد سما وعلا لما اعتنى بك مولى لا نظير له ... صرنا بعزّك فينا نضرب المثلا تزين الفلك الأعلى بزينته ... زان الوجود وزان النيرين علا مولى بذكراه أفواه الورى أرجت ... مسكا ودافت بها من ذكره عسلا قد زيّن الله بالتقوى سريرته ... وحسّن القول منه الله والعملا رشيد فعل شديد في مقالته ... فلا نرى خطأ فيه ولا خطلا فالقول آيات قرآن يردّدها ... بالفكر والعمل الزاكي به اتّصلا

ومن يكن عمر الفاروق محتده ... فلا يكون بغير الله مشتغلا ألهاه عن نهجه الدنيا وزهرتها ... علم ودين وزهد أبطل الأملا وصبر نفسي على تقوى توصّله ... لجنّة الخلد إذ كانت له نزلا فلم ألبث أن كتبت إليه، وأعدت رسوله بالجواب عليه: [البسيط] هذا الفريق جنوبي الحمى فسلا ... إن كان قلبي من بعد الفراق سلا وهل وقفت بربع دون كاظمة ... أبكي وأندب من أطلاله طللا ماذا أقول لبرق بات يومض لي ... لولا الثنايا لما أذهبته قبلا ما بتّ أنكر من حال الثغور به ... إلّا افتقادي به الصهباء والعسلا بل كيفما نكر راح كنت أشربها ... ممّا جلاه أبو حيّان كأس طلا صهباء يزداد عقل الشاربين بها ... ما نال عقلي بها قد راع أو عقلا فرحت أهتن في بردي بها عجبا ... لا أنني رحت منها شاربا ثملا إن لم يكن من رضاب الغيد ريقتها ... فإنّها قد أعارت سحرها المقلا دعج تنهّض نحو الفتك ناظرها ... لكي يدرّ على أجفانها الكسلا وأنت تذكر شيئا فات من زمن ... ما غاله النقص إلّا أنّه كملا أقسمت ما كان محتاجا لتكملة ... وكيف يحتاج طرف الأكحل الكحلا معرّب للسان الفرس ما نطقت ... إلّا به صادق في كلّ ما نقلا منطّق الخرس لولاه لما عرفوا ... سبل الكلام ولا اقتادوا له الذللا هو الأثير ومنه أهل عنصره ... أما تراه بنار الكفر مشتعلا لقد أتاني فيه كلّ غانية ... قد حاكت الريم إلّا الصدر والكفلا ترمّ بيتي لا بيتا لجارتها ... مثل السحابة لا ريثا ولا عجلا خود عليها من اللامات سابغة ... فهل رأيت الرداح «1» الخود أو بطلا لا بل هي الخود لكن حشو مقلتها ... بيض تسل لقدّ يشبه الأسلا فمرحبا بأثير الدين حيث أتت ... فريدة أصبحت في حسنها مثلا

عقيلة من بنات الفكر ما برزت ... إلّا ونكّس وجه البدر أو خجلا عقد من الدرّ إلّا أنّ ناظمه ... خلّى به الدرّ ملقى يشتكي العطلا ثنّى لبيدا بليدا والبعيث بلا ... بعيث رأي وألقى الأخطل الخطلا هل كالإمام أبي حيّان قدوتنا ... من يأخذ العلم عنه يرتق العملا وأين مثل أبي حيّان من رجل ... لا يعدل الدهر في الدنيا به رجلا يمّم حماه ومعناه وصورته ... تلق الهدى والندى والبدر مكتملا ليث الشّرى غضبا صوب الحيا كرما ... طود النهى شرفا أفق السماء علا كأنّه البحر لا بل بعض فكرته ... كأنه السيل لا بل ذاك إن سيلا لقد حباني بتشريف أجرّ به ... على المجرّة من أذياله حللا في كل وقت توافي منه مكرمة ... يفوق آخرها في فضله الأولا ومن يكن بأبي حيّان سلوته ... آتى بيانا إذا ما فارق الدولا صدقت أني بزهد قاطع أملي ... لولا التفاؤل لم أبق لي الأملا ومن نظم أبي حيّان رحمه الله تعالى، قوله: [السريع] راض حبيبي عارض قد بدا ... يا حسنه من عارض رائض وظنّ قوم إنّ قلبي سلا ... والأصل لا يعتدّ بالعارض وقوله: [الخفيف] سبق الدمع بالمسيل المطايا ... إن نوى من أحبّ عنيّ نقله وأجاد السطور في صفحة الخ ... دّ ولم لا يجد وهو ابن مقله وقوله: [الخفيف] من نصير المشوق من لحظ خصر ... كلّم القلب كلمة ليس بترا تبع القلب شخصه إذ تولى ... وكذاك الكليم «1» يتبع خضرا

وقوله: [الطويل] عداتي لهم فضل عليّ ومنّة ... فلا أذهب الرحمن عنّي الأعاديا هم بحثوا عن زلتي فأجبتها ... وهم ناقشوني فاكتسبت المعاليا وقوله: [المديد] حبيس بها سود العيون وناظر ... ويا ظالما كاد الجنون يسودا لقد طعنت والقلب ساه فما درى ... أبا لقدّ مهّى «1» أم بصعدة شمّرا وقوله: [المديد] قد سباني من بني الترك رشا ... جوهريّ الثغر مسكيّ النفس ناظري للورد منه غارس ... ما له لا يجتني ممّا غرس لست أخشى سيفه أو رمحه ... إنّما أرهب لحظا قد نعس لمس الكأس لكي نشربها ... فاعتراه هزة ممّا لمس ثم أدّى جوهرا من جوهر ... وتحسّى الكأس في فرد نفس وبدا يمسح بالمنديل ما ... أبقت الخمرة في ذاك اللعس «2» عجبا منها ومنه قهقهت ... إذ حساها وهو منها قد عبس وقوله: [البسيط] أرحت روحي من الإيناس بالماس ... لمّا غنيت من الإكياس بالياس وصرت في البيت وحدي لا أرى أحدا ... بنات فكري وكتبي هنّ جلاسي وقوله في مثلّم ثغر: [الطويل] ثناياك درّ والرّضاب الذي بها ... رحيق وقد أضحى ختاما على الخمر تأرّج منها عرفها فغدت بها ... نشاوى نفوس لا تملّ كما تدري

ورامت وصولا للندامى فلم تجد ... سبيلا بفيض ما يعوق من الدرّ فلا تحسبوا أنّ انكسار ثنيّه ... بشين فكل الخير في ذلك الكسر تأشّر منها بعضها ولعابها ... وأحسن ما في الثغر إن صار ذا أشر «1» وصرنا متى نلثمه نرشف رضا به ... فتجري لنا الصهباء من لثمة الثغر رضاب به يشفى الأوام أخو الصبا ... فكالشّهد في طعم وكالمسك في نشر حباني به فرخ من الترك لم يصل ... من العمر إلّا أربعا فوق ما عشر يكوّن من نور قوافي نهاية ... من الحسن إذ أضحى كيوسف في مصر أنسنا بقرب منه من بعد وحشة ... وأبدلنا الوصل المهنّأ بالهجر وأمتعنا من ريقه وجبينه ... بأشهى من الصّهبا وأبهى من البدر بجسم حكى لونا سبيكة فضّة ... وقد أشربت شيئا يسيرا من التّبر وعين له لحظا لفتنة ناظر ... كأن بها هاروت ينفث بالسحر تناسبت الأعضاء منه فلا ترى ... بهن اختلافا بل أتين على قدر أسرّح عيني في الملاح فلا أرى ... شبيها له فيهم ولا جال في فكر تمازج روحانا هوى وصبابة ... فبالجسم في شفع وبالروح في وتر وجاء لنا طوع المراد فلا يرى ... عصيا لنا في الطوع والنهي والأمر نقضي به عيشا من الدهر صالحا ... ونجني به الآمال دانية الثمر ومنه قوله: [الطويل] هي الوجنة الحمراء والشّفة اللميا ... لقد تركاني في الهوى ميتا حيّا هما ألبسا جسمي سقاما وواريا ... فؤادي غراما حمله الصعب قد أعيا فمن مهجتي نار ومن مقلتي حيا ... متى اشتعلت هذي يزيّد ذا جريا وبي من إذا ناجيته ذبت هيبة ... وجانبته جهرا وهمت به خفيا مليح إذا ما لاح أبهت من رنا ... فاردى الذي أنأى وأحيا الذي حيا عليم بنيّات النفوس وما حوت ... كأن له من نجو أسرارها وحيا

تجمعت الأضداد فيه محاسنا ... فعبسته موت وبسمته محيا وغرّته بدر وطرّته دجى ... وأعطافه ظمأى وأردافه ريّا أغار اعتدالا كلّ غصن كمثل ما ... أغار السنا والناظر الشمس والظيّا وأخجل نور البدر لمّا تقابلا ... فكلفة وجه البدر من فرط ما استحيا عجبت لخال حلّ في وسط أنفه ... وعهدي به وسط الخدود يرى وشيا ولكنما خدّاه فيه تغايرا ... هوى فابتغى من وجهه أوسط الأشيا وحسن الفتى في الأنف والأنف عاطل ... فكيف إذا ما الخال كان له حليا أيا باخلا حتى بتقبيل كفّه ... على من سخا حتى بحوباه في الدنيا ألم ترأني طوع حسنك دائما ... وقلبي لا يعصيك أمرا ولا نهيا ومنه قوله: [المديد] أدمعي أجرى ودمعي قد ملك ... قمر قد لاح من سحب الحلك بدر حسن حين يبدو للورى ... كلّ قلب ودّ لو أضحى فلك صيغ من نور فلا يعلم هل ... بشرا أنشاه ربّي أم ملك من بني التّرك صغير لم يدع ... لفؤادي جلدا أو لا ترك ناسم عن نفحة مسكيّة ... باسم عن لؤلؤ فيها احتبك فتنة تدعو القلوب للهوى ... لو رآه ناسك لما نسك ضاع قلبي في هواه فأنا ... لست أدري أيّ شعب قد سلك يا غزال القفر عدني زورة ... تحيي قلبا في التصابي قد هلك بين جسمي والضّنى صلح كما ... بين قومي وجفوني معترك فغرامي في الهوى قد انتهى ... وسقامي مذ عرا قد انتهك نصب المعشوق عينيه لنا ... شركا والقلب أضحى في الشّرك ومنه قوله: [الطويل] هو الحسن حسن التّرك يسبي الورى لطفا ... ويعطف سالي القلب نحو الهوى عطفا

يدرن من اللحظ السواجي «1» مدامة ... فلله ما أحلى ولله ما أصفى وينصبن من هدب المآقي حبائلا ... فكم أنفس أسرى لذي المقلة الوطفا وبي قمر منهن تبدي فأصبحت ... منازله من جسمي القلب والطّرفا حكى الشمس وجها والغزال التفاتة ... وغصن النقا «2» عطفا ودعص «3» اللوى ردفا أبدر بني خاقان رفقا بعاشق ... براه النّوى حتى لقد كاد أن يخفى وقد عدتني يوما فعدني بمثله ... لعلّي من الأوصاب إن زرتني أشفى يداوى أناس بالبعاد فما شفوا ... ولا شيء أبرى من وصال ولا أشفى وما أنس لا أنسى زيارة مالكي ... ألاحظ منه البذر والغصن والحشفا هصرت بذيّاك القوام أراكه ... وأفنيت تلك الراح من ريقه رشفا أيا ذهبيّ اللّون روحي ذاهب ... فرفقا بهيمان على الموت قد أشفى «4» ومنه قوله: [الكامل] شرف الحرير بأن غدا لك ملبسا ... لم لا وجسمك منه ألين ملمسا يا شادنا ما ازداد مني وحشة ... إلا وزاد القلب فيه تأنّسا طلست «5» عقول الناس لمّا أن غدا ... يمشي الهوينا في قباء أطلسا متنسّم عن نفحة مسكيّة ... متبسم عن أنشبيّ في الغسا «6» هو ثالث القمرين وهو أتمّها ... نورا وأبعدها مدى أن يلمسا إنّ التفاوت في العلو لموضح ... من كان أعلى في المنازل مجلسا فالبدر في أولى السما والشمس في ... وسطى ومن أهواه حلّ الأطلسا

ومنه قوله: [الطويل] وما كنت أدري أن مالك مهجتي ... يسمّى بمظلوم وظلم جفاؤه إلى أن دعاني للصّبا فأجبته ... ومن يك مظلوما أجيب دعاؤه قال شيخنا أبو حيان: أنشدت هذين البيتين قاضي القضاة تقي الدين ابن بنت الأعز، قال: وكان يشعر شعرا جيدا، لكنه لا يتظاهر به، فأنشدني لنفسه بيتين حفظت منهما الأول، وهو: [مجزوء الرمل] أنت مظلوم بظلمي «1» ... لست مظلوما بظلمي ولم أستبن الثاني. وعدنا إلي أبي حيّان، ومنه قوله: [مجزوء الرمل] أترى يدري حبيبي ... ما أقاسي من لهيب يا حبيبي ذاب قلبي ... من غرامي ونحيبي أنت بدر أنت شمس ... أنت معشوق القلوب يا هلالا يا غزالا ... مالكا قلبي الكئيب لك وجه قمريّ ... وقوام كالقضيب وعيون راميات ... لي بالسّهم المهيب وخدود داميات ... مثل تفاح خضيب وفم عذب صغير ... منبت الدرّ العجيب فيه شهد فيه مسك ... لمذاق ولطيب يا غريب الحسن رفقا ... بمعنّاك الغريب أنت في كل زمان ... لست تخلو من رقيب فمتى يرجو محبّ ... اجتماعا عن قريب

يا حبيبي إن يدم ذا ... متّ شوقا للحبيب ومنه قوله: [الرمل] وبروحي من إذا أبصرته ... ذهبت روحي عليه حسرات شادن سكران من دلّ الصّبا ... منه أضحت مهجتي في حبكرات «1» شبّهوه في الهلال بالسنا ... أين منه خفر في الوجنات من بني الأتراك معسول اللّمى ... قمريّ الوجه نوريّ الصفات أسمر قد هزّلي من قدّه ... أسمرا يدري بخطيّ القناة قوسه الحاجب والسهم له ... طرفه والقدّ يسطو بالظبات قد غدا في حسنه في شكّه ... يهزم العشاق منه بالتفات إن دنوا منه فسيف ينتضى ... أو نأوا عنه فسهم منه آت أو تكونوا بين قرب ونوى ... أعمل الخطيّ في ذي النظرات ومنه قوله: [الطويل] تلمّح في عشّاقه فأشاحا ... وشدّ على الخصر النحيل وشاحا وأضفى على الجسم النحيل مفاضة ... فشاهدت ليلي قد أجنّ صباحا وجرّ قناة كالقوام لدونه ... وسلّ حساما كاللّحاظ جراحا وأوتر قوسا كالهلال انحناؤه ... وفوّق «2» سهما كالقضاء مباحا رأى منه أوصافا فضمّ شبيهها ... إليهن فازداد المليح سلاحا وقد كان يغنيه عن الدّرع درعه ... وعن رمحه ما قد يفوق رماحا وعن قوسه والسهم قوس وحاجب ... وعن سيفه لحظ يفلّ صفاحا مجذّب عين جاذب بفتورها ... إليه قلوبا بالحياة شحاحا يقيّد من يرنو إليها بحسنها ... فمدنفها ما يستطيع سراحا

وما ضاق منه العين إلّا لبخله ... بوصلي وإن فاق الأنام سماحا أرى رشدا فيه الغواية مثلما ... فسادي أراه في هواه صلاحا وقد جدّ حبّي في هواه نهاية ... وكان ابتداء الحبّ فيه مزاحا وما الحبّ إلّا نظرة إثر نظرة ... تزيد نموا إن تزده لحاحا ومنه قوله في طبيب: [الكامل] كتم اللسان ومدمعي قد باحا ... وثوى الأسى عندي وأنسى الرّاحا إني لصبّ طيّ ما نشر الهوى ... نشرا وما زال الهوى فضّاحا وبمهجتي من لا أصرّح باسمه ... ومن الإشارة ما يكون صراحا ريم أروم جفوّه وجنوحه ... ويروغ عني جفوة وجماحا أبدى لنا من شعره وجبينه ... ضدّين ذا ليلا وذاك صباحا عجبا لنا يأسو الجسوم بظنّه ... وكما بأرواح أثار جراحا نادمته في ليلة لا ثالث ... إلّا أخوه البدر غار فلاحا يا حسنها من ليلة لو أنها ... دامت ومدّت للوصال جناحا وقوله: [المتقارب] غزيّلة ترتقي في الحشا ... سميرا تزرّى بسمر الرّماح حمى البطن عن بردها نهدها ... كما قد حمى المتن ردف رداح شكى غلظ الساق خلخالها ... كما رقة الخصر تشكو الوشاح فلو خطّ هذا بموضع ذا ... لقد كان هذا وذاك استراح لها أعين هنّ غيّبنني ... سود تخيف أسود الكفاح «1» فلا تغترر بسقام بها ... فكم كسّرت من قلوب صحاح ولا تعتقدها سوى أسهم ... ألم تر ما أثّرت من جراح

وقوله في غلام أسود عثمان، ومعه عبد له أسود: [الطويل] وريم حكى بدر الدّجى في جماله ... وغصن النّقا في القدّ والظبي في اللّمح شكا وهجا من طول صوم وحرّه ... فخفّف عنه بعض ذلك بالسّبح تجرّد عن جسم سبيكة فضّة ... فيا حسن ما انشقّ الظلام عن الصّبح وقارنه في العوم زنجي جلده ... فلاحا لنا ضدّين بالحسن والقبح وقالوا غروب الشمس في البحر آية ... ونحن رأينا ذاك في الحلو لا الملح وكم مرّ لي وقت تمنّيت وصله ... وذو الصبر للأيام يظفر بالنّجح فسحقا لأيام تقضّت بخيلة ... وسقيا ليوم صالح بالمنى سمح رأيت الذي أهواه فيه مجالسي ... تعاطى كؤوس الأنس بالجدّ والمزح ويبسم عن سلك من الدّر أشنب ... وينسم عن مسك ذكيّ على النّفح همو شبّهوا بالشمس نور جبينه ... وبينهما فرق سليم من القدح تغيب ونور الشّمس لا شكّ واحد ... وعثمان ذو النورين يمشي كما يضحي وما أنس لا أنس انفرادي بوصله ... عشية ما أشكو أقاسي من البرح فنام قرير العين ملء جفونه ... وجفني ذو قرح ودمعي ذو سحّ ومنه قوله: [الكامل] ذو غرّة نوريّة ذو طرة ... ظلميّة فيها ضلال من اهتدى شرك النواظر والخواطر طرفه ... فلكم به طير القلوب تصيّدا ما إن يهزّ منفّقا من قدّه ... إلّا وكان به فؤادي مقصدا ولما يسيل مهنّدا من لحظه ... إلّا غدا وسط الجوانح مغمدا ولما يعنّيك الفريض مردّدا ... إلّا وأنساك العريض ومعبدا غنّى فأطرب كل شيء لحنه ... حتى الجماد غداه منه ما غدا كم حرّكت نغم له من ساكن ... ولكم بها نعما لدينا أوجدا كادت تطير من السرور قلوبنا ... لو لم يكن قلب لجسم قيّدا شرفت على أبصارنا أسماعنا ... إذ قام فيها بالأغاني منشدا

فلئن غدا في الحسن أوحد عصره ... فلقد غدا في الحزن قلبي أوحدا يا نائما ملء الجفون دع الجفا ... وارحم مليّا من هواك مسهّدا ولقد بداه منك ودّ ظاهر ... يا ليت شعري ما حدا ممّا بدا ومنه قوله: [الكامل] نور بخدّك أم توقّد نار ... وضنى بجفنك أم خمار عقار وشذى بريقك أم تأرّج مسكه ... وسنا بثغرك أم شعاع دراري جمعت معاني الحسن فيك فقد غدت ... قيد القلوب وفتنة الأبصار متصاون خفر «1» إذا ناطقته ... أغضى حياء في سكون وقار في وجهه زهرات روض تجتلى ... من نرجس مع وردة وبهار خاف اقتطاف الورد من وجناته ... فأدار من أسر سياج عذار وتسلقت نمل «2» العذار «3» بخدّه ... ليردن شهدة ريقه المعطار وبخدّه نار حمتها وردها ... فوقفن بين الورد والإصدار كم ذا أواري في هواه محبّتي ... ولقد وشى بي فيه فرط أواري حكم الجمال عليّ أني عبده ... وجماله مستعبد الأحرار ومنه قوله: [البسيط] عشقته عندما تمّت محاسنه ... وقد تسيّج ورد الخدّ بالزّغب حلو الحديث لطيف الروح طيّبه ... كأنما صيغ من درّ ومن ذهب مضارع لي فيما قد يروم به ... من غير فحشاء نأتيها ولا ريب مكمّل الخلق من فرع إلى قدم ... مبرّأ الخلق من عجب ومن غضب رشفت منه رضابا طيبا لعسا «4» ... وذقت من ريقه أحلى من الضّرب

سكرت من ريقه المعسول إنّ به ... لخمرة هي تزرى بابنة العنب جذبت من قدّه غصنا فجاذبني ... ما أثقل الغصن من أرادفه الكثب وقد عجبت لبدر فوق خوطته «1» ... وقيل ما إن عهدنا البدر في القضب وكان في خدّه خال ففارقه ... لما رأى حمرة ترميه باللهب وفرّ محتميا بالأنف محتجبا ... واسودّ من لفحة أدنته للعطب وخاف من حمرة نمل العذار وقد ... رام التنزل من علو إلى صبب فظل حيران رفقا فوق عارضه ... يظما إلى شهده من ربقة الشّهب ومنه قوله: [الرمل] وبروحي شادن مسكيّه ... مقلة تهمي وقلب يجف «2» قمريّ الوجه نوريّ السنا ... لو رآه هام فيه يوسف غصن بان تحته دعص نقا ... فوقه شمس ولا ينكسف عينه صاد ونون حاجب ... صدغه واو وقدّ ألف عجبا للواو لا تعطفه ... وهي وسط خدّه تنعطف بان عذري في عذار حلّ في ... أبيض تحميه سود وطف «3» إن تك الأضداد فيه اتفقت ... فعلينا بالهوى نختلف من نصيري من غزال غزل ... عن هواه الدهر لا أنصرف قد كتمت عنه حبّي زمنا ... وهو لا شكّ به يعترف كلّما كلّفت قلبي عنكم ... صبره زاد بقلبي الكلف ومنه قوله: [الطويل] إذا كان إحساني لكم تهدرونه ... على غير شيء كنت أولى لهم هدرا

إذا كان بدر الأفق يأبى بزوغه ... عليّ منعت العين أن تنظر البدرا إذا كان حلّى مظهرا لي تكبرا ... عليّ فإني أملأ الارض لي كبرا إذا كان ذو جاه ومال تزوره ... سنين فلم ينفعك فاخطط له قبرا إذا كان مأمولا ترجي بلوغه ... وفات فلا تحدث له أبدا ذكرا إذا كان سرّ ضقت صدرا بحفظه ... فلا تعتبن من ضاق يوما به صدرا إذا كان بعض المال يكفيك فاقتنع ... تصون به وجها وتحيي به حرّا إذا كان عسر قد أضرّك فاصطبر ... له وارتقب من بعده عاجلا يسرا إذا كان فضل المرء وافاك باديا ... أجزه به فضلا وزد فوقه شكرا إذا كان سعد لم تبال بكل من ... يعاديك فاعمل صالحا وادّخر أجرا إذا كان خبث في صديقك فاحترز ... فإنّ خفايا الخبث تبغي لك الشرّا إذا كان ودّ المرء فيك معلّلا ... بأمر تقضّى إن قضى فلك الأمرا إذا كان سوء الظنّ حزما فعوّلن ... عليه فحسن الظن يرجى لك الضرّا إذا كان هفو من مواليك فليكن ... له منك عفو تلقه صاحبا برّا ومنه قوله: [الوافر] جديد الحسن في خلق تبدّى ... فحار الطرف وارتاع الفؤاد فقلت وقد مضى قلبي إليه ... أعده فقال ماض لا يعاد ومنه قوله: [الطويل] فلما تدانينا ودون كلامنا ... كلام الرقاق البيض والذبّل السّمر بكيت وأبدى ثغرها لي تبسما ... ولا عجب أن يبسم الزّهر للقطر ومنه قوله: [الطويل] على قدر حبّي فيك وافاني الصّبر ... فلست أبالي كان وصلك أم هجر وهل نظري ألّا سلام ونظرة ... وقد حصلا والذلّ يأنفه الحرّ سأسلوك حتى لا أراك بناظري ... وأنساك حتى لا يمرّ بك الفكر

ومنه قوله: [الطويل] وقالوا الذي تهواه أصبح قد بدا ... بخدّيه شعر سالب كلّ ناظر وما الخدّ منه غير مرآة صيقل ... وما الشّعر فيه غير هدب النواظر ومنه قوله: [البسيط] وا رحمتا لفؤادي كم أعنّفه ... فليس يردعه قول ولا عمل مرّت عليه دهور لا يصيح إلى ... داعي الهوى وله نحو الصّبا ميل ومنه قوله: [مخلع البسيط] بعيد ودّ قريب صدّ ... كثير عتب قليل عتبى كالشمس طرفا «1» كالمسك عرفاى ... كالخشف ظرفا كالصخر قلبا ومنه قوله: [البسيط] إني لأسمع من خلد وحين أرى ... حتى يحدثني أصغي على صمم كيما يلذّ بتكرار الكلام معي ... أدني ويلفظ منه الدرّ في الكلم وحكى شيخنا أبو حيّان، قال: قدم علينا الشيخ المحدّث أبو العلا محمود بن أبي بكر البخاري الفرضي القاهرة في طلب الحديث، وكان رجلا حسنا طيب الأخلاق لطيف المزاج، فكنّا نسايره في طلب الحديث. فإذا رأى صورة حسنة، قال: هذا على شرط البخاري. فنظمت هذه الأبيات: [الطويل] بدا كهلال العيد وقت طلوعه ... وماس كغصن الخيزران المنعّم غزال رخيم الدلّ «2» وافى مواصلا ... مواصلة منه على رغم لوّمي مليح غريب الحسن أصبح معلما ... بحمرة خدّ بالمحاسن معلم وقالوا على شرط البخاريّ قد أتى ... فقلنا على شرط البخاري ومسلم

فقال مولانا: أنا البخاري فمن مسلم؟ قلت: أنت البخاري وأنا المسلم. قال: وتشبه هذه الحكاية ما جرى بين الحافظ أبي عمر ابن عبد البرّ النمري والحافظ أبي محمد علي بن أحمد اليزيدي، كانا يتسايران في سكة الخطابين من إشبيلية فاستقبلهما غلام وضيء الوجه. فقال أبو محمد: إن هذه لصورة حسنة. فقال أبو عمر: لعلّ ما تحت الثياب ليس هناك. فأنشد أبو محمد ارتجالا: [الطويل] وذي عذل صعب سباني حسنه ... يطيل ملامي في الهوى ويقول أفي حسن وجه لاح لم تر غيره ... ولم تدر كيف الجسم أنت قتيل فقلت له أسرفت في اللّوم عاذلي ... وعندي ردّ لو أردت طويل ألم تر أني ظاهريّ وأنني ... على ما بدا حتى يقوم دليل وحكى أبو حيّان أيضا، قال: اجتمعت أنا والقاضي علاء الدين بن بنت الأعز والقاضي فخر الدين بن درباس في متنزّه، وإذا بغلام يعوم في النيل ويتلطخ بالتراب ويسبح، فنظم كلّ منّا قصيدة في ذلك من غير أن يطّلع على نظم الآخر أو يتقارب في المعنى: [الكامل] ومترّب قد ظنّ أن جماله ... سيصونه منّا بترب أعفر فغدا يضمّخه فزاد ملاحة ... إذ قد حوى ليلا بصبح أنور وكأنما الجسم الصّقيل وتربه ... كافورة لطخت بمسك أذفر «1» وقال القاضي علاء الدين: [الكامل] ومترّب لولا التراب بجسمه ... لم تبصر الأبصار منه منظرا وكأنه بدر عليه سحابة ... والتّرب ليل من سناه أقمرا وقال القاضي فخر الدين: [الكامل] ومترّب تربت «2» يدا من حازه ... لقضيب تبر ضمّخوه لعنبر

وكأن طرّته ونور جبينه ... ليل أطلّ على صباح أنور وتوفي رحمه الله ورثاه جماعة من الفضلاء. فمنهم الفاضل العلامة صلاح الدين أبو الصفاء الصفدي، رثاه بقوله: [السريع] مات أثير الدين شيخ الورى ... فاستعر البارق واستعبرا ورقّ من حزن نسيم الصّبا ... واعتلّ في الأسحار لمّا سرى وصادحات الأيك في نوحها ... رثته في السجع على حرف را يا عين جودي بالدموع التي ... يروي بها ما ضمّه من ترى واجري دما فالخطب في شأنه ... قد اقتضى أكثر مما جرى مات إمام كان في علمه ... يرى إماما والورى من ورا أمسى منادي للبلى مفردا ... فضمّه القبر على ما يرى يا أسفا كان هدى ظاهرا ... فعاد في تربته مضمرا وكان جمع الفضل في عصره ... صحّ فلمّا أن قضى كسّرا وعرّف الفضل به برهة ... والآن لمّا أن مضى نكّرا وكان ممنوعا من الصرف لا ... يطرق من وافاه خطب عرا لا أفعل التفضيل ما بينه ... وبين من أعرفه في الورى لا بدل عن نعته بالتقى ... ففعله كان له مصدرا لم يدّغم في اللحد إلا وقد ... فكّ من الصبر وثيق العرى بكى له زيد وعمرو فمن ... أمثلة النحو وممّن قرا ما أعقد التسهيل من بعده ... فكم له من عسرة يسّرا وجسر الناس على حوضه ... إذ كان في النحو قد استبحرا من بعده قد حال تمييزه ... وحظه قد رجع القهقرى شارك من قد ساد في فنّه ... وكم له فنّ به استأثرا دأب بني الآداب أن يغسلوا ... بدمعهم فيه بقايا الكرى والنحو قد سار الردى نحوه ... والصرف للتصريف قد غيّرا

واللغة الفصحى غدت بعده ... يلغى الذي في ضبطها قرّرا تفسيره البحر المحيط الذي ... يهدي إلى وارده الجوهرا فوائد من فضله جمة ... عليه فيها يعقد الخنصرا وكان نبتا بقلة حجة ... مثل ضياء الصبح قد أسفرا ورحله في سنّة المصطفى ... أصدق من يسمع إن خبّرا له الأسانيد التي قد علّمت ... فاستثقلت عنها سواجي الذّرى ساوى بها الاحفاد أجدادهم ... فاعجب لماض فاته من طرى وشاعرا في نظمه مبلغا ... كم حذّر اللفظ وكم خبرّا له معان كلّما خطّها ... يستر ما يرقم في تسترا «1» أفديه من ماض لأمر الردى ... مستقبلا من ربّه بالقرا ما بات في أبيض أكفانه ... إلّا وأضحى سندسا أخضرا تصافح الحور له راحة ... كم تعبت في كلّما سطّرا إن مات فالذّكر له خالد ... يحيا به من قبل أن ينشرا جاد ثرى واراه غيث إذا ... مسّاه بالسقيا له بكّرا وخصّه من ربه رحمة ... تورده في حشرة الكوثرا وأحسن الله العزا فيه لل ... مولى فريد الدين بل للورى

[علماء النحو بمصر]

[علماء النحو بمصر]

1 - أبو جعفر النحاس

1- أبو جعفر النحّاس «13» وأما المصريون فمنهم أبو جعفر النحاس، أحمد بن إسماعيل بن يونس المرادي النحوي المصري. فقير لا يلحق بتابع، وممسك ضمت في راحتيه الأصابع. لو أن الماء في كفه لجمد، أو الضياء في وصفه لخمد. وكان لو أراد لتوسع كثرا، أو انقلب في الثرى لأثرى. هذا وفهمه لا يفشل وعلمه لا يستوشل، بفطنة أورى من الزناد، وأروى من العهاد «1» . تقدّم في أول الرعيل. ويتوقد وقد نفط نفطويه وخمدت نار الخليل. وكان عالما بالقرآن والفقه. رحل إلى العراق وأخذ عن الزجاج وكان ينظر بابن الأنباري ونفطويه. وكان ربّما وهبت له العمامة فيقطعها ثلاث عمائم، من شدة التقتير على نفسه. وصنّف إعراب القرآن، وكتاب المعاني وكتاب اشتقاق أسماء الله الحسنى، وتفسير أبيات كتاب سيبويه. وكلّ من جاء بعده استمدّ منه. وفسّر عدة دواوين وأملاها. وله رواية كبيرة عن علي بن سليمان الأخفش. ولقي بالعراق أصحاب المبرّد. وتوفي بمصر سنة سبع وثلاثين وثلاثمئة، وقيل سنة ثمان وثلاثين.

2 - طاهر بن أحمد بن بابشاذ

ومنهم: 2- طاهر بن أحمد بن بابشاذ «13» أبو الحسين النحوي المصري العراقي المحتد. رجل محتد ذكي الألعبة زكي اللوذعة «1» . سديد النظر شديد الرأي المحتضر. دنا من مجالس الخلفا، ووسع لتقريبه محالّ الاصطفا. وكان من وراء الخلفاء الجليس، الذي لا ينافس في دنوّ محلّ، ولا يناقش في إبرام عقد ولا حلّ؛ حتى كان فردا للنظرا، وقياس الآراء والمخصوص بخصب الجناب وقرب المحل قبل ابن الخبّاب. هذا إلى ما وكل به من تهذيب الكتب وتذييب تلك الأعلام الكثب. مع شيء قديم ومرمى قويم، ومال موروث وثرا، ومال منه فضل للفقرا، وكان جدّه جوهريا من بغداد. قدم مصر تاجرا فسكنها، وكان متولى بتحرير الكتب الصادرة عن ديوان الإنشاء بمصر في الدولة المصرية. وله رزق سنيّ على ذلك، وعلا التصدر للإقراء بجامع عمرو بن العاص. ثم إنه في آخر عمره تزهد وانقطع في غرفة بالجامع، واشتمل على العبادة. وهو شيخ محمد بن بركات السعيدي اللغوي المتولي بعده لوظيفته. وقيل بسبب تزهده أنه كان له قط يأنس به قد ربّاه أحسن تربية، وكان طاهر الخلق لا يخطف شيئا ولا يؤذي، وأنه اختطف يوما من بين يديه فرخ حمام مشوي فعجب له، ثم عاد به لحظة فخطف فرخا آخر، فذهب فتبعه إلى خرق في البيت، فدخله وقفز منه إلى سطح قريب وقد وضع بين يدي قط هناك، فتأمل الشيخ القط فإذا القط أعمى مفلوج فخصره قلبه، واتعظ بذلك وتزهّد، وضمّ أطرافه وباع ما حوله. فبقي كذلك مدّة ثم خرج ليلة إلى سطح الجامع في بعض الطاقات، فسقط ميتا، وأصبح ميتا شهيدا وذلك في سنة أربع وخمسين وأربعمائة، وقيل بعد ذلك.

3 - ابن بري

ومنهم: 3- ابن برّي «13» واسمه عبد الله بن برّي بن عبد الجبار بن برّي النحوي اللغوي المصري. دخل في خدمة الخلفاء على طريقة ابن بابشاذ، ورفعت به مصر رأسها على بغداذ، وكان من بيت المقدس تربته، ومن الأقصى بها غربته؛ على أن واديه المقدس كان أوطانه إليه وأوطاره. ولو خلع شراك جبينه قبل نعليه. بلغ بعد فراق بيت المقدس غاية في اللسان العربي، ورحل عن الطور فنودي من جانبه الغربي؛ إلّا أنه ما خلا ممّن تكلّم ورماه بسهامه. وما تألم إلّا أنه كان منغمسا في غمار الغفلة، وبعد الذهن الذي ما فيه قلّة، وتعوذ بالله من خلل النسا ولعب السفلة بالرؤساء. أرادت تهذيب أخلاقه فغدرته من مخ جحش شويا، كما حفظت قدرة للثرى كذا رفعت قربة للثريا. ولد بمصر سنة تسع وتسعين وأربعمائة، وقرأ على مشايخ زمانه، وانفرد بهذا الشأن. وقصده الطلبة من الآفاق، وكان عالما بكتاب سيبويه وعلله. قيمّا باللغة وشواهدها، وكان إليه التصفّح في ديوان الإنشاء، لا يصدر كتاب عن الدولة إلى ملوك النواحي إلّا بعد أن يتصفّحه ويصلح ما فيه من خلل خفيّ. وهذه كانت وظيفة ابن بابشاذ. وكان ينسب إلى الغفلة في غير العربية، وتجلّى عنه حكايات. وتصدّر غير واحد من أصحابه وبرع، وكان قليل التصنيف. له مقدّمة سمّاها اللباب، وجواب المسائل العشر التي سأل عنها أبو تراب ملك النحاة. وحاشيته على صحاح الجوهري فإنها أفردت فجاءت ستة مجلّدات. قال ابن خلكان: ورأيت له حواشي على درّة الغوّاص في أوهام الخواص للحريري. وله

4 - بهاء الدين ابن النحاس

جزء لطيف في أغاليط الفقهاء. وله الردّ على ابن الخشاب في الكتاب الذي بيّن فيه غلط الحريري في المقامات، وانتصر للحريري وما أقصر فيما عمله. وتوفي بمصر في شوال سنة اثنتين وثمانين وخمسمئة وكان وسخ الثوب رديء الهيئة واللبسة. يحكي عنه المصريون عجائب منها: أنه اشترى لحما وخبزا وبيضا وحطبا، وحمل الجميع في كمّه، وجاء إلى منزله فوجد أهله قد ذهبوا لبعض شأنهم والباب مغلقا، فتقدّم إلى كوّة هناك تفضي إلى داره، فجعل يلقي منها الشيء بعد الشيء، ولم يفكر في تكسير البيض، وأكل السنانير اللحم والخبز إذا خلت به. ومنها أنه اشترى عنبا وجعله في كمّه، وحادث بعض أصحابه وجعل يعبث بالعنب حتى سال على رجليه، فقال لصاحبه: نجي المطر؟ فقلت: لا، فقال: فما هذا الذي سقط على رجلي؟ قال: فأملته، فإذا هو العنب، فاخبرته فخجل واستحيا ومضى. ويحكون عنه من الحذق وحسن الجواب عمّا يسأل عنه ما يعجب. وله نسختان، الجامع بين الأضداد. ويحكى عنه أنه كان لا يتكلف في كلامه، ولا يتقيد في الإعراب بل يسترسل في حديثه كيفما اتّفق، حتى قال يوما لبعض تلامذته ممن يشتغل عليه: اشتر لي هندباء بعروقو، فقال له التلميذ: بعروقو، فعزّ عليه كلامه، وقال له: لا تأخذه إلّا بعروقو، وإن لم يكن بعروقو لا تأخذه. وكانت له ألفاظ من هذا الجنس، لا يكترث بما يقوله، ولا يتوقف على إعراب. ومنهم: 4- بهاء الدين ابن النحاس «13» محمد بن إبراهيم بن محمد ابن أبي نصر، أبو عبد الله الحلبي، شيخ العربية بالديار المصرية. طالما سهر جفنه للسهر بالإغراء، ورفع خبر ليله بمبتدأ الليلة الغرّا. برع بمصر ففاض فيض النيل في جنباتها، وقال مقيل النعيم في جنّاتها. وكان محسودا على ما أتاه الله من

فضله، وواتاه من حسن فعله إلّا أنّ حساده على كثرة عددهم لم يجمعوا لديه إلا جمع القلّة، ولا متّ الصحيح إليه إلّا بما يلزمه من حروف العلّة؛ لعلوّ رتبة اخترق أطباقها، وجارى النجوم وبذّ «1» سباقها فحلّ النجاد «2» ، وخلّى البجاد «3» وأجاد، وغيره في أبي جاد. ولد في سلخ جمادى الآخرة سنة تسع وعشرين وستمئة بحلب. وسمع ابن الليثي وابن النفيس النحوي وابن رواحة وابن خليل ووالده. وقرأ القرآن على أبي عبد الله الفاسي، وأخذ العربية عن الجمال بن عمرون، واستوطن مصر لمّا خربت حلب. وقرأ على الكمال الضرير وغيره. ثم جلس للإفادة، وتخرج به جماعة من الأئمة وفضلاء الأدب، وكان من الأذكياء. وله خبرة بالمنطق وأقليدس، وكان مشهورا بالصدق والعدالة والدين مع اطّراح الكلفة وصغر العمامة ويمشي في الليل بين القصرين بقميص وطاقية على رأسه. وكان حسن الأخلاق فيه ظرف النحاة، وكان له مكانة من الناس. وإذا انفرد بشهادة حكم فيها، واقتنى كتبا كثيرة نفيسة، ولم يتزوج. وكان له أوراد من العبادة، كثير التلاوة، كثير الذكر. يسعى في مصالح الناس. قال أبو الصفا: حكى لي عنه القاضي عماد الدين إسماعيل ابن القيسراني أنه لم يأكل العنب، قال: لأنه كان يحبّه فآثر أن يكون نصيبه في الجنّة. وقال: أخبرني الحافظ ابن سيد الناس اليغمري، قال: زكّى بعض الفقهاء تزكية عند بعض القضاة ما زكّاها أحد قطّ؛ لأنه أمسك بيد المزكي، وقال للقاضي: الناس ما يقولون: ما نؤمن على الذهب والفضة إلّا حمار. قال: نعم. قال: وهذا حمار. وانصرف بحكم القاضي بعدالة ذلك المزكي.

قال: وأخبرني غير واحد عنه أنه لم يزل عنده في بيته من الطلبة ومن أصحابه من يأكل عنده على ما يديه، ولا يدخر شيئا، ولا يخبئه عنهم. ويدخل الداخل عليه فيجد في بيته هنا أناس يلعبون بالشطرنج وهنا أناس يطالعون وكل واحد في شأنه، لا ينكر أحد على أحد شيئا، ولا يزال رضيا حتى يكون وقت الاشتغال فيتنكّر. وكان ربّما تنسّم فقام وأكمل إلقاء الدروس للطلبة بين القصرين وهم يمشون. وكان لا يتكلم في حلّ النحو إلّا بلغة العوام، لا يراعي الإعراب. قال شيخنا أبو حيّان: كان بهاء الدين ابن النحاس، ومحيي الدين محمد بن عبد العزيز الماروني، المقيم بالإسكندرية شيخي الديار المصرية، ولم ألق أحدا أكثر سماعا منه لكتب الأدب. وانفرد بسماع الصحاح للجوهري. وكان ينهى عن الخوض في العقائد، ويتردد إلى من ينتمي إلى الخير. ولي التفسير بالجامع الطولوني وبالقبة المنصورية، والتصدر بالجامع الأقمر وتصادير بمصر، ولم يصنف شيئا إلّا ما أملاه على سنان الدين الرومي شرحا لكتاب المقرّب، إلى أول باب الوقف أو نحوه. وكنت أنا وإيّاه يمشي بين القصرين فعبر علينا صبي يدعى بجمال وكان مصارعا، فقال ابن النحاس: لينظم كلّ منّا في هذا المصارع. فنظم ابن النحاس: [البسيط] مصارع تصرع الآساد سمرته ... تيها فكل مليح دونه همج «1» لما غدا راجحا في الحسن قلت لهم ... عن حسنه حدّثوا عنه ولا حرج ونظم شيخنا أبو حيّان: [الطويل] سباني جمال من مليح مصارع ... عليه دلال للملاحة واضح لئن عزّ منه المثل فالكلّ دونه ... وإن خفّ منه الخصر فالرّدف راجح وسمع شهاب الدين الفزاري بذلك فقال: [السريع]

هل حكم ينصفني في هوى ... مصارع يصرع أسد الشّرى مذ فرّ مني الصبر في حبّه ... حكى عليه مدمعي ما جرى أباح قتلي في الهوى عامدا ... وقال لي كم عاشق في الورى رميته في أسرجيّ «1» ومن ... أجفان عينيه أخذت الكرى قال أبو حيّان: وانشدني ابن النحاس لنفسه يخاطب الشيخ رضي الدين الشاطبي وقد كلّفه أن يشتري له قطرا: [الخفيف] أيّها الأوحد الرضيّ الذي طا ... ل علاء وطاب في الناس نشرا أنت بحر لا غرو إن نحن (م) ... واقيناك راجين من نداك قطرا وقال يرثي الشيخ أحمد المصري النحوي: [الطويل] عزاؤك زين الدين في الواحد الّذي ... بكته بنو الآداب مثنى وواحدا هم فقدوا منه الخليل بن أحمد ... وأنت ففارقت الخليل وأحمدا وقال مما يكتب على منديل: [الخفيف] ضاع مني خصر الحبيب نحولا ... فلهذا الضّحى عليه أدور لطفت حرقتي ورقّت فجلّت ... عن نظير مما حكتها الحضور وقال: [الكامل] إني تركت لذا الورى دنياهم ... وظللت أنتظر الممات وأرقب وقطعت في الدنيا العلائق ليس لي ... ولد يموت ولا عقار يخرب وقال: [الرمل]

قلت لمّا شرطوه وجرى ... دمعه القاني على الخدّ اليقق «1» ليس بدعا ما أتوني فعله ... هو بدر ستروه بالشّفق توفي بالقاهرة يوم الثلاثاء. سابع جمادى الآخرة سنة ثمان وتسعين وستمئة وغالب روايات شيخنا أبو حيّان. كتب الأدب عنه، وكتب الخط الفائق. وقيل: كان يحفظ ثلث الصحاح للجوهري.

[أرباب المعاني والبيان]

[أرباب المعاني والبيان]

وأما أرباب المعاني والبيان، وهم خواص أهل العربية وأعيان من نظر منهم في أسرارها ونقّب عن تمام بدورها الكوامل وسرارها «1» ، وقليل ما هم ومن هم. وقد تكلموا على المعاني والألفاظ، وسمّوا الأول المعاني والبيان. وسمّوا الثاني البديع. وهو كاشف عن عجائب الكتاب والسنّة، ومخرج من خبايا معانيه غرائب الأجنّة. وقد ذكر ابن أبي الإصبع في كتابه، تحرير التحبير أن ابن المعتزّ وقدامة أول من اعتنى بعلم البديع، وقال ما معناه: أن ابن المعتز هو الذي سمّاه البديع واختصر في كتابه بهذه التسمية على خمسة أبواب، قد ذكرها في العيون ضمن المعاطلة؛ لأنه قال: ولا أرى المعاطلة إلّا ما حسن من الاستعارة سمّاه المعاطلة. والحسن منها سمّاه ابن المعتز بديعا. ولم يبوب قدامة في المحاسن. وانفرد ابن المعتز بتبويبه غاية في البديع، التجنيس والطباق متواردا مع قدامة عليهما، وردّ الأعجاز على الصدور منفردا به وختمها بخامس عزا تسميته إلى الجاحظ، وهو المذهب الكلامي منفردا به. وإن كان ما قبله من الأسماء قد سبقت المغرب إلى وضعها؛ لكن لا على مراد ابن المعتز وربّما سبق ابن المعتزّ إلى نقلها عن مسمياتها إلّا وله إلى ما أراد. وقال ابن المعتز في صدر كتابه: وما جمع قبلي فنون البديع أحد، ولا سبقني إلى تأليفه مؤلف، وألّفته سنة أربع وستين ومئتين. وأول من نسخه مني علي بن يحيى بن منصور المنجّم. ثم قال بعد سياقه الأبواب الخمسة: وهم الآن، نذكر محاسن الكلام والشعر؛ وإن كانت محاسنها كبيرة، لا للعاقل العالم أن يدعي الإحاطة بها حتى تبرأ من شذوذ بعضها عن عمله. واجبنا بذلك أن نذكر فوائد كتاب للمتأدّبين ويعلم الناظر فيه أنّا قد اقتصرنا بالبديع على الفنون الخمسة؛ اختيارا من غير جهل بالطريقة، ولا ضيق في المعرفة. فمن أحبّ أن يقتدي بنا، ويقتصر عن تلك الخمسة بالبديع فليفعل. ومن أضاف من هذه المحاسن أو غيرها شيئا إلى البديع وارثا غير رأينا فله اختياره، وهذا ذكر المحاسن «2» . ثم ذكر

الالتفات «1» . وقد توارد عليه هو وقدامة. وذكر اعتراض كلام في كلام لم يتم معناه، ثم يعود المتكلم فيتمه في بيت واحد أو جملة واحدة. وسمّاه قدامة، التمام. وسمّاه الحاتمي في الحلية، التتميم «2» . وهو ممّا توارد عليه قدامة وابن المعتز، ثم ذكر من المحاسن الخروج من معنى إلى معنى، وسمّاه الحاتمي الاستطراد، ناقلا تسميته لا مخترعا، وهو إفراد ابن المعتز. ثم ذكر تأكيد المدح بما يشبه الذم منفردا وذكر تجاهل العارف، وهو الذي سمّاه المتأخرون الإغباب والتشكيك. والتشكيك باب مفرد، أورده بعضهم، وبينه وبين تجاهل العارف فرق، وتجاهل العارف من إفراد ابن المعتز، ثم ذكر الهزل الذي يراد به الجدّ منفردا به. وذكر الكناية منفردا به، وذكر الإفراد في الصنعة متواردا عليها مع قدامة، وسمّاها قدامة المبالغة. وذكر التشبيه متواردا عليه مع قدامة. وذكر عتاب المرء نفسه منفردا به وذكر حسن الانتداب منفردا به، وسمّاه من بعد، براعة الاستهلال. فهذه اثنا عشر بابا من المحاسن تضاف إلى أبواب البديع الخمسة، فيصير بها ما أخبر عنه ابن المعتز جميعه من ذلك سبعة عشر بابا، وهي: التشبيه، والتمام، والمبالغة، والالتفات، والطباق، والجناس متواردا هو وابن المعتز على جميع ذلك، وانفراد قدامة بالتكافؤ «3» . وإن كان هذا تداخل على قدامة في باب الطباق وصحة الأقسام وصحة المقلابلات، وصحة التفسير، وإسلاف اللفظ مع المعنى، وهو باب فرّع منه قدامة ستة أبواب، وهي: المساواة والإشارة والإرداف والتمثيل، ثم فرّع من ائتلاف اللفظ مع المعنى أيضا الطباق والجناس. وقد تقدّم ذكر توارده مع ابن المعتز عليهما. وذكر ائتلاف اللفظ مع الوزن. وجعل المتأخرون هذين البابين بابا واحدا، وسمّوه التهذيب والتأديب؛ لكنّ قدامة خصّ بهما الشعر، وربّما

من سمّاه تهذيبا لا يخصّ بهما الشعر دون النثر، ولا النثر دون الشعر. وذكر ائتلاف القافية مع ما يدل عليه سائر البيت، وسمّاه من بعده التمكين. وخصّ به الشعر أيضا وهو لا يخصّه. وفرّع قدامة من هذا بابي التوشيح والإيغال، وذكر الترصيع «1» في ائتلاف القافية مع ما يدل عليه سائر البيت في ضمن كلامه، ولم يفرده. فهذه ثلاثة عشر بابا صحّت لقدامة بعد إسقاط ما تداخل عليه، وهو التكافؤ؛ فإذا أضيفت إلى ما انفرد به ابن المعتز من البديع، وأضافه إليه من المحاسن وتوارد عليه مع قدامة صارت هذه الأصول من كتابهما بعد حذف النوارد والتفاضل ثلاثين بابا سالمة من التداخل. قال ابن أبي الإصبع: فهذه أصول ما ساقها الناس في كتبهم من البديع ثم اقتدى الناس بابن المعتز في قوله: فمن أحبّ أن يضيف فليفعل، فأضاف الناس المحاسن من البديع، وفرّعوا من الجميع أبوابا أخر، وركّبوا منها تراكيب شتّى، واستنبطوا غيرها بالاستقراء من الكلام والشعر؛ حتى كثرت الفوائد ورأو ابن المعتز قد غلّب اسم البديع على المحاسن، فسمى كتابه، البديع. وهو جامع لهما معا، فاقتدوا به؛ لانه المخترع الأول، فسمّوا أنواع كتبهم بالبديع؛ وإن سمّى كلّ منهم كتابه باسم مرجعه إلى معناه؛ إلّا أن يكون قد ألّف في مجموع البلاغة وكنه الفصاحة، فإن له أن يسميه بما شاء «2» . ثم إن ابن أبي الإصبع زاد في كتابه، تحرير التحبير، وجمع بعد ما تقدّم من أصول الأبواب ستين بابا من الفروع، وأضاف هذه الستين إلى الثلاثين الأصول، فصارت الفذلكة «3» تسعين بابا قال ابن أبي الإصبع: ثمّ عنّ لي استنباط أبواب تزيد بها الفوائد وتكبر بها الإمتاع، نسجا على منوال من تقدّمني، واتباعا لسنّة من سبقني ظني إلى شيء منها، اللهم إلّا أن يوجد في زوايا الكتب التي لم أقف عليها شيء مما اخترعته، فأكون أنا والسابق إليه متواردين عليه. وما أظنّ ذلك والله أعلم. ثم قال: ولما انتهى استخراجي إلى هذا العدد أمسكت عن الفكر في ذلك، ليكون ما أتيت

1 - ابن المعتز

به وفق عدد الأصول، ثم سرد الثلاثين بابا بعد أن سرد الستين المضافة إلى الثلاثين الأصول التي اخترعها ابن المعتز وقدامة. ثم قال: فصارت أبواب هذا الكتاب مئة وعشرين بابا، سوى ما انشعب من أبواب الائتلاف وغيره. وجملة الأبواب على ضربين ضرب يختص بالشعر، وضرب يعمّ الشعر والسنن والنثر، وذلك ظاهر لمن تبحّر في الكتاب. 1- ابن المعتز وهو أبو العباس عبد الله بن أبي عبد الله الزبير المعتز «13» بالله ابن جعفر المتوكل ابن محمد المعتصم ابن هارون الرشيد المهدي محمد ابن أبي جعفر عبد الله المنصور ابن محمد بن علي ابن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم. نسب كان عليه من شمس الضحى نورا، ومن فلق الصباح غمورا. ملك تفرّد بالصفات الحسان، وجمع العدل والإحسان، وأقدم وقد خرس كلّ لسان يقب «1» عن أسرار الكلام، وإخراج زهره من الكمام. فوضح البيان، ولمح ملء العيان. واجتليت أقماره الطوالع واجتنيت أفواده اللوامع. وكان زينة لسمائه، وحلية لصباح زمانه ومسائه. يخال ذكره عنبرا يفوح في الأسحار، وجوهرا يلوح في قلائد الأسمار. من أثرى من حاصل ديوانه أوسع إن كان منفقا، وأيسر ولو كان مملقا. وتقدّم والناس وراءه، والنهار يلبس آراءه. فوقف وقفة قدامه يتعلم، وقال أو سكت لا يتكلم. ولم يكن أولى منه بالخلافة، ولا أحقّ منه أن يرث أسلافه؛ وإنما أخّره تقدمه، وعرض سمهريّه على النار مقوّمه. وما زال الزمان مغرى بخط كل رفيع، ولا ساءه إلى من لا يحتاج محاسنه إلى شفيع، وله ذكر في الخلفاء. ولد لسبع بقين من شعبان سنة سبع واربعين ومئتين وأبوه المعتز. أمه أم ولد، اسمها قبيحة، سميت بذلك لفرط حسنها. وزعم ابن خلكان أنه كان حنفي المذهب. قال: ويدل على هذا قوله في الخمرة المطبوخة: [الطويل]

وقتني من نار الجحيم بنفسها ... وذلك معروف لها ليس تجحد «1» والأغلب والله أعلم أنه كان حنبلي المذهب على ما يأتي؛ وإنما قال هذا في الخمرة تفسحا في القول على عادة الشعراء في التقبيح في القول. وأخذ الأدب عن المبرّد وثعلب وغيرهما. وكان محبّا للعلماء معدودا منهم ولم يزل مرشحا للخلافة مؤهلا للملك، يخاف ويرتجى إلى أن كان ما كان من المقتدر من فساد الأمور، وضياع الجمهور؛ لصغر سنّه، وغلبة النساء عليه. ورأى العباس بن الحسن الوزير أن هذا يفتقر إلى خلع المقتدر، ومبايعة أبي العبّاس فدعا إلى ذلك الحسن بن أحمد، فقام إليه داعيا، وتردّد في التمام له ساعيا إلى أن انقاد غالب العامة، وخاصة أرباب العقد والحل، كمحمد بن داود القاضي، وأبي المفتي أحمد بن يعقوب، وبدر الأعجمي، وصوارتكين التركي، ثم راسلوا أبا العباس فأجابهم على ألّا يسفك دم. ثم بدا للوزير لاقتداره على المقتدر وضعف أيسر أهل رأيه متخليا عن الفريقين، بعد أن شبّ نهارها، وشدّ أوزارها، فلحق به حمدان وبدر الأعجمي ووصيف فقتلوه، ثم قتلوا في غد ذلك اليوم فاتك المعتضدي، وكان عضدا للمقتدر، وذلك يوم السبت لتسع بقين من ربيع الأول سنة ست وتسعين ومئتين. وركض ابن حمدان إلى الخلية نحو المقتدر يطلبه بالتدمير، وكان المقتدر هناك يلعب بالكرة، فلما بلغه مقتل الوزير أطلق عنان جواده والتحق في القصر بأمداده، ثم أمر فغلّقت أبواب القصر وطوّق بالمقاتلة مستعدا للحصير، فكرّ ابن حمدان راجعا يتلظّى ندما؛ لكونه لم يبدأ به، وأحضر أبا العباس في يومه، وبايعه الناس بالخلافة على يد محمد بن سعيد الأزرق، ولقّب الغالب بالله، وقتل المتصف. والأول أصح. ولم يتأخر عن بيعه سوى الحسن بن الفرات فاستوزر محمد بن داود، وقلّد علي بن عيس الدواوين، وكتب الكتب ببيعته إلى الآفاق وأرسل إلى المقتدر يأمره بأن ينتقل إلى دار عبد الله بن طاهر، فأجابه بالامتثال، وسأله في المهلة، وأصبح ابن حمدان إلى دار الخلافة، والمقتدر بها ليخرجه منها فقاتله الغلمان والخدم عامة النهار، ولم يكن قد بقي مع المقتدر سوى مؤنس الخادم

وبعض حاشية الدار. وتربّص ابن حمدان الغفلة، فلما نصل الدجى الذي صبغه المغرب، ووضع حمله الليل المقرّب، وجنين الفجر قد كاد أن يرمي سقطا، وأنامل الصبح قد كادت تأتي على دراهم النجوم لقطا، وقد تثاءب المشرق وآن المغرب الذي تمطّى، وتمشّى نسيم السحر وتخطّى فاقتعد جمله وقبل السرى أمله، والحذر يستطيره، والخوف يدني منه جناح طائر يستعيره ودام سارحا في نهاره، وساربا في أنهاره؛ حتى إذا دميت في الأصل أخفاف مطيه الخفيّة، وطفيت جديدة النهار في عين شمسه الحميّة، نزل ليريح ويقيم جنب نضوه الطريح؛ فبينما هو قد ترك بقيته، ومسك الليل قدد رقيته أدركته بادرة الخيل وألقته جدا سهيل. وكان سبب رحيله أن أبا العباس عدل بالحجبة عنه، وكان يريدها ويحضّها، ولو قطعت أوداجه ووريدها، فحقدها عليه وأرقدها لديه. ثم إن أهل القصر أجمعوا على الصعود من الماء لاغتيال ابن المعتز، فلمّا رآهم أصحاب ابن المعتز أكبروهم، وقالوا: هذا رأي ابن حمدان، ولهذا تركنا وفرّ، وظنّوها من رأيه، فخرج ابن المعتز، ومعه محمد بن داود الوزير، وبين أيديهما غلام ينادي، يا معشر المسلمين، ادعوا لخليفتكم هذا السني البربهاري؛ إشارة إلى أنه على مذهب أهل السنّة، خلافا للمقتدر، وأهل بيته. والبربهاري، هو أبو الحسن ابن أبي القاسم البربهاري مقدّم الحنابلة؛ وكان لأهل السنّة وسائر العامة فيه رأي جميل. وكان ابن المعتز على مذهبه، ثم سار إلى الصحراء وهو يظنّ أن الجنود تتلاحق وراءه فلم يلتحق به أحد، ولا مدّ إلى بصره مدى خطوة، ولا ساعد يد، فهم مقصد شرّ من راء ليشدّ بها سلطانه، ويجتمع عليه فيها، فلمّا أخفقت أمانيه نزل عن دابته، وقطع أطماع إرادته، والتحق بابن الجصاص الجوهري، فاستجار بجواره واختفى في داره، فوشى به خادم لابن الجصاص صغير، فأمسكه المقتدر وسلّمه إلى مؤنس لأمر قد قدر، فأخرج إلى أهله في اليوم الثاني من خلافته قتيلا في كساء لا ثائر له إلا دموع النساء. فرحمه الله وغفر له وأكرم لديه في الجنة نزله. ورثاه علي بن محمد بن بسام بقوله: [البسيط] لله درّك من ميت بمضيعة ... ناهيك في العلم والآداب والحسب ما فيه لوّ ولا لولا فتنقصه ... وإنما أدركته حرفة الأدب

قلت: ومن غرائب الأمور وعجائب ما جرى به القدر المأمور أنّ ابن حمدان هذا؛ بل كل بني حمدان كانوا في غاية التشيع، وخصوصا هذا الحسن فإنه كان رأسا في الغلاة، وكان ذا لسن، وكان ابن المعتز غاية في التسنّن وخصما في الجدال، تخرس له الألسن. وكان ابن حمدان هو القائم في قيام ابن المعتز على بعد ما بينهما وتنائي جانبيهما، وكل واحد منهما لم يبرح للآخر مناقضا، ولقواعده في المذهب معارضا؛ إلّا أنّ الله إذا أراد أمرا أتمّه وكان أمر الله مفعولا. وكان ابن المعتز رأس أهل اللغة والنحو، متقنا للأدب عالما بالبيان عارفا بفنونه، مطّلعا على مكنونه. أعرف أهل زمانه، بل الناس، مطلقا به، مائلا إلى الغزل وضروبه، مولعا بالتشبيه والأوصاف، مجيدا فيهما وفي التشبيه أكثر. وكان يقول: لو قيل لي: ما أحسن شعر؟ لقلت: قول العباس بن الأحنف: [البسيط] قد سحّب الناس أذيال الظنون بنا ... وفرّق الناس فينا قولهم فرقا فكاذب قد رمى بالظنّ غيركم ... وصادق ليس يدري أنه صدقا «1» ومن مأثور كلامه في علم البديع قوله في الالتفات: الالتفات، انصراف المتكلم عن الإخبار إلى المخاطبة، ومثاله من القرآن العزيز ب «الحمد لله ربّ العالمين» ثم قال: «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ «2» » . ومثاله في الشعر قول جرير: [الوافر] متى كان الخيام بذي طلوح ... سقيت الغيث أيتها الخيام «3» أو انصراف المتكلم عن المخاطبة إلى الإخبار، كقوله تعالى: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ «4» . ومثال ذلك من الشعر قول عنترة: [الكامل]

ولقد نزلت فلا تظنّي غيرة ... منّي بمنزلة المحبّ المكرم «1» كيف المزار وقد تربّع أهلها ... بعنيزتين وأهلنا بالغيلم وقال: التمام، هو اعتراض كلام في كلام لم يتم معناه، ثم يعود المتكلم فيتمّه وهو أن الكلمة التي إذا طرحت من الكلام نقص حسن معناه ومبالغته أن لفظه يوهم بأنّه تام. ومثاله، قول تعالى «مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً «2» » . فقوله تعالى: «مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى» تتميم، وقوله تعالى وهو مؤمن تتميم ثان في غاية البلاغة التي يذكرها ثم معنى الكلام. وقد ذكر شيخنا أبو الثناء الكاتب في البديع عتاب المرء نفسه، ولم ينشد فيه سوى بيتين، ذكر أن الآمدي أنشدهما عن الجاحظ، وهما: [الطويل] عصاني قومي والرّشاد الذي به ... أمرت ومن يعص المجرّب يندم فصبرا بني بكر على الموت إنّني ... أرى عارضا ينهلّ بالموت والدّم قال شيخنا رحمه الله في حسن التضمين، ومن إنشادات ابن المعتز في هذا الباب: [السريع] أعوذ لمّا بتّ ضيقا له ... أقراصه مني تناسين فبتّ والأرض فراشي وقد ... غنّت قفانبك مصاريني وذكر في الاستطراد أنّ ابن المعتز سمّاه: الخروج من معنى إلى معنى، وفسّره بأن قال: هو أن يكون المتكلّم في معنى فيخرج بطريق التشبيه، أو الشرط أو الإخبار أو غير ذلك إلى معنى آخر يتضمّن مدحا، أو قدحا، أو وصفا ما. وما أنشد فيه: [الطويل] وإنّا لقوم ما نرى القتل سبّة ... إذا ما رأته عامر وسلول وله نثر بديع منه قوله: والأرض عروس مختالة في حلل الأشجار، متوجة بأكليل الأزهار. والجوّ خاطب لها، قد جعل يشير بمحضرة البرق، ومتكلم بلسان الرعد، وينثر من القطر أبدع نثار.

قوله: وطارت به كل خوّارة «1» العنان نازعة الأشطان، تنفر نفار الظليم «2» وتنظر بمقلة غزال تحت سالفة «3» ريم. كأنما خلقت قوائمها من الرياح، واعتصبت ثوب الظلام فلطمها في وجهها الصباح. ومنه قوله: فكم تسنّم من حبل يعطس بأنف شامخ في الهواء ويتفنس، فتصدأ مرآة السماء منه. وقوله: ولولا أن ساحة هذه الأيام قصيرة المساحة، يكاد يشير بالراحة لقصده سعيا على القدمين، ونقل التهنئة إلى قلبه من طريق السمع لا من طريق العين. منه قوله: وسار فلان في جنود عليهم أردية السيوف وقمصان الحديد فكأن رماحهم قرون الوعول، وكأن دروعهم زبد السيول على خيل تأكل الأرض بحوافرها، وتمد بالنقع سرادقها. وقد نشرت في وجهها غرر كأنها صحائف البرق، وأمسكها تحجيل كأنه أساور اللجين، وقرطت غدرا كأنها الشنوف تتلقف الأعداء أوائله، ولم ينهض أواخره. قد صبّ الله عليهم وقار الصبر، وهبّت معهم ريح النصر ومن نظمه قوله: [الطويل] لذي الدّار مني زفرة ونحيب ... وقلبي شج إن لم يمت فكئيب خلا الرّبع من سكّانه ولقد يرى ... جميل بهم والمستزار قريب إذ العيس حلو ليسن فيه مرارة ... هنيّ وإذ عود الزّمان رطيب وفي كلّ تسليم الزّمان تحية ... وفي كلّ لحظ للحبيب حبيب ومنه قوله: [الكامل] وبكيت من طرب الحمائم غدوة ... تدعو الهديل وما وجدت سميعا ساعدتهنّ بنوحة وتفجّع ... وغلبتهنّ تنفّسا ودموعا

أفنى البكاء هموم قلب موجع ... لو كنّ في صخر لكنّ صدوعا يا قلب ليس إلى الصّبا من مرجع ... فاحزن فلست بمثله مفجوعا ومنه قوله: [الكامل] كم ليلة شغل الرّقاد عذولها ... عن عاشقين قواعد اللّقياء عقدا عناقا طول ليلهما معا ... قد ألصقا الأحشاء بالأحشاء حتى إذا طلع الصّباح تفرّقا ... بتنفس وتلهّف وبكاء ما راحنا تحت الدّجى شيء سوى ... شبه النجوم بأعين الرقباء ومنه قوله: [الطويل] أصانع أطراف الدّموع فمقلتي ... موقّرة بالدمع غربا على غرب «1» وهل هي إلّا حاجة قضيت لنا ... ولوم تحمّلناه في طاعة الحبّ ومنه قوله: [الكامل المرفل] لمّا رأيت الدمع يفضحني ... وقضت عليّ شواهد الصبّ ألفيت غيرك في ظنونهم ... وسترت وجه الحبّ بالحبّ ومنه قوله: [المديد] غضب الإدلال من رشأ ... لا بس للحسن جلبابا غصن يهتزّ في قمر ... راكضا للوشي سحّابا أثمرت أغصان راحته ... لجناه الحسن عنّابا «2» ومنه قوله: [الطويل] هي الدار إلّا أنها منهم قفر ... وإني بها ثاو وإنهم سفر

حبست بها لحظي واطلقت عبرتي ... وما كان لي في الصّبر لو كان لي عذر كأنّي وأيامي التي طوت النّوى ... نجيّان باتا دون لقياهما ستر فدع ذكر شيء قد مضى ليس راجعا ... فذلك دهر قد تولّى وذا دهر «1» وقوله: [المنسرح] وشمس ليل طرقتها فبدا ... منها صدود ما كنت أحسبه تقول من جاء وهي تعرفنى ... يا لصّة القلب جئت أطلبه «2» ومنه قوله: ثمّ أتيته بحسن صورته ... عبث الفتور بلحظ مقلته وكأنّ عقرب صدغه احترقت ... لمّا دنت من نار وجنته ومنه قوله: [البسيط] قالوا الفراق غدا لا شكّ قلت لهم ... بل موت نفسي من قبل الفراق غدا إني إذن لصبور إن بقيت وقد ... قالوا الفراق وإن لم يرحلوا أبدا ومنه قوله: [الخفيف] ربّ ليل أحييته بزفير ... وهموم تكوي الحشا والفؤادا بات طرفي يشيّع النجم فيه ... كلّما خلته يسير تمادى ومنه قوله: [الطويل] ومستكبر يزهي بخصر وسارب ... وفترة أجفان وخدّ مورّد تبسّم إذ ما زحته وكأنّما ... تكشف عن درّ حجاب زبرجد

ومنه قوله: [السريع] وفاحم مال على الخدّ ... مثل العناقيد على الورد وصولجان الصّدغ مستمكن ... للضّرب من تفّاحة الخدّ ومنه قوله: [الكامل المرفل] لمّا وقفت بذلت بالهجر ... ورميتني من حيث لا أدري ما كنت تدري كيف تقتلني ... فهجرتني وفطنت للهجر ومنه قوله: [الخفيف] يا هلالا يدور في فلك ال ... بارود رفقا بأعين النظّاره قف لنا في الطريق إن لم تزرنا ... وقفة في الطريق نصف الزّياره ومنه قوله: [السريع] ما أقصر اللّيل على الرّاقد ... وأهون السّقم على العائد تفديك ما أبقيت من مهجتي ... لست لما ألويت بالجاحد كأنّني عانقت ريحانة ... تنفّست في ليلها البارد فلو ترانا في قميص حسب ... تنا من جسد واحد ومنه قوله: [السريع] إن جاء في الليل تجلّى وإن ... جاء صباحا زادنا نورا فكيف أحتال إذا زارني ... حتى يكون الأمر مستورا ومنه قوله: [الكامل المرفل] قالت لأختيها ألم تريا ... إن قد أجدّ البين بالسّفر ما للمضاجع لا تلائمني ... وكأنّ قلبي ليس في صدري

ومنه قوله: [الطويل] ألست ترى النّجم الذي هو طالع ... عليك فهذا للمحبّين نافع عسى يلتقي في الأفق لحظي ولحظه ... ويجمعنا إذ ليس في الأرض جامع ومنه قوله: [الطويل] ومن دون ما أبديت لي يقتل الفتى ... ويمشي جليد القوم وهو ضعيف ولم أدر أنّ البان يغرس في النّقا «1» ... ولا أنّ شمسا في الظلام تطوف «2» ومنه قوله: [البسيط] إني لأحسد كاسا حين يلثمها ... حتى أبيت سخين العين مرتفقا وتنطوي النّفس من وجد ومن أسف ... إذا غدا لنجاد السّيف معتنقا ومنه قوله: [الكامل المرفل] لجّ الفراق فويح من عشقا ... ما الدمع إلّا للنّوى خلقا أرأيت لحظتها وما صنعت ... هل بعدها للعاشقين بقا يا صاحبيّ ترقّبا تلفي ... إن لم يطر قلبي فقد خفقا ومنه قوله: [الكامل] ومتيّم جرح الفراق فؤاده ... فالدّمع من أجفانه يتدفّق هزّته ساعة فرقة فكأنما ... في كلّ عضو منه قلب يخفق ومنه قوله: [الخفيف] شفّعيني يا شرّ في ردّ قلبي ... فلقد طال حبس قلبي لديك «3»

وأذني في الرّقاد لي إنّ عيني ... تستعير الرّقاد من عينيك أوهبي لي صبرا أردّ به الدم ... ع فإني أخاف دمعي عليك ومنه قوله: [البسيط] إنّ الّذين بخير كنت تذكرهم ... قضوا عليك وعنهم كنت أنهاكا «1» لا تطلبنّ حياة عند غيرهم ... فليس يحييك إلّا من توفّاكا ومنه قوله: [الطويل] أعاذلتي لا تعذلي عاشقا مثلي ... ولكن دعيه واعذري الحبّ من أجلي «2» ونوحي على صبّ بكت عائداته ... صريع القدود الميل والأعين النّجل رمين فلما أن أصبن مقاتلي ... تولّين فانضمّت جراحي على النّبل ومنه قوله: [المنسرح] صدّت شرير فما تكلّمني ... كم ذا التجنّي على المحبّ كم دعت خلا خيلها ذوائبها ... فجئن من رأسها إلى القدم ومنه قوله: [مخلع البسيط] تعال قد أمكن المكان ... واجسر على القلب يا جبان عجّل فإنّ الزمان غرّ ... من قبل أن يفطن الزّمان ومنه قوله: [الكامل] كم ليلة عانقت فيها بدرها ... حتى الصباح موسّدا كفيّه «3» ما زلت أشرب خمرة من ريقه ... وتحيّتي تفاحتا خدّيه فسكرت لا أدري أمن حبل الهوى ... أم كأسه أم فيه أم عينيه

ومنه قوله: [الوافر] قلوب الناس أسرى في يديه ... وثوب الحسن مخلوع عليه «1» أسرّ إذا بليت وذاب جسمي ... لعلّ الريح تحملني إليه ومنه قوله: [الكامل] وبكيت من جزع لنوح حمامة ... تدعو الهديل فظلّ غير مجيبها نحنا وناحت غير أن بكاءنا ... بعيوننا وبكاءها بقلوبها منع الزيارة من شريرة خائف ... لو يستطيع لبات تحت جيوبها ساءت بك الدّنيا وسرّت مرة ... فأراك من حسناتها وذنوبها ويجرّ لي بالمطل موعد حاجة ... لو شئت قد برد الغليل بطيبها محبوسة في كفّ مطلك طالما ... عذّبتني وشغلت آمالي بها ومنه قوله: [الكامل] صدّت وأغرت طيفها بمتيّم ... إن الفراق لمغرم بالمغرم وبدت فحسبك من وشاح ناطق ... كثرت وساوسه وحجل مفحم «2» وكأن فاها بعد آخر رقدة ... متسحّر بعقاردنّ معلم ومنه قوله: [المنسرح] وكم عناق لنا وكم قبل ... مختلسات حذار مرتقب «3» نقر العصافير وهي خائفة ... من النّواطير يانع الرّطب ومنه قوله: [الخفيف] قل لأحلى العباد شكلا وقدّا ... أبجدّ ذا الهجر أم ليس جدّا

ما ترى في متيّم بك صبّ ... خاضع لا يرى من الذلّ بدّا إن زنت عينه بغيرك فاجلد ... ها بطول السّهاد والدمع حدّا «1» ومنه قوله: [الوافر] لقد هتكت دموع العين ستري ... وأحرقني هواه بغير نار ويخجل حين يلقاني كأني ... أنقّط خدّه بالجلّنار ومنه قوله: [المتقارب] وفي عطفه الصّدغ خال له ... كما أخذ الصولجان الكره ومنه قوله: [البسيط] سقى الجزيرة ذات الظل والشجر ... ودير عبدون هطال من المطر «2» فطالما نبّهتني للصبوح بها ... في غرّة الفجر والعصفور لم يطر «3» أصوات رهبان دير في صلاتهم ... سود المدارع نعّارين في السّحر «4» مزنّرين على الأوساط قد جعلوا ... على الرءوس أكاليلا من الشّعر لا حظته بالهوى حتى استقاد له ... طوعا وأسلفني الميعاد بالنظر فقمت أفرش خدّي في الطريق له ... ذلا وأسحب أذيالي على الأثر «5» وكان ما كان مما لست أذكره ... فظنّ خيرا ولا تسأل عن الخبر ومنه قوله: [الطويل] له شافع في القلب مع كلّ زلّة ... فليس بمحتاج الذّنوب إلى العذر

تجاذبني الأطراف بالوصل والقلى ... فتختصم الآمال واليأس في الصّدر ومنه قوله: [الطويل] ولمّا لحقنا الظّاعنين وأرقلت «1» ... جمال بنا تشكو الكلال ونوق أثرن على خوف بأغصان فضّة ... مقوّمة أثمارهنّ عقيق سلاما كأسقاط النّدى تحت ليلة ... سرى حين لم يعلم إليه طريق وشكوى لو انّ الدمع لم يطف حرّها ... تولّد منها بينهنّ حريق ومنه قوله: [الطويل] ألا لا أرى كالدّار إذ نحن جيرة ... تسافر فيما بيننا الكتب والرّسل بسرّ أحاديث عذاب لو انّها ... جنى النّحل لم تلفظ حلاوتها النّحل ومنه قوله وتروى لغيره: [الوافر] نضت عنها القميص لصبّ ماء ... فورّد خدّها فرط الحياء فلما أن قضت وطرا وهمّت ... على عجل لتأخذ بالرّداء رأت شخص الرقيب على تدان ... فأسبلت الظلام على الضّياء فغاب الصّبح منها تحت ليل ... وظلّ الماء يقطر فوق ماء ومنه قوله: [الطويل] فيا ربّ يوم لا يواري نجومه ... مددت إلى المظلوم فيه يد النّصر فسبحان ربّي ما لقوم أرى لهم ... كوامن أضعان كواكبها تسري إذا ما اجتمعنا في النديّ تضاءلوا ... كما خفيت مرضى الكواكب في الفجر ومنه قوله: [الخفيف] قد تردّيت بالمكارم حولي ... وكفتني نفسي من الافتخار

أخزن الغيظ في قلوب الأعادي ... وأحلّ العدوّ دار الصّغار «1» أنا جيش إذا غدوت وحيدا ... ووحيد في الجحفل الجرّار ومنه قوله: [الطويل] سلي [بي] «2» إذا ما الحرب دارت بأهلها ... ولم يك فيها للجبان قرار وقام لها الأبطال بالبيض والقنا ... وهبّت رياح الآخرين فطاروا إذا شئت أو قدت البلاد حوافرا ... وسارت ورائي هاشم ونزار ومنه قوله: [الكامل] كم فتنة لا قيت فيها فرصة ... فحسمتها ووثبت قبل وثوبها أسد الفوارس في الوقائع لا تطا ... إلّا على الأقران يوم حروبها راعيت جانبها بلحظ حازم ... فطن بعقرب غلّة ودبيبها بعزائم أغمرتها في ضمنة ... لا يكشف الأوهام ستر غيوبها «3» ولربّ سمع قد قرعت بحجّة ... هذّبتها من شكّها وعيوبها أثنى عليها بالصواب حسودها ... وقضى عليها خصمها بوجوبها أعطى لها التوفيق من قسماته «4» ... بيضاء ساطعة لمن يسري بها ومنه قوله: [المديد] جمّع الله «5» لنا في إمام ... قتل البخل وأحيا السّماحا

إن عفا لم يلغ لله حقّا ... أو سطا لم يخش منه جناحا وله من رأيه عزمات ... وصل الله بهن النّجاحا ومنه قوله: [الكامل] أو كالسّماء على الأنام فحيثما ... كنتم رمتكم لفتة من خالق «1» لا تحسبوا اليوم الجديد كأمسكم ... أين الصباح من الظلام الغاسق فطن الصنائع بالوفاء وأهله ... وسيوفه يعرفن كلّ منافق ومنه قوله: [الطويل] جفوني وراموا موضعي فسباهم ... قصورهم عني وإني مع النّسر تميل صروف الدهر حيث أميلها ... وأقسمها حالين بالنهي والأمر ومنه قوله: [البسيط] تمري أنامله الدنيا لصاحبها ... ونصله من عداه قاطر دامي كالسّهم يبعثه الرّامي فصفحته ... تلقى الرّدى دونه والصيد للرامي مستيقظ لا يفكّ الشكّ عزمته ... كأن أوهامه أنصار أقوام لا يشتكي الدهر إن خطب ألمّ به ... إلا إلى صعدة أو حدّ صمصام ومنه قوله: [الطويل] قدحتم زناد الحرب أول مرّة ... لنا وخلعتم بيننا ربقة «2» العهد وفاخرتهم قوما بهم فاز قدحكم ... وهم علّموكم في الملا حبوة المجد فلذنا بركن الصّبر وانتصفت لنا ... صوارم تعدينا إذا قلّ من يعدي

ومنه قوله: [الطويل] ولمّا تلاقينا وهزّت رماحنا ... وجرّد منها كلّ أبيض باتر رأوا معشرا لا يبصر الموت غيرهم ... فما برحوا إلّا برجم الحوافر ومنه قوله: [الكامل] يا من يدس «1» لي العداوة صنعة ... أسريت لي فاصبر على الإدلاج فتح العدا باب المكيدة والأذى ... فاعجب لخرّاج لها ولّاج «2» أنا كالمنيّة سقمها قدّامها ... طورا وطورا تبتدي فتفاجي ومنه قوله: [الطويل] إذا أظلمت آراء قوم رماهم ... برأي يجلّي الخطب والخطب مظلم ويرعى صواب القوم منهم بفكرة ... إذا جمعت أقطاره نطق الفم له كرم من نفسه وعطائه ... وبعض عطاء المفضلين تكرّم إذا ما جنى الجاني وإن جلّ جرمه ... فغفرانه في سخطه يتحكّم ومنه قوله: [الطويل] أبا حسن ثبّتّ في الأمر وطأة ... وأدركتني في المعضلات الهزائز وألبستني درعا عليّ حصينة ... فناديت صرف الدهر هل من مبارز ومنه قوله: [الكامل] أبت الحوادث أن يدوم بقاء ... أو أن يردّ قضاءهنّ قضاء يعدو فتفترس النفوس كأنّه ... أسد توثّب في السّوام «3» ضراء والدّهر أهوج عاثر بخطامه ... عسر الخليقة هادم بنّاء

ومنه قوله: [الطويل] وغرس من الأحباب غيّب «1» في الثّرى ... وأسقته أجفاني بسحّ وقاطر فأثمر همّا لا يبيد وحسرة ... لقلبي يجنّيها بأيدي الخواطر ومنه قوله: [الكامل المرفل] ما قرّ في أيدي قوابله ... حتى أذيق الصّاب بالعسل والدّهر لا يبقي على أحد ... والموت هجّام على الأجل ومنه قوله: [المتقارب] وإن فرصة أمكنت بالعدوّ ... فلا تبد فعلك إلّا بها فإن لم تلج بابها مسرعا ... أتاك عدوّك من بابها ومنه قوله: [البسيط] أشكو إلى الله أخدانا من الزمن ... برين جسمي بري القدح بالسّفن «2» وكلّ بي دون خلق الله كلّهم ... فليتني لم أر الدنيا ولم ترني يا نفس صبرا وإلّا فاهلكي جزعا ... إنّ الزمان على ما تكرهين بني تلفّتي وسلي هذا وذاك وذا ... بأنهم لم يخس دهر ولم يخن لا تحسبي أنعما سرّتك صحّتها ... إلّا مفاتيح أبواب من الحزن ما المرء إلّا كعبد السّوء يضربه ... سوط الزمان ولا يمشي على السّفن ومنه قوله: [الطويل] مضى عجبي من كل شيء رأيته ... وباتت لعينيّ الأمور اللّوابس فإني رأيت الدّهر في كلّ ساعة ... يسير بنفس المرء والمرء جالس وتقتاده الآجال حتى تحطّه ... إلى تربة فيها لهنّ فرائس

وأصدع شكّي باليقين وإنّني ... لنفسي على بعض المساءة حابس ومنه قوله: [مجزوء الرمل] إنما شيب الفتى ... ناصح إن فعلا ما على الناصح أن ... ينتهي من جهلا ومنه قوله: [الطويل] رأت أقحوان الشّيب لاح وأذّنت ... ملاحات أيّام الظبا بوداع فقالت محاك الدّهر من صبغة الصّبا ... وكنت من الفتيان خير متاع ومنه قوله: [الكامل] لا تقصرنّ عن الشّباب وطيبه ... ونفاق رتبته على الأحباب واغمره باللّذات ما صلحت له ... فإذا مضى لم تبك فقد شباب هذا الذي يبكي الشباب وطيبه ... أبدا ويرفع شيبه بخضاب لو كان أعطى نفسه لذّاتها ... لتفرّغت بعد الصبا لمتاب ومنه قوله: [المتقارب] تفقّد مساقط لحظ المريب ... فإنّ العيون وجوه القلوب وطالع بوادره في الكلام ... فإنك تحيي ثمار الغيوب ومنه قوله: [مجزوء الكامل] خلّ الذنوب صغيرها ... وكبيرها فهو التّقى كن مثل ماش فوق أر ... ض الشّوك يحذر ما يرى لا تحذرنّ صغيره ... إنّ الجبال من الحصى ومنه قوله: [الطويل] وكيف التّصابي بعد ما ذهب الصّبا ... وقد ملّ مقراضي عتاب مشيبي

خلت من طروقي كلّه وحجالها ... وبانت كلاب الحي بعد هبوب ومنه قوله: [الوافر] فإن يكن المشيب طرا علينا ... وأودى بالبشاشة والشّباب فإني لا أعذّبه بشيء ... أشدّ عليه من نتن الخضاب رأيت الشّيب والحنّاء عذبا ... فسلّطت العذاب على العذاب ومنه قوله: [السريع] سابق إلى مالك ورّاثه ... ما المرء في الدنيا بلبّاث كم صامت «1» يخنق أكياسه ... قد صاح في ميزان ميراث ومنه قوله: [البسيط] وعاقد فوق أموال يجمّعها ... قد أصبحت بعده محلولة العقد ومبرم أمره والدهر ينقضه ... هل غالب الدهر يا للناس من أحد وقوله في ضدّ هذا: [السريع] يا ربّ جود جرّ فقر امرئ ... فقام للناس مقام الدّليل فاشدد عرى مالك واستبقه ... فالبخل خير من سؤال البخيل وقوله: [مخلع البسيط] لم أخضب الشّيب للغواني ... أرجو به عندها ودادا لكن خضابي على شبابي ... لبست من فقده جرادا «2»

وقوله: [الكامل] غضبت شرير وأزمعت هجري ... وصغت ضمائرها إلى الغدر «1» قالت كبرت وشبت قلت لها ... هذا غبار وقائع الدّهر وقوله: [الخفيف] لست تنجو من كلّما حدت عنه ... فاسحب الصّبر دائما واستعنه وتيقّظ إذا اضطررت إلى وص ... ل عدوّ وكن على الخوف منه وقوله: [الطويل] وقلت لنفسي هل لجهلك غاية ... فقالت قد انتهيت منه إلى العلم تردّد أنفاسي بباقي حشاشة ... ضعيفة سلطان الحياة على جسمي وأرخي لهم أنّي صحيح تجلدي ... وكم تحت صبري لو تكشّف من كلم وقوله: [الطويل] ألست ترى شيبا لرأسي شاملا ... ونت حيلتي فيه وضاق به ذرعي كأنّ المقاريض «2» التي تعتور به ... مناقير طير تنتقي سبل الزّرع وقوله: [المتقارب] كأنّ نجوم الدّجى في الدّجى ... موار يفرّقن عن صائد «3» وقوله: [الطويل] وخلت نجوم اللّيل في حومة الدّجى ... حصاصا أرى منها النهار وأنقابا

وقوله: [الطويل] كأنّ نجوم الزهر في حجراتها ... دراهم زيف لم يحزن على نقد وقوله: [الطويل] وقفت نهار الصّبح ينتهب الدّجى ... بأضوائه والشّهب تركض في الغرب وقوله: [الطويل] كأنّ نجوم اللّيل في حومة الدّجى ... رؤوس مدار ركّبت في معاجز وقوله: [الرجز] كأنّما الجوزاء في أعلى الأفق ... أغصان نور أو وشاح من ورق وقوله: [الطويل] وقد صيغت الجوزاء حتى كأنّها ... وراء نجوم هاويات وغوّر صنوج «1» على رقّاصة قد تمايلت ... لتلهي سربا بين دفّ ومزهر وقوله: [السريع] قد لاحت الشّعرى وجوزاؤها ... كمثل زجّ جرّه رامح وقوله: [الطويل] وقد لاح للساري سهيل كأنّه ... على كلّ نجم في السّماء رقيب وقوله: [الكامل] ورنا إليّ الفرقدان كما رنت ... زرقاء تنظر من نقاب أسود

وقوله: [الرّجز] قد صيغت العقرب للمغارب ... بذنب كصولجان اللّاعب وقوله في الثريا، وتسمّيها العرب: النجم: [الرّجز] والنجم في غرّة فجر مسرج ... كالمستظلّ باللهب المزجّج وقوله: [الرّجز] والنجم في طرّة ليل مسفر ... كأنه غرّة مهر أشقر وقوله: [مجزوء الرمل] والثّريّا مثل كأس ... حين تبدو ثم تغرب وكأن الشرق ساق ... وكأن الغرب يشرب وقوله: [الكامل] وأرى الثّريّا في السماء كأنّها ... قدم تبدّت في ثياب حداد وقوله: [الطويل] فناولنيها والثريّا كأنّها ... جنى نرجس حيّا الندامى به السّاقي وقوله: [مجزوء الخفيف] والثّريّا كنور غصن ... على الغرب قد نثر وقوله: [الطويل] كأنّ الثّريّا في أواخر ليلها ... تفتّح نور أو لجام مفضّض وقوله فيها وقد طلعت عند الصباح: [مجزوء الرجز] والصّبح في أفقه ... ذو غرّة واقده تهوي الثّريّا له ... في غربها ساجده

وقوله: [الوافر] وقد لاحت لساريها الثّريّا ... كأنّ نجومها نور الأقاحي وقوله: [البسيط] والنجم في أخريات اللّيل مضطرب ... كأنه خابط في لجّة غرق وقوله فيها وقد طلعت عند الصباح: [مجزوء الرّمل] وكأنّ الصّبح لمّا ... لاح من تحت الثّريّا ملك أقبل في التا ... ج تقرّى وتحيّا وقوله: [البسيط] وقد هوى النجم والجوزاء تتبعه ... كذات قرط أرادته وقد سقطا وقوله في النيرين: [مجزوء الكامل] ولقد رأيت الشمس تت ... لو البدر في أفق السّماء فكأنّها وكانّه ... قد حان من جمر وماء وقوله في البدر تحت الغيم: [البسيط] والبدر يأخذه غيم ويتركه ... كأنّه سافر عن خدّ ملطوم وقوله في الهلال عند الصباح: [الرّجز] إذا الهلال فارقته ليلته ... بدا لمن يبصره وينعته كأنّه أسمر شابت لحيته وقوله: [البسيط] ولاح ضوء هلال كان يفضحنا ... مثل القلامة قد قدّت من الظفر

وقوله: [الكامل] هذا هلال الفطر جاء مبكّرا ... فالآن فاغد على الصّبوح وبكّر وحكي أنه اجتمع هو وابن الرمي، فقال له ابن المعتز: أنا أحسن تشبيها منك. قال: بماذا؟ قال: بقولي في هلال الفطر، وانشده إيّاهما. فقال ابن الرومي: أنت ملك وأنا سوقة. وأنت شبهت بما له مثال عندك ولا مثال لهذا عندي؛ ولكن سلني تشبيه ما عندي، ففتح ابن المعتز كوّة في داره ترمي على صانع رقاق. فقال له: دونك وما شئت، فقال ولم يتوقّف: [البسيط] ورب صانع خبز قد مررت به ... يدحي الرّقاقة وشك اللّمح بالبصر ما بين رؤيتها في كفّه كرة ... وبين رؤيتها قوراء كالقمر إلّا بمقدار ما تنداح دائرة ... في صفحة الماء تلقى فيه بالحجر فقال له ابن المعتزّ: أحسنت والله، أنت أشعر منّي. عدنا إلى أبي العباس ابن المعتز، ومنه قوله في محاق هلال الصيام مع طلوع الثريّا: [المنسرح] قد انقضت دولة الصّيام وقد ... بشّر سقم الهلال بالعيد يتلو الثّريا كفاغر شره ... يفتح فاه لأكل عنقود وقوله في هلال المحاق وطلوع الصبح مع المشتري: [الكامل] في ليلة أكل المحاق هلالها ... حتى تبدّى مثل وقف «1» العاج والصّبح يتلو المشتري فكأنّه ... عريان يمشي في الدّجى بسراج وقوله في الليل المقبل: [مجزوء الكامل] حتى رأيت الليل في ال ... آفاق مسودّ الذوائب فكأنّه لمّا تبدى في ال ... مشارق خطّ شارب

والشّمس تنزع نصفها ... والغرب محمرّ الجوانب وقوله يصف الليل وهو من التشبيهات العقم: [المتقارب] عسى الشمس قد مسخت كوكبا ... وقد طلعت في عداد النّجوم وقوله في النهار ووصف قصره: [الطويل] ألا ربّ يوم لي وقصر نهاره ... كسلّة سيف أو كرجمة كوكب وقوله في الفجر: [الرجز] حتى إذا النّجم بدا لي كالقبس ... قام النهار في ظلام قد جلس والفجر في المشرق كالثغر النّسق ... كأنّه ألقى على الأرض الطبق وقوله: [المنسرح] أما ترى الفجر تحت ليلته ... كموقد بات ينفخ الفحما وقوله في الصباح: [الوافر] كأن الصّبح تحت الليل باد ... جواد أشهب ملقى الجلال وقوله: [البسيط] وقد أحاذي عنان الصبح مبتكرا ... واللّيل مفتضح الأكناف منصرف والرّيح تصقله ريح شآمية ... والصّبح كالفرق تحت الليل منكشف وقوله: [البسيط] واللّيل كالحلّة السوداء لاح بها ... من الصباح طراز غير مرقوم وقوله: [الرّجز] قد أغتدي والصّبح في إهابه ... كالحبشي فرّ من أصحابه والصّبح قد كشّف عن أنيابه ... كأنه يضحك من ذهابه

وقوله في المزنة: [البسيط] ومزنة جاد من أجفانها المطر ... فالرّوض منتظم والقطر منتثر ترى مواقعه في الأرض لائحة ... مثل الدّراهم تبدو ثم تستتر وقوله في مثله: [مجزوء الكامل] وسحابة مملوءة حي ... لا رواياها مواقر «1» تدع السّماء كأنّها ... وشل تكدّره الأعاصر وقوله: [مجزوء الرجز] باكية تضحك عن بروق ... سرت بجيب في الدّجى مشقوق مالت إلى المحل اليبيس الرّيق ... كميل عشّاق إلى معشوق تبكي بدمع الواله المعشوق «2» وقوله في البرق خلل الرعد والودق: [الخفيف] وكأنّ البرق مصحف قار ... فانطباقا مرة وانفتاحا في ركام قد ضاق بالماء ذرعا ... حيثما مالت به الريح ساحا لم يزل يطمع باللّيل حتّى ... خلته نبّه فيه صباحا وقوله في البرق والودق: [الطويل] لذي ليلة خوارة المزن كلّما ... تنفّس في أرجائها المزن أسبلا كأنّ عليها من سقيط قطارها ... جمانا وهت أسلاكه فتفصّلا

وقوله في البرق: [الكامل] كم في ضمائر ومضة من روضة ... بمسيل ماء أو قرارة واد تبدو إذا جاء السّحاب بقطرة ... فكأنّما كانا على ميعاد وقوله: [المديد] هل ترى برقا عناني سناه ... خاض نحو الليل والليل غمر مثلما مدّ سرادق ملك ... فهو يسمو انارة وبحر لاح لي أوّل ما لاح منه ... طائر في الأفق لا يستقر وقوله: [الطويل] وشقّق أعراف السحاب التماعه ... كما انصدعت بالمشرفي القوانس كأن النساء البيض في حجراته ... تكشّف عن أجسادهن الملابس وقوله: [الرمل] من رأى خفقة برق لامع ... في أديم الأرض يفري ويدع سابق حبل سحاب أوقرت ... تعد الوادي سيلا ما اتّسع ضمنت أيدي جنوب أنّها ... أبدا تقبلها حتى تضع وغدت تنفض ريحان النّدى ... كسراج في دجا اللّيل لمع وقوله: [الطويل] وإني بضوء البرق من نحو دارها ... إذا ما دعانا لمحة لموكّل تشقّق واستدنى كما صدّع الدّجى ... سنا قبس في جذوة يتآكل وقوله في البرق وقت الأصيل: [السريع] شوّقنا البارق عند الأصيل ... والشمس ترمينا بلحظ كليل يبدو ويخفى ضوؤه ساعة ... عنّا كتقدير زناد البخيل

وقوله في رياح ساقت مطرا: [الكامل] حملت كواهلها روايا مزنة ... كالبحر ذي الآذيّ والأمواج مفتونة بالبرق يضحك أفقها ... في ليلة ظلماء ذات دواجي فتحمّلت عقد السماء بوابل ... واهي المراد محلّل الأسراج وقوله في الاستسقاء: [المنسرح] قلت وقد ضجّ رافع يده ... دعوا البرايا فالله يكلأها واستيقنوا منه بالرّواء كما ... أبطأ وقر الدلاء أملؤها وقوله في زناد النار: [الطويل] مشهّرة لا يحجب الخل ضوؤها ... كأن سيوفا بين عيدانها تجلى تفرّح أغصان الوقود إذا ارتقت ... كما شقّت الجوزاء عن مسّها جلا وقوله في النسيم الرطب: [الخفيف] ونسيم يبشّر الأرض بالقط ... ر كذيل الغلالة المبلول ووجوه البلاد تنتظر الغي ... ث انتظار المحبّ ردّ الرسول وقوله في وصف الروض: [البسيط] وروضة بات ظلّ الغيث يسجمها ... حتى إذا ألجمت أضحى يدبّجها تبكي عليها بكاء الصب فارقها ... إلف فيضحكها طورا ويبهجها إذا تنفّس فيها ورد نرجسها ... ناجى جنيّ خزاماها بنفسجها وقوله: [البسيط] تضاحك الشمس أنوار الرياض بها ... كأنما نثرت فيها الدنانير وتأخذ الريح من دخّانها عبقا ... كان من تربها مسك وكافور

وقوله في تبسم الزهر بعد تجهّم المطر: [مخلع البسيط] في كلّ يوم جديد روض ... عليه دمع النّدى حبيس ومأتم في السّماء يبكي ... والأرض من تحته عروس وقوله فيه: [مجزوء الكامل] دمن كأن رياضها ... يكسين أعلام المطارف وكأنّما غدرانها ... فيها عشور في مصاحف وكأنّما أنوارها ... تهتزّ بالرّيح العواصف وكأنّ لمع بروقها في (م) ... الجو أسياف مناقف «1» وقوله في النزول مع الصباح على عال من البطاح: [الطويل] ولمّا تعرّى اللّيل من حلّة الدّجى ... وغمّض جفن النجم من مضض السّهر نزلنا على علياء كالطّود يرتقى ... إليها نسيم ليس في صفوه كدر وقوله يصف القصور بالثريا، وكتب بها إلى المعتضد: [الطويل] حللت الثّريّا خير دار ومنزل ... فلا زال معمورا وبورك من قصر وما زال يرعاه الإمام برأيه ... إلى أن تردّى فوق عطفيه بالفجر وتمّ فما في الحسن شيء يزيده ... لسان ولا قلب بقول ولا فكر جنان وأسحار تلاقت غصونها ... فأوقرن بالأثمار والورق الخضر ترى الطير في أغصانهنّ هواتفا ... تنقّلن من وكر لهنّ إلى وكر وبنيان قصر قد علت شرفاته ... كصفّ نساء قد تربّعن في الأزر وأنهار ماء كالسّلاسل فجّرت ... لتوضع أولاد الرياحين والزّهر وميدان وحي تركض الخيل وسطه ... فتأخذ منها ما تشاء على قسر

وقوله يصف منزلا حسنا: [الكامل] ما مثل منزلة الدّويرة منزل ... يا دار جادك وابل وسقاك بؤسا لدهر غيّرتك صروفه ... لم يمح من قلبي الهوى ومحاك لم يحل بالعينين بعدك منظر ... ذمّ المنازل كلّهن سواك أيّ المعاهد منك أندب طيبة ... ممساك ذا الاصال أم مغداك أم برد ظلّك ذي الغصون وذي الحيا ... أم أرضك الميثاء «1» أم ريّاك وكأنّما «2» سطعت مجامر عنبر ... أم فتّ فأر «3» المسك فوق ثراك وكأنّما حصباء أرضك جوهر ... وكأنّ ماء الورد دمع نداك وكأنّما «4» أيدي الربيع صحية ... نشرت ثياب الوشي فوق ثراك فكأن درعا مفرغا من فضّة ... ماء الغدير جرت عليه صباك وقوله في مثله: [الخفيف] يا ديارا في ربى الخلد أضحت ... تلبس الرّوض عليها وشاحا لو حللناك وسط جنّة عدن ... لاقترحناك عليها اقتراحا وقوله في منزل داثر: [مجزوء الكامل] ولقد عفت آياته ... فكأنها ترقيش ساطر وكأنّما سحبت علي ... ها الرّيح أطراف المآزر وقوله: [الرجز] على حفافي جدول مسحور ... أبيض مثل المهرق المنشور

أو مثل متن المنصل المشهور ... ينساب مثل الحيّة المذعور وقوله: [الخفيف] فتبدّى لهنّ بالنجف المق ... فر ماء صافي الحمام عريّ تتمشّى على حصى يسلب الما ... ء قذاه فمتنه مجليّ وإذا ضاحكته ذرّة شمس ... خلته كسّرت عليه الحليّ وقوله في منهل: [الطويل] وكم «1» منهل ينضي المطايا طرقته ... وما صاحبي إلّا المطيّة والرحل له طرق تأتيه من كل جانب ... جديد وبال مثلما نقض الحبل يذيب عليه الظلّ أفنان سدرة ... كمهرة خيل مال عن متنها الحلّ وقوله في لجّة صافية: [الطويل] ترى فوقها مثل الدّروع وربّما ... رأيت لها أعكان «2» جارية بكر يريك بعيد الماء صفو قريبها ... وتعطيك سرّ الأرض والأرض لا تدري وقوله في النرجس: [البسيط] وزعفرانيّة في اللون تحسبها ... إذا تأملتها في ثوب كافور كأن حبّ سقيط الظل بينهما ... دمع تحيّر في أحداق مهجور وقوله في الآذريون «3» : [مجزوء الرجز] عيون آذريونها «4» ... للشّمس فيها كاليه «5»

مداهن من ذهب ... فيها بقايا غاليه وقوله في الشقيق: [الطويل] تحمّل آذريونة فوق أذنه ... ككأس عقيق في قرارته مسك وقوله في السرو: [الكامل] حفّت بسرو كالقيان تلبّست ... خضر الثّياب على قوام معتدل فكأنّها والريح يخصر بينها ... تنوي التعانق ثم يمنعها الخجل وقوله في لجة أخرى في السفن: [السريع] وخيل ماء لي طيّارة ... تدبر بي إن شئت أو تقبل تلاطم الماء مجاذيفها ... موقورة حاملة تحمل وقوله في السفينة: [الطويل] كأن جواريها وقد حثّ جريها ... بهنّ نسور قد هوين إلى وكر كستهنّ كفّ الماء أثواب طحلب ... فجئن لشطّ النّهر في حلل خضر تراهنّ فوق الماء طورا موائلا ... وطورا كأمثال المثقّفة السّمر كمثل النّشاوى تبصر الخمر مرّة ... عليهم وأخرى يبصرون على الخمر سأختار من دهم السفين جنيبة ... مودّعة الجنبين والصّدر والنّحر كريح سليمان النبي غدوّها ... مدى الشهر والإمساء منها مدى الشّهر تخوض أهاويل الظّلام بصيرة ... شموسا ولكن لا تطيع على قسّر إذا طرقت تحت الدّياجي رأيتها ... كأحشاء محبوب الفؤاد من الذّعر وقوله في الدليل: [الكامل] ثم استثارهم دليل فارط ... يسمو لغايته بعيني أجدل سار بلحظته إذا اشتبه الهدى ... بين المجرّة والسّماك الأعزل

وقوله في اتفاق القلوب: [الكامل المرفل] يا ربّ إخوان صحبتهم ... لا يملكون لسلوة قلبا لو تستطيع نفوسهم ركبت ... أجسامها وتعانقت حبّا وقوله في الجلالة: [الكامل] وإذا بدا ملأ العيون مهابة ... فتظلّ تسرق لحظها وتسرّه وكأنما رفع الحجاب لناظر ... عن صبح ليل قد توقّد فجره وقوله في حاسد مبتسم: [الكامل المرفل] متضاحك نحوي كما ضحكت ... نار الذّبالة وهو يحترق وقوله في ولد جميل جاء من سوداء: [الطويل] وجاءت به أمّ من السود أنجبت ... كليلة سرّ طوّقت بهلال وقوله في كتمان السرّ: [البسيط] وربّ سرّ كنار الصّخر كامنة ... أمتّ إظهاره مني فأحياني لم يتّسع منطقي فيه ببائحة ... حزما ولا ضاق عن مثواه كتماني وقوله: [الرّمل] لا تلم من لم يصن سرّك إذ ... لم تصنه وتوقّ وانتبه لا يكون السرّ إلا كاسمه ... لا يسمّى السرّ ما قد بحت به وقوله في كاتب: [البسيط] تظل أقلامه ينظمن من حكم ... درّا مباحا لنا منه بلا ثمن وقوله في كاتب حنكته التجارب: [الطويل] عليم بأعقاب الأمور كأنه ... بمختلسات الظنّ يسمع أو يرى

إذا أخذ القرطاس خلت يمينه ... تفتّح نورا أو تنظّم جوهرا وقوله في عنين: [المتقارب] وأفتى «1» النميري قوّاده ... وفتيا النّميري فسق ورعي فإنّك «2» قين «3» تحدّ السلاح ... وليس عليه من القطع شيّ وقوله يصف مصلحا: [الكامل المرفل] إن يغفلوا يسرع لحاجته ... وإذا رأوه أحسن العذرا فطن يؤدي ما يقول له ... ويزيد بعض حديثنا سحرا وقوله وقد قصد الخليفة: [الخفيف] إنما غيّب الطبيب سنا المب ... ضع في نفس مهجة الإسلام وقوله في خيبة الآمال لذي قوم: [الطويل] فاصبحت أرجوهم رجاء يكدّني ... فليس له حتى القيامة آخر كمرسل دلو في رشاء موصّل ... يلاطم أرض البئر والبئر غامر «4» وقوله يصف عوديه: [الطويل] وقمريّة الأصوات حمر ثيابها ... تهين ثياب الوشي جرّا وتسحابا وتلقط يمناها إذا ضربت به ... وتنشر يسراها على العود عنّابا

وقوله يصف حسن الحديث: [المديد] وحديث قد جعلت له ... دون علم النّاس حجّابا لا يملّ السمع «1» رجعته ... مفتن يعجب إعجابا وقوله في وصف الموتى: [الطويل] وسكان أرض لا تزاور «2» بينهم ... على قرب بعض في التجاور من بعض كأن خواتيما من الطين أفرغت «3» ... فليس لها حتّى القيامة من فضّ وقوله في رؤوس حملت على رماح: [الكامل] بيض «4» ومسّهم الهجير بسمرة ... مثل البدور سطعن تحت شحوبها حتى بحمل رؤوسهنّ خطيئة ... لا يحسد الماشي علوّ ركوبها وقوله يصف دواة من أبنوس محلّى بفضّة: [الطويل] وزنجية رومية «5» الحلي فوقها ... جناح لها فرد على الماء يخفق يؤدّبها أولادها بعصيّهم ... فتحبس قسرا كيف شاؤوا «6» وتطلق وقوله في القلم: [الرجز] أرقط ذو لون كشيب المكتهل ... يقيم وزن العقل حتى يعتدل يخاطب اللّحظ بنطق لا يكلّ ... ولا يملّ صاحبا حتى يملّ

وقوله في الأقلام: [الكامل] يحملن وفد الشّكر فوق رحالها ... والشاكر النّعماء كالجازي بها وقوله في انهمار الدرّ: [الطويل] إذا ما أراد الله جادت بحافل ... كما سلّ خيط من سدى الثّوب فانسابا رأيت انهمار الدرّ بين فروجها ... كما عصرت أيدي الغواسل أثوابا وقوله إذا بشّر الديك في الصباح بالصياح: [المنسرح] بشّر بالصبح طائر هتفا ... مستوفيا للجدار مشترفا مذكّرا بالصلاة «1» قام بنا ... كخاطب فوق منبر وقفا صفّق إمّا ارتياحه لسنا ال ... فجر وإما على الدّجى أسفا وقوله في الحيّة: [البسيط] وأنعت رقطاء لا نحيا للدغتها ... لو قدّها السيف لم يلحق به البلل تلقى إذا انسلخت في الأرض جلدتها ... كأنّها كمّ درع قدّه بطل وقوله يصفها: [البسيط] كأنّها حين تبدو من مكامنها ... غصن يفتّح فيه النّور والبرق يسلّ منها لسان تستغيث به ... كما تعوّذ بالسبّابة الفرق وقوله في خيل دهم: [المديد] وغدونا عنه على ظهر خيل ... تأخذ الأرض بأيد عجال زيّنتها غرر ضاحكة ... كبدور في وجوه ليال

وقوله: [الوافر] خرجن وبعضهنّ قريب بعض ... سوى فوت العذار أو العنان ترى ذا السّبق والمسبوق منها ... كما بسطت أناملها اليدان وقوله يصف خيل السباق: [البسيط] كأنهنّ قنا ليست لها عقد ... يهزها الشدّ «1» في كرّ وإقدام قبّ «2» البطون كطيّ العصب مضمرة ... تقرّب الثأر بين البيض والهام وقوله في الخيل: [المديد] وجياد «3» تأكل الأرض شدّا ... ملجمات يبتدرن الصياحا قاصدات كلّ غرب وشرق ... ناطقات بالصّهيل فصاحا وكأنّ الركض ذرّ عليها ... سبخا من مائهنّ ملاحا وقوله فيها: [الطويل] وخيل طواها القود حتى كأنّها ... أنابيب سمر من قنا الحظ ذبّل صببنا عليها ظالمين سياطنا ... فطارت بها أيد سراع وأرجل وقوله [في] أشقر أغرّ محجّل: [الطويل] ولي كلّ حوّار العنان مجرّب ... كميت عناه الجري فهو مطار كأن الرياح الهوج تحمل سرجه ... إذا ابتلّ منه محزم وعذار

[وقوله] «1» : [الكامل] ولقد عدوت على طمرّ «2» سابح ... عقدت سنابكه عجاجة قسطل «3» بأغرّ يفرق بين شطري وجهه ... نور تخال سناه سلّة منصل ومحجّل غرّ اليمين كأنّه ... متبختر يمشي بكمّ مسبل وكأنما تحت العذار صفيحة ... عنيت بصفحتها مداوس صيقل متلثّم لجم الحديد يلوكها ... لوك القناة مساوكا من أسحل وقوله في مثله، أشقر أغرّ: [الكامل] وكأنّ غرّته إذا استقبلتها ... صبح تبسّم أفقه بطلوعه وقوله في أدهم أغرّ: [الرجز] أدهم مصقول ظلام الجسم ... منتعلا بجندلات صمّ قد سمّرت جبهته بنجم وقوله في أغرّ غرته سائلة: [البسيط] نمّت له غرّة كالصبح سائلة ... يكاد سائلها من وجهه يكف إذا تقرّط يوما بالعذار بدا ... كأنه غادة قد زانها «4» الشّنف «5» وقوله في أغرّ: [الطويل] إذا ما بدا أبصرت غرّة وجهه ... كعنقود كرم بين غصنين نوّرا

وقوله في محجّل: [مجزوء الكامل] من كل ورّاد العشيّ ... مروّع الغدوات يحلو إذا ما ذاقه ... متعنّت النظرات وكأنما يخطو من ال ... تحجيل في حلقات وقوله في كميت: [الخفيف] وشديد القوى كملمومة الصّخ ... ر كميت ينسيك لون الشراب ضاق عنه القميص واتّسع المن ... خر عنه وطار عند الوثاب وله أربع نراها إذا هم ... لج تحكي أنامل الحسّاب وقوله في مثله: [الخفيف] ولقد أغتدي على طرف اللّيل (م) ... بذي ميعة كميت مطار بلّل الركض جانبيه كما ... فاضت بكفّ النّديم كأس العقار معرق في الجياد يهدي إلى ال ... موت ولا يهتدي سبيل الفرار وقوله يصف فرسا: [مجزوء الرجز] قد أغتدي بقارح ... مسوّم يعبوب «1» ينفي الحصا بحافر ... كالقدح المكبوب قد ضحكت غرّته ... في موضع التّقطيب إذا عدت أربعة ... لقنص مطلوب لم ينقطع غبارها ... قبل دم مصبوب وقوله: [السريع] ويحسب الجالس في متنه ... بأنه في جدول سائل

ولو عرى من سرجه تارة ... لكان مثل الغادة العاطل وينثر الجوهر من نطقه ... من غير سكّيت ولا صاهل وقوله: [الرّجز] وقارح مسّوم يعبوب ... ذي أذن كخوصة العسيب أو آسة أوفت على قضيب ... وحافر كقدم المسلوب أكحل مثل القدح المكبوب ... ذي مخبر يحمد في التجريب أسرع من ماء إلى تصويب ... ومن رجوع لحظه المريب ومن يقود الفكر في القلوب ... يستغرق البعيد بالقريب نار لظى باقية اللهيب وقوله: [الرّجز] وطائر شقّ الظلام كوكبه ... يفتن من يبصره ويعجبه يكاد أن يحرقه تلهّبه ... أضيع شيء صوته إذ تركبه شهاب نار يتعرّى لهبه ... ذو مقلة قلّت لديها رتبه وأذن أمينة لا تكذبه ... يكاد أن يطير لولا لهبه وقوله: [الطويل] له أيطلا ظبي وساقا نعامة ... ووثبة نمر والتفات غزال وأحسن من ذا كلّما خطّ حافرا ... يخط هلالا من وراء هلال وقوله يصف فرسا مؤذيا: [الرّجز] يدرك ما يشاء إن أطلقته ... ولا يعاصيك وفيه مرتقب أسرع من لحظته إذا عدا ... أطول من عنانه إذا جذب وقوله: [المديد] ربما أسري وتحتي طرف ... لا حق بالهاديات طمرّ

بحر يجري يملأ الأرض شدوا ... ما عليه لذوي الشدّ صبر فهو نار والتراب دخان ... مستطير وحصا الارض جمر وقوله: [الكامل] يعطي العنان إذا نهاه رأسه ... طوعا ويعطي سوطه ما ينبغي وكأنما شقّت عليه غلالة ... بيضاء من زبد الحميم المفرغ وتخاله يوم الرّهان غمامة ... حفزت بريح في غمائم فرّغ وقوله يصف جملا: [الكامل] وكأن رحلي فوق أحقب «1» لاحه ... لفح الهجير بمشعل أجّاج كالبرق يلتهم البلاد مجاهرا ... بالشدّ بين مفاوز وفجاح وترى «2» السماء إذا غدت مملوءة ... من نقعه والأرض ذات ضجاج وقوله في مثله: [الطويل] وأصبح يجدي للنّوى كلّ بازل ... سفينة أسفار على الأرض تسفح وقد ثقلت أخفافه فكأنها ... من الأين «3» أرجاء تسال وتطرح وقوله يذكر ناقة: [الطويل] وأرحل هو جاء البديهة حرّة «4» ... حفيفة وقع الرّجل محمودة الظهر صقيلة أرجاء الأديم كأنما ... صببت على أرجائها ذائب التّبر

وقوله فيها: [الكامل] ولقد تجوب بي المهامه حرّة ... والصبح قد فلق الدّجى بعمود شملالة «1» أخذ «2» كأن فروجها ... أبواب قصر فتّحت لوفود وقوله في النياق: [مجزوء الكامل] والعيس يخبطن السّر ... يح «3» كأنه مزق الجوارب وكأنّما قطع الغمام ... على جوانبها عصائب وكأنما أضلاعها ... للنبع أقواس مساحب وكأنما أجفانها ... تقضي على قلب نواصب وقوله فيها: [الطويل] فلا يدرك الحاجات إلّا صريمة ... من الرأي حتما والقلاص الجوامز حرقن إلى الإصباح أردية الدّجى ... فهنّ على حدّ النهار نوارز لهمّ أزال القلب عن مستقرّه ... وبات له في جنّة القلب واجز فداويته بالعيس تغترف الخطا ... كما ابتدرت غرفا لها لا نواهز ضمنّ ضياء الصّبح في لجّة الدّجى ... فوفّى به وعد من السير راجز وقوله فيها: [الطويل] وعجّت بأعناق المطي كأنّها ... هياكل رهبان عليها صوامع تلاعبه الأيدي على قلب الدّجى ... كأشطان بئر وهي منه نوازع وقوله يذكر سيفا: [الطويل] ولي صارم فيه المنايا كوامن ... فما ينتضى إلّا لسفك دماء

ترى فوق متنيه الفرند «1» كأنه ... بقية غيم رقّ دون سماء وقوله فيه: [المنسرح] وقد تردّيت بابن صاعقة ... أخضر ما في عراره قلل أبعد شيء بقايا غصّة ... وأدنى شيء له الأجل وقوله في السيوف: [المتقارب] وصلّت صوارم أيماننا ... تحسيهم الموت من غير كأس يصلن السيوف بآجالها ... ويقطعن ما بين جسم ورأس وقوله: [المديد] والوغى يضحك عن بارقات ... باكيات بدماء الرجال واقعات في نفوس الأعادي ... رويت من رونق وصقال وقوله في النشّاب: [الخفيف] وسهام تردي الرّدى من بعيد ... واقعات مواقع الأبصار وقوله في نشاب: [الكامل] وقضيب نبع كالشّجاع «2» معطّف ... لرسائل الموت الزّعاف مبلّغ وقوله في الرمح: [الطويل] وما راعه إلّا أسنّة عسكر ... كظلمة ليل ثقّبت بنجوم وقوله في الدرع: [السريع] كم بطل بارزني في الوغى ... عليه درع خلتها تطرد

وقوله في البيض: [الطويل] وبيض كأنصاف البدور أبيّة ... إذا امتحنتهنّ السيوف جبار وقوله في موقف حرب: [المديد] في مكرّ يحسب الهام فيه ... حنظلا في غمرة السيل طاحا وقوله في جيش: [الطويل] وجيش كمثل اللّيل سوّد شمسه ... ويحمرّ من أعدائه البرّ والبحر وقوله في قوس البندق «1» : [المتقارب] وماء به الطير مربوطة ... كأن الحليّ بأطواقها عدونا عليه وشمس النها ... ر لم تكس حلّة «2» إشراقها فظلنا وظلّت عيون القسيّ (م) ... ترمي الطيور بأحداقها وقوله في الصقر: [الطويل] إذا ما أراد الصيد حلّق نحوه ... وهزّ جناحيه كحاشيتي برد وإن طار أعطى كفّه ما يعينه ... وقرّب منه ما يشاء على بعد وقوله فيه: [الرجز] وأجدل يزين «3» نطق الناطق ... ململم الهامة نجم العانق طبّ بخطف السابحات حاذق ... ذو مخلب أقنى كنون الماشق «4» وجؤجؤ «5» لابس وشي رائق ... كمبدأ اللّامات في المهارق

أو كبقايا «1» الكحل في الحمالق ... يمر كالرّيح بعزم صادق كما سمعت هجس الصّواعق وقوله فيه: [الرجز] وأجدل أحكم بالتأديب ... معمّم بالملبس القشيب يهوي هويّ الدّلو في القليب «2» ... ما طار إلّا لدم مصبوب وقوله في البازي: [الرجز] وأقمر للصيد ذي ارتياح ... قمّص ريشا حسن الأوضاح عليه منه لحباب الرّاح ... يركض في الهواء بالجناح وقوله فيه: [الرجز] قد أذعر الصّيد بباز أقمر ... ذو مقلة تسرح فوق المحجر ومنسر «3» ماضي السنا كالخنجر ... تخاله مضمّخا بالعصفر بهامة كالحجر المدوّر ... وجؤجؤ منمنم محبّر كأنه رقّ خفيّ الأسطر ... وذنب كالمنصل المذكّر قلّص فوق الدستبان الأحمر ... أرقط ريش الدفّتين أنمر كأنه في جوشن «4» مزرّر وقوله فيه: [الرجز] ذو جؤجؤ مثل الرخام المرمار ... أو مصحف منمنم ذي أسطار ومقلة صفراء مثل الدّينار ... ترفع جفنا مثل حرف الزّنار «5»

ومخلب كمثل عطف المسمار ... آنس طيرا في خليج هدّار مضطرب اللجّة صافي الأقطار ... سوابحا تفري حباب التيّار من كلّ صدّاح العشيّ صفّار ... كأنّه مرجّع في مزمار وذات طوق أخضر ومنقار ... كنصف مضراب يرى منه البار فصاد قبل فترة وإضجار ... خمسين فيهنّ سمات الأظفار يخبطها خبط مليك جبّار ... مظفّر يطلبها بأوتار قد حكّمت سيوفه بالأعمار ... كأنه فيها شواظ من نار «1» وقوله فيه: [الرجز] مختضب في كل يوم بعلق ... ذو مقلة تصدقه إذا رمق ينشب في الأثباج حتى ينفتق «2» ... مخالبا كمثل أنصاف الحلق كأنما أترجّة بلا ورق «3» ... مبارك إذا رأى فقد رزق إن رمته الكفّ وكاد يحترق ... يسبق ذعر الطّير من حيث رمق وقوله في البزاة: [الوافر] وفتيان سروا واللّيل داج ... وضوء الصبح متّهم الطلوع كأن بزاتهم أسراء جيش ... على أكتافهم صدأ الدّروع قوله في الزرّق: [الرّجز] وزرّق ريّان من شبابه ... ذي مخلب مكّن من نصابه

كأن سلخ الأيم «1» من أثوابه ... يكاد أن يخرج من إهابه وقوله أيضا: [الرّجز] وزرّق أرضى به وأرضى ... لمّا حملناه أراد النّهضا أقلّ بعضا ومنعنا بعضا ... كما رأيت الكوكب المنقضّا وقوله: [الرّجز] وزرّق مجرّب ومقدام ... يضمن زاد الجحفل الهمام كأنّه فوق يد الغلام ... صبح له درع من الظلام ذو جؤجؤ كنمش الرّخام ... أو أسطر خفيّة الأقلام بمقلة تسرج كالضّرام ... ومنسر عضب الشباة دامي كعقدك الخمسين بالإبهام «2» ... منتزع لغامض الطعام أشرع من بارقة الغمام ... ذو ذنب كطرف الحسام يمرق عند الصيد كالسّهام وقوله أيضا: [الرجز] ذو جؤجؤ محبّر موشيّ ... بمقلة تلحق بالقصيّ قد علقت بالشّبح الخفيّ ... كأنّه دينار صيرفيّ وقوله في الباشق: [الرّجز] وباشق يعطيك ما ابتغيت ... سهم مصيب كلّما رميت لا عيب فيه غير عشق الموت

وقوله في صيد الطيور والكلاب: [الطويل] وقيدت لحتف الطير عصف كواسر ... كمثل قداح الباريات لحائف «1» إذا انخرطت عنها القلائد خلتها ... ترامى بها هوج الرياح العواصف تقاسمها قبض النفوس أجادل ... ففي الأرض نهّاش وفي الجو خاطف كأن دلاء في السّماء تحطّها ... وترقى بها أيد سراع عوارف يشقّق آذان الأرانب صكّها ... كما شقّ أنصاف الكوافير جارف فأصبح خرّان القريّة عدوه ... شياطين في أفواههنّ المتالف ونبّه وسنان التّراب صحية ... إلى الجوّ شدّ يأكل الأرض عاصف وقوله في صفة فهدة تصيد: [المتقارب] ولا صيد إلّا بوثّابة ... تطير عل أربع كالعذب وإن أطلقت من قلاداتها ... وطار الغبار وجدّ الطّلب فزوبعة من بنات الرّياح ... تريك على الأرض شدّا عجب تضمّ الطريد إلى نحرها ... كضمّ المحبّة من لا يحبّ إذا ما رأى عدوها خلفه ... تناجت ضمائره بالعطب ومقلتها سائل كحلها ... وقد جليت سبحا في ذهب غدت وهي واثقة أنها ... تقوم بزاد الخميس اللجب فظلّت لحوم وحوش الفلاة ... على الجمر معجلة تنتهب وقوله في الفهد: [الرجز] ولاحق الوثبة ممتدّ النفس ... نعم الرديف نائبا عن الفرس ينفي القذى عن مقلة فيها شوس «2»

وقوله فيه أيضا: [الرّجز] ومخطف ذي أربع خفاف ... يملأها شدّا بكيل وافي كأنما أظفاره أسافي «1» ... ليس له غير الدّماء شافي وقوله في كلاب الصيد: [الطويل] وأطلقت أشباها يخلن عقاربا ... إذا رفعت عند الحفيظة أذنابا فطارت سراعا فاغرات كأنّها ... تحاول سبقا أو تبادر إنهابا وقوله فيها: [الرّجز] أنعتها ضوامرا نواحلا ... حائلة تجاذب السّلاسلا إذا ارتقت رأيتها مواثلا ... كمثل كفّ رفعت أناملا وإن هوت حسبتها جداولا ... محفورة تطّلب المسائلا كأنّ في أفواهها معاولا وقوله فيها: [المتقارب] يقود مكلّبنا ضمّرا ... سلوقية طالما قادها معلّمة من بنات الرياح ... إذا سألت غدوها زادها وتخرج من أفواهها ألسنا ... كسيف الخناجر أغمادها وأمسكن صيدا ولم تدمه ... كضمّ الكواعب أولادها وقوله في ذكر منها أو أنثى: [الرّجز] قدنا لحتف الوحش والظّباء ... داهية محذورة اللّقاء شائلة كالعقرب السّمراء ... تحملها أجنحة الهواء أسرع من جفن إلى إغضاء ... ومخطف مليّن الأعضاء

كأثر الشّهاب في السّماء ... بأذن ساقطة الأرجاء كوردة السوسنة الشهلاء ... بمقلة قليلة الإقراء صافية كقطرة من ماء ... تنساب بين أكم الصحراء مثل انسياب حيّة الأنقاء وقوله في الراح: [البسيط] وآب في آب يجنيها لعاصرها ... كأنّ كفّيه قد علّت بحنّاء كأنّه صبّ سلسال المزاج على ... سبيكة من بنات التّبر صفراء وقوله فيها: [الكامل] داو الهموم بقهوة صفراء ... وامزج بنار الرّاح نور الماء لم يتّرك منها تقادم عهدها ... في الدنّ غير حشاشة صفراء ما زال يصقلها الزمان بكرّة ... ويزيدها في رقّة وصفاء حتّى إذا لم يبق إلّا روحها ... في الدنّ واعتزلت عن الأقذاء وتوقّدت في ليلة من نارها ... كتوقّد المرّيخ في الظّلماء بذلت كمثل سبيكة قد أفرغت ... أو حيّة وثبت من الرّمضاء واستبدلت من طينة مختومة ... تفّاحة في رأس كلّ إناء وقوله فيها: [الخفيف] فتنته السّلافة العذراء ... فلها ودّ نفسه والصّفاء روح دنّ لها من الجسم كأس ... فهي فيه كالنّار وهو هواء فإذا مجّت الأباريق ماء ال ... مزن فيها شابت وشاب الماء وكأن الحباب إذ مزجوها ... وردة فوق وردة بيضاء وكأنّ النّديم يلثم فاها ... كوكب «1» كفّه عليه سماء

وقوله في صفة فهدة تصيد: [المتقارب] ولا صيد إلّا بوثّابة ... تطير على أربع كالعذب وإن أطلقت من قلاداتها ... وطار الغبار وجدّ الطّلب فزوبعة من بنات الرياح ... تريك على الأرض شدّا عجب «1» وقوله فيها: [الخفيف] قهوة زوّجت بدمع سحاب ... فكست وجهها نقاب حباب مثل نسج الدروع أو مثل ... واوات تدانت سطورها في كتاب وقوله فيها: [المتقارب] وصفراء باكرتها والنّجوم ... خافقة كقلوب تجب كأنّ الحباب إذا صفّقت ... سماء من الدرّ فوق الذّهب وتحسبها قبسا مزعجا ... إذا خرسته الرّياح التهب وقوله: [المنسرح] يمجّ إبريقه المزاج كما ... امتدّ شهاب في إثر عفريت كأنه فوق كأسها عجب ... كمثل نقش في فصّ ياقوت وقوله: [الكامل] ومدامة يكسو الزّجاج شعاعها ... كالخيط من ذهب إذا ما سلّت قد حثّني بكؤوسها ذوعتّة ... صامت له صور الملاح وصلّت وقوله: [الكامل] من لي على رغم الحسود بقهوة ... بكر ربيبة حانة عذراء موج من الذّهب المذاب يضمّه ... كأس كقشر الدرّة البيضاء

وقوله: [البسيط] أما ترى يومنا قد جاء بالعجب ... فلا تعطّله من لهو ومن طرب فقام مثل قضيب حرّكته صبا ... حلو الشّمائل مطبوع على الأدب يزفّ كأسا بمنديل متوّجة ... ورأسها فضة والجسم من ذهب وقوله: [الخفيف] شاب منها البياض لون اصفرار ... فلها لون عاشق مكروب هي تدعو إلى الذّنوب ولكن ... هي للمرء حجّة للذّنوب وقوله: [المنسرح] قم فاسقني قهوة عروس (م) ... دساكير عليها طوق من الحبب فصبّ في الكأس من أبارقه ... مائين من فضّة ومن ذهب وقوله: [البسيط] وقد يباكرني السّاقي فأشربها ... راحا تريح من الأحزان والكرب وأمطر الكأس ماء من أبارقه ... وأنبت الدرّ في روض من الذّهب وسبّح القوم لمّا أن رأوا عجبا ... نورا من الماء في نار من العنب لم يبق منها البلى شيئا سوى شبح ... يقيمه الشكّ بين الصّدق والكذب سلافة ورّثتها عاد عن إرم ... كانت ذخيرة كسرى عن أب فأب وقوله: [البسيط] حطوّا الرّحال إلى خمّار دسكرة «1» ... مستعجل بانفتاح الباب محثوث تميل من غمرات السّكر قامته ... كمثل ماش على دفّ بتخنيث وفضّ خاتمه عن رأس مدّخر ... من الدنان قديم العهد موروث تحيي زجاجته هذا وتقتل ذا ... فالناس ما بين مقتول ومبعوث

وقوله: [الخفيف] وعروس زفّت على بطن كأس ... فوق كفّ منقّش بزجاج فهي بعد المزاج توريد خدّ ... وهي مثل الياقوت بعد المزاج وقوله: [البسيط] أقول سرّا لساقينا وفي يده ... كأس كشعلة جمر إذ يؤجّجها لا تمتزجها بغير الرّيق منك فإن ... تبخل يداك فدمعي سوف يمزجها وقوله: [البسيط] خضنا الظّلام إلى خمّار دسكرة ... منفّر النوم يقظان المصابيح فصبّ في كأسه راحا معتّقة ... ظلّت تحدّث عن عاد وعن نوح كمثل ياقوتة في كفّ تاجرها ... فكلّ يوم يلاقيها بتسبيح وقوله: [الكامل] خلّ الزمان إذا تقاعس أو جمح ... واشك الهموم إلى المدامة والقدح واحذر فؤادك إن شربت ثلاثة ... واحذر عليه أن يطير من الفرح هذا دواء للهموم مجرّب ... فاقبل مشورة صاحب لك قد نصح ودع الزّمان فكم شقيق مصلح ... قد رام إصلاح الزّمان فما انصلح وقوله: [الوافر] خليليّ اتركا قول النّصيح ... وقوما فامزجا راحا بروح فقد نشر الصّباح رداء روح ... وهبّت بالنّدى أنفاس روح وحان ركوع إبريق لكأس ... ونادى الدّيك حيّ على الصّبوح وحنّ النّاي من طرب وشوق ... إلى وتر يكلّمه فصيح هل الدّنيا سوى هذا وهذا ... وساق لا يخالفنا مليح

وقوله: [الكامل] هذا العقار من الدّنان بزلتها ... فجلوتها بجواهر الأقداح ناهيك روحا في الخدور مصونة ... محبوبة زفّت إلى الأرواح وقوله: [الكامل] وأتى بها كالنّار تأكل كفّه ... بشعاعها من شدّة الإيقاد لمّا وجاها وجية في نحرها ... بمذلّق لطعانها معتاد جادت له بدم كأنّ نفيّه ... شرر يطيّره بقرع زناد وقوله: [الطويل] ونار جناها لي سراعا بسحره ... متى ما ترقّ ما عليها توقّد يجول حباب الماء في جنباتها ... كما جال دمع فوق خدّ مورّد وقوله: [السريع] شربتها صفراء كرخيّة ... كأنّها في كأسها تتّقد وتحسب الماء زجاجا جرى ... وتحسب الأقداح ماء جمد وقوله: [الوافر] وليل قد سهرت ونام فيه ... ندامى صرّع حولي رقودا أسامر فيه قهقهة القناني ... ومزمارا يحدثني وعودا فكاد الليل يرجمني بنجم ... وقال أراه شيطانا مريدا وقوله في خمرة مطبوخة: [الطويل] خليليّ قد طاب الشّراب المبرّد ... وقد عدت بعد النّسك والعود أحمد فهات عقارا في قميص زجاجة ... كياقوتة في درّة تتوقّد يصوغ عليها الماء شبّاك فضّة ... لها حلق بيض تحلّ وتعقد من الدّاء مسّتها من النّار لفحة ... فظلّت بما فيها تفور وتزبد

وعنها لنا في جوفها حبشية ... عليها سراويل من الماء مجسد فظاهرها حلم صبور على الأذى ... وباطنها جهل يقوم ويقعد ولمّا جنيناها قطافا رويّة ... تذوب إذا مسّت عنا قيدها اليد وقتني من نار الجحيم بنفسها ... وذلك معروف لها ليس يجحد وقوله: [الخفيف] علّلاني بصوت ناي وعود ... واسقياني دم ابنة العنقود أشرب الرّاح وهي تشرب عقلي ... وعلى ذاك كان قتل الوليد ربّ سكر جعلت موعده ال ... صّبح وساق حثثته بمزيد وقوله: [مجزوء الكامل] وكأنّما جنيت من الياقوت ... ليست بنت كرم رقت ففاتت ناظرا ... يرنو فلم تدرك بوهم وقوله: [الطويل] خليليّ قم حتّى نموت من السّكر ... بحانة خمّار مماتا بلا قبر ونشرب من كرخيّة ذهبيّة ... ونصفح عن ذنب الحوادث والدّهر وقوله: [الكامل] قد حثّني بالكأس أو من فجره ... ساق علامة ذنبه في خصره وكأن حمرة لونها من خدّه ... وكأنّ طيب نسيمها من نشره حتّى إذا صبّ المزاج تبسّمت ... عن لؤلؤ فحسبته من ثغره ما زال ينجز لي مواعد عينه ... فمه وأحسب ريقه من خمره وقوله: [المنسرح] تخرج من دنّها وقد جدبت ... مثل هلال بدا بتقويس من لا مني بالمدام فهو كمن ... يكتب بالماء في القراطيس

وقوله: [المنسرح] قد ركّبت كفّه مشعشعة ... إبريقها في الكؤوس هدّار أودع صفو الزّجاج صفرتها ... كمثل نور ضميره نار وقوله: [الوافر] وبيضاء الخمار إذا اجتلتها ... عيون الشّرب صفراء الإزار جموح في عنان الماء تنزو ... إذا ما راضها نزو المهاري وقوله: [الطويل] وكرخيّة الأنساب أو بابليّة ... ثوت جفنا في ظلمة القار لا تسري نظرت صفاء الماء فوق صفائها ... فخلتهما سلّا من الشّمس والبدر وقوله: [الرّجز] وليلة من حسنات الدّهر ... سريت فيها بخيول شقر سياطها ماء السّحاب الغرّ ... كأنه درب لجين يجري وقوله: [المتقارب] وشرب سقيتهم والصّباح ... في وكره واقع لم يطر كأنّهم بينهم حري ... ق فأيديهم تستعر وقوله: [الوافر] شربنا بالكبير وبالصّغير ... ولم نحفل بأحداث الدّهور وقد ركضت بنا خيل الملاهي ... وقد طرنا بأجنحة السّرور وقوله: [الكامل المرفل] ومهفهف يهدي إلى النّفس ... ذهبية صفراء كالورس وكأنّ كفّيه تقسّم في ... أقداحنا قطعا من الشّمس

وقوله: [الخفيف] وشمول أرقّها الدّهر حتّى ... ما توارى قذاتها بلبوس وردة اللّون في خدود النّدامى ... وهي صفراء في خدود الكؤوس وقوله: [المنسرح] لا عيش إلّا بكفّ جارية ... ذات دلال في طرفها مرض كأنّ في النّاس حين تمزجها ... نجوم رجم تعلو وتنخفض وقوله: [الطويل] وشمس نهار قد سبقت طلوعها ... بشمس عقار في الزّجاجة تطلع فما اشتهر الإصباح حتى رأيتني ... أقوم إلى برّ النّديم وأركع وقوله: [الطويل] يدور علينا الرّاح من يد شادن ... له لحظ عين تشتكي السّقم مدنف كأن سلاف الخمر من ماء وجهه ... وعنقودها من شعره الجعد يقطف وقوله أيضا وهما من جرثومة: [السّريع] وقهوة في كأسها تزهو ... يفوح منها المسك والعنبر يحثّها في كفّه شادن ... كأنّها من خدّه تعصر وقوله يصفها في كأس أزرق: [الكامل] وإذا رأى حمراء ساطعة السّنا ... أبقت بخدّ الشّرب منها عندما وتوقّدت في جوف كأس أزرق ... كتوقّد المرّيخ في جوّ السّما وقوله: [الطويل] وناولني كأسا أضاء بيانه ... يدفّن ياقوتا ودرّا مجوّفا ولما أذقناها المزاج تسعّرت ... فخلّت سناها بارقا متكشّفا

وقوله: [الوافر] وندمان سقيت الرّاح صرفا ... وأفق الصبح مرتفع السّجوف صفت وصفت زجاجتها عليها ... كمعنى دقّ في ذهن لطيف وقوله: [المنسرح] اشرب عقارا كأنها قبس ... قد سبك الدّهر تبرها فصفا أرتق فيها المزاج فاشتعلت ... كمثل نار أطعمتها سعفا وقوله: [البسيط] وقد يباكرني السّاقي فأشربها ... كأنّها قبس في الكف مشهور يريق في كأسها من صوب غادية ... فالخمر يا قوتة والماء بلّور وقوله: [المتقارب] إذا ما طعنّا بطون الدّنان ... سال دم الكرم منهنّ سورا كأنّ خراطيمها في الزّجاج ... خراطيم نحل ينقّبن نورا وقوله: [الطويل] وعاقد زنّار على غصن الآس ... دقيق المعاني مخطف الخضر ميّاس سقاني عقارا صبّ فيها مزاجها ... فأضحك عن ثغر الحباب فم الكاس وقوله: [المنسرح] لا شيء تسلي همّي سوى قدح ... تدمى عليه أوداج إبريق يكتب فيه كفّ المزاج لنا ... ميمات سطر بتعبير تعريق وقوله: [البسيط] ظبي تجلّى من الأحزان أو دعني ... ما يعلم الله من حزن ومن قلق كأنّه وكأنّ الكأس في يده ... هلال أول شهر غاب في شفق

وقوله: [الوافر] وندمان دعوت فهبّ نحوي ... وسلسلها كما خرط العقيق كأنّ بكاسها نارا تلظّى ... ولولا الماء كان لها حريق وقوله: [الوافر] كأن عمامة بيضاء بيني ... وبين الرّاح تحرقها البروق وقوله: [الطويل] ومشمولة صاغ المزاج لرأسها ... أكاليل درّ ما لمنظومها سلك جرت حركات الدّهر فوق سكونها ... فذابت كذوب التّبر أخلصه السّبك وقد خفيت من صفوها فكأنها ... بقايا يقين كاد يذهبه الشّكّ وقوله يعارض من أنفق جراف «1» عمره في غير سرور المدام: [الطويل] إذا شئت سقّاني غزال دساكر ... يبقّر أحشاء الدّنان بمبزل يكلّل بالمنديل أقداح قهوة ... كجمر جلته الرّيح قدّام مصطلي يطوف بها والصّبح عريان خالع ... بقية ليل كالقميص المرعبل «2» على كلّ مجرور الرّداء سميدع ... جواد بما يحويه غير مبخّل يصبّ ويسقي أو يسقّى مدامة ... كمثل سراج لاح في اللّيل مشعل ولست تراه سائلا عن خليفة ... ولا قائلا من يعزلون ومن يلي ولا صائحا كالعير في يوم لذّة ... يناظر في تفضيل عثمان أو علي ولا حاسبا تقويم شمس وكوكب ... ليعرف أخبار العلوّ من اسفل يقوم كحرباء الظّهيرة مائلا ... يقلّب في أسطرلابه عين أجول ولكنّه فيما عناه وسرّه ... وعن غير ما يعنيه فهو بمعزل

خليليّ بالله اقعدا نصطبح ولا ... [قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل] «1» ويا ربّ لا تنبت ولا تسقط الحيا ... [بسقط اللّوى بين الدخول فحومل] ولا تقر مقراة امرئ القيس قطرة ... من المزن وارحم ساكنيها بجندل ولكن ديار اللهو ربّ فأسقها ... ودلّ على خضرائها كلّ جدول وقوله: [المتقارب] وخمّارة من بنات اليهو ... د ترى الزقّ في بيتها سائلا وزنّا لها ذهبا جامدا ... فكالت لنا ذهبا سائلا عقارا تنفّس عن مسكة ... ترى فوقها لؤلؤا جائلا فلم أرهما سوى فقدها ... لا غيرها فرحا عاجلا [وقوله] «2» : [الطويل] إذا قرعت بالماء حلّ بكأسها ... مدبّ دبا «3» تعلو أكارعه رملا مشعشعة كالشّمس تأكل نورها ... زجاجتها في كفّ شاربها أكلا عروسا جعلنا مهرها بعض ديننا ... فما رضيت حتّى وهبنا لها العقلا وقوله: [البسيط] ولم يزل ليلنا يسقى مشعشعة ... كأنما الماء يغريها بتصميم أبقى الجديدان «4» من موجودها عجبا ... لونا ورائحة من غير تجسيم كأنّ في كأسها والماء يفرعها ... أكارع النمل أو نقش الخواتيم

وقوله: [الطويل] يمجّ سلاف الخمر في عسجديّة ... توهّج في يمناه كالكوكب الفرد محفّرة فيها تصاوير فارس ... وكسرى غريق حوله حزق «1» الجند وقوله: [الخفيف] اسقني القهوة التي تصف العت ... ق بلون صاف وطعم زلازل طعنت نحرها الأكفّ ولكن ... تأخذ الثّأر من عقول الرّجال روح دنّ صفراء تستخلف (م) ... الشّمس سناها على سواد اللّيالي وكأنّ السّقاة قد مسحوها ... بدهان في رأسها «2» وصقال وقوله: [مخلع البسيط] قد أظلم اللّيل يا نديمي ... فاقدح لنا النّار بالمدام كأنّني والورى رقود ... أقبّل الشّمس في الظّلام وقوله: [الطويل] وصفراء من صبغ الهجير لرأسها ... إذا مزجت إكليل درّ منظّم قطعت بها عمر الدّجى وشربتها ... ظلامية الأجسام نوريّة الدّم وقوله: [السريع] يا ربّ ليل سحر كلّه ... مفتضح البدر عليل النّسيم لم أعرف الإصباح في ضوئه ... لمّا بدا إلا بسكر النّديم وقوله: [الطويل] كأنّ أباريق المدام لديهم ... ظباء بأعلى الرّقمتين قيام

وقد شربوا حتّى كأنّ رقابهم ... من اللّين لم يخلق لهنّ عظام وقوله: [الكامل] وكأنّ إبريق المدامة بيننا ... ظبي على شرف أناف مدلّها لمّا استحثّوه تذكّر إلفه ... فبكى على قدح النّديم وقهقها وقوله: [الوافر] سقاني من معتّقة الدّنان «1» ... مليح الدلّ مختضب البنان وحمّل كفّه كأسا تلظّى ... بنار لا تقنّع بالدّخان فلمّا صبّ فيها الماء سارت ... كما سار الشّجاع إلى الجبان وقد لبست نقابا من حباب ... كسلخ الأيم أو درّ الجمان فخلت الكأس مركز أقحوان ... وتربته سحيق الزّعفران قوله: [مجزوء الرمل] قل لمن حيّا فأحيا ... ميّتا يحسب حيّا ما الذي ضرّك لو أب ... قيت لي في الكأس شيّا أتراني كنت إلّا ... مثل من قبّل فيّا واسقني في كلّ حين ... قهوة ذات حميّا إن يكن رشدا فرشدا ... أو يكن غيّا فغيّا وقوله: [الوافر] وكأس من زجاج فيه [أسد] «2» ... فرائسهنّ ألباب الرّجال إذا ما صرّعت منّا نديما ... توسّد باليمين وبالشّمال

وقوله: [المديد] قد أسقّى الراح صافية ... تنشر الإصباح في الظّلم فإذا ما الماء خالطها ... راض منها سهلة الشّيم واكتست من شكله حببا ... بين منثور ومنتظم وتبدّت في أسرّتها ... أسطر مجهولة الكلم رحلها كفّ تسير بها ... من فم الإبريق نحو فمي وقوله في الهجاء: [الطويل] وإخوان شرّ قد حرثت إخاءهم ... وكانوا لغرس الورد شرّ بقاع قدحت زناد الوصل بيني وبينهم ... فأذكيت نارا غير ذات شعاع وقوله في غدر بني الدهر: [المتقارب] بلوت أخلّاء هذا الزّمان ... فأقللت بالهجر منهم نصيبي وكلّهم إن تصفّحتهم ... صديق العيان عدوّ المغيب وقوله في ذمّ القلم والكتابة: [الطويل] وأجوف مشقوق كأنّ شباته «1» ... إذا استعجلته الكفّ منقار لاقط وتاه به قوم فقلت رويدكم ... فما كاتب بالكفّ إلّا كشارط وقوله في صديق مدّاح: [الطويل] ولي صاحب في وجهه لي أوجه ... وفي فمه طبل تسرّي وتضرب إذا ما خلا الإخوان كان مرارة ... يعرّض في حلقي مرارا وينشب كماء طريق الحجّ في كلّ منهل ... يذمّ على ما كان منه ويشرب

2 - قدامة بن جعفر

2- قدامة بن جعفر «13» الكاتب، أبو الفرج. رجل طالما يقضي النهار وفرعه مهزوز، ويسهر الليل وبرقه كأنه عمود فضة محزوز، فأنهز للفضائل أوداجا، وكاشف الدجى وقد داجى ولم يزل يعري عن منكب الليل دواجا، ويساقط لؤلؤ الفرقدين أزواجا؛ إلى أن أصبح اسمه مثلا مضروبا، وعذبه الزلال منهلا مشروبا، ولهذا كل ذي قدم في البلاغة لا يشبه إلا بقدامه، ولا يقاس به الصابيّ ابن هلال فتجيء منه ثلامه. وناهيك برجل سعى صيته بين الخافقين، ووسع جنباه مثل النيل والفرات الدافقين. وطال الأمد عليه؛ وقد بلي جسده، وذهبت رحمته وحسّده. والألسنة بذكره لهجة، وفضائله؛ وإن لم تهبّ من كراه مبتهجة. كان نصرانيا وأسلم على يد المكتفي بالله، وكان أحد البلغاء الفصحاء والفلاسفة الفضلاء، وممّن يشار إليه في علم المنطق. وحضر مجلس الفضل بن جعفر ابن الزيّات، وقت مناظرة أبي سعيد السيرافي، ومتّى المنطقي سنة عشرين وثلاثمئة. ومات سنة سبع وثلاثين وثلاثمئة. قال صاحب بغية الألباء: بلغني أن بعض متعاطي الأدب شرح المقامات الحريرية، فقال عند قوله، ولو أوتي بلاغة قدامة: إن قدامة بن جعفر كان كاتبا لبني بويه. قال: وجهل في هذا القول؛ فإن قدامة كان أقدم عهدا، وهو المذكور البغدادي من أهل الفضل، عالم الأدب، أدرك زمن ثعلب والمبرّد وابن قتيبة وطبقتهم. وذكر شيخنا أبو الثناء الكاتب في التوشيح، قال: وقال قدامة: هو أن يكون في أول البيت معنى، إذا علم علمت منه قافية البيت؛ بشرط أن يكون المعنى المقدم بلفظه، كقول الراعي النميري: [الوافر]

3 - أبو عثمان الجاحظ

فإن وزن الحصا فوزنت قومي ... وجدت حصاة ضربتهم رزينا قال: السامع إذا فهم أن الشاعر أراد المفاخرة برزانة الحصا، وعرف وعرف القافية والروي علم آخر البيت. ومنهم: 3- أبو عثمان الجاحظ «13» واسمه عمرو بن بحر بن محبوب. بحر البيان الدافق ولسان الإحسان الناطق. المتكلم في كل شيّ، المقدّم في بابه على كل ميت وحيّ، الذي أدخله أرباب كل علم فيهم، وأطلعه أهل كلّ فهم قمرا في دياجيهم، الحكيم المطلق، والعميم المعرفة في اللغة بكل ما به ينطق. الناقل لما يصدق، والنافل لما يحقق، والمملي لكل ما يعلق، والمولي من متن البيان ما لا يخلق. كأنما تصانيفه للأفهام مفاتيح أقفال، وفي دجا الأوهام مصابيح تشب لقفال. وله في البيان والتبيين أوضح النهار إذ يبين. عجّل إلى الفضائل فما راث، وسبق الأوائل بلا اكتراث. مرّ على المجرّة فورد شطوطها، وكرّ على النيرة فمحا خطوطها. وهجم على الفضائل وأتاها منبتا وأخذها مصبحا ومثبتا؛ فملأ جوانح الغمام أوارا، وصاغ البدر التمام تاجا والهلال سوارا، بنبوغ حطّم به الجوزاء فكسر غرسها، وصاد طيور الفراقد ووزع ريشها؛ هذا إلى توسع في كل فن، وتحقيق لكل ظنّ بخاطر. طالما قرع الفولاذ، وتهادى تهادي العروس في الملاذ. وكان لا يزال ليله مبصرا، وسيله لا ينثني مقصرا. ولم يبق علم لم ينظر فيه نظر المتبصر، ويجتهد له اجتهاد من لم يقصر؛ فلم يسأل عن شيء إلا كان به أدرى، ولم يبق طائفة أحق به من الأخرى. وقال فيه القاضي

الفاضل رحمه الله، وقد ذكره وما منّا إلّا من دخل داره، وشنّ على كلامه الغارة، وخرج وعلى كتفه منه الكارة. قلت: أخذ عن أبي عبيدة والأصمعي، وأبي زيد الأنصاري، وأخذ النحو عن الأخفش، وكان صديقه. وأخذ الكلام عن النظّام، وتلقف الفصاحة من العرب شفاها بالمربد. حدّث أبو هفان قال: لم أر قطّ ولا سمعت أحبّ إلى الجاحظ من الكتب والعلوم؛ فإنه لم يقع بيده كتاب قط إلّا ليستوفي في قراءته كائنا ما كان؛ حتى إنه كان يكتري دكاكين الورّاقين ويبيت فيها. والفتح بن خاقان كان يحضر لمجالسة المتوكل، فإذا أراد القيام لحاجة أخرج كتابا من خفّه أو كمّه إلى حين عوده من الخلاء لمجالسة المتوكل، فإذا أراد القيام لحاجة قضى شغله. وكان واسع العلم بالكلام، كثير التبحر فيه، شديد الضبط لحدوده، ومن أعلم الناس به وبغيره من علوم الدين والدنيا. وله كتب مشهورة جليلة في نصرة الدين، وفي حكاية مذاهب المخالفين والأخلاق والآداب، وفي ضروب الهزل والجدّ؛ وقد قرأها الناس وتداولوها وعرفوا فضلها. وإذا تدبّر العاقل المميّز كتبه علم أنه ليس في تلقيح العقول وشحذ الأذهان، ومعرفة أصول الكلام وجواهره، وإيصال خلاف الإسلام، ومذاهب الاعتزال إلى القلوب كتب تشبهها والجاحظ عظيم القدر في المعتزلة وغير المعتزلة. قال الجاحظ: لمّا مسخ الله الإنسان قردا وخنزيرا وترك فيه شبها من الإنسان. ولما مسخ الله زماننا لم يترك فيه شبها من الزمان. وقال الجاحظ: ليس جهد البلاء مدّ الاعناق وانتظار وقع السيف؛ لأنّ الوقت قصير والحس مغمور، ولكن جهد البلاء أن تظهر الخلّة وتطول المدّة، وتعجز للحيلة، ثم لا تعدم صديقا مؤنبا وابن عمّ شامتا وجارا حاسدا ووليّا ينتهرك. وقال: إذا سمعت الرجل يقول: ما ترك الأول للأخير شيئا فاعلم ما يريد أن يفلح. وقيل: إن الجاحظ خدم في ديوان الرسائل أيام المأمون ثلاثة أيام، ثم استعفى فأعفي.

حدّث أبو العيناء، قال: كان لي صديق فجاءني يوما فقال لي: أريد الخروج إلى فلان العامل، وأحببت أن تكون معي إليه وسؤاله، وقد سألت من صديقه؟ فقيل لي: أبو عثمان الجاحظ، وهو صديقك، وأحببت أن تأخذ لي منه إليه كتابا بالعناية. قال: فصرت إلى الجاحظ فقلت له: جئتك مسلّما وقاضيا للحق، ولي حاجة لبعض أصدقائي، وهي كذا وكذا. قال: لا تشغلنا الساعة عن المحادثة وتعرف أخبارنا إذا كان في غد وجهت إليك بالكتاب، فقلت لولدي: هذا الكتاب لفلان ففيه حاجته. فقال لي: إنّ أبا عثمان بعيد الغور، فينبغي أن نقصّه وننظر ما فيه، ففعلت، فإذا في الكتاب: هذا كتابي مع من لا أعرفه، وقد كلمني فيه من لا أوجب حقّه، فإن قضيت حاجته لم أحمدك وإن رددته لم أذممك. فلما قرأت الكتاب مضيت إلى الجاحظ من فوري، فقال: يا أبا عبد الله قد علمت أنك أنكرت ما في الكتاب، فقلت: أو ليس موضع نكره، فقال: لا، هذه علامة بيني وبينه فيمن اعتنى به. فقلت: لا إله إلّا الله، ما رأيت أحدا أعلم بطبعك، ولا ما جبلت عليه من هذا الرجل، علمت أنه لمّا قرأ الكتاب قال: أمّ الجاحظ عشرة آلاف قحبة، وأم من يثبت له حاجة. فقلت له: ما هذا؟ أتشتم صديقنا؟ فقال: هذه علامتي فيمن أشكره، فضحك الجاحظ، وحدّث بذلك الفتح بن خاقان، وحدّث الفتح المتوكل، فذلك كان سبب اتصالي به، وإحضاري مجلسه. ومن كلام الجاحظ: احذر من تأمن فإنك حذر على من تخاف. وقال: أجمع الناس على أربع. أنه ليس في الدنيا أثقل من أعمى، ولا أبغض من أعور، ولا أخفّ روحا من أحدب، ولا أقود من أجدب. قال: أربعة أشياء ممسوخة، النيك في الماء، والقبلة على النقات «1» والغناء من وراء الستار «2» .

وحدّث الجاحظ مرّة بحضرة السدوي، وكيف قال، لأنها تأخذ الدراهم وتمتّع بالناس والطيب، وتختار على عينها من تريد، والتوبة معروضة لها متى شاءت فقال: وكيف عقل العجوز؟ قال: هي أحمق الناس وأقلّهم عقلا. وقال أبو سعيد السيرافي: حدثنا من الصابئين كتّاب، أن ثابت بن قرّة، قال: ما أحسد هذه الأمة العربية إلا على ثلاثة أنفس؛ فإنه: [الكامل المرفل] عقم النّساء فلا يلدن شبيههم ... إن النّساء بمثلهم عقم فقيل له: احص لنا هؤلاء الثلاثة: فقال: عمر بن الخطاب في سياسته وتقضيته وحدوده، وبحفظه ودينه وجزالته ونزالته وصرامته وشهامته، وقيامه في صغير أمره وكبيره بنفسه؛ مع قريحة صافية وعقل وافر، ولسان عضب وقلب شديد، وطوية مأمونة، وعزيمة مأمومة وصدر منشرح، وبال منفسح وبديهة نصوح، وروية لفوح، وسرّ طاهر وتوقيف حاضر، ورأي مصيب وأمر عجيب، وشأن غريب. دعم الدين وشيّد بنيانه، وأحكم أساسه ورفع أركانه، وأوضح حجته وأنار برهانه. ملك في زيّ مسكين. ما جنح في أمر ولا نوى، ولا غضّ طرفه على خنا. ظهارته كالبطانة، وبطانته كالظهارة. جرح وواسى، ولان وقسا، ومنع وأعطى، واستجدى وسطا. كل ذلك في الله ولله. ولقد كان من نوادر الزمان. قال: والثاني، الحسن ابن أبي الحسن البصري؛ فلقد كان من دراري النجوم علما وتقوى وزهدا، ورعوى وعفّة، ورقة وتألّها وتنزها وفقها ومعرفة وفصاحة، ونصاحة. مواعظه تصل إلى القلوب، وألفاظه تلبس العقول. ما أعرف له ثانيا ولا قريبا ولا متدانيا. كان منظره وفق مخبره، وعلانيته في وزن سريرته. عاش سبعين سنة لم يعرف لمقاله سبقا، ولم يزلّ بريبة ولا فحشا. سليم الدين نقيّ الأديم، محروس الحريم يجمع مجلسه ضروب الناس وأصنافهم لما يوسعهم من بنانه، ويفيض عليهم بإحسانه. هذا يأخذ عنه الحديث وهذا يلقن منه التأويل، وهذا يسمع الحلال والحرام، وهذا يتبع من كلام العربية، وهذا يجوّد له المقالة، وهذا يحكي الفتيا، وهذا يتعلم الحكم والقضاء وهو في جميع هذا كالبحر الفجاج تدفقا، وكالسراج

الوهّاج تألقا. ولا ننسى مواقفه ومشاهده بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند الأمراء وأشباه الأمراء بالكلام الفصل، واللفظ الجزل والصدر الرحيب والوجه الصلب، واللسان العضب كالحجاج، وفلان وفلان مع سادة الدين وبهجة العلم. لا تثنيه لائمة في الله، ولا تذهله رابعة عن الله يجلس تحت كرسيّه قتادة صاحب التفسير وعمرو وواصل صاحب الكلام، وابن أبي اسحاق صاحب النحو، وفرقد السخي صاحب الرقائق، وأشباه هؤلاء ونظراؤهم. فمن ذا مثله ومن يجري مجراه؟. والثالث، أبو عثمان الجاحظ، خطيب المسلمين وشيخ المتكلمين، ومدرة المتقدمين والمتأخّرين. إن تكلم حكى سحبان «1» في البلاغة، وإن ناظر سارع النظّام في الجدال، وإن جدّ خرج في ليل عامر بن عبد قيس، وإن هزل زاد على مريد حبيب القلوب ومزاح الأرواح. وشيخ الآداب ولسان العرب. كتبه رياض زاهرة، ورسائله أفنان مثمرة. ما نازعه منازع إلّا رشأه أبقى ولا تعرّض له منقوص إلّا قدّم له التواضع واستبقى. الخلفاء تعرفه والأمراء تصفه والكبراء تنادمه، والعلماء تأخذ عنه، والخاصة تسلّم عليه والعامة تحبّه. جمع بين اللسان والقلم، وبين الفطنة والعلم وبين الرأي والأدب، وبين النثر والنظم، وبين الذكاء والفهم. طال عمره وفشت حكمته، وظهرت حيلته، ووطئ الرجال عقبه، وتهادوا أدبه، وافتخروا بالانتساب إليه، ونجحوا بالاقتداء بما أوتي من الحكمة وفصل الخطاب. قال صاحب بغية الألباء: هذا قول ثابت. وهو رجل صابئيّ، لا يرى للإسلام حرمة، ولا للمسلمين حقّا، لا يوجب لأحد منهم ذماما، وقد انتقد هذا الانتقاد ونظر هذا النظر، وحكم بهذا الحكم، وأبصر الحق بعين لا غشاوة عليها من الهوى، ونفس لا لطخ بها من التقليد، وعقل ما يحيل عليه بالعصبية. ولسنا نجهل مع ذلك فضل هؤلاء الثلاثة من السلف الطاهر والخلف الصالح ولكن عجبنا فضل عجب من رجل ليس منّا، ولا من أهل

ملتنا ولغتنا، ولعلّه ما خبر عمر بن الخطاب كلّ الخبرة، ولا استوعب كلامه الحسن من المنقبة، ولا وقف على ما لجميع أبي عثمان من البيان والحكمة بقوله هذا القول، ويتعجب هذا التعجب ويحسد هذه الأمة بهم هذا الحسد، ويختم كلامه بأبي عثمان ويصفه بما يأتي الطاعن عليه أن يكون له شيء منه، ويغضب إذا ادّعى ذلك له، أو وقر عليه هل هذا إلّا الجهل الذي يرجم المثل به. قيل لأبي هفّان: لم لم تهج الجاحظ؟ هدر دمك وأخذ بمخنقك. فقال: أمثلي يخدع عن عقله؟ والله لو وضع رسالة في أريبة أفعى لما أمست إلّا في الصين. ولو قلت فيه ألف بيت لما ظن منها بيت في ألف سنة. قال المبرّد: سمعت الجاحظ يقول: كل عشق يسمى حبّا وليس كل حبّ يسمى عشقا؛ لأن العشق اسم لما فضل من المحبّة، كما أن الشرف اسم لما جاوز الجود. والبخل اسم لما نقص عن الاقتصاد. والجبن اسم لما فضل عن شدّة الاحتراس. والهرج اسم لما فضل عن الشجاعة. وقال أبو الفضل ابن العميد: ثلاثة علوم، الناس كلهم عيال فيها على ثلاثة أنفس، الفقه فعلى أبي حنيفة؛ لأنّه دوّن وخلد، وجعل من يتكلم به بعده مشيرا إليه ومخبرا عنه، والكلام فعل أبي الهذيل، والفصاحة واللّسن فعل أبي عثمان الجاحظ. وحدّت يموت بن المزرع عن خاله الجاحظ، قال: يحبّ للرجل أن يكون سخيّا لا يبلغ التبذّير، شجاعا لا يبلغ الهرج، متحرسا لا يبلغ الجبن، حبيّا لا يبلغ العجز، ماضيا لا بيلغ الفجه، قؤولا لا يبلغ الهذر، صموتا لا يبلغ العيّ، حليما لا يبلغ الذلّ، منتصرا لا يبلغ الذلّ، وقورا لا يبلغ البلاد، نافذا لا يبلغ الطيش. ثم وجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم قد جمع ذلك في كلمة واحدة، وهي: خير الأمور أوساطها؛ فعلمنا أنه صلى الله عليه وسلّم قد أوتي جوامع الكلم، وعلم فصل الخطاب. وقال أبو زيد البلخي: ما أحسن ما قال الجاحظ: عقل المنشئ مشغول وعقل المتصفح فارغ. وحدّث المبرّد، قال: دخلت على الجاحظ في آخر أيامه، فقلت: كيف أنت؟ فقال:

كيف يكون من نصفه مفلوج، لو حزّ بالمنشار ما شعر به، ونصفه الآخر منقرس، لو طار الذباب بقربه لآلمه. وأشدّ من ذلك نيف وتسعون ثم انشدنا «1» : [الوافر] أترجو أن تكون وأنت شيخ ... كما قد كنت أيّام الشّباب لقد كذبتك نفسك ليس ثوب ... دريس كالجديد من الثّياب «2» وحدّث أبو محمد الحسن بن عمر الجرمي، قال: كنت بالاندلس، فقيل لي: إن هاهنا تلميذا لأبي عثمان الجاحظ، يعرف بسلام بن يزيد، فأتيته، فرأيت شيخا هرما، فسألته عن سبب اجتماعه بأبي عثمان، ولم يقع أبو عثمان إلى الأندلس، فقال: كان طالب العلم بالمشرق يتشرّف عند ملوكنا بلقاء أبي عثمان فوقع إلينا شيء من كتبه، فخرجت لأعرّج على شيء؛ حتى قصدت بغداد، فسألت عنه، فقيل لي بالبصرة. فانحدرت إليه، وسألت عن منزله فأرشدت إليه ودخلت إليه؛ فإذا هو جالس وحواليه عشرون صبيا، ليس فيهم ذو لحية غيره فدهشت، فقلت: أيّكم أبو عثمان؟ فرفع يده وحرّكها في وجهي، وقال: من أين؟ قلت: من الأندلس. فقال: طينة حمقاء. فما الاسم؟ قلت: سلام. قال: اسم كلب القرّاد. ابن من؟ قلت: ابن يزيد. قال: بحق ما صرت. أبو من؟ قلت: أبو خلف. قال: كنية قرد زبيدة. ما جئت تطلب؟ قلت: العلم. قال: ارجع بوقت فإنك لا تفلح. قلت: ما أنصفتني فقد اشتملت على خصال أربع، جفاء البلدية، وبعد الشقّة، وغرّة الحداثة ودهشة الداخل. قال: فترى حولي عشرين صبيا ليس فيهم ذو لحية غيري ما كان يجب أن تعرفني بها. قال: فأقمت عليه عشرين سنة. وقال أبو العيناء: أنشدني الجاحظ لنفسه: [الوافر] يطيب العيش أن تلقى حكيما ... غذاه العلم والرأي المصيب فيكشف عنك حيرة كلّ ريب ... وفضل العلم يعرفه الأريب

سقام الحرص ليس له شفاء ... وداء البخل ليس له طبيب «1» وكان الجاحظ يقول: إن تهيأ لك في الشاعر أن تبرّه وترضيه، وإلّا فاقتله. وقال ميمون بن هارون: قلت للجاحظ: ألك بالبصرة ضيعة؟ فتبسم وقال: إنما أنا وجارية، وجارية تخدمها، وخادم وحمار. أهديت كتاب الحيوان إلى محمد بن عبد الملك، فأعطاني خمسة آلاف دينار. وأهديت كتاب البيان والتبيين إلى أبي دؤاد «2» فأعطاني خمسة آلاف دينار، وأهديت كتاب الزرع إلى إبراهيم بن العبّاس الصولي فأعطاني خمسة آلاف دينار، فانصرفت إلى البصرة، ومعي ضيعة لا تحتاج إلى تجديد ولا تسميد. وكتاب البيان والتبيين نسختان، أولى وثانية، والثانية أصح وأجود. وله من المصنّفات زيادة على مئة وعشرين مصنّفا. وتوفي الجاحظ سنة خمس وخمسين ومئتين. وقد جاوز التسعين. وكان يتعين تقديمه على ابن المعتز وقدامة؛ وانما ذكرناهما قبله لا عتنائهما بعلم البديع، وتصنيفهما أبوابه، فوصلنا تراجمهما بتفريعهما للفن، واختراج أقسامه استطرادا. وذكره أبو القاسم الراغب في كتاب المحاضرات، في كثرة آيات الأنبياء وقلّتها. قال: قال العلماء: إنما كثر وكبر إعلام موسى؛ لأن علمه كان مع غباوة بني إسرائيل، ونقصان أحلام القبط. قال الجاحظ: ومتى أردت معرفة ذلك فانظر إلى بقاياهم، هل لهم حكمة أو مثل أو شعر؟ ثم انظر إلى أولادهم مع طول لبثهم معنا، هل تغيّر بذلك أخلاقهم وشمائلهم وأحلامهم وآدابهم وفطنهم؟ ثم من غباوتهم ما حكى الله تعالى عنهم حيث قالوا: اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ «3» ، وكقولهم: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً «4» ، وكقولهم: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ

فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ «1» . وآياتهم انقطعت بموتهم، وعرفها من بعدهم بأخبار سلفهم، وجعل من معجزات نبينا صلى الله عليه وسلّم القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأشرك فيه الخلف والسلف، وجعله باقيا على مرور الأيام وبعد الأحوال. وقال أبو عثمان لغائب عليه كتب عيب الكتاب: ونعم الذخر والعقدة، ونعم النشرة والنزهة، ونعم المشتغل والحرفة، ونعم الأنيس ساعة الوحدة والمعرفة ببلاد الغربة، ونعم القرين والدخيل والوزير والتنزيل. والكتاب وعاء ملئ علما وظرف حشي ظرفا، وإناء سخّن مزاجا وجدّا؛ إن شئت كان أبين من سحبان وائل، وإن شئت كان أعيا من باقل، وإن شئت ضحكت من نوادره، وعجبت من غرائب فوائده. وإن شئت سختك مواعظه. ومن لك بواعظ مله، وببارد حار؟ ومن لك بطبيب أعرابي، وبرومي وهندي وبفارسي يوناني، وتقديم مولد ممتّع وبشيء يجمع لك الأول والآخر، والناقص والوافر، والشاهد والغائب والحسن وضدّه؟ وبعد، فمتى رأيت بستانا يحمل في ردن، وروضة في قلب؟ ينطق عن الموتى ويترجم كلام الأحياء. ومن لك بمؤنس لا ينام إلا بنومك، ولا ينطق إلّا بما تهوى؟ آمن من أرض وأكتم للسر من صاحب السرّ، واضبط بحفظ الوديعة من أرباب الوديعة، وأحفظ لما استحفظ من الأميّين، ومن الأعراب للمعربين؛ بل من الصبيان قبل اعتراض الاشتغال حين العناية تامة لم تنتقص، والأذهان فارغة لم تقتسم، والإرادات وافرة لم تتشعب، والطينة ليّنة؛ فهي أقبل ما يكون للطابع، والقضيب رطب فهو أقرب ما يكون من العلوق، حين هذه الخصائل لم يلبس جديدها، ولم تتفرق قواها كانت كقول الشاعر: [الطويل] أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى ... فصادف قلبا خاليا فتمكّنا وقال ذو الرمة لعيسى بن عمر: اكتب شعري، فالكتاب أعجب إليّ من الحفظ؛ لأن الأعرابي ينسى الكلمة، قد تعب في طلبها يوما أو ليلة فيضع موضعها كلمة في وزنها لم ينشدها الناس، والكتاب لا ينسى، ولا يبدّل كلاما بكلام وعيب الكتاب. ولا أعلم جارا

أبرّ، ولا خليطا أنصف، ولا رفيقا أطوع، أقل صلفا وتكلفا، ولا أكفّ عن قتال وشغب ومراء من كتاب. ولا أعلم شجرة أطول عمرا ولا أجمع أمرا، ولا أطيب ثمرة ولا أقرب مجتنى، ولا أسرع إدراكا، ولا أوجد في كل أوان من كتاب. ولا أعلم نتاجا في حداثة سنّه وقرب ميلاده، وحضور ذهنه، وإمكان موجوده. يجمع من التدابير العجيبة والعلوم العربية، ومن آثار العقول الصحيحة، ومحمود الأذهان اللطيفة، ومن الأخبار عن القرون الماضية والبلاد المترامية، والأمثال السائرة، والأمم البادية مما يجمع الكتاب. والكتاب مع خفّة نقله وصغر حجمه صامت ما أسكتّه، وينبغ ما استنطقته، ومن لك بمسامر لا يبتديك في حال شغلك، ولا يدعك في أوقات نشاطك، ولا يحوجك إلى التجمل له، والتذمم فيه. ومن لك بزائر، إن شئت جعلت زيارته غبّا، وورده خمسا. وإن شئت لزمك لزوم ظلك، وكان منك مكان بعضك. والكتاب هو الجليس الذي لا يضرّ بك، والصديق الذي لا يغذيك، والرفيق الذي لا يملّك، والمستميح الذي لا يستزيدك، والجار الذي لا يستبطيك والصاحب الذي لا يريد استخراج ما عندك بالملق، ولا يعاملك بالمكر والخديعة، ولا يخدعك بالنفاق والكذب. والكتاب هو الذي إن نظرت فيه أطال إمتاعك وشحذ طباعك، وبسط لسانك وجوّد بيانك، وفخّم ألفاظك ونجّح نفسك وعمّر صدرك ومنحك تعظيم العوام وصداقة الملوك. وعرفت به في شهر مالا تعرفه في دهر من أفواه الرجال مع السلامة من الغرم، ومن كدّ الطلب ومن الوقوف بباب المكتسب بالتعليم. وبالجلوس بين يدي من أنت أفضل منه خلقا، وأكرم منه عرقا، ومع السلامة من مجالسة البغضاء ومقارنة الأغبياء. وهو الذي يطيعك بالليل طاعته لك بالنهار، وفي السفر طاعته لك في الحضر. ولا يعتلّ بنوم ولا يغترّ به كلال الشهر. وهو المعلم الذي إن افتقرت إليه لم يحقرك، وإن قطعت عنه عدوك لم ينقلب عليك. ومتى كنت متعلقا به بسبب، ومعتصما منه بأدنى حبل لم يضطرك معه وحشة الوحدة إلى جليس السوء، لو لم يكن من فضله عليك وإحسانه إلا منعه لك من الجلوس على بابك، والنظر إلى المارّة منعما في ذلك من التعرض للحقوق التي تلزم، ومن فضول

النظر، ومن عادة الخوض، ومن ملابسة صغار الناس وحضور ألفاظهم الرديّه الساقطة ومعانيهم الفاسدة، وأخلاقهم السيئة وجهالتهم المذمومة لكان في ذلك السلامة. ولو لم يكن في ذلك إلّا أنه يشغلك عن سخف البيت وعن اعتياد الراحة لقد كان في ذلك على صاحبه أسبغ النعمة وأعظم المنّة. وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى: قال المهلب لبنيه في وصيته: يا بنيّ لا تقوموا في الأسواق إلا على زاد أو وراق. وقال شيخ: قرئ عليك ما أثر غطفان ذهبت بالمكارم إلّا من الكتب. وقال غيره: غبرت أربعين سنة ما قلت ولا بتّ ولا اتّكأت إلا والكتاب موضوع على صدري. وقال ابن الجهم: إذا استحسنت الكتاب، ورجوت منه الفائدة، فلو تراني وأنا ساعة بعد ساعة أنظر كم بقي من ورقة مخافة استفادة وانقطاع المادّة وإن كان الدفتر عظيم الحجيم، وكان الورق كثير العدد. والإنسان لا يعلم حتى يكثر سماعه، ولا بدّ أن تصير كتبه أكثر من سماعه، ولا يجمع حتى يكون الاتفاق عليه ممّا لعدّته. ومن لم يكن نفقته التي تخرج من الكتب ألذّ عنه من إنفاق عساق «1» والمستهزءين بالبنيان لم يبلغ في العلم مبلغا. وقال إبراهيم بن السندي: وددت أن الزنادقة لم يكونوا حرصا على المعالي بالورق النقي الأبيض، وتخيّر الحبر الأسود والخطّ الجيّد فإنني لم أركورق كتبهم ورقا، ولا لخطوطهم خطّا. وإني غرمت مالا عظيما مع حبّي للمال ونغصي للعزم لأن سخاء النفس بالإنفاق على الكتب دليل على شرف النفس، وعلى السلامة من شكر الآفات. وقال أبو عمرو بن العلاء: ما دخلت على رجل قطّ، ولا مررت ببابه فرأيته ينظر في دفتر وجليسه فارغ إلا اعتقدت أنه أفضل منه وأعقل.

وأنشد رجل يونس النحوي قوله: [البسيط] استودع العلم قرطاسا فضيّعه ... فبئس مستودع العلم القراطيس فقال: قاتله الله، فما أشدّ صبابته بالعلم، وأحسن صيانته له. إن عملك من روحك ومالك من بدنك فضعه مكان الروح، ومالك بمكان البدن. وقال الخليل بن أحمد: لا يصل أحد من علم النحو إلى ما يحتاج إليه حتى يتعلم ما لا يحتاج إليه. قال غيره: فإذا الذي لا يحتاج إليه هو الذي يحتاج إليه إذا لم يوصل إلى ما يحتاج إلّا بما لا يحتاج إليه. وقد قال صلى الله عليه وسلّم: قيّدوا العلم بالكتاب. وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: بقية عمر الإنسان لا يمنّ لها بدرك ما فاته ويحيي ما أماته، يبدل سيئاته حسنات. وقال علي بن أبي طالب، رضي الله عنه: إن الله تعالى جعل محاسن الأخلاق وصلة بينه وبين عباده، فيحسب أحدكم أن يتمسك بحبل متصل بالله. قيل لبعض الكذابين: كيف تحتال للكذب؟ قال: أكذب على الموتى وأستشهد الغيب. وقيل لبعض الحكماء: متى تقضي له بالصدق؟ قال: إذا صدق فيما يضرّه كما يصدق فيما ينفعه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: المؤمن يألف، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف. وقال صلى الله عليه وسلم: لم يكذب من قال خيرا ونمّى خيرا وأصلح بين الناس. قال ابن مسعود رضي الله عنه: من كان كلامه لا يوافق فعله فإنما يوبّخ نفسه وقال الجاحظ في كتاب البيان والتبيين: وقد صحت التجربة وقامت العبرة على أن سقوط جميع الإنسان أصلح في الإبانة عن الحروف منه إذا سقط أكثرها، وخالف أحد شرطيها للآخر، وقد رأينا تصديق ذلك في أفواه قوم شاهدهم الناس.

قال: ومتى وجد اللسان في جميع جهاته شيئا يقرعه ويصكّه، ولم يمرّ في هواء واسع المجال، وكان لسانه يملأ جوف فمه لم يضره سقوط أسنانه إلّا بالمقدار المغتفر. ويؤكده قول صاحب المنطق إن الطائر والسبع والبهيمة كلّما كان لسان الواحد منها أعرض كان أفصح وأجلى لما يلقن، ولما يسمع، نحو الببغاء والغداف وغراب البين. قال: ويدل على أن عظم اللسان نافع لمن سقط جميع أسنانه. قول كعب بن جعيل ليزيد بن معاوية حين أمره بهجاء الأنصار: أرادّني أنت في الكفر بعد الإيمان، ولكني سأدلك على غلام في الحي كأنّ لسانه لسان ثور، يعني الاخطل. وفي الحديث: إن الله يبغض الرجل تخلّل بلسانه كما تخلل الباقرة الحلا بلسانها. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسان: ما بقي من لسانك؟ فأخرج لسانه حتى قرع بطرفه طرف أرنبته، ثم قال: والله لو وضعته على صخر لفلقه، أو على شعر لحلقه وما يسرني به مقول من مغل رائق السمط، ثم قال بعد ذلك: وقد قال بعض جهابذة الألفاظ، ونقاد المعاني القائمة في صدور الناس، المتصورة في أذهانهم، المتلجلجة في نفوسهم، والمتصلة بخواطرهم، والجارية على أفكارهم، مستورة خفيّة، محجوبة مكتوبة، موجودة معدومة. ولا يعرف الإنسان ضمير صاحبه، ولا حاجة أخيه إلّا بغيره؛ وانما يحيي تلك المعاني استعمالهم لها وإخبارهم عنها؛ فبهذا يقرب من الفهم وينجلي للعقل، ويجعل الخفي ظاهرا والغائب حاضرا. والمجهول معروفا، والوحشي مألوفا. وعلى قدر وضوح الدلالة وصواب الإشارة يكون إظهار المعنى. وكلّما كانت الدلالة أوضح وأفصح كانت الإشارة أبين وأنور. والدلالة الظاهرة على المعنى الخفي هو البيان الناطق به القرآن. والله جلّ ثناؤه يمدحه ويدعوه إليه ويحث عليه. وتفاخرت العرب وتفاضلت العجم، وهو اسم لما كشف قناع المعنى وهتك الحجاب؛ حتى يفضي السامع إلى حقيقته كائنا ما كان ذلك البيان، ومن أي جلس كان؛ لأن الغاية التي تجري إليها إنما هو الفهم والإفهام؛ فبأي شيء بلغت الإفهام وأوضحت المعنى فذلك هو البيان في ذلك الموضع، ثم اعلم أنّ حكم المعاني خلاف حكم الألفاظ؛ لأن المعاني مبسوطة إلى غير غاية، ممتدة إلى غير نهاية. وأسماء المعاني مقصورة

معدودة، ومحصلة محدودة. وجميع أصناف الدلالات على المعاني من لفظ وغير لفظ خمسة أشياء، ولا تنقص ولا تزيد. وأولها اللفظ ثم الإشاره ثم العقد ثم الخط ثم النصبة، الحال التي تسمى نصبة. والنصبة هي الحال الدالّة التي تقوم مقام تلك الأصناف، ولا ينقص عن تلك الدلالات. ولكل واحدة من هذه الخمسة صورة بائنة عن صورة صاحبتها، وحلية مخالفة لحلية أختها. وهي التي تكشف عن أعيان المعاني، ثم عن حقائقها في التفسير وأجناسها وأقدارها، وخاصها وعامّها، وطبقاتها في السارّ والضارّ. والبيان نصر والعيّ عمى، كما أن العلم بصر والجهل عمى. والبيان من نتاج العلم، والعيّ من نتاج الجهل. وقال يونس بن حبيب: ليس لعيّ مروءة، ولا لمنقوص البيان بها. ولو حلّ بنا فوجّه أعنان السماء. قال: وأما الإشارة باليد وبالرأس وبالعين وبالحاجب وبالمنكب وبالثوب وبالسيف. وقد يتهدّد رافع السوط والسيف، فيكون ذلك زاجرا رادعا، ويكون وعيدا أو تحذيرا. والإشارة واللفظ شريكان، ونعم العون هو له ونعم الترجمان. وما تعذر الإشارة أن تكون ذات حلية موصوفة، وصورة معروفة. وفي الإشارة بالطرف والحاجب وغيرهما من الجوارح موفق كبير، ومعونة حاضرة في أمور يسترها بعض الناس من بعض، ويخفونها من الجليس وغير الجليس. ولولا الإشارة لم يتناهم الناس ولجهلوا هذا الباب البتّة. وقد قال الشاعر: [الطويل] أشارت بطرف العين خيفة أهلها ... إشارة مذعور ولم تتكلّم فأيقنت أن الطّرف قد قال مرحبا ... وأهلا وسهلا بالحبيب المسلّم هذا ومبلغ الإشارة أبعد من مبلغ الصوت، والصوت آلة اللفظ، وهو الجوهر الذي يقوم به التقطيع، وبه يوجد التأليف وحسن الإشارة باليد والرأس من تمام حسن البيان باللسان. وقد قال الشاعر: [الطويل] إذا نحن خفنا الكاشحين فلم نطق ... كلاما تكلّمنا بأعيننا سرّا فنقضي ولم يعلم بنا كلّ حاجة ... ولم تظهر الشكوى ولم نهتك السّترا

فأما الخط فمّما ذكر الله فيه لنبيه صلى الله عليه وسلم اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ* الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ* «1» . وأقسم بالكتاب المكنون، فقال: «ن والقلم وما يسطرون* «2» » . والقلم أحد اللسانين، وهو أبقى أثرا، واللسان أكثر هذرا. وقال عبد الرحمن بن كيسان: استعمال القلم أجدر، وأن يحضّ الذهن على تصحيح الكتاب من استعمال اللسان على تصحيح الكلام. واللسان مقصور على القريب الحاضر، والقلم مطلق في الشاهد والغائب. وهو في الغابر الكائن مثله للقائم الراهن. والكتاب يقرأ بكل لسان، ويدرس في كل زمان؛ واللسان لا يعدو سامعه ولا يتجاوز مواضعه. وأمّا العقد وهو الحساب دون اللفظ والخط. فالدليل على لفظه والانتفاع به قوله تعالى: فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ «3» . وقوله: الرَّحْمنُ* عَلَّمَ الْقُرْآنَ* خَلَقَ الْإِنْسانَ* عَلَّمَهُ الْبَيانَ* الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ «4» . وقوله: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ «5» . وقوله: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ «6» ولولا معرفة العباد معنى الحساب في الدنيا لما فهموا معنى الحساب في الآخرة. وأما النصبة فهي الحال الناطقة بغير اللفظ، والمشيرة بغير اليد؛ وذلك ظاهر في خلق السماوات والأرض، وفي كل شيء.

وكذلك قال الاول: سل الأرض فقل: من شقّ أنهارك وغرس أشجارك وجنى ثمارك؟ فإن لم تجبك أجابتك اعتبارا. وقال صالح بن عبد القدّوس: [الخفيف] إن يكن لا تطيق رجع جواب ... فلقد ما ترى وأنت خطيب واعظات وما وعدت تقول ... مثل وعظ بالصّمت إذا لا تجيب وقال بعض الحكماء: أشهد أن السماوات والأرض آيات ودلالات وشواهد قائمات، كلّ يؤدي عنك الحجة، ويشهد لك بالربوبية. وقال خطيب من الخطباء حين قام على سرير الإسكندر وهو ميت: الإسكندر كان أمس أنطق منه اليوم، وهو اليوم أوعظ منه أمس. وقال عنترة وجعل نعيب الغراب خبرا للزّاجر «1» : [الكامل] خرق الجناح كأنّ لحيي رأسه ... جلمان بالأخبار هشّ مولع «2» وقال أبو الرديني العكلي، وذكر تنسم الذيب الريح، وصدق استراوحه، واستنشائه: [الرجز] يستخبر الرّيح إذا لم يسمع ... بمثل مقراع الصّفا الموقّع وقال آخر: [البسيط] إنّ السّماء وإنّ الأرض شاهدة ... والله يشهد والأيّام والبلد وقال الجاحظ: ومتى دلّ الشيء على معنى فقد أخبر عنه، وإن كان صامتا وأشار إليه، وإن كان ساكنا. وهذا القول شائع في جميع اللغات، ومتفق عليه مع إفراط الاختلافات. وقال نصيب في هذا المعنى يمدح سليمان بن عبد الملك: [الطويل]

أقول لركب قافلين رأيتهم ... قفا ذات أو شال ومولاك لاعب قفوا خبّروني عن سليمان إنّني ... لمعروفه من أهل ودّان طالب فعاجوا فأثنوا بالذي أنت أهله ... ولو سكنوا أثنت عليك الحقائب «1» وقال الجاحظ: قال عليّ كرّم الله وجهه: قيمة كل امرئ ما يحسن. فلو لم تقف إلّا على هذه الكلمة لوجدناها كافية شافية، ومجزية مغنية؛ بل لوجدناها فاضلة عن الكفاية، غير مقصودة عن الغاية. وأحسن الكلام ما كان قليله مغنيا عن كثيره، ومعناه ظاهر في لفظه. وإذا كان المعنى شريفا، واللفظ تبليغا وكان صحيح الطابع بعيدا من التكلّف صنع في القلوب صنيع الغيث في التربه الكريمة وحينئذ لا يمتنع من تكليفها صدور الجبابرة، ولا يذهب عن فهمها عقول الجهلة. وقال عامر بن عبد القيس: الكلمة إذا خرجت من القلب وقعت في القلب، وإذا خرجت من اللسان لم تجاوز الآذان. وقد جمع الباقر صلاح شأن الدنيا بحذافيرها قال: صلاح جميع التغابن والتعاشر ملء مكيال، ثلثاه فطنة وثلثه تغافل. قال الجاحظ: فلم يجعل لغير الفطنة نصيبا؛ لانّ الإنسان لا يتفاضل إلا عن شيء قد فطن له. وقيل لا بن عبّاس: أنّى لك هذا العلم؟ قال: قلب عقول ولسان سؤول. وقيل لمحمد بن علي والد الخليفتين: متى يكون وجود الأدب سرّا من عدمه؟ قال: إذا كثر الأدب ونقصت القريحة. وكان يقول: كفاك من علم الدين أن تعرف ما لا يسع جهله. وكفاك من علم الأدب أن يروى الشاهد والمثل. وقال أبو مسلم: سمعت الامام إبراهيم بن محمد يقول: يكفي من حفظ البلاغة ألّا يؤتى السامع من سوء إفهام الناطق، ولا يؤتى الناطق من سوء إفهام السامع. قال الجاحظ: وأنا استحسن هذا الكلام جدّا. ومن كلامه قوله: اللهم إنّا نعوذ بك من فتنة القول كما نعوذ بك من فتنة العمل. ونعوذ

بك من التكلف لما لا يحسن، كما نعوذ بك من العجب بما يحسن، ونعوذ بك من السلاطة والهذر، كما نعوذ بك من العيّ والحصر. وقوله أيضا: وذكر الله تعالى جميل بلائه في تعليم البيان، وقال: هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ «1» . ومدح القرآن بالبيان والإفصاح، وبحسن التفصيل والإيضاح وسمّاه فرقانا، كما سمّاه قرآنا. وقوله: رأيت فلانا ينفض يده منك، وأنت تصادر على وصله، وكفى بالإعراض حاجبا والانقباض طاردا. ومن وقف في الإذن لك فقد حجبك، ومن تنكّر عن حكايتك فقد كذّبك، ومن حظر عنك سرّه فقد اتّهمك، ومن مطلك «2» ولو ساعة فقد حرمك، ومن تمنى فقدك فقد قتلك، ومن صادق عدوّك فقد عاداك، ومن عادى عدوّك فقد والاك، ومن صدقك عن عيبك فقد علّمك، ومن أقبل بحديثه على غيرك فقد طردك، ومن شكر إليك سواك سلّك، ومن سكت عن مديح الناس فقد ثلبك، ومن بلّغك شتمك، ومن استمهلك في الجواب فقد هابك، ومن أجرى ذكرك عند من لا تأمنه عليك فقد اغتابك، ومن نقل إليك فقد نقل عنك، ومن شهد لك بالباطل فقد شهد عليك، ومن وقع لك في أخيك فقد وقع لك فيك، ومن أحبّك لغير شيء فقد أبغضك لغير شيء، ومن أحسن إليك فقد استعان بالأيّام عليك؛ فإن شكرته جازتك عنه، وإن كفرته حاربتك دونه. ومن ألحّ في سؤالك فقد طرق لك إلى حرمانه، ومن أمرك بما لا تطيق فقد أغراك بعصيانه. جعلتك سهمي فيها، وأعطيتك ما أعطيت نفسي منها، فكن شفيقي إلى أذنك حتى تسمعها، ونفيع أذنك إلى قلبك حتى يفهمها، وشفيع إلى نفسك حتى تعمل بها.

4 - أبو محمد عبد الله بن سعيد بن محمد بن سنان الخفاجي

ومنهم: 4- أبو محمد عبد الله بن سعيد بن محمد بن سنان الخفاجي «13» الحلبي. إن تكلّم في دقائق الأدب أتقنها، أو في لغة العرب قال متقنها بنظم أقوى من تركيب الأنابيب «1» ، وأحوى من الليل لشمل كل غريب. تنوّع في فنونه، وتسرّع إلى أخذ القلوب بفتونه. وترفّع في طبقاته فرأى الدراري من دونه. لمع بالتوشية برديه ووارى في التسوية النهار في وضوح ضحاه، وطيب أبرديه. وجارى البحر كلامه، فكأنه قذف من الدّر مالديه، وولّد فيه من التشبيه كلّ عقيم، ومن اللطائف ما يحسن على خدود الطروس عذاره الرقيم، ومن المعاني الواضحة الخفيّة ما يحاكي الظرف الصحيح السقيم. وله مع أبي العلاء محاورات أجلّ من محاورة الحبيب، ومجاراة أمتع من مجاراة الشادن الربيب. وقد ذكر ابن العديم منه شذورا وبلغ بها أماني كأنما وفّى بها نذورا. وكان الخفاجي شيعيا مبالغا في الغلوّ لا بل كان رافضيا، إن يزيد في الأرض إلّا الفساد والغلو. وفي شعره منه تلك التي تستك منها المسامع، وتستل دماء النفوس حسرات بها المدامع ذكر فيها السلف الأول بما برّأهم الله من عيابه وبرّاهم لردّ نباله الراشقة في جعابه، ولقد ذكر أبا بكر الصديق رضي الله عنه في معنى فدلّ بما يدرأ به هذا العظيم الغرابة في سحره، ويردّ به سهم هذا المنتصب عرضا إلى نحره ويرمي به شيطانه الإفك بزخره، ويعاد به حليّه؛ ولو كان العنبر الورد إلى شجره. فأما شعره فمما لا ينكر لؤلؤه لبحره. [الكامل] عكس الأنام فإن سمعت بناقص ... فاعلم بأن لديه حظا زائدا وتفاوت الأرزاق أوجب فيهم ... أن يجعلوه مصالحا ومفاسدا «2» وقوله: [البسيط]

ومكبرين صغيرا من عقولهم ... لم يركبوا الخيل إلّا بعد ما كبروا أخفوا بكيدهم عذرا فما عبأت ... سمر الرّماح بما همّت به الإبر «1» منها: جرّبتموه فأفنتكم صوارمه ... ولو عقلتم كفاكم دونه الخبر وقد علا فوق أفلاك النّجوم بها ... فكيف يلحق من في باعه «2» قصر حذّر بناس بني حمدان في أمم ... تأتي فقد ظهرت في هذه النّذر واذكر لهم سيرا في المجد معجزة ... لولا الشّريعة قلنا إنها سور السّابقون إلى الدّنيا بما ملكوا ... ما أورد النّاس إلا بعد ما صدروا ومنها: فرع أبان جناه طيب عنصره ... ما يعرف العود حتى يعرف الثّمر منها: منظومة فإذا فاه الرّواة بها ... ظننت أنّ نجوم اللّيل تنتشر من معجزاتي التي لولا بدائعها ... في الشّعر شبّه قوم بعض ما سحروا ومنه قوله: [الطويل] وجذوة نار دون ذكر مكانها ... سريرة حبّ لا يخاف ظهورها «3» تناهيت في كتمانه فنسيته ... فلله نفس غاب عنها ضميرها وقوله: [الكامل] ودع النّسيم يعيد من أخباره ... فله حواش للحديث دقاق ما نمّ من علق العذيب بغائب ... إلا وقد شهدت به الآفاق

وعلى الغضا إن كنت من جيرانه ... نار تقسّم حرّها الأشواق «1» منها: ومشتّت العزمات ينفق عمره ... حيران لا ظفر ولا إخفاق أمل يلوح اليأس في أرجائه ... وغنى يشفّ وراءه الإملاق يمري عقاقة ثروة لو أنّها ... نوم لما شعرت به الآماق وقوله: لو أنصفت زفّت إلى خطّابها ... والبدر تاج والنّجوم نطاق لم تعترضها بالحجاب نقيصة ... ما كلّ ما ستر البدور محاق «2» وقوله: [الطويل] وهاتفة في البان تملي غرامها ... علينا ونتلو من صبابتها صحفا عجبت لها تشكو الفراق جهالة ... وقد جاوبت من كلّ ناحية إلفا ويشجي قلوب العاشقين حنينها ... وما فهموا ممّا تغنّت به حرفا ولو صدقت فيما تقول من الأسى ... لما لبست طوقا ولا خضّبت كفّا أجارتنا أذكرت من ليس ناسيا ... وأضرمت نارا للصّبابة لا تطفى «3» منها: لعمري لئن طالت علينا فإنّنا ... بحكم الثّريّا قد قطعنا لها كفّا رمينا بها في الغرب وهي ذميمة ... ولم تبق للجوزاء عقدا ولا شنفا كأنّ الدّجى لّما تولّت نجومه ... مدبّر حرب قد هزمنا لها صفّا كأنّ عليه للمجرّة روضة ... مفتّحة الأزهار أو نثرة زغفا «4» كأنّا وقد ألقى إلينا هلاله ... سلبناه تاجا أو فصمنا له وقفا

كأن السّهى إنسان عين قريحة «1» ... من الدّمع تبدو كلّما ذرفت ذرفا كأن سنا المرّيخ شعلة قابس ... تخطّفها عجلان يخطفها خطفا كأن سهيلا فارس عاين الوغى ... ففرّ ولم يشهد طرادا ولا زحفا كأن أفول النّسر طرف تعلّقت ... به سنة ما هبّ منها ولا أغفى وقوله: [الكامل] ما كان يعلم قبل فيض نواله ... أنّ الغمام إذا استهلّ بخيل فرقت عزائمه فشاب لها الدّجى ... خوفا وأثّر في الهلال نحول وقوله: [الرمل] كلّ ميّاس جرت أعطافه ... وعواليه على حكم التثنّي هزّة للجود صارت نشوة ... لم يكدّر عندها العرف بمنّ وقوله: [الطويل] وهل علم البرق اليمانيّ أنّنا ... طرقنا به طرفا من الليل أكحلا وما باله خصّ الغضا بابتسامة ... وسلّ على رمل الشّقيقة منصلا وهيفاء طوع الرّيح قد خلع الدّجى ... عليها هلالا بالنّجوم مكمّلا لها من خلال المشرفيّ صقاله ... ومن شيم الخطّي أن يتميّلا «2» وقوله: [الطويل] وليس بكاء العين إلّا جناية ... ولا اللّوم إلّا أنّها بقيت معي وكل أسى لا تذهب النّفس عنده ... فما هو إلّا من قبيل التّصنّع وو الله ما وفّيت ودّك حقّه ... وهل هي إلّا لوعتي وتفجّعي وأين وفائي لامدى الدّمع بالغ ... رضاي ولا جهد الصّبابة مقنعي

وقوله: [الكامل] أنفقت بعد أبي العلاء مدامعا ... حبست ذخيرتها على الآماق وبكيته وجفونها موجودة ... مثل الحمام تنوح بالأطواق وظننت في فيض الدّموع من الجوى ... فرجا فصار بمائها إغراقي «1» قوله: [الكامل] ومدامع سبقت خيال نديمه ... ما كنت إلا قطرة من ظلّها وإذا القلوب ترادفت أحزانها ... فالدّمع يحمل شعبة من ثقلها وقوله: [الطويل] لحا الله مغلوبا على نصل سيفه ... مقيما على نهي الزّمان وأمره أناخ بدار الهون حتّى كأنّما ... يرى الرّزق مقصورا على مستقرّه وقوله: [الطويل] وقلّ زمان العاجزين فإنّني ... لأكرم نفسي أن أقول زماني إذا باعدت منّا المناسب قرّبت ... مودّة لا ناس ولا متوان وإنّ سنان الرّمح ينجد ربّه «2» ... على بعده لا زجّة المتداني وقوله: [الرّجز] فربّ ليل في هضاب عاقل ... رقّ نسيما حين طاب ملبسا يظنني الغيران قد شهدته ... وإنّما وصفته تفرّسا وقوله: [الطويل] ألوم عليك الوجد وهو مبرّح ... وأعتب فيك الدّمع وهو نجيع وأعلم أنّي ما منحتك طائلا ... وهل هي إلّا زفرة ودموع

وقوله: [الكامل] وصبابة علقت بقلب متيّم ... وصل الغرام إليه قبل حجابه وإذا الغريب صبا إلى أوطانه ... شوقا فمعناه إلى أحبابه وقوله: [الطويل] وظبي من الأعراب «1» رنّحه الصّبا ... فمال وفي أعطافه تقبس الخمر إذا أخذ المرآة ينظر وجهه ... ظننتهما شمسين بينهما بدر وقوله: [البسيط] من كان يحمد ليلا في تقاصره ... فإنّ ليلي ما يرجى له سحر لا تسألوني إلّا عن أوائله ... فآخر الليل ما عندي له خبر وقوله: [الطويل] فيا قلب قد حذّرتك النظرة الّتي ... خلست فما راقبت نهيا ولا زجرا ويا قلب قد أرداك من قبل مرّة ... فويحك لم طاوعته مرّة أخرى وقوله: [الكامل] ومهوّن للوجد يحسب أنّها ... يوم العذيب مدامع وخدود سل بانة الوادي فليس يفوتها ... خبر يطول به الجوى ويزيد وانشد معي ضوء الصّباح وقل له ... كم تستطيل بك الليالي السّود وقوله: [الرّمل] يا عيونا بالغضى راقدةّ ... حرّم الله عليكنّ الكرى لو عدلتنّ تساهمنا جوى ... مثلما كنّا اشترطنا نظرا سل فروع البان عن قلبي فقد ... وهم البارق فيما ذكرا «2»

وقوله: [الكامل] واستخبروا ليلا رعيت شبابه ... ليلا ولم ينصل دجاه شبابي سهرت كواكبه معي وبعدتم ... أنتم كواكبه وهنّ صحابي «1» وقوله: [الكامل] بيني وبين الذلّ عزّ قناعة ... نبذ الحمام إباؤها وتبرّضا وسنان مطّرد الكعوب مثقف ... كالصل صرّح بالوعيد ونضنضا إن ضاق مسرح ناقتي بفنائكم ... فزمامها بيدي وما ضاق الفضا «2» وقوله: [المديد] ما على العذّال لو نظروا ... ثم لاموا فيك واعتذروا قمر ضلّ الأنام به ... ما بهذا يعرف القمر «3» وقوله: [الكامل] ومن العجائب أنّ بيض سيوفه ... تبكي دما وكأنّها تتبسّم فالآن سلّمت القلوب إليكم ... وتيقنّت أنّ الخلافة فيكم «4» وقوله: [الطويل] وما أنا بالمشتاق إن قلت بيننا ... طوال العوالي أو طوال السباسب فما لقلوب العاشقين مزيّة ... إذا نظرت أفكارها في العواقب منها: إذا كان عقل المرء أدنى خلاله ... فما هي إلا ثغرة للمصائب وكم حبس القمريّ حسن غنائه ... وقيّدت البازيّ حجن المخالب

منها: تظنّ العدا أنّي مدحتك للغنى ... وما الشّعر عندي من كريم المكاسب وما شئت إلّا أن تتمّ صفاته ... وللدرّ معنى في نحور الكواعب «1» وقوله: [الرمل] ما على أحسنكم لو أحسنا ... إنّما يطلب شيئا هيّنا قد شجانا اليأس من بعدكم ... فادر كونا بأحاديث المنى وعدوا بالوصل من طيفكم ... مقلة تعرف فيكم وسنا لا وسحر بين أجفانكم ... فتن الحبّ به من فتنا وحديث من مواعيدكم ... تحسد العين عليه الأذنا ما رحلت العيس عن أرضكم ... فرأت عيني شيئا حسنا يا بني عذرة إن خفناكم ... قدم الهرماس «2» منكم عدنا أخذت سمركم الثّأر به ... لست أعني لكم السّمر القنا وسللتم فيه ألحاظكم ... فعرفنا بالسّيوف اليمنا هل لنا نحوكم من عودة ... ومن التّعليل قولي هل لنا كم أسلّي النّفس عن حبّكم ... وهي لا تزداد إلّا حرنا ولعمري لو وجدنا راحة ... من هواكم لطلبنا شجنا يا نديميّ غفا ذكركم ... وحديث الشّوق قد أسكرنا بين بصرى وضمير غرب ... يأمن الخائف فيهم ما جنى كلّما شنّت عليهم غارة ... أغمدوا البيض وسلّوا الأعينا طلعت للحسن فيهم مزنة ... أنبتت في كل حقف «3» غصنا ما لقلبي ليس يشفى داؤه ... كلّما زال ضنا عاد ضنا لو سلمنا من تباريح الجوى ... لذكرنا جملة من أمرنا

وشكرنا لابن نصر منّة ... أنطقت بالمدح فيه الألسنا «1» قوله: [البسيط] إذا هجرتكم لم أخش سطوتكم ... وإن مدحت فما حظّي سوى التّعب فحين لم ألف لا خوفا ولا طمعا ... رغبت في الهجو إشفاقا من الكذب قوله: [الكامل] هل تسمعون شكاية من عاتب ... أو تقبلون إنابة من تائب أم كلّما يتلو الصديق عليكم ... في جانب وقلوبكم في جانب أمّا الوشاة فقد أصابوا عندكم ... شرفا ينفّق كلّ قول كاذب فمللتم من صابر ورقدتم ... عن ساهر وزهدتم في راغب وأقلّ ما حكم الملال عليكم ... سوء القلى وسماع قول العائب «2» وقوله: [الطويل] وعلّمتوني كيف أصبر عنكم ... وأطلب من رقّ الغرام بكم عتقا فما قلت يوما للبكاء عليكم ... رويدا ولا للشّوق نحوكم رفقا وما الحبّ إلا أن أعدّ قبيحكم ... إليّ جميلا والقلى منكم عشقا «3» وكان أبو محمد الخفاجي قد عصا بقلعة عزاز من أعمال حلب، وكان بينه وبين أبي نصر، محمد بن الحسن ابن النحّاس الوزير لمحمود وغيره مودّة أكيده. فأمر محمود أبا نصر أن يكتب إلى الخفاجي كتابا يستعطفه ويؤمنه. وقال: إنه لا يأمن إلّا إليك، ولا يثق إلّا بك. فكتب إليه كتابا، فلما فرغ منه، وكتب: إن شاء الله، وشدّد النون من إن شاء الله. فلما قرأه الخفاجي خرج من عزاز قاصدا إلى حلب. فلما كان على ظهر الطريق أعاد النظر في الكتاب، فلمّا رأى التشديد على النون أمسك رأس رأسه وأفكر، وقال في نفسه: لم يكتب ابن النحاس هذا عبثا، فلاح له إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ «4» ، فرجع إلى عزاز ولم

يدخل حلب. وكتب إليه الجواب: إنّا الخادم المعترف بالإنعام، وكسر الألف من، أنا، وشدّد النون وفتحها. فلمّا وقف الشيخ أبو نصر على الكتاب سرّ بما فيه، وقصد بذلك: إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها «1» : فكتب إليه يحذّره ويستصوب رأيه في ترك الحضور، ويستعلم أخباره فكتب إليه ابن سنان، وهو آخر شعر قاله: [البسيط] خف من أمنت ولا تركن إلى أحد ... فما تزيد على غدر الأعاريب تمسّكوا بوصايا اللّؤم بينهم ... وكاد أن يدرسوها في المحاريب أعدّ قرب رحيلي منهم فرجا ... وما مقامي وعيش الدّهر يسري بي «2» قال: فلما رأى محمود امتناع ابن سنان من حضور مجلسه، والركون إليه أخذ يفكر في حيلة يبلغه بها، فاستدعى أبا نصر ابن النحاس، وقال له: أنت أشرت عليّ بتولية هذا الرجل، ولا أعرف فراغ بالي منه إلا من جهتك، ومتى لم تفعل ما آمرك به قتلتك، وألحقت بك جميع من بينك وبينه حرمة. واعلم أن العلامة في نصحك وترك الغش منك لي موته. ومتى لم يقع هذا ألّا أقبل لك عذرا. وضربت عنقك. فقال له: مرني بأمرك. قال: تمضي إليه، وفي صحبتك ثلاثون فارسا، فإذا قاربته أنفذت من يعرفه حولك؛ فإنه إذا عرف ذلك لا يرى ترك النزول إليك والتلقي لك، فإذا فعل ذلك وسألك النزول عنده والأكل معه فامتنع، وعرّفه أني حلّفتك ألّا تأكل زاده، ولا تحضر مجلسه حتى يعطيك في الحضور عندي. وطاوله في المخاطبة حتى يقارب الظهر، ثم ادّع أنك قد جعت واخرج هذين الخشتنانكتين، فكل أنت هذه وأطعمه هذه، فإن استوفى أكلها عجّل الرجوع إليّ؛ فإن ميتته فيها. فسار ابن النحاس مقدّما رجلا ومؤخرا أخرى، مقسّم الفكر في إتلاف مثل ذلك الأخ. قال: وعزمت على الهرب، ثم فكّرت فيمن خلّفت من العائلة، فألجأته الضرورة إلى أن فعل

5 - عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني

جميع ما أمر به محمود. وكان بين ابن سنان وبين ابن النحاس من المودّة والصفاء ما لم ينكر معه شيئا ممّا جرى. قال: وجعل والله يأكلها فلما استوفى أكل كشتنانكته صرفت رأس فرسي إلى حلب، مجدّا في السير، خوفا من الطلب، ورجع ابن سنان إلى مركزه من القلعة فلما استقرّ بها وجد مغصا شديدا، ورعدة مزعجة، ثم قال: قتلني والله أخي أبو نصر بما أطعمني من زاده. وأمر بالركوب خلفه وردّه، فركبوا خلفه ففاتهم، ووصل ابن النحاس عشاء إلى حلب، وعرّف محمود بما جرى. فلمّا أصبح، كان من الغدو قد وصل من عزاز من أخبر أن ابن سنان في الشاقّ. واستدعى ابن سنان حضور الشريف أبي المعالي النقيب. وحكى أبو الحسن علي بن معن، قال: كنت ممّن خرج من حلب إلى عزاز يومئذ فوجدنا الشيخ أبا محمد ابن سنان ليس له يد تتحرك، فجعل يتصفّح وجوهنا، ولا يستطيع كلامنا، ثم مات رحمه الله سنة ست وستين وأربعمائة. ومنهم: 5- عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني «13» الإسماعيلي النحوي، أبو بكر. الإمام في علم العربية، مجلي حنادس «1» ، ومصدّق ظن حادس. جعل فسحاء الكتب مراحه، وخالف زمانه على عدم الراحة، فكان يحمل نفسه فوق الطاقة، ولا يصالح شمسه بالعاقة «2» فلم يأته ليل إلا وجدّ زناده في شوقه، وجدّ عادة

منه حتى فكّك أزرار نجومه من طوقه، ثم لم يزل حتى يخلط أول ليله بنهاره، ويجمع في طرفيه بين سقيفه ونهاره. فلا يخفف عنه شفقا، ولا يعرف أصيلا ولا شفقا؛ ولهذا ساد وساد ذكره بين تأويب وآساد. وهو من أئمة البيان، وأهله أهلّة الأعيان، أظهر اللطائف وبيّنها ومثّلها للعيان، وعيّنها، فأخرج خباياها، وأبدى خفاياها، وأتى فيها من شهد النحل ما ضمّت خلاياها، فأخذ اللبّ وترك القشور، وأبقى من صحفه ما لا يطوى إلى يوم النشور. وأخذ النحو عن أبي الحسن، عبد الوارث ابن أخت أبي عليّ الفارسي. ولم يلق شيخا مشهورا غيره، لأنه لم يخرج عن جرجان. وكان ينتحل مذهب الشافعي، وأصول الأشعري. وبرز على من تقدّمه، وأعجز من تأخّر عنه، وتوفي سنة إحدى وقيل سنة أربع وسبعين وأربعمائة. ومن شعره ما قاله ارتجالا، ممّا يكتب على القلم: [الكامل] مهما حصلت بكفّ خير النّاس ... سعد جلوت المجد في القرطاس ولقيت آمال العفاة بنجحها ... وقلعت بالنّعمى عروق الياس وغدوت والسّيف المهنّد خادمي ... وترى الأسنّة لا تقوم لناسي وقوله في معنى: [الوافر] أتيه على الحسام إذا جرت بي ... يد الشّيخ الإمام أبي المحاسن أقصّي الجود عنه في البرايا ... وأطلع بالمناجح والميامن ومنه قوله: [مخلع البسيط] أعرض عن العقل لا ترده ... ومل إلى الجهل ميل هايم وعش حمارا تعش بخير ... فالسّعد في طالع البهائم ومنه قوله: [السّريع] لا تأمن الغيبة من شاعر ... ما دام حيّا لافظا ناطقا فإنّ من يمد حكم كاذبا ... يحسن أن يهجوكم صادقا

6 - أبو الحسن الزمخشري

وقوله أيضا: [الكامل] لا يوحشنّك أنّهم ما ارتاحوا ... ممّا جلاه عليهم المدّاح فهم كقوم علّقت ثاراتهم ... بيض المرامي والوجوه قباح ومنهم: 6- أبو الحسن الزمخشري «13» محمود بن عمر بن محمد بن أحمد الخوارزمي. إمام أيّ بحر بين جنبيه، وأيّ طودخبا في ثوبيه. أيّ بدر طلع من عرفه، وأيّ برق تهلّل في شرفه. شهم أي شهم، وخاطر لا يمرّ به وهم؛ إلّا أنه كان من رؤوس الاعتدال، وصدور أهل الاعتلال، كلمة أجمع عليها أهل السنّة وأطلقت عليه بالتحقيق لا بالظنّة، بان بها انكشافه، وحقّق أمرها كشّافه، وجاور البيت الحرام بمكة باقي مدّته، وثوى بها ثواء لا هبوب من رقدته. وكان بها ربيعا لأهل ذلك الوادي، وضياء لأهلّة ذلك النادي. تسري الركائب إليه، وترى الوفود تمام الحج أن تقف المطايا عليه. وكان يسمّى جار الله وهكذا كان يكتب في الفتاوى. ويقال: إنه كان يرى جواز إباحة المنفعة، ولا يصرّح منه إلّا بطرف إيماء. وقيل: إنه ربّما فعله مع بعض أعزاء أضيافه وأخصّاء نزلائه من أهل ائتلافه. كان واسع العلم كثير الفضل، غاية في الذكاء وجودة القريحة، متقنا لكل علم، معتزليا قويا في مذهبه، مجاهرا به، حنفيّ الفروع. ورد إلى بغداد غير مرّة، وجاور بمكة، وتلقّب بجار الله تشبيها بأبي المعالي الجويني «1» ؛ إذ يلقب بإمام الحرمين لمجاورته بهما. وكان يلقب

أيضا بفخر خوارزم. دخل عليه بعض الفضلاء، فقال له: بم عاجلك الشيب؟ قال: بمتابعة الأسفار ومطالعة الأسفار فقال الزمخشري: إنّ رواءه يدلّ على ما وراءه. وأصاب الزمخشري في رجله خراج فقطعها، ووضع عوضها رجلا من خشب. وكان إذا مشى ألقى عليها ثيابه الطوال، فيظنّ من يراه أنه أعرج. ومن شعره ما قاله في شيخه فريد العصر، أبي مضر محمود بن جرير الأصبهاني «1» : [الطويل] سلام عليكم أدمعي قلمّا ترقى ... إذا سمت من تلقاء أرضكم برقا ومن عجب أنّي إذا لاح بارق ... بأرضكم استمطرت أجفاني الودقا وما خلت هذا البرق إلا ابتسامة ... بسعدي أضاءت عند إيماضها الأفقا أأومض برق أم سعاد تبسّمت ... فما تعرف العينان بينهما فرقا تمنّيت لو يغني التمنّي لقاؤها ... بوقع رماح الخطّ من دون أن تلقى خليليّ هل أيامنا بسويقة ... رواجع أو طارت بأيامنا العنقا مقيل شباب قد تقلّص ظلّه ... ومشرع لهو آض سلساله رتقا إذا الرّيح من شرقي لهو تبسّمت ... فيا برد صدري حين انشقها نشقا ولهفي على عصر تقضّى مناسب ... سحابا فريد العصر أو وجهه الطلقا وقوله يرثي شيخه المذكور: [الطويل] وقائلة ما هذه الدّرر الّتي ... تساقطها عيناك سمطين سمطين فقلت لها الدرّ الذي كان قد حشي ... أبو مضر فيه تساقط من عيني وقوله: [الطويل]

7 - السكاكي

أبادية الأعراب بعدا فإنّني ... بخاطرة الأتراك نيطت علائقي وأهلك يا نجل العيون فإنّني ... بكيت بهذا الناظر المتضايق وقوله: [الرجز] تزهو علينا بقوس حاجبها ... زهو تميم بقوس حاجبها وسمع الزمخشري قول القائل: إن السفيه إذا لم ينه مأمور، فحذا حذوه، فقال: [الكامل] وإذا سفيه عضّني في مجلس ... ونهاك من غرر الأكارم معشر فهم الألى عضّوا إذا ما هم رضوا ... وهم الألى نكروا إذا لم ينكروا ومنهم: 7- السكّاكي «13» فعله غير مشوّه، وفضله أيّ مموّه، ذو علوم، يترك آية الليل ممحوّة، وشفة السحر للمناداة حوّة. أضاءت داريه، وطالت متن البجاد أياديه. سعى للعلوم فحصّل طرائفها، وحضن تحت جناحه طوائفها. واهتزّ للمعاني اهتزاز الغصن للبارح، ولزّ من تقدّمه في الزمان لزّ الجدع القارح، فأضحى الفضل كلّه يزم بعنانه، ويذم السيف ونصله سنانه «1» .

8 - ابن أبي الإصبع

8- ابن أبي الإصبع «13» وأما المغاربة فلم يقع إلينا من هذه الطائفة منهم أحد، ممّن هو على شرط هذا الكتاب. وأما مصر فلم يقع إلينا من أهلها إلّا واحد، ولكنه أيّ واحد! واحد كالألف إن أقرعنا، وهو الزكي عبد العظيم بن عبد الواحد بن ظافر بن عبد الله بن محمد بن جعفر بن الحسن بن محمد العدواني المصري. عرف بابن الإصبع. جدّ حتى انقاد له الحظّ، وسهر حتى رقّ عليه قلب الليل الفظّ. طالما تمحّى ليل بإدراكه، وتنحّى سهيل فوقع في أشراكه. مرّ على قطائع الكواكب فساق قلائصها، وسام في طرائد الليل قنائصها. وكان بمصر، وله مثل مقطعاتها، ونضير مصبغات ربيعها ومصبغاتها، قطع شعر، هي السحر الحلال، والبارد العذب لا ماء النيل الزلال. وعليه تخرج جماعة المتأخرين من الأدباء. وكان الأديب أبو الحسين الجزار «1» يمتّ بحضوره لديه، وعرض أوائل شعره عليه. وله عمّ، أي الحسين بسببه حكايات ليس هذا موضعها. مولده سنة خمس، وقيل: سنة تسع وثمانين وخمسمئة بمصر. وتوفي في الثالث والعشرين من شوال سنة أربع وعشرين وستمئة. وله تصانيف مفيدة. وذكر شيخنا أبو الثناء الكاتب في التوشيع، قال: وقال ابن أبي الإصبع: وما بشعر قلته في هذا الباب من بأس، هو: [البسيط] بي محنتان ملام في هوى بهما ... يرمى لي القاسيان الحبّ والحجر لولا الشقيقان من أمنيّة وأسى ... أودى بي الموديان الشوق والفكر قال شيخنا أبو الثناء: ويحسن أن يسمى ما في بيته مطّرف التوشيع، إذ وقع المثنى في

أول كل بيت وآخره. وذكر في التفريع، أن ابن الإصبع ذكره في صدر الباب، وقال: إنه هو الذي استخرجه، وهو أن يبتدئ الشاعر بلفظة، هي إما اسم أو صفة، ثم يكرّرها في البيت مضافة إلى أسماء أو صفات، تتفرع عليهما جملة من المعاني في المدح وغيره، كقول المتنبي: [المتقارب] أنا ابن اللّقاء أنا ابن السّخاء ... أنا ابن الضّراب أنا ابن الطّعان أنا ابن الفيافي أنا ابن القوافي ... أنا ابن السّروج أنا ابن الرّعان «1» طويل النّجاد طويل العماد ... طويل القناة طويل السّنان حديد اللّحاظ حديد الحفاظ ... حديد الحسام حديد الجنان «2» ، «3» قال شيخنا: وفيما ذكره نظر؛ لانه باب تعديد الصفات أنسب. وقال في الإبداع: قال ابن أبي الإصبع: وما رأيت فيما استقريت من الكلام كأنه استخرجت منها واحدا وعشرين ضربا من المحاسن، وهي قوله تعالى: وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ «4» ، وهي المناسبة الثامنة بين اقلعي وابلعي، والمطابقة بذكر الأرض والسماء، والمجاز في قوله: (يا سماء) ؛ فإن المراد، والله أعلم، يا مطر السماء، والاستعارة في قوله: (أقلعي) والإشارة في قوله تعالى (غِيضَ الْماءُ) ؛ فإنه عبرّ بها بين اللفظتين عن معان كثيرة. والتمثيل في قوله سبحانه: (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) ؛ فإنه عبّر عن هلاك الهالكين، ونجاة الناجين بغير لفظ المعنى الموضوع له، والإيذان في قوله تعال: (وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ) ، فإنه عبرّ عن استقرارها بهذا المكان استقرارا متمكنا بلفظ قريب من لفظ المعنى والتعليل؛ لأن غيض الماء علة الاستواء، وصحة التقسيم، اذا استوعب سبحانه اقتسام أحوال الماء حالة نقصه؛ إذ ليس

إلا الاحتباس لماء السماء، واحتقان الماء الذي ينبع من الأرض. وغيض الماء الحاصل على ظهرها والاحتراس في قوله: «وقيل بعدا للقوم الظالمين» ؛ إذ الدعاء عليهم يشعر بأنهم مستحقو الهلاك؛ احتراسا من ضعيف العقل، يتوهم أن العذاب شمل من يستحق ومن لا يستحق فتأكد بالدعاء كونهم مستحقين. والإيضاح في قوله تعالى؛ ليبيّن أن القوم الذين سبق ذكرهم في الآية المتقدمة، حيث قال: وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ «1» هم الذين وصفهم بالظلم؛ ليعلم أنّ لفظة القوم ليست فضلة، وأنه يحصل بسقوطها ليس في الكلام والمساواة؛ لان لفظ الآية لا يزيد على معناها، وحسن النسق؛ لانه سبحانه وتعالى عطف القضايا بعضها على بعض بحسن وائتلاف اللفظ مع المعنى؛ لأن كل لفظة لا يصلح موضعها غيرها والإيجاز، لانه سبحانه وتعالى اقتصّ القصة بلفظها مستوعبة بحيث لم يحل منها في أقصر عبارة. والتسهيم؛ لأن أول الآية إلى قوله: أقلعي، يقتضي آخرها. والتهذيب؛ لأن مفردات الألفاظ موصوفة بصفات الحسن، عليها رونق الفصاحة سليمة من التعقيد والتقديم والتأخير والتمكين؛ لأن ألفاظه مستقرة في قرارها، مطمئنة في مكامنها، والانسجام وهو يجدر الكلام بسهولة كما ينسجم الماء. وباقي مجموع الآية من الإبداع، وهو أن يأتي في البيت الواحد من الشعراء، والقرينة الواحدة من النثر عدّة ضروب من البديع بحسب عدد كلماته أو جمله «2» . قال: فهذه سبع عشرة لفظة تضمنت واحدا وعشرين ضربا من البديع غير ما تكرر من أنواعه فيها. وأنشد له ابن سعيد قوله في المريض: [المتقارب] ولمّا رأيتك عند المديح (م) ... جهم المحيّا لنا تنظر تيقّنت بخلك لي بالنداء ... لأنّ الجهامة لا تمطر

ومن بقية ماله قوله: [الطويل] وساق إذا ما ضاحك الكأس قابلت ... فواقعها من ثغره اللؤلؤ الرّطبا خشيت وقد أمسى نديمي على الدّجى ... فأسدلت دون الصّبح من شعره حجبا وقسّمت شمس الطاس في الكأس أنجما ... ويا طول ليل قسّمت شمسه شهبا وقوله: [الطويل] تبسّم لّما أن بكيت من الهجر ... فقلت ترى دمعي فقال ترى ثغري فديتك لّما أن بكيت تنظّمت ... بفيك لآلي الدّمع عقدا من الدرّ فلا تدّعي يا شاعر الثّغر صنعة ... فكاتب دمعي قال ذا النظم من نثري وقوله: [الطويل] أيا عبلة الألحاظ قلبك عنتر ... ومالي على غاراته في الحشا صبر نعم أنت يا خنساء حسناء عصرنا ... وشاهد قولي أنّ قلبك لي صخر ومنها: أغاية قصدي بطن يمناك غاية ... بها أبدا للمجتدي ينبت التّبر أغضت الحيا والبحر جودا فقد بكى ال ... حيا من حياء منك والتطم البحر عيون معانيها صحاح وأعين ال ... ملاح مراض في لواحظها كسر أضاعت عقولا حين ضاعت فما درى ... أبابل أهداها إليك أم السّحر وقوله: [الطويل] إذا الوهم أبدى لي لماها وثغرها ... تذكّرت ما بين العذيب وبارق ويذكرني من أدمعي وقوامها ... بجرّ عوالينا ومجرى السّوابق وقوله: [البسيط] وقيّم كلّمت جسمي أنامله ... بغير ألسنة تكليم خرسان إن رام مسك يميني كاد يخلعها ... أو سرّح الرأس بعد الغسل أبكاني

فليس يمسك بالمعروف منه يدا ... ولا يسرّح تسريحا بإحسان وقوله: [الطويل] تصدّق بوصل إنّ دمعي سائل ... وزوّد فؤادي نظرة فهو راحل فجدّ لموجود به البرّ والغنى ... وحسبك معدوم لديه المماثل أيا قمرا من شمس وجنته لنا ... تطلّ عذاريه الضّحى والأصائل تقلّب من طرف لقلب مع النّوى ... وهاتيك للبدر التّمام منازل إذا ذكرت عيناك للصبّ درسها ... من السّحر قامت بالدّلال الدّلائل جعلتك بالتّمييز نصبا لناظري ... فلا رفعت للهجر والهجر فاعل ولمّا أضفت السّحر للجفن بيّنت ... به الكسر من غنج الجفون العوامل أعاذلي قد أبصرت حبي وحسنه ... فإن لمتني فيه فما أنت عاقل محيّاه قنديل لديجور شعره ... تعلّقه بالصّدغ منها السّلاسل غدا القدّ غصنا منه يعطفه الصّبا ... فلا غرو إن هاجت عليه البلابل ومنها: له من ودادي ملء كفّيه صافيا ... ولي منه ما ضمّت عليه الأنامل ومن قدّه الزّاهي ونبت عذاره ... صدور رماح شرّعته سلاسل وقوله: [المتقارب] تبسّم لمّا رأى راحنا ... لأقداحنا أبدا تلثم فقال المدامة بنت الزّجاج ... فقلت التبسّم ابن الفم وقوله يمدح الملك الأشرف ويذكر اجتماعه بالشمس خضر بالرقّة على شاطئ الفرات: [الطويل] قران أرانا برجه الشمس والبدرا ... فأضحى لنا بل للأنام به البشرى بذا العالم السفلي بات فقد غدا ... على العالم العلوي يبدي به الفخرا

غدا مجمع البحرين شرط قراننا ... ألم ير موسى فيه قد صادف الخضرا به اجتمعا لكنّ ذا لم يقل لذا ... غداة اللّقا لن تستطيع معي صبرا وأولها: أرى الجدّ يبدي تارة جنّة خضرا ... أسطري به أم خطّ من صدغه سطرا عجبت له خدّا تورّد خجلة ... تريك بآس الصّدغ فيه الدّجى ظهرا رفعت له عن دمع عيني طلابة ... أروم بها عطفا فوّقع لي يجرى وقوله في الزوبعة: [الطويل] علا رهج الإعصار عند التفاته ... فأعجل عيني أن تغمّض جفنيها كراقصة قد أسرعت دورانها ... اذا انقلبت لفّت على الخصر كميّها وقوله فيها: [الخفيف] قام في قائم الظّهيرة نقع ... مستطيل أثاره إعصار مثل ظلّ الاشباح في الارض خطّا ... مستطيلا إذا تولّى النّهار وقوله فيها: [السّريع] أقول للنّاس وقد أنذر ال ... إعصار من شاهده في الهوا تعوّذوا في الأرض من فتنة ... غبارها يصعد نحو السما وقوله: [البسيط] شكى البخار ببطن الأرض محبسه ... عساه يطلق فاهتزّت لشكواه وكانت الأرض كالحبلى إذا صلح ال ... حنين في جوفها يهتزّ أعلاه وقوله: [الرّمل] قلت إذ زلزلت الأرض وما ... فوقها للعهد إلّا ناقص حمّت الدّنيا من الغيظ على ... ساكنيها فاعتراها ناقص

وقوله: [البسيط] قامت إلى شمعة في اللّيل تصلحها ... بلا مقطّ فطارت مهجتي فرقا فأدركتني وقالت لا تخف لهبا ... على بنان من الياقوت قد خلقا وقوله: [الطويل] أظنّ خيال العامريّة قد ضنّا ... وحاشاه لكن ليس لي مقلة وسنا وكيف يزور الطّيف صبّا يراقب ال ... نجوم إذا ما ليلة موهنا جنّا سميري ما للطّيف ذنب لأنّه ... رأى خدنه وهو الكرى قد جفا الجفنا وكم ليلة فاوضته أن يلمّ بي ... إذا ما هدى ليل فعنّ وما عنّى فأهدى لنا في الحضر بادية الفلا ... بها السّرب من ولد الضّراغم قد رعنا قصدنا غزالا أعلقته حبائل ال ... منام ولولا أخته ما نجا منّا ومنها: بكيت فناداني أتبكي وبيننا ... بحكم التّداني قاب قوسين أو أدنى فقلت كذا كنّا بمنعرج اللّوى ... ولكنّنا من بعد ذاك تفرّقنا رأيت بفيه إذ تبسّم أدمعا ... فقلت وفى لي إذ بكى فمه حزنا أجاد له في النّظم شاعر ثغره ... ولكنّه من مقلتي سرق المعنى آخر الجزء الرابع، ويتلوه في الخامس إن شاء الله تعالى، فأما طوائف الفقراء، خلاصة ذوي القلوب، وخاصة المحبوب.

فهرس التراجم

فهرس التراجم أهل اللغة بالجانب الشرقي 11 1- النضر بن شميل. 13 2- أبو عبيدة معمر بن المثنى التيمي. 15 3- أبو عمر والشيباني. 18 4- سعيد بن أوس الأنصاري (أبو زيد) . 19 5- الأصمعي. 21 6- أبو عبيد القاسم بن سلّام. 22 7- ابن الأعرابي. 25 8- ابن السكّيت. 26 9- أبو حاتم السجستاني. 28 10- الرّياشي. 30 11- ابن قتيبة. 31 12- ابن دريد. 32 13- أبو علي القالي. 34 14- أبو منصور الأزهري. 35 15- غلام ثعلب (أبو عمر الزاهد) . 36 16- ابن خالويه. 39 17- السيرافي. 40 18- ابن فارس. 41 19- إسماعيل بن حماد الجوهري. 42 20- محمد بن الحسن البغدادي [الحاتمي] . 45

21- الهروى. 46 22- الهروي الفاشاني. 47 23- ابن ناقيا اللغوي. 48 24- الخطيب التبريزي اللغوي. 49 25- أحمد بن محمد النيسابوري. 50 26- الجواليقي. 52 27- ابن الدهان (سعيد بن المبارك) . 53 أهل اللغة من الجانب الغربي 57 1- أبو بكر اللؤلؤي القيرواني. 59 2- أحمد بن أبان اللغوي. 60 3- تمام بن غالب اللّغوي. 60 4- ابن سيده. 61 5- ابن القطّاع. 62 6- محمد بن الصايغ القريشي. 63 أهل اللغة في مصر 67 1- جمال الدين بن المكرّم (ابن منظور) . 69 2- محمد بن إبراهيم النجادي. 71 أهل علم النحو 73 1- أبو الأسود الدؤلي. 75 2- عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي. 77

3- عيسى بن عمر الثقفي. 78 4- الأخفش الكبير (عبد الحميد بن عبد المجيد) . 80 5- الخليل بن أحمد الفراهيدي. 81 6- يونس بن حبيب. 84 7- سيبويه. 85 8- السّدوسي. 88 9- قطرب. 89 10- الفرّاء. 90 11- الأخفش الأوسط (سعيد بن مسعدة) . 91 12- أبو عمرو الجرمي. 92 13- أبو عثمان المازني. 93 14- أبو العبّاس المبرّد. 95 15- أبو العبّاس ثعلب. 97 16- أبو موسى الحامض. 100 17- محمد بن العباس اليزيدي. 100 18- أبو بكر بن السرّاج. 102 19- الأخفش الأصغر (علي بن سليمان) . 103 20- إبراهيم بن السريّ الزجاج. 104 21- نفطويه (إبراهيم بن محمد بن عرفة) . 105 22- أبو بكر الأنباري. 106 23- ابن درستويه. 108 24- القاضي أبو سعيد (السيرافي) . 109 25- أبو علي الفارسي. 110

26- أبو الحسن الرمّاني. 112 27- محمد بن الحسين الفارسي. 113 28- أبو منصور الثعالبي. 114 29- ابن جنّي. 116 30- الواحدي النيسابوري. 117 31- ابن الشجري. 119 32- ابن الخشّاب. 121 33- ملك النحاة [الحسن بن صافي بن عبد الله بن نزار] . 126 34- البحراني. 133 35- ابن الدبّاغ. 142 36- أبو حفص الضرير. 147 37- ابن الأرملة. 149 38- أبو الحرم (مكي بن ريّان الماكسيني) . 150 39- أبو عبد الله الحلّي (عفيف الدين المؤدب) . 154 40- ابن الدهّان (المبارك بن الأزهر) . 156 41- زيد بن الحسين الكندي. 157 42- ابن الشحنة (أبو حفص عمر بن محمد) . 170 43- يحيى بن سعيد بن المبارك. 181 44- ابن يعيش. 182 45- ابن الحاجب. 184 46- ابن عدلان. 186 47- عزّ الدين الإربلي النحوي. 188 48- ابن مالك. 189

49- البعلي. 191 50- أحمد بن سباع الفزاري. 192 51- ابن قاضي شهبة. 194 52- الضياء العجمي. 196 53- علي بن داود. 198 علماء النحو في المغرب 207 1- عبد الله القيرواني. 209 2- إبراهيم بن عثمان القيرواني. 209 3- أبو بكر الزبيدي الإشبيلي. 210 4- محمد بن جعفر القزّاز. 212 5- عبد العزيز الأندلسي البلنسي. 214 6- إبراهيم بن محمد بن زكريا الإفليلي. 214 7- أبو العباس المهدوي. 215 8- إسماعيل الأندلسي السرقسطي. 216 9- أبو الحجاج الأعلم [الشنتمري] . 216 10- السّيد البطليوسي. 217 11- محمد بن الحسن الداني الأندلسي. 219 12- عبد الله بن عيسى الأندلسي. 220 13- عيسى بن عبد العزيز الجزولي. 220 14- على بن محمد الشلوبيني. 222 15- أبو القاسم المغربي المرسي. 223 16- يحيى المالقي. 224

17- زين الدين المالقي. 225 18- أبو بكر البياسي. 232 19- الصهاجي [عمر بن عبد النور بن ماخوخ] . 233 20- محمد بن عبد الله السّلمي. 235 21- حافي رأسه [محمد بن عبد العزيز الزناتي] . 236 22- علي بن إبراهيم البجلي. 237 23- أبو حيّان الأندلسي. 238 علماء النحو بمصر 273 1- أبو جعفر النحّاس. 275 2- ابن بابشاذ. 276 3- ابن برّي. 277 4- بهاء الدين ابن النحّاس. 278 أرباب المعاني والبيان 283 1- ابن المعتز. 288 2- قدامة بن جعفر. 352 3- الجاحظ [أبو عثمان عمرو بن بحر] . 353 4- ابن سنان الخفاجي. 371 5- عبد القاهر الجرجاني. 381 6- الزمخشري. 383 7- السكّاكي. 385 8- ابن أبي الإصبع. 386

فهرس مصادر ومراجع التحقيق

فهرس مصادر ومراجع التحقيق - فوق المصادر: القرآن الكريم ... - إشارة التعيين في تراجم النحاة واللغويين، عبد الباقي اليماني (- 743 هـ) ، تحقيق الدكتور عبد المجيد دياب، مطبعة شركة الطباعة العربية السعودية، ط 1، الرياض، 1986 م. - الأعلام، خير الدين الزركلي، ط 1، مطبعة دار العلم للملايين، بيروت 1984 م. - أعلام في النحو العربي، الدكتور مهدي المخزومي (- 1993 م) ، مطبعة دار الحرية للطباعة، بغداد، 1980 م. - إنباه الرواة على أنباه النحاة، جمال الدين القفطي (- 624 هـ) ، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار الكتاب المصري، القاهرة، 1950 م. - بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة للسيوطي (- 911 هـ) ، تحقيق محمد المصري، مطبعة جامعة دمشق، سوريا، 1972 م. - البيان والتبين للجاحظ (- 255 هـ) ، تحقيق عبد السلام محمد هارون، ط 2، مطبعة، مكتبة الخانجي بمصر، ومكتبة المثنى ببغداد، 1961 م. - تاريخ إربل لابن المستوفي (- 637 هـ) ، تحقيق الدكتور سامي خمّاس الصقّار مطبعة دار الرشيد، بغداد، (د. ت) . - تاريخ بغداد للخطيب البغدادي (- 462 هـ) ، مطبعة دار الفكر، بيروت، (د. ت) . - تاريخ العلماء النحويين من البصريين والكوفيين وغيرهم، للقاضي محمد بن مسعر التنوخي (- 442 هـ) ، تحقيق الدكتور عبد الفتاح الحلو، مطبعة إدارة الثقافة والنشر، جامعة محمد بن سعود الإسلامي، المملكة العربية السعودية، 1981 م.

- خريدة القصر وجريدة العصر، لعماد الدين الأصبهاني (- 597 هـ) ، تحقيق محمد بهجت الأثري، مطبعة دار الحرية للطباعة، بغداد، 1976 م. - الددر الكامنة في أعيان المئة الثامنة، لابن حجر العسقلاني (- 852 هـ) ، مطبعة دار الجيل، بيروت (د. ت) . - ديوان ابن سنان الخفاجي، تحقيق الدكتور عبد الرزاق حسين، ط 1، مطبعة المكتب الإسلامي، بيروت، 1988 م. - ديوان امرئ القيس، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ط 4، مطبعة دار المعارف، القاهرة، (د. ت) . - ديوان دعبل بن علي الخزاعي، شرحه، حسن محمد، ط 1، دار الكتاب العربي، بيروت، 1994 م. - ديوان شعر ابن المعتزّ، أبو بكر الصولي، تحقيق، يونس أحمد السامرائي، ط 1، مطبعة عالم الكتب، بيروت، 1997. - ديوان عنترة ومعلقته، تحقيق، خليل شرف الدين، دار مطبعة الهلال، بيروت، 1997 م. - ديوان مجنون ليلى، جمع وتحقيق، عبد الستار أحمد فرّاج، مطبعة دار مصر للطباعة، القاهرة، 1979 م. - ديوان الهذليين، نسخة مصوّرة عن دار الكتب، الدار القومية للطباعة والنشر، القاهرة، 1965 م. - سرّ الفصاحة، ابن سنان الخفاجي (- 466 هـ) ، ط 1، مطبعة دار الكتب العلمية، بيروت، 1982 م. - شذرات الذهب في أخبار من ذهب، ابن العماد (- 1089 هـ) ، تحقيق، عبد القادر الأرناؤوط، ط 1، مطبعة دار ابن كثير، دمشق، 1992 م. - شرح ديوان جرير، ضبط معانيه وشروحه وأكملها، إيليا الحاوي، دار الكتاب اللبناني، ط 1، بيروت، 1982 م.

- صحيح البخاري، ضبطه، د. مصطفى ديب البغا، ط 3، مطبعة دار ابن كثير، دمشق 1987 م. - طبقات الشافعية، ابن قاضي شهبة (- 851 هـ) ، تصحيح، د. عبد العليم خان، ط 1، مطبعة دار الكتب، بيروت، 1987 م. - طبقات النحويين واللغويين، للزبيدي (- 379 هـ) ، تحقيق، محمد أبو الفضل إبراهيم، ط 2، مطبعة دار المعارف، مصر، 1984 م. - العرف الطيب في شرح ديوان أبي الطيب، ناصيف اليازجي، المطبعة الأدبية، بيروت، 1305 هـ. - الفهرست، للنديم (- 380 هـ) ، تحقيق، رضاد تجدّد، (د. ط) ، (د. ت) . - القاموس المحيط، للفيروز آبادي (- 817 هـ) ، ط 5، مطبعة مؤسسة الرسالة، بيروت، 1996 م. - قدامة بن جعفر والنقد الأدبي، د. بدوي طبانة، ط 3، المطبعة الفنية الحديثة، القاهرة، 1969 م. - كشف الظنون، حاجي خليفة (- 1067 هـ) ، مطبعة دار إحياء التراث العربي، لبنان، (د. ت) . - مختصر تاريخ دمشق، ابن عساكر (- 711 هـ) ، تحقيق، روحية النحاس وآخرين مطبعة دار الفكر، دمشق 1984 م. - مروج الذهب، للمسعودي (- 346 هـ) ، تحقيق، محمد محيي الدين عبد الحميد، مطبعة المكتبة التجارية، القاهرة، 1965 م. - معجم الأدباء، لياقوت الحموي (- 626 هـ) ، تحقيق، إحسان عباس، ط 1، الناشر، دار الغرب الإسلامي، 1993 م. - معجم لسان العرب، لابن منظور (- 711 هـ) ، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1997 م.

- معجم المؤلفين، رضا كحالة، مكتبة المثنى، بيروت (د. ت) . - معجم المصطلحات البلاغية، الدكتور أحمد مطلوب، مطبعة المجمع العلمي العراقي، بغداد، 1983 م. - المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، محمد فؤاد عبد الباقي، دار الحديث، القاهرة، 1996 م. - مفتاح السعادة ومصباح السيادة، طاش كبري زادة (- 968 هـ) ، مطبعة العربي للنشر والتوزيع، القاهرة (د. ت) . - ميزان الاعتدال في نقد الرجال، للذهبي (- 748 هـ) ، تحقيق، علي محمد البجاوي، ط 1، مطبعة دار المعرفة بيروت، 1963 م. - النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، ابن تغري بردي (874 هـ) ، مطبعة المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر، القاهرة، 1963 م. - نزهة الألبّاء في طبقات الأدباء، أبو البركات ابن الأنباري (- 577 هـ) ، ط 3، تحقيق، الدكتور إبراهيم السامرّائي، مطبعة المنار، بيروت، 1985 م. - نور القبس المختصر من المقتبس، للمرزباني، اختصار الحافظ اليغموري (- 673 هـ) ، تحقيق، رودلف زلهايم، دار النشر، فرانتس شتاينر، فيسبادن، ألمانيا، 1964 م. - وفيات الأعيان في أنباء أبناء الزمان، لابن خلكان (- 681 هـ) ، تحقيق، الدكتور إحسان عباس، مطبعة دار الثقافة، بيروت، (د. ت) .

الجزء الثامن

[الجزء الثامن] [طوائف الفقراء الصوفية] مقدمة المحقق بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، حمدا يوافي نعمه، ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، سبحانك لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك. فلك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا. اللهم صلّ وسلم على سيدنا محمد في الأولين، وصلّ وسلّم على سيدنا محمد في الآخرين، وصلّ وسلم على سيدنا محمد في الملأ الأعلى إلى يوم الدين، وصلّ وسلم على سيدنا محمد حتى ترث الأرض ومن عليها وأنت خير الوارثين. ورضي الله تعالى عن صحابة رسول الله أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد: فبين أيدينا اليوم كتاب عظيم، لمؤلف عظيم، ذو موضوع عظيم «1» أما كونه الكتاب كتابا عظيما: فلأنه جزء من موسوعة ضمت بين جنباتها وما بين دفات أجزائها موضوعات شتى في مختلف العلوم والفنون، فقد ضمت هذه الموسوعة الشاملة تراجم لأكثر علماء هذه الأمة على مرّ سبعمائة سنة أو يزيد، فضلا عن التعريف بأماكن كثير

من البلاد والمسالك والممالك، وتاريخ الأمم، وحضارات الدول، وما حلّ بها، وتاريخ بنائها، والأحداث التي عصفت بها، ثم تراجم عظماء من أبنائها سواء كانوا علماء، أو قرّاء، أو فقهاء، أو محدّثين، أو فلاسفة وحكماء، أو أطباء، أو مؤرخين، أو شعراء، أو كتاب إنشاء، أو ساسة وخلفاء، سواء كان ذلك في شرق الأرض أو غربها، جمع ابن فضل الله- رحمه الله تعالى مؤلف هذه المعلمة- ما وصلت إليه يده من سير أولئك الرجال، وتصرّف بنصوصها على طريقته، حتى قدم لنا هذه الموسوعة الشاملة الكاملة في مختلف العلوم والفنون لتكون أول موسوعة تاريخية جغرافية علمية شاملة من حيث تنوع موضوعاتها، وتشعّب عناوينها وتفريعاتها، حتى إن الإنسان ليعجب وهو يتناول تلك الموسوعة: كم أمضى صاحبها في تصنيفها من وقت؟، لا سيما وأنه قد كان من أرباب المناصب وكتّاب الدواوين- دواوين الإنشاء- في زمانه. لنلمس سعة اطلاعه، وعظم تجربته، وخبرته في كافة المواضيع المطروقة في هذه المعلمة التاريخية الجغرافية الأدبية الشعرية العلمية. وستجد- يا أخي القارئ الكريم- صدق ذلك أثناء تصفحك لأجزاء هذه الموسوعة بعد الانتهاء منها إن شاء الله تعالى في المستقبل القريب. وأما عظمة هذا الكتاب من حيث مؤلفه: فلأن مؤلفه العالم الأديب المدقق والمحقق الأريب أحمد بن يحيى بن فضل الله القرشي العدوي العمري، شهاب الدين، المؤرّخ الحجّة في معرفة المسالك والممالك، وخطوط الأقاليم والبلدان، وإمام الترسّل والإنشاء، والعارف بأخبار رجال عصره وتراجمهم، وكان غزير المعرفة بالتاريخ ولا سيما تاريخ ملوك المغول من عهد جنكيز خان إلى عصره. وقد ولد رحمه الله تعالى سنة 700 هجرية، وتوفي في دمشق سنة 749 هجرية. وتظهر لنا عظمة هذا الرجل إذا علمنا قصر عمره وما ترك من آثار جليلة لا زالت المكتبة العربية الإسلامية تفتخر بها، ولا زال كثير منها مخطوطا ومن هذه المخطوطات هذه الموسوعة الجليلة الموسومة ب:" مسالك الأبصار في ممالك الأمصار" والتي بلغ مجموع مجلداتها سبعة

وعشرين مجلدا ضخما، قال عنها ابن شاكر الكتبي في فوات الوفيات:" كتاب حافل ما أعلم أن لأحد مثله". وللأسف الشديد أن هذه الموسوعة ما زالت مخطوطة في خزائن الكتب إلى أيام الناس هذه، حتى وفق الله العلامة الدكتور فؤاد سيزكين الذي نشط في نشر مصورات نفائس مخطوطاتنا العربية والإسلامية وذلك ضمن إطار معهد فرانكفورت- ألمانيا- ومن هذه النفائس مصورة مسالك الأبصار والتي اعتمدناها في هذا التحقيق فنفض عنها غبار السنين وقدّمها هدية للمثقف العربي، بعد أن كانت ممزقة الأشلاء يأتي كل من هب ودب ليستلّ منها بحثا لينال به رسالة علمية أكاديمية سواء رسالة ما جستير أو غير ذلك. ثم وفق الله سبحانه وتعالى المجمع الثقافي ليأخذ على عاتقه إخراج هذه المخطوطة العظيمة إلى النور، أداء للأمانة التي حملها منذ أن تولى طباعة كتب تراث هذه الأمة المجيدة. ولا شك أن في طبع هذه الموسوعة إضافة إلى رصيده الكبير في إخراج تراث الأمة على خير وجه ممكن، ينال به الأجر والمثوبة من الله، والذكر الحسن في دنيا الناس. ومن مصنفات عالمنا الجليل ابن فضل الله العمري:" مختصر قلائد العقيان"، و" الشتويات"، عبارة عن مجموع رسائل، و" النبذة الكافية في معرفة الكتابة والقافية"، و" ممالك عبّاد الصليب"، و" الدائرة بين مكة والبلاد"، و" التعريف بالمصطلح الشريف"، وهو في مراسم الملك وما يتعلق به. ومن مؤلفاته أيضا:" فواضل السمر في فضائل آل عمر" وهو في أربع مجلّدات، و" نفحة الروض" في الأدب، و" دمعة الباكي" في الأدب، و" صبابة المشتاق" في المدائح النبوية، في أربع مجلدات، وله شعر في منتهى الرقة. وأما عظمة موضوع هذا الجزء: فلأنه تناول في ثناياه تراجم لأشهر أولياء هذه الأمة المباركة، بدءا من عصر التابعين إلى زمن المصنف- رحمه الله-، حيث ضم ترجمة لما يزيد عن مائة عالم عارف بالله تعالى، ذكر في ترجمتهم ما كانت عليه أحوالهم رضي الله

عنهم، وبعضا من أقوالهم، مما زاد الكتاب نورا على نور، فكان هذا الجزء كتاب علم لمن يريد العلم، وكتاب تصوف لمن أراد التصوف والتعرف على سير الرجال الصالحين العظماء من هذه الأمة المباركة، ففيه كثير من رجال" الرسالة القشيرية"، إن لم يكونوا كلهم، وكذلك ضمّ الكثير من رجال" طبقات الأولياء" لابن الملقن، وبعضا من تراجم رجال" طبقات الصوفية" للسلمي، ورجال من رجال" حلية الأولياء" ورجال طبقات الصوفية" للمناوي" وغيرهم كثير. ولقد كان المصنف- رحمه الله تعالى- أمينا في نقله غاية الأمانة، فإذا ما ذكر عن كتاب نقلا ما قال:" وقال فلان في كتاب كذا"، وينقل النص أحيانا بتمامه، وأحيانا بتصرف بسيط، أو اختصار غير مخلّ، ولعل أمانته تلك ساعدت كثيرا في إخراج الكتاب على أحسن وجه، ضبطا للنصوص، وتوثيقا للمواد. ولعلّ الفائدة الكبرى من هذا الكتاب أيضا إضافته لتراجم كثير من رجال عصره ممن لم يرد أغلبهم في كتب التراجم، إلا في هذا الكتاب. وهناك أمر آخر أيضا ينبغي أن نشير إليه لبيان أهمية هذا الكتاب، وهو أن المصنف رحمه الله تعالى أضاف إلى مواد الكتاب مواد ذكر عنها أنها لا توجد في غيره، كما جاء- على سبيل المثال- في ترجمته لعمر بن الفارض- رضي الله عنه- حيث نقل بعضا من قصائده وجد منها في ديوانه، وبعضها الآخر ذكر- هو نفسه- أنها ليست في ديوانه، وقد صدق في ذلك؛ فعند رجوعنا إلى ديوان ابن الفارض- بطبعاته المتعددة- لم نجد له تلك القصائد. فلله در ابن فضل الله على صنيعه ذاك!. ومن هنا فإنه لا يرد على ابن فضل الله ما يورده البعض من أنه لم يضف في كتابه هذا شيئا جديدا، بل أضاف أشياء لا توجد في غيره من الكتب- وستجد يا أخي القارئ الكريم مصداق قولنا عند اكتمال هذه الموسوعة طبعا وتحقيقا، في كل جزء منه ستجد

جديدا لا يوجد في غيره، وأدلّ دليل على ذلك أن كتاب" مسالك الأبصار" هذا يعتبر من المصادر التي رجع إليها كثير من العلماء والمصنفين الموسوعيين أمثال القلقشندي في كتابه" صبح الأعشى" وارجع إن شئت إلى فهرس" صبح الأعشى" للعلامة القلقشندي، وانظر كم استغرقت أرقام الإحالات إلى مسالك الأبصار هذا من صفحات. ولا بد هنا من كلمة حول الموضوع الذي تناوله هذا الكتاب والذي تضمن ترجمة رجال التصوف وأقوالهم- رضي الله عنهم- ذلك أنه خلف في هذه الأمة خلق أفرطوا في الإساءة إلى أهل تلك الطريقة الشريفة، وتنكبوا عنها، ونفّروا الناس منها، وإن أمة يلعن آخرها أولها إنما هي أمة لن يكتب لها نصر ولا عز ولا تستحق الفخار، وأي مصيبة أدهى من أن تشتم أمة خيارها، وأجلّاءها، ومعقد عزها، وبركة وجودها من سلفها الصالح؟!. والحقيقة التي لا ريب فيها أن تلك الطريقة الشريفة- أعني التصوف- قد دخلها- كما يدخل غيرها من المدارس- من أساء إليه، وعكّر صفوه، ومن بدّله فإنما إثمه على الذين يبدّلونه، لكن أصل الطريق واضح، عمادها الكتاب والسنة، وأقوال الأئمة العارفين، والمربين الصادقين، من الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان. فالصوفية الحقيقيون رهبان بالليل، فرسان بالنهار، قدوتهم وأسوتهم العليا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم صحابته الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، فكانوا بهذه القدوة أهل الفداء، والتضحية، والجهاد في سبيل الله تعالى، وإقامة شريعته، وكانوا أهل الرباط في سبيله على مر العصور والأزمان والأجيال، فهم- رضي الله عنهم- أهل العلم والجهاد، منذ القرون الأولى وحتى أيامنا هذه، وما أصحاب الثورات ضد الاستعمار الفرنسي، والانكليزي، والإيطالي وغيره من المستعمرين في بلاد الشرق والغرب، ببعيدين عنا؛ فها هو الشهيد السعيد عمر المختار، والشيخ عبد الكريم الخطابي، والشيخ عبد القادر الجزائري، والشيخ عز الدين القسام، وشيوخ الأزهر في القاهرة، وشيوخ جامع القرويين في

فاس، وعلماء جامع الزيتونة في تونس، وشيوخ المسجد الأموي في دمشق، جميعهم- رضي الله عنهم- كانوا من شيوخ التصوف، وسيرتهم وجهادهم معروفان لكل ذي عقل. كانوا رضي الله عنهم أهل الفتوة والزهد، قادوا حركات التحرر، وخاضوا الحروب ضد الاستعمار، كما خاضها من قبلهم ضد التتار والصليبيين وغيرهم من أعداء الإسلام حتى رفعوا راية الدين عالية في كل أصقاع العالم. وفي وقتنا الحاضر في البوسنة والهرسك، والشيشان، وقبلها أفغانستان- أيام الاحتلال السوفيتي البائد- ما قاوم الأعداء كما قاومتهم الطرق الصوفية، وأهل الله المجاهدين العارفين المتقين. ولست في هذا مدعيا، وما أتيت بهذا من عندي إنما أذكر ما تناقلته وكالات الأنباء من تقارير إخبارية مصورة، قيّض الله لها من نشرها عبر الفضائيات ليراها كل ذي عين، ويسمع بها كل ذي أذن. فكانت مدارس السادة الصوفية الصادقين، العاملين بالكتاب والسنة، كانت مدارسهم مدارس تربية روحية، وتربية إيمانية، وتربية أخلاقية، وتربية سياسية، وتربية عسكرية جهادية، خاضوا بمريديهم معارك النضال، ضد الشيطان، وأتباعه من الإنس والجان، ولو لاهم لما وصل الإسلام إلى أقاصي العالم شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، حملوا راية الإسلام بيد، وجاهدوا أعداء الله من الكفرة بيد، حتى دحروا الأعداء، وأشرقت بهم الدنيا، وعاش العالم فترة ذهبية ما عرفها إلّا تحت ظل الإسلام الذي أتوا به مبشرين، وبأخلاقه عاملين، وبدعوته هادين مهتدين. فرحمهم الله وأجزل لهم المثوبة والجزاء. ثم أتى ناس- في أيامنا- فوقعوا في أعراض أولئك الرجال القادة، والمصلحين السادة، وادعوا شبههم- ولا نسبة في الشبه-، وتقوّلوا على سادة الأمة أقوالا شنيعة، فكانت مقالتهم وبالا عليهم في الدنيا والآخرة. أما كونها وبالا في الدنيا: فقد حرموا بها خير السلف الصالح وبركتهم، وسرهم،

والاقتداء بالمتقين الخاشعين المهتدين المصلحين من عباد الله. وأما في الآخرة: فاستمع- يا أخي الكريم! - إلى قول الله تعالى في حديثه القدسي الشريف الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (إن الله تعالى قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه. وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه: فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني أعطيته، ولئن استعاذني لأعيذنه) رواه البخاريّ. وقوله سبحانه في هذا الحديث:" آذنته" أي: أعلمته بأني محارب له. وأي حرب أشد من حرب الله تعالى، ومن يطيق حربه سبحانه وتعالى؟. وما أعلن سبحانه وتعالى الحرب إلا على طائفتين: أما الحرب الأولى ففي قوله تعالى في حق آكلي الربا: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ سورة البقرة- الآيتان 278- 279". وأما الحرب الثانية: فكانت على آكلي لحوم الأولياء، الواقعين في أعراضهم، كما جاء في الحديث القدسي السابق. نعوذ بالله من الخذلان، ونسأله السلامة من العصيان، والعفو والعافية إنه كريم منان. فحذار يا أخي المسلم الحبيب! من الوقوع في أعراض إخوانك من المسلمين عامة، فضلا عن أعراض الصالحين من عباد الله المخلصين، وأوليائه العارفين، فتقع في المحذور، وتندم حين لا ينفع الندم، فإن لحوم هذه الطائفة الشريفة مسمومة- كما قيل- لا ينالهم أحد إلا وأصابه الخزي في الحال والمال والمآل، ويخشى عليه من سوء الخاتمة والعياذ بالله، فسلّم تسلم، وإياك والاعتراض إلا على الكفر البواح، وإذا ورد عليك من كلامهم أو أحوالهم ما

أشكل عليك فهمه فأوّله ما أمكنك التأويل، إن كنت من أهل العلم والفهم والتأويل، وإلا فردّه إلى الله ورسوله وإلى أولي العلم من المخلصين والعلماء العاملين، الذين تربوا في مدارس الصالحين، وعاشوا في كنف الأولياء العارفين. وتمثل قول الشاعر في ذلك؛ حيث قال: فسلّم لأهل الله في كل مشكل ... لديك، لديهم واضح بالأدلة نفعنا الله ببركاتهم، وحشرنا معهم وفي زمرتهم مع سيد المرسلين صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. اللهم إنا نعوذ بك أن نشرك بك شيئا نعلمه، ونستغفرك مما لا نعلمه، وصلى الله على سيدنا محمد كلما ذكره الذاكرون وغفل عن ذكره الغافلون، إلى يوم الدين، آمين. وكتبه/ بسام محمد بارود عفا عنه الكريم المنان الودود أبو ظبي: 5/شعبان/ 1421 هجرية الموافق ل 1/11/2000 م

صفحة العنوان

بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد فأما طوائف الفقراء، خلاصة ذوي القلوب، وخاصة المحبوب، فقد ذكرت منهم من أمكن إلى زماننا، إذ كانت الأرض لا تخلو من قائم لله بحجة، ومهيمن على أتباع شرائع رسله، وقليل ما هم، وتعرفهم بسيماهم، كما قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه:" أشخاصهم مفقودة، وأمثلتهم في القلوب موجودة". فأما من سلك ضلالا سماه طريقة، وانتحل باطلا دعاه حقيقة، فعلى الدنيا العفاء. وقد قال رجل القوم الجنيد رحمة الله عليه:" كل حقيقة لا تصدقها الشريعة فهي كفر". وقد ذكرتهم من أهل الجانبين «1» جريا على العادة، وبالله التوفيق.

اما من هو من اهل الجانبين

فمنهم: [اما من هو من اهل الجانبين] 1- أويس بن عامر القرنيّ «13» وهو أويس بن عامر بن جزء بن مالك المرادي القرني، خير التابعين. أشرقت لياليه المقمرات، ورشقت إليه القلوب رشق الحجيج الجمرات، أزهر بين تلك النيرات، وظهر بين تلك النفوس المطهرات، وقد ذهب بعض من تكلم على الحديث؛ أنه المعني بقوله صلى الله عليه وسلم: (إني لأجد ريح الرحمن من قبل اليمن) . «1» وكان وضحه نورا وإشراقا وظهورا، سمق «2» فما شبه به أحد ولا أقرن وسبق، وسبق سبق الجواد فما لزّ «3» به سابق في قرن، وكان سراء ذلك الصدر، وبدرا في التمام وعلو القدر. روى مسلم في صحيحه «4» : أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كان إذا أتى عليه أمداد أهل اليمن، سألهم: أفيكم أويس؟. [حتى أتى على أويس] «5» ، فقال: أنت أويس بن عامر؟. قال: نعم. قال: من مراد ثم من قرن؟. قال: نعم. قال: فكان بك برص فبرأت منه

إلا موضع درهم؟. قال: نعم. قال: لك والدة؟ قال: نعم. قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن «1» ، من مراد، ثم من قرن، كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم. له والدة هو بها برّ. لو أقسم على الله لأبرّه. فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل". فاستغفر لي. فاستغفر له. فقال له عمر: أين تريد؟. قال: الكوفة. قال: ألا أكتب لك إلى عاملها؟. قال: أكون في غبراء «2» الناس أحبّ إليّ. فلما كان في العام المقبل، حجّ رجل من أشرافهم، فوافق عمر، فسأله عن أويس؟. قال: تركته رثّ البيت «3» ، قليل المتاع. قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" يأتي عليكم أويس بن عامر، مع أمداد أهل اليمن، من مراد، ثم من قرن. كان به برص، فبرأ منه، إلا موضع درهم. له والدة هو بها برّ. لو أقسم على الله لأبرّه. فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل". فأتى أويسا؛ فقال: استغفر لي. قال: أنت أحدث عهدا بسفر صالح. فاستغفر لي. قال: استغفر لي. قال: أنت أحدث عهدا بسفر صالح. فاستغفر لي. قال: لقيت عمر؟. قال: نعم. فاستغفر له. ففطن له الناس، فانطلق على وجهه. وروى مسلم أيضا «4» : أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن خير التابعين رجل يقال له أويس، وله والدة. وكان به بياض؛ فمروه فليستغفر لكم) . قال ابن الكلبي: قتل أويس مع علي رضي الله عنه يوم صفين «5» ، وكانت صفّين سنة

2 - أبو مسلم الخولاني

سبع وثلاثين للهجرة. وليس لأويس حديث مسند. «1» ومنهم: 2- أبو مسلم الخولاني «13» (الزاهد سيد التابعين بالشام، أتى بصنو المعجزات، وجاء بالكرامات المنجزات، ولم يبال باقتحام الضرام، وفتح فمها للالتهام والالتقام، أوقدت له النار فخاضها مشمرا عن ساقه، ومحملا قرونها مل أوساقه، ويقينه يدفع عنه آلاما، ويقول: يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً «2» . فاض لأجل موقوت، وخاض النار حتى انطفأت والياقوت ياقوت، فآب أحسن أوبة، وجاء بآية خليلية يضرب لها في أفق نوبة. اختلف في اسمه على أقوال، أصحها: عبد الله بن ثوب «3» . قدم من اليمن، وأسلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وقدم المدينة في خلافة أبي

بكر الصديق رضي الله عنه. وروى عن عمر، ومعاذ، وأبي عبيدة، وأبي ذر، وعبادة بن الصامت. وروى عنه جماعة من التابعين. وحديثه في صحيح مسلم، والسنن الأربعة. قال إسماعيل بن عياش: حدثنا شرحبيل بن مسلم، قال: أتى أبو مسلم الخولاني المدينة وقد قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستخلف أبو بكر. ولما تنبّأ الأسود «1» باليمن، بعث إلى أبي مسلم؛ فأتاه بنار عظيمة، ثم إنه ألقى أبا مسلم فيها، فلم تضرّه، فقيل للأسود: إن لم تنف هذا عنك أفسد عليك من اتّبعك. فأمره بالرحيل، فقدم المدينة، فأناخ راحلته ودخل المسجد يصلي، فبصربع عمر رضي الله عنه، فقام إليه، فقال: ممّن الرجل؟. قال: من اليمن. فقال: ما فعل الذي حرقه الكذّاب بالنار؟. قال: ذاك عبد الله ابن ثوب. قال: فنشدتك بالله أنت هو؟. قال: اللهم نعم. فاعتنقه عمر وبكى، ثم ذهب به حتى أجلسه فيما بينه وبين الصّدّيق، وقال: الحمد لله الذي لم يمتني حتى أراني في أمّة محمد صلى الله عليه وسلم من صنع به كما صنع بإبراهيم الخليل. «2» قال ابن عياش: عن شرحبيل بن مسلم، عن سعيد بن هانيء قال: قال معاوية: إنما المصيبة كل المصيبة بموت أبي مسلم الخولاني، وكريب بن سيف الأنصاري. «3»

3 - رابعة بنت إسماعيل العدوية

قال الحافظ أبو عبد الله الذهبي: هذا حديث حسن الإسناد، يعطي أن أبا مسلم توفي قبل معاوية. «1» قال المفضّل بن غسان: توفي علقمة وأبو مسلم سنة اثنتين وستين «2» ، ومعاوية توفي في قول أبي معشر وغيره سنة ستين. ومنهم: 3- رابعة بنت إسماعيل العدويّة «13» مولاة آل عتيك، الصالحة، المشهورة. «3» كانت آية للمبصر، وغاية لم تقصر، سبقت فحول الرجال، وبسقت عند حلول الآجال، وأغرمت بحب السهر، وملكت نفسها ملك من قهر، فأصبحت لها شكيمتها «4» ،

وأصبحت مثل الصباح شيمها، ودامت في أدويتها «1» هائمة، وفوق ألويتها حائمة، إلى أن دعيت فأجابت، وجالت المهامه وجابت، فتمت إرادتها، وختمت بالخير سعادتها، وبّأت الأرض المقدسة مدفنا، وحققت [أن رأي سواها كان يفنى] «2» . كانت رضي الله عنها من أعيان عصرها، وأخبارها في الصلاح مشهورة، وذكر أبو القاسم القشيري في" الرسالة" «3» أنها كانت تقول في مناجاتها:" إلهي! أتحرق بالنار قلبا يحبك؟ ". فهتف بها مرة هاتف:" ما كنا نفعل هذا، فلا تظنّي بنا ظنّ السوء". وقال سفيان الثوري رضي الله عنه عندها يوما: وا حزناه!. فقالت: لا تكذب بل قل: وا قلّة حزناه، لو كنت محزونا لم يتهيّأ لك أن تتنفس. «4» وكانت رضي الله عنها تقول:" ما ظهر من أعمالي فلا أعدّه شيئا". ومن وصاياها:" اكتموا حسناتكم كما تكتموا سيئاتكم". وقالت عبدة بنت أبي شوّال «5» - وكانت تخدم رابعة-: كانت رابعة تصلي الليل كلّه، فإذا طلع الفجر هجعت في مصلّاها هجعة خفيفة حتى يسفر الفجر، فكنت أسمعها تقول إذا وثبت من مرقدها ذلك وهي فزعة:" يا نفس كم تنامين؟! يوشك أن تنامي نومة لا تقومين منها إلا لصرخة يوم النشور". وكان هذا دأبها حتى ماتت. ولما حضرتها الوفاة، دعتني وقالت: يا عبدة! لا تؤذني بموتي أحدا، وكفّنيني في جبتي هذه، وهي جبة من شعر، [كانت تقوم فيها إذا هدأت العيون، قالت: فكفّنّاها في تلك

الجبة] «1» ، وفي خمار صوف كانت تلبسه، ثم رأيتها بعد ذلك سنة أو نحوها في منامي عليها حلة إستبرق خضراء، وخمار من سندس أخضر، لم أر شيئا قط أحسن منه، فقلت: يا رابعة! ما فعلت بالجبة التي كفّنّاك فيها والخمار الصوف؟. قالت: إنه والله! نزع عني وأبدلت به ما ترينه عليّ. فطويت أكفاني وختم عليها، ورفعت في عليّين ليكمل لي بها ثوابها يوم القيامة. فقلت لها: لهذا كنت تعملين أيام الدنيا. فقالت: وما هذا عند ما رأيت من كرامة الله عزّ وجلّ لأوليائه؟. فقلت لها: فما فعلت عبيدة بنت أبي كلاب؟ «2» فقالت: هيهات، هيهات! سبقتنا والله إلى الدرجات العلا، فقلت: وبم؟ وقد كنت عند الناس، أي أكبر منها؟. قالت: إنها لم تكن تبالي على أي حال أصبحت من الدنيا وأمست، فقلت لها: فما فعل أبو مالك؟. أعني ضيغما. قالت: يزور الله عز وجلّ متى شاء. قلت: فما فعل بشر بن منصور؟. قالت: بخ بخ، أعطي والله فوق ما كان يؤمّل. قلت: فمريني بأمر أتقرّب به إلى الله عز وجلّ، قالت:" عليك بكثرة ذكره، يوشك أن تغتبطي بذلك في قبرك"، رحمها الله تعالى. وقال بعضهم: كنت أدعو لرابعة العدوية، فرأيتها في المنام تقول: هداياك تأتينا على أطباق من نور، مخمّرة بمناديل من نور. «3» قال ابن الجوزي في" شذور العقود": توفيت سنة خمس وثلاثين ومائة. وقال غيره: سنة خمس وثمانين [ومائة] «4» . وقبرها على رأس جبل يسمى" الطور" يطل على القدس، من شرقيه.

4 - حبيب العجمي

وأغرب ما في هذا الجبل ما سمعناه بالقدس الشريف في ذي الحجة سنة خمس وأربعين وسبعمائة، إن الناس احتاجوا إلى استسقاء الغيث من الله عزّ وجلّ، قال: فصعد المسلمون واليهود، والنصارى، والسامرة، هذا الجبل، فاستقبل المسلمون الكعبة الحرام، واستقبل اليهود الصخرة المعظّمة، واستقبل النصارى الشرق، واستقبل السامرة جهة نابلس، فصارت كل طائفة إلى ظهور «1» سائر الطوائف، وهذا لا يتفق في مكان آخر. حكى ذلك الحافظ العلّامة أبو سعيد العلائي. وأورد السهروردي في" عوارف المعارف" لرابعة رحمها الله تعالى: إني جعلتك في الفؤاد محدّثي ... وأبحت جسمي من أراد جلوسي فالجسم مني للجليس مؤانس ... وحبيب قلبي في الفؤاد أنيسي ومنهم: 4- حبيب العجميّ «13» أتى بخوارق مثل الإعجاز، وتدفق كالسحاب في الإنجاز، وأتى من قاصية بلاد، وجزّ ناصية الليالي والآباد، حتى جال في كل مجال، ووصل إلى حيث حصّل ما حصّل، وأتى من أرض بعيد مداها، بديع هداها، لا تفهم ألسنتها الأعاجم، ولا تفهم الحدّاث عنها إلا التراجم «2» ، فجاد لها مسعى، وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى، فلم يغلق دونه الباب،

وكم تعلّق بغباره ذوو الألباب. روي أنه كان يقول:" كل عمل لا يكون سرّه عندك آثر عندك من علنه فهو رياء". قال بعضهم: صحبت في طريق الحجّ رجالا منهم حبيب العجمي، فكنت أظنّه غلامهم لقيامه بخدمتهم، فسألتهم عنه؟ فإذا هو سيدهم. وقال عبد الله القاشاني: بقيت أياما أحدّث نفسي: أي الرجال أفضل درجة؟ - أعني من رجال القوم- فبينا أنا نائم ليلة من الليالي، وإذا أنا أنظر إلى السماء وهي كالصحيفة، وفيها مكتوب بخط من نور، سطر من المشرق إلى المغرب، فقرأته فإذا هو:" حبيب، حبيب، حبيب" مكرّرة ثلاث مرات. وحكي عنه قال: كان حبيب بين جماعة في يوم شديد الحر في ذروة جبل مقفر، من أرض سجستان، فقالوا: لقد أضرّت بنا هذه الظهيرة، وقد حانت الصلاة، فكيف نقوم بها ونحن نكاد نتساقط؟. قال: فدمعت عين حبيب ثم قال:" اللهم إنهم عبادك يريدون طاعتك، اللهم فاسقهم". قال: فكأنما فتحت أبواب السماء بالمطر، وأتاهم عارض من برد، فابتردوا به وشربوا، وتوضئوا. ثم قاموا فصلّوا، فلما فرغوا أمسكت السماء. وحكى عنه قال: حججت مرة، فلما كان يوم عرفة، صعدت الجبل حتى كنت بأعلاه، فنظرت بعيني؛ فإذا بالسهل والجبل قد فرشها الحجّاج، وكانت سنة جامعة، فاستكثرت أهل الموقف، فقلت في نفسي:" لعلّ في هؤلاء من لا يغفر له! " فسمعت قائلا يقول بصوت ملأ ما بين الجبلين:" هو أكرم من هذا". قلت: ويقرب من هذا ما حكاه الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي في ترجمة" سليمان ابن داود المباركي عن التتائي قال:" أفضت من عرفات وقد مضى الناس، فبينما أنا أسير وحدي، إذا أنا برجلين يقول أحدهما لصاحبه: يا حبيب!. فقال الآخر: لبيك!. قال: أترى الذي تحاببنا فيه، يعذّبنا؟. قال: فسمعوا صوتا:" ليس بفاعل، ليس بفاعل".

5 - أبو إسحاق إبراهيم بن أدهم بن منصور

ومنهم: 5- أبو إسحاق إبراهيم بن أدهم بن منصور «13» من كورة بلخ «1» ، [لات] بعطفيه حلل التقوى الفاخرة، وملك الدنيا فرغب في الآخرة، بلغ ما لا يتوهم، وسبق ولا غرر له وهو ابن أدهم، وكان أي رجل، لم تجرّه الدنيا بحبالها، ولم تغره الدنيا بخيالها، فأعرض عن الأعراض، وبقايا سورها «2» ، وقليل ميسورها، وزهد زهدا صار فيه مثلا يضرب، ورجلا حديثه يستغرب، إلى أن قطع الأجل كما يقطع المسافر المسافة، وحطّ رحله حيث أمن المخافة. وكان من أبناء الملوك، فخرج يوما متصيّدا، فأثار ثعلبا، وقيل: أرنبا، فهتف به هاتف «3» : يا إبراهيم!، ألهذا خلقت، أم بهذا أمرت؟. ثم هتف به من" قربوس" «4» سرجه: والله ما لهذا خلقت، ولا بهذا أمرت؟.

فنزل عن دابّته، وصادف راعيا لأبيه، فأخذ جبّته، وكانت من صوف، فلبسها، وأعطاه ثيابه، وقماشه، وفرسه. ثم دخل مكة، وصحب بها سفيان الثوري «1» ، والفضيل بن عياض «2» ، ثم ارتحل إلى الشام، وأقام بها. وكان يأكل من عمل يده؛ مثل: الحصاد، وعمل البساتين، وغيرهما. وصادف في بعض البراري رجلا علّمه" اسم الله الأعظم" فدعا به، فرأى الخضر عليه السلام. «3» وكان- رضي الله عنه- كبير الشان في باب الورع: يحكى عنه أنه قال:" أطب مطعمك، ولا حرج عليك أن لا تقوم الليل ولا تصوم النهار".

وكان من دعائه:" اللهمّ! انقلني من ذلّ معصيتك إلى عز طاعتك". وروي أنه كان يحفظ كرما؛ فمرّ به جندي، فقال: أعطنا من هذا العنب. فقال: ما أمرني به صاحبه. فأخذ الجندي يضربه بسوطه، فطأطأ رأسه وقال:" اضرب رأسا طالما عصى الله!! ". «1» وقيل: مرّ إبراهيم بن أدهم بسوق البصرة، فاجتمع إليه الناس، وقالوا: يا أبا إسحاق! إن الله يقول في كتابه: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ «2» ، ونحن ندعوه فلا يستجيب لنا!. فقال: يا أهل البصرة! ماتت قلوبكم في عشرة أشياء: أولها: عرفتم الله ولم تؤدّوا حقه. والثانية: قرأتم كتاب الله ولم تعلموا به. والثالثة: ادّعيتم حبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركتم سنّته!. والرابعة: ادّعيتم عداوة الشيطان ووافقتموه!. والخامسة: قلتم: نحبّ الجنة، وما تعملون لها!. والسادسة: قلتم: إن الموت حق، ولم تستعدوا له!. والسابعة: قلتم: نخاف النار [ووهنتم] أنفسكم!. والثامنة: اشتغلتم بعيوب إخوانكم ونبذتم عيوبكم!. والتاسعة: أكلتم نعمة ربكم ولم تشكروها!. والعاشرة: دفنتم موتاكم ولم تعتبروا بهم!.

وقال إبراهيم بن بشار «1» : سألت إبراهيم بن أدهم عن العبادة؟ فقال:" رأس العبادة التفكر، والصمت، إلا عن ذكر الله تعالى". وقد بلغني إنه قيل للقمان: ما بلغ من حكمتك؟ فقال: لا أسأل عما قد كفيت، ولا أتكلّف ما لا يعنيني. ثم قال: يا ابن بشار! إنما ينبغي للعبد أن يصمت أو يتكلّم بما ينتفع به أو ينفع به من موعظة، أو تنبيه، أو تخويف، أو تحذير. يا ابن بشار! مثّل لبصر قلبك حضور ملك الموت- عليه السلام- لقبض روحك، فانظر كيف تكون؟. ومثّل هول المطلع، ومساءلة منكر ونكير. فانظر كيف تكون؟. ومثّل القيامة وأهوالها، وأفزاعها، والعرض، والحساب، والوقوف، فانظر كيف تكون؟. ثم صرخ صرخة، ووقع مغشيّا عليه. وكتب عمر بن منهال القرشي إلى إبراهيم بن أدهم، وهو بالرملة: أن عظني موعظة أحفظها عنك. فكتب إليه: " أما بعد ... فإن الحزن على الدنيا طويل، والموت من الإنسان قريب، وللنقص منه في كل وقت نصيب، وللبلاء في جسمه دبيب، فبادر بالعمل قبل أن ينادى بالرحيل، واجتهد في العمل بدار الممر قبل الانتقال إلى دار المقر". وقال أحمد بن الفضل العكي: سمعت أبي يقول: مرّ إبراهيم بن أدهم بقيسارية «2» ، وقد

تعجّل دينارا من نظارة كرم، فسمع صوت امرأة تصيح، فقال: ما لهذه؟. قالوا: تلد. قال: وأي شيء نعمل لها عند ولادتها؟. قالوا: نشتري لها الدقيق، والزيت، والعسل، والسمن. فصرف ديناره، واشترى زنبيلا «1» ، وملأه من هذه الأخبية، ثم حمله على رقبته إلى بابها، وقال: خذوا!. فنظروا ... وإذا هم أفقر بيت من أهل قيسارية، وأعبده لله تعالى!!. وقال بقية بن الوليد «2» : سمعت إبراهيم بن أدهم يقول: تعلّمت المعرفة من راهب يقال له: سمعان. دخلت عليه في صومعته، فقلت له: يا سمعان! منذ كم أنت ها هنا؟. فقال: منذ سبعين سنة!، فقال: يا حنيفي! وما دعاك إلى هذا؟. فقلت: أحببت أن أعلم. ثم قلت له: ما الذي تأكل؟. قال: في كل ليلة حمّصة!. قلت: فما الذي يهيج قلبك حتى يكفيك الحمّصة؟. فقال: ترى الدير الذي بحذائك؟. قلت: نعم. قال: إنهم يأتوني في كل سنة يوما واحدا؛ فيزيّنون صومعتي، ويطوفون حولها، ويعظّموني بذلك، فكلّما تثاقلت نفسي عن العبادة، ذكرت تلك الساعة، فأنا أحتمل جهد سنة لعزّ ساعة، فاحتمل أنت يا حنيفي جهد ساعة لعزّ الأبد. فوقعت المعرفة في قلبي. ثم قال لي: حسبك أو أزيدك؟. قلت: زدني. فقال: انزل عن الصومعة، فنزلت، فأدلى إلي ركوة فيها عشرون حمصة، وقال لي: ادخل الدير، فقد رأوا ما أدليت لك، فلما دخلت الدير، اجتمع النصارى حولي، فقالوا: يا حنيفي! ما الذي أدلى لك الشيخ؟. قلت: من قوته. قالوا: وما الذي تصنع به؟. نحن أحقّ به، فبعناه. قلت: بعشرين دينارا؛ فاشتروه، ثم رجعت إلى الشيخ، فقال: يا حنيفي! لو التمست منهم عشرين ألف دينار لأعطوك!. ثم قال: هذا عزّ من لا تعبده، فكيف عزّ من عبده؟. يا حنيفي! أقبل على ربك، ودع المجيء والذهاب.

وقال إبراهيم بن أدهم: مررت براهب في صومعته، والصومعة على عمود، والعمود على قلّة «1» جبل، كلما عصفت الريح تمايلت الصومعة. فقلت: يا راهب! فلم يجبني. ثم ناديته ثانيا، فلم يجبني. فقلت في الثالثة: بالذي حبسك في صومعتك إلا أجبتني. فأخرج رأسه من صومعته، فقال: سمّيتني باسم لم أكن له بأهل!، قلت لي: يا راهب!، ولست براهب، إنما الراهب من رهب ربه عزّ وجلّ. قلت: فما أنت؟. قال: سجنت سبعا من السباع. قلت: ما هو؟. قال: لساني سبع ضار، إن أنا أرسلته مزّق الناس. يا حنيفي! إن لله عبادا سلكوا خلال دار الظالمين، واستوحشوا من مؤانسة الجاهلين، وشابوا ثمرة العلم بنور الإخلاص، هم- والله- عباد كحّلوا أبصارهم بسهر الليل، فلو رأيتهم في ليلهم، قد نامت عيون الخلق وهم قيام على أطرافهم، يناجون من لا تأخذه سنة ولا نوم. يا حنيفي!، عليك بطريقهم. قلت: فعلى الإسلام أنت؟. قال: ما أعرف غير الإسلام دينا، ولكن عهد إلينا المسيح عليه السلام، ووصف لنا آخر زمانكم، فخليت الدنيا، وإن دينكم لجديد، وقد خلق. وقال إبراهيم: رأيت في المنام كأن جبريل- عليه السلام- نزل إلى الأرض، فقلت له: لم نزلت؟. قال: لأكتب المحبين. فقلت: مثل من؟. فقال: مثل مالك بن دينار، وثابت البناني، وأيوب السختياني، وعدّ جماعة. فقلت: أنا منهم؟. فقال: لا. فقلت: فإذا كتبتهم، فاكتب تحتهم:" محب المحبين". فقال: قد أمرني الله تعالى أن أكتبك أولهم. وقال:" نعم القوم السّؤّال «2» ، فإنهم يحملون زادنا إلى الآخرة". وروي عنه أنه قال:" ما سررت في إسلامي إلا ثلاث مرات:

6 - الفضيل بن عياض

كنت في سفينة وفيها رجل مضحاك، كان يقول: كنا نأخذ العلج في بلاد الترك هكذا!! وكان يأخذ بشعر لحيتي، ويهزّني، فسرّني ذلك، لأنه لم يكن في تلك السفينة أحقر في عينه مني!. والثانية: كنت عليلا في مسجد، فدخل المؤذّن، فقال: اخرج، فلم أطق، فأخذ برجلي، وجرّني إلى خارج المسجد. والثالثة: كنت بالشام، وعليّ فرو، فنظرت فيه أميّز بين شعره والقمل لكثرته،- وفي رواية- كنت يوما جاء إنسان وبال عليّ، وجاء آخر وصفعني! ". وقال أبو عبد الله بن الفرج: اطّلعت على إبراهيم بن أدهم بالشام وهو نائم، وعند رأسه أفعى في فمها باقة نرجس تذبّ عنه حتى انتبه!. «1» ومنهم: 6- الفضيل بن عياض «13» أبو علي الخراساني.

رجل رأى بعين البصيرة واطّبع، وتمثّل بصفاء السريرة هول المطلع، أسمعه النذير، وأسرعه النفير، وزجره واعظ القرآن فازدجر، وألان قلبه- وكان من حديد أو حجر-، وقد مضت عليه سنون كان سائحا في سنتها «1» طافحا بسمتها، وشبابه مقتبل، وشأنه أنه لغرّة العمر مهتبل، فردّ سيله قبل بلوغ القرآن، وأنام سيفه بعد ما فقد غراره «2» ، وذلك حين آن له المتاب، وسبق له الكتاب، فعمل بعمل أهل الجنة، وأظهر الله له من سرّه ما أجنّه. وروى أبو القاسم القشيري بسنده قال: كان الفضيل شاطرا «3» يقطع الطريق بين أبيورد «4» وسرخس. وكان سبب توبته: أنه عشق جارية، فبينا هو يرتقي الجدران إليها، سمع تاليا يتلو: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ «5» ، فقال: يا رب! قد آن. فرجع، فآواه الليل إلى خربة، فإذا فيها رفقة «6» ، فقال بعضهم: نرتحل، وقال قوم: حتى نصبح، فإن فضيلا على الطريق يقطع علينا. فتاب الفضيل «7» ، وأمّنهم، وجاور الحرم حتى مات. وقال الفضيل بن عياض:" إذا أحبّ الله عبدا أكثر غمّه «8» ، وإذا أبغض عبدا وسّع عليه دنياهء «9» ". وقال ابن المبارك: إذا مات الفضيل ارتفع الحزن. «10»

وقال الفضيل:" لو أن الدنيا بحذافيرها عرضت عليّ ولا أحاسب بها لكنت أتقذّرها، كما يتقذّر أحدكم الجيفة إذا مرّ بها أن تصيب ثوبه" «1» وقال:" ترك العمل لأجل الناس هو الرياء «2» ، والعمل لأجل الناس «3» هو الشرك". وقال أبو علي الرازي: صحبت الفضيل ثلاثين سنة، ما رأيته ضاحكا، ولا مبتسما «4» ، إلا يوم مات ابنه علي، فقلت له في ذلك؟. فقال:" إن الله أحبّ أمرا فأحببت ذلك". وقال الفضيل:" إني لأعصي الله فأعرف ذلك في خلق حماري وخادمي". «5» حكى في" مناقب الأبرار" «6» عن سفيان بن عيينة- رضي الله عنه قال: قال لي الرشيد: أريد أن ألقى الفضيل بن عياض، لعلّ الله أن يحدث لي عظة أنتفع بها. فقلت له: والله! إنّ ذلك لحبيب إليّ، ولكنه رجل قد أخذ نفسه بخدمة الله تعالى، فما لأحد فيه حظ، وأكره أن تراه متصوفا في بعض حالاته من عبادة ربه- عزّ وجلّ- فتوهم عليه جفاء،

وإن كنت والله أعرفه الرجل الكريم العشرة، الحسن الخلق، يوهم من شاهده من لينه أنه داخل في حكم العامة. فقال لي: ما عزمت على لقائه حتى وطّنت نفسي على احتمال مشاهدتي أخلاقه. ثم قال: ويحك يا سفيان!، إن شرف التقوى شرف لا يزاحم عليه بإمرة ولا خلافة!. فأدّيت ذلك إلى الفضيل، فقال: إنه لحسن العقل، لولا ما ضرب به من فتنة هذه العاجلة!. ويسوؤني أيضا، فأما ما يسؤوني منه فلم أر مثله يرفل في سوابغ النعم عريانا من الشكر، ثم قطّب بين عينيه، وقال: ما قدر من كان لله عاصيا؟. لا حاجة لي في لقائه. فلم أزل أرفق به حتى أذن، فرجعت إلى الرشيد فأعلمته، وقلت له: ليس يطمع فيه إلا وقت إفطاره، وكان إفطاره كاختطاف الطائر حبّه. فركب الرشيد، ولبس مبطنة، وطيلسانا، وغطاء رأسه، ومعه مسرور الخادم، وأنا؛ فدققت الباب؛ فنزل وفتح، ودخل، ودخلت معه، ووقف مسرور على الباب، فسلّم عليه الرشيد قائما، فتشمّ منه رائحة المسك، فقال الفضيل:" اللهمّ! إني أسألك رائحة الخلد التي أعددتها لأوليائك المتقين في جنات النعيم". ثم تبادرت دموعه على لحيته، فقلت: يا أبا علي! هذا أمير المؤمنين واقف يسلّم عليك، فرفع رأسه، وقال: وإنك لهو يا حسن الوجه؟. ونظر إلى الرشيد وهو يبكي، فقال له: اعلم أن الأحكام قد سلبت فضيلة العدل، وهو في صحيفتك يدرج معك في كفنك ليوم النشور، وقد بدا إليك سرعة نفاذ ما أنت فيه من تقدّمك من آبائك، ثم نهض، وقال:" الله أكبر". فقلت له: يا أمير المؤمنين! أما إذا افتتح الصلاة فليس فيه حيلة. وانصرفنا. فقال الرشيد وهو خارج: لولا خجلي منك لقبّلت ما بين عينيه، فقلت له: والله لوددت أن فعلت!.

7 - داود بن نصير الطائي

ولد الفضيل بسمرقند «1» ، ونشأ بأبيورد، وتوفي بمكة سنة سبع وثمانين ومائة. ومنهم: 7- داود بن نصير الطّائيّ «13» وصل إلى الغاية وبلغها، وتجنّب الغواية ومبلغها، تفقّه ثم اعتزل، وتنبّه ثم لم يزل، وقطع مدة البقاء على فرد قدم، وفرّ من الدنيا ولم يداخله ندم، وكان وشبابه غربيب «2» ، وجلبابه ما علق بريح حبيبة ولا حبيب، مجدّ في العلم وطلبه، مجدد بما يعلم دواعي طربه، يسعى إليه ولا يتكبّر، ويرعى ما يرد عليه ويتدبّر، ثم لما اضطلع من ذلك البحر الرواء، انخلع من ذلك الرداء، ولبس رتق الفقراء المبرّأ من الرياء، وطمّ طمعه فانفطم، وأحب الخلوة فكان لا يفارق ظلّ أطم. «3»

قال أبو علي الدقاق: كان سبب زهد داود: أنه كان يمرّ ببغداد يوما، فنحّاه «1» المطرّقون «2» بين يدي حميد الطوسي، فالتفت داود، فرأى حميدا، فقال داود: أفّ لدنيا سبقك بها حميد!. فلزم البيت، وأخذ في الجهد والعبادة. وقال القشيري: سمعت ببغداد بعض الفقراء يقول: إن سبب زهده أنه سمع نائحة تنوح وتقول: بأي خدّيك تبدّى البلى ... وأي عينيك إذا سالا وقيل: كان سبب زهده: أنه كان يجالس أبا حنيفة رضي الله عنه، فقال له أبو حنيفة يوما: يا أبا سليمان! أما الأداة «3» فقد أحكمناها. فقال له داود: فأي شيء بقي؟. فقال: العمل به. قال داود: فنازعتني نفسي إلى العزلة، فقلت لنفسي: حتى تجالسهم ولا تتكلم في مسألة. قال: فجالستهم سنة لا أتكلم في مسألة، وكانت المسألة تمرّ بي، وأنا إلى الكلام فيها أشدّ نزاعا من العطشان إلى الماء البارد ولا أتكلم. ثم صار أمره إلى ما صار. «4» وقيل: حجم" جنيد الحجام" داود الطائي، فأعطاه دينارا، فقيل له: هذا إسراف. فقال: " لا عبادة لمن لا مروءة له." «5» وكان يقول بالليل:" إلهي! همّك عطّل علي الهموم الدنيوية، وحال بيني وبين الرقاد". وقالت داية «6» داود الطائي له: أما تشتهي الخبز؟. فقال: بين مضغ الخبز وشرب الفتيت قراءة خمسين آية!.

ولما توفي، رآه بعض الصالحين في المنام، وهو يعدو، فقال له: مالك؟. فقال:" الساعة تخلّصت من السجن". فاستيقظ الرجل [من منامه] ، وارتفع الصّياح [يقول الناس:] مات داود الطّائي. وقال له رجل: أوصني. فقال له:" عسكر الموت ينتظرونك". ودخل عليه بعضهم، فرأى جرّة ماء انبسطت عليها الشمس، فقال له: ألا تحوّلها إلى الظلّ؟. فقال:" حين وضعتها لم يكن شمس، وأنا أستحي أن يراني الله أمشي لما فيه حظّ نفسي «1» ". ودخل عليه بعضهم، فجعل ينظر إليه، فقال: أما علمت أنهم كانوا يكرهون فضول النظر كما يكرهون فضول الكلام؟. وقال أبو الربيع الواسطي: قلت لداود الطائي: أوصني. فقال:" صم عن الدنيا، واجعل فطرك الموت، وفرّ من الناس كفرارك من الأسد «2» ".

قال ابن خبيق: ورث داود الطائي عشرين دينارا، فأكلها في عشرين سنة. «1» وقال- رضي الله عنه-:" صاحب أهل التقوى فإنهم أقلّ مؤونة، وأكثر معونة". وقيل له يوما: لو تنحّيت عن الشمس إلى الظل؟. فقال: هذه خطى لا أدري كيف تكتب؟. «2» توفي داود الطائي- رضي الله عنه- سنة ستين ومائة. «3»

8 - شقيق بن إبراهيم البلخي

ومنهم: 8- شقيق بن إبراهيم البلخي «13» من مشايخ خراسان، وقف على الحقيقة، ورتع في حضرة القرب والحديقة، فأغرق في شيمه، وأغدق من شيمه، بعد ما قضى في طلب الدنيا زمانا، وعمره خضر، وعوده نضر، وليل شبابه ما صابح فيه نهار المشيب، وناعم جلبابه ما طاح عنه رداؤه القشيب. وأول كراماته، وما عرف من مقاماته، ردّ سيل غرامه، وقد تحدّر وأطفأ وقد ضرامه، وقد قيل: إنه عليه لا يقدر، فقدر واحتكم، وكان شقيق النفس وإن لم يكن من حكم. وهو أول من تكلم في علوم الأحوال بكور خراسان، وله لسان في التوكل. «1» صحب إبراهيم «2» وأخذ عنه الطريقة، وهو أستاذ حاتم الأصم. وسبب توبته: أنه كان من أبناء الأغنياء خرج للتجارة إلى أرض الترك، وهو حدث، فدخل

بيتا للأصنام، فرأى خادما للأصنام فيه، قد حلق رأسه ولحيته، ولبس ثيابا أرجوانية «1» ، فقال شقيق للخادم: إن لك صانعا، حيا، عالما، قادرا، فاعبده ولا تعبد هذه الأصنام التي لا تضر ولا تنفع!!. فقال: إن كان كما تقول، فهو قادر على أن يرزقك ببلدك، فلم تعنّيت إلى ههنا للتجارة؟ «2» فانتبه شقيق، وأخذ في طريق الزهد بعد التوبة. وقال:" احذر أن لا تهلك بالدّنيا. ولا تهتم! فإن رزقك لا يعطى لأحد سواك". وقال:" التوكل أن يطمئن قلبك بموعود الله". وقال:" تعرف تقوى الرجل في ثلاثة أشياء: في أخذه، ومنعه، وكلامه". وقال:" الفقير هو الذي يخشى الغنى، ويغتنم الفقر". وقال:" عملت في القرآن عشرين سنة، حتى ميّزت الدنيا من الآخرة، فأصبته في حرفين، وهو قول الله تعالى: وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها «3» وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى «4» . وقال:" الزاهد الذي يقيم زهده بفعله، والمتزهّد الذي يقيم زهده بلسانه". وقال:" إن حفظ الفقر أن ترى الفقر منّة من الله عليك، حيث لم يضمّنك رزق غيرك، ولم ينقصك مما قسم لك". وقال:" ليس شيء أحبّ إليّ من الضيف، لأن رزقه ومؤونته على الله، ولي الأجر." «5»

وقال حاتم الأصم: كان شقيق البلخي موسرا، وكان يتفتّى «1» ، ويعاشر الفتيان، وكان علي بن عيسى بن ماهان أمير بلخ، وكان يحب كلاب الصيد، ففقد كلبا من كلابه، فسعي برجل أنه عنده، وكان الرجل في جوار شقيق، فطلب الرجل، فهرب.. فدخل دار شقيق مستجيرا، فمضى شقيق إلى الأمير، وقال: خلّوا سبيله، فإن الكلب عندي، أردّه إليكم إلى ثلاثة أيام. فخلّوا سبيله، وانصرف شقيق مهتمّا لما صنع، فلما كان اليوم الثالث، كان رجل من أصدقاء شقيق غائبا من بلخ، فرجع إليها، فوجد في الطريق كلبا عليه قلادة، فأخذه، وقال: أهديه إلى شقيق، فإنه يشتغل بالتفتّي. فحمله إليه، فنظر شقيق؛ فإذا هو كلب الأمير!. فسرّ به، وحمله إلى الأمير، وتخلّص من الضمان، فرزقه الله الانتباه، وتاب مما كان فيه، وسلك طريق الزهد. وقال شقيق: لقيت إبراهيم بن أدهم بمكة في سوق الليل، وهو جالس في ناحية من الطريق يبكي، فعدلت إليه، وسلّمت عليه، وقلت له: أيش هذا البكاء يا أبا إسحاق!؟. فقال: حين عاودته مرة أو اثنتين، أو ثلاثة، فلما أكثرت عليه قال: يا شقيق! أنا أخبرك [بحديث فلا تحدّث به أو استره علي] . فقلت: يا أخي! قل ما شئت. فقال: اشتهت نفسي السكباج «2» منذ ثلاثين سنة، وأنا أمنعها جهدي، فلما كان البارحة، كنت جالسا وقد غلبني النعاس، إذا أنا بفتى شاب، وبيده قدح أخضر يعلو منه بخار، ورائحة سكباج، قال: فاجتمعت بهمتى عنه، فقرب مني، وقال: يا إبراهيم! كل. فقلت: ما آكل شيئا قد تركته لله تعالى. فقال: وإن أطعمك الله فما تأكل؟. فما كان لي جواب إلا أنني بكيت. فقال لي: كل يرحمك الله. فقال إبراهيم: قد أمرنا أن لا نطرح في

9 - معروف بن فيروز الكرخي: أبو محفوظ

وعائنا إلا من حيث نعلم. فقال: كل عافاك الله! فإنما أعطيت، وقيل لي: يا خضر! اذهب بهذا، وأطعم نفس إبراهيم بن أدهم، فقد رحمها الله من طول صبرها على ما يحملها من حين منعها. توفي شقيق رحمه الله تعالى سنة أربع وتسعين ومائة. «1» ومنهم: 9- معروف بن فيروز الكرخي: أبو محفوظ «13»

أيّ رجل وفيّ، وذي عمل خفيّ، علق بأسباب النبوة فنجا، وأشرق له شهاب الإيمان فرجا، فلم يتمسك بعصم الكوافر، ولا ضلّ بعد الأيام السوافر، فوافى مسلما، وجفا دينا كان كقطع الليل مظلما، فبريء من آلائه الممحوة، وربّي في الحنيفية البيضاء لا سوادا ولا حوّه «1» ، فصدّ وجهه عن دين أبويه، وأسلم وسلم إليه، فسعد بالدين، وصعد إلى علّيّين، فسرت في أبويه أنفاسه فأسلما، وأشركا في دحض الشرك معه وأسهما، وقد كانا جهدا على قتله، وتجرّدا لمحنته، ثم زال عن عيونهما العشا «2» ، والله يهدي من يشا. كان من المشايخ الكبار، مجاب الدعوة «3» ، يستشفى بقبره. يقول البغداديون: قبر معروف ترياق مجرّب. «4» وهو من موالي علي بن موسى الرّضا «5» ، رضي الله عنه، وكان أستاذ السري السقطي،

وقد قال له يوما:" إذا كانت لك إلى الله حاجة فأقسم عليه بي". قال أبو علي الدقاق- رحمه الله تعالى-: كان معروف الكرخي أبواه نصرانيان، فسلّموا معروفا إلى المؤدّب [وهو صبي] ، فكان المؤدّب يقول له: قل:" ثالث ثلاثة" ويقول معروف: بل هو واحد!. فضربه المعلّم يوما ضربا مبرّحا، فهرب معروف، فكان أبواه يقولان: ليته يرجع إلينا على أيّ دين يشاء، فنوافقه عليه. ثم إنه أسلم علي يدي علي بن موسى الرضا، ورجع إلى منزله، ودقّ الباب، فقيل: من بالباب؟. فقال: معروف. فقالوا: على أيّ دين جئت؟. فقال: على الدين الحنيفي؛ فأسلم أبواه. «1» وقال سريّ السقطي: رأيت معروفا الكرخيّ في النوم بعد موته، فقلت: ما فعل الله بك؟. فقال: غفر لي. فقلت: بزهدك وورعك؟. قال: لا، بقبولي موعظة ابن السّمّاك، ولزوم الفقر، ومحبتي الفقراء. وموعظة ابن السّمّاك: ما قاله معروف: " كنت مارّا بالكوفة، فوقفت على رجل يقال له:" ابن السمّاك" وهو يعظ الناس؛ فقال في

خلال كلامه: من أعرض عن الله بكلّيّته أعرض الله عنه جملة، ومن أقبل على الله بقلبه أقبل الله برحمته إليه، وأقبل بجميع وجوه الخلق إليه، ومن كان مرّة ومرّة، فالله يرحمه وقتا ما". فوقع كلامه في قلبي، فأقبلت على الله تعالى، وتركت جميع ما كنت عليه، إلا خدمة مولاي علي بن موسى الرضا. وذكرت هذا الكلام لمولاي، فقال: يكفيك بهذا موعظة إن اتّعظت. «1» وقيل لمعروف في مرض موته: أوص. فقال:" إن متّ فتصدّقوا بقميصي، فإني أريد أن أخرج من الدنيا عريانا كما دخلتها عريانا." «2» ومرّ بسقّاء يقول: رحم الله من يشرب! - وكان رضي الله عنه صائما «3» ؛ فتقدّم فشرب، فقيل له: ألم تكن صائما؟. فقال: بلى، ولكني رجوت دعاءه. «4» توفي سنة مائتين، وقيل: سنة إحدى ومائتين «5» .

10 - أبو محمد الفتح بن سعيد الموصلي

ومنهم: 10- أبو محمّد الفتح بن سعيد الموصليّ «13» وتعرف بلدة فتح ب" الكاري"، وهي قرية بشرقي دجلة. من أقران بشر الحافي. رجل نفض من الدنيا يدا، وأعرض عن السّحب وهي تفيض ندا، وكان لأهل الطريقة

منه فتح قريب، ومنح منه غير غريب، وكانت له الأقضية مسخّرة، والأيام المزدهية به مفتخرة، وكان لو أومأ إلى الصخر لا نفلق، أو إلى الليل لأتلق، إلى حكم تتفجّر منابعها، وسفوح تفرح السّحب مرابعها، وجواهر كلمه عند القوم «1» في مخبّآت الصّدور مخزونة، وبحبّات القلوب موزونة. قال إبراهيم بن عبد الله «2» : صدع فتح الموصلي؛ ففرح بذلك، وقال: يا رب! ابتليتني ببلاء الأنبياء؟!؛ فشكر هذا أن أصلي الليلة أربع مائة ركعة!. وقال فتح:" أهل المعرفة: الذين إذا نطقوا فبه ينطقون، وإذا عملوا فله يعملون، وإذا طلبوا فمنه يطلبون، وإذا رغبوا فإليه يرغبون، أولئك خواصّ الله، السابقون المقرّبون". وكان- رضي الله عنه- في وقت ليالي الشتاء يجمع عياله، ويمدّ كساءه، ثم يقول:" [اللهم!] أفقرتني وأفقرت عيالي!، وجوّغتني، وجوّعت عيالي!، وأعريتني وأعريت عيالي!، [بأي] وسيلة أتوسّل إليك؟، وإنما تفعل هذا بأوليائك وأحبابك، فترى هل أنا منهم حتى أفرح؟." «3» وسئل فتح الموصلي عن الصدق ما هو؟. فأدخل يده في كير حداد، وأخرج الحديدة المحمّاة، ثم وضعها على كفّه، وقال:" هذا هو الصدق". وقال:" صحبت ثلاثين شيخا كانوا يعدّون جميعهم من الأبدال، وكلّهم أوصوني عند

فراقي لهم، فقالوا:" إياك ومعاشرة الأحداث". وقال أبو عبد الله بن الجلّاء: كنا في غرفة سريّ السّقطي ببغداد، فلما ذهب بعض الليل، لبس قميصا نظيفا، وسروالا، ورداء، وقام ليخرج، فقلت: إلى أين في هذا الوقت؟. فقال: أعود فتحا. فلما مشى في طرقات بغداد، أخذه العسس، وحبسوه، فلما أصبح أمروا بضربه مع المحبوسين، فلما رفع الجلّاد يده، وقفت فلم يقدر أن يحرّكها!، فقيل للجلّاد: اضرب. فقال: حذائي شيخ واقف يقول: لا تضربه!!. فتقف يدي لا تتحرك!!. فنظروا؛ من الرجل؟. فإذا هو" فتح الموصلي" فأطلقوه، واعتذروا إليه، لأنهم لم يعرفوه. وقال إبراهيم بن نوح الموصلي: رجع فتح الموصلي إلى أهله بعد العتمة، وكان صائما، فقال: عشّوني!. فقالوا: ما عندنا شيء نعشّيك به. قال: فما لكم جلوس في الظّلمة؟. قالوا: ما عندنا شيء نسرج به!. فجلس يبكي من الفرح، وقال:" إلهي! مثلي يترك بلا عشاء؟!، ولا سراج!!، فأيّ يد كانت مني؟ ". فما زال يبكي حتى الصباح «1» . وقال شعيب بن حرب: دخلت على فتح الموصلي أعوده، وهو مريض، فقلت له: يا أبا محمد! أوصني. فقال: أليس الإنسان إذا منع من الطعام والشراب يموت؟ قلت: نعم. قال: " فكذلك القلب إذا منع من الذكر يموت". وروي أنه دخل على بشر الحافي فقال له: يا أبا نصر! ابعث إلى السوق واشتر لنا خبزا جيدا، وتمرا جيدا. ففعل بشر ذلك. فأكل الفتح منه، وأكثر، وحمل الباقي «2» فقال بشر لمن كان عنده: أتدرون لم قال: اشتر خبزا جيدا، وتمرا جيّدا؟. فقالوا: لا. قال: لأن الطعام الصافي الجيّد يصفو لصاحبه عليه الشكر. ثم قال لهم: أتدرون لم أكثر الأكل؟. قالوا: لا. قال: لأنه علم أني أفرح بأكله، فأراد أن يزيدني سرورا وفرحا. قال: أتدرون لم حمل

11 - أبو سليمان عبد الرحمن بن عطية الداراني

الباقي؟. قالوا: لا. قال: لأن التوكّل إذا صحّ لم يضرّ صاحبه الحمل معه. وروي أن رجلا قال للمعافى بن عمران «1» : هل كان للفتح الموصلي كبير عمل؟. فقال: كفاك بعمله تركه للدنيا!. «2» ومنهم: 11- أبو سليمان عبد الرّحمن بن عطيّة الدّارانيّ «13» عابد، شقّت به الليالي جنح ظلماتها، وأشرقت أعماله إشراق البدور في سمائها، وله بداريا مشهد له في السنة أيام تعدّ مواسم، وليال بالوفود بواسم، يقصد بالزيارة من كل

فجّ، وتؤتى بكل ناضج وفج، وتقذف له أبحر سواكب، وتقف حوله زمر ومواكب، وترتج تلك الساحات، وتثج «1» هنالك السماحات، في كلّ ظلماء تحاكي سناء الليلة القمراء، وتجاوب تسبيح الملائكة أصوات القرّاء. ولأهل دمشق بإقامة مواسم هذه الليالي ولوع، ولأقمار أهلها مشارق ثم طلوع، لا يزال لهم هذا دأبا كل عام يأتي، وفعلا يخالف قول من يفتي. قال أبو سليمان الداراني:" كنت ليلة باردة في المحراب، فأقلقني البرد، فخبّأت إحدى يديّ من البرد، وبقيت الأخرى ممدودة. «2» فغلبتني عيناي، فهتف بي هاتف: يا أبا سليمان! قد وضعنا في هذه ما أصابها، ولو كانت الأخرى لوضعنا فيها. فآليت على نفسي أن لا أدعو إلا ويداي خارجتان، حرّا كان الزمن أو بردا." «3» وقال أيضا:" نمت [ليلة] عن وردي، فإذا أنا بحوراء تقول لي: تنام وأنا أربّى لك منذ خمسمائة عام!؟ ". وقال:" أفضل الأعمال خلاف هوى النفس." «4» وقال:" لكلّ شيء علم، وعلم الخذلان ترك البكاء." «5» وقال:" لكلّ شيء صدأ، وصدأ نور القلب شبع البطن." «6» وقال:" كلّ ما شغلك عن الله تعالى من أهل، أو مال، أو ولد، فهو عليك شؤم." «7»

وقال:" من أحسن في نهاره كوفيء في ليله، ومن أحسن في ليله كوفيء «1» في نهاره، ومن صدق في ترك شهوة، ذهب الله بها من قلبه، والله أكرم من أن يعذّب قلبا بشهوة تركت له". «2» وقال:" إذا سكنت الدنيا في قلب ترحّلت منه الآخرة." «3» وقال:" ربّما يقع في قلبي النكتة من نكت القوم أياما، فلا أقبل منه إلا بشاهدين عدلين: الكتاب، والسنّة" «4» . وقال أحمد بن أبي الحواري: دخلت على أبي سليمان يوما، وهو يبكي، فقلت له: ما يبكيك؟. فقال: يا أحمد! ولم لا أبكي؟، وإذا جنّ الليل، ونامت العيون، وخلا كلّ حبيب بحبيبه، افترض أهل المحبّة أقدامهم، وجرت دموعهم على خدودهم، وتقطّرت في محاريبهم، وأشرف الجليل- سبحانه وتعالى- فنادى: يا جبريل! بعيني من تلذّذ بكلامي، واستراح إلى ذكري، وإنّي لمطّلع عليهم في خلواتهم، أسمع أنينهم، وأرى بكاءهم، فلم لا تنادي فيهم يا جبريل!: ما هذا البكاء؟. هل رأيتم حبيبا يعذّب أحباءه؟!، أم كيف يجمل بي أن آخذ قوما إذا جنّهم الليل تملّقوا لي «5» فبي حلفت: أنهم إذا وردوا عليّ يوم القيامة، لأكشفنّ لهم عن وجهي الكريم، حتى ينظروا إليّ، وأنظر إليهم" «6» .

12 - بشر بن الحارث الحافي أبو نصر

توفي- رضي الله عنه- سنة خمس عشرة ومائتين، وقبره بقرية داريّا، من قرى دمشق. «1» ومنهم: 12- بشر بن الحارث الحافيّ أبو نصر «13» زاد على الوسمي «2» ، وزان مدارعه زينة الكميّ «3» ، تحلّق بمشهد الشفق بشرى، وتألّق يوم مولده الصباح فكان بشرا، طفيء به كل مشتعل، وحفي كلّ حاف ومنتعل، ووقعت دونه القوادم والخوافي «4» ، واتبعت آثاره، وأثر الحافي غير خافي. سار ذكره فأوجف، وسكن

باطن الأرض فاقشعرّ ظاهرها وأرجف «1» ، وشفع بأخت كانت هي وأخواتها على الخير أعوانا» ، وإذا ذكر أهله أعيانا، وكان لمن صحّف نسرا، ولمن صحّح ما في طيّ الطّيب نشرا. أصله من" مرو" «3» وسكن بغداد، وكان كبير الشان. وسبب توبته: أنه أصاب في الطريق" كاغدة" «4» مكتوبا فيها اسم الله- عزّ وجلّ- قد وطئتها الأقدام، فأخذها واشترى بدرهم كان معه" غالية" «5» ، فطيّب بها" الكاغدة"، وجعلها في شق الحائط، فرأى فيما يرى النائم: كأنّ قائلا يقول له:" يا بشر طيّبت اسمي، لأطيّبنّ اسمك في الدنيا والآخرة." «6» قال أبو علي الدقاق: مرّ بشر ببعض الناس، فقالوا: هذا الرجل لا ينام الليل كله!، ولا يفطر إلا في كلّ ثلاثة أيّام مرة؛ فبكى بشر، فقيل له في ذلك؟. فقال: إني لا أذكر أني سهرت ليلة كاملة، ولا أني صمت يوما لم أفطر من ليلته، ولكن الله سبحانه وتعالى يلقي في القلوب أكثر مما يفعله العبد لطفا منه- سبحانه- وكرما.

وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: بلغني أن بشر بن الحارث الحافيّ قال:" رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فقال لي: يا بشر! أتدري لم رفعك الله من بين أقرانك؟. قلت: لا، يا رسول الله!. قال: باتّباعك لسنّتي، وخدمتك للصالحين، ونصيحتك لإخوانك، ومحبّتك لأصحابي، وأهل بيتي، وهو الذي بلّغك منازل الأبرار. «1» وقال بلال الخوّاص: كنت في تيه بني إسرائيل، فإذا رجل يماشيني، فتعجّبت منه، ثم ألهمت أنه الخضر عليه السلام، فقلت له: بحقّ الحقّ من أنت؟. فقال: أخوك الخضر؛ فقلت له: أريد أن أسألك، فقال: سل. فقلت: ما تقول في الشافعي «2» - رحمه الله-؟. فقال: هو من الأوتاد. «3» فقلت: ما تقول في أحمد بن حنبل «4» - رضي الله عنه-؟. قال: رجل صدّيق. قال: فما تقول في بشر بن الحارث الحافي؟. قال: لم يخلق بعده مثله!!. فقلت: بأي وسيلة رأيتك؟. فقال: ببرّك لأمّك. وقال أبو عليّ الدّقّاق: أتى بشر باب المعافى بن عمران، فدقّ الحافي عليه الباب، فقيل: من؟. فقال: بشر الحافي. فقالت له بنيّة من داخل الدار: لو اشتريت لك نعلا بدانقين لذهب عنك اسم الحافي. «5»

وقال أبو عبد الله [بن] الجلّاء: رأيت ذا النون وكانت له العبارة «1» ، ورأيت سهلا وكانت له الإشارة، ورأيت بشر بن الحارث، وكان له الورع. فقيل له: فإلى من كنت تميل؟ فقال: لبشر بن الحارث أستاذنا. وقيل: إنه اشتهى الباقلاء «2» سنين، فلم يأكله، فرؤي في المنام بعد وفاته، فقيل له: ما فعل الله بك؟. فقال: غفر لي، وقال: كل يا من لم يأكل، واشرب يا من لم يشرب! «3» وقال بشر:" إني أشتهي الشواء منذ أربعين سنة ما صفا لي ثمنه!! " «4» وقيل لبشر: بأي شيء تأكل الخبز؟. فقال: أذكر العافية وأجعلها إداما «5» . وقال بشر: لا يحتمل الحلال السرف. «6» ورئي بشر في المنام، فقيل له: ما فعل الله بك؟. فقال: غفر لي، وأباح لي نصف الجنة، وقال لي: يا بشر! لو سجدت لي على الجمر ما أدّيت شكر ما جعلته لك في قلوب عبادي.

وقال بشر:" لا يجد حلاوة الآخرة رجل يحب أن يعرفه الناس." «1» ومن دعائه:" اللهم إن كنت شهرتني في الدنيا لتفضحني في الآخرة فاسلبه عني." «2» وقال:" عقوبة العالم في الدنيا أن يعمي بصر قلبه". وقال:" من طلب الدنيا فليتهيّأ للذّل". «3» وقال بشر لأصحاب الحديث:" أدّوا زكاة هذا الحديث، قالوا: وما زكاته؟. قال: اعملوا من كل مائتي حديث بخمسة أحاديث". «4» وكان لبشر ثلاث أخوات، وهنّ:" مضغة" و" مخّة" و" زبدة"، وكنّ زاهدات عابدات، ورعات، وأكبرهنّ" مضغة"، ماتت قبل موت أخيها بشر، فحزن عليها حزنا شديدا، وبكى بكاء كثيرا، فقيل له في ذلك؟. فقال: قرأت في بعض الكتب: إن العبد إذا قصّر في خدمة ربه سلبه أنيسه. وهذه أختي" مضغة" كانت أنيستي في الدنيا". وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: دخلت امرأة على أبي فقالت له: يا أبا عبد الله!، إني امرأة أغزل من الليل على ضوء السراج، وربما طفيء السراج، فأغزل على ضوء القمر، فهل عليّ أن أبيّن غزل السراج من غزل القمر؟. فقال لها أبي: إن كان عندك بينهما فرق، فعليك أن تبيّني ذلك. فقالت له: يا أبا عبد الله! أنين المريض هل هو شكوى؟. فقال لها: إني أرجو أن لا يكون شكوى، ولكن هو اشتكاء إلى الله تعالى. ثم انصرفت؛ قال عبد الله: فقال لي أبي: يا بني! ما سمعت إنسانا قط يسأل عن مثل

ما سألت هذه المرأة!، اتبعها. قال عبد الله: فتبعتها إلى أن دخلت دار بشر الحافي، فعرفت أنها أخت بشر، فأتيت أبي فقلت له: إن المرأة أخت بشر الحافي، فقال أبي: هذا والله! هو الصحيح، محال أن تكون هذه المرأة إلا أخت بشر الحافي!!! «1» وقال عبد الله أيضا: جاءت" مخّة" أخت بشر الحافي إلى أبي فقالت: يا أبا عبد الله! رأس مالي دانقان، أشتري بهما قطنا فأغزله، وأبيعه بنصف درهم، فأنفق دانقا من الجمعة إلى الجمعة، وقد مرّ الطائف ليلة ومعه مشعل، فاغتنمت ضوء المشعل، وغزلت طاقين في ضوئه، فعلمت أن لله سبحانه وتعالى فيّ مطالبة، فخلّصني من هذا خلّصك الله تعالى «2» فقال أبي: تخرجين الدانقين، ثم تبقين بلا رأس مال حتى يعوّضك الله خيرا منه. قال عبد الله: فقلت لأبي: لو قلت لها حتى تخرج رأس مالها، فقال: يا بني! سؤالها لا يحتمل التأويل، فمن هذه المرأة؟. فقلت: هي" مخّة" أخت بشر الحافي. فقال أبي: من هنا أتيت. «3» وقال بشر:" تعلّمت الورع من أختي، فإنها كانت تجتهد أن لا تأكل ما لمخلوق فيه صنع". «4» توفي- رضي الله عنه- في شهر ربيع الآخر، سنة ست وعشرين «5» وقيل: سنة سبع وعشرين ومائتين. وقيل: في عاشر المحرم، وقيل: في رمضان، ببغداد. وقيل: بمرو. «6» وإنما لقّب ب" الحافي" لأنه جاء إلى إسكاف يطلب منه شسعا لأجل نعليه «7» ، وكان قد

13 - أحمد بن أبي الحواري

انقطع، فقال له الإسكافي: ما أكثر كلفتكم على الناس؟!. فألقى النعل من يده، والآخر من رجله، وحلف لا يلبس نعلا. ومنهم: 13- أحمد بن أبي الحواريّ «13» المعروف ب" ريحانه الشام". قطب من الأقطاب، ورجل طار ذكره وطاب، تفرّد في الجميع، وهبّ طيبه فقيل: أمن ريحانة الداعي السميع، فعبقت بطيبه الأردان، وعلقت من نصيبه الأخدان، وهطلت له سوافح أغرقت في يمها، ونوافح عرفت، وما تمدح ريحانة قبل شمّها. رسا مقصرا بان عن إبانته، وقص قوادم النسيم، فعلق طيبا من ريحانته. هو من أهل دمشق. صحب أبا سليمان الداراني. «1» وكان أبو القاسم الجنيد يقول:" أحمد بن أبي الحواري ريحانة الشام." «2» وقال أحمد بن أبي الحواري:" من نظر إلى الدنيا نظرة إرادة وحبّ لها أخرج الله نور

14 - أبو عبد الرحمن حاتم بن عنوان الأصم

اليقين والزهد من قلبه." «1» وقال:" من عمل بلا اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فباطل عمله." «2» وقال:" ما ابتلى الله عبدا بشيء أشدّ من الغفلة والقسوة." «3» توفي- رحمه الله تعالى- سنة ثلاثين ومائتين «4» . ومنهم: 14- أبو عبد الرّحمن حاتم بن عنوان الأصم «13» ويقال: حاتم بن يوسف.

ويقال: حاتم بن عنوان بن يوسف [الأصم] . «1» صاحب مقالات، وساحب ذيل في مقامات، وكان لأغطية الصدور كاشفا، ولتجلية البدور كاسفا، رفع له الحجاب، وصدع به الدجى فانجاب، وطالما غفر الزلل، وظفر بما لم يزل. حكي أنه ستر، فستر الله عليه، وتصامم فسرّ الله مسمعيه، وكان له جميل صنع لم يزل إليه مصروفا، ومنع كان لا يراه من أنكره إلا معروفا، مع جود أضفى ذيله وأطاله. وكان من قدماء مشايخ خراسان، من أهل بلخ. صحب شقيق بن إبراهيم البلخي، وكان أستاذ أحمد بن خضرويه، وهو مولى للمثنى بن يحي المحاربي «2» ، وله ابن يقال له:" خشنام بن حاتم". قيل: إنه لم يكن أصمّ، وإنما تصامم مرة؛ فسمي به. جاءته امرأة تسأله عن مسألة، فاتّفق أن خرج منها في تلك الحالة صوت، فخجلت، فقال حاتم: ارفعي صوتك!، فأرى من نفسه أنه أصم!، فسرّت المرأة من ذلك وقالت في نفسها: إنه لم يسمع الصوت، فغلب عليه اسم الأصم. «3» وقال:" من دخل في مذهبنا هذا فليجعل في نفسه أربع خصال من الموت: موتا أبيض، وهو: الجوع. وموتا أسود، وهو: احتمال الأذى من الخلق.

وموتا أحمر، وهو: العمل الخالص من الشوب في مخالفة الهوى. وموتا أخضر، وهو: طرح الرقاع بعضها على بعض. «1» وقال:" العجلة من الشيطان إلا في خمس:" إطعام الطعام إذا حضر ضيف، وتجهيز الميّت إذا مات، وتزويج البكر إذا أدركت، وقضاء الدين إذا وجب، والتوبة من الذنب إذا أذنب". «2» وقال:" من أصبح وهو مستقيم في أربعة أشياء فهو يتقلّب في رضا الله تعالى: أولها: الثقة بالله، ثم التوكل، ثم الإخلاص، ثم المعرفة؛ والأشياء كلها تتم بالمعرفة". «3» [وقال:] الواثق من رزقه من لا يفرح بالغنى، ولا يهتم بالفقر، ولا يبالي أصبح في عسر أو يسر". «4» وقال:" أصل الطاعة ثلاثة أشياء: الخوف، والرجاء، والحب." وأصل المعصية ثلاثة أشياء: الكبر، والحرص والحسد" «5» . فما يأخذه المنافق يأخذه بالحرص، ويمنعه بالشك، وينفقه بالرياء. والمؤمن يأخذ بالخوف، ويمسك بالشدة، وينفق في الطاعة خالصا لله تعالى". وقال:" الجهاد ثلاثة: جهاد في سرّك؛ مع الشيطان حتى تكسره؛ وجهاد في العلانية، في أداء الفرائض حتى تؤديها، كما أمر الله تعالى؛ وجهاد مع أعداء الله تعالى، في غزو الإسلام." «6»

و [قال:] " الشهوة ثلاثة: شهوة في الأكل، وشهوة في الكلام، وشهوة في النظر. فاحفظ الأكل بالثقة، واللسان بالصدق، والنظر بالعبرة". وقال:" اطلب نفسك في أربعة أشياء: العمل الصالح بغير رياء، والأخذ بغير طمع، والعطاء بغير منّة، والإمساك بغير بخل". «1» وقال:" ما من صباح إلا والشيطان يقول لي: ما تأكل؟. وما تلبس؟. وأين تسكن؟. فأقول: آكل الموت، وألبس الكفن، وأسكن القبر". «2» وقال:" الزم خدمة مولاك تأتك الدنيا راغمة، والجنة عاشقة". «3» وقال:" تعهّد نفسك في ثلاثة مواضع: إذا عملت فاذكر نظر الله إليك، وإذا تكلّمت فاذكر سمع الله إليك، وإذا سكنت فاذكر علم الله فيك". وقال:" من ادّعى ثلاثا بغير ثلاث فهو كذّاب: من ادّعى حبّ الله، من غير ورع عن محارمه، فهو كذّاب. ومن ادّعى حبّ الجنة، من غير إنفاق ماله، فهو كذّاب. ومن ادّعى حبّ النبي صلى الله عليه وسلم، من غير محبّة الفقر، فهو كذّاب." «4» وقيل له: على ماذا بنيت أمرك في هذا الأمر؟. فقال: على أربع خصال:" علمت أن رزقي لا يأكله غيري، فاطمأنّت به نفسي. وعلمت أن عملي لا يعمله غيري، فأنا مشغول به.

وعلمت أن الموت يأتيني، فأنا أبادره. وعلمت أني لا أخلو من عين الله حيث كنت، فأنا مستحي منه." «1» توفي- رحمه الله تعالى- سنة سبع وثلاثين ومائتين، عند رباط يقال له:" رأس سروند" على جبل فوق" واشجرد." «2»

15 - أحمد بن خضرويه البلخي

ومنهم: 15- أحمد بن خضرويه البلخيّ «13» من كبار مشايخ خراسان. رسا رسوّ أبّان، وأظهر العجائب وأبان، أرضى الخليل، ورضي بالقليل، ورمى بباع ممتد، وساعد مشتد، حتى تردّى رداء الصلاح، وورد حيث يتفجّر معين الصباح، فوطيء العلا وأكنافها، وكان منهج نسّاك، وجدّ إنفاق وإمساك، على أنه أفاض المواهب، وأغاض البحور والعصور الذواهب، وكان على هذا مقتصدا، وللموت ساعة فساعة مترصدا. صحب أبا تراب النخشبي. وقدم نيسابور، وزار أبا حفص «1» ، وخرج إلى بسطام في

زيارة أبي يزيد البسطامي، وكان كبيرا في الفتوة. «1» قال أبو حفص:" ما رأيت أحدا أكبر همّة ولا أصدق حالا من أحمد بن خضرويه." «2» وكان أبو يزيد يقول:" أستاذنا أحمد". وقال محمد بن حامد «3» :" كنت جالسا عند أحمد بن خضرويه وهو في النزع، وكان قد أتى عليه خمس وتسعون سنة، فسأله بعض أصحابه عن مسألة، فدمعت عيناه، وقال:" يا بني! باب كنت أدقّه منذ خمس وتسعين سنة، وهو ذا يفتح لي الساعة، لا أدري أبا السعادة يفتح أم بالشقاوة؟ أنّى لي أوان الجواب؟. «4» قال: وكان عليه سبعمائة دينار، وغرماؤه عنده، فنظر إليهم، وقال: اللهم إنك جعلت الرهون وثيقة لأرباب الأموال، وأنت تأخذ عنهم وثيقتهم، فأدّ عني". قال: فدقّ داقّ الباب، وقال: أين غرماء أحمد؟. فقضى عنه، ثم خرجت روحه. «5» وقال أحمد بن خضرويه:" لا نوم أثقل من الغفلة، ولا رقّ أملك من الشهوة، ولولا ثقل الغفلة عليك لما ظفرت بك الشهوة" «6»

16 - الحارث بن أسد المحاسبي

ومنهم: 16- الحارث بن أسد المحاسبيّ «13» البصريّ، أبو عبد الله. رجل كان عن متاع الدنيا متنزّها، وباتباع الألى متشبها، لم تصبه الأيام بهزّتها، ولم تصبه الليالي منها بترتها، فخصم أطماعه من طلب متاعها، وفطم آماله من حلب رضاعها، وقنع منها بالقوت الذي ألجئ إلى أكله، ووكل أباه بطول حرنه ونكله، وترك نفسه فيما لا يطيق من شجونها، وضيق سجونها، لذنب أخرجه ليكون غرضا لنابلها، وأخرجه من الجنة بحبة من سنابلها. كان عديم النظير في زمانه، علما، وورعا، ومعاملة، وحالا «1» . قيل: إنه ورث من أبيه سبعين ألف درهم، فلم يأخذ منها شيئا. قيل: لأن أباه كان يقول بالقدر. «2» فرأى من الورع أن لا يأخذ من ميراثه شيئا؛ وقال:" صحّت الرواية عن النبي صلى الله

عليه وسلم أنه قال: (لا يتوارث أهل ملّتين) . «1» قال أحمد بن مسروق «2» : مات الحارث بن أسد المحاسبي وهو محتاج إلى درهم، وخلّف أبوه ضياعا وعقارا، فلم يأخذ منه شيئا «3» . وقال أبو علي الدّقّاق: كان الحارث المحاسبي إذا مدّ يده إلى طعام فيه شبهة، تحرّك على إصبعه عرّق؛ فكان يمتنع منه «4» . وقال [أبو] عبد الله بن خفيف: اقتدوا بخمسة من شيوخنا، والباقون سلّموا لهم حالهم: الحارث بن أسد المحاسبي، والجنيد بن محمد، وأبو محمد رويم، وأبو العباس بن عطاء، وعمرو بن عثمان المكي؛ لأنهم جمعوا بين العلم والحقائق. «5» وقال الحارث:" من صحّح باطنه بالمراقبة والإخلاص، زيّن الله ظاهره بالمجاهدة، واتّباع السنة". ويحكى عن الجنيد أنه قال: مرّ بي يوما الحارث المحاسبي، فرأيت فيه أثر الجوع، فقلت: يا عم!، تدخل الدار، وتتناول شيئا؟. فقال: نعم.

فدخلت الدار، وطلبت شيئا أقدّمه إليه، فكان في البيت شيء من طعام حمل إليّ من عرس قوم، فقدّمته إليه، فأخذ لقمة وأدارها في فمه مرّات، ثم إنه قام وألقاها في الدهليز، ومرّ!. فلمّا رأيته بعد ذلك بأيّام، قلت له في ذلك؟. فقال: إني كنت جائعا، وأردت أن أسرّك بأكلي، وأحفظ قلبك، ولكن بيني وبين الله سبحانه وتعالى علامة: أن لا يسوّغني طعاما فيه شبهة، فلم يمكنّي من ابتلاعه، فمن أين كان لك ذلك الطعام؟. فقلت: إنه حمل إليّ من دار قريب لي من العرس. ثم قلت: تدخل اليوم؟. فقال: نعم. فقدّمت إليه كسرا يابسة كانت لنا، فأكل وقال: إذا قدّمت إلى فقير شيئا، فقدّم إليه مثل هذا. «1» وسئل الحارث عن العقل ما هو؟. فقال:" نور الغريزة مع التجارب، يزيد ويقوى بالعلم والحلم". وكان يقول:" فقدنا ثلاثة أشياء: حسن الوجه مع الصيانة، وحسن القول مع الأمانة، وحسن الإخاء مع الوفاء". «2» وقال السمعاني: كان أحمد بن حنبل يكرهه لنظره في علم الكلام، وتصنيفه فيه؛ وهجره، فاستخفى من العامة، فلما مات لم يصلّ عليه إلا أربعة نفر «3» . قال: وعرف بالمحاسبي لأنه كان يحاسب نفسه. «4» قال ابن خلّكان: وهو أحد رجال الحقيقة، وهو ممن اجتمع له علم الظاهر والباطن، وله

17 - أبو تراب عسكر بن حصين النخشبي

كتب في الزهد والأصول، وكتاب" الرعاية" له «1» توفي سنة ثلاث وأربعين ومائتين. «2» ومنهم: 17- أبو تراب عسكر بن حصين النّخشبيّ «13» صحب حاتم الأصم، وأبا حاتم العطار البصري. «3» اعتدّ لمسيره واعتنى، وشده لمصيره البيت وابتنى، فلم تجذبه الدنيا بخطامها، ولم تسلبه بحطامها، فما زال يفرّ من دناياها، ولا يقرّ خوفا من طروق مناياها، وطالما ظنّت أنها تسوّل له لبس ردائها المعار، وتحمل دائها والعار، والعناية قد أحاطت به من كل جانب، وأماطت

ردنه «1» من كلّ جاذب، فشرف مقاما، وشرق «2» عدوه ملاما، ولم يرمق الدنيا بمؤخر عين ولا مقدّم، ولا علق بمال معاهد ولا مسلم. قال ابن الجلّاء: صحبت ستمائة شيخ، ما لقيت فيهم مثل أربعة: أولهم: أبو تراب النخشبي. «3» قال أبو تراب:" الفقير قوته: ما وجده، ولباسه: ما ستره، ومسكنه: حيث نزل." «4» وقال أيضا:" إذا صدق العبد في العمل وجد حلاوته قبل أن يعمله، فإذا أخلص فيه وجد حلاوته ولذّته وقت مباشرة الفعل." «5» وقال:" ما تمنّت نفسي عليّ شيئا قطّ إلا مرّة واحدة «6» : تمنّت عليّ خبزا وبيضا، وأنا في سفري، فعدلت عن الطريق إلى قرية، فوثب رجل وتعلّق بي، وقال: كان هذا مع اللصوص!. فبطحوني، وضربوني سبعين خشبة، قال: فوقف علينا رجل صوفي، فصرخ، وقال: ويحكم!! هذا أبو تراب النخشبي، فخلّوني، واعتذروا إليّ، وأدخلني الرجل منزله، وقدّم لي خبزا وبيضا، فقلت «7» : كلها بعد سبعين جلدة!!. «8»

وقال يوما لأصحابه:" من لبس منكم مرقّعة فقد سأل، ومن قعد في خانقاه أو مسجد فقد سأل، ومن قرأ القرآن من المصحف، أو كيما يسمع الناس، فقد سأل. «1» ونظر يوما إلى صوفيّ من تلامذته قد مدّ يده إلى قشر بطّيخ، وقد طوى ثلاثة أيام، فقال له أبو تراب:" تمدّ يدك إلى قشر البطيخ!؟ أنت لا يصلح لك التصوف، الزم السوق. «2» وكان أبو تراب يقول:" بيني وبين الله عهد أن لا أمدّ يدي إلى حرام إلا قصرت يدي عنه. «3» وكان- رضي الله عنه- إذا رأى من أصحابه ما يكره زاد في اجتهاده، وجدّد توبته، ويقول:" بشؤمي دفعوا إلى ما دفعوا إليه، لأن الله عزّ وجلّ يقول: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ . «4» وحكى ابن الجلّاء، قال: دخل أبو تراب مكة طيّب النفس، فقلت: أين أكلت أيها الأستاذ؟. فقال: أكلة بالبصرة، وأكلة بالنباج «5» ، وأكلة ههنا. توفي سنة خمس وأربعين ومائتين. قيل: مات بالبادية، نهشته السباع. «6»

18 - السري بن مغلس السقطي

ومنهم: 18- السّري بن مغلّس السّقطيّ «13» خال الجنيد، وأستاذه. رمى يده من الدنيا ونفضها، وأعطى الله عهودا ما نقضها، لم يرض بمتاع معار، ولا برضاع آخره إثم وعار، فتجنّب الزخارف، وتجلبب غير ما ألبسته من المطارف، فأماط تلك الأردية، وحلّ تلك العقد المردية، حتى خبت لديه مواقدها، وهبّت إليه بالإنابة مراقدها، والزهد يصفي له الموارد، ويصلي سواه كلّ وارد، وكم اتّجه أمثاله إلى ذلك الينبوع واشتبه حاله، حتى فضح التطبّع شيمة المطبوع. كان تلميذ معروف الكرخي، وأوحد زمانه في الورع، وأحوال السنة، وعلوم التوحيد «1» وكان يتّجر في السوق، فجاءه معروف يوما، ومعه صبيّ يتيم، فقال: أكس هذا اليتيم. قال سري: فكسوته، ففرح معروف، وقال: بغّض الله إليك الدنيا، وأراحك مما أنت فيه. فقمت من الحانوت وليس شيء أبغض إليّ من الدنيا، وكل ما أنا فيه من بركات معروف. «2»

وقال الجنيد: ما رأيت أعبد من السّريّ، أتت عليه ثمان وتسعون سنة، مارئي مضطجعا إلا في علّة الموت. «1» وقال السّريّ: التصوف اسم لثلاثة معان «2» : وهو الذي لا يطفئ نور معرفته نور ورعه. «3» ولا يتكلّم بباطن في علم ينقضه عليه ظاهر الكتاب والسنة. ولا تحمله الكرامات على هتك أستار محارم الله. «4» وقال الجنيد: سألني السّريّ يوما عن المحبة، فقلت: قال قوم: هي الموافقة، وقال قوم: الإيثار، وقال قوم: كذا وكذا..، فأخذ السريّ جلدة ذراعه، ومدّها، فلم تمتدّ، ثم قال:" وعزّته تعالى، لو قلت: إن هذه الجلدة يبست على هذا العظم من محبّته لصدقت! ". ثم غشّي عليه، فدار وجهه كأنه قمر مشرق، وكان السري به أدمة. «5» ويحكى عن السريّ أنه قال:" منذ ثلاثين سنة أنا في الاستغفار من قولي: الحمد لله، مرة". قيل: وكيف ذلك؟. فقال: وقع ببغداد حريق، فاستقبلني رجل، فقال لي: نجا حانوتك!. فقلت:" الحمد لله"، فمنذ ثلاثين سنة أنا نادم على ما قلت، حيث أردت لنفسي خيرا مما حصل للمسلمين!!!. «6»

وقال السّريّ: صلّيت وردي ليلة، ومددت رجلي في المحراب، فنوديت: يا سريّ!! كيف تجالس الملوك؟. قال: فضممت إليّ رجلي، ثم قلت: وعزّتك لا مددت رجلي أبدا، فما مددتها بعد ذلك. «1» ويحكى عن السّري أنه قال:" أنا أنظر في أنفي في اليوم كذا وكذا مرة، مخافة أن يكون قد اسودّ، خوفا من الله تعالى أن يسوّد صورتي لما أتعاطاه". «2» وقال السريّ: أعرف طريقا مختصرا قصدا إلى الجنة. فقلت: ما هو؟. فقال: لا تسأل من أحد شيئا، ولا تأخذ من أحد شيئا، ولا يكن معك شيء تعطي منه أحدا. «3» وقال:" أشتهي أن أموت ببلد غير بغداد. فقيل له: ولم ذلك؟. فقال: أخاف أن لا يقبلني قبري فأفتضح!!. «4» وقال الجنيد: دخلت يوما على السري السقطي وهو يبكي، فقلت له: ما يبكيك؟. فقال: جاءتني البارحة الصبيّة، فقالت: يا أبت! هذه ليلة حارّة، وهذا الكوز أعلّقه ههنا. ثم إني حملتني عيناي، فنمت، فرأيت جارية من أحسن الخلق، قد نزلت من السماء، فقلت: لمن أنت؟.

فقالت: لمن لا يشرب الماء المبرّد في الكيزان. «1» فتناولت الكوز؛ فضربت به الأرض فكسرته. قال الجنيد: فرأيت الخزف لم يرفعه ولم يمسّه، حتى عفا «2» عليه التراب. «3» قال: وسمعته يقول:" اللهم مهما عذّبتني بشيء، فلا تعذّبني بذلّ الحجاب. «4» وقال السّريّ: غزونا أرض الروم؛ فمررت بأرض خضراء، فيها الخبّازى، وحجر منقور فيه ماء المطر، فقلت في نفسي: لئن كنت أكلت يوما حلالا فاليوم!. فنزلت عن دابّتي، وجعلت آكل من ذلك الخبّازى «5» ، وشربت من ذلك الماء، وإذا بهاتف يهتف بي: يا سري! فالنفقة التي بلغت بها إلى هذا الموضع، من أين؟. وقال:" أحبّ أن آكل أكلة ليس لله عليّ فيها تبعة، ولا لمخلوق علي فيها منّة، فما أجد إلى ذلك سبيلا". «6» ودخل عليه رجل في مرضه يعوده، فقال له: كيف تجدك؟. فقال: كيف أشكو إلى طبيبي ما بي ... والذي بي أصابني من طبيبي فأخذ الرجل المروحة يروّح عليه، فقال له السّريّ: كيف يجد روح المروحة من جوفه يحترق من داخل؟.

ثم أنشأ يقول: القلب محترق، والدمع مستبق ... والكرب مجتمع والصبر مفترق كيف القرار على من لا قرار له ... مما جناه الهوى والشوق والقلق يا ربّ إن كان شيء فيه لي فرج ... فامنن عليّ به ما دام بي رمق ودخل عليه رجل «1» وهو يجود بنفسه، فجلس عند رأسه وبكى، فسقط عليه من دموعه، ففتح عينيه، ونظر إليه، فقال له الرجل: أوصني. فقال: لا تصحب الأشرار، ولا تشغلنّ عن الله بمجالسة الأخيار. «2» توفي السّريّ رضي الله عنه سنة سبع وخمسين ومائتين. وقيل: سنة إحدى وخمسين «3» ، وقيل: في رمضان سنة خمسين «4» . وكانت وفاته في بغداد «5» . وكان كثيرا ما ينشد: إذا ما شكوت الحبّ قالت كذبتني ... فمالي أرى الأعضاء منك كواسيا فلا حبّ حتى تلصق الجلد بالحشا ... وتذهل حتى لا تجيب المناديا وتنحل حتى لا يبقي لك الهوى ... سوى مقلة تبكي بها وتناجيا «6»

19 - أبو زكريا يحيى بن معاذ الرازي الواعظ

ومنهم: 19- أبو زكريّا يحيى بن معاذ الرّازي الواعظ «13» ترك الدنيا أنكاثا، ومرّ فيها عابر سبيل لا إمكاثا، فما حطّ عن قلاصه «1» ، ولا حلّ حباله لخلاصه، فلم يعلق لها بدنس، ولا خنس فيها نجمه ولا كنس «2» ، ولم نر محاطّ الرجال إلا على ذنابي الأفاعي، وزباني العقارب السواعي «3» ، فشدّ وانطلق، وردّ الغيث في طلق، فلم يتّخذ في هذه الدار مقيلا، ولا خال نفسه فيها مقيما ولا نزيلا. وكان نسيج وحده في وقته، له لسان «4» في الرجاء خصوصا، وكلام في المعرفة. خرج إلى بلخ، فأقام بها مدة، ورجع إلى نيسابور «5» . قال يحيى بن معاذ:" كيف يكون زاهدا من لا ورع له؟ تورّع عما ليس لك، ثم ازهد فيما لك". «6»

وقال:" جوع التوّابين تجربة، وجوع الزاهدين سياسة، وجوع الصّدّيقين تكرمة. «1» وقال يحيى:" الفوت أشدّ من الموت، لأن الفوت انقطاع عن الحق، والموت انقطاع عن الخلق. «2» وقال:" الزهد ثلاثة أشياء: القلّة، والخلوة، والجوع. «3» وقال:" لا تربح على نفسك بشيء أجلّ من أن تشغلها في كل وقت بما هو أولى بها. «4» وقيل:" إن يحيى بن معاذ تكلّم ببلخ في تفضيل الغنى على الفقر، فأعطي ثلاثين ألف درهم، فقال بعض المشايخ: لا بارك الله له في هذا المال؛ فخرج إلى نيسابور، فوقع عليه اللص، وأخذ ذلك المال منه. «5» وقال أيضا:" من خان الله في السر، هتك الله ستره في العلانية. «6» وقال:" تزكية الأشرار لك هجنة بك «7» ، وحبّهم لك عيب عليك، وهان [عليك] من احتاج إليك. «8» وقال أبو بكر الخطيب: قدم يحيى بن معاذ بغداد، واجتمع إليه بها مشايخ الصوفية والنسّاك، ونصبوا له منصّة، وأقعدوه عليها، وقعدوا بين يديه يتحاورون، فتكلّم الجنيد، فقال له يحيى: اسكت يا خروف!، مالك وللكلام إذا تكلّم الناس؟. «9» وكانت له إشارات وعبارات حسنة؛ فمن كلامه:

" الكلام الحسن حسن، وأحسن من الكلام معناه، وأحسن من معناه استعماله، وأحسن من استعماله ثوابه، وأحسن من ثوابه رضا من تعمل له. «1» وقال:" حقيقة المحبة أن لا تزيد بالبر، ولا تنقص بالجفاء". وكان يقول:" من لم يكن ظاهره مع العوام فضة، ومع المريدين ذهبا، ومع العارفين درّا، وياقوتا، فليس من حكماء الله المؤيّدين". «2» وكان يقول:" أحسن شيء كلام صحيح من لسان فصيح، في وجه صبيح، كلام دقيق يستخرج من بحر عميق، على لسان رجل رفيق" «3» وكان يقول:" إلهي! كيف أنساك وليس لي ربّ سواك؟. " إلهي! لا أقول: لا أعود، لأني أعرف من نفسي نقض العهود، ولكني أقول: لا أعود، لعلّي أموت قبل أن أعود" «4» . " اللهمّ! سترت عليّ ذنوبا في الدنيا، أنا إلى سترها في القيامة أحوج، وقد أحسنت بي إذ لم تظهرها بعصابة من المسلمين، فلا تفضحني في ذلك اليوم على رؤوس العالمين، يا أرحم الراحمين! " «5» ودخل على علويّ ببلخ زائرا له، ومسلّما عليه، فقال له العلوي: أيّد الله الأستاذ، ما تقول فينا أهل البيت؟. قال:" ما أقول في طين عجن بماء الوحي، وغرس بماء الرسالة، فهل يفوح منهما إلا مسك النّهى، وعنبر التقى؟. فحشا العلويّ فاه بالدّرّ.

ثم زاره من الغد، فقال يحيى: إن زرتنا فبفضلك، وإن زرناك فلفضلك، فلك الفضل زائرا ومزورا". «1» ومن كلامه:" ما بعد طريق إلى صديق، ولا استوحش في طريق من سلك فيه إلى حبيب". ومن كلامه:" مسكين ابن آدم!، لو خاف النار كما يخاف الفقر لدخل الجنة". وقال:" ما صحّت إرادة أحد قط [فمات] حتى حنّ إلى الموت، واشتهاه اشتهاء الجائع إلى الطعام، لارتداف الآفات، واستيحاشه من الأهل والإخوان، ووقوعه فيما يتحيّر فيه صريح عقله". وقال:" من لم ينظر في الدقيق من الورع لم يصل إلى الجليل من العطاء". وقال:" ليكن حظّ المؤمن منك ثلاث خصال: إن لم تنفعه فلا تضرّه، وإن لم تسرّه فلا تغمّه، وإن لم تمدحه فلا تذمّه". وقال:" عمل كالسراب، وقلب من التقوى خراب، وذنوب بعدد الرمل والتراب، ثم تطمع في الكواعب الأتراب، هيهات!!، هيهات!!، أنت سكران بغير شراب، ما أكملك لو بادرت أملك!، ما أجلّك لو بادرت أجلك!!، ما أقواك لو خالفت هواك!!. «2» توفي- رضي الله عنه- يوم الاثنين لست عشرة خلت من جمادى الأولى، سنة ثمان وخمسين ومائتين، بنيسابور، رحمه الله تعالى. «3»

20 - أبو يزيد، طيفور بن عيسى بن آدم البسطامي

ومنهم: 20- أبو يزيد، طيفور بن عيسى بن آدم البسطاميّ «13» بطل جاهد نفسه في الله حقّ جهاده، وأحيا ليله ونهاره باجتهاد، وزهد حذرا من دنيا صدّقها كذب، وحقّها بيد الباطل منجذب، فكان لا يسيم إبله في وخيم مرعاها، ولا يطلق أمله في ذميم مسعاها، أبكاه منها الجؤار، وأشجاه «1» فيها سوء الجوار، فلم ينغب «2» من صفوها إلا رفقا، ولم ير من أخلاصها إلا مذقا «3» ، ففرّ منها الفرار من المجذوم، وقطع منها الفروع والجذوم. «4» كانوا ثلاثة إخوة، آدم، وطيفور، وعلي، وكلّهم كانوا زهّادا، عبّادا، وأبو يزيد كان

أجلّهم [حالا] . «1» سئل أبو يزيد: بأيّ شيء وجدت هذه المعرفة؟. فقال: ببطن جائع، وبدن عار «2» . وقال أبو يزيد:" عملت في المجاهدة ثلاثين سنة، فما وجدت شيئا أشدّ عليّ من العلم ومتابعته، ولولا اختلاف العلماء لبقيت، واختلاف العلماء رحمة، إلا في تجريد التوحيد." «3» وقال:" لقد هممت أن أسأل الله تعالى أن يكفيني مؤنة الأكل، ومؤنة النساء، ثم قلت: كيف يجوز لي أن أسأل هذا ولم يسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه؟، فلم اسأله. ثم إن الله سبحانه وتعالى كفاني مؤنة النساء، حتى لا أبالي استقبلتني امرأة أو حائط" «4» . وسئل عن ابتداء زهده؟. فقال: ليس للزهد منزلة. فقلت: لماذا؟. فقال: لأني كنت ثلاثة أيام في الزهد. فلما كان اليوم الرابع خرجت منه: اليوم الأول: زهدت في الدنيا وما فيها.

واليوم الثاني: زهدت في الآخرة وما فيها. واليوم الثالث: زهدت فيما سوى الله. فلما كان اليوم الرابع لم يبق لي سوى الله تعالى، فهمت، فسمعت هاتفا يقول: يا أبا يزيد! لا تقوى معنا. فقلت: هذا الذي أريده. فسمعت قائلا يقول: وجدت، وجدت. «1» وقيل لأبي يزيد: ما أشدّ ما لقيت في سبيل الله؟. فقال: لا يمكن وصفه. فقيل له: ما أهون ما لقيت نفسك منك؟. فقال: أما هذا فنعم؛ دعوتها إلى شيء من الطاعات، فلم تجبني، فمنعتها الماء سنة. «2» وقال أبو يزيد:" منذ ثلاثين سنة أصلّي، واعتقادي في نفسي عند كل صلاة أصلّيها كأني مجوسي أريد أن أقطع زنّاري! «3» . وقال أيضا:" لو نظرتم إلى رجل أعطي من الكرامات حتى يرتقي في الهواء، فلا تغترّوا به، حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي، وحفظ الحدود وأداء الشريعة". «4» وذهب أبو يزيد ليلة إلى الرباط، ليذكر الله- سبحانه وتعالى- على سور الرباط، فبقي إلى الصباح لم يذكر!، فقيل له في ذلك؟. فقال: تذكّرت كلمة جرت على لساني في حال

صباي «1» ، فاحتشمت أن أذكره سبحانه وتعالى. وقيل: لم يخرج أبو يزيد من الدنيا حتى استظهر القرآن. توفي سنة إحدى وستين ومائتين، وقيل: سنة أربع وثلاثين. «2»

21 - أبو حفص عمر بن سالم الحداد

ومنهم: 21- أبو حفص عمر بن سالم الحدّاد «13» والأصح: عمرو بن سلمة «1» رجل كان به يستغاث، ويمطر البلد الماحل ويغاث، استقام على الطريقة، واستدام اجتناء الأعمال الوريقة، وأقبل على الله بكلّيّته، وأقبل إليه بنيّته، وقام بالتكاليف أتمّ قيام، وشرد عن جفنيه الكرى والناس نيام، حتى تجلّت له الحجب ورفعت، وزادت آماله حيث شاءت ورتعت، فدعي من أقرب مكان، وقرب فخضع لله واستكان. وهو من قرية يقال لها:" كور داباذ" «2» ، على باب مدينة نيسابور، على طريق

بخارى «1» كان أحد الأئمة والسادة. «2» قال أبو حفص:" المعاصي بريد الكفر، كما أن الحمّى بريد الموت." «3» وقال:" إذا رأيت المريد يحب السّماع فاعلم أنّ فيه بقيّة من البطالة." «4» وقال:" حسن أدب الظاهر عنوان أدب الباطن." «5» وقال:" الفتوّة أداء الإنصاف، وترك مطالبة الإنصاف." «6» وكان يقول:" من لم يزن أفعاله وأحواله في كل وقت بالكتاب والسنة، ولم يتّهم خواطره، فلا نعدّه في ديوان الرجال". «7»

22 - حمدون بن أحمد بن عمارة القصار النيسابوري أبو صالح

توفي سنة نيّف وستين ومائتين «1» . ومنهم: 22- حمدون بن أحمد بن عمارة القصّار النّيسابوريّ أبو صالح «13» خاف من مرّ الفطام، وعاف من حلو الحطام، فلم يستحلّ للدنيا ريقا، ولم يستجل لها خدّا شريقا، وتيقّن أن دون طنباتها ما يذم مختبره، ودون حلالها الشبهات، فسلّ آماله منها سلّا، وخلع طاعتها ولم يبايع يدا شلّا، وترك لقاحها لنتاجها، وانفتاحها لإرتاجها، وبقي- أي صار- حتى حلّ ساحة المقابر. صحب سلما الباروسي «2» ، وأبا تراب النخشبي. «3»

وسئل: متى يجوز للرجل أن يتكلّم على الناس؟. «1» فقال: إذا تعين عليه أداء فرض من فرائض الله تعالى في علمه، أو خاف هلاك إنسان في بدعة، وهو يرجو أن ينجيه الله تعالى منها." «2» وقال:" من ظنّ أنّ نفسه خير من نفس فرعون فقد أظهر الكبر." «3» وقال:" منذ علمت أن للسلطان فراسة في الأشرار، ما خرج خوف السلطان من قلبي." «4» وقال:" إذا رأيت سكرانا فتمايل، لئلّا تنعي عليه، فتبتلى بمثل ذلك." «5» وقيل له: أوصني. فقال:" إن استطعت أن لا تغضب لشيء من الدنيا فافعل". «6» ومات صديق له وهو عند رأسه، فلما مات، أطفأ حمدون السراج، فقالوا له: في مثل هذا الوقت يزاد في السراج الدهن!. فقال لهم: إلى هذا الوقت كان الدهن له، ومن هذا الوقت صار الدهن للورثة «7» . وقال حمدون:" من نظر في سيرة السلف عرف تقصيره، وتخلّفه عن درك درجات الرجال". «8»

23 - أبو الحسين أحمد بن محمد النوري

وقال:" لا تفش على أحد ما تحبّ أن يكون مستورا منك." «1» توفي سنة إحدى وسبعين ومائتين «2» . ومنهم: 23- أبو الحسين أحمد بن محمّد النّوريّ «13» البغوي الأصل، البغدادي المولد والمنشأ. «3» ذو تحقيق، لم يكن أمره فرطا، ولا عقده منفرطا، ودام مرتديا بهذا الجلباب، مهتديا حيث تضلّ الألباب، فرّ إلى الحقائق بالالتجاء، وقطع من الخلائق حبل الرجاء. صحب السري السقطي، وابن أبي الحواري، وكان من أقران الجنيد رحمه الله تعالى. كبير الشأن، حسن المعاملة واللسان «4» .

قال الجنيد: منذ مات النوري لم يخبر عن حقيقة الصدق أحد. «1» وقال أبو أحمد المغازلي: ما رأيت أعبد من النوري، قيل: ولا الجنيد؟. قال: ولا الجنيد. «2» وقال أبو الحسين النوري:" التصوف: ترك كلّ حظّ للنّفس."» وقال:" أعزّ الأشياء في زماننا شيئان:- ما لم يعمل بعلمه، وعارف ينطق عن حقيقة." «4» وقال:" من رأيته يدّعي مع الله حالة تخرجه عن حدّ العلم الشرعي، فلا تقربنّ منه." «5» وقال:" كانت المراقع غطاء على الدرّ، فصارت اليوم مزابل على جيف". «6» وقيل: كان رحمه الله تعالى يخرج من داره كل يوم، ويحمل الخبز معه، ثم يتصدّق به في الطريق، ويدخل مسجدا يصلي فيه إلى قريب من الظهر، ثم يخرج منه، ويفتح باب حانوته، ويصوم. «7» فكان أهله يتوهّمون أنه يأكل في السوق، وأهل السوق يتوهّمون أنه يأكل في بيته. وبقي على هذا «8» في ابتدائه عشرين سنة!!. توفي رحمه الله تعالى سنة خمس وسبعين ومائتين «9» .

24 - سهل بن عبد الله التستري

ومنهم: 24- سهل بن عبد الله التّستريّ «13» أحد أئمة القوم، جهد لنفسه حتى خلّصها، وزهد فأبرها بالمعارف وخصّصها، فحلّ البحبوحة، وحصّل العطايا الممنوحة، وكان لله في أمره سرّ فيما يعلن ويسر، فلم تتقاذف به البحار، ولا استخرجته المهاق «1» فحار، بل كان إذا اتسعت له الفجاج سلكها، وإذا امتنعت عليه ملكها، فقاد نفسه بأعنّتها، وقال «2» بها في جنّتها، فنعم بالثناء، وفني بالخلد في دار البقاء. لم يكن له في وقته نظير في المعاملات والورع. «3» وكان صاحب كرامات. لقي ذا النون المصري بمكة، سنة خروجه إلى الحج. وقال سهل:" كنت ابن ثلاث سنين، وكنت أقوم بالليل أنظر إلى صلاة خالي محمد بن

سوار «1» ، وكان يقوم بالليل، فربما كان يقول لي: يا سهل! اذهب فنم، فقد شغلت قلبي. «2» قال سهل:" قال لي خالي يوما: ألا تذكر الله الذي خلقك؟. فقلت: كيف أذكره؟. فقال لي: قل بقلبك عند تقلّبك في ثيابك ثلاث مرات، من غير أن تحرّك به لسانك:" الله معي. الله ناظر إليّ. الله شاهد عليّ". فقلت ذلك ثلاث ليال، ثم أعلمته، فقال لي: قل في كل ليلة سبع مرات، فقلت ذلك ثم أعلمته، فقال لي: قل في كل ليلة إحدى عشرة مرة، فقلت ذلك، فوقع في قلبي له حلاوة. فلما كان بعد سنة، قال لي خالي: احفظ ما علّمتك، ودم عليه إلى أن تدخل القبر، فإنه ينفعك في الدنيا والآخرة. فلم أزل على ذلك سنين، فوجدت لها حلاوة في سرّي. ثم قال لي خالي يوما: يا سهل!، من كان الله معه، وهو ناظر إليه، وشاهده، أيعصيه؟. إيّاك والمعصية. «3» فكنت أخلو، فبعثوا بي إلى الكتّاب، فقلت: إني لأخشى أن يتفرّق عليّ همّي، ولكن شارطوا المعلّم: أني أذهب إليه ساعة، فأتعلّم، ثم أرجع. فمضيت إلى الكتّاب، وحفظت القرآن، وأنا ابن ست سنين، أو سبع، وكنت أصوم الدّهر، وقوتي خبز الشعير، إلى أن بلغت اثنتي عشرة سنة، فوقعت لي مسألة وأنا ابن ثلاث عشرة سنة، فسألت أهلي أن يبعثوني إلى البصرة أسأل عنها، فجئت البصرة، وسألت علماءها، فلم يشف أحد منهم عني شيئا!!.

25 - أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن إسماعيل الخواص

فخرجت إلى عبادان، إلى رجل يعرف بأبي حبيب، حمزة بن عبد الله العبادانيّ، فسألته عنها، فأجابني، وأقمت عنده مدة أنتفع بكلامه، وأتأدّب بآدابه، ثم رجعت إلى" تستر"، فجعلت قوتي اقتصارا على أن يشترى لي بدرهم من الشعير" الفرق" «1» فيطحن، ويخبز لي، فأفطر عند السّحر، كل ليلة على أوقيّة واحدة بحتا، بغير ملح ولا إدام، فكان يكفيني ذلك الدرهم سنة!!. ثم عزمت على أن أطوي ثلاث ليال، ثم أفطر ليلة، ثم خمسا، ثم سبعا، ثم خمسا وعشرين ليلة، وكنت عليه عشرين سنة، ثم خرجت أسيح في الأرض سنين، ثم رجعت إلى تستر، وكنت أقوم الليل كلّه. «2» وقال سهل:" كل فعل يفعله العبد بغير اقتداء، طاعة كان أو معصية، فهو عيش النفس، وكل فعل يفعله بالاقتداء، فهو عذاب النفس." «3» توفي «4» - رضي الله عنه- سنة ثلاث وثمانين ومائتين بالبصرة، في المحرّم. وقيل: سنة ثلاث وسبعين. ومولده سنة مائتين. وقيل: سنة إحدى ومائتين، بتستر. «5» ومنهم: 25- أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن إسماعيل الخوّاص «13»

علم إيمان وعدم شك، مال على القلوب إيذان من شية ذلك الطّرار، وحلية ذلك السيف الجرار، دنا شبها بأهل إخائه، وأهلة سمائه، وأفقه لا يعد النجوم من إمائه، فأهلّ من تلك المواقيت، وتملك، فعدّ جوهره من تلك اليواقيت، وكان خالصا من الأنضار، وخلاصا من ذلك الذهب النضار، حتى نزل في جدثه، ونزح الشبه مما يلقى على جثته، ولم يدر بموته من فقد، ولا علم مدرج الكفن عليه على أي شيء عقد، وهيهات ... الكواكب لا تقبر، والتراب لا يكون فيه النيّر الأكبر. وهو آخر من سلك طريق التوكل، ودقّق فيها. وكان أوحد المشايخ في وقته، وكان من أقران الجنيد والنوري، وله في الرياضات، والسياحات مقامات يطول شرحها. ومات في المسجد الجامع، بالري «1» سنة إحدى وتسعين ومائتين «2» ، وكان مبطونا «3» ، وكان به علة القيام، وكان إذا قام يدخل الماء، ويغتسل، ويعود إلى المسجد، ويصلى ركعتين، فدخل الماء مرة ليغتسل، فخرجت روحه وهو في وسط الماء، رحمه الله تعالى «4» وتولى أمر غسله ودفنه يوسف بن الحسين. ومن كلامه- رضي الله عنه-:" من لم يصبر لم يظفر." «5» وقال:" من لم تبك الدنيا عليه، لم تضحك الآخرة إليه." «6»

وقال جعفر بن محمد: بتّ ليلة مع إبراهيم، فانتبهت، فإذا هو يناجي إلى الصباح، ويقول: برح الخفاء، وفي التلاقي راحة ... هل يشتفي خل بغير خليله «1» وقال:" العلم كله في كلمتين: لا تتكلف ما كفيت، ولا تضيع ما استكفيت." «2» وقال:" ليكن لك قلب ساكن، وكف فارغة، وتذهب النفس حيث شاءت." «3» وقال:" دواء القلب خمسة أشياء: قراءة القرآن بالتدبر، وخلاء البطن، وقيام الليل، والتضرع عند السحر، ومجالسة الصالحين." «4» وقال:" من صفة الفقير أن تكون أوقاته مستوية الانبساط، صابرا على فقره، لا يظهر عليه فاقة، ولا تبدو منه حاجة، وأقلّ أخلاقه الصبر والقناعة، مستوحشا من الرفاهات «5» ، متنعما بالخشونات، فهو بضد ما عليه الخليقة، بريء مما هي عليه معتمدة وإليه مستريحة، ليس له وقت معلوم، ولا سبب معروف، فلا تراه إلا مسرورا بفقره، فرحا بصبره، مؤونته على نفسه ثقيلة، وعلى غيره خفيفة، يعز الفقر ويعظمه، ويخفيه جهده ويكتمه، حتى عن أشكاله يستره، قد عظمت من الله تعالى عليه فيه المنّة، وحلّ في قلبه قدرها، فليس يريد لما اختار الله له بدلا، ولا يبتغي له حولا".»

وقال:" أربع خصال عزيزة: عالم مستعمل لعلمه، وعارف ينطق عن حقيقة فعله، ورجل قائم لله تعالى بلا سبب، ومريد ذهب عنه الطمع". «1» وقال:" الحكمة تنزل من السماء، فلا تسكن قلبا فيه أربعة أشياء: الركون إلى الدنيا، وهمّ غد، وحبّ الفضول، وحسد أخ" «2» . وأنشد: عليل ليس يبرئه الدواء ... طويل الضرّ يضنيه الشفاء سرائره بواد ليس تبدو ... خفيات إذا برح الخفاء «3» وقال عمران بن سنان: اجتاز بنا إبراهيم الخواص، فقلنا: حدثنا أعجب ما رأيته في أسفارك ... ؟. فقال:" لقيني الخضر عليه السلام، فسألني الصحبة، فخشيت أن يفسد علي توكلي لسكوني إليه، ففارقته." «4» وقال: لقيت غلاما في التيه، كأنه سبيكة فضة، فقلت: إلى أين يا غلام؟. فقال: إلى مكة. فقلت: بلا زاد، ولا راحلة، ولا نفقة؟!. فقال لي: يا ضعيف اليقين!. الذي يقدر على حفظ السماوات والأرضين، لا يقدر أن يوصلني إلى مكة بلا عاقة؟. فلما دخلت مكة إذا أنا به في الطواف، وهو يقول: يا عين سحّي أبدا ... يا نفس موتي كمدا ولا تحبي أحدا ... إلا الجليل الصمدا

فلما رآني، قال لي: يا شيخ!، أنت بعد على ذلك الضعف من اليقين؟. وقال: كنت ببغداد في جامع المدينة، وهناك جماعة من الفقراء، فأقبل شاب ظريف، حسن الوجه طيب الرائحة، فقلت لأصحابنا: يقع لي أنه يهودي!، وكلّهم كرهوا ذلك، فخرجت، وخرج الشاب، ثم رجع إليهم، وقال: أيش قال الشيخ فيّ؟. فاحتشموه، فألحّ عليهم، فقالوا: قال: إنك يهودي!. قال: فجاءني وأكبّ علي يدي يقبّلها، وأسلم!. فقيل له: ما السبب؟. قال: نجد في كتابنا أن الصّدّيق لا تخطيء فراسته، فقلت: أمتحن المسلمين، فتأمّلتهم. فقلت: إن كان فيهم صدّيق؛ ففي هذه الطائفة، فلبّست عليكم؛ فلما اطّلع هذا الشيخ عليّ، وتفرّس فيّ، علمت أنه صدّيق، وصار ذلك الشاب من كبار الصوفية. وقال الخوّاص: تهت في البادية أياما، فجاءني شخص، وسلّم عليّ، وقال لي: تهت؟. فقلت: نعم. فقال: ألا أدلّك على الطريق؟. ومشى بين يدي خطوات، ثم غاب عن عيني، وإذا أنا على الجادة، فبعد ذلك ما تهت، ولا أصابني في سفري جوع ولا عطش. «1» وقال بعض الصالحين: كنت في جماعة بمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، نتجارى الآيات، ورجل ضرير بقرب منا يسمع، فتقدّم إلينا، وقال: قد أنست بكلامكم، اعلموا أنه كان لي صبية وعيال، وكنت أخرج إلى البقيع أحتطب، فخرجت يوما، فرأيت شابا عليه قميص كتان، ونعله في إصبعه، فتوهّمت أنه تائه، فقصدته لأسلب ثوبه، فقلت: انزع ما عليك. فقال: مرّ في حفظ الله. فقلت له ثانيا، وثالثا. فقال: لا بد. فقلت: لا بد. فأشار بإصبعه من بعيد إلى عينيّ، فسقطتا!. فقلت: بالله عليك من أنت؟. فقال: إبراهيم الخوّاص. «2»

وقال الخواص: دخلت البادية مرة، فرأيت نصرانيا على وسطه زنار، فسألني الصحبة، فمشينا سبعة أيام، فقال لي: يا راهب الحنفية!، هات ما عندك من الانبساط؛ فقد جعنا. فقلت: إلهي! لا تفضحني مع هذا الكافر. فرأيت طبقا عليه خبز وشواء، ورطب، وكوز ماء؛ فأكلنا، وشربنا، ومشينا سبعة أيام. ثم بادرت، وقلت: يا راهب النصرانية!، هات ما معك من الانبساط، فقد انتهت النوبة إليك. فاتكأ على عصاه، ودعا؛ فإذا بطبقين عليهما أضعاف ما كان على طبقي، فتحيّرت، وتغيّرت، وأبيت أن آكل فألحّ عليّ، فلم أجبه، فقال لي: كل..، فإني مبشرك ببشارتين: إحداهما: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله. وحلّ الزنار. والأخرى: إني قلت:" اللهم! إن كان لهذا العبد خطرا عندك فافتح لي بهذا.."؛ ففتح!. فأكلنا، ومشينا، وحجّ، وأقمنا بمكة سنة، ثم مات، ودفن بالبطحاء. «1» وقال:" دخلت البادية مرة، فأصابتني فاقة شديدة، فلما دخلت مكة، داخلني العجب ... ، فنادتني امرأة عجوز، وقالت: يا إبراهيم! كنت معك في البادية، ولم أكلمك، خوفا أن أشغل سرّك، أخرج عنك هذا الوسواس". وقال حامد الأسود: كنت مع إبراهيم الخوّاص في البرّيّة، فبينا نحن تحت شجرة، فجاء سبع، فصعدت الشجرة إلى الصباح، لا يأخذني النوم، ونام إبراهيم الخوّاص، والسّبع يشمّ من رأسه إلى قدمه، ثم مضى، فلما كانت الليلة الثانية، بتنا في مسجد بقرية فوقع على بقة، فأنّ أنّة!.

فقلت: هذا عجب!، البارحة لم يجزع من الأسد، والليلة يصيح من البق ... !. فقال: أما البارحة فتلك حالة كنت فيها مع الله، وأما الليلة فهذه حالة أنا فيها مع نفسي. وقال حامد أيضا: وكنت معه في البادية سبعة أيام على حالة واحدة، فلما كان في اليوم السابع، ضعفت، فجلست، فالتفت إلي وقال: ما لك؟. فقلت: ضعفت. فقال: أيما أغلب عليك: الماء أو الطعام؟. فقلت: الماء. فقال: الماء وراءك. فالتفت، فإذا عين ماء كاللبن الحليب، فشربت وتطهّرت، وإبراهيم ينظر، ولم يقربه، فلما أردت القيام، هممت بأن أحمل منه. فقال: أمسك ... فإنه ليس مما يتزوّد منه. «1» وقال الخوّاص: عطشت في بعض أسفاري، وسقطت من العطش، فإذا أنا بماء قد رشّ على وجهي، ففتحت عيني، فإذا أنا برجل حسن الوجه راكبا دابة شهباء، فسقاني الماء، فقال لي: كن رديفي. وكنت بالحجاز، فما لبثت إلا يسيرا، فقال: ما ترى؟. فقلت: أرى المدينة!. فقال: انزل واقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم مني السلام!، وقل له: أخوك الخضر يقرئك السلام. «2»

وقال الكتاني: سمعت الخواص يقول: كنت في البادية مرة، فسرت في وسط النهار، فوصلت إلى شجرة بقرب ماء، فنزلت، وإذا سبع عظيم قد أقبل، فاستسلمت، فلما قرب مني إذا هو يعرج، فحمحم، وبرك بين يدي، ووضع يده في حجري، فنظرت، فإذا يده منتفخة فيها قيح ودم، فأخذت خشبة، وشققت الموضع الذي فيه القيح والدم، وشددت عليه خرقة، فمضى به، وإذا به، بعد ساعة قد عاد، ومعه شبلان يبصبصان إليّ، وحملا إليّ رغيفا!. وقيل له: ما بال الإنسان يتحرك عند سماع غير القرآن، ما لا يجد في غير سماع القرآن؟. فقال:" لأن سماع القرآن صدمة لا يمكن أحد أن يتحرك فيها لشدة غلبتها، وسماع القول ترويح يتحرك فيه." «1» وقال علي بن محمد: كنت جالسا مع إبراهيم الخوّاص، وهو يتكلم في العلم، وحوله جماعة، إلى أن طلعت عليه الشمس، وحميت، حتى وجدتّ حرّها، وهو جالس لا يعبأ بها، فلما اشتدت قلت له: يا سيدي! ألا تقوم إلى الفي «2» ، فهو أرفق بك؟. فقال لي: ويلك، ما تدلني إلا على الشرك!. ثم أنشأ يقول: لقد وضح الطريق إليك قصدا ... فما أحد أرادك يستدل فإن ورد الشتاء فأنت صيف ... وإن ورد المصيف فأنت ظل وقال:" آفة المريد ثلاث خصال: حب الدرهم، وحب النساء، وحب الرياسة. «3» فتدفع آفة حب الدرهم: باستعمال الورع. وتدفع آفة حب النساء بترك الشهوات، ومداومة الصوم، فإنما تتولد هذه الشهوة من الشبع، وفراغ القلب.

26 - أبو القاسم الجنيد بن محمد

وتدفع آفة حب الرياسة: بإيثار الخمول. والمريد الصادق: الله تعالى مراده وقصده، والصّدّيقون إخوانه، والخلوة بيته، والوحدة أنسه، والنهار غمه، والليل فرحه، ودليله قلبه، والقرآن معينه، والبكاء والجوع أدمه، والعبادة رياضة نفسه، والمعرفة قياده، والحياة سفره، والأيام مراحله، والورع طريقه، والزهد قرينه، والأحوال منازله، والصبر شعاره، والسكون دثاره، والصدق مطيته، والعبادة مركبه، وخوف الفوت مستحثه. وأنشد: إن الذين بخير كنت تعهدهم ... مضوا عليك، وعنهم كنت أنهاك لا تطلبنّ حياة عند غيرهم ... فليس يحييك إلا من توفّاك ومنهم: 26- أبو القاسم الجنيد بن محمّد «13» سيد الطائفة، وإمامهم. «1» أفعم أودية المعارف وأفاضها، ولبس منها أسنى المطارف وفضفاضها، إلى علوم تحقّق،

وعلوّ مراتب عليها أردية النفوس تشقق. جمع بين الطريقتين، وتصدّر في جميع الفريقين، ولم يكن فيهم منكرا أنه حامل لوائهم، وحامي سرحهم عند لأوائهم، فكان هو بينهم المنادى المفرد العلم، والواحد الفرد حلّ حيث حلّ من العظم، فاض منه بحر لم يبق منه جدول إلا اختطفه في تياره، واقتطفه ورق النّصال ببتّاره. ويحكى أنه كان لا يرى إلا في زي مريد، وزيادة تواضع ما عليه مزيد. أصله من نهاوند «1» ، ومنشؤه ومولده بالعراق، وأبوه كان يبيع الزجاج فلذلك يقال له" القواريري". وكان أبو القاسم يبيع الخزّ، فقيل له:" الخزاز" «2» وكان فقيها على مذهب" أبي ثور". «3» صحب السري، والحارث المحاسبي، ومحمد بن علي القصاب «4» ، وغيرهم. توفي سنة سبع وتسعين ومائتين «5» .

وقال الجنيد:" ما أخذنا التصوف عن القيل والقال، لكن عن الجوع؛ وترك الدنيا، وقطع المألوفات والمستحسنات" «1» . وقال لرجل ذكر المعرفة:" أهل المعرفة بالله: يصلون إلى ترك الحركات «2» من باب البر، والتقرب إلى الله عزّ وجلّ". «3» فقال الجنيد:" إن هذا قول قوم تكلموا بإسقاط الأعمال، وهو عندي عظيم، والذي يسرق ويزني أحسن حالا من الذي يقول هذا، فإن العارفين بالله تعالى أخذوا الأعمال عن الله تعالى، وإليه رجعوا فيها، ولو بقيت ألف عالم لم أنقص من أعمال البرّ ذرّة، إلا أن يحال بي دونها." «4» وقال:" إن أمكنك أن لا تكون آلة في بيتك إلا خزفا، فافعل". «5» وقال:" الطرق كلها مسدودة على الخلق، إلا على من اقتفى أثر الرسول صلى الله عليه وسلم". «6» وقال:" لو أقبل صادق على الله تعالى ألف، ألف سنة، ثم أعرض عنه لحظة، كان ما فاته أكثر مما ناله". «7»

وقال:" من لم يحفظ القرآن، ولم يكتب الحديث لا يقتدى به في هذا الأمر «1» ، لأن علمنا هذا مقيّد بالكتاب والسنة". «2» وقال:" مذهبنا هذا مقيد بالأصول؛ الكتاب والسنة" «3» . وقال:" علمنا هذا مشبّك بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم" «4» . وقال أبو الحسين علي بن إبراهيم الحداد: حضرت مجلس القاضي أبي العباس ابن سريج «5» [الفقيه الشافعي] ، فتكلّم في الفروع والأصول بكلام حسن عجبت منه، فلما رأى إعجابي قال:" أتدري من أين هذا؟ ". قلت: يقول به القاضي. فقال:" هذا ببركة مجالستي أبي القاسم الجنيد." «6» وقيل للجنيد: ممن استفدت هذا العلم؟. فقال: من جلوسي بين يدي الله ثلاثين سنة تحت تلك الدرجة، وأومأ إلى درجة في داره. «7» ورؤي في يد الجنيد سبحة، فقيل له: أنت مع شرفك تأخذ بيدك سبحة؟. فقال: طريق به وصلت إلى ربي لا أفارقه. «8»

وكان الجنيد يدخل كل يوم حانوته، ويسبل الستر، ويصلي أربعمائة ركعة، ثم يعود إلى بيته. «1» وقال أبو بكر العطوي: كنت عند الجنيد حين مات، فرأيته ختم القرآن ... ثم ابتدأ من البقرة، وقرأ سبعين آية، ثم مات رحمه الله تعالى. «2» وقال الجنيد:" قال لي خالي سريّ السّقطيّ رحمه الله تعالى:" تكلّم على الناس" و [كان] في قلبي حشمة من الكلام على الناس، فإني كنت أتّهم نفسي في استحقاق ذلك، فرأيت ليلة في المنام رسول الله صلى الله عليه وسلم- وكانت ليلة جمعة- فقال لي:" تكلم على الناس! "، فانتبهت، وأتيت باب السّريّ قبل أن أصبح، فدققت الباب، فقال:" لم تصدّقنا حتى قيل لك؟! ". فقعدت في غد للناس بالجامع، وانتشر في الناس أن الجنيد قعد يتكلم على الناس. فوقف عليّ غلام نصراني، متنكر، وقال:" أيها الشيخ! ما معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اتّقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله) «3» ؟. فأطرقت، ثم رفعت رأسي، وقلت: أسلم!، فقد حان وقت إسلامك!. فأسلم الغلام «4» . وقال الجنيد:" ما انتفعت بشيء انتفاعي بأبيات سمعتها. قيل له: وما هي؟. قال: مررت بدرب القراطيس، فسمعت جارية تغني من دار، فأنصتّ لها، فسمعتها

تقول: إذا قلت: أهدى الهجر لي حلل البلى ... تقولين: لولا الهجر لم يطب الحب وإن قلت: هذا الحب أحرقه الهوى ... تقولي: بنيران الهوى شرف القلب وإن قلت: ما أذنبت. قلت مجيبة ... حياتك ذنب لا يقاس به ذنب فصعقت، وصحت ... !. فبينا أنا كذلك، إذا بصاحب الدار قد خرج، فقال: ما هذا يا سيدي؟!. فقلت له: مما سمعت. فقال: أشهدك أنها هبة مني إليك. فقلت: قد قبلتها، وهي حرة لوجه الله تعالى. ثم دفعتها لبعض أصحابنا بالرباط، فولدت له ولدا نبيلا، ونشأ أحسن نشوء، وحجّ على قدميه ثلاثين حجة على الوحدة. «1» " عن الحلية" «2» الصوفية، أنها حكت بسندها إلى الجنيد، قال:" كنت لهجا بزيارة الرهبان، والمنقطعين إلى العبادة من سائر الأديان، فحكي لي: إن في أقصى بلاد الروم جارية فتيّة السن، قد اتخذت وتدا من حديد، وعارضة، وغلّت يدها وعنقها إليه، وتعلّقت بين السماء والأرض، لا تقرّ من العبادة!، فاجتهدت إلى أن وصلت إلى ذلك الموضع، ورفعت رأسي إليها، فحين بصرت بي قالت لي: يا أبا القاسم! إن لم يكن حقا فهو حقيقة!!!. و [قال أبو محمد الجريري] : كان في جوار الجنيد رجل مصاب [في خربة] ، فلما مات الجنيد [ودفنّاه، تقدّمنا ذلك المصاب، وصعد موضعا رفيعا وقال لي:" يا أبا محمد! تراني أرع إلى تلك الخربة بعد أن فقدت ذلك السيد؟! ".

27 - أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الحيري

ثم] «1» أنشأ يقول: ووا أسفا من فراق قوم ... هم المصابيح والحصون والمدن والمزن والرواسي ... والحبر والأمن والسكون لم تغير لنا الليالي ... حتى توفتهم المنون لم تغير لنا الليالي ... وكل ماء لنا عيون ثم غاب عنا، فكان ذلك آخر العهد منه] «2» . ومنهم: 27- أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الحيريّ «13» المقيم بنيسابور. عارف زجر نفسه ووعظها، ورأى نفسه في مرمى كل نظرة لحظها، فحلّ رموز آماله، والتمس كنوز القرآن في أمثاله، وصحب قوما اتخذوا نفوسا، وشهدوا في العلياء شموسا، في فيئه قطعوا أودية الأعمار هياما، وطاولوا ألوية الليل قياما، ولم يخدع أحدا منهم متاع الدنيا ولا استجرّه، ولا حام إلا على زهر الثريا ونهر المجرة، وأمسى وتربه يستهدى طيبا، ويندى عنبرا وعودا رطيبا.

كان من الري، وصحب شاه الكرماني، ويحيى بن معاذ. ثم ورد نيسابور مع شاه الكرماني، على أبي حفص الحداد «1» ، وأقام عنده، وتخرّج به، وزوّجه أبو حفص ابنته. ومات سنة ثمان وتسعين ومائتين «2» ، وعاش بعد أبي حفص نيفا وثلاثين سنة. ومن كلامه:" لا يكمل إيمان الرجل حتى يستوي في قلبه أربعة أشياء: المنع، والإعطاء، والعزّ، والذل." «3» وقال:" الصحبة مع الله: بحسن الأدب، ودوام الهيبة، والمراقبة. والصحبة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: باتباع سنته، ولزوم ظاهر العلم. والصحبة مع أولياء الله تعالى: بالاحترام والخدمة. والصحبة مع الأهل بحسن الخلق. والصحبة مع الإخوان: بدوام البشر ما لم يكن إثما. والصحبة مع الجهّال: بالدعاء لهم، والرحمة عليهم." «4» وقال:" من أمّر السنة على نفسه قولا وفعلا نطق بالحكمة، ومن أمّر الهوى على نفسه قولا وفعلا نطق بالبدعة، قال الله تعالى: وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا . «5»

وقال أبو عثمان:" صحبت أبا حفص وأنا شاب، فطردني مرة، وقال:" لا تجلس عندي! ". فقمت ولم أولّه ظهري، وانصرفت إلى ورائي، ووجهي إلى وجهه، حتى غبت عن عينيه، وجعلت على نفسي: أن أحفر على بابه حفرة لا أخرج منها إلا بأمره!. فلما رأى مني ذلك أدناني، وجعلني من خواص أصحابه. «1» و] كان يقال": [في الدنيا ثلاثة لا رابع لهم:" أبو عثمان: بنيسابور، والجنيد: ببغداد، وأبو عبد الله بن الجلّاء: بالشام." «2» وقال أبو عثمان:" منذ أربعين سنة ما أقامني الله تعالى في حالة فكرهته، ولا نقلني إلى غيره فسخطته". «3» ولما تغير على أبي عثمان الحال «4» ، مزّق ابنه أبو بكر قميصا على نفسه، ففتح أبو عثمان عينيه، وقال:" خلاف السنة يا بني في الظاهر، علامة رياء في الباطن." «5» وقال:" أصل العداوة من ثلاثة أشياء:- " من الطمع في المال، والطمع في إكرام الناس، والطمع في قبول الناس." «6» وقال:" صلاح القلب في أربع خصال: " في التواضع لله، والفقر إلى الله؛ والخوف من الله، والرجاء في الله". «7»

وقال:" الخوف من الله يوصلك إلى الله، والكبر والعجب في نفسك يقطعك عن الله، واحتقار الناس في نفسك مرض عظيم لا يداوى." «1» وقال:" من جلّ مقداره في نفسه جلّ أقدار الناس عنده؛ ومن صغر مقداره في نفسه صغر أقدار الناس عنده". «2» وقال:" تعزّزوا بعزّ الله كي لا تذلوا." «3» وقال:" العاقل من تأهّب للمخاوف قبل وقوعها." «4» وقال:" التفويض ردّ ما جهلت علمه إلى عالمه، والتفويض مقدّمة الرضا؛ والرضا باب الله الأعظم". «5» وقال:" الفراسة ظنّ وافق الصواب، والظن يخطئ ويصيب؛ فإذا تحقق في الفراسة، تحقق في حكمها، لأنه إذ ذاك يحكم بنور الله تعالى لا بنفسه." «6» وسئل عن التوكل فقال:" هو الاكتفاء بالله تعالى مع الاعتماد عليه. والشكر: معرفة العجز عن الشكر. وشكر العوام: على المطعم والمشرب والملبس. وشكر الخواص: على ما يرد على قلوبهم من المعاني. واليقين: قلة الاهتمام لغد."

28 - ممشاذ الدينوري

وسئل عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أسألك الرضاء بعد القضاء) ؟. قال:" لأن الرضاء قبل القضاء عزم على الرضاء، والرضاء بعد القضاء هو الرضاء". وقال:" من أضرّ به الرجاء حتى قارب الأمن فالخوف له أفضل، ومن أضرّ به الخوف حتى قارب الإياس، فالرجاء له أفضل «1» وأنشد في هذا المعنى: أسأت ولم أحسن وجئتك هاربا ... وأين العبد من مواليه مهرب؟ يؤمّل غفرانا فإن خاب ظن ... فما أحد منه على الأرض أخيب «2» ومنهم: 28- ممشاذ الدّينوريّ «13» زاهد قنع عفافا، وقمع هواه ليصبح ويمسي من الدنيا معافى، وتقرّب إلى الله بالنوافل حتى أحبّه، وملّكه قلوب الناس فلم تدع حبّه، وعبر مدة العمر لا تردّ له دعوة، ولا يعدّ معه لذي قوم حظوة، وترقّى بتجريد سرى به في الملكوت، وسما به والنجوم سكوت، ثم انتقل إلى ربه الكريم، ووسّد في تربه ميتا ميتة الكليم، وطاب قبر جنّه، وقرب نودي منه: يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ . «3» صحب يحيى بن الجلاء، ومن فوقه من المشايخ، عظيم المرمى في هذه العلوم، كبير

الحال، [أحد فتيان الجبال] ، ظاهر الفتوّة. مات سنة تسع وتسعين ومائتين. «1» ومن كلامه: قال:" طريق الحق بعيد، والصبر مع الحق شديد." «2» وقال:" ما أقبح الغفلة عن طاعة من لا يغفل عن برّك؛ وما أقبح الغفلة عن ذكر من لا يغفل عن ذكرك." «3» وقال:" ما دخلت قط على أحد من شيوخي، إلا وأنا خال من جميع مالي؛ أنظر بركات ما يرد عليّ من رؤيته أو كلامه؛ فإنّ من دخل على شيخ بحظّه «4» ، انقطع بحظّه عن بركات رؤيته، ومجالسته، وأدبه، وكلامه." «5» وقال:" أدب المريد في أشياء أربعة: التزام حرمات المشايخ؛ وخدمة الإخوان؛ والخروج عن الأسباب؛ وحفظ آداب الشرع على نفسه." «6» وقال:" صحبة أهل الصلاح تورث في القلب الصلاح، وصحبة أهل الفساد تورث فيه الفساد." «7» وسئل عن التوكل؟ فقال:" التوكل: حسم الطمع عن كل ما يميل إليه قلبك ونفسك." «8»

وقال أبو بكر الرازي: كنت عند ممشاذ الدينوري، فجرى حديث الدّين، فقال لي: كان عليّ دين، فاشتغل قلبي، فرأيت في المنام كأن قائلا يقول لي: يا بخيلا!، أخذت علينا هذا المقدار؟ .. خذ!، عليك الأخذ وعلينا العطاء. فما حاسبت بعد ذلك بقالا، ولا قصابا، ولا غيرهما. وقال:" منذ علمت أن أحوال الفقراء جدّ كلها لم أمازح فقيرا، وسبب ذلك: أن فقيرا جاءني قادما علي، فقال لي: أيها الشيخ! أريد أن تتخذ لي عصيدة، فجرى على لساني: " إرادة وعصيدة؟! "، فتأخر الفقير ولم أشعر، ثم أمرت باتخاذ عصيدة، وطلبت الفقير فلم أجده، فتعرفت خبره، فقيل لي: انصرف من فوره، وكان يقول في نفسه:" إرادة وعصيدة؟! "، وهام على وجهه حتى دخل البادية، ولم يزل يقول هذه الكلمة حتى مات. «1» وسئل عن التصوف؟. فقال:" صفاء الأسرار، والعمل بما يرضي الجبار، وصحبة الناس بلا اختيار". وقال بعضهم: كنت عند ممشاذ عند وفاته، فقيل له: كيف تجد العلّة؟. فقال: سلوا العلّة عني. فقيل له: قل:" لا إله إلا هو"، فحوّل وجهه إلى الجدار، وقال: أفنيت كلي بكلك ... هذا جزاء من يجلّك لا إله إلا هو، أحد، أحد. «2» وقيل [له] : إذا جاع الفقير أيش يعمل؟. فقال:" يصلي. قال: فإن لم يقدر؟. قال: ينام. قال: فإن لم يقدر؟ فقال: إن الله

29 - أبو محمد رويم بن أحمد بن يزيد بن رويم بن يزيد البغدادي

تعالى لا يخلي الفقير عن إحدى ثلاث: إما قوى، وإما غذاء، وإما أخذ". وقال فارس الدينوري «1» : خرج ممشاذ الدينوري يوما من باب الدار، فنبح عليه كلب، فقال ممشاذ:" لا إله إلا الله". فمات الكلب مكانه! «2» . وروي أنه كان إذا رأى فقيرا قدم من البادية، يقول له: تعال يا مكسور!، من أي بركة شربت؟، وعلى أي بدوي نزلت؟، وطعام من أكلت؟. حكى بعض أصحابه، قال: اشتدّ به المرض، فاستثقله. فقيل له: مثلك يكره الموت؟!. فقال:" أخاف لقاء الحبيب قبل الإكثار مما يرضيه"؛ فدخل عليه داخل لا يعرفه منا أحد، فناوله تفاحة لا يعرف مثلها في الدنيا، فأخذها، فشمّها، فمات ... !. ثم نظرنا فلم نر الرجل ولا التفاحة، وإنما سمعنا قائلا يقول:" موتة موسوية والله." «3» رحمه الله تعالى. ومنهم: 29- أبو محمد رويم بن أحمد بن يزيد بن رويم بن يزيد البغداديّ «13»

إمام به الابتداء في الترتيب، والاقتداء للمستتيب، علم من الأعلام، وكرم للأخوال والأعمام. رفل من جلابيب الجنود وأنجادها، ورف ذيله على أغوار النجوم وأبجادها «1» ، وطالما تلفع بالظلماء، وتشفع برب السماء، ودام على طريقه اللاحب «2» ، حتى سقاه الموت السمام المنقع، وأتاه الحمام بما يتوقع، على أنه كان استدرك لمصيره، وتأهب لمسيره، وسبق حتى وارته حفرته ولم يفت، وأرته عين اليقين قبره وهو حي لم يمت. كان فقيها على مذهب داود الأصفهاني. «3» مقرئا على إدريس بن عبد الكريم الحداد. «4» قال أبو عبد الله بن خفيف: قلت لرويم: أوصني. فقال:" ما هذا الأمر إلا ببذل الروح «5» ، فإن أمكنك الدخول فيه مع هذا، وإلا فلا تشتغل بترّهات «6» الصوفية. «7»

وقال رويم:" قعودك مع كل طبقة من الناس أسلم من قعودك مع الصوفية، فإن كل الخلق قعدوا على الرسوم «1» ، وقعدت هذه الطائفة على الحقائق، وطالب الخلق كلّهم أنفسهم بظواهر الشرع، وطالب هؤلاء أنفسهم بحقيقة الورع، ومداومة الصدق، فمن قعد معهم وخالفهم في شيء مما يتحققون، نزع الله نور الإيمان من قلبه." «2» وقال رضي الله عنه:" اجتزت ببغداد وقت الهاجرة ببعض السكك، وأنا عطشان، فاستقيت من دار، ففتحت صبية بابها، ومعها كوز، فلما رأتني قالت: صوفي يشرب بالنهار!!!. فما أفطرت بعد ذلك اليوم قط. «3» وقال:" قف على البساط، وإياك والانبساط، واصبر على ضرب السياط، حتى تجوز الصراط." «4» وسئل عن الفتوة؟ فقال:" أن تعذر إخوانك في زلاتهم، ولا تعاملهم بما تحتاج أن تعتذر منه." «5» وقال:" إن الله غيّب أشياء في أشياء: غيّب مكره في حلمه، وغيّب خداعه في لطفه، وغيّب عقابه في كرامته." «6» وقيل له: هل ينفع الولد صلاح الوالدين؟ فقال:" من لم يكن بنفسه لا يكون بغيره، بل من لم يكن بربه لا يكون بنفسه".

ثم أنشد لابن الرومي «1» : إذا العود لم يثمر وإن كان شعبة ... من المثمرات اعتدّه الناس في الحطب «2» وسئل عن حقيقة الفقر؟. فقال:" أخذ الشيء من جهته، واختيار القليل على الكثير عند الحاجة." «3» وقال:" الصبر: ترك الشكوى «4» ، والرضا: استلذاذ البلوى، واليقين: هو المشاهدة." «5» وقال:" يعاتب الخلق بالإرفاق، ويعاتب المحب بالغلظة". وأنشد على أثره لغيره: لو كنت عاتبة لسكّن عبرتي ... أملي رضاك، وزرت غير مراقب لكن مللت، فلم تكن لي حيلة ... صدّ الملول خلاف صدّ العاتبط «6» وسئل عن المحبة؟؛ فقال:" الموافقة في جميع الأحوال". وأنشد: ولو قلت لي: مت متّ سمعا وطاعة ... وقلت لداع الموت أهلا ومرحبا «7» وسئل عن وجد الصوفية عند السماع؟.

فقال:" يشهدون المعاني التي تعزب عن غيرهم، فتشير إليه: إليّ، إليّ. فيتنعّمون بذلك من الفرح، ثم يقع الحجاب، فيعود ذلك الفرح بكاء، فمنهم من يخرق ثيابه، ومنهم من يصيح، ومنهم من يبكي، وكل إنسان على قدره". «1» وقال:" التصوف مبني على ثلاث خصال: التمسك بالفقر والافتقار، والتحقق بالعدل والإيثار، وترك التعرض والاختيار". ودخل رويم في شيء من أمور السلطان، فدخل عليه الجنيد ومعه رجل خراساني، فلما خرج، قال الجنيد: كيف رأيته يا خراساني؟!. قلت: لا أدري. قال: إن الناس يتوهمون أن هذا نقصان في حاله ووقته، وما كان رويم أعمر وقتا منه هذه الأيام. «2» وقال السلمي: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت أبا العباس بن عطاء يقول: " رويم أتم حالا من أن تغيره تصاريف الأحوال". وذكر الخطيب البغدادي رويما. وذكر من كلامه قوله:" السكون إلى الحال اغترار." «3» وقوله:" رياء العارفين خير من إخلاص المريدين." «4» وقوله:" الفتوة أن تعذر إخوانك في زللهم، ولا تعاملهم بما يحوجك إلى الاعتذار إليهم." «5»

وقال ابن خفيف: لما دخلت بغداد قصدت رويما، وكان قد تولى القضاء، فلما دخلت عليه رحّب بي وأدناني، وقال لي: من أين أنت؟. فقلت: من فارس. فقال: لمن صحبت؟. قلت: جعفر الحذّاء. فقال: ما تقول الصوفية فيّ؟. قلت: لا شيء. قال: بلى، يقولون: إنه رجع إلى الدنيا!. فبينا هو يحدّثني إذ جاء طفل صغير، فقعد في حجره، فقال رويم: لو كنت أرى منهم من يكفيني مؤنة هذا الطفل لما تعلّقت بهذا الأمر، ولا بشيء من أسباب الدنيا، ولكن شغل قلبي بهذا أوقعني فيما أنا فيه! «1» توفي- رحمه الله تعالى- ببغداد، سنة ثلاث وثلاثمائة. «2»

30 - أبو مغيث الحسين بن منصور الحلاج

ومنهم: 30- أبو مغيث الحسين بن منصور الحلّاج «13» بحر لا يلجه إلا معذر، وأسد لا يخرجه إلا متضرر، شرب بقية الزجاجة، وطرب فوق قدر الحاجة، فانقلب سكرانا طافحا، وغلب عليه فمال طامحا، وكان ممن كتب الكتب وقراها، وبرأ الكتب ودراها، فكان يجني ثمر الغيوب، ويجري تارة مجرى المحاسن، وتارة مجرى العيوب، فلا يزال يأتي بالحكمة الصائبة، ويحدّث بالكلمة الغائبة، بكشف لا يحجب، ولا يأتي بنادرة فيتعجب، لكثرة ما كان يأتي به شيئا بعد شيء، ويمد من تخييلاتها فيا بعد في، فكان لو شاء أنه أو همّ شق البحر فخاض منه طريقا يبسا، وشهب الماء فأوقد منه شهابا قبسا، وأومأ إلى الغوادي فأجابت سماؤها، وإلى الليالي فانجابت ظلماؤها، فخلب العقول أو سحرها، وخيّل أوقات الظهيرة عشيات الليالي أو سحرها، حتى أضلّ جبلا، وأضاع جملا، وأصبح مثلا، وأمسى وأمثال عقد النجوم عليه منتثلا، وكاد العراق يميد لساكنه، ويميل بمساكنه، حتى كادت بغداد تخرج في ذمامها، ويخرج من يد أيامها، والناس عليه مؤتلفون، وفيه مختلفون، وهم به لا يقصرون، أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ «1» ثم قتل بسيف الشرع، وسقي بسيل دمه منابت الزرع، فقرّ الدرّ في الضرع، واستقرّ في ثاره الأصل والفرع، هذا بعد أن صبّ عليه سوط عذاب، وقتل والناس قسمان: قسم مدح، وقسم عاب، إلا أنه حكي أنه لم يحضر واقعته إلا من أصيب، وأخذ من البلوى نصيب.

وهو من بيضاء فارس «1» ، ونشأ بواسط «2» ، والعراق. وصحب الجنيد، والنوري، وعمرا المكي «3» ، وغيرهم. واختلف المشايخ في أمره: فردّه أكثرهم ونفوه، وأبوا أن يكون له قدم في التصوف. وقبله [بعضهم] : من جملتهم أبو العباس بن عطاء، وأبو عبد الله محمد بن خفيف، وأبو القاسم إبراهيم بن محمد النصراباذي، وأثنوا عليه، وصححوا له حاله، وحكوا عنه كلامه، وجعلوه أحد المحققين، حتى قال محمد بن خفيف:" الحسين بن منصور: عالم ربّانيّ." «4» قتل بباب الطاق من بغداد، يوم الثلاثاء لست بقين من ذي القعدة، سنة تسع وثلاثمائة. وقال الحلاج:" حجبهم بالاسم فعاشوا؛ ولو أبرز لهم علوم القدرة لطاشوا؛ ولو كشف لهم الحجاب عن الحقيقة لماتوا." «5» وقال:" من أسكرته أنوار التوحيد، حجبته عن عبارة التجريد، بل من أسكرته أنوار

التجريد، نطق عن حقائق التوحيد؛ لأن السكران هو الذي ينطق بكل مكتوم." «1» وقال:" من التمس الحق بنور الإيمان، كان كمن طلب الشمس بنور الكواكب." «2» وقال أبو العباس الرازي: كان أخي خادما للحسين بن منصور، فسمعته يقول: لما كانت الليلة التي وعد من الغد لقتله، قلت له: يا سيدي! أوصني. فقال لي:" عليك بنفسك، إن لم تشغلها شغلتك". فلما كان من الغد، وأخرج للقتل، قال:" حسب الواحد إفراد الواحد". ثم خرج يتبختر في قيده ويقول: نديمي غير منسوب ... إلى شيء من الحيف سقاني مثل ما يشر ... ب فعل الضيف بالضيف فلما دارت الكأس ... دعا بالنطع والسيف كذا من يشرب الكأس ... مع التّنّين في الصيف «3» ثم قال: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها، وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها، وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُ . «4» ثم ما نطق بعد ذلك حتى فعل به ما فعل. وقال القنّاد: لقيت الحلاج يوما في حالة رثّة، فقلت له: كيف حالك؟. فأنشأ يقول:

لئن أمسيت في ثوبي عديم ... لقد بليا على حرّ كريم فلا يحزنك أن أبصرت حالا ... مغيّرة عن الحال القديم فلي نفس ستتلف أو سترقى ... لعمرك- بي إلى أمر جسيم «1» وأنشد ابن فاتك «2» للحسين بن منصور: أنت بين الشغاف والقلب تجري ... مثل جري الدموع من أجفاني وتحلّ الضمير جوف فؤادي ... كحلول الأرواح في الأبدان ليس من ساكن يحرك إلا ... أنت حركته خفي المكان «3» وأنشد لنفسه «4» : مواجيد حق، أوجد الحقّ كلّها ... وإن عجزت عنها فهوم الأكابر وما الوجد إلا خطرة ثم نظرة ... تثير لهيبا بين تلك السرائر إذا سكن الحق السريرة ضوعفت ... ثلاثة أحوال، لأهل البصائر فحال يبيد السرّ عن كنه وجده ... ويحضره للوجد، في حال حائر وحال به زمّت ذرى السرّ فانثنت ... إلى منظر أفناه عن كل ناظر وأنشد أيضا لنفسه «5» : متى سهرت عيني لغيرك أو بكت ... فلا أعطيت ما منّيت وتمنّت وإن أضمرت يوما سواك فلا رعت ... رياض المنى من وجنتيك وجنّة

وأنشد لنفسه «1» : جبلت روحك في روحي كما ... يجبل العنبر بالمسك الفتق فإذا مسّك شيء مسّني ... فإذا أنت أنا لا نفترق وأنشد لنفسه «2» : دلال يا خليلي مستعار ... دلال بعد أن شاب العذار؟ ملكت- وحرمة الخلوات- قلبا ... لعبت به وقرّ به القرار فلا عين يؤرّقها اشتياق ... ولا قلب يقلقله ادّكار نزلت بمنزل الأعداء مني ... وبنت، فلا تزور، ولا تزار " كما ذهب الحمار بأم عمرو ... فلا رجعت ولا رجع الحمار" وأنشد عبد الرحيم بن أحمد الحلي قال: أنشدني الحلاج لنفسه، وقد ذكرت لديه الدنيا وأحوالها: دنيا تغالطني كأني ... لست أعرف حالها حظر المليك حرامها ... وأنا احتميت حلالها فوجدتها محتاجة ... فوهبت لذّتها لها وقد حكي عنه، أنه لما خرج ليقتل، خرج غير جازع، ولا أسف، وجعل يقول:" آن لقاء الحبايب". وحكى السّلمي عن العطوفي، قال: كنت أقرب الناس من الحلاج، فضرب كذا وكذا سوطا، وقطعت يداه ورجلاه ... فما نطق!. وحكي عنه: إنه لما قدّم للقتل، أسفر وجهه، ثم اربدّ، وهمهم بشفتيه، ثم أنشد:

31 - أبو عبد الله أحمد بن يحيى الجلاء

طلبت المستقرّ بكل أرض ... فلم أر لي بأرض مستقرّا وذقت من الزمان وذاق مني ... وكان مذاقه حلوا ومرّا أطعت مطامعي فاستعبدتني ... ولو أني قنعت لكنت حرّا «1» وقد ذكر الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي: أنه قال- وهو مصلوب:" إلهي! أصبحت في دار الرغائب أنظر إلى العجائب، إلهي! إنك تتودّد إلى من يؤذيك، فكيف لا تتودد إلى من يؤذى فيك؟! " «2» . ومنهم: 31- أبو عبد الله أحمد بن يحيى «3» الجلّاء «13» سابق بلغ المدى، وقتل أطماعه ببتّ العلائق وودى، وكان بطل كتيبة، ورجلا له كرامات عجيبة، وأخا غرائب لا تؤاخى، ولا يأتي بها الزمان وإن تراخى، طالما بهر العيون وملاها، وأظهر ما عجب الظنون وملاها، ولم يزل تبارح به غرف العرفان، ويتبلج صبح الحق حتى أدرج في الأكفان، فروّض ثرى حلّه، وسقى الله دياره غير مفسدها، وساق إليها مثل أخلاق موسدها، وطاب حيا للأتراب، وميتا في التراب مضطجعا.

أقام بالرملة «1» ، ودمشق، وكان من جلّة مشايخ الشام. «2» صحب أباه، يحيى [الجلاء] ، وأبا تراب النخشبي، وذا النون المصري، وأبا عبيد البسري «3» وكان عالما ورعا، وهو أستاذ محمد بن داود الدّقّي. «4» روي عنه أنه قال لأبيه وأمه:" أحبّ أن تهباني لله عزّ وجلّ" فقالا: قد وهبناك لله. فغبت عنهما مدّة، فلما رجعت كانت ليلة مطيرة، فدققت الباب، فقال لي أبي: من ذا؟. قلت: ولدك أحمد. فقال: كان لنا ولد، فوهبناه لله تعالى، ونحن من العرب، لا نسترجع ما وهبناه. ولم يفتح لي. «5» وقال له رجل: على أي شيء أصحب الخلق؟. فقال:" إن لم تبرّهم فلا تؤذهم، وإن لم تسرّهم فلا تسؤهم." «6» وقال:" الزهد هو النظر إلى الدنيا بعين الزوال، لتصغر في عينك، فيسهل عليك الإعراض". وقال محمد بن ياسين: سألت ابن الجلاء عن الفقر؟.

فسكت، ثم ذهب، ورجع عن قريب، ثم قال: كان عندي أربعة دوانيق، فاستحييت من الله تعالى أن أتكلم في الفقر، فأخرجتها ... !. ثم قعد وتكلم في الفقر «1» . وقيل له: ما معنى الصوفي؟. فقال:" ليس نعرفه في شرط العلم، ولكن نعرف فقيرا مجردا من الأسباب، كان مع الله تعالى بلا مكان، ولا يمنعه العلم من علم كل مكان، يسمى صوفيا" «2» وقال: اشتهت والدتي على والدي يوما سمكة، فمضى والدي إلى السوق وأنا معه، فاشترى سمكة ووقف ينظر من يحملها؟. فرأى صبيا واقفا حذاءه، فقال: يا عم! ... تريد من يحملها؟. قال: نعم. فحملها ومشى معنا، فسمعنا الأذان. فقال الصبي: أذّن المؤذن، وأحتاج أن أتوضأ وأصلي. فإن رضيت وإلا فاحمل السمكة!؛ ووضعها الصبي ومضى. فقال أبي: نحن أولى من أن نتوكل بالسمكة. فدخلنا المسجد وصلينا جميعا، وخرجنا من المسجد. وإذا السمكة موضوعة على حالها، فحملها، ومضى معنا إلى دارنا. فذكر والدي ذاك لوالدتي، فقالت: يقيم عندنا حتى يأكل معنا. فقلنا له. فقال: إني صائم. قلنا: فتعود إلينا بالعشي؟. فقال: إذا حملت في اليوم مرة، فلا أحمل ثانيا. فأدخل المسجد إلى المساء، ثم أدخل عليكم بالعشي. فلما أمسينا دخل الصبي علينا فأكلنا، فلما فرغنا، دللناه على موضع الطهارة، ورأيناه يؤثر الخلوة، فتركناه في بيت. وكان لقريب لنا ابنة زمنة، فلما كان في بعض الليل، وإذا بها قد جاءت تمشي!. فسألناها عن حالها؟. فقالت: قلت:" يا رب! بحرمة ضيفنا إلا ما عافيتني ... فقمت! ". قال: فمضينا نطلب الصبي؛ فإذا الأبواب مغلقة كما كانت، ولم نجده. فقال أبي: منهم كبير وصغير. «3» وقال: دخلت المدينة، وبي فاقة، فتقدّمت إلى القبر، وقلت:" ضيفك يا رسول الله!،

32 - أبو عبد الله محمد بن الفضل البلخي

ثم غفوت، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم وقد أعطاني رغيفا، فأكلت نصفه، وانتبهت، وبيدي النصف الآخر" «1» . وقال: كنت واقفا أنظر إلى غلام نصراني حسن الوجه، فمر بي أبو عبد الله البلخي، فقال: أيش وقوفك؟. فقلت: يا عم! ما ترى؟ هذه الصورة الحسنة تعذّب بالنار؟. فضرب بيده بين كتفي، وقال: لتجدنّ غبّ هذا ولو بعد حين. قال ابن الجلاء: فوجدت غبّها، وذلك أني نسيت القرآن بعد أربعين سنة! «2» . وقيل: لما مات أبو عبد الله بن الجلاء، نظروا إليه وهو يضحك، فقال الطبيب: إنه حي!. ثم نظر إلى مجسّته، فقال: إنه ميت!. ثم كشف عن وجهه، فقال: لا أدري أهو ميت أم حي؟!! «3» وكان في داخل جلده عرق على شكل كتابة «الله» . «4» ومنهم: 32- أبو عبد الله محمّد بن الفضل البلخيّ «13» أعلقته مصايد الأيام فأفلت أشراكها، ورأى الراحة في تجنب الأيام فطلب إدراكها، فلم

يسكن إلى سكن، ولا تقيد بموضع سكن، وكانت الأفلاك له مكان الاستقلال، فجانب الدنيا فلم يرمقها إلا شزرا، ولم يرم منها إلا نزرا، وألقى أثقالها تخفيفا لمحمله، وتخليصا له عند عرض عمله، فخلّصها مما كادها، وخفف عنها مادها، ولم يزل على قدم ما سألها، وحول ديم ما يفارق أوشالها «1» ، إلى أن دعاه الداعي، وأصم به الناعي. أصله من" بلخ" «2» ، لكنه أخرج منها بسبب المذهب، فرحل إلى سمرقند، واستوطنها، ومات بها سنة تسع عشرة وثلاثمائة. «3» صحب أحمد بن خضرويه وغيره من المشايخ. وكان من كبار مشايخ خراسان «4» وجلّتهم، ولم يكن أبو عثمان يميل إلى أحد من المشايخ ميله إليه. وكان يقول: لو وجدت في نفسي قوة لرحلت إلى أخي محمد بن الفضل، فأستروح سري برؤيته. «5» وكان أبو عثمان يقول: محمد بن الفضل سمسار الرجال. «6»

ومن كلامه:" أعرف الناس بالله أشدهم مجاهدة في أوامره، وأتبعهم لسنة نبيه صلى الله عليه وسلم". «1» وقال:" العلم حرز، والجهل غرر، والصديق مؤنة، والعدوّ همّ، والصلة بقاء، والقطيعة مصيبة، والصبر قوة، والجرأة عجز، والكذب ضعف، والصدق قوة، والمعرفة صداقة، والعقل تجربة." «2» وقال:" ست خصال يعرف بها الجاهل: الغضب في غير شيء، والكلام في غير نفع، والعطية في غير موضعها، وإفشاء السر، والثقة بكل أحد، وألا يعرف صديقه من عدوه." «3» وقال:" خطأ العالم أضرّ من عمد الجاهل". «4» وقال:" من ذاق حلاوة العلم لا يصبر عنه." «5» وقال:" من ذاق حلاوة المعاملة أنس بها." «6» وقال:" من عرف الله تعالى اكتفى به «7» ، بعد قوله تعالى: أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ «8» . وقال:" العلوم ثلاثة: علم بالله، وعلم من الله، وعلم مع الله: فالعلم بالله: معرفة صفاته ونعوته.

والعلم من الله: علم الظاهر والباطن، والحلال والحرام، والأمر والنهي في الأحكام. والعلم مع الله: علم الخوف والرجاء، والمحبة والشوق" «1» . وقال:" ثمرة الشكر: الحب لله تعالى، والخوف منه" «2» . وقال:" ذكر اللسان: كفارات ودرجات؛ وذكر القلب: زلف وقربات." «3» وقال:" من استوى عنده ما دون الله نال المعرفة بالله تعالى" «4» . وقال:" الفتوة: حفظ السرّ مع الله على الموافقة، وحفظ الظاهر مع الخلق بحسن العشرة، واستعمال الخلق" «5» . وقال:" الزهد: النظر إلى الدنيا بعين النقص، والإعراض عنها تعزّزا وتظرّفا، فمن استحسن من الدنيا شيئا فقد نبّه على قدرها" «6» . وقال:" علامة الشقاوة ثلاثة أشياء: يرزق العلم ويحرم العمل، ويرزق العمل ويحرم الإخلاص، ويرزق صحبة الصالحين ولا يحترم لهم" «7» . وقال:" إيثار الزهّاد عند الاستغناء، وإيثار الفتيان عند الحاجة، قال الله تعالى: وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ «8» . وقال:" المحبة: سقوط كل محبة من القلب إلا محبة الحبيب". وروي أنه لما نفى أهل بلخ محمد بن الفضل من البلد دعا عليهم وقال:" اللهم امنعهم

33 - أبو عمرو الدمشقي

الصدق"، فلم يخرج من بلخ بعده صدّيق «1» . وقال:" عجبت لمن يقطع البوادي والمفاوز حتى يصل إلى بيته وحرمه، فيرى آثار النبوة، كيف لا يقطع نفسه وهواه، ليصل إلى قلبه فيرى آثار ربه عزّ وجلّ! ". قال: فمات أربع نفر ممن سمعوا كلامه هذا. «2» وأنشد في هذا المعنى «3» : ومن البلاء وللبلاء علامة ... ألا يرى لك عن هواك نزوع العبد عبد النفس في شهواتها ... والحر يشبع تارة ويجوع ومنهم: 33- أبو عمرو الدّمشقيّ «13» أحد مشايخ الشام، بل واحدها. زاهد كره الدنيا ولجاجها، وضاقت عليه سعة فجاجها. بطل من أبطال الرجال، ورجل يكشف له الحجاب والحجال، صدق في مقاله فأسمع، وسبق في مجاله فلم يكن في اللحاق به مطمع، وكان ذا قدم يقوم عليها الليل، وكرم لا تحمل النجوم منه إلا غثاء السيل، وفضل يعرف منه في لحن القول إذا قال، وفي أثناء الطول وكم استطال، ومدّ معه ذيل الفجر فما طال، إلى تحقيق للتحقيق، وطريق أهل الطريق، وعلم كان منه ناهلا، وعلم أن الله لم يتخذ

وليا جاهلا «1» . صحب أبا عبد الله الجلاء، وأصحاب ذي النون المصري. وهو من أفتى المشايخ. ردّ على من تكلم في تقدّم «2» الأرواح والشواهد. مات سنة عشرين وثلاثمائة. «3» قال رضي الله عنه:" كما فرض الله على الأنبياء- عليهم السلام- إظهار الآيات والمعجزات، كذلك فرض على الأولياء كتمان الكرامات، حتى لا يفتتن الخلق بها." «4» وقال:" خواص خصال العارفين أربعة أشياء: السياسة، والرياضة، والحراسة، والرعاية. فالسياسة، والرياضة: ظاهران؛ والحراسة، والرعاية: باطنان. فبالسياسة يصل العبد إلى التطهير. وبالرياضة: يصل إلى التحقيق. والسياسة: حفظ النفس، ومعرفتها. والرياضة: مخالفة النفس ومعاداتها. والحراسة: معاينة برّ الله في الضمائر، والرعاية: مراعاة حقوق المولى بالسرائر. وميراث السياسة: القيام على الوفاء بالعبودية. وميراث الرياضة: الرضا عند الحكم. وميراث الحراسة: الصفوة والمشاهدة، وميراث الرعاية: المحبة والهيبة. ثم الوفاء متصل بالصفاء، والرضا متصل بالمحبة، علمه من علمه، وجهله من جهله." «5»

34 - أبو علي الروذباري

وقال:" التصوف: رؤية الكون بعين النقص، بل غضّ الطرف عن كل ناقص، ليشاهد من هو منزّه عن كل نقص." «1» وقال:" حقيقة الخوف ألا تخاف مع الله أحدا، والخائف الذي يخاف من نفسه أكثر مما يخاف من الشيطان". «2» وقال:" الرضا ارتفاع الجزع في أي حكم كان." «3» ومنهم: 34- أبو عليّ الرّوذباريّ «13» [ابن شهريار بن مهرذاذاز بن فرغدد بن كسرى] . وهو من أهل بغداد، أحيا طريقة السلف وأنعشها، وأرعد الفرائص هيبة وأرعشها، وكان يقابل منه ليث عرين، وغيث دنيا ودين، لا يقتحم عليه عاب، ولا يؤمن له رقيب حضر أو غاب، إلى دماثة خلق، وأمانة ذكر له في طرق. هذا وقد أطرح نفسه لمن يلومها، وتركها على غاية يرومها، فألحف كل طريد فضل

ظله، وآوى كل شريد من محل محله، فكان عالا، وكان فوق حمام الصالح جاها ومالا، ولم يعدم مستجير به احتماءه واحتماله. وهو من أهل بغداد، سكن مصر، وكان شيخها، وبها مات سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة. صحب الجنيد، والنوري، وأبا حمزة البغدادي، وحسنا المسوحي، ومن في طبقتهم من مشايخ بغداد. وصحب بالشام عبد الله بن الجلّاء. وكان عالما، فقيها، حافظا للأحاديث، ظريفا، عارفا بالطريقة «1» وكان يفتخر بمشايخه «2» ويقول:" شيخي في التصوف: الجنيد. وفي الفقه: أبو العباس بن سريج «3» وأستاذي في الأدب: ثعلب «4» . وأستاذي في الحديث: إبراهيم الحربي «5» ". وسئل عن الإشارة؟. فقال:" الإشارة: الإبانة عما يتضمّنه الوجد من المشار إليه، لا

غير. وفي الحقيقة، إن الإشارة تصحبها العلل، والعلل بعيدة من عين الحقائق." «1» وسئل عن التصوف؟. فقال:" هذا مذهب كله جدّ، فلا تخلطوه بشيء من الهزل." «2» وقال:" لا رضا لمن لا يصبر؛ ولا كمال لمن لا يشكر؛ وبالله وصل العارفون إلى محبته، وشكروه على نعمته." «3» وقال:" لو تكلم أهل التوحيد بلسان التجريد، ما بقي محبّ إلا مات" «4» . وسئل عن التوبة؟. فقال:" الاعتراف، والندم، والإقلاع." «5» وأنشد لنفسه: روحي إليك بكلّها قد أجمعت ... لو أن فيك هلاكها ما أقلعت تبكي إليك بكلّها عن كلّها ... حتى يقال: من البكاء تقطّعت فانظر إليها نظرة بتعطّف ... فلطالما متّعتها فتمتّعت «6» وقال:" من رزق ثلاثة أشياء فقد سلم من الآفات: بطن جائع مع قلب قانع، وفقر دائم مع زهد حاضر، وصبر كامل مع قناعة دائمة". وقال:" اكتساب الدنيا مذلّة للنفوس، وفي اكتساب الآخرة عزّها، فيا عجبا لمن يختار المذلّة في طلب ما يفنى على العزّ في طلب ما يبقى!." «7»

وقال:" إذا قال الصوفي بعد خمسة أيام: أنا جائع!، فألزموه السوق، ومروه بالكسب" «1» . وقال:" كان أربعة في زمانهم: واحد: لا يقبل من الإخوان ولا من السلطان، وهو: يوسف بن أسباط «2» ؛ ورث سبعين ألف درهم فما أخذ منها شيئا، وكان يعمل الخوص بيده. والثاني: كان يقبل من الإخوان والسلطان جميعا، وهو: أبو إسحاق الفزاري؛ فكان ما يأخذه من الإخوان ينفقه في المستورين الذين لا يتحركون، والذي يأخذه من السلطان يخرجه إلى أهل طرسوس. والثالث: كان يقبل من الإخوان، ولا يقبل من السلطان، وهو: عبد الله بن المبارك. والرابع: كان يقبل من السلطان ولا يأخذ من الإخوان، وهو: مخلد بن الحسين، وكان يقول: السلطان لا يمنّ، والإخوان يمنّون! ". وقالت فاطمة أخت أبي علي الروذباري:" لما قربت وفاة أخي كانت رأسه في حجري، ففتح عينيه، وقال:" هذه أبواب السماء قد فتحت، وهذه الجنان قد زيّنت، وهذا قائل يقول: يا أبا علي! قد بلّغناك الرتبة القصوى وإن لم تسألها، وأعطيناك درجة الأكابر وإن لم تردها"، ثم أنشأ يقول: وحقّك لا نظرت إلى سواكا ... بعين مودّة حتى أراكا أراك معذّبي بفتور لحظ ... وبالخدّ المورّد من جناكا ثم قال لي:" يا فاطمة! الأول ظاهر، والثاني إشكال" «3»

35 - أبو بكر محمد بن علي بن جعفر الكتاني

وروي أن جماعة تذاكروا شيئا في القناعة عند أبي بكر الكتاني، وأبو علي الروذباري حاضر، فأنشأ أبو علي يقول: حدّ القناعة محو الكلّ منك إذا ... لاح المزيد بحدّ عند مطلع فإن تحقق صفو الودّ مشتملا ... على الإشارات لم يلو على طمع وقال:" التفكر على أربعة أوجه: ففكرة في آيات الله تعالى؛ وعلامتها: تولّد المحبة في الله عزّ وجلّ منها. وفكرة في الوعد بثواب الله تعالى؛ وعلامتها: تولّد الرغبة فيه. وفكرة في وعيد الله في العذاب؛ وعلامتها: تولّد الهيبة من الله تعالى. وفكرة في جفاء النفس مع إحسان الله تعالى؛ وعلامتها: تولّد الحياء من الله تعالى. «1» . وأنشد: تشاغلتم عني فكلّي أفكر ... لأنكم مني بما بي أخبر فإن شئتم وصلي فذاك أريده ... وإن شئتم هجري فذلك أوثر فلست أرى إلا بحال يسرّكم ... بذلك أزهو ما حييت وأفخر ومنهم: 35- أبو بكر محمّد بن عليّ بن جعفر الكتّانيّ «13» ملك في زي بشر، وفلك لا ينكر نجومه ذو بصر، فرد رأى الدنيا تشيح عارضها، وتمد

بارضها، وسحبها محلولة الخيوط، وبروقها موصولة الخطوط، فخاف أن يصير القطر سيلا، والفجر ليلا، فحلّ بذروة لا يبلغ مرقاها، ولا يصل إليها المقصر إذا انبعث أشقاها، فسلم دينه، وأوتي كتابه بيمينه، وحق له الإعتاب، وغلبه المتاب، وسرّ بعمله وقال: إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ . «1» أصله من بغداد. صحب الجنيد، والنوري، وأبا سعيد الخراز. أقام بمكة، وجاور بها إلى أن مات سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة. وكان أحد الأئمة المشار إليهم في علوم الطريقة. «2» وكان المرتعش يقول:" الكتاني سراج الحرم." «3» ومن كلامه:- " إن لله تعالى ريحا تسمى الصبيحة «4» ، مخزونة تحت العرش، تهبّ عند الأسحار، تحمل الأنين والاستغفار، إلى الملك الجبار". «5» وقال:" إذا سألت الله التوفيق، فابتديء بالعمل". «6» وروي: إنه نظر إلى شيخ كبير أبيض الرأس واللحية، يسأل الناس! فقال:" هذا رجل أضاع أمر الله في صغره، فضيّعه الله في كبره". «7» وقال:" الشهوة زمام الشيطان؛ فمن أخذ بزمامه كان عبده" «8» .

وقال:" الغافلون يعيشون في حلم الله، والذاكرون يعيشون في رحمة الله، والصادقون يعيشون في قرب الله" «1» . وقال:" من حكم المريد أن يكون فيه ثلاثة أشياء: نومه غلبة؛ وأكله فاقة؛ وكلامه ضرورة." «2» وقال:" لولا أن ذكره فرض عليّ ما ذكرته، إجلالا له؛ مثلي يذكره ولم يغسل فاه بألف توبة متقبلة عند ذكره؟!." «3» وأنشد- في المعنى-: ما إن ذكرتك إلا همّ يغلبني ... قلبي وسرّي وروحي عند ذكراكا حتى كأن رقيبا منك يهتف بي: ... إياك! ويحك والتذكار! إياكا! «4» وقال:" كنت في طريق، في وسط السنة، فإذا أنا بهميان «5» ملآن يلمع دنانير، فهممت أن أحمله لأفرّقه بمكة على الفقراء، فهتف بي هاتف: إن أخذته سلبناك فقرك!. قال: فتركته" «6» . وقال: رأيت في الشام شابا لم أر أحسن منه، قلت: من أنت؟ قال: أنا التقوى. قلت: فأين تسكن؟. قال: في كل قلب حزين!. قال: ثم التفت فإذا امرأة سوداء، كأوحش ما يكون!. فقلت: من أنت؟. فقالت: الضحك!. قلت: فأين تسكنين؟. قالت: في كل قلب فرح مرح.

36 - أبو إسحاق إبراهيم بن داود القصار الرقي

قال: فانتبهت، واعتقدت أن لا أضحك إلا غلبة. وقال:" العبادة اثنان وسبعون بابا؛ أحد وسبعون منها في الحياء، وواحد في أنواع البر." «1» وقال:" وجدنا دين الله مبنيا على ثلاثة أركان: الحق، والعدل، والصدق. فالحق على الجوارح، والعدل على القلوب، والصدق على العقول". وحكى عن نفسه أنه بقي عشرة أيام لم يأكل شيئا، فشكا إلى بعض إخوانه الجوع. قال: ثم مررت ببعض الأزقّة، فنظرت إلى درهم مطروح، عليه مكتوب: أما كان الله تعالى بجوعك عالما حتى قلت: إني جائع؟. ومنهم: 36- أبو إسحاق إبراهيم بن داود القصّار الرقّيّ «13» من كبار مشايخ الشام. «2» قنع بقليل المعاش، ومات فقيل: عاش، ولم يرد من الدنيا رياشا، ولم يرد سكنا منها ولا رشاشا، فحمل على النفس ضيمها، وترك لأهوائها تقشعها وغيمها، فلم يمدّ إليها يدا، ولا عدّ فيها أصدقاء ولا عدا، وكان يقطع الأيام مراحل، ويقذف بحر الليل ليقف على الساحل، يطلب بعنته طلاب الصائد، ويجعل تحت كل بر شركا للمصايد، فلم يقبل معتذرا، ولا يقبل إلا حذرا. وكان من أقران الجنيد، وابن الجلاء، إلا أنه عمّر طويلا، وصحبه أكثر مشايخ الشام، وكان لازما للفقر، مجرّدا فيه، محبّا لأهله. «3»

ومات سنة ست وعشرين وثلاثمائة. ومن كلامه:" قيمة كل إنسان بقدر همّته، فإن كانت همّته الدنيا فلا قيمة له، وإن كانت همته رضاء الله تعالى فلا يمكن استدراك غاية قيمته ولا الوقوف عليها." «1» وقيل له:" هل يبدي المحبّ حبّه؟ أو هل ينطق به؟، أو يطيق كتمانه؟. فأنشأ يقول متمثلا: ظفرتم بكتمان اللسان فمن لكم ... بكتمان عين دمعها- الدهر- يذر حملتم جبال الحب فوقي وإنني ... لأعجز عن حمل القميص وأضعف «2» وقال:" الراضي لا يسأل. وليس من شرط الرضا المبالغة في الدعاء." «3» وقال:" حسبك من الدنيا شيئان: صحبة فقير، وحرمة ولي." «4» وقال:" من اكتفى بغير الكافي افتقر من حيث استغنى." «5» وقال:" كفايات الفقراء هي التوكل، وكفايات الأغنياء الاستناد إلى الأملاك." «6» وقال:" من تعزز بشيء غير الله فقد ذلّ في عزّه." «7» وقال:" الأولياء مرتبطون بالكرامات والدرجات، والأنبياء مكشوف لهم عن حقائق الحق؛ فالكرامات والدرجات عندهم وحشة." «8»

37 - أبو بكر الشبلي

وقال:" الأنبياء ينبسطون على بساط الأنس، والأولياء على درجات الكرامة." «1» وقال إبراهيم بن المواز: دخلت يوما على إبراهيم القصار، فقال: ادع لي فلانا القوّال- صبيا كان بالرّقّة- فدعوته له، فقال له: أعد الأبيات التي كنت تغنيها بالأمس، فأخذ الصبي يغني: إذا كنت تجفوني وأنت ذخيرتي ... وموضع شكواي فما أنا صانع؟ نهاري نهار الناس حتى إذا بدا ... لي الليل هزّتني إليك المضاجع وأمضي نهاري بالحديث وبالمنى ... ويجمعني والليل والهمّ جامع قال: فأخذ الشيخ يبكي ويصيح، ويقول: وا شوقاه ... ! إلى من هذا وصفه، وإلى زمان كشف لنا عن بوادي هذه الأحوال. ومنهم: 37- أبو بكر الشّبليّ «13» واسمه: دلف بن جحدر. وقيل: ابن جعفر. وقيل: جعفر بن يونس. رجل كانت به الأيام هزّة «2» ، وللأنام عزّة، وللدنيا نضارة، وللنعمى غضارة، وسم الليالي وهي بهيمة، ونسم على رياض الدنو وهي نسيمة، فحلّ بها حيث لا يدنو المحال، فجاب السماء

وعيّوقها «1» ، وجاز زرع السنبلة وسوقها، وكان ملكا في زي بشر، وواحدا إلا أنه ثاني النجم وثالث الشمس والقمر، فلما فقد عزّ عزاؤه، ووقد ضرام الأحشا وقلّ جزاؤه، فذهب بالأجور، ومضى وكل الناس فيه مأجور، ولم نر منذ زمان أكثر من يوم موته باكيا، وباقيا لو فدي باليا. أصله: من أسروشنة «2» . ومولده: سرّ من رأى. وقيل: إنه خراساني الأصل، بغدادي المولد والمنشأ «3» . تاب في مجلس خير النسّاج. وصحب أبا القاسم الجنيد، ومن في عصره من المشايخ، وصار أوحد الوقت علما، وحالا، وظرفا «4» . وكان فقيها، عالما، على مذهب مالك، وكتب الحديث الكثير [ورواه] . «5» وعاش سبعة وثمانين سنة، ومات في ذي الحجة سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة، ودفن بمقبرة الخيزران ببغداد. «6» وروي أنه لما تاب في مجلس خير النساج أتى نهاوند، وقال: كنت والي بلدكم، فاجعلوني في حلّ «7» ! ..

ومجاهداته في بدايته فوق الحد، ومن جملة ذلك: أنه اكتحل بكذا كذا ملح ليعتاد السهر، ولا يأخذه النوم «1» . قال: فلما زاد الأمر حمّيت الميل فاكتحلت به. وقال الشبلي:" اطّلع الحقّ عليّ فقال:" من نام غفل، ومن غفل حجب". وأنشد: عجبا للمحبّ كيف ينام ... كل نوم على المحبّ حرام وقيل له: متى يكون الرجل مريدا؟. فقال:" إذا استوت حالته في السفر والحضر، والمشهد والمغيب." «2» وقال عبد الله بن محمد الدمشقي:" كنت واقفا يوما على حلقة الشبلي، فجعل يبكي ولا يتكلم؛ فقال رجل: يا أبا بكر! ما هذا البكاء كله؟!. فأنشأ يقول: إذا عاتبته، أو عاتبوه ... شكا فعلي، وعدّد سيئاتي أيا من دهره غضب وسخط ... أما أحسنت يوما في حياتي؟! «3» وقال بعض أصحابه:" رأيت الشبلي في المنام، فقلت له: يا أبا بكر! من أسعد أصحابك بصحبتك؟. فقال: أعظمهم لحرمات الله، وألهجهم بذكر الله، وأقومهم بحق الله، وأسرعهم مبادرة في مرضاة الله، وأعرفهم بنقصانه، وأكثرهم تعظيما لما عظّم الله من حرمة عباده." «4» وقال له رجل: ادع لي. فأنشأ يقول: مضى زمن والناس يستشفعون بي ... فهل لي إلى ليلى الغداة شفيع «5»

وروي أن الجنيد قال له يوما: لو رددت أمرك إلى الله لاسترحت. فقال الشبلي:" يا أبا القاسم! لو رد الله تعالى أمرك إليك لاسترحت". فقال الجنيد:" سيوف الشبلي تقطر دما." «1» وقال:" سهو طرفة عين عن الله تعالى- لأهل المعرفة- شرك بالله تعالى." «2» وقال الشبلي:" ليس من احتجب بالخلق عن الحق كمن احتجب بالحق عن الخلق. وليس من جذبته أنوار قدسه إلى أنسه، كمن جذبته أنوار رحمته إلى مغفرته". «3» وكان يقول في مناجاته:" أحبّك الخلق لنعمائك، وأنا أحبك لبلائك". «4» وقال عبد الله بن محمد الدمشقي:" كنت واقفا على حلقة الشبلي، في جامع المدينة، فوقف سائل على حلقته، وجعل يقول: يا الله، يا جواد!، فتأوه الشبلي وصاح، وقال: كيف يمكنني أن أصف الحق بالجود؟، ومخلوق يقول في شكله: تعود بسط الكف حتى لو انه ... ثناها لقبض لم تجبه أنامله تراك- إذا ما جئته- متهللا ... كأنك تعطيه الذي أنت سائله ولو لم يكن في كفه غير روحه ... لجاد بها فليتّق الله سائله هو البحر من أي النواحي أتيته ... فلجّته المعروف والجود ساحله ثم بكى، وقال: بلى!! يا جواد!. فإنك أوجدت تلك الجوارح، وبسطت تلك الهمم، ثم مننت- بعد ذلك- على أقوام بعزّ الاستغناء عنهم، وعما في أيديهم بك؛ فإنك الجواد كلّ الجواد، لأنهم يعطون عن محدود، وعطاؤك لا حدّ له ولا صفة. فيا جواد يعلو كلّ جواد، وبه جاد كلّ من جاد." «5»

وقال بعضهم: كنا يوما في بيت الشبلي، فأخّر العصر، ونظر إلى الشمس، وقد تدلّت للغروب، فقال: الصلاة! يا سادتي!. وقام فصلى، ثم أنشأ يقول ملاعبة، وهو يضحك: ما أحسن قول من قال: نسيت اليوم- من عشقي- صلاتي ... فلا أدري عشائي من غدائي فذكرك- سيدي- أكلي وشربي ... ووجهك إن رأيت شفاء دائي «1» وقال له رجل: إلى ماذا تستريح قلوب المشتاقين؟. قال: إلى سرور من اشتاقوا إليه، وموافقته". وأنشد: أسرّ بمهلكي فيه، لأني ... أسرّ بما يسرّ الإلف جدّا ولو سئلت عظامي عن بلاها ... لأنكرت البلى، وسمعت جحدا ولو أخرجت من سقمي لنادى ... لهيب الشوق بي يسأله ردّا «2» وقال عبد الله البصري: سئل الشبلي، وأنا حاضر: إلى ماذا تحنّ قلوب أهل المعارف؟. فقال:" إلى بدايات ما جرى لهم في الغيب، من حسن العناية في الحضرة بغيبتهم عنها". وأنشأ يقول: سقيا لمعهدك الذي لو لم يكن ... ما كان قلبي للصبابة معهدا «3» وقيل للشبلي: لم تصفرّ الشمس عند الغروب؟. فقال:" لأنها عزلت عن مكان التمام، فاصفرّت لخوف المقام، وهكذا المؤمن إذا قارب خروجه من الدنيا اصفرّ لونه، لأنه يخاف المقام، فإذا طلعت الشمس، طلعت مضيئة،

وكذلك المؤمن إذا بعث من قبره خرج ووجهه يشرق". وقال:" أليس الله تعالى يقول: (أنا جليس من ذكرني) «1» ؟. فما الذي استفدتم من مجالسة الحق؟ ". وأنشد: ذكرتك لا أني نسيتك لمحة ... وأيسر ما في الذكر ذكر لساني وكنت بلا وجد أموت من الهوى ... وهام عليّ القلب بالخفقان فلما أراني الوجد أنك حاضري ... شهدتك موجودا بكل مكان فخاطبت موجودا بغير تكلّم ... ولا حظت معلوما بغير عيان «2» وقال:" أدنى علامات الفقير: لو كانت الدنيا بأسرها لواحد فأنفقها في يوم واحد، ثم خطر بباله أن يمسك منها قوت يوم، ما صدق في فقره! ". وقال أبو علي المغازلي: ربما يطرق سمعي آية من كتاب الله تعالى فتحدوني على ترك الأشياء، والإعراض عن الدنيا، ثم أرجع إلى أحوالي وإلى الناس، [ثم لا أبقى على هذا ولا على هذا، وأرجع إلى الوطن الأول مما كنت عليه من سماعي القرآن] فقال الشبلي:" ما [طرق سمعك من القرآن] «3» فاجتذبك الله إليه فهو عطف منه عليك

ولطف، وما رددت على نفسك فهو شفقة منه عليك، لأنه لم يصح لك التبري عن الحول والقوة في التوجه إليه". «1» وقال أحمد بن مقاتل: كنت مع الشبلي في مسجد ليلة من رمضان، وهو يصلي خلف الإمام، فقرأ الإمام: وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ «2» فزعق زعقة، قلت: طارت روحه، وهو يرتعد، ويقول:" بمثل هذا خاطب الأحباب" يردد ذلك كثيرا. وروي أنه سمع قائلا يقول:" الخيار عشرة بدانق" فصاح وقال: إذا كان الخيار كل عشرة بدانق، فكيف الشرار؟!. «3» وسمع القوّال يقول شيئا، فصاح، وتواجد، فقيل له: يا أبا بكر! مالك من بين الجماعة؟. فقام وتواجد، وقال: لي سكرتان وللندمان واحدة ... شيء خصصت به من بينهم وحدي «4» وحكي أن فقيها من أكابر الفقهاء يكنى بأبي عمران، كانت حلقته بجنب حلقة الشبلي في جامع المنصور، وكان كلام الشبلي يعطل على ابن عمران وأصحابه كلامهم، فسأله أصحابه يوما عن مسألة في الحيض، وقصدوا إخجاله؟. فأجاب الشبلي عنها، وذكر مقالات الناس في تلك المسألة، والخلاف فيها. فقام أبو عمران وقبّل رأسه، وقال: يا أبا بكر! قد استفدت في هذه المسألة عشر مقالات لم أسمعها، وكان عندي من جملة ما قلت ثلاث أقاويل! «5» وقال إبراهيم الحداد:" كنت يوما عند الشبلي جالسا وقد انصرف أكثر الناس عنه،

وبقي حوله جماعة، فسألوه أن يدعو؟. فسكت ساعة ثم قال:" اللهم اضربهم بسياط الخوف، واقتلهم بأزمّة الشوق، وافنهم عن مؤالفات الرسوم، وأغنهم عن ملاحظات الفهوم. اغفر لهم إن انصرفوا عنك، ووفقهم إن أقبلوا عليك، خرّب منازل فنائهم، واعمر منازل بقائهم، وكن لهم كما لم تزل، اشغل اللهم الكل بمفارقة الكل". ثم أنشأ يقول: الناس كلهم بالعيد قد فرحوا ... وما فرحت به، والواحد الصمد لما تثبتّ أني لا أعاتبكم ... غضضت طرفي فلم أنظر إلى أحد «1» ثم قال:" إلهي طموح الآمال قد خابت إلا لديك، وعكوف الهمم قد تعطّلت إلا عليك، ومذاهب المعارف قد قصرت إلا إليك". وكان ابن بشار نهى الناس عن الذهاب إلى الشبلي والاستماع من كلامه، فلقيه يوما، فجعل الشبلي يكلمه، وابن بشار يقول: كم من خمس من الإبل؟!. فلما أكثر، قال له الشبلي: في واجب الشرع شاة، وفيما يلزمنا: كلّها. فقال ابن بشار: لك بهذا القول إمام؟. قال: نعم، أبو بكر الصديق رضي الله عنه، حيث أخرج ماله كله، وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما خلّفت لعيالك؟. قال: الله ورسوله. فذهب ابن بشار ولم ينه عن مجلسه بعد ذلك. وسئل الشبلي عن قوله تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ «2» ؟. فقال:" أبصار الرءوس: عما حرّم الله. وأبصار القلوب: عما سوى الله عزّ وجلّ «3» ". وقال الشبلي:" كنت يوما جالسا فجرى بخاطري أني بخيل، فقلت: أنا بخيل!.

فقاومني خاطري، وقال: بلى! إنك بخيل!. فقلت:" مهما فتح علي اليوم، لأدفعنه إلى أول فقير يلقاني! ". قال: فبينا أنا أتفكر إذ دخل عليّ صاحب لمؤنس الخادم «1» ، ومعه خمسون دينارا، فقال: اجعل هذه في مصالحك. فأخذتها وخرجت. وإذا بفقير مكفوف بين يدي مزين، يحلق رأسه، فتقدّمت إليه، وناولته الصرة، فقال لي: أعطها للمزين. فقلت:" إنها دنانير! " فقال:" أو ليس قد قلنا إنك بخيل؟! ". فناولتها للمزيّن، فقال:" من عادتنا أن الفقير إذا جلس بين أيدينا لا نأخذ منه أجرا! ". قال: فرميتها في دجلة، وقلت:" ما أعزّك أحد إلا أذلّه الله". وقال أبو محمد الحريري: مكثت عند الشبلي الليلة التي مات فيها، فكان ينشد طول ليلته هذه الأبيات «2» : كل بيت أنت ساكنه ... غير محتاج إلى السرج وجهك المأمول حجتنا ... يوم يأتي الناس بالحجج لا أتاح الله لي فرجا ... يوم أدعو منك بالفرج «3» ورآه بعض الصالحين بعد موته، فقال:" ما فعل الله بك؟ ". فقال:" لم يطالبني بالبراهين على الدعاوي إلا على شيء واحد، وذاك أني قلت يوما: لا خسارة أعظم من خسارة الجنة ودخول النار. فقال لي:" وأي خسارة أعظم من خسران لقائي؟ ". ورآه آخر في النوم فقال:" ما فعل الله بك؟ ". فقال:" ناقشني حتى أيست، فلما رأى إياسي تغمّدني برحمته".

38 - أبو بكر الدقي

ومنهم: 38- أبو بكر الدّقّيّ «13» وهو: محمد بن داود الدينوري. أشرق كالصباح مبهجا، وطرق الفلاح منهجا، فلم يبعد به الوصول، ولم يعد إلا مخضب حكم وتصرف، وحتم على من تعزّز وتشرف، هذا والخوف ملأ جوانحه، وملك جوارحه، ليلة أودعها حتى خلى كل لياليه خالية الترائب، وكل أيامه من ذهب سنابل ولجين ذائب، إذ ترك ذلك زهدا للأيام، وكرما يبخل به اللئام. أقام بالشام، وكان من أقران أبي علي الروذباري، إلا أنه عمّر زيادة على مائة سنة. «1» صحب أبا عبد الله بن الجلاء، وأبا بكر الزقّاق الكبير «2» ، وأبا بكر المصري «3» ، غير أنه كان ينتمي إلى ابن الجلاء. وكان من أجلّ مشايخ وقته، وأقدمهم صحبة للمشايخ. توفي بعد الخمسين وثلاثمائة. «4»

سئل عن الفرق بين الفقر والتصوف؟. فقال:" الفقر حال من أحوال التصوف." «1» فقيل له: ما علامة الصوفي؟. فقال:" أن يكون مشغولا بكل ما هو أولى به من غيره، ويكون معصوما عن المذمومات." «2» وقال:" علامة القرب: الانقطاع عن كل شيء سوى الله تعالى." «3» وقال:" من عرف ربه لم ينقطع رجاؤه. ومن عرف نفسه لم يعجب بعمله، ومن عرف الله لجأ إليه. ومن نسي الله لجأ إلى المخلوقين، والمؤمن لا يسهو حتى يغفل، فإذا تفكر حزن واستغفر" «4» . وقال:" كنت بالبادية، فوافيت قبيلة من قبائل العرب، فأضافني رجل منهم، فرأيت غلاما أسود، مقيدا هناك، ورأيت جمالا ماتت بفناء البيت. فقال الغلام:" أنت الليلة ضيف، وأنت على مولاي كريم، فتشفّع لي!، فإنه لا يردّك! ". فقلت لصاحب البيت:" لا آكل حتى تحلّ هذا العبد". فقال:" هذا الغلام قد أفقرني، وأتلف مالي! ". فقلت:" ما فعل! ". فقال:" له صوت طيب، وكنت أعيش من ظهر هذه الجمال، فحمّلها أحمالا ثقيلة، وحدا لها، حتى قطعت مسيرة ثلاثة أيام في يوم، فلما حطّ عنها ماتت كلها! ". ولكن قد وهبته لك. وأمر بالغلام فحلّ عنه القيد.

فلما أصبحنا أحببت أن أسمع صوته، فسألته عن ذلك؟ فأمر الغلام أن يحدو على جمل كان على بئر هناك، يسقى عليه، فحدا، فهام الجمل على وجهه، وقطع حباله، ولا أظن أني سمعت صوتا أطيب منه، ووقعت لوجهي حتى أشار عليه بالسكوت" «1» . وأنشدوا في هذا المعنى: إن كنت تنكر إن للأصوات فائدة ونفعا فانظر إلى الإبل اللوات ... هنّ أغلظ منك طبعا تصغي إلى حدو الحدا ... ة فتقطع الفلوات قطعا «2» وقال:" خرجت إلى مصر، فلما دخلتها قلت: أسلّم على الدقاق، فقصدته وسلّمت عليه، فقال: من أين جئت يا أبا بكر!؟. قلت: من أيلة. فقال: إلى الرملة؟. قلت: لا يا سيدي إلى القلزم، وإليكم. فقال:" جزت ذلك الطريق، خذ مني حكاية: أقمت فيه ثمانية عشر يوما تائها ما وجدت فيه شيئا أرتفق به، فلما كان بعد المدة، إذا أنا بسلطان قد ولي مصر يريد أيلة، فرأوا شخصي من بعيد، فأرسلوا فارسا يحملني إليه، فلما رأيت جمالا ورفقة طمعت نفسي، فلما تبينت أنهم جند أيست أن لي فيهم فرجا. قال الشيخ: وما شيء من الطاعات لله تعالى إلا وهذا اليأس في هذا الوقت أحسن منه. فقال الوالي:" هذا رجل تائه، قدموا إليه السفرة". فقلت:" ليس إلى ذلك سبيل". فقال: ويحك أنت على حال التلف!. فقلت:" إن بيعتنا مع الله تعالى بمحل هذا لا نرضى رحلكم في المدن، ولا لكم نرضاه! وذلك أن العلم يلزمنا، ولو كنا في شدة.

39 - أبو عمرو إسماعيل بن نجيد بن أحمد بن يوسف بن سالم ابن خالد السلمي

ففقه الأمير عني ما قلت؛ فبكى. وقال: سألتك بالله إلا ما شربت الماء فإنه من النيل، فناولني دلوه، فشربت منها شربة، وبقيت عليها إلى مصر! ". رحمه الله تعالى. ومنهم: 39- أبو عمرو إسماعيل بن نجيد بن أحمد بن يوسف بن سالم ابن خالد السّلميّ «13» سحاب عمّت به الرحمة، وعظمت به في الصدور الحرمة، ردّ على الشيطان غروره، وردى بالحرمان إفكه وزوره، وطالما أراد اختلاسه فتستر له بأذيال النسيان، وكان أن يجري منه مجرى الدم من الإنسان، إلا أنه سكّن سورته وقمعها، وسكّت أسرته وقلعها، فخاب لديه، وخار ولم يصل إليه. صحب أبا عثمان الحيري «1» ، وكان من كبار أصحابه؛ ولقي الجنيد. وكان من أكبر مشايخ وقته، له طريقة ينفرد بها: من تلبيس الحال، وصون الوقت. وهو آخر من مات من أصحاب أبي عثمان، في سنة ست وستين وثلاثمائة. «2»

وسمع الحديث ورواه، وكان ثقة. ومن كلامه: " كل حال لا يكون عن نتيجة علم؛ فإن ضرره على صاحبه أكثر من نفعه." «1» وقال:" المتوكل الذي يرضى بحكم الله فيه". «2» وقال:" من أراد أن يعرف قدر معرفته بالله تعالى، فلينظر قدر هيبته له، وقت خدمته له." «3» وقيل له:" ما الذي لا بد للعبد منه؟. فقال: ملازمة العبودية على السنة، ودوام المراقبة." «4» وقال:" إذا أراد الله بعبد خيرا، رزقه خدمة الصالحين والأخيار، ووفقه لقبول ما يشيرون به عليه، وسهّل عليه سبل الخير، وحجبه عن رؤيتها" «5» . وقال عبد الواحد بن علي السيّاريّ «6» : قلت له آخر ما فارقته:" أوصني!. فقال لي:" إلزم مواجب العلم؛ واحترم لجميع المسلمين؛ ولا تضيّع أيامك، فإنها أعزّ شيء لك؛" ولا تتصدّر ما أمكنك؛ وكن خاملا فيما بين الناس؛ فبقدر ما تتعرف إليهم، وتشتغل بهم، تضيّع حظك من أوامر ربك" «7» .

40 - أبو القاسم إبراهيم بن محمد النصراباذي

وقال:" من أظهر محاسنه لمن لا يملك ضرّه ولا نفعه، فقد أظهر جهله" «1» . وقال:" من استقام لا يعوجّ به أحد، ومن اعوجّ لا يستقيم به أحد" «2» . وقال:" آفة العبد رضاه من نفسه بما هو فيه." «3» وقيل:" اجتمع أبو عمرو، وابن نجيد، والنصراباذي، والطائفة، في موضع فقال النصراباذي: أنا أقول: إذا اجتمع القوم، فواحد يقول شيئا، ويسكت الباقون، خير من أن يغتابوا. فقال أبو عمرو:" لأن تغتاب ثلاثين سنة، أنجى لك من أن تظهر في السماع ما لست به". رحمه الله تعالى. ومنهم: 40- أبو القاسم إبراهيم بن محمّد النّصراباذيّ «13» شيخ خراسان في وقته. لا يفيض صدره الحفائظ، ولا يقدح أحشاءه المغايظ، علم زهد، وعلم حقيقة، أحلى من الشّهد، نفض الرقاد عن جفنيه، وكحّل بالسّهاد ملء عينيه، تصور الدنيا قعاب، وتصوب كوكب الدنايا في أفقه فغاب، حتى دعاه داعي الحمام، فأسرع البدار، وطلع كالقمر ليلة الإبدار، ففرّ إلى الفردوس من وراء الجدار، وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ . «4»

صحب أبا بكر الشبلي، وأبا علي الرّوذباري، وأبا محمد المرتعش، وغيرهم من المشايخ. وكان أوحد المشايخ في زمانه علما وحالا «1» . وأقام بنيسابور، ثم خرج في آخر عمره إلى مكة، وحجّ سنة ست وستين وثلاثمائة، وأقام بالحرم مجاورا، ومات سنة سبع وستين وثلاثمائة «2» . وكتب الحديث الكثير، ورواه، وكان ثقة. ومن كلامه: " إذا بدا لك شيء من بوادي الحق، فلا تلتفت- معه- إلى جنة ولا إلى نار، ولا تخطرهما ببالك؛ وإذا رجعت عن ذلك الحال فعظّم ما عظّمه الله تعالى" «3» . وقال:" أهل المحبة واقفون مع الحق على مقام، إن تقدّموا غرقوا، وإن تأخّروا حجبوا" «4» . وقال:" من لزم التقوى اشتاق إلى مفارقة الدنيا، لأن الله تعالى قال: وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ . «5» وقال:" الزاهد غريب في الدنيا، والعارف غريب في الآخرة". وقال:" الحق غيور، ومن غيرته أنه لم يجعل إليه طريقا سواه". وقال:" قيمة الزاهد بمعبوده، كما أن قيمة العارف بمعروفه". وسئل عن المحبة؟.

41 - أبو الحسن علي بن إبراهيم الحصري

فقال:" محبة توجب سفك الدماء، ومحبة توجب حقن الدماء". ثم قال:" المحبة: مجانبة السلوّ على كل حال". وأنشد: ومن كان في طول الهوى ذاق سلوة ... فإني من ليلى لها غير ذائق وأكثر شيء نلته من وصالها ... أمانيّ لم تصدق، كلمحة بارق «1» ومنهم: 41- أبو الحسن عليّ بن إبراهيم الحصريّ «13» وحيد أيّ وحيد، وفريد في شريعة وتوحيد، لا يقرن إلا بالجنيد، ولا يقرب إلا من داود ذي الأيد «2» ، وكان مالكا للظنون، وسالكا حذاء المنون، حتى سما به كوكبه فتعالى، وزاحم منكبه النجم ثم احتذاه نعالا، والجدّ دأبه والجد يحفظ اجتذابه، والعمل ديدنه والعلم لا يفنى منه معدنه، حتى أجاب للمقدار، ونقل من دار إلى دار، ثم وجد ما قدّم وجد، وودّ لو كان تقدم. وكان شيخ العراق ولسانها في وقته، لم ير في زمانه من المشايخ أتمّ حالا منه، ولا أحسن لسانا ولا أعلى كلاما. متوحّدا في طريقته، ظريفا في شمائله وحاله، له لسان في التوحيد يختص به، ومقام في التجريد والتفريد لم يشاركه فيه أحد بعده «3» .

42 - أبو عبد الله محمد بن خفيف بن إسفكشاذ الضبي

وهو أستاذ العراقيين، وبه تأدّب من تأدّب منهم. صحب [أبا بكر] الشبلي، وإليه كان ينتمي، وصحب غيره من المشايخ أيضا «1» . وهو بصري الأصل. سكن بغداد، ومات بها يوم الجمعة، في ذي الحجة، سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة «2» . وقال:" أصولنا في التوحيد خمسة أشياء: رفع الحديث، وإفراد القدم، وهجر الإخوان، ومفارقة الأوطان، ونسيان ما علم وجهل". وقال أبو الحسين الزنجاني: كثيرا ما كنت أسمع الحصري ببغداد يقول:" عرّضوا ولا تصرّحوا، فإن التعريض أستر". وينشد: وأعرض إذا ما جئت- عنا بحيلة ... وعرّض ببعض إن ذلك أستر فما زلت في إعمال طرفك نحونا ... ولحظك حتى كاد ما بك يظهر ومنهم: 42- أبو عبد الله محمد بن خفيف بن إسفكشاذ «3» الضّبّيّ «13»

قمر جلا السدف «1» ، وجلّ أن يقاس إلا بالسلف، لم يجلس في محفل إلا خلته كوكبا في المجامع يأتلق، ونشر صبا بالمسامع يعتلق، وكان حيث حضر تحل له الحبى «2» ، ويحل أعالي الربى، إلى أن نزل باليباب، ووسد بين أترابه، وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ «3» . أصله من إسفكشاذ، وأقام بشيراز. وكان شيخ المشايخ، وأوحدهم في وقته. عالما بعلوم الظاهر، وعلوم الحقائق، حسن الأحوال، في المقالات والأفعال، جميل الأخلاق والأعمال «4» . مات سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة «5» . ومن كلامه: " لما خلق الله الملائكة والجنّ والإنس، خلق العصمة والكفاية والحيلة: فقال للملائكة: اختاروا. فاختاروا العصمة. ثم قال للجن: اختاروا. فاختاروا العصمة. فقال: قد سبقتم. فاختاروا الكفاية. ثم قال للإنس: اختاروا. فقالوا: نختار العصمة. فقال: قد سبقتم. فقالوا: نختار الكفاية. فقال: قد سبقتم. فأخذوا الحيلة. فبنو آدم يحتالون بجهدهم." «6» وقال:" الخوف اضطراب القلوب بما علمت من سطوة المعبود." «7»

وقال:" الرياضة: كسر النفوس بالخدمة، ومنعها عن الفترة." «1» وقال:" التقوى: مجانبة ما يبعدك عن الله تعالى". «2» وقال:" ليس شيء أضرّ بالمريد من مسامحته النفس في ركوب الرخص، وقبول التأويلات." «3» وقال:" الدّنف: من احترق في الأشجان، ومنع من بث الشكوى." «4» وقال:" الزهد: سلوّ القلب عن الأسباب، ونفض الأيدي عن الأملاك". وحقيقة الزهد: التبرم بالدنيا، ووجود الراحة في الخروج منها." «5» و [قال] :" القناعة: الاكتفاء بالبلغة. وحقيقة القناعة: ترك التشوق إلى المفقود، والاستغناء عن الموجود" «6» . وقال:" الشوق: ارتياح القلوب بالوجد، ومحبة اللقاء للقرب". وقال:" رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام، وهو يقول:" من عرف طريقا إلى الله فسلكه ثم رجع عنه عذّبه الله تعالى عذابا لم يعذّب به أحدا من العالمين." «7» وقال:" المشاهدة: اطّلاع القلوب بصفاء اليقين إلى ما أخبر الله تعالى عنه من الغيوب" «8» وقال:" الرجاء: ارتياح القلوب إلى كرم الموجود." «9»

43 - ابن سمعون: محمد بن أحمد بن إسماعيل بن عنبس

ومنهم: 43- ابن سمعون «1» : محمّد بن أحمد بن إسماعيل بن عنبس «13» أبو الحسين البغدادي الواعظ. واحد ردّ به العدو، ورجي به الهدوّ، وردّت به النوائب شبحا في حلوقها، وسحبا لما تدعيه من باطل حقوقها، وكانت محرجة به صدور برحائها، محرقة بلهبه صدور روائها، رامها فقصف النّصال على النّصال، وقصد الرماح ودعم بها الآصال، حتى طال بها الأمن ودام، وطب فحل الليل عن الشفق الفدام، بتوجه يتقهقر له الجيش المطل، ويقهر أسد الخميس المدل، ويظهر أن الله لا يحارب له ولي، ولا يغالب له قدر له سيل تحدّر من علي. وقنع مدة بالعيش الزهيد، وعمل ليوم يأتي كل نفس معها سائق وشهيد، وكان أمة قانتا، ونعمة لم تدع فائتا، فأجزلت له المواهب، وسهلت له العطايا من أصعب المذاهب، فرفع على الرءوس مقاما، وسمع منه ما داوى للنفوس داء عقاما، ثم كان إلى أن مات من الحلال يكتسب، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ «2»

قال السلمي: هو من مشايخ بغداد، له لسان عال في هذه العلوم، لا ينتمي إلى أستاذ، وهو لسان الوقت، والمرجوع إليه في آداب المعاملات، ويرجع إلى فنون من العلم.» وقال أبو محمد السني- صاحب ابن سمعون-:" كان ابن سمعون في أول أمره ينسخ بالأجرة، وينفق على نفسه وأمه، فقال لها يوما: أحبّ أن أحجّ. قالت: وكيف يمكنك؟. فغلب عليها النوم، فنامت وانتبهت بعد ساعة، وقالت: يا ولدي! حجّ. رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم يقول:" دعيه يحج، فإن الخير له في حجه". ففرح وباع دفاتره، ودفع إليها من ثمنها، وخرج مع الوفد، فأخذت العرب الوفد، قال: فبقيت عريانا، ووجدت مع رجل عباءة، فقلت: هبها لي أشتريها، فأعطانيها، قال: فجعلت إذا غلبني الجوع، ووجدت قوما من الحاج يأكلون، وقفت أنظر إليهم، فيدفعون إلى كسرة فأقتنع بها، وأحرمت في العباءة، ورجعت إلى بغداد، وكان الخليفة قد حرّم جارية وأراد إخراجها من الدار. قال أبو محمد السني: فقال الخليفة: اطلبوا رجلا مستورا يصلح [أن تزوج هذه الجارية به] «2» ؛ فقال بعضهم: قد جاء ابن سمعون من الحج. فاستصوب الخليفة قوله، فزوّجه بها. فكان ابن سمعون يجلس على الكرسي، فيعظ ويقول:" خرجت حاجّا، ويشرح حاله، وها أنا اليوم عليّ من الثياب ما ترون" «3» . قال البرقاني:" قلت له يوما: تدعو الناس إلى الزهد، وتلبس أحسن الثياب!، وتأكل أطيب الطعام، فكيف هذا؟!. فقال:" كلّ ما يصلحك لله فافعله، إذا صلح حالك مع الله." «4» " ولما دخل عضد الدولة بغداد، وقد هلك أهلها، قتلا وخوفا وجوعا، للفتن التي اتصلت

فيها بين الشيعة والسنة، فقال: آفة هؤلاء: القصّاص. فنادى: لا يقصّ أحد في الجامع، ولا الطرق، ولا يتوسّل بأحد من الصحابة. ومن أحب التوسل قرأ القرآن، فمن خالف فقد أباح دمه. فوقع في الخبر: أن ابن سمعون جلس على كرسيه بجامع المنصور. قال أبو الثناء العضدي: فأمرني أن أطلبه؛ فأحضر. فدخل عليّ رجل له هيبة وعليه نور. فلم أملك أن قمت إليه، وأجلسته إلى جنبي، فجلس غير مكترث، فقلت: إن هذا الملك جبار عظيم، وما أوثر لك مخالفة أمره، وإني موصلك إليه، فقبّل الأرض وتلطّف له، واستعن بالله عليه. فقال: الخلق والأمر لله. فمضيت به إلى حجرة، وقد جلس فيها وحده، فأوقفته، ثم دخلت لأستأذن، فإذا هو إلى جانبي قد حوّل وجهه إلى نحو دار فخر الدولة، ثم استفتح وقرأ: وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ . «1» قال: ثم حوّل وجهه، وقرأ: ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ . «2» [ثم أخذ في وعظه] «3» ؛ فأتى بالعجب؛ فدمعت «4» عين الملك، وما رأيت ذلك منه قط، وترك كمّه على وجهه. فلما خرج أبو الحسين- رحمه الله تعالى- قال الملك: اذهب إليه بثلاثة آلاف درهم، وعشرة أثواب من الخزانة، فإن امتنع فقل له: فرّقها في أصحابك، وإن قبلها، فجئني برأسه، ففعلت، فقال: إن ثيابي هذه من نحو أربعين سنة، ألبسها يوم خروجي إلى الناس، وأطويها

عند رجوعي، وفيها متعة وبقيّة ما بقيت، ونفقتي من أجرة دار خلّفها أبي، فما أصنع بهذا؟. فقلت: فرّقها على أصحابك. فقال: ما في أصحابي فقير. فعدت فأخبرته. فقال: الحمد لله الذي سلّمه منا، وسلّمنا منه «1» . وسئل ابن سمعون عن التصوف؟. فقال:" أما الاسم: فترك الدنيا وأهلها، وأما حقيقة التصوف: فنسيان الدنيا، ونسيان أهلها". «2» وقال ابن سمعون في قوله تعالى: وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً «3» ، قال:" مواعيد الأحبة- وإن اختلفت- فإنها تؤنس". كنا صبيانا ندور على الشطّ ونقول: ما طليني وسوّفي ... وعديني ولا تفي واتركيني مولّها ... أو تجودي وتعطفي «4» وذكر ابن سمعون أنه أتى بيت المقدس ومعه تمر، فطالبته نفسه برطب، فلامها، فعمد إلى التمر وقت إفطاره فوجده رطبا، فلم يأكل منه وتركه، فلما كان ثاني ليلة وجده تمرا «5» وقال أبو الفتح القوّاس: لحقتني ضائقة، فأخذت قوسا وخفّين، وعزمت على بيعهما، فقلت: أحضر مجلس ابن سمعون، ثم أبيعهما، فحضرت، فلما فرغ ناداني: يا أبا الفتح!

لا تبع الخفّين والقوس، فإن الله سيأتيك برزق". أو كما قال «1» . وقال أبو طاهر العلاف: حضرت أبا الحسين يوما وهو يعظ، وأبو الفتح القوّاس إلى جنب الكرسي، فنعس، فأمسك أبو الحسين عن الكلام ساعة، ثم استيقظ أبو الفتح، ورفع رأسه، فقال له أبو الحسين:" رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نومك؟. قال: نعم. فقال: لذلك أمسكت خوفا من أن تنزعج." «2» وحكى مولى الطائع لله: أن الطائع أمره فأحضر ابن سمعون، فرأيت الطائع غضبانا، وكان ذا حدّة، فأحضرت ابن سمعون، فأذن له الطائع في الدخول، فدخل وسلّم بالخلافة، ثم أخذ في وعظه، فقال: " روي عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه"، ثم روى عن أمير المؤمنين وترضّى عنه، ووعظ حتى بكى الطائع، وسمع شهيقه، وابتلّ منديل من دموعه، فلما انصرف، سألت عن سبب طلبه؟. فقال: رفع إليّ أنه ينتقص عليا رضي الله عنه، فأردت أقابله، فلما حضر افتتح بذكر علي، والصلاة عليه، وأعاد وأبدى في ذكره، فعلمت أنه وفّق، ولعلّه كوشف بذلك" «3» . توفي رضي الله عنه سنة سبع وثمانين وثلاثمائة، في ذي القعدة «4» .

وولد سنة ثلاثمائة. وسمعون: هو جده إسماعيل. قال أبو بكر الخطيب: كان بعض شيوخنا إذا حدّثنا عنه قال:" حدّثنا الشيخ الجليل المنطّق بالحكمة." «1» سمع أبا بكر بن أبي داود «2» ، ومحمد بن مخلد العطار، وأبا جعفر بن البختري «3» . وبدمشق: أحمد بن سليمان بن زبّان، ومحمد بن محمد بن أبي حذيفة، وجماعة، وأملى عنهم. وروى عنه: أبو عبد الرحمن السلمي، وعلي بن طلحة المقرئ، والحسن بن محمد الخلال، وأبو طالب العشاري، [وأبو الحسين بن الآبنوسي] ، وخديجة بنت محمد الشاهجانيّة الواعظة، [وأبو بكر أحمد بن محمد بن حمّدوه الحنبلي] ، وغيرهم «4» . وكان أوحد دهره، وفرد عصره في الكلام، على علم الخواطر والإشارات، ولسان الوعظ، دوّن الناس حكمه، وجمعوا كلامه. رحمه الله تعالى.

44 - أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك بن طلحة ابن محمد القشيري

ومنهم: 44- أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك بن طلحة ابن محمد القشيريّ «13» الفقيه، الشافعي. كان ليومه من أمسه آخذا، وبلومه من نفسه مؤاخذا، فكان لا يزال دمعه ينهمل، ومدمعه محمرّا، كأن إماقه جرح لا يندمل، لم تستمله الأغصان وقد مالت قدودها، ولا أمالت ليلى قلبه وقد طال صدودها، فلم يشك جفا ودود، حتى فاء إلى صديد ودود. وإنما يعرف أكثر أحوال القوم من" رسالته" «1» ، ويعترف الفضّل «2» بقدمه وبسالته، وهو معدود من أهل سيادتهم، وذوي حظوتهم في الدارين وسعادتهم.

وكان علّامة في الفقه والتفسير، والحديث، والأصول، والأدب، والشعر، والكتابة، وعلم التصوف، وجمع بين الشريعة والحقيقة. وأصله من ناحية" أستوا" «1» ، من العرب الذين قدموا خراسان. توفي أبوه وهو صغير، وقرأ الأدب في صباه، وكانت له ضيعة مثقلة الخراج بنواحي" أستوا"، فرأى من الرأي أن يحضر إلى نيسابور، يتعلم طرفا من" الاستيفاء" ويحمي الضيعة من الخراج، فحضر نيسابور على هذا العزم، فاتفق حضوره مجلس الشيخ أبي عليّ الحسين بن علي النيسابوري المعروف ب" الدقاق"- وكان إمام وقته- فلما سمع كلامه أعجبه، ووقع في قلبه، فرجع عن ذلك العزم، وسلك طريق الإرادة، فقبله الدقاق، وأقبل عليه، وتفرّس فيه النجابة، فجذبه بهمّته، وأشار عليه بالاشتغال بالعلم، فخرج إلى درس أبي بكر محمد بن أبي بكر الطوسي، وشرع في الفقه حتى فرغ من تعليقه. ثم اختلف إلى الأستاذ أبي إسحاق الأسفراييني، وقعد يسمع درسه أياما، فقال الأستاذ: هذا العلم لا يحصل بالسماع، ولا بدّ من الضبط بالكتابة، فأعاد عليه جميع ما سمعه تلك الأيام، فعجب منه، وعرف محلّه فأكرمه، وقال له: ما تحتاج إلى درس بل يكفيك أن تطّلع على مصنفاتي «2» . فقعد وجمع بين طريقته، وطريقة ابن فورك «3» . ثم نظر في كتب القاضي أبي بكر بن الطيب الباقلاني «4» ، وهو مع ذلك يحضر مجلس أبي علي الدقاق. وزوّجه ابنته، مع كثرة أقاربها.

وبعد وفاة أبي علي، سلك مسلك المجاهدة والتجريد، وأخذ في التصنيف، فصنف:" التفسير الكبير" قبل سنة عشر وأربعمائة، وسمّاه:" التيسير في علم التفسير"، وهو من أجود التفاسير. وصنّف:" الرسالة" في رجال الطريقة «1» . وخرج إلى الحج في رفقة فيها الشيخ أبو محمد الجويني «2» ، وأحمد بن حسين البيهقي «3» ، وجماعة من المشاهير؛ فسمع منهم الحديث ببغداد والحجاز. وكان له في الفروسية واستعمال السلاح يد بيضاء «4» . وأما مجالس الوعظ والتذكير فهو إمامها، عقد لنفسه مجلس الإملاء في الحديث سنة سبع وثلاثين وأربعمائة، وحدّث ببغداد، وكتبنا عنه «5» ، وكان ثقة، وكان يقص، وكان حسن الموعظة، مليح الإشارة، وكان يعرف الأصول «6» على مذهب الأشعري، والفروع على مذهب الشافعي. وذكره أبو الحسن الباخرزي في" دمية القصر" «7» وقال: لو قرع الصخر بسوط «8» تحذيره لذاب، ولو ربط «9» إبليس في مجلسه لتاب.

وقال أبو عبد الله محمد بن الفضل الفراوي: أنشدنا عبد الكريم بن هوازن القشيري لنفسه: سقى الله وقتا كنت أخلو بوجهكم ... وثغر الهوى في روضة الأنس ضاحك أقمنا زمانا والعيون قريرة ... وأصبحت يوما والجفون سوافك «1» ومن شعره أيضا: إذا ساعدتك الحال فارقب زوالها ... فما هي إلا مثل حلبة أشطر وإن قصدتك الحادثات ببوسها ... فوسّع لها ذرع التجلّد واصبر وكان أبو القاسم كثيرا ما ينشد لبعضهم، وهو: ذو القرنين بن حمدان لو كنت ساعة بيننا ما بيننا ... وشهدت كيف نكرّر التوديعا أيقنت أن من الدموع محدّثا ... وعلمت أن من الحديث دموعا «2» ولد في ربيع الأول سنة ست وسبعين وثلاثمائة. وتوفي صبيحة يوم الأحد السادس عشر شهر ربيع الآخر، سنة: خمس وستين وأربعمائة، بمدينة نيسابور. ودفن بالمدرسة تحت شيخه أبي علي الدقاق. وكان له فرس أهدي إليه، فركبه نحو عشرين سنة، فلما مات الشيخ، لم يأكل الفرس شيئا، ومات بعد أسبوع «3» .

45 - أبو الفتوح أحمد بن محمد بن محمد بن أحمد الطوسي الغزالي

ومنهم: 45- أبو الفتوح أحمد بن محمّد بن محمّد بن أحمد الطّوسيّ الغزاليّ «13» مجد الدين، أخو الإمام الغزالي، الفقيه الشافعي. رشد لضلّال، ورفد لحلّال، سرت غواديه فظلت، وسرت أياديه فحلّت، وكان يتخلل بالمواعظ، ويتوصّل إلى ما لم يبلغه كلم واعظ، فملأ أوعية القلوب تذكارا، وترك أودية الخواطر لها أو كارا، ولم يزل زينة العصر، وحلية الأيام أيام النضر، يقوم مقام الجيوش الخضارم، ويرد الأعداء وما طليت بالدماء ظباه الصوارم. قال ابن خلّكان:" كان واعظا مليح الوعظ، حسن المنظر، صاحب كرامات وإشارات، وكان من الفقهاء، غير أنه مال إلى الوعظ فغلب عليه، ودرّس بالمدرسة النظامية نيابة عن أخيه أبي حامد لما ترك التدريس زهادة فيه، واختصر كتاب أخيه أبي حامد المسمى ب:" إحياء علوم الدين"، في مجلد واحد، وسمّاه:" لباب الإحياء"، وله تصنيف آخر سماه:" الذخيرة في علم البصيرة" «1» . وطاف البلاد، وخدم الصوفية بنفسه، وكان مائلا إلى الانقطاع والعزلة.

وذكره ابن النجّار في" تاريخ بغداد" فقال: كان قد قرأ القارئ بحضرته: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ الآية «1» ، فقال: شرّفهم بياء الإضافة، إلى نفسه بقوله:" يا عبادي! "، ثم أنشد يقول:- وهان عليّ اللوم في جنب حبّها ... وقول الأعادي: إنه لخليع أصمّ إذا نوديت باسمي، وإنني ... إذا قيل لي: يا عبدها!، لسميع قال ابن خلّكان: ومثل هذا قول بعضهم:- لا تدعني إلا بيا عبدها ... فإنه أشرف أسمائي «2» وحكي: أنه اجتمع هو وأخوه أبو حامد ليلة، فأذّن مؤذن العشاء، فتقدم الشيخ أبو حامد فصلّى إماما، وصلّى الشيخ أحمد خلفه، فمرّ بخاطر أبي حامد وهو واقف يصلي مسائل في الحيض في كتاب كان يصنفه، فلما أتمّ الصلاة، قام الشيخ أحمد يعيد صلاته!، فقيل له في ذلك؟. فقال: كيف أصلي خلف رجل منغمس في دم الحيض إلى شحمة أذنيه؟. فسمع قوله أخوه أبو حامد، فقال: صدق والله أخي، لقد مرّ بخاطري- وأنا قائم أصلي- مسائل في الحيض، واستغرقت في ذلك. قلت: وليس هذا بمبطل لصلاته حتى يحتاج إلى إعادتها، ولكنه تورّع عن خطرات الخواطر «3» . وتوفي رحمه الله تعالى بقزوين «4» ؛ سنة عشرين وخمسمائة.

46 - يوسف بن أيوب بن يوسف بن الحسين بن وهرة، أبو يعقوب الهمذاني

ومنهم: 46- يوسف بن أيّوب بن يوسف بن الحسين بن وهرة، أبو يعقوب الهمذاني «13» الفقيه، الزاهد، ذو الكرامات، ليس يجحدها البهوت، ومقامات ليس يشهدها السكوت، بفم كأنما طبع عليه بخاتم، وكرم طمع لديه حاتم، وصلاح كان شقيق شقيق إخاء، وقرين القرني إذا هبّ رخاء. له أمور تغني عن الإيضاح، وأسرار مثل الشمس في الإيضاح، فانتهى إليه السؤدد، وإلى رواق العلياء أنه على غيره لم يمدد، لتفرّده في مانه، وورده الروي من إيمانه. قال أبو سعد السمعاني: يوسف بن أيوب الهمذاني: من قرية" بوزنجرد": قرية من قرى همذان، مما يلي الري «1» . الإمام الورع التقي، المتنسّك، العامل بعلمه، والقائم بحقه، صاحب الأحوال والمقامات الجليلة، وإليه انتهت تربية المريدين الصادقين، واجتمع برباطه بمدينة مرو جماعة من المنقطعين إلى الله تعالى، ما لا يتصور أن يكون في غيره من الرّبط مثلهم. وكان من صغره إلى كبره على طريقة مرضية، وسداد واستقامة، خرج من قريته إلى بغداد، وقصد الإمام أبا إسحاق الشيرازي، وتفقّه عليه، ولازمه مدة حتى برع في الفقه، وفاق أقرانه خصوصا في علم النظر.

وكان الشيرازي يقدمه على جماعة كثيرة من أصحابه، مع صغر سنه، لعلمه بزهده، وحسن سيرته، واشتغاله بما يعنيه. ثم ترك كل ما كان فيه من المناظرة وخلا بنفسه، واشتغل بما هو الأهم من عبادة الله تعالى، ودعوة الخلق إليها، وإرشاد الأصحاب إلى الطريق المستقيم «1» . نزل مرو وسكنها، وخرج إلى هراة وأقام بها مدة، ثم سئل الرجوع إلى مرو في آخر عمره، وخرج منها متوجها إلى هراة ثانيا، وعزم إلى الرجوع إلى مرو في آخر عمره، وخرج منها متوجها إلى مرو، فأدركته منيته ب:" ياميين" بين" هراة" و" بغشور" «2» ، في شهر ربيع الأول، سنة خمس وثلاثين وخمسمائة، ودفن، ثم نقل بعد ذلك إلى مرو «3» . وقال غير السمعاني: قدم يوسف الهمذاني بغداد في سنة خمس عشرة وخمسمائة، وحدّث بها، وعقد بها مجلس الوعظ بالمدرسة النظامية، وصادف بها قبولا عظيما من الناس. قال أبو الفضل صافي بن عبد الله الصوفي الشيخ الصالح: حضرت مجلس شيخنا يوسف الهمذاني في النّظاميّة، وكان قد اجتمع العالم، فقام فقيه يعرف بابن السقاء، وآذاه، وسأله عن مسألة؟، فقال له الإمام يوسف:" اجلس فإني أجد من كلامك رائحة الكفر! ". ولعلك تموت على غير دين الإسلام!. قال أبو الفضل: فاتفق أنه بعد هذا القول بمدة، قدم رسول نصراني من ملك الروم إلى الخليفة، فمضى إليه ابن السقاء وسأله أن يستصحبه، وقال له: يقع لي أن أترك دين الإسلام

وأدخل في دينكم!. فقبله النصراني، وخرج معه إلى القسطنطينية، والتحق بملك الروم، وتنصّر ومات على النصرانية، والعياذ بالله تعالى من الضلال «1» . وقال ابن النجار في ترجمة يوسف المذكور: " سمعت أبا الكرم عبد السلام بن أحمد المقرئ يقول: كان ابن السقاء قارئا للقرآن الكريم، مجوّدا لتلاوته، حدثني من رآه بالقسطنطينية ملقى على دكة مريضا، وبيده خلق مروحة يدفع بها الذباب عن وجهه. قال فسألته: هل القرآن باق على حفظك؟. فقال: ما أذكر منه إلا آية واحدة: رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ «2» ، والباقي أنسيته! «3» . نعوذ بالله من سوء القضاء، وزوال نعمته، وحلول نقمته، ونسأله الثبات [على دين الإسلام] ، والعصمة، آمين «4» . ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا «5» .

47 - عدي بن مسافر بن إسماعيل بن موسى بن مروان بن الحسن ابن مروان الهكاري

ومنهم: 47- عديّ بن مسافر بن إسماعيل بن موسى بن مروان بن الحسن ابن مروان الهكّاريّ «13» من ولد معاوية بن أبي سفيان «1» . ولي لله عرف أيامه من أمسها، وقدم له يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها، قصر جناح النسر عن تدويمه، وقصر طماح الطرف دون تحويمه، وخالف الأماني في مرادها، وخلف وراءه وكبد الآمال مرادها، فما ألهاه من الدنيا غرورها، ولا ازدهاه حزنها ولا سرورها، وشكته الأيام إذ كان من أدوائها، وجفته إذ لم يكن من أودائها، ثم جاءت إليه بالجميل منقادة، وانقادت له بالرعيل ومن قاده، وله في آل حرب نسب سالمته القبائل، وحاكمته فلم يقض لها معه بطائل، هذا إلى كرم بدين، وفضل كان يراه على ذمته كالدين، وكان فيه أمل، وله عمل ما عليه مزيد إلا أن طائفته غلوا فيه فغووا، ونووا فيه نية فغووا، وغلب عليهم الهوى فأضلهم، ودلاهم المغرور ودلّهم، ولكل معزّ مذلّ، ومن يهد الله فما له من مضل.

وسار ذكره في الآفاق، وتبعه خلق كثير، وهم" الطائفة العدويّة"، وجاوز حسن اعتقادهم فيه الحدّ، حتى جعلوه قبلتهم التي يصلّون إليها، وذخيرتهم في الآخرة التي يعوّلون عليها. وكان قد صحب جماعة كثيرة من أعيان المشايخ، والصلحاء المشاهير، مثل عقيل المنبجي، وحماد الدباس، وأبي النجيب عبد القاهر السهروردي، وعبد القادر الجيلي، وأبي الوفاء الحلواني. ثم انقطع إلى جبل الهكّاريّة، من أعمال الموصل، وبنى له هناك زاوية، ومال إليه أهل تلك النواحي كلها ميلا لم يسمع لأرباب الزوايا مثله. قلت: وقد هاجر زين الدين ابن أخي الشيخ إلى البلاد، فأكرمت ملوكنا مقدمه، وأمر إمرة كثيرة، وانقطع في قرية تعرف ببيت فار «1» . وكان بها، وكان منغمسا في النعم والملاذ، يعيش عيش الملوك من اقتناء الغلمان والجواري والملابس، وتمد لديه أسمطة ملوكية. وحكي أن بعض نساء القياصرة كانت مغراة بالشيخ زين الدين، مطنبة في تعظيمه، متغالية في الاعتقاد لصلاحه، وأنفقت عليه أموالا جليلة، وكانت غير مصغية إلى عذول يعذلها في حبه، وخواصّها يلومونها على تبذير أموالها، ويذكرون لها ما كان يتعاطاه من الأمور القبيحة، ولا يزداد إلا غيا وتماديا، فتوصلوا إلى أن حملوها في قفة، وأشرفوا بها عليه وهو عاكف على المنكرات، فما زادها ذلك إلا ضلالا، وقالت: أنتم تنكرون هذا عليه، إنما الشيخ يتدلل على ربه!، وضاعفت له الإنفاق، ولم تمسك خشية الإملاق. وحكى لي شيخنا شهاب الدين أبو الثناء محمود الحلبي الكاتب رحمه الله تعالى، قال: بعثت مع الأمير الكبير علم الدين سنجر الدواداري «2» ، ليحلفه في أول الدولة الأشرفية؛

فأتيناه وهو في قريته، مثل الملك في قلعته، للتجمل الظاهر، والحشمة الزائدة، والفرش الأطلس، وآنية الذهب والفضة، والعصار الصيني، وأشياء تفوت العد، إلى غير ذلك من الأشربة المختلفة الألوان، والأطعمة المنوعة فلما دخلنا عليه لم يحتفل بنا، وأتاه الأمير علم الدين، فقبل يده، وهو جالس لم يقم، فبقي الدواداري قائما قدامه يحدثه، وزين الدين يسأله، لا هو يجلس، ولا زين الدين يقول له اجلس، ثم أمره بالجلوس فجلس على ركبتيه متأدبا بين يديه، ثم أنعم علينا بجملة طائلة تقارب خمسة عشر ألف درهم. قلت: وقد كان يحلف منهم الشيخ عز الدين أميرا، وأمّر، وبقي مدة أميرا بدمشق، ثم بصفد، ثم بدمشق، ثم ترك الإمارة، وآثر الانقطاع، وأقام بالمزة، وكانت الأكراد تأتيه من كل قطر بصفايا أموالها، تقربا إليه، ومنهم على ما حكى من كان يجلس بين يديه. ثم إنه أراد الخروج على السلطان وتبعه طوائف الأكراد من كل بلد، وباعوا أموالهم بالهوان، واشتروا الخيل والسلاح، وآلات الحرب، ووعد رجالا ممن تبعه بالنيابات الكبار، ونزل بأرض اللجون، وأتى السلطان خبرهم، وأنهم على هذا لم يؤذوا أحدا في نفس ولا مال، وإنما يبيعون أموالهم بالرخص، ويشترون الخيل والسلاح بالغالي، فأمر تنكز نائب الشام بكشف أخبارهم، وقصّ آثارهم، وأمسك السلطان من كان بالزاوية العدوية بالقرافة. واختلفت الأخبار؛ فقيل: إنهم يريدون سلطنة مصر، وقيل: بل كانوا يريدون ملك اليمن، وقلق السلطان لأمرهم، وأهمه، إلى أن أمسك تنكز نائب الشام عز الدين المذكور، وأودع الاعتقال، حتى مات، وفرق الأكراد، ولو لم يتدارك لأوشك أن يكون لهم نوبة. ومولد الشيخ عدي بقرية يقال لها" بيت فار" من أعمال بعلبك، والبيت الذي ولد فيه يزار إلى الآن «1» . وتوفي سنة سبع، وقيل: سنة خمس وخمسين وخمسمائة «2» ، في بلده بالهكارية،

48 - أحمد المعروف بابن الرفاعي أبو العباس بن أبي الحسن علي بن أحمد بن يحيى بن حازم بن علي بن رفاعة

ودفن بزاويته، وقبره عندهم من المزارات المعدودة، والمشاهد المقصودة، وحفدته إلى الآن يقيمون إمارة، والناس معهم على ما كانوا عليه زمن الشيخ من جميل الاعتقاد، وتعظيم الحرمة. وكان مظفر الدين صاحب إربل يقول: رأيت الشيخ عدي بن مسافر، وأنا صغير بالموصل، وهو شيخ ربع، أسمر اللون، وكان يحكي عنه صلاحا كثيرا. وعاش تسعين سنة رحمه الله تعالى «1» . ومنهم: 48- أحمد المعروف بابن الرفاعي «2» أبو العباس بن أبي الحسن عليّ بن أحمد بن يحيى بن حازم بن عليّ بن رفاعة «13» عرف حقه الأنام، وألفت فضله الأيام، أيّ رجل، وأيّ بطل، مثله في الخواطر لم يجل، طالما اهتز في يديه كلّ أخضر، وأهزله رداء ألقى المهابة في قلوب الحضّر، وكان لو من

السحاب لم يعبأ بنواله، واستقر له استقرار الجبل لا يعن بزواله، وجاء في عصر مشعشع بالأولياء، وزمان مترعرع بمواليد الأتقياء، وكان دونهم مدلى اللهب، ومواطئ أقدام طائفته منها على أرض من الذهب، ورأوا النار بردا وسلاما فاقتحموها، وخاصموا ألسنتها وألجموها، إلى نهش الأفاعي وقد لفح سمومها، ونفح كالشرار سمومها، يأكلونها أكلا لمّا، ويحبونها حبا جمّا. هذا وشأن أشياعه حجب العنا، وطل العنا، وغير هذا مما ابتدعوه، وابتدوه، ونسبوه إليه وشنعوه، مما لم يكن عليه، ولا يمكن أن ينسب إليه. كان- رضي الله عنه- رجلا صالحا، فقيها، شافعي المذهب. قدم أبوه العراق، وسكن البطائح «1» بقرية يقال لها:" أم عبيدة"- بفتح العين-، فتزوج بأخت الشيخ منصور الزاهد، ورزق منها الشيخ أحمد، وإخوته. وكان أبو الحسن مقرئا يؤمّ بالشيخ منصور، فمات وزوجته حامل بالشيخ أحمد، فربّاه خاله منصور، فقيل: إنه ولد في أول المحرم سنة خمسمائة «2» . ونشأ أحسن نشأة، وانضم إليه خلق عظيم من الفقراء، وأحسنوا الاعتقاد فيه وتبعوه. والطائفة المعروفة بالرفاعية، والبطائحية من الفقراء منسوبة إليه. ولأتباعه أحوال عجيبة، من أكل الحيّات وهي حيّة، والنزول في التنانير وهي تتضرم بالنار فيطفئونها، ويقال: إنهم في بلادهم يركبون الأسود، ومثل هذا وأشباهه، ولهم مواسم يجتمع عندهم من الفقراء عالم لا يعدّ، ولا يحصى، ويقومون بكفاية الكل.

ولم يكن له عقب، وإنما العقب لأخيه، وأولاده يتوارثون المشيخة والولاية على تلك الناحية إلى الآن، وأمورهم مشهورة. «1» وله شعر، فمنه على ما قيل:- إذا جنّ ليلي هام قلبي بذكركم ... أنوح كما ناح الحمام المطوّق وفوقي سحاب يمطر الهمّ والأسى ... وتحتي بحار بالأسى تتدفق سلوا أمّ عمرو كيف بات أسيرها ... تفكّ الأسارى دونه وهو موثق" " فلا هو مقتول، ففي القتل راحة ... ولا هو ممنون عليه فيطلق" «2» قيل: إنه أقسم على أصحابه: إن كان فيه عيب ينبهونه عليه. فقال الشيخ عمر الفاروثي «3» : يا سيدي! أنا أعلم فيك عيبا!. قال: ما هو؟. قال: يا سيدي! عيبك أننا من أصحابك. فبكى الشيخ والفقراء، وقال: أي عمر! إن سلم المركب حمل من فيه. قيل: إن هرة نامت على كمّ الشيخ أحمد، وقامت الصلاة، فقصّ كمّه، ولم يزعجها، ثم قعد فوصله، وقال: ما تغير شيء!. وقيل: توضأ، فنزلت بعوضة على يده، فوقف لها حتى طارت.

وعنه قال: أقرب الطرق الانكسار، والذلّ، والافتقار، تعظّم أمر الله، وتشفق على خلق الله، وتقتدي بسنة سيدك رسول الله صلى الله عليه وسلم «1» . وقيل: كان يجمع الحطب، ويجيء به إلى بيوت الأرامل، ويملأ لهم الجرة. قيل له: أيش أنت يا سيدي؟. فبكى فقال: أي فقير!، ومن أنا في البين، ثبّت نسب واطلب ميراث. وقال: لما اجتمع القوم وطلب كلّ واحد شيء «2» ، دارت النوبة إلى هذا اللاشيء أحمد!. وقيل: أي أحمد! اطلب. قلت: أي ربّ! علمك محيط بطلبي، فكرر عليّ القول، قلت: أي مولاي! أريد أن لا أريد، وأختار أن لا يكون لي اختيار. فأجابني، وصار الأمر له وعليه. وقيل: إنه رأى فقيرا يقتل قملة، فقال: لا واخذك الله، شفيت غيظك؟!. وعنه أنه قال: لو أن عن يميني خمسمائة «3» يروّحوني بمراوح الندّ والطيب، وهم من أقرب الناس إليّ، وعن يساري مثلهم من أبغض الناس إلي، معهم مقاريض يقرضون بها لحمي، ما زاد هؤلاء عندي، ولا نقص هؤلاء عندي بما فعلوه، ثم قرأ: لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ . «4» وقيل: أتي إليه بطبق تمر، فبقي ينقي لنفسه الحشف يأكله، ويقول:" أنا أحقّ بالدون من غيري، فإني مثله دون"!.

49 - الشيخ عبد القادر بن أبي صالح عبد الله بن جنكي دوست الجيلي الحنبلي

وكان- رضي الله عنه- لا يجمع بين لبس قميصين لا في شتاء، ولا في صيف، ولا يأكل إلا بعد يومين أو ثلاثة أكلة، وإذا غسل ثوبه ينزل في الشطّ كما هو قائم يفركه، ثم يقف في الشمس حتى ينشف. وإذا ورد عليه ضيف، يدور على بيوت أصحابه يجمع الطعام في مئزر. وقال:" الفقير المتمكّن إذا سأل حاجة، وقضيت له، نقص من تمكنه درجة." «1» وتوفي رضي الله عنه، يوم الخميس ثاني عشر جمادى الأولى سنة ثمان وسبعين وخمسمائة، بأم عبيدة، وهو في عشر السبعين. وكان لا يقوم للرؤساء، ويقول: النظر إلى وجوههم يقسي القلب". ومنهم: 49- الشّيخ عبد القادر بن أبي صالح عبد الله «2» بن جنكي دوست «3» الجيلي الحنبلي «13» علم الأولياء، محيي الدين، سيد طائفة كانوا بالنهار لا يفترون، وبالأسحار هم

يستغفرون، طلع من هاشم بن عبد مناف في الذوائب، وكرع منه في غدير لم يرفق بالشوائب، وكان من الشرف في شامخ قلاله، وراسخ النسب العلوي في كرم خلاله، وكان له مجلس يوالي فيه الانتحاب، ويحرك فيه الأصحاب، وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ «1» فما برح اجتهاده محدودا، وجهاده يقول: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً . «2» وكان مخلصا دون أشكاله، ومخلصا توكل على الله حق اتكاله، على أنه من بقية قوم يرجعون كانوا قليلا من الليل ما يهجعون، وصلوا الليالي بالأسحار، وركبوا ثبج الفيافي وقفار البحار، فحمدوا ما كانوا يعملون، وعلى ربهم كانوا يتوكلون. مولده بجيلان «3» ، سنة إحدى وسبعين وأربعمائة. وقدم بغداد شابا، فتفقه على أبي سعيد المخرّمي «4» . وسمع الحديث من جماعة، وحدّث عن طائفة من الكبار. قال السمعاني:" كان عبد القادر من أهل جيلان إمام الحنابلة، وشيخهم في عصره. فقيه صالح، ديّن خيّر، كثير الذكر، دائم الفكر، سريع الدمعة. تفقّه على المخرّمي، وصحب الشيخ حمّادا الدباس. قال: وكان يسكن بباب الأزج في مدرسة بنيت له، مضينا لزيارته، فخرج وقعد بين أصحابه، وختموا القرآن، فألقى درسا ما فهمت منه شيئا، وأعجب من ذا أن أصحابه قاموا وأعادوا الدرس، فلعلّهم فهموا، لإلفهم بكلامه وعبارته. «5» وقال ابن الجوزي:" كان أبو سعد المخرّمي قد بنى مدرسة لطيفة بباب الأزج، ففوّضت إلى عبد القادر، فتكلم على الناس بلسان الوعظ، وظهر له صيت بالزهد، وكان له سمت

وصمت، وضاقت المدرسة بالناس، فكان يجلس عند سور بغداد مستندا إلى الرباط، ويتوب عنده في المجلس خلق كثير، فعمّرت المدرسة، ووسّعت، وتعصّب في ذلك العوام، وأقام فيها يدرّس ويعظ إلى أن توفي. «1» وقال الشيخ أبو بكر العماد- رحمه الله تعالى-: كنت قرأت في أصول الدين، فأوقع عندي شكا، فقلت: حتى أمضي إلى مجلس الشيخ عبد القادر، فقد ذكر أنه يتكلم على الخواطر، فمضيت وهو يتكلم، فقال: اعتقادنا اعتقاد السلف الصالح والصحابة. فقلت في نفسي: هذا قاله اتفاقا. فتكلم ثم التفت إلى ناحيتي، فأعاده، فقلت: الواعظ قد يلتفت!. فالتفت إليّ ثالثة، وقال: يا أبا بكر!، فأعاد القول، ثم قال: قم قد جاء أبوك، وكان غائبا، فقمت مبادرا، وإذا أبي قد جاء «2» . وقال أبو البقاء النحوي: حضرت مجلس الشيخ عبد القادر، فقرؤوا بين يديه بالألحان، فقلت في نفسي: ترى لأي شيء ما ينكر الشيخ هذا؟. فقال: يجيء واحد قد قرأ أبوابا من الفقه ينكر!. فقلت في نفسي: لعل أنه قصد غيري. فقال: إياك نعني بالقول، فتبت في نفسي من اعتراضي، فقال: قد قبل الله توبتك «3» . وقال السهروردي: عزمت على الاشتغال بأصول الدين، فقلت في نفسي: أستشير الشيخ عبد القادر؛ فأتيته، فقال قبل أن أنطق: يا عمر!، ما هو من عدّة القبر، يا عمر! ما هو من عدّة القبر!! «4» .

وقال الشيخ عبد القادر: طالبتني نفسي يوما بشهوة، فكنت أضاجرها، وأدخل في درب، وأخرج من آخر أطلب الصحراء، فرأيت رقعة ملقاة، فإذا فيها: ما للأقوياء والشهوات؟!، وإنما خلقت الشهوات للضعفاء. فخرجت الشهوة من قلبي. قال: وكنت أقتات بخرّوب الشوك، وورق الخس، من جانب النهر «1» . وحكى ابن النجار عن الشيخ عبد القادر قال:" بلغت بي الضائقة في الغلاء إلى أن بقيت أياما لا آكل طعاما، بل أتبع المنبوذات، فخرجت يوما إلى الشط، فوجدت قد سبقني الفقراء، فضعفت، وعجزت عن التماسك، فدخلت مسجدا، وقعدت، وكدت أصافح الموت، ودخل شاب أعجميّ ومعه خبز وشواء، فرآني، فقال: بسم الله، فأبيت، فأقسم علي، فأكلت مقصرا، وأخذ يسألني، ما شغلك؟ ومن أين أنت؟. فقلت: متفقّه من جيلان، قال: وأنا من جيلان، فهل تعرف لي شابا جيلانيا اسمه عبد القادر يعرف بسبط أبي عبد الله الزاهد؟. فقلت: أنا هو!. فاضطرب لذلك، وتغير وجهه، وقال: والله يا أخي، لقد وصلت إلى بغداد ومعي بقية نفقة لي، فسألت عنك، فلم يرشدني أحد إلى أن نفدت نفقتي، وبقيت بعدها ثلاثة أيام لا أجد ثمن قوتي إلا من مالك، فلما كان هذا اليوم الرابع، قلت: قد تجاوزتني ثلاثة أيام، وحلّت لي الميتة، فأخذت من وديعتك ثمن هذا الخبز والشواء، فكل طيبا، فإنما هو لك، وأنا ضيفك الآن. فقلت: وما ذاك؟. قال: أمّك وجّهت معي ثمانية دنانير، والله ما خنتك فيها إلى اليوم، فسكّنته، وطيّبت نفسه، ودفعت إليه شيئا منها «2» . وحكي عنه أيضا أنه قال:" كنت في الصحراء أكرر في الفقه وأنا في فاقة، فقال لي

قائل- لم أر شخصه-: اقترض ما تستعين به على طلب الفقه. فقلت: كيف أقترض وأنا فقير ولا وفاء لي؟. قال: اقترض وعلينا الوفاء. فأتيت بقالا، فقلت: تعاملني بشرط: إذا سهّل الله أعطيتك، وإن متّ تجعلني في حلّ؟. تعطيني كل يوم رغيفا ورشادا. فبكى وقال: أنا بحكمك. فأخذت منه مدّة، فضاق صدري، فقيل لي: امض إلى موضع كذا، فأيّ شيء رأيت على الدكّة، فخذه، وادفعه إلى البقال. فلما جئت رأيت قطعة ذهب كبيرة، فأعطيتها البقلي «1» . ولحقني الجنون مرة، وحملت إلى المارستان، فطرقتني الأحوال حتى حسبوا أني متّ، وجاؤوا بالكفن، وجعلوني على المغتسل، ثم سرّي عني، وقمت، ثم وقع في نفسي أن أخرج من بغداد لكثرة الفتن، فخرجت إلى باب الحلبة، فقال لي قائل: إلى أين تمشي؟!، ودفعني دفعة خررت منها، وقال: ارجع فإن للناس فيك منفعة. قلت: أريد سلامة ديني. قال: لك ذاك، ولم أر شخصه. ثم بعد ذلك طرقتني الأحوال، فكنت أتمنى من يكشفها لي، فاجتزت بالظّفريّة «2» ، ففتح رجل داره، وقال: يا عبد القادر!، أيش طلبت البارحة؟. فنسيت، فسكتّ، فاغتاظ، ودفع الباب في وجهي دفعة عظيمة، فلما مشيت ذكرت فرجعت أطلب الباب، فلم أجده. قال: وكان حمادا الدباس، ثم عرفته بعد، وكشف لي جميع ما كان يشكل علي، وكنت إذا غبت عنه لطلب العلم وجئت، يقول: أيش جاء بك إلينا؟ أنت فقيه، مرّ إلى الفقهاء، وأنا أسكت، فلما كان يوم جمعة، خرجت مع الجماعة في شدة البرد، فدفعني ألقاني في الماء، فقلت: غسل الجمعة، بسم الله، وكان عليّ جبّة صوف، وفي كمي أجزاء،

فرفعت كمّي لئلا تهلك الأجزاء، وخلّوني، ومشوا، فعصرت الجبّة، وتبعتهم، وتأذّيت بالبرد كثيرا، وكان الشيخ يؤذيني، ويضربني، وإذا جئت يقول: جاءنا اليوم الخبز الكثير، والفالوذج، وأكلنا وما خبّأنا لك وحشة عليك!. فطمع فيّ أصحابه، وقالوا: أنت فقيه، أيش تعمل معنا؟، فلما رآهم يؤذونني، غار علي، وقال: يا كلاب! لم تؤذونه؟ والله ما فيكم مثله!، وإنما أوذيه لأمتحنه، فأراه جبلا، لا يتحرك، ثم بعد مدة، قدم رجل من همذان، يقال له: يوسف الهمذاني، وكان يقال: إنه القطب، ونزل في رباط، فمشيت إليه، لم أره، وقيل لي: هو في السرداب، فنزلت إليه، فلما رآني قام، وأجلسني، ففرشني، وذكر لي جميع أحوالي، وحلّ لي المشكل عليّ، ثم قال لي: تكلّم على الناس. فقلت: يا سيدي! أنا رجل أعجميّ، قح، أخرس، أتكلّم على فصحاء بغداد؟!. فقال لي: أنت حفظت الفقه وأصوله، والخلاف والنحو، واللغة، وتفسير القرآن، لا يصلح لك أن تتكلم؟. اصعد على الكرسي، وتكلّم، فإني أرى فيك عذقا سيصير نخلة. «1» قال: وكنت أومر، وأنهى، في النوم واليقظة، وكان يغلب عليّ الكلام، ويزدحم على قلبي إن لم أتكلم به حتى أكاد أختنق، ولا أقدر أسكت، وكان يجلس عندي رجلان وثلاثة، ثم تسامع الناس بي، وازدحم الخلق عليّ، حتى صار يحضر مجلسي [نحو من] «2» سبعين ألفا. وقال: فتّشت الأعمال كلها فما وجدت فيها أفضل من إطعام الطعام، أودّ لو أن الدنيا بيدي فأطعمها الجياع، كفّي مثقوبة لا تضبط شيئا!. لو جاءني ألف دينار لم أبيّتها، وكان إذا جاءه أحد بذهب، يقول: ضعه تحت السجادة. وقال:" أتمنى أن أكون في الصحارى والبراري كما كنت في الأول لا أرى الخلق ولا يروني".

ثم قال:" أراد الله مني منفعة الخلق، فقد أسلم على يديّ أكثر من خمسمائة، وتاب على يديّ أكثر من مائة ألف. وهذا خير كثير، وترد عليّ الأثقال التي لو وضعت على الجبال تفسّخت، فأضع جنبي على الأرض، وأقول: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً «1» ، ثم أرفع رأسي وقد انفرجت عني". وقال الجبّائي: كنت أسمع في" الحلية" على ابن ناصر، فرقّ قلبي، وقلت: اشتهيت لو انقطعت، وأشتغل بالعبادة، ومضيت، فصلّيت خلف الشيخ عبد القادر، فلما جلسنا، نظر إليّ، وقال:" إذا أردت الانقطاع، فلا تنقطع حتى تتفقه وتجالس الشيوخ وتتأدّب، وإلا فتنقطع وأنت فريخ ما ريّشت «2» . وعن أبي الثناء النهر ملكي قال: تحدّثنا أن الذباب ما يقع على الشيخ عبد القادر، فأتيته، فالتفت إليّ، وقال: أيش يعمل عندي الذباب؟ لا دبس الدنيا، ولا عسل الآخرة!؟. «3» وقال أبو البقاء العكبري: سمعت يحيى بن نجاح الأديب يقول: قلت في نفسي: أريد أن أحصي كم يقصّ الشيخ عبد القادر شعر تائب؟. فحضرت المجلس ومعي خيط، فلما قصّ شعرا، عقدتّ عقدة تحت ثيابي في الخيط، وأنا في آخر الناس، وإذا به يقول:" أنا أحلّ وأنت تعقد؟ " «4» . وحكى ابن النجار عنه: أنه كان في وسط الشتاء وبرده، وعليه قميص واحد، وعلى رأسه طاقية، وحوله من يروّحه بالمروحة. قال: والعرق يخرج من جسده كما يكون في شدّة الحر! «5» .

وقال أحمد بن ظفر بن هبيرة: سألت جدي أن أزور الشيخ عبد القادر، فأعطاني مبلغا من الذهب لأعطيه، فلما نزل عن المنبر سلّمت عليه، وتحرّجت من دفع الذهب إليه في ذلك الجمع، فقال: هات ما معك، ولا عليك من الناس!، وسلّم على الوزير. وقال صاحب" مرآة الزمان" «1» : كان سكوت الشيخ عبد القادر أكثر من كلامه، وكان يتكلّم على الخواطر، وظهر له صيت عظيم، وقبول تام، وما كان يخرج من مدرسته إلا يوم الجمعة أو إلى الرباط. وتاب على يده معظم أهل بغداد، وأسلم خلق، وكان يصدع بالحق على المنبر، وكان له كرامات ظاهرة. وحكى أبو الحسن علي بن قاسم الهكّاري قال: حضرت مجلس الشيخ عبد القادر الجيلي، فوجدت بين يديه غلاما ينشد: بانت سعاد فقلبي اليوم متبول القصيدة، ثم رأيته ثاني ذلك اليوم، ينشدها بين يديه، فتفكرت في سبب تكرارها، وسألت الشيخ عبد القادر عن ذلك؟. فقال:" رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام، فقلت: يا رسول الله! أمرت أن تحفظ عنك هذه القصيدة؟. قال: نعم. فقلت: يا رسول الله! وهي مدح فيك؟. قال: نعم، ومن قالها ثلاث مرات غفر الله له، فأحببت بعد ذلك أن أسمعها كل يوم، أو كما قال. انتقل إلى رحمة الله تعالى في عاشر ربيع الآخر سنة إحدى وستين وخمسمائة «2» ، وشيّعه خلق لا يحصون، ودفن بمدرسته، رحمه الله تعالى.

50 - قضيب البان

وولد له تسعة وأربعون ولدا، سبعة وعشرون ذكرانا، والباقون إناثا. وقال: إذا ولد لي ولد أخذته على يدي وقلت: هذا ميّت فأخرجه من قلبي، فإذا مات لم يؤثّر عندي موته شيئا «1» . ومنهم: 50- قضيب البان «13» قال ابن عدي: سمعت شيخي أبا يوسف يقول: ما دفن ولي لله تعالى في زمان قضيب البان إلا وكان قضيب البان هو الذي يحفر قبره بيده.

وكان اجتمع به في جنازة أحدهم وأخبره بذلك. قال أبو يوسف: وما سئل قضيب البان عن مسألة من لدن آدم عليه السلام إلى زمانه إلا مسح وجهه ثم نظر في كفه، وأخبر بجوابها. وبتاريخها. قلت: ويحكى أن ابن يونس الفقيه، كان يستنقص بقضيب البان ويقول: عجبا لمن يعتقد فيه خيرا، وهو لا يتوقى النجاسات!، ويطلق لسانه فيه، فبينما ابن يونس يوما وهو على باب مدرسته، وقد جلس لانتظار الفقهاء، ليدخل بهم، ويذكر الدرس، وإذا بقضيب البان قد جاء، وجلس تلقاء وجهه، وأخذ هدمة له، وقعد يخيطها، ثم طلع إلى ابن يونس، وقال: يا قاضي! خيّطتك!، يا قاضي خيّطتك!. وجعل يكررها؛ فجاءت الفقهاء وجلس ابن يونس لذكر الدرس فلم يفتح عليه بكلمة، حتى ولا التحميد، وخرس!. فذكر كلمة قضيب البان، ونهض إليه، فقال: يا سيدي! أنا أستغفر الله، فضحك، وفتق بعض ما كان خيّط في تلك الهدمة!. ثم جعل يقول: فتقت لسانك يا قاضي! فتقت لسانك يا قاضي!. فقام ابن يونس ودخل المدرسة، وجلس للدرس، ففتح عليه بكل عجب، وأتى بكل بديع، حتى قيل: إنه لم يذكر درسا في عمره أكثر تحريرا، وتحقيقا، ونقلا، وفائدة من ذلك اليوم. قالوا: فكان ابن يونس إذا رآه بعدها قبّل يده، وقال: هذا ولي الله.

وحدثني علي بن عبد الله المعروف بالبديع أنه سمع محمد بن يونس بن محمد بن مالك القاضي بالموصل يحكي عن أبيه أن أحد المؤذنين بجامع الموصل حدّثه قال: خرجت يوما خارج البلد، فرأيت قضيب البان ماشيا في همّة، فقلت: والله لأتبعنه اليوم، فمشيت وراءه نحو ساعة، وأنا لاه، ثم نظرت فأنكرت الطريق التي نحن بها، والأرض التي نحن فيها، وإذا نحن في أرض لا أعرفها، وإذا أمامنا نهر يصغر دجلة عنده، وحوله أشجار ليست بأرضنا، فبهتّ، وخررت، ولم أجسر على خطابه، فأتى قضيب البان النهر، فجلس، وجلست ناحية منه، فنزع ثابه ونزل النهر، فاغتسل ثم خرج، فقام يصلي، واشتدّت عليّ الهاجرة، ولم يكن ذلك زمان حر، فأتيت شجرة ذات ظل، فنمت، فلما قمت لم أر قضيب البان!، ولا من أسترشد به، فبينما أنا في ذلك، وإذا براع يرعى معزى، فقمت إليه، فحدّثته، فإذا هو أعجميّ لا يعرف العربية، فصبرت، واستعنت، فأقبل رجل كهل، فقمت إليه وسألته عن ذلك الموضع؟ فقال: بأرض الهند! في مكان كذا، وهو نهر كذا!. فقلت له: فكم بيني وبين الموصل؟. فقال: وأين الموصل؟. وذكر شهرا!. فصحت صيحة كاد ينفطر معها قلبي، فقال لي الشيخ: ويحك! مالك؟. فحكيت له حالي، وأنني خرجت في يومي هذا من الموصل، لأتقضى، فرأيت مولّها عندنا ماشيا، فتبعته، لأبصر أين يذهب؟، فأتى بي إلى هنا، ونزل فاغتسل، وقام يصلي إلى تلك الشجرة، واشتدّ عليّ الحر فنمت، فلما قمت لم أجده، فقال: اعلم أنّي مارّ، في هذه الأرض، ولست منها، وسأل الراعي، قال: فحدّث الراعي بالهندية، وكان رجلا هنديا، فقال له: هذا رجل يأتي كل يوم إلى هنا، فيغتسل ويقوم هنا، فيتعبّد عبادات يدين بها، مما لا نعرفه نحن، ثم يذهب كما يأتي!. قال: فبتّ بأصعب ليلة مرّت بي، فلما كان في اليوم الثاني، جاء قضيب البان ففعل مثل ما فعله، وألقي عليّ النوم، فجعلت أغالبه، فلما قضى صلاته، قمت إليه، وشكوت

51 - أبو علي الحسن بن مسلم بن أبي الحسن بن أبي الجود

إليه حالي، فضحك، وقال: امش خلفي، ولا تعود تكلّف نفسك ما لا يعنيك!، ولا تكثر فضولا!. فقلت: يا سيدي! اسمع والطاعة، فأقبل عليّ يحدّثني أحاديث العقلاء ذوي العلم، فلم يكن إلا ساعة، ونحن بالموصل!، فودّعني وانصرف، رحمه الله تعالى. ومنهم: 51- أبو علي الحسن بن مسلّم بن أبي الحسن بن أبي الجود «13» الزاهد الفارسي. «1» عارف أحرز الحليفة إحرازا، وحرس الحقيقة فلم يدع لها إبرازا، فاستطار هياما، واستطاب سهرا قطع عليه ليالي وأياما، وحبّبت إليه الوحدة، وطيّبت له الخلوة، فأنس بالله وحده، ولم تزل الأبصار به معقودة، والأمصار عليه محدودة، وكان لا يزال يأوي البرّ المقفر، ويهوى الفقر المفقر، إلى أن ترقّت روحه، وأشرقت في أوجها نوحه. أصله من قرية بنهر عيسى يقال لها: الفارسية. وكان من الأبدال، لازما لطريقة السلف، أقام أربعين سنة لم يكلّم أحدا، وكان صائم الدهر، قائم الليل، يقرأ كل يوم وليلة ختمة. ذكره أبو الفرج في" صفة الصفوة" وقال: كان زاهد زمانه، وكانت السباع تأوي إلى زيارته، وكان الخليفة وأرباب الدولة يمشون إلى زيارته.

52 - أبو الحسن علي بن محمد بن غليس

وحكى عنه جماعة من أهل القرية: أن السباع كانت تنام طول الليل جواز زاويته، وإذا خرج أحد من القرية في الليل إلى نهر عيسى، لم تتعرض له. وإنّ فقيرا نام في الزاوية في ليلة باردة، فاحتلم، ونزل إلى النهر ليغتسل، فجاء السّبع، فنام على جبّته، فكاد الفقير أن يموت من البرد والخوف، فخرج الشيخ، وجاء إلى السبع وضربه بكمّه وقال: يا مبارك! قد قلنا لك لا تتعرّض لأضيافنا!، فقام السّبع يهرول!. توفي يوم عاشوراء، سنة أربع وتسعين وخمسمائة، ودفن برباطه ب" الفارسية." «1» ومنهم: 52- أبو الحسن عليّ بن محمّد بن غليس «13» رجل كان ملاذا، وملجأ في النوائب ومعاذا، يصرخ صراخ السيوف، ويطل إطلال الضراغنم تحت السجوف، بسهام لا تردّ، وسمام كأنه من أنياب الأساود يستمد، إذا رمى رمية أنفذها، وإذا أرشف بريقه عضة أكيلة وقذها، فكان في انطلاقه لا يفادى، وفي أهل صداقته لا يعادى، يمدّ يدا له ما ردّت خائبة، ولا مدّت إلا إلى إجابة غير غائبة. كان مقيما بكلّاسة دمشق. وحكى عنه العلامة أبو الحسن السخاوي قال: سمعت ابن غليس يقول: كنت مسافرا مع قافلة، فرأيت في المنام كأنّ سبعا اعترضهم، فقطع الطريق عليهم، فوقفوا حائرين، فتقدّمت إليه وقلت: يا كلب الله!، أنت كلب الله، وأنا عبد الله، فاخضع، واخنع لمن سكن له ما في السماوات والأرض، وهو السميع العليم. فذهب، وانفتحت الطريق، ثم انتبهت، فسرنا قليلا، وإذا بالقافلة قد وقفت، فسألت: ما الخبر؟ فقيل: السّبع على الطريق. فتقدّمت إليه، وهو مقع على ذنبه، فقلت ذلك الكلام، وتقدّمت إليه، فأدخلت يدي في فمه، وقلبت أسنانه!، وشممت منه رائحة كريهة.

قال السخاوي: فقلت له: إنه يأكل اللحم ولا يتخلل!. قال: وأدخلت يدي بين أفخاذه، فقلبت خصيتيه وإذا هي مثل خصي القط. وقال الشيخ ميمون الضرير: أخبرني صاحب لابن غليس قال: أمرني ابن غليس بإيقاد السراج، ولم يكن به زيت، فأوقدت الفتيلة، فوقدت!. ثم أمرني في الليلة الثانية، فأوقدتها، فوقدت!. ثم أمرني في الليلة الثالثة بإيقادها، فقلت له: لا زيت في السراج!. قال: وأيش فضولك في هذا؟، لو سكتّ لكان يقدها أبدا!. وقال أبو القاسم الفضل: مات فرس لابن غليس، فحزن عليه كثيرا، فقيل له: كم تحزن عليه؟، غيره يقوم مقامه!. فقال: إنه فرس صالح، كان معي في سفري بالعراق، فآواني الليل مع جماعة إلى قرية، وكانت ليلة باردة، ذات ريح، ومطر، فلم يقدّر لنا مكان نأوي إليه، إلا موضع صغير. فقلت لأصحابي: إن تركنا الفرس خارج البيت هلك بالبرد، وخفنا عليه، وإن أدخلناه معنا، خفنا من بوله وتلويثه الجماعة لصغر المكان!. فتقدّمت إليه وقلت له: نحن ندخلك معنا بشرط أن لا تفعل ما يتأذى به الجماعة من بول وغيره!. ثم أدخلناه، فبات ليلته لم يتحرك بحركة يتأذّى منها، ولم يبل. فلما أصبحنا، أخرجناه معنا، فلما صار خارج الباب، بال نحو قربة ماء. وكان ابن غليس يقول عن نفسه:" ابن غليس ما يسوى فليس! ". وتوفي رضي الله عنه يوم الاثنين سابع عشر شهر رمضان سنة ثمان وتسعين وخمسمائة، ودفن قبلي قبر معاوية- رضي الله عنه- بغرب مقبرة الباب الصغير. رحمه الله تعالى. «1»

53 - الشيخ أبو عمر محمد بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي

ومنهم: 53- الشّيخ أبو عمر محمّد بن أحمد بن محمّد بن قدامة المقدسيّ «13» أخو الشيخ موفق الدين الحنبلي الزاهد. رقى السماء فوق صفائحها، وأبدى الأنباء وفق صحائحها. ووالى أعماله أرسالا، وأيقظ أعماله والرياح كسالى، وعزم اعتزاما مسح بالنجوم راسه، ومسك بخيوط الغيوم أمراسه، فلم يلتفت إلى الدنيا ومغازلتها، ولا انفتل إلى مقاتلتها، على الدنايا ومنازلتها، تحليقا إلى دار نعيمها سرمدا، ونسيمها لا يرى منه من شكوى الهوى أرمدا، فقطع الغاية مسرعا، ورفع حيث أراد ممرعا، من قوم كانوا أهل علو وعلوم، وفي أموالهم حق معلوم، وكان غماما به يستسقى، وإماما عنه الدين يتلقّى. ويقال إنهم من بني الفاروق «1» ، ثم من ولده عبد الله، ولا يعرف إلى من هم بنيه، ولا إلى أب في النسب يليه، إلا أنهم في الذرية العمرية من معدن شرف، ومثوى كرم، ما يحل منه في طرف.

ولد سنة ثمان وعشرين وخسمائة، بقرية" الساويا" من أعمال نابلس «1» ، وقيل: ب" جمّاعيل". قال أبو المظفر [الواعظ] «2» سبط ابن الجوزي:" حدثني أبو عمر قال: هاجرنا في بلادنا، فنزلنا بمسجد أبي صالح بظاهر باب شرقي، فأقمنا به [مدة] ، ثم انتقلنا إلى الجبل، فقال الناس:" الصالحية، الصالحية! " ينسبونا إلى مسجد أبي صالح، لا أننا صالحون، ولم يكن بالجبل عمارة إلا دير الحوراني وأماكن يسيرة. قال أبو المظفر:" وكان معتدل القامة، حسن الوجه، عليه أنوار العبادة، لا يزال متبسّما، نحيل الجسم من كثرة الصلاة والصيام، والقيام" «3» . قرأ القرآن بحرف أبي عمرو، وحفظ" مختصر الخرقي" في الفقه، وقرأ النحو على ابن بري بمصر، وسمع الحديث بدمشق ومصر. واشتغل بالعبادة عن الرواية، وكتب [الكثير بخطه المليح من المصاحف والكتب مثل:] " الحلية" لأبي نعيم، و" تفسير البغوي"، و" المغني" لأخيه «4» ، و" الإبانة" لابن بطّة، ومصاحف كثيرة، للناس ولأهله، وكتبا كثيرة، الكل بغير أجرة. وكان يصوم الدهر، إلا من عذر، ويقوم الليل من صغره، ويحافظ على الصلوات في الجماعات، ويخرج من ثلث الليل الأخير إلى المسجد في الظلمة، فيصلي إلى الفجر، ويقرأ في كل يوم سبعين من القرآن، بين الظهر والعصر، ويقرأ بعد العشاء الآخرة آيات الحرس، و" ياسين" و" تبارك" و" الواقعة"، والمعوذتين، و" قل هو الله أحد"، وإذا ارتفعت الشمس لقّن الناس القرآن إلى وقت الضحى، ثم يقوم فيصلي ثماني ركعات، ويقرأ" قل هو الله أحد"

ألف مرة، ويزور المقابر بعد العصر في كل جمعة، ويصعد يوم الاثنين والخميس إلى مغارة الدم ماشيا بالقبقاب، فيصلي فيها ما بين الظهر والعصر، وإذا نزل جمع" الشّيح" من الجبل وربطه بحبل وحمله إلى بيوت الأرامل، واليتامى، ويحمل في الليل إليهم الدراهم، والدقيق، ولا يعرفونه، ولا ينام إلا على طهارة، ومتى فتح له بشيء من الدنيا آثر به أقاربه، وغيرهم، ويتصدّق بثيابه، وربما خرج الشتاء وعلى جسده جبّة بغير ثوب [من تحتها يتصدق بالتحتاني] ، ويبقى مدة طويلة بغير سراويل، وعمامته قطعة من بطانة، فإن احتاج أحد إلى خرقة، أو مات صغير يحتاج إلى كفن قطع له منها قطعة، وكان ينام على الحصير، ويأكل خبز الشعير، وثوبه خام إلى أنصاف ساقيه، وما نهر أحدا ولا أوجع قلب أحد، وكان يقول:" أنا زاهد ولكن في الحرام! ". ولما نزل صلاح الدين على القدس كان هو وأخوه الموفق في خيمة، فجاء العادل إلى زيارته، وهو في الصلاة فما قطعها، ولا التفت، ولا ترك ورده، وكان يصعد المنبر وعليه ثوب خام مهدول الجيب، وفي يده عصا، فما قطعها، ولا التفت، والمنبر يومئذ ثلاث مراقي، وكان يحضر الغزوات مع صلاح الدين. قال أبو المظفر «1» : وكراماته كثيرة؛ فمنها: أني صليت يوم جمعة بجامع الجبل في سنة ست وستمائة، والشيخ عبد الله اليونيني «2» إلى جانبي، فلما كان في آخر الخطبة والشيخ أبو عمر يخطب، نهض الشيخ عبد الله مسرعا، وصعد إلى مغارة توبة، وكان نازلا بها، فظننت أنه احتاج إلى وضوء أو آلمه شيء، فصلّيت وطلعت وراءه، وقلت له: خير ما الذي أصابك؟، فقال: هذا أبو عمر ما تحل خلفه صلاة!، يقول على المنبر:" الملك العادل" وهو ظالم! فما يصدق!!!. وكان أبو عمر يقول:" اللهم وأصلح عبدك الملك العادل سيف الدين أبا بكر ابن أيوب".

فقلت: إذا كانت الصلاة خلف أبي عمر لا تصح، فيا ليت شعري خلف من تصح؟. وخطر لي قول عبد الرحمن بن عوف لما رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يمشي في أزقّة المدينة، فتبعه، فأتى بيت عجوز، فدخله، قال: فدخلت لأبصر ما يصنع؟. فتواريت، وإذا به قد خرج من عندها، فدخلت بعده وقلت للعجوز: ما كان هذا يصنع عندك؟. فقالت: يحمل إليّ ما آكل ويخرج الأذى عني!!!. قال عبد الرحمن: فقلت في نفسي: ويحك يا عبد الرحمن! أعثرات عمر تتبع؟. قال أبو المظفر: وبينا نحن في الحديث، إذ دخل الشيخ، وسلّم، وحلّ مئزره وفيه رغيف وخيارتان، فكسر الجميع، وقال: بسم الله الصلاة، ثم قال ابتداء:" قد روي في الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ولدت في زمن الملك العادل كسرى) «1» . فنظر إليّ الشيخ عبد الله وتبسّم، وأكل، وقام الشيخ أبو عمر فنزل، فقال لي الشيخ عبد الله: ماذا إلا رجل صالح. قال أبو المظفر «2» : وأصابني قولنج، عانيت منه شدة، فدخل علي أبو عمر وبيده خرّوب شامي مدقوق، فقال: استفّ هذا. وكان عندي جماعة فقالوا: هذا يزيد القولنج!، ويضرّه. فما التفت إلى قولهم، وأخذته من يده فأكلته، فبرأت في الحال. قال: وجاءه رجل مغربي فقرأ عليه القرآن، ثم غاب عنه مدة، وعاد، فلازمه، فسئل عن ذلك؟ فقال: دخلت ديار بكر، فأقمت عند شيخ له زاوية وتلاميذ، فبينا هو ذات يوم جالس بكى بكاء شديدا، وأغمي عليه، ثم أفاق، وقال: مات القطب الساعة!، وقد أقيم أبو عمر شيخ الصالحية مقامه!. قال: فقلت له: ذاك شيخي!. قال: فأيش قعودك هنا؟. قم فاذهب إليه، وسلّم إليه

عني، وقل له: لو أمكنني السعي إليه لسعيت. ثم زودني، وسافرت. قال أبو المظفر: وقلت له يوما أول ما قدمت الشام- وما كان يرد أحدا في شفاعة- وقد كتب رقعة إلى الملك المعظّم:" كيف تكتب هذا والملك المعظّم على الحقيقة هو الله؟. فتبسّم، ورمى إليّ الورقة، وقال: تأمّلها. وإذا به لما كتب" الملك المعظّم" كسر الظاء، فصار" المعظّم". وقال: لا بد أن يكون يوما قد عظّم الله تعالى. قال: فعجبت من ورعه، وتحفّظه في منطقه عن مثل هذا. قال أبو المظفر: وقال أبو عمر يوما للمبارز المعتمد: قد أكثرت عليه من الرقاع والشفاعات!. فقال له: ربما تكتب إليّ في حق أناس لا يستحقون الشفاعة، وأكره ردّ شفاعتك. فقال له الشيخ: أنا أقضي حق من قصدني، وأنت إن شئت فاقبل، وإن شئت فلا تقبل. فقال: ما أردّ ورقتك أبدا. قال أبو المظفر: وكان سبب موته أنه حضر مجلسي بالجامع بقاسيون، مع أخيه الموفّق، والجماعة. وكان قاعدا في الباب الكبير، وجرى الكلام في رؤية الله ومشاهدته، واستغرقت، وكان وقتا عجيبا فقام أبو عمر من جانب أخيه، وطلب باب الجامع ولم أره، فالتفت وإذا بين يديه شخص يريد الخروج من الجامع، فصحت على الرجل: اقعد. فظنّ أبو عمر أنني أخاطبه، فجلس على عتبة باب الجامع الجوانية، إلى آخر المجلس، ثم حمل إلى الدير فكان آخر العهد به، وأقام أياما مريضا، ولم يترك شيئا من أوراده، فلما كان عشيّة الاثنين، ثامن عشر ربيع الأول سنة سبع وستمائة، جمع أهله، واستقبل القبلة، ووصاهم بتقوى الله، ومراقبته، وأمرهم بقراءة" يسن"، وكان آخر كلامه: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ «1» ، وتوفي. وغسّل وقت السّحر، ومن وصل إلى الماء الذي غسّل به نشّف به؛ النساء مقانعهنّ،

والرجال عمائمهم. ولم يتخلف عن جنازته أحد، ولما خرجوا بجنازته من الدير، كان يوما شديد الحر، فأقبلت غمامة فأظلّت الناس إلى قبره!. وكان يسمع منها دويّ كدويّ النحل. قال أبو المظفر: ولولا المبارز المعتمد والشجاع بن محارب، وسيف الدولة الحسامي ما وصل إلى قبره من كفنه شيء!. وإنما أحاطوا به بالدبابيس «1» والسيوف. وكان قبل وفاته بليلة رأى إنسان كأنّ قاسيون وقع، أو زال من مكانه، فأوّلوه: موته. ولما دفن رأى بعض الصالحين النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: من زار أبو عمر ليلة الجمعة، فكأنما زار الكعبة، فاخلعوا نعالكم قبل أن تصلوا إليه. ومات عن ثمانين سنة. قال أبو المظفر: وأنشدني أبو عمر لنفسه: ألم يك ملهاة عن اللهو أنني ... بدا لي شيب الرأس والضعف والألم ألمّ بي الخطب الذي لو بكيته ... حياتي حتى ينفد الدمع لم ألم «2» قال: وكان على مذهب السلف الصالح سمتا وهديا، وكان حسن العقيدة، متمسكا بالكتاب والسنة، والآثار المروية، يمرها كما جاءت من غير طعن على أئمة الدين وعلماء المسلمين، وكان ينهى عن صحبة المبتدعين، ويأمر بصحبة الصالحين الذين هم على سنة سيد المرسلين وخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم-. وأنشد لنفسه أيضا: أوصيكم بالقول في القرآن ... بقول أهل الحق والإتقان

54 - عبد الله بن عثمان بن جعفر بن أبي القاسم محمد اليونيني

ليس بمخلوق ولا بفان ... لكن كلام الملك الديّان آياته مشرقة المعاني ... متلوة لله باللسان محفوظة في الصدر والجنان ... مكتوبة في الصحف بالبنان والقول في الصفات يا إخواني ... كالذات والعلم مع البيان إمرارها من غير ما كفران ... من غير تشبيه ولا عطلان وقال أبو شامة «1» : أخبرني بعض أصحابنا الثقات، أنه رأى الإمام الشافعي في المنام، فسأله: إلى أين تمضي؟. قال: أزور أحمد بن حنبل، قال: فاتّبعته، أنظر ما يصنع؟. فدخل دارا، فسألت: لمن هي؟ فقيل: للشيخ أبي عمر- رحمه الله تعالى. «2» وقال أبو شامة: وأول ما وقفت على قبره وزرته، وجدت بتوفيق الله تعالى رقّة عظيمة، وبكاء، وكان معي رفيق لي، وهو الذي عرّفني قبره، وجد أيضا مثل ذلك، رحمه الله تعالى. «3» ومنهم: 54- عبد الله بن عثمان بن جعفر بن أبي القاسم محمد اليونينيّ «13» ملجأ لخائف، وملجم للسان كل مفتر وحائف، صفت له أيامه صفاء الزجاجة، ووفت

له لياليه وفاء السحب الثجّاجة، فمسّ السماء ومسحها، ومدّ النعماء وفسحها، والحق يسعده، ويقربه ولا يبعده، دامت به كل عين قريرة، ونسبته على المحاسن قديرة، وهو للمتبصر سيف لم يثلم، وللمقتصر شرف ما كلّ من رقا إليه بسلّم يسلم، فكان فضله شيء جزم به وقطع، وعلم أن غيره لو حاوله لم يستطع، تهلل به وجه الدهر وكان قد كلح، وصلح به فساده وقطّ ما صلح. قال عبد الله بن شكر اليونيني: كان الشيخ- رحمه الله تعالى- في شيبوبيّته قد انقطع في الجبل، وكانت أخته تأتيه كل يوم بقرص وبيضتين، فأتته بذلك مرة، وإذا بفقير قد خرج من عنده ومعه قرص وبيضتان، فقالت له: من أين لك هذا؟. قال: من ذاك القاعد، له شهر كل يوم يعطيني قرصا وبيضتين!. فأتته وسألته، فنهرها، وزعق فيها. «1» وقال خليل بن عبد الغني «2» الزاهد الأنصاري: كنت بحلقة الحنابلة إلى جانب الشيخ عبد الله، فقام ومعه خادمه توبة إلى الكلاسة، ليتوضّأ، وإذا برجل متختّل يفرّق ذهبا، فلما وصل إليّ أعطاني خمسة دنانير، وقال: أين سيدي الشيخ؟. قلت: يتوضأ. فجعل تحت سجادته ذهبا، وقال: إذا جاء قل له: مملوكك أبو بكر التكريتي يسلّم عليك، ويشتهي أن تدعو له. فجاء الشيخ وأنا ألعب بالذهب في عبّي، ثم ذكرت له قول الرجل، فقال توبة: من ذا يا سيدي؟. قال: صاحب دمشق؛ وإذا به قد رجع، ووقف قدام الشيخ، والشيخ يصلي، فلما سلّم أخذ السواك ودفع به الذهب، وقال: يا أبا بكر! كيف أدعو لك والخمور دائرة في دمشق؟. وتغزل امرأة وقيّة تبيعها فيؤخذ منها قراطيس؟. فلما راح أبطل ذلك، وكان الملك العادل. وقال محمد بن أبي الفضل: كنت عند الشيخ، وقد جاء إليه المعظّم، فلما جلس عنده، قال: يا سيدي! ادع لي. قال: يا عيسى لا تكن نحس «3» مثل أبيك!. فقال: يا سيدي وأبي

كان نحس؟. قال: نعم. أظهر الزغل «1» ، وأفسد على الناس المعاملة، وما كان محتاج!. قال: فلما كان الغد، أخذ الملك المعظّم ثلاثة آلاف دينار، وطلع إلى عند الشيخ بها، وقال: هذه تشتري بها ضيعة للزاوية. فنظر إليه، وقال: قم يا ممتحن، يا مبتدع!، لا أدعو الله تنشق الأرض وتبتلعك، ما قعدنا على السجاجيد حتى أغنانا، تحتي ساقية تجري ذهب وساقية تجري فضة!، أو كما قال «2» . وقال أبو طالب النجار: أنكر الشيخ عبد الله على صاحب بعلبك، وكان يسميه" مجيد"، فأرسل إليه الأمجد يقول: إن كانت بعلبك لك فأشتهي أن تطلقها لي، فلم يبلّغه رسول الأمجد شيئا. وقال أبو المنى خادم الشيخ مسعود الحمصي: كنت ليلة جالسا أكبّس الشيخ، وإذا به قد ضمّ رجليه، وقام. فقلت في نفسي: خرج مجددا وضوءا. قال: فأبطأ علي، فخرجت أطلبه، فلم أجده، فبقيت أنتظره إلى أن عاد، فكبّسته، ثم قام، وخرج، وعاد، فبقي في نفسي شيء، فقال: مالي أراك؟، أيش في نفسك؟. قلت: أنت تدري. قال: ويحك، كان الشيخ عبد الله اليونيني قد خرج يزور جبال العراق فودّعته، إلى الفرات، ثم رجع فودعته ثم ناولني منشفة بغدادية وقال لي: هذه أعطانيه الشيخ، أو ما هذا معناه. وقال أبو الحسن علي بن عثمان الموصلي: حضرت مجلس الشيخ الفقيه ببعلبك، وهو على المنبر، فسألوه أن يحكي شيئا من كرامات الشيخ عبد الله، فقال بصوت جهير: كان الشيخ عبد الله عظيم «3» ، كنت عنده، وقد ظهر من ناحية الجبل سحابة سوداء مظلمة، ظاهر منها العذاب، فلمّا قربت قام الشيخ، وقال: إلى بلدي؟ ارجعي، فرجعت السحابة.

ولو لم أسمع هذه الحكاية من الفقيه ما صدّقت «1» . وقال الشيخ محمد السكاكيني، وكان لا يكاد يفارق الشيخ، قال: دعاني إنسان، وألحّ عليّ؛ [فأتيته] فقلت: كيف أخلي الشيخ؟ فقال: لا بدّ من هذا. فلما كان الليل، قلت في نفسي: يكون الشيخ في الجبل، وأنا ها هنا، فقمت، وطلعت من السور، من عند عمود الراهب، وجئت إلى الزاوية، فإذا الشيخ ظاهرها وهو يقول: يا مولاي! ترسل إليّ الناس في حوائجهم؟، من هو أنا حتى ترسلهم إليّ؟. اقضها أنت لهم يا مولاي!. إبراهيم النصراني من جبّة بشرّي «2» ، يا مولاي!، ودعا له، فبهتّ لذلك، ونمت، ثم قمت إلى الفجر، وبقيت عنده يومئذ إلى الليل. فلما كان الليل وأنا ظاهر الزاوية، إذا بشخص، فقلت: أيش تعمل هنا؟. وإذا هو إبراهيم النصراني!. من" جبة بشرّي"، قلت: أيش جابك؟. قال: أين الشيخ؟. قلت: يكون في المغارة، وأيش تريد به؟. قال: رأيت البارحة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: تروح إلى الشيخ عبد الله، وتسلم على يده، فقد شفع فيك!. فرحنا إلى الشيخ وإذا به في المغارة، فلما رآه الشيخ، قال: يا سيد! أيش بك؟. فقصّ عليه ما رأى، فتفجّرت عينا الشيخ، وغرغرت بالدموع، وقال:" سماني رسول الله- صلى الله عليه وسلم- شويخ!؟. فأسلم إبراهيم، وجاء منه رجلا صالحا «3» . وقال عبد الصمد: والله الذي لا إله إلا هو، مذ خدمت الشيخ عبد الله، ما رأيته استند على شيء، ولا سعل، ولا تنحنح، ولا بصق «4» .

وقال الفقيه محمد اليونيني «1» : حضرت الشيخ عبد الله مرّتين، وقد سأله ابن خاله حميد بن برق، فقال: زوجتي حامل، إن جاءت بولد ما اسميه؟. قال: سمّ الواحد سليمان، والآخر داود!. فولدت اثنين توأما. وقال له ابنه محمد: امرأتي حامل، إن جاءت بولد ما أسميه؟. قال: سمّ الأول عبد الله، والثاني: عبد الرحمن! «2» . وقال سعيد المارديني: جاء رجل من بعلبكّ إلى الشيخ، فقالوا: جاءت الفرنج. قال: فمسك لحيته، وقال: هذا الشيخ النحس ما قعوده ها هنا؟. فردّت الفرنج!. وقال أبو المظفر سبط ابن الجوزي في" مرآة الزمان" «3» : عبد الله اليونيني أسد الشام، كان صاحب رياضات ومجاهدات، وكرامات وإشارات، لم يقم لأحد تعظيما لله؛ وكان يقول: لا ينبغي القيام لغير الله. صحبته مدة، وكان لا يدّخر شيئا، ولا يمس دينارا ولا درهما، وما لبس طول عمره سوى الثوب الخام، وقلنسوة من جلد ما عز تساوي نصف درهم، وفي الشتاء يبعث له بعض أصحابه فروة، فيلبسها، ثم يؤثر بها في البرد. قال لي يوما ببعلبكّ: يا سيدي!، أنا أبقى أياما في هذه الزاوية ما آكل شيء «4» !. فقلت: أنت صاحب القبول، كيف تجوع؟. قال: لأن أهل بعلبكّ يتّكل بعضهم على بعض، فأجوع أنا. فحدّثني خادمه عبد الصمد، قال: كان يأخذ ورق اللوز يفركه، ويستفّه!.

وكان الملك الأمجد يزوره، فكان الشيخ يهينه، فما قام له يوما، وكان يقول: يا مجيد! أنت تظلم وتفعل، وهو يعتذر إليه. وأظهر الملك العادل قراطيس سودا، فقال الشيخ عبد الله: انظروا إلى هذا الفاعل الصانع، يفسد على الناس معاملاتهم، فبلغ العادل ذلك، فأبطلها «1» . وكنت اجتمعت به في سنة ستمائة إلى سنة ثلاث، وكان له تلميذ اسمه توبة. وسافرت إلى العراق سنة أربع، وحججت، فلما كان يوم عرفة، صعدت جبل عرفات، فإذا بالشيخ عبد الله قاعد مستقبل القبلة، فسلّمت عليه، فرحّب بي وسألني عن طريقي؟، وقعدت عنده إلى وقت الغياب، ثم قلت: ما نقوم نروح إلى المزدلفة؟. فقال: اسبقني؛ فلي رفاق. فأتيت مزدلفة ومنى، فدخلت مسجد الخيف، فإذا بالشيخ توبة، فسلّم عليّ، فقلت: أين نزل الشيخ؟. فقال: أيّما شيخ؟. قلت: عبد الله اليونيني. قال: خلّفته ببعلبكّ. فقطّبت «2» ، وقلت: مبارك. ففهم، وقبض على يدي وبكى، وقال: بالله حدثني، أيش معنى هذا؟. قلت: رأيته البارحة على عرفات. ثم رجعت إلى بغداد، ورجع توبة إلى دمشق، وحدّث الشيخ عبد الله، ثم حدثني الشيخ توبة، قال: قال لي ما هو صحيح منك، فلان فتى، والفتى لا يكون غمّازا، فلما عدت إلى الشام عتبني الشيخ. قال سبط ابن الجوزي: وحدّثني الجمال [بن] «3» يعقوب، قاضي [كرك] البقاع «4» ، قال: كنت عند الجسر الأبيض، وإذا بالشيخ عبد الله قد جاء ونزل إلى ثورا، وإذا بنصراني عابر، ومعه بغل عليه حمل خمر، فعثر البغل ووقع، فصعد الشيخ وقال: يا فقيه! تعال. فعاونته

حتى حملناه، فقلت في نفسي: أيش هذا الفعل؟. ثم مشيت خلف البغل إلى العقيبة، فجاء إلى دكان الخمّار، فحلّ الظرف وقلبه، وإذا به خل!. فقال له الخمّار: ويحك هذا خل!. فبكى، وقال: والله ما كان إلا خمرا من ساعة، وإنما أنا أعرف العلة، ثم ربط البغل في الخان، وعاد إلى الجبل، وكان الشيخ قد صلى الظهر عند الجسر في مسجد، فدخل عليه النصراني، وأسلم، وصار فقيرا «1» . قال أبو المظفر «2» : وكان الشيخ شجاعا، ما يبالي بالرجال، قلّوا أو كثروا، وكان قوسه ثمانين رطلا، وما فاتته غزاة في الشام قطّ. وكان يتمنى الشهادة، ويلقي نفسه في المهالك. فحكى لي خادمه عبد الصمد: قال: لما دخل العادل إلى بلاد الفرنج، إلى صافيتا، قال لي الشيخ ببعلبكّ: انزل إلى عبد الله الثقة، فاطلب لي بغلته، قال: فأتيته بها، فركبها، وخرجت معه فبتنا في يونين، وقمنا نصف الليل، فجئنا المحدثة الفجر، فقلت له: لا تتكلم فهذا مكمن الفرنج. فرفع صوته وقال: الله أكبر، فجاوبته الجبال، فيبست من الفزع!، ونزل فصلى الفجر، وركب، فطلعت الشمس، والطير لا يطير في تلك الأرض، وإذا قد لاح في ناحية حصن الأكراد طلب أبيض، فظنهم" الأسبتار" «3» ، فقال: الله أكبر، ما أبركك من يوم!. اليوم أمضي إلى صاحب. وساق إليهم وشهر سيفه، فقلت في نفسي: شيخ وتحته بغلة، وبيده سيف، يسوق إلى طلب فرنج!. فلما كان بعد لحظة وقربوا، إذا هم بمائة حمير وحش، فانكسر قلبه، وفترت همته، وجئنا إلى حمص، فجاء الملك المجاهد أسد الدين، وقدّم له حصانا من خيله، فركبه، ودخل معهم، وفعل عجائب.

وكان يقول للفقيه محمد: فيّ وفيك نزلت: إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ «1» أنا من الرهبان، وأنت من الأحبار! «2» وقال كمال الدين ابن العديم في" تاريخ حلب" «3» : أخبرني الشيخ محمد اليونيني، قال: سمعت الشيخ عبد الله اليونيني ينشد: شفيعي إليكم طول شوقي إليكم ... وكلّ كريم للشفيع قبول وعذري إليكم أنني في هواكم ... أسير ومأسور الغرام ذليل فإن تقبلوا عذري فأهلا ومرحبا ... وإن لم تجيبوا فالمحبّ حمول سأصبر، لا عنكم ولكن عليكم ... عسى لي إلى ذاك الجناب وصول وأخبرني الشيخ محمد قال: كان الشيخ يصلي بعد العشاء الآخرة وردا إلى قريب ثلث الليل، فكان ليلة يعاتب ربه عز وجلّ، ويقول: يا رب! الناس ما يأتوني إلا لأجلك، وأنا قد سألتك في المرأة الفلانية، والرجل الفلاني أن تقضي حاجته، وما قضيتها، فهكذا يكون؟. ويبكي ليله وينتحب. وليلة يتمثل بهذه الأبيات، وكان يتمثل بها كثيرا. «4» قال: وأخبرني القاضي شمس الدين عبد الله الحنفي النائب بدمشق، قال: حكى رجل من الفقراء كان قد صحب الشيخ عبد الله اليونيني، وكان في صباه حماميا، قال: دعتني نفسي إلى معاشرة النساء، فبينا أنا عند امرأة، وإذا زوجها قد جاء، فدقّ الباب، فحرت، وكان بيتها صغيرا، فصعدت السطح، فدخل زوجها، فرآها متغيرة، فقال: مالك؟. قالت: لا شيء. فارتاب، وصعد السطح.

قال: ونظرت والله إلى عمامته وهو في السلّم صاعد. فقلت:" يا سيدي الشيخ عبد الله!، أنا في حسبك". فطلع، فلم يرني، ونزل، وبقي في بيته ساعة، وخرج. فنزلت، ومضيت إلى الشيخ، فقال: ويلك يا مدبر! تتستّر بنا، وتستعين بنا على المعاصي؟!. قال ابن العديم: وقد صحبته، ووهب لي قميصا له أزرق، وقال لي يوما ببيت المقدس: يا أبا القاسم! اعشق تفلح!. فاستحييت، وذلك في سنة ثلاث وستمائة. وعدت مع والدي. ثم بعد مدة سارّني بجامع دمشق، وقال: عشقت بعد؟. فقلت: لا. قال: شه عليك. واتفق أني تزوجت بعد ذلك بسنة، وملت إلى الزوجة ميلا عظيما، فما كنت أصبر عنها. «1» قال لي الفقيه محمد «2» : كنت عند الشيخ، فالتفت إلى داود المؤذّن، فقال: وصيّتك بي غدا، فظنّ المؤذن أنه يريد يوم القيامة. وكان ذلك يوم الجمعة، وهو صائم، فلما جاء وقت الإفطار، قال لجاريته: يا درّاج! أجد عطشا. فسقته ماء لينوفر، فبات تلك الليلة، وأصبح وجلس على حجر، موضع قبر، مستقبل القبلة، فمات وهو جالس، ولم يعلم بموته، حتى حرّكوه، فوجدوه ميتا، فجاء المؤذّن وغسّله، رحمه الله تعالى «3» .

قال الفقيه «1» : كنت عند الشيخ يوما؛ فجاءه رجلان من العرب، فقالا: نطلع إليك؟. قال: لا. فذهب أحدهما وجلس الآخر، فقال الشيخ: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ «2» ، ثم قال له: اطلع. وطلع، فأقام عندنا أياما، فقال له الشيخ: تحب أن أريك قبرك؟. قال: نعم. فأتى به المقبرة، فقال: هذا قبرك!. فأقام بعد ذلك اثني عشر يوما، أو أربعة عشر يوما، ثم مات، فدفن في ذلك المكان!. وكان له زوجة، ولها بنت، فطلبت أن يزوجني بها، فتوقّفت أمها، وقالت: هذا فقير ما له شيء. فقال: والله إني أرى دارا قد بنيت له، وفيها ماء جار، وابنتك عنده في الإيوان، وله كفاية على الدوام، فقالت: ترى هذا؟. قال لها: نعم. فزوّجتنيها، ورأت ذلك، وأقامت معي سنين، وذلك سنة محاصرة الملك العادل سنجار. وكانت امرأة بعد موتها تطلب زواجي، وتشفّعت بزوجة الشيخ، فلما أكثرت عليّ، شكوتها إلى الشيخ، فقال: طوّل روحك يومين، ثلاثة، ما تعود تراها. قال: فقدم ابن عمها من مصر أمير كبير بعد أيام، فتزوّج بها، وما عدت رأيتها. قال ابن العديم: توفي في عشر ذي الحجة، سنة سبع عشرة وستمائة، وهو صائم، وقد جاوز الثمانين. وكان رحمه شيخا طوالا، مهابا، كأنه نار، وكان يقوم نصف الليل إلى الفقراء، فمن رآه

نائما ضربه، وكان له عصاة اسمها" العافية" «1» . وكان شجاعا في الله، وبالله، كثير الأذكار والحضور، يغار ممن يذكر اسم" الجبّار" بغير استحضار، وله هيبة على المشايخ والفقراء، لا يستطيع الإنسان أن يطيل النظر إليه، وكان لا تأخذه في الله لومة لائم. وقال الشيخ شمس الدين محمد بن العماد نزيل مصر: ما سمي أحد بأسد الشام إلا الشيخ عبد الله اليونيني. وقال الشيخ علي القصار: كنت إذا رأيت الشيخ عبد الله أهابه كأنه أسد، فإذا دنوت منه، وددت أني أشق قلبي وأجعله فيه «2» . رحمه الله تعالى.

55 - الشيخ يونس بن يوسف بن مساعد الشيباني، المخارقي، المشرقي، القنيي

ومنهم: 55- الشّيخ يونس بن يوسف بن مساعد الشّيبانيّ، المخارقيّ، المشرقيّ، القنيّيّ «13» شيخ الفقراء اليونسية. رجل لم يكن في التقوى محرّجا، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً «1» ، توالت عليه العصب، وقام له العدو وانتصب فردّ خائبا، وفرّ دون لقائه آئبا، فتوكل له ربه، وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ «2» ، فكشف له الغطاء، ووكف له العطاء، وأنافت له غدر المواهب، وأشرقت به غدائر الغياهب، وكانت لياليه مشكاة لأنوار، ومشكاة لأوار، وعزائمه تسعّر لجج السيوف وتوقدها، وطائفته شاكية السلاح، شافية في أهل الصلاح، طالما حلّوا الدهر همما، وأشبهوا الصحاب دمما، واتّزروا بزيّ غريب من طرّة عجيب نظره، ولم يكن من انتموا إليه وارتموا عليه على طريقتهم التي سلكوها، وحقيقتهم التي ضيّعوها بعد أن ملكوها. قال ابن خلّكان: [وسألت جماعة] من أصحابه عن شيخه من كان؟. فقالوا: لم يكن له شيخ؛ بل كان مجذوبا، وهم يسمون من لا شيخ له ب" المجذوب"، يريدون بذلك أنه جذب إلى طريق الخير والصلاح، ويذكرون له كرامات.

وقال ابن خلّكان «1» : أخبرني الشيخ محمد بن أحمد بن عبيد، كان قد رآه وهو صغير، وذكر أن أباه أحمد كان صاحبه، فقال: كنا مسافرين والشيخ يونس معنا، فنزلنا في الطريق على عين بوار، وهي التي يجلب منها الملح البواري، وهي بين سنجار وعانة، قال: وكانت الطريق مخوفة، فلم يقدر أحد منا أن ينام منشدة الخوف، ونام الشيخ يونس، فلما انتبه قلت له: كيف قدرت تنام؟. فقال لي: والله ما نمت حتى جاء إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، وتدرّك الفعل «2» . فلما أصبحنا رحلنا سالمين ببركة الشيخ يونس. «3» قال: وعزمت مرة على دخول نصيبين، وكنت عند الشيخ يونس في قريته، فقال: إذا دخلت البلد فاشتر لأم مساعد كفنا، قال: وكانت في عافية، وهي أم ولده، فقلت له: وما بها حتى نشتري لها كفنا؟. فقال: ما يضر، فذكر أنه لما عاد وجدها قد ماتت! «4» . وذكر له غير هذا من الأحوال والكرامات. وأنشدني له مواليا، وهو «5» : أنا حميت الحمي وانا سكنتو فيه ... وأنا رميت الخلايق في بحار التيه من كان يبغي العطا مني أنا اعطيه ... أنا فتى ما أداني من به تشبيه قال ابن خلّكان: وذكر لي الشيخ محمد المذكور أن الشيخ يونس توفي سنة تسع

56 - الساوجي شيخ القلندرية جمال الدين محمد الزاهد

عشرة وستمائة في قريته، وهي" القنيّة" «1» ، من أعمال" دارا"، وقبره مشهور بها يزار، وكان قد ناهز تسعين سنة من عمره. رحمه الله تعالى. ومنهم: 56- السّاوجي شيخ القلندريّة جمال الدّين محمد الزّاهد «13» أليف حال لو صبّ على الصخر لتصدّع، ولو استوقف به المفارق لما ودّع، هام بالحب فتيّمه، وأنكله مذ أحبّ وأيّمه، شهدت البصائر من حاله ما أعجب، ومن فرط بكائه وانهماله ماء لولا النار لأعشب، فحمّل إنسان عينيه ما لم يطق، وسقي بكأس مذ شرب منه لم يفق. وكان في مبدأ أمره إذ قدم دمشق بطلب العلم مشتغلا، وفي لهب الجد مشتعلا، ثم شمّر للزهد إزاره، وانقطع سواء من هجره أو زاره، وأقام مجاورا لمحلّة الأموات، وجارا للأعظم الرّفات، ثم حلق شعر لحيته ورأسه، واتخذه شعارا لأناسه، فلم يزل ريا لأتباعه، وحلية لضباع قاعه وسباعه، وربما أتى هو وبعض ذويه بمخاريق وكرامات، للإنكار فيها طريق، وأصحابه يرمون باستعمال المسكر، إلا أنه الذي لا يعصر، والمسكر الذي يفعل فعل المدام، ولا يعرف وينكر. قدم دمشق، وقرأ القرآن والعلم، وسكن بجبل قاسيون بزاوية الشيخ عثمان الرومي، وصلى به مدة. ثم حصل له زهد، وفراغ عن الدنيا، فترك الزاوية وانملس «2» ، وأقام بمقبرة الباب الصغير، قريبا من الموضع الذي بني فيه القبة لأصحابه، وبقي مدة في قبّة زينب بنت زين العابدين، فاجتمع فيها بالجلال الدركزيني، والشيخ عثمان كوهي الفارسي، الذي دفن بالقنوات، بمكان القلندرية. ثم إن السّاوجي حلق وجهه ورأسه، فانطلى على أولئك حاله، فوافقوه، وحلقوا.

ثم فتّش أصحاب الشيخ عثمان [الرومي] على السّاوجي فوجدوه بالقبة فسبّوه، وقبّحوا فعله، فلم ينطق ولا ردّ عليهم. ثم اشتهر وتبعه جماعة وحلقوا، وذلك في حدود العشرين وستمائة. ثم لبس دلق شعر، وسافر إلى دمياط، فأنكروا حاله وزيّه، فرنق بينهم ساعة، ثم رفع رأسه، وإذا هو بشيبة- فيما قيل- كبيرة بيضاء. فاعتقدوا فيه «1» ، وضلّوا به، حتى قيل: إن قاضي دمياط وأولاده، وجماعة حلقوا لحاهم، وصحبوه، والله أعلم بصحة ذلك. «2» وتوفي بدمياط بعد العشرين وستمائة. وقبره بها مشهور، وله هناك أتباع. وذكر شمس الدين الجزري في تاريخه «3» : أنه رأى كراريس من" تفسير" القرآن الكريم للشيخ جمال الدين السّاوجي، وبخطه. وجلس في المشيخة بعده بمقبرة الباب الصغير، جلال الدين الدركزيني، وبعده: الشيخ محمد البلخي، وهو- أعني البلخي- من مشاهير القوم، وهو الذي شرع لهم الجولق الثقيل، وأقام الزاوية، وأنشأها، وكثر أصحابه. وكان للملك الظاهر فيه اعتقاد، فلما تسلطن طلبه، فلم يمض إليه. فبنى لهم السلطان هذه القبة من مال الجامع. وكان إذا قدم يعطيهم ألف درهم وشقتين من البسط، ورتّب لهم ثلاثين غرارة قمح، في السنة، وعشرة دراهم في اليوم. وكان السويداوي منهم يحضر سماط السلطان الملك الظاهر ويمازح السلطان. ولما أنكروا في دولة الأشرف موسى على عليّ الحريري أنكروا على القلندرية- وتفسيرها بالعربيّ المحلّقين- ونفوهم إلى قصر الجنيد. «4» وذكر ابن إسرائيل الشاعر: أن هذه الطائفة ظهرت بدمشق سنة نيّف عشرة وستمائة. ثم أخذ يحسّن حالهم.

57 - الشيخ عبد الله بن يونس الأرمني الحنفي

ومنهم: 57- الشّيخ عبد الله بن يونس الأرمني «1» الحنفيّ «13» الشيخ، الزاهد، القدوة. قدوة لمّا عصم، وأسوة فيما علم، فطفق يفيض المواهب، وطفح جدوله ليغيض الغياهب، ولم يزل منتابا، ومؤملا يهدي مرتابا، وكشف لبصيرته، وأشرف بسريرته، وأدلج إلى الآخرة يحدي به مطايا النفوس، حتى زف إلى لحده زفاف العروس، وأطبق ملحده عليه، وعلى ما تبعه من النفوس، ثم خلا بعمله، وخلف المحلف خاليا بعد له، وذهب لم يطمس له منار، ونزل الجنة، والقلوب بعد في نار. أصله من أرمينية الروم، وجال في البلاد، ولقي الصلحاء والزهّاد، وكان صاحب أحوال ومجاهدات، وكان سمحا، لطيفا، متعفّفا، لازما لشأنه، مطّرح التكلف. ساح مدة وبقي يتقنّع بالمباحات، وكان متواضعا، سيّدا، كبير القدر، له أصحاب ومريدون، ولا يكاد يمشي إلا وحده، ويشتري الحاجة بنفسه، ويحملها. وكان قد حفظ القرآن، وكتاب القدوري، فوقع برجل من الأولياء فدلّه على الطريق إلى الله «2» توفي تاسع عشرين شوال سنة إحدى وثلاثين وستمائة. وكانت له جنازة مشهودة. وزاويته مطلة على قبر الشيخ موفق الدين بسفح قاسيون، ودفن جوار الزاوية «3» رحمه الله تعالى.

58 - شهاب الدين السهروردي

ومنهم: 58- شهاب الدّين السّهرورديّ «13» أبو حفص، عمر بن محمد بن عبد الله بن محمد بن [عمر بن] عمّويه. واسمه عبد الله بن سعد بن الحسين بن القاسم بن النضر بن القاسم بن سعد ابن النضر بن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق الملقب: شهاب الدين السّهروردي. «1» رأس سنّة وجماعة، ورحا سنة ذات مجاعة. كان الغيث يستهلّ من فروج أصابعه، وتستقي البحار من منابعه، مع اعتزائه إلى نسب صدّيقيّ، واعتزازه منه بحسب حقيقي، وإجلال الخلفاء لمحله، وانتساب الوفاء إلى حرمه وحلّه، ونظره في العلم نظرا يعدّ به من الفقهاء، وشغل أوقاته شغلا ما قرّ للالتهاء. وكان في أول أمره ومقتبل عمره- على شدة فاقته، وعدم قدرته على الدنيا وطاقته- يعطي عطاء المكثرين، ويهب هبات المثرين، مع فقر يعضّ عليه، ويغضّ بصر أمله لديه، لعفّة ما زالت تحل له رتاجا، وتوسع عليه فلا تدعه محتاجا، إلى أن صار من ذوي الثراء، والنعم والإثراء، وعلا مقاما كان له سعدا، وتمّ تماما كان له إرثا من آبائه حتى يعد معدّا. وكان فقيها شافعي المذهب، شيخا صالحا ورعا، كثير الاجتهاد في العبادة والرياضة، وتخرّج عليه خلق كثير، من الصوفية في المجاهدة والخلوة، ولم يكن في آخر عمره في عصره مثله. «2»

وصحب عمّه أبا النجيب «1» ، وعنه أخذ التصوف والوعظ، والشيخ أبا محمد عبد القادر بن أبي صالح الجيلي، وغيرهما، وانحدر إلى البصرة إلى الشيخ أبي محمد بن عبد، ورأى غيرهم من الشيوخ، وحصّل طرفا صالحا من الفقه والخلاف، وقرأ الأدب، وعقد مجلس الوعظ سنين. وكان شيخ الشيوخ ببغداد، وكان له مجلس وعظ، وعلى وعظه قبول كثير، وله نفس مبارك. حكى من حضر مجلسه أنه أنشد يوما على الكرسي: لا تسقني وحدي فما عوّدتني ... أني أشحّ بها على جلاسي أنت الكريم ولا يليق تكرّما ... أن يعبر الندماء دور الكاس فتواجد الناس لذلك، وقطعت شعور كثيرة، وتاب جمع كبير. «2» قال ابن خلّكان «3» : ورأيت جماعة ممن حضروا مجلسه وقعدوا في خلوته وتسليكه- كجاري عادة الصوفية- فكانوا يحكون غرائب مما يطرأ عليهم فيها وما يجدونه من الأحوال الخارقة، وكان قد وصل رسولا إلى إربل، من جهة الديوان العزيز، وعقد بها مجلس وعظ، ولم تتفق لي رؤيته لصغر السن. وكان كثير الحج، وربما جاور في بعض حججه، وكان أرباب الطريق من مشايخ عصره يكتبون إليه من البلاد صورة فتاوى يسألونه عن شيء من أحوالهم. سمعت أن بعضهم كتب إليه:" يا سيدي! إن تركت العمل أخلدت إلى البطالة، وإن عملت داخلني العجب، فأيهما أولى؟ ".

فكتب جوابه:" اعمل واستغفر الله تعالى من العجب". «1» وحكى الوداعي عن الشيخ قطب الدين بن القرطبي قال: حضرت مجلس الشيخ شهاب الدين السهروردي بمكة، وهو يعظ، فأنشد في خلال وعظه: هو الحمى ومغانيه مغانيه ... فانزل وعاين بليلى ما تعانيه ما في الصحاب أخو وجد أطارحه ... حديث نجد ولا صبّ أجاريه فقام إليه فقير فقال: أنا أطارحك أيها الواعظ!، وجلس ووضع رأسه بين ركبتيه، فقال الشيخ: جهّزوا أخاكم فإنه قد مات!. فقاموا إليه فوجدوه قد مات، فجهّزوه، وواروه. وله كتاب:" عوارف المعارف" ذكر فيه أبياتا لطيفة منها: أشمّ منك نسيما لست أعرفه ... أظنّ لمياء جرّت فيك أذيالا وذكر فيه أيضا: إن تأمّلتكم فكلّي عيون ... أو تذكّرتكم فكلي قلوب ومن شعره أيضا قوله: تصرّمت وحشة الليالي ... وأقبلت دولة الوصال وصار بالوصل لي حسودا ... من كان في هجركم رثى لي وحقّكم بعد إن حصلتم ... بكل ما فات لا أبالي أحييتموني وكنت ميتا ... وبعتموني بغير غالي تقاصرت عنكم قلوب ... فيا له موردا حلالي عليّ ما للورى حرام ... وحبّكم في الحشا حلالي ترّبت أعظمي هواكم ... فما لغير الهوى وما لي فما على عادم أجاجا ... وعنده أعين الزلال «2»

وقوله: ربع الحمى مذ حللتم معشب نضر ... يروق أكنافه يزهو بها النظر لا كان وادي الغضالا تنزلون به ... ولا الحمى سحّ في أرجائه المطر ولا الرياح وإن رقّت نسائمها ... إن لم تفد نشركم لا ضمّها سحر ولا رقت عبرتي حتى يكون لمن ... ذاق الهوى وصبّا في عبرتي عبر «1» وقوله: يطوي اللبيب صحائف الأمل ... قبل اقتحام طلائع الأجل قد شاب مشوب حظه [ ... ] «2» ... ذهب الكلال بلذة الكلل وقوله: أيا صاحي وقد سئمت السرى فمن ... إليّ بعين تذوق الكرى أرى نارهم والهوى سائقي ... وقد هيّج الشوق من أسهرا وقد دار في القلب كأس الهوى ... وذو الوجد لا بدّ أن يسكرا ولوعي بسكان دار العقيق ... رخيص بروحي أن يشترى مولده: بسهرورد، في أواخر رجب، أو أوائل شعبان، الشك منه، سنة تسع وثلاثين وخمسمائة. وتوفي: في مستهلّ المحرم سنة اثنين وثلاثين وستمائة، ببغداد، ودفن من الغد بالوردية. رحمه الله تعالى.

59 - غانم بن علي بن إبراهيم بن عساكر بن الحسين

ومنهم: 59- غانم بن عليّ بن إبراهيم بن عساكر بن الحسين «13» الشيخ، القدوة، الزاهد، أبو عليّ، الأنصاريّ، السّعديّ، المقدسيّ، النّابلسيّ. أحد مشايخ الطرق. باب من حضرة القدس، وآب ولم يطأ غير الكواكب ولم يدس، ففاء ظلالا، وأضاء هلالا، وورد مشرعة، وحمل حمل السحاب المقبل مسرعة، ورمى بمريديه على الشريعة حتى سقاهم زلالها، ووقاهم فرق الفرقة وضلالها، وتألّقت له الأنوار فمشى في أضوائها، وتألقت له الأنواء فسرى في أنوائها، ولم يعدل بليلى حبيبة، ولا عدى نجدا وكتيبة، خبا لرامة وسفوحها، وآرام وحرّة وسنوحها، فهمى وهام، ودلّ على وقته السهام. ولد بقرية بورين، من عمل نابلس، سنة اثنتين وستين وخمسمائة. وسكن القدس، عام أنقذه السلطان من الفرنج سنة ثلاث وثمانين، وساح بالشام، ورأى الصالحين. وكان زاهدا، عابدا، مخبتا، قانتا لله، مؤثرا للخمول والانقباض، صاحب أحوال وكرامات. حكى ابنه الشيخ عبد الله: أنّ أباه أخبره أن رجلا من الصدّيقين اجتمع به ساعة، قال: فلما وقعت يدي في يده انتزعت الدنيا من قلبي، ولما نهضت قال لي: وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى . «1» فجعلت هذه الآية قدوتي إلى الله تعالى، وسلكت بها في طريقي، وجعلتها نصب

عيني لكلّ شيء قالته لي نفسي. فإن قالت لي: كل. أجوع، وإن قالت: نم، سهرت، وإن قالت: استرح، أتعبتها. قال ابنه عبد الله: انقطع أبي رحمه الله تعالى تحت الصخرة في الأقباء السليمانية سنة ستين، وصحب الشيخ عبد الله الأرموي، بقية عمره، وعاشا جميعا مصطحبين. قال: وحجّ ثلاث مرات محرما من القدس، فقال: رجعت من الحج، وأنا مريض، لا أستطيع الكلام، فانطرحت في البرّيّة، فجاءني مغربي، فسلّم عليّ، فأومأت له، فقال: قم. فأقامني، وجعل يده تحت جناحي، ثم سار بي يحدّثني بما أنا فيه، وبما يكون مني، لا أشكّ أني سائر في الهواء، غير أني قريب من الأرض مقدار ساعة، ثم قال: اجلس!، ونم، فنمت ونام معي، فاستيقظت، فلم أجده!. ووجدت نفسي قريبا من الشام، وأنا طيّب، ولم أحتج بعد ذلك إلى طعام ولا شراب حتى دخلت بيت المقدس. قال: [ثم أخذ ولده عبد الله يصف توكّله وفناءه ومحبّته ورضاه، ومقاماته، وأن أخلاقه كريمة، وهيبته عظيمة، وأنه] «1» بقي عشرين سنة بقميص واحد، وطاقية على رأسه، ثم سأله الفقراء أن يلبس جبّة، فلبس، وأنه ما لقي أحدا إلا ابتسم له. قال: ورأيت ابن شير المغربيّ، وحجّ سنة، ثم قدم وحضر عند الفقراء، فقال: كيف كان وصول الشيخ؟. قالوا: الشيخ ما حجّ. فقال: والله لقد سلّمت عليه على الجبل وصافحته. ثم أتى إليه وسلّم عليه، وقال: يا شيخ غانم! أما سلّمت عليك بالجبل؟. فتبسّم وقال: يا شمس الدين! هذا يكون بحسن نظرك، والسكوت أصلح. وحكى الشيخ القدوة إبراهيم [بن عبد الله] الأرمويّ قال: حضرت مع والدي سماعا حضره الشيخ غانم، والشيخ طيّ، والشيخ علي الحريري، فلما تكلم الحادي حصل للشيخ غانم حال، فحملني وقام بي، ودار مرارا، فنظرت، فإذا بي في غير ذلك الموضع، ورأيت

60 - عبد الله بن عبد العزيز اليونيني

شخصا خارجا من باب حديقة، وهو يسوق بقرة، فهالني ذلك. فلما جلس بي الشيخ، قال له الشيخ طيّ أو غيره: أيش كانت وظيفة ولد الشيخ عليك في هذه القومة؟. فلم ينطق. فقال والدي: الشيخ عبد الله فرّج ولدي في إقليم الهند وجاء!. فسكت الشيخ غانم. هذه الحكاية يرويها قاضي القضاة أبو العباس بن صصرى، والشيخ علاء الدين علي ابن شيخنا شمس الدين محمد سبط الشيخ غانم. «1» وتوفي الشيخ غانم في غرة شعبان سنة اثنتين وثلاثين وستمائة، ودفن في الحضرة التي فيها صاحبه ورفيقه الشيخ عبد الله الأرموي، بسفح قاسيون. رحمه الله تعالى. ومنهم: 60- عبد الله بن عبد العزيز اليونينيّ «13» من أصحاب الشيخ عبد الله اليونيني الكبير. قمر طلع منيرا تماما، واقتلع ثبيرا وشماما، من قوم رفعوا عقوق الأعذار، ورقعوا خروق الأعمار، وطبعوا الكلام زبرا، وطمعوا بقول ربهم: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً «2» ، فقدّموا لأيديهم، وتقدّموا والله يهديهم، وسعوا للآخرة سعيها، وسقوا رياض الأماني الفاخرة، فأحسنوا سقيها ورعيها، فأزلفت لهم الغرف ورضوان بوّابها، حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها. كان صاحب كرامات ومجاهدات.

قال أبو العباس أحمد ابنه: عنّفني والدي مرة، وقال لما انزعج: والك أنا قضيت إلى يومي هذا صلاة أربعين سنة!. قال ابنه: وحدّثني فقير قال: اقتات أبوك سنة بثلاثة دراهم، اشترى بدرهم دقيق، وبدرهم سمن، وبدرهم عسل «1» ، ولتّه وجعله ثلاثمائة وستين كبّة، كان يفطر كل ليلة على كبّة. وقيل: إنه عمل مرة مجاهدة تسعين يوما، يفطر كل ليلة على حمّصة، حتى لا يواصل. قال [الشيخ] إسرائيل بن إبراهيم: كان إذا دخل شهر رجب يتمارض الشيخ عبد الله ابن عبد العزيز، ويأكل في كل عشرة أيام أكلة!. وقال الشيخ إبراهيم البطائحي «2» : كان في المزّة شابّ، وكان يشرب الخمر، وكان يحسن إلى جماعة المزة، فسألوا الشيخ عبد الله لعلّه يتوب، فقال الشيخ عبد الله: أحضروه [لعلّه يتوب، وكان يحسن إلى جماعة المزّة] . «3» فدعا بعض الجماعة الشيخ وأصحابه، وحضر الشاب وأنشد بعضهم أبياتا، وطاب الشيخ، وكان ثمة شمعة، فجعل الشيخ لحيته عليها، وبقيت النار تخرج من خلالها، وكان الشيخ كثّ اللحية، فلما رأى الشاب ذلك الحال، وقع على رجل الشيخ وتاب، وجاء منه رجل صالح، وكان كثير العبادة والخير. قال: وأخبرني جماعة من أهل المزة: أنهم شاهدوا الشيخ والنار تخرج من خلال لحيته، وأن الشاب تاب. «4» وقال مري بن أبي الفضل: أخبرني علي الشبلي، قال: احتاجت زوجتي إلى مقنّعة،

وطالبتني، فقلت: عليّ دين خمسة دراهم، فمن أين أشتري لك؟. فلما كان الليل نمت، فرأيت كأنّ قائلا يقول: إن أردت أن تنظر إلى إبراهيم الخليل فانظر إلى الشيخ عبد الله ابن عبد العزيز. فلما أصبحت أتيته بقاسيون، فقال لي: والك يا علي! اجلس. وقام إلى منزله، وعاد ومعه مقنّعة، وفي طرفها خمسة دراهم. فرجعت، وكان عندنا ورد، فجمعته المرأة وأتت به إلى بيت الشيخ عبد الله، فوجدت زوجته وما على رأسها سوى مئزر معقود تحت حنكها، رضي الله عنها. «1» وحكى خادمه عباس، فقال: سافرت صحبة الشيخ إلى العراق، ومعنا جماعة، فلما أتينا ميافارقين، دخل الشيخ عبد الله مسجدا وكان ثمّ دكان فيها خياط سامري، فلما رأى السامريّ الشيخ دخل وقعد في رواق المسجد، فأنكر عليه بعض الجماعة، وأراد أن يخرجه، فقال له الشيخ: دعه، وإذا برجل قد دخل على الشيخ ودعاه إلى منزله، فقام الشيخ وأصحابه، والسامريّ، فلما صاروا في بيت الرجل أنشد بعض الجماعة أبياتا، قال: فضرب السامريّ بيده على رأسه، وقام إلى الشيخ، وأسلم، وصحبه. وقال الشيخ يوما لزوجته: ما فرغ هذا الدقيق المشؤوم؟. قالت: ليس هو مشؤوم!، وقد رأينا فيه البركة. فقال: ويلك، وإلا دقيق ما يأكل منه فقير ما هو مشؤوم؟. وكان إذا رأى فقيرا يقول: ما تجيء تعمل عندي في جبّ. فإذا أجاب قال: على شرط أي شيء جاءنا فتوح تأخذه. فكان إذا عمل الفقير عمق شبرين فإن أتي الشيخ بشيء دفعه إليه. فإذا راح عمد الشيخ فطمّ ما حفره الفقير. توفي: في ثامن رجب سنة ثلاث وأربعين وستمائة. ودفن بقاسيون بالقرب من التربة المعظّمة. رحمه الله تعالى.

61 - الشيخ علي بن [أبي الحسن بن منصور] المعروف بالحريري

ومنهم: 61- الشّيخ عليّ بن [أبي الحسن بن منصور] المعروف بالحريري «13» عشق فتاه، وكلف بغير فتى ولا فتاه، وكان صاحب خوارق لا بتكيف، ولا يدري أهي أو سانحات الطير أعيف، أخذ القلوب عنوة، وكشف الغطاء وقال علوة، وكان لا ينام والعيون رقود، ولا يسام إليه خطا القود، وكانت له أذكار بها النجوم تتألف، وأفكار لو سرت مسراها الريح كادت تتلف، إلى خلب الألباب، وسلب للقلوب يفعل فعل الأعداء بالأحباب، وسكون إلى الدّعه، وإنفاق من سعه، وتأنق في رفاهية، وعيشة راضيه، لعيشة الملوك مضاهيه، هذا مع جهاد كان عليه في أول حاله. حكي أنه كان يركب حائطا في داره لحاجة يريدها ثم يغلب عليه حال ينسى بها نفسه ولا يعود يعرف يومه من أمسه، حتى يبقى مدة على الجدار منتصب، ومرفقه بالشمس متوّج أو بالثريا معتصب، لا يعرف ضجرا ولا هجيرا، ثم كثر بالناس ائتلافه، وطال تردده إلى المدينة واختلافه، فأطلقت فيه الفقهاء الألسنة، ومرقت الفقراء له السيئة بالحسنة، فطائفة مقرّة، وأخرى جاحدة، وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً «1» .

أصله من" بسر" «1» ، وتردد إلى دمشق، وتبعه طائفة من الفقراء. قال أبو شامة: وهم المعروفون بالحريرية، أصحاب الرأي المنافي للشريعة، وباطنهم شرّ من ظاهرهم. «2» قال: وكان عند هذا الحريري من الاستهزاء بأمور الشريعة والتهاون بها، ومن إظهار شعار أهل الفسوق والعصيان شيء كثير. وانفسد بسببه جماعة كثيرة من أولاد كبراء دمشق، وصاروا على زي أصحابه، وتبعوه بسبب أنه كان خليع العذار، يجمع مجلسه الغناء الدائم، والرقص، والمردان، وترك الاحتجاز على أحد فيما يفعله، وترك الصلوات، وكثرة النفقات، فأضلّ خلقا كبيرا، وأفسد جماعة. ولقد أفتى في قتله جماعة من علماء الشريعة، ثم أراح الله منه. «3» وتوفي: في رمضان سنة خمس وأربعين وستمائة، في زاويته بقرية" بسر". هذا قول أبي شامة في الحريري، وهو أحد القولين فيه.

والقول الآخر: أنه من الأولياء أصحاب الأحوال والكرامات، وقد حكي لي من أحواله ما أذكره والسرائر عند الله تعالى. حدثني عمي الصاحب شرف الدين رحمه الله تعالى قال: سافرت وأنا صبي صغير إلى بلاد حوران، فلما كنت بزرع دخلت الحمام، فإذا أنا بالشيخ علي الحريري؛ فقال لي بعض من كان معي: قبّل يد الشيخ، فقمت إليه، وقبّلت يده، فرأيته جالسا على جانب الحوض يصب الماء على أصحابه، فقال له بعض أصحابه، يا سيدي! هذا ابن فضل الله، فقال: ونعم- والله- من ابن رجل جيد، اقعد!، فقعدت، فأمر شخصا من أصحابه، فغسّلني، والشيخ يصبّ عليّ بيده الماء، إلى أن فرغت، ثم أتاني بمناشف من عنده مبخرة، ما رأيت أطيب منها ريحا!، ثم أتاني بقماش كأنه قد هيّء لي، فلبّسني، ثم قال: يا سعيد! يا طويل العمر!، يا طويل الذيل!، فأنا كلما تذكّرت ما أنعم الله به علي علمت أنها كانت بشرى من الشيخ. وحدّثني الشيخ نجم الدين أبو عبد الله محمد بن عمر بن أبي الطيب، عن أبيه الشيخ نجم الدين أبي حفص عمر قال: خرج مرة إلى محجّة قاضي القضاة محيي الدين أبي الفضل ابن الزكي، ومعه نائبه قاضي القضاة صدر الدين بن سني الدولة، ومعه ابنه القاضي نجم الدين، وكان الفصل شتاء، فلما أردنا العود، وجّه ابن الزكي وجهه إلى:" بسر" لزيارة الشيخ علي الحريري، فلما قاربنا" بسر" قال ابن الزكي: أشتهي أن يطعمنا الشيخ بسيسة حورانية، فقال صدر الدين بن سني الدولة: وأنا أشتهي طبيخ كشك بدجاج، فقال ابنه: وأنا أشتهي درّاقن لوزي. فقالوا: وأنت؟. فقلت: أنا رجل فقير مهما حضر قنعت. قال: فلما وصلنا ونزلنا بالزاوية، سلّمنا على الشيخ، فجلس إلينا جلسة ثم قام، وغاب عنا إلى أن كاد وقت الظهر يفوت، ثم أتى ومعه قصعة فيها بسيسة، وقصعة فيها كشك دجاج، وبيده شيء آخر، فقال لخادمه: ضع البسيسة بين يدي قاضي القضاة محيي الدين، وضع الكشك بين يدي القاضي صدر الدين، ثم التفت إلى نجم الدين وقال: يا ثقيل!، يا متعنّت!، من أين يلتقي في بلاد حوران في زمان الشتاء درّاقن لوزي؟ والله ما تأخّرنا إلا بسبب عنتك، ثم وضع الذي كان بيده قدّامه، فإذا هو سلّة صغيرة فيها درّاقن، ثم طلع إليّ وقال: يا نجم

62 - عيسى بن أحمد بن إلياس بن أحمد اليونيني

الدين! أنت رجل فقير مهما حضر قنعت به، شارك الكل وكل معهم. وحدّثني شيخنا نجم الدين موسى بن علي الكاتب المجوّد، عرف بابن البصيص، فيما يحكي عن أبيه قال: كان شخص من أبناء الأمراء عند أبي في المكتب، يتعلم الخط، فلما خرج من المكتب، سمع الحديث، وتفقّه، وكان له ذكاء، وعنده قابلية واستعداد، فبرع، ثم إنه جاء يوما إلى أبي إلى المكتب ليزوره ويوصيه بأخ له صغير، كان قد أتى به إليه ليعلّمه، فجلس إلى أبي، وشرع يحدّثه، فجرى ذكر الشيخ الحريري، فأخذ ذلك الشاب يقع فيه ويقول: رجل مبتدع صفته نعته، وبالغ في ذكره بالسوء، فما أتم كلامه إلا وقد أقبل الشيخ في خلق من أصحابه، فوقف على المكتب، ونظر إلى ذلك الشاب ثم قال له: دع كل شيء كنت فيه، وخلّ هذا الفشار من رأسك، وقم انزل. فقام الشاب إلى الشيخ، وقبّل يده، فطلب الشيخ مقصا ثم قصّ شعره، وألبسه طاقية على رأسه، وثوبا من ثياب الفقراء، ثم مشى الشيخ، فمشى الشاب معه، ثم صحبه صحبة كانت إلى آخر العمر. ومنهم: 62- عيسى بن أحمد بن إلياس بن أحمد اليونينيّ «13» جلا الرتب ومزّقها، ومحا بصباح جبينه الأهلّة ومحقها، صام الهواجر، وقام الليالي الطوال مغرورق المحاجر، وأنينه أنيسه، وجلوسه منفردا جليسه، فأنس بالله دون خلقه، وجلس في كسر بيته لأداء حقه، وعمل لجنّة يدوم نعيمها، وتهبّ بحياة النفوس نسيمها، وفرّ من النار فرار الآبق، وقرّ به القرار ودمعه السابق.

قال أبو محمد عبد الله بن عمر المقدسي- فيما جمعه من أخبار الشيخ عبد الله اليونيني وأصحابه-: ومنهم ذو المنظر المهول، والسيف المسلول، لم يكن بالكلام قوول، ولا في العمل ملول، رئيس القوم، ومحيي الليل بالتهجّد والنهار بالصوم، سلّاب الأحوال «1» ؛ الشيخ عيسى. فروى بسنده عن إبراهيم بن مسمار قال: صحبت الشيخ عيسى أربعين سنة، ما رأيته أكل فيها بالنهار. وقال محمد بن عبد القادر اليونيني: جاء الملك الصالح إسماعيل إلى عند الشيخ واستأذن عليه ثلاث مرار، فلما اجتمع به قال له: يا سيدي! أشتهي أن أوقف عليك يومين، فامتنع من ذلك، فقال: أبني ها هنا رواقا، فقال له: ما أشتهي يكون عندي من يصدّعني. وقال أحمد بن عثمان بن إلياس: صحبت الشيخ عيسى خمسين سنة، فحدّثنا يوما قال: ورد إليّ جماعة وتحدّثوا في كرامات الأولياء، فقلت: أعرف رجلا لو قال لهذه الحجارة: صيري ذهبا وفضة، صارت. فقلت: يا سيدي!، ذكر عن إبراهيم بن أدهم أنه ورد إلى عنده جماعة، وتحدّثوا بمثل هذا، فقال إبراهيم: أعرف رجلا لو قال لهذا الجبل: زل، لزال!. فاهتزّ الجبل، فقال له إبراهيم: اسكن!، فسكن. فأنت لما قلت هذه المقالة صارت الحجارة ذهبا. قال: فاحمرّ وجهه، ودخل فحصل عندي مثل أني أسأت الأدب قدّامه، فلما كان بعض الليالي، توضّأ، ووقف على حجر ينشف وجهه، ويحرك الحجر برجليه، فالتفت إليّ وقال: يا أحمد! أيش كنت تقول؟. فقلت: يا سيدي! أنا أستغفر الله. قال: قال إبراهيم: وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي «2» فنظرت، وإذا بالحجر يلمع ذهبا!. فصحت وأغمي عليّ، فأراد الفقراء يقيموني، فقال: خلوه، فلما أفقت، اجتمعت ببعض أصحاب الشيخ، وقلت: يا فلان! ما يعرف أحد الشيخ، فقد رأيت منه كذا وكذا. ثم دخلت على الشيخ فعنّفني، ولا مني لكوني حكيت ما رأيت. وقال: يا ما فاتك مني؟.

وقال إسماعيل بن إبراهيم بن سلطان: كنت قرأت نصف الختمة، والبقرة، وآل عمران، والنساء، ونسيتها، فسألني الشيخ عيسى: أيش قرأت؟. قلت: كذا وكذا، ونسيتها، فلما أردت أن أفارقه ضمّني إلى صدره، فحفظت بعدها القرآن. وقال عبد الولي بن عبد الرحمن الخطيب: لما دخل الخوارزمية جاء وال لهم إلى" يونين"، وطلب من الفلاحين شيئا ما لهم به قوة، فشكى الفلاحون إلى الشيخ ما يقاسونه من الوالي. فاتّفق أن الوالي طلع إلى عند الشيخ، فقال له: ارفق، فهؤلاء فقراء. فقال: ما لي إلى هذا سبيل. فبقي الشيخ يردد عليه ويقول: مالي إلى هذا سبيل. فنظر إليه الشيخ وأطال النظر، فخبط الأرض، وأزبد، فلما أفاق، انكبّ على رجلي الشيخ، واعتذر، ونزل، فقال للخوارزمية: من أراد أن يموت يطلع إلى الضيعة، أو ما معناه «1» . ولما مرض الشيخ مرض الوفاة جاء فقير إلى السياج الذي عند زاويته، وقال له: يا عيسى تعال فقام إليه فقال: هات أذنك، فقدّم إليه أذنه، فشاوشه، وراح. فلما رجع الشيخ سأله الجماعة عما قال له؟. فقال: أيش تريدون؟ فلما ألحّوا عليه، قال لهم: قال لي: يقول لك رسول الله صلى الله عليه وسلم: تهيّأ للقدوم. فمات بعد اثني عشر يوما، والجماعة خبّروني بهذا. توفي في ذي القعدة سنة أربع وخمسين وستمائة. وقد ذكره ابن اليونيني «2» ، ورفع نسبه إلى كرز بن وبرة، وكرز في الطبقة الرابعة من أهل الكوفة. وكان زاهدا عابدا، [خائفا مجتهدا] يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، فيضربونه حتى يغشى عليه. وكان يختم القرآن في اليوم والليلة ثلاث مرات «3» . ولم يرفع رأسه إلى السماء أربعين سنة، حياء من الله تعالى.

وقال أبو سليمان «1» المكتب: صحبت كرزا إلى مكة، فكان ينزل فيصلي، فرأيت يوما سحابة تظلّه، وكان يوما شديد الحر، فقال: اكتم علي. وقد ذكره أبو نعيم «2» وغيره. عدنا إلى ذكر الشيخ صاحب هذه الترجمة: قال ابن اليونيني: صحب الشيخ الكبير عبد الله اليونيني، وانتفع به، وكان من أعيان أصحابه، وانقطع بزاويته بقرية" يونين" من عمل بعلبك، معرضا عن الدنيا وأهلها. يقوم الليل، ويسرد الصوم، [وبقي على ذلك سنين كثيرة، إلى أن توفي رحمه الله تعالى في زاويته بقرية يونين، في رابع ذي القعدة، ودفن بها، وهو في عشر الثمانين تقريبا] «3» ، وكان من الأولياء الأفراد، ولم يتزوّج لاستغراق أوقاته بذلك، لكنه عقد عقدا على عجوز كانت تخدمه، لاحتمال أن تمس يده يدها «4» ، والناس عنده سواء في المعاملة. قال: وبلغني أن البادرائي قصد زيارته، فجاءه عند صلاة المغرب، فصلى الشيخ، وقام ليدخل إلى خلوته على عادته، فاستوقف له حتى أتاه فسلّم عليه، وسأله الدعاء، ثم أخذ في محادثته، فقال له الشيخ: رحم الله من زار وخفّف. وتركه ودخل [إلى خلوته] . «5» قال: وكانت شفاعاته عند ولاة الأمور مقبولة، وله الحرمة العظيمة عند سائر الناس، والمهابة في الصدور، مع لطف أخلاقه، ولين كلمته. وله الكرامات الظاهرة، وإذا حضر له أحد من [المشايخ و] «6» أرباب القلوب [إلى يونين، قصد زيارته و] تأدّب معه غاية الأدب، وأما هو فلا يمشي إلى أحد البتة. ومن سلك منهم معه غير الأدب سلب. «7»

قال: وكانت بينه وبين والدي صداقة، وكنت آتيه مع أبي فيقبل علي، ويتلطّف بي، فلما كانت السنة التي مات فيها، كان والدي يأمرني بكثرة التردد إليه، [كأنه استشعر قرب أجله وأحس به، فكنت بعد كل يوم أتردد إليه فقصدته مرة في أول شوّال من هذه السنة، ومعي ناصر الدين علي بن فرقين، والشمس محمد بن داود رحمهما الله، فدخلنا عليه وليس عنده غيرنا، وشرع] «1» فحدّثنا، ثم استغرق عن غير قصد منه لذلك، ثم أفاق من غشيته، وقد انقطع الحديث، فسألناه إتمامه وألححنا في السؤال فقال: من سارروه فأبدى السرّ مشتهرا ... لم يأمنوه على الأسرار ما عاشا وأبعدوه فلم يحظ بقربهم ... وبدّلوه مكان الأنس إيحاشا قال: وكان مضمون ذلك الحديث: أنه أنذر بدنو أجله، ثم لم يلبث أن مرض ومات، ودفن إلى جانب الشيخ عبد الخالق، وكان من أبر الصلحاء. «2» قال: حدثني أبو طالب بن أحمد اليونيني: أن الشيخ عيسى أخبره بما يكون من زوال ملك بني أيوب، وأن الترك تملك بعدهم، ويفتح الساحل كله «3» . قال: وحكى لي أيضا: أن عبد الله بن إلياس النصراني قال: جئت طرابلس، فقال لي بعض الخيّالة «4» : عندي أسير من بلادكم- وعرض عليّ مشتراه- فوجدته رجلا اسمه: سهل، من قرية" رعبان «5» " [فحين رآني تشبّث بي وقال: لا تخلى عني اشترني وأنا أعطيك ثمني حال وصولي إلى رعبان] «6» ، فاشتريته بستين دينارا صورية، وجبته «7» إلى قريته، فلم

يكن له ولأولاده تلك الليلة ما يتعشون، فندمت، فقال لي أهل القرية: نحن في أيام البيدر نجمع لك ثمنه، فضقت لذلك، وجئت إلى يونين، فصادفت الشيخ عيسى خارجا من الطهارة، وما كنت رأيته قبل ذلك، فقال لي: أنت الذي اشتريت [سهل] الرعباني؟. فقلت: نعم. فشرع يحدّثني عنه، [ويسألني عن الصورة وهو متوجه إلى زاويته، وأنا معه، فلما وصل إلى السياج الذي على ظاهر الزاوية، طلب فقيرا من داخل السياج، وقال له:] «1» أبصر في الزاوية ورقة تحت اللباد الذي لي، أحضرها. قال النصراني: فتوهّمت أنها ورقة كتبها إلى من يعطيني شيئا من وقف الأسرى، أو غيره، فلما ناولني الورقة وجدتها ثقيلة، ففتحتها، فوجدت فيها الستين دينارا التي وزنتها في الأسير بعينها!، فتحيّرت، وأخذتها، وانصرفت «2» . قال أبو طالب: فقلت له: فلم لا أسلمت؟. فقال: ما أراد الله. قال قطب الدين: وشكوا إليه التفاح وأمر الدودة، وسألوه كتابة حرز، فأعطاهم ورقة فشمّعوها، وعلّقوها على شجرة، فزالت الدودة عن الوادي بأسره، وأخصبت أشجار التفاح بعد يبسها، وحملت حملا مفرطا. وبقوا على ذلك سنين في حياته، وبعد وفاته، ثم خشينا من ضياع الحرز، فقلنا ننسخه عندنا، فأزلنا الشمع عنه، وفتحناه، فوجدناه قطعة من كتاب جاء إلى الشيخ من حماه، فندمنا على فتحه، ثم أعدناه، فلم يفد. وجاءت الدودة فركبت الأشجار، وأعطبتها، واستمرّ الحال على ذلك «3» . وقال: حكى لي الحاج علي بن أبي بكر عن بعض أقاربي أنهم قصدوا عمارة حمام في" يونين" وحصّلوا بعض آلاته، فنهاهم الشيخ عيسى، فقالوا: السمع والطاعة، فلما قاموا وأبعدوا، قال أحدهما للآخر: كيف نعمل؟. فقال له: الشيخ عيسى رجل كبير [ما يخلد، نصبر] ، ومتى مات عمّرناه. فبعث الشيخ بطلبهم، فلما جاؤوه قال: كأني بكم وقد قلتم

63 - يوسف القميني

كذا وكذا؟، [وأنكم تعمرون الحمام بعد موتي] . وهذا ما يصير، ولا يعمّر هذا الحمام لا في حياتي، ولا بعد موتي، فاعتذروا إليه. قال ابن اليونيني: وأنا والله رأيت التجيبي «1» وهو نائب الشام وكان معظم يونين وقد همّ بعمارة حمام يونين، واشترى القدور، وسائر الآلات، [ولم يبق إلا عمارته] ، ثم اتفق ما صرفه عن ذلك، ثم [انتقل الخبر إلى الأمير عز الدين أيدمر الظاهري متولي نيابة السلطنة بالشام بعده، فشرع في ذلك] «2» ، واهتم به أعظم ممن تقدّمه، وحفر الأساس، ثم بطل بموانع سماوية! «3» . ومنهم: 63- يوسف القمّيني «13» رجل كان لا يريد في الأرض علوّا، ولا فيما لم يرض غلوّا، فاتخذ الذلّ عزّا، والفقر كنزا، وجعل الدنيا مسافة جدّ في قطعها، وشجرة خبيثة جهد في قلعها، وباغية جرّد عزائمه لقمعها، وعلة ضارية جلد نفسه على منعها، فعوّض بالأعلى عن الأدنى، وبدل له اللفظ بالمعنى، وتوقد منه أي جذوة، وأدلج ليلا وأوّب، وأبهج لألاء والنجم في غرته قد صوّب. كان مأواه القمامين «4» والمزابل بدمشق، وغالب أوقاته يكون بقمّين حمام نور الدين الشهيد، بسوق القمح بدمشق.

64 - الأكال: محمد بن خليل بن عبد الوهاب بن بدر. أبو عبد الله البيطار

وكان يلبس ثيابا طوالا تكنس الأرض وهو حاف، مكشوف الرأس، طويل الصمت، قليل استعمال الماء، ولكثير من الناس فيه عقيدة جميلة، ويحكون عنه أنه يكاشفهم في كثير من الأوقات. وكان بعض من يعتقد فيه يحضر له شيئا من المأكول والمشروب، ويجتهد فيه، فيتناول منه قدرا يسيرا. ولازم هذه الطريقة الشاقة إلى أن توفي في سادس شعبان سنة سبع وخمسين وستمائة، بدمشق. ودفن بتربة المولّهين، بقاسيون، ولم يتخلّف عن جنازته إلا القليل من الناس. وكان من غرائب العالم، يترنّح في مشيته، ولا يلتفت إلى أحد ولا يعبأ به. «1» ومنهم: 64- الأكّال: محمّد بن خليل بن عبد الوهّاب بن بدر. أبو عبد الله البيطار «13» حبّب إلى الناس حسن منظره، ويمن محضره، فكانوا يغشونه، وكادوا بهدب الأجفان يعشونه، لأنهم كانوا للنصح لا يستغشونه، ولخالص الودّ معه لا يغشونه، فكان لا يزال مجلسه معمورا، ومجالسه معذورا، رغبة في أنسه، ومحبة لنوعه الغريب في جنسه. وكان يقصد من السلطان فمن دونه بأطايب الطعام، ومواهب الإنعام، وتنوع له تلك الأطعمة، وتبذل في النفقات عليها الأيدي المنعمة، ولا يأكل إلا بالأجرة تلك المآكل، ثم يجعل تلك الجعالة للأرمل والثاكل، فما جاءه منها بالأجرة مقربا أكل منه، وأطعم، وفضّ ختام ذلك المبلغ وأنعم، وما جاءه بغير شيء ردّه، وتركه ما مدّ يده إليه ولا مدّه.

ويحكى عنه في هذا حكايات غرائب ونوادر: حكى لي شيخنا شهاب الدين أبو الثناء محمود الحلبي الكاتب رحمه الله، قال: اجتمع طائفة من الأمراء يوما، فتحدّثوا في طريقة الشيخ محمد، فقالوا: نريد نغلبه، ونتحيل حتى يأكل شيئا بغير أجرة!. فقال واحد منهم: أنا أفعل هذا، فبعث، فاشترى رأسين سمان من الغنم، ثم عمد إلى خرجين لطيفين، فملأ عين كل واحد منهما أرزا والآخر سكرا، ثم شدّهما عليهما، وبعث بهما رجلا استغفل الشيخ محمد، حتى أتى من الجامع، وفتح باب بيته، ودخل، فلما علم أنه قد صار داخل الدار، ساق الرأسين إلى داخل الدار، ثم ردّ الباب عليهما وسكّره، فلما شعر الشيخ محمد بدخولهما، خرج فرآهما!، فقال: نعم، يريدون أن آكل هذا بلا أجرة!، لا كيد، ولا كرامة، والرجل الذي أحضرهما خارج الباب يسمع، فانطلق إلى أصحابه، وأخبرهم. ثم إن الشيخ محمدا لم يزل بالباب حتى فتحه، وأخرج الغنم إلى الزقاق بما عليهما وطردهما، وجعل يقول: يا غنم! إن كان لهم حاجة يبعثوا معك الأجرة حتى آكل، وإلا ما آكل. فلما أبعدت الغنم رجع الشيخ محمد إلى داره، وتمت الغنم جارية تشق الأسواق، والطرقات، حتى أتت دار القيامرة، فدخلت إلى الموضع الذي بعثت منه، بما عليها، لم يتعرّض لها أحد!. فلما رأوا ذلك أكبروه، ثم ركب بعض أولئك الجماعة لزيارة الشيخ على عادتهم، فلما دخل عليه قال: إنكم شطّار ملاح، أردتم أن آكل لكم بالسخرة، وما كفاكم هذا حتى أردتم أن أطبخ لكم بالسخرة، وأن أذبح لكم، وأسلخ بالسخرة، وأنا هذا ما أفعله، ولا آخذ إلا طعاما مطبوخا، لا يكون عليّ في آكله كثير تعب، وبعد هذا ما آكله إلا بالأجرة، قم عني، قم!. فقام، وأتى أصحابه، وأعلمهم، فعملوا له أطعمة فاخرة، ثم بعثوا معها مائة دينار، حتى أكل من الطعام، وفرّق الذهب بأجمعه في سبيل الخير. قال شيخنا شهاب الدين: وكان هذا دأب الشيخ محمد، ومهما جاءه، فرّقه على المستحقين، لا يدّخر شيئا منه، وكان عنده لكل طعام أجره، وكل ما كان الطعام أفخر، كانت أجرته على أكله أكثر، حتى سمّي بالأكّال لذلك، وكان من أقلّ الناس أكلا. هذا ما حكاه لي.

وأصله من جبل بني هلال، ومولده بقصر حجاج، خارج دمشق، سنة ستمائة «1» وكان رجلا صالحا، كثير الإيثار، وحكاياته مشهورة في أخذه الأجرة على ما يأكله وما يقبله من برّ الأمراء والملوك وغيرهم، مشهورة، ولم يسبقه إلى ذلك أحد، ولا اقتفى أثره من بعده. قال اليونيني في" الذيل" «2» : ولا شك أنه كان له حال ينفعل له بها ذلك، وجميع ما يفتح به على كثرته يصرفه في القرب، وتفقّد المحابيس وغيرهم من المحاويج، والأرامل، والمنقطعين. وكان بعض الناس ينكر على من يعامله بهذه المعاملة، وينسبه في فعله، فإذا اتفق اجتماعه به انفعل له انفعالا كليا، ولا يستطيع الامتناع من إعطائه كل ما يروم، وكان مع هذا حسن الشكل، مليح العبارة، حلو الحديث، له قبول تام من سائر الناس. قال قطب الدين اليونيني: وكان كثير المحبة في والدي، والتردد إليه، لما نزل دمشق في سنة خمس وخمسين وستمائة، والأكل عنده بغير أجرة، وهو مطلق عنده دون غيره «3» توفي بدمشق في خامس شهر رمضان سنة ثمان وخمسين وستمائة.

65 - عبد العزيز بن القاضي أبي عبد الله محمد بن عبد المحسن بن محمد بن منصور بن خلف الأنصاري، الأوسي، أبو محمد شرف الدين

ومنهم: 65- عبد العزيز بن القاضي أبي عبد الله محمد بن عبد المحسن بن محمد بن منصور بن خلف الأنصاريّ، الأوسيّ، أبو محمد شرف الدين «13» شيخ الشيوخ بحماه. علم زهد، ومجنى شهد، وسلالة أجداد جادوا، وآباء فعلوا فعل آبائهم وزادوا. من جرثومة سجعت، وأرومة سبقت، ومجد لم يقنع، باق منه لوارثه بل لبس برده حتى أبلاه، وأنفق رفده حتى أفناه، تمتع بمفاخره، وجمع فضله ثم ذهب عن آخره. وكان له عند ملوك حماة جد مقبل، وسعد ذيله عليه مسبل، وتبع طريقه المسلوك. وأخذ بالأدب والتأديب عنه الملوك، وكانت قريحته غمامة مطر، وكمامة زهر، ونظام درر، وغرر أيام وطرر ليال في سالفة غلام «1»

وله شعر ما طرزت مثل سطوره الخدود، ولا نقشت شبه طروسه الرداح الرود، أرقّ من دمعه الدلال، ومعاتبة الأحباب للملال. كان كأنه إيماء اللحاظ المراض، وسقيط الطل على الرياض، ومنه قوله: ولو سلّمت ليلى غداة لقيتها ... بسفح اللوى كادت لها النفس تخشع ولكن جرمي ما علمت ولو به ... البداوة تأبى أن ألين وتمنع ولست امرءا أشكو إليك صبابة ... ولا مقلة إنسانها الدهر يدمع ولكنني أطوي الضلوع على الجوى ... ولو أنها مما بها تتقطّع وقوله: أحدّث النفس أحيانا فأطمعها ... زورا وتأيس أحيانا وتكتئب وأستريح إلى صهباء صافية ... كأنها شعلة في الكاس تلتهب ولي كتائب أشواق أجهّزها ... إلى جنابك إلا أنها كتب ولي أمانيّ من نفس أسرّ بها ... إذا ذكرتك إلا أنها كذب

وقوله: عاينت إنسان عيني في تسرّعه ... فقال لي: خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ يا عاذلي ليس مثلي من تخادعه ... فليس مثلك مأمونا على عذلي ما دمت خلوا فلا تنفك مرتهنا ... فاعشق وقولك مقبول عليّ ولي وقوله: لها معاطف تغريني برقّتها ... ولينها أن أقاسي قلبها القاسي باتت موسّدة رأسي على يدها ... عطفا وكانت يدي منها على راسي وقوله: وليلة راح ساعدتني عجوزها ... على نوم بين لا ينادي وليده خلوت بها أبكي الأسى وأجده ... وأصبغ بالدمع الثرى وأجوده وأشربها صرفا كأن حبابها ... لها من جبيني ثغرة وعقوده فمن مال نجد أو زر ورد محله ... فدعه فقلبي بحده ووروده وقوله: عذب شربي في حياتي أجاج ... فرماني والعلى في ضجاج كلما حاولت من صرفه حاجة ... يصرّفني باحتجاج لأطيلنّ لجاجي وقد ينفع ... الإنسان طول اللجاج ساليا رشف رضاب الدّمى ... قاليا حب حباب اللجاج ساحبا في الدار سمر القنا ... واهبا للجو كدر العجاج قائدا نحو الغنى جحفلا ... برءوس الأكم منه شجاج راجيا إيقاعه بالعدة وقعة ... للأرض منها ارتجاج خاطبا بكر الغلى خاطرا ... بين خرصان الغنى والزجاج كارها للعيش ما لم أنل ... سالكا للعز خير الفجاج وقعة ترضى بها ذو الحجى ... أو مماتا قاطعا للحجاج

وقوله: قد طال بالحلم عن أعدائك الأمد ... فاعمد لعزم مزيل ما له عمدوا وكن على رأيك الميمون معتمدا ... فليس غيرك للعلياء معتمد لا تصرفن عن بني همدان واقرهم ... ضربا إذا ما تغشى أمة همدوا ضربا تجمد موار الدماء إذا ... ما مار منه هامهم في الماقط الجمد هم من علائك في هم وفي كمد ... فدام للقوم ذاك الهمّ والكمد وليس تخمد نار في قلوبهم ... من الحقود الألى إلا إذا خمدوا في ليل يقع لهنيض الظبي شهب ... كسقف دجن له سمر القنا عمد وقد مددت له حبلا إلى أمد ... والآن حين يداني ذلك الأمد فانهض تعب المعالي غير متئد ... وارع الأنام رعاك الواحد الصمد وقوله: متيم في عينيه لو جاك ... ماذا يضرك لو عرفته نباك لله درّك ما ألهاك عن دنف ... ما ردّ أمرك في حال ولا دراك بريت جسمي بالإعراض منك و ... عطفت أبراني سبحان من براك أدميت خدك إذ أدميت لي كبدي ... أنصف وقل لي ترى من بالسر بداك قد قلت للسجف لما أن حجبت به ... يا سجف لبيك قد أحميت أمراك ويا منمنم خطي عارضيه لقد ... قراك مهجته الرائي وما قراك وأنت يا من يساميني إلى شرفي ... لقد وسعت إذن أضعاف ما ملاك هذا وسرحك يرعى في حمى كلأي ... فلا رعى سرحك الباري ولا كلاك جحدت حق فتى ما زلت ترزؤه ... فيما يحل وفيما مل ما رزاك من وهن رأيك أصبحت منتصرا ... بمن [ ... ] «1» لم يدر قدرك من قد يرى ولا ... عرفت جهلك النامي ولا ملاك قل ما بدا لك من لوم لذي كرم ... فلم تجب طوال الدهر ما حساك

وقوله: يا رشا لم يطق فؤادي ... تخلفا عنه وهو داعي إن كان لا بد من فراق ... فاسمح بتقبيلة الوداع وقوله: قد فؤادي بحسن قدّ ... كالغصن في بانه الرطيب ووجنة ما أتم ربحي وقد ... غدا وردها نصيبي وقوله: تقنّع بالكفاف من المعيشه ... ودرع شرها يذل أسود بيشه ولا تهتمّ في الدنيا برزق ... ليوم لا تؤمّل أن تعيشه وقوله: وأرماح نفت مهج الأعادي ... كما ينفي الزيوف الصيرفيّ تكن صدورها منهم صدور ... تضيق بها فتظهرها القفيّ وقوله: ونحن معاشر نأبى الدنايا ... ونلبس من صوان العرض سردا نعانق من رماح الحظ بانا ... وننشق من سيوف الهند وردا وقوله: إذا قنع الملوك بدون عيش ... فدون مرامك الأمد القصيّ أبوك محمد داعي البرايا ... إلى الجدوى وأنت له وصيّ

وقوله: مهّد لجنبك قبل مضجعك ... وانظر طريقك قبل منتجعك راجع فؤادك في فوارطه ... تجد الإبانة قبل مرتجعك واصبر لإنجاع النصيح ففي عقب ... اه ما يشفيك من وجعك وقوله: ضحك العوادي إذ بكيتك ... فشغلني عنهم فديتك لا كان من يلحى عليك وع ... اش عيشي إذ نأيتك أطمعتني بلطيف وعدك ... في وصالك فاقتصيتك وصرفت عن كل الورى عين ... ي فكيف دنت رأيتك ومتى ذكرت بصالح أحدا ... سواك فقد عنيتك ونزلت قلبي فاحتكم فيه ف ... إن البيت بيتك أخشى سطاك ولو أطع ... ت وارتجيتك وإن عصيتك ما كان أربح صفقتي مذ بع ... ت روحي واشتريتك وقوله: جنح اللئيم إلى العناد ... وغرّه مني السكون والراح عند وقارها ... في الدنّ أبرق ما تكون وقوله:" ويروى للبهاء زهير وهي بقوله أشبه، وعبقها أنسب بزهير إذا تنبّه": رفقا بروحي فهي لك ... وعلى السخي بما ملك إني أغار إذ الأراك ... دنا إليك فقبّلك ويروعني واشي النسيم ... إذا ثناك وميّلك ما أقبح الصبر الجمي ... ل بعاشقيك وأجملك

وقوله: يمهل من عارضه ... لكنّه لا يهمل كم للعفاة نحوه ... في السد حرف يعمل وقوله: من منصفي من عاذل جاهل ... يخون باللوم من لا يخون إن قلت ما يضحك إلا إذا ... قال وما عشقك إلا جنون وقوله: سيندم الملحد في دينه ... يوما إذا صار إلى اللاحد أقررت بالرب وخالفته ... ما أشبه المثبت بالجاحد وقوله: لا تنس وجدي بك يا شادن ... ابحبه أنسيت أحبابي مالي على هجرك من طاقة ... فهل إلى وصلك من باب؟ وقوله: سألته من ريقه شربة ... يطفى بها من ظمئي حره فقال أخشى يا شديد الظما ... أن تتبع الشربة بالجره وقوله: مات أبو بكر ومن لي بأن ... لو متّ من قبل أبي بكر أخ تحللت له أنعما ... تفضل عن حمدي وعن شكري وقوله مما كتبه على جرن حمام كان يدخله السلطان بحماة: كملت لطفا ووقارا على ... ما حزت من أوصافي الحلوه من أجل هذا صرت أهلا ... لأن أجالس السلطان في الخلوه

وقوله: قالوا فلان من القضاة فما بال ... ك في سبّ عرضه مجاهد فقلت لا تحفلوا به أبدا ... فذاك قاض يقول بالشاه وقوله: إن قوما يلحّون في حب سعدى ... لا يكادون يفقهون حديثا سمعوا وصفها ولاموا عليها ... أخذوا طيبا وأعطوا خبي وقوله: انظر بصائب رأي ... مستكسب وعزيزي ولا تعيش ذليلا ... وأنت عبد العزيز وقوله: تيقّظ بفكرك فيما إليه ... عواقب كل الورى آيله ولا تتعرضن لخزي الجحيم ... ومالك صبر على القابله وقوله: وقاض تصدّى لإسخاطنا ... فليس لنا عيشة راضيه يجور وقد عدلت غرسه ... فيها فيا ليتها كانت القاضيه وقوله: ولي صاحب لست أكفى أذاه ... إلا إذا ما حواه الجدث له لحية لا سقاها الحيا ... إليها يساق حديث الحدث وقوله: تقرب إلى إله السما بما يرضى ... ودع عرض الدنيا تعش وافر العرض ووفّ بني الدنيا الوداد فإن وفوا ... وإلا فقد أقرضتهم أحسن القرض

وقوله: قذفت صميم فؤاده بشواظ ... شعل أرته نصائح الوعاظ وأطلت في ليل الشبيبة رقدتي ... فأجد صبح الشيب في إيقاظي وقوله: لعلك ترثي لذي لوعة ... إذا ضحك العاذلون انتحب أآمل من عبرتي نصرتي ... متى كشفت كرب بالكرب ولو لم أدع في هواك الوقار ... لما صار يأخذني الطرب ولا صرت أفهم عنك الحدي ... ث بنقر الدفوف ونفخ القصب وقوله: وكم لائم يلحي إلي أن ... تأمل من هويت فما تنحنح نفى عني المنام بسحر عين ... إلى سلم المتيم ليس يجنح له حدق بقول الحرب أولى ... ولي قلب يقول الصلح أصلح وقوله: يا سلم الله جيرانا بذي سلم ... لبينهم بان خسراني بعد أرباحي كانوا شموسي وأقماري وقد حجبوا ... عني فأظلم إمسائي وإصباحي إذا خشيت مزيد البعد زدت جوى ... مباعدا بين أجساد وأرواح وقوله: أرقت لبارق مزنا أضاء على ... الأثلات بذات الأضا فأذكرني حبره بالغضا تولوا ... وأصليت جمر الغضا وطول في جهنم لائمي ... فعرض قلبي لما عرّضا فلم يجد نفعا سوى أنه ... على النفع إذ لامني حرّضا

وقوله: وغريم شيب لا يدافع خصمه ... وافى وحق شبيبتي لم أقضه فلئن أصخت إلى العذول فطالما ... أعرضت عن طول الملام وعرضه وكسرت رمان النهود بعصرة ... وأكلت تفاح الخدود بعضه فالآن توّجني الزمان بأسو ... شمط تنافر بعضه من بعضه وتباينت أوصافه فألفى في ... مسودة والرشد في مبيضه وكذاك حالي في الهوى ... ما همت في إبرامه إلا هممت بنقضه وقوله: وجاؤوا عشاء يهرعون وقد بدت ... بجسمي من داء الصبابة ألوان فقالوا وكل معظم بعض ما رأى ... أصابتك عين قلت إن وأجفان

66 - الشيخ القطب أبو بكر بن قوام بن علي بن قوام بن منصور بن معلى ابن حسن بن عكرمة بن هارون بن قيس بن ربيعة بن عامر بن هلال بن قصي بن كلاب

ومنهم: 66- الشّيخ القطب أبو بكر بن قوام بن عليّ بن قوام بن منصور بن معلّى ابن حسن بن عكرمة بن هارون بن قيس بن ربيعة بن عامر بن هلال بن قصيّ بن كلاب «13» مسلّك أقوام، وسالك طريقة دعا بها ابن قوام، وكان لأهل بيته أي قدوه، وبيته أي بيت ودار ندوه، لم يخل رحابه من طارق، ولا سحابه من ماذر شارق. وكان في أرض" بالس" «1» تهطل سماؤه، وعلى جانب الفرات وماء الفرات وماؤه، وأقام ما أقام وكراماته ظاهره، ومقاماته باهره، وأحواله تحدث الغرائب عنها، وتحدث العجائب منها. ولم يكن في وقته وزمانه أجمع منه للخواطر، ولا أجمل محيّا إذا تجهّمت السحب المواطر. والحقيقة بعض علمه، والطريقة تحت رسمه، والآداب منه تتعلم، وراية المجد إلى يمين غرائبه تسلم. ولد بمشهد صفين سنة أربع وثمانين وخمسمائة «2» . ثم انتقل إلى" بالس" وربي بها «3» حكى عنه حفيده الشيخ العارف أبو عبد الله أنه قال: كانت الأحوال تطرقني، فكنت أخبر بها شيخي، فينهاني عن الكلام فيها. وكان عنده سوط، يقول: متى تكلمت في شيء من هذا ضربتك بهذا السوط!. ويأمرني بالعمل، ويقول: لا تلتفت إلى شيء من هذه الأحوال. فما زلت معه كذلك، حتى كنت في بعض الليالي، وكانت لي أم ضريرة، وكنت بارا بها، ولم يكن لها من يخدمها غيري. فاستأذنت الشيخ في المضي إليها، فأذن لي،

وقال: إنه سيحدث لك في هذه الليلة أمر عجيب، فاثبت له ولا تجزع. فلما خرجت من عنده وأنا مارّ إلى جهة أمي سمعت صوتا من جهة السماء، فرفعت رأسي، فإذا نور كأنه سلسلة متداخل بعضه في بعض، فالتفتّ على ظهري، حتى أحسست ببردها في ظهري. فرجعت إلى الشيخ فأخبرته بما وقع لي. فقال: الحمد لله، وقبّلني بين عيني، وقال: يا بني! الآن تمت النعمة عليك، أتعلم يا بني ما هذه السلسلة؟. فقلت: لا. فقال: هذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأذن لي في الكلام، وكان قبل ينهاني عنه. «1» قال حفيده: سمعته يوما وقد دخل البيت وهو يقول لزوجته: ولدك قد أخذه قطّاع الطريق! في هذه الساعة. وهم يريدون قتله، وقتل رفاقه. فراعها قول الشيخ رضي الله عنه، فسمعته يقول لها: لا بأس عليك، فإني قد حجبتهم عن أذاه وأذى رفاقه، غير أن ما لهم يذهب، وغدا إن شاء الله تعالى يصل هو ورفاقه. فلما كان من الغد وصلوا كما ذكر الشيخ، وكنت فيمن تلقّاهم، وأنا يومئذ ابن ست سنين، وذلك سنة ست وخمسين وستمائة. «2» قال شمس الدين الخابوري: وقع في نفسي أن أسأل الشيخ- وكان الخابوري من مريدي الشيخ أبي بكر- عن الروح؟، فلما دخلت عليه قال لي من غير أن أسأله: يا أحمد! ما تقرأ القرآن؟. قلت بلى يا سيدي. قال: اقرأ يا بني!: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا «3» يا بني! شيء لم يتكلم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، كيف يجوز لنا أن نتكلّم فيه؟. «4» وقال الشيخ إبراهيم البطائحي: كان الشيخ يقف على حلب، ونحن معه، ويقول: والله إني لأعرف أهل اليمين من أهل الشمال منها، ولو شئتم لسميتهم، ولكن لم نؤمر بذلك، ولا يكشف سر الحق في الخلق. «5»

وقال معضاد بن حامد: كنا مع الشيخ في حفر النهر الذي ساقه إلى" بالس"، فاجتمع عندنا في بعض الأيام خلق كثير في العمل، فبينا نحن نعمل، إذ جاء راعد قوي فيه برد كبار، فقال له بعض أصحابه: يا سيدي! قد جاء هذا الراعد، وربما تعطّل الجماعة عن العمل. فقال له الشيخ: اعمل وطيّب قلبك، فلما دنا الراعد، استقبله، وأشار إليه بيده، وقال: خذ يمينا وشمالا، بارك الله فيك. فتفرّق عنا بإذن الله، وما زلنا نعمل والشمس طالعة علينا، ودخلنا البلد ونحن نخوض الماء كما ذكر. وقال محمد بن ناصر [المشهدي] «1» كنت عند الشيخ وقد صلى صلاة العصر، وصلى معه خلق، فقال له رجل: يا سيدي! ما علامة الرجل المتمكن؟. وكان في المسجد سارية، فقال: علامة الرجل المتمكن أن يشير إلى هذه السارية فتشتعل نورا. فنظر الناس إلى السارية فإذا هي تشتعل نورا. أو كما قال. «2» وقال إبراهيم البطائحي: سئل وأنا حاضر عن الرجل المتمكن ما علامته؟. وكان بين يديه طبق فيه شيء من الفاكهة والرياحين. فقال: أن يشير بسره إلى ما في هذا الطبق، فيرقص جميع ما فيه. فتحرّك جميع ما كان في الطبق ونحن ننظر. وقال إسماعيل بن أبي سالم، المعروف بابن الكردي: كنا جلوسا مع الشيخ في تربة الشيخ رافع رضي الله عنهما، ونحن ننظر إلى الفرات، إذ لاح على شاطيء الفرات رجل، فقال الشيخ: أترون ذلك الرجل الذي على شاطيء الفرات؟ فقلنا: نعم. قال: إنه من أولياء الله تعالى، وهو من أصحابي، وقد قصد زيارتي من بلاد الهند، وقد صلى العصر في منزله، وقد توجّه إليّ، وقد زويت له الأرض، فخطا من منزله خطوة إلى شاطيء الفرات، وبقي يمشي من الفرات إلى ههنا، تأدّبا منه معي. وعلامة ما أقول لكم أنه يعلم أني في هذا المكان فيقصده، ولا يدخل البلد.

فلما قرب من البلد عرّج عنه، وقصد المكان الذي فيه الشيخ والجماعة، فجاء وسلّم وقال: يا سيدي! أسألك أن تأخذ عليّ العهد أن أكون من أصحابك. فقال له الشيخ: وعزّة المعبود، أنت من أصحابي. فقال: الحمد لله، لهذا قصدتك، واستأذن الشيخ في الرجوع إلى أهله، فقال له الشيخ: وأين أهلك؟. قال: في الهند!. قال: متى خرجت من عندهم؟. قال: صليت العصر، وخرجت لزيارتك. فقال له الشيخ: أنت الليلة ضيفنا، فبات عند الشيخ، وبتنا عنده. فلما أصبحنا من الغد طلب السفر، فخرج الشيخ، وخرجنا في خدمته لوداعه، فلما سرنا في وداع الشيخ، وضع الشيخ يده بين كتفيه، ودفعه، فغاب عنا، ولم نره، فقال الشيخ: وعزّة المعبود في دفعتي له وضع رجله في باب داره بالهند، أو كما قال. «1» قال حفيده: سمعت علم الدين الشيرازي يحكي لوالدي: قال: كنت في بعض أسفاري، فأدركني شيء من الجوع والعطش، وأوقع الله تعالى في نفسي أن الله يطلع الشيخ على حالي، فإذا أنا بإنسان واقف على صخرة، وهو يشير إليّ: أن تعال. فمضيت إليه، وإذا هو الشيخ، وعنده كوز ماء، ورغيف خبز!. فقال: كل. فجلست وأكلت، وشربت. وحملت ما فضل. قال حفيده: وسمعت والدي يقول: ولما كان في سنة ثمان وخمسين وستمائة، وكان الشيخ في حلب وقد حصل فيها ما حصل من فتنة التتار، وكان نازلا في المدرسة الأسدية. فقال لي: يا بني! اذهب إلى بيتنا، فلعلك تجد ما نأكل. فذهبت إلى الدار، فوجدت الشيخ عيسى الرصافي، وكان من أصحابه، مقتولا في الدار، وعليه دلق» الشيخ، وقد حرق، ولم يحترق الدّلق، ولم تمسّه النار، فأخذته وخرجت، فوجدني بعض بني جهبل، فأخبرته بخبر الدّلق، فحلف عليّ بالطلاق وأخذه مني. «3»

وقال أيضا: حدّثني إسماعيل بن سالم الكردي، قال: كان لي غنم، وكان عليه راع، فسرح يوما على عادته، فلما كان وقت رجوعه لم يرجع، فخرجت في طلبه فلم أجده، ولم أجد له خبرا، فرجعت إلى الشيخ، فوجدته واقفا على باب داره، فلما رآني قال لي: ذهبت الغنم؟. قلت: نعم. قال: قد أخذها اثنا عشر رجلا وهم قد ربطوا الراعي بوادي كذا. وقد سألت الله أن يرسل عليهم النوم، وقد فعل. فامض تجدهم نياما والغنم ربضا إلا واحدة، قائمة ترضع سخلتها. قال: فمضيت إلى المكان الذي قال، فوجدت الأمر كما قال؛ فسقت الغنم، وجئت البلد. وقال البطائحي: حضر الشيخ جنازة، وفيها جماعة من أعيان البلد، فجلس القاضي والخطيب والوالي في ناحية، وجلس الشيخ والفقراء في ناحية. فتكلّم القاضي والوالي في كرامات الأولياء، وأنه ليس لها حقيقة، وكان الخطيب رجلا صالحا، فلما قاموا جاء الجماعة يسلموا على الشيخ، فقال الشيخ للخطيب: إنا لا نسلّم عليك!. قال: ولم يا سيدي؟. قال: لأنك لم ترد غيبة الأولياء، ولم تنتصر لهم، والتفت الشيخ إلى القاضي، والوالي، وقال: أنتما تنكران كرامات الأولياء! فما تحت أرجلكما؟ قالا: لا نعلم. قال: تحت أرجلكما مغارة ينزل إليها بخمس درج، وفيها شخص مدفون، هو وزوجته، وكان ملك هذا البلد، وهو على سرير، وزوجته قبالته، ولا نبرح من هذا المكان حتى نكشف عنهما. فدعا بفؤوس، وكشف المكان، والجماعة حاضرون، فوجدوه كما قال. وقال أبو المجد بن أبي الثناء: كنت عند الشيخ، وقدم عليه الشيخ نجم الدين البادرائي، متوجها إلى بغداد، وقد ولاه الخليفة القضاء، فسمعته يقول للشيخ: يا سيدي! قد ولاني الخليفة قضاء بغداد، وأنا كارهه، فقال له: طيّب قلبك، فإنك لا تحكم فيها، وحدّثه أشياء. وسمعت الشيخ يقول له: يا شيخ نجم الدين! هذا إنسان صفته كذا وكذا، من أعيان الناس، وهو قريب من الملك الناصر، خاطره متعلق بك، وهو يشير إليك بخنصره، فقال له: صدقت، يا سيدي!. دفع إليّ فص خاتم له قيمة، وقال: يكون عندك وديعة، والله ما أعلم أحدا من خلق الله علم بهذا الفصّ حين دفعه إليّ، وقد خيّطته في مزدرجتي، من حذري

عليه، وكان كما قال الشيخ، فإن نجم الدين قدم بغداد، ومات، ولم يحكم بين اثنين!. قال حفيده: حدّثني الشيخ الصالح العابد عمر بن سليمان الجعبري المعروف بأبي أصيبعة، قال: سيّر أبي معي إلى الشيخ هدية، وكنت شابّا، فرافقني جماعة من أهل القلعة، فتحدّثوا فيما بينهم، فقالوا: إذا دخلنا البلد رجعنا إلى الخمّارة، وشربنا. فلما دخلنا البلد وعزموا على ما قالوا، قلت لهم: حتى أوصل إلى الشيخ هديته، ولا يبقى لنا شغل، فمضينا إلى الشيخ، فلما دخلنا إليه وجلسنا، أخذ يتكلم في المعاصي وما فيها من سخط الله وعقابه، فما زال يتكلم حتى القوم تابوا، وصاروا من أصحابه، وماتوا على عمل صالح. وحدّثني أيضا قال: دخلت على الشيخ، وعنده إنسان من أهل العراق، وهو يسأله، والشيخ يجيبه، فأكثر عليه السؤال، فخطر لي أن أقوم إليه، وأخرجه. فقال لي: يا فلان! دعه، فإنه صاحب بدعة، وقد كفانا الله فيه. قال: فلما جاء الليل، أخذه بعض أهل البلد، وبيّته عنده، فقام من الليل، فسقط من أعلى الدار التي بات فيها!. فجاؤوا إلى الشيخ وأخبروه به. فقال: امضوا، واحفروا له قبرا فإنه الآن يموت!، وهو رافضي مبتدع. قال حفيده: وسمعت والدي قال: كان الشيخ كثيرا ما يتكلم فيما يلتبس على الأولياء كشفه، فقال لي في بعض الأيام: قد خرج في هذه الساعة جماعة من حلب إلى زيارتنا، وهم يمشون في شجر سبسبان، ولم يكن هذا الشجر بأرض حلب، ولا يعرف بها، أتدرون ما هو؟. فقالوا: لا. فقال: لأنهم يتكلمون في نقص أموال، وغرائم أموال، فظهرت إشارته في الكشف شجر سبسبان، وذلك لأن النقص يعطي النقص في الأبدان، فلما تكلموا في نقص الأموال، ظهر في الكشف كما قلنا. وقال مرة أخرى: قد دخل إلى مجلسنا حمام كثير، وقد رصّ المجلس بهم، أتدرون ما هم؟. فقالوا: لا. فقال: قد قصد زيارتنا قوم أحرار وليس فيهم دعيّ، فلما كان عن قليل، دخل جماعة، وجلسوا حتى رصّوا المجلس، فقال: هؤلاء الذين أخبرتكم عنهم، إنهم قوم

أحرار، في في الكشف أسرارهم كما قلنا. وكان رحمه الله تعالى كثير العمل دائم المجاهدة في نفسه، ويأمر أصحابه بذلك، ويلزمهم بقيام الليل، وتلاوة القرآن، والذكر دأبه لا يفتر عنه، وفي كل ليلة جمعة يجعل لكل إنسان منهم وظيفة من الجمعة إلى الجمعة، وكان يحثّهم على الاكتساب، وأكل الحلال، ويقول: أصل العبادة أكل الحلال. «1» وكان شديد الإنكار على أهل البدع، لا تأخذه في الله لومة لائم، فرجع به خلق. «2» وكان يحثّ أصحابه على التمسك بالسنة، ويقول: ما أفلح من أفلح، وسعد من سعد إلا بالمتابعة، فإن الله تعالى يقول: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ «3» ، وقال: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ «4» ، وقال: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا . «5» وكان يقول: ما اتخذ الله وليا صاحب بدعة قطّ. قيل له: فإن اتخذه؟. قال: يصلحه «6» [وكان يقول: رجال الشام أمكن من رجال العراق، وأعرف] . «7» وكان يتفقّد الأرامل بنفسه، ويقضي حوائجهنّ. وجاءته امرأة فقالت له: عندي دابّة، وقد ماتت. وما لي من يجرّها عني، فقال: امض وحصّلي حبلا واتركيه عندها، حتى أبعث من يجرّها. فمضت وفعلت ما قال، فجاء بنفسه، وربط الحبل في الدابة، وجرّها إلى باب البلد. «8» وكان

لا يركب بغلا، ولا حمارا، ولا فرسا «1» . وإذا عطش وهو قاعد في المجلس مع أصحابه قام فشرب بنفسه، يريد بذلك تربية المريدين. وكان في الزاوية رجل كبير مسن، وكان به قطار البول «2» ، فأخذ تحته شيئا يقطر فيه البول، فكان يقوم، ويريقه بنفسه، ويغسل ما أصاب الحصير منه. «3» وكان لا يمكّن أحدا من تقبيل يده، ويقول: إذا مكّن الشيخ أحدا من تقبيل يده، نقص من حاله شيء. «4» وكان شديد الحياء، لا يقطع على أحد كلامه، ولا يخجل أحدا بما يقول. وكان كثير التورّع، يتحرّى في مطعمه، وملبسه، ويقول: الدين الورع، وهو أصل العبادة. وكان يتورّع عن أموال السلاطين، والجند، وكان عن مال العرب أشدّ تورّعا، لا يأكل لهم طعاما، ولا يقبل لهم هدية. وكان للعرب عادة يمرون كل سنة بأرضنا مرتين، فإذا مرّوا لا يأكل مما يباع في السوق، لا لحما، ولا لبنا، ولا غيرهما، بل يتأدّم بالزيت، وما كان من الأدم في البيت «5» . وكان في بدء أمره لا يأكل إلا من المباح، يجمع الأشنان «6» بيده، وتارة يحصد، فلمّا كبر وأسنّ، كان يأمر من حوله من الفقراء والأصحاب فيخرجون إلى الصحراء فيزرعون زرعا ويحصدونه، فإذا حصل، قال لهم: لا ترفعوه، حتى تدفعوا إلى السلطان نصيبه منه، وكانوا يفعلون ذلك. حتى يدفعوا من التبن ما يخصه. «7» وكان السلطان نور الدين يتردّد إلى زيارة جده، فوقف على الشيخ غابة من أرض

الفرات، فتورّع عنها، وسبّلها «1» للمسلمين، فكانوا يأخذون منها الخشب، وينتفعون به، وربّما احتاج هو إلى شيء من الخشب للعمارة، فيشترى له ولا يأخذ منها شيئا، تورّع منه. وصنع له بعض أصحابه في بعض الأيام طعاما فيه جزر، فلما وضعه بين يديه، قال له الشيخ: من أين اشتريت هذا الجزر؟، فإنه حرام!. فقال: من السوق. فقال: امض إليه واسأله عنه: من أين اشتروه؟، فمضى وسأل عنه، فوجده قد اشتري من طعمة المكاسين!!. «2» وقال الشيخ إبراهيم البطائحي: كان الشيخ رضي الله عنه لا يقبل خمسين درهما [جملة واحدة] ، ويقول: خمسين درهما غنى فقير «3» . وتوفي يوم الأحد سلخ رجب سنة ثمان وخمسين وستمائة، بقرية" علم" ودفن بها، في تابوت، لأجل نقله، فإنه أوصى بذلك. قال حفيده: أخبرني والدي قال: أوصاني والدي أن أدفنه في تابوت، وقال: يا بني! أنا لا بد أن أنقل إلى الأرض المقدسة. وكان كما قال، فإنه نقل بعد موته باثني عشر سنة، إلى جبل [قاسيون] . «4» قال: وكنت فيمن حضر خروجه من قبره، وسرت معه إلى دمشق، وشهدت دفنه، وذلك صبيحة يوم الجمعة، تاسع المحرّم، سنة سبعين وستمائة «5» . ورأيت في سفري معه عجائب، ذكرها «6» . وقد جمع له حفيده سيرة في أربع كراريس.

67 - علي البكاء

ومنهم: 67- عليّ البكّاء «13» الصالح المشهور، ما زايل الدمع حتى خدّد خديه، ونزل خاضعا لديه، وترك جياده في حلية الخد تستبق، والأرض تصطبح منه وتغتبق. بكّاء كان لا يجف منه جفنه، ولا يخف منه أفنه، قطع عليه مدة البقاء، واتخذ منه عدة اللقاء، هذا إلى حبّ للانفراد، فسكن من قلبه الشغاف، وركن إلى خلبه للاطلاع والإشراف، حتى ثوى، ولكل امرئ ما نوى، وأمسى وهو نزيل الخليل وجاره، وفوق وكر السرحان وجاره. قال ابن اليونيني: حكى لي المنصور سيف الدين قلاوون رحمه الله، بغزة في شوال سنة خمس وسبعين وستمائة، وقد خرجت صحبته من الديار المصرية، فلما نزل غزة استأذنته في زيارة الخليل عليه السلام، فقال لي: زر الشيخ عليا البكّاء، فإنه كبير القدر، وشرع في الثناء عليه وذكر مناقبه، فقال: لما كنا في الأيام الناصرية مع الملك الظاهر، زرته فدعا لي، وأخبرني بأمور تقع، فوقع أكثرها، وأعطاني قميصه، فكنت ألبسه تحت السلاح، فما أصابني نشاب ولا غيره وهو عليّ، وأصابني جراحات لما لم أكن لابسه، أو ما هذا معناه. قال ابن اليونيني: فلما تسلطن الملك المنصور، وقع في خاطري أن ذلك ربما يكون من الأمور التي أخبره بوقوعها، والله أعلم. قال: وسمّي بالبكّاء لكثرة بكائه. حكي أنه سئل عن كثرة بكائه، فقال: كنت ببغداد، فرأيت رجلا خرج منها، فتبعته، فلم يكن بأسرع من وصوله إلى عمارة لا أعرفها، فظننتها من قرى بغداد، ودخل مسجدا وصلى فيه الظهر وخرج، وأنا في صلاة السنة، فخرجت، فرأيت وجوها أنكرتها، وبلدا

أنكرته، فسألت شيخا هناك: ما هذه القرية؟ فقال: من أين أنت؟. فقلت: من بغداد. خرجت منها من ساعة. فقال: أظنك لا تعقل ما تقول، بينك وبين بغداد أكثر من سنة!. فقلت: والله لقد خرجت منها من أقل من ساعتين. فقال: حدّثني قصّتك. فحكيت له أمري عن حليته، فقال: إن كنت صادقا فارجع إلى المسجد الذي دخلت إليه معه فانتظره، فإنه سيعود إليه. فرجعت إلى ذلك المسجد، فلما كان وقت العصر، حضر ذلك الشخص الذي تبعته، فلزمته، وتشبثت به، وبكيت، وتضرّعت إليه، فانتهرني، ثم رقّ لي، ورجع بي إلى بغداد، فوصلناها في مثل المسافة التي خرجنا منها، وصحبته، وخدمته مدة، وأراد السفر، فأردت صحبته، فمنعني، وقال: لا تقدر على ذلك!. وأنا مسافر إلى البلد الفلاني، وأموت في الوقت الفلاني، فإذا كان ذلك الوقت، فاحضر ذلك المكان، واشهدني. فلما دنا الميعاد، حضرت فوجدته في الموت، وقد توجّه إلى الشرق، فأدرته إلى القبلة، وهو ينحرف إلى الشرق، وتكرر ذلك منه ومني، فنظر إليّ، وقال: لا تتعب- هو إنما يموت نصرانيا! - وتكلم بما يدين به النصارى ويعتقده، ففارق، فحملناه إلى دير مشهور هناك، فيه جماعة من الرهبان، فوجدناهم في تألم شديد، وذكروا لنا أنهم كان عندهم راهب عظيم، قد أتى عليه مائة سنة، وأنه توفي تلك السنة، بعد أن أسلم، فسلمنا إليهم صاحبنا، فتولوا أمره ودفنوه، وتسلمنا ذلك الراهب وغسّلناه، ودفنّاه. فألام على كثرة البكاء؟!. فنسأل الله تعالى حسن الخاتمة، وأن يتوفانا على الإسلام والسّنة، آمين. توفي الشيخ علي البكّاء- رحمه الله تعالى- ببلد الخليل عليه السلام في أوائل شهر رجب سنة سبعين وستمائة، ودفن بزاويته.

68 - الشيخ خضر بن أبي بكر بن موسى أبو العباس المهراني العدوي

ومنهم: 68- الشّيخ خضر بن أبي بكر بن موسى أبو العبّاس المهرانيّ «1» العدويّ «13» شيخ الملك الظاهر. قدم من جبال الأكراد، وورد الحياض ورّاد، فاستخصب المرعى، واستنجب المسعى، وتأكدت له بالملك الظاهر بيبرس صحبة نفعته لديه، ورفعته عند أقصى الملك إليه، وحمد به زمانه النضر، وكان الملك الاسكندر والشيخ الخضر، ووسائله مقبولة، ورسائله للمصايد أحبولة، والأنام معه، والأيام لدعوته مسمعه، حتى هبت له بنكباء البأساء، ودبت إليه دبيب ظلماء المساء، وانتهت له من الوزراء الظاهرية صلالا أراقم، وأسقاما داؤها متفاقم، وكان قد ثقلت عليه شفاعاته، ونقلت إليهم شناعاته. وما زالوا به حتى أخرجوا خباءه، وأسمعوا منه آي نبأه، وأحضرت امرأة تعرف ببنت ابن نظيف، فقالت فيه كلاما، وقادت إليه ملاما، فحمل إلى القلعة واعتقل، وأقام حتى هيء له بيته في المقابر ونقل، إلا أنه مات غير محترم، وتاب ولم ير غير مبجل محترم، وكان موته بدنو أجل الملك الظاهر منذرا، وكان قد أنذره به، وكان منه حذرا. أصله من قرية يقال لها:" المحمدية"، من أعمال جزيرة ابن عمر، وسبب معرفة الملك الظاهر له واعتقاده فيه: أن الأمير العجمي أخبره عنه قبل أن يتسلطن، أنه قال: إن ركن الدين بيبرس البندقداري لا بد أن يملك، فلما ملك، صار له فيه عقيدة [عظيمة] «2» ، وقرّبه وأدناه، وكان ينزل إلى زيارته في الأسبوع مرة أو مرتين، أو ثلاثا، على قدر ما يتفق؛

لكنه لم تكن يغب زيارته والاجتماع به، ويطلعه على غوامض أسراره، ويستشيره في أموره، ولا يخرج عن رأيه، ويستصحبه في سائر أسفاره وغزواته، وفي ذلك يقول الشريف شرف الدين محمد بن رضوان الناسخ «1» : ما الظاهر السلطان إلا مالك الدنيا بذاك لنا الملاحم تخبر ولنا دليل واضح كالشمس في ... وسط السماء بكل عين تنظر لما رأينا الخضر يقدم يقدم جيشه ... أبدا علمنا أنه الاسكندر «2» وكان يخبر الملك الظاهر بأمور قبل وقوعها، فتقع على ما يخبر به، ولما حاصر الملك الظاهر [أرسوف] «3» ، وهي من أوائل فتوحاته، سأله: متى تؤخذ؟ فعين له اليوم الذي تؤخذ فيه، فوافق. وكذلك في" قيسارية" و" صفد". ولما عاد الظاهر [رحمه الله تعالى] من دمشق إلى جهة الكرك، سنة خمس وستين، استشاره في قصده، فأشار عليه أن لا يقصده، وأن يتوجه إلى الديار المصرية، فلم يوافق قوله غرضه، فخالفه وقصده، فلما كان فانكسرت فخذه، وأقام مكانه أياما كثيرة، ثم حمل في محفّة إلى غزة، ثم إلى الديار المصرية على أعناق الرجال. ولما قصد الظاهر منازلة حصن الأكراد ومحاصرته، اجتاز الشيخ خضر ببعلبك، ونزل بالزاوية التي عمرت له بظاهرها، وخرج نوّاب السلطنة وبعض أهل البلد إلى خدمته، فقال ابن اليونيني: وكنت فيمن خرج، فسمعت كمال الدين إبراهيم بن شيث [رحمه الله تعالى] يسأله عن أخذ حصن الأكراد؟. فقال ما معناه: يؤخذ في مدة أربعين يوما. أو قال: قلت: لابني يشير إلى الملك الظاهر أنك تأخذه في أربعين يوما، فوافق ذلك، وأخذه في مدة أربعين يوما «4» ولما

توجّه الملك الظاهر إلى الروم، سأل الشيخ خضر بعض أصحابه عما يتم للملك الظاهر؟، فأخبره أنه يظفر، ثم يعود إلى دمشق، ويموت بها بعد أن أموت أنا بعشرين يوما!. فاتفق ذلك. «1» قال ابن اليونيني: وحكي لي أن الملك الظاهر لما تغير عليه، وأحضر من أصحابه من دمشق من يحاققه على أمور نقلت إليه عنه، ويقابله عليها، قعد الملك الظاهر بقلعة الجبل، وعنده من أكابر الأمراء فارس الدين الأتابك، وبدر الدين، والملك المنصور قلاوون، وسير الأمير سيف الدين قشتمر العجمي لإحضاره، فلما طلبه إلى الحضور إلى القلعة، أنكر ذلك، لأنه لم يكن له به عادة، فعرّفه [بشيء مما] «2» هم فيه، فحضر معه، فلما دخل لم يجد ما يعهده، فقعد عندهم منتبذا منهم، فأحضر السلطان الذين أحضرهم من أصحابه من دمشق، فشرعوا ونسبوه إلى قبائح وأمور عظيمة لا تكاد تصدر من مسلم، فقال: ما أعرف ما يقولونه، ومع هذا، فأنا ما قلت لكم: أني رجل صالح، أنتم قلتم هذا، فإن كان ما يقول هؤلاء صحيحا فأنتم كذبتم. فقام الملك الظاهر ومن معه من عنده؛ وقالوا: قوموا بنا، لا نحترق بمجاورته. وتحولوا إلى طرف الإيوان بعيدا منه. فقال الظاهر: أيش رابكم في أمره؟. فقال الأتابك: هذا مطّلع على الأسرار وأسرار الدولة، وبواطن أحوالها، وما ينبغي إبقاؤه في الوجود، فإنه لا يؤمن أن يصدر منه ما لا يمكن تلافيه. فوافقه الحاضرون على ذلك، وقالوا: ببعض ما قد قبل [عنه] يباح دمه، ففهم ما هم فيه، فقال للملك الظاهر: اسمع ما أقول لك! إنّ أجلي قريب من أجلك، وبين وبينك مدة أيام يسيرة، من مات منا لحقه صاحبه عن قريب. فوجم الملك الظاهر لذلك، وقال للأمراء: ما ترون في هذا؟. فلم يمكن أحدا أن يقول شيئا. فقال [السلطان] الظاهر: هذا يحبس في موضع لا يسمع له فيه حديث، فيكون مثل من قد قبر

وهو حي. فقالوا: الذي رآه مولانا السلطان. فحبسه في مكان منفرد، بقلعة الجبل، ولم يمكّن أحدا من الدخول إليه إلا من يثق به السلطان غاية الوثوق، ويدخل إليه بالأطعمة الفاخرة، والأشربة، والفواكه، والملابس تغير عليه كل وقت. وكان حبسه في ثاني عشر شوال سنة إحدى وسبعين وستمائة. وتوفي يوم الخميس سادس المحرّم، أو ليلة الجمعة سابعه، وأخرج يوم الجمعة المذكور من سجنه بقلعة الجبل، ميتا، فسلّم إلى أهله، فحملوه إلى زاويته المعروفة بخط الجامع الظاهري بالحسينية، فغسّل بها، [وحمل إلى الجامع المذكور] «1» ، وصلّي عليه عقيب الجمعة بالجامع المذكور، ودفن بتربة أنشأها لنفسه بالزاوية، وقد نيف على الخمسين. «2» ولما عاد الظاهر من الروم، كتب بالإفراج عنه، وجهّزه على البريد، فوصل البريد بعد موته. وكان بنى له الظاهر زاوية بالحسينية، ووقف عليها أحكارا يحصل منها في كل سنة فوق ثلاثين ألف درهم. وبنى له بالقدس زاوية، وبجبل المزة ظاهر دمشق زاوية، وبظاهر بعلبك زاوية، وبحماة زاوية، وبحمص زاوية، وفي جميعها فقراء، وعليهم الأوقاف، وصرّفه في ملكه يحكم ولا يحكم عليه، ولا يخالف أمره في جليل ولا حقير، ويتقي جانبه الخاص والعام، حتى الأمير بدر الدين الخازندار، والصاحب بهاء الدين، وملوك الأطراف، وملوك الفرنج وغيرهم. وهدم بدمشق كنيسة اليهود ونهبها، وكان فيها من الآلات والفرش ما لا يعبّر عنه، وصيّرها مسجدا وبنى بها المحاريب، وعمل بها سماعا، ومدّ بها سماطا. ودخل كنيسة الاسكندرية، وهي معظّمة عند النصارى، ويعدونها كرسيا من كراسيهم، ويعتقدون فيها البركة، ويزعمون أن رأس يحيى بن زكريا عليهما السلام فيها، وهو عندهم يحيى

المعمّداني، فنهبها، وصيّرها مسجدا، وسمّاها" المدرسة الخضراء" وأنفق في تغييرها من بيت المال مالا كثيرا. «1» وهدم بالقدس كنيسة النصارى المعروفة بالمصلّبة، وهي جليلة عندهم، وقتل قسيسها بيده، وعملها زاوية. وكان واسع الصدر، يعطي ويفرّق الدراهم والذهب، وعمل الأطعمة الفاخرة، في قدور مفرطة في الكبر بحيث يحمل القدرة الواحدة الجماعة من الحمّالين. وكانت أحواله عجيبة لا تكيّف، ولا تنتظم، والأقوال فيه مختلفة، فمن الناس من أثبت صلاحه، ومنهم من رماه بالعظائم، والله أعلم بحقيقة حاله. قلت: حكى لي والدي رحمه الله تعالى، قال: كان الشيخ خضر عظيم المكانة عند الملك الظاهر، لا يخالفه في شيء، وكان جريئا باللسان وباليد إلى غاية، فضاق منه الوزير ابن حنا ضيقا عظيما، ولم يجد له سبيلا إلى إبعاده، فشرع في التحيّل عليه، وكانت بدمشق امرأة تعرف ببنت ابن نظيف، بارعة في الحسن، خالية من الزوج، محبّة لأهل الخير، فأتى الشيخ خضر في بعض أسفاره دمشق، فسمعت به، وبعثت إليه بأنواع من المآكل، ثم دعته إلى دار لها لضيافة عملتها له؛ فجاءها، وأقام عندها أياما في مأكل وأوقات طيبة لا ريبة فيها، فبلغ ذلك ابن حنا، فجعله سلّما له إلى ما يريد يتسلق منه على الشيخ خضر، وذلك أنه خلّى تاج الدين ابن ابنه، تزوّج المرأة وأبقاها في عصمته مدة طويلة، وحملها بالرغبة والرهبة على ما تقوله في الشيخ خضر، ثم طلّقها سرا، وتحيل جده على الظاهر حتى ألقى في أذنه أن الشيخ خضر يشرب الخمر، ويزني، وأنه كان قد أحب امرأة من بنات ابن نظيف، وأفسدها، وأن تاج الدين تزوجها، ثم لم ينته عنها الشيخ خضر، وبقي يأتي إليها، فطلّقها، وأنها لو سئلت لأخبرت بالخبر، فبعث الظاهر إلى نائبه بدمشق في ذلك، وأحضر المرأة وسألها، وهي لا تعلم بتطليق تاج الدين لها، فقالت ما قرر معها أن تقوله، فكتب

69 - يوسف بن نجاح بن موهوب، أبو الحجاج الزبيري المعروف بالفقاعي

بذلك إلى الظاهر، ثم أضيف إلى الشيخ خضر أقوال أخر، ورتبت له ذنوب لم تكن، وكان منه ما كان. ورأيت أنا في أوراق عمي- رحمه الله- نسخة المطالعة التي كتبت في ذلك، وفيها عظائم، ومما قيل فيها، وهذه المرأة باقية في عصمة الصاحب تاج الدين، لأنهم لم يكونوا علموا بإيقاع الطلاق عليها. ومنهم: 69- يوسف بن نجاح بن موهوب، أبو الحجّاج الزّبيريّ المعروف بالفقّاعيّ «13» علا بعز الطاعة، وغالب رأي النفس فأطاعه، وأزمع على الرحيل فجمع له أهبته، وأجمع له وثبته، واستعدّ ليوم العرض، وأعدّ لجنّة عرضها السماوات والأرض، وملاحظة الحق تعينه، وتحقق له ما يستبينه، فتقدّم ولم يتأخّر، وقدّم لله لا لمفخر، وركض به عمله محضرا، وسره يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً «1» ، فلم ير أضاليل الدنيا إلا مهوما، ولا رئي على غروراتها محوّما. أصله من قرية من قرى" نابلس" تعرف ب" عقربا" وله بها زاوية، وكان يتردد إليها في كثير من الأوقات، بعد أن قدم دمشق. «2» وله زاوية ورباط بالقرب من الجامع الأفرمي بناهما له الأمير جمال الدين موسى بن يغمور. وكان كثير العبادة والزهد، حسن التربية، كريم الأخلاق، لطيف الحركات، كثير التواضع، ليّن الكلمة، من المشايخ المشهورين بالعرفان، ولكثير من الناس فيه عقيدة صالحة.

توفي ليلة الأربعاء [بجامع الجبل] «1» سابع عشرين شوال، سنة تسع وسبعين وستمائة. ودفن بتربته جوار الزاوية، بعد أن صلّي عليه بالجامع المظفّري، بسفح قاسيون، وقد نيف على الثمانين. حكى ابن اليونيني: عن الشيخ تاج الدين عبد الرحمن الفزاري «2» قال: اجتمعت به فسمعته يقول: الطالب للمشيخة جاهل بحقيقة الأمر، مستور عليه، إن أهل الله تعالى [يكرمون] «3» بها، فيسألون الله تعالى الإقالة. قال: وسمعته يقول: ليس أبناء المشايخ كغيرهم، فإن الحاصل للطالب المريد من غيرهم أكثر وأجل، فإن أولاد المشايخ عندهم إدلال بآبائهم، فلا تزال نفوسهم مرتفعة، وغيرهم يطلب الذل والانكسار، وإنما حصل الناس على الخير بهما. قال: وسمعته يقول: لقد جرى لهؤلاء الذين عندي وقت اجتهدت على إدخال أولادي فيه بكل طريق فلم أقدر. قال: وسمعته يقول: إنما نهى الشيخ الشخص عن صحبة غيره، إذا كان مريدا مشتغلا قد سلّكه، وعرف مزاجه، لأنه ربما لاذ بجاهل لحاله ففسد عليه أمره. ومثال هذا: كالمريض الذي له طبيب قد خبر علته، وعرف دواءها، وعالجها مدة، لو شاركه في تعليله طبيب آخر ربما أدّى إلى هلاك المريض «4» قال: وسمعته يقول: كان شخص يرعى الغنم مدة طويلة لم يأخذ الذئب له شيئا قط، فلما كان بعد تلك المدة، أخذ الذئب منه شاة، فقلت له: قد أحدثت شيئا!. فأنكر، فكشفت عن حاله، فإذا به قد أكل طعاما مسروقا من بعض صبيان الرعي، فقلت له: بهذا أخذ الذئب منك ما أخذ «5» .

70 - الشيخ إبراهيم بن [الشيخ عبد الله] الأرموي

ومنهم: 70- الشّيخ إبراهيم بن [الشّيخ عبد الله] الأرمويّ «13» كريم كان ينجز المواعيد، وتنبجس له الجلاميد، من بيت أركانه لم تهدم، ومكانة إرث ممن تقدم، فلم يجهل له قدر، ولم يمهل ترابه مذ وضع له خدّ في قبر. كان يؤخذ ترابه للاستسقاء، وهو في ضريحه يزار، وتحت صفيحه مشهد ومزار. «1» ومنهم: 71-[الشّيخ الزّاهد] جندل [بن محمد العجمي] «14» «2» ذكره ابن اليونيني، فقال: كان زاهدا عابدا، منقطعا، صاحب كرامات، وأحوال ظاهرة وباطنة، وله جدّ واجتهاد، ومعرفة بطريق القوم. وكان الشيخ تاج الدين عبد الرحمن بن الفركاح الفزاري «3» يتردد إليه في كثير من الأوقات، وله به اختصاص كبير. قال ولده الشيخ برهان الدين: كنت أروح مع والدي إلى زيارته بمنين «4» ، ورأيته يجلس بين يديه في جمع كثير، ويستغرق وقته في الكلام مغربا لا يفهمه أحد من الحاضرين بألفاظ غريبة.

وقال الشيخ تاج الدين المذكور: الشيخ جندل من أهل الطريق، وعلماء التحقيق، اجتمعت به في سنة إحدى وستين وستمائة، فأخبرني أنه بلغ من العمر خمسا وتسعين سنة. وكان يقول: طريق القوم واحد، وإنما يثبت عليه ذوو العقول الثابتة. وقال: المولّه منفيّ ويعتقد أنه واصل، ولو علم أنه منفيّ لرجع عما هو عليه. وقال: ما تقرب أحد إلى الله عزّ وجلّ بمثل الذّلّ والتّضرّع والانكسار. «1» قال الشيخ تاج الدين: واجتمعت به في شعبان سنة أربع وستين وستمائة فقال: أنا أحقّ الملك [العادل] «2» وقد جاءه من حلب عسكر يحاصره، وكان عمري إذ ذاك خمس عشرة سنة، وقال لي: دنا الموت، ولم يبق إلا القليل. ثم قصّ عليّ رؤيا استدلّ بها على هذا، فسألته عن الرؤيا؟، فقال: رأيت من زمان متقادم كأني أفرغت في بيتي جمل بصل، فأخذت منه بصلة بيدي، فرأيت عليها عبد الرحمن شملة «3» ، فجعلتها في حجري، وعرفت أن ذاك البصل كله مشايخ، أريد أن أجتمع بهم، وأراهم، ويروني. فلما كان هذا القرب رأيت كأني عبيت الجوالق «4» البصل، ولم يبق إلا قليل، فعلمت بذلك قرب الأجل. حدّثني بذلك عشية السبت ثامن شعبان من السنة المذكورة. وكانت وفاته بقرية منين في شهر رمضان المعظّم، سنة خمس وسبعين وستمائة «5» ، ودفن بزاويته المشهورة، وعلى ضريحه من الجلالة والهيبة ما يقصر الوصف عنه. رحمه الله تعالى.

72 - أبو الرجال بن مري بن بحتر المنيني

ومنهم: 72- أبو الرّجال بن مرّي بن بحتر المنيني «13» رجل كشفت له البصائر، وأزلفت له المصادر، فعمل لدار القرار، وعجّل البدار للاستقرار، وقدّم لجنّة طالما تسوّق لنزلها، وتشوّق إلى كرم منزلها، وهام بها وتاه، وقام في طلبها فواتاه، فقلبته في نعيمها، وقلّدته تقليد زعيمها، وقالت: سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ «1» ، وقدمتم فأصبتم، ولم يزل يخطم الآمال، ويحطم المال، حتى آن له الأوان، وحان أن يدعى إلى الجنّة ورضوان، فطاب مضجعا، وقدم مقدما ومرجعا. وكان شيخا ساذجا، كبير التواضع، دائم الذكر، دائم التوجه، عاريا عن التكلّف والتصنّع، عارفا بالله، صاحب أحوال ومكاشفات. امتحنه جماعة من أعيان الناس في أمر المكاشفات، فكان يأتي بها أسرع من رجع البصر. وعظم شأنه في آخر عمره، وقصده الناس رجاء بركته. وكانت له زاوية يمدّ بها السّماط للواردين والمقيمين، وكان علماء الوقت مثل ابن الفركاح، وابن الوكيل، وابن الزملكاني، يعظّمونه، ويترددون إليه، ويثنون عليه، ويصفونه بالصلاح والولاية، ويبالغون فيه إلى الغاية. وحدّثني صاحبنا ناصر الدين محمد بن الفارس المعروف بالحاجبي: توفي يوم الثلاثاء عاشر المحرّم، سنة أربع وتسعين وستمائة «2» ، بقرية منين، ودفن بها.

73 - عثمان المنيني المعروف بالقريري

ومنهم: 73- عثمان المنينيّ المعروف بالقريريّ رجل يعدّ برجال، وبطل لا يزاحم في مجال، وعجّل وكم قبضت به آجال، كان بدرا تماما، وبين نونيه أسدا ضرغاما، لا تتوقى له سهام، ولا يرد بالجيش اللهام. حدّثني عنه والدي، والصدر جمال الدين يوسف بن رزق الله العمري- رحمهما الله تعالى- قالا: لما اشتدّ بأهل بعلبك الأمر نوبة غازان ونحن إذ ذاك بها، كان فيها الشيخ عثمان، وكنا نتعهد زيارته، وأبواب المدينة مفتحة، فلما نازلها غلقت الأبواب واشتدّ الخوف، ثم أتينا الشيخ عثمان للزيارة، فوجدنا قطب الدين ابن اليونيني خارجا من عنده، فقال: دخلت على الشيخ فلم يكلّمني، ووجدته منكرا، فلم أجلس، والرأي أن ترجعوا، فإن هذا رجل له بادرة. فقلنا: لا بدّ أن ندخل، فدخلنا عليه. قال والدي: فالتفت إليّ وقال: يا محيي الدين! لأي شيء غلقتم أبواب المدينة؟. فقلت له: يا سيدي! خوفا من [بولاي] «1» فإنه قد جاء ونزل عليها، وربما أنه يريد أن يحاصر. قال: فغضب الشيخ غضبا شديدا، واحمرّت عيناه، وجثا على ركبتيه، وطلعت الزبدة على شدقيه. قال والدي وابن رزق: حتى ظنناه سبعا يريد أن يفترسنا، وبقي على هذه الحال هنيهة، ثم قال: وعزّة العزيز، طرشهم طرشة بدّد شملهم، وفتح يديه يمنة ويسرة، ثم سري عنه. وقال: قل لهم يا محيي الدين: فليفتحوا أبواب البلد. قالا: فقمنا، وأمرنا بفتح الأبواب كما قال، ثم باكرنا الخبر في اليوم الثالث برحيل غازان عن مدينة دمشق في الساعة التي قال فيها الشيخ عثمان ما قال. وحكى لي الشيخ نجم الدين محمد بن أبي الطيب قال: كان لخالنا القاضي تقي الدين

عبد الكريم بن الزكي خصوصية بالشيخ عثمان، وكان يتردد إلى قرية برزة حين أقام بها، وكان لا يزال يشكو إليه ما يجده من سوء أخلاق امرأته، وتكبّرها عليه بما لها من الأوقاف والغنى. وكان الشيخ ينهاها في كل وقت، ويخوفها عاقبة فعلها، إلى مرة زادت في سوء معاملته، فلما شكاها إلى الشيخ عثمان، قال لها: النوبة الفيصلة بيننا وبينك. ثم قال لابن الزكي: إن عاد بدا منها النوبة شيء قل: يا عثمان، يا نحس!. قال ابن أبي الطيب: فلما أتى يوم موسم، أو حفل كانت بالميطور وقد اجتمع عندها جماعة من النساء، فلما أراد أن ينزل إلى المدينة، قالت له: ابعث لنا كذا وكذا، من الحلوى، وغيرها، فبعث بشيء، فاغتاظت، فلما طلع لامته، ثم احتدّت إلى أن عادت إلى عادتها وأشدّ، فصاح ابن الزكي: يا عثمان! يا نحس!، يا عثمان، يا نحس!. ثم لم يستكمل المجلس حتى أخذتها الحمّى الحادّة، المحرقة، وقالت له: قتلتني والله!. ثم قالت: والله النوبة هي الفيصلة، ففطن ابن الزكي وقام لوقته حتى أتى الشيخ عثمان، ليسأله في أمرها، فمنذ رآه مقبلا من بعيد قال له: أحسن الله عزاك! ارجع جهّزها، فقد قضي الأمر، فرجع وكان الأمر كما قال. وحكى لي غير واحد من أهل برزة «1» : أن الملك الأوحد كان قد تعجّل نوبة كسروان منهم خراج سنة، ثم لما طال المقام بالجبل بعث يستلف سنة أخرى، فأضرّ ذلك بنا، ولم يبق إلا من أخذ دوابّه، أو قماش نسائه، أو غزلهنّ ليبيعه، فلما رأى الشيخ عثمان ما حصل لنا بذلك من الضرر والإزعاج، اغتاظ حتى كاد يتميز من الغيظ، ثم قال: لا تبيعوا شيئا، فإنه قد قضي الشغل، فلم يلبث أن جاءنا الخبر بأن الملك الأوحد قد توفي في ذلك اليوم. وأخباره ومناقبه كثيرة. حكى لي القاضي عبد الله البستاني الفقيه، قال: كان الشيخ صدر الدين ابن الوكيل حسن العقيدة في الفقراء، وسمعته يحكي قال: طلبني الأفرم مرة، طلبا مزعجا، فجئته،

74 - محمد بن إبراهيم الأرموي

وأنا خائف منه- على صحبتي له-، فلما دخلت عليه رأيته مبتهجا لي، فطلع إلي وقد كاد يسطو علي لأجل ابن تيمية، وقال لي: يا صدر! أنت تريد تعاند القدرة في ابن تيمية؟ وكلما رفعه الله تريد أنت أن تضعه بيدك، والله ما تريد إلا من يخرجك من الشام، ويحبسك في الاسكندرية، ليكف شرك. قال: فخرجت وأنا في غاية الخوف والوحشة، وتوجّهت على الفور إلى الشيخ عثمان، فما لحقت أكمل السلام عليه حتى قال لي: بئس الصاحب صاحبك، يعني الأفرم، والله يا صدر الدين! ما هو يا صدر كما قال لك، ما يريد يعاند القدرة إلا هو، والله ما يخرج من الشام ويحبس في الاسكندرية إلا ابن تيمية. قال: فسرّي عني ما كنت فيه، وبت عنده تلك الليلة، ثم عدت، فلم أصل إلى بيتي إلا ورسول الأفرم قد أتاني، فجئته، فقال: يا صدر الدين! أنت رجل صالح، عمل نفسك في ابن تيمية، وقد جاء مرسوم السلطان بطلبه، وعزمي أن أدفع عنه، وأشتهي أن لا تحرّكوا أنتم ساكنا ليدفع عنه الشر، لعلّ تصطلحوا، فيزول ما بينكم، ثم لم يمض- والله- الأيام حتى لم يكن بدّ من تجهيزه، وحبس بمصر والاسكندرية، وجاء الأمر كما قال الشيخ. وتوفي سنة ثمان وسبعمائة رحمه الله تعالى، ورضي عنه. ومنهم: 74- محمّد بن إبراهيم الأرمويّ «13» مشيّد بيت وأبيات، وصاحب أناشيد وتلاوة آيات، سكن الشام فاخضرّ واديه، وابيضّ بكرم أياديه، وتفجّرت أنهاره مثل قريحته، وطالت غرة جبهته مثل لألاء صبيحته، وسكن بزاوية ابنه بسفح قاسيون، فسقى السفح، وعامل ساكنه بالرحمة والصفح، فظهرت به من سرّ أبيه- رحمه الله- خفايا، وطلعت من الزوايا خبايا.

فصل يتعلق بالسماع

وكان رجلا أوّابا، وعجلا إلى الله توّابا، ومحسنا ما عرفت له أساءه، ولا ألفت منه إلا عباده، أشهد عليها صباحه ومساه، وله عقب نعم ما أعقبه سلف، وأبقاه ماض من خلف منه أي ابن منجب، وولد متواضع للفقراء معجب. ومن كلامه: فصل يتعلق بالسماع قال: افتقار السماع إلى الوجد، افتقار الصلاة إلى النية والقصد، فكما لا تصح الصلاة إلا بالنية والقصد، كذلك لا يباح السماع إلا بالوجد، فمن كانت حركته في السماع طبيعية، كانت نشوته به حيوانية، ألا ترى أن كثيرا من الحيوان ينشأ له حال غير المعتاد عند سماع المطربات، وقوة حركة لسماع طيّب النغمات، فمن كان هذا السماع الحيواني في ذلك أقصى أربه، وكان مقصورا فيه على هواه ولعبه، وهو سماع الطبيعة لا سماع الأرواح، فجدير أن يجتنب فإنه يستعمل الطبيعة [ويجرّ إلى الوقوع] في غير المباح. والسماع الذي اختلفت فيه الأقوال إنما هو سماع أهل المقامات والأحوال، فمنهم من أباحه على حكم الاختصاص، ومنهم من جعله زلة الخواص، ومنهم من توقف ولم يجد إلى إقامة الدليل على كلا الأمرين نشاطا، ورأى الاستغفار منه إذا قدر له الحضور فيه احتياطا، فهو متردد في أمريه، فتركه لمثل ذلك أولى، ولم يرزا على من حضره من السلف، لكن لم ير نفسه بحضوره أهلا. فهذه جملة اقتناعية مما قيل فيه، ونبذة لعلّ من تأملها تكفيه. «1» إذا حرك الوجد السماع إليكم ... يباح وإلا فالسماع حرام ومن هزّه طيب استماع حديثكم ... ومال من الأشواق ليس يلام ولا عجب إن شتت الحبّ جمعه ... فليس لأحوال المحب نظام يسير مع الأشواق أين توجهت ... وليس له في الكائنات مقام ولا غرو إن ضلّت مذاهب عقله ... فإن مقام العز ليس يرام حمى لا سبيل أن يباح مصونه ... وكل الورى طافوا عليه وحاموا

وقاموا وقد جدوا لأول منزل ... فقاموا حيارى فيه حيث أقاموا ومن نظمه الفائق قوله: لا غرو أن أصبح وجه الثرى ... ونوره بالنور وضّاح إذ كم يد بيضاء في كفها ... بروضة النرجس مصباح وقوله: ما حمرة العينين منك بمهجتي ... أفديهما وبناظري لتألم لكن لحاظك أغمدت أسيافها ... بحشاشتي فبدا بها أثر الدم وقوله: واد إذا جئنا سراعا نحوه ... خوف الهجير وقد أطل زمانه رق النسيم لبانه وتعطفت ... كرما علينا في الربا أغصانه وقوله: لله أيام الربيع وطيبها ... وتفاخر الأطيار في الألحان والورد ينمى في الغصون كأنما ... الحياء بوجنة الخجلان والغصن يثنيه النسيم كما ثنى ... سكر السموأل شمائل النسوان والماء يمشي في الرياض كما مشت ... سنة الرقاد بمقلة الوسنان وقوله: حديقة إذ نبّهتها الصبا ... لم يبق منها مقلة غافية وشى بطيب العرف تمامها ... لما أتتها الأعين الصافية وقوله: كأنما المريخ في جوه ... شقيقة بين رياض الأقاح

وأنجم الجوزاء خرد غدت ... ترقص من تيه بسيف الصباح وقوله: يا طيب ما جاء النسيم بعرفكم ... وحديثه عنكم حديث مرسل حمّلته مني السلام إليكم ... فأطاعني لكنه يتعلل وقوله: كم للنسيم على الربى من نعمة ... وفضيلة بين الورى لن يجحدا ما زارها وشكت إليه فاقة ... إلا وهزّ لها الشمائل بالندا وقوله: رقّت ورقّ الكاس من دونها ... عذرا راح عرفها يسكر كالشفق الأبيض من دونه ... والجوّ صاف شفق أحمر وقوله: قلب غدا من حبكم عامرا ... لغيركم ليس به منزل وقد أردتم هدمه بالقلا ... سألتكم بالله لا تفعلوا وقوله: حبّذا دوحة إذا ما سعينا ... واستجرنا بذيلها في السموم لم نزل تحت ظلها في أمان ... بين خود الندا ولطف النسيم ما استمدت رياضها الغيث إلا ... جاء منه الصبا بوعد كريم قد تردّى برداء السحاب ووافى ... يتمشى هونا بقلب سليم يتمادى بين الغصون دلالا ... قد تربى من يومه في النعيم وهو يختال فرحة حين وافى ... من حبيب مبشرا بالقدوم ويريد الرجوع من غير عزم ... فهو بين التأخير والتقديم وقوله:

أما ترى الليل قد ولّت مواكبه ... مهزومة واختفت خوفا كواكبه وقد تجرّد سيف للصباح غدت ... محمرّة من دم القتلى جوانبه وقوله: ما اصفرّت الأوراق إلا خيفة ... لما استبانت فرقة الأغصان وكذا النسيم غدا عليلا إذ بدا ... متنقلا أبدا عن الأوطان فاظفر بجمع الشمل قبل شتاته ... ما العيش إلا صحبة الإخوان وقوله: وافى الربيع فعاد الروض مبتسما ... وطالما انتحبت فيه سحائبه والغصن من فوقه الشحرور تحسبه ... يتلو الزبور بأعلى الدير راهبه وشاطيء الدهر قد دبت عوارضه ... وافترّ مبسمه واخضرّ شاربه فصفّق الدوح لّما أن رأى عجبا ... من أجل ذلك شابت ذوائبه وقوله: لم أنس ليلة بات البدر يخدمنا ... إلى الصباح ولم يشعر بنا الرقبا والنهر لجينا والدجى سبح فمذ بدا ... الصبح ياقوتا جرى ذهبا وقوله: وافى النسيم أما القطر فانثنت ... الأغصان ترقص من تيه ومن مرح وأعين الروض تجري وهو مبتسم ... وقد تفيض دموع العين بالفرح وقوله: وزهر في غصون الدوح تبدو ... فناهيك السماء بها النجوم فإذا عجيب إذ أضحت رجوما ... متى استرق العبير بها النسيم وقوله:

كأنما الدوح وقد طرّزت ... أيدي الصبايا بالنور أثوابها مضارب من سندس مذهب ... قد مدّت الأغصان أثوابها وقوله: أما ترى الليل قد ولّت عساكره ... وأقبل الصبح وامتدّت مواكبه وجرّد الصبح سيفا للدجى فغدت ... من سفكه الدما حمرا جوانبه وأصبح الليل مصفرّا لهيبته ... يجدّ في السير لا يبقي ركائبه ممزق الذرع محلول الإزار وكم ... قد أحكمت سردها ليلا كواكبه وقوله: أصبحت أوجع من ورقاء فاقدة ... في الدوح طول الليل لم تنم بعد الأحبة لا تهوى المنام بلى ... إن سامحوها وزار الطيف في الحلم وقوله: رأيت الصبا لما استعنت بلطفه ... على حمل ما لا قيته يتعلّل وقمت بحفظ العهد للنجم في الدجى ... فما باله في صحبتي يتنقل وقلب الدجى ما زال للسر كاتما ... وها هو عما خلته يتحوّل وقوله: وربوع يكاد طيب شذاها ... يفضح المسك في نحور العذارى أشرقت شمس نورها فسعينا ... نحوها في الدجى نوم نهارا وأتى القابسون نحو سناها ... فرأوا جلي نارها جلّنارا وقوله: سكوت كما تهب صبا صباحا ... فرقّ لأنّه برّ كريم فلا تعجب له إن مال عطفا ... لأن الغصن يعطفه النسيم وقوله:

لطفت شمائله فعدن شمائلا ... من أجلها عرف النسيم معطر لو لم ينمّ عبيره بعنوده ... كان الرقيب للطفه لا يشعر وقوله: أصافح الأغصان أبغي الحيا ... مستشفيا.... جربالها وكيف لا يدركني جودها ... وقد تعلّقت بأذيالها وقوله: ناجته في السرّ الحاظي على وجل ... أليس في الحال ما يغني عن السكرى فقال لي كسر جفنيه فديتهما ... بحجلة قد عرفت السر والنجوى وقوله: يا معرضا عني وفي أغراضه لطف ... يفي بفضائل القرب من دون سفك دمي بحبك عامدا ... معنّى نفسك بواعث العتب وقوله: كأنما النهر في ظل الغصون وقد ... ألقى السحاب عليه حمرة الشفق خدّ تكنفه قرط الحياء وقد ... مدّ العذار عليه خضرة الورق وقوله: كسى فصل الربيع الدوح بردا ... يقيها لفحة الحر الشديد وما خلعته لما رث إلا ... وقد طمحت إلى لبس الجديد وقوله: أنا مستجير بالدجى ... من سلّ سيف صباحه فعساه يكلأ ذا هوى ... كرما بظلّ جناحه وقوله:

كأنّ سمانا والبدر فيها ... وأنجمها محدقة إليه حديقة نرجس من حول عين ... تدفّق ماؤها فطغى عليه وقوله: جاء فصل الربيع يخطر عجبا ... عطفه بين نرجس وبهار وبدت خجلة من الماء لما ... رمقته لواحظ الجلنار وكأن الغدير إذ قابل الشمس ... لجين مرصّع بنضار وكأن السماء إذ رأت الأرض ... عروسا جادت لها بنثار فلهذا أضحى الأقاح وكل ... قابض بعزة على دينار وذكت نكهة الصبا إذ أذاعت ... سر ما أودعت عن النوار لا عجب تهدي إلينا شذاها ... مع صباها مجامر الأزهار إذ رأينا بكل كأس شقيق ... در مسك تذكيه شعلة نار وقوله: تبسم ثغر الروض بعد قطوبه ... سرورا بإقبال الربيع إليه ألم تر أن الغصن إذ رقّت الصبا ... يصفق مسرورا لها بيديه وأن ثياب الورد وهي شقيقة ... يشققها حتى تمرّ عليه وقوله: خلت أن الغصون ترقص لما ... بشرتها النسيم بالأمطار فلهذا ألقت لها ما عليها ... فهي من شدة السرور عواري لبست في الشباب ثوب وقار ... ورأت في المشيب خلع عذار وقوله: دمن تخال دماء خدود شقيقها ... تجري وثغر أقاحها يتكلم ويكاد نرجسها ويمنعه الحيا ... منا بأطراف الحياء يسلم

وقوله: ودوحة حسن خلتها حين انبعث ... كواكب تبر في السماء زبرجد إذا قبلتها الشمس ظنت لطافة ... بقية نار في بنادق عسجد وقوله: وما اشتقت أيام الصبا غير أنني ... تذكرت أحبابا بها ومآربا تولوا فولى طيب عيشى لبينهم ... فلوا أنهم داموا لدام لي الصبا وقوله: أو ما ترى المنثور لما أن رأى ... طيب المقام بجنة وخلود كسر الصليب وقد عدا ببنانه ... نحو السماء يشير بالتوحيد وقوله: تعوّدت طول الهجر منكم فلو طرا ... لي الوصل يوما أنه الوصل ولو شاهدتكم مقلتي لم أثق بها ... وقلت مناما ما لبعضها أصل وقوله: فاحت فقلت لها دعي ... ليس الهوى بتصنّع أين الذهول إذا نطقت ... وأين فيض الأدمع؟ وقوله: لئن شغلت روحي بغير هواكم ... فلا بلغت من وصلكم ما تمنّت وإن مدّت الأيدي إلى غير فضلكم ... تروم نوالا من سواكم فشلّت وقوله: قم فاسقني ما راق في ... صافي الكؤوس من الشراب راحا ألذّ من ابتسام ... من حبيب في عتاب

وأرق من شكوى محبّ ... مستهام باكتئاب والشمس في أفق السماء ... تلوح من خلل السحاب مرآة تبر دونها ... ما رقّ من حمر الشباب وقوله: بدا لنا الجلّنار في القضب ... والطل يبدو عليه كالحبب كأنما أكؤس العقيق به ... قد ملت من برادة الذهب وقوله: غدا لكل معنى في الأنام يروقه ... ويغريه برق باللوى وخفوقه ويثنيه نشر الروض مرت به الصبا ... سحيرا بريا عرفكم ويشوقه مبشرة جاءت فكان لها يد ... وفضل عليه لا يؤدى حقوقه فما الطلّ فوق الروض عند سقوطه ... ولا المسك منثورا علينا سجيفه بأطيب مما طمنت عن جنابكم ... وفي طيها نشر ذكي عبوقه فبالله عرّج سائق الظعن بالحمى ... فمنزلها وادي النقا وعقيقه وإلا فدعها كيف شاءت وسيرها ... فأي طريق يممته طريقه وقوله: خانني ناظري وهذا دليل ... برحيلي من بعده عن قليل هكذا السفر إن أرادوا رحيلا ... قدموا أمامهم الحمول وقوله: لم حرمتم جفني الرقاد إلى ... أن خلت ما بين جفني سيفا ما تمنيته اشتياقا ولكن ... أترجّى أن تبعثوا فيه طيفا وقوله: أوحشتني والله يا مالكي ... في لذة الكاس على الورد

فقال لي ما غبت عني مذ غدا ... يشرب من ريقي على خدي وقوله وقد مرّ ببعض الكروم فرأى بها أعظما قد علقت، والرياح تلعب بها كلما خفقت، وكلما حركتها سمع من أصواتها مثل الأنين وأوجع من حسها ما يوجع الحزين، فتذكر ما كانت عليه تلك العظام الرفات، ثم ما حدث عليها من الآفات، وتأسف لها لو ردّ الأسف ما فات، والذي قاله: سئمت دوام سكونها فتكلّمت ... شوقا إلى ما مرّ من لذّاتها مرّ الصبا فتذكرت زمن الصبا ... فغدت تنوح على زمان حياتها وقوله: أودعت سرها الأزاهير سرا ... سرى فيه النسيم في الأسحار وتلقت بعرفها الوفد حتى ... تنبهوا منها بقرب المزار فأعادت من السقام شفاء ... حتى جاءت بأطيب الأخبار مغور الرياض تبسم عجبا ... من بكاء السماء بالأمطار نقطتها بلؤلؤ الطل ليلا ... فحكته شمس الضحى في النهار فسمته النسيم في الجو حتى ... جمعته من سندس في إزار وكأن الغصون في الدوح أضحت ... مصغيات إلى هديل الهزار فإذا ما انتهى إليها بثت ... تحدث الهوى بغير استتار ثم شقت أثوابها من غير أمر ... ثم فكت بقية الأزرار وقوله: رقّت معانيه وراق حديثه لطفا ... فعاد هوى لكل مزاج فكأن معناه الطيف ولفظه ... خمر يروق في صفاء زجاج وقوله: شكوت صبابتي فيه وشوقي ... فكاد لرقة الشكوى يهيم

فلا عجب إذا ما مال عطفا ... لأن الغصن يعطفه النسيم وقوله: مقلة سوداء ألبستني ... كحلا من غير كحل قد أمنت القطع منها ... إذ غدت همزة وصل وقوله: دنا السحاب فضم الروض فانبعثت ... دموعه تتوالى وهو لهفان كالأم تحنو على المولود ترضعه ... ثديها العذب سحا وهو هطمان وقوله: كأنما الروض إذا ما بدا ... جبين وجه الكوكب النير مطارف من سندس أخضر ... مموّه بالذهب الأحمر وقوله: عطف السحاب على الرياض فأقبلت ... تشكو إليه من أليم بعاده فغدا يقبّلها ويبكي رحمة ... فتبسّمت بعود وداده وقوله: كأنما المريخ في جوّه ... شقيقة في روضة الأقحوان ودمية الجوزاء في حلّة من سند ... س ما بين عقدي جمان وقوله: الغصن ربّاه النسيم بلطفه ... فكسى شمائله شريف طباعه والنهر غذّاه صغيرا قبله ... فزكا وطاب جنى لطيب رضاعه وقوله: والنهر قد عشق الغصون وقد غدا ... يصف المحاسن من بديع جمالها

لكن درى أن النسيم يميلها ... عن وصله فرضى بطيف خيالها وقوله: أما ترى الأغصان لما أتى ... النسيم بالبشرى من المغرب لم يرض من سندسها حلة ... حتى انجلت في ثوبها المذهب وقوله: وإذا رأيت الروض في عرصاته ... تقيه بخديه الردا وعيونه وألفيت فيه النهر قد جاء طالعا ... يقبل أرضا بين أيدي غصونه وقوله، وكتب بهما إلى ابن خاله أبي الحسن لما سافر نابلس: فقدت مذ غبتم يا سادتي جلدي ... وأنت سائر الأوقات في خلدي عدمت قلبي وجسمي ذاب بعدكم ... سقما فصرت بلا قلب ولا جسدي وقوله: أقول والصبح حثيثا سرى ... في طلب الليل على الأبلق وطرّة الليل بها مفرق ... بغير سيف الصبح لم يفرق والبدر إنسان لعين الدجى ... منفذ في طرفه الأزرق وقوله: كيف للطّيف أن يزور محبا ... وهو في طول ليله يقظان يسرق النوم جفنه فإذا ... ما كاد يغشاه هزّه الخفقان وقوله: خلت الغصون كأنها قد ألبست ... درعا يزررها الصبا ويفكك رش الندا أثوابها وكأنها ... بيد الشمائل والجنوب تفرك وحدا النسيم الورق إذ باحت به ... فالغصن وجدا بالهوى يتحرك

75 - نجم الدين الخشكناكي

ومنهم: 75- نجم الدّين الخشكناكيّ نجم كم أطلع هلالا، وأطعم مما حلا حلالا، ولم يزل كل ذي ورع ينتاب محله، ويختار من المآكل أحلّه، والعيون تترقب مواقيت تلك الأهلّة، وتتوثب إلى تواقيت تلك الأكلة، وللناس ولع بذلك الخشكنان، وطمع فيما يؤثر من سعد القرآن، فتعجل إلى منادي تلك الدور والدار، وترى طعام أهل الجنة ما خرج من تلك النار، فكانت لا تبرح ترى أفواجا على فرنها، وتسمع لجاجا في مفاخرة العصور الذاهبة بقرنها، ولهذا كم أقسم منها بنون، والقلم لكتابه وآثارها وما يسطرون. كان رجلا أشقر طوالا، له حانوت بالسوق الكبير يعمل فيه الخشكنانك «1» ، ويبيعه، ويأخذ الثمن بالناقص، ويعطي بالزايد، ولا يرد درهما زائفا، بل يأخذه ويعطي به الخشكنانك، ثم يقص الدرهم ويرميه في النار، قصدا لتخفيف الزغل من نقود الناس ومعاملاتهم. وكان إذا سمع أذان المؤذن ترك شغله، وأتى الجامع فصلى فيه في أول صف. وفي يوم الجمعة لا يتسبب بل يجعله مقصورا على القعود في مقصورة الخطابة، وانتظار الصلاة، حتى يصلي الجمعة. وكان كثير البر والصدقة والمعروف، ونفقاته أضعاف مكسبه، وأمثال معاشه وسببه، وكان معروفا بالصلاح، مشهورا بالولاية، وله أحوال عظيمة، وأمور غريبة، وطريقة مثلى،

وأفعال حسنى، إلى رياضة أخلاق، ودماثة جانب. قالوا: إنه لم يشتر شيئا حتى يزن ثمنه أولا، ويجعله في يده، ثم ما يتسلم المبيع حتى يصير الثمن في يد البائع. هذا إلى عيادة مرضى، وتشييع جنائز، والقيام بحقوق إخوانه وأصحابه وجيرانه، والإفضال عليهم بتفقده، واشتهر أمره في زمانه، وأجمع عليه أهل وقته. وكان ابن تيمية، وابن الفركاح، وابن الوكيل، وابن الزملكاني، وغيرهم من علماء الوقت مجمعين على فضله وصلاحه، وكان الناس تحمل أولادهم وتأتي إليه ليمسح بيده على رؤوسهم، ويدعو لهم، ويعودهم، فيفعل ذلك، ثم ما ينصرف واحد منهم حتى يعطيه خشكنانكة، أو خشكنانكتين، أو أكثر من ذلك، ويعطي الناس على مقدارهم، وينزل الناس منازلهم، ويجزل لذوي الحاجة، حتى أن الفقراء منهم كان يعطيهم مع الخشكنانك ما تيسر من الفضة أو الفلوس، ولا يعرف هذا المدد من أين، ومعاشه لا يحمل بعضه. وكان على قدم عظيمة، وسلوك على عزة. وحدثني الحافظ العلائي قال: لما اشتد الخوف بأهل دمشق نوبة شقجب، فغدا الشيخان محمد الأرموي، ومحمد بن قوام في الجامع الأموي، واجتمع إليهما الناس، وشرعوا في التوجه إلى الله تعالى، وقرؤوا الحديث الشريف، فلما أكملوا القراءة والدعاء أذنت المغرب، وكان ذلك في رمضان، قام الشيخ نجم الدين الخشكنانكي، ومعه علبتان من الكعك المحشو، تقدير ما يكون في مثليهما عشرون كعكة، فأعطى كل واحد من الشيخين كعكين كعكين، ثم فرّق على بقية الناس كذلك، وكان الجامع مملوءا من الناس، لو فرّق عليهم ثلاثمائة علبة لم يكفهم!، ولم يفطن أحد لذلك في ذلك الوقت، ولا فيما بعده حتى مات، فلما وضع سريره للصلاة عليه، لم يبق إلا من ذكر تلك الكرامة، وعدّها من كراماته. وحدّثني صاحبنا الشريف محمد بن أحمد بن علي بن ظاهر الحسيني، قال: كانت لنا دار بالخضراء، وظهور بعضها لغيرنا، وكنا في غاية الضرر بملك الغير لها، فباعها مالكها من

76 - علي السقباوي

رجل كان من خاصة الأعسر، فلم يقدر على منازعته بالشرع ولا بغيره، ودخلنا عليه بكل أحد فلم ينزل لنا عن البيع، فذهبت أنا وأمي إلى الشيخ نجم الدين، وكنا لا نعرفه، ولكنا نسمع بخبره، ونعرف مكانته عند الناس، فحدّثناه لعلّه يكلّمه، أو يكلّم الأعسر لنا، فقال: أما الأعسر فإني لا أعرفه، وأما هذا الرجل فأحدثه. ثم قام معنا حتى أتيناه، فقلنا له: هذا هو. فسلّم عليه، ثم قال: من ترك شيئا لله عوّضه الله خيرا منه، وهؤلاء أحق بهذه الدار، والله قد قدّمهم للجوار وللخلطة، فدعها لهم. فقال: قد تركتها لهم- وما كان والله يعرفه- فذهبنا، فأتينا بالدراهم، ولم نبرح حتى تكاتبنا، وتسلّمنا المبيع، وأراحنا الله من ضرر جواره. ثم إن ذاك الرجل كان يقول: والله ما أعرف كيف سحرني ذاك الشيخ؟. ولا يزال نادما على الإجابة للبيع. توفي رحمه الله تعالى [.........] «1» ومنهم: 76- علي السّقباويّ الكردي الأصل، رجل عرف عرفانه، وألف السهر حتى جفت النوم أجفانه، وكان بطل كتائب، ورجل لقاء لا يخطي له صوائب. كان يسكن بالمدرسة العزيزية «2» شمالي الكلّاسة، جوار جامع دمشق، في بيوت الداير الفوقاني. وله كرامات ظاهرة، وأمور باهرة:- منها: ما حدّثني به زين الدين عمر المشرف رحمه الله تعالى قال: كان أيدمر مملوك الصاحب عز الدين بن القلانسي قد أخذ بيتا من بيوت هذه المدرسة التحتانية، فأشرف عليه الشيخ يوما فرآه في ذلك البيت بكلوته «3» ولباس الجندية، فسأل عنه؟ فقيل له: هذا

مملوك الصاحب. فقال: قولوا له: هذه البيوت ما جعلت إلا للفقهاء، والفقراء، ومزاحمتك لهم وأنت من الجند الأغنياء ما يحل، فدع هذا البيت لمستحق. فقالوا له، فلم تفد. فبعث يقول لسيده ذلك، فما أفاد، فغضب غضبا عظيما، وحنق حنقا مفرطا، واحمرّت عيناه، وقامت أوداج رقبته، وقال: إن كنت تلتقي يا ابن القلانسي التق، فو الله ما أصبر!. ثم بقي يقول: انقضى الشغل. قال: فاتفق ما كان من إمساك كراي لابن القلانسي، وتضييقه التضييق الشديد عليه، فلما كان بعد مدة، رأيت أيدمر مملوك ابن القلانسي في ذل، مجرورا بين الأعوان، يكاد يسحب على وجهه، فرحمته، وذكرت قول الشيخ، فأتيته، فصادفته منبسطا، فقلت: يا سيدي! أنتم أهل رحمة وخير، وذكرت له حال ابن القلانسي، ولم أزل به حتى رقّ له، ودمعت عيناه، وقال: والله ما هذا النائب عن كراي إلا من الجبابرة، وهو أولى بنزول البلاء، اللهم فرّج عن ابن القلانسي، وأنزل بكراي ما أراد أن ينزل به من البلاء. قال: فو الله لم يمض إلا أسبوع حتى أمسك كراي، وآل أمر ابن القلانسي إلى الصلاح، ثم إلى الفرح. وحدّثتني الحاجة صفية أخت البطاحي، وكانت ثقة، قالت: لما نزلت التتار على الرحبة، تعني سنة اثنتي عشرة وسبعمائة، واشتد بالناس الأمر، وكثر الجفال، وتأخر العسكر المصري، عدمت القرار، وكنت أطلب الدعاء للمسلمين من كل من أعتقد فيه الصلاح، فاشتد الخوف بنا يوما، وكثرت الأراجيف، فأتيت أخت الشيخ علي السقباوي، وكانت في بيت إلى جانب بيته، فقلت لها: لو قلت للشيخ ليدعو للناس، فإنهم في خوف عظيم وشدة، وإلى الساعة ما صحوا من نوبة غازان. فقامت وأخذتني معها، وقالت: يا أخي! هذه امرأة مباركة، وقد قالت لي: كذا وكذا، فقال: يدبّر الله، يدبّر الله، وطرأ عليه حال ما استطعنا معه الثبات على المقام عنده، فخرجنا إلى بيت أخته، وجلسنا به هنيهة، نتحدّث في أحوال الناس، وإذا به قد صاح صيحة عظيمة منكرة، فقامت أخته إليه مزعجة، وقمت خلفها، فسمعته يقول: ائتني بخرق ليحشي به هذا الجرح، فهبت فأتيته بخرق، فكشف لها عن جرح دون ترقوته، قدر شبر، فقالت له: يا أخي! من أين هذا؟. فقال: هذا

77 - إبراهيم الصباح

بسبب تلك العجوز بالشتنا «1» بهؤلاء القوم، وهؤلاء لهم واحد وقح ما يرتد، جرت بيننا وبينه حروب حتى رحّلناهم إلى اللعنة!. ولحقنا هذا الجرح في سبيل الله، فحشت جرحه وهو يشخب دما، وأنا أراه بعيني لا يخبرني بذلك مخبر. ومنهم: 77- إبراهيم الصّبّاح مشكاة أنوار، وروضة صلاح، لا تخفى لها أنوار. انقطع بدمشق بالجامع الأموي مربيا لجماعته، وعونا على ما يخلو به المتعبد فيه من طاعته، وكان بالمأذنة الشرقية مشرقا لشموسها، ومحليا لها حلية عروسها، وكان رجلا منجمعا عن الناس، مستوحشا كأنه النمر أو الأسد. وكان كثير الصلاة والذكر، مواصلا لقيام الليل، وصيام النهار، ولا يقبل على أحد، ولا يختلط بأحد، يمشي في الجامع وكأنما يمشي على حذر، وكان لا يقبل لأحد شيئا فيما أعلم إلا صاحبنا بدر الدين بن العزازي، فإنه كان يبعث إليه من الطعام في كل يوم، ومن اللباس في كل سنة، بقدر حاجته، وكان يقبل ذلك منه، وحج معه، وكان عديله في المحمل. حكى لنا ابن العزازي عنه قال: كنت لا أراه إلا كالسكران الطافح، وكنت لا أجسر على كلامه، وكان لا يسألني عن شيء من أحوال الناس ولا الطريق ولا المنازل، ولا غير ذلك. وكان يكثر من قوله:" يا دائم المعروف الذي لا ينقطع أبدا، ولا يحصى عددا، يا الله". وآخر أمره أنه استدفأ بمجمرة فاحترق رحمه الله تعالى وغفر له، وذلك في يوم. [......] ورثاه الأديب جمال الدين ابن نباتة بقوله «2» :

على مثلها فلتهم أعيننا العبرا ... وتطلق في ميدانها الشهب والحمرا فقدنا بني الدنيا فلما تلفتت ... وجوه أمانينا فقدنا بني الأخرى لفقدك إبراهيم أمست قلوبنا ... مؤججة لا برد في نارها الحرّا وأنت بجنات النعيم مهنّأ ... بما كنت تبلي في تطلبه العمرا عريت وجوّعت الفؤاد فحبّذا ... مساكن فيها لا تجوع ولا تعرا بكى الجامع المعمور فقدك بعد ما ... لبثت على رغم الديار به دهرا وفارقته بعد التوطن ساريا ... إلى جنة المأوى فسبحان من أسرى كأن مصابيح الظلام بأفقه ... لفقدك نيران الصبابة والذكرى كأن المحاريب القيام بصدره ... لفرقة ذاك الصدر قد قوست ظهرا مضيت وخلّفت الديار وأهلها ... بمضيعة تشكو الشدائد والوزرا فمن لسهام الليل بعدك إنها ... معطلة ليست تراش ولا تبرا ومن لعفاف عن ثرى وبني الورى ... عبيد الأماني وانثنيت به حرّا سيعلم كل من ذوي المال في غد ... إذا نصبل الميزان من يشتكي الفقرا عليك سلام الله من متيقظ ... صبور إذا لم يستطع بشر صبرا ومن ضامر الكشحين يسبق في غد ... إلى غاية من أجلها تحمد الضمرا أيعلم ذو التسليك أن جفوننا ... على شخصه النائي قد انتثرت درّا وأن الأسى كالحزن قد جال جولة ... فما أكثر القتلى وما أرخص الأسرى ألا ربّ ليل قد حمى فيه من وغى ... حمى الشام والأجفان غافلة تكرى إذا ضحك السماء حجب ثغره ... كذلك يحمي العابد الثغر والثغرا إلى الله قلبا بعده في تغابن ... إلى أن رأى صف القيامة والحشرا لقد كنت ألقاه وصدري محرج ... فيفتح لي يسرا ويشرح لي صدرا وألثم يمناه وفكري ظاميء ... كأني منها ألثم الوابل الغمرا أمولاي إني كنت أرجوك للدعا ... فلا تنسني بالخلد في الدعوة الكبرى سقى القطر أرضا قد حللت بتربها ... وإن كنت أستسقي برؤيتك القطرا ومن كان يرجى منه في المدح أجرة ... فإني أرجو في مدائحك الأجرا

78 - حماد الحلبي

ومنهم: 78- حمّاد الحلبيّ «13» ذو القدر الوافي، والمشعل بالثريا وبشر الحافي، السري مع أنه معروف، والنوري حينه إذا سئل منه معروف. قدم دمشق، ونزل بظاهرها على رجل متسبب من أهل الصلاح متكسب من الجبل، كان لا يأكل إلا من طعامه، ولا يكتسي إلا من لباسه، ولا يبيت إلا عنده في بستان له بمرج الدحداح، وكان الشيخ يقرئ القرآن الكريم بجامع التوبة بالعقيبة «1» ، تبرعا واحتسابا، يجلس لإقراء الناس بياض كل يوم في أخريات الرواق الشمالي به. وكان رجلا ربعة أبيض بحمرة، أبيض الرأس واللحية، أقنى الأنف، ضعيف العينين، منوّر الوجه والشيبة، عليه سيما الولاية، واتّهمه أهل العرفان، فكان لا يزال متوجها إلى القبلة على طهارة كاملة، منتصبا للقراءة، والإقراء، فارغا من الناس، لا يقبل لأحد منهم شيئا. وكان شيخنا ابن الفركاح يخرج إلى زيارته في كل أسبوع مرة، أو مرتين، وكذلك شيخنا ابن الزملكاني، رحمهم الله تعالى. وزاره شيخنا شيخ الإسلام ابن تيمية، وكان يذكره بالخير ويثني عليه. حكى لي الشيخ شرف الدين ابن النجيح، قال: ذكر بين يدي الشيخ- يعني ابن تيمية- أناس من صلحاء الوقت، فأمسك بأذن القائل، وقال له: اجعل بالك، وافتح عينيك: " الصالح حماد، الصالح حماد"، وبقي يكررها.

كنت كثير التردد والزيارة له، وكان على قدم صدق وهدى، وكتاب منير. ولو حلفت أنه لم تقع عيني على مثله لكنت بارّا. ولم يحك عنه أنه قال، ولا ادّعى، ولا رزأ أحدا من ماله شيئا. ولما أقحط الناس سنة ثمان عشرة وسبعمائة، واستعدوا للاستسقاء، أتيته وقلت: يا سيدي! الناس في مشقة، فقال: لو سكتوا كفوا. فأعدت عليه القول، وقلت: لو دعوت لهم. فقال لي: اسمع! - وفقنا الله وإياك-: يحكى أن الناس أقحطوا في سنة من السنوات؛ فأمسكت السماء، وجفّ الماء، فهمّوا بالاستسقاء، واستعدوا له، فلما أرادوا الخروج إلى الصحراء أتوا رجلا صالحا كان في جانب عنهم، توسّموا خيره، فسألوه في الخروج معهم، فخرج معهم، حتى مرّ ببستان في طريقه، فطرق الباب، فخرج إليه القيّم به، فقال له: ما تريد؟. فقال له: اسق بستانك. فقال له: هذا ما يلزمك، أنا أسقي بستاني متى شئت. فالتفت ذلك الصالح إلى الناس، وقال: ألا تسمعون ما يقول؟. قالوا: قد سمعنا. فقال: إذا كان هذا كره أن أعترض عليه، أتعترضون أنتم على الله؟. ثم تركهم ورجع. ولم يخرج الشيخ حماد مع الناس إلى الاستسقاء. قلت: وكنا نسمعه كثيرا ما يقول:" كان فقير، قال فقير، جرى لفقير" ويذكر أمورا عظيمة، وكرامات ظاهرة، أنه إنما يحكيها عن نفسه، وإنما يريد الكتمان. ومما حدثنا به- وأظنه إنما حكاه عن نفسه- قال: كان بحلب فقير صادق الطلب، نودي في سرّه: حاجتك في مصر!. فخرج يريد مصر، وجعل عليه أن لا يسأل أحدا شيئا، وكان شديد الفاقة، وكان لا يأكل إلا من مباحات الأرض، فلما عدى غزة بفراسخ، دخل الرمل، فقال: أيتها النفس! ليس هنا ما تقتاتين به، فصبرا على الجوع، أو فالرجوع، ثم قوّى عزيمته، ودخل الرمل حتى أتى" قطية" «1» ولم يطعم طعاما تلك الأيام، فلما دخل" قطية" رأى ما في أسواقها، فغض بصره حتى خرج منها، وأتى حائطا في منقطع الحدائق بها،

79 - محمد بن نبهان

فقال «1» في ظله، فلم ينتبه إلا في رجل أتاه بزنبيل «2» فيه من كل ما في السوق من حارّ وحلو وحامض، ثم قال له: يا عبد الله! كل، فأمسك. فقال له: كل، فأنت ما سألت، وإنما سئلت. فأكل ثم رفع يده، فقال له: كل، يا عبد الله!، للأيام التي لم تأكل فيها من غزة إلى هنا، وللأيام التي تريد أن لا تأكل فيها من هنا إليغزة، وارجع من حيث أتيت، فقد انقضى شغلك الذي جئت في طلبه بمصر. قال: فأكل الفقير أكلا ما كان يعهده من نفسه، ولا يظنه، حتى أتى ما في الزنبيل عن آخره، ثم ناوله ذلك الرجل ماء مبرّدا، فشرب منه، ثم قال له: قم، فارجع. فقام، فرجع، وقد انقضى شغله، ووصل ما كان أراد، ولما توفي الشيخ حمّاد في [ ... ] «3» ، حضرت جنازته، فلم أر يوم دخول السلطان إلى مدينة، ولا يوم خروج حاج، ولا يوم عيد، كان أحفل من جنازته، وكان الناس منتشرين من مرج الدحداح بموضع موته، إلى مقابر باب الصغير، موضع دفنه، ما لأحد موضع أكثر من مكان قدمه، وشهدها عامّة أهل دمشق. ومنهم: 79- محمد بن نبهان «13» من بيت ما منهم إلا ولي تتشبث ذيله المطر، ويتشبه به النسيم إذا خطر، بناة عليا، وأساة قلوب أموات وأحيا، وما زالوا غيوم سما، ونجوم ظلما، وفي كل وقت منهم رجل شقيق شفيق، وسر السرى في علم التحقيق، سكنوا بيت جبرين «4» من البلاد الحلبية، فهبّ

نسيمهم شمالا، ووهب كرمهم آمالا، وكانت تأتيني أخباره كما يقذف الروض بنشره، وكان السبب في المعرفة به الشيخ التقي عبد الله بن الخطيب، فكتبت إليه كتابا مضمونه: قيل جبرين منزل لابن نبهان ... محوط بمحكم التنزيل قد تبدا محمد في رباها ... علما للسارين وابن السبيل بوقار كأنه الليل خوفا ... وجبين نيّر كالقنديل ليس يخشى الضلال من أمّ منه ... حضرة أشرقت على جبريل سلام الله وتحياته وبركاته على تلك الحضرة الطاهرة، جمعنا الله وإياها على التقوى في الدنيا والآخرة. حضرة سيدي الشيخ السيد القدوة المسلّك، جامع الطرائق، منتخب الحقائق، أبي عبد الله محمد بن سيدي الشيخ نبهان، نبّه الله القلوب به، ونوّر البصائر بأغلاقها. نسبته العبد الفقير المعترف بالتقصير أحمد بن فضل الله «1» . لما زاد شوقه إلى هذه الحضرة المقدسة، لما سمع من أخبارها، واقتبس قلبه الكليم من أنوارها، وكان الشيخ تقي الدين بن الخطيب ممن اتفق معرفته من الإخوان، وكان من نبهاء الطائفة المنسوبة إلى نبهان، وأخذ بزمام القلوب إلى الانتظام في هذا العديد، وجد بها إلى هذه النسبة الشريفة، وإن كان لا يصلح لها نبوة كل مزيد. كتب العبد الفقير الراغب في القبول له، والإقبال عليه، هذه الأحرف حال وداعه متعرفا إلى هذا الجناب، ومتعلقا منه بأدنى الأسباب، فإن فتح له، وإلا فكسير لا ينثني وهو وراء الباب. ثم كانت بيننا المكاتبات لا تنقطع، وكنت أتمنى لقاءه، ولم أستطع، وكان على قدم آبائه في إطعام كل زائر، وبر كل آمل، وإعانة كل مظلوم، وإغاثة كل ملهوف، ولم يزل أمراء حلب تجل أقدارهم، وتستأمر مستشارهم.

ولما قدمت حلب سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة، رأيت هذا الشيخ وقد جاء إلى الطنبغا ملك الأمراء، مسلّما عليه، فرأيت رجلا يملأ العين والصدر سيماؤه على جلالة القدر. ولما اجتمع بالطنبغا أكرمه إكراما يليق بمثله، وعامله معاملة عارف بفضله، إلا أن الشيخ أنكر عليه ما فعله بطشتمر، وخوّفه عاقبة البغي، ويوشك أن يؤخذ قريبا، فثقل عليه كلامه، وقام الشيخ وقد طال عليه مقامه هذا، ولم نأت الأخبار بقصد الفخري دمشق، إلا أنه قد طاح إلي الخبر سرا، ولم نظهر عليه أحدا، إلا أنا والطنبغا. ثم لم نلبث أن جاءت الأخبار، فلما كان يوم الجمعة الآتية في أسبوع قدومنا، صلينا الجمعة في جامع الطنبغا، قريبا من سوق الخيل بحلب، فقيل لي: إن الشيخ في بيت له، فدخلت، وجلست إليه، وأخذنا في الحديث، فقال لي: يا أخي! هذا الرجل قد آن أن يطل دمه، وأرى النصح لا يلج أذنه، فعرفته خبر الفخري، وما كان منه، فقال: هذا الرجل ينهزم من قدامه كما انهزم طشتمر من قدام هذا، ثم يقتل هذا، وكان الأمر كما ذكر. ثم إن الشيخ لم يجتمع بالطنبغا، بعد تلك المرة، وحرض به أن يعود إليه، فما عاد، وهمّ بأن يتوجه لزيارته، فعاقت دون ذلك العوائق. قلت: وأهل هذا البيت لهم زرع ومتجر، ومنه ينفقون نفقات موسعة، وكانت قد تأكدت بيني وبينه الصحبة في الله تعالى، منذ تلاقينا بحلب. ومما كتبت به إلى رجلين سافرا إلى حلب: بالله إن جئتما بلادا لها ... ابن نبهان كالحلي تأملا منه أي بر ... وفيه يخر لكل ري وعارضا النو في رباه ... وقبّلا عارض الولي ثم لم تلبث الأخبار أتت بوفاته، وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة. ومما كتبت فيه أعزي بيته من قصيدة وافق فيها تضمين بيت أبي تمام الرابع:

80 - عبد الله اليافعي

لا يتم بني نبهان بعد أبيكم ... أحق بأن تبقوا فلا خانكم دهر فحوزوا تراب المجد من بعض إرثه ... وطول بقاء بعض ميراثه الأجر فعدنا وضاح الجبين وإنما بقيتم ... لنا هذي وجوهكم الزهر كأن بني نبهان يوم وفاته ... نجوم سماء خر من بينها البدر ومنهم: 80- عبد الله اليافعيّ «13» الشيخ الصالح، نزيل مكة المعظّمة، والمتطوّف بتلك المشاعر المحرّمة، استقام سننا، وأقام بالبطحاء لا يبغي بغيرها سكنا، أخذ بطرف من العلم والعمل، وأقام بمكة المعظّمة يصوم النهار، ويفطر على ماء زمزم، ويقنع باليسير من الزاد، ولا يأكل إلا مما يتيقّن حلّه، واستطاب أكله. وأقام مرة بالمدينة المشرفة- على ساكنها أفضل الصلاة والسلام-، ومرة بالمسجد الأقصى ببيت المقدس، ثم عاد إلى مكة، وهو الآن بها. «1» وقد ألان بمواعظه حتى قلب أخشبها، وقد رأيته بالقبّة الدنيا من قبة الشرابي بمكة سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة، وحضرت مجلسه، وسمعته يتكلم بمثله في المجامع، وسلمت عليه، ولم يطل لي معه مجلس لحوافز الضرورة. «2»

81 - أبو بكر محمد بن عمر بن أبي بكر بن قوام

ومنهم: 81- أبو بكر محمّد بن عمر بن أبي بكر بن قوام «13» الشيخ نجم الدين. نجم هدى، ونجل أئمة بهم يقتدى، وبارقة سحب تجلي الحندس «1» وتجلو الصدا. شيّد أركان بيته، وأحيا ذكر ميته، وتمذهب للإمام الشافعي فامتدّ مذهبه في رحابه، وكان مذهبه علما لأصحابه، وودّ" الزعفراني" «2» لو خلق بردع زمانه أطراف النهار، و" البيضاوي" «3» لو بيّض صحائفه بأشعة الأنوار. وجهد" المحاملي" «4» فلم يستطع أن يكون سائق ركبه، و" الاسفراييني" «5» فما قدر بعد طول السفر على كسبه.

هذا إلى توسع في بقية العلوم، وتطلّع إلى سائر المعارف على العموم، والتحاقه وما خلع الشباب بمشايخ الطريقة، وقيامه فيها بأكثر من قدرة الهمم المطيقة، فأمسى في نكرات زمانه المفرد العلم، ومن يشابه أباه فما ظلم. وكان يجمعنا وإياه طلب العلم زمن الشباب، وأيام الصبا قبل أن يتقلص الجلباب. وكان عالما لم يضيّع أيامه، وعارفا قدّم أمامه، لم يزل عمره في جد كله، وجهد في أن لا يأكل شيئا إلا من حلّه، والدنيا عنه معرضة، وأصل الأيام له ممرضة، وهو عنها أيّ مزور «1» ، وكنفه منها مغبر ثم مغبر، فلما أسمع صيته من له أذنان، وأجنى ذكره مثل اجتنا الأفنان. ولي التدريس، وتصدّر، ودونه كل رئيس. قال: لقد نعيت إلي نفسي لأننا قوم لا نعهد هذا من الدنيا، وحكم بدنو الأجل على نفسه، وانطلق ولم يمتد شوط المهل حتى وسّد في رمسه. قرأ القرآن الكريم، وأتقن حفظه، وتفقه بشيخ الإسلام شيخنا برهان الدين ابن الفركاح، وأخذ النحو عن شيخنا كمال الدين ابن قاضي شهبة، وكان كثيرا ما تجمعنا أوقات الاشتغال عنده، ثم لم ألقه إلا بعد أن قدمت دمشق من مصر سنة إحدى وأربعين وسبعمائة، فرأيت منه أنموذج السلف، وطريقة الألى، ورجل دنيا وأخرى. كان عقله عقل الوزراء، وزيه زي الفقراء، ويتيه على الدنيا تيه الأمراء. وكان في زاوية أبيه، غربي الصالحية، في جبل قاسيون، لا يخلو من زائر، ولا يأتيه أحد إلا ويضيفه، ويطعمه مما حضر واتفق على حسب الميسور. هذا مع ضرورة ماسّة، وفقر. وكان ميّالا إلى الفقهاء وأهل العلم، منحازا إلى شعوبهم «2» ، لا يزال ينظر في كتاب فقه، أو حديث، أو في نسخ شيء من ذلك؛ إما بيده، وإما بيد غيره، أو في مقابلة على شيء كتب.

وكان لا يهاب الأمراء، وأرباب الدول؛ بل إذا جاءه أحد منهم أمره بالمعروف، ونهاه عن المنكر، وأوصاه من مصالح الرعية ما تقتضيه مصلحة الوقت الحاضر، رضي من رضي، وسخط من سخط. وتمرّض مدة بعلّة الاستسقاء، ولم يزل مستسلما للموت، مسرورا بلقاء ربه، إلى أن لقي الله تعالى، في أوائل شهر رجب الفرد، سنة ست وأربعين وسبع مائة. ودفن إلى جانب والده بالزاوية المعروفة بهم، وحضره خلق، وتأسّفت الدنيا لفقده. وهذا آخر ما ذكرت من هذه الطائفة بالمشرق، فأما من هو منهم بالجانب الغربي بما فيه الديار المصرية الواقعة معه، على قلة المشهورين من أهل المغرب، خلا مصر، فإن المذكورين فيها أمم، إلا أن أكثرهم لم يعد ذكره دار أهله، وليس هذا من شرطنا، فإنا لا نذكر إلا المشهورين في الآفاق، المذكورين على كل الألسنة.

فأما من هو من أهل المغرب

فأما من هو من أهل المغرب فمنهم: 82- أبو عبد الله محمّد بن إسماعيل المغربيّ «13» أغاظ الدنيا وأكظمها، ولم ترقه وهي تجلى عليه في إيرادها، وتستبق إليه بدهمها وورادها، فلم يعرها طرفه، ولم يرعها لحظة عين ولا طرفة، بل بتّ منها وفتّ منها في مهاب الرياح طينة الخبال، ولم يصحبها إلا بنيّة مفارق، وطويّة طارق، فلم يرد بكاسها، ولم يرغب في مكاسها. فخلاها وسار منطلقا، وولاها ظهره وأشار إليها مطلّقا. كان أستاذ إبراهيم الخواص «1» ، وإبراهيم بن شيبان «2» . وصحب علي بن رزين «3» ، وعاش مائة وعشرين سنة، ومات على جبل طور سيناء، سنة تسع وسبعين ومائتين. وقيل: سنة تسع وتسعين، وقبره فيه مع أستاذه علي بن رزين. وكان عجيب الشان، لم يأكل مما وصلت إليه يد بني آدم عدة من السنين، بل كان يتناول أصول الحشيش أشياء تعوّد أكلها. «4»

و [من كلامه] قال: " الفقير: المجرّد من الدنيا وإن لم يعمل شيئا من أعمال الفضائل، ذرة منه أفضل من هؤلاء المتعبدين المجتهدين، ومعهم الدنيا."» وقال:" أهل الخصوص مع الله تعالى على ثلاث منازل: - قوم: يضنّ بهم عن البلاء، لئلا يستغرق الجزع صبرهم، فيكرهون حكمه، أو تكون في صدورهم حرج من قضائه. - وقوم: يضنّ بهم عن مساكنة أهل المعاصي، لئلا تغتمّ قلوبهم، فمن أجل ذلك سلمت صدورهم للعالم. - وقوم: صبّ عليهم البلاء [صبّا] ، وصبّرهم وارتضاهم، فما ازدادوا بذلك إلا حبا له، ورضا لحكمه. - وله عباد [منحهم نعما تجدّد عليهم، و] «2» أسبغ عليهم باطن العلم وظاهره، وأخمل ذكرهم. وقال:" من ادّعى العبودية وله مراد باق فيه، فهو كاذب في دعواه، إنما تصح العبودية لمن أفنى مراداته، وقام بمراد سيده، فيكون اسمه ما سمي به، ونعته ما حلي به، إذا سمي باسم أجاب عن العبودية؛ فلا اسم له، ولا رسم، لا يجيب إلا لمن يدعوه بعبودية سيده". ثم بكى أبو عبد الله وأنشأ يقول: لا تدعني إلا بيا عبدها ... فإنه أصدق أسمائي «3» وقال:" أفضل الأعمال عمارة الأوقات بالموافقات" «4» .

وقال:" الفقراء الراضون هم أمناء الله في أرضه، وحجته على عباده، بهم يدفع البلاء عن الخلق." «1» و [قال] :" الفقير الذي لا يرجع إلى مستند في الكون غير الالتجاء إلى من إليه فقره، ليغنيه بالاستغناء به، كما عزّزه بالافتقار إليه." «2» و [قال] وأعظم الناس ذلا فقير داهن غنيا وتواضع له، وأعظم الخلق عزا: غني تذلل لفقير، وحفظ حرمته" «3» . وأنشد لنفسه: يا من يعدّ الوصال ذنبا ... كيف اعتذاري من الذنوب إن كان ذنبي إليك حبي ... فإنني عنه لا أتوب «4» وقال:" العارف يضيء له أنوار العلم فيبصر بها عجائب الغيب". وقال:" مررت بمفازة المغرب عشرين يوما، ما رأيت فيها آدميا، ولم آكل شيئا من الدنيا إلا شربة ماء، فبينما أنا أسير إذ لاح لي شيخ قائم يصلي، فقربت منه وقلت: السلام عليك ورحمة الله. فردّ عليّ السلام. فقلت له: من أنت؟. فقال: خليل الله إبراهيم- عليه السلام- حين رموه في النار. فقلت له: بماذا نلت هذه المنزلة؟. قال لي: يا عبد الله! توكّل، فما في المملكة شيء أعزّ من التوكل. فقلت له: وما التوكل؟. فقال: النظر إليه بلا عين تطرف، ولسان ذاكر بلا حركة، ونفس جوّالة بلا روح. ثم سلّم عليّ فإذا هو في الهواء!!. وقال: خرجت، فبينا أنا في برّية تبوك، إذا أنا بامرأة بغير يدين، ولا رجلين، ولا عينين، فدنوت منها، ثم قلت: يا أمة الله! من أين أقبلت؟.

83 - أبو الخير الأقطع المعروف بالتيناتي

قالت: من عنده. قلت: فأين تريدين؟. قالت: إليه. فقلت: يا سبحان الله! بادية تبوك، وليس فيها مغيث!، وأنت على هذه الحالة؟!. قالت: يا سبحان الله! غمّض عينيك، فغمّضتهما، ثم فتحتهما، فإذا أنا بها متعلقة بأستار الكعبة، ثم قالت: يا عبد الله! أتعجب من ضعيف حمله قوي؟. ثم طارت بين السماء والأرض!!. ومنهم: 83- أبو الخير الأقطع المعروف بالتّيناتيّ «13» لم يبق للدنيا رذاذا، ولا لبس ثوبها المعار إلا جذاذا، صحب أيامها حتى غرض، وحمل آلامها حتى مرض، وتعرّضت له فلم يرضها، ولا أحب سماءها ولا أرضها، بل شمّر لدار لا ينقص نعيمها، ولا يهب زعزعا نسيمها، ليلحق بقوم جدّ ليصل إليهم، مع الذين أنعم الله عليهم، فلم يشبع من المطاعم السغب، ولا ورد من الماء العب، ليتفيّأ تلك الظلال الوارفة الأفياء، الواكفة الأتقياء. أصله من المغرب، وسكن التينات «1» ، وله آيات، وكرامات.

صحب أبا عبد الله بن الجلاء، وغيره من المشايخ. وكان أوحدا في طريقة التوكل. وكانت السباع والهوامّ تأنس به، وله فراسة حادة. «1» وتوفي سنة نيّف وأربعين وثلاثمائة. «2» قال- رضي الله عنه-:" دخلت مدينة النبي صلى الله عليه وسلم؛ وأنا بفاقة. فأقمت خمسة أيام ما ذقت ذواقا، فتقدّمت إلى القبر، وسلمت على النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى أبي بكر، وعمر، رضي الله عنهما. وقلت: أنا ضيفك الليلة يا رسول الله!. وتنحّيت ونمت خلف المنبر. فرأيت في المنام النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر عن يمينه، وعمر عن شماله، وعلي بن أبي طالب بين يديه، رضي الله عنهم، فحرّكني علي، وقال: قم، قد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فقمت إليه، وقبّلت بين عينيه، فدفع إليّ رغيفا، فأكلت نصفه، وانتبهت، فإذا في يدي نصف رغيف." «3» وقال أبو بكر [الرازي: أنشدني] أبو الخير الأقطع: أنحل الحبّ قلبه والحنين ... ومحاه الهوى، فما يستبين ما تراه الظّنون إلا ظنونا ... وهو أخفى من أن تراه العيون «4» وقال:" لن يصفو قلبك إلا بتصحيح النية لله تعالى؛ ولن يصفو بدنك إلا بخدمة أولياء الله تعالى." «5»

84 - أبو عثمان سعيد بن سلام المغربي

وقال:" ما بلغ أحد إلى حالة شريفة إلا بملازمة الموافقة «1» ، ومعانقة الأدب، وأداء الفرائض، وصحبة الصالحين، وخدمة الفقراء الصادقين" «2» . وقال:" الذاكر لله تعالى لا يقوم له- في ذكره- عوض؛ فإذا قام له العوض، خرج من ذكره" «3» . وقال:" الدعوى رعونة، لا يحتمل القلب إمساكها، فيلقيها إلى اللسان، فتنطق بها ألسنة الحمقى، ولا يعرف الأعمى ما يبصره البصير من محاسنه وقبائحه" «4» . وقال:" من أحب أن يطّلع الناس على عمله فهو مراء، ومن أحب أن يطّلع الناس على حاله فهو مدّع كذاب" «5» وقال حمزة بن عبد الله العلوي: دخلت على أبي الخير، وكنت اعتقدت في نفسي أن أسلّم عليه وأخرج، ولا آكل عنده طعاما، فلما خرجت من عنده مشيت قليلا إذا به خلفي، وقد حمل طبقا عليه طعام، فقال: يا فتى! كل هذا، فقد خرجت الساعة من عقدك!. ومنهم: 84- أبو عثمان سعيد بن سلّام المغربيّ «13»

كان للمتقدم إليه حرسا، وللمتكلم لديه خرسا، فكانت عنده لا تنطق الألسنة، ولا تطلق بسيئة ولا حسنة، لمهابة ألقيت عليه، وإنابة ألقيت إليه، على بسطة للجليس، وغبطة للأنيس، وقرى، وبشاشة، وقرب كان حشو الحشاشة، وإطلاق يد في جود، وندى كرامة بأيسر موجود، إلا أنه كان يرجح الطود وقورا، وترى السحاب الجود محقورا. فكان كأن ضيغما «1» في أمانيه، أو أرقما «2» يساور بين نائيه. وكان من القيروان «3» ، من قرية يقال لها:" كركنت" «4» أقام بالحرم مدة، وصحب أبا علي ابن الكاتب «5» ، وحبيبا المغربي «6» ، وأبا عمرو الزجاجي. ولقي: النهرجوري، وأبا الحسن بن الصائغ الدينوري. وكان أوحد المشايخ في طريقته، وزهده، وتقدّمه. وهو بقية المشايخ وتاريخهم، ولم ير مثله على علو الحال، وصون الوقت، وصحة الحكم بالفراسة، وقوة الهيبة. «7» ورد" نيسابور"، ومات بها سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة. «8» وأوصى أن يصلي عليه الإمام أبو بكر بن فورك. «9»

ومن كلامه: " الاعتكاف: حفظ الجوارح تحت الأوامر" «1» وقال:" التقوى: هي الوقوف مع الحدود، لا يقصّر فيها، ولا يتعدّاها «2» ، قال الله تعالى: وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ » . وقال:" من آثر على التقوى شيئا حرم لذّة التقوى" «4» . وقال:" من تحقّق في العبودية، طهّر سرّه بمشاهدة الغيوب، وأجابته القدرة إلى كل ما يريد." «5» وقال:" من آثر صحبة الأغنياء على مجالسة الفقراء ابتلاه الله بموت القلب". «6» وقال:" العاصي خير من المدّعي؛ لأن العاصي- أبدا- يطلب طريق توبته، والمدّعي يتخبّط في حبال دعواه" «7» . وقال:" من مدّ يده إلى طعام الأغنياء- بشره وشهوة- لا يفلح أبدا، وليس يعذر فيه إلا المضطر" «8» وقال:" لا تصحب إلا أمينا، أو معينا؛ فإن الأمين يحملك على الصدق، والمعين يعينك على الطاعة". «9»

85 - أبو العباس أحمد بن محمد بن موسى بن عطاء الله، الصنهاجي، الأندلسي، المعروف بابن العريف

وقال:" قلوب أهل الحق قلوب حاضرة، وأسماعهم أسماع مفتوحة" «1» . وقال:" الحكمة هي النطق بالحق". «2» وقال:" من اشتغل بأحوال الناس ضيّع حاله". «3» وقال رضي الله عنه:" الغني الشاكر يكون كأبي بكر الصدّيق- رضي الله عنه-، فقدّم ماله، وآثر الله عليه، فأورثه الله عز وجلّ غنى الدارين، وملكهما. والفقير الصابر مثل أويس القرني، ونظرائه، صبروا فيه، حتى ظهرت لهم براهينه." «4» وقال:" التقوى تتولّد من الخوف." «5» وقال:" من ادّعى السماع ولم [يستمع] من صوت الطيور، وصرير الباب، وتصفيق الرياح؛ فهو مغترّ مدّع" «6» . وقال:" رأيت في المنام كأن قائلا يقول لي: يا أبا عثمان! اتق الله في الفقر ولو بقدر سمسمة". ومنهم: 85- أبو العبّاس أحمد بن محمد بن موسى بن عطاء الله، الصّنهاجيّ، الأندلسيّ، المعروف بابن العريف «13»

متق خاف الدنيا وفتكها، وخلّص منها نفسه وفكّها، فلم يعلق بالدنايا، ولم يطلق رسنه من يد المنايا، وطالما دعته الآمال، ورعته الأعمال، فما اغترّ بسرابها، ولا سر بشرابها، ولا رأى صدقها إلا خداعا، ولا سننها إلا ابتداعا، فنفض منها اليدين، فطالب أطماعه بالفراغ منها، مطالبة الغريم بالدّين، ولم يزل على حالته ولم يبرح، حتى سار نعشه على الرقاب ليلحد أو يضرح. وكان من كبار الصالحين، والأولياء المتورّعين، وله المناقب المشهورة، وله كتاب:" المجالس" «1» وغيره من الكتب المتعلقة بطريق القوم. وله نظم حسن في طريقهم أيضا، ومن شعره «2» : شدّوا المطيّ وقد نالوا المنى بمنى ... وكلّهم بأليم الشوق قد باحا سارت ركائبهم تندى روائحهم ... طيبا بما طاب ذاك الوفد أشباحا نسيم قبر النبي المصطفى لهم ... روح إذا شربوا من ذكره راحا يا واصلين إلى المختار من مضر ... زرتم جسوما وزرنا نحن أرواحا إنّا أقمنا على عذر وعن قدر ... ومن أقام على عذر كمن راحا «3» وبينه وبين القاضي عياض بن موسى اليحصبي «4» مكاتبات حسنة، وكانت عنده مشاركة في أشياء من العلوم «5» ، وعناية بالقراءات، وجمع الروايات، واهتمام بطرقها وحملها. وكان العبّاد وأهل الزهد يألفونه ويحمدون صحبته. وحكى بعض المشايخ الفضلاء أنه رأى بخطه فصلا في حق أبي محمد علي ابن أحمد

86 - شعيب [بن الحسين] أبو مدين

المعروف بابن حزم الظاهري الأندلسي، وقال فيه:" كان لسان ابن حزم المذكور، وسيف الحجاج بن يوسف شقيقين". وإنما قال ذلك لأن ابن حزم كان كثير الوقوع في الأئمة المتقدمين والمتأخرين، لم يكد يسلم منه أحد «1» . وكان قد سعي به إلى صاحب مراكش «2» ، فأحضره إليها فمات، واحتفل الناس بجنازته، وظهرت له كرامات؛ فندم على استدعائه. وكانت وفاته ليلة الجمعة، الثالث والعشرين من صفر، سنة ست وثلاثين وخمسمائة «3» ودفن يوم الجمعة، رحمه الله تعالى. ومنهم: 86- شعيب [بن الحسين] أبو مدين «13» أضاء كالبدر سافرا، ورد من القلوب نافرا، ولم يزل لزلّة الأيام غافرا، وبأزمّة المرام ظافرا، وسار ذكره فأسمع الدهر وفي آذانه صمم، وداوى الزمان وفي علقه لمم، وكان أول ما بشّر

أبوه وهو غلام، وفسّر عن لؤلؤته صدف الظلام، حتى بلغ الاحتلام، ويده بالخير وارتحل، وصابر الأيام فتسترت الليالي وتبرقعت بالحجل، فرويت آثار أياديه، ونقلت أخبار سؤدده بألسنة أصدقائه وأعاديه، وكان يقوم والليل لم يطمئن له جنوب، ويروّض نفسه والروض لم يشق فيه للشقيق جيوب، بعلم يفلح به الحجاج محتكم، ويخرج في حربه والعجاج مرتكم. وكان له في مجاهدة النفس حروب، ونوّب حتى حان منه للشمس غروب «1» . وحكي أنه لما قدمت إليه المائدة يوما فقال: أخّروها، وكان هناك فقير جائع، فقال في نفسه: لو كان هذا فقيرا ما أخّر المائدة. فلما حضرت تقدّم فأكل منها أكلا يسيرا، فأكل ذلك الفقير، وسائر الجماعة، فلما رفعوا أيديهم قال الشيخ لخادمه: شل من هذا الخبز والطعام لفقير يأتينا في هذه الساعة، وهو جائع، قد أخّرنا المائدة لانتظاره، فظنّ ظانّ فينا ظنا. فشال الخادم منها شيئا، فقال الشيخ: زد!، فهذا ما يكفي. فزاد، فقال له: زد!، فهذا ما يكفي. فقال له: يا سيدي! أنت قلت: رجل واحد، وهذا فوق كفاية الواحد، فقال: صدقت، هو رجل واحد، ولكن له ثلاثة أيام لم يأكل شيئا. ثم لم يستتمّ الكلام حتى أتى الفقير، فسلّم على الشيخ، والجوع يتبين في وجهه، فقدم إليه الخادم ما خبّأه له؛ فأكله حتى أتى عليه عن آخره، ثم قال: والله! لي ثلاثة أيام

ولا وجدت ما آكل. ثم قام ذلك الفقير، ودخل الفقير الذي قال ما قال أولا، فقال: يا سيدي! أنا أستغفر الله مما وقع مني، فقال له: يغفر الله لك، أتصحبني كذا وكذا شهرا وتقول: لو كان هذا فقيرا لما أخّر يده عنا لأجل شبعه، ونحن جياع؟. فقال: والله يا سيدي! كان ذلك. وأنا أستغفر الله منه. فضحك الشيخ، وأقبل عليه. وحكى ابن عربي قال: رأى بعض مريدي الشيخ أبي مدين؛ كأن الحق سبحانه وتعالى في زير دقيق!، فذكر ذلك لأبي مدين، فقال: هل عندك دقيق؟. قال له: نعم. قال له: هل هو في زير؟. قال: نعم. قال: ذلك إلهك الذي تعتمد عليه، فتصدّق به لتخلص مما أنت فيه. وحكى الوداعي قال: حدثني شخص مغربي:- وكان رجلا صالحا-: أن القحط شمل المغرب سنة، وأحبس المطر، فأتى الناس أبا مدين ليستسقي لهم، فخرج وهو يقول: يا من يغيث الورى من بعد ما قنطوا ... ارحم عبيدا أكف الفقر قد بسطوا واستنزلوا جودك المعهود فاسقهم ... ريا يريهم رضا ما شانه سخط وعامل الكلّ بالفضل الذي ألفوا ... يا عادلا لا يرى في حكمه شطط إن البهائم أضحى المحل مربعها ... والطير أصبح للحصباء يلتقط والأرض من حلل الأزهار عاطلة ... وكان للزهر في فتحاتها بسط وأنت أكرم مسئول تمدّ له ... أيد العصاة وإن جاروا وإن قنطوا قال: ولم يزل يرددها حتى جاءت السماء، وتوالى الغيث، ودام يتعهد حتى كانت السنة المجدبة أخصب عام. رحمه الله تعالى.

87 - أبو العباس أحمد بن عبد الله بن أحمد بن هشام بن الحطيئة اللخمي الفاسي *

ومنهم: 87- أبو العبّاس أحمد بن عبد الله بن أحمد بن هشام بن الحطيئة «1» اللّخميّ الفاسيّ* لم يستعذب لريق الدنيا مساغا، ولا استلذّ رحيق رضابها «2» منساغا، وأقبل بقلب منيب، وعزم غير منقلب ولا مريب، مصغيا إلى أوامره ونواهيه بأذن واعيه، وقدم قائمة في الطاعة أو ساعيه. خائفا من نار يلفح سعيرها، ويجمح عسيرها؛ وقودها الناس والحجارة، ووفودها لا يزور فيها جار جاره، معملا إلى الجنة الركائب، مرملا بنفسه المطمئنة إلى الحبائب. فهنيء بعمله، وهيأ لأمله. وكان من مشاهير الصلحاء وأعيانهم، وكان مع صلاحه فيه فضيلة ومعرفة بالأدب، وكان رأسا في القراءات السبع، ونسخ بخطه كثيرا من كتب الأدب وغيرها، وكان جيد الخط، حسن الضبط، والكتب التي توجد بخطه مرغوب فيها للتبرك بها، ولإتقانها. ولد بفاس يوم الجمعة، السابع عشر من جمادى الآخرة، سنة ثمان وسبعين وأربعمائة، وانتقل إلى الديار المصرية، ولأهلها فيه اعتقاد كبير لما رأوه من صلاحه، وكان قد حجّ

ودخل الشام، واستوطن خارج مصر في جامع راشدة. «1» وكان لا يقبل لأحد شيئا، ولا يرتزق على الإقراء، واتفق بمصر مجاعة شديدة، فمشى إليه أجلّاء المصريين وسألوه قبول شيء فامتنع، فأجمعوا رأيهم أن يخطب أحدهم البنت التي له، وكان يعرف بالفضل بن يحي الطويل، وكان عدلا بزازا «2» في القاهرة، فتزوجها، وسأل أن تكون أمها عندها، فأذن في ذلك «3» ، وكان قصدهم تخفيف العائلة عنه، وبقي منفردا ينسخ ويأكل من نسخه. [وكان يعرض عليه المال فلا يقبل منه شيئا؛ قيل: جاء بعض التجار بمئزر أسود صوف وحلف عليه به، فقال: اجعله على ذلك الوتد، فأقام ثلاثين سنة موضعه] . «4» وتوفي في أواخر المحرّم سنة ستين وخمسمائة بمصر، ودفن في القرافة الصغرى، وقبره يزار بها. قال ابن خلّكان «5» :" وزرته ليلا فوجدت عنده أنسا كثيرا"، رحمه الله تعالى. وكان- رحمه الله تعالى- يقول:" أدرجت سعادة الإسلام في أكفان عمر بن الخطاب رضي الله عنه" «6» ، أشار إلى أن الإسلام لم يزل في أيامه في نمو وازدياد، وشرع بعده في التضعضع والاضطراب. وذكر في كتاب" الدول المنقطعة" «7» في ترجمة أبي الميمون عبد المجيد صاحب مصر: أن

88 - ابن بلج

الناس أقاموا بلا قاض ثلاثة أشهر في سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة، ثم اختير في ذي القعدة أبو العباس ابن الحطيئة، فاشترط أن لا يقضي بمذهب الدولة، فلم يمكّن من ذلك، وتولى غيره. «1» ومنهم: 88- ابن بلج وأصله من مدينة قرطبة، وكان علم عرفان، إلى تعبّد عمر ما بين عرفات وعسفان، وتهجّد بكرى النجوم ولا يغمض له أجفان. ذكره ابن عربي وقال: كان يطوف ويهدي لغيره، فخطر له يوما أن يطوف لنفسه أسبوعا واحدا، قال: فلما عقدت نية الطواف، وقعت ورمت النهوض فلم أستطع، فقلت: " اللهم إني تائب إليك، وراجع إلى ما أقمتني فيه". قال: فعند ذلك أطلقني الله للقيام، فقمت بوقتي، ورجعت إلى عادتي التي هداني الله لها. رحمه الله تعالى. ومنهم: 89- أحمد بن عطاء الله أبو العبّاس هبّ للمعارف رخّا، ووهب الدنيا لأهلها سخّا، وتألق نجما للمريد، ورخما للمزيد، وكان عالما معلّما، وعارفا يؤخذ عنه العرفان مسلما، إلى وقوف على الأسرار، ووقوف على قدم في الأسحار، وحضور قلب وشعور، ولب من الكلم كأنه شذور، وموارد حقيقية ورد مناهلها، وشعب طريقة توقى مجاهلها، فلم تزل به قدم، ولم يزل له في الإملاء قلم. قال ابن عربي: سمعته يقول: ما ينبغي للذاكر أن يشتغل بمعاني الذكر، بل بالذكر، ويجعله تعبدا لا يعقل معناه، ويقول: هذه عبادة أمرت بها، وأنا ممتثل الأمر، فإذا اعتقد

الذاكر ذلك، كان الذكر يعمل بخاصيته، وما تقتضيه حقيقته". وأنشد: أهوى هواه وبعدي عنه يغيبه ... فالبعد قد صار لي في حبه أربا فمن رأى دنفا صبّا أخا شجن ... ينأى إذا حبة من أرضه اقتربا وقال: الذكر حجاب عن المذكور، ولكونه بمنزلة الدليل، والدليل متى أعطاك المدلول سقط عنك لتحققك بالمدلول، فمتى كنت مع المذكور فلا ذكر، ومتى رددت الباب وجب الذكر عليك، والذكر للقلب بمنزلة الصقال للمرآة، ليتحقق بالحق صفاؤه وجلاؤه. وقال:" مثل الذاكر اللاهي كمثل من ينادي شخصا فإذا أجابه اشتغل عن سماعه، وكذلك الذاكر يأتيه المذكور فلا يجده حاضرا، وإنما الأصل المراقبة للمذكور، فمتى أجابك كنت معه، وهذا هو الأصل، والله أعلم". وقال في معنى الحديث: (ما اتخذ الله وليا جاهلا) «1» : إن معناه أن الله سبحانه وتعالى إذا اختصّ له وليا نوّر قلبه، فكان على بصيرة من ربه". وقال في معنى قوله: إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ «2» قال: قيل لي في المنام: تدري ما الواحدة؟. إنما أعظك بنفسك والباء ها هنا باء السبب.

90 - سليمان [بن عبد الباري الدرعي] شيخ القرشي أبو الربيع

وقال:" لما كان المدعي في الشرع عليه البينة بشاهدين، نظرنا في الحقيقة التي انبعث عنها هذا الحكم، فوجدناها في قوله تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ «1» فالملائكة وأولو العلم هما الشاهدان. ولما كان يحكم أخر الشاهد واليمين، وجدنا ذلك في شهادته تعالى وقسمه، قال تعالى: فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌ . «2» ومنهم: 90- سليمان [بن عبد الباري الدّرعيّ] " شيخ القرشيّ" أبو الرّبيع «13» ربيع كل مجدب، وقريع كل متأدّب، سمع به مشرق ومغرب، وأسمع أنباء مثل عنقاء مغرب، سمع منه مرقص ومطرب، وأجمع عليه موجز ومطنب، ردّد مسائل الطريقة وأوردها، وردّ عين الحقيقة وأوردها «3» . وكان رجلا عظيما، وزاهدا عليما، وذكره ابن عربي وقال: وقد ذكر الحديث الوارد من طريق غريب، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قال سبعين ألفا" لا إله إلا الله" كانت له عتقا من النار) . وقال: كان الشيخ أبو الربيع شيخ القرشي كثيرا ما يستعملها لنفسه، ولمن يموت من أصحابه، فقدّر الله- تعالى- أن قالها مرة، وأسرّها في نفسه، لم يهدها لأحد، فبينا هو ذات يوم مع جماعة له على الطعام، وإذا بصغير من الجماعة كان صاحب مكاشفة، وهو دون البلوغ، قد رمى اللقمة من يده، وقال: كشف لي عن النار، فرأيت أمي فيها!!؛ فقال الشيخ في نفسه: اليوم أصحح كشف هذا الصغير بالحديث، وأصحح الحديث بالكشف.

91 و 92 - الأخوان: محمد الخياط، وأحمد الحريري، المغربيان: أبو عبد الله وأبو العباس

ثم قال في نفسه:" اللهم إني قد أهديت ذلك لها، فأعتق اللهم رقبتها من النار". قال: فعندها قال الصغير" الله، الله!، رأيت أمي أخرجت من النار، لكن ما أدري ما السبب؟ ". قال: فعندها زاد ذلك تعظيما عند الشيخ وأصحابه، وصحّ الكشف بالحديث، والحديث بالكشف. قال ابن عربي: وقد أهديتها لجماعة، ورأيت علامة الرحمة عليهم بعد أن كنت أرى عليهم غير ذلك. ومنهم: 91 و 92- الأخوان: محمّد الخيّاط، وأحمد الحريريّ، المغربيان: أبو عبد الله وأبو العباس يدان كلتاهما يمين، وفرقدان كلاهما لأخيه قرين، أشرقا إشراق القمرين، وبسقا بسوق الغصنين المثمرين. وذكرهما ابن عربي قال في حكاية ذكرها أنه قال له صديق فقال له: علي ابن الحصار «1» متوفى، وأهمني أمره، فجاءني إلى داري ليلة الأخوان- وسماهما- فسألتهما الاعتناء بأمره تلك الليلة لعلّي أراه، ففعلوا، فلما كان في جوف الليل، رأيت صاحبي ابن الحصّار، وعليه ثوب خلق، وعلى وجهه من الأنوار ما لا يستطيع البصر يتأمله. فقلت له- بعد السلام-: ألست فلانا الذي مات؟. قال: نعم. قلت: ما لقيت من الله؟. قال: نفعني الله بما فعلته معي، وكان حالي هذا الذي ترى من هذا الثوب، ووصل إلي الليلة بهذين ما ترى أثره على وجهي، وقد أدخلني الله الجنة، وبشّرني. فقلت: أخشى أن يكون الشيطان قد تمثّل بك، فهل من علامة؟. قال: فأطرق مليّا، ثم رفع رأسه إلي، وقال: في غد وقت الظهر يرسل إليك صاحب الأمر في تملك ويؤخذ

أصحابك، ثم تكون العاقبة إلى خير"، هذه علامة. ثم قال: يا أخي ما رأيت العثماني ما أقل خيره، كنت أتوهم أنه أقرب الإخوان، فلم ينفعني، ولا وصل إليّ منه خير قط. قال ابن عربي: وكنت رأيت في ذلك النهار العثماني، وكان شاعرا، وقال: أحب منك أن تضع لي معاني في مرثية حتى أنظمها لشخص اقتضاني أن أعمل له مرثية، على وزن قصيدة المتنبي. " أيا خدّد الله ورد الخدود" «1» وقلت للعثماني: من الذي اقتضاك المرثية لتكون المعاني لائقة به؟. فلم يعرّفني، فلما كان الليل، ورأيت الرؤيا، قال لي صاحبي أبو الحسن في حقه ما قال. ثم قال أبو الحسن: وتعلم الذي اقتضاه المرثية، وفي من هي؟. قلت: لا. قال: هو أبو الحكم ابن الحجاج، والمرثية في ولده، وقد وصل إلينا، وهو بخير، لكني ما أكون مثله، أنا أقول لك بيتا يكون أولا لقصيدته التي اقتضاها عليه أبو الميت، وهو: يا عين ويحك بالدمع جودي ... فإن الحبيب ثوى بالجود قال ابن عربي: فانتبهت من النوم، وكانت الجماعة عندي، فذكرت لهم ذلك ففرحوا به، ثم أصبحنا، فكان من الطلب لي، وأخذ بعض أصحابي بعد الظهر، ما ذكره في المنام من العلامة. وذلك سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة. قال ابن عربي: وكنت سألته في المنام عن مجيئه، فقال: حيث أشرف على جسدي ثم أعود إلى البرزخ.

93 - ابن عربي محمد بن علي بن محمد بن أحمد بن عبد الله: الشيخ محيي الدين، أبو بكر الطائي، الحاتمي، الأندلسي، المرسي

ومنهم: 93- ابن عربي محمّد بن عليّ بن محمّد بن أحمد بن عبد الله: الشيخ محيي الدّين، أبو بكر الطّائيّ، الحاتميّ، الأندلسيّ، المرسيّ «13» صاحب المصنّفات، سيف يفري النوائب، ويفلي لمم الخطوب الممتدة الذوائب، ليصرف سلم إليه خاتمه، ونسي به طيء الكريم وحاتمه. سكن دمشق مذ حلّها، ومدّ ببحره الزاخر محلها، وكان فيها ما به مهرعا، وسحابه مكرعا، وجنابه محصنا ممرعا، وله أمور تحمل على محامل، وخوارق لا يجامله فيها مجامل، على اتضاع نفس، وإيضاع في العلا إلى أن حلّ الرمس، ولم يمت حتى كثرت مصنفاته كثرة أمت الأقلام وأخفتها، وغطت الأيام وأحفتها «1» . ولد- رضي الله عنه- في رمضان سنة ستين وخمسمائة، بمرسية، وسمع بها وبقرطبة

من ابن بشكوال، وبإشبيلية، ومكة، وبدمشق، والموصل، وبغداد، وسكن الروم مدة. قال أبو عبد الله الدبيثي: أخذ عن مشيخة بلده، ومال إلى الآداب، وكتب لبعض الولاة، ثم حج ولم يرجع، وسمع بتلك الديار، وروى عن السلفي بالإجازة العامة، وبرع في علم التصوف، وله فيه مصنّفات، ولقيه جماعة من العلماء، وأخذوا عنه. قال ابن نقطة: سكن قونية، وملطية مدة، وله كلام وشعر غير أنه لا يعجبني شعره. والناس فيه على قولين: قال الحافظ أبو عبد الله الذهبي: حدّثني شيخنا ابن تيمية الحرّاني، عن جماعة حدّثوه، عن أبي الفتح ابن دقيق العيد، أنه سمع الشيخ عز الدين بن عبد السلام يقول في ابن العربي: هذا شيخ سوء، كذّاب، يقول بقدم العالم، ولا يحرّم فرجا «1» وحمل بعض تصانيفه إلى شيخنا ابن الفركاح فتأملها، ثم قال: الذي فهمته من كلامه مليح لا انتقاد عليه فيه، والذي لم أفهمه لا أحكم عليه فيه بشيء. وحكي مثل هذا عن الشيخ الموفّق. وسئل عنه ابن الفركاح فقال: أرجو أن يكون من أهل الخير. وسئل عنه قاضي القضاة البارزي، فقال: كان من العلماء. وسألت عنه شيخنا ابن الزملكاني، فقال: صحّ أنه مسلم، ولم يصح غير ذلك. قلت: كان قاضي القضاة محيي الدين أبو الفضل ابن الزكي كثير الصحبة له، والخصوصية به، ودفنه في تربته بسفح قاسيون تبركا بمدفنه. وحكى صاحبه شمس الدين إسماعيل بن سودكين التوزري قال: قال لي الشيخ محيي الدين بن عربي: كنت في بعض سياحاتي، فدخل في إصبعي شوكة، فمنعتني عن المشي، فقعدت، وأخذت رجلي في حجري أنظر إليها، وقلت: إلهي لو أن معي إبرة، أو ملقطا

لتسببت. إلهي! وأنت تعلم عقيدتي أنني أعتقد أن الإبرة والملقاط ما لهما إبراء البتة، فلا تحتجب عني بهما". قال: فنوديت في باطني: نعم، الأمر كذلك، ولكن إليهما ركون. فقلت: إلهي! ولا ركون. وإذا بالشوكة قد نفرت بحدة من رجلي، وضربتني بقوة في إصبع يدي المسبحة اليمني، وسقطت على الأرض، فقمت ومضيت لسبيلي بفضل الله تعالى. وحكي عن ابن عربي أنه قال: لي إلى مكة تردد، فما حججت لنفسي إلا حجة الإسلام، ولا اعتمرت سوى عمرة الفريضة، والباقي لمن شاء الله تعالى، لكني ما أهدي ذلك إلا لمن لا يكاد يرجى له خير. وحكي عنه أنه قال: ذهب بعضهم إلى أن قوله عليه الصلاة والسلام: (أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين) «1» ، إنما هو لئلا يبلغوا حد الخرف، الذي يفارق فيه النفوس على حالة الجهل. وحكى شيخنا أبو الثناء الحلبي: أن رجلا كان في زمانه يجيد الخط، وأن بعض ملوك دمشق أعطاه مصحفا بخط ابن البواب لينقل له منه، فبينما هو مفتوح قدامه في ليلة من الليالي، والسراج يقد، وهو يكتب، إذ سقط السراج، فتبدد زيته على المصحف، فأيقن الرجل بالبلاء، والصبر للقتل والجلاء، وبات بشرّ ليلة تكون. فلما أذن للصباح، أتى المسجد الجامع ليصلي، فرأى ابن عربي إلى جانبه، فلما قضى ركعتي المسجد، التفت إليه ابن عربي بوجهه، وقال له: ما صناعتك؟. قال: أنسخ. فقال له: فإن وقع السراج وتبدّد زيته على شيء قدّامك مضنون به، ما تصنع به حتى يذهب الزيت؟. فأكبّ على يديه يقبّلها، ويقول: هذا والله! جرى لي البارحة، وقصّ عليه قصّته، فضحك الشيخ، وقال: لا يهمّك، خذ عظام الأكارع الصغار، فاحرقها، واسحقها، واسحاق

معها من السكر النبات، واخلطهما، ثم افتح الأوراق، وذرّ ذلك بينهما، ثم أطبق الكتاب، وثقّله، ودعه يوما وليلة، ثم افتحه، وانفضه، فإنه يذهب الزيت، ويعود إلى حاله الأول. قال: ففعلت، فكان كما قال. وحكى شيخنا الكندي عنه أنه كان يقول:" اللهم! ارزقني شهوة الحب، لا الحب، حتى أكون منعّما أبدا". قال: وفي هذا يقول: ولما رأيت الحب يعظم قدره ... وما لي به حتى الممات يدان تعشقت حب الحب فيه ولم أقل ... كفاني الذي قد نلت منه كفاني وحكى عن بعض أشياخه أنه قال: بلغني في عموم الأخبار أنه من قرأ اثني عشر ألف مرة سورة الإخلاص بسبب أسير فرّج الله عنه، وفكّ أسره. فنزلت مرة في مركب، وفيه ملّاح، فسمعني أذكر هذا الخبر، وكان ولده مأسورا، ولم أعلم ذلك، ثم فارقته، وبقيت مدة، وجئت إلى النهر لحاجة عرضت. فلما رآنا قام، وقدّم مركبه، وقال: هذا لك. تركب أنت ومن معك بغير أجرة، فسألته عن موجب إكرامه، فقال: ما تذكر لما ذكرت في ذلك الحديث الذي ورد في تلاوة سورة الإخلاص اثني عشر ألف مرة، بسبب المأسور؟. فقلت: نعم. فقال لي: كان ولدي هذا مأسورا حينئذ، وإني فعلت ذلك، فلم أشعر بعد أيام إلا وولدي داخل علي، وكان قد قطع عليه حملة كثيرة كنت أعجز عن بعضها، ويئست من خلاصه، فلما رأيته سررت بخلاصه، وشكرت الله، ثم سألته عن السبب في خلاصه؟. فقال: ما أعلم سببا، إلا أني كنت في اليوم الفلاني- ثم ذكر ذلك الوقت الذي كملت فيه التلاوة- قاعدا، وإذا بالقيد سقط من رجلي، بإذن الله، فلما رأيت قمت، وانصرفت، فلم يعارضني أحد، فاختفيت نهارا، وسرت ليلا حتى وصلت إليكم بحمد الله. وهذا ببركة ركوبك في مركبي، فكيف لا أرعى حقك علي؟.

وكتب ابن عربي على هذه بخطه:" صح، صح، صح". ومن كلامه المأثور، ودرّه المنظوم، قوله: من ظنّ أن طريق أرباب العلى ... قول فجهل حائل وتعذّر إن السبيل إلى الإله عناية ... منه بمن قد شاءه وتعزر لا يرتضى لحقيقة ذو عزة ... إلا إذا ضم السنابل بيدر الحال يطلبه بشرط مقامه ... فإذا ادّعاه فحاله لك يشهر يتخيل المسكين أن علومها ... ما بين أوراق الكتاب تسطّر هيهات بل ما أودعوا في كتبهم ... إلا يسيرا من أمور تعسر لا يقرأ الأقوام غير نفوسهم ... في حالهم مع ربهم هل يحصر فترى الدخيل يقيس فيه برأيه ... ليقال هذا منهمو فيكبّر وتناقضت أقواله إن لم يكن ... عن حاله فيما تقدم يخبر علم الطريقة لا ينال براحة ... ومقايس فاجهد لعلك تظفر عزت علوم القوم عن إدراك من ... لا يعتريه صبابة وتحير وتنفّس مما يجنّ وأنّة ... وجوى يزيد وعبرة لا تفتر وتذلل وتولّه في غيبة ... وتلذّذ بمشاهد لا تظهر وتقبّض عند الشهود وغيرة ... إن قام شخص بالشريعة يسخر وتخشّع وتفجّع وتشرّع ... بتشرّع لله لا يتغير هذا مقام القوم في أحوالهم ... ليسوا كمن قال الشريعة مزجر ثم ادّعى أن الحقيقة خالفت ... ما الشرع جاء به ولكن تستر تبّا لها من قالة من جاحد ... ويل له يوم الجحيم يسعّر أو من يشاهد في المشاهد مطرقا ... ليقال هذا عابد متفكّر هذا مرائي لا يلذّ براحة ... في نفسه إلا سويعة ينظر

لكنه من ذاك اسعد حالة ... وله النعيم إذا الجهول يفطر «1» ومنه قوله: يا نائما كم ذا الرّقاد ... وأنت تدّعي فانتبه كان الإله يقوم عنك بما ... دعا لو نمت به لكن قلبك غافل عما دعا ... ك ومنتبه في عالم الكون الذي ... يرديك مهما مت به فانظر لنفسك قبل سيرك ... أن زادك مشتبه ومنه قوله: لما انقضى ليل الشباب ولاح لي صبح المشيب ... أضربت عن خوض السفاهة بالتبتل للحبيب نفسي أخاطب، وإياي أعاتب، أيها المرسل عنان شهواته، الجائل في ميدان لذاته، السابق في حلبة هفواته، إلى كم ذا الاغترار بالعمر القصير؟، كأنك ما علمت أن إلى الله المصير!، فبادر إلى التوبة لعلّك تقال، وألق عن ظهرك أوقار الأوزار الثقال، يصح لك ما أمّلت في العقول، في حضرة القبول، فقد قال قيّوم السماوات والأرض: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ «2» وأمر به في كتابه المبين: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ «3» ، ثم رغّب فيما يحبه للمذنبين، فقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ . «4» فيا أيها الناس! اعلموا أن كل من ظهرت منه حوبة «5» ؛ فإن لله عليه توبة، فمن عظمت حوبته، جلّت توبته، فتوبة عالم الشهادة من الأعمال، وتوبة النفوس من الآمال، وتوبة

الأرواح من الوقوف مع حضرات الجمال، وتوبة الأسرار من معاينة غين الكمال، وتوبة أسرار الأسرار مما لا ينال، والسر الواحد الجامع، عدم رؤية الثواب النافع، وهذا باب يدق وصفه، ويمنع كشفه، فألق سمعك أيها المغتر بحياته!، المحجوب على الحقيقة بمشاهدة صفاته، وخذ خطاب الحق، من حضرة الفرق بلسان الصدق، فيا محلّ العدم! عليك بالبكاء والندم، ويا محلّ التمحيص والاختبار! عليك بالافتقار والاعتذار، ويا محل الاطلاع! عليك بالنزوع والإقلاع، فشمّر الذيل، واقطع بالتلاوة زمان الليل، وطهّر ثيابك قبل انسلاخك عنها، واعرف قدر جنايتك وتب إلى الله عز وجل منها، وإياك والخديعة، باسترسال الطبيعة، وأقم ميزان العدل بين حجبك وجنايتك، وكحّل بميل «1» الاعتبار عين بصيرتك، لتعرف قدر ظلام عمايتك، واعلم أنك على ما فرّطت في جنب الله نادم، وعلى ما قدّمت بين يديك قادم، وأدنى مرامي أفعالك وأقصاها في كتاب: لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها «2» فطوبى لمن غدا تائبا منيبا ... ذليلا لربّ جليل تراه إذا جنّ ليله ... كثير الأنين كثير العويل قريح الفؤاد حليف السها ... د يراعي النجوم بطرف عليل إذا الدمع سال على خدّه ... محا أثر الدمع حر الغليل وقوله من خطبة:" فلا يقع بصر إلا عليه، ولا يخرج خارج إلا منه، ولا ينتهي قاصد إلا إليه، فيا أولي الألباب!، أين الغيبة والحجاب: ومن عجب أني أحنّ إليهم ... وأسأل شوقا عنهم، وهم معي وتبكيهم عيني وهم في سوادها ... ويشتاقهم قلبي وهم بين أضلعي ومنه قوله:" أيها الغافل عن مواقعة الحساب، والمتعامي عن مناقشة ما في يديه من الاكتساب، كأنك ما قرأت ما في الكتاب المبين: وَكَفى بِنا حاسِبِينَ «3» ، فاعلم- أيقظك

الله من سنة الغفلة-: أن المحاسبة في هذه الدار على قدر المحاسب، فمنهم معاقب، ومنهم مغالب، ومنهم معاتب، ومنهم محاسب. فمحاسبة الإحساس معاقبة، والأنفاس مغالبة، والأرواح معاتبة، والأسرار مخاطبة. فحاسب نفسك- يا أخي! - في مهل الأنفاس، قبل حلول الأرماس «1» ، ومثّلها كعامل خراج بين يديك من قبل أن ينعكس الأمر عليك، فكأني بك في ذلك اليوم تدعو فلا تسمع مجيبا إلا: كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً . «2» ومنه قوله:" أما بعد- يا أخي! - عصمنا الله وإياك من نتائج الغفلات، وآمنا من روعة البيات، فإن الله- سبحانه- لما أوضح المنهج إليه، وبيّن الأمر المزلف لديه، حمل من اصطفاه من عباده عليه، وعدل بمن حرمه إلى أحد جانبيه، فهنيئا لمن حمل على الجادة، وبؤسا لعبد قطعت عنه العناية الربانية والمادة. ونحن- يا أخي! - من هذا كله على بصيرة، مع قبح سيرة وسريرة، فتدارك أخاك بدعوة ترقيه إلى موقف الاختصاص، وتلحقه بأهل الصدق والإخلاص، قبل أن يفجأه الموت، وينقلب بحسرة الفوت؛ فقد طال الأمل، وساء العمل، وترادف الكسل، ولم تعظنا بمرورها الأيام، ولا زجرتنا حوادث العلل والآلام، فأسأله سبحانه أن يطهّر الذوات بأحمد الصفات، والسلام". ومنه قوله:" أما بعد- يا أخي! - فالقدر سابق، والقضاء لاحق، ولا يغرّنّك ما أنت عليه من سنيّ الأعمال، وزكيّ الأحوال، ما دام رسنك «3» مرخى، وحبلك على غاربك «4» ملقى، فإن الخاتمة أمامك، ولا تدري بما يرسل الحق إليك أيامك، فخذ الكرامة على أدب، وأعرض عن الاشتغال بها وجدّ في الطلب، فكم مريد كانت حظ عمله لما كانت غاية أمله، ومن الله نسأل عصمة الأحوال، في السابقة والمآل، والسلام".

وحكى الشيخ شمس الدين إسماعيل بن سودكين عنه أنه كان يقول:" ينبغي للعبد أن يستعمل همّه في الحضور في مناجاته، بحيث يكون حاكما على خياله، بصرفه بعقله نوما كما كان يحكم عليه يقظة، فإذا حصل للعبد هذا الحضور، وصار خلقا له، وجد ثمرة ذلك في البرزخ، وانتفع جدا، فليهتم العبد بتحصيل هذا القدر فإنه عظيم الفائدة بإذن الله تعالى". وقال:" إن الشيطان ليقنع من الإنسان بأن ينقله من طاعة إلى طاعة ليفسخ عزمه بذلك". وقال:" وينبغي للسالك متى خطر له أنه يعقد على أمر ما، أو يعاهد الله تعالى عليه، أن يترك ذلك الأمر إلى أن يجيء وقته، فإن يسّر الله فعله فعله، وإن لم ييسّر الله فعله يكون مخلصا من نكث العهد، ولا يتّصف بنقض الميثاق". وقال:" إن الحق- سبحانه- جعل الطريق إلى معرفته أسهل الطرق وأوضحها، فقال: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ «1» ، وهو أصل المعارف كلها. وقال:" بلغني في مكة عن امرأة من أهل بغداد أنها تكلمت فيّ بأمور عظيمة، فقلت: هذه قد جعلها الله سببا لخير وصل إليّ، فلأ كافئنها. وعقدت في نفسي أن أجعل جميع ما أعتمر في رجب يكون لها، وعنها؛ ففعلت ذلك؛ فلما كان الموسم استدل عليّ رجل غريب، فسأله الجماعة عن قصده، فقال: بالينبع في الليلة التي بت فيها كأن آلافا من الإبل أوقارها المسك والعنبر والجوهر، فعجبت من كثرته، ثم سألت لمن هو؟، فقيل لمحمد ابن عربي، يهديه إلى فلانة، وسمى تلك المرأة، ثم قال: وقيل لي: هذا بعض ما يستحق. قال ابن عربي: فلما سمعت الرؤيا واسم المرأة ولم يكن أحد من خلق الله علم مني ذلك، علمت أنه تعريف من جانب الحق، وفهمت من قوله: أن هذا بعض ما يستحق، أنها مكذوب عليها. قال: فقصدت المرأة، وقلت: اصدقيني! [فقالت: كنت] قاعدة قبالة البيت وأنت تطوف، فشكرك الجماعة التي كنت فيهم، فقلت في نفسي: اللهم إني

94 - الحرالي علي بن أحمد بن الحسن بن إبراهيم التجيبي

أشهدك أني قد وهبت له ثواب ما أعمله في يوم الاثنين وفي يوم الخميس، وكنت أصومهما، وأتصدق فيهما. قال: فعلمت أن الذي وصل منها إليّ بعض ما تستحقه، فإنها سبقت بالجميل، والفضل للمتقدم. ومنهم: 94- الحرّالي علي بن أحمد بن الحسن بن إبراهيم التجيبي «13» الإمام أبو الحسن الأندلسي. كان سيفا مجرّدا، وسيلا لم يكن مصردا، هابته الخطوب فاتقته، وحابته القلوب فوقته، فاقتاد المطالب بأعناقها، وأتته المآرب تسرع في إعناقها، قد أمسك بعروة ما لها انفصام، وركن إلى ذروة تحميه يوم الخصام بفضل يبهت الطرف، وتبعد منه من يعبد الله على حرف، فرارا من نار لا تخمد لها جذوة، ولا تحمد لها جلوة، لدنيا ساكنها غير مستكن، ومستوطنها غير مطمئن، فربحت تجارته، وصلحت إنابته لله واستجارته. ولد بمراكش، وأخذ العربية عن ابن خروف «1» ، وغيره، وحجّ، ولقي العلماء، وجال في البلاد، وتغرّب، وشارك في فنون عديدة، ومال إلى النظريات وعلم الكلام.

وأقام بحماة، وبها مات. وله" تفسير" فيه أشياء عجيبة الأسلوب، غريبة المعاني، وكان لا يقدر أحد أن يؤذيه، وتكلم على الكائنات، وأمور الحدثان، وأسرار الحروف، وزعم أنه استخرج علم وقت خروج الدجال، ووقت طلوع الشمس من مغربها، ويأجوج ومأجوج. وصنّف في المنطق، وشرح في الأسماء الحسنى، وله عبارة حلوة، وفصاحة وبيان. قال الحافظ أبو الصفاء الصفدي: وقد اجتمعت أنا بمن له ذوق في علم الحرف، ويد باسطة في هذا الفن، فذكر لي أن الحراليّ لا يفهم شيئا من هذا العلم، وإنما الأستاذ في هذا الفن:" البوني" «1» وتوفي الحراليّ سنة سبع وثلاثين وستمائة. قلت: سمعة الحراليّ كبيرة، والألسنة ناطقة بسؤدده، وجلالة قدره في طائفته ونظرائه. وبلغني أنه كان متصرفا في الوجود بتصرفات غريبة، وأمور عجيبة تدل على اطلاعه وعظم مواهب الله عليه، ونعمه لديه. وكان شيخنا ابن الزملكاني يذكره في أهل التصرفات، وذوي الإتقان لعلم الحرف. وبلغني مثل هذا عن التونسي «2» . وقال لي تقي الدين عبد الرحمن ابن شيخنا كمال الدين بن الزملكاني: سمعت التونسي يقول:" الحراليّ شيخ الجماعة وسيدهم". «3»

95 - محمد المرجاني أبو عبد الله

ومنهم: 95- محمد المرجاني أبو عبد الله مداوي قلوب من أشجان، وسرّ أبوين يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان. كان جدى للنساك، وهدى للسلّاك، وقطبا للأبدال، وحربا لمن أكثر في الحق الجدال، بكلام يدلّ على وصول، وبلوغ قصد وحصول، وطبّقت بلاد أفريقية سمعته، ووسع فرق أهلها رحب صدره وسعته، ثم عمّ الشرق والغرب، وملك حبة القلوب بالطلوع والضب، ولم يزل ذكره بالأفواه منتهبا، وفجره في رداء الشفق ملتهبا، وصيته يطير متهما ومنجدا، وإذا سمعه الذين يخشون الرحمن خرّوا بكيّا وسجّدا، حتى حان حينه، وانتهى إلى القبر نينه، فارتقت إلى السماء روحه، وأشرقت في مطالع الشموس نوحه. وكانت الوزراء بمصر تستدعيه إلى حضرتها، وهو من مكانه لا يريم، ولا يزال يحافظ على أوطانه محافظة كريم. قرأ القرآن الكريم، وتفقّه على مذهب الإمام مالك- رضي الله عنه- ولقي العلماء، وأخذ عن المشايخ، وصحب الرجال، وأحبّ الزهّاد، واقتدى بالعبّاد، واعتكف بالمساجد، وتأدب بالكتاب والسنة، ولازم العبادة، وتقرّب إلى الله تعالى بالنوافل، وتخير لمكسبه، وتوفي في سببه، وتورّع عن كثير من الحلال خوف الشبهات، ونزه عن دنايا الدنيا وظهرت عليه أمائر القبول «1» ، ولوائح القرب، ودام على الاجتهاد، وقام قيام الزهّاد، وبقي يذكر الله تعالى ويحض على التوجه إليه، والإقبال على ما يزلف عنده. حكي أن رجلا قصد زيارته، فلما كان ببعض الطرق، نزل عن حماره لحاجة عرضت له، فشرد الحمار، فقام في طلبه، فلم يجده، فرجع، وتم ماشيا، حتى أتى الشيخ، فسلّم عليه، وجلس ناحية منه، فالتفت الشيخ إليه، وقال له: طب نفسا، فإن حمارك وصل إلى أهلك. فلما عاد الرجل إلى أهله وجد الحمار، فسأل: من أين وصل إليهم؟. فقالوا: إن رجلا أتى به السوق ليبيعه، فعرفه بعض بني عمك، فأخذه، وحمله إلى والي البلد، فسأله عن الحمار؟

96 - البوني أبو الحسن

فذكر أنه وجده شاردا، فأمسكه، ولم يجد له صاحبا، فاستصحبه معه، فأودعه السجن ليظهر خبرك، وأعطانا الحمار. فشكر الله، وذهب إلى الوالي وأطلق الرجل. ومنهم: 96- البوني أبو الحسن «13» قانت أوّاب، وقانع بما عند الله من الثواب، أدرك الحقائق وشهدها، وترك الخلائق ومشهدها، وصحب الدنيا صحبة مفارق، وحلى العلياء حلية هام ومفارق، وحقق فلم يداخله أوهام، وحب فلم يدانه من حب أوهام، فلم تشب إفاضته الشوائب، ولم يشب نواصيه النوائب، وكان ذا فكر جوّال، وذكر قوّال، وشكر لا يتغير بتغير أحوال، فتحقق فضله، وتختم وتطوق فعله بأفعال الجميل وتحتم، ولم أقف له على ترجمة، ولم أقف فيه آثار خواطر محققة ولا مرجّمه، إلا أن الذي بلغ حدّ الاستفاضة، أنه كان ممن خلع رداء الحرص، وبت علائق الأمل، وجدّ في العلم والعمل، ولم يزل حتى سلك الطريقة، ووقف على الحقيقة، وتدبر الأسماء الحسنى، وتكلّم على معانيها بنوع من العلم اللدنّي، وجعل لكل ساعة من ساعات الليالي والأيام، ولسحر كل ليلة توجها خاصا، وكذلك لليلة القدر، ويوم عرفة، على دورانهما في الأسبوع، وكذلك لرؤية هلال كل شهر، وجمع ذلك في كتاب سماه:" اللمعة النورانية". ولأهل المعارف اعتناء به، وحسن ظن فيه. ويزعمون أن العالم بذلك يتصرف في الوجود، ولهم في ذلك حكايات غريبة، وأحوال عجيبة. وأصله من مدينة بونة، على ساحل البحر الشامي، قرب قسطنطينية، من بلاد أفريقية.

97 - ابن برجان

ومنهم: 97- ابن برّجان «13» كاشف أسرار، وكاسف بدور من غير سرار، ولم يزل للشبهة متوقيا، وعلى الشهب مترقيا، حتى تمثل الدقائق، وترفل الحقائق، وشرب من العلم اللّدنّيّ، وقطف من الفهم الجني، وأترعت له الحياض فارتوى من موردها، وزوى عن موردها، فأبرز الخفايا، وأخرج الخبايا، فكثرت له مؤملون، وكرت إليه متأملون، فآب بالغنائم، وآل وطرف العنا نائم، فكربت أضداد له كادوا يتحملون، وكربت حساد له وباطل ما كانوا يعملون. «1»

98 - علي بن عبد الله بن عبد الجبار بن [تميم بن هرمز بن حاتم بن قصي بن] يوسف بن يوشع الحسني. أبو الحسن الشاذلي الضرير

ومنهم: 98- عليّ بن عبد الله بن عبد الجبّار بن [تميم بن هرمز بن حاتم بن قصيّ بن] يوسف بن يوشع الحسنيّ. أبو الحسن الشّاذليّ الضرير «13» وليّ لله، طالما أنجد بمدده وأصرح، وانجلى بفرقده الروع وأفرح، وكان عدة لشدائد، وعمدة في دفع مكايد، طالما أغص الكرب، وأراق ذنوب المصايب وقد بلغ عقد الكرب لإصابة سهام، وإجابة دعوة في مهام، لم يحرم في استفتاح السما، واستمناح النعما، بعادة متوقعة وسرعه، كم فتق بها الرقيع ورقعه، ولم يزل هذا مجرّبا، وعنه حدّثنا يعرف به أنه ممن هدى الله واجتبى. قدم الديار المصرية من الغرب، وأقام بالاسكندرية مدة، وسافر إلى الحجاز مرارا، وهو أحد المشايخ المشهورين بمعرفة طريق القوم، وله في ذلك كلام، وتصانيف معروفة، صحبه جماعة وانتفعوا به، وتوفي بطريق الحجاز، وهو قاصد إليه، بصحراء

99 - عبد الحق بن إبراهيم بن محمد بن نصر بن محمد بن نصر ابن محمد بن سبعين. أبو محمد: قطب الدين المرسي الرقوطي

عيذاب، في العشر الأول من ذي القعدة، سنة ست وخمسين وستمائة، ودفن هناك. رحمه الله تعالى. ومنهم: 99- عبد الحقّ بن إبراهيم بن محمد بن نصر بن محمد بن نصر ابن محمد بن سبعين. أبو محمد: قطب الدّين المرسيّ الرقوطيّ «13» قرب وداره نائية، وأصغى والنفوس نابية، فكلف وهام، وشغف بما يدق على الأفهام، وتراءى من وراء ستورها، فأحبّ والقلوب سالية، وأطرق والعيون سامية، وطن بشارقة من طلالها، وظنّ كل بارقة على أطلالها، إلى أن مات بها مغرما، وفات إذ رأى فراق الدنيا مغنما، وأدرج في كفنه، وأسرج بدر السما في مدفنه. ذكره ابن اليونيني في" الذيل" فقال:" كان أحد المشايخ المشهورين بسعة العلم، وبعدد المعارف، وله تصانيف عدة، ومكانة مكينة، عند جماعة من الناس، وأقام بمكة سنين عديدة، إلى أن توفي بها في ثامن عشرين شوال سنة تسع وستين وستمائة، ومولده سنة أربع عشرة وستمائة. «1»

100 - سيدي أبو العباس المرسي أحمد بن عمر الأنصاري المالكي

ومنهم: 100- سيدي أبو العبّاس المرسي أحمد بن عمر الأنصاريّ المالكيّ «13» بحر من البحور الزاخرة، وحبر في علوم الدنيا والآخرة، فاكتنفته العناية الإلهية فأمدته بمددها، وأقامته على حددها، فاستنار بأقمارها، واستمار من ثمارها، فضوّأت مشارقه بأشعتها، وبوّأت قدمه محل رفعتها، وهبّ من المغرب هبوب الصّبا، ونزل الاسكندرية نزول الغيث الربى، فأصبح به الثغر باسما، وأصبح الراح وأغبق ريحه ناسما. وكان بمدينة الاسكندرية، وقدره المتطاول علا منارها، وذكره الشائع علم نارها، وعمر حبه من كل قلب بيتا، وأمر صفته فيها حيا وميتا «1» . ذكره ابن غانم قال: كان قطب زمانه، وعلامة أوانه، في العلوم الإسلامية وله القدر الراسخ في علم التحقيق، والكرامات الباهرة، والكلام الرائق البديع في طريق القوم، والأحوال الظاهرة، كان لا تتحدث معه في شيء من العلوم إلا تحدّث معك فيها، حتى يقول السامع إنه لا يحسن غير هذا العلم، لا سيما علم التفسير والحديث، وكان يقول: شاركنا الفقهاء فيما هم فيه، ولم يشاركونا فيما نحن فيه. وكان كتابه في أصول الدين" الإرشاد"، وفي الحديث:" المصابيح" للبغوي، وفي

الفقه:" التهذيب" للبرادعي، و" الرسالة"، وفي التفسير:" كتاب ابن عطية". وكان يقرأ عليه بعض المحققين في العربية، فيردّ عليه اللحن. وأما علوم المعارف والأسرار؛ فقطب رحاها، وشمس ضحاها، تقول إذا سمعت كلامه: هذا كلام من ليس وطنه إلا غيب الله تعالى، هو بأخبار السماء أعلم منه بأخبار أهل الأرض. وعن أبي الحسن الشاذلي أنه قال عن الشيخ أبي العباس: أبو العباس بطرق السماء أعلم منه بطرق الأرض. قال ابن عطاء تلميذه: كنت لا أسمعه يتحدث إلا في العقل الأكبر، والاسم الأعظم، وشعبه الأربعة، والأسماء والحروف، ودوائر الأولياء، ومقامات الموقنين، والأملاك المقربين عند العرش، وعلوم الأسرار، وأمداد الأذكار، والمقادير، وشأن التدبير، وعلم البدو، وعلم المشيئة، وشأن القبضة، ورجال القبضة، وعلوم الأفراد، وما يكون من أفعال الله تعالى مع عباده يوم القيامة، من حلمه وإنعامه، ووجود انتقامه. قال الشيخ تاج الدين ابن عطاء: ولقد سمعته يقول:" لولا ضعف العقل لأخبرت بما سيكون غدا من رحمة الله تعالى، وتوفيقه، وإلهامه. وأما سداد طريقته: فكان رضي الله عنه- شديد التحرر من حقوق العباد، مسرعا للوفاء لها، حتى أنه يوفي الدين قبل استحقاقه، ويحمل أصحابه على التخلص من حقوق العباد، إذا كان عليه دين أحسن القضاء، وإذا كان له حق أحسن الاقتضاء، منقطعا عن أبناء الدنيا والتردد إليهم، لا يرفع قدمه لأحد منهم «1» ، ولا يبعث إليهم، ولا يكاتبهم، إذا طلب منه أن يكتب إليهم، بل يقول للطالب: أنا أطلب لك ذلك من الله تعالى. فإن رضي الطالب بذلك، نجح مسعاه، ولطف به مولاه. ومبنى طريقه على الجمع على الله تعالى، وعدم التفرقة، وملازمة الخلوة، والذكر. ولكل مريد معه سبيل؛ يحمل كل واحد على السبيل التي تصلح له، وكان لا يحب المريد

لا سبب له «1» ، وكان يقول عن شيخه: اصحبوني ولا أمنعكم أن تصحبوا غيري، فإن وجدتم منهلا أعذب من هذا المنهل فردوا. وكان مكرّما للفقهاء، ولأهل العلم وطلبته إذا جاؤوه، وكان أزهد الناس في ولاة الأمور، وكان لا يثني على مريد، ولا يرفع له علما بين إخوانه خشية عليه أن يحسد. وكان كثير الرجاء لعباد الله، والغالب عليه شهود وسع الرحمة. وكان- رضي الله عنه- يكرم الناس على نحو رتبهم عند الله «2» . وقال- وقد سئل لما أن قال عيسى عليه السلام إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ «3» ، ولم يقل: الغفور الرحيم؟ -. قال: لأنه لو قال: فإنك أنت الغفور الرحيم، لكان شفاعة من عيسى- عليه السلام- لهم في المغفرة، ولا شفاعة في كافر، ولأنه عبد من دون الله فاستحى من الشفاعة عنده. وكان يقول: أتباع الحق قليلون، فأولياء الله تعالى كهف الإيواء، فقلّ من يعرفهم. وقال ابن عطاء- تلميذه-: سمعته يقول:" معرفة الولي أصعب من معرفة الله تعالى، فإن الله تعالى معروف بكماله". ومن زهده: أنه خرج من الدنيا وما وضع حجرا على حجر، ولا اتخذ بستانا، ولا استفتح سببا من أسباب الدنيا. وقال الشيخ أبو الحسن: رأيت الصّدّيق في المنام؛ فقال لي: أتدري ما علامة خروج حب الدنيا من القلوب؟. قلت: لا أدري. قال: علامة خروج حب الدنيا من القلوب: بذلها عند الوجود، ووجود الراحة منها عند الفقد.

وقال الشيخ أبو العباس المرسي- رضي الله عنه-: رأيت عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- في المنام؛ فقلت: يا أمير المؤمنين! ما علامة حب الدنيا؟. قال: خوف المذمة، وحب الثناء. وكان يقول:" والله ما دخل بطني حرام قط". وكان يقول:" الورع من ورعه الله تعالى". وقال:" عزم علينا بعض الصلحاء بالاسكندرية في بستان له بالرمل، فخرجت أنا وجماعة من صلحاء الثغر، ولم يخرج معنا صاحب البستان ذلك الوقت، بل وصف لنا المكان، فتجارينا- ونحن خارجون- الكلام في الورع، فكلّ قال شيئا. فقلت لهم: الورع من ورعه الله تعالى. فلما أتينا البستان، وكان زمن التوت، كلهم أسرع إلى الأكل، وأكلت، وكنت كلما جئت لآكل أجد وجعا في بطني، فأرجع، فينقطع الوجع، ففعلت ذلك مرارا، فجلست ولم آكل شيئا، وهم يأكلون؛ وإذا بإنسان يصيح: كيف يحل لكم أن تأكلوا من ثمرة بستاني بغير إذني؟. فإذا هم قد غلطوا بالبستان!. فقلت لهم: ألم أقل لكم إن الورع من ورّعه الله تعالى؟. وكان يقول: والله! ما جلست للخلق حتى هدّدت بالسلب، وقيل لي: لئن لم تجلس لنسلبنّك ما وهبناك. وكان شديد الكراهية للوسواس في الطهارة والصلاة، وينقل عنه شهود من كان ذلك وصفه. سئل يوما فقيل له: يا سيدي! فلان صاحب علم وصلاح، كثير الوسوسة!. فقال: وأين العلم؟. يا فلان! العلم هو الذي ينطبع في القلب كالبياض في الأبيض، والسواد في الأسود. وكان يقول: الناس على قسمين؛ قوم وصلوا بكرامة الله تعالى إلى طاعة الله تعالى.

وقوم وصلوا بطاعة الله تعالى إلى كرامة الله تعالى. قال الله تعالى: يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ . «1» ونور الله تعالى يرد على القلب، فيوجب له الاتصاف بصفة أهله في الدنيا، والإعراض عنها، ثم يثب منه إلى الجوارح، فما وصل إلى العين أوجب الاعتبار، وإلى الأذن؛ أوجب حسن الظن، وإلى اللسان؛ أورث الذكر، وإلى الأركان؛ أورث الخدمة. والدليل على ذلك: أن النور يوجب عزوف الهمة عن الدنيا والتأني فيها، قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إن النور إذا دخل الصدر انشرح وانفسح. فقيل: يا رسول الله! فهل لذلك من علامة؟. قال: التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود" «2» وقال في قوله صلى الله عليه وسلم:" لصافحتكم الملائكة في طرقكم، وعلى فرشكم" «3» : إنما خص الرسول صلى الله عليه وسلم الفرش والطّرق، لأن الفرش محل الشهوات، والطرق محلّ

الغفلات، فإذا صافحتهم الملائكة في طرقهم وفرشهم، الأحرى أن تصافحهم في محل طاعاتهم وأذكارهم، واقتضت حكمة الله سبحانه أن لا يستوي وقت كبوتهم عنده ووقت ذكرهم لما سواهما، حتى يعرف عظيم قدر رتبة محاضرته صلى الله عليه وسلم وعزازة الذكر وجلالة منصبهما. وكان كثيرا ما ينشد: يا عمرو ناد عبد زهراء يعرفه السامع والرائي لا تدعني إلا بيا عبدها ... فإنه أشرف أسمائي «1» توفي- رحمه الله تعالى- بالاسكندرية، سنة ست وثمانين وستمائة. قلت: أتيت قبر الشيخ أبي العباس- رحمه الله تعالى- بظاهر ثغر الاسكندرية، وزرته فيما هنالك، وأتيت الشيخ ياقوت الحبشي «2» ، وكان قد صحبه، فحكى لي عجائب من كراماته. ومما حدثني به: أن رجلا أتى أبا العباس، فجلس بين يديه، ورجل عند الشيخ يكتب من أماليه، فأخذ ذلك الرجل محبرة الكاتب بيده ورفعها ليسهل عليه الاستمداد، والشيخ مقبل على الجماعة يحدّثهم، فجرى ذكر قلب الأعيان، فقال له ذاك الرجل: يا سيدي! هل لقلب الأعيان حقيقة؟. فقال: نعم. إن لله رجالا لو قال أحدهم لهذه المحبرة كوني ياقوتا لكانت. فالتفت الرجل فرأى المحبرة قد صارت ياقوتا!، فقطع كلام الشيخ ووثب خارجا

101 - الحسن بن علي بن يوسف بن هود الجذامي المغربي

لاغتنام تلك الياقوتة، وظنّ أنها تكون رأس مال لغناه!، فقال له الشيخ: ارجع فإنها محبرة، فنظر إليها فإذا هي محبرة. والذي أقوله: إن مواهب الله عظيمة، والقدرة صالحة، وما شاء الله كان. رحمه الله تعالى. ومنهم: 101- الحسن بن عليّ بن يوسف بن هود الجذاميّ المغربيّ «13» الزاهد، أبو علي، وأبوه عضد الدولة، أخو المتوكل على الله أبي عبد الله محمد، ملك الأندلس. رجل كم جاب المقفر، وجاء كالصباح المسفر، وقدم من بلاد المغرب، قدوم عنقاء مغرب، وكان بجزيرة الأندلس، من أبناء ملوكها، وأجلّاء أهل سلوكها. وسكن دمشق حيث طاب له الوطن، وطوى ذيل أسفاره وقطن. ولأهلها فيه اعتقاد، وظن خلص من انتقاد، وكانت تغلب عليه فكره، ويغل عقله إذا ثاب إليه سكره، فيظلّ المدد «1» شاردا لا يدري، وسائرا لا ينطق، وإنما الزمان به يجري، مع ندى سكن بصيبة السحاب الهتّان، وهدى بكت بسببه أهل البهتان، على أن بعض الفقهاء لم يخله من لسع عقاربه، ورميه بأنه غير متق لله ولا مراقبه، ومن جهل شيئا عاداه، ولله حقيقة عمله، وما أبوء بظلمه «2» .

يقال: إنه من أولاد ملوك المغرب. قال الحافظ أبو محمد البرزالي: أبو عضد الدولة أبو الحسن علي أخو المتوكل على الله ملك الأندلس أبي عبد الله، وكان عضد الدولة ينوب عن أخيه بمرسية، وتزهّد الحسن، وترك الدنيا، واشتغل بشيء من علوم الحكمة والطب، ونظر في كلام ابن عربي، وابن سبعين، وكان من رأيه تعظيم ابن سبعين، وانتماؤه إليه. وكان زهده وإعراضه عن الدنيا ظاهر لا ينكره أحد. وعنده غفلة كثيرة في غالب أحواله، يصحبه الرجل سنة، ويغيب عنه أياما يسيرة، فيراه، فلا يعرفه، ويذكره بأشياء جرت له معه، فلا يذكر!، ولا يظهر عليه أنه رأى ذلك الشخص عمره. وحجّ مرات، وجاور، ودخل اليمن واحترمه سلطانها، وأرسل إليه وإلى أصحابه مالا، ودخل دمشق غير مرة، وأكرم أول دخوله إليها إكراما كثيرا، وقصده نائب السلطنة بها، والقاضي، وأعيان الناس، ثم طالت إقامته بها، فانتقص ذلك الإكرام، مع أنه كان يظهر عليه أنه لا فرق عنده بين الحالتين، وكان ينقم عليه كلام يصدر منه لا يوافق الشريعة. وكان الشيخ تقي الدين «1» كثير الوقيعة فيه، والنقمة عليه، والتنقص به، وبمذهبه، ينفر عنه التنفير الكثير، ويحذر منه التحذير الوافر. قال الحافظ أبو عبد الله الذهبي: ثم بان أمره، وقطع بأنه من رؤوس الاتحادية. وحكى الفاضل أبو الصفاء الصفدي: قال: أخبرني الخطيب أبو محمد الحسن بن محمد

القرشي، قال: كان ابن هود يلحقه حال يشغله عن حسّه، ويذهله عن نفسه، حتى كان توضع في يده الجمرة ولا يشعر، فإذا أحرقته عاد إلى حسّه. قال: وربما كان يقع في الحفاير، ولا يدري!. وكان يقرئ في" الدلالة" للريس موسى «1» ، وأسلم على يده جماعة من اليهود، فعملوا عليه حتى سقوه الخمرة في حالة غيبته، وأروه المسلمين، وهو في تلك الحال، ولا بغير ذلك عقيدة من له فيه عقيدة. قال البرزالي: سألته عن مولده؟. فقال: في ثالث عشر شوال سنة ثلاث وثلاثين وستمائة، بمرسية. وتوفي عشية الاثنين السادس والعشرين من شعبان، سنة تسع وتسعين وستمائة، بدمشق. ودفن بكرة الثلاثاء بسفح قاسيون، وتقدم في الصلاة قاضي القضاة بدر الدين ابن جماعة، وأنشد من شعره قوله: علم قومي بي جهل ... إن شأني لأجلّ وذكر شيخنا أبو حيان، وقال: رأيته بمكة، وجالسته، وكان يظهر منه الحضور مع من يكلمه، ثم لا تظهر الغيبة منه، وكان يلبس نوعا من الثياب مما لم يعهد بلبس مثله بهذه البلاد، وكان يذكر أنه يعرف شيئا من علوم الأوائل. وأنشد عن أبي الحكم ابن هانيء عنه قوله: خضت الدجنّة حتى لاح لي قبس ... وبان بان الحمى من ذلك القبس فقلت للقوم هذا الربع ربعهم ... وقلت للمسع لا تخلو من الحرس وقلت للعين غضّي عن محاسنه ... وقلت للنطق هذا موضع الخرس

قلت: أنشدني شيخنا أبو الثناء الكاتب رحمه الله تعالى هذه الأبيات، وقال: كان من خبرها أن ابن هود حجّ، فلما أتى المدينة، وشارف أعلامها، نزل عن دابته واغتسل، ولبس ثيابا نظافا، ثم جعل يمشي، وهو يهمهم بكلام خفي سمعه بعض من كان يمشي خلفه، فإذا هو يقول: نزلنا عن الأكوار نمشي كرامة ... لمن حلّ أن نلم به ركبا ثم لم يزل يطأ من رأسه، ويخضع حتى أتى باب المسجد وكأنه راكع، فسلّم على النبي صلى الله عليه وسلم من ظاهر الحجرة، بأكمل الأدب، ثم صلى ركعتي التحية بالروضة، ثم خرج إلى الزيارة، فجلس على الرمل، ثم جعل يبكي ويخط على الرمل الأبيات، فقرأها بعض الحاضرين، فحفظها، وأنشدها عنه. قلت: حدّثت بهذا الشيخ سعيد خادم ابن هود، فقال: صحيح. وحكى لي شيخنا أبو الثناء قال: أتى لاجين نائب الشام، وحسام الدين الرازي ابن هود، وهو لا يعرفهما، وكان مع لاجين سجادة، ففرشها تحت ابن هود بيده، وساعده الرازي. فقال له بعض من عنده: يا سيدي! هذا نائب الشام، وبيده قد فرش لك السجادة، وهذا الذي معه من أكابر العلماء. فقال: بارك الله فيهما، والله ما فرش إلي السجادة إلا ليجلس على سرير الملك، وصاحبه قاضي القضاة. وكان ابن هود ذا علم جمّ، ولكن كانت الغيبة غالبة عليه، ولقد كان يبقى الأيام والليالي لا يأكل طعاما، ولا يشرب شرابا، وكان كثيرا ما يقعد في مقابر كيسان مستدبرا للمدينة، متوجها إلى القبلة، ويبقى الأيام الكثيرة في الحر والبرد، لا يتغير من مكانه، ولقد رأيته هناك في زمان صيف شديد، وقد لفحته هواجر الحر، وأثر فيه السموم، وكانت بيني وبينه صحبة، ووقفت أمامه، وأنشدته: أنت المنية والمنى فيك استوى ... ظل الغمامة والهجير المحرّق فرفع رأسه إليّ وقال: من تكون؟ فعرّفته بنفسي، فقال: ما أعرفك، فانصرفت، وأنا

أرثي له مما يقاسي. وقد ذكره أبو الصفاء، وأنشد له قطعة، منها: أروّي بذكر الجزع عنه وبانة ... ولا البان مطلوبي ولا قصدي الرمل وأذكر سعدى في حديثي مغالطا ... بليلى ولا ليلى مرادي ولا جمل ولم أر في العشاق مثلي لأنني ... تلذ لي البلوى ويحلو لي العذل سوى معشر حلوا النظام ومزّقوا الثياب فلا فرض عليهم ولا نفل مجانين إلا أن ذلّ جنونهم ... عزيز على أعتابهم يسجد العقل وأنشدني الشيخ سعيد له شعرا كثيرا منها قصيدته المشهورة التي أولها: سلام عليكم صدّق الخبر الخبر ... فلم يبق قال القسّ أو حدّث الحبر وهي قصيدة عسرة المسلك، متوعرة الجوانب، يحار في ظلماتها ويخبط في بهماتها، وجملة المختار منها قوله: وأشرق نور الحق من كل وجهة ... على كل وجه فاستوى السر والجهر فهاموا وتاهوا بين حق وباطل ... يجوزه زيد ويمنعه عمرو ولو سلموا ساروا على منهج الهدى ... إلى حضرة الرضوان لكنهم غروا فقوموا على ساق من الجد واثبتوا ... على قدم التجريد إن الغنى فقر ولا تجعلوها راحة دون غاية ... فلا راحة إلا إذا بعثر القبر ومما أنشد له ابن الكلاس قوله: حاشا ثيابك من أذى يا من له ... القدر الكبير ورفده لا يمنع لم يبد فيهن الدمامل ضلة ... بالقصد لكن ساقهن المطمع لما رأت كفيك جودا هامعا ... وسحاب ذاك الجود لا يتقشّع قصدت مشاركة الأنام فأصبحت ... من فيض جودك تستمد وتجمع

وهذا آخر من وقع في الجانب الغربي.

وهذا آخر من وقع في الجانب الغربي.

102 - أبو الفيض ذو النون المصري

فأما من بمصر، فقوم: ومنهم: 102- أبو الفيض ذو النّون المصريّ «13» واسمه ثوبان بن إبراهيم، وقيل: أبو الفيض بن إبراهيم الأخميمي «1» قدوة للأولياء، وأسوة للعلماء ورثة الأنبياء، اتقى الله حقّ تقاته، وقصر على الطاعة كل أوقاته، وكان من الناس جانبا، ولليأس إلى آماله جالبا، عرف الأيام حق معرفتها، وعرّف ذوي الأفهام منح صفتها، فخلاها من يديه، وأولاها الإعراض لديه، تدارك فساد القلوب بصلاحه، وجلا سواد الدياجي بصباحه، وكان في قوم ما دانوا لله بكيا، وكانوا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خرّوا سجّدا وبكيّا. وطلبه المتوكل لأمر نقل إليه وكان غائبا، وذا النون إذ ذهب مغاضبا، فلما حلّ في حضرته جلّ في عينه، وحلّ عن الاحتجاز عليه عقد بينه، فآب مكرّما، وغاب ولم ينل منه أحد محرما. وكان أوحد وقته علما وحالا وورعا وأدبا، سعوا به إلى المتوكل على الله فاستحضره من

مصر، فلما دخل عليه وعظه، فبكى المتوكّل وردّه مكرّما؛ وكان المتوكل إذا ذكر أهل الورع بين يديه يبكي ويقول: إذا ذكر أهل الورع فحي هلا «1» بذي النون.» وكان رقيقا نحيفا، تعلوه حمرة، ليس بأبيض اللحية. ومن كلامه:" إياك أن تكون بالمعرفة مدّعيا، أو تكون بالزهد محترفا، أو تكون بالعبادة متعلّقا". «3» وقال ذو النون:" قال الله تعالى في بعض كتبه: من كان لي مطيعا كنت له وليا، فليثق بي، وليحكم علي، فوعزتي! لو سألني زوال الدنيا لأزلتها له" «4» . وقال ذو النون:" الصوفي إذا نطق أبان نطقه عن الحقائق، وإن سكت نطقت عنه الجوارح بقطع العلائق." «5» وقال:" الأنس بالله من صفاء القلب مع الله تعالى، والتفرد بالله، الانقطاع من كل شيء سوى الله." «6» وقال:" من أراد التواضع فليوجّه نفسه إلى عظمة الله، فإنها تذوب وتصفو، ومن نظر إلى سلطان الله، ذهب سلطان نفسه، لأن النفوس كلها فقيرة عند هيبته «7» وقال سعيد بن عثمان: أنشدني ذو النون: أموت وما ماتت إليك صبابتي ... ولا قضيت من صدق حبك أوطاري مناي المنى كل المنى أنت لي مني ... وأنت الغنى، كلّ الغنى، عند إقتاري وأنت مدى سؤلي وغاية رغبتي ... وموضع آمالي ومكنون إضماري

تحمّل قلبي فيك ما لا أبثه ... وإن طال سقمي فيك أو طال إضراري وبين ضلوعي منك مالك قد بدا ... ولم يبد باديه لأهل ولا جاري وبي منك في الأحشاء داء مخامر ... فقد هدّ مني الركن وأنبت أسراري ألست دليل الركب إن هم تحيروا ... ومنقذ من أشفى على جرف هار؟ أنرت الهدى للمهتدين ولم يكن ... من النور في أيديهم عشر معشار وعلمتهم علما فباتوا بنوره ... وبان لهم منه معالم أسرار مهامه للغيب حتى كأنها ... لما غاب عنها منه حاضرة الدار وأبصارهم محجوبة وقلوبهم ... تراك بأوهام حديدات أبصار فنلني بعفو منك أحيا بقربه ... أغثني بيسر منك يطر إعساري «1» وقال ذو النون:" [الصدق] «2» سيف الله تعالى في أرضه ما وضع على شيء إلا قطعه." «3» وقال:" من تزيّن بعمله كانت حسناته سيئات" «4» وقال:" كان لي صديق فقير، فمات، فرأيته في المنام؛ فقلت له: ما فعل الله بك؟. قال: قال لي: قد غفرت لك بترددك إلى هؤلاء السفل أبناء الدنيا في رغيف قبل أن يعطوك." «5» وقال سالم المغربي: حضرت مجلس ذي النون، فقلت: يا أبا الفيض! ما كان سبب توبتك؟. فقال: عجب لا تطيقه، فقلت: بمعبودك إلا أخبرتني، فقال ذو النون: أردت الخروج من مصر إلى بعض القرى، فنمت في الطريق ببعض الصحارى، ففتحت عيني فإذا أنا بقنبرة «6» عمياء سقطت من وكرها على الأرض، فانشقت الأرض، فخرج منها سكرجتان «7» ؛ إحداهما ذهب، والأخرى فضة، وفي إحداهما سمسم، وفي الأخرى ماء،

فجعلت تأكل من هذا، وتشرب من هذا. فقلت: حسبي، قد تبت، ولزمت الباب إلى أن قبلني الله عز وجل «1» وقال:" توبة العوام تكون من الذنوب «2» ، وتوبة الخواص تكون من الغفلة. «3» " وقال محمد بن أحمد السميساطي: سمعت ذا النون المصري يقول: بينا أنا أسير في جبال أنطاكية، إذا أنا بجارية كأنها والهة مجنونة، عليها جبة صوف، فسلّمت عليها، فردّت عليّ السلام، ثم قالت: ألست ذا النون المصري؟. قلت: عافاك الله، كيف عرفتيني؟. قالت: فتق الحبيب بيني وبين قلبك فعرفتك باتصال حب الحبيب. ثم قال: أسألك مسألة. قلت: سليني. قالت: أي شيء هو السخاء؟. قلت: البذل والطاعة. قالت: هذا السخاء في الدنيا، فما السخاء في الدين؟. قلت: المسارعة إلى طاعة المولى. قالت: فإذا سارعت إلى طاعة المولى، يجب به الجزاء؟. قلت: نعم!، للواحد عشرة. فقالت: مر يا بطّال! هذا في الدين قبيح، ولكن المسارعة إلى طاعة المولى أن يطّلع على قلبك، وأنت لا تريد منه شيئا بشيء. ويحك يا ذا النون!، إني أريد أقسم عليه في طلب شهوة منذ عشرين سنة فأستحي منه أن أكون كأجير السوء إذا عمل طلب الأجرة، ولكن اعمل تعظيما لهيبته، وعزّا لجلاله. ثم ذهبت وتركتني. وقال: أتتني امرأة فقالت لي: إن ابني أخذه التمساح الساعة!، فرأيت حرقتها، فأتيت

النيل، وقلت: اللهم أظهر التمساح، فخرج إليّ، فشققت جوفه، وأخرجت ابنها صحيحا، فقالت: كنت إذا رأيتك سخرت منك، فاجعلني في حل، فأنا تائبة إلى الله تعالى «1» وقال أحمد بن مقاتل البغدادي: لما دخل ذو النون بغداد، دخل عليه صوفية بغداد، ومعهم قوّال، فاستأذنوه أن يقول شيئا بين يديه؛ فابتدأ يقول: صغير هواك عذّبني ... فكيف به إذا احتنكا وأنت جمعت من روحي ... هوى قد كان مشتركا أما ترثي لمكتئب ... إذا ضحك الخليّ بكا؟ قال: فقام ذو النون وتواجد، وطال تواجده، وسقط على وجهه، والدم يقطر من جبينه، ولا يسقط على الأرض. ثم قام رجل من القوم يتواجد، فقال له ذو النون: الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ «2» ، فجلس في الحال. وحكي أن جارا لذي النون قام ليلة؛ فسمع ذا النون يقول- وهو باك-" كم من ليلة بارزتك يا سيدي! بما أستوجب به الحرمان منك؟. وأشرفت بقبيح أفعالي منك على الخذلان، فسترت عيوبي عن الإخوان، وتركتني مستورا بين الجيران، لم تكافئني بجريرتي، ولم تهتكني بسوء سريرتي، فلك الحمد على صيانة جوارحي، وأنا أقول كما قال النبي الصالح: لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ «3» . إلهي! عرف المطيعون عظمتك فخضعوا، وألف العاصون رحمتك فطمعوا، فمن أيهما كنت، اغفر لي بعظمتك التي تصاغر لديها كل شيء، وبرحمتك التي وسعت كل شيء، اغفر لي وارحمني، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت". وقال أبو عبد الله بن الجلاء: كنت مجاورا بمكة مع ذي النون؛ فجعنا أياما كثيرة، لم يفتح لنا بشيء، فلما كان ذات يوم، قام ذو النون قبل صلاة الظهر، ليصعد إلى الجبل يتوضأ

للصلاة، وأنا خلفه، فرأيت شيئا من قشور الموز مطروحا في الوادي، وهو طري. فقلت في نفسي: آخذ منه كفا أو كفّين، أتركه في كمي لا يراني الشيخ. فلما صرنا في الجبل، وانقطعنا عن الناس، التفت إلي وقال: اطرح ما في كمك يا شره!، فطرحته، وأنا خجل، وتوضّأنا للصلاة، ورجعنا إلى المسجد، وصلينا الظهر والعصر والمغرب والعشاء، فلما كان بعد ساعة إذا أنا بإنسان قد جاء ومعه طعام عليه مكبّة، فوقف ينظر إلى ذي النون، فقال له: مرّ. فدعه قدّام ذاك، وأومأ بيده إلي، فتركه الرجل بين يدي، فانتظرت الشيخ ليأكل، فلم يقم من مكانه، ونظر إلي وقال لي: كل، فقلت: وحدي؟. فقال: نعم، أنت طلبت، نحن ما طلبنا، يأكل الطعام من طلبه، وأقبلت آكل وأنا خجل مستح مما جرى مني. توفي ذو النون المصري سنة خمس وأربعين ومائتين. وقيل: سنة ثمان وأربعين ومائتين. وقال أبو بكر محمد بن ريان الحضرمي: لما مات ذو النون بالجيزة، حمل في قارب؛ مخافة أن تنقطع الجسور من كثرة الناس مع جنازته، وكنت قائما مع الناس على كوم أنظر، فلما رجع من القارب، ووضع على الجنازة، وحمله الناس، رأيت طيورا خضرا قد اكتنفت الجنازة، ترفرف عليه، حتى عطف به إلى عند حمام الغار، وغاب عني. حكى في" مناقب الأبرار" عن يوسف بن الحسين «1» قال: بلغني أن ذا النون يعلم اسم الله الأعظم، فخرجت من مكة قاصدا إليه، حتى وافيته في حدة، فأول ما نظرني رآني طويل اللحية، وفي يدي ركوة طويلة، متزرا بمئزر، وعلى كتفي مئزر، وفي رجلي [ ... ] «2» ، فاستبشع منظري، فلما سلمت عليه كأنه ازدراني، وما رأيت منه تلك البشاشة، فقلت في نفسي: ترى مع من وقعت؟ وجلست عنده، فلما كان بعد يومين أو ثلاثة، جاءه رجل من المتكلمين فناظره في شيء من الكلام، واستظهر على ذي النون وغلبه، فاغتممت لذلك، وتقدّمت، وجلست بين أيديهما، واستملت المتكلم إلي وناظرته حتى قطعته، ثم دققت حتى لم يفهم كلامي، قال: فعجب ذو النون من كلامي، وكان

103 - أبو بكر أحمد بن نصر الزقاق الكبير

شيخا وأنا شاب، فقام من مكانه، وجلس بين يدي، وقال: اعذرني فإني لم أعرف محلك من العلم، وأنت أقرب الناس عندي، وما زال بعد ذلك يجلّني، ويرفعني على جميع أصحابه، وبقيت بعد ذلك سنة كاملة، قلت له بعد السنة: يا أستاذ! أنا رجل غريب، وقد اشتقت إلى أهلي، وقد خدمتك سنة، ووجب حقي عليك، وقيل لي: إنك تعلم اسم الله الأعظم، وقد جرّبتني، وعرفت أني أهل لذلك، فإن كنت تعرفه فعلّمني إياه. قال: فسكت عني، ولم يجبني بشيء، وأوهمني أنه ربّما علّمني، ثم سكت عني ستة أشهر، فلما كان بعد ذلك، قال لي: يا أبا يعقوب! أليس تعرف فلانا صديقنا بالفسطاط؟. وسمى رجلا، فقلت: بلى. قال: فأخرج لي من بيته طبقا فوقه مكبّة مسدودة بمنديل، وقال: أوصل هذا إلى من سميت لك بالفسطاط. قال: فأخذت الطبق لأودّيه، فإذا هو خفيف، كأنه ليس فيه شيء، قال: فلما بلغت الجسر الذي بين الفسطاط والجيزة، قلت في نفسي: يوجّه ذو النون بهدية إلى رجل في طبق ليس فيه شيء؟ لأبصرنّ ما فيه؟. قال: فحللت المنديل، ورفعت المكبّة، فإذا فأرة قد طفرت من الطبق فذهبت. قال: فاغتظت، وقلت: يسخر بي ذو النون؟ ولم يذهب وهمي إلى ما أراد فيّ للوقت. وعرف القصة، وقال: يا مجنون! ائتمنتك على فأرة فخيبتني، فكيف أئتمنك على اسم الله الأعظم؟ قم عني فارتحل، ولا أراك بعدها، فانصرفت عنه «1» . ومنهم: 103- أبو بكر أحمد بن نصر الزّقّاق الكبير «13»

أخذ من الدنيا بقصاصها، وسهر الليالي والكواكب تنظر الأيام من أخصاصها. وقام على قدم العبادة ثم ما زال، ولا زال وللشمس كل يوم زوال، فصار ذلك دأبا له لا يتكلّفه، وديدنا ضرب له موعد لا يخلفه، هذا إلى استجلاب خواطر، واستنزال مواطر، وفتح قلوب مقفلة ضاعت مفاتيحها، وتنوير بصائر ما أضاءت مصابيحها، وإرشاد طائر، وقول حق في دهر هو السلطان الجائر، فاتسع تصريفه، وسمع منه ما يجري به القلم وصريفه. وكان من أقران الجنيد، وأكابر مشايخ مصر. قال الكتاني: لما مات الزقاق انقطعت حجّة الفقراء في دخولهم مصر. «1» ومن كلامه:" من لم يصحبه التقى في فقره أكل الحرام المحض" «2» وقال:" جاورت بمكة عشرين سنة، فكنت أشتهي اللبن فغلبتني نفسي، فخرجت إلى عسفان، واستضفت حيا من أحياء العرب، فنظرت إلى جارية حسناء، بعيني اليمنى، فأخذت بقلبي!، فقلت لها: قد أخذ كلّك كلّي، فما فيّ لغيرك مطمع. فقالت لي: تقبح بك الدعوى العالية، لو كنت صادقا لذهبت عنك شهوة اللبن!. قال: فقلعت عيني اليمنى التي نظرت بها إليها. فقالت لي: مثلك من نظر لله عز وجل، فرجعت إلى مكة، وطفت أسبوعا «3» ، ثم نمت، فرأيت في منامي يوسف الصّدّيق- على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام-. فقلت: يا نبي الله! أقرّ الله عينيك بسلامتك من زليخا. فقال لي: يا- مبارك! أقرّ الله عينك بسلامتك من العسفانية!. ثم تلا عليه

السلام: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ «1» ، فصحت من طيب تلاوته، ورخامة صوته، وانتبهت، وإذا عيني المقلوعة صحيحة!. وقال الزقّاق:" كنت مارّا في تيه بني إسرائيل، فخطر ببالي أن علم الحقيقة مباين «2» لعلم الشريعة، فهتف بي هاتف من تحت الشجرة: كل حقيقة لا تتبع الشريعة فهي كفر. وقال أبو علي الروذباري: دخلت يوما على أبي بكر الزقاق، فرأيته بحالة عجيبة «3» ، فسكتّ ساعة حتى رجع إلي، فقلت له: ما لك أيها الشيخ!؟. فقال: ألم تعلم أني اجتزت بالجيزة ببعض تلك الخوخات، وإذا شخص يغني، يقول: أبت غلبات الشوق إلا تطربا ... إليك ويأتي العذل إلا تحببا وما كان صدى عنك صدّ ملامة ... ولا ذلك الإقبال إلا تقربا ولا كان ذاك العدل إلا نصيحة ... ولا ذلك الإغضاء إلا تهيّبا عليّ رقيب منك حلّ بمهجتي ... إذا رمت تسهيلا عليّ تصعّبا فما هو إلا أن أنشدني الشيخ حتى صرت فيها مغلوبا لا أدري ما لحقني إلى الساعة، فلما أفقت، قال لي: لا عليك، هكذا من تحقق في بلية لم يخل من البلاء حاضروه، وإنما هو زيادة بلاء صبّ مني عليك، فقمت وتركته. وقال الزقاق: كنت أبكر يوم الجمعة إلى المسجد الجامع، وأجلس عند الجنيد، فبينا أنا ذات يوم جمعة أمشي إلى المسجد إذا أنا باثنين يقولان: اذهب بنا إلى الجنيد نسأله؟. قال الزقاق: فتبعتهما، حتى دخلا سقاية يتطهران، فرأيت منهما شيئا كرهته لهما، فقلت:" إنا لله وإنا إليه راجعون"، أخطأت فراستي فيهما، فخرجا، وأنا أتبعهما حتى وقفا على الجنيد، فقال أحدهما: بماذا يرد خاطر الانزعاج؟. وقال الآخر: كلّ باد يعود إلى باديه. فقلت في نفسي: يا ترى ما يفعل هؤلاء؟. فأقبل عليّ الجنيد، وقال: أين المغتاب لنا؟. فقلت في نفسي: علم بي، وتكلّم على خاطري. ثم قال الثانية: أين المغتاب لنا؟. سلنا نجعلك في

104 - أبو الحسين بن بنان

حل. فقلت: يا سيدي! ما قلته إلا غيرة. فقال: يا أبا بكر! لا تتهم أقواما انتخبهم الحق في سابق علمه، وأظهرهم بكرامة وحدانيته، حتى إذا كان في وقت بدوّهم، استخرجهم من الذرّ لخاصّته، وعجن أرواحهم بأنوار قدسه، وأقامهم بين يديه، ونظر إليهم بعين رحمته، وألبسهم تيجان ولايته، فإن دعوه أجابهم، وإن سألوه أعطاهم، وإن استحجبوه غطّاهم، لا تدركهم خفيات الألحاظ، ولا يغيرهم ترجمان الأسرار، فهم به ينظرون، وإليه في جميع الأشياء عن الأشياء مستغنون. فنظرت، فلم أرهم!. ومنهم: 104- أبو الحسين بن بنان «13» من كبار مشايخ مصر ومقدّميهم. أدّى للآخرة فرضها، ووفى من الدنيا قرضها، ولم يرض بعاجل أجله بوس، وأجن صفوه ذهاب نفوس، وحبال البلايا آسره، وعقاب المنايا كاسره، ومناسر الأهلّة خواطف، ونواشر الأيام المملة غير عواطف، ونوب الليالي سجال، وريب الحدثان المتوالي عجال، فلم ير زخارف الغرور من حظه، ولا رمق رونقها الزور إلا بمؤخّر لحظه، حتى طفئت الشرارة، وحل القرارة، وودّع متبوعا بالبكاء، ممنوعا من البلاء. صحب الخرّاز، وإليه ينتمي «1» . مات في التيه «2» ، وسببظ ذلك: أنه ورد على قلبه وارد، فهام على وجهه، فلحقوه في وسط

105 - أبو علي الحسن بن أحمد الكاتب

متاهة بني إسرائيل في الرمل، ففتح عينيه، وقال: اربع، فهذا مربع الأحباب، وخرجت روحه. ومن كلامه:" كل صوفي يكون هم الرزق قائما في قلبه، فلزوم العمل أقرب له إلى الله". و" علامة ركون القلب، والسكون إلى الله، أن يكون قويا عند زوال الدنيا وإدبارها عنه، وفقده إياها؛ ويكون بما في يد الله تعالى أقوى وأوثق منه بما في يده." «1» وقال:" اجتنبوا دناءة الأخلاق كما تجتنبوا الحرام" «2» . وقال:" ذكر الله تعالى باللسان يورث الدرجات، وذكره بالقلب يورث القربات" «3» . وقال:" الوحدة جلسة الصّدّيقين" «4» . وقال:" لا يعظّم أقدار الأولياء إلا من كان عظيم القدر عند الله" «5» . وقال:" الناس يعطشون في البراري، وأنا عطشان وأنا على شطّ النيل!." «6» ومنهم: 105- أبو عليّ الحسن بن أحمد الكاتب «13» من كبار مشايخ المصريين، رجل كان للمعابد مصباحا، وللعابد في ظلم الليل صباحا، ولم يسود حتى بيض الصحائف، وأمن به الخائف، وكان إذا حندس «7» الظلام، وهمس الكلام، يقف ليله كله على قدمه، ويخدد خده بدمه، ودام على هذا الحال، حتى آن له الارتحال.

صحب أبا بكر المصري «1» ، وأبا علي الروذباري، وغيرهما من المشايخ، وكان أوحد مشايخ وقته، حتى قال فيه أبو عثمان المغربي:" كان أبو علي ابن الكاتب من السالكين". وكان يعظّمه، ويعظّم شأنه، مات سنة نيف وأربعين وثلاثمائة. وقال:" إذا انقطع العبد إلى الله بكلّيته، فأول ما يفيده الله الاستغناء به عن الناس." «2» وقال:" يقول الله تعالى: وصل إلينا من صبر علينا." «3» وقال:" إذا سمع الرجل الحكمة فلم يقبلها، فهو مذنب، وإذا سمعها ولم يعمل بها فهو منافق" «4» . وقال:" إذا سكن الخوف في القلب لم ينطق اللسان إلا بما يعنيه" «5» . وقال:" روائح نسيم المحبة تفوح من المحبين، وإن كتموها؛ وتظهر عليهم دلائلها، وإن أخفوها، وتدل عليهم وإن ستروها" «6» . وقال:" إن الله تعالى يرزق العبد حلاوة ذكره؛ فإن فرح به وشكره، آنسه بقربه، وإن قصّر في الشكر، أجرى الذكر على لسانه، وسلبه حلاوته." «7»

106 - ابن الفارض: أبو القاسم عمر بن أبي الحسن علي بن المرشد بن علي

ومنهم: 106- ابن الفارض: أبو القاسم عمر بن أبي الحسن علي بن المرشد بن عليّ «13» الحموي المولد والدار والوفاة، المعروف بابن الفارض، شرف الدين. مظهر جمال، ومظهر تمام وكمال، إلى علو مقام، وعلو شريعة تقام، وكلام في حقيقة، وكمام «1» في حديقة، من بدائع تغازل بألحاظ المها، وتسمع من ألفاظ الغيد ألذ ما يشتهى. إلى قوة تركيب، ومناسبة ترتيب، ودقة معاني، وتوثقة مباني، وتوشيع «2» أردية، وتوسيع أفنية، يجبر بيوت وأندية إلى دقائق عرفان، وحقائق لا يشتمل عليها من السحر أجفان، ومحاسن الخلائق فيه صفان، والناس فيها صنفان، هذا إلى زهد وقناعة، وجهد أسبل عليه لباسه وقناعه، وفرط إيثار وبرّ من إقلال، لا من إكثار، وشرف نفس أغناه عن تحمّل منّه، وتحمل ذي ضعف ومنه، يتزيا من غرور يزدهي، بثيابه المعاره ويلتهي، بباطله ويحمل عاره، فمات ولو زخر لديه البحر لما شرب منه خوفا من وباله، أو زخ عليه القطر لما علق بحباله. وكان رجلا صالحا، كثير الخير، على قدم التجريد، جاور بمكة- شرّفها الله تعالى- زمانا، وكان حسن الصحبة، محمود العشرة.

قال ابن خلّكان: أخبرني بعض أصحابه: أنه ترنم يوما وهو في خلوة ببيت الحريري- صاحب" المقامات"- وهو: من ذا الذي ما ساء قط ... ومن له الحسنى فقط قال: فسمع قائلا، ولم ير شخصه، وقد أنشد: محمد الهادي الذي ... عليه جبريل هبط «1» وله ديوان شعر لطيف، وأسلوبه فيه رائق، ينحو منحا طريقة الفقراء، وله قصيدة مقدار ستمائة بيت على اصطلاحهم، وكان يقول: عملت في النوم بيتين، وهما: وحياة أشواقي إلي ... ك وحرمة الصبر الجميل لا أبصرت عيني سوا ... ك ولا صبوت إلى خليل وحكي أنه لما رأى السهروردي بمكة أنشده بديها: في حالة البعد روحي كنت أرسلها ... تقبّل الأرض عني فهي نائبتي وهذه نوبة الأشباح قد حضرت ... فامدد يمينك كي تحظى بها شفتي ويحكى أنه رأى جملا هام به وكلف، وكان الجمل لرجل سقّاء يسقي عليه، وكان الشيخ يأتي لمورده كل يوم ليراه. قلت: وحكى لي شيخنا شهاب الدين أبو الثناء محمود، قال: قدم ابن الفارض فنزل بمسجد مهجور في آخر باب القرافة، ومعه خادم له، فبقيا ثلاثة أيام لم يطعما طعاما، فعظم بالخادم الجهد، والسغب، فأتى رجل من الأمراء المسجد، فصلى فيه، ثم رمى إلى الشيخ بخرقة فيها عشرة دنانير، ففرح الخادم وهمّ بأخذها، فمرّ سائل، فقال له الشيخ: أعطه الذهب، فقال: لو خلّينا منه ما نأكل به؟!. فقال: أعطه الذهب، فأعطاه. فلم يمض السائل حتى أتى آخر يسأل عن الشيخ، فلمّا رآه سلّم وقال: أريت البارحة في النوم من دلني على

مكانك، وأمرني بالمسير إليك، ودفع إليه خرقة مثل تلك الخرقة فيها مائة دينار، فقال الشيخ لخادمه: إن شئت فخذ هذا الذهب وانصرف عني، فقال: لا والله لأتبعك بهذا، فقال: بارك الله فيك، قم فاشتر بدينار حصرا لهذا المسجد، وبدينار ما أحببت من الأكل، وتصدّق بالبقية، ففعل، وأتى بأنواع من الشواء والحلواء، وغير ذلك، فأكل، واقتصر الشيخ على أكل كسرة، وبقل، وقال: لو لم تحل لي الميتة لم آكل!. ثم أقام ثلاث سنين لا يأكل إلا بعد كل ثلاثة أيام أكلة واحدة، غير باغ ولا عاد. وحكي أن ابن الفارض كان قاضيا؛ فأتى يوما المسجد الجامع، والخطيب يخطب يوم الجمعة، وشخص يغني، فنوى إقامته وتأديبه، فلما انقضت الصلاة، وانتشر الناس وأراد ابن الفارض الخروج، ناداه ذلك الرجل: أن أقبل!، فلما وقف عليه أنشده: قسم الإله الأمر بين عباده ... فالصّبّ ينشد والخلي يسبّح ولعمري التسبيح خير عبادة ... للناسكين وذا لقوم يصلح وكان هذا سبب زهده. مولده: في الرابع من ذي القعدة، سنة ست وسبعين وخمسمائة، بالقاهرة، وتوفي بها يوم الثلاثاء ثاني جمادى الأولى سنة اثنتين وثلاثين وستمائة، ودفن من الغد بسفح المقطم. وأبوه يعرف بالفارض أنه كان يكتب الفروض للنساء على الرجال. ومن مختار شعره [من البحر الكامل] :- أرج النسيم سرى من الزوراء ... سحرا فأحيا ميت الأحياء أهدى لنا أرواح نجد عرفه ... فالجو منه معنبر الأرجاء وروى أحاديث الأحبة، مسندا ... عن إذخر بأذاخر وسحاء «1» فسكرت من ريا حواشي برده ... وسرت حميّا البرء في أدوائي

يا ساكني البطحاء هل من عودة ... أحيا بها، يا ساكني البطحاء؟ إن ينقضي صبري فليس بمنقض ... وجدي القديم بكم ولا برحائي ولئن جفا الوسمي ما حل تربكم ... فمدامعي تربي على الأنواء «1» يا لائمي في حب من من أجله ... قد جدّ بي وجدي وعزّ عزائي هلّا نهاك نهاك عن لوم امرئ ... لم يلف غير منعّم بشقاء لو تدر فيم عذلتني لعذرتني ... خفّض عليك وخلّني وبلائي أسعد أخيّ وغنّ لي بحديث من ... حلّ الأباطح إن رعيت إخائي وكفى غراما أن أبيت متيّما ... شوقي أمامي والقضاء ورائي وقوله [من البحر الكامل] «2» أو ميض برق بالأبيرق لاحا ... أم في ربى نجد أرى مصباحا «3» أم تلك ليلى العامرية أسفرت ... ليلا فصيّرت المساء صباحا يا ساكني نجد أما من رحمة ... لأسير إلف، لا يريد سراحا هلّا بعثتم للمشوق تحية ... في طيّ صافية الرياح رواحا يحيا بها من كان يحسب هجركم ... مزحا ويعتقد المزاح مزاحا «4» يا عاذل المشتاق جهلا بالذي ... يلقى مليا لا بلغت نجاحا أقصر عدمتك واطرح من أثخنت ... أحشاءه النجل العيون جراحا ماذا يريد العاذلون بعذل من ... لبس الخلاعة واستراح وراحا «5» سقيا لأيام مضت مع جيرة ... كانت ليالينا بهم أفراحا واها على ذاك الزمان وطيبه ... أيام كنت من اللغوب مراحا

وقوله [من البسيط] «1» هل نار ليلى بدت ليلا بذي سلم «2» ... أم بارق لاح بالزوراء فالعلم أرواح نعمان هلّا نسمة سحرا ... وماء وجرة هلّا نهلة بفمي «3» يا سائق الظعن يطوي البيد معتسفا «4» ... طيّ السجلّ بذات الشيخ من إضم عج بالحمى يا رعاك الله معتمدا ... خميلة الضال ذات الرند والخزم «5» وقف بسلع وسل بالجزع هل مط ... رت بالرّقمتين أثيلات بمنسجم «6» نشدتك الله إن جزت العقيق «7» ضحى ... فاقر السلام عليهم غير محتشم وقل تركت صريعا في دياركم ... حيّا كميت يعير السقم للسقم فمن فؤادي لهيب ناب عن قبس ... ومن جفوني دمع فاض كالديم وهذه سنّة العشّاق ما علقوا ... بشادن «8» فخلا عضو من الألم يا لائما لا مني في حبهم سفها ... كفّ الملام فلو أحببت لم تلم وحرمة الوصل والود العتيق وبال ... عهد الوثيق وما قد كان في القدم ما حلت عنهم بسلوان ولا بدل ... ليس التبدّل والسلوان من شيمي ردّوا الرّقاد لجفني علّ طيفكم ... بمضجعي زائر في غفلة الحلم آها لأيامنا بالخيف لو بقيت ... عشرا وواها عليها كيف لم تدم

هيهات وا أسفي لو كان ينفعني ... أو كان يجدي على ما فات وا ندمي عني إليكم ظباء المنحنى كرما ... عهدت طرفي لم ينظر لغيرهم طوعا لقاض أتى في حكمه عجبا ... أفتى بسفك دمي في الحل والحرم أصمّ لم يسمع الشكوى وأبكم لم ... يحر جوابا وعن المشوق عمي وقوله [من البحر الطويل] «1» شربنا على ذكر الحبيب مدامة ... سكرنا بها من قبل أن يخلق الكرم «2» لها البدر كأس وهي شمس يديرها ... هلال وكم يبدو إذا مزجت نجم «3» ولم يبق منها الدهر غير حشاشة «4» ... كأن خفاها في صدور النهى كتم فإن ذكرت في الحي أصبح أهله ... نشاوى ولا عار عليهم ولا إثم «5» ومن بين أحشاء الدنان تصاعدت ... ولم يبق منها في الحقيقة إلا اسم «6»

وإن خطرت يوما على خاطر امرئ ... أقامت به الأفراح وارتحل الهمّ «1» ولو نظر الندمان ختم إنائها ... لأسكرهم من دونها ذلك الختم «2» ولو طرحوا في فيء حائط كرمها ... عليلا وقد أشفى، لفارقه السقم ولو قرّبوا من حانها مقعدا مشى ... وينطق من ذكرى مذاقتها البكم ولو عبقت في الشرق أنفاس طيبها ... وفي الغرب مزكوم لعاد له الشمّ ولو خضبت من كأسها كف لامس ... لما ضلّ في ليل وفي يده النجم ولو جليت سرا على أكمه غدا ... بصيرا ومن راووقها تسمع الصّمّ «3» ولو أن ركبا يمموا ترب أرضها ... وفي الركب ملسوع لما ضرّه السمّ «4» ولو رسم الراقي حروف اسمها على ... جبين مصاب جنّ، أبرأه الرسم تهذب أخلاق الندامى فيهتدي ... بها لطريق العزم من لا له عزم ويكرم من لم يعرف الجود كفه ... ويحلم عند الغيظ من لا له حلم ولو نال فدم القوم لثم مدامها ... لأكسبه معنى شمائلها اللثم يقولون لي صفها فأنت بوصفها ... خبير، أجل، عندي بأوصافها علم صفاء ولا ماء، ولطف ولا هوا ... ونور ولا نار، وروح ولا جسم «5»

تقدّم كل الكائنات وجودها ... قديما ولا شكل هناك ولا رسم وقامت بها الأشياء ثمّ لحكمة ... بها احتجبت عن كل من لا له فهم «1» وهامت بها روحي بحيث تمازجا اتّ ... حادا ولا جرم تخلله جرم «2» فخمر ولا كرم وآدم لي أب ... وكرم ولا خمر ولي أمها أمّ «3» وقد وقع التفريق والكلّ واحد ... فأرواحنا خمر وأشباحنا كرم «4» محاسن تهدي الواصفين لوصفها ... فيحسن فيها منهم النثر والنظم ويطرب من لم يدرها عند ذكرها ... كمشتاق نعم كلما ذكرت نعم «5» وقالوا: شربت الإثم! كلّا وإنما ... شربت التي في تركها عندي الإثم هنيئا لأهل الدير كم سكنوا بها ... وما شربوا منها ولكنهم همّوا «6» فعندي منها نشوة قبل نشأتي ... معي أبدا تبقى وإن بلي العظم «7»

عليك بها صرفا وإن شئت مزجها ... فعدلك عن ظلم الحبيب هو الظلم «1» ودونكها في الحان واستجلها به ... على نغم الألحان فهي بها غنم «2» فما سكنت والهمّ يوما بموضع ... كذلك لم يسكن مع النغم الغمّ وفي سكرة منها ولو عمر ساعة ... ترى الدهر عبدا طائعا ولك الحكم فلا عيش في الدنيا لمن عاش صاحيا ... ومن لم يمت سكرا فاته الحزم على نفسه فليبك من ضاع عمره ... وليس له منها نصيب ولا سهم وقوله [رضي الله عنه- من البحر البسيط] «3» ما بين معترك «4» الأحداق والمهج ... أنا القتيل بلا إثم ولا حرج ودّعت قبل الهوى روحي لما نظرت ... عيناي من حسن ذاك المنظر البهج «5» لله أجفان عين فيك ساهرة ... شوقا إليك وقلب بالغرام شج «6» وأدمع هملت لولا التنفس من ... نار الهوى لم أكد أنجو من اللجج وحبذا فيك أسقام خفيت بها ... عني تقوم به عند الهوى حججي

أصبحت فيك كما أمسيت مكتئبا ... ولم أقل جزعا: يا أزمة انفرجي أهفو إلى كل قلب بالغرام له ... شغل وكل لسان بالهوى لهج وكل سمع عن اللاحى به صمم ... وكل جفن إلى الإغفاء لم يعج «1» لا كان وجد به الآماق «2» جامدة ... ولا غرام به الأشواق لم تهج عذّب بما شئت غير البعد عنك تجد ... أوفى محبّ بما يرضيك مبتهج وخذ بقية ما أبقيت من رمق ... لا خير في الحب إن أبقى على المهج من لي بإتلاف روحي في هوى رشا ... حلو الشمائل بالأرواح ممتزج من مات فيه غراما عاش مرتقيا ... ما بين أهل الهوى في أرفع الدرج «3» محجّب لو سرى في مثل طرته ... أغنته غرته الغرّا عن السرج» وإن ظللت بليل من ذوائبه ... أهدى لعيني الهدى صبح من البلج «5» وإن تنفس قال المسك معترفا ... لعارفي طيبه: من نشره أرجي أعوام إقباله كاليوم في قصر ... ويوم إعراضه في الطول كالحجج فإن نأى سائرا يا مهجتي ارتحلي ... وإن دنا زائرا يا مقلتي ابتهجي «6» قل للذي لا مني فيه وعنّفني ... دعني وشأني عن نصحك السمج فاللوم لؤم ولم يمدح به أحد ... وهل رأيت محبا بالغرام هجي؟

يا ساكن القلب لا تنظر إلى سكني ... واربح فؤادك واحذر فتنة الدعج «1» يا صاحبي وأنا البر الرؤوف وقد ... بذلت نصحي بذاك الحي لا تعجي «2» فيه خلعت عذاري واطّرحت به ... قبول نسكي والمقبول من حججي فابيضّ وجه غرامي في محبّته ... واسودّ وجه ملامي فيه بالحجج «3» تبارك الله ما أحلى شمائله ... فكم أماتت وأحيت فيه من مهج يهوى لذكر اسمه من لجّ في عذلي ... سمعي وإن كان عذلي فيه لم يلج «4» وأرحم البرق في مسراه منتسبا ... لثغره وهو مستحي من الفلج «5» تراه إن غاب عني كل جارحة ... في كل معنى لطيف رائق بهج في نغمة العود والناي الرخيم إذا ... تألفا بين ألحان من الهزج

وفي مسارح غزلان الخمائل في ... برد الأصائل والإصباح في البلج «1» وفي مساقط أنداء الغمام على ... بساط نور من الأزهار منتسج وفي مساحب أذيال النسيم إذا ... أهدى إليّ سحيرا أطيب الأرج «2» وفي التثامي ثغر الكأس مرتشفا ... ريق المدامة في مستنزه فرج لم أدر ما غربة الأوطان وهو معي ... وخاطري أين كنا غير منزعج فالدار داري، وحبّي حاضر ومتى ... بدا فمنعرج الجرعاء منعرجي «3» ليهن ركب سروا ليلا وأنت بهم ... بسيرهم في صباح منك منبلج فليصنع الركب ما شاؤوا بأنفسهم ... هم أهل بدر فلا يخشون من حرج «4» بحق عصياني اللّاحي عليك وما ... بأضلعي طاعة للوجد من وهج انظر إلى كبد ذابت عليك جوى ... ومقلة من نجيع الدمع في لجج «5» وارحم تعثّر آمالي ومرتجعي ... إلى خداع تمني القلب بالفرج واعطف على ذلّ أطماعي بهل وعسى ... وامنن عليّ بشرح الصدر من حرج أهلا بما لم أكن أهلا لموقعه ... قول المبشر بعد اليأس بالفرج لك البشارة «6» فاخلع ما عليك فقد ... ذكرت ثمّ على ما فيك من عوج

وقوله [رضي الله عنه- من البحر الكامل] «1» قلبي يحدّثني بأنك متلفي ... روحي فداك عرفت أم لم تعرف لم أقض حق هواك إن كنت الذي ... لم أقض فيه أسى ومثلي من يفي «2» مالي سوى روحي وباذل نفسه ... في حب من يهواه ليس بمسرف فلئن رضيت بها فقد أسعفتني ... يا خيبة المسعى إذا لم تسعف يا مانعي طيب المنام ومانحي ... ثوب السقام به ووجدي المتلف عطفا على رمقي وما أبقيت لي ... من جسمي المضنى وقلبي المدنف فالوجد باق والوصال مماطلي ... والصبر فان واللقاء مسوّفي لم أخل من حسد عليك فلا تضع ... سهري بتشنيع الخيال المرجف واسأل نجوم الليل هل زار الكرى ... جفني وكيف يزور من لم يعرف لا غرو إن شحّت بغمض جفونها ... عيني وسحّت بالدموع الذّرف وبما جرى في موقف التوديع من ... ألم النوى شاهدت هول الموقف إن لم يكن وصل لديك فعد به ... أملي وماطل إن وعدت ولا تف فالمطل منك لديّ إن عزّ الوفا ... يحلو كوصل من حبيب مسعف أهفو لأنفاس النسيم تعلة ... ولوجه من نقلت شذاه تشوفي «3» فلعلّ نار جوانحي بهبوبها ... أن تنطفي وأود أن لا تنطفي يا أهل ودي أنتم أملي ومن ... ناداكم يا أهل ودي قد كفي عودوا لما كنتم عليه من الوفا ... كرما فإني ذلك الخل الوفي

وحياتكم، وحياتكم قسما وفي ... عمري بغير حياتكم لم أحلف لو أن روحي في يدي ووهبتها ... لمبشري بوصالكم لم أنصف لا تحسبوني في الهوى متصنّعا ... كلفي بكم خلق بغير تكلف أخفيت حبكم فأخفاني أسى ... حتى لعمري كدت عني أختفي وكتمته عني فلو أبديته ... لوجدته أخفى من اللطف الخفي ولقد أقول لمن تحرّش بالهوى ... عرّضت نفسك للبلا فاستهدف أنت القتيل بأي من أحببته ... فاختر لنفسك في الهوى من تصطفي قل للعذول أطلت لومي طامعا ... أن الملام عن الهوى مستوقفي دع عنك تعنيفي وذق طعم الهوى ... فإذا عشقت فبعد ذلك عنّف برح الخفاء بحب من لو في الدجى ... سفر اللثام لقلت يا بدر اختف «1» وإن اكتفى غيري بطيف خياله ... فأنا الذي بوصاله لا أكتفي وقفا عليه محبتي ولمحنتي ... بأقل من تلفى به لا أشتفي وهواه وهو اليتي «2» وكفى به ... قسما أكاد أجله كالمصحف لو قال تيها قف على جمر الغضا «3» ... لوقفت ممتثلا ولم أتوقّف أو كان من يرضى بخدي موطئا ... لوضعته أرضا ولم أستنكف لا تنكروا شغفي بما يرضى وإن ... هو بالوصال عليّ لم يتعطّف غلب الهوى فأطعت أمر صبابتي ... من حيث فيه عصيت نهي معنفي مني له ذل الخضوع ومنه لي ... عز المنوع وقوة المستضعف ألف الصدود ولي فؤاد لم يزل ... مذ كنت غير وداده لم يألف يا ما أميلح كل ما يرضى به ... ورضا به يا ما أحيلاه بفي «4»

لو أسمعوا يعقوب ذكر ملاحة ... في وجهه نسي الجمال اليوسفي أو لو رآه عائدا أيوب في ... سنة الكرى قدما من البلوى شفي كل البدور إذا تجلّى مقبلا ... تصبو إليه وكلّ قدّ أهيف إن قلت عندي فيك كل صبابة ... قال: الملاحة لي، وكل الحسن في كملت محاسنه فلو أهدى السنا ... للبدر عند تمامه لم يخسف وعلى تفنن واصفيه بحسنه ... يفنى الزمان وفيه ما لم يوصف ولقد صرفت لحبه كلي على ... يد حسنه فحمدت حسن تصرفي فالعين تهوى صورة الحسن التي ... روحي بها تصبو إلى معنى خفي أسعد أخيّ وغنني بحديثه ... وانثر على سمعي حلاه وشنّف لأرى بعين السمع شاهد حسنه ... معنى فأتحفني بذاك وشرّف يا أخت سعد «1» من حبيبي جئتني ... برسالة أديتها بتلطّف فسمعت ما تسمعي ونظرت ما ... لم تنظري وعرفت ما لم تعرفي إن زار يوما يا حشاي تقطّعي ... كلفا به أو سار يا عين اذرفي ما للنوى ذنب ومن أهوى معي ... إن غاب عن إنسان عيني فهو في وقوله رضي الله عنه [من البحر الطويل] «2» هو الحب فاسلم بالحشا ما الهوى سهل ... فما اختاره مضنى به، وله عقل وعش خاليا فالحب راحته عنى ... وأوله سقم وآخره قتل ولكن لدي الموت فيه صبابة ... حياة لمن أهوى عليّ بها الفضل نصحتك علما بالهوى والذي أرى ... مخالفتي فاختر لنفسك ما يحلو فإن شئت أن تحيا سعيدا فمت به ... شهيدا وإلا فالغرام له أهل

فمن لم يمت في حبه لم يعش به ... ودون اجتناء النحل ما جنت النحل «1» تمسّك بأذيال الهوى واخلع الحيا ... وخلّ سبيل الناسكين وإن جلّوا «2» وقل لقتيل الحب وفيت حقه ... وللمدعي هيهات ما لكحل الكحل «3» تعرّض قوم للغرام وأعرضوا ... بجانبهم عن صحتي فيه واعتلوا «4» رضوا بالأماني وابتلوا بحظوظهم ... وخاضوا بحار الحب دعوى فما ابتلوا «5» فهم في السرى لم يبرحوا من مكانهم ... وما ظعنوا في السير عنه وقد كلوا وعن مذهبي لما استحبوا العمى على ال ... هدى حسدا من عند أنفسهم ضلّوا أحبّة قلبي والمحبّة شافع ... لديكم إذا شئتم بها اتصل الحبل عسى عطفة منكم عليّ بنظرة ... فقد تعبت بيني وبينكم الرسل أحبّائي أنتم أحسن الدهر أم أسا ... فكونوا كما شئتم، أنا ذلك الخلّ إذا كان حظي الهجر منكم ولم يكن ... بعاد فذاك الهجر عندي هو الوصل وما الصدّ إلا الود ما لم يكن قلي ... وأصعب شيء غير إعراضكم سهل وتعذيبكم عذب لديّ وجوركم ... عليّ بما يقضي الهوى لكم عدل وصبري صبر عنكم وعليكم ... أرى أبدا عندي مرارته تحلو أخذتم فؤادي وهو بعضي فما الذي ... يضرّكم لو كان عندكم الكلّ

نأيتم فغير الدمع لم أر وافيا ... سوى زفرة من حر نار الجوى تغلو «1» فسهدي حيّ في جفوني مخلّد ... ونومي بها ميت ودمعي له غسل هوى طلّ ما بين الطلول دمي، فمن ... جفوني جرى بالسفح من سفحه، وبل «2» تباله «3» قومي إذ رأوني متيما ... وقالوا: بمن هذا الفتى مسّه الخبل وماذا عسى عني يقال سوى غدا ... بنعم، له شغل، نعم لي بها شغل وقال نساء الحي: عنا بذكر من ... جفانا وبعد العز لذله الذلّ إذا أنعمت نعم عليّ بنظرة ... فلا أسعدت سعدى ولا أجملت جمل «4» وقد صدئت عيني برؤية غيرها ... ولثم جفوني تربها للصدا يجلو حديثي قديم في هواها وماله ... كما علمت بعد وليس له قبل وما لي مثل في غرامي بها كما ... غدت فتنة في حسنها ما لها مثل حرام شفا سقمي لديها رضيت ما ... به قسمت لي في الهوى ودمي حلّ فحالي وإن ساءت فقد حسنت بها ... وما حطّ قدري في هواها به أعلو وعنوان ما فيها لقيت وما به ... شقيت وفي قولي اختصرت ولم أغل خفيت ضنى، حتى لقد ضلّ عائدي ... وكيف ترى العوّاد من لا له ظلّ وما عثرت عين على أثري ولم ... تدع لي رسما في الهوى الأعين النجل ولي همة تعلو إذا ما ذكرتها ... وروح بذكراها إذا رخصت تغلو فنافس ببذل النفس فيها أخا الهوى ... فإن قبلتها منك، يا حبّذا البذل فمن لم يجد في حبّ نعم بنفسه ... ولو جاد بالدنيا إليه انتهى البخل

ولولا مراعاة الصيانة غيرة ... وإن كثروا أهل الصبابة أو قلّوا «1» لقلت لعشّاق الملاحة أقبلوا ... إليها، على رأبي، وعن غيها ولّوا وإن ذكرت يوما، فخرّوا لذكرها ... سجودا وإن لاحت إلى وجهها، صلّوا وفي حبها بعت السعادة بالشقا ... ضلالا وعقلي عن هداي به عقل «2» وقلت لرشدي والتنسك والتقى ... تخلوا وما بيني وبين الهوى خلّوا وفرّغت قلبي من وجودي مخلصا ... لعلّي في شغلي بها معها أخلو ومن أجلها أسعى لمن بيننا سعى ... وأعدو ولا أغدو لمن دأبه العذل فأرتاح للواشين بيني وبينها ... لتعلم ما ألقى وما عندها جهل وأصبو إلى العذّال حبا لذكرها ... كأنهم ما بيننا في الهوى رسل فإن حدّثوا عنها فكلي مسامع ... وكلّي إن حدّثتهم ألسن تتلو تخالفت الأقوال فينا تباينا ... برجم ظنون بيننا ما لها أصل «3» فشنّع قوم بالوصال ولم تصل ... وأرجف بالسلوان قوم ولم أسل وما صدق التشنيع عنها لشقوتي ... وقد كذبت عني الأراجيف والنقل وكيف أرجّي وصل من لو تصورت ... حماها المنى وهما، لضاقت بها السبل وإن وعدت لم يلحق الفعل قولها ... وإن أوعدت فالقول يسبقه الفعل عديني بوصل وامطلي بنجازه ... فعندي إذا صحّ الهوى حسن المطل

وحرمة عهد بيننا عنه لم أحل ... وعقد بأيد بيننا ما له حلّ «1» لأنت على غيظ النوى ورضى الهوى ... لديّ وقلبي ساعة منك ما يخلو «2» ترى مقلتي يوما ترى من أحبهم ... ويعتبني دهري ويجتمع الشمل «3» وما برحوا معنى أراهم معي، فإن ... نأوا صورة، في الذهن قام لهم شكل «4» فهم نصب عيني ظاهرا حيثما سروا ... وهم في فؤادي باطنا أينما حلّوا لهم أبدا مني حنوّ وإن جفوا ... ولي أبدا ميل إليهم وإن ملّوا وقوله رضي الله عنه [من البحر الخفيف] «5» ته دلالا فأنت أهل لذاكا ... وتحكّم فالحسن قد أعطاكا ولك الأمر فاقض ما أنت قاض ... فعليّ الجمال قد ولّاكا وتلافي إن كان فيه ائتلافي ... بك، عجّل به، جعلت فداكا وبما شئت في هواك اختبرني ... فاختباري ما كان فيه رضاكا فعلى كل حالة أنت مني ... بي أولى إذ لم أكن لو لاكا أبق لي مقلة لعلي يوما ... قبل موتي أرى بها من رآكا أين مني ما رمت، هيهات بل أي ... ن لعيني بالجفن لثم ثراكا فبشيري لو جاء منك بعطف ... ووجودي في قبضتي قلت: هاكا

هبك أن اللاحي نهاه بجهل ... عنك قل لي: عن وصله ما نهاكا؟ أترى من أفتاك بالصدّ عني ... ولغيري بالودّ من أفتاكا كنت تجفوا وكان لي بعض صبر ... أحسن الله في اصطباري عزاكا كل من في حماك يهواك، لكن ... أنا وحدي بكل من في حماكا وقوله- رضي الله عنه-[من البحر البسيط] «1» قف بالديار وحيّ الأربع الدّرسا ... ونادها فعساها أن تجيب عسى «2» فإن أجنّك ليل من توحّشها ... فاشعل من الشوق في ظلمائها قبسا ومنها «3» : فإن بكى في قفار خلتها لججا ... وإن تنفّس عادت كلها يبسا كم زارني والدجى يربد من حنق ... والزهر تبسم عن وجه الذي عبسا «4» وابتزّ قلبي قسرا قلت مظلم ... يا حاكم الحب هذا القلب لم حبسا زرعت باللحظ وردا فوق وجنته ... حقا لطرفي أن يجنى الذي غرسا «5» فإن أبى فالأقاحي منه لي عوض ... من عوّض الدّرهم زهر فما بخسا تلك الليالي التي أعددت من عمري ... مع الأحبة كانت كلها عرسا لم يحل للعين شيء بعد بعدهم ... والقلب مذ آنس التذكار ما أنسا وألزم الصبر مني النفس مكرهة ... لولا التأسي بدار الخلد متّ أسى

وقوله «1» : يمينا بما في الثغر من رائق اللما ... لقد ذبت من شوقي إلى وجهه ظما ولولا النسيم الحاجري يمر بي ... يبشرني بالقرب من ساكني الحمى لهدمت أركان الصبابة والتقى ... ولكنني عللت نفسا بربما ومحتجب من خلف سمر ذوابل ... وكم مات فيه من محب متيّما إذا جاز في ترب له بعد هجعة ... يريك الضحى في غيهب قد تبسما سل الغصن من أعطاه لين قوامه ... ومن قد أعار الجيد واللحظ للدما شكوت إلى عينيه وجدي ولوعتي ... فقال لك البشرى إذا مت مغرما يرى أن قتلي في هواه محللا ... وأن وصالي والسلام محرّما يرق لما ألقاه في الليل طيفه ... فما ضره من طيفه لو تعلما تلطّف بي حتى تملّك مهجتي ... وعذبني بالتيه والصدّ عند ما بنى في فؤادي مسكنا غير أنه ... لركن اصطباري بالقطيعة هدّما بوجه تعالى الله أتقن خلقه ... فكم نسخت آياته آية السما وقوله «2» : أعلنت ما تسره الآماق ... حين أضمت مقاتلي الأحداق وكتمت الغرام شحا وصونا ... فأقرت بنشوتي العشّاق يا أهيل الحمى شكاية صبّ ... فتكت في فؤاده الأحداق وده قد علمتموه سليما ... ما اعتراه بعد البعاد محاق وهو مذ بايع الغرام قديما ... مؤمن العشاق لم يشبه نفاق لا وعصر الصبا وحرمة ليل ... ضمنا حين نامت الطرّاق ما أفاد الملام فيكم ولا ملّ ... غرامي ولا وهى الميثاق

وقوله: حسب المحب من الصبابة ما لقي ... لما تخلف بعده في الأبرق ساروا فما والله ما كتم الدجى ... نور أضاء من الجبين المشرق ولقد رجوت الصبر يبقى بعد ما ... بانوا فلجّ بي الغرام وما بقي أمروا بإطلاق الدموع لبينهم ... وأسير سحر عيونهم لم يطلق سعدت حداتهم بكل ممتع ... في ركبهم والربع بعدهم شقي حاشا فؤاد خلّصوه لودّهم ... واستوطنوه لذكرهم لم يخفق يا قلب صبرا تحت أعباء الهوى ... قبل الممات لعلّنا لا نلتقي ولربّما نهدي الصبا في طيّها ... من نشرها روحا لقلب شيّق خلق التصبر عنهم وهواهم ... بين الضلوع جديده لم يخلق وقوله- رضي الله عنه-[من البحر الطويل] «1» أشاهد معنى حسنكم فيلذّ لي ... خضوعي لديكم في الهوى وتذللي وأشتاق للمعنى الذي أنتم به ... ولو لاكم ما شاقني ذكر منزل فلله كم من ليلة قد قطّعتها ... بلذة عيش والرقيب بمعزل ونلت مرادي فوق ما كنت راجيا ... فوا حسرتا لو تم هذا ودام لي وقد ذكره أبو الصفاء الصفدي وقال: قال الشيخ شمس الدين يعني الحافظ الذهبي: أنشدنا غير واحد أنه قال عند موته لما انكشف له الغطاء: إن كان منزلتي في الحب عندكم ... ما قد لقيت فقد ضيّعت أيامي أمنية ظفرت روحي بها زمنا ... واليوم أحسبها أضغاث أحلام «2» قال: ومن شعره مما ليس في ديوانه:

وإذا قيل من تحب؟ تخطاك لساني ... وأنت في القلب ذاكا عميت عين من رأى مثل عيني ... ك وطوبى لعين من قد رآكا ولد رضي الله عنه بالقاهرة سنة ست وسبعين وخمسمائة، وتوفي بها سنة اثنتين وثلاثين وستمائة. ودفن تحت العارض- مكان بالقرافة- ورثاه الجزار، فقال:- لم يبق صيب مزنه إلا وقد ... وجبت عليه زيارة ابن الفارض لا غرو أن يسقى ثراه وقبره ... باق ليوم العرض تحت العارض «1»

107 - أبو القاسم بن منصور بن يحي المكي الاسكندري المعروف بالقباري

ومنهم: 107- أبو القاسم بن منصور بن يحي المكّيّ الاسكندريّ المعروف بالقبّاريّ «13» حطّ رجله بالآخرة وأناخ، ولم يتخذ الدنيا غير مناخ، فلم يأنس من أهلها بقبيل. ولا سلك في سبلها إلا عابر سبيل، لعدم اغتراره ببرقها الجهام، وفرط حذاره من رشقها بالسهام، فلم يستطب فيها الملاذ، ولم يستطل بها العود والملاذ، وأقام لا يرشف من ورد زلالها ريقا، ولم يقبل من برد ظلالها طريقا. وكان أحد العباد المشهورين بكثرة الورع والتحري في المأكل والمشرب والملبس، معروفا بالانقطاع، والتخلي وترك الاجتماع بأبناء الدنيا، والإقبال على ما يعنيه من أمر نفسه، وطريقه الذي سلكه، قلّ أن يقدم أحد من أهل زمانه عليه من خشونة عيشه، وما أخذ نفسه به من الوحدة، وعدم الاجتماع بالناس، والجدّ، والعمل، والاحتراز من الرياء، والسمعة، لا يعلم في وقته من وصل إليه، وكانت الملوك ومن دونهم يقصدون زيارته، ورؤيته، والتبرك به، فلا يكاد يجتمع بأحد منهم «1» ، وأخباره في الورع والعبادة مشهورة. وكان مقيما بجبل" الصيقل" بظاهر الاسكندرية، وبه مات «2» ، ولم يزل عمره كله على

قدم واحدة في الاجتهاد والعبادة، وقلة المبالاة بعيشه كيف كانت، ودنياه كيف نقصت، متقللا من قليلها بجهده، مقبلا على الآخرة بكليته، يتصدّق بفضله، ويواسي في كفافه، ويؤثر من قوته، إلى كرم عزيز، وقنع باليسير. ومما حكي عنه من الورع أنه لما رأى ما ينال الناس من الظلم في كرى «1» الخليج الواصل إلى الاسكندرية من النيل، أعرض عن مائه، وحمله التدقيق في الورع على أن حفر له بئرا كان يشرب منها، وينقل الماء منها بالجرار، على دابة ليسقي بستانه، وكان إذا وجد رطبة ساقطة تحت نخلة ولم يشاهد سقوطها منه لا يرفعها، ولا يأكلها، لاحتمال أن طائرا جناها من نخل غيره، وسقطت منه تحت نخله، وبالجملة لم يخلف بعده مثله «2» وحكى علي بن حمزة النقيب، عن أبي المظفر يوسف بن عبد العزيز الدمنهوري، قال: أتيت الشيخ أبا القاسم وتهيبته أن أطرق عليه الباب، فوقفت لعلي أجد من يستأذن لي عليه، فسمعته يبكي وينشد: كيف برئي وداء وجدي عضال ... ونهوضي وعثرتي لا تقال وعزيز على أهون شيء في هوا ... هـ ما قالت العذّال يا نسيم الشمال من أرض نجد ... فيك للصب صحة واعتلال لي بالجزع حاجة ليس تقضى ... وغريم يلذ منه المطال يا لقومي كم ذا تسل سيوف ... لقتالي وكم تراش نبال أنت أحلى في القلب من أمل ... القلب إذا ما تناهت الآمال قال: ولم يزل يرددها وهو يبكي ويشهق، حتى خفت عليه، فطرقت عليه الباب، فقطع إنشاده وسكّن زفراته، وغيّض عبراته، ثم أذن لي، فدخلت عليه، فقال: لعلك سمعت شعرا كنت أنشده؟ فقلت: كان ذلك، ولقد خشيت عليك والله مما كنت فيه. فقال: يا هذا! تذكرت عشقة منذ عهد الصبا أنا إلى الآن في سكرها، وربما كانت في وقت أشد من

108 - الفضيل بن فضالة

وقت، والعاقل يستروح بمثل ما رأيت من أرواح الأشعار، وأنفاس الأشجار، وسألتك الله إلا ما كتمت. قال: فو الله ما ذكرتها حتى مات. وتوفي ليلة الاثنين سادس شعبان سنة اثنتين وستين وستمائة، ببستانه بجبل" الصّيقل"، بظاهر الاسكندرية. ودفن به، بوصية منه، وقبره يزار ويتبرك به. وبيع الأثاث الموجود في منزله، وقيمته دون خمسين درهما، ورقا بما يزيد عن عشرين ألف درهم تزايد الناس فيه رجاء البركة حتى بلغ الإبريق الذي كان يستعمله ويتوضأ فيه للصلاة جملة كبيرة، وقيمة مثله لا يبلغ ثلاثة فلوس!. وقد رأيت خرقة من أثره عند بعض المصريين، وذكر أنها بيعت في أثاثه بمائة وعشرين درهما. ومنهم: 108- الفضيل بن فضالة صميم علم أغرق في الحسب، وأغبق في كرم الحسب، ترقى للحيرة فعرف الحقيقة، وتوقى الحيرة فوقف على الطريقة. قال:" إذا شئت أن تصير من الأبدال، فحوّل خلقك إلى بعض خلق الأطفال؛ ففيهم خمس خصال لو كانت في الكبار لكانوا أبدالا، وهي: أنهم لا يغتمون للرزق. ولا يشتكون من خالقهم إذا مرضوا. ويأكلون الطعام مجتمعين. وإذا تخاصموا لم يتحاقدوا وتنازعوا إلى الصلح. وإذا خافوا جرت عيونهم بالدموع". وكان يقول للمريد إذا أتاه: تصحبني على أربعة خلائق هنّ كنوز الجنة؛ كتمان الفاقة، وكتمان المصيبة، وكتمان المرض، وكتمان السر. وكان يحب الخلوة، فإذا خلا رفع عقيرته، وأنشد قول الرضي: حادثته فضل العتاب وبيننا ... كبر الملوك ورقة الملوك من لي به والدار غير بعيدة ... والمال غير قليل

109 - محمد بن عبد الله بن المجد المرشدي الدهروطي

وحكي أن رجلا كان يصحبه، فسمعه يقول يوما في دعائه:" اللهم حقق أملي"، فقال: يا سيدي! أيكون المحقّق أملا؟. فقال: اعلم أن الأمل العمل. وقيل: إن الفضيل بن فضالة سأل ربه أن يرفع عنه الأمل، فاستجاب له، فترك الأكل والشرب، فلم تستقم له العبادة، فدعا ربه أن يرد عليه أمله، فأكل وشرب. وأتاه نعي بعض إخوانه وهو يأكل طعاما، فقال للمخبر له: اقعد فكل، فقد علمت. قال له: ومن أعلمك؟ وما سبقني إليك أحد!. قال: بلى، قوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ «1» والعجب من يده في سلة الأفاعي كيف ينكر اللسع؟!!. ومنهم: 109- محمّد بن عبد الله بن المجد المرشديّ الدّهروطي «13» الشيخ أبو عبد الله، رجل من أهل منية مرشد «2» ، من الوجه البحري من ديار مصر. ظهر فيها ظهور الشمس في السماء، وصدر عنه الناس صدورهم عن الماء، وترامت إليه الفجاج بالوفود، وشدّت إليه الركائب من أقطار الوجود، وغصت طرق البر والبحر إليه، ونصّت ألسنة المشرق والمغرب عليه، وظهرت له كرامات لم تظهر فيها معه لبشر بارقة، ولا غدت بها لابن أدهم سابقة، ولا جاء الجنيد منها إلا جيش ليس له به قبل، ولا وسع ذا النون

المصري البحر ولا البرّ ولا السهل ولا الجبل. والناس فيه على قسمين: حتى أهل بلده؛ فأناس يقولون: إن أموره كانت رحمانية. وأناس يقولون: إنها شيطانية!. وسواد الجمهور: على حسن الاعتقاد فيه، وسأحكي من أموره ما فيه غنى للواقف عليه. قدمت مصر وهذا الرجل قد طارت سمعته، وطرقت الشام، وأسمعت الخاص والعام، ولم تبق أذن إلا وفيها منه صالح، وذاكر له بذكر صالح، وكنت أتمنى لقاءه، وقصدت هذا في قدمتي الاسكندرية، فحالت دون ذلك شواغل خدمة السلطان، وتمادى عليّ ذلك الأمد، فقدم مصر حاجّا، وأتى إلى خدمة السلطان، واجتمع به في الميدان المجاور للاسطبل، وكان فخر الدين ناظر الجيوش الجامع بينهما، وقام السلطان له، وأكرمه، وأجلسه إلى جانبه، وأقبل عليه يحدّثه لما قرره فخر الدين في صدره، فلم يكن للشيخ حديث يحدّث به السلطان، ولا موعظة يعظه بها، ولا مصلحة من مصالح الدنيا والآخرة يوصيه بها، إلا الإطناب في شكر فخر الدين، وذكر دينه وزهده وصلاحه، وأنه يتعين على السلطان أن يغتبط به، ويعتمد عليه، ويمسكه بيديه، وجعل كل مجلسه في هذا. فنزل من عين السلطان، وقال لألجاي الدواداري: هؤلاء يتقارضون الشهادات!. ثم قال له: لو كان هذا وليا من أولياء الله أوصاني بسائر عباد الله، ولم يقتصر على ذكر الفخر، وكم في الناس من رجل قدمه خير من الفخر!. وقال لبكتمر الساقي «1» : والله لولا الحياء من الناس كنت ضربه على فمه!. ثم خرج المرشدي إلى الحج، وخرج السلطان إلى سرياقوس، فخرجنا معه، وأتانا الخبر بأن

الشيخ في البركة، فقمت أنا ووالدي رحمه الله تعالى، وركبنا لنراه، فلحق بنا الداوداري، وقال: متى رحتم إليه ما يعجب السلطان، وذكره بأمور لا أحب ذكرها، ولم يزل حتى عدنا، ثم لم يقدر لي به اجتماع حتى مات في شعبان سنة سبع وثلاثين وسبعمائة، إلا أنه ومنذ قدم مصر وإلى أن مات لم تزل كتبه إليّ متواصلة، وحوائجه لديّ مقضية. قلت: ولقد يحكى عنه من الغرائب ما لم نسمع مثله عن أحد من أهل زمانه، ولا ممن تقدمهم بزمان سالف. وكان الناس إذا قصدوه تشهّوا في نفوسهم أنواع المآكل والمشارب، فإذا أتوه أتاهم به. على أنه في منقطع رمل، وقرية صغيرة لا يوجد فيها مثل تلك الأنواع!، والشائع الذائع عند عامة أهل مصر أنه كان يأتيه الجماعة، وكل واحد قد يشتهي شيئا، واقترح ما لا يوجد مثله إلا أن يكون في القاهرة، أو دمشق، فإذا حضروا عنده، وسلموا عليه، غاب عنهم هنيهة، ثم حضر وأحضر لكل واحد منهم ما اقترح، ويقولون: إن أكثر ما كان يحضره للناس في كمه، أو هو حامل له بيده، من غير خدام له، ولا من يستعين بهم، حتى زعموا أنه كان يحضر من أنواع الأطبخة عدة الألوان، وليس عنده من يطبخ له، ولا يعرف له قدرة ولا معرفة، ولا زبدية، ولا موقد نار، مع اشتغاله طول نهاره وليله بالناس، ويزعمون أن هذا المدد ما هو في وقت دون وقت، بل إنه يأتي في اليوم الواحد بعدّة من الألوان لا يعرف من أين أتى بها، ولا من طبخها!. إلى غير ذلك مما يحكون عنه من هذا ومثله، مما أظن أكثره من باب الخراف في القول. وحكى لي صاحبنا القاضي شمس الدين القيسراني كاتب الإنشاء، وكان قد توجّه قصدا لزيارته، قال: كنت قد أكلت في الطريق قبل إشرافي على بلده بقليل، فاشتهيت أقسما سكرية «1» مبردة، فحال ما وصلت، وسلمت عليه، غاب عني هنيهة، وأتى معه أقسما

سكرية مبرّدة، مثل الأقسما التي تعمل للسلطان، وقال لي: اشرب هذه فإنك قد جئت من حر الطريق. وحكى لي الشيخ أحمد بن عمر الأنصاري قال: الشيخ محمد المرشدي يتوجّه في كل سنة إلى" كوم فرح" أظنه قال: في نصف شعبان، ويأتيه من الخلائق ما لا يحصى كثرة، ومعهم دوابّهم، و" كوم فرح" في مكان منقطع، شاسع، ويقيم الناس عند الشيخ ثلاثة أيام، وهو يقوم بهم، وبما يحتاجون إليه من طعام وشراب، وعليق، كل هذا يتولاه بنفسه، ولا يعرف من أين يأتي به؟!. وحكى لي الأمير الوزير مغلطاي الجمالي «1» - رحمه الله تعالى- قال: توجّهت إلى زيارة الشيخ محمد، فلما قربت منه، اشتهيت قمحية بلبن حليب، بلحم خروف رميس، فلما وصلنا، جاء ومعه زبدية كبيرة فيها قمحية بلبن حليب بلحم خروف رميس، وقال لي: كل، ثم بقي يغيب ويجيب أشياء أخر، ويضعها قدام مماليكي. وكلما جاب شيئا إلى واحد منهم يعجب منه ويقول: والله أنا كنت قد اشتهيته!. وأحضر أكثر من عشرين لونا ما يطبخ إلا في مطبخ السلطان. وحكى لي شهاب الدين أحمد بن مليح الاسكندري بالاسكندرية، قال: نويت زيارة الشيخ محمد في نفسي، وقلت: لعلّي أصادف عنده هيطلية بسمن وعسل آكل منها؟. فجاء كتاب وكيل الخاص باستعمال حوائج السلطان أعاقني عن ما عزمت عليه، فلم يمض غير يومين أو ثلاثة، وإذا أنا برجل قد أتاني من عند الشيخ، وقال: الشيخ يسلم عليك، وقد بعث لك هذا السمن والعسل لتعمل لك هيطلية، وتأكلها بهما، ولو كانت تحمل إليك بعث لك بها.

قال ابن مليح: والله الذي لا إله إلا هو، لم أكن قد أطلعت أحدا على ما نويت ولا على ما كنت قد اشتهيت. وأخباره في مثل هذا كثيرة. وكان- على ما ذكر لي- رجلا مبدنا. ربعة من الرجال، حسن الشكل، منوّر الصورة، جميل الهيئة، حسن الخلائق، يحفظ القرآن الكريم، و" التنبيه" في مذهب الشافعي، وكان فقيه النفس، مختصرا لكثير من المسائل، يتلو في أكثر الأوقات، ويفتي من استفتاه من غير أن يكتب خطه بشيء، وكان لا يرد نفسه عن الشفاعات إلى أرباب الدولة، وحاشية السلطان، وشفاعاته مقبولة، والوسائل به لا ترد. وقد زعم قوم أن هذه الكرامات إنما كانت بصناعة مقررة بينه وبين قاضي فوّه، فإنهما كانا روحين في جسد واحد، وكان قد تحصّن بالشيخ، فلا يقدر قاضي القضاة ولا أحد غيره على عزله، وطال ذيله، وأكثر من تسجيل البلاد والتجارة، والولاة ترعاه إما للاعتقاد في الشيخ، أو لرجاء العناية من الشيخ بهم عند الدولة، فتمت أمواله، وصلحت حاله، واتسعت دائرة سعادته، فلم يبق له دأب إلا تلقي من يصل من ذوي الأقدار قاصدا زيارة الشيخ، لأن" فوّه" طريق" منية المرشد"، فإذا وصل الزائر أنزله وأضافه، وشرع في محادثته، ومحادثة من معه، حتى يقف ما في خواطرهم اقتراحه على الشيخ، ثم يبعث به إلى الشيخ، على دواب مركزه في الطريق بينهما، وعدة من الأوصاف بما لعله لا يكون عنده، ثم يعطيه حلية كل رجل من المذكورين واسمه!. قالوا: فكان بهذه الصنعة تم له ما أراد، فيشهد له من أتاه بما كان في نفسه، ويقول غيره بالتقليد كعادة العوام في ذلك، وعندي في كل أمره نظر، ولو رأيته لكنت وقفت على بعض الخبر. وبالجملة فكان ذا فضل وبرّ، ومعروف، ومذهب غير مألوف، رحمه الله تعالى.

110 - عبد الله [بن محمد بن سلمان] المنوفي

ومنهم: 110- عبد الله [بن محمّد بن سلمان] المنوفيّ «13» جمع بين العلم والصلاح، وطلع نيره المشرق فلاح، فارقت مصر وهو قطب رحاها، وشمس ضحاها، وهو ممن تفقه واعتزل. قرأ الفقه على مذهب الشافعي، وانقطع بالمدرسة الصالحية مقتصرا على خويصة نفسه، لا يكاد يخرج إلا إلى الصلاة مع الجماعة، أو الجمعة. تقلل من متاع الدنيا، ولا يستكثر من الناس، ولقد أراد السلطان الاجتماع به فلم يرد، وعيّن لجلائل التدريس والمناصب، وكنت المتحدّث معه في ذلك فأبى، وعقد على الامتناع. ولقد أقمت بديار مصر ما أقمت من السنين، أرى أبناءها وأسمع أنباءها، فلم أرض أحدا مثله لعلمه وعمله، وصلاحه، وانقطاعه، وإن كان ابن اللبان أشهر وأوسع علما، وأطول باعا في علوم الشريعة والحقيقة، إلا أنه لا يخلو من متكلم فيه، والشيخ عبد الله مجمع، وما ذاك إلا لعظم زهده، وتخليه، وقطع علائقه من الناس، وقطعهم عنه. ولقد يحكى عنه كرامات ظاهرة كفلق الصبح، كان يحكى لي منها، ولكنني لم أضبطها؛ ومنها: ما حكى الأمير سيف الدين الجابي الدوادار «1» - رحمه الله- قال: وقع في

111 - أبو عبد الله محمد بن اللبان

نفسي إشكال في مسألة، وكان لي صاحب من الفقهاء الحنفية أتردد إليه زمن الاشتغال، فنزلت إليه، وليس لي مهم إلا أن أسأله عن تلك المسألة، ليحل لي الإشكال فيها، فأتيته، فلم أجده، فأتيت المدرسة التي بها الشيخ عبد الله المنوفي لأراه. فلما دخلت عليه، وسلمت عليه، وجلست، قال لي: كأنك مشتغل بشيء من الفقه؟. فقلت: نعم. فقال: ما قولك في كذا وكذا؟ - لتلك المسألة بعينها! -؛ فقلت: منكم يستفاد. فأخذ يتكلم في تلك المسألة وما عليها من الإيرادات، وذكر الإشكال الذي وقع في نفسي، ثم شرع يجيب عن تلك الإيرادات، حتى جلى ذلك الإشكال، وحل المسألة. فسألته عن شيء آخر؟. فقال: لا، قم مع السلامة، والقصد قد حصل. وهذه كرامة ظاهرة لا تنكر. رحمه الله تعالى. ومنهم: 111- أبو عبد الله محمّد بن اللّبّان «13» شمس الدين الشاذلي، طراز مصر المذهب، وفرد أهلها في علم الحقيقة والمذهب، والفائز المعلى قدحه، والسيد المحلى بذائب الذهب مدحه، طاب غرسه، وأشرقت ملء المشارق والمغارب شمسه، وطال لواؤه، وحسن دواؤه، وكثرت شيعته تتوالى منه وليا تروى أنواؤه، وتجود الأرض سماؤه، وتعود بالفرض والنوافل نعماؤه. صحب الشيخ ياقوت الحبشي «1» ، وغيره من مشايخ الاسكندرية، ومصر، والشام، وأخذ

عنهم من علوم الطريقة والحقيقة ما تقدم، تمهيد العلوم الشرعية، لسلوكه فيه، حتى برع وبزّ أهل زمانه، وساد على أبناء دهره، وأطلق قلمه بالإفتاء، واشتغل عليه أنواع الطلبة، وأخذت عنه طوائف المريدين، وتكلم على رؤوس الأشهاد، وحضر مجلسه الخاص والعام، ولم يزل يشار إليه بالإجلال، ويذكر بالتعظيم. وكنت أسمع به ولا يقيض لي به لقاء، ثم أصيب بما لم يخل منه مثله، فخلى في بعض مجالسه وقد شرع في كلام ما كمّله، وأخذ في قول ما أتّمه، فقام ابن الكاتب المالكي وقطع عليه الكلام، وأخذ في الإنكار عليه، وقام معه أناس قلائل، وهمّ بهم السواد الأعظم حتى كادوا يثبون بهم، ثم حجز بين الفريقين، ورفع ابن الكاتب القضية إلى الحكام، وكان كلاما يقتضي قبل تمامه ما أوقد حميّة بعض الحكام عليه، فتحدّث مع البقية، ثم حدّثوا السلطان فيه، فاستتشاط غضبا وأمرهم فيه بأمر كاد لا يستدرك، فقيض له من بلّغ السلطان القضية وأوصل إليه الخبر على حقيقته، وعرّفه بمكانة الشيخ، وما هو عليه من العلم، والدين، فسخّره الله له، وقلب تلهّب غيظه عليه بردا وسلاما له، وبعث إلى الحكام بالتمهل في أمره، ثم طلبه السلطان، وادّعى عليه لديه، وسأله عما قال؟. فاعترف، فحكم بصحة إسلامه، وقبول دولته وإبقائه على ماله وزوجته، وعدالته، ومناصبه، بعد استيفاء الشرائط الشرعية، وفعل كما يجب شرعا. ثم عقد له مجلس بالمدرسة الصالحية، عند قاضي القضاة جلال الدين القزويني «1» ، فطلبه؛ فنزل من القلعة إليه، والناس حوله، وقد ملأ سواد الناس ما بين القلعة والمدرسة، فلما حضر مجلس الحكم العزيز، ادّعى عليه، فأجاب بما حكم به السلطان، وأوصل حكم السلطان بالقاضي القزويني، وحكم حكما آخر مستقلا للشيخ بمثل ذلك، وامتنع من

الكلام في المجالس العامة، ثم تكلم، وهو رجل قد جمع الله عليه من القلوب، وجمع له من أشتات ما لا هو في ظنّ ظانّ، هذا إلى حسن الشكل، وتنوير الوجه، والصورة، وجمال الذات والهيئة، وجودة الخط، وحسن اللفظ، وبراعة اللسان، وكرم النفس، وجميل السجايا، فآها لدهر فرّق بيننا وبينه، وزمان أبعد المدى عنه. وله نظر ثاقب في الأدب، ونظم بديع [فمن شعره ما أورده في كتابه المتشابه في الربانيات قوله: تشاغل عنا بوسواسه ... وكان قديما لنا يطلب محبّ تناسى عهود الهوى ... وأصبح في غيرنا يرغب ونحن نراه ونملي له ... ويحسبنا أننا غيّب ونحن إلى العبد من نفسه ... ووسواس شيطانه أقرب «1»

مصادر التحقيق وفهرس الأعلام

مصادر التحقيق

مصادر التحقيق 1- آثار البلاد وأخبار العباد للقزويني. 2- اتعاظ الحنفا بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفا للمقريزي. 3- أخبار الدول وآثار الأول للقرماني. 4- أخبار الدول المنقطعة، لابن ظافر الأزدي. 5- أدب الإملاء والاستملاء، لابن السمعاني. 6- الاستدراك لابن نقطة. 7- الأعلاق الخطيرة في ذكر أمراء الشام والجزيرة، لابن شداد. 8- الأعلام للزركلي. 9- الإعلام بتاريخ أهل الإسلام، لابن قاضي شهبة. 10- الإعلام بوفيات الأعلام، للذهبي. 11- الإعلان بالتوبيخ، للسخاوي. 12- أعمال الأعلام في من بويع قبل الاحتلام، لابن الخطيب. 13- أعيان الشيعة، لمحسن الأمين. 14- الإكمال، لابن ماكولا. 15- أمراء دمشق في الإسلام، للصفدي. 16- الإنباء في تاريخ الخلفاء، لابن العمراني. 17- إنباه الرواة على أنباه النحاة، للقفطي. 18- الأنساب، للسمعاني. 19- الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل، للحنبلي. 20- بدائع الزهور في وقائع الدهور، لابن إياس.

21- البداية والنهاية في التاريخ، لابن كثير. 22- بغية الطلب في تاريخ حلب، لابن العديم. 23- بغية الملتمس، للضبي. 24- بغية الوعاة للسيوطي. 25- البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب، لابن عذاري. 26- تاج التراجم، لابن قطلوبغا. 27- تاج العروس للزبيدي. 28- تاريخ آداب اللغة العربية، لجرجي زيدان. 29- تاريخ ابن خلدون. 30- تاريخ الأدب العربي، لبروكلمان. 31- تاريخ إربل، لابن المستوفي. 32- التاريخ الباهر في الدولة الأتابكية، لابن الأثير. 33- تاريخ جرجان، لدوزي. 34- تاريخ حلب، للعظيمي. 35- تاريخ الخلفاء، للسيوطي. 36- تاريخ الخميس، للديار بكري. 37- تاريخ دولة آل سلجوق، للبنداري. 38- تاريخ الزمان، لابن العبري. 39- تاريخ مختصر الدول، لابن العبري. 40- تاريخ مدينة دمشق، لابن عساكر. 41- تاريخ نيسابور، للحاكم النيسابوري. 42- تبصير المنتبه بتحرير المشتبه، لابن حجر. 43- تبيين كذب المفتري، لابن عساكر.

44- تتمة المختصر في أخبار البشر، لابن الوردي. 45- التحبير في المعجم الكبير، لابن السمعاني. 46- التدوين في أخبار قزوي، للرافعي القزويني. 47- تذكرة الحفاظ، للذهبي. 48- التقييد لمعرفة رواة السنن والمسانيد، لابن نقطة. 49- تكملة إكمال الإكمال، للصابوني. 50- تهذيب الأسماء واللغات، للنووي. 51- تهذيب تاريخ دمشق، لبدران. 52- توضيح المشتبه، لابن ناصر الدين. 53- جذوة المقتبس في ذكر ولاة الأندلس، للحميدي. 54- الجواهر المضية في طبقات الحنفية، للقرشي. 55- الجوهر الثمين، لابن دقماق. 56- حاضر العالم الإسلامي، لشكيب أرسلان. 57- حسن المحاضرة، للسيوطي. 58- الحلة السيراء، لابن الأبار. 59- خريدة القصر وجريدة العصر، للعماد الأصفهاني. 60- حلية الأولياء للأصفهاني. 61- خلاصة الذهب المسبوك للإربلي. 62- الدارس في تاريخ المدارس، للنعيمي. 63- الدرة المضية، لابن أبيك الدواداري. 64- دمية القصر، للباخرزي. 65- دول الإسلام للذهبي. 66- الديباج المذهب، لابن فرحون.

67- ديوان الإسلام للعزي. 68- الذخيرة ي محاسن أهل الجزيرة، لابن بسام. 69- ذيل تاريخ بغداد، لابن النجار. 70- ذيل تاريخ دمشق، لابن القلانسي. 71- ذيل تجارب الأمم، للروذراوري. 72- الرسالة القشيرية، للإمام القشيري. 73- الرسالة المستطرفة، للكتاني. 74- رفع الإصر عن قضاة مصر، لابن حجر. 75- روضات الجنات، للخوانساري. 76- الروض المعطار، للحميري. 77- الروضتين، لابن أبي شامة. 78- زبدة التواريخ، للحسيني. 79- زبدة الحلب في تاريخ حلب، لابن العديم. 80- السلوك لمعرفة دول الملوك، للمقريزي. 81- سير أعلام النبلاء، للذهبي. 82- شجرة النور الزكية، لمخلوف. 83- شذرات الذهب، لابن العماد الحنبلي. 84- صبح الأعشى للقلقشندي. 85- الصلة، لابن بشكوال. 86- الضعفاء والمتروكون، لابن الجوزي. 87- طبقات الأولياء، لابن الملقن. 88- طبقات الحفاظ، للسيوطي. 89- طبقات الحنابلة، لابن أبي يعلي.

90- الطبقات السنية، لابن الغزي. 91- طبقات الشافعية، لابن قاضي شهبة. 92- طبقات الشافعية، لابن هبة الله. 93- طبقات الشافعية، للإسنوي. 94- طبقات الشافعية، للنووي. 95- طبقات الشافعية الكبرى، للسبكي. 96- طبقات فقهاء الشافعية، لابن الصلاح. 97- طبقات المفسرين، للداودي. 98- طبقات المفسرين، للسيوطي. 99- العبر في خبر من غبر، للذهبي. 100- العقد الثمنين، لقاضي مكة. 101- العقد المذهب، لابن الملقن. 102- عقود الجمان، للزركشي. 103- عيون الأنباء في طبقات الأطباء، لابن أبي أصيبعة. 104- عيون التواريخ، لابن شاكر الكتبي. 105- غاية النهاية في طبقات القراء، لابن الجزري. 106- الغنية، للقاضي عياض. 107- الغيث المنسجم، للصفدي. 108- الفقيه والمتفقه، للخطيب البغدادي. 109- فهرس الفهارس للكتاني. 110- فهرس ما رواه عن شيوخه، لابن خير الإشبيلي. 111- الفوائد البهية في تراجم الحنفية، للكنوي. 112- فوات الوفيات، لابن شاكر الكتبي.

113- القلائد الجوهرية. 114- قلائد العقيان، لابن خاقان. 115- الكامل في التاريخ، لابن الأثير الزري. 116- كشف الظنون، لحاجي خليفة. 117- الكنى والألقاب، للقمي. 118- اللباب، لابن الأثير. 119- لسان الميزان، لابن حجر. 120- مآثر الإنافة في معالم الخلافة، للقلقشندي. 121- مختصر التاريخ، لابن الكازروني. 122- مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور. 123- المختصر في أخبار البشر، لأبي الفداء. 124- مرآة الجنان، لليافعي. 125- مرآة الزمان، لسبط ابن الجوزي. 126- المستفاد من ذيل تاريخ بغداد، للدمياطي. 127- المشتبه في الرجال، للذهبي. 128- المشترك وضعا والمفترق صقعا، لياقوت الحموي. 129- المطرب، لابن دحية. 130- معالم الإيمان، للدباغ. 131- المعجب، للمراكشي. 132- معجم الأدباء، لياقوت الحموي. 133- معجم البلدان، لياقوت الحموي. 134- معجم السفر، للسلفي. 135- معجم طبقات الحفاظ والمفسرين، لسيد كسروي.

136- معجم ما استعجم، للبكري. 137- معجم المؤلفين، لعمر رضا كحالة. 138- معرفة القراء الكبار، للذهبي. 139- المعين في طبقات المحدثين، للذهبي. 140- مفتاح السعادة، لطاش كبرى زادة. 141- منازل السائرين، للهروي. 142- منتخبات التواريخ لدمشق، للحصني. 143- المنتظم لابن الجوزي. 144- المواعظ والاعتبار، للمقريزي. 145- ميزان الاعتدال، للذهبي. 146- النجوم الزاهرة، لابن تغري بردي. 147- نزهة الألباء، لابن الأنباري. 148- نفح الطيب في غصن الأندلس الرطيب، للمقري. 149- نكت الهميان في نكت العميان، للصفدي. 150- نهاية الأرب في فنون الأدب، للنويري. 151- هدية العارفين، للبغدادي. 152- الوافي بالوفيات، للصفدي. 153- الوفيات، لابن قنفذ. 154- وفيات الأعيان، لابن خلكان. 155- ولاة دمشق في العهد السلجوقي، للدكتور المنجد. وغير ذلك من المصادر ذكرت في مواضعها من حواشي الكتاب.

فهرس الأعلام

فهرس الأعلام

مقدمة المؤلف 17 1- أويس بن عامر القرني 19 2- أبو مسلم الخولاني 21 3- رابعة بنت إسماعيل العدوية 23 4- حبيب العجمي 26 5- إبراهيم بن أدهم بن منصور أبو إسحاق 28 6- الفضيل بن عياض 34 7- داود بن نصير الطائي 38 8- شقيق بن إبراهيم البلخي 42 9- معروف بن فيروز الكرخي 45 10- الفتح بن سعيد الموصلي أبو محمد 49 11- أبو سليمان الداراني عبد الرحمن بن عطية 52 12- بشر بن الحارث الحافي أبو نصر 55 13- أحمد بن أبي الحواري 61 14- أبو عبد الرحمن حاتم بن الأصم 62 15- أحمد بن خضرويه البلخي 67 16- الحارث بن أسد المحاسبي 69 17- أبو تراب عسكر بن حصين النخشي 72 18- السري بن مغلس السقطي 75 19- أبو زكريا يحيى بن معاذ الرازي الواعظ 80 20- أبو يزيد البسطامي، طيفور بن عيسى بن آدم 84 21- أبو حفص الحداد، عمر بن سالم 88 22- حمدون بن أحمد بن عمارة القصار النيسابوري 90

23- أبو الحسين النوري، أحمد بن محمد 92 24- سهل بن عبد الله التستري 94 25- إبراهيم الخوّص، أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد 96 26- الإمام أبو القاسم الجنيد بن محمد 104 27- أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الحيري 110 28- ممشاذ الدينوري 114 29- أبو محمد رويم أحمد بن يزيد بن رويم البغدادي 117 30- الحسين بن منصور الحلاج، أبو مغيث 123 31- أبو عبد الله الجلاء أحمد بن يحيى 128 32- أبو عبد الله محمد بن الفضل البلخي 131 33- أبو عمرو الدمشقي 135 34- أبو على الروذباري 137 35- أبو بكر الكتاني محمد بن علي بن جعفر 141 36- أبو إسحاق إبراهيم بن داود القصار الرقّي 144 37- أبو بكر الشبلي 146 38- أبو بكر الدقّيّ 155 39- أبو عمرو إسماعيل بن نجيد بن أحمد السّلم 158 40- أبو القاسم النصرآبادي إبراهيم بن محمد 160 41- أبو الحسن علي بن إبراهيم الحصري 162 42- أبو عبد الله محمد بن خفيف بن إسفكشاذ الضّبّي 163 43- ابن سمعون محمد بن أحمد بن إسماعيل بن عنبس 166 44- الإمام القشيري أبو القاسم عبد الكريم بن هوزان بن عبد الملك بن طلحة ابن محمد القشيري 172

45- أحمد بن محمد بن محمد الغزالي الطوسي أبو الفتوح 176 46- يوسف بن أيوب بن يوسف بن الحسين بن وهرة أبو يعقوب الهمذاني 178 47- عدي بن مسافر بن إسماعيل بن موسى بن مروان بن الحسن بن مروان الهكاري 181 48- الإمام سيدي أحمد الرفاعي أبو العباس بن أبي الحسن علي بن أحمد بن يحيى ابن حازم بن علي بن رفاعة 184 49- سيدي الإمام الشيخ عبد القادر الجيلاني 188 50- قضيب البان 196 51- أبو علي الحسن بن مسلم بن أبي الحسن بن أبي الجود 199 52- أبو الحسن علي بن محمد بن غليس 200 53- الشيخ محمد بن أحمد بن قدامة المقدسي أبو عمر 202 54- عبد الله بن عثمان بن جعفر بن أبي القاسم محمد اليونيني 208 55- الشيخ يونس بن يوسف بن مساعد الشيباني المخارقي، المخارقي، المشرقي، القنيي 219 56- الساوجي شيخ القلندرية جمال الدين محمد الزاهد 221 57- الشيخ عبد الله بن يونس الأرمني الحنفي 223 58- شهاب الدين السهروردي 224 59- غانم بن علي بن إبراهيم بن عساكر بن الحسين 228 60- عبد الله بن عبد العزيز اليونيني 230 61- علي بن أبي الحسن بن منصور المعروف بالحريري 233 62- عيسى بن أحمد بن إلياس بن أحمد اليونيني 236 63- يوسف القميني 242 64- الأكال محمد بن خليل بن عبد الوهاب أبو عبد الله البيطار 243 65- عبد العزيز بن القاضي أبي عبد الله محمد بن خلف الأنصاري الأوسي 246

66- الشيخ القطب أبو بكر بن قوام بن علي بن قوام بن منصور بن معلى ابن حسن بن عكرمة 256 67- علي البكاء 265 68- الشيخ خضر بن أبي بكر بن موسى المهراني العدوي 267 69- يوسف بن نجاح بن موهوب الزبيري المعروف بالفقاعي 272 70- الشيخ إبراهيم بن الشيخ عبد الله الأرموي 274 71- الشيخ الزاهد جندل بن محمد العجمي 274 72- أبو الرجال بن مري بن بحتر المنيني 276 73- عثمان المنيني المعروف بالقريري 277 74- محمد بن إبراهيم الأرموي 279 75- نجم الدين الخشكناكي 292 76- علي السقباوي 294 77- إبراهيم الصباح 296 78- حماد الحلبي 298 79- محمد بن نبهان 300 80- عبد الله اليافعي 303 81- أبو بكر محمد بن عمر بن أبي بكر بن قوام 304 فأما من هو من أهل المغرب 82- أبو عبد الله محمد بن إسماعيل المغربي 307 83- أبو الخير الأقطع المعروف بالتيناتي 310 84- أبو عثمان سعيد بن سلام المغربي 312 85- ابن العريف أبو العباس أحمد بن محمد بن عطاء الله الصنهاجي، الأندلسي 315 86- سيدي أبو مدين شعيب بن الحسين 317

87- أبو العباس أحمد بن عبد الله اللخمي الفاسي 320 88- ابن بلج 322 89- سيدي أحمد بن عطاء الله أبو العباس 322 90- سليمان بن عبد الباري الدرعي، شيخ القرشي 324 91- 92 الأخوان: محمد الخياط، وأحمد الحريري، المغربيان أبو عبد الله وأبو العباس 325 93- سيدي الشيخ الأكبر محيى الدين بن عربي محمد بن علي بن محمد بن أحمد بن علي الطائي الحاتمي الأندلسي، المرسي 327 94- الحرالي علي بن أحمد بنا لحسن بن إبراهيم التجيبي 336 95- محمد المرجاني أبو عبد الله 338 96- أبو الحسن البوني 339 97- ابن برجان 340 98- سيدي أبو الحسن الشاذلي علي بن عبد الجبار بن تميم الحسني 341 99- عبد الحق بن إبراهيم بن سبعين أبو محمد قطب الدين المرسي الرقوطي 342 100- سيدي أبو العباس المرسي أحمد بن عمر الأنصاري 343 101- الحسن بن علي بن يوسف بن هود الجذامي المغربي 349 فأما من بمصر 102- أبو الفيض ذو النون المصري 357 103- أبو بكر أحمد بن نصر الزقاق الكبير 363 104- أبو الحسين بن بنان 366 105- أبو علي الحسن بن أحمد الكاتب 367 106- الشيخ ابن الفارض أبو القاسم عمر بن أبي الحسن 369 107- أبو القاسم بن منصور بن يحيى المكي المعروف بالقباري الاسكندري 392

108- الفضيل بن فضالة 394 109- محمد بن عبد الله بن المجد المرشدي الدهروطي 395 110- عبد الله بن محمد بن سلمان المنوفي 400 111- أبو عبد الله محمد بن اللبان 401

الجزء التاسع

[الجزء التاسع] [تراجم الحكماء والفلاسفة] مسالك الأبصار في ممالك الأمصار

الورقة 1/أمن المخطوط

الورقة 1/ب من المخطوط

الصفحة قبل الاخيرة من المخطوط

الصفحة الأخيرة من المخطوط

مقدمة المحقق

مقدمة المحقق بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم وبعد ... فبين يدينا اليوم حلقة جديدة من سلسلة حلقات ذهبية لموسوعة" مسالك الأبصار في ممالك الأمصار" لمؤلفها شهاب الدين أحمد بن فضل الله العمري، العالم الموسوعي الأول في بابه، حيث لم يسبقه إلى مثل هذا التصنيف أحد- على ما أعلم-، وقد سبق أن ذكرت في مقدمتي لتحقيق السفر الثامن من هذه الموسوعة وهي في تراجم السادة الصوفية" الفقراء"، ذكرت أن ابن فضل الله العمري رحمه الله تعالى أجاد وأفاد في هذه الموسوعة القيمة حيث ذكر فيها من أعلام الأمة العربية والإسلامية في جميع العلوم والفنون على اختلاف أنواعها بدءا من الجغرافيا والرحلات، إلى علماء الطب والكيمياء، والنبات، والتاريخ، والحديث، والفقه، والتفسير، والأدباء، والخطباء، والمترسلين، وكتاب الإنشاء، والشعراء، وغيرهم من أهل كل علم وفن، سواء في المشرق أو المغرب والأندلس، أو في مصر وأفريقيا، إلى الهند وما حولها ... ذاكرا ذلك كله ضمن هذه الموسوعة القيمة التي بقيت مئات السنين حبيسة الأرفف، ودفينة الأقبية، دون أن تمتد إليها يد تنفض عنها غبار السنين وتقدمها إلى خلف الأمة العربية والإسلامية ليستفيدوا مما تركه لهم سلفهم الصالح، من علم يتفاخرون به على مدى السنين والأيام، إلى أن شاءت حكمة الباري سبحانه ووفق الدكتور العلامة فؤاد سيزكين لينبه العالم إلى هذا الكنز الدفين، فصور نفائس مخطوطات العالم العربي والإسلامي ضمن سلسلة معهد فرانكفورت في ألمانيا، ومن ضمن ما

جمعه هذه المخطوطة النفيسة (مسالك الأبصار في ممالك الأمصار) ، حيث جمعها من عدة مراكز ومكتبات مخطوطية سواء في تركيا أو مصر، أو في الشام أو في اليمن والمغرب إلى غير ما امتدت إليه يده ووصلت إليه همته في جمع نفائس المخطوطات ليقدمها إلى العالم على شكل مصورات هي أقرب في تصويرها إلى الشكل الأصلي المخطوط فجزاه الله خير الجزاء على صنيعه الحسن. ثم وفق سبحانه وتعالى المجمع الثقافي في أبو ظبي إلى حمل أعباء نشر هذا الكتاب" أعني مسالك الأبصار" وغيره من تراث الأمة، ليقدمه إلى أجيال اليوم من أبناء هذه الأمة ليستفيدوا من علم أمتهم الذي تركوه لهم على أطباق من ذهب أفنوا في ذلك أعمارهم ابتغاء وجه الله تعالى، ومساهمة في بناء الحضارة الإنسانية، ليثبتوا في وقت وزمان أن الأمة العربية الإسلامية أمة علم وحضاره وبناء وتقدم ونهضة وإنسانية، لا كما يزعم أعداؤها من الشرق والغرب أنهم دعاة إرهاب ودمار وحرب وسفك دماء..!!. ومن هذه السلسلة الذهبية الجزء التاسع من" مسالك الأبصار في ممالك الأمصار" الذي بين أيدينا اليوم، وفيه ترجم العلامة ابن فضل الله العمري رحمه الله تعالى لما يزيد عن اثنين وتسعين ومائة طبيب من أطباء الشرق والغرب، والهند، ومصر، والشام، وغيرهم، ذكر فيه ترجمة لكل واحد منهم بشكل أطنب فيه أحيانا، وأوجز أحيانا أخرى، وفق شهرة المترجم له، ومنزلته بين أقرانه، ورتبته في علمه وفنه، واختصاصه، وأدبه. وفي هؤلاء الأطباء الشعراء والحكماء والفلاسفة، وأهل الاجتماع، فذكر في ترجمة الكثير منهم ما لهم من أشعار ووصايا جامعة نافعة، في الطب والحكمة، وأقوال مأثورة سارت بها الركبان، وأدوية وأغذية جربها أولئك الأعلام ووصفوها لمرضاهم فكانت لهم البلسم الناجع، والدواء النافع، ولم يترك رحمه الله تعالى في ترجمة كل واحد ما وقع

عليه من أخباره وسيرة حياته، وطريقة تعلمه وتعليمه، وسلوكه وتربيته، ما استطاع إلى ذلك سبيلا، فجاء هذا السفر بحق كتابا نافعا ليس للأطباء فقط وإنما لكل طالب علم، وباحث عن الثقافة من معينها الصافي، وقارىء وباحث عن تراث هذه الأمة العظيمة، دون تعصب لمذهب أو ملة أو نحلة. وقد كان عملي المتواضع في هذا السفر على الشكل التالي: 1- ضبط النص وشكله وتصحيحه حتى أتى أقرب إلى ما هو مثبت في المخطوط الأصلي. 2- توثيق النصوص، والشواهد التي وردت في المخطوط، وذلك بالرجوع إلى مصادرها من كتب الطب والحكمة والفلسفة التي سنبينها في آخر الكتاب في فهرس المصادر والمراجع. 3- ضبط التراجم وبيان زمان وفاة كل ترجمة وذلك بالرجع إلى كتب الطبقات والتراجم، وكتب الأعلام وغيرها من مراجع هذا الفن. 4- عزو الآيات القرآنية إلى سورها، وبيان أرقامها في تلك السور. 5- تخريج الأحاديث النبوية الشريفة الواردة في المخطوط- على قلّتها- وذلك بالرجوع إلى كتب التخاريج والحديث النبوي الشريف. 6- تخريج الأشعار التي أوردها المصنف واستشهد بها خلال ترجمته لبعض الأعلام من الأطباء والحكماء، وردها إلى أصحابها في دواوين أشعارهم ما أمكن، وإلا فإلى مصادرها من كتب التخاريج. 7- ولا أدعي الكمال في عملي هذا وإنما هو جهد المقل، وأرجو أن أكون قد وفّقت في هذا العمل قدر طاقتي البشرية المتواضعة، ورحم الله عبدا رأى عيبا فستره، وصححه، وكما قال الشاعر:

وإن ترى عيبا فسدّ الخللا ... جلّ من لا عيب فيه وعلا وأسأل الله سبحانه أن يجعل هذا العمل من العلم النافع في الدارين- لي ولمن أراد الانتفاع به ونظر إليه بعين الرضا. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وكتبه/ بسام محمد بارود عفا الله عنه أبو ظبي 13 رمضان 1423 هجرية موافق: ل 18/11/2002 م

المقدمة

[المقدمة] بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد بسم الله الرحمن الرحيم ربّ أعن وإذ انتهت بنا الأوبة في العلماء إلى نوبة الحكماء، فلنطبّق بذكرهم المفاصل، ونطلق من عمود اللحود المناصل، وننبّه منهم عيونا طالما طال نومها، ونأتي بفوائد فيئة كم كثر حسّادها، ونقتصر على المشاهير والأعيان، الذين يكادون يعدّون من المشاهيد، ونأتي منهم بمن تكلم في العلوم الثلاثة: الطبيعي، والرياضي، والإلهي. أو أحدها، وأجاد في جميعها، أو مفردها. فنذكرهم على اختلاف فرق مللهم، ونحلهم، وبلادهم، وتلادهم. كل فرقة على حدتها، بما وقع في قسمة الجانبين، ولم نسم منهم إلا من لم يسامت في أفقه، ولا يساهم أولي كوكبه إلى سمائه، أو أخلد ضبه إلى نفقه، ممن له في علم الكلام إقدام لا يدانيه ليث الشرى، وتلطّف لا يحاكيه طيف الكرى، قصر على طلبه الأشغال، وقصد في التزيد من مكسبه الإيغال، ومن هو بالطب طبّ بتقصّي أحوال المزاج، لا تخفى عليه نبضة عرق، ولا يموّه عليه ومضة حذق، ولا يدق مدخل سقام إلا ودواؤه يتبعه، وسقاؤه سوس يذل له سبعه.

وأولهم: الهرامسة الثلاثة: وإليهم تنسب أصول هذه العلوم؛ وقال ذلك أبو معشر البلخي «1» ، وقال:" إن اسقليبيوس «2» - الذي يزعم أكثر الحكماء أنه أول من استنبط الحكمة، وسيأتي ذكره- لم يكن بالمتأله «3» الأول في صناعة الطب، ولا بالمبتدىء بها، بل إنه عن غيره أخذ، وعلى نهج من سبقه سلك". وقال" إنه كان تلميذ هرمس المصري". قال ابن المطران «4» في اختصار كتاب" الأدواء" للكسدانيين:" هرمس المثلث بالنعمة. وقال في معنى تسميته بالمثلث: إنه كان ملكا عمّت مملكته أكثر

من الحكماء المشارق

المعمورة، ونبيا ذكره الله تعالى" وقال:" هو إدريس عليه السلام" وهو عند اليهود: خنوخ" وقيل:" أخنوخ". وحكيما فيلسوفا له تصانيف كثيرة في أيدي الناس، باقية إلى اليوم: كتاب الطول، وكتاب العرض، وكتاب قضيب الذهب، وغير ذلك. قال: فهذه ثلاث نعم اجتمعت له، لم يسمع أنها اجتمعت لغيره من الأمم، ورفعه الله في عمود من نور. والهند والصابئة يزعمون أنه وقع في نار بعثها الله إليه، ولهذا ... الهند تحرق أجسادها بعد الموت، ومنهم من يحرقها قبل الموت، ويزعم أنه تقرب إلى الله وعبادة!. قال ابن أبي أصيبعة «1» : [من الحكماء المشارق] 1- أما (هرمس الأول) وهو المثلث بالنعم، فإنه كان قبل الطوفان، و [معنى] هرمس: لقب كما يقال كسرى وقيصر. وتسميه الفرس في سيرها: اللهجد. وتفسيره: ذو عدل. وهو الذي تذكر الحرانية- يعنى: الصابئة- نبوته.

ويقول الفرس: إن جده: كيومرث، وهو آدم. ويقول العبرانيون: إنه أخنوخ، وهو بالعربية: إدريس. قال أبو معشر «1» :" هو أول من تكلم في الأشياء العلوية من الحركات النجومية، وأن جده كيومرث- وهو آدم- علّمه ساعات الليل والنهار. وهو أول من بنى الهياكل ومجّد الله فيها، وأول من نظر في الطب، وتكلّم فيه. وأنه ألف لأهل زمانه كتبا كثيرة بأشعار موزونة، وقواف معلومة، [بلغة أهل زمانه في معرفة] الأشياء الأرضية والعلوية. وهو أول من أنذر بالطوفان، ورأى أن آفة سماوية تلحق الأرض من الماء والنار. وكان مسكنه صعيد مصر، [تخير ذلك] ؛ فبنى هنالك الأهرام، ومدائن التراب، وخاف ذهاب العلم بالطوفان، فبنى البرابي «2» ، وهو الجبل المعروف

2 - وأما (هرمس الثاني)

بالبرابر، بإخميم «1» ، وصوّر فيها جميع الصناعات، [وصنّاعها نقشا وصور جميع آلات الصناع] ، وأشار إلى صفات العلوم لمن بعده [برسوم] حرصا منه على تخليد العلوم لمن بعده، وخيفة أن يذهب رسم ذلك من العالم". قال:" وفي الأثر [المروي عن السلف] أن إدريس أول من درس الكتب، ونظر في العلوم، وأنزل الله عليه ثلاثين صحيفة، [وهو أول من خاط الثياب ولبسها] ، ورفعه الله مكانا عليا" «2» . قلت: وقد مرّ ذكره ما فيه غنى. 2- وأما (هرمس الثاني) فإنه من أهل بابل قال ابن أبي أصيبعة:" سكن مدينة الكلدانيين، وهي بابل، وكان بعد الطوفان بزمن بابل «3» ، الذي هو أول من بنى بابل بعد نمرود بن كوش «4» ، وكان بارعا في علم الطب والفلسفة، عارفا بطبائع الأعداد، وكان [تلميذه] فيثاغورس

3 - وأما (هرمس الثالث) :

الأرتماطيقا «1» . وهرمس هذا جدد من هذه العلوم «2» ما كان قد درس «3» بالطوفان". قال:" وهذه- يعني بابل- مدينة الفلاسفة من أهل الشرق، وفلاسفتهم أول من حدد الحدود، ورتّب القوانين". 3- وأما (هرمس الثالث) : فإنه سكن مدينة مصر، وكان بعد الطوفان. قال ابن أبي أصيبعة:" وهو صاحب كتاب الحيوانات ذوات السموم، وكان طبيبا فيلسوفا، وعالما بطبائع الأدوية القتّالة، والحيوانات المؤذية، وكان جوّالا في البلاد، طوّافا بها، عالما بنصبة المدائن، وطبائعها، وطبائع أهلها. وله كلام حسن نفيس في صناعة الكيمياء ينتقل منه إلى صناعات كثيرة؛ كالزجاج، والخرز، والغضار" «4» . وكان له تلميذ يقال له: اسقليبوس. وكان سكنه بأرض الشام. وأما فلاسفة اليونان: فأعظمهم قدرا خمسة، وهم:

بند قليس، وفيثاغورس، وسقراط، وأفلاطون، وأرسطوطاليس وهو ابن نيقوماخس «1» . فأولهم: بندقليس: وهو أول من خاض منهم اللجج، وخاصم بالجج، إلا أنه زل به العقل، وأصدأ مهنّده كثرة الصقل. قال أبو القاسم صاعد بن أحمد بن صاعد «2» : إنه كان في زمان داود عليه السلام، وأخذ الحكمة عن لقمان الحكيم بالشام، ثم انصرف إلى بلاد اليونان؛ فتكلم في خلق العالم بأشياء يقدح ظاهرها في أمر المعاد، فهجره بعضهم. ولطائفة من الباطنية ميل إلى حكمته، وتزعم أن له رموزا قلّ ما يوقف عليها. قال ابن أبي أصيبعة «3» :" وإلى قوله في الصفات «4» ذهب أبو الهذيل

4 - فيثاغورس

العلاف" «1» . ومنهم: 4- فيثاغورس وهو ممن خرق الفجاج، حيث يتشكى طالع الصباح المسرى، وتترامى طوالع الرياح حسرى، وقد كان يروع الليل وثغر أفقه أشنب، وفجر مفرقه مقنب، لا يرده قول مؤنّب، ولا يصده ليل بآفاته مطنب، ولا يثني عزماته الموقنة من بارقة سوحها، ولا من مطوقة في حصر الغصون جنوحها. قال أبو القاسم صاعد «2» :" إنه أخذ الحكمة عن [أصحاب] «3» سليمان- عليه السلام- بمصر، حين دخلوا إليها من بلاد الشام، وكان قد أخذ الهندسة قبلهم عن المصريين، ثم رجع إلى بلاد اليونان وأدخل عندهم علم الهندسة، وعلم الطبيعة، وعلم الدين. واستخرج [بذكائه] علم الألحان، وتوقيع النغم،

وله رموز عجيبة، وله في شأن المعاد مذاهب قارب فيها بند قليس «1» . وكان يرى السياحة، واجتناب مماسّة القاتل والمقتول. وكان يقول: إنه أمر بتقديس الحواس، وتعلم العمل «2» بالعدل، وجميع الفضائل، والكف عن الخطايا، والبحث عن طبيعة كل شيء، والتحاب، والتأدب بشرح العلوم العلوية، ومجاهدة المعاصي، وعصمة النفوس، وتعلم الجهاد، وإكثار الصيام، والقعود على الكراسي، ومواعظ الملوك، وقراءة الكتب، وأن يعلّم الرجال الرجال، والنساء النساء، وكان قد اتّخذ أكلا غير مجوّع ولا معطّش لا يتعداه، ولم يكن يفرح بإفراط، ولا يحزن بإفراط. ويحكى أنه أول من قال إن أموال الأخلاء مشاعة غير مقسومة، وكان يأمر بأداء الأمانة في الوديعة، وصدق الوعد، وكان يتكهن فلا يخطئ. وكان يرمز حكمته؛ ومنها قوله:" لا تلبس تماثيل الملائكة على فصوص الخواتيم" أي: لا تجهر بديانتك و [تدع] أسرار العلوم الإلهية عند الجهّال «3» .

وكان ممن استوطن أنطاكيا، بعد أن سافر إلى بلاد شتى طلبا للعلم، وأخذ عن الكلدانيين والمصريين، وغيرهم، وأخذ عن الكهنة. وآخر أمره أنه كفر، فبقي مذبذبا لا تليقه بلد، ثم انحاز إلى هيكل تحصّن فيه، ولبث فيه أربعين يوما لا يغتذي، فأطيف به، وأحرق عليه الهيكل، فهلك هو ومن معه. ومن كلامه: قوله:" الأقوال الكثيرة في الله- سبحانه- علامة تقصير الإنسان عن معرفته". وقوله:" ما أنفع للإنسان أن يتكلم بالأشياء الجليلة النفيسة فإن لم يمكنه فليسمع قائلها". وقوله:" [احذر أن ترتكب قبيحا من الأمر، لا في خلوة، ولا مع غيرك] ، وليكن استحياؤك من نفسك أكثر من استحيائك من كل أحد". وقوله:" ليكن قصدك بالمال في اكتسابه من حلال، وإنفاقه في مثله". وقوله:" إذا سمعت كذبا فهوّن على نفسك الصبر عليه". وقوله:" ما لا ينبغي أن تفعله احذر أن تخطره ببالك". وقوله:" لا تدنّس لسانك بالقذف، ولا تصغ بأذنيك إليه". وقوله:" الأشكال المزخرفة، والأمور المموهة في أقصر الزمان تتبهرج" «1» . وقوله:" متى التمست أمرا ابدأ إلى ربك بالابتهال في النجح فيه".

5 - سقراط

وقوله:" الإنسان الذي اختبرته بالتجربة فوجدته لا يصلح أن يكون صديقا وخلّا احذر من أن تجعله عدوا". وقوله:" الأخلق بالإنسان أن يفعل ما ينبغي، لا ما يشتهي". وقوله:" ما أحسن بالإنسان أن لا يخطئ، فإن أخطأ فما أكثر انتفاعه بأن يعلم بأنه أخطأ، ويحرص في أن لا يعاود". وقوله:" الدنيا دول؛ مرة لك، وأخرى عليك، فإن توليت فأحسن، وإن تولّوك فلن". وقوله:" ليس الحكيم من حمل عليه بقدر ما يطيق فصبر واحتمل، ولكن الحكيم من حمل عليه أكثر مما يحتمل فصبر". وقوله:" إن أكثر الآفات إنما تعرض للحيوانات لعدمها الكلام، وتعرض للإنسان من قبل الكلام". وقوله:" استعمل الفكر قبل العمل". وقوله وقد نظر إلى شيخ يحب النظر في العلم ويستحيي أن يرى متعلما:" يا هذا! أتستحي أن ترى في آخر عمرك أفضل منك في أوله؟! ". وقوله" وقد قيل له: ما أحلى الأشياء؟ قال: ما يشتهيه الإنسان" «1» . ومنهم: 5- سقراط وهو المعروف بسقراط الحب. والحب": وعاء من فخار كان يجلس فيه

ويستغني عن اللباس، اتخذه رياشا له دون اللباس. أعرض عن ملاذ الدنيا ورفضها، وفرّغ منها يديه ونفضها، وتجرّد من الدنيا إلا حب يستره، وجب يشهره، كأنما يتوقى من ماطل الفجر أشراكا خاتلة، ومن روائق النجوم نبالا قاتلة، فكان لا يستطيب مندياره مقيلا، ولا يستطب لعثاره مقيلا، فلم يأو جدارا ولا أطما، ولا ألجم رأسه عذارا ولا خطما، حتى انتهى إلى ما بلغ، وشفي كلب الموت من دمه ما ولغ. قال أبو القاسم صاعد:" هو من تلاميذ فيثاغورس". واقتصر [من علوم الفلسفة] على العلوم الإلهية، وخالف اليونان في عبادة الأصنام، وحاجّ رؤساءهم بالأدلة، فنقدوا العالم عليه «1» ، واضطروا ملكهم إلى قتله، فأودعه السجن، ثم سقاه السم «2» . وله وصايا شريفة، وآداب فاضلة، وحكم مشهورة، ومذاهب قريبة من فيثاغورس وبندقليس «3» ، إلا أن له في المعاد «4» آراء ضعيفة بعيدة عن محض الفلسفة، خارجة عن المذاهب المحققة". وكان لا يستودع الحكم الصحف والقراطيس تنزيها لها، ويقول:" الحكمة طاهرة مقدّسة، غير فاسدة، ولا دنسة، فلا ينبغي أن نستودعها إلا الأنفس الحية، وننزهها عن الجلود الميتة، ونصونها عن القلوب المتمردة". ولم يصنف كتابا، ولا أملى على أحد من تلاميذه ما أثبته في قرطاس؛ وإنما كان يلقنهم علمه تلقينا.

وكان من عادة ملوك اليونان إذا حاربوا أخرجوا معهم حكماءهم، فأخرج الملك سقراط معه في سفرة خرج فيها، وكان سقراط يأوي إلى زير «1» مكسور يسكن فيه من البرد، وإذا طلعت الشمس خرج منه، فجلس عليه يستدفئ بالشمس، ولهذا سمي سقراط الحب «2» . ومن كلامه: قوله:" إملأ الوعاء طيبا" أي: حكمة. وقوله:" لا تتجاوز الميزان" أي: لا تتجاوز الحق. وقوله:" ازرع بالأسود، واحصد بالأبيض". أي: ازرع بالبكاء، واحصد بالسرور. وقوله:" لا تشيلن الإكليل وتهتكه" أي: للسّنن الجميلة لا ترفضها لأنها تحوط جميع الأمم، كحياطة الإكليل للرأس «3» . وقوله:" عجبا لمن علم فناء الدنيا كيف تلهيه عما ليس له فناء! ". وقوله:" اتفاق النفوس باتفاق هممها، واختلافها باختلاف مرادها" «4» . وقوله:" من بخل على نفسه فهو على غيره أبخل، [ومن جاد على نفسه فذلك المرجو جوده] «5» .

وقوله:" ما ضاع من عرف نفسه، وما أضيع من جهل نفسه! ". وقوله:" ستة لا تفارقهم الكآبة: الحقود، والحسود، وحديث عهد يغنى، وغني يخاف الفقر، وطالب رتبة يقصر قدره عنها، وجليس أهل الأدب وليس منهم". وقوله:" العقول مواهب، والعلوم مكاسب". وقوله:" اتقوا من تبغضه قلوبكم". وقوله:" إذا وليت أمرا فأبعد عنك الأشرار، فإن جميع عيوبهم منسوبة إليك". وقوله:" إنما أهل الدنيا كصور في صحيفة، كلما نشر بعضها طوي بعضها". وقوله:" ينبغي للعاقل أن يخاطب الجاهل مخاطبة الطبيب للمريض". وقوله:" طالب الدنيا قصير العمر، كثير الفكر". وقوله:" من كان شريرا فالموت سبب راحة الناس «1» من شره". وقوله:" إنما جعل للإنسان لسان واحد وأذنان ليكون ما يسمعه أكثر مما يتكلمه". وسئل:" أي الأشياء ألذ؟ فقال: استفادة الأدب، واستماع أخبار لم تكن سمعت". وقوله:" أنفع ما اقتناه الإنسان: الصديق المخلص".

وقوله:" الصامت ينسب إلى العي «1» ، ويسلم. والساكت ينسب إلى الفضول ويندم". وقوله:" من سره الزمان في حالة ساءه في أخرى". وقوله:" لا ضرر أضرّ من الجهل، ولا شرّ أشرّ من النساء". وقوله لتلميذ له:" يا بني! إن كان لا بد لك من النساء، فاجعل لقاءك لهنّ كأكل الميتة لا تأكلها إلا عند الضرورة". وقوله:" وقد قيل له: ما تقول في النساء؟، فقال:" هنّ كشجر الدّفل «2» له رونق وبهاء، فإذا أكله الغرّ قتله «3» ". وقوله:" لا يصدّنّك عن الإحسان جحود جاحد النعمة". وقوله:" الجاهل من عثر بحجر مرتين". وقوله:" اعلم أنك في أثر من مضى سائر، وفي محل من مات مقيم، وإلى العنصر الذي بدأت منه تعود". وقوله:" ربّ متحرز «4» من الشيء تكون منه آفته".

6 - أفلاطون

وقوله:" داووا الغضب بالصمت". وقوله:" لأهل الاعتبار في صروف الدهر كفاية، وكل يوم يأتي عليك منه علم جديد". وله شعر باليونانية، عرّب فكان شعرا، وهو: إنما الدّنيا وإن ومقت ... خطرة من لحظ ملتفت «1» ومنهم: 6- أفلاطون رجل ترى النجوم لديه أسافل، والخصوم بين يديه جوافل، والغيوم معتذرة إليه إذا أتته حوافل، يطأ الأراقم، ويطاول الخطب المتفاقم، ويكف بعقله النوازي، وتقصر رؤية الأفكار إذا ارتجل، وتقصى إذا ارتحل، وتقدم النظراء إليه ثم لا ترى إلا مبلسة، وتقدم الآراء ثم لا تنفذ إلا وسهامها مرسلة. قال ابن جلجل «2» :" هو من [أهل] مدينة أثينا، رومي فلسفي، يوناني، طبي، عالم بالهندسة وطبائع الأعداد، وله في الطب كتاب بعثه إلى طيماوس

تلميذه، وله في الفلسفة كتب وأشعار، وله في التأليف كلام لم يسبقه أحد إليه، استنبط به صنعة الديباج، وهو الكلام المنسوب إلى الخمس النسب التأليفية التي لا سبيل إلى وجود غيرها، ثم استشرف إلى علم العالم كله، وعرف موانع الأجزاء المؤتلفات الممتزجات باختلاف ألوانها، وأصباغها، وائتلافها على قدر النسبة، فوصل إلى علم التصوير، [فوضع أول حركة جامعة لجميع الحركات ثم صنفها بالنسبة العددية، ووضع الأجزاء المؤتلفة على ذلك فصار إلى علم تصوير التصويرات] فقامت له صناعة الديباج، وصناعة كل مؤتلف به. وله في الفلسفة كلام عجيب «1» . وكان قد أخذ في أول أمره في تعلم علم الشعر، واللغة، فبلغ من ذلك مبلغا عظيما، إلى أن حضر يوما سقراطيس، وهو يثلب «2» صناعة الشعر، فأعجبه ما سمعه منه، وزهد فيما كان عنده منه، ولزم سقراط وسمع منه خمس سنين، ثم مات سقراط، فقصد مصر للقاء أصحاب فيثاغورس. وكان يتبع سقراط في الأشياء المحسوسة ويتبع فيثاغورس في الأشياء المعقولة. وكان يتبع سقراطيس في أمور التدبير «3» . ثم رجع إلى بلده «4» ، ونصب فيها بيتي حكمة، وعلّم الناس، وفعل الجميل، وأعان الضعفاء. وكان حسن الأخلاق، كريم الأفعال، كثير الإحسان إلى كل ذي قرابة منه، وإلى الغرباء. ثبتا، حكيما، صبورا، وكان يرمز حكمته، ويشير إليها، ويتكلم بها ملغوزة حتى لا يظهر مقصده إلا لذوي الحكمة.

وصنف عدة كتب «1» ، وكتبه يتصل بعضها ببعض أربعة، أربعة، يجمعها غرض واحد، ويخص كل واحد منها غرض خاص يشتمل عليه ذلك الغرض العام، ويسمي كل واحد منها رابوعا، وكل رابوع منها يتصل بالذي قبله. وكان محبا للفلوات والصحاري والواحدة، وكان في الأكثر لا يستدل على موضعه إلا بصوت بكائه، وكان يسمع على ميلين، وكان منقوشا على خاتمه:" تحريك الساكن أسهل من تسكين المتحرك". ومن كلامه: قوله:" للعادة «2» على كل شيء سلطان". وقوله- وقد قيل له: لم لا تجتمع الحكمة والمال؟ فقال" لعز الكمال «3» ". وقوله:" غاية الأدب أن يستحي المرء من نفسه". وقوله:" إذا خبث الزمان كسدت «4» الفضائل، وضرت، ونفقت الرذائل ونفعت، وكان خوف الموسر «5» أشد من خوف المعسر» ". وقوله:" العزيز النفس هو الذي لا يذل للفاقة". وقوله:" الحسن الخلق من صبر على السيئ الخلق".

7 - أرسطوطاليس

وقوله:" أشرف الناس من شرّفته الفضائل لا من تشرف بالفضائل «1» ". وقوله:" الأمل خدّاع النفوس". وقوله:" المشورة تريك طبع المستشار". وقوله:" اطلب في حياتك العلم، والمال، والعمل الصالح، فإن الخاصة تفضلك بما تحسن، والعامة بما تملك، والجميع بما تعمل". وقوله- وقد سئل عند موته عن الدنيا؟ فقال-:" خرجت إليها مضطرا، وعشت فيها متحيرا، وها أنا أخرج منها كارها، ولم أعلم فيها إلا أنني لا أعلم!! ". وعاش ثمانين سنة. ومنهم: 7- أرسطوطاليس «13» وهو ابن نيقوماخس «2» ، ذهب مذهب فيثاغورس. رجل لا يقاس به أحد، ولا يقال إن مثله البحر فيخصّ بحد. أنواع العلماء

عليه ضيوف، وأقوال الحكماء لديه زيوف. طلع صباحه، فطمي جدوله على الكواكب وطمسها، وطمّ جرف نهاره المنهار حفر الغياهب ودمسها. وعرف فضله بالضرورة، وفعله بالمآثر المبرورة، وعني بمداواة الأفهام، فأبرأ سقيمها، وأنتج عقيمها، فشفى من لمم، وأسمع من صمم، وحاز بانضواء الاسكندر الذي هو أحد ملوك العالم إليه فخرا، أصبح به نده يفخم، وضده يرغم، إذ كان لا تناط لديه إشاراته بإهمال، ولا تنال عنده إلا بالتعويل عليه أعمال. ذكره أبو القاسم بن صاعد وقال:" إليه انتهت فلسفة اليونان، وكان خاتم حكمائهم، وسيد علمائهم، وهو أول من خلّص صناعة البرهان من الصناعات المنطقية، وصوّرها بالأشكال الثلاثة، وجعلها آلة العلوم النظرية، حتى لقّب بصاحب المنطق، وله في جميع العلوم الفلسفية كتب شريفة؛ كلية وجزئية" «1» . قال ابن جلجل:" كان فيلسوف الروم، وعالمها، وجهبذها «2» ، ونحريرها «3» ، وخطيبها، وطبيبها، وكان أوحد في الطب، وغلب عليه علم الفلسفة" «4» . قال المبشر بن فاتك:" كان أرسطو كثير التلاميذ، من الملوك وأبناء الملوك، وغيرهم، وعدّ منهم أناسا منهم: الاسكندر- وسماه الاسكندروس-" «5» .

قال ابن أبي أصيبعة:" كان نيقوماخس أبو أرسطوطاليس طبيب [أمنطس أبي فيليبس، وفيلبس هذا هو أبو الاسكندر] وكان كل من أبيه وأمه من ولد اسقليبيوس، وكان خليفته على دار التعليم «1» ". ولما قدم أفلاطون من صقلية انتقل أرسطو إلى لوقيون، واتخذ هناك دار التعليم المنسوبة إلى [الفلاسفة] المشائين، ثم رجع إلى مدينة الحكماء «2» ، ثم صار إلى مقدونيا يعلّم، إلى أن تجاوز الاسكندر بلاد آسيا، ثم استخلف في مقدونيا، فسعى إليه «3» بعض الكهنة في أرسطو، ونسبه إلى الكفر، لكونه كان لا يعظم الأصنام التي كانت تعبد!، فشخص أرسطو إلى بلاده، وبقي بها إلى أن مات وهو ابن ثمانين سنة" «4» . " ثم إن أهل أسطاغيرا نقلوا بدنه وصيّروه في الموضع المعروف بالارسطوطاليسي، وصيّروا مجتمعهم للمشاورة في جلائل الأمور، وإذا صعب عليهم شيء من فنون العلم أتوا إلى مكان قبره فتناظروا ما بينهم فيظهر لهم ما أشكل، وكانوا يرون اجتماعهم عنده يذكي عقولهم، ويصحح فكرهم، وكانوا لا يزالون في أسف لفراقه، وحزن لما فقدوه من ينابيع حكمته" «5» . وذكر المسعودي: أنه في ملرم «6» من صقلية، وكان جليل القدر في الناس، مكرما عند ملوك زمانه، وكان يحسن السفارة عندهم للرعية، حتى اتخذوا

عمودا ونقشوا عليه اسمه، وحسن ما كان يصنعه معهم، إلا فرد رجل غاب عن رأيهم في هذا العمود، وعاب أرسطو، وهمّ بإزالة نقش العمود، فأمسك وقتل، ثم عمدوا إلى عمود آخر [....] «1» بالبناء عليه كالأول، وذكروا المتعرض المخالف الذي قتل، ولعنوه، وتبرأوا منه. قال ابن أبي أصيبعة:" إن الاسكندر لما ملك صار أرسطو إلى التبتل والتخلي مما كان فيه من الاتصال بالملوك والملازمة لهم، ولزم موضع التعليم، وهو رواق المشائين، وأقبل على العناية بمصالح الناس، ورفد الضعفاء، وأهل الفاقة، وتزويج الأيامى، وعول اليتامى، ورفد طلبة العلم والتأدب «2» من كانوا، وأي نوع من العلم والأدب طلبوا، والصدقة على الفقراء، ولم يزل في غاية لين الجانب والتواضع، وحسن اللقاء للصغير والكبير، والقوي والضعيف، وأما قيامه بأمر أصدقائه فلا يوصف" «3» . قال المبشر بن فاتك:" إن أرسطو لما بلغ ثماني سنين حمله أبوه إلى بلد الحكماء «4» ، وضمّه أبوه إلى الشعراء، والبلغاء، والنحويين، فأقام متعلما منهم تسع سنين، وكان اسم هذا العلم عندهم: المحيط- أعني علم اللسان، لحاجة جميع الناس إليه، لأنه المؤدي لكل حكمة، وبه يتحصل كل علم. ثم بلغه أن قوما من الحكماء أزروا «5» بعلم البلغاء واللغويين، وعنّفوا

المتشاغلين به، وزعموا أنه لا تحتاج إليه الحكمة، لأن النحويين معلمو الصبيان، والشعراء أصحاب أباطيل وكذب، والبلغاء أصحاب تمحّل ومراء «1» ، فأدركته الحفيظة «2» لهم، فناضل عنهم، واحتج لهم، وقال: إن فضل الإنسان على البهائم بالنطق، وأحقهم بالإنسيّة أبلغهم في منطقه، وإذا كانت الحكمة أشرف الأشياء فينبغي أن تكون العبارة عنها بأشرف المنطق لأن العيّ يذهب بنور الحكمة، ويقطع عن الأداء، ويقصر عن الحاجة، ويلبس على المستمع، ويفسد المعاني، فيورث الشبهة. ثم انتقل أرسطو إلى أفلاطون لتعلم العلوم الأخلاقية، والسياسية، والطبيعية، والتعليمية، والإلهية. وكان أفلاطون إذا استدعي منه الكلام يقول: اصبروا حتى يحضر الناس! فإذا جاء أرسطو قال: تكلموا، فقد حضر العقل! " «3» . وقال حنين «4» :" كان منقوشا على [فص] خاتم أرسطو: المنكر لما يعلم أعلم من المقرّ بما لا يعلم! " «5» .

ومن كلامه: قوله:" بالفكر الثاقب يدرك الرأي العازب «1» ، وبالتأني تسهل المطالب، وبلين الكلم تدوم المودة في الصدور، وبخفض الجناح تتم الأمور، وبسعة الأخلاق يطيب العيش، ويكمل السرور، وبالإنصاف يحب التواصل، وبالتواضع تكثر المحبة، وبالعفاف تزكو الأعمال، وبالعدل يقهر العدو، وبالحلم تكثر الأنصار، وبالرفق تستخدم القلوب «2» ، وبالوفاء يدوم الإخاء، وبالصدق يتم الفضل، ومن الساعات تتولد الآفات، وبالعافية يوجد طيب الطعام والشراب، وبحلول المكاره تتكدر النعم، وبالمنّ يدحض الإحسان، وبالجحود يستوجب الحرمان، والبخيل ذليل وإن كان غنيا، والجواد عزيز وإن كان مقلا، والطمع الفقر الحاضر، واليأس الغنى الظاهر. " لا أدري نصف العلم، والأدب يغني عن الحسب، والتقوى شعار العالم، والرياء لباس الجاهل، ومقاساة الأحمق عذاب الروح، والاشتغال بالفائت يضيع الأوقات، والتمني سبب الحسرة، والصبر تأييد العزم". " صديق الجاهل مغرور، والمخاطر خائب". " من عرف نفسه لم يضع. المجرب أحكم من الطبيب. إذا فاتك الأدب فالزم الصمت. من لم ينفعه العلم لم يأمن من ضرر الجهل. من افتخر ارتطم. من عجل تورّط. من تفكّر سلم. من سأل علم. للعادة على كل أحد سلطان. كل شيء يستطاع نقله إلا الطباع. كل شيء يحتال له إلا القضاء. من عرف الحكمة لحظته العيون بالوقار. لا يؤتى الناطق إلا من سوء فهم السامع. الجزع عند

مصايب الأحزان أحمد من الصبر. وصبر المرء على مصيبته أحمد من الجزع. ليس شيء أقرب إلى تغيير النعم من الإقامة على الظلم. من طلب خدمة السلطان بلا أدب خرج من السلامة إلى العطب. " إذا أردت الغنى فاطلبه بالقناعة، فإن من لم يكن له قناعة لا يغنيه المال وإن كثر. لا تبطل لك عمرا في غير نفع، ولا تضع لك مالا في غير حق، ولا تصرف لك قوة في غنى، ولا رأيا في غير رشد". " العالم يعرف الجاهل لأنه كان جاهلا، والجاهل لا يعرف العالم لأنه لم يكن عالما. اطلب الغنى الذي لا يفنى، والحياة التي لا تتغير، والملك الذي لا يزول، والبقاء الذي لا يضمحل". " أصلح نفسك لنفسك يكن الناس تبعا لك، واقترض من عدوك الفرصة، واعمل على أن الدهر ذو دول. لا تصادم من كان على الحق، ولا تجاذب من كان متمسكا بالدين". " لا فخر فيما يزول، ولا غنى فيما لا يثبت. لا تغفل فإن الغفلة تورث الندامة. لا ترج السلامة لنفسك حتى يسلم الناس من جورك «1» ، ولا تعاقب غيرك على أمر ترخص فيه لنفسك". " اعتبر ممن تقدم، واحفظ ما مضى، والزم الصحة يلزمك النصر. الصدق قوام أمر الخلائق. الكذب داء لا ينجو من نزل به. من تجبّر على الناس أحب الناس ذلّته. من أفرط في اللوم كرهت حياته. من مات محمودا كان أحسن حالا ممن عاش مذموما". " من نازع السلطان مات قبل يومه. أي ملك نازع السوقة «2» هتك شرفه. من

مات قلّ حاسده. الحكمة شرف من لا قديم له. سوء الأدب يهدم ما بناه الأب. الجهل شر الأصحاب. النميمة تهدي إلى القلوب البغضاء. ومن واجهك فقد شتمك، ومن نقل إليك نقل عنك. الجاهل عدوّ لنفسه، فكيف يكون صديقا لغيره؟. الوفاء نتيجة الكرم. لسان الجاهل مفتاح حتفه. الحاجة تفتح باب الحيلة. بترك ما لا يعنيك يتم لك الفضل. ليس زيادة القوة بكثرة ما يرد البدن من الغذاء ولكن بكثرة ما يقبل منه". " امتحن المرء في وقت غضبه لا في وقت رضاه، وفي وقت قدرته لا في وقت ذلته. خير الأشياء أجدّها إلا المودّات خيرها أقدمها" «1» . وكتب إلى الاسكندر:" إذا أعطاك الله الظفر فافعل ما أحبّ من العفو". وكتب إليه:" الأردياء «2» ينقادون بالخوف، والخيار ينقادون بالحياء، فميّز بين الطبقتين، واستعمل في أولئك البطش والخوف، وفي هؤلاء الإفضال والإحسان". وكتب إليه:" ليكن غضبك بين المنزلتين لا شديدا فاشيا، ولا فاترا ضعيفا، فإن هذه من أخلاق السباع، وهذه من أخلاق الصبيان".

8 - يعقوب بن إسحاق الكندي

ومنهم: 8- يعقوب بن إسحاق الكنديّ «13» أبو يوسف، فيلسوف العرب «1» . من ولد الأشعث بن قيس «2» ، والأشعث من ولد معاوية الأكبر ابن الحارث الأصغر، ابن معاوية ابن الحارث الأكبر. وكان الأشعث ملكا على كندة، وله صحبة، وللأعشى فيه مدائح «3» .

وكان من آبائه ملوك [على معبد] «1» بالمشقر، واليمامة، والبحرين. وكان [أبوه] إسحاق بن الصباح [أميرا] على الكوفة للمهدي والرشيد، وكان ابنه يعقوب هذا عظيم المنزلة عند المأمون والمعتصم، و [عند] ابنه أحمد. أملاكه بالبصرة «2» . وتأدب ببغداد، وكان عالما بالطب والفلسفة، والحساب، والمنطق، واللحون «3» ، والهندسة، وطبائع الأعداد، والنجوم، ولم نجد في الإسلام فيلسوفا خلف أرسطو سواه!. له تصانيف كثيرة في فنون العلم «4» . خدم الملوك، وترجم كثيرا من كتب الفلسفة، وبين ما جمجم «5» على أهل المعرفة، وأحجم عن مثاورته كل قسورة، وخاتل «6» دون مساورته كل ابن بهماء مقفرة، وأثرى بعلمه كل مملق، وأربى في يمه كل محملق، وقصّر لديه حجة كل مناظر، ودرس محجة كل خاطر، وردّ من عادى كندة من كنود الأبطال، وأكبد بفضلها كبود أهل المطال، حتى خشي من كاد كندة، وخزي بالقبيح لحسن ما عنده، فلو نشر ملكها الضلّيل لما فخر بلسانه قدر ما فخر بإحسانه، ولما حمل

راية الشعراء بيده إلا بعد أخذ أمانه، ولا طلب ثأر أبيه ولو قدر عليه إلى زمانه. ذكره ابن أبي أصيبعة، وذكر من كلامه قوله في وصية: [قوله] ": وليتق الله المتطبب، ولا يخاطر، فليس عن الأنفس عوض". وقوله:" وكما يحب أن يقال له: إنه كان سبب عافية العليل وبرئه، [كذلك فليحذر] أن يقال: إنه كان سبب تلفه وموته". وقوله- مما أوصى به ولده-:" يا بني! الأب رب، والأخ فخ، والعم غم، والخال وبال، والولد كمد، والأقارب عقارب، وقول:" لا" يصرف البلا «1» ، وقول: نعم، يزيل النعم، وسماع الغناء برسام «2» حاد، لأن الإنسان يسمع فيطرب، وينفق «3» فيسرف، فيفتقر، فيغتم، فيعتل، فيموت!. والدينار محموم، فإن صرفته مات، والدرهم محبوس فإن أخرجته فرّ. والناس سخرة، فخذ شيئهم واحفظ شيئك، ولا تقبل ممن قال اليمين الفاجرة [فإنها] تذر الديار بلاقع «4» ". قلت: وهذا الكندي هو الذي حضر أبا تمام حين أنشد أحمد بن المعتصم

9 - أحمد بن الطيب السرخسي

قوله فيه: ما في وقوفك ساعة من باس «1» وهو صاحب الواقعة معه فيها، وهي في موضعها من ذكر أبي تمام أشبه. ومنهم: 9- أحمد بن الطّيّب السّرخسيّ «13» أبو العباس. مفنّن جليل المفاخر، متقن لعلوم الأوائل وطرف من علوم الأواخر، هذا إلى خشن مناظرة، وحسن محاضرة، وبوادر أجوبة حاضرة، ونوادر ما أتت بحرازها أهل بادية ولا حاضرة، ومع هذا كله يزن عقله الجبال، ويوقر فضله الجمال، ويقتدي بفيضه البحر إلا أنه لا يمر، والسحاب إلا أنه الذي ينسكب ولا يدر. قال ابن أبي أصيبعة:" هو ممن ينتمي إلى الكندي، وعليه قرأ، [ومنه أخذ] ، وكان متفننا في علوم القدماء والعرب، حسن المعرفة، جيد القريحة، بليغ اللسان، مليح التصنيف [والتأليف] ، أخذ في النحو والشعر، أوحد في [علم]

10 - كنكه الهندي

النحو والشعر، فصيح الشعر، مليح النادرة، وسمع الحديث. وكان خليعا ظريفا" «1» . " وولي حسبة بغداد أيام المعتضد، وكان قبل هذا يعلّمه، وينادمه، وكان يفضي إليه بأسراره، ويستشيره في أمور ملكه، وكان يغلب علم السرخسي على عقله، وقتله «2» بحيلة دبّرها الوزير عليه، حتى أخذ خط المعتضد بقتل رجال دسّه بينهم، فلما قتل سأل عنه المعتضد، فأخبره القاسم أنه قتل، فأنكر، فأراه خطّه، فسكت، ومضى بعد أن بلغ السماء رفعة". ومنهم: 10- كنكه الهندي «13» من أقدم الحكماء، وأقوم القوم، يبث ما أنزل في الأرض من خير السماء، وأعلم الكل بما ينبت من العقاقير ذوات الأسماء. أخذ عنه الحكماء أصحاب النواميس، واستمد اليونان مما وصل من كتبه إلى

11 - صنجهل الهندي

أرسطوطاليس، وهو الذي لا يرتفع معه ذكر نابه، ولا يقاومه قدر مشابه. قال ابن أبي أصيبعة:" إنه حكيم بارع من متقدمي حكماء الهند وأكابرهم، وله نظر في صناعة الطب، وقوى الأدوية والطبائع المولدات، وخواص الموجودات، وكان من أعلم الناس بهيئة العالم، وتركيب الأفلاك وحركات النجوم". وقال أبو معشر «1» :" إن كنكه هو المتقدم في علم النجوم عند جميع علماء الهند في سالف الدهر". قلت: ومنها كتاب في" أحداث العالم والدور في القرآن". وهذا كتاب مجد لو وجد، وهيهات!! «2» . ومنهم: 11- صنجهل الهندي وهو ثانيه في الرتبة، وثالثه في صعود الهضبة، فلو نطقت النجوم لما عدّت شكره، أو العلوم لما عدّت إلا برّه. قال ابن أبي أصيبعة:" كان من علماء الهند وفضلائهم، الخبيرين بعلم الطب والنجوم" «3» .

12 - أبو نصر الفارابي

ومنهم: 12- أبو نصر الفارابيّ «13» محمد بن محمد بن أوزلغ بن طرخان «1» . من أهل مدينة فاراب «2» من مدن الترك في أرض خراسان، وكان أبوه قائد جيش وهو فارسي المنتسب، وكان ببغداد مدة ثم انتقل إلى الشام، وأقام به إلى

حين وفاته. وكان- رحمه الله- فيلسوفا كاملا، وإماما فاضلا، بحرا منه يغرف، وحبرا له يعرف، قد أتقن العلوم الرياضية، زكي النفس، قويّ الذكاء، متجنّبا عن الدنيا، مقتنعا منها بما يقوم به أوده «1» ، ويسير سيرة الفلاسفة المتقدّمين، وكان له قوة في صناعة الطب، وعلم بالأمور الكلية منها، ولم يباشر أعمالها، ولا حاول جزئياتها. قال ابن أبي أصيبعة:" وحدّثني سيف الدين أبو الحسن علي بن أبي علي الآمدي «2» - رحمه الله تعالى-: أن الفارابي كان في أول أمره ناطورا في بستان بدمشق، وهو على ذلك دائم الاشتغال بالحكمة والنظر فيها، والتطلع إلى آراء المتقدمين وشرح معانيها، وكان ضعيف الحال، حتى إنه كان في الليل يسهر بالمطالعة والتصنيف، ويستضيء بالقنديل الذي للحارس، وبقي كذلك مدة. ثم إنه عظم شأنه، وظهر فضله، واشتهرت تصانيفه، وكثرت تلاميذه، وصار أوحد زمانه، وعلّامة وقته. واجتمع به الأمير سيف الدولة أبو الحسن علي بن

عبد الله بن حمدان التغلبي «1» ، وأكرمه إكراما كثيرا، وعظمت منزلته عنده، وكان له مؤثرا. ونقلت من خط بعض المشايخ، أن أبا نصر الفارابي سافر إلى مصر سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة، [ورجع إلى دمشق، وتوفي بها سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة] ، عند سيف الدولة علي بن حمدان، وفي خلافة الراضي، وصلى عليه سيف الدولة في خمسة عشر رجلا من خاصته «2» . ويذكر أنه لم يكن يتناول من سيف الدولة من جملة ما ينعم به عليه سوى أربعة دراهم فضة في اليوم، يخرجها فيما يحتاجه من ضروري عيشه، ولم يكن معتنيا بهيئة، ولا [منزل] ولا مكسب. ويذكر أنه كان يغتذي بماء قلوب الحملان مع الخمر الريحاني فقط. ويذكر أنه كان في أول أمره قاضيا، فلما شعر بالمعارف نبذ ذلك، وأقبل بكليته على تعليمها، ولم يسكن إلى نحو من أمور الدنيا البتة. ويذكر أنه كان يخرج إلى الحرّاس في الليل من منزله، يستضيء بمصابيحهم فيما يقرؤه، وكان في علم صناعة الموسيقى وعملها قد وصل إلى غاياتها، وأتقنها إتقانا لا مزيد عليه. ويذكر أنه صنع آلة غريبة يسمع منها ألحان بديعة، يحرك بها الانفعالات. ويذكر أن سبب قراءته للحكمة أن رجلا أودع عنده جملة من كتب أرسطوطاليس، فاتفق أنه نظر فيها، فوافقت منه قبولا وتحرك إلى قراءتها، ولم يزل

إلى أن أتقنها فهما، وصار فيلسوفا بالحقيقة. ونقلت من كلام لأبي نصر الفارابي في معنى [اسم] الفلسفة، قال:" اسم الفلسفة: يوناني، وهو دخيل إلى العربية، وهو على مذهب لسانهم فيلسوفا، ومعناه إيثار الحكمة. وهو مركب من:" فيلا" ومن:" سوفيا". ف:" فيلا" الإيثار. و" سوفيا": الحكمة. والفيلسوف مشتق من:" الفلسفة" وهو على مذهب لسانهم:" فيلسوفوس". فإن هذا التغيير هو تغيير كثير من الاشتقاقات عندهم، ومعناه: المؤثر للحكمة. والمؤثر للحكمة هو الذي يجعل الوكد «1» من حياته، وغرضه من عمره الحكمة. وحكى أبو نصر الفارابي في ظهور الفلسفة ما هذا نصه، قال:" إن أمر الفلسفة اشتهر في أيام ملوك اليونانيين، بعد وفاة أرسطوطاليس بالاسكندرية إلى آخر أيام المرأة. وأنه لما توفي بقي التعليم بحاله فيها، إلى أن ملك ثلاثة عشر ملكا، وتوالى في مدة ملكهم من معلمي الفلسفة اثنا عشر معلما أحدهم المعروف ب" أندرو نيقوس". وكان آخر هؤلاء الملوك المرأة، فغلبها أو غسطس الملك من أهل رومية، وقتلها، واستحوذ على الملك، فلما استقر له نظر في خزائن الكتب وصنعتها، فوجد فيها نسخا من كتب أرسطوطاليس، قد نسخت في أيامه، وأيام ثاوفرسطس، ووجد المعلمين والفلاسفة قد عملوا كتبا في المعاني التي عمل فيها أرسطو [فأمر أن تنسخ تلك الكتب، التي كانت نسخت في أيام أرسطو] «2» وتلاميذه، وأن يكون التعليم منها، وأن ينصرف عن الباقي.

وحكم أندرونيقوس في تدبير ذلك، وأمره أن ينسخ نسخا يحملها معه إلى رومية، [ونسخا يبقيها في موضع التعليم بالاسكندرية، وأمره أن يستخلف معلما يقوم مقامه بالاسكندرية، ويسير معه إلى رومية] . فصار التعليم في موضعين، وجرى الأمر على ذلك، إلى أن جاءت النصرانية، فبطل التعليم من رومية، وبقي بالاسكندرية إلى أن نظر ملك النصرانية في ذلك، واجتمعت الأساقفة وتشاوروا فيما يترك من هذا العلم وما يبطل. فرأوا أن يعلم من كتب المنطق إلى آخر الأشكال الوجودية، ولا يعلّم ما بعده، لأنهم رأوا أن في ذلك ضررا على النصرانية، وأن فيما أطلقوا تعليمه ما يستعان «1» به على نصرة دينهم، فبقي الظاهر من التعليم هذا المقدار، وما ينظر فيه من الباقي مستورا، إلى أن كان الإسلام بعده بمدة طويلة، فانتقل التعليم من الاسكندرية إلى أنطاكية، وبقي بها زمنا طويلا، إلى أن بقي معلم واحد، فتعلم منه رجلان، وخرجا ومعهما الكتب، وكان أحدهما من أهل حران، والآخر من أهل مرو. فأما الذي من أهل مرو: فتعلم منه رجلان، أحدهما: [إبراهيم] المروزي. والآخر: يوحنا بن جيلان. وتعلم من الحراني: [إسرائيل] الأسقف وقويري، وساروا إلى بغداد، فتشاغل إبراهيم بالدين، وأخذ قويري في التعليم. وأما يوحنا بن جيلان: فإنه تشاغل أيضا بدينه. وانحدر إبراهيم المروزي إلى بغداد، فأقام بها، وتعلم من المروزي متى بن يونان. وكذلك الذي يتعلم في ذلك الوقت إلى آخر الأشكال الوجودية. وقال أبو النصر الفارابي عن نفسه: إنه تعلم من يوحنا بن جيلان، إلى آخر

كتاب البرهان. وكان يسمى ما بعد الأشكال الوجودية الجزء الذي لا يقرأ، إلى أن قرئ بعد ذلك، وصار الرسم بعد ذلك حيث صار الأمر إلى معلمي الإسلام أن يقرأ من الأشكال الوجودية إلى حيث قدر الإنسان أن يقرأ. فقال أبو نصر: إنه قرأ إلى آخر كتاب البرهان. وحدّثني عمي رشيد الدين أبو الحسن علي بن خليفة- رحمه الله-: أن الفارابي توفي عند سيف الدولة بن حمدان في رجب سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة، وكان أخذ الصناعة عن يوحنا بن جيلان، ببغداد، وكان في أيام المقتدر، وكان في زمانه أبو البشر متى بن يونان، وكان أسنّ من أبي نصر، وكان أبو نصر أحدّ ذهنا منه، وأعذب كلاما، وتعلم أبو البشر متى من إبراهيم المروزي، وتوفي أبو البشر في خلافة الراضي فيما بين سنة ثلاث وعشرين إلى سنة تسع وعشرين وثلاثمائة. وكان يوحنا بن جيلان، وإبراهيم المروزي قد تعلما جميعا من رجل من أهل مرو. وقال الشيخ أبو سليمان محمد بن طاهر بن بهرام السجستاني في معلقاته: إن يحيى بن عدي أخبره أن متّى قرأ إيساغوجي «1» على إنسان نصراني. وقرأ قاطيغورياس وبارمينياس على إنسان يسمى روبيل، وقرأ كتاب القياس على أبي يحيى المروزي «2» .

وقال القاضي صاعد بن أحمد بن صاعد، في كتاب" التعريف بطبقات الأمم": إن الفارابي أخذ صناعة المنطق عن يوحنا بن جيلان «1» ، المتوفى بمدينة السلام في أيام المقتدر، فبزّ «2» جميع أهل الإسلام فيها، وأربى عليهم في التحقيق بها، وشرح غامضها، وكشف سرّها، وقرب تناولها، وجمع ما يحتاج إليه منها في كتب صحيحة العبارة، لطيفة الإشارة، منبّهة على ما أغفله الكندي وغيره، من صناعة التحليل، وإيحاء التعاليم. وأوضح القول فيها عن موادّ المنطق الخمس، وإفادة وجوه الانتفاع بها، وعرّف طرق استعمالها، وكيف تصرف صورة القياس في كل مادة منها. فجاءت كتبه في ذلك الغاية القصوى، الكافية، والنهاية الفاضلة. ثم له بعد ذلك كتاب شريف في إحصاء العلوم، والتعريف بأغراضها، لم يسبق إليه، ولا ذهب أحد مذهبه فيه، لا يستغني طلاب العلوم كلها عن الاهتداء به، وتقديم النظر فيه. وله كتاب في" أغراض فلسفة أفلاطون وأرسطوطاليس". يشهد له بالبراعة في صناعة الفلسفة والتحقيق بفنون الحكمة، وهو أكبر عون على تعلم طريق النظر، وتعرّف وجوه الطلب، اطّلع فيه على أسرار العلوم، وثمارها علما [علما] ، وبين كيف التدرج من بعضها إلى بعض [شيئا فشيئا] . ثم بدأ بفلسفة أفلاطون، فعرف غرضها منها، وسمّى تواليفه «3» فيها. ثم أتبع ذلك بفلسفة أرسطو، فقدّم له مقدّمة جليلة، عرف فيها بتدرجه إلى

فلسفته، ثم بدأ بوصف أغراضه في تواليفه المنطقية والطبيعية، كتابا كتابا، حتى انتهى به القول في النسخة الواصلة إلينا إلى أول العلم الإلهي، والاستدلال بالعلم الطبيعي عليه. ولا أعلم كتابا أجدى على طالب الفلسفة منها، فإنه يعرّف بالمعاني المشتركة لجميع العلوم، والمعاني المختصة بعلم علم منها. ولا سبيل إلى معاني قاطيغورياس وكيف هي «1» الأوائل الموضوعة لجميع العلوم. ثم له بعد ذلك في العلم الإلهي والعلم المدني كتابان لا نظير لهما، أحدهما المعروف ب:" السياسة المدنية". والآخر المعروف ب:" السيرة الفاضلة. عرّف فيهما بجمل عظيمة من العلم الإلهي، على مذهب أرسطوطاليس، في [المبادئ الستة] الروحانية، وكيف يؤخذ عنها الجواهر الجسمانية، على ما هي عليه من النظام، واتصال الحكمة. وعرّف فيها مراتب الإنسان وقواه النفسانية، وفرّق بين الوحي والفلسفة، ووصف أصناف المدن الفاضلة، واحتياج المدينة إلى السيرة الملكية، والنواميس النبوية «2» . أقول «3» : وفي التاريخ: أن الفارابي كان يجتمع بأبي بكر بن السراج «4» ،

يقرأ عليه صناعة المنطق. وكان الفارابي يشعر أيضا. وسأل بعضهم أبا نصر: أيما أعلم أنت أم أرسطو؟. فقال: لو أدركته لكنت أكبر تلامذته! «1» . ويذكر عنه أنه قال: قرأت السماع لأرسطو أربعين مرة، وأرى أنني محتاج إلى معاودته. ومن شعر أبي نصر: [البسيط] لمّا رأيت الزّمان نكسا ... وليس في الصّحبة انتفاع كلّ رئيس به ملال ... وكلّ رأس به صداع لزمت بيتي وصنت عرضا ... به من العزّة اقتناع أشرب مما اقتنيت راحا ... لها على راحتي شعاع لي من قواريرها ندامى ... ومن قراقيرها سماع وأجتني من حديث قوم ... قد أقفرت منهم البقاع وقال أيضا: [المتقارب] أخي خلّ حيّز ذي باطل ... وكن للحقائق في حيّز فما الدّار دار خلود لنا ... ولا المرء في الأرض بالمعجز وهل نحن إلا خطوط وقعن ... على كرة وقع مستوفز ينافس هذا لهذا على ... أقل من الكلم الموجز محيط السّماوات أولى بنا ... فكم ذا التزاحم في المركز

13 - يحيى بن عدي

ومنهم: 13- يحيى بن عدي «13» أبو زكرياء المنطقي. حكيم علمه والودق «1» شيئان، وقلمه والبرق سيّان. كان أول حاله علما في ملته، ومعلما لأهل قبلته، وعرف بالمنطق مع أنه بعض علومه، ومن جملة ما دخل من الخصائص في عمومه، وأضاءت له من الأدب لمع تمّمت فضائله، ونمّت هلاله، والبدور الكوامل متضائلة. قال ابن أبي أصيبعة:" انتهت إليه الرياسة ومعرفة العلوم الحكمية في وقته، وكان أوحد دهره في مذهب النصارى اليعقوبية، وكان كثير الكتابة، وكتب تفسير الطبري مرتين. وقال: لعهدي بنفسي أكتب في اليوم والليلة مائة ورقة، وأقل!!. وأوصى أن يكتب على قبره «2» : [الخفيف] ربّ ميت قد صار في العلم حيّا ... ومبقّى قد مات جهلا وعيّا فاقتنوا العلم كي تنالوا خلودا ... لا تعدّوا الحياة في الجهل شيّا «3»

14 - أبو بكر محمد بن زكرياء الرازي

ومنهم: 14- أبو بكر محمّد بن زكريّاء الرّازيّ «13» لم يبق علم ما أتى منه بجذوة، ولا عالم إلا ولديه حبوة، تفنن في أنواع العلوم، فقرأ منها ما أوقر حمل خاطره، وملأ إناء ماطره. وكان فكره المقترح شرر زناد، ونظره الملتمح شرك ازدياد، وفضله المنوّع جمّ المذاهب، وجماع المحاسن الذواهب. وأكثر النقل يقف عنده سلسلته، وأعمق المشكل به تعرف مسألته. قال ابن أبي أصيبعة:" مولده ومنشؤه بالري «1» ، وسافر إلى بغداد وأقام بها مدة، وكان نهما في العلوم العقلية، مشتغلا بها، وتعلم الأدب، ونظم الشعر". قال:" وكان سبب تعلمه الطب أنه لما أتى مدينة السلام دخل البيمارستان العضدي «2» ، فرأى الصيدلاني به، فسأله عن الأدوية ومن كان المظهر لها؟ فقال

له: إن أول ما عرف منها:" حي العالم" «1» ، وذلك أن رجلا كان به ورم حار في ذراعه، فلما أشفى منه ارتاح إلى الخروج إلى شاطئ نهر، فحمل إليه، وكان عليه نباته، فوضع يده عليه تبرّدا به، فخفّ ألمه بذلك، فاستطال وضعها عليه، ثم أصبح ففعل ذلك، فبرأ، فلما رأى الناس سرعة برئه، علموا أنه إنما كان بما وضع يده عليه، فسموه:" حياة العالم" [وتداولته الألسن وخففته وسمي: حي العالم"] . ثم جففوه، ثم لم يزل الرازي يسأل حتى حسن له التعليم فتعلّم". قال:" والذي صحّ عندي أن الرازي كان أقدم زمانا من عضد الدولة بن بويه، وإنما كان تردده إلى المارستان قبل أن يجدد" «2» . وقال ابن جلجل:" إن الرازي كان في ابتداء أمره يضرب بالعود، ثم أكب على النظر في الفلسفة والطب، فبرع براعة المتقدمين". وقال ابن صاعد:" إنما لم يوغل في العلم الإلهي ولا فهم غرضه الأقصى، فاضطرب رأيه وتقلّد آراء سخيفة، وانتحل مذاهب خبيثة، وذمّ أقواما لم يفهم

عنهم، ولا اهتدى لسبيلهم" «1» . وكان يتنقل في البلدان، وكان كريما متفضلا بارّا بالناس، محسنا إلى الفقراء، يجري عليهم الجرايات الواسعة، ويمرّضهم، وكان لا يفارق التسويد والتبييض، وكان في بصره رطوبة لكثرة أكل الباقلاء، ثم عمي آخر عمره". قال التنوخي «2» :" إن غلاما قدم الري وهو ينفث الدم، فأحضر إليه الرازي، فلم تظهر له علائم سل «3» ولا قرحة «4» . فسأله: متى بدأ به المرض؟. فقال: من الطريق. فسأله: عن المياه التي شربها في طريقه؟. فأخبره أنها من الصهاريج «5» ، ومستنقعات الأرض. فوقع في نفس الرازي أنه ابتلع علقة، وأن نفث الدم منها. فقال له: إذا كان في غد، جئتك فداويتك، ثم لا أنصرف عنك حتى تبرأ، بشرط أن تأمر غلمانك أن يطيعوني فيك بما آمرهم. فقال: نعم. فلما أصبح أتاه بطحلب «6» كثير، وقال له: ابتلع هذا!، فابتلع يسيرا، ثم قال: لا أستطيع.

فأمر الغلمان بأن ينيّموه على قفاه، ويفتحوا فاه، ثم جعل يبلعه الطحلب كرها، ويطالبه ببلعه، والرجل يستغيث!، والرازي لا يكف، إلى أن ذرع «1» الرجل القيء، فقذف ما في جوفه، وإذا به قد اعتلقت به علقة، لأن الطحلب لما وصل إليها قرمت «2» إليه بالطبع، والتفّت عليه. ثم قام الرجل معافى. وقال ابن معرّف «3» :" كان الرازي يقول: أنا لا أسمي فيلسوفا إلا من علم صناعة الكيمياء، لأنه يكون قد استغنى عن [التكسب من أوساخ] الناس، وتنّزه عما في أيديهم، [ولم يحتج إليهم] ." وحكي أن الوزير أكل عند الرازي أطعمة استطابها، فتحيّل في مشتري طباخته ثم لم يجد بطبيخها له ما في نفسه، فسألها عن السبب؟ فأخبرته أن قدور الرازي، وما عونه كله ذهب وفضة!. فسأله أن يعلمه علم الكيمياء. فأنكره، فخنقه بوتر «4» . ومن كلامه قوله:" الحقيقة في الطب غاية لا تدرك، والعلاج [بما تنصه] الكتب دون إعمال الماهر الحكيم برأيه خطر". وقوله:" العمر يقصر عن الوقوف على فعل كل نبات في الأرض، فعليك بالأشهر مما أجمع عليه، [ودع الشاذ] ، واقتصر على ما جرّبت".

15 - أبو سليمان السجستاني

وقوله:" الأمراض الحارة أقتل من الباردة لسرعة حركة النار". وقوله:" ينبغي للطبيب أن يوهم المريض أبدا الصحة، وإن كان غير واثق بها، فمزاج البدن تابع لأخلاق النفس". وقوله:" ينبغي للمريض أن يقتصر على واحد ممن يوثق به من الأطباء، فخطؤه في جنب صوابه يسير جدا". وقوله:" من يتطبب عند كثير من الأطباء يوشك أن يقع في خطأ كل واحد منهم". وقوله:" بانتقال الكواكب الثابتة في الطول والعرض تنتقل الأخلاق والمزاجات". وقوله:" إن استطاع الحكيم أن يعالج [بالأغذية] دون الأدوية فقد وافق السعادة". ومن شعره [الطويل] «1» لعمري ما أدري وقد آذن البلى ... بعاجل ترحال؛ إلى أين ترحالي؟ وأين محلّ الرّوح بعد خروجه ... من الهيكل المنحلّ والجسد البالي؟ ومنهم: 15- أبو سليمان السّجستاني «13» حكيم حكي من فضله العجائب، وجيء من سجله بالسحائب، ويعد في العلم الجم قليبه، وسعد بالسقيا به بعيده وقريبه، انبعث طبه في العلل انبعاث

النفوس في الأبدان، والشموس في البلدان، ولم يزل حتى اطلع بعلم، واضطلع من كل مهم، فاستعطفت الأجسام أرواحها، واستكفت المنايا رماحها، فأضحت به الصحة مضمونة، والسلامة محققة وكانت مظنونة، اللهم إلا ما آن لبقية أنظرت، وآجال بها علمت نفس ما أحضرت، وتلك العقرب التي لا يتوقى لها دبيب، والداء الذي أعيا دواؤه كل طبيب. قال ابن أبي أصيبعة:" هو أبو سليمان محمد بن طاهر بن بهرام المنطقي. كان متقنا للعلوم الحكمية، مطّلعا على دقائقها. واجتمع بيحيى بن عدي «1» ، وأخذ عنه وكان له نظر في الأدب، وشعر، ومنه قوله «2» : [الكامل] لا تحسدن على تظاهر نعمة ... شخصا تبيت له المنون بمرصد أو ليس بعد بلوغه آماله ... يفضي إلى عدم كأن لم يوجد؟ لو كنت أحسد ما تجاوز خاطري ... حسد النجوم على بقاء مرصد وقوله: [الكامل] الجوع يدفع بالرغيف اليابس ... فعلام أكثر حسرتي ووساوسي والموت أنصف، حين ساوى حكمه ... بين الخليفة والفقير البائس قوله: [الخفيف] لذة العيش في بهيمية اللذة ... لا ما يقوله الفلسفي حكم كاس المنون أن يتساوى ... في حساها الغبي والألمعي «3» ويحل البليد تحت ثرى الأر ... ض كما حل تحتها اللوذعي «4»

أصبحا رمة «1» تزايل عنها ... فصلها الجوهري والعرضيّ وتلاشى كيانها الحيواني ... وأودى تمييزها المنطقي والحواس الخمس التي كنّ فيها ... ولإدراكهن فعل وحي فاسأل الأرض عنهما إن أزال الش ... ك والمرية «2» الجواب الخفي بطلت تلكم الصفات جميعا ... ومحال أن يبطل الأزلي «3»

16 - ابن الخمار

ومنهم: 16- ابن الخمّار «13» وهو أبو الخير الحسن بن سوار بن بابا [بن بهنام] «1» . طبيب شفى طبّه الأمراض، وكفى قربه منافيا للأعراض، لم يوجد في كلامه الفضول، ولم يوجد إلا الفصول، وقع بحدسه الصائب على الوجع، واستعاد ذاهب الصحة وارتجع، وأحسن الاستدلال بالعلامات، والاستقلال بعلاج من حيي ومات، ولم يزل وما إن طرّ شاربه «2» ، ولا استقل بحبله غاربه «3» ، مكبا على الطلب، وقد وكّل به منه طرفا لا يهجع، وإنسان عين بسوى فقد النظر لا يفجع، حتى انتقلت إلى أحناء صدره تلك الأوقار «4» ، وبقي على هذا حتى تقضّت تلك اللبانات والأوطار «5» .

قال ابن أبي أصيبعة:" كان نصرانيا «1» عالما بأصول صناعة الطب وفروعها، خبيرا بغوامضها، كثير الدراية لها، ماهرا في الحكمة، وكان في نهاية الذكاء والفطنة". قال ابن رضوان في" حل شكوك الرازي على جالينوس" ما هذا نصه: كما فعل في عصرنا هذا الحسن بن بابا، المعروف بابن الخمار، فإنه وصل بالطب إلى أن قيل له: محمود الملك للأرض. وكان محمود عظيما جدا، وذلك أن هذا الرجل فيلسوف حسن العقل، حسن المعرفة، حسن السياسة لفقهاء الناس، ورؤساء العوام، والعظماء، والملوك، وكان إذا دعاه زاهد مشى إليه راجلا، وقال له: جعلت هذا المشي كفارة لمروري إلى أهل الفسق والجبابرة. وإذا دعاه السلطان ركب إليه في زي الملوك والعظماء، حتى ربما حجبه ثلاث مائة غلام، يركب الخيل الجياد بالملابس البهية، ووفى الصناعة حقها في اللين للضعفاء، والتعاظم على العظماء، وهذه كانت طريقة أبقراط وجالينوس، وغيرهما من الحكماء «2» .

17 - أبو الفرج بن هندو

ومنهم: 17- أبو الفرج بن هندو «13» منقب عن البيان، يكشف خباءه ويبعث له في كل معنى نشاءه، وينفث فيه روحا كأنه يحس لكل فكرة نباءه، ويفتق أكمام الأدب فقل كزرع أخرج شطأه، له سرّ دقيق فتن الناس، وخمر رحيق يذهب بالباس، لا كالتي تدخل بالالتباس على الحواس، وسحر يستلذه الذوق وينقطع عنده القياس، لو أن للدهر رقته لان قاسيه، أو للجافي ذكر العهد ناسيه، أو للأمل ألقى إلى قبضة اليد مراسيه، وما أعيره شهاده، ولا أميره الحسنى إلا امتاز بزياده. وكانت بضاعته من الطب غير مزجاة، وصناعته تحقق للمتطبب ما يترجاه، لفضل تجلبب بشعاره، وجلب زيادة الحكمة إلى إشعاره، وعلو همته إلى علومها، وقراءة مادة كل علم على عليمها، إلى أن جنى ثمر الفنون، وجرّب كل شيء ولم يقدر على دفع المنون، وكان له في صناعة الكتابة ارتزاق، وبئست بضاعة أرزاق، إلا أنه لم يقدر عليه بها قوته، وما كان للمرء لا يفوته، وبقي على تعلّاته واختلاف علّاته، إلى أن أتاه هادم الأعمار، ووافاه قادم الموت مبسوط الأعذار. قال ابن أبي أصيبعة:" هو الأستاذ السيد الجليل «1» أبو الفرج علي بن الحسين ابن هندو. من الأكابر المتميزين في علوم الحكمة، والأمور الطبية، والفنون

الأدبية. له الألفاظ الرائقة، والأشعار الفائقة، والتصانيف المشهورة، والفضائل المذكورة، وكان يخدم بالكتابة، واشتغل على ابن الخمّار، وكان من أفضل المشتغلين عليه". وقال الثعالبي في" تتمة اليتيمة" «1» فيه: هو من ضربه في الآداب والعلوم بالسهام الفائزة، وملكه رق البراعة في البلاغة، فرد الدهر في الشعر، وواحد أهل الفضل في صيد المعاني الشوارد، ونظم القلائد وترصيع الفرائد، مع تهذيب الألفاظ البليغة، وتقريب الأغراض البعيدة، تذكير الذين يسمعون ويروون: أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ. وأنشد له قوله [الطويل] يقولون لي: ما بال عينيك مذ رأت ... محاسن هذا الظبي أدمعها مطل فقلت زنت عيني بطلعة وجهه ... فكان لها من صوب أدمعها غسل «2» وقوله: [البسيط] قوّض خيامك عن دار ظلمت بها ... وجانب الذل إن الذل يجتنب وارحل إذا كانت الأوطان منقصة ... فالمندل الرطب في أوطانه حطب «3» وقوله: [المنسرح] إن رحت عن بلدة غدوت إلى أخ ... رى فما تستقر أحمالي

كأنني فكرة الموسوس لا يبقى ... مدى لحظة على حال وقوله: [الكامل] ما للمعيل «1» وللمعالي إنما ... يسعى إليهنّ الوحيد الفارد فالشمس تجتاب السماء وحيدة ... وأبو بنات النعش فيها راكد «2» وقوله: [البسيط] قالوا اشتغل عنهم حينا بغيرهم ... وخادع النفس إن النفس تنخدع قد صيغ قلبي على مقدر حبهم ... فما لحب سواهم فيه متسع «3» وقوله: [المنسرح] عارض ورد الغصون «4» وجنته ... فاتفقا في الجمال واختلفا يزداد بالقطف ورد وجنته ... وينقص الورد كلما قطفا «5» وقوله: [الطويل] تمنيت من أهوى فلما لقيته ... بهتّ فلم أملك لسانا ولا طرفا وقد كان في قلبي أمور كثيرة ... فلما التقينا ما نطقت ولا حرفا وقوله: [مخلّع البسيط] عابوه لما التحى فقلنا ... عبتم وغبتم عن الجمال

هذا غزال وما عجيب ... تولد المسك من الغزال «1» وقوله: [البسيط] لا يوحشنك «2» من مجد تباعده ... فإن للمجد تدريجا وتدريبا إن القناة التي شاهدت رفعتها ... تني وتصعد أنبوبا فأنبوبا «3» وقوله: [المنسرح] تقول: لو كان عاشقا دنفا ... إذا بدت صفرة بخديه لا تنكريه فإن صفرته ... غطّت عليها دماء عينيه «4» وقوله [مخلع البسيط] كم من ملحّ على أذاه ... يسلّ من فكه حساما صبّ قذى القول في صماخي ... فصار حلمي له فداما «5» وقوله [الطويل] يسر زماني أن أناط «6» بأهله ... وآنف أن أعزى إليه بجهله ويعجبني أن أخّرتني صروفه ... فتأخيرها الإنسان برهان فضله فإنا رأينا قائم السيف كلما ... تقلّده الأبطال قدام نصله «7»

وقوله: [الكامل المرفل] أرخى لعارضه العذار فما ... أبقى على ورعي ولا نسكي «1» فكأن نملا قد دببن به ... غمست أكارعهنّ في مسك وقوله «2» : [المنسرح] يا شعرات جميعها فتن ... تتيه في وصف كنهها الفتن ما عيّروا من عذاره سفها ... قد كان غصنا فأورق الغصن وقوله «3» : [الرمل] ربّ روض خلت آذري ... ونه «4» لما توقد ذهبا أشعل مسكا ... في كوانين زبرجد «5»

18 - الشيخ الرئيس أبو علي الحسين بن عبد الله بن الحسين بن علي بن سينا

وقوله «1» : [المتقارب] عجبت لقولنج هذا الوزي ... رأنى ومن أين قد جاءه؟ وفي كل يوم له حقنة ... تنظف بالزيت أمعاءه ومنهم: 18- الشيخ الرئيس أبو علي الحسين بن عبد الله بن الحسين بن علي بن سينا «13» رجل الدنيا وواحدها، وعديم النظراء وواجدها، ولّد المعاني وولدها، وعقم

القرائح ووأدها، لا يجيء أرسطو منه سينه، ولا أفلاطون في جبلته طينه، لو أنه في زمن اليونان لجلس في صدر الرواق، ولا ستقلت طرائف المشائين حوله المشي على الأحداق، لعلم جمع بين علوم الإسلام واليونان، ووقع على ما يلقط مثله من الأفنان، ولم يقنع إلا بكل عباب، ولا رضي من جنات التصانيف حتى دعي إليها من كل باب، لو قرن به الفارابي لفر، أو الكندي لما كدّ نفسه ولا كر، بل لو تقدم في عصور الأوائل لتكلم وسكت كل قائل، وأقرّ كل طائر الصيت بأنه ما هو عنده طائل. علم أعلام، ومملي كلام، ومالئ طروس «1» وأقلام. شعلة ذكاء، لم يبق شرق ولا غرب حتى أضاء فيه شعاعها، وامتدّ إليه شراعها، وأشرقت عليه شمسها، وانبسطت به شمسها، وغلب عليه صيتها، وغلّ به عفريتها، ومشت فيها الحكماء على قانونه «2» ، ورأت الشفاء بمضمونه، وعرفت الحكماء بإشاراته،

وسلكت مثل النحل سبلها ذللا بعباراته، وعلمت أنه فيلسوف الإسلام، والمسلّم إليه في كل علم بسلام، والمقدم في سائر الطبقات، والمعظّم على الأوقات، والمحرّم من العلم المحرم إليه في الميقات. كان ندرة في العالم، وزهرة في بني آدم، والمفاض عليه من العلوم ما تزجر بحاره، ولا يزخر إلا لج فوائد فرائده، وصدره محاره، منبع العلم، وموضع الحلم، ومرتع الفضائل، ومربع الكرم، ووسمي «1» الربيع متضائل، أعجوبة الزمان وغريبة آل سامان «2» . فخرت دولة ما وراء النهر منه بوزير شرف دستها «3» ، وصرف بجمعه لجهات

الممالك شتها، وتقلد أمورها، وقلد المنة بولايته أميرها، وتزيّا بزيّ أرباب الدول، وأصبح في أصحاب الخول «1» ، واقتنى الغلمان الأتراك، ووقع بالحب في الأشراك، وكان غلمانه يلبسون الديباج المنسوج بالذهب، ويشدون مناطق الذهب المرصعة بالجواهر، ويزهر بهم جلوته، وتعمر خلوته، يبيت معهم الليالي في الحمام، ويبادر بتنعمه بهم صروف الحمام «2» ، حتى قال له ملكه: كيف تنهانا عن الإتيان في الحمام؟ فقال: لأن الملك يحب أن يعيش طويلا، وأنا أحب أن أعيش طيبا. وكان لا يملك صبرا عن غلمانه، ولا يشغل إلا بهم فراغ زمانه، حتى كانوا سبب حمامه، وجلب سمامه. وكان السبب في فعلتهم، ومرشدهم في هذا إلى ضلّتهم، أنهم سرقوا له مالا جليلا، ثم خافوه، وسئموا فعله الطويل بهم وعافوه، فشابوا له درياق «3» مثرود يطوس، كان يستعمله بسمّ أبى إلا أن يقتله، فتعلّل «4» به عامه حتى ساق الأجل إليه حمامه. وكانت الوزارة نقصا عيب به، وأطلقت الحكماء ألسنتها فيه بسببها، وقالوا: أذلّ العلم، ورضي من الفانية بالاستكثار!. فقال: لي أسوة بأرسطو في صحبة الاسكندر. وفيما قاله نظر، لأن أرسطو كان معلما للاسكندر ومشيرا، وابن سينا كان مكلّفا ووزيرا. قال ابن أبي أصيبعة:" هو [إن كان] أشهر من أن يذكر، وفضائله أعظم من أن تسطر، ونحن نقتصر من وصفه على قدر ما ذكره عن نفسه. ووصفه أبو عبيد الجوزجاني «5» صاحبه من أحواله والذي ذكره هو قال: كان أبي رجلا من أهل

بلخ «1» ، وانتقل إلى بخارى «2» ، في أيام نوح بن منصور «3» ، واشتغل بالتصرف، وتولى العمل في أثناء أيامه بقرية يقال لها" خرميثن" من ضياع بخارى، وهي من أمهات القرى، وبقربها قرية يقال لها" أفشنة" وتزوج منها بوالدتي، وقطن بها، وسكن، وولدت منها بها، ثم أولدت أخي بها، ثم انتقلنا إلى بخارى، وأحضرت معلم القرآن والأدب، وأكملت العشرة من العمر، وقد أتيت على القرآن وعلى كثير من الأدب، حتى كان يقتضي مني العجب «4» . وكان أبي ممن أجاب داعي المصريين، ويعدّ من الإسماعيلية، وقد سمع منهم

ذكر النفس والعقل على الوجه الذي يقولونه ويعرفونه هم، وكذلك أخي، وربما كانوا يذكرونه بينهم وأنا أسمع وأدرك ما يقولونه، ولا تقبله نفسي، وابتدؤوا يدعونني إليه ويجرون على ألسنتهم ذكر الفلسفة والهندسة، وحساب الهند، وأخذ يوجهني إلى رجل كان يبيع البقل ويقوم بحساب الهند حتى أتعلمه منه، ثم جاء إلى بخارى أبو عبد الله الناتليّ «1» وكان يدعى المتفلسف، وأنزله أبي إلى دارنا، رجاء تعليمي منه، وقبل قدومه كنت أشتغل بالفقه والتردد إلى إسماعيل الزاهد «2» ، وكنت من أجود السالكين، وقد ألفت طرق المطالبة «3» ، ووجوه الاعتراض على المجيب على الوجه الذي جرت عادة القوم به. ثم ابتدأت بكتاب" إيساغوجي" على البابلي. ولما ذكر لي أن حد الجنس هو المقول على كثيرين مختلفين بالنوع في جواب ما هو، فأخذت في تحقيق هذا الحد بما لم يسمع بمثله، وتعجّب مني كل التعجب، وحذّر والدي من شغلي بغير العلم «4» . وكان أي مسألة قالها لي أتصورها خيرا منه، حتى قرأت ظواهر المنطق عليه،

وأما دقائقه فلم يكن عنده منها خبر «1» . ثم أخذت أقرأ الكتب على نفسي وأطالع الشروح حتى أحكمت علم المنطق، وكذلك كتاب" أقليدس" «2» ، فقرأت من أوله إلى خمسة أشكال أو ستة عليه، ثم توليت بنفسي حلّ بقية الكتاب بأسره. ثم انتقلت إلى" المجسطي"» ولما فرغت من مقدماته، وانتهيت إلى الأشكال الهندسية قال الناتلي: تولّ قراءتها وحلها بنفسك ثم اعرضها عليّ لأبين لك صوابه من خطئه، وما كان الرجل يقوم بالكتاب، فأخذت أحل ذلك الكتاب فكم من شكل ما عرفه إلا وقت ما عرضته عليه، وفهّمته إياه «4» . ثم فارقني الناتلي متوجها إلى كركانج، واشتغلت أنا بتحصيل الكتب في الفصوص والشروح، من الطبيعي والإلهي، وصارت أبواب العلم تنفتح عليّ. ثم رغبت في علم الطب وصرت أقرأ الكتب الصعبة فيه، وعلم الطب ليس من العلوم الصعبة، فلا جرم أني برّزت فيه في أقل مدة، حتى بدأ فضلاء الطب يقرءون عليّ علم الطب. وتعاهدت المرضى فانفتح عليّ من أبواب المعالجات

المقتبسة من التجربة ما لا يوصف «1» ، وأنا مع ذلك أختلف إلى الفقه، وأناظر فيه، وأنا في هذا الوقت من أبناء ست عشرة سنة، ثم توفرت على العلم والقراءات سنة ونصف، فأعدت قراءة المنطق، وسائر أجزاء الفلسفة، وفي هذه المدة ما نمت ليلة واحدة بطولها، ولا اشتغلت في النهار بغيره، وجمعت بين يدي ظهورا فكل حجة أنظر فيها أثبت مقدمات قياسية «2» ، ورتبتها في تلك الظهور، ثم نظرت فيما عساها تنتج، وراعيت شروط مقدماته حتى تحقق لي حقيقة الحق في تلك المسألة، وكلما كنت أتحير في مسألة ولم أكن أظفر بالحد الأوسط في قياس ترددت إلى الجامع، وصليت، وابتهلت إلى مبدع الكل، حتى فتح لي المنغلق، وتيسر المتعسر «3» . وكنت أرجع بالليل إلى داري، وأضع السراج بين يدي، وأشتغل بالقراءة والدرس، والكتابة، فمهما غلبني النوم، أو شعرت بضعف، عدلت إلى شرب قدح من الشراب، ريثما تعود إليّ قوّتي، ثم أرجع إلى القراءة، ومهما أخذني أدنى نوم، أحلم بتلك المسائل [بأعيانها] اتضح لي وجوهها في المنام «4» . وكذلك حتى استحكم معي جميع العلوم، ووقفت عليها بحسب الإمكان الإنساني. وكل ما علمته في ذلك الوقت فهو كما علمته الآن ولم أزدد فيه إلى اليوم، حتى أحكمت علم المنطق والطبيعي، والرياضي، ثم عدلت إلى الإلهي، وقرأت كتاب" ما بعد الطبيعة" فما كنت أفهم ما فيه، والتبس عليّ غرض

واضعه، حتى أعدت قراءته أربعين مرة «1» ، وصار لي محفوظا. وأنا مع ذلك لا أفهم المقصود به، وأيست من نفسي، وقلت: هذا كتاب لا سبيل إلى فهمه. وإذا أنا في يوم من الأيام حضرت وقت العصر في الورّاقين وبيد دلّال مجلّد ينادي عليه، فعرضه عليّ، فرددته [ردّ] متبرّم!، معتقد أن لا فائدة في هذا العلم. فقال لي: اشتر مني هذا فإنه رخيص! أبيعكه بثلاثة دراهم!، وصاحبه محتاج إلى ثمنه «2» . فاشتريته؛ وإذا هو كتاب لأبي نصر الفارابي في:" أغراض كتاب ما بعد الطبيعة"!. فرجعت إلى بيتي، فأسرعت قراءته، فانفتح علي في الوقت أغراض ذلك الكتاب بسبب أنه كان لي محفوظا على ظهر القلب. وفرحت بذلك، وتصدقت في ثاني يوم بشيء كثير على الفقراء، شكر الله عز وجل. وكان سلطان بخارى في ذلك الوقت نوح بن منصور، واتفق له مرض [أتلج] «3» الأطباء فيه، وكان اسمي اشتهر بينهم بالتوفر على العلم والقراءة، فأجروا ذكري بين يديه، وسألوه إحضاري، فحضرت وشاركتهم في مداواته، وتوسمت بخدمته، فسألته يوما الإذن لي في دخول دار كتبهم، ومطالعتها، وقراءة ما فيها من كتب الطب. فأذن لي؛ فدخلت دارا ذات بيوت كثيرة «4» ، في كل بيت صناديق من الكتب منضّدة بعضها على بعض، في بيت منها كتب العربية والشعر، وفي آخر الفقه، وكذلك في كل بيت كتب علم مفرد.

وطالعت فهرست «1» كتب الأوائل، وطلبت ما احتجت إليه منها، ورأيت من الكتب ما لم يقع اسمه إلى كثير من الناس قط. وما كنت رأيته من قبل، ولا رأيته أيضا من بعد. فقرأت تلك الكتب، وظفرت بفوائدها، وعرفت مرتبة كل رجل في علمه «2» . فلما بلغت ثماني عشرة سنة من عمري فرغت من هذه العلوم كلها، وكنت إذ ذاك للعلم أحفظ، ولكنه اليوم معي أنضج، وإلا فالعلم واحد لم يتجدّد لي بعده شيء! «3» . وكان في جواري رجل يقال له: أبو الحسن العروضي «4» ، فسألني أن أصنف له كتابا جامعا في هذا العلم، فصنّفت له: المجموع، وسميته به، وأتيت فيه على سائر العلوم، سوى الرياضي، ولي إذ ذاك إحدى وعشرون سنة من عمري!.

وكان في جواري أيضا رجل يقال له: أبو بكر البرقي «1» الخوارزمي «2» ، فقيه النفس، متوجه في الفقه والتفسير، والزهد، مائل إلى هذه العلوم، فسألني شرح الكتب [له] ، فصنفت له كتاب:" الحاصل والمحصول" في قريب من عشرين مجلدا، وصنفت له في الأخلاق كتابا سميته:" كتاب البر والإثم" وهذان الكتابان لا يوجدان إلا عنده، ولم يعر أحدا أن ينسخ منه «3» . ثم مات والدي، وتصرّفت بي الأحوال، وتقلدت شيئا من أعمال السلطان، ودعتني الضرورة إلى الإحلال ببخارى «4» ، والانتقال إلى" كركانج" «5» ، وكان أبو الحسن السهلي، المحب لهذه العلوم بها وزيرا. وقدمت على الأمير بها وهو علي بن المأمون، وكنت على زي الفقهاء، إذ ذاك بطيلسان «6» تحت الحنك، وأثبتوا

لي مشاهرة «1» دارّة تقوم بكفاية مثلي. ثم دعت الضرورة إلى الانتقال إلى" نسا" «2» ومنها إلى" باورد" «3» ، ومنها إلى" طوس" «4» ، ومنها إلى" سمنيقان" ومنها إلى" جاجرم" «5» ، رأس حد خراسان، ومنها إلى جرجان، وكان قصدي الأمير قابوس. فاتفق في أثناء هذا أخذ قابوس وحبسه في بعض القلاع، وموته هناك. ثم مضيت إلى" دهستان" «6» ، ومرضت به مرضا صعبا، وعدت إلى جرجان، فاتصل [بي] أبو عبيد الجوزجاني «7» .

وأنشدت في حالي قصيدة فيها بيت القائل: [الكامل] لمّا عظمت فليس مصرّ واسعي ... لمّا غلا ثمني عدمت المشتري قال أبو عبيد «1» الجوزجاني: فهذا ما حكاه لي الشيخ من لفظه «2» ومن هاهنا شاهدت أنا من أحواله كان بجرجان رجل يقال له: أبو محمد الشيرازي، يحب هذا العلم، وقد اشترى للشيخ دارا في جواره، أنزله بها، وأنا أختلف إليه في كل يوم، أقرأ" المجسطي" واستملي المنطق. وصنف لأبي محمد الشيرازي كتاب:" المبدأ والمعاد"، وكتاب" الأرصاد الكلية". وصنف هناك كتبا كثيرة: كأول القانون، و" مختصر المجسطي"، وكثيرا من الرسائل. ثم صنف في أرض الجبل بقية كتبه «3» . كتاب:" المجموع" مجلد،" الحاصل والمحصول" عشرون مجلدا،" الإنصاف" عشرون مجلدا،" البر والإثم" مجلدان،" الشفاء" ثمانية عشر مجلدا،"

ومن رسائله:

الأرصاد الكلية" مجلد." النجاة" ثلاث مجلدات." الهداية" مجلد." المختصر المتوسط" مجلد." العلائي" مجلد." القولنج" مجلد." لسان العرب «1» " عشر مجلدات." الأدوية القلبية" مجلد." بعض الحكم المشرقية" مجلد." بيان ذوات الجهة" مجلد." كتاب المبدأ والمعاد" مجلد. ومن رسائله: " القضاء والقدر"،" الآلة الرصدية"،" غرض قاطيغورياس"، المنطق بالشعر"،" قصائد في العظة والحكمة" في الحروف،" تعقب المواضع الجدلية"،" مختصر أوقليدس"،" مختصر في النبض" بالعجمية،" الحدود"، الأجرام السماوية"،" الإشارة إلى علم المنطق"،" أقسام الحكمة في النهاية"،" وأن لا نهاية"، و" عهد" كتبه لنفسه،" حي بن يقظان"،" في أن أبعاد الجسم غير ذاتية له"،" خطب الكلام في الهندباء"،" في أن الشيء الواحد لا يكون جوهريا وعرضيا"،" في أن علم زيد غير علم عمرو"، و" رسائل له إخوانية وسلطانية"،" مسائل جرت بينه وبين بعض الفضلاء". ثم انتقل إلى الري بخدمة السيدة وابنها مجد الدولة «2» ، وعرفوه بسبب كتب وصلت معه، تتضمن تعريف قدره. وكان مجد الدولة إذ ذاك قد غلبته السوداء، فاشتغل بمداواته، وصنف كتاب:" المبدأ والمعاد" وأقام بها إلى أن قصد شمس الدولة «3» بعد قتل هلال بن زيد بن حسنويه، وهزيمة عسكر بغداد.

ثم اتفقت له أسباب أوجبت بالضرورة خروجه إلى قزوين «1» ، ومنها إلى همذان، واتصاله بخدمة" كدبانويه" والنظر في أسبابها. ثم اتفق معرفة شمس الدولة وإحضاره مجلسه بسبب قولنج قد أصابه، وعالجه حتى شفاه الله، وفاز من ذلك المجلس بخلع كثيرة، ورجع إلى داره بعد ما أقام هناك أربعين يوما بلياليها، وصار من ندماء الأمير. ثم اتفق نهوض الأمير إلى قرمسين، لحرب عناز، وخرج الشيخ في خدمته، ثم توجه نحو همذان، منهزما راجعا. ثم سألوه تقلد الوزارة، فتقلدها. ثم اتفق تشويش العسكر عليه، وإشفاقهم منه على أنفسهم، فكبسوا داره، وأخذوه إلى الحبس، وأغاروا على أسبابه، وأخذوا جميع ما كان يملكه، وسألوا الأمير قتله، فامتنع منه، وعدل إلى عز الدولة طلبا لمرضاتهم، فتوارى في دار الشيخ أبي سعيد بن دخدوك «2» أربعين يوما، فتعاود الأمير شمس الدولة القولنج، وطلب الشيخ يحضر مجلسه، فاعتذر الأمير إليه بكل الاعتذار، فاشتغل بمعالجته، فأقام عنده مكرما مبجلا، وأعيدت الوزارة إليه ثانيا. ثم سألته أنا «3» - شرح كتب أرسطو طاليس. فذكر أنه لا فراغ له في ذلك الوقت، ولكن إن رضيت مني بتصنيف كتاب أورد فيه ما صحّ عندي من هذه العلوم بلا مناظرة مع المخالفين، ولا الاشتغال بالرد عليهم، فعلت ذلك. فرضيت به، فابتدأ بالطبيعيات من كتاب سماه:" كتاب الشفاء". وكان قد صنف

الكتاب الأول من" القانون". وكان يجتمع كل ليلة في داره طلبة العلم «1» ، وكنت أقرأ من" الشفاء" نوبة، وكان يقرأ غيري من" القانون" نوبة، فإذا فرغنا حضر المغنون على اختلاف طبقاتهم، وهيء مجلس الشراب بآلاته، وكنا نشتغل به، وكان التدريس بالليل لعدم الفراغ بالنهار «2» خدمة للأمير. فقضينا على ذلك زمنا، ثم توجه شمس الدولة إلى طارم لحرب الأمير بهاء الدولة، وعاوده القولنج قريب ذلك الموضع، واشتدّ عليه وانضاف إلى ذلك أمراض أخر جلبها سوء تدبير وقلة القبول من الشيخ، فخاف العسكر وفاته، فرجعوا طالبين به همذان في المهد، فتوفي في الطريق في المهد. ثم بويع ابن شمس الدولة، وطلبوا استيزار الشيخ فأبى عليهم، وكاتب علاء الدولة «3» سرا يطلب خدمته والمصير إليه، والانضمام إلى جوانبه، وأقام في دار أبي غالب العطار «4» متواريا، وطلبت منه إتمام كتاب" الشفاء" فاستحضر أبا غلب، وطلب الكاغد «5» والمحبرة، فأحضرهما. وكتب الشيخ في عشرين جزءا على الثمن بخطه رؤوس المسائل، وبقي فيه يومين حتى كتب رؤوس المسائل كلها بلا كتاب يحضره، ولا أصل «6» يرجع إليه، بل من حفظه وعن ظهر قلبه.

ثم ترك الشيخ تلك الأجزاء بين يديه، وأخذ الكاغد فكان ينظر في كل مسألة ويكتب شرحها، وكان يكتب في كل يومين خمسين ورقة، حتى أتى على جميع الطبيعيات والإلهيات، ما خلا كتابي:" الحيوان، و" النبات" «1» . وابتدأ بالمنطق، فكتب منه جزءا، ثم اتهمه تاج الملك بمكاتبته علاء الدولة فأنكر عليه ذلك، وحثّ في طلبه، فدلّ عليه بعض أعدائه، فأخذوه، وأدوه إلى قلعة يقال لها:" فردجان" «2» . وأنشد هناك قصيدة، منها: [الوافر] دخولي باليقين كما تراه ... وكلّ الشّكّ في أمر الخروج «3» وبقي فيها أربعة أشهر، ثم قصد علاء الدولة همذان فأخذها، وانهزم تاج الملك، ومرّ إلى تلك القلعة بعينها. ثم رجع علاء الدولة عن همذان، وعاد تاج الملك وابن شمس الدولة إلى همذان، ونزل في دار العلوي، واشتغل هناك بتصنيف" المنطق" من كتاب:" الشفاء". وكان قد صنف بالقلعة كتاب:" الهدايات" «4» ، ورسالة" حي بن يقظان"، وكتاب" القولنج". وأما الأدوية القلبية؛ فإنه صنفها أول وروده إلى همذان، وكان قد تقضى

على هذا زمان، وتاج الملك في أثناء هذا يمنّيه بمواعيد جميلة. ثم عنّ للشيخ التوجه إلى أصفهان «1» ، فخرج متنكرا، وأنا وأخوه غلامان له في زي الصوفية، إلى أن وصلنا طبران «2» ، على باب أصفهان، بعد أن قاسينا شدائد في الطريق، فاستقبلنا أصدقاء الشيخ، وندماء الأمير علاء الدولة، وخواصه، وحمل إليه الثياب والمراكب الخاصة، وأنزل في محلة يقال لها كون كبير. في دار عبد الله بن بابي، وفيها من الآلات والفرش ما يحتاج إليه، وحضر مجلس علاء الدولة فصادف من منزلة الإكرام والإعزاز اللذين يستحقه مثله «3» . ثم رسم الأمير علاء الدولة ليأتي الجماعات مجلس النظر بين يديه، بحضرة سائر العلماء على اختلاف طبقاتهم، والشيخ في جملتهم، فما كان يطاق في شيء من العلوم. واشتغل بأصفهان بتتميم كتاب:" الشفاء"، ففرغ من المنطق، والمجسطي، وكان قد اختصر أوقليدس، والأرثماطيقي، والموسيقى، وأورد في كل كتاب من الرياضات زيادات رأى أن الحاجة إليها داعية. أما في" المجسطي": فأورد عشرة أشكال في اختلاف القطر «4» ، وأورد في

آخر المجسطي في علم الهيئة أشياء لم يسبق إليها. وأورد في" أوقليدس" شبها، وفي" الأرثماطيقي" خواصّ حسنة. وفي الموسيقى مسائل غفل عنها الأولون، وتم الكتاب المعروف ب" الشفاء" ما خلا كتابي:" النبات"، و" الحيوان"، فإنهما صنفهما في السنة التي توجّه فيها علاء الدولة إلى سابور خواست في الطريق «1» . وصنف أيضا في الطريق كتاب:" النجاة"، واختص بعلاء الدولة، وصار من ندمائه، إلى أن عزم علاء الدولة قصد همذان، وخرج الشيخ في الصحبة، فجرى ليلة بين يدي علاء الدولة ذكر الخلل الواقع في التقاويم المعمولة بحسب الأرصاد القديمة، فأمر الأمير الشيخ بالاشتغال برصد هذه الكواكب، وأطلق له من الأموال ما يحتاج إليه. وابتدأ الشيخ به، وولاني اتخاذ آلاتها، واستخدام صناعها، حتى ظهر كثير من المسائل، فكان يقع الخلل في أمر الرصد لكثرة الأسفار وعوائقها. وصنف الشيخ بأصفهان:" الكتاب العلائي" «2» . وكان من عجائب أمر الشيخ أني صحبته، وخدمته خمسا وعشرين سنة، فما رأيته إذا وقع له كتاب مجدّد ينظر فيه على الولاء «3» ، بل كان يقصد المواضع الصعبة منه، والمسائل المشكلة، فينظر ما قاله مصنفه، فيتبين مرتبته في العلم، ودرجته في الفهم. وكان الشيخ جالسا يوما من الأيام بين يدي الأمير، وأبو منصور الجبائي «4»

حاضر، فجرى في اللغة مسألة تكلم الشيخ فيها بما حضره، فالتفت أبو منصور إلى الشيخ وقال له: أنت تقول أنك فيلسوف وحكيم، ولكن لم تقرأ من اللغة ما يرضي كلامك فيها!. فاستنكف الشيخ من هذا الكلام، وتوفّر على درس كتب اللغة ثلاث سنين، واستهدى كتاب" تهذيب اللغة" من خراسان، تصنيف أبي منصور الأزهري «1» ، فبلغ الشيخ في اللغة طبقة قلّ ما يتفق مثلها. وأنشأ «2» ثلاث قصائد، وضمّنها ألفاظا غريبة في اللغة. وكتب ثلاثة كتب؛ أحدها: على طريقة ابن العميد «3» ، والآخر: على طريقة الصاحب «4»

والآخر: على طريقة الصابي «1» وأمر بتجليدها، وإخلاق «2» جلدها. ثم أوعز الأمير فعرض تلك المجلّدة على أبي منصور الجبائي، وذكر أنّا ظفرنا بهذه المجلدة في الصحراء وقت الصيد، فنحبّ أن تتفقدها، وتقول لنا ما فيها. فنظر فيها أبو منصور وأشكل عليه كثير مما فيها!. فقال الشيخ: إن ما تجهله من هذا الكتاب فهو مذكور في الموضع الفلاني من كتب اللغة، وذكر له كثيرا من الكتب المعروفة في اللغة. ففطن أبو منصور أن تلك الرسائل من تصنيف الشيخ، وأن الذي حمله عليه ما جبهه به ذلك اليوم، فتنصّل واعتذر إليه. ثم صنف الشيخ كتابا في اللغة سماه:" لسان العرب" «3» .، لم يصنف في اللغة مثله، ولم ينقله إلى البياض حتى توفي، فبقي على مسوّدته، لا يهتدي أحد إلى ترتيبه.

وكان قد حصل للشيخ تجارب كثيرة فيما باشر من المعالجات، عزم على تدوينها في كتاب" القانون" «1» . من ذلك: أنه صدع يوما؛ فتصور أن مادة تريد النزول إلى حجاب رأسه، وأنه لا يأمن من ورم يحصل فيه، فأمر بإحضار ثلج كثير، ودقّه ولفّه في خرقة، وأمر بتغطية رأسه بها. ففعل ذلك حتى قوي الموضع وامتنع عن قبول تلك المادة، وعوفي. ومن ذلك: [أن] امرأة مسلولة بخوارزم أمرها أن لا تتناول من الأدوية سوى الجلنجبين السكري «2» ، حتى تناولت على الأيام نحو مائة منّ، وشفيت المرأة. وكان الشيخ قد صنف بجرجان:" المختصر الأصغر" في المنطق، وهو الذي وضعه بعد ذلك في:" النجاة". ووقعت نسخة إلى شيراز «3» ، فنظر فيها جماعة من أهل العلم هناك، فوقعت لهم الشبهة في مسائل منها؛ فكتبوها على جزء، وكان القاضي بشيراز من جملة القوم؛ فأنفذ بالجزء إلى أبي القاسم الكرماني،

صاحب إبراهيم بن بابا الديلمي، المشتغل بعلم التناظر، وأضاف إليه كتابا إلى الشيخ أبي القاسم، وأنفذها على يدي ركابي قاصد، وسأله عرض الجزء على الشيخ أبي القاسم، فدخل على الشيخ عند اصفرار الشمس في يوم صائف، وعرض عليه الكتاب والجزء. فقرأ الكتاب ورده عليه، وترك الجزء بين يديه، وهو ينظر فيه، والناس يتحدثون. ثم رجع أبو القاسم وأمرني الشيخ بإحضار البياض، وقطع أجزاء منها، فشددت خمسة أجزاء كل واحد منها عشرة أوراق بالربع الفرعوني، وصلينا العشاء فأمر بإحضار الشراب وأجلسني وأخاه، وأمرنا بتناول الشراب، وابتدأ هو بجواب تلك المسائل. وكان يكتب ويشرب إلى نصف الليل، حتى غلبني وأخاه النوم، فأمرنا بالانصراف. فعند الصباح قرع الباب؛ فإذا رسول الشيخ يستحضرني فحضرته، وهو على المصلّى، وبين يديه الأجزاء الخمسة؛ فقال: خذها، وصر بها إلى الشيخ أبي القاسم الكرماني، وقل له: استعجلت في الإجابة عنها لئلا يتعوّق الركابي. فلما حملته، تعجب كل العجب، وصرف الفيج «1» ، وأعلمهم بهذه الحالة، وصار هذا الحديث تاريخا بين الناس. ووضع في [حال] الرصد آلات ما لم يسبق إليه، وصنّف فيها رسالة، وبقيت أنا ثماني سنين مشغولا بالرصد، وكان غرضي تبين ما يحكيه بطليموس عن قصته في الأرصاد؛ فتبين لي بعضها.

وصنف الشيخ كتاب" الإنصاف"، واليوم الذي قصد فيه السلطان مسعود إلى أصفهان، نهب عسكره [رحل] الشيخ، وكان الكتاب في جملة النهب، وما وقف له على أثر. وكان الشيخ قويّ القوى كلها، وكانت قوة المجامعة من قواه الشهوانية أقوى وأغلب، [وكان كثيرا ما يشتغل به فأثر في مزاجه] وكان الشيخ يعتمد على قوة مزاجه حتى صار أمره في السنة التي حارب فيها علاء الدولة تاش فراش على باب الكرخ، إلى أن أخذه الشيخ قولنج. ومن حرصه على برئه إشفاقا من هزيمة يدفع إليها، ولا يتأتى له المسير فيها مع المرض، حقن نفسه في يوم واحد ثمان مرات، فتقرح بعض أمعائه، وظهر به سحج «1» ، وأحوج إلى المسير مع علاء الدولة، فأسرعوا نحو إيذج «2» ، فظهر به هناك الصرع الذي كان يتبع علة القولنج، ومع ذلك كان يدبر نفسه، ويحقن نفسه لأجل السحج «3» ، ولبقية القولنج. فأمر يوما باتخاذ دانقين «4» من بزر الكرفس «5» ، في جملة ما يحتقن به،

وخلطه به طلبا لكسر الرياح؛ فقصد بعض الأطباء الذين كان يتقدم هو إليه بمعالجته، فطرح من بزر الكرفس خمسة دراهم- لست أدري عمدا فعله أم خطأ؟ لأنني لم أكن معه- فازداد السحج به، من حدة ذلك البزر «1» .. وكان يتناول" المثرذيطوس" «2» لأجل الصرع، فقام بعض غلمانه وطرح شيئا كثيرا من الأفيون «3» فيه وناوله، فأكله. وكان سبب ذلك خيانتهم في مال كثير من خزائنه، فتمنوا هلاكه، ليأمنوا عاقبة أعمالهم. فنقل الشيخ كما هو إلى أصبهان، فلم يزل يعالج نفسه حتى قدر على المشي، وحضر مجلس علاء الدولة، لكنه مع ذلك لا يتحفظ، ويكثر التخليط في أمر المعالجة «4» ، ولم يبرأ من العلة كل البرء، فكان ينتكس ويبرأ كل وقت.

ثم قصد علاء الدولة همذان، فسار معه الشيخ فعاودته في الطريق تلك العلة إلى أن وصل إلى همذان، وعلم أن قوته قد سقطت، وأنها لا تفي بدفع المرض، فأهمل مداواة نفسه، وأخذ يقول: المدبر الذي كان يدبرني «1» قد عجز عن التدبير، والآن فلا تنفع المعالجة. وبقي على هذا أياما، ثم انتقل إلى جوار ربه. وكان عمره: ثلاثا وخمسين سنة «2» . وكان موته في سنة ثمان وعشرين وأربع مائة. وكانت ولادته: في سنة خمس وسبعين وثلاثمائة. هذا آخر ما ذكره أبو عبيد «3» من أحوال الشيخ الرئيس- رحمه الله-. وقبره تحت سور من جانب القبلة من همذان، وقيل: إنه نقل إلى أصبهان، ودفن في موضع على باب" كونكنبد" «4» ولما مات ابن سينا من القولنج الذي [عرض له] «5» قال فيه بعض أهل زمانه: [المتقارب] . رأيت ابن سينا يعادي الرّجال ... وبالحبس مات أخسّ الممات فلم يشف ما ناله بالشّفا ... ولم ينج من موتة بالنّجاة وقوله:" بالحبس" يعني: انحباس البطن من القولنج الذي أصابه.

[وصية ابن سينا]

و" الشفاء" و" النجاة": يريد الكتابين من تأليفه، وقصد بهما [الجناس في الشعر] . [وصية ابن سينا] [ومن كلام الشيخ الرئيس وصية أوصى بها] «1» بعض أصدقائه،- وهو سعيد ابن أبي الخير الصوفي الميهني «2» . ومن كلامه قال: " ليكن الله تعالى أول فكرك وآخره، وباطن اعتبارك وظاهره «3» ، ولتكن عين نفس الرجل مكحولة بالنظر إليه «4» ، وقدمها موقوف على المثول بين يديه، مسافرا بعقله في الملكوت الأعلى، وما فيه من آيات ربه الكبرى، وإذا انحطّ إلى قراره، فلينزه الله تعالى في آثاره، فإنه باطن ظاهر، تجلى لكل شيء بكل شيء. [المتقارب] ففي كلّ شيء له آية ... تدلّ على أنّه واحد فإذا صارت هذه الحال له ملكة، تنطبع فيها نقش الملكوت، وتجلى له قدس اللاهوت، فألف الأنس الأعلى، وذاق اللذة القصوى، وأخذه عن نفسه من هو بها أولى «5» ، وفاضت عليه السكينة، وحقت له الطمأنينة «6» ، وتطلّع على

العالم الأدنى اطلاع راحم لأهله، مستوهن لحبله، مستخفّ لثقله، مستحسن «1» به لعقله، مستضل لطرقه، وتذكر نفسه وهي بها لهجة، وببهجتها بهجة، فيعجب منها ومنهم تعجبهم منه، وقد ودّعها، وكان معها كأن ليس معها. وليعلم أن أفضل الحركات الصلاة، وأمثل السكنات الصيام، وأنفع البر الصدقة، وأزكى العمل الاحتمال «2» ، وأبطل السعي المراءاة «3» ، ولن تخلص النفس عن الدرن ما التفت إلى قيل وقال، ومنافسة وجدال، وانفعلت بحال من الأحوال. وخير العمل ما صدر عن خالص نية، وخير النية ما ينفرج عن جناب علم، والحكمة أم الفضائل، ومعرفة الله- تعالى- أول الأوائل: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ «4» . ثم يقبل على هذه النفس المؤمنة بكمالها الذاتي، فيحرسها عن التلطخ بما يشينها من الهيئات الانقيادية، للنفوس الموادية، التي إذا بقيت في النفس المزينة كان حالها عند الانفصال كحالها عند الاتصال، إذ جوهرها غير مشاوب ولا مخالط، وإنما يدنسها هيئة الانقياد لتلك الصواحب بل تفيدها هيئات الاستيلاء والاستعلاء والرياسة. وكذلك يهجر الكذب قولا وفعلا، حتى يحدث للنفس هيئة صدوقة، فتصدق الأحلام والرؤيا، وأما اللذات فيستعملها على إصلاح الطبيعة، وإبقاء الشخص والنوع، والسياسة.

ومن شعر الشيخ الرئيس قاله في النفس

أما المشروب: فإنه يهجر شربه تلهيا بل تشفيا وتداويا، ويعاشر كل فرقة بعادته ورسمه، ويسمح بالمقدور والتقدير من المال، ويركب لمساعدة الناس كثيرا مما هو خلاف طبعه، ثم لا يقصر في الأوضاع الشرعية، ويعظم السنن الإلهية، والمواظبات على التعبدات البدنية، ويكون دوام عمره إذا خلا وخلص من المعاشرين تطربه الزينة في النفس، والفكرة في الملك الأول وملكه، وكيس النفس عن عثار «1» الناس من حيث لا يقف عليه الناس، عاهد الله أنه يسير بهذه السيرة، ويدين بهذه الديانة، والله ولي الذين آمنوا، وحسبنا الله ونعم الوكيل". ومن شعر الشيخ الرئيس قاله في النفس " وهي من أحسن قصائده وأشرفها" [الكامل] هبطت إليك من المحلّ «2» الأرفع ... ورقاء ذات تعزّز وتمنّع محجوبة عن كلّ مقلة عارف ... وهي الّتي سفرت فلم تتبرقع وصلت على كره إليك وربّما ... كرهت فراقك وهي ذات تفجّع أنفت وما أنست «3» فلمّا واصلت ... ألفت مجاورة الخراب البلقع وأظنّها نسيت عهودا بالحمى ... ومنازلا بفراقها لم تقنع حتى إذا اتّصلت بهاء هبوطها ... من ميم مركزها بذات الأجرع

علقت بها ثاء الثقيل فأصبحت «1» ... بين المعالم والظلول الخضّع تبكي إذا ذكرت ديارا بالحمى ... بمدامع تهمي ولمّا تقطع «2» وتظل ساجعة على الدّمن التي ... درست بتكرار الرياح الأربع إذ عاقها الشرك الكثيف وصدّها ... قفص عن الأوج الفسيح الأرفع «3» حتى إذا قرب المسير من الحمى ... دنا الرحيل إلى الفضاء الأوسع وهجعت وقد كشف الغطاء فأبصرت ... ما ليس يدرك بالعيون الهجّع وغدت مفارقة لكل مخالف ... عنها حليف الترب غير مشيع وبدت «4» تغرّد فوق ذروة شاهق ... والعلم يرفع كل من لم يرفع فلأي شيء أهبطت من شاهق ... سام إلى قعر الحضيض الأوضع إن كان أرسلها «5» الإله لحكمة ... طويت عن الفطن اللبيب الأروع فهبوطها إن «6» كان ضربة لازب «7» ... لتكون سامعة بما لم تسمع وتعود عالمة بكل خفية ... في العالمين فخرقها لم يرقع

وهي التي قطع الزمان طريقها ... حتى لقد غربت بغير المطلع فكأنها برق تألّق بالحمى ... ثم انطوى فكأنه لم يلمع «1» وقال في الشيب، والحكمة، والزهد: [الوافر] أما أصبحت عن ليل التصابي ... وقد أصبت عن ليل الشباب تنفس في عذارك صبح شيب ... وعسعس ليله فكم التصابي شبابك «2» كان شيطانا مريدا ... فرجّم من مشيبك بالشهاب وأشهب من بزاة الدهر خوّى ... على فودي فألمأ بالغراب عفا رسم الشباب ورسم دار ... لهم عهدي بها مغنى رباب فذاك ابيضّ من قطرات دمعي ... وذاك اخضرّ من قطر السحاب فذا ينعى إليك النفس نعيا ... وذلكم نشور للروابي كذا دنياك ترأب لانصداع ... مغالطة وتبني للخراب ويعلق مشمئز النفس عنها ... بأشراك تعوق عن اضطراب «3» فلولاها لعجلت انسلاخي ... عن الدنيا وإن كانت إهابي عرفت عقوقها فسلوت عنها ... فلما عفتها أغريتها بي «4» بليت بعالم يعلو أذاه ... سوى صبري ويسفل عن عتابي وسيل للصواب خلاط قوم ... وكم كان الصواب سوى الصواب أخالطهم ونفسي في مكان ... من العلياء عنهم في حجاب

ولست بمن يلطخه خلاط ... متى اعتبرت أبان عن تراب إذا ما لحت الأبصار نالت ... خيالا واشمأزت عن لباب «1» وقال أيضا: [الكامل] خير النفوس العارفات ذواتها ... وحقيق كيمياتها ماهيّاتها وبم الذي حلّت ومم تكونت ... أعضاء بنيتها على هيئاتها نفس النبات ونفس حس ركبا ... هلّا كذاك سماته كسماتها يا للرجال لعظم رزء لم تزل ... منه النفوس تخب «2» في ظلماتها وقال أيضا: [الخفيف] هذّب النفس بالعلوم لترقى ... وذر الكلّ فهي للكلّ بيت إنما النفس كالزجاجة والعل ... م سراج وحكمة الله زيت فإذا أشرقت فإنك حي ... وإذا أظلمت فإنك ميت «3» وقال أيضا: [مجزوء الرمل] صبّها في الكاس صرفا ... غلبت ضوء السراج ظنّها في الكاس نارا ... فطفاها بالمزاج «4» وقال أيضا: [الكامل: قم فاسقنيها قهوة كدم الطلا ... يا صاح بالقدح الملا بين الملا خمرا تظل لها النصارى سجّدا ... ولها بنو عمران أخلصت الولا

لو أنها يوما وقد ولعت بهم ... قالت: ألست بربكم قالوا بلى «1» نظر إلى قوله تعالى في سورة الأعراف: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى «2» وقال أيضا: [الرمل] نزل اللاهوت «3» في ناسوتها «4» ... كنزول الشمس في أبراج يوح قال فيها بعض من هام بها ... مثل ما قال النصارى في المسيح هي والكاس وما ما زجها ... كأب متّحد وابن روح وقال أيضا: [الطويل] شربنا على الصوت القديم قديمة ... لكل قديم أول هي أول ولو لم تكن في حيّز قلت إنها ... هي العلة الأولى التي لا تعلل وقال أيضا وقيل إنها للطغرائي [الكامل] عجبا لقوم يحسدون فضائلي ... ما بين عانيّ إلى عذّال عتبوا على فضلي وذمّوا حكمتي ... واستوحشوا من نقصهم وكمالي إني وكيدهم وما عتبوا به ... كالطّود يحقر نطحة الأوعال وإذا الفتى عرف الرشاد لنفسه ... هانت عليه ملامة الجهّال «5»

19 - أبو الفرج عبد الله بن الطيب

وقال أيضا: [الكامل] أشكو إلى الله الزمان بصرفه ... أبلى جديد قواي وهو جديد محن إليّ توجّهت فكأنني ... قد صرت مغناطيس وهي حديد «1» وقال أيضا: [الطويل] عطارد قد- والله- طال ترددي ... مساء وصبحا كي أراك فأغنما فها أنت فامددني كي أدرك المنى ... بها والعلوم الغامضات تكرما ووقتي والمحذور والشر كله ... بأمر مليك خالق الأرض والسما «2» ومنهم: 19- أبو الفرج عبد الله بن الطيب «13» كاتب الجاثليق «3» .

كان مع توسعه في الحكمة، وتتبعه لسرجها المضيئة في كل ظلمة، مصرّا على نصرانيته «1» ، معظّما لأمور رهبانيته، ينقاد إلى خدعها، ولا يخفى عليه أنها ضلال، ويتردّد إلى بيعها «2» ، ولا يعتريه ملال، ويعظم صورها الممثلة، ويظل عليها عاكفا، وإليها عاطفا، وهو على يقين من أنها لا تنطق، ولا تمسك عليه من خزائن رزقها ولا تنفق. على أنه كان إماما في الطبيعي لا يعدو علمه، ولا يخاف عدمه، فأما من ذكر سواه فكثيرا ما يجد من واساه. ذكره ابن أبي أصيبعة، وقال:" هو الفيلسوف الإمام العالم [أبو الفرج عبد الله ابن الطيب، وكان كاتب الجاثليق] ومتميزا بين النصارى ببغداد، ويقرئ الطب في البيمارستان العضدي،.... جليل المقدار، واسع العلم، شرح كثيرا من كتب أرسطو، وأبقراط، وجالينوس، وكانت له قوة في التصنيف، وأكثر ما كانت تؤخذ عنه إملاء من لفظه، [وكان معاصرا للشيخ الرئيس ابن سينا] . وكان الرئيس يحمده في الطب، ويذمه في الحكمة، وقال فيه:" وكان يقع إلينا كتب يعملها الشيخ أبو الفرج ابن الطيب، في الطب، ونجدها صحيحة مرضية، خلاف تصانيفه في المنطق والطبيعيات، وما يجري معها". وحكى ابن القفّ «3» : أن رجلين أتيا من بلاد العجم للقراءة على ابن

الطيب، فقيل لهما إنه في الكنيسة للصلاة، فأتيا عليه، فوجداه لابسا ثوب صوف، مكشوف الرأس، وبيده مبخرة فيها بخور، وهو يدور في الكنيسة، يبخرها؛ فتأملاه، وتحدّثا بالفارسية، وأداما النظر إليه، والتعجب من فعله! وهو من أجلّ الحكماء، فكأنه رآهما، وفهم عنهما ما هما فيه. فلما فرغ من شأنه، لبس ثيابه المعتادة، وقرّبت له البغلة، فركبها، ومشت الغلمان حوله. فتبعاه، وسألاه أن يقرئهما. فقال لهما: أحججتما قط؟. فقالا: لا. فقال: لا أقرئكما حتى تحجّا. فحجّا، ثم أتياه وقد علاهما الشحوب، ورؤوسهما محلّقة، فسألهما عن مناسك الحج، وما فعلاه فيها؟. فأخبراه بها. فقال لهما: لما رميتما الجمار بقيتما عراة موشحين، وبأيديكما الحجارة وأنتما تهرولان وترميان بها؟. قالا: نعم. فقال: هكذا الأمور الشرعية، تؤخذ نقلا لا عقلا!. فعرفا قصده، وعجبا منه، ثم اشتغلا عليه، وكانا من أجلّ تلامذته «1» .

20 - أبو المؤيد محمد بن محمد بن المجلي الجزري، المعروف بابن الصايغ

ومنهم: 20- أبو المؤيد محمد بن محمد بن المجلي الجزري، المعروف بابن الصايغ «13» أثرى بالفضائل وما كنزها، وأثار علوم الأوائل وما ركزها، هذا مع أدب وشعر هو شعاع بنت الزرجون «1» ، وشعاع الفجر المتفرق تحت أزر الدجون. قال ابن أبي أصيبعة:" كان إماما مشهورا، وعالما مذكورا، وفيلسوفا مميزا، وأديبا مبرّزا، ويعرف بالعنتري، لأنه كان في صباه يكتب أحاديث عنترة العبسي". ومن كلامه قوله:" تعلّم العلم، فإنه لو لم ينل به من الدنيا إلا الغنى عمّن يستعبدك بحق أو باطل". وقوله:" [بنيّ! إن الحكمة العقلية] «2» تريك العالم يقادون بأزمّة الجهل إلى

الخطأ والصواب". وقال:" الجاهل عبد لا يعتق إلا بالمعرفة". وقال:" الحكمة سراج النفس فمتى عدمتها عميت علن الحق". وقال:" الحكمة دواء من الموت الأبدي". وقال:" [كون] الشخص بلا علم كالجسد بلا روح". وقال:" من أحب أن ينطق «1» باسمه فليكثر من العناية بعلمه". وقال:" العالم المحروم أشرف من الجاهل المرزوق". وقال:" الجاهل يطلب المال، والعالم يطلب الكمال". وقال:" الغمّ ليل القلب، والسرور نهاره، وشرب السم أهون من معاناة الهم". ومن شعره قوله: [الكامل] لو كنت تعلم كل ما علم الورى ... حقا لكنت صديق كلّ العالم لكن جهلت فصرت تحسب كل من ... يهوى خلاف هواك، ليس بعالم استحي أن العقل أصبح ضاحكا ... مما تقول وأنت مثل النائم لو كنت تسمع ما سمعت، وعالما ... ما قد علمت، خجلت خجلة نادم وضع الإله الخلف في كل الورى ... بالطبع حتى صار ضربة لازم «2»

وقوله: [الخفيف] أبلغ العالمين عني بأني ... كل علمي تصور وقياس «1» قد كشفت الأشياء بالفعل حتى ... ظهرت لي وليس فيها التباس وعرفت الرجال بالعلم لما ... عرف العلم بالرجال الناس وقوله: [الكامل] لا تدنينّ فتى يودّك ظاهرا ... منه وضد وداده في طبعه واهجر صديقك إن تنكّر ودّه ... فالعضو يحسم داؤه في قطعه «2» وقوله: [الكامل] عدّل مزاجك ما استطعت ولا تكن ... كمسوّف أودى به التخليط واحفظ عليك حرارة برطوبة ... تبقى، فتركك حفظها تفريط واعلم بأنك كالسراج بقاؤه ... ما دام في طرف الذبال «3» سليط «4» وقوله- في مليح تنقّل بالرمّان على الخمر: [السريع] [وشادن أبلج كالبدر ... نادمته ليلا إلى الفجر بات به يصرف عنه الأذى ... بنهل كاسات من الخمر] «5» ينتقل الرمان في أثرها ... مخافة من ضرر السكر كأنه وهو خبير به ... يكسّر الياقوت بالدرّ «6»

وقوله: [مخلع البسيط] رأيت فوق الرئيس علجا ... أسود يعلوه كالحمار يدفن في العاج آبنوسا «1» ... ويولج الليل في النهار وقوله: في المرأة: [مخلع البسيط] قد أقبلت غولة الصبايا ... تنظر من معلم النقاب فقلت: من أعظم الرزايا ... قفل على منزل خراب أحسن ما كنت في عباة ... ملفوفة الراس في جراب «2» وقال: [الكامل] احفظ بنيّ وصيّتي واعمل بها ... فالطب مجموع بنصّ كلامي: قدّم على طب المريض عناية ... في حفظ قوّته مع الأيام بالشبه تحفظ صحة موجودة ... والضد فيه شفاء كل سقام أقلل نكاحك ما استطعت فإنه ... ماء الحياة يراق في الأرحام واجعل طعامك كل يوم مرة ... واحذر طعامك قبل هضم طعام لا تحقر المرض اليسير فإنه ... كالنار يصبح وهي ذات ضرام وإذا تغير منك حال ظاهر ... فاحتل لرجعة حل عقد نظام لا تهجرنّ القيء واهجر كل ما ... كيموسه «3» سبب إلى الأسقام

إن الحمى عون الطبيعة مسعد ... شاف من الأمراض والآلام لا تشربنّ عقيب أكل عاجلا ... أو تأكلنّ عقيب شرب مدام والقيء يقطع والقيام كلاهما ... بهما وليس بنوع كل قيام وخذ الدواء إذا الطبيعة كدّرت ... بالاحتلام وكثرة الأحلام إياك تلزم أكل شيء واحد ... فتقود نفسك للأذى بزمام وإذا الطبيعة منك نقّت باطنا ... فدواء ما في الجلد بالحمّام وتزيد في الأخلاط إن نقصت به ... زادت فنقص فضلها بقوام والطب جملته إذا حقّقته ... حلّ وعقد طبيعة الأجسام ولعقل تدبير المزاج فضيلة ... يشفى المريض بها وبالأوهام وهي تروى للرئيس ابن سينا، ولابن بطلان، والصحيح أنها لأبي المؤيد «1» .

21 - ابن الخطيب الرازي، ابن خطيب الري، وهو: محمد بن عمر بن الحسين، أبو عبد الله - الإمام فخر الدين

ومنهم: 21- ابن الخطيب الرّازيّ، ابن خطيب الرّيّ، وهو: محمّد بن عمر بن الحسين، أبو عبد الله- الإمام فخر الدّين «13» حبر الأعلام، وبحر الكلام، طالما أغضّ المناظر، وخصّ بالعجب كل ناظر، وقطف الكلام منوّرا، وجلا سدف «1» الظلام منورا، ونظر في كل فنّ، وحضر له تحقيق في كل ظن، وجاء بحلية المناقب، وزينة النجوم الثواقب، وطاب بذكره

كل سمر، وصدق منه حديث ابن عمر. هذا إلى توقير الملوك لجنابه، وتوفير خاطره الذي لو شاء لجنى به، وتعظيم حلّ به الذّرى، وحلّي ببعضه الورى، وخلى سهلا ما بين الثريا والثرى، لعلم قصّر من لببه، ومسك الناس بسببه، وجال ما بين الخافقين وجاب به، فامتدت الجداول من منبعه، وعدّت يد الأنواء دون إصبعه، وسرى صيته والرياح رواكد، وشرّق في البلاد وغرّب والنجوم إلى الصباح رواصد، وقطع في التصانيف النافعة شقق الأيام العريضة، وجعل جناح النسر في الليالي الطوال مثل جناح البعوضة، حتى طافت الأقطار وطارت في كل مطار، وهاهي الآن ملتزمة في الأيدي مثل خطوط الراح، وفي نظر العيون مثل فلق الصباح. وحدّثني شيخنا قاضي القضاة جلال الدين القزويني «1» - وقد جرى ذكره- قال: كانت الملوك تتقي حدّ لسانه، حتى احتاج صاحب الألموت إلى إعمال الحيلة في مداراته، وتسبب لمال قبله منه، وأخافه لاستصلاح خاطره، لأنه كان لا يزال يبحث في فساد عقيدته، وتزييف أقواله، فينفر الناس عن دعاته، ويرد بالحرمان مساعي سعاته. وإذا كان هذا فعله بصاحب الألموت، وهو الذي كان من عاداه يموت، فكيف

كان من يتهيّب الآجال، وما عنده إلا نساء في زيّ رجال؟!. ذكره ابن أبي أصيبعة فقال:" أفضل المتأخرين، وسيد الحكماء المتقدمين «1» ، قد أشرعت سيادته، واشتهرت في الآفاق مصنفاته وتلامذته، وكان إذا ركب يمشي حوله ثلاثمائة تلميذ من الفقهاء، وغيرهم. وكان خوارزم شاه يأتي إليه. وكان ابن الخطيب شديد الحرص على تحصيل العلوم الشرعية والحكمية. جيد الفطرة، حادّ الذهن، حسن العبارة، كثير البراعة، قويّ النظر في منازع الطب «2» ومباحثه، عارفا بالأدب وشعوبه، وله شعر بالعربي والفارسي. وكان عبل «3» البدن، ربع القامة، كبير اللحية، وكان في صوته فخامة. وكان يخطب في بلده الري، وغيرها من البلاد، ويتكلم على المنبر بأنواع من الحكمة. وكان الناس يقصدونه من البلاد، ويهاجرون إليه من كل ناحية على اختلاف مطالبهم في العلوم، وتفننهم فيما يشتغلون به، فكان كل منهم يجد عنده النهاية القصوى فيما يرومه «4» وكان الإمام فخر الدين قد قرأ الحكمة على مجد الدين الجيلي، بمراغة، وكان مجد الدين هذا من الأفاضل العظماء في زمانه، وله تصانيف جليلة «5» وحكى لنا القاضي شمس الدين الخوئي، عن الشيخ فخر الدين ابن الخطيب أنه قال: والله إني لأتأسف في الفوات عن الاشتغال بالعلم في وقت الأكل، فإن الوقت والزمان عزيز «6»

وحدثني محيي الدين قاضي مرند «1» قال: كان الشيخ فخر الدين بمرند أقام بالمدرسة التي كان أبي مدرّسها، وكان يشتغل عنده بالفقه، ثم اشتغل بعد ذلك لنفسه بالعلوم الحكمية، وتميّز حتى لم يكن أحد يضاهيه، واجتمعت به أيضا بهمدان [وهراة] «2» ، واشتغلت عليه. قال: وكان لمجلسه جلالة عظيمة، وكان يتعاظم حتى على الملوك، وكان إذا جلس للتدريس يكون قريبا منه جماعة من تلاميذه الكبار، مثل: زين الدين الكشي، والقطب [المصري] «3» ، وشهاب الدين النيسابوري، ثم يليهم بقية التلامذة، وسائر الخلق على قدر مراتبهم، فكان من يتكلم في شيء من العلوم يباحثونه أولئك التلامذة الكبار، فإن جرى بحث مشكل أو معنى غريب شاركهم الشيخ فيما هم فيه، ويتكلم في ذلك المعنى بما يفوق الوصف «4» وحدّثني شمس الدين محمد الوتار الموصلي قال: كنت في بلد هراة «5» في سنة ست وستمائة، وقد كان قصدها فخر الدين ابن الخطيب من بلد" باميان" «6» وهو في أبّهة عظيمة، وحشم كبير، فلما ورد إليها تلقّاه السلطان

بها، وهو حسين بن خرمين، وأكرمه إكراما كثيرا، ونصب له بعد ذلك منبرا وسجادة في صدر الإيوان «1» ليجلس في ذلك الموضع، ويكون له يوم مشهود يراه فيه سائر الناس، ويسمعون كلامه. وكنت ذلك اليوم حاضرا مع جماعة من الناس، وإلى جانبي شرف الدين ابن عنين «2» ، الشاعر- رحمه الله-، وذلك المجلس حفل جدا بكثرة الناس، والشيخ فخر الدين في صدر الإيوان، وعن جانبيه يمنة ويسرة صفان من مماليكه الترك متكئين على السيوف، وجاء إليه السلطان حسين بن خرمين- صاحب هراة- فسلّم، وأمره الشيخ بالجلوس إلى جانبه، أو قريبا منه، وجاء إليه أيضا السلطان محمود ابن أخت شهاب الدين الغوري صاحب فيروز كوه «3» فسلّم، وأشار إليه الشيخ بالجلوس في موضع آخر قريبا

منه من الناحية الأخرى، وتكلم الشيخ في النفس بكلام عظيم، وفصاحة بليغة. قال: وبينما نحن عنده في ذلك الوقت، وإذا بحمامة تدور في الجامع، وخلفها صقر يكاد أن يقتنصها، وهي تطير في جوانب الجامع، إلى أن أعيت، فدخلت الإيوان الذي فيه الشيخ، ومرت طائرة بين الصفين إلى أن رمت بنفسها عنده. فذكر لي شرف الدين ابن عنين أنه عمل شعرا على البديهة، ثم نهض لوقته واستأذنه في أن يورد ما قاله في المعنى. فأمره الشيخ [بذلك] فقال: [الكامل] جاءت سليمان الزمان بشكوها «1» ... والموت يلمع من جناحي خاطف من نبّأ الورقاء أن محلّكم ... حرم «2» وأنك ملجأ للخائف؟ فطرب لها الشيخ فخر الدين، وأدناه وأجلسه قريبا منه، وبعث إليه بعد ما قام من مجلسه خلعة كاملة، ودنانير كثيرة، وبقي دائما يحسن إليه. قال لي شمس الدين الوتّار: لم ينشد قدامي لابن خطيب الري سوى هذين البيتين، وإنما بعد ذلك زاد فيها أبياتا أخر، هذا قوله. وقد وجدت هذه الأبيات المزادة في ديوانه على هذا المثال: [الكامل] يا ابن الكرام المطعمين إذا شتووا ... في كل مخمصة وثلج خاشف «3» العاصمين إذا النفوس تطايرت ... بين الصوارم والوشيج الراعف

من نبّأ الورقاء أن محلّكم ... حرم وأنك ملجأ للخائف وفدت إليك وقد تدانى حتفها ... فحبوتها ببقائها المستأنف ولو انها تحبى بمال لانثنت ... من راحتيك بنائل متضاعف جاءت سليمان الزمان بشكوها ... والموت يلمع من جناحي خاطف قرم «1» لواه القوت حتى ظلّه ... بإزائه يجري بقلب واجف «2» قال: ومما حكاه شرف الدين ابن عنين أنه حصل من جهة فخر الدين ابن خطيب الري، وبجاهه، في بلاد العجم نحو ثلاثين ألف دينار. وقال: ومن شعره فيه قوله، وسيّرها إليه من نيسابور إلى هراة: [الكامل] ريح الشمال عساك أن تتحمّلي ... خدمي إلى صدر الإمام الأفضل وقفي بواديه المقدس وانظري ... نور الهدى متألّقا لا يأتلي «3» من دوحة فخرية عمرية ... طابت مغارس مجدها المتأثّل «4» مكيّة الأنساب زاك أصلها ... وفروعها فوق السماك الأعزل «5» واستمطري جدوى لديه فطالما ... خلف الحيا في كل عام ممحل «6» تغدو سحائبها تعمّ كما بدت «7» ... لا يعرف الوسمي منها والولي «8»

بحر تصدّر للعلوم ومن رأى ... بحرا تصدّر قبله في محفل؟ ومتيم «1» في الله يسحب للتقى ... والدين سربال «2» العفاف المسبل ماتت به بدع تمادى عمرها ... دهرا وكان ظلامها لا ينجلي فعلا به الإسلام أرفع هضبة ... ورسا سواه في الحضيض الأسفل غلط امرؤ بأبي عليّ «3» قاسه ... هيهات قصّر عن مداه أبو علي لو أن رسطاليس «4» يسمع لفظة ... من لفظه لعرته هزّة أفكل «5» ويحار بطليموس لو لاقاه من ... برهانه في كل شكل مشكل «6» فلو انهم جمعوا لديه تيقّنوا ... أن الفضيلة لم تكن للأول وبه يبيت الحلم معتصما إذا ... هزّت رياح الطيش صفحة «7» يذبل «8» يعفو عن الذنب العظيم تكرما ... ويجود مسئولا وإن لم يسأل أرضى الإله بفضله ودفاعه ... عن دينه وأقرّ عين المرسل يا أيها المولى الذي درجاته ... ترنو إلى فلك الثوابت من عل ما منصب إلا وقدرك فوقه ... فبمجدك الساميّ يهنى ما تلي فمتى أراد الله رفعة منصب ... أفضى إليك فنال أشرف منزل

لا زال ربعك «1» للوفود محطة «2» ... أبدا وجودك كهف كل مؤمّل «3» وحدثني نجم الدين يوسف بن شرف الدين علي بن محمد الأسفراييني قال: وكان الشيخ الإمام ضياء الدين عمر- والد الإمام فخر الدين- من الري، وتفقّه، واشتغل بعلم الخلاف «4» والأصول، حتى تميّز تميّزا كثيرا، وصار قليل المثل. وكان يدرّس بالري، ويخطب في أوقات معلومة هنالك، ويجمع عنده خلق كثير من حسن ما يورده في نطقه وبلاغته، حتى اشتهر بذلك بين الخاص والعام في تلك النواحي، وله تصانيف عدة توجد في الأصول، والوعظ، وغير ذلك. وخلّف ولدين أحدهما الإمام فخر الدين، والآخر: هو الأكبر سنا كان يلقب بالركن، وكان هذا الركن قد قرأ شيئا من الخلاف، والفقه، والأصول، إلا أنه كان أهوج كثير الاختلال، فكان أبدا لا يزال يسير خلف أخيه الإمام فخر الدين، ويتوجه إليه في أي بلد قصده، ويشنّع عليه، ويسفّه المشتغلين بكتبه، والناظرين في أقواله، ويقول: ألست أكبر منه؟ وأكثر معرفة بالخلاف والأصول؟، فلم يقول الناس فخر الدين، فخر الدين!!. ولا أسمعهم يقولون: ركن الدين، ركن الدين؟. وكان ربما صنف شيئا بزعمه، ويقول: هذا من كلام فخر الدين، والجماعة يعجبون منه، وكثير منهم يصفونه ويهزؤون منه. وكان الإمام فخر الدين كلما بلغه شيء من ذلك صعب عليه، ولم يؤثر أن

أخاه بتلك الحالة، ولا أحد يسمع قوله. وكان دائم الإحسان إليه، وربما يسأله المقام في الري، أو في غيره، وهو يتفقده، ويصله بكل ما يقدر عليه، فكان كلما سأله ذلك يزيد في فعله، ولا ينقص من حاله، ولم يزل كذلك لا ينقطع عنه، ولا يسكت عما هو فيه إلى أن اجتمع الإمام فخر الدين بالسلطان خوارزم شاه، وأنهى إليه حال أخيه، وما يقاسي منه، والتمس منه أن يتركه في بعض المواضع، ويوصي عليه أن لا يمكّن من الخروج والانتقال عن ذلك الموضع، وأن يكون له ما يقوم بكفايته من كل ما يحتاج. فجعله السلطان في بعض القلاع التي له، وأطلق له إقطاعا يقوم به كل سنة بما مبلغه ألف دينار، ولم يزل هناك مقيما حتى قضى الله فيه أمره «1» . قال: وكان الإمام فخر الدين علّامة وقته في كل العلوم، وكان الخلق يأتون إليه من كل ناحية، وكان الخطيب أيضا بالري، وكان له مجلس عظيم للتدريس، فإذا تكلم بزّ القائلين، وكان عبل البدن باعتدال، عظيم الصدر والرأس، كثّ اللحية، ومات وهو في سن الكهولة، أشمط «2» شعر اللحية، وكان كثيرا ما يذكر الله تعالى ويستغفره، ويسأله الرحمة والقبول، والتجاوز عن زلله، ويقول: إنني حصلت من العلوم ما يمكن تحصيله بحسب الطاقة البشرية، وما بقيت أوثر إلا لقاء الله تعالى، والنظر إلى وجهه الكريم. قال: وخلّف فخر الدين ولدين ذكورا؛ أكبرهما: يلقب بضياء الدين، وله اشتغال ونظر في العلوم. والآخر:- وهو الصغير- لقبه: شمس الدين، وله فطرة فائقة، وذكاء حاذق، وكان كثيرا ما يصفه الإمام فخر الدين بالذكاء ويقول:" إن عاش هذا فإنه يكون أعلم مني! ". وكانت النجابة تتبين فيه من الصغر.

ولما توفي الإمام فخر الدين بقيت أولاده مقيمين في هراة، ولقب ولده الصغير بعد ذلك فخر الدين، لقب والده. وكان الوزير علاء الملك العلوي متقلدا لوزارة السلطان خوارزم شاه، وكان علاء الملك عالما فاضلا متقنا لعلوم الأدب، ويشعر «1» بالعربية والفارسية، وكان قد تزوج بابنة الشيخ فخر الدين، ولما جرى أن" جنكيز خان" ملك التتار قهر خوارزم شاه، وكسره، وقتل أكثر عسكره، وفقد خوارزم شاه، توجه علاء الملك قاصدا إلى جنكيز خان، ومعتصما به، فلما وصل إليه أكرمه، وجعله من جملة خواصّه. وعندما استولى التتار على بلاد العجم، وخربوا قلاعها ومدنها، وكانوا يقتلون في كل مدينة من بها، ولا يبقون أحدا بها. تقدم علاء الملك إلى جنكيز خان، وقد توجّهت فرقة من عساكره إلى مدينة هراة، ليخربوها، ويقتلوا من بها. فسأله أن يعطيه أمانا لأولاد الشيخ فخر الدين ابن خطيب الري. وأن يجيئوا بهم مكرّمين إليه. فوهب لهم ذلك وأعطاهم أمانا. ولما ذهب أصحابه إلى هراة وشارفوا أخذها، نادوا فيها بأن لأولاد فخر الدين ابن الخطيب الأمان، فلينعزلوا ناحية في مكان، ويكون هذا الأمان معهم. وكان في هراة دار الشيخ فخر الدين هي دار السلطنة، كان خوارزم شاه قد أعطاها له، وهي أعظم دار تكون وأكبرها، وأبهاها زخرفة واحتفالا. فلما بلغ أولاد فخر الدين ذلك أقاموا بها مأمونين، والتحق بهم خلق كثير من أهاليهم، وأقربائهم، وأعيان الدولة، وكبراء البلد، وجماعة كثير من الفقهاء، وغيرهم، ظنا أن يكونوا في أمان لاتصالهم بأولاد فخر الدين، ولكونهم خصيصين بهم، وفي دارهم، وكانوا خلقا عظيما. فلما دخل التتار إلى البلاد وقتلوا من وجدوا بها، وانتهوا إلى الدار، نادوا بأولاد فخر الدين أن يروهم. فلما شاهدوهم أخذوهم

وهم: ضياء الدين، وشمس الدين، وأختهم. ثم شرعوا بسائر من كان في الدار، فقتلوهم عن آخرهم بالسيف، وتوجهوا بأولاد الشيخ فخر الدين من هراة إلى سمرقند، لأن ملك التتار جنكيز خان في ذلك الوقت بها، وعنده علاء الملك. قال: ولست أعلم ما تم لهم بعد ذلك. قال: وكان أكثر مقام الشيخ- رحمه الله تعالى- بالري، وتوجه أيضا إلى بلد خوارزم، ومرض بها، وتوفي في عقابيله ببلدة هراة. وأملى في شدة مرضه وصية على تلميذه إبراهيم بن أبي بكر بن علي الأصفهاني، وذلك في يوم الأحد الحادي والعشرين من شهر المحرم سنة ست وستمائة، وامتدّ مرضه إلى أن توفي يوم العيد غرة شوال من السنة المذكورة. وانتقل إلى جوار ربه- رحمه الله تعالى-، وهذه نسخة الوصية: بسم الله الرحمن الرحيم يقول العبد الراجي رحمة ربه، الواثق بكرم مولاه، محمد بن عمر بن الحسين الرازي، وهو في آخر عمره وعهده بالدنيا، وأول عهده بالآخرة، وهو الوقت الذي يلين فيه كل قاس، ويتوجّه إلى مولاه كل آبق: إني أحمد الله تعالى بالمحامد التي ذكرها أعظم ملائكته في أشرف أوقات معارجهم، ونطق بها أعظم أنبيائه في أكمل أوقات مشاهدتهم «1» ، بل أقول كل ذلك من نتائج الحدوث والإمكان. فأحمده بالمحامد التي تستحقها إلاهيته «2» ، ويستوجبها لكمال ألوهيته،

عرفتها أو لم أعرفها، لأنه لا مناسبة للتراب مع جلال رب الأرباب. وأصلي على الملائكة المقربين، والأنبياء والمرسلين، وجميع عباد الله الصالحين، ثم أقول بعد ذلك: اعلموا إخواني في الدين، وإخواني في طلب اليقين!، أن الناس يقولون إن الإنسان إذا مات انقطع تعلقه عن الخلق، وهذا العام مخصوص من وجهين: الأول: أنه إن بقي منه عمل صالح صار ذلك سببا للدعاء، والدعاء له أثر عند الله تعالى. والثاني: ما يتعلق بمصالح الأطفال، والأولاد، والمعارف، وأداء المظالم والجنايات. أما الأول: فاعلم أنني كنت رجلا محبا للعلوم، فكنت أكتب في كل شيء شيئا لا أقف على كميته، وكيفيته، سواء كان حقا أو باطلا، أو غثا، أو سمينا. إلا أن الذي نظرته في الكتب المعتبرة لي أن هذا العالم محسوس تحت تدبير مدبّر منزّه عن مماثلة المتحيزات، والأعراض، وموصوف بكمال القدرة والعلم والرحمة. وقد اختبرت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيت فيها فائدة تساوي الفائدة التي وجدتها في القرآن [العظيم] ، لأنه يسعى في تسليم العظمة والجلال بالكلية لله، ويمنع عن التعمق في إيراد المعارضات والمناقضات، وما ذاك إلا العلم بأن العقول البشرية تتلاشى وتضمحل في تلك الأودية العميقة، والمناهج الخفية، فلهذا أقول:- كل ما ثبت بالدلائل الظاهرة من وجوب وجوده ووحدته، وبراءته عن الشركاء في القدم، والأزلية، والتدبير، والفعالية، فذاك هو الذي أقول به، وألقى الله تعالى به، وأما ما انتهى الأمر فيه إلى الدقة والغموض، فكل ما ورد في

القرآن، والأخبار الصحيحة المتفق عليها بين الأمة، المتبعين للمعنى الواحد، فهو كما هو، والذي لم يكن كذلك أقول: يا إله العالمين! إني أرى الخلق مطبقين على أنك أكرم الأكرمين، وأرحم الراحمين، فلك ما مرّ به قلمي «1» ، وخطر ببالي، فأستشهد علمك، وأقول: إن علمت مني أني أردت به تحقيق باطل، أو إبطال حق، فافعل بي ما أنا أهله. وإن علمت مني أني ما سعيت إلا في تقرير ما اعتقدت أنه هو الحق، وتصوّرت أنه هو الصدق، فلتكن رحمتك معي، فذلك جهد المقل، وأنت أكرم من أن تضايق الضعيف الواقع في الزلة. فأعني، وارحمني، واستر زلتي، وامح حوبتي، يا من لا يزيد ملكه عرفان العارفين، ولا ينتقص بخطإ المجرمين!. وأقول: ديني متابعة سيد المرسلين محمد خاتم النبيين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين. وكتابي: هو القرآن العظيم، وتعويلي في طلب الدين عليهما. اللهم! يا سامع الأصوات، ويا مجيب الدعوات، ويا مقيل العثرات، ويا راحم العبرات، ويا قيّام المحدثات والممكنات!!، أنا كنت حسن الظن بك، عظيم الرجاء في رحمتك، وأنت قلت: (أنا عند ظن عبدي بي) «2»

وأنت قلت: [أمّن يجيب المضطر إذا دعاه] «1» وأنت قلت: [وإذا سألك عبادي عني فإني قريب] «2» . وهب أني ما جئت بشيء فأنت الغني الكريم، وأنا المحتاج اللئيم، وأعلم أنه ليس لي أحد سواك، ولا أجد أكرم منك، ولا أجد محسنا سواك، وأنا معترف بالزلة والقصور، والعيب والفتور، فلا تخيب رجائي، ولا تردّ دعائي، واجعلني آمنا من عذابك قبل الموت، وعند الموت، وبعد الموت، وسهّل عليّ سكرات الموت، ولا تضيّق عليّ سبب الآلام والأسقام، فأنت أرحم الراحمين". وأما الكتب العلمية التي صنفتها، أو استكثرت من إيراد السؤالات على المتقدمين فيها؛ فمن نظر في شيء منها، فإن طابت له تلك السؤالات فليذكرني في صالح دعائه على سبيل التفضل والإنعام، وليحذف القول السيئ، فإني ما أردت إلا تكثير البحث، وتشحيذ الخواطر، والاعتماد في الكل على الله تعالى. وأما المهم الثاني: وهو إصلاح أمر الأطفال، والعورات، والاعتماد فيه على الله تعالى، ثم على نائبه في أرضه السلطان محمد- اللهم اجعله قرين محمد الأكبر في الدين والعلو- إلا أن السلطان الأعظم لا يمكنه أن يشتغل بمهمات الأطفال، فرأيت أن أفوّض وصاية ولديّ إلى- فلان- وأمرته بتقوى الله تعالى، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون" وسرد الوصية إلى آخرها «3»

ثم قال: وأوصيه، ثم أوصيه، ثم أوصيه بأن يبالغ في تربية ولدي أبي بكر، فإن آثار الذكاء والفطنة ظاهرة عليه، ولعلّ الله تعالى يوصله إلى خير. وأمرته وأمرت تلامذتي وكل من لي عليه الحق، أني إذا متّ يبالغون في إخفاء موتي، ولا يخبرون أحدا به، ويكفنوني، ويدفنوني على الوجه الشرعي، ويحملونني إلى الجبل المصاقب لقرية مزداخان «1» ، ويدفنوني هناك، وإذا وضعوني في اللحد قرؤوا عليّ ما قدروا عليه من الهبات القرآن، ثم ينثرون عليّ التراب بعد الإتمام، ويقولون: يا كريم! جاءك الفقير المحتاج إليك، فأحسن إليه". وهذا منتهى وصيتي من هذا الباب، والله تعالى الفعّال لما يشاء وهو على ما يشاء قدير، وبالإجابة وبالإحسان جدير". ومن شعر فخر الدين ابن الخطيب: أنشدني بديع الدين البندهي مما سمعه من الشيخ فخر الدين ابن خطيب الري لنفسه، فمن ذلك قال: [الطويل] نهاية إقدام العقول عقال ... وأكثر سعي العالمين ضلال وأرواحنا في غفلة من جسومنا ... وحاصل دنيانا أذى ووبال ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه: قيل وقالوا وكم قد رأينا من رجال ودولة ... فبادوا جميعا مسرعين وزالوا وكم من جبال قد علت شرفاتها ... فزالوا جميعا والجبال جبال «2»

وقال [الطويل] فلو قنعت نفسي بميسور بلغة ... لما سبقت في المكرمات رجالها ولو كانت الدنيا مناسبة لها ... لما استحقرت نقصانها وكمالها ولا أرمق الدنيا بعين كرامة ... ولا أتوقّى سوءها واختلالها وذلك أني عارف بفنائها ... ومستيقن ترحالها وانحلالها أروم أمورا يصغر الدهر عندها ... وتستعظم الأفلاك طرا وصالها وقال أيضا [البسيط] أرواحنا ليس ندري أين مذهبها ... وفي التراب توارى هذه الجثث كون يرى وفساد جاء يتبعه ... الله أعلم، ما في خلقه عبث «1»

22 - القطب المصري وهو: إبراهيم بن علي بن محمد السلمي أبو إسحاق

ومنهم: 22- القطب المصريّ وهو: إبراهيم بن عليّ بن محمّد السّلميّ أبو إسحاق «13» الإمام قطب الدين، وكان قطب دائره، ومركز شهب سائره، ومظهر عجائب، ومشهر غرائب، ومبين فضائل، ومفنن خمايل، وآية فضل تدرس ومعالمها واضحة، وعلومها ناضحة، وهو- وإن كان من الغرب مرماه- فإن في المشرق منماه وهكذا صاحب تاريخ الأطباء سماه، وما عدا في هذا واجبا، ولا نكب عن الحق جانبا، إذ كان إنما استفاد المشرق، وغاية العلم الذي به ذكر، والفضل الذي عليه قصر. قال ابن أبي أصيبعة:" أصله مغربي، وأتى مصر، وأقام بها مدة، ثم سافر إلى بلاد العجم، ولقي الإمام الرازي فلزمه، واشتغل عليه، واشتهر هناك، وكان من أجلّ تلاميذ ابن الخطيب وأميزهم. وصنف كتبا كثيرة في الطب والحكمة، وشرح الكليات بأسرها «1» ، قال: " ووجدته في كتابه هذا يفضّل المسيحي وابن الخطيب على ابن سينا". وهذا نص قوله، [قال] " والمسيحي أعلم بصناعة الطب من أبي علي، فإن مشايخنا كانوا يرجحونه على جمع عظيم ممن هم أفضل من أبي علي في هذا الفن". وقال أيضا:" عبارة المسيحي أوضح وأبين مما قاله الشيخ، وغرضه في كتبه

23 - عبد اللطيف البغدادي

تقييد العبارة من غير فائدة". وقال في تفضيل ابن الخطيب على ابن سينا:" فهذا مما تنخّل من كلام الإمامين الفاضلين العظيمين، الإمام المتقدم، والإمام المتأخر عنه زمانا، الراجح عليه علما وعملا، واعتقادا، ومذهبا". وقتل القطب المصري في نيسابور فيمن قتله التتار بها «1» «رحمه الله تعالى» . ومنهم: 23- عبد اللّطيف البغدادي «13» هو ابن يوسف محمد بن علي بن أبي سعد «2» ، عرف بابن اللبّاد، موفق الدين، أبو محمد، الموصلي الأصل، البغدادي المولد، ويعرف بالجدي المطجّن «3»

مسرح أمل، ومطمح علم وعمل، وزينة أرض ما هي في السماء لجدي ولا حمل، ناجح جديه الكباش فكسرها، ومزّقها بظلفه «1» ونشرها، إلى أن أخلى منها المظان، وأبدل بسواد المعز بياض الضّان. وأعطاه أهل زمانه حقه في التعظيم، وناظر كل قرين، وهو الجدي، وغيره الذي سمط «2» ، فهادنته جناة الذئاب، وهابته جناة القرظ «3» ، وطال عليهم الإياب. وجال في الجيل الأول وقد شمخ بقرنه، وسمج لقرنه، وجلّ فلم ينتسب إليه كل عنزي من عنزة، ولا حسب كفؤا لقرنه كبش كتيبة ولا جديد عنزة، وأنسي كل من تقدمه هديا، وفخر به كل بلد قدمه وقدمت دمشق جديا، وعلم العلم أنه له منتصب، وقامت قامة بلده وقد قيل لها حدبا لأنها تصحيفه إذا نصب. قال ابن أبي أصيبعة:" كان مشهورا بالعلوم، متحليا بالفضائل، مليح العبارة، جيد «4» التصنيف، وكان متميزا في النحو واللغة، والعربية، عارفا بعلم الكلام، والطب. وكان قد اعتنى كثيرا بصناعة الطب لما كان بدمشق، واشتهر بعلمها، وكان يتردد إليه جماعة من التلاميذ، وغيرهم من الأطباء، للقراءة عليه، وكان والده قد أشغله بصناعة «5» الحديث في صباه. وكان يوسف والد الشيخ موفق الدين مشتغلا بعلم الحديث، بارعا في علوم

القرآن، والقراءات، محمودا في المذهب والخلاف، والأصول. وكان سليمان عم الشيخ موفق الدين [فقيها مجيدا، وكان الشيخ موفق الدين] «1» عبد اللطيف كثير الاشتغال، لا يخلي وقتا من أوقاته من النظر في الكتب، والتصنيف والكتابة. والذي وجدته من خطّه أشياء كثيرة جدا، بحيث أنه يكتب من مصنفاته نسخا متعددة، وكذلك أيضا كتب كتبا كثيرة من تصانيف الفقهاء. وكان صديقا لجدّي، وبينهما صحبة أكيدة بالديار المصرية لما كان بها، وكان أبي وعمي اشتغلا عليه بعلم الأدب، واشتغل عليه عمي أيضا بكتب أرسطوطاليس، وكان الشيخ موفق الدين كثير العناية بها، والفهم لمعانيها. وأتى إلى دمشق من الديار المصرية، وأقام بها مدة، وكثر انتفاع الناس بعلمه. ورأيته في آخر مرة بدمشق وهو شيخ نحيف الجسم، ربع القامة، حسن الكلام، جيد العبارة، وكانت مسطرته أبلغ من لفظه. وكان- رحمه الله تعالى- ربما تجاوز في الكلام لكثرة ما يرى في نفسه. وكان يتنقّص الفضلاء الذين في زمانه، وكثيرا من المتقدمين. وكان وقوعه كثيرا جدا في علماء العجم ومصنفاتهم، وخصوصا الشيخ الرئيس ابن سينا ونظرائه. ونقلت من خطّه في سيرته التي ألّفها ما هذا مثاله، قال:" إني ولدت بدار لجدي في درب الفالوذج، في سنة سبع وخمسين وخمسمائة، وتربيت في حجر الشيخ [أبي النجيب] لا أعرف اللهو واللعب، وأكثر زماني مصروف في سماع الحديث، وأخذت لي إجازات من مشايخ بغداد، وخراسان، والشام، ومصر. وقال لي والدي يوما: قد سمّعتك جميع عوالي بغداد، [وألحقتك في الرواية

بالشيوخ، وكنت في أثناء ذلك] أتعلم الخط، وأحفظ القرآن، والفصيح، والمقامات، وديوان المتنبي، ونحو ذلك، ومختصرا في الفقه، ومختصرا في النحو. فلما ترعرعت، حملني والدي إلى كمال الدين عبد الرحمن الأنباري «1» ، وكان يومئذ شيخ بغداد، وله بوالدي صحبة قديمة أيام التفقه بالنظامية «2» ، فقرأت عليه خطبة الفصيح «3» ، فهذّ «4» كلاما كثيرا متتابعا لم أفهم منه شيئا، لكن التلاميذ حوله تعجبوا منه. ثم قال: أنا أجفو عن تعليم الصبيان. احمله إلى تلميذي الوجيه

[الواسطي، يقرأ عليه، فإذا توسطت حاله يقرأ عليّ. وكان الوجيه] «1» عند بعض أولاد الرؤساء، وكان رجلا أعمى من أهل الثروة والمروءة، فأخذني بكلتي يديه، وجعل يعلمني من أول النهار إلى آخره بوجوه كثيرة من التلطف. وكنت أحضر بحلقته بمسجد المظفرية، ويجعل جميع الشروحات لي، ويخاطبني بها. وفي آخر الأمر أقرأ درسي، ويخصني بشرحه، ثم نخرج من المسجد فيذاكرني في الطريق، فإذا بلغنا منزله، أخرج الكتب التي يشتغل بها مع نفسه، فأحفظ له، وأحفظ معه، ثم يذهب إلى الشيخ كمال الدين فيقرأ درسه، ويشرح له، وأنا أسمع. وتخرّجت إلى أن صرت أسبقه في الحفظ والفهم، وأصرف أكثر الليل في الحفظ والتكرار. وأقمنا على ذلك برهة، كلما جاء حفظي كثر وزاد، وفهمي قوي واستنار، وذهني احتدّ واستقام، وأنا ألازم الشيخ، وشيخ الشيخ. وأول ما بدأت حفظت:" اللمع" «2» في ثمانية أشهر، أسمع كل يوم شرح أكثرها، مما يقرؤه غيري، وأنقلب إلى بيتي فأطالع شرح [الثمانيني] ، الفارسي، وشرح الشريف عمر بن حمزة، وشرح ابن برهان، وكل ما أجد من شروحها، وأشرحها لتلاميذ يختصون بي «3» ، إلى أن صرت أتكلم على كل باب كراريس، ولا ينفد ما عندي. وحفظت:" أدب الكاتب" لابن قتيبة «4» ، حفظا متقنا، أما النصف الأول؛

ففي شهور. وأما تقويم اللسان: ففي أربعة عشر يوما، لأنه كان أربع عشرة كراسة. ثم حفظت:" مشكل القرآن" له، و" غريب القرآن" له. وكان ذلك في مدة يسيرة. ثم انتقلت إلى:" الإيضاح" لأبي علي الفارسي «1» ، فحفظته في شهور كثيرة، ولازمت شروحه، وتتبعته التتبع التام، وتبحّرت فيه، وجمعت ما قال الشّرّاح. وأما" التكملة" «2» فحفظتها في أيام يسيرة، كل يوم كراسا. وطالعت الكتب المبسوطة، والمختصرات. وواظبت على" المقتضب" «3» للمبرد، وكتاب ابن درستويه «4» في أثناء

ذلك، لا أغفل عن سماع الحديث والفقه على شيخنا ابن فضلان، بدار الذهب، وهي مدرسة معلقة بناها فخر الدولة بن المطلب. قال:" وللشيخ كمال الدين مائة تصنيف وثلاثون تصنيفا، أكثرها في النحو، وبعضها في الفقه، والأصولين، وفي التصوف، والزهد، وأتيت على أكثر تصانيفه؛ سماعا وقراءة، [وحفظا] . وشرع في تصنيفين كبيرين؛ أحدهما في اللغة، والآخر في الفقه، ولم يتفق له إتمامهما. وحفظت عليه طائفة من كتاب سيبويه، وأكببت على المقتضب فأتممته «1» وبعد وفاة الشيخ تجرّدت لكتاب سيبويه، ولشرحه للسيرافي «2» ثم قرأت على أبي عبيدة الكرخي كتبا كثيرة، منها: كتاب" الأصول" لابن السراج «3» ، والنسخة في وقف ابن الخشاب برباط المأمونية. وقرأت عليه الفرائض، والعروض، للخطيب التبريزي «4» ، وهو من خواص تلاميذ ابن

الشجري. وأما ابن الخشّاب «1» : فسمعت بقراءته" معاني الزجّاج"، على الكاتبة شهدة بنت الأبري، وسمعت منه الحديث المسلسل وهو:" الراحمون يرحمهم الرحمن ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء" «2» وقال أيضا موفق الدين البغدادي:" إن من مشايخه الذين انتفع بهم- كما زعم- ولد أمين الدولة ابن التلميذ، وبالغ في وصفه، وكثر. وهذا لكثرة تعصبه للعراقيين وإلا فولد أمين الدولة لم يكن بهذه المثابة، ولا قريبا منها". وقال:" إنه ورد إلى بغداد رجل مغربي طوال في زي التصوف، له أبّهة وليس بمقبول الصورة، عليه مسحة الدين، وهيئة السياحة، ينفعل لصورته من رآه [قبل أن يخبره] ، يعرف بابن نائلي، يزعم أنه من أولاد المتلثمة، خرج من

المغرب لما استولى عليها عبد المؤمن، فلما استقرّ ببغداد واجتمع عليه جماعة من الأكابر والأعيان، وحضره الرضي القزويني «1» ، وشيخ الشيوخ [ابن سكينة «2» ] «3» . وكنت واحدا ممن حضره فأقرأني مقدمة الحساب، ومقدمة ابن بابشاذ في النحو، وكان له طريق في التعليم عجيب، ومن يحضره يظن أنه متبحر، وإنما كان متطرفا، لكنه قد أمعن في كتب الكيمياء، والطّلسمات «4» ، وما جرى

مجراها. وأتى على كتب جابر «1» بأسرها، وعلى كتب ابن وحشية «2» وكان يجلب القلوب بصورته ومنطقه، وإيهامه. فملأ قلبي شوقا إلى العلوم كلها، واجتمع بالإمام الناصر لدين الله، وأعجبه، ثم سافر، وأقبلت على الاشتغال، وشمّرت ذيل الجد والاجتهاد، وهجرت النوم واللذات، وأكببت على كتب الغزالي «3» :" المقاصد، والمعيار، والميزان، ومحك النظر". ثم انتقلت إلى كتب ابن سينا؛ صغارها وكبارها، وحفظت كتاب" النجاة"، وكتبت" الشفاء"، وبحثت فيه. وحصلت كتاب" التحصيل" لبهمنيار- تلميذ ابن سينا-. وحصلت كثيرا من كتب جابر بن حيان الصوفي، وابن وحشية، وباشرت عمل «4» الصنعة الباطلة، وتجارب الضلال الفارغة، وأقوى من أضلّني ابن سينا

بكتابه في الصنعة، الذي تمم به فلسفته التي لا تزداد بالتمام إلا نقصا! ". قال:" ولما كان في سنة خمس وثمانين وخمسمائة، حيث لم يبق ببغداد من يأخذ بقلبي ويملأ عيني، ويحل ما يشكل عليّ، دخلت الموصل فلم أجد فيها بغيتي، لكن وجدت الكمال ابن يونس «1» جيدا في الرياضيات، والفقه، متطرفا في باقي أجزاء الحكمة، قد استغرق عقله وحسه حب «2» الكيمياء، وعملها، حتى صار يستخف ما عداها. واجتمع إليّ جماعة كثيرة، وعرضت عليّ مناصب؛ فاخترت منها مدرسة ابن مهاجر المعلقة، ودار الحديث [التي] تحتها. وأقمت بالموصل سنة كاملة في اشتغال دائم متواصل ليلا ونهارا، وزعم أهل الموصل أنهم لم يروا أحدا من قبلي مثل ما رأوا مني، في سعة المحفوظ، وسرعة الخاطر، وسكون الطائر. وسمعت الناس يلهجون في حديث الشهاب السهروردي «3» المتفلسف،

ويعتقدون أنه قد فاق الأولين والآخرين، وأن تصانيفه فوق تصانيف القدماء، فهممت لقصده، ثم أدركني التوفيق وطلبت من ابن يونس شيئا من تصانيفه، وكان أيضا معتقدا عليه؛ فوقفت على:" التلويحات، واللمحة، والمعارج"، فصادفت فيها ما يدل على جهل أهل الزمان، ووجدت لي تعاليق كثيرة لا أرتضيها هي خير من كلام هذا [الأنوك «1» ] «2» .! وفي أثناء كلامه يثبت حروفا مقطعة يوهم بها أمثاله أنها أسرار إلهية! ". قال:" ولما دخلت دمشق وجدت فيها من أعيان بغداد والبلاد ممن جمعهم الإحسان الصلاحي، جمعا كثيرا، منهم:- جمال الدين عبد اللطيف، ولد الشيخ أبي النجيب «3» ، وجماعة بقيت من بيت رئيس الرؤساء. وابن طلحة الكاتب «4» ، وبيت ابن جهير «5» ، وابن العطار المقتول الوزير.

واجتمعت بالكندي البغدادي النحوي «1» ، وجرى بيننا مباحثات، وكان شيخا ذكيا، مثريا، له جانب من السلطان «2» ، لكنه كان معجبا بنفسه، مؤذبا لجليسه، وجرت بيننا مباحثات فأظهرني الله تعالى عليه في مسائل كثيرة، ثم إني أهملت جانبه، فكان يتأذى بإهمالي له أكثر مما يتأذى الناس منه. وعملت بدمشق تصانيف جمّة، منها:" غريب الحديث" الكبير، جمعت فيه غريب أبي عبيد القاسم بن سلام، وغريب ابن قتيبة، وغريب الخطابي، وكنت ابتدأته بالموصل، وعملت له مختصرا سميته:" المجرّد"، وعملت كتاب:" الواضحة في إعراب الفاتحة" نحو عشرين كرّاسا. وكتاب:" ربّ" وكتابا في [الذات] والصفات الذاتية الجارية على ألسنة المتكلمين، وقصدت بهذه المسألة الرد على الكندي. ووجدت بدمشق الشيخ عبد الله بن بابلي «3» ، نازلا بالمئذنة الغربية، وقد عكف عليه جماعة. وتحدث الناس فيه؛ له، وعليه. وكان الخطيب الدولعي «4»

عليه، وكان من الأعيان، له منزلة، وناموس. ثم خلط ابن بابلي على نفسه، فأعان عدوه عليه، وصار يتكلم في الكيمياء والفلسفة، وكثر التشنيع عليه، واجتمعت به، وصار يسألني عن أعمال أعتقد أنها خسيسة، نزرة، فيعظمها، ويحتفل بها، ويكتبها مني، فكاشفته فلم أجده كما كان في نفسي، فساء به ظني، وبطريقته. ثم باحثته في العلوم، فوجدت عنده منها أطرافا نزرة، فقلت له يوما: لو صرفت زمانك الذي ضيّعته في طلب الصنعة إلى بعض العلوم الشرعية، أو العقلية، كنت اليوم فريد عصرك. مخدوما طول عمرك، وهذا هو الكيمياء، لا ما تطلبه. ثم اعتبرت بحاله، وانزجرت بسوء مآله، والسعيد من وعظ بغيره، فأقلعت و [لكن] لا كلّ الإقلاع. ثم إنه توجّه إلى صلاح الدين بظاهر عكا، وشكا إليه الدولعي، وعاد مريضا، وحمل إلى البيمارستان، فمات [به] . وأخذ كتبه المعتمد مشيخة دمشق، وكان متيّما بالصنعة. ثم إني توجّهت إلى زيارة البيت المقدس، ثم إلى صلاح الدين بظاهر عكا، واجتمعت ببهاء الدين ابن شداد «1» قاضي العسكر يومئذ، وكان قد اتصل به

خبري بالموصل، فانبسط إليّ وأقبل عليّ، وقال: نجتمع بعماد الدين الكاتب، [فقمنا إليه] وخيمته إلى خيمة بهاء الدين، فوجدته يكتب كتابا إلى الديوان العزيز، بقلم الثلث من غير مسوّدة، وقال: هذا كتاب إلى بلدكم. وذاكرني في مسائل من علم الكلام، وقال: قوموا بنا إلى القاضي الفاضل «1» ، فدخلنا عليه، فرأيت شيخا ضئيلا كله رأس وقلب، وهو يكتب ويملي على اثنين، ووجهه وشفتاه تلعب ألوان الحركات لقوة حرصه في إخراج الكلام. وكان يكتب بجملة أعضائه. وسألني القاضي الفاضل عن قوله تعالى: حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها «2» ، أين جواب إذا؟.

وأين جواب" لو" في قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ «1» وعن مسائل كثيرة، ومع هذا فلا يقطع الكتابة ولا الإملاء. وقال لي: ترجع إلى دمشق، وتجري عليك الجرايات. فقلت: أريد مصر. فقال: السلطان مشغول القلب بأخذ الفرنج عكا، وقتل المسلمين بها. فقلت: لا بدلي من مصر. فكتب لي ورقة صغيرة إلى وكيله بها. فلما دخلت القاهرة، جاء وكيله «2» ، وكان شيخا جليل القدر، نافذ الأمر، فأنزلني دارا قد أزيحت عللها، وجاءني بدنانير، وغلة. ثم مضى إلى أرباب الدولة، وقال: هذا ضيف القاضي الفاضل، فدرّت الهدايا والصّلات «3» من كل جانب. وكان كل عشرة أيام أو نحوها تصل تذكرة القاضي إلى ديوان مصر بمهمات الدولة، وفيها فصل يؤكد الوصية في حقي. فأقمت بمسجد الحاجب لؤلؤ «4» أقرئ الناس. وكان قصدي في مصر ثلاث أنفس: ياسين السيميائي، والرئيس موسى بن ميمون اليهودي «5» ، وأبو القاسم الشارعي، وكلهم جاؤوني.

أما ياسين فوجدته محاليا كذابا، يشهد للشاقاني بالكيمياء، ويشهد له الشاقاني بالسيمياء، ويقول عنه: إنه يعلم أعمالا يعجز موسى بن عمران- عليه السلام- عنها، وأنه يحضر الذهب المضروب متى شاء، وبأي مقدار شاء، وبأي سكة شاء، وأنه يجعل ماء النيل خيمة ويجلس فيها وأصحابه تحتها. وكان ضعيف الحال. وجاءني موسى فوجدته فاضلا في الغاية، قد غلب عليه حب الرياسة، وخدمة أرباب الدنيا، وعمل كتابا في الطب جمعه من" الستة عشر" لجالينوس، ومن خمسة كتب أخر، وشرط أن لا يغير فيه حرفا، إلا أن يكون واو عطف أو فاء وصل «1» ، وإنما ينقله فصولا يختارها. وعمل كتابا لليهود سماه:" كتاب الدلالة"، ولعن من يكتبه بغير القلم العبراني. ووقفت عليه، فوجدته كتاب سوء يفسد أصول الشرائع والعقائد بما يظن أنه يصلحها. وكنت ذات يوم بالمسجد وعندي خلق كثير، فدخل شيخ رثّ الثياب، نيّر الطلعة، مقبول الصورة، فهابه الجمع، ورفعوه فوقهم، وأخذت في إتمام كلامي. فلما تصرّم المجلس، جاء إمام المسجد وقال: أتعرف هذا الشيخ؟. هذا أبو القاسم الشارعي. فاعتنقته، وقلت: إياك أطلب، فأخذته إلى منزلي، وأكلنا الطعام، وتفاوضنا الحديث، فوجدته كما تشتهي النفس، وتلذّ العين. سيرته سيرة الحكماء العقلاء، وكذا صورته، قد رضي من الدنيا بالقليل، لا يتعلق بشيء منها يشغله عن طلب الفضل، ثم لازمني، فوجدته قيما بكتب القدماء، وكتب أبي نصر الفارابي، ولم يكن لي اعتقاد في هؤلاء لأني كنت أظن أن الحكمة كلها حازها ابن سينا، وحشاها كتبه، فكنا إذا تفاوضنا الحديث أغلبه بقوة الجدل، وفضل اللسن، ويغلبني بقوة الحجة، وظهور المحجة. وأنا لا تلين قناتي لغمزه، ولا أحيد

عن جادة الهوى والتعصب برمزه، فصار يحضرني «1» شيئا بعد شيء من كتب أبي نصر، والإسكندر، وثامسطيوس، يؤنس بذلك نفاري، ويلين عريكة شماسي «2» ، حتى عطفت عليه أقدّم رجلا وأؤخر أخرى. وشاع أن صلاح الدين هادن الفرنج، وعاد إلى القدس. فقادتني الضرورة إلى التوجه إليه، فأخذت من كتب القدماء ما أمكنني، وتوجّهت إلى القدس، فرأيت ملكا عظيما يملأ العين روعة، والقلوب محبة، قريبا بعيدا، سهلا محببا، وأصحابه يتشبهون به، يتسابقون إلى المعروف، كما قال الله تعالى: وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ «3» وأول ليلة حضرته، وجدت مجلسا حفلا بأهل العلم، يتذاكرون في أصناف العلوم، وهو يحسن الاستماع والمشاركة، ويأخذ في كيفية بناء الأسوار وحفر الخنادق. ويتفقه في ذلك، ويأتي بكل معنى بديع، وكان مهتما في بناء سور بيت المقدس وحفر خندقه، يتولى ذلك بنفسه، ويحمل الحجارة على عاتقه، ويتأسى به جميع الفقراء والأغنياء، والأقرباء والضعفاء، حتى العماد الكاتب، والقاضي الفاضل، ويركب لذلك قبل طلوع الشمس إلى وقت الظهر، فيأتي داره، فيمد السماط فيأكل ويستريح، ويركب العصر، ويرجع في المساء، ويصرف أكثر الليل في تدبير ما يعمل نهارا. فكتب لي صلاح الدين ثلاثين دينارا كل شهر، على ديوان الجامع، وأطلق لي أولاده رواتب حتى تقرّر لي في كل شهر مائة دينار. ورجعت إلى دمشق وأكببت على الاشتغال وإقراء الناس بالجامع، وكلما أمعنت في كتب القدماء ازددت فيها رغبة، وفي كتب ابن سينا زهادة، واطّلعت

على بطلان الكيمياء «1» ، وعرفت حقيقة الحال في وضعها، ومن وضعها، وكذب بها، وما كان قصده في ذلك، وخلصت من ضلالين عظيمين موبقين، وتضاعف شكري لله تعالى على ذلك، فإن أكثر الناس إنما هلكوا بكتب ابن سينا، وبالكيمياء. ثم إن صلاح الدين دخل دمشق، وخرج يودّع الحاج. ثم رجع فحمّ، ففصده من لا خبرة عنده، فخارت القوى، ومات قبل الرابع عشر، ووجد الناس عليه شبيها بما يجدونه على الأنبياء «2» . وما رأيت ملكا حزن الناس لموته سواه، لأنه كان محبوبا، يحبه البر والفاجر، والمسلم والكافر. ثم تفرّق أولاده وأصحابه أيادي سبأ، ومزّقوا في البلاد كل ممزّق، وأكثرهم توجّه إلى مصر لخصبها، وسعة صدر ملكها. وأقمت بدمشق وملكها الملك الأفضل، وهو أكبر الأولاد في السن، إلى أن جاء الملك العزيز بعساكر مصر، يحاصر أخاه بدمشق، فلم ينل منه بغية، ثم تأخّر إلى مرج الصفر لقولنج عرض له، فخرجت إليه بعد خلاصه منه، فأذن لي في الرحيل معه، وأجرى عليّ من بيت المال كفايتي، وزيادة. وأقمت مع الشيخ أبي القاسم يلازمني صباح مساء، إلى أن قضى نحبه، ولما اشتد مرضه وكان ذات الجنب عن نزلة من رأسه، وأشرت عليه بدواء؛ فأنشد: [المديد]

لا أذود الطير عن شجر ... قد بلوت المر من ثمره ثم سألته عن ألمه؟ فقال: ما لجرح بميت إيلام «1» وكان سيرتي في هذه المدة أنني أقرئ الناس في الجامع الأزهر إلى نحو الساعة الرابعة، ووسط النهار يأتي من يقرأ الطب وغيره، وآخر النهار أرجع إلى الجامع، فيقرأ قوم آخرون. وفي الليل أشتغل مع نفسي، ولم أزل على ذلك إلى أن توفي الملك العزيز، وكان شابا كريما، شجاعا، كثير الحياء، لا يحسن قول:" لا"، وكان مع حداثة سنه وشرة شبابه كامل العفة عن الأموال والفروج «2» . أقول «3» :" ثم إن الشيخ موفق الدين أقام بالقاهرة بعد ذلك بمدة، وله الراتب والجرايات من أولاد الملك الناصر. وأتى إلى مصر ذلك الغلاء العظيم، والموتان «4» الذي لم يشاهد مثله. وألّف الشيخ موفق الدين في ذلك كتابا ذكر فيه أشياء شاهدها أو سمعها ممن عاينها، تذهل العقل، وسمّى ذلك الكتاب:" كتاب الإفادة والاعتبار في الأمور المشاهدة والحوادث المعاينة بأرض مصر".

ثم لما ملك السلطان الملك العادل سيف الدين أبو بكر بن أيوب الديار المصرية، وأكثر الشام والشرق، وتفرّقت أولاد أخيه الملك الناصر صلاح الدين، وانتزع ملكهم، توجّه الشيخ موفق الدين إلى القدس، وأقام به مدة، وكان يتردّد إلى الجامع الأقصى، ويشتغل الناس عليه بكثير من العلوم، وصنّف هنالك كتبا كثيرة، ثم إنه توجّه إلى دمشق، ونزل بالمدرسة العزيزية «1» ، وذلك في سنة أربع وستمائة. وشرع في التدريس والاشتغال، وكان يأتيه خلق كثير، يشتغلون عليه، ويقرءون أصنافا من العلوم، وتميّز في صناعة الطب بدمشق، وصنّف في هذا الفنّ كتبا كثيرة، وعرف به. وأما قبل ذلك فإنما كانت شهرته بعلم النحو. وأقام بدمشق مدة، وانتفع به الناس. ثم إنه سافر إلى حلب، وقصد بلاد الروم، وأقام بها سنين كثيرة، وكان في خدمة الملك علاء الدين داود بن بهرام «2» صاحب أرزنجان، وكان مكينا عنده، عظيم المنزلة، وله منه الجامكية «3» الوافرة،

والصلات المتواترة، وصنف باسمه عدة كتب. وكان هذا الملك عالي الهمة، كثير الحياء، كريم النفس، وقد اشتغل بشيء من العلوم، ولم يزل في خدمته إلى أن استولى على ملكه صاحب أرزن «1» الروم، وهو السلطان كيقباد بن كيخسرو بن قلج أرسلان، فقبض على صاحب أرزنجان ولم يظهر له خبر" «2» . قال الشيخ موفق الدين عبد اللطيف:" ولما كان في سابع عشر ذي الحجة من سنة خمس وعشرين وستمائة توجهت إلى أرزن الروم، وفي حادي عشر صفر من سنة ست وعشرين وستمائة رجعت إلى أرزنجان من أرزن الروم، وفي نصف ربيع الأول توجهت إلى كماخ «3» ، وفي جمادى الأولى توجهت منها إلى دير زكي «4» ، وفي رجب توجهت منها إلى ملطية «5» . وفي آخر رمضان توجهت

منها إلى حلب". أقول:" وأقام الشيخ موفق الدين بحلب والناس يشتغلون عليه، وكثرت تصانيفه، وكان له من شهاب الدين طغريل الخادم أتابك حلب جار حسن، وهو متخلّ لتدريس صناعة الطب، ويتردد إلى الجامع يسمع الحديث، ويقرئ العربية، وكان دائم الاشتغال ملازما للكتابة والتصنيف. ولما أقام بحلب، قصدت أن أتوجّه إليه، وأجتمع به، فلم يتفق ذلك، وكانت كتبه أبدا تصل إلينا ومراسلاته، وبعث إليّ بأشياء من تصانيفه بخطه. وهذا نسخة كتاب كتبته إليه لما كان بمدينة حلب: " المملوك يواصل بدعائه وثنائه، وشكره وانتمائه إلى عبودية المجلس السامي، المولوي، السيّدي السندي، الأجلّيّ الكبيري، العالمي الفاضلي، موفق الدين، سيد العلماء في الغائبين والحاضرين، جامع العلوم المتفرقة في العالمين، ولي أمير المؤمنين، أوضح الله به سبل الهدى والهداية، وأنار ببقائه طرق الدراية، وحقق بحقائق ألفاظه صحيح الولاية، ولا زالت سعادته دائمة البقاء، وسيادته سامية الارتقاء، وتصانيفه في الآفاق قدوة العلماء، وعمدة سائر الأدباء والحكماء. المملوك يجدد الخدمة، ويهدي من السلام أطيبه، ومن الشكر والثناء أعذبه، وينهي ما يكابده من أليم التطلّع إلى مشاهدة أنوار شمسه المنيرة، وما يعانيه من الارتياح إلى ملاحظة شريف حضرته الأثيرة، وما تزايد القلق وتعاظم عند سماعه قرب المزار من الأرق: [الوافر] وأبرح ما يكون الشوق يوما ... إذا دنت الديار من الديار «1» ولولا أمل قفول الركاب العالي، ووصول الجناب الموفّقيّ الجلاليّ، لسارع

المملوك إلى الوصول، ولبادر المبادرة بالمثول، ولجاء إلى شريف خدمته، وفاز بالنظر إلى بهي طلعته. فيا سعادة من فاز بالنظر إليه، ويا بشرى من مثل بين يديه، ويا هناء من حظي بوجه إقباله عليه، ومن ورد بحار فضله، روي من نميرها، واستضاء بشمس علمه، فسرى في أضواء منيرها. نسأل الله تعالى تقريب الاجتماع وتحصيل الجمع بين مسرّتي الأبصار والأسماع، بمنّه وكرمه، إن شاء الله تعالى". ومن مراسلات الشيخ موفق الدين عبد اللطيف؛ أنه بعث إلى أبي في أول كتاب، وهو يقول فيه عني: " ولد الولد أعز من الولد، وهذا موفق الدين ولد ولدي، وأعز الناس عندي، وما زالت النجابة تتبين لي فيه من الصّغر". ووصف وأثنى كثيرا وقال فيه:" لو أمكنني أنّي آتي إليه بالقصد ليشتغل عليّ لفعلت". وبالجملة فإنه كان قد عزم أن يأتي دمشق، ويقيم بها، ثم خطر له أنه كان يحجّ قبل ذلك، ويجعل طريقه على بغداد، وأن يقدم بها للخليفة المستنصر بالله أشياء من تصانيفه. ولما وصل إلى بغداد مرض في أثناء ذلك، وتوفي- رحمه الله تعالى- يوم الأحد ثاني عشر المحرّم، سنة تسع وعشرين وست مائة. ودفن بالوردية «1» عند أبيه، وذلك بعد أن خرج عن بغداد، وبقي غائبا عنها خمسة وأربعين عاما!. ثم إن الله تعالى ساقه إليها وأماته بها. ومن كلام موفق الدين عبد اللطيف- مما نقلته من خطه- قال: " ينبغي أن تحاسب نفسك كل ليلة إذا أويت إلى فراشك «2» وتنظر ما اكتسبت

في يومك؛ من حسنة تشكر الله عليها، أو كانت سيئة تستغفر الله منها، وتقلع عنها. وترتب في نفسك ما تعمله من الحسنات، وتسأل الله الإعانة على ذلك". وقال:" أوصيك أن لا تأخذ العلوم من الكتب، وإن وثقت من نفسك بقوة الفهم، وعليك بالأستاذين «1» في كل علم تطلب اكتسابه، ولو كان الأستاذ ناقصا؛ فخذ عنه ما عنده حتى تجد أكمل منه. وعليك بتعظيمه، وتوجيبه «2» ، وإن قدرت أن تفيده من دنياك فافعل، وإلا بلسانك وثنائك. وإذا قرأت كتابا فاحرص كل الحرص على أن تستظهره وتملك معناه، وتوهّم أن الكتاب قد عدم «3» ، وأنك مستغن عنه، لا تحزن لفقده. وإذا كنت مكبّا على قراءة «4» كتاب وتفهّمه، فإياك أن تشتغل بآخر غيره معه، واصرف الزمان الذي تريد صرفه في غيره إليه. وإيّاك أن تشتغل بعلمين دفعة واحدة، وواظب على العلم الواحد سنة أو سنتين، أو ما شاء الله، فإذا قضيت وطرك فانتقل إلى علم آخر، ولا تظنّ أنك إذا حصّلت علما فقد اكتفيت، بل تحتاج إلى مراعاته [لينمو ولا ينقص، ومراعاته تكون] » بالذاكرة، والتفكر، [واشتغال المبتدئ بالتلفظ والتعلم، ومباحثة الأقران] . واشتغال العالم بالتعليم «6» ، والتصنيف.

وإذا تصدّيت لتعلّم علم، أو للمناظرة فيه، فلا تمزج به غيره من العلوم، فإن كل علم مكتف بنفسه، مستغن عن غيره، فإن استعانتك في علم بعلم عجز عن استيفاء أقسامه، كمن يستعين [في لغة] بلغة أخرى إذا ضاقت عليه، أو جهل بعضها". وقال:" وينبغي للإنسان أن يقرأ التواريخ، وأن يطّلع على السير، وتجارب الأمم، فيصير بذلك كأنه في عمره القصير قد أدرك الأمم الخالية، وعاصرهم، وعاشرهم، وعرف خيرهم وشرّهم". وقال:" وينبغي أن تكون سيرتك سيرة الصدر الأول، فاقرأ سيرة النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، وتتبّع أحواله، وأفعاله، واقتف آثاره ما أمكنك، وبقدر طاقتك. وإذا وقفت على سيرته في مطعمه، ومشربه، ومنامه، ويقظته، وتمرّضه، [وتطبّبه، وتمتّعه وتطيّبه] «1» ، ومعاملته مع ربه، ومع أزواجه، وأصحابه، وأفعاله مع أعدائه، وفعلت اليسير من ذلك فأنت السعيد كل السعيد". قال:" وينبغي أن تكثر اتّهامك لنفسك، ولا تحسن الظن بها، وتعرض خواطرك على العلماء، وعلى تصانيفهم، وتثبّت ولا تعجل، ولا تعجب «2» ، فمع العجب العثار، ومع الاستبداد الزلل، ومن [لم يعرق جبينه إلى أبواب العلماء لم يعرق في الفضيلة] ، ومن لم يخجلوه لم يبجله الناس، ومن لم يبكّتوه «3» لم يسد، ومن لم يحتمل ألم التعلم لم يذق لذة العلم، ومن لم

يكدح لم يفلح. وإذا خلوت من التعلم والتفكر فحرّك لسانك بذكر الله تعالى، وبتسابيحه، وخاصة عند النوم، فيتشرّبه لبّك، ويتعجّن في خيالك، وتتكلم به في منامك. وإذا حدث لك فرح أو سرور ببعض أمور الدنيا، فاذكر الموت، وسرعة الزوال، وأصناف المنغّصات، وإذا حزبك أمر فاسترجع «1» ، وإذا اعترتك غفلة فاستغفر، واجعل الموت نصب عينيك، والعلم والتقوى زادك إلى الآخرة، وإذا طلبت أن تعصي الله فاطلب مكانا لا يراك فيه!، واعلم أن الناس عيون الله على العبد، يريهم خيره وإن أخفاه، وشرّه وإن ستره، فباطنه مكشوف لله، والله يكشفه لعباده. فعليك أن تجعل باطنك خيرا من ظاهرك، وسرّك أصحّ من علانيتك، ولا تتألّم إذا أعرضت عنك الدنيا، فلو عرضت لك لشغلتك عن كسب الفضائل، وقلّ ما يتعلق في العلم ذو الثروة، إلا أن يكون شريف الهمة جدا. أو أن يثري بعد تحصيل العلم. وإني لا أقول إن الدنيا تعرض عن طالب العلم بل هو الذي يعرض عنها، لأن همته مصروفة إلى العلم، فلا يبقى له التفات إلى الدنيا، والدنيا إنما تحصل بحرص وفكر في وجودها، فإذا غفل عن أسبابها لم تأته. وأيضا فإن طالب العلم تشرف نفسه عن الصنائع الرذلة، والمكاسب الدنية، وعن أصناف [التجارات] «2» ، وعن التذلل لأرباب الدنيا، والوقوف على أحوالهم. ولبعض إخواننا بيت شعر: [الكامل] من جد في طلب العلوم أفاته ... شرف العلوم دناءة التحصيل «3»

" وجميع طرق مكاسب الدنيا تحتاج إلى فراغ لها، وحذق فيها، وصرف الزمان إليها، والمشتغل بالعلم لا يسعه شيء من ذلك، وإنما ينتظر أن تأتيه الدنيا بلا سبب، وتطلبه من غير أن يطلبها طلب مثلها، وهذا ظلم منه وعدوان. ولكن إذا تمكن الرجل من العلم، وشهر به، خطب «1» من كل وجه، وعرضت عليه المناصب، وجاءته الدنيا صاغرة، وأخذها وماء وجهه موفور، وعرضه ودينه مصون. " واعلم أن للعلم عقبة وعرفا ينادى على صاحبه، ونورا وضياء يشرق عليه، ويدلّ عليه، كتاجر المسك لا يخفى مكانه، ولا تجهل صناعته، وكمن يمشي بمشعل في ليل مدلهم «2» . والعالم مع هذا محبوب أينما كان، وكيفما كان. لا يجد إلا من يميل إليه، ويؤثر قربه، ويأنس به، ويرتاح بمداناته". " واعلم أن العلوم تغور ثم تفور في زمان، بمنزلة النبات أو عيون المياه، وتنتقل من قوم إلى قوم، ومن صقع إلى صقع «3» ". وقال:" وإياك والهذر «4» ، والكلام فيما لا يعني. وإياك والسكوت في محل

الحاجة، ورجوع النوبة إليك إما لاستخراج حق، أو اجتلاب مودّة، أو تنبيه على فضيلة. وإياك والضحك مع كلامك، كثرة الكلام وتبتيره «1» ، بل اجمع كلامك سردا بسكون ووقار، بحيث يستشعر منك أن وراءه أكثر منه، وأنه عن خميرة سابقة «2» ، ونظر متقدم". وقال:" وإياك والغلظة في الخطاب، والجفاء في المناظرة، فإن ذلك يذهب ببهجة الكلام، ويسقط فائدته، ويعدم حلاوته، ويجلب الضغائن، ويمحق المودّات، ويصيّر القائل مستثقلا، سكوته أشهى إلى السامع من كلامه، ويثير النفوس على معاندته، ويبسط الألسن بمخاشنته، وإذهاب حرمته". وقال:" لا تترفّع بحيث تستثقل، ولا تتنازل بحيث تستخسّ وتستحقر". ومن دعائه- رحمه الله تعالى- قال:" اللهم! أعذنا من شموس الطبيعة «3» ، وجموح النفس الرديئة «4» ، وأسلس لنا مقاد التوفيق، وخذ بنا في سواء الطريق، يا هادي العمي!، يا مرشد الضّلّال!، يا محيي القلوب الميتة بالإيمان!، يا منير ظلمة الضلالة بنور الإيقان!، خذ بأيدينا من مهواة الهلكة، ونجّنا من ردغة «5» الطبيعة، وطهّرنا من درن الدنيا «6» الدنية بالإخلاص لك والتقوى، إنك مالك الآخرة والدنيا".

24 - ابن الخويي: أحمد بن الخليل بن سعادة بن جعفر بن عيسى، الشافعي، شمس الدين، أبو العباس

وله تسبيح أيضا:" سبحان من عمّ بحكمته الوجود، واستحقّ بكل وجه أن يكون هو المعبود، تلألأت بنور وجهك وجلالك الآفاق، وأشرقت شمس معرفتك على النفوس إشراقا وأيّ إشراق! ". ومنهم: 24- ابن الخوييّ: أحمد بن الخليل بن سعادة بن جعفر بن عيسى، الشّافعيّ، شمس الدّين، أبو العبّاس «13» قاضي القضاة، أوحد العلماء، مجموع الفضائل، دوحة مجد اخضرّ فرعها، ودرّ كالمعصرات «1» ضرعها، ومدّت الأفياء والظلال، وردّت الأحياء والضّال، طال على يد المجتني منعها، وطاب ثمرها المثمر ونبعها، جاءت له العلياء وفاقا،

وجادت له السحب الرواء دفاقا، فطنّبت شمسه على السماء رواقا، وتطلّبت فواضله للنفاق أشواقا، ثم حلّ لدن المعظم شرف الدين عيسى فحل بيت شرفه، وحلّ مكانا في مقاعد غرفه، ثم لم يتحوّل من أفقه، ولا أضاء له ضوء نهار إلا بين أصيله وشفقه. قال ابن أبي أصيبعة:" كان أوحد زمانه في العلوم الحكمية، وعلّامة وقته في الأمور الشرعية. عارفا بأصول الطب وغيره، حسن الصورة، كريم النفس، كثير الحياء، محبّا لفعل الخير، ملازما للصلاة والصيام، وقراءة القرآن. اتصل بالملك المعظّم عيسى «1» ، فعرف فضله، وقرّر له الراتب، وقرأ عليه الطلبة، وانتفعوا به، وكان حسن العبارة، قويّ البراعة، فصيح اللسان، بليغ البيان، وافر المروءة، ظاهر الفتوة. أخذ عن القطب المصري «2» ، وأخذ المصري عن الإمام الرازي. ثم ولّاه المعظّم قضاء الشام. وكان عظيم التواضع، لطيف الكلام، يمشي إلى الجامع الأموي لأداء فرائض الصلوات في أوقاتها، ولم يزل على هذا حتى توفي في سنّ الشباب «3» ، في سابع شعبان سنة تسع وثلاثين وستمائة.

قلت «1» : وحكى لي شيخنا الإمام شهاب الدين أبو الثناء محمود الحلبي الكاتب، قال: لحقت جماعة أدركوا شمس الدين الخويي، أيام قدومه دمشق، وحدّثوني أنه قدم في زيّ فقير صوفي، وكان يلعب ببعض آلات الطرب حتى عرف بذلك، وكان يستدعى به لأجل ذلك، والملك المعظّم صاحب دمشق إذ ذاك، فقيل له عنه، فأمر به فأحضر ولعب بين يديه، فأعجبه لعبه لإتقان صنعته، فجعله من ندمائه، فلما تردّد إليه ظهر له علمه، وتحقّق لديه فضله، فاختصّه بالمجالسة، وقرّبه منه، فلما خلا القضاء عيّنه له، فاستعفاه. فألزمه به حتى وليه. فلما ولي القضاء انقطع عن الملك المعظّم، ففقده في أوقات أنسه، فقال له: مالك انقطعت هذه الليالي؟. فجعل يعتذر، والملك المعظّم لا يقبل منه، ويحثّه على الملازمة على عادته. فقال له: مولانا يعلم ما بقي يتعلق بي وبذمّتى من أقضية المسلمين وعقودهم، وما يجمل بي أن أظهر العدالة وأبطن الفسق وقد صرت قاضيا!. ومولانا مخيّر إن شاء تركت القضاء وعدت إلى ما كنت عليه في خدمته، وإن شاء تركني على القضاء وأعفاني لأخلّص ذمّتي وذمّته. فقال: بل استمر على القضاء، ودع ما سواه. فكان في غاية الخير حتى كأنه لم يكن ذاك.

25 - الرفيع الجيلي: أبو حامد، عبد العزيز بن عبد الواحد ابن إسماعيل بن عبد الهادي

ومنهم: 25- الرّفيع الجيليّ: أبو حامد، عبد العزيز بن عبد الواحد ابن إسماعيل بن عبد الهادي «13» شجرة توقّدت نارا، وأوقدت شنارا، فحنظلت ثمراتها، وأبرت سمراتها، طلعها كأنه رؤوس الشياطين، وينعها كأنه تلف لنفوس السلاطين، وذلك أنه والى عدوّ الدين، وتبعه في بعض ما يدين، صحب السامرة، وسحب في أنديتهم أذيال المسامرة، ولم يكن بزّه بالرفيع، ولا زمنه بالربيع، فجدّ السامري في غيّه، ومدّ له من حبال بغيه، وكان قد اتخذ له منه عجلا جسدا واتّحد به حتى تفقّأ منه حسدا، حتى سقط في مهواته، وسقى دمه الجبل بل لهواته «1» .

قال ابن أبي أصيبعة «1» :" كان من الأكابر في الحكمة وأصول الدين، والفقه، والعلم الطبيعي، والطب. وكان فقيها بالعذراوية «2» ، يشتغل بها. ثم ولي القضاء ببعلبك، وأقام بها مدة، وكان صديقا لأمين الدولة وزير الصالح إسماعيل، فلما ملك الصالح دمشق وتوفي قاضيها شمس الدين الخويي، ولي عوضه، وارتفعت منزلته [وأثرى] ، ووقع بينه وبين أمين الدولة، وكثر تظلّم الناس منه، وشكواهم من سوء سيرته، فانتهى إلى أن قبض عليه، وقتل. وبعث إلى هوّة عظيمة قريب بعلبك، لا يعرف لها قرار، تعرف بمغارة الدم، فكتّف ودفع فيها. وقال بعض الذين كانوا معه: إنه لما دفع في تلك الهوّة تحطّم في نزوله، وكأنه تعلّق في بعض جوانبها. قال: فبقينا نسمع أنينه نحو ثلاثة أيام، وكلما مر يضعف ويخفى حتى تحققنا موته، ورجعنا عنه". قلت: وقد حكى الثقات أنه كان يفتعل الحجة بشهود زور كان أعدّهم على الرجل ذي الجدة «3» واليسار، ويكتبها لمن يطلب الرجل إلى مجلسه، ويدّعي بالمبلغ عليه، فإذا أنكر أقام تلك البينة عليه، ثم يلزمه بالمال، فإذا قبض كان للسلطان النصف، وله ولأمين الدولة، وللشهود والمدعي النصف!. وجرى على هذا مدة، ثم كان لا ينصف أمين الدولة، ففسد ما بينهما وقالوا: إنه لما كثر فعل

مثل هذا من القاضي الرفيع، عرف عليه، فصار ذوو المال يأتونه قبل افتعال الحجج فيقدمون له ما يختص به، فيسكت عنهم، فإذا ذكرهم الأمين الخائن له دافع عنهم، فأوغر ذلك صدره، وكدّرله ورده وصدره، حتى حالت به الحال، وآل إلى ما آل". وحكى لي شيخنا الإمام أبو الثناء محمود الحلبي الكاتب قال:" حدّثني شيخنا قاضي القضاة ابن خلكان قال: كان الرفيع ذا كرم وسخاء، وكان جاريه «1» لا يقوم ببعض كفايته، فكان يتجشم البلايا ولقد ألجأته الضرورة إلى أن باع مرة عمامته، وأنفق ثمنها؛ فلما أصبح وأراد الركوب إلى موكب السلطان، استعار ما لبسه وركب به. قلت: وقد رأيت كتبا كثيرة من كتب الأملاك والأوقاف، وفيها إسجالات على القاضي الرفيع، فلما اتصلت تلك الكتب بمن بعده من القضاة وصلوها إليهم بمن كان قبل الرفيع، وأضربوا عنه، فلم ينفذ له حاكم جاء بعده حكما إلا كتابا واحدا كان في وقف مدرسة بالمدينة الشريفة النبوية- على ساكنها أفضل الصلاة وأتم التحية-، وأظن أنه إنما سومح فيه لتيقن براءته من غرض في ذلك، إذ كان جهة بر، ولم يكن هو أول من حكم به، ولا أول من نفذ حكم من حكم به، ومع هذا لم أر من كبار أهل هذا الشان إلا من عجب منه، وأحببت التنبيه على ذلك ليعرف عند الحاجة لئلا ينسى بتطاول المدد.

26 - الشهاب السهروردي المقتول: يحيى بن حبش بن أميرك

ومنهم: 26- الشّهاب السّهرورديّ المقتول: يحيى بن حبش بن أميرك «13» المقتول، والردى المختول، جاء بما سحر أعين الناس، وحيّر الألباب، فحيّر الفطن، وحيز كل الأرض إلى محل الوطن، بخوارق حملت على المخاريق، وأحلّت دمه للمريق، فأرى مالا يرى، وصوّر ما لم يوجد، وأتى بما ادّعاه بعض ذوي العقول [ ... ] «1» من المتصوفة من طي الزمان والمكان، وجاء بما لم يكن في إمكان، فخيّل ما لم يكن، وهوّن ما لم يهن، وأضلّ جبلا كثيرا، واستزلّ حيلا كبيرا، ولو طال لبثه، وخلّي ماؤه الآجن «2» حتى يطول مكثه، لأكثر الفساد، وأكبر البليّة وساد، لكن الله سلّم، وذبحه وكان لو كلّم جمادا لتكلّم.

قال ابن أبي أصيبعة «1» :" كان أوحدا في العلوم الحكمية، جامعا للفنون الفلسفية، بارعا في الأصول الفقهية، مفرط الذكاء، جيد الفطرة، فصيح العبارة، لم يناظر أحدا إلا بزّه، ولم يباحث محصّلا إلا أربى عليه. وكان علمه أكثر من عقله. حدّثني الشيخ سديد الدين محمود بن عمر «2» قال: كان شهاب الدين السهرورديّ قد أتى إلى شيخنا فخر الدين المارديني، وكان [يتردد إليه في أوقات وبينهما صداقة، وكان الشيخ فخر الدين] «3» يقول لنا: ما أذكى هذا الشاب وأفصحه!، ولم أجد أحدا مثله في زماني، إلا أني أخشى عليه لكثرة تهوّره واشتهاره، وقلّة تحفّظه أن يكون ذلك سببا لتلافه. قال: فلما فارقنا «4» شهاب الدين السهروردي من الشرق، وتوجّه إلى الشام، وأتى إلى حلب، وناظر فيها الفقهاء، ولم يجاره أحد فكثر تشنيعهم عليه، فاستحضره السلطان الملك الظاهر غازي ابن الملك الناصر صلاح الدين يوسف ابن أيوب، واستحضر الأكابر من المدرّسين والفقهاء والمتكلّمين، ليسمع ما يجري بينهم وبينه من المباحث والكلام، فتكلّم معهم بكلام كثير، وبان له فضل عظيم، وعلم باهر، وحسن موقعه عند الملك الظاهر، وقرّبه، وصار مكينا عنده،

مختصا به، فازداد تشنيع أولئك عليه، وعملوا محاضر بكفره، وأرسلوها إلى دمشق، إلى الملك الناصر صلاح الدين، وقالوا: إن بقي هذا فإنه يفسد اعتقاد الملك الظاهر!، وكذلك إن أطلق، فهو يفسد كل ناحية كان فيها من البلاد، وزادوا عليه أشياء كثيرة من ذلك. فبعث صلاح الدين إلى ولده الملك الظاهر بحلب كتابا في حقه، بخط القاضي الفاضل، وهو يقول فيه: إن الشهاب السهروردي لا بدّ من قتله، ولا سبيل أنه يطلق، ولا يبقى بوجه من الوجوه. ولما بلغ شهاب الدين السهروردي ذلك وأيقن أنه يقتل، وليس له جهة إلى الإفراج عنه، اختار أن يترك «1» في مكان مفرد، ويمنع من الطعام والشراب إلى أن يلقى الله تعالى. ففعل به ذلك، وكان في أواخر سنة ست وثمانين وخمسمائة، بقلعة حلب، وكان عمره نحو ست وثلاثين. قال الشيخ سديد محمود بن عمر: لما بلغ شيخنا فخر الدين المارديني قتله قال لنا: أليس كنت قلت لكم عنه هذا من قبل؟، وكنت أخشى عليه منه. أقول «2» : ويحكى عن شهاب الدين السهروردي أنه كان يعرف علم السيمياء، وله فيه نوادر شوهدت عنه من هذا الفن. ومن ذلك: حدّثني الحكيم إبراهيم بن أبي الفضل بن صدقة أنه اجتمع به، وشاهد عنه ظاهر باب الفرج، وهم يتمشون إلى ناحية الميدان الكبير، ومعه جماعة من التلاميذ وغيرهم، وجرى ذكر هذا الفن وبدائعه، وما يعرف الشيخ منه. وهو يسمع، فمشى قليلا وقال: ما أحسن دمشق وهذه المواضع!. قال: فنظرنا وإذا من جهة الشرق جواسق «3» عالية متدانية بعضها من بعض،

مبيّضة، وهي من أحسن ما يكون بناء مزخرفا، ولها طاقات كبار، وفيها نساء أحسن ما يكون منهن، وأصوات المغاني والملاهي. ورأينا أشجارا ملتفّة بعضها على بعض، وأنهارا جارية كبارا، ولم نكن نعرف ذلك من قبل، فعجبنا من ذلك وانذهل الجماعة مما رأوا. قال: فبقي ذلك ساعة، ثم غاب عنا، وعدنا إلى رؤية ما كنا نعرفه من طول الزمان. قال: إلا أنني في رؤية تلك الحالة العجيبة، أحسن في نفسي كأنني في سنة «1» خفيفة لم يكن إدراكي كالحالة التي أتحققها مني. وحدّثني بعض الفقهاء العجم قال: كنا مع الشيخ شهاب الدين عند القابون «2» ، ونحن مسافرون عن دمشق، فوجدنا قطيع غنم مع تركمان، فقلنا للشيخ: يا مولانا! نريد من هذا الغنم رأسا نأكله. فقال: معي عشرة دراهم، خذوها واشتروا بها رأس غنم لكم. فأخذناها فاشترينا رأسا من التركماني، ومشينا، فلحقنا رفيق التركماني، وقال: ردّوا الرأس، وخذوا أصغر منه، فإن هذا ما عرف يبيعكم، يسوى هذا الرأس الذي معكم أكثر من الذي قبض منكم. فتقاولنا نحن وإياه، ولما عرف الشيخ ذلك قال لنا: خذوا الرأس وامشوا، وأنا أقف معه، وأرضيه. فتقدّمنا وبقي الشيخ يتحدّث معه، ويمنّيه «3» ، فلما أبعدنا قليلا، تركه

وتبعنا، وبقي التركماني يمشي خلفه ويصيح به، وهو لا يلتفت إليه. ولما لم يكلّمه لحقه بغيظ، وجذب يده اليسرى، وقال: أين تروح، وتخليني؟. وإذا بيد الشيخ قد انخلعت من عند كتفه، وبقيت في يد التركماني!، ودمه يجري من يده. فبهت التركماني، وتحيّر في أمره، ورمى اليد، وخاف. فرجع الشيخ وأخذ تلك اليد بيده اليمنى، ولحقنا، وبقي التركماني راجعا وهو يلتفت إلينا حتى غاب، ولما وصل الشيخ إلينا رأينا في يده اليمنى منديله لا غير!! «1» . وحدّثني صفيّ الدين خليل بن أبي الفضل الكاتب قال: حدّثنا الشيخ ضياء الدين بن صقر «2» - رحمه الله تعالى-: أن في سنة تسع وتسعين وخمسمائة، قدم إلى حلب شهاب الدين السهروردي، ونزل في مدرسة الحلاوية، وكان مدرّسها يومئذ الشريف رئيس الحنفية افتخار الدين- رحمه الله تعالى- فلما حضر شهاب الدين وبحث مع الفقهاء كان لابس دلق «3» ، وهو مجرّد بإبريق وعكّاز خشب، وما كان أحد يعرفه، فلما بحث، تميّز بين الفقهاء، وعلم افتخار

الدين أنه فاضل؛ فأخرج له منديلا فيه ثوب عتابي، وغلالة، ولباس، وبقيار «1» ، وقال لولده: تروح إلى هذا الفقير، وتقول له: والدي يسلّم عليك، ويقول لك: أنت رجل فقير، وتحضر مجالس الفقهاء في الدرس، وقد أرسل إليك شيئا تلبسه إذا حضرت. فلما وصل ولده إلى الشيخ شهاب الدين، وقال له ما أوصاه به. سكت ساعة وقال له: يا ولدي! حطّ هذا القماش، وتفضّل واقض لي حاجة. وأخرج له فصّ بلخش «2» كالبيضة، رمّانيّ اللون، ما ملك أحد في قدره ولونه، وقال: تروح إلى السوق، وتنادي على هذا الفص، ومهما جلب لا تطلق بيعه حتى تعرّفني. فلما وصل إلى السوق، قعد عند العريف «3» ، ونادى على الفصّ، فانتهى ثمنه إلى خمس وعشرين ألف درهم، فأخذه العريف وطلع إلى الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين، وهو يومئذ صاحب حلب، وقال: هذا الفصّ قد جاب هذا الثمن. فأعجب الملك الظاهر قدره، ولونه، وحسنه. فبلغ به إلى ثلاثين ألف

درهم. فقال العريف: حتى أنزل إلى ولد افتخار الدين، وأقول له. وأخذ الفصّ ونزل إلى السوق، وأعطاه له، وقال له: تروح تشاور والدك على هذا الثمن. واعتقد العريف أن الفصّ من عند افتخار الدين. فلما جاء إلى شهاب الدين السهروردي وعرّفه بالذي جاب الفصّ، صعب عليه، وأخذ الفصّ وجعله على حجر، وضربه بحجر آخر حتى فتّته، وقال لولد افتخار الدين: خذ يا ولدي هذه الأثواب، وارجع إلى والدك، وقبّل يده عني، وقل له: لو أردنا الملبوس ما غلبنا عنه. فمضى إلى والده، وعرّفه صورة ما جرى، فبقي حائرا في قضيّته. وأما الملك الظاهر فإنه طلب العريف وقال له: أريد الفصّ. فقال له: يا مولانا! أخذه صاحبه ابن الشريف افتخار الدين مدرّس الحلاوية. فركب السلطان ونزل إلى المدرسة، فقعد في الإيوان، وطلب افتخار الدين إليه، وقال له: أريد الفصّ. فعرّفه أنه لشخص فقير نازل عنده!. قال: فأفكر السلطان ثم قال: يا افتخار الدين! إن صدق حدسي فهذا شهاب الدين السهروردي. ثم قام السلطان واجتمع بشهاب الدين وأخذه معه إلى القلعة، وصار له شأن عظيم. وبحث مع الفقهاء في سائر المذاهب، وعجّزهم، واستطال على أهل حلب، وصار له شأن يكلمهم كلام من هو أعلى منهم قدرا. فتعصّبوا عليه، وأفتوا في دمه حتى قتل. وقيل: إن الملك الظاهر أرسل إليه [من] خنقه. قال: ثم إن الملك الظاهر بعد مدة نقم على الذين أفتوا في دمه، وقبض على

جماعة منهم، واعتقلهم، وأهانهم، وأخذ منهم أموالا عظيمة «1» . قال العدل بهاء الدين الديلمي: كنت أصحب الشيخ شهاب الدين السهروردي الحكيم بحلب، فلما اعتقل بقلعة حلب كنا نتردد إليه، وكان تحت القلعة شخص جزّار، وكان كلما رآنا متردّدين إلى الشيخ يسبّه ويسبّنا، فلما أكثر حكينا أمره للشيخ، فقال: احتالوا على أن تأخذوا طوله وتأتوني به. فاحتالوا لذلك وأحضروه إليه، فأمرهم أن يقطعوا عصا على مقدار طوله. فلما أحضروها، حزّ فيها حزا مثل الرأس، وأمر بعض تلامذته أن يأخذ معه سكينا، وإذا قال له: اضرب يضرب بها. فقعد الشيخ وجعل يقرأ شيئا في نفسه. ثم قال لحامل السكين: اقطع. فقطع من الموضع الذي حزّه. وإذا صيحة هائلة تحت القلعة!. فسألوا عنها؟ فقيل: إن الشخص الجزّار قد قتل!!، أو كما قال. حدّثني «2» سديد الدين محمود بن عمر المعروف بابن زقيقة قال: كان الشيخ شهاب الدين السهروردي لا يلتفت إلى ما يلبسه، ولا له احتفال بأمور الدنيا. قال: وكنت أنا وإياه نتمشى في جامع ميافارقين، وهو لابس جبة قصيرة مضرّبة زرقاء، وعلى رأسه فوطة مفتولة، وفي رجليه زربول «3» ، ورآني صديق

لي، وهو إلى جانبي، فقال: ما جئت تماشي إلا هذا الخربندا؟ «1» . فقلت له: اسكت، هذا سيد الوقت شهاب الدين السهروردي. فتعاظم قولي، وتعجّب، ومضى. وحدّثني بعض أهل حلب قال: لما توفي شهاب الدين السهروردي- رحمه الله تعالى- ودفن بظاهر مدينة حلب، وجد مكتوبا على قبره، والشعر قديم [البسيط] قد كان صاحب هذا القبر جوهرة ... مكنونة قد براها الله من شرف فلم تكن تعرف الأيام قيمته ... فردّها غيرة منه إلى الصّدف ومن كلامه: قال في دعاء:" اللهم يا قيّام الوجود، وفائض الجود، ومنزل البركات، ومنتهى الرغبات، منور النور، ومدبّر الأمور، وواهب حياة العالمين، امددنا بنورك، ووفقنا لمرضاتك، وألهمنا رشدك، وطهّرنا من رجس الظلمات، وخلّصنا من غسق الطبيعة إلى مشاهدة أنوارك، ومعاينة أضوائك، ومجاورة مقرّبيك، وموافقة سكان ملكوتك، واحشرنا اللهم مع الذين أنعمت عليهم من الملائكة والصديقين، والأنبياء والمرسلين" «2» . ومن شعره قوله [الكامل] أبدا تحنّ إليكم الأرواح ... ووصالكم ريحانها والرّاح وقلوب أهل ودادكم تشتاقكم ... وإلى لذيذ وصالكم ترتاح وإذا هم كفّوا تحدّث عنهم ... عند الوشاة المدمع السّحّاح

فإلى لقاكم نفسه مشتاقة ... وإلى رضاكم طرفه طمّاح عودوا بنور الوصل من غسق الدجا ... فالهجر ليل والوصال صباح وتمتّعوا فالوقت طاب لكم وقد ... رقّ الشراب ودارت الأقداح مترنّحا وهو الغزال الشارد ... وبخدّه الصّهباء والتفاح وبثغره الشهد الشهي وقد بدا ... في أحسن الياقوت منه أقاح وقوله «1» : [الوافر] أقول لجارتي والدمع جاري ... ولي عزم الرحيل عن الديار ذريني أن أسير ولا تنوحي ... فإن الشهب أشرفها السواري فإني في الظلام رأيت ضوءا ... كأن الليل زيّن بالنهار إلى كم أجعل الحيّات صحبي ... إلى كم أجعل التّنّين جاري؟ «2» وكم «3» أرضى الإقامة في فلاة ... وفوق الفرقدين «4» رأيت داري ويأتيني من الجرعاء «5» برق ... يذكرني بها قرب الديار وقوله «6» : [الرمل] قل لأصحاب رأوني ميتا ... فيكوني إذ رأوني حزنا لا تظنوني بأني ميت ... ليس ذاك الميت- والله- أنا

أنا عصفور وهذا قفصي ... طرت عنه فتخلى رهنا وأنا اليوم أناجي ملأ ... وأرى الله عيانا بهنا «1» فاخلعوا الأنفس عن أجسادها ... لتروا للحق حقا بيّنا لا ترعكم سكرة الموت فما ... هي إلا انتقال من هنا قلت: حدثني شيخنا أبو الثناء الكاتب الحلبي- رحمه الله تعالى- عن أشياخه: أن الشهاب السهروردي كان لا يقرّ للملك الظاهر بمعرفة السيمياء» ، وينكر ذلك، وكان الملك الظاهر لا يشك في أنه يعرف ذلك، ويحب أن يراه، وكان لا يزال يقول له عن ذلك وهو ينكره، ويجحد. فلما كان ذات يوم قال له: بالله يا مولانا! أرني شيئا من السيمياء. فقال له: بسم الله- وكان الملك الظاهر واقفا على بركة يريد أن يغتسل فيها- ثم إن الملك الظاهر نزل فغطس، ثم طلع ومملوكه واقف بيده منشفة، فلما خرج ناوله المنشفة، فتنشّف ثم قال: أين أنا؟.

فقال له ذلك المملوك: هنا في دارك، وملكك بحلب. فقال: ولك! كم لي غائب عنكم؟. فقال: قدر ما غطست في الماء. فقال: ويلك أنا لي غائب عنكم سنين، وغرقت فما طلعت إلا من ساحل بحر عدن، وتزوّجت امرأة هناك، بنت خطّاب، وأولدتها أولادا. فقال المملوك: أعيذك يا خوند «1» بالله، وأعيذ عقلك. وكلما قال هذا يغتاظ الملك الظاهر ويقول: ويلك تغالطني، وتدهيني في عقلي؟. والمملوك يعيد قوله. فضحك السهروردي. ففطن الملك الظاهر، وقال له: هذه عملاتك «2» معي!. فقال له السهروردي: لا والله، بل هذه عملاتك أنت مع نفسك. وأجريت ذكره مرة مع الشيخ العارف جمال الدين الحويزاوي شيخ الشيوخ بالديار المصرية، فقال: كان رجلا جليل القدر من أفراد العالم، وفضلاء الدهر، وأعيان أهل التصوف، وأخذ نفسه في أول حاله بالتجريد، واجتهد فيه، ولكن غلبت عليه شقاوته وجهل صباه؛ فقتل بسيف الشرع. ثم أنشد: وذاك قتيل لا يطل له دم «3»

27 - الخسرو شاهي: عبد الحميد بن عيسى، بن عمويه، بن يونس، ابن خليل شمس الدين، أبو محمد، التبريزي، الشافعي

ومنهم: 27- الخسرو شاهيّ: عبد الحميد بن عيسى، بن عمّويه، بن يونس، ابن خليل شمس الدّين، أبو محمّد، التبريزيّ، الشّافعيّ «13» نسبة إلى قرية تعرف ب:" خسرو شاه" «1» ، من قرى تبريز. سمر حديث مغرب، وقمر مشرق ومغرّب، قدم الشام فكان أزين له من

هشام، وحلّ في أم بلدانه حلول ابن ذي يزن في غمدانه، ونزل بالكرك. وأناخ نزوله بالشاذياخ «1» فأسعف وأعان، وذكر المنازل أهلها بين البلقاء «2» ومعان «3» ، وأفاض في تلك المعالم الإحسان فوق آل غسان. استقدمه الناصر داود، وقدّمه تقديم الودود، فنشر علم علمه، وشرّع مورد يمّه، وجعل حوضه لمن يمتاح «4» ، وروضه لمن يرتاح، فغدت حضرته محطّا للركائب، ومحلا للرغائب، فكثر من عنده الممتار «5» ، ورجع يشهده

المشتار «1» ، ونمى عدد الفضلاء، وطمي «2» مدد الفضل في ذلك الفضاء، وتزاحمت الملوك على خطبته، واستزارته من خطته، وهو بذروة ذلك الجبل ممتنع، وبيسير ذلك البلل مقتنع، ودأبه في زيادة علوم، وإفادة خصوص وعموم، وأيامه بالفضائل مشحونة، ولياليه من الرذائل مصونة. ثم أتاه أجله، وحل عليه من دين البقاء مؤجّله، فاتّصلت تلك الروم الزكية بعالمها، وخلصت من ظلم الدنيا ومظالمها. قال ابن أبي أصيبعة «3» :" هو إمام العلماء، وسيد الحكماء، قدوة الأنام، شرف الإسلام. قد تميّز في العلوم الحكمية، وحرّر الأصول الطبية، وأتقن الأحكام الشرعية، ولم يزل دائم الاشتغال، جامعا للفضل والإفضال. وكان شيخه الإمام فخر الدين ابن خطيب الري «4» ، وهو من أجلّ تلامذته، ومن حين وصل الشام اتصل بخدمة الملك الناصر [صلاح الدين] داود بن المعظّم «5» ، وأقام عنده بالكرك، وكان عظيم المنزلة عنده، وله من الإحسان

الغزير، والإنعام الكثير. ثم أتى دمشق وتوفي بها في شوّال سنة اثنتين وخمسين وستمائة، ودفن بجبل قاسيون". قال:" رأيته يوما وقد أتاه بعض فقهاء العجم بكتاب دقيق الخط، ثمن البغدادي، معتزلي التقطيع. فلما نظر فيه صار يقبّله ويضعه على رأسه، فسألته عن ذلك فقال: هذا خطّ شيخنا الإمام فخر الدين ابن الخطيب- رحمه الله تعالى-". قلت «1» : ولما كان الشيخ شمس الدين الخسرو شاهي عند الملك الناصر داود بالكرك، كان جدّي الصاحب جمال الدين أبو المآثر فضل الله وزيرا عنده. واتحدت له صحبة بالشيخ، فأخذ معه ولده عمّي الصاحب شرف الدين أبا محمد عبد الوهاب- رحمه الله تعالى- وقدّمه للشيخ، وقال هذا ولدي، وأعزّ ما أقدر عليه، وقد قدّمته لك. فقبله منه قبولا حسنا، وأقرأه:" الأربعين في أصول الدين" «2» ، وانتفع به. ثم لما أتى الأمير الكبير الكافل جمال الدين أبو الفتح موسى بن يغمور لزيارة الشيخ طلب منه عمي أن يكون عنده، فآثره به. ثم اتصل بالملك الصالح أيوب بسببه على ما ذكرت ذلك في ترجمة عمي في" فواصل السمر" «3» .

28 - السيف الآمدي: علي بن [أبي] علي بن محمد بن سالم، سيف الدين أبو الحسن التغلبي الآمدي

ورثى الخسرو شاهي جماعة منهم العز الضرير، منها: [الطويل] بموتك شمس الدين مات الفضائل «1» ... وأردى ببدر الفضل والبدر كامل فتى بزّ كل القائلين «2» بصمته ... فكيف إذا وافيته وهو قائل أتدري المنايا من رمت بسهامها ... وأي فتى أودى وغال الغوائل رمت أوحد «3» الدنيا وبحر علومها ... ومن قصرت في الفضل عنه الأوائل ولو كان بالفضل الفتى يدفع الردى ... لما غيّبت عبد الحميد الجنادل «4» فبعدك شمس الدين أعوز عالم ... وأبدى الدعاوى في المحافل «5» جاهل «6» ومنهم: 28- السّيف الآمديّ: عليّ بن [أبي «7» ] عليّ بن محمّد بن سالم، سيف الدّين أبو الحسن التّغلبيّ الآمديّ «13» سيف لا يعرف التقليد، وسيل يشيب لهو له الوليد، توقّى كل مناظر حدّ

مضربه، وعاد كل صادر بريق مشربه، ساحل قطع غمار اللجج، وجادل فقطع حجاج الحجج، ولم يخل منهله من زحام، ولا تصرّفه من زمام، فكم جاءت إليه الأفواج، وتزاحمت في بحره الأمواج، ونداه يسع، وجداه لا يدع. وجعل مدينة حماه سوقا لفوائده، ومعدنا لفرائده، وكان قصدها لا يعدّ إلا في معالي الرتب، ولا يزال يرحل إليه على كور «1» وقتب «2» ، وهو على هذا الازدحام، وكثرة من حلّق عليه وحام، لا يودع الحكم غير أهلها، ولا يدع للشّفة إلا قدر نهلها «3» ، فكان لا يزال لديه شفيع لطالب، ومتوسل بخلائقه الأطايب، فلم يكن مثله سيف لا يزال يخدمه القلم، وينشر لعلمه على جناح الجوزاء العلم.

وكانت ملوك زمانه تجلّه، ولو قدرت عرفت من نجاد ممالكها أين تحلّه، فقد كان سيفا مشرفيا، ومثقّفا «1» سمهريّا «2» ، طالما طال المفارق والطلاء «3» ، وطاب معدنه فلم يحتج إلى تنميق الحمائل «4» والحلى، هذا ... وليس به فلول من قراع الكتائب «5» ، ولا ذهول وبحره جمّ العجائب. قال ابن أبي أصيبعة «6» :" كان أذكى أهل زمانه، وأكثرهم معرفة بالحكمة والشريعة، والمبادئ الطبية. بهيّ الصورة، فصيح اللسان، جيّد التصنيف. خدم الملك المنصور «7» صاحب حماة، وأقام عنده سنين، ورتّب له الرواتب السنيّة، [والإنعام الكثير. وكان من أكابر الخواص عنده، ولم يزل في خدمته] ،

فلما توفي أتى الملك المعظم عيسى «1» فبالغ في الإنعام عليه وإكرامه، وولاه التدريس. وكانت الناس تتعجب له في المناظرة والبحث، وقلّ أن كان يشتغل في العلوم الحكمية، وتشفّع العماد السلماسي بابن بصاقة «2» ليقرئه، فكتب إليه: [البسيط] يا سيدا جمّل الله الزمان به ... وأهله من جميع العجم والعرب العبد يذكر مولاه بما سبقت ... وعوده لعماد الدين عن كثب ومثل مولاي من جاءت مواهبه ... من غير وعد وجدواه بلا طلب فأصف من بحرك الفيّاض مورده ... وأغنه من كنوز العلم، لا الذهب! واجعل له نسبا يدلي إليك به ... فلحمة العلم تعلو لحمة «3» النسب ولا تكله إلى كتب تنبئه ... ف:" السيف أصدق أنباء من الكتب «4»

29 - البديع الاصطرلابي: وهو بديع الزمان أبو القاسم هبة الله بن الحسين بن أحمد البغدادي

ومنهم: 29- البديع الاصطرلابيّ: وهو بديع الزّمان أبو القاسم هبة الله بن الحسين بن أحمد البغداديّ «13» حكيم فاق بتفنّن علمه الحكماء، ولم يكفّ نظره فسيح الأرجاء حتى شق السماء، ولم يقنع باستقصاء أمزجة البشر حتى سأل عن أمزجة النجوم، وميّز ذوات البشر منها والوجوم. وأتقن عمل الاصطرلاب «1» ليقوم تحريكه للعضادة

مقام جسّه للنبض، ونظره لما بين المشارق والمغارب بمحيط ما يجمع الأرض. هذا مع إتقان بقية فنون الحكمة، وما في غضون ذلك من الأمور المهمّة. على أنه لم يخل الأدب من لطيف نظر، وشريف ذكاء وقف به على ما لا تنافر من محاسن كل نفر. قال ابن أبي أصيبعة فيه «1» :" من الحكماء الفضلاء، والأدباء النبلاء، [طبيب] عالم، وفيلسوف متكلم، غلبت عليه الحكمة وعلم الكلام، والرياضي، وكان متقنا لعلم النجوم والرصد". وكان أوحد أهل زمانه في علم الاصطرلاب، وعمله، فعرف به «2» . ومن بديع شعر البديع قوله: [السريع] قام إلى الشمس بآلاته ... لينظر السعد من النحس فقلت: أين الشمس؟، قال الفتى: ... في الثور، قلت: الثور في الشمس وقوله [الخفيف] قيل لي: قد عشقته أمرد الخد ... وقد قيل: إنه نكريش «3» وقوله [أيضا في غلام معذّر- أي طلع عذاره [مجزوء الكامل] كن كيف شئت فإنني ... قد صغت قلبا من حديد

30 - ابن الشبل البغدادي: [محمد بن] الحسين بن عبد الله بن يوسف أبو علي، بن أسامة السامي، البغدادي الحريمي

وقعدت أنتظر الكسو ... ف وليس ذلك بالبعيد وقوله في جرع دان «1» - وهو الذي يوضع في مجالس الكبراء لصبّ تكعيب القدح: [المنسرح] إني إذا ما قعدت في ملأ ... عددت من بعض آلة الفرح إذا تصدّرت في مجالسهم ... تنغّصوا لي بفاضل القدح وقوله [السريع] هل عثرت أقلام خط العذار ... في مشقها «2» ، فالخال نقط العثار؟ أم استدار الخط لما غدت ... نقطته مركز ذاك المدار؟ «3» ومنهم: 30- ابن الشّبل البغداديّ: [محمّد بن «4» ] الحسين بن عبد الله بن يوسف أبو عليّ، بن أسامة السّاميّ «5» ، البغداديّ الحريميّ «13»

حكيم رأى الدنيا بعين الاحتقار، ونظر كل ما فيها بذلّ الافتقار، وزخرت له بحار الحكم، فخاض لججها الغمار، وأذكت له سرجها فجني له من غصونها المهل له الثمار، وتناهى نظره في المآل فلم يزد بصيرة في الاعتبار، ولم يرد زيادة للاختبار، إلا أنه كان جريء اللسان، مسيء الإحسان، خرجت به الفلسفة إلى مهامهها «1» العريضة، فضلّ في فجاجها «2» الفيح «3» ، وضلّ في ذيل انفراجها الفسيح، ودام يخبط في سماء سماواتها، ويخطب ولا يلج خطبه أسماع أهل مداواتها، وأغرب مساع نطقه، ومسالك باطله المموّه بحقه، تأدب بأدب الحياء في الوجنات، وذو الإغفاء في المقل السّنات، ولكنه لم يجد أذنا ولم يلق من يعير بصيرته فطنا. قال ابن أبي أصيبعة «4» :" مولده ومنشؤه ببغداد، وكان حكيما فيلسوفا، متكلما فاضلا، وأديبا بارعا، وشاعرا مجيدا".

ومن شعره «1» : [الوافر] بربك أيها الفلك المدار ... أقصد ذا المسير أم اضطرار مدارك قل لنا في أي شيء ... ففي أفهامنا عنك انبهار «2» وفيك نرى الفضاء فهل فضاء ... سوى هذا الفضاء به تدار؟ وعنك ترفع الأرواح أم هل ... مع الأجسام يدركها البوار» ؟ وموج، ذي المجرة أم فرند «4» ... على لجج الدروع «5» له أوار «6» وفيك الشمس رافعة شعاعا ... بأجنحة قوادمها «7» قصار وطوق للنجوم إذا تبدّى «8» ... هلالك أم يد فيها سوار؟

وشهب ذا الخواطف أم ذبال «1» ... عليها المرخ «2» يقدح والعفار «3» وترصيع نجومك أم حباب «4» ... يؤلف بينه اللجج الغزار؟ تمدّ رقومها ليلا وتطوي «5» ... نهارا، مثلما طوي الإزار فكم بصقالها «6» صدئ البرايا ... وما يصدا لها أبدا غرار «7» تباري ثم تخنس «8» راجعات ... وتكنس «9» مثلما كنس الصّوار «10» فبينا الشرق يقذفها صعودا ... تلقّاها من الغرب انحدار على ذا ما مضى وعليه يمضي ... طوال منى وآجال «11» قصار وأيام تفرّقنا مداها «12» ... لها أنفاسنا أبدا شفار «13» ودهر ينثر الأعمار نثرا ... كما للورد في الروض انتثار «14»

ودنيا كلما وضعت جنينا ... غذاه من نوائبها ظؤار «1» هي العشواء «2» ما خبطت هشيم ... هي العجماء «3» ما جرحت جبار «4» فمن يوم بلا أمس ويوم ... بغير غد إليه بنا «5» يسار ومن نفسين في أخذ وردّ ... لروح المرء في الجسم انتشار وكم من بعد ما ألفت نفوس ... جسوما عن مجاثمها تطار وتنتظر الرزايا «6» والبلايا ... وبعد، فبالوعيد لنا انتظار ونخرج كارهين كما دخلنا ... خروج الضّبّ أخرجه الوجار «7» ألم تك بالجوارح آنسات ... فأعقب ذلك الأنس النفار «8» فإن يك آدم أشقى بنيه ... بذنب ما له منه اعتذار «9» ولم ينفعه بالأسماء علم ... وما نفع السجود ولا الجؤار «10»

فأخرج ثم أهبط ثم أودى ... فترب السافيات «1» له شعار «2» فأدركه بعلم الله فيه ... من الكلمات للذنب اغتفار ولكن بعد غفران وعفو ... يعيّر ما تلا ليلا نهار «3» لقد بلغ العدو «4» بنا مناه ... وحلّ بآدم وبنا الصّغار وقفنا تائهين كقوم موسى ... ولا عجل أضلّ ولا خوار فيالك لقمة «5» قد كان منها ... علينا نقمة وعليه عار نعاقب في الظهور وما ولدنا ... ويذبح في حشا الأم الحوار «6» فماذا الامتنان على وجود ... لغير الموجدين به الخيار؟ وكان وجودنا خيرا لو انّا «7» ... نخيّر قبله أو نستشار أهذا الداء ليس له دواء ... وهذا الكسر ليس له انجبار؟ تحيّر فيه كلّ دقيق فهم ... وليس لعميق جرحهم انسبار «8» إذا التكوير غال «9» الشمس عنا ... وغال كواكب الأفق انتشار «10»

وبدّلنا بهذي الأرض أرضا ... وطوّح بالسماوات انفطار «1» وأذهلت المراضع عن بنيها ... لدهشتها وعطّلت العشار «2» وغشّى البدر من فرق وذعر ... خسوف ليس يجلى أو سرار «3» وسيّرت الجبال فكنّ كثبا «4» ... مهيلات وسجّرت البحار «5» فأين ثبات ذي الألباب منا ... وأين مع الرجوم «6» لنا اصطبار؟ وأين عقول ذي الأفهام مما ... يراد بنا وأين الاعتبار؟ وأين يغيب لبّ كان فينا ... ضياؤك من سناه مستعار؟ وما أرض عصته ولا سماء ... ففيم يغول «7» أنجمها انكدار؟ وقد وافته طائعة «8» وكانت ... دخانا ما لقاتره «9» شرار

قضاها سبعة والأرض مهدا ... دحاها فهي للأموات دار فما لسموّ ما أعلى انتهاء ... ولا لسمو ما أرسى قرار ولكن كل ذا التهويل فيه ... لذي الألباب وعظ وازدجار «1» ومنه قوله: [الكامل] وكأنما الإنسان فيه عبرة ... متلونا والحسن فيه معار متصرفا وله القضاء مصرّف ... ومكلّفا وكأنه مختار وقوله [الكامل] ثقلت زجاجات أتتنا فرّغا ... حتى إذا ملئت بصرف الرّاح خفّت فكادت أن تطير بما حوت ... وكذا الجسوم تخف بالأرواح «2» وقوله [البسيط] قالوا: القناعة عزّ والكفاف «3» غنى ... والذل والعار حرص المرء والطمع صدقتم، من رضاه سد جوعته ... إن لم يصبه بماذا عنه يقتنع؟ «4» وقوله: [البسيط] تلقّ بالصبر ضيف الهمّ حيث أتى ... إن الهموم ضيوف أكلها المهج فالخطب ما زاد إلا وهو منتقص ... والأمر ما ضاق إلا وهو منفرج «5»

فروح النفس بالتعليل ترض به ... عسى إلى ساعة من ساعة فرج «1» وقوله: [البسيط] بنا إلى الدير من درتا صبابات ... فلا تلمني فما تغني ملامات فكم قضيت لبانات «2» الشباب بها ... غنما وكم بقيت عندي بقيات «3» ما أمكنت دولة الأفراح مقبلة ... فانعم ولذّ فإن العيش تارات قم فاجل في فلك الظلماء «4» شمس ضحى ... بروجها الدهر «5» طاسات «6» وكاسات تلوح في أذرع الساقين أسورة ... تبرا وفوق نحور الشرب جامات «7» قد وقّع الدهر سطرا في صحيفته ... لا فارقت شارب الخمر المسرات «8» خذ ما تعجّل واترك ما وعدت به ... وكن لبيبا فللتأخير آفات»

31 - النصير الطوسي: محمد بن محمد بن الحسن، نصير الدين، أبو عبد الله، الطوسي الفيلسوف

ومنهم: 31- النّصير الطّوسيّ: محمد بن محمد بن الحسن، نصير الدّين، أبو عبد الله، الطّوسيّ الفيلسوف «13» رجل ما عرف أياما، ولا تبرقع بالحياء لثاما، أقدم على خالقه، وحصل من السعي على خافقه، وتجاهر بالفسوق، وتظاهر بالتبضّع من السوق، ولم يخف عاقبة التهور، ولا التدلي على الشريعة والتسوّر، فلم يزل في قبح أحدوثة، وطريق سبيل عهود منكوثة، على توسّعه في العلم، ومعرفته بما به يستهم، فقد كان ذا فضائل غزيرة، وفواضل غريرة، واستيلاء على عقول السلاطين، واستخفاء في كيد ولا تبلغه الشياطين، مع كرم عميم، وكرّ على مال لا يبقي معه عديم،

وتظاهر بفراغ، وطلب فصل رام مثله وراغ، ولكن الله إذا أراد لامرء أمرا يسّره لفعله وقدّره على فعله، ليمضي سابق إرادته، ويقضي بشقاء العبد أو سعادته، ولهذا لجّ في عمهه، ولم يبصر، ودام على غيّه ولم يقصر، فما أقبل على اعتذار، ولا أسمعه المشيب الإنذار. كان رأسا في علم الأوائل، لا سيما في الأرصاد، والمجسطي، فإنه فاق الكبار. قرأ على المعين سالم بن بدران المصري المعتزلي الرافضي، وغيره. وكان ذا حرمة وافرة، ومنزلة عالية عند هولاكو، وكان يطيعه فيما يشير به عليه، والأموال في تصريفه، فابتنى في مدينة مراغة «1» قبة، ورصدا عظيما. واتخذ في ذلك خزانة عظيمة فسيحة الأرجاء، وملأها من الكتب التي نهبت من بغداد والشام والجزيرة حتى تجمّع فيها زيادة على أربعمائة ألف مجلد!!. وقرر بالرصد المنجمين والفلاسفة، والفضلاء، وجعل لهم الجامكية «2» . وكان سمحا كريما، جوادا حليما، حسن العشرة، غزير الفضائل، جليل القدر، داهية. حكى لي شيخنا الأصفهاني أنه أراد العمل للرصد، فرأى هولاكو كثرة ما ينصرف عليه، فقال: هذا العلم المتعلق بالنجوم ما فائدته؟ أيدفع ما قدّر أن يكون؟. فقال: أنا أضرب لمنفعته مثالا: [يأمر] «3» القان «4» يأمر من يطلع إلى أعلى

هذا المكان، ويدع يرمي من أعلاه طست نحاس كبيرا، من غير أن يعلم به أحد، ففعل ذلك. فلما وقع كانت له وقعة عظيمة هائلة روّعت [كلّ] من هناك، وكاد بعضهم يصعق. وأما هو وهولاكو فإنهما ما تغير عليهما شيء، لعلمهما بأن ذلك واقع. فقال له: هذا العلم النجومي له هذه الفائدة. يعلم المتحدّث فيه ما يحدث، فلا يحصل له من الروعة والاكتراث ما يحصل للذاهل الغافل عنه. فقال [له] لا بأس بهذا، وأمره بالشروع فيه، أو كما قيل «1» . ومن دهائه: ما حكى لي شيخنا الأصفهاني أيضا قال: إنه حصل له «2» غضب على الجويني «3» صاحب الديوان، وأظنه قال: علاء الدين. فأمر بقتله فجاء أخوه إليه، وذكر له ذلك، وطلب منه إبطال ذلك. فقال: هذا القان، وهؤلاء القوم إذا أمروا بأمر ما يمكن رده، خصوصا إذا برز إلى الخارج، فقال [له] لا بدّ من الحيلة في ذلك.

فتوجّه إلى هولاكو، وبيده عكاز، وسبحة، واصطرلاب، وخلفه من يحمل مبخرة، والبخور يضرم. فرآه خاصة هولاكو الذين على باب المخيم، فلما وصل أخذ يزيد في البخور، ويرفع الاصطرلاب، ينظر فيه ويضعه، ويسأل عن هولاكو ويقول: هو سالم هو سالم. يكرر ذلك ويقولون: نعم. فيحمد الله ويسجد؛ فلما رأوه يفعل ذلك دخلوا إلى هولاكو، وأعلموه، وخرجوا إليه. فقالوا: ما الذي أوجب هذا؟. فقال: القان، أين هو؟. قالوا له: جوّا «1» . قال: طيب معافى موجود في صحة؟. قالوا: نعم. فسجد شكرا لله تعالى، وقال لهم: هو طيب في نفسه؟. قالوا: نعم. وكرر هذا ومثله، وقال: أريد أرى وجهه بعيني، إلى أن دخلوا إليه وأعلموه بذلك. وكان [في] وقت لا يجتمع فيه [به] أحد، فأمر بإدخاله، فلما رآه سجد وأطال السجود فقال له: ما خبرك؟ قال: اقتضى الطالع في هذا الوقت أن يكون على القان قطع عظيم إلى الغاية «2» ؛ فقمت وعملت هذا، وبخّرت هذا البخور، ودعوت بأدعية أعرفها، أسأل الله صرف ذلك عن القان. والطالع يقتضي أن يحقن القان دماء كثيرة، ويفرج عن نفوس كثيرة ليحقن دمه، ويفرج عنه، ويتعين الآن أن القان يكتب إلى [سائر] ممالكه، ويجهز الألجية في هذه الساعة إليها بإطلاق من في الحبوس «3» والاعتقال، والعفو عمن له جناية أو أمر بقتله. لعل الله أن يصرف هذا الحادث العظيم، ولو لم أر وجه القان ما صدّقت. فأمر هولاكو في ذلك الوقت بما قال، وأطلق صاحب الديوان في جملة الناس، ولم يذكره النصير الطوسي. وهذا غاية في الدهاء بلغ به مقصده ودفع عن الناس أذاهم، وعن بعض الناس إزهاق

أرواحهم. قال أبو الصفاء: ومن حلمه ما وقفت على ورقة حضرت إليه من شخص من جملة ما يقول فيها: يا كلب!، يا ابن الكلب!!. فكان الجواب: وأما قوله كذا وكذا، فليس بصحيح. لأن الكلب من ذوات الأربع، وهو نابح طويل الأظفار، وأنا فمنتصب القامة، بادي البشرة، عريض الأظفار، ناطق، ضاحك، فهذه الفصول والخواص غير تلك الفصول والخواص!. وأطال في نقض كل ما قاله، هكذا برطوبة «1» وتأنّ غير منزعج، ولم يقل في الجواب كلمة قبيحة!. ومن تصانيفه: كتاب" المتوسطات بين الهندسة والهيئة" وهو جيد إلى الغاية. و" مقدمة في الهيئة". وكتاب وضعه للنصيرية، وأنا أعتقد أنه ما يعتقده، لأن هذا فيلسوف وأولئك يعتقدون ألوهية علي. واختصر" المحصّل" للإمام فخر الدين، وهذّبه، وزاد فيه. وشرح" الإشارات" ورد فيه على الإمام فخر الدين في شرحه، وقال: هذا جرح وما هو شرح!. وقال فيه: إني حرّرته في عشرين سنة، وناقض فخر الدين كثيرا. ولقد ذكره قاضي القضاة جلال الدين القزويني «2» - رحمه الله- يوما وأنا حاضر وعظّمه- أعني الشرح-، فقلت: يا مولانا! ما عمل شيئا لأنه أخذ شرح الإمام وكلام سيف الدين الآمدي «3» ، وجمع بينهما، وزاده يسيرا. فقال: ما أعرف للآمدي في الإشارات شيئا. قلت: نعم. كتاب صنفه وسماه:" كشف التمويهات عن الإشارات والتنبيهات".

فقال: هذا ما رأيته. ومن تصانيفه:" التجريد" في المنطق. و" أوصاف الأشراف" «1» ، و" قواعد العقائد"، و" التلخيص في علم الكلام". و" العروض" بالفارسية. و" شرح الثمرة" لبطليموس. و" كتاب مجسطي". و" جامع الحساب في التخت والتراب". و" الكرة والأسطوانة «2» ". و" المغطيات «3» " و" الظاهرات". و" المناظر". و" الليل والنهار". و" الكرة المتحركة". و" الطلوع والغروب". و" تسطيح الكرة". و" المطالع". و" تربيع الدائرة". و" المخروطات". و" الشكل المعروف بالقطائع". و" الجواهر". و" الأسطوانة". و" الفرائض على مذهب أهل البيت". و" تعديل المعيار في نقد «4» تنزيل الأفكار". و" بقاء النفس بعد بوار البدن". و" الجبر والمقابلة". و" إثبات العقل الفعّال". و" شرح مسألة العالم". و" رسالة الإمامة" و" رسالة إلى النجم الدين الكاتبي «5» في إثبات واجب الوجود". و" حواشي على كليات القانون". و" رسالة ثلاثون فصلا في معرفة التقويم". وله شعر كثير بالفارسية. وقال الشمس ابن المؤيد العرضي: أخذ النصير العلم عن الشيخ كمال الدين ابن يونس الموصلي «6» ، والمعين سالم بن بدران المصري، المعتزلي، وغيرهما.

قال: وكان منجما لأبغا «1» بعد أبيه، وكان يعمل الوزارة لهولاكو من غير أن يدخل يديه في الأموال، واحتوى على عقله حتى إنه لا يركب ولا يسافر إلا في وقت يأمره به. ودخل عليه مرة ومعه كتاب مصور في عمل الدرياق «2» الفاروق، فقرأه عليه وعظّمه عنده، وذكر منافعه. وقال: إنّ كمال منفعته أن تسحق مفرداته في هاون «3» ذهب، فأمر له بثلاثة آلاف دينار لعمل الهاون، وولاه هولاكو جميع الأوقاف في سائر بلاده، وكان له في كل بلد نائب يستغل الأوقاف، ويأخذ عشرها، ويحمله إليه ليصرفه في جامكيات المقيمين بالرصد، ولما يحتاج إليه من الأعمال بسبب الأرصاد، وكان للمسلمين به نفع خصوصا الشيعة والعلويين «4» ، والحكماء وغيرهم. وكان يبرّهم، ويقضي أشغالهم، ويحمي أوقافهم، وكان مع هذا كله فيه تواضع وحسن ملتقى «5» قال حسن بن أحمد الحكيم «6» : سافرت إلى مراغة، وتفرّجت في هذا الرصد، ومتوليه صدر

الدين علي بن خواجا نصير «1» ، وكان شابا فاضلا في التنجيم، والشعر بالفارسية، وصادفت الشمس ابن المؤيد العرضي، والشمس الشرواني، وكمال الدين الأيكي، وحسام الدين الشامي، فرأيت فيه من آلات الرصد شيئا كثيرا، منها: ذات الحلق، وهي خمس دوائر متخذة من نحاس: الأول دائرة نصف النهار، وهي مركوزة على الأرض، ودائرة معدّل النهار، ودائرة منطقة البروج، ودائرة العرض، ودائرة الميل، رأيت الدائرة الشمسية [التي] يعرف بها سمت الكواكب، [واصطرلابا يكون سعة قطره ذراعا، واصطرلابات كثيرة، وكتبا كثيرة] «2» قال: وأخبرني شمس الدين ابن العرضي أن النصير أخذ من هولاكو بسبب عمارة هذا الرصد ما لا يحصيه إلا الله، وأقل ما كان يأخذ بعد فراغ الرصد لأجل الآلات وإفراغها وإصلاحها عشرون ألف دينار، خارجا عن الجوامك «3» للحكماء والقومة «4» . وقال الخواجا نصير الدين في" الزيج الإيلخاني» ": إني جمعت لبناء الرصد جماعة من الحكماء، منهم المؤيد العرضي من دمشق، والفخر المراغي

الذي كان بالموصل، والفخر الخلاطي الذي كان بتفليس «1» ، والنجم دبيران القزويني، وابتدأنا ببنائه في سنة سبع وخمسين وستمائة، في جمادى الأولى بمراغة، والأرصاد التي بنيت قبلي وعليها كان الاعتماد دون غيرها هو رصد برجيس «2» ، وله مبنيّ ألف وأربعمائة سنة، وبعده رصد بطليموس، وله ألف ومائتا سنة، وخمس وثمانون سنة. وبعده في ملة الإسلام رصد المأمون ببغداد، وله: أربعمائة سنة، وثلاثون سنة. والرصد البناني في حدود الشام، والرصد الحاكمي بمصر، ورصد بني الأعلم، ببغداد. وأوفقها الرصد الحاكمي ورصد ابن الأعلم، ولهما مائتان وخمسون سنة. وقال الأستاذون: إن أرصاد الكواكب السبعة لا يتم في أقل من ثلاثين سنة «3» ، لأن فيها يتم دور هذه السبعة. فقال هولاكو: اجتهد أن يتم رصد هذه السبعة في اثنتي عشرة سنة. فقلت له: أجهد في ذلك. وكان النصير قد قدم من مراغة إلى بغداد ومعه جماعة كثيرة من تلامذته، وأصحابه. فأقام بها مدة أشهر ومات، وخلف من أولاده: صدر الدين علي،

32 - القطب الشيرازي: [محمود بن مسعود بن مصلح الفارسي]

والأصيل [حسن] «1» ، والفخر أحمد. وولي صدر الدين علي بعد أبيه غالب مناصبه، فلما مات ولي مناصبه أخوه الأصيل، وقدم الشام مع غازان وحكم تلك الأيام في أوقاف دمشق، وأخذ منها جملة، ورجع مع غازان، وولي ولاية «2» بغداد مديدة، فأساء السيرة، فعزل وصودر، وأهين، فمات غير حميد، وأما أخوهما الفخر أحمد فقتله غازان لكونه أكل أوقاف الروم وظلم «3» . ومنهم: 32- القطب الشّيرازيّ: [محمود بن مسعود بن مصلح الفارسيّ «4» ] «13» رجل يرجع إلى خير، وينتجع «5» في أول وأخير، فلم يخل واديه من

منتجع، ولا واديه من جفل «1» قوم مجتمع، وكان له من بني جنكيز خان محلّ حلي بالحلل ترائبه، وخلّي كمد داء الأنواء راتبه، حتى اصطفاه السلطان أحمد، فبعثه إلى الحضرة المنصورية رسولا، وبلّغه من تلك المشاهد سولا «2» ، فحالت الأقدار دون مراده، وأحلّت له السمام في مراده، فلم يبلغ الرسالة، ولا سوّغ له زمنه الذي أساله. وحدّثني شيخنا الأصفهاني قال: كان لا يزال بينه وبين خواجا رشيد الوزير بغضاء تفرّق اللحم، وتدبّ دبيب النار في الفحم، وكان لا يزال ينغّص عليه مقرّه، ولا يريه موارده إلا مكدّره، فكانت جدته «3» لا تقوم بتكاليفه، وموادّه لا تنهض بمصاريفه. على أنه كان ينسب إلى هنات ومعايب بيّنات، على فضل ينتاب، وكرم لا يرد بعتاب «4» .

33 - الشيخ صفي الدين الهندي: [محمد بن عبد الرحيم بن محمد الأرموي، أبو عبد الله، صفي الدين]

ومنهم: 33- الشّيخ صفيّ الدّين الهنديّ: [محمد بن عبد الرّحيم بن محمد الأرمويّ، أبو عبد الله، صفي الدين «1» ] «13» إمام لم يبق إلا من اعترف بسؤدده، واغترف منه بيده، واشترف به على ما أعيا العيان وأخفى البيان، وقرب البعيد ولم يان. وكان بحرا يطفح «2» ، وقطرا «3» يسفح، يرجع إلى كرم سجايا، لو قذف بها النار لما اضطرمت، أو سجرت بها البحار لما التطمت، إلا أنه كان لا تطيعه العبارة إذا نطق، ولا يحدر صيّب سيله إذا اندفق. أخذ عنه أكابر العلماء بدمشق، كابن المرحّل، وابن الزملكاني، وبلغوا به فوق الأماني، وحصّل به ابن المرحّل علوما كانت نجايا الصدر، وأمن ابن الزملكاني أن يعرو النقص كماله كما يعرو البدر. ولولاه لما اتسع بالشام مجال

34 - علي بن إسماعيل بن يوسف الإمام العلامة القدوة العارف ذو الفنون الشيخ علاء الدين قاضي القضاة شيخ الشيوخ أبو الحسن القونوي التبريزي

الكلام، ولا طلعت للمعقول شمس تمحق الظلام. وكان على تدفق بحره وتأنق سحره لا ينفث سحره في عقد الأقلام، ولا يكتب في" نهايته" «1» إلا مالا يرضى به في بدايته من الغلام «2» . ومنهم: 34- علي بن إسماعيل بن يوسف الإمام العلامة القدوة العارف ذو الفنون الشيخ علاء الدين قاضي القضاة شيخ الشيوخ أبو الحسن القونوي التبريزي «13» جمع الطريقين، ونفع الفريقين، ولي المنصبين، ورعى في جانبيهما المخصبين،

فعلا على الألى، وأرتقة أهل النقا، وعلا على مجد ما وصل إليه ذو مجد، ودرّس في الإقليمين «1» فأعجب، وغرس فيهما كل غرس فأنجب، ولم يرد أهل العلم والصلاح إلا بقيته، ولا شهد أهل مصر والشام إلا أولويته، ذلّلت له فيهما الرتب، وسهّلت عليه الأماني فبلغ أقصى علاهما، وطاب به الواديان كلاهما. ولد سنة ثمان وستين وستمائة، وتوفي بدمشق سنة تسع وعشرين وسبعمائة، في ذي القعدة، ودفن بسفح جبل قاسيون، بتربة اشتريت له. تفقّه وتفنّن، وبرع وناظر. قدم دمشق أول سنة ثلاث وتسعين وستمائة، فرتّب صوفيا «2» ، ثم درّس بالإقبالية «3» . وسمع من أبي حفص ابن القوّاص، وأبي الفضل ابن عساكر، وجماعة بمصر من الأبرقوهي، وطائفة «4» . واستوطن مصر، وولي مشيخة سعيد السعداء، وأقام عشرين سنة يصلي

الصبح ويقعد للاشتغال «1» إلى أذان الظهر، وتخرّج به الأصحاب، وانتفع به الطلبة خصوصا في الأصول. وكان ساكنا وقورا، حليما، مليح السمت والوجه، تام الشكل، حسن التعليم، ذكيا، قوي اللغة والعربية، كثير التلاوة والخير. درّس بالشريفيّة بالقاهرة، وبها كان سكنه واشتغاله، ثم لما حضر قاضي القضاة القزويني إلى الديار المصرية عوضا عن قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة، عيّنه السلطان لقضاء قضاة الشام، فأخرج كارها، وكان يقول لأصحابه الأخصّاء سرا: أخملني السلطان كونه لم يولّني قضاء الديار المصرية، وليت كان عيّنني لذلك، وكنت سألته الإعفاء. ولما خرج إلى الشام حمل كتبه على البريد معه، وأظنها كانت وقر خمسة عشر فرسا أو أكثر!. وباشر المنصب أحسن مباشرة، بصلف زائد «2» ، وعفة مفرطة، ولم يكن له نهمة في الأحكام بل رغبته وتطلّعه إلى الأشغال والإفادة. وطلب الإقالة أولا من السلطان فما أجابه، وكان منصفا في بحوثه، ريّضا، معظّما للآثار، ولم يغيّر هيئة التصوف. خرّج له ابن طغريل، وابن كثير، ووصلهما بجملة. وشرح" الحاوي" «3» في أربع مجلدات، موجودة. وله:" مختصر المنهاج"

للحليمي، سمّاه:" الابتهاج" «1» . وله:" التصرّف شرح التعرّف في التصوف" «2» . وكان- رحمه الله تعالى- يعرف الأصلين، والمنطق، وعلوم الحكمة، ويعرف الأدب، وكان مع مخالفته لابن تيمية وتخطئته له في أشياء كثيرة يثني عليه ويعظّمه، ويذبّ عنه، إلا أنه لما توجّه من مصر إلى دمشق، قال له السلطان: إذا وصلت، خلّ نائب الشام يفرج عن ابن تيمية. قال: يا خوند! «3» ، على ماذا حبستموه؟. فقال: لأجل ما أفتى به في تلك المسألة. فقال: إنما حبس للرجوع عنها، فإن كان قد رجع أفرجنا عنه. فكان ذلك سبب تأخيره في السجن. وكان له ميل إلى- سيدي- محيي الدين بن عربي- رضي الله عنه وأرضاه وعنّا به- إلا أن له ردودا على أهل الإلحاد. وكان يتحدّث على حديث أبي هريرة:" كنت سمعه الذي يسمع به" «4» ،

ويشرحه شرحا حسنا، ويبينه بيانا شافيا. وكان يكتب مليحا، قويا، جاريا «1» . قال أبو الصفاء: ورأيته يكتب بخطه على ما يقتنيه من الكتب التي فيها مخالفة السّنّة من اعتزال أو غيره: [الهزج] عرفت الشر لا للشّ ... رّ لكن لتوقّيه ومن لا يعرف الشرّ ... من الخير يقع فيه «2» وكان يترسّل جيدا من غير سجع، ويستشهد بالآيات المناسبة والأحاديث والآيات اللائقة بذلك المقام. ومات بورم الدماغ، بقي به أحد عشر، ومات في بستان ضمنه، وتأسف الناس لموته أسفا كثيرا: [الكامل] عمّت فواضله «3» فعمّ مصابه ... فالناس فيه كلهم مأجور «4» وكتب إلى ناصر الدين شافع وقد طلب منه شيئا من شعره: [الخفيف] غمرتني المكارم الغرّ منكم ... وتوالت عليّ منها فنون شرط إحسانكم تحقّق عندي ... ليت شعري، الجزاء كيف يكون؟

35 - القاضي جلال الدين القزويني، أبو المعالي محمد ابن القاضي سعد الدين أبي القاسم عبد الرحمن بن عمر بن أحمد الشافعي الدلفي

يقبّل اليد الشريفة، لا زالت المكارم مستديمة، وفي سبل الخيرات مستقيمة، وينهي أن بضاعة المملوك من كل الفنون مزجاة، لا سيما من الأدب فإنه فيه في أدنى الدرجات، وقد وردت عليه إشارة مولانا- حرسه الله تعالى- في طلب شيء من الشعر الذي ليس للملوك منه في عير ولا نفير «1» ، ولا حظي منه بنقير ولا قطمير، سوى ما نبذ من الهذيان الذي لا يصلح لغير الكتمان، ولا يحفظ إلا اللسان، والمسؤول من فضل مولانا وكرمه المبذول أن يتم إحسانا إليه بالستر عليه، فإنه وجميع ما لديه من سقط المتاع، ولا يعار لسقطاته ولا لنفاسته ولا يباع، والله يؤيد مولانا ويسعده، ويحرسه بالملائكة ويعضده. وكتب إليه وقد وقف على كتابه الذي سماه:" مخالفة المرسوم في حل المنثور والمنظوم": [الطويل] مخالفة المرسوم وافقت المنى ... وحازت من الإحسان حصل المفاضل أثارت على بخل الأثير أثارة ... من العلم مفتونا بها كل فاضل ومنهم: 35- القاضي جلال الدّين القزوينيّ، أبو المعالي محمد ابن القاضي سعد الدّين أبي القاسم عبد الرّحمن بن عمر بن أحمد الشّافعيّ الدّلفيّ «13»

قاضي القضاة، خطيب الخطباء، أوحد الأئمة، مفيد العلماء، عمدة الطالبين، لسان المتكلمين. من ولد أي دلف، ومن مدد ذلك السلف، من بيت قضاء وإمامة، وضرائر بحر وغمامة، ولي أبوه وأخوه، وتشبّهت النظراء ولم يؤاخوه. قدم مع أخيه الشام، وناب عنه بمدينة دمشق واستوطنها، وولي الخطابة وسقي فتنها، ورقى أعواد المنابر وهزّ غصنها، وكان صدر المحافل إذا عقدت، وصيرفي المسائل إذا انتقدت، وإذا جمعت المجالس كان لسانها، وإذا نظرت المدارس كان إنسانها، وكان خرق «1» اليدين، وطلق الكرم وإن كان بالدّين. وكان له من سلطاننا نظرة عناية ترمقه، وتكبت به البحر إذا أشبهه تدفّقه، وكذلك كانت له من كافل الممالك تنكز، حتى اتّخذه في حجّة رفيقا، وجعله له إلى الله طريقا. ثم تنكّر له بحره، فكادت تنسفه أمواجه، وتلقيه في مهالكها فجاجه، ودام السلطان له على كرم سجيّته، وشيم أريحيّته، فكتب إلى تنكز في توليته قضاء القضاة بالشام حين خلا منصبه، وتخلى له مخصبه، فأظهر تنكز له المعايب، وأساء محضره وهو غايب، فأصرّ السلطان على ولايته وصمّم، وكمّل بادي رأيه فيه وتمّم، وطلبه إلى حضرته مكرّما، وأخمد عنه من نار الثائرة متضرّما، وأوفى

عنه ما أثقل إصره من الديون التي اتخذها ذلك المنكر له عيبا، وانتهب له غيبا. ثم قدم دمشق جامعا بين الخطابة والقضاء، وتصرّف في الإنفاق والإمضاء. ثم لم تطل به المدة حتى طلبه السلطان إلى حضرته ثانيا، وولاه بحضرة القضاء، وأظهر به إذ كرهه نائبه الارتضاء، وكان له منه المنزلة الرفيعة، والمكانة التي ما ردت قط شفيعه، حتى حدثت هنات، وجنيت نيات، فأعاده إلى الشام على القضاء، فما لبث حتى حلّ به صرف القضاء. وكان ممن قدّم وحصّل جانبا صالحا من الفقه واللغة، وعلم المعاني والبيان، وعلم الكلام، واعتنى به، وبرع فيه، وأتقن علم الحكمة إتقانا قلّ فيه من كان يدانيه. واشتهر بحسن البديهة في المجالس والمدارس، ولم يك مقصرا في شان، ولا ثانيا من عنان. وتزيّد في دمشق إكبابه على الاشتغال وطلب العلم وتحصيله، وقراءة الكتب ومطالعتها، ومذاكرة العلماء ومباحثتهم. حكي لي أنه كان لشدة حرصه يحضر بعض خزائن الكتب المشهورة الموقوفة، وكان خازنها لا يرى إخراجها إلى عارية أحد «1» ، فكان يقنع منه بأن يجلس عنده يومه كله لمطالعة ما يحتاج إليه منها، وأنه دام على هذا سنين كثيرة. ولما قدم قاضي القضاة إمام الدين أبو حفص عمر قدم معه أخوه جلال الدين هذا، فلما ولي الحكم بدمشق ناب عنه، وسد خلل أخيه لنقص علم كان فيه، ثم لما ولي ابن صصري «2» القضاء استنابه، ثم خاف منه، وقيل له: إنه اتفق هو

وجماعة من الفقهاء، والصاحب أبي يعلى حمزة ابن القلانسي «1» ، وطائفة من الرؤساء بدمشق على عمل محضر عليه يحكم فيه بفسقه، وأنه كتب وهيّئ ليحكم به في صبيحة يومه، فسارع ابن صصري إلى عزله، وعجل إعلامه به مع العدول الثقات، فبطل ما عملوا، وذهب الصباح بما كانوا بيّتوا له، وبقي في قلب جلال الدين من هذا ما لم يكن له معه حيلة، إلا أنه اتفق مع ابن الزملكاني «2» على إدامة تبكيته في المجالس، وإظهار جهله، وتزييف كلامه، وداما على هذا وكان يحتاج إلى أنه لا يزال يداريهما، ويصانعهما، ويضيّفهما، ويتفقّدهما بالعطايا، وهما على ما هما عليه من تتبع عثراته، وتقصد مساويه. حكى لي الأمين سليمان الحكيم المتطبب قال: حضرت مرة عنده في بستانه

وهما عنده في يوم قد أضافهما فيه، واحتفل، فقال لي: أقم اليوم عندنا. فأقمت، فرأيت من تنويع إكرامه لهما ما يتجاوز الوصف، ورأيتهما يتغامزان عليه، ويتحدثان فيه- إذا قام- بأنواع القبائح، وينسبان إليه غرائب الفضائح، فلما انصرفا تقدّمت إليه وقلت له: قد كان من إكرامك لهذين الرجلين ما لا يحد، وهما يفعلان كذا، ويقولان كذا، فما الذي يحملك على إنفاق مالك على من تكون هذه أفعاله في حقك؟، وهذا باطنه في أمرك؟. فقال لي: يا أخي! أنا- والله- أعلم منهما ما قلت، وفوق ما قلت. وإنما كيف عملي؟ هذان رجلان إمامان عالمان، فاضلان، جريّان، وما عندهما تقوى، وهذا ابن القلانسي كما تعرف، وإذا أراد استشهد كل أهل دمشق بأن النهار ليل، والليل نهار فعل! ولم يعجز. وهذا قاضي القضاة التقي سليمان الحنبلي قاض بطّاش، ويرى ضرري، وضرر أمثالي من الشافعية قربة، ولولا هذا- والله- ما داريتهما، ولكن أحتاج مع وجود هذه البلايا إلى مداراتهما من خلف أذني. قال: فسكتّ وعلمت عذره. قلت: فلما مات ابن صصري وولي الزرعي، خاب أمل جلال الدين، وكان يظن أن المنصب لا يتخطاه، فكان هو وابن الزملكاني وابن القلانسي ممن حسّنوا في أمره ما حسّنوا، حتى سلقته الألسنة، وعزل. ثم صمم السلطان على ولاية جلال الدين، وتنكز يعيبه، وآخر ما عابه بما عليه من الدّين، وبولده عبد الله، وما هو عليه من سوء السيرة. فطلبه السلطان وأوفى دينه، وترك عبد الله مقيما بمصر، وأعاد جلال الدين إلى دمشق حاكما كما تقدّم، فشرع في معاداة الكبراء، وإسخاط قلوب الرؤساء. وأتاه رجل من الفقهاء بأبيات، فقال: الشعر للمجالس، والفقه للمدارس، وبقي النائب يعجبه وقوع مثل هذا منه ويظهر له الاستحسان له ليغري به الناس،

ويملأ عليه الصدور، وكان يريد ذهاب روحه!، فبينا هو في هذا إذ سأل قاضي القضاة بدر الدين ابن جماعة «1» الإقالة، لكبر سنه وعجزه، فأقيل وصرف إلى بيته مكرّما، وطلب جلال الدين وولي قضاء القضاة بمصر عوضه، وولي ابنه بدر الدين محمد الخطابة بدمشق عوضه، مضافا إلى تدريس المدرسة الشامية الجوانيّة، فدخل جلال الدين في عين السلطان، ومساه الحظ من خاطره، وصار يحدّث السلطان في كثير من أمور الناس، وقضيت للناس على يده حوائج، ونجحت مطالب وبلغت مآرب، فكثر ولده عبد الله واقتنى كرائم الخيل الثمينة، وصار يسابق بها الأمراء، وخدام الإدارات السلطانية، ويخالط أولاد الأمراء، ويتوسع في الأبنية، واقتناء الجواري الحسان، والمطربات، ويتعرّض إلى أمور كثيرة، وكان يحمل حبّ أبيه له، على أنه لا يردّه عنها، إلى أن فاض خاطر السلطان، وامتلأ عليه، وطرد ابنه عنه، ثم توسّل في إعادته فأعيد، ثم طرده، ثم توسل في إعادته فأعيد، ثم سعى الناظر الخاص، وابن المرواني والي القاهرة عليه، وأطلقا فيه ألسنتهما وأوصلا به سعايتهما، وسدّدا فيه نكايتهما، فعزله السلطان، وأراد تعريضه للهوان، فنهض له فرد الدهر «2» الأصفهاني، وقام معه قيام مثله من أفراد الدهر، وركب إلى سرياقوس «3» ، وكان السلطان قد خرج إليها

بعد أن صرف جلال الدين عن القضاء، وأتى قوصون، وكان قوصون لا يرى إلا أنه ولد له، فلما أتاه قام له وأكرمه، وقال له: قد جئت إليكم لأجتمع بالسلطان في مصلحة له، ولكم، ما أمكنني إخفاؤها عنكم. فقام قوصون لوقته وعرّف السلطان بمجيئه، وبما قال، فأكبر السلطان مجيئه وقال: قل له يعرفنا بالمصلحة التي رآها. فقال له، فقال: اعلم أن هذا القاضي جلال الدين قاض كبير مشهور في الشرق والغرب، وقد زوج بناتكم، وزوّجكم، وأثبت كتب أملاككم وأوقافكم، وحكم لكم أحكاما كثيرة، ومتى عزل هكذا وخلّي بلا قضاء مع كونه لم يعجز، ولا بلغ به الكبر، حصل بهذا التطرق إليه، وإذا تطرّق إليه انتقض عليكم جميع ما حكم لكم به. وقال له من هذا ومثله ما بلغه إلى السلطان، فقال: صدق الشيخ، ولّوه قضاء الشام كما كان، فأمر له به، وجهّزه إليه، فأقام به مدة، وتنكز لا يبش به، ولا يمكنه منعه. ثم حصل له استرخاء وفالج أبطله؛ فاستناب ولده الخطيب عنه في كل ما ولّاه السلطان، وبقي يراجع في جلائل الأمور إلى أن مات، ودفن بمقابر الصوفية. وهو ممن أخذت عنه علم المعاني والبيان. وقلت أرثيه، وكتبت بها إلى ولده الخطيب بدر الدين محمد: [الطويل] أحقا بأن البحر خف معينه ... وأن وقور الطود خف رزينه أحقا بأن السيف أغمد حدّه ... بطيف كرى ليست تنام جفونه أحقا بأن الشمس غاب ضياؤها ... وقد بان من بدر التمام جبينه أحقا بأن النوء أقلع نائيا ... وآلى يمينا «1» لا تجود يمينه أحقا بأن الدّرّ آن ابتذاله ... وأهوى من الجفن القريح «2» ثمينه

أحقا بأن العلم خفّ نباته ... وأضحى فما فاءت عليه غصونه أحقا لقد غاض الندى بكماله ... نعم ومضى تحت التراب خدينه «1» أحقا دعا داعي الردى علم الهدى ... أم الدهر بالعلياء جنّ جنونه لقد خرّ في المحراب تقوى منيبة ... وفي صدر إيوان القضاء «2» مبينه مضى بجلال الدين كل فضيلة ... وأعظمها عند المفاخر دينه مضى طاهر الأثواب ما شان عرضه ... حسود إذا ما شاء شينا «3» يريبه مضى وهو ملء الدست «4» صدرا معظّما ... يطول إليه شوقه وحنينه إذا ما يراع «6» الخط صرّ صريره ... فما ذاك إلا للعويل «5» أنينه نعى باسمه الناعي فما شك سامع ... بأن انقضاء الدهر قد حان حينه تغيّر ضوء الصبح يوم وفاته ... فلم يبق في الآفاق من يستبينه كأن جلال الدين ما كان في الورى ... إماما لهم حتى أتته منونه فتى دلفيّ في الأبوة جدّه ... أبو دلف هل شبهه أو قرينه

سقى قبره الوضّاح مثل بنانه ... سكوب الغوادي لا تغيب هتونه «1» يضاحكه بالسفح بارق ليله ... تغازله تحت الظلام جفونه فهل بعد هذا اليوم يدّخر الفتى ... بكاء عزيزا عنده لا يهينه أرى الخطباء اليوم بعدك ألبسوا ... حدادا عليهم في الملابس جونه «2» أرى منصب الحكم العزيز تضاءلت ... معاليه وارفضّت عليك متونه أرى المنبر العالي استكنّ لما به ... وكان به فوق السّها «3» مستكينه أرى قلم الإفتاء قد فات وقته ... وكان نظير الغصن تجبى فنونه أرى منطق التدريس أخرس نطقه ... وأصبح إن قال، النهى «4» لا تبينه أرى مجلس التصدير أقوت رحابه ... ولم يرض إيداع الصدور حنينه لقد أغلق التصنيف أبواب كتبه ... وأغفت لأحداث الزمان عيونه فمن للمرجّي خاب ما كان يرتجي ... ومات أريحي كريم يعينه لعمرك ما يجدي الحنين على امرئ ... تحطّ بأكناف القبور ظعونه تمهّل به يا حامل النعش إنه ... يقطّع أصلاب الرجال شطونه «5» وهل يعلم الآتي إلى لحده به ... بأن الهلال المستنير دفينه لقد عطّل الدست الرحيب إمامه ... وفارقه مأمونه وأمينه وو الله إن الموت أكرم نازل ... بحرّ ولا يقضي عليه غبونه فهل ساكن في الدهر ليس يسوؤه ... ومستأمن للدّهر ليس يخونه

وذو غرر بالموت أن لا تغرّه ... أمانيه في الدنيا، نعم وظنونه لتبك المعالي بالدماء سواكبا ... أباها ويبكي للبكاء حزينه فيا أيها الناعي «1» رويدك إنه ... يودّ بمن ينعي لنا لو تكونه غلطت، أهل قاضي القضاة قضى ردى ... أم الشام بالزلزال هدّت حصونه ترفّق ولا تبغي العلى بوفاته ... فذكراك ميعاد البكا وضمينه لعلّ حزينا يملك الصبر قلبه ... يجود بصبر فاضل أستدينه فيا سائق الأظعان قدام جلّق «2» ... وفي التربة الفيحاء يلقى تريبه تعمّد بنا تلك القبور فإننا ... نرود بها روضا جنيّا جنينه وقف بي على ذاك الضريح مسلّما ... فإن فؤادي في التراب رهينه إليك وإلا لا يئنّ صبابة ... كئيب ولا تبدو عليه شؤونه تولّى ابن إدريس وولّيت ذاهبا ... فما عاد للتدريس حرز يصونه تضعضعت الدنيا فلم يبق مذهب ... لعمري لقد هزّ الجبال سكونه فمن بعده هل في الطريقين سالك ... وهل لاح في الوجهين بشر يزينه فكل طريق منه قد سدّ مذهب ... وفي كل وجه بان عيب يشينه ولولا كرام من بنيه أعزّة ... لأوحش منه سيفه ووضينه» ومن مثل بدر الدين بل ليس مثله ... فما غاض بحر العلم وهو معينه فما مثل من قد مات في الناس سيّد ... ولا مثل هذا الحيّ تحمي عرينه ويعزّ عليه أن يكتب إلى مولانا معزّيا، او يسلّيه عمّن لم يجد هو ولا جميع أهل الدنيا عنه مسلّيا، وإنما هي عادة الأيام، وسنّة الدين والإسلام، فالله يعظم

أجر مولانا، ويرحم ميته، ويحسن عزاء الإسلام فيمن شيد بجهاده بناءه وثبّته، فلقد كان- والله- من حماة الدين بسيفه وقلمه، وكماة الكلام في المدارس والمنابر بعلمه وعلمه، فرحم الله تلك المزايا الكرام، وفتح لها أبواب الجنة، وأدخلها إليها بسلام، والعزاء مشترك، ومن نظر بعين الحقيقة علم أن الدّهر أخذ أقلّ مما ترك. وتوفي في جمادى الأولى سنة تسع وثلاثين «1» ، عن أربع وسبعين سنة. قلت: ولما ولي كراي المنصوري «2» كفالة الشام، أتاها وقد هبّت به ريح العدو المتنسّم، والثغور قد استطار برعب من جاورها قلب بارقها المتبسّم، طلب خيل الحجر التي جرت العادة بطلبها معونة من البلاد إذا قدم العدو، وعدم الهدوّ، ولم يكن الاضطرار قد بلغ إلى حد تطلب فيه المعونة، وتحمل به إلى البلاد المؤونة، وشرع النجم ابن هلال في توزيع ذلك الطلب، وتفريع ذلك الظلم الذي باء منه بسوء المنقلب، فطلب من جهات الملك والوقف ما كاد يكون لها ثمنا، واتّخذها له مأكلة حتى كاد يتفقّأ «3» سمنا، وكان أخا بطنة، يأكل حتى يكاد يتبعّج، وجرأة لا يبالي من أي باب منه على النار يتولّج. فاجتمع أهل البلد إلى جلال الدين لأنه إمامهم المتّبع، ورأس المصلّين في

الجماعة وهم له تبع، فقام هو والعلامة مجد الدين أبو بكر التونسي «1» في درء هذه المظلمة، وإخفاء نجم ابن هلال الطالع في هذه الليلة المظلمة. فجمعا أهل الجامع الأموي ومن انضمّ تحت أعلام الخطابه، وأسرع إلى هذه الدعوة المجابه، وخرجوا بالمصحف العثماني والأثر النبوي، وكراي راكب في موكبه، قد شمخ العجب بهامته، فحين رآهم سأل عنهم، فلما أخبر الخبر جنّ جنونه، وظنّ ظنونه، فأمر الحاجب أن يأتيهم فيأمرهم بالرجوع بالمصحف والأثر، ويتقشّع سواد ذلك الجمع الذي حضر «2» ، ثم يأتيه منهم من يعي عنه الخطاب، ويسمع منه الجواب، فأتاه الخطيب والتونسي، وقدّما إليه الإنذار، وأغلظا، ولا سيما التونسي في الإنكار، فأومأ إلى الخطيب ليضربه بيده، وأمر بالتونسي فرمي، وكشف عن جسده، ثم ضربه ضربا جاز أدنى الحد في عدده، فخرجا، والناس تتحرّق ولا ماء يطفي النار، وكان من العجب المقدر وغرائب الاتفاق التي تذكر أن السلطان كان قد أمر بإمساك كراي، وخرج المجهّز لإمساكه، ثم بقي في وثاق المحبس إلى حين هلاكه. ويقال: إن التونسي كتب في ذلك اليوم له من الحروف ما كان من أسباب ما حلّ به من الصروف، أتي كراي بخلعة السلطان فركب بها، وجلس في الإيوان، فأحضر محضر ذلك التشريف معه كتابا قرئ وهو في تلك الحال، وقد ظنّ أن الدهر عن طباعه قد استحال، فإذا فيه المرسوم إلى الأمراء بإمساكه، فأمسك،

وقيّد، والخلعة عليه، ما حلّت أزرارها، ولا أرته عينه إلا ما كأنه غرارها، ولا أجدته الأيام إلا وفي نفعها ضرارها. وكان الخطيب قد كتب إلى السلطان كتابا مضمونه: (الحمد لله رافع السماء وبانيها، وساطح الأرض وداحيها، ومثبتها بالجبال وراسيها، ومزيح الملوك عن أسرّتها وكراسيها. أرسل- سيدنا- محمدا صلى الله عليه وآله وسلم إلى الخلائق جميعا دانيها وقاصيها. وبعد: ذلك لمّا تقدّم المرسوم الشريف العالي، المولوي السلطاني، الملكي الناصري، أدام الله أيامه، وجعل النصر وراءه وأمامه، بأن يستخرج من الأملاك التي بالبلاد الشامية حق أربعة شهور، ولا يعفى عن وقف، ولا عما يكون ليتيم أو مسكين. فأردنا أن ننبّه الذي رسم بأن الأوقاف لا تعفى، وأن يؤخذ من الجامع الشريف ما أخفى، فطلعنا في يوم الاثنين، في شهر الاستغفار «1» ، جمع علماء المسلمين، وأئمة الدين، الذين قال رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم في حقهم:" علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل" «2» ، وقد حملنا على رؤوسنا كتاب

الله المبين، وأثر سيد الأولين والآخرين، حتى نعلم أن الجامع لا يوجب لأن يؤخذ منه حبة، ولا يتعرّض إليه من في قلبه دين. فبدا إلينا حاجب الملك الذي ولّاه أمور الدين، وجعله بجهله حاكما على المسلمين، ولم يمكّنّا من الدخول إلى نائب السلطنة المعظّمة، حتى نشكو إليه ضرر المساكين، شهد الله العظيم أنهم ما استهابوا، ولا هابوا كلام ذي القوة المتين، إلا جوّدوا الضرب على الرءوس والأكتاف والمتين «1» ، وقد طلع من كان قبلنا إلى الذي استفتح البلاد، وكان كافرا بالله العظيم، فنزل عن ظهر جواده، ومشى إليه خاضعا متذلّلا كالمسكين يتذلل وهو تذلّل مستكين، وعفا عن العباد والبلاد، وأوصى جيوشه أن لا يسعوا في الأرض مفسدين، احتراما لكتاب الله، ولأثر سيد الأولين والآخرين- صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم-. فلما طلعنا ورددنا خائبين، طلب نائب السلطنة إماما من أئمة المسلمين، وقد نفخ الشيطان في معاطسه «2» حين خلّاه بما يحدث رهينا أيّ رهين، وجلد ذلك الإمام، وعمل شيئا ما سبقه إليه أحد من العالمين، وجعل يقول- بجهله وقلة عقله وقد أمر بقتله-: أحرقني إن كان لك برهان من البراهين!. فراقب ذلك الإمام مولاه، وناداه في سرّه ونجواه:" يا من لا يشغله شان عن شان، ولا تغلطه مسائل السائلين، اقض بالحق على الظالم يا ديّان يوم الدين". أيها العبد الصالح! إنا خشينا عليك أن تفتن كما فتن الذين من قبلك ثم تولّوا مدبرين، فإذا حكم ربّ السماء والأرض، ونادى يوم القيامة: أحضروا الظالمين. فكيف ينطق من قد افترى على العلماء والفقهاء وأئمة الدين؟، وما احترم كتاب الله الذي أنزل فيه أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ

نَعِيمٍ «1» . فهذا الكتاب يجتمع عليه فقهاء الديار المصرية، ويحكموا فيمن لا خاف يوم تنشر فيه الدواوين، وتحشر فيه الخلائق أجمعين، وينادي مناد من قبل الله- عزّ وجلّ- هذا يوم يجزي الله المتقين، ويخسر فيه الظالمون. وقد علم سيدنا ومولانا السلطان الملك الناصر، ناصر الدنيا والدين «2» - وهو أعلم بمن كان قبله من الملوك والسلاطين- بأن لا يوجب أن يؤخذ من العامة أموالهم، ولا يتعرّض إليهم من في قلبه دين، إلا إذا التقت الفئتان، ونودي: هذا يوم لا قبله ولا بعده، وكانت أمراء الدولة قد اضمحلّ ما عندهم من الأموال والسلاح والخيل، فهنالك عمّن تخلف عن ذلك اليوم فقد أمسى بما كسبت يداه وهو رهين. واعلم أن ما يسبق أحد من خلق الله إلى الجنة غير المجاهدين، فيجب عليك أن تنصر كتاب الله، وكلام الله، وتأخذ الحق ممن افترى وطغى، فيقف على هذا الكتاب فقهاء الديار المصرية، والسلام".

36 - السيد العبري: برهان الدين عبيد الله بن محمد [الشريف] الحسيني الشافعي [الفرغاني] [العاقولي] العبري

ومنهم: 36- السّيد العبريّ: برهان الدّين عبيد الله بن محمّد [الشريف] الحسينيّ الشافعيّ [الفرغانيّ] [العاقوليّ] «1» العبريّ «2» «13» الإمام العلّامة، ابن الإمام العلامة. لسان جبل على الكلام، وبيان جعل لكشف الظلام، سلّ على الباطل حسامه «3» ، وجذب من يده خطامه «4» . ولي القضاء فأرضى، وأقام سنّة وفرضا، وهو- على ما بلغنا- حيّ يحيا به العوالم، وتجلى به العواتم، وبكف نداه وينهم، ويأمر الدهر فيأتمر، ويقف الجواد دون مداه ويستمر. قال الدهلي «5» : ولد بتبريز «6» ، وهو الآن قد جاوز الستين.

إمام في العقليات، منطقها، وحكمتها، وطبّها، وله قوة عظيمة في الخلافيات والجدل، بحّاث مناظر في الغاية، لم نر أحدا يقدر على التدريس مثله. يلقي الدروس في علوم شتى، أكثر من ثلاثين علما في مشكلات الكتب لأفاضل الزمان في كل يوم في بيته، ولم يناظره أحد إلا وغلب معه. وكان فقيها في مذهب الإمام أبي حنيفة- رحمه الله تعالى-، عريقا في أصوله وفروعه، مفتيا لهم. ثم انتقل إلى مذهب الشافعي، وحفظ الحاوي على ابن مصنّفه جلال الدين محمد، وصار إماما في مذهبه، أصلا وفرعا. يفتي في المذهبين. وولي قضاء القضاة بجميع مملكة إيران، شرح" الطوالع «1» "، و" المصباح «2» "،

و" المنهاج «1» " في أصول الفقه، و" إيلاقي" في الطب، و" نقد الصحائف" في الكلام. وعمل كتابا في المنطق في يوم، وأخذ العلوم عن القاضي محيي الدين أبي الحسن بن أبي الفضل بن عبد الحميد بن محمد القزويني قاضي القضاة. وأخذ العقليات عن قطب الدين الشيرازي «2» ، والعبيدي، ووالده. وكان من جملة المحققين. وروى" جامع الأصول" عن القطب الشيرازي، و" شرح السنة «3» " عن محيي الدين القزويني. وروى عن أبيه، عن شيوخه، منهم: العلامة سيف الدين الباخرزي «4» . قال: وله نظم مليح، وخط حسن، وجاه عظيم، وحشمة في الغاية، وترجمته عند السلاطين:" أستاذ البشر العقد الحادي عشر" وله ابن هو: شمس الدين محمد. قال الدهلي: هو المشتهر [ببيرك] فاضل في أكثر العلوم، حسن الجد والخط والعبارة، ولد سنة عشر وسبعمائة، وأخذ عن السيد أكثر فضلاء الشرق، ومنهم: النصير الحلي، وروى المشارق عن الروي عن الصنعاني.

37 - الشيخ شمس الدين الأصفهاني، وهو: محمود بن أبي القاسم بن أحمد، أبو الثناء

ومنهم: 37- الشّيخ شمس الدّين الأصفهانيّ، وهو: محمود بن أبي القاسم بن أحمد، أبو الثّناء «13» الإمام العالم العلّامة، قدوة العلماء والحكماء والفقهاء، والفقراء. وإرث العلم والحكمة، واحد الدهر، معلم الوجود. شمس أضاءت، وسماء على الدنيا فاءت، وإمام قدم دمشق وهي تحكي بغداد زمان عمارتها، وقرطبة حيث استقلّت بنو أمية بإمارتها، لكثرة نجوم العلماء الطالعة، وغيوم النعماء الهامعة، وابن تيمية ونباح قمره، وابن الزملكاني ولفيف سمره، والخطيب القزويني والإجماع عليه في المعقول معقود، وحلق المسجد والفقهاء بها قعود، فلم يبق إلا من اعترف بسؤدده «1» ، واغترف منه بيده، فحلف في فنّ الأصول فننها «2» الرطيب، ونسي به ابن خطيب الري فضلا عن القزويني الخطيب، ولم يعد يلتفت عليه بعد أن قدم في الأصول حلقة إقراء،

ولا شكت الوجاء إليه أقدام القرّاء. طلع صباحا، وسطع مصباحا، وأتى في زيّ تاجر جاء بمتاع، فكانت فرائد الدرّ راهون أعلاقه «1» ، وكتم نفسه وضوء الشمس لا تخفي لوامع إشراقه. نزل بدار ابن هلال، ودارة الهلال أحق بموضعه، وطلع دمشق وأفق السماء أولى بمطلعه، وتردّدت إليه العلماء، وسعت إليه العظماء، وأقام ينشر العلوم، ويمدّ جناح الفضائل على العموم، ويعلم في علم الأوائل أن القطب عليه دار، وأن الطوسي وإن نشر جناح الطاووس عجز عنه لما طار، وأن الآمدي امتدّ معه فقصّر في المضمار «2» ، وأن الفارابي لم ينجّه منه إلا الفرار، وأن ابن سينا ما يجيء سينة من حروفه، وهي حمل الفقار. هذا، إلى علوم شرعية، وفهوم لوذعية «3» ، ومعرفة بالفقه على مذهب الشافعي، يجمع بين قوليه، ووجوه للأصحاب ناضرة ناظرة إليه، واختلاف في طرف الخراسانيين والعراقيين تتفرق، وتجتمع عليه مع علم حديث ما ابن شهاب «4» فيه عنده إلا.... كالأعمش «5» ، وعربية ما الجاحظ لديه فيها إلا كالأخفش، وحقيقة ما صاحب كل طريقة بالنسبة إليها معه إلا واقف في مجاز،

وتبحّر في تفسير جاء فيه بالإعجاز «1» ، وغير هذا من كرم ما البحر عنده إلا مبخّل، ولا السيل المنصبّ من مكانه العالي إلا مخلخل، ولا الغمام إلا وقد تقطّعت عراه، وغمض جفن لأنه كراه، وقيدت إذا همّ الليل عن سراه. كل هذا إلى خلق يتخلّق به الأبرار، ويتحقق صفات الأخيار، ويدلّ على ما وراءها من العمل لما فيه نعم عقبى الدار. كان في بلده جليلا، وفي عدده كثيرا، لا يجد مثله إلا قليلا، صحب السلطان محمد بن خذا بنده، وكان في سيارته من مدرّسي السيارة، وهم جماعة كان يقرر أن يكونوا حيث خيم السلطان. وكان من أنظار القطب الشيرازي وأمثاله، وأحسن حالا منه، عند خواجا رشيد، لما كان يجده في نفسه على الشيرازي، ويرمي به طرفه من الغضاضة «2» ، ويتقصّد به جناحه من الإهاضة «3» . وكان يعلي شمس شيخنا الأصبهاني ويرفعه، ويزين به أفق المجالس ويطلعه، وكان يحاضره ويسامره، ويفيده العلم ويذاكره. وكان يجزل له العطاء، ويدر له

الصّلات «1» ، وينوّه بذكره، وينبّه على جلالة قدره. وقرأ عليه ابنه الوزير الكبير آخر وزراء الشرق بل ملك الرياسة بحكم الحق: أمير محمد بن خواجا رشيد، وتخرّج به، وحصّل. وقدم الشيخ الأصفهاني دمشق واستوطنها فارغا من تلك البلاد «2» ، على عظم مكانته فيها، وامتلاء صدور أهلها بتعظيمه، وأقام والطلبة تتسامع به وتتواصل إليه، وتأتيه من كل جهة ومكان، وكان شيخنا شيخ الإسلام ابن تيمية يثني عليه أحسن الثناء، ويصفه بالفضل الوافر والعلوم الجمّة «3» . قال لي: ما قدم البلاد علينا مثل الشيخ شمس الدين الأصفهاني. ورأيت شيخنا الأصفهاني قد زاره مرة، فقام إليه ومشى خطوات لتلقّيه، وعرض عليه أن يجلس مكانه فأبى. وكنا في ذلك الوقت نقرأ عليه. ودخل وأنا أقرأ في" المسح على الخفين من العمدة" في الأحكام الصغرى، فقال ابن تيمية للأصفهاني: ما نتكلّم وأنت حاضر!. فقال له الأصفهاني: الله، الله يا مولانا، مولانا شيخ السنة، وإمام العلماء. فقال لي ابن تيمية: ما في ها اليوم قراءة «4» . اليوم يوم فراغ لسماع فوائد الشيخ. وأشار إلى الأصفهاني. فلبثت ساعة رأيت فيها مجمع البحرين، ومطلع

النيرين، فكانا فحلين يتصارعان، وسيفين يتقارعان، ثم تركتهما، وأنا أظنّ أن مكة قد انطبق أخشابها «1» ، وأن المدينة قد تلاقت حرّتاها «2» ، ثم طفقت «3» أستثبت هل دمشق قد [..] «4» شرفاها؟، أو الأرض قد اجتمع طرفاها؟. ثم كنت لا أزال أسمع ابن تيمية يعظّمه. وكذلك ابن الزملكاني، وأما الخطيب؛ فإلى غاية لا تبلغ!!. وقال ابن تيمية مرة في تقرير مدرس حضره جلّة العلماء، وحضره الأصفهاني، فتكلم رجل من أعيان العلماء فيه، فقال ابن تيمية: اسكتوا لنسمع ما يقول الشيخ. وأشار إلى الأصفهاني. ثم قال الشيخ شمس الدين بزرك- والبزرك هو الكبير باللغة الفارسية-: ثم كان الخطيب لفرط محبته في الحكمة وعلم الكلام يدعو الأصفهاني إليه ويدع من يقرأ بحضوره عليه ليستفيد. وجرى بينه وبين ابن جملة «5» مرة نزاع في حديث، وكان النقل مع الشيخ فيه، فوبّخ ابن جملة على تجرئه على مثله، وغاية مثله أن يكون كأحد تلاميذه وطلبته الآخذين عنه.

وأقام الشيخ سنين بدمشق، كأنما هو مرفوع على الرءوس لإفراط التعظيم والإجلال. ثم لما طلب الخطيب إلى مصر، وولي القضاء بها، كان لا يزال يتشوق ويتشوف «1» إلى مقدمه عليه ومقامه بمصر. فلما طلبني السلطان شركته في ذلك، وزدت عليه، واتّصل خبره بالسلطان، وطلبه، وأقبل عليه، وأكرم وأدنى منه مجلسه، وبسطه، وأنسه، وأمره بالمقام بحضرته، فأقام وأجرى عليه مرتّبا، وأبقى عليه معلوم التصدير «2» بدمشق، مع الإقامة بمصر للإشغال بها. ثم كنت يوما أنا وقاضي القضاة الخطيب القزويني عند السلطان بالدركاه «3» داخل باب مسجد رديني «4» بالآدر السلطانية، في عقد عقد لبعض الحرم، فأجرى ذكر الشيخ الأصفهاني وكانت المدرسة المعزّيّة «5» بمصر المعروفة بمنازل العز قد شغرت، فولّاها له، ثم بنى الأمير قوصون «6» له الخانقاه «7» التي

بالقرافة، وكان ينزل في كل وقت إليه، ويقعد قدّامه بين يديه، ويقضي كل حوائجه ويبعث بالجمل ليعمل بها أوقات، ويحضرها بنفسه، ويكون فيها مثل أحد تلاميذ الشيخ. وعظمت منزلة الشيخ عند السلطان، وكبرت مكانته في صدره، حتى أمر قوصون أن يقول له: السلطان يقول لك: أنت عندنا كبير، ومكانتك نعرفها، ونريد أننا لا ترد عليك قط في شيء تطلبه منا، ونحن نوصيك بأنك لا تتحدّث في اثنين، ثم مهما أردت قل يسمع منك، وهما: عبد الله بن القاضي جلال الدين «1» ، وأوحد ابن أخي الشيخ مجد الدين الأقسرائي، شيخ خانقاتنا بسرياقوس «2» ؛ فإن هذين الاثنين قد ثبت عندنا نحسهما، وما يمكن أن نقبل فيهما شفاعة. قلت: فكان الشيخ لهذا لا يرى التثقيل عند السلطان في شيء لئلا يطلب ما يستثقل به ويقضيه رعاية له. ثم إن السلطان أبا سعيد بهادر خان «3» بعث كتابا إلى السلطان يطلب فيه

إنفاذ الشيخ إليه لاشتياق الوزير أمير محمد وأهل البلاد إليه، وأكّد في طلبه. وجاء قرينه «1» كتاب من الوزير يقول فيه: إنه من أولاد الشيخ وتلاميذه، وكم يصبر الولد عن والده، والتلميذ عن شيخه؟ وسأل الصدقات السلطانية في تجهيزه. فقال لي السلطان: والله! نحن ما نسمح بالشيخ، ولكن قولوا له: قد بعث أبو سعيد يطلبك هو والوزير، وأهل تلك البلاد، وقد حيّوا السلطان بسببك، والسلطان قد جعل الأمر إليك. فقال الشيخ: لا والله لا أفارق ظل السلطان، ولا أستبدل بهذه البلاد، فأنا ما فارقت تلك البلاد بنية من يعود إليها. فأعجب السلطان هذا منه كل الإعجاب، ووقع منه أحسن المواقع، وجلّ في صدره، وعظم في عينه، وعرف محلّه، وتحقق مكانته في بلاده، وأنه مع ذلك لم يزد إلا حيث استعلت كلمة الإسلام وكانت مباعث الأنبياء والرسل- صلوات الله عليهم-. ثم لما سعت نمال النميمة في القاضي جلال الدين، وتحتّم عزله، وكاد يفضي به الأمر إلى ما أعاذ الله منه نواب شريعته «2» ، وعلماء دينه الذي ارتضى، قام الشيخ في أمره حتى ولي قضاء الشام- على ما تقدم ذكره في ترجمته-.

ولما طلب السلطان أعيان الفقهاء للارتياد بعد جلال الدين لم يفصل رأيا حتى حضر الشيخ، وأخذ رأيه، وكان هو المعظّم في ذلك المجلس، والمقدّم عند السلطان على ذلك الجمع الجمّ. ثم إن السلطان أمسك ابن صورة «1» ، وكان على نظر الأهراء السلطانية «2» ،

وكان الشيخ مزوّجا بابنته، وكان قد اتّهم بأخذ مال جليل للسلطان، وقد أمسكه السلطان وشدّد عليه في الطلب. فأتى الشيخ بنفسه إلى قوصون بسببه، فاعتذر إليه، وقال: هذه ساعة غضب السلطان، ما أقدر أكلّمه فيها!. فقال له الشيخ: أنا أتحدّث مع السلطان. ثم أتاه وطلب الإذن عليه، فدخل فلما رآه وقف له، أكرمه، وأجلسه إلى جانبه، وقال له: في خير؟، ما جاء الشيخ إلا في حاجة؟!. فقال له: نعم!. قال: ما هي؟. قال: ابن صورة. قال: خذه، والله! ما أقدر أردك، ولولاك لكان له حال آخر. فخرج الشيخ فأخذه وانصرف. قلت: وهو اليوم في مصر لإقراء أنواع العلوم الشرعية والعقلية، وعلم المعاني والبيان، والنحو والعربية، والإفتاء، وإفادة الطلبة، والإذن لنبهاء الفقهاء بالإفتاء، وإنشاء أهل العلم والتحصيل، حتى كثر عدد العلماء، واخضرّ به قلم الإفتاء، ولولاه لجفّ بموت من مات من العلماء، لأنه أذن لجماعة بمصر والشام وحلب، وتضرّم به وقود الأذهان والتهب. وهو ممن قرأت عليه أصول الفقه، وعلم المعاني، والبيان. وممن أذن لي وأحسن، وجاد بما أمكن. ولما رحل صاحبنا الشيخ الإمام الفاضل بدر الدين أبو عبد الله محمد الشبلي الحنفي «1» إلى الديار المصرية، كتبت إليه بسببه كتابا نسخته:-

" الحمد لله، وسلام على عباده الذين اصطفى- ومنهم واحد الدهر وكفى-. سيدنا ومولانا، ومبصّرنا بمصالح آخرتنا وأولانا، ومتحفنا بما يقصّر منه عن شكرنا أولانا: السيد العالم الرباني «1» ، المكمّل لنقائص الصور والمعاني، المسلّك «2» على الطريقة، والمملك لأزمّة الحقيقة، قطب الأولياء «3» ، وارث الأنبياء، الإمام المجتهد المطلق، والبحر الزيد المطبق، الداعي إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، والساعي يبلغ من مصالح الأمة في أدنى يوم ما يعجز في سنة، الحجة الواضحة، والمحجّة اللائحة، آخر المجتهدين، شمس الدنيا والدين، معلم المتكلّمين، إمام المتأخرين والمتقدمين: [البسيط] سل عنه وانطق به وانظر إليه تجد ... ملء المسامع والأفواه والمقل «4» لا زالت البصائر به منوّرة، والحدائق بسحبه منورة، والحقائق بعلمه

مصورة، والشرائع بذبّه «1» عن حوزتها مسوّرة «2» ، والبحار الزواخر في مغيض صدره مغوّرة، وشمس السماء بضياء شمسه مكوّرة، وأرض القدماء لدى رياضه اليانعة مبوّرة «3» ، ومنابت الخط إذا نظرت إلى ميامن قلمه تشاءمت بكعاب رماحه المدورة، ودول الأيام تسعد بخيالات أيامه المطوّرة، ولا برحت السيوف تعنو لهممه والسيوف تعزو النفع إلى كرمه، ولا فتيء فتي الدهر وشيخ أبنائه، ولا انفكّ أنف كل معاند راغما بسارّ أنبائه، ولا كان مكان فوق فرق الفرقد «4» إلا دون أدنى بنائه، حتى يلتحق بالزمرة السعداء، ويلقى الله مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء، خدم بها المملوك على قصوره وخضوع أبياته التي كان يتطاول بها في العلياء إلى شوامخ قصوره، مذكّرا بعبودية قديمة، لا يزال لها في كل حين بارقة على إطلاله. وقائلة «5» في ظلاله، وحائمة على زلاله، ومتشوّقة في آفاق الأقمار إلى مطلع هلاله، وملتفة إلى ما يغضّ الأبصار من بديع جلاله، مع وثوقه بأنه إن أغبّ «6» بتذكاره أو غاب، لا يلوي لحظه من سيده مطال «7» مطالب، ولا يغير عوائد تعوده وراب آرب، ولا يبرح له ذاكرا لا ينساه، ومؤانس له والدهر قليل المواساة، إلا صفوة إخوان بهم يبل الرمق، وقليل ما هم، ويقل القلق وهو كثير لولا هم، ومنهم السيد الأخ العزيز، الشيخ الجليل،

الإمام، العالم، الفاضل، الفقيه، المحدّث، المفنّن، مجموع الفضائل، فلان الماثل على حضرته المشرفة بها، والخائض إليها ظلم الليالي لا يبالي بجنح غيهبها «1» ، وهو على ما هو عليه من التحلي بالوفاء في الزمان الغادر، والاتصاف بالصفاء في وقت يبدو فيه الكدر، وأوله ما يبدو من الشفق المحمر في لج الصباح الزاخر، من ذوي الفضل المتعدّد، والعلم المتجدّد، والذهن الساطع، والرأي الصائب القاطع، واليد التي لم تقصر به في التصنيف، ولم تعذر بسببه فيها تهب المسامع التشنيف، هذا إلى ذهن شفّت سرائره، وعرفت أمائره «2» ، وتقى صلحت مضغة قلبه لتصلح سائره، وقد أمّ الآن الديار المصرية المحروسة التي هي الآن فلك شمسه وحضرة قدسه، وموضع ثمار العلماء من غرسه، وقد حمل ظمأه إلى بحره، وشقّ ظلمه إلى فجره، وجاب الفيافي في طلب العلم لديه، واشتمل ذيول الفجاج لحصول الأشمال عليه، وله أسوة بالعلماء الذين امتدت شمسه النيّرة نجومهم، وقدحت مشكاته المضيئة فهومهم، وأمطرت سحبه الروّيّة علومهم، وأطلق إذنه الشريف قلم فتاويهم، وشرف قدره المنيف لهمم معاليهم، ورعى إحسانه المطيف ذمم قصدهم، يقتحمون مناحل أيامهم، وجحافل لياليهم، وهو وإن لم يكن أظهر منهم استحقاقا، وأكثر لإحراز الفوائد استراقا، فما هو بدون جماعتهم، لا بأضعفهم طاقة عن جهة استطاعتهم، والمملوك ممن يثني بين يدي مولانا عليه باستحقاقه، ويصفه بما لا يقدر أحد فيه على شقاقه، وسيظهر له ما يزكي شهادة المملوك في الثناء على فضله والشكر له، وإن لم يكن المملوك من رجال هذا المقام، ولا من أهله، وإن لم يكن:

فقف وقفة قدامه تتعلّم «1» وفي هذا كفاية ومقنع، وغاية وممتع، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته"، انتهى. وكنت كتبت على يده نسخة إذن له بالإفتاء، وهي: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي رفع أقدار العلماء، ونقع بورد الشرائع غلل الظلماء، ورفع بصباح الحق المنير دجى الظلماء، ونصب أعلام الأئمة ليهتدى بهم كنجوم السماء. نحمده على نعمه التي زينت بمجالس العلماء المعابد، وبيّنت فضل العلم إذ كان العالم الواحد أشد على الشيطان من ألف عابد. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تهتزّ بها الأقلام، وتعتزّ ألوية الأئمة الأعلام، وتبتزّ بأيدي حماتها حملة العلم ضوال الإسلام. ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، الذي هدى به من الأضاليل، وحمى من الأباطيل، وفضّله على الأنبياء، وجعل علماء أمته كأنبياء بني إسرائيل «2» . صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أئمة الهدى، وأزمّة الندى، وتتمة كل خير يبتدأ، صلاة متصلة لا تنتهي إلى مدى، وسلم تسليما كثيرا. وبعد: فلما كان مراد العلم أخصب ما انتجع، وزمان الطلب أحق ما يبكى على

فائته لو ارتجع، وهو الذي تشدّ إليه الرحال، وتجدّ إليه الرجال، وتمتطى إليه الهمم، ويخاض الليل وقتير الصباح ما دبّ في سواد اللمم، وتركب إليه الرياح، وتتخطى إليه الرماح، ولم يزل أهل الطلب تفارق فيه الكرى «1» ، وتشمّر الأهداب للسرى، وتنهض وقد أقعد الحرمان أكثر الورى، وتجول في طلبه الآفاق، وتجوب البلاد والنجوم في اللحاق، وتتفاوت في هذا ومثله رتب الطلب، وتتباين قصب العلم والطرب، ولأهل الحديث الشريف النبوي- زاده الله شرفا- في هذا الوسع مجال، وأنجع «2» ركائب تأتي عليها رجال عجال، ويزداد في توسع ذيل الارتحال، وتوسيع أردية الأصل قبل حط الرجال، من تفقّه في الدين وتنبه وما له خدين «3» ، واشتغل بمذهب أول الأئمة الإمام أبي حنيفة- رضي الله عنه- حتى ودّ شقيق الشفق لو نسب إلى نعمانه، ورفيق أول السلف لو تأخّر إلى زمانه، وظهر من فضائله ما وضح وضوح النهار، وأظهر فضوح البحر وفي قلبه النار، وجدّل الأقران لما ناظر، وعلّل السّبب في رقة النسيم بلطائفه لما حاضر، وتفتّح في هذا المذهب المذهب، وأذكى ضرام فهمه فيه فكاد يتلهّب، من دلّه علمه على أن:" طلب العلم فريضة على كل مسلم" «4» ، وسبب السفور لجلاء كل مظلم، إذ كان العلم هو الذي يتماثل في وجوب طلبه المسلمون،

ويتفاضل في علوّ رتبه من قرأ: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ «1» . وفي الحديث: (العلماء ورثة الأنبياء) «2» . وقد جاء: (من يرد الله به خيرا يفقّهه في الدين) «3» . وقال بعض السلف لرجل قال له: إلى متى يحسن بي التعلم؟. قال: ما حسنت بك الحياة. وطالب العلم نهم لا يشبع، ومغتنم لا يقنع، وإناء لا يمتلئ، ومجتهد لا يأتلي، فلما أخذ عن علماء بلده، ونفع بما منهله الغدير ولم يغترف غرفة بيده، لم يجد ذلك وإن كان البحر الزاخر ناقعا «4» لأوامه «5» ، ولا ذلك الخصب الممتد وإن أمرى نافعا لسوامه، ورأى أن تلك الرحاب الفساح في الطلب لا تسعه، وأن تلك المدد الطوال التي قضاها في التحصيل لا تقنعه، فأمّ مصر- حرسها الله تعالى- حيث هي المصر «6» الجامع، والأفق الذي تزينه من علمائه النجوم الطوالع. وأتى لا يريد إلا العلم ولقاء أهله، والزيادة منه لو وجد مزيدا في

فضله. فلم يدع غماما يستسقى ولا إماما عن مثله يتلقّى، ولا من يمتاح «1» له من قليب «2» ، ولا من يرتاح إليه على بعد فكيف والمزار قريب، حتى كادت ركائبه لا تنهض بما أوسقت «3» ، وسحائبه لا تبيض بما سقت، وكان" فلان" هو الذي استفاد وأفاد، وانتقى واستزاد، وضاهى في طلب العلم سري «4» الغمام، وباهى البدور الكوامل وزاد في التمام. الذي اقتحم الدجى لا ترهبه الأسنّة» ، ولافح الرياح لا تزاحمه الأعنّة «6» ، وفهم التنزيل فسكنت نفسه المطمئنة، وعلم الحديث فسلك به طريقا إلى العلم ليسلك الله له به طريقا إلى الجنة «7» . طالما رفعت أعلام الدين بجداله الذي يمنع، وخضعت رؤوس الخصوم بجلاده الذي لا يمنع، ووضعت الملائكة أجنحتها له لأنه طالب علم رضى بما يصنع «8» . وهو ممن حصّل من كلّ علم غاية أو طرفا، وحلّ كل علا وتبوّأ غرفا، وأجاد في

علم الفقه وتوجيهه، وعلم تشعّب طرقه ووجوهه، وعرف فيه وجوه الاختلاف ووجوب الائتلاف، ووجود المقتضي للترجيح، والمرتضى فيما يفتي به على الصحيح، ومن أين استنبطت الأدلّة، وعرف المعلول والعلّة. وتردّد إليّ، وقرأ عليّ، وبحث مع أفاضل العلماء لديّ، وناظر بحضوري أماثل الفقهاء، فملأ أذنيّ، وتكرر حضوره عندي، وظهر لي من مدده السحابي أن محلته لا تكدي. ورأيته أهلا للإفتاء «1» والتدريس، والتصدير «2» ، وولاية المدارس، وغير ذلك، مما ينافس فيه من هذه الرتب العليّة المنافس. وقد استخرت الله، وأذنت له أن يطلق قلمه بالإفتاء، ويلحق بشأو «3» الكهول في سن الفتاء «4» ، وأن يرشد الضّلّال ويرشف من قلمه الزلال، ويتصدّر لإشغال الطلبة ونشر الفقه على ما يوافق في النصّ والقياس مذهبه، واقفا فيما يفتي به عند الصحيح الراجح والحق الواضح، والذي عليه نص مذهب إمامه الإمام أبي حنيفة- رضي الله عنه-، وأصحابه مما عليه الفتوى، وعلى ما ترشد إليه. ومما أوصيه به من التقوى متيقنا أنه- أطال الله عمره- يموت ويبقى ما كتبت يداه، وأن الفتيا إذا خرجت من يده ربما وقعت في أيدي عداه. ثم إن الله سيسأله عما كتب، فليعدّ قبل أن يجيب على الفتوى الجواب، وليعد النظر مما

يكتب به فمن أعاد النظر لم يعدم الصواب. والله تعالى يمدّ له أجلا يسري به في ليل الشبيبة حتى يرى صباح المشيب، ومهلا لا تجف لأنديته ضرع ندي، ولا يخمد لهيب، وأن يبقيه خلفا في الإسلام، وما ذلك من عوائد كرم الله بعجيب، والمسؤول من الله أن يوفّق ولاة الأمور- أعزّهم الله بعزّ طاعته، وصرف كلّا منهم في الخير وسع استطاعته- لإعلاء قدره، واستجلاء بدره، واستملاء ما يكنّه من العلم الجمّ في صدره، وأن يكثروا به في هذا الزمان عدد الفضل القليل، ويأثروا منه الأثر الجميل، ويقدموا منه مستحقا لو أجالوا الفكر لم يجدوا مثله في هذا الجيل، ليصلوا به حبلا لولا مثل هذا في كل أوان لانقرض، ويقيموا بنيانا لولا شبه هذا في كل مكان لا نتقض «1» ، وينظروا لآخر الأمة في مدّ مدد العلم الذي لولا بقية العلماء- وهذا منهم- لم يخض". فلما وصلت إليه تلقّاها بالقبول، وكتبها بخطه إذنا له بالفتوى، وكتب إليّ جوابه؛ فأجبته بما صورته: " يقبّل الباسط «2» الأشرف «3» ، الطاهر «4» ، الزكيّ «5» ، المولويّ، السيدي،

الإماميّ، العلّامي، العامليّ «1» ، الفريديّ «2» ، الأوحديّ «3» ، الحجّيّ «4» ، المسلّكيّ «5» ، المخدوميّ «6» ، الشيخيّ، الشمسيّ، علم الأعلام «7» ، شيخ مشايخ

الإسلام «1» ، مفيد «2» أهل مصر والعراق والشام، فرد الوجود «3» ، ورد الجود، منشئ العلماء والمفتين، إمام المتكلّمين «4» ، سيف الحق «5» ، ملجأ الخلق، جامع الطرق «6» ، شمس الأفق «7» ، ولي أمير المؤمنين «8» ، لا زالت الأيام رافلة في حبره، والأقلام ناقلة لخبره، والأعلام الشوامخ، متضائلة لدى كبره، والكرام تعترف بفضله الذي تعدّ معه عبرة الغمام من عبره، والأحكام لا تطبع حديد مواضيها

إلا من زبره «1» ، والسهام لا تقطع آراؤها الصائبة قطع سيوفه، ولا تحزّ حزّ إبره، تقبيلا يؤدي حقّ شكره، ويوفي بعض نذره، ويولي القبل قبلة إحسانه، ويوصي بنيه بأداء ما في ذمّته وفرضه، وعجز عن ذكره بلسانه، وينهي ورود المثال العالي، فقام المملوك له ووقف على قدمه، ووقف لديه معرضا لخدمه، ونظر إليه فبهت، وحاول شكر أدنى معروفه فصمت، واستظلّ بظل غمامته، واستقلّ سرورا بسلامته، واستقبل الدهر برفع ملامته، وتأمل كرمه ومدّ يده إلى مدامته، وأفضى منه إلى فضاء ملؤه الكرم، ورسيله البحر وتلوه الدّيم «2» ، فترامى المملوك عليه، وكرع في غدير تلك الصحيفة وأمن به، وقد أوجس» البرق في نفسه خيفة، وبايع مؤديه الرشيد لما رأى لمهدي مهديّه خليفة، وقلب وجهه في سماء ذلك السماح، وقلبه في سراء تلك المواهب التي لو جاراها البحر قالت له: إياك والطّماح «4» ، وجبنه في نعماء تلك النعم التي خطت إليها الرياح وتخطّت الرماح، واستبق مضمونه، ولسان محضره في وصف ندي عهده وكرم لم يزل يعد منه يدا مجدده، وهدى فرق به النحر لما أبصر فرقده، ومعروف ما برحت تعرف به الأعلام، وتصرف بالفتاوى الأقلام، وتشرف القبل بالتهاوي إلى مواطن الأقدام، وتلك صدقات مولانا التي شملت من شهد علمه الشريف باستحقاقه، ولهذا أطلق فيه رسن قلمه، ونبّه له، وسن طرفه من حلمه، وأذن له في الإفتاء الذي آن لأن يشرق في أفقه بدره الطالع، ويشرق «5» بغصص حدّه

عدوه الطامع، فجاء مسرورا من كريم جنابه، محبورا بإحسانه بعد أن حظي بالمثول في فنائه الرحيب، وأحسن عن المملوك في منابه المولى الشيخ الفقيه، الإمام العالم، الكامل الفاضل، الحافظ المحدّث، المتقن المتفنّن، العلامة، أوحد العلماء، جمال أهل الإفتاء «1» ، فخر المحدّثين «2» ، شمس العصر، بدر الدين الشبلي- زاده الله فضلا- ولله «3» هو من مستحق قدم مولانا منه إماما، وأمطر طلبه العلم به غماما، وناوله قلم الإفتاء وكثر عدد العلماء به وقد قلّوا، وأرشد السواد الأعظم ببدره الطالع، ولولاه لضلّوا، وأهّل الصدور التصدير منه من مطويّ علمه المحاريب إحناء ضلوعها، وتجري السماء إذ لم تر مثله أعين دموعها، ووصل ووصف وأراه ما كساه فما ظن إلا أنه عليه من ورق الجنة قد خصف، وذكر وشكر، وما جاء إلا بالمعنى المتداول مما أجمع الناس عليه من إحسان مولانا وهو يظن أنه قد ابتكر، وقال وقال، وهيهات أن تبلغ البلاغة أو تحيط الفكر، وناول المملوك المثال العالي «4» الذي لا مثال له إلا ما كتبه كاتب اليمين، وذهّبه موقد جمر الشّفق وكابت به الدر الثمين، وقبّله وسابق نهب اللاثمين، وحلا بما

تضمّنه وإذا بالبحار الزواخر والرياض الزواهر، والسّحب إلا أنها سحب نيسان التي تولد الجواهر، والله الله في مسامحة المملوك في قصور هذا التمثيل، وفتور هذا التشبيه الذي كم له مثيل لشيء ما له مثيل، ولقد وقع هذا الإحسان بموقع من المملوك، وعمّ سائر القلوب وعدّ فضل النعم به إلا أنه غير محسوب، وأرى المملوك زمان مثوله بين يدي سيده حيث المزار قريب، والزمان عزّ ولولا هذا لم يكن صنعه الميل بغريب، ولقد رام المذكور على طلاقة لسنه، وامتداد رسنه، وقدرته على الكلام وكثرة حسنه، أن يعرّف المملوك بما أولاه من منه المنوعة فما قدر ولا زاد على أنه اعترف أنه لا يطيق واعتذر، وها هو الآن قد تصدّى لما أخذ عن مولانا علمه، وحرّك له عزمه، وأحيا الله به موات أموات هذا المذهب، واستعاد فوات ما لو لم يدرك مولانا بقية آخر رمقه بهذا ومثله من العلماء لكاد أن يذهب. وألسنة أهل دمشق كلها بالأدعية لمولانا موليهم هذه النعمة بسببه ناطقة، وبضائع صنائع مولانا في سوق شكرهم نافقة. والمملوك عنهم المترجم، ولإدلاله قد طال ويقبّل تقبيل المتهجّم، والمملوك يستعرض المراسم العالية التي هو طوالع السعود لا ما يدّعيه المنجّم، لا رحت طلبته مثرية المطالب، مورية الهدى في الغياهب «1» ، مجرية الأقلام بالإفتاء، وفي آثارها ولا يلحق زمن الكواكب".

ومن فلاسفة المغاربة، وحكمائها، ومتكلميها ممن كان بالأندلس:

ومن فلاسفة المغاربة، وحكمائها، ومتكلميها ممن كان بالأندلس: 38- يحيى بن يحيى، أبو بكر، المعروف بابن السّمينة «13» من أهل قرطبة «1» . أتقن العلم والحساب، وعلم التصور والاكتساب، وعانق الصبر والاحتساب، وعانى مهمّ الفنّ حتى أوتي أجره بغير حساب، فمات، وآخر الحياة الموت، ونهاية الدرك الفوت، بعد خيرات أثرها، ومبرّات بقيت، وقد أكلت الأيام مؤثّرها، وعمل صالح بلا اكتراث، وعلم نافع يبقى إذا انقطع عمل ابن آدم إلا من ثلاث «2» قال ابن أبي أصيبعة «3» :" قال القاضي صاعد «4» : إنه كان بصيرا بالحساب، والنجوم، والطب، متصرّفا في العلوم، متفنّنا في المعارف، بارعا في [علم النحو] «5» واللغة والعروض، ومعاني الشعر، والفقه، والحديث، والأخبار، والجدل، ورحل إلى المشرق ثم انصرف".

قلت: وقد ذكره ابن المازري «1» ، وقال:" قدم علينا مصر حاجّا، وتسامع به الناس، فأتوه من كل فج، وقرؤوا عليه كتبه، وغيرها، وحبوه «2» بالذهب، وأنواع الحباء، فلم يقبل لأحد شيئا. وكان متقلّلا من الدنيا، زاهدا في حطامها، لا يزال يذكر الموت وهو المطّلع، ويقول: ليت أمي لم تلدني! ". قال:" وكان كثير الصدقة والبر، ولا سيما إذا رأى ذا عجز ظاهر. ملازما للصلوات في أوقاتها. نزل في دار قريبة من المسجد الجامع، ليقرب عليه أداء الفرائض في الجماعة، وكان إذا صلى ظهر عليه من الخشوع وفيض الدموع ما يكاد يرحمه به من رآه. قال: وكان لا يزال ينشد: [الطويل] إذا نظر الدنيا بصير بحالها ... تيقّن أن الدهر جمّ المصائب فمن عارف تصطاده باقتسارها «3» ... وغرّ بها تصطاده بالرغائب فما ماؤها إلا سراب بقيعة ... وما عيشها إلا تحلّم كاذب لحا «4» الله مغترّا بها وصروفها «5» ... وفي بعضها للمرء كل العجائب قال ابن المازري: وأظنها له.

39 - ابن المجريطي: أبو القاسم مسلمة بن أحمد [بن قاسم بن عبد الله]

ومنهم: 39- ابن المجريطي «1» : أبو القاسم مسلمة بن أحمد [بن قاسم بن عبد الله] «13» من أهل قرطبة. مسح الأفلاك وقسمها خططا، ووسمها وما سامها شططا، وكان كأنه بعض كواكبها إشراقا، وجواريّها الكنّس إشفاقا. أشرق إشراق زهرتها، وتدفّق تدفّق المجرة على زهرها، ونفض على الآفاق صبغة أصلها، وذرّ في مقلة الصباح زرقة كحلها. وكان بقرطبة حلية لأيام بني مروان، وزينة لذلك الأوان، أعاد ذاهب زمانهم، والركائب ترد عليهم وترد وجوه النجائب «2» إليهم. قال ابن أبي أصيبعة «3» :" كان في زمان الحكم" «4» .

وقال صاعد «1» :" كان إمام الرياضيين بالأندلس في وقته، وأعلم من كان قبله بعلم الأفلاك، وحركات النجوم، وكانت له عناية بأرصاد الكواكب، وشغف بالمجسطي،- كتاب بطليموس-، وله عدة كتب. وأنجب له ملأ من التلاميذ الأجلّاء، ولم ينجب عالم بالأندلس مثلهم؛ ومنهم: ابن السمح «2» ، وابن الصفّار «3» . وهو أول من أتقن علم الاصطرلاب بالمغرب، والزهراوي «4» ، والكرماني «5» ،

40 - ابن السمح: أبو القاسم أصبغ بن محمد بن السمح الغرناطي القرطبي المهري المهندس

وابن خلدون «1» . قلت: وقد رأيت اصطرلابا من عمله عليها اسمه، وكانت غاية في الحسن، للعروض التي عملت لها صفائحها، إلا أن كواكبها كانت تحتاج إلى تحريك لطول المدة منذ عملت. ورأيت له رسالة في" المجنّب والآفاقية"، كتبتها بخطي لإعجابي بها، ثم غالتها يد الضياع، وغالبت عليها الأيام التي لا تستطاع. ومنهم: 40- ابن السّمح: أبو القاسم أصبغ بن محمّد بن السّمح الغرناطيّ القرطبيّ المهريّ «2» المهندس «13» حكيم ترفع «3» له المبار «4» ، وطبيب تدفع به المضار، قيّم بتركيب الأدوية،

وتفاضل التفضيل والتسوية، أحيا الله به القوى الحيوانية، وحفظ النفس الإنسانية. سلك بنظره في الأبدان، وملك ما ليس لأحد به يدان، ونظر في تفاريق العضل، وتفاريع ما كفى من الأغذية وفضل، واستدلّ بالنبض على ما وراءه، وعرف دواءه على الحقيقة وداءه، بحدس صحيح حصر حتى ضيّق المجاري واتساعها، وانحطاط الدرجات في الأدوية وارتفاعها، إلى غير ذلك من أسباب في علوم، وحساب، ونجوم، وأمور كان بها يقوم. قال ابن أبي أصيبعة «1» :" كان في زمان الحكم". وقال صاعد «2» :" كان محققا لعلم العدد «3» ، والهندسة، متقدّما في علم هيئة الأفلاك وحركات النجوم، وكانت له عناية بالطب، وتواليف الحساب،". وقال:" أخبرني تلميذه أبو مروان الناشئ المهندس أنه توفي بغرناطة «4» ".

41 - أبو الحكم الكرماني: عمرو بن عبد الرحمن بن أحمد بن علي

ومنهم: 41- أبو الحكم الكرمانيّ: عمرو بن عبد الرّحمن بن أحمد بن عليّ «13» من أهل قرطبة. طبيب لا يدقّ عليه غامض، ولا يشق عليه خفاء وامض. وكان مقدّما في التعاليم، ومعظّما في الأقاليم، وجامعا من القوى النفسانية التقاسيم، وأجاد الكلام في أحكام الطب، وإحكام ما يحتاج إليه المستطب «1» ، وعرف في القوى الطبيعية المخدومة والخادمة، والبداية والخاتمة، إلى أن أبرز كل خفية، وأحرز قدر الكمية والكيفية، ولم يزل يعود بملاطفته ويعود بعاطفته، حتى انتعشت به الأرواح في أجسامها، وأمنت به من انتهاب الأقسام واقتسامها، وطردت الصحة الأمراض، وقامت جواهر النفوس بالأعراض. قال ابن أبي أصيبعة «2» :" هو أحد الراسخين في [علم] العدد". وقال صاعد «3» :" إن تلميذه الحسين بن محمد المهندس المنجّم قال: إنه ما ألفى أحدا يجاريه في علم الهندسة، ولا شقّ غباره في فك غامضها، وتبيين مشكلها واستيفاء أجزائها.

42 - ابن واقد [الوزير، أبو المطرف عبد الرحمن بن محمد بن عبد الكبير بن يحيى ابن واقد بن مهند اللخمي]

ورحل إلى المشرق، وانتهى إلى حران [من بلاد الجزيرة] ، وعني هناك بطلب الهندسة، ثم رجع إلى الأندلس، واستوطن ثغر سرقسطة «1» ، وأدخل معه" رسائل إخوان الصفا" ومجرّبات فاضلة فيه. ونفوذ مشهورة في الكيّ والقطع، والشقّ، والبط، وغير ذلك من أعمال الطب، ولم يك بصيرا بالنجوم ولا بالمنطق". ومنهم: 42- ابن واقد [الوزير، أبو المطرّف عبد الرّحمن بن محمّد بن عبد الكبير بن يحيى ابن واقد بن مهنّد اللّخميّ] «13» بيت حكمة، ونبت حشمة، ورئيس طب، ومنية محب، عنيت الدول برفع أخمصه، ودفع منتقصه، وقدمته باستحقاقه لأن يكون مقدّما، ويسدّد رأيه ليفوت مقوّما، فلهذا كان مجاريه لا يقدر له على لحاق، وحاسده ولو كان البدر لا يرى إلا في المحاق «2» ، بلطف لو سحب ردنه «3» الروض لأبهج رقيمه «4» ، أو

الأصيل المعتد لشفاه، وما صحّ من النسيم سقيمه، لم تمدّ يد إلى مجاذبته، ولا طمع في مجانبته. قال ابن أبي أصيبعة «1» :" هو الوزير أبو المطرّف عبد الرحمن بن محمد بن عبد الكبير بن يحيى بن وافد بن مهند اللخمي. أحد أشراف أهل الأندلس، وذوي السلف الصالح منهم، والسابقة القديمة فيهم. عني عناية بالغة بقراءة كتب جالينوس وتفهّمها، ومطالعة كتب أرسطو وغيره من الفلاسفة وتعقلها". قال صاعد «2» :" وتمهّر في تعلّم الأدوية، وصنّف فيه كتابا جليلا لا نظير له، جمع فيه ما قاله ديسقوريدس وجالينوس في الأدوية المفردة، ورتّبه أحسن ترتيب، [وهو مشتمل على قريب من خمسمائة ورقة] «3» . قال:" وأخبرني أنه عانى جمعه وترتيبه وتصحيح ما تضمنه من أسماء الأدوية وصفاتها، وتفصيل قواها، وتحديد درجاتها، نحوا من عشرين سنة، حتى كمل موافقا لغرضه، مطابقا لبغيته. وله في الطب منزع لطيف، ومذهب شريف. كان لا يرى التداوي بالأدوية ما أمكن التداوي بالأغذية، أو كان قريبا منها، ثم إذا اضطر إلى الأدوية لا يرى التداوي بالمركّب ما أغنى المفرد، فإن اضطرّ إلى المركّب لم يكثر التركيب، بل يقتصر على أقلّ ما يمكنه منه، وله نوادر محفوظة وغرائب مشهورة في الإبراء من العلل الصعبة، والأمراض المخيفة بأيسر العلاج. واستوطن طليطلة، وكان أيام ابن ذي النون «4» .

43 - محمد بن يوسف المنجم

ومنهم: 43- محمد بن يوسف المنجّم «13» أديب غلب عليه التنجيم، وعلا قدره فما حصر بالتقويم، وسيّر الشهب حتى صوّرها من توليد خاطره، وصيّرها على لسانه بدلا من ناظره، وحيّرها حتى وقفت له فأصبحت قريحته منها متخيّرة، وأظلها بلألاء أنواره فظلت متحيرة. قال ابن رشيق «1» :" شعره صحيح «2» البناء، ملتئم الأجزاء، ملموم الثواء «3» ، يجيء كأنه قطعة واحدة. غلب عليه التنجيم كأبيه، وكتب ليعلى بن فرح، ثم لولده، وامتدح نصير «4» الدولة مرات، وأورد من شعره: [الطويل] لعمري لئن كنا حليفي صناعة ... لقد سبقت ريش الخوافي القوادم «5»

44 - أبو بكر ابن باجة: ابن الصايغ، واسمه: محمد بن يحيى التجيبي السرقسطي الأندلسي

فقل للذي استهزا «1» بنا في فعاله ... مقالي يقظان وعرضك نائم سيغسل عني الماء فعلك كله ... وقولي باق والعظام رمائم تدبّ على الأعضاء منه عقارب ... وتنفث في الأحشاء منه أراقم «2» فإن كان ذا عرض تلوح كلومه ... فعندي ضمادات له ومراهم ومنهم: 44- أبو بكر ابن باجة «3» : ابن الصّايغ، واسمه: محمّد بن يحيى التّجيبيّ «4» السّرقسطيّ «5» الأندلسيّ «13»

أديب رمي من حالق، وبلي بحارق، ولم يقنع صاحب" القلائد" «1» بأن يضع عليه سمة الفاسق، ذكره ويا بئس ما جاء به في سوقه النافق!. قال فيه: " رمد جفن الدين، وكمد نفوس المهتدين، اشتهر سخفا وجنونا، وهجر مفروضا ومسنونا «2» . قال ابن أبي أصيبعة «3» :" كان علّامة في وقته في العلوم الحكمية، وبلي بمحن كثيرة، وشناعات سيئة، وقصدوا هلاكه مرات، [وسلّمه الله منهم، وكان متميّزا في العربية والأدب] «4» ، وكان حافظا للقرآن، [ويعد من الأفاضل في صناعة الطب، وكان متقنا لصناعة الموسيقي، جيّد اللعب بالعود] .

وقال ابن الإمام «1» :" كان ذا ثقابة الذهن، ولطف الغوص على تلك المعاني الشريفة الدقيقة أعجوبة دهره، ونادرة الفلك في زمانه". " وكان من أجلّ نظّار وقته، ثم أضرب عن النظر ظاهرا لما لحقه من المطالبات في دمه بسببه، وأقبل على العلوم الشرعية، فرأس فيها وزاحم، لكنه لم يلح عليه ضياء هذه المعارف، ويشبه أنه لم يكن بعد أبي نصر الفارابي مثله في الفنون التي تكلم عليها من تلك العلوم، فإذا قرنت أقاويله فيها بأقاويل ابن سينا والغزالي- وهما اللذان فتح عليها بعد أبي نصر بالمشرق في فهم تلك العلوم، ودوّنا فيها، بان لك الرجحان في أقاويله، وحسن فهمه، والثلاثة أئمة دون ريب". وأنشد له الفتح في" القلائد" «2» قوله: [البسيط] يا شائقي حيث لا أسطيع أدركه ... ولا أقول غدا أغدو فألقاه أما النهار: فليلي ضمّ شملته ... على الصباح فأولاه كأخراه أغرّ نفسي بآمال مزخرفة ... منها لقاؤك، والأيام تأباه وقوله «3» : [الكامل] خفّض عليك فما الزمان وريبه ... شيء يدوم ولا الحياة تدوم واذهب بنفس لم تضع لتحلّها ... حيث احتللت بها وأنت عليم يا صاحبي لفظا ومعنى خلته ... من قبل حتى بيّن التقسيم دع عنك من معنى الإخاء ثقيله ... وانبذ بذاك العبء وهو ذميم

واسمح وطارحني الحديث فإنه ... ليل كأحداث الزمان بهيم خذني على أثر الزمان فقد مضى ... بؤس على أبنائه ونعيم فعسى أرى ذاك النعيم وربه ... مرح وربّ البؤس وهو سقيم هيهات ساوت بينهم أجدائهم ... وتشابه المحسود والمرحوم وقوله «1» : [الطويل] أقول لنفسي حين قابلها الردى ... فراغت فرارا منه يسرى إلى يمنى قري تحمدي بعض الذي تكرهينه ... فقد طال ما اعتدت الفرار إلى الأهنى وقوله «2» : [الطويل] أسكّان نعمان الأراك تيقنوا ... بأنكم في ربع قلبي سكّان ودوموا على حفظ الوداد فطالما ... بلينا بأقوام إذا استؤمنوا خانوا سلوا الليل عني مذ تناءت دياركم ... هل اكتحلت لي فيه بالنوم أجفان وهل جرّدت أسياف برق سماؤكم ... فكانت لها إلا جفوني أجفان «3»

45 - المبشر بن فاتك: وهو: الأمير محمود الدولة أبو الوفاء الآمري

ومنهم: 45- المبشّر بن فاتك: وهو: الأمير محمود الدّولة أبو الوفاء الآمريّ «13» طبيب لو جسّ نبض البرق لما اختلف، أو لا طف ما ينافر من الطبائع لائتلف، أعرف باختلاف الفروق من الخيال بالطروق، وأهدى إلى معالجة الدّاء الدويّ «1» من الطفل إلى الثدي، لو عالج النار لخمدها، أو البحار لجمدها، أو شكت إليه الفراقد «2» طول السهر لردّ عليها غمضها، أو السحب المتصبّبة من الرحضاء «3» لأزال ممضّها «4» . تيسّرت على يديه الممتنعات، وأمنت بحسن طبه التبعات، إلا أن أدواء المنية أعيته، وطوارق الأجل بيّتته، فلم يجد لداء منيّته طبّا، ولا لرجاء أمنيّته طبّا، هذا مع ما كان له من أسلاف وإمره، وبيت كم لمعتقيه من طواف به وعمره، لكنه لم يدافع عنه زمره، ولا تجلّت عنه غمره. ذكره ابن أبي أصيبعة، قال «5» :" كان من أعيان [أمراء] «6» مصر، وأفاضل

علمائها، [دائم الاشتغال] محبّ للفضائل، والاجتماع بأهلها، واجتمع بجلّة من الحكماء وأهل الطب، وأخذ عنهم، وكانت له خزائن كتب، وكان في أكثر أوقاته إذا نزل من الركوب لا يفارقها، وليس له دأب إلا المطالعة والتعليق، يرى أن ذلك أهم ما عنده. فلما مات عمدت زوجته «1» إلى الكتب فألقتها في بركة ماء كبيرة كانت في وسط الدار. ثم شيلت «2» الكتب بعد ذلك من الماء وقد غرق أكثرها، وإنما فعلت ذلك لحنقها على الكتب، لكونه كان يتشاغل بها عنها «3» .

46 - الحفيد أبو بكر محمد بن [أبي مروان عبد الملك بن أبي العلاء] زهر [بن أبي مروان عبد الملك بن أبي بكر محمد بن مروان بن زهر الإيادي الأندلسي الإشبيلي]

ومنهم: 46- الحفيد أبو بكر محمّد بن [أبي مروان عبد الملك بن أبي العلاء] «1» زهر [بن أبي مروان عبد الملك بن أبي بكر محمد بن مروان بن زهر الإياديّ الأندلسيّ الإشبيليّ] «13» فاضل متميّز، وكامل إلى الأطباء متحيّز، أخذ من كل علم بحظ وافر، وحق ما الفائز به إلا ذو حظ وافر، وكان يقيس الأمور بأنظارها «2» ، ويحوزها من سائر الأطراف باستحضارها، فأطلّ على ربواتها، واطّلع على هفواتها، حتى كاد يعرف نبض البرق في اختلافه، ويحيط علما بكل موافق وخلافه، هذا إلى آداب ترقّ، ويهب لطفها النسيم ويسترقّ، ومات وفي يده أزمّة الطب، وذهب هو والمستطب، ولم يدفع عن حوبائه تلك المعارف، ولا ذادت من حينه الأجل المشارف، فاستوطن التّرب مخليا للتّرب، ومخليا للسرب، فآها ثم آها «3» ، وويلاه لحسرات لا تتناهى، كيف يأفل مثل قمره؟، وكيف ينقضي طيب سمره؟، وكيف يذهب مثله من العلماء، ويذهب من بين نجوم السماء، وطالما

جلا الدجى، وأنهج طرق الحجى، وامتدّت نحوه أيادي الخلفا، واعتدّت له بحسن الوفا، وثنت العلياء له الوسائد، وأخدمته الأيام والليالي ولائد. قال ابن أبي أصيبعة «1» فيه:" هو الإمام، الوزير، الحكيم، الأديب، الحسيب، الأصيل. مولده بمدينة إشبيلية، ونشأ بها، وتميّز في العلوم، وأخذ [صناعة] الطب عن أبيه، وباشر أعمالها، وكبر، ولم يتغير عليه سوى ثقل السمع. حفظ القرآن الكريم، وسمع الحديث الشريف، واشتغل بالأدب، وأتقن اللغة، وقال الشعر وأجاد في الموشحات، وكان متين الدين، ملازما للأمور الشرعية، قويّ النفس، له جرأة في الكلام، ولم يكن في زمانه أعلم منه بالطب. لازم عبد الملك الباجي سبع سنين يشتغل عليه، وقرأ" المدونة" لسحنون «2» في مذهب مالك، ومسند ابن أبي شيبة، و [حدثني أيضا القاضي أبو مروان الباجي عن أبي بكر بن زهر أنه كان شديد البأس] «3» يجذب قوسا وزنه مائة وخمسون رطلا بالإشبيلي، ورطلها مائة وستون درهما. وكان جيد اللعب بالشطرنج.

وخدم الملثمين، والموحّدين «1» ، وبقي إلى أيام عبد الله الناصر بن المنصور يعقوب «2» ، ومات بمراكش «3» . وحكي أنه كان له صديق يلاعبه الشطرنج، فرآه يوما منقبضا؛ فسأله عما به، فأخبره أن له بنتا زوّجها من رجل، وأنه يحتاج في جهازها إلى ثلاث مائة دينار. فقال له: العب، وما عليك، فإن عندي ثلاثمائة دينار إلا خمسة، واستدعى بها «4» فأعطاها له، فلما كان غير بعيد أتاه الرجل بالذهب، فقال له الحفيد ابن زهر: ما هذا؟. قال: بعت زيتونا لي بسبعمائة دينار، وقد أتيتك منها بثلاثمائة إلا خمسة، عوض ما أقرضتني. وقد بقيت عندي البقية. فقال الحفيد: خذه إليك فإني ما أعطيتكه على أني أعود فيه. فقال له الرجل: لا تفعل فإنني في سعة. وترادّا «5» . فقال له ابن زهر: أنت عدوّي أو صديقي؟. قال: بل صديقك، وأحب الناس فيك. فقال: إن الصديقين مالهما واحد، فخذه، فإن لم تفعل عاديتك بسببه. فأخذه وشكر له. قال القاضي أبو مروان الباجي: وكان المنصور قد قصد أن لا يترك شيئا من كتب المنطق والحكمة باقيا في بلاده، وأباد كثيرا منها بإحراقها بالنار، وشدّد في أن لا يرجع أحد يشتغل بشيء منها، وأنه متى وجد أحدا ينظر في هذا العلم،

أو وجد عنده شيئا من الكتب المصنفة فيه فإنه يلحقه ضرر عليه. ولما شرع في ذلك جعل أمره مفوّضا إلى الحفيد أبي بكر بن زهر، وأنه الذي ينظر. وأراد الخليفة أنه إن كان عند ابن زهر شيء من كتب المنطق والحكمة لم يظهر، ولا يقال عنه إنه يشتغل بها، ولا يناله مكروه بسببها. ولما نظر ابن زهر في ذلك وامتثل أمر المنصور في جمع الكتب من عند الكتبيين، وغيرهم، وأن لا يبقى شيء منها، وإهانة المشتغلين بها. وكان بإشبيلية رجل من أعيانها يعادي الحفيد ويحسده، وعنده شرّ عظيم، فعمل محضرا في أن ابن زهر دائم الاشتغال بهذا الفن والنظر فيه، وأن عنده شيئا كثيرا من كتبه. وجمع فيه شهادات كثيرة، وبعث إلى المنصور. وكان المنصور حينئذ في حصن الفرح، وهو موضع بناه قريبا من إشبيلية، عن ميلين منها، صحيح الهواء، بحيث بقيت الحنطة فيه ثمانين سنة لم تتغير من صحته. وكان أبو بكر بن زهر هو الذي أشار أن يبنيه المنصور في ذلك الموضع، ويقيم فيه في بعض الأوقات، فلما كان المنصور به، وقد أتاه المحضر نظر إليه، ثم أمر أن يقبض على الذي عمله، وأن يودع السجن، ففعل به ذلك وانهزم جميع الشهود الذين وضعوا خطوطهم فيه. ثم قال المنصور: إني لم أترك ابن زهر في هذا إلّا «1» حتى لا ينسبه أحد إلى شيء منه، ولا يقال عنه. والله لو أن جميع أهل الأندلس وقفوا قدامي وشهدوا على ابن زهر بما في هذا المحضر لم أقبل قولهم، لما أعرفه في ابن زهر من متانة دينه، وعقله. وحدثني أبو العباس أحمد بن محمد الإشبيلي قال: كان قد أتى إلى الحفيد اثنان يشتغلان عليه بصناعة الطب، فدخلا عليه يوما وبيد أحدهما كتاب صغير في المنطق، فلما نظر إليه نهض حافيا ليضربهما، وانهزما، وهو يتبعهما، ولم

يرجع إلا من مسافة بعيدة، وانقطعا عنه أياما، ثم توسّلا إليه، واعتذرا، وأظهرا التوبة مما فعلاه، فقبل عذرهما، وأذن لهما في الدخول عليه مستمرّين في قراءة الطب على عادتهما، ثم بعد مدة أمرهما بحفظ القرآن، وقراءة التفسير، والحديث، والفقه، وأمرهما بمواظبة الأمور الشرعية، وآدابها وسننها، وعدم الإخلال بذلك حتى بقي ذلك لهما سجية وطبعا، وعادة قد ألفوها. ثم بعد ذلك أخرج لهما الكتاب بعينه، وقال لهما: الآن صلحتما لقراءة هذا الكتاب، وغيره من أمثاله، وابتدأ في إشغالهما فيه، فتعجبا من فعله- رحمه الله تعالى- وهذا يدل على كمال عقله، وتوفّر مروءته. وحدّثني القاضي أبو مروان الباجي قال: كان أبو زيد عبد الرحمن بن برجان- وزير المنصور- يعادي الحفيد، ويحسده لما يرى من علوّ منزلته، وعلمه، فاحتال عليه في سمّ قدمه إلى الحفيد في بيض وكانت عنده بنت أخته، وكانت أخته وابنتها هذه عالمتين بصناعة الطب، والمداواة، ولهما خبرة جيدة بمداواة النساء، وكانتا تدخلان على نساء المنصور، ولا يقبل للمنصور وأهله ولدا إلا أخت الحفيد أو ابنتها، لما توفيت أمها. فلما أكل الحفيد وبنت أخته ذلك البيض ماتا جميعا، ولم ينفع فيهما علاج. قال: ولم يمت أبو زيد عبد الرحمن بن برجان إلا مقتولا، قتله بعض أقربائه. ومن شعره يتشوق إلى ولده «1» : [المتقارب] ولي واحد مثل فرخ القطا ... صغير تخلّف قلبي لديه نأت عند داري فيا وحشتي ... لذاك الشخيص وذاك الوجيه تشوّقني وتشوّقته ... فيبكي عليّ وأبكي عليه

47 - محمد بن محمد بن عبد الرحمن بن يوسف، ركن الدين، أبو عبد الله، ابن القوبع القرشي، الهاشمي، الجعفري، المالكي، التونسي

ومنهم: 47- محمد بن محمد بن عبد الرحمن بن يوسف، ركن الدين، أبو عبد الله، ابن القوبع «1» القرشي، الهاشمي، الجعفري، المالكي، التونسي «13» الإمام، العلّامة، المتقن، جامع أشتات الفضائل. لبيب مبصر، لا يخاف منه التخبيط، وطبيب مكثر لا يؤتى عليه من التخليط، أتقن العلم إتقانا، ودرب العمل إذ كان لا يغبّ له إتيانا. هذا إلى فضل متّسع، وسبق وراه «2» كل متّبع. جدّ في الطلب حتى كان جذيله المحكّك «3» ، وعذيقه المرجّب لا يشكّك.

وكان حين وخط «1» المشيب عارضه، وأسكت معارضه، أشدّ مما كان عارضة، وأشدّ معارضة. فلم يمتدّ معه لمجادل نفس، ولا رفع رأسه نحو مناظر إلا نكس لثاقب فكرة حطّ عنها قناعها، وكثر لكل قريع الحزم قراعها، فتقهقر كل متقدّم عن مكانه، وعلم أن دونه ما في إمكانه. لم أر له نظيرا في مجموعه وإتقانه، واستحضاره، واطّلاعه. كان مجيدا في الأصول، والحديث، والفقه، والأدب، واللغة، والنحو، والعروض، وأسماء الرجال، والتاريخ، والشعر. يحفظ للعرب، والمولّدين «2» ، والمتأخرين. غاية في الطب والحكمة، ومعرفة الخطوط- خصوصا خطوط المغاربة- قد مهر في ذلك وبرع، وإذا تحدّث الناس في شيء من ذلك كله، تكلّم على دقائقه وغوامضه، ونكته، حتى يظنّ سامعه إنما أفنى عمره في ذلك الفن!. قال شيخنا العلّامة قاضي القضاة أبو الحسن السبكي «3» - وهو ما هو-: ما أعرف أحدا مثل الشيخ ركن الدين. أو كما قال. وقد رأى جماعة ما أتى الزمان لهم بنظير بعدهم مثل الشيخ.

وحكى أبو الفتح ابن سيد الناس «1» : أنه لما قدم إلى الديار المصرية وهو شابّ، حضر سوق الكتب، وابن النحاس شيخ العربية حاضر، وكان مع المنادي ديوان ابن هانئ المغربي، فأخذه الشيخ ركن الدين، وأخذ يترنّم بقول ابن هانيء: [الكامل] فتكات لحظك أم سيوف أبيك ... وكؤوس خمرك أم مراشف فيك «2» وكسر التاء، وفتح الفاء والسين والفاء، فالتفت إليه ابن النحاس، وقال له: ماذا إلا نصب كثير. فقال له الشيخ ركن الدين- بتلك الحدة المعروفة منه والنفرة «3» -: أنا ما أعرف الذي تريده أنت من رفع هذه الأشياء، على أنها أخبار لمبتدآت مقدّرة، أي: أهذه فتكات لحظك، أم كذا، أم كذا؟. وأنا الذي أقوله أغزل وأمدح، وتقديره: أأقاسي فتكات لحظك، أم أقاسي سيوف أبيك، وأرشف كؤوس خمرك، أم مراشف فيك. فأخجل ابن النحاس، وقال: يا مولانا! فلم لا تتصدّر وتشغل الناس؟. فقال- استخفافا بالنحو، واحتقارا له-: وأيش هو النحو في الدنيا؟. أو كما قال.

وحكى أيضا قال: كنت أنا و [شمس الدين ابن] الأكفاني «1» ، نأخذ عليه في" المباحث المشرقية" «2» ، فأبيت ليلتي أفكر في الدرس الذي نصبح نأخذه عنه، وأجهد قريحتي، وأعمل بعقلي وفهمي إلى أن يظهر لي فيه شيء أجزم بأن المراد به هذا، فإذا تكلّم الشيخ ركن الدين كنت أنا في واد وهو في واد!؛ أو كما قال «3» . وحكى المراكشي قال: قال لي الشيخ ركن الدين: لما أوقفني ابن سيد الناس على" السيرة" «4» التي عملها علّمت فيها على مائة وأربعين موضعا، أو مائة وعشرين- السهو مني- أو كما قال. ولقد رأيته مرات يواقف ابن سيد الناس في أسماء الرجال، ويكشف عليها، فيظهر معه الصواب. قال أبو الصفاء «5» :" وكنت يوما أنا وهو عند ابن سيد الناس، فقال: قال

الشيخ تقي الدين ابن تيمية: عمل ابن الخطيب أصولا في الدين. الأصول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ، وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ فنفر الشيخ ركن الدين، وقال له: يا عرّة! «1» عمل الناس وصنعوا وأفكروا فيك، ونهض قائما، وولى مغضبا. قال:" وأخبرني الشيخ فتح الدين «2» قال: جاء إليه إنسان يصحّح عليه في" أمالي القالي" فأخذ الشيخ ركن الدين يسابقه إلى ألفاظ الكتاب، فبهت ذلك الرجل، فقال: «3» لي نحو عشرين سنة ما كرّرت عليها". وكان إذا أنشده أحد شيئا في أي معنى كان أنشد فيه جملة للمتقدّمين والمتأخرين، كأنه كان يكرر عليه تلك الليلة! «4» ". وتولى" نيابة الحكم" «5» للقاضي المالكي بالقاهرة، ثم تركها تديّنا منه.

وقال: يتعذّر فيها براءة الذمة. وكانت سيرته فيها حسنة مرضيّة. وكان يدرّس في" المدرسة المنكدمرية" «1» بالقاهرة، ويدرّس الطب بالبيمارستان المنصوري، وينام أول الليل، ثم يستفيق وقد أخذ راحة، وقد أخذ كتاب" الشفاء" لابن سينا ينظر فيه، لا يكاد يخلّ بذلك. قال الشيخ فتح الدين:" قلت له يوما: يا شيخ ركن الدين! إلى متى تنظر في هذا الكتاب؟. فقال: إنما أريد أهتدي". وكان فيه سآمة وملل حتى في لعب الشطرنج، يكون في وسط الدست وقد نفضه وقطع لذة صاحبه، ويقول: سئمت سئمت. وكذلك في بعض الأوقات [يكون] في بحث وقد حرّر لك المسألة، وكادت تنضج، فيترك الكلام ويمضي!. وكان حسن التودّد يتودّد «2» إلى الناس ويهنّيهم بالشهور والمواسم من غير حاجة إلى أحد، لأنه كان معه مال له صورة ما يقارب الخمسين ألف درهم. وكان يتصدّق سرا على أناس مخصوصين، [وكان مع هذه العلوم] «3» لثغته بالراء قبيحة، يجعلها همزة!. وكان إذا رأى أحدا يضر كلبا أو يؤذيه يخاصمه وينهره، ويقول له: لم تفعل هذا؟ أما هو شريكك في الحيوانية؟. وكان خطه على وضع المغاربة، وليس بحسن. وسمع بدمشق سنة إحدى وتسعين وستمائة على المسند تقي الدين ابن

الواسطي «1» ، واستجزته سنة ثمان وعشرين وسبعمائة، بالقاهرة، باستدعاء فيه نثر ونظم، فأجاب وأجاز، وأجاد نثرا ونظما. أنشدني لنفسه إجازة: [الطويل] جوى يتلظّى في الفؤاد استعاره ... ودمع هتون لا يكف انهماره يحاول هذا برد ذاك بصوبه ... وليس بماء العين تطفا ناره ولوعا بمن حاز الجمال بأسره ... فحاز الفؤاد المستهام إساره كلفت به بدريّ ما فوق طوقه ... ودعصيّ «2» ما يثني عليه إزاره غزال له صدري كناس ومرتع ... ومن حب قلبي شيحه «3» وعراره [من السمر يبدي عدمي الصبر خده ... إذا ما بدا ياقوته ونضاره] «4» جرى سابحا ماء الشباب بروضه ... فأزهر فيه ورده وبهاره «5» يشبّ ضراما في حشاي نعيمه ... فيبدو بأنفاس الصعاد شراره وينثر دمعي منه نظم مؤشّر ... كنور الأقاحي «6» حفّه جلّناره «7»

يعلّ «1» بعذب من برود رضابه ... تفاوح فيه مسكه وعقاره ويسهد أجفاني بوسنان أدعج ... يحيّر فكري غنجه واحوراره حكاني ضعفا أو حكى منه موثقا ... وخصرا نحيلا عال صبري اختصاره معنّى بردف لا ينوء بثقله ... فيا شدّ ما يلقى من الجار جاره على أن ذا مثر وذلك معسر ... ومن محنتي إعساره وإيساره تألّف من هذا وذا غصن بانه ... توافت به أزهاره وثماره تجمع فيه كل حسن مفرق ... فصار له قطبا عليه مداره زلال ولكن أين مني وروده ... وغصن ولكن أين مني اهتصاره؟ وسلسال راح صدّ عني كاسه ... وغودر عندي سكره وغماره دنا ونأى فالدار غير بعيدة ... ولكنّ بعدا صدّه ونفاره وحين درى إن شدّ أسري حبّه ... أحلّ بي البلوى وساء اقتداره ومنها: حكت ليلتي من فقدي النوم يومها ... كما قد حكى ليلي ظلاما نهاره كتمت الهوى لكن بدمعي وزفرتي ... وسقمي تساوى سره وجهاره ثلاث سجلات عليّ بأنني ... أمام غرام قلّ فيك استتاره أورّي بنظمي في العذار وتارة ... بمن إن تفنّى القرط أسفى سواره وجلّ الذي أهوى عن الحلي زينة ... ولمّا يقارب أن يدب عذاره أراحة نفسي كيف منك عذابها ... وجنة قلبي كيف منك استعاره؟ وتوفي الشيخ ركن الدين المذكور- بالقاهرة، في تاسع ذي الحجة، سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة، واعتلّ يومين ومضى إلى رحمة ربه الرحيم، ومولده

48 - محمد بن إبراهيم المتطبب صلاح الدين المعروف بابن البرهان الجرائحي

سنة أربع وستين «1» ، بتونس «2» . وله من التصانيف التي دوّنها:" تفسير سورة ق"، في مجلّدة «3» . ولما تولى الإعادة في المدرسة الناصرية عمل درسا في قوله تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً «4» ، وعلّق عليه ما أملاه في ذلك. وكان- رحمه الله تعالى- قد قرأ النحو: على يحيى بن الفرج بن زيتون. والأصول: على محمد بن عبد الرحمن قاضي تونس. وقدم مصر عام تسعين وسمع بدمشق من ابن الواسطي، وابن القواس، وبحماة من [المحدّث] ابن مزيز «5» . ومنهم: 48- محمد بن إبراهيم المتطبب صلاح الدين المعروف بابن البرهان الجرائحي عالم لا يحصر بأمد، ولا يجيء البحر عنده غير ثمد «6» ، نظر في علوم الأوائل ووجهه ما تلثم بعذاره «7» ، ولا بعد عهده بزمان إعذاره، ففتح أطباق تلك النواويس، حتى استل علومها وسأل عليمها، ونقل إلى حفظه خبايا

أسرارها، وخفايا أسفارها، وحيي به ما مات في لحود رممها، وفات بجمود هممها، واستقل بتلك الأعباء، فحصّل ما كان طالبا، وحسّن بإنفاقه ما جاء جالبا. قرأ الطب على ابن النفيس، وغيره. وقرأ الحكمة، وآخر ما قرأ كتاب" الشفاء" لابن سينا على شيخنا الأصفهاني. كان يتردد إليه من القاهرة إلى الخانقاه القوصونية بالقرافة، لا يعنيه إلا القراءة عليه، ولم يزل حتى أكمله قراءة وبحثا، واستشراحا. وكان طبيبا حكيما، فاضلا، متفلسفا، قائلا بالروحانيات، له ميل إلى النجامة، ومخاطبات الكواكب، وتطلع إلى الكيمياء، يتحدّث فيه، ويصحح قول المتقدمين في صحتها. وحكي لي أنه كان يصحب ابن أمير يعرف بابن سنقر الرومي، وأنه كان يعملها، وصحّت معه طرف منها. وكان يحكى عن هذا ابن سنقر الرومي عجائب وغرائب منها أنه عمل له فسقية «1» معقودة في تربة له بالقرافة، لها منافس للهواء. فلما نجزت اتخذ له غذاء مركّبا مما يخف مقداره، وتكثر تغذيته، ونزل إلى تلك الفسقية، وأمره بتعهّده في كل أسبوع، ويجدّد له الماء، وأنه بقي يتعهّده كذلك. ولكّما أتاه بعد أسبوع، وجده قد تزايد ضعفه عما فارقه عليه، حتى كان رابع أسبوع- قال: أو خامسه، الشك مني- أتيته فوجدته قد غارت عيناه، وخفت حسّه، حتى ظننت أنه قد مات، فحملته أنا وآخر كان قد أطلعه على حاله معي، وأخرجناه،

ونقّطنا في فمه نقطا من الشراب، وأذكينا عنده [ ... ] «1» لنغذوه بها، ثم لم نزل نتعهّده إلى أن نقطنا مرقة فرّوج في فمه، فأفاق ولم يكلّمنا، ودمنا على هذا حتى كلّمنا، وقال لي: لا جزاك الله خيرا!، حلت بيني وبين ما حاولته من الانتقال إلى ما كنت أريد الانتقال إليه إلى خير من هذا العالم، ثم قال: أدركني بفاصد «2» . فقلت: والله لا أفعل. فقال: يا أخي! لا تفعل، أدركني به، ولا تدع ينزل من دمي إلا ما قلّ لترى العجب. فأتيته بفاصد، ففصده، ولم أدعه ينزل من دمه إلا ما قلّ، ثم شددت يده. فقال: احفظ هذا الدم في زجاجة، وسدّ رأسها لا يفسد بالهواء. ففعلت، ثم قال: ائتني بقرعة وإنبيق، فأتيته به، فأداره ثم سكب ذلك الماء عليه، فاستحال فضة بيضاء! فتركه عندي إلى أن عاد إلى معهود صحته، وقويت قواه، ثم خرجنا إلى جهة الخارقانية، وكان له بها تعلق، ثم أمرني أن أذهب إلى بلبيس «3» لأبيع تلك الفضة، وآتيه من عرضها بمأكل، فذهبت بها إلى صائغ فأريته إياها وأنا خائف وجل، لا يظهر له منها عيب، فأخذها واعتبرها، فلما صحّت معه سارع إلى مشتراها مني، فأخذت من الثمن شواء وحلوا وفاكهة، وغير ذلك، وفضل معي ثمان مائة وثلاثون درهما- أو كما قال-، فأتيته بذلك فأكلنا، ثم قال: خذ الدراهم، ولا جزاك الله خيرا لكونك تسببت في عودتي إلى تعب هذا العالم!. قلت: وكان هذا الطبيب عارفا بالطبّ علما لا عملا، لا يحسن العلاج، ولا

يطول روحه على العليل، كثير النزاقة «1» ، عديم التلطّف، كارها لأطباء زمانه، لا يذكر أحدا منهم ولا يذكر له إلا وذمّه، وأطلق لسانه في معايبه. وكان يقول: هؤلاء اليهود قد ارتفع رأسهم، وامتلئوا فوق وسعهم على جهلهم، وقلة حاصلهم، يعني:" السديد الدمياطي" و" فرج الله ابن صغير" ولا يزال يتوقّد منهما غيظا وحسدا لرغبة السلطان والأمراء والكبراء فيهما أكثر منه، وما كان يحصل لهما من الخلع والإطلاقات «2» ، ويصل إليهما من دور السلطان والأمراء لإفراط ميل النساء إلى طبهما، وملاطفتهما. ثم كان إذ ذمّهما يقول لمن يثق به: " وهذا إبراهيم ابن المغربي هو مادّة عزّ هؤلاء اليهود، وكنز غناهم، وبه طاروا وحلّقوا". وهذه ألفاظه بعينها. وكان لا يأكل في اليوم والليلة إلا أكلة واحدة، مؤقتة من الظهر إلى الظهر. وكان يحب لبن الضأن، ويكثر أكله. صحبناه مرة في بلاد الصعيد وكان هو قد تقدم مع" طقزدمر" «3» ، وأخبرني أنه لم يأتدم في تلك السفرة على طول أيامها بشيء غير اللبن إلا مرّات يسيرة، وقال: هو غذاء صالح، وللجسم به إلف من أول زمان الرضاع. وكان أنه ينشّفه ويلقي فيه طاقات من النعنع والملح ويأكله. وكان واسع النعمة كثير المال، ومات أخوه وورث منه مالا كثيرا، فازداد ماله

ضعفا على ضعفه، وكانت له متاجر إلى إخميم «1» ، وقوص «2» ، وأسوان، وسائر بلاد الصعيد. وكان يرى في نفسه الغضاضة لتقدم ابن المغربي عليه في رياسة الطب، ويتشكّى هذا إلى أصحابه، وسأل السلطان في الإعفاء من قطعه الخدمة فقال: لا، ما نعفيك، أنت عندنا عزيز كريم، ونعرف أنه أفضل من إبراهيم- يعني: ابن المغربي-، وأحق، ولكن إبراهيم صاحبنا، وله علينا حق خدمة، وطيّب قلبه، فاستمرّ، ورأى أنه لم يبق له إلا مصافاة ابن المغربي، فخطب إليه أخته فتزوّج بها لقصد الاستصلاح له، لا للزواج. وكان رجلا مسّيكا، مفرط البخل، مقتّرا على نفسه، مضيّقا عليها مع عظيم القدرة والإمكان، وكان لا يأكل إلا من الظهر إلى الظهر، كما ذكرناه، أسوأ أكل، ويلبس أردأ ملبوس، ويركب حمير الكراء، ومع هذا كان من المعدّلين، يجلس مع الشهود الموقعين تحشّما لا تكسّبا، وله وجاهة عند الأمراء والوزراء والكبراء، والحكّام، معظّما في الصدور ويشار إليه بالأنامل، ولم يصنّف مصنّفا، ولا طلع له تلميذ، ولا عرف بغرابة في طبّه. وعرّف الدولة بما له قبل موته، وخلّف أموالا جمّة ورثها السلطان عنه. قلت: وقد كان- رحمه الله- لنا صديقا صدوقا، وصاحبا ملاطفا، وكان يحدّثني بدقيق أمره وجليله، ويطلعني على ما عنده من تقديم الرئيس جمال الدين إبراهيم ابن المغربي عليه، وينسبه إلى أنه يتقصّد قتله واغتياله بالسم، والأمر خلاف ما ظنه، وضدّ ما توهّمه. ولم يكن جمال الدين ممن يخافه لمكانة جمال الدين المكينة عند السلطان،

ولكرم خلائقه وبعده من تقلّد دم حرام لا سيما دم مثله. وقد كنت أقول له ليرجع عن سوء رأيه فيه وأوهامه فلا يرجع، ولا يفيد القول، ثم تزوج في آخر عمره بأخت جمال الدين على عدم حاجته بالنساء- كما يقال-، وأظهر الصفاء وباطنه على كدره. وأعتقد أنه لم يزل على هذا إلى انتهاء عمره. قلت: وحكي لي أنه جلس يوما على حانوت العطار الذي كان يجلس عنده، وطلب منه شرابا يشربه، فناوله شرابا مسموما. قال: فلما شربته أحسست بالسم، وبدت فيّ علاماته، فأسرعت القيام إلى داري، وأخذت خرزة بازهر «1» حيواني كانت عندي، وسحلتها، ثم أذبت السحالة بماء ورد على مسنّ ثم لعقتها، فزالت تلك الأعراض لوقتها، ولم يمض بياض ذلك النهار حتى أكلت طعامي، ولم يعيّن من دسّ ذلك عليه، وما أراد- والله أعلم- إلا جمال الدين ابن المغربي. وقد تقدم القول في بعد جمال الدين من ذلك. قلت: وقد كان ابن البرهان دخل اليمن، واتصل بصاحبها الملك المؤيد داود- رحمه الله- وخدمه مدة، وحصّل من جهته مالا طائلا، كان منه أصل نعمته، ورأس ماليته، ثم فارقه وعاد إلى مصر، وكانت كتبه لا تنقطع عنه، وصلاته تصل إليه، وكان يعرض الكتب التي ترد عليه على السلطان فيأمره بقضاء حوائجه، وكانت الكتب تتضمن طلب كتب طبية، وعقاقير مصرية ومغربية، مما يجل السلطان عن طلب ذلك منه، ويجهّز إلى ابن البرهان ذهبا لمشتراه، فكان يتولى ذلك ويقوم في هذه الخدمة بنفسه. قلت: ولقد قرأت كتابا منها كله بالخط المؤيدي، ومضمونه بعد البسملة:

49 - ابن الأكفاني: محمد بن إبراهيم بن ساعد الأنصاري، شمس الدين أبو عبد الله السنجاري المولد والأصل، المصري الدار

" كتابنا هذا إلى ولينا العبد الشكور، الحكيم، الجليل، الفاضل، المعتمد، الثقة، صلاح الدين معتمد الملوك والسلاطين، أدام الله توفيقه ومراشده، وأسعد مقاصده. نأمره عنا بتسليم عادة إنعامه من حامله، ومعها مائتا دينار مصرية مع ما معها برسم مشترى الحوائج المطلوبة من الديار المصرية، وهو ثلاثمائة دينار، وقد اشتملت التذكرة المجهّزة طيها على ذكره فيقف عليها وينجز المطلوب ويتخيّره، ولا يقطع مطالعاته عن أبوابنا المعمورة- إن شاء الله-". هذه صورة الكتاب ولفظه بنصّه، وعليه اسمه: داود بن يوسف. وقد ذكرت ذلك ليعلم، فقد لا يخلو من فائدة. ومنهم: 49- ابن الأكفاني: محمد بن إبراهيم بن ساعد الأنصاريّ، شمس الدّين أبو عبد الله السّنجاريّ المولد والأصل، المصري الدار «13» حكيم تكلم في الجوهر والعرض، وعرف أسباب الصحة والمرض، وبرهن على الطب وموضوعاته، والعلاج وتبعاته. دقّق في العلم حتى أوضح معالمه الوضعية، وبيّن الفرق في القوى الطبيعية، وجال نظرا في التشريح، وقال فيه بالصريح، وذكر ترتيب الشريان على المنازل، ومكان الصاعد والنازل، بكلام جلاه، وكمال مكّن علاه، ولهذا ساد في أهل عصره، وعاد بالظفر من قام بنصره،

وأهل مصر يظنون أنه لو لامس الماء لالتهب، أو لمس التراب لأحاله إلى الذهب. يدعي أن له علما يقلب الأعيان أسرع من إدراك العيان، لعلوم لم يضرب دونها سترا، وبيان أتقنه و: (إن من البيان لسحرا) «1» . ذكره الفاضل أبو الصفاء الصفدي وقال «2» :" فاضل جمع أشتات العلوم، وبرع في علوم الحكمة، خصوصا الرياضي، فإنه في الهيئة والهندسة والحساب له في ذلك تصانيف وأوضاع مفيدة". وقال:" قرأت عليه قطعة جيدة من كتاب" أقليدس" وكان يحلّ لي فيه ما أقرؤه عليه بلا كلفة كأنما هو ممثّل بين عينيه، فإذا ابتدأت في الشكل شرع هو فيسرد باقي الكلام سردا، وأخذ الميل، ووضع الشكل في حروفه في الرّمل على التختج «3» ، وعبّر عنه بعبارة جزلة فصيحة بيّنة واضحة، كأنه ما يعرف شيئا غير ذلك الشكل. وقرأت عليه مقدمة في وضع الأوفاق؛ فشرحها لي أحسن شرح. وقرأت عليه أول الإشارات، فكان يحل شرح نصير الدين الطوسي بأجلّ عبارة، وأجلى إشارة، وما سألته عن شيء في وقت من الأوقات مما يتعلق بالحكمة من المنطق والطبيعي، والرياضي، والإلهي، إلا وأجاب بأحسن جواب، كأنما كان البارحة

يطالع تلك المسألة طول الليل! ". وأما الطب: فإنه إمام عصره، وغالب طبّه بخواصّ ومفردات يأتي بها وما يعرفها أحد لأنه يغيّر كيفيتها وصورتها، حتى لا تعلم، وله إصابات غريبة في علاجه. وأما الأدب: فإنه فريد فيه، يفهم نكته، ويذوق غوامضه، ويستحضر من الأخبار والوقائع والوفيات للناس قاطبة جملة كبيرة، ويحفظ من الشعر شيئا كثيرا إلى الغاية من شعر العرب، والمولّدين، والمحدثين، والمتأخرين، وله في الأدب تصانيف، ويعرف العروض والبديع جيدا، وما رأيت مثل ذهنه توقد ذكاه بسرعة ما لها رويّة، وما رأيت فيمن رأيت- أصحّ منه ذهنا، ولا أذكر «1» . وأما عبارته الفصيحة الموجزة، الخالية من الفضول، فما رأيت مثلها. كان ابن سيد الناس يقول: ما رأيت من يعبّر عما في ضميره بعبارة موجزة مثله، انتهى. قال أبو الصفاء «2» :" لم أر أمتع منه، ولا أفكه من محاضرته، ولا أكثر اطّلاعا منه على أحوال الناس وتراجمهم، ووقائعهم، ممن تقدّمه، وممن عاصره. وأما أحوال الشرق ومتجدّدات التتار في بلادهم في أوقاتها: فكأنما كانت القصّاد تجيء إليه، والملطّفات تتلى عليه، بحيث إنني كنت أسمع منه ما لم أطّلع عليه من الديوان «3» .

وأما الرّقى «1» والعزائم «2» : فيحفظ منها جملا كثيرة، وله اليد الطولى في الروحانيات، والطلاسم، وما يدخل في هذا الباب. قال: وقرأت عليه من تصانيفه:" إرشاد القاصد إلى أسنى المقاصد" «3» ، و" اللباب في الحساب" «4» ، و" نخب الذخائر في معرفة الجواهر" «5» ، وغنية اللبيب عند غيبة الطبيب" «6» . ومما لم أقرأه عليه من تصانيفه:" كشف الرين في أمراض العين" «7» . قال: وأنشدني لنفسه: [الكامل] ولقد عجبت لعاكس الكيمياء ... في طبّه قد جاء بالشنعاء يلقي على العين النحاس يحيلها ... في لمحة كالفضة البيضاء

وله تجمّل في بيته وملبسه، ومركوبه من الخيل المسوّمة، والبزّة الفاخرة، ثم إنه اقتصر وترك الخيل، وآلى على نفسه أن لا يطبّ أحدا إلا ببيته، أو في المارستان، أو في الطريق، وهو غاية «1» في معرفة الأصناف من الجواهر، والقماش، والآلات، والعقاقير، والحيوانات، وما يحتاج إليه البيمارستان [المنصوري بالقاهرة] «2» ، ولا يشترى، ولا يدخل إليه إلا بعد عرضه عليه، فإن أجازه اشتراه الناظر، وإن لم يجزه لم يشتر البتة، وهذا اطّلاع كثير وخبرة تامّة، لأن البيمارستان يريد كل ما في الوجود مما يدخل في الطب، والكحل، والجراح، وغير ذلك. وأما معرفة الرقيق من المماليك والجواري: فإليه المآل «3» في ذلك، ورأيت المولعين بالصنعة يحضرون إليه ويذكرون له ما وقع لهم من الخلل في أثناء أعمالهم، فيرشدهم إلى الصواب، ويدلهم على إصلاح ذلك الفساد. ولم أره يعوز «4» شيئا من كمال الأدوات، غير أن عربيّته كانت ضعيفة، وخطّه أضعف من مرضى مارستانه، ومع ذلك فله كلام حسن، ومعرفة [جيدة] بأصول الخط المنسوب، والكلام على ذلك، انتهى ما ذكره أبو الصفاء" «5» . قلت: هذا رجل اجتمع بي، وتردّد إليّ غير مرة، وجاريته الحديث كرّة على كرّه، وهو كما ذكره، من الحديث الممتع، والكلام المطمع، وقرأت عليه: [..] «6» ولقد كنت ألتقط من أثناء كلامه ثمرات الحكم، وأستدلّ له بمجاراته على

سعة الاطلاع، ووفور مدد. ورأيت له في هذا ما لم أر لأحد. وكان يستجهل الأطباء، ويستبعد طرق معالجاتهم، ويستبشع كريه وصفاتهم، ويقول: أنا أعالج المرضى بما لا يستكره، كهذه الأدوية الكريهة التي يصفها الأطباء، وأعطي القدر اليسير مما يستطاب، فيقوم مقام الكثير مما يعطونه مما لا يستطاب، ويكون ما أعطيه من نوع الغذاء وهو يقوم مقام الدواء. وحكى لي القاضي ضياء الدين يوسف بن الخطيب أنه احتاج إلى استفراغ «1» ؛ فعرض ما به على الأطباء واستوصفهم «2» ، فقالوا: هذا يحتاج إلى خمسة أيام تتقدّم قبل استعمال دواء. وشرعوا في وصف دواء يشتمل على عقاقير كثيرة كريهة، فلم أجد لي قابلية على ما قالوه. فقلت لابن الأكفاني، فقال: ما يحصل القصد، ثم أتاني ببرنية «3» فيها شراب حماض، وقال: كلما أردت قيام مجلس العق من هذا الشراب لعقة. قال: فلعقت منه تسع لعقات، فقمت تسعة مجالس، وزال ما كنت أشكوه، ثم كنت في كل حين ألعق من ذلك الشراب، وكلما لعقت لعقة قمت مجالسا لا يخالف عدد القيام عدد اللعقات، ولم يخرم معي هذا. وحكى لي الصدر مجد الدين السلامي نحو ذلك، ومع هذا كله، وما لا يجحد من فضله لا يقول أطباء مصر إلا أنه طرقيّ لا طبيب!، وأيّ حسن ما له من يعيب؟!. كضرائر الحسناء قلن لوجهها ... حسدا وبغضا إنه لذميم «4»

فأما أول من استخرج الطب فرجلان:

فأما أول من استخرج الطب فرجلان: لم يعد بعد معهما كارع في لجام، ولا بعدهما إلا خالع الألجام، جلّيا كل مبهم، وتجليا كغرّة الأدهم. فالأول: 50- اسقليبيوس بن ريوس «13» متطبّب لا يقرن بأهل الجدّ إلا إذا هزل، ولا يقرب من مطمح النجم إلا إذا نزل، يجله من تعقّله، ويجهله من ظنّ أنه مع البحار الزاخرة قد تمقّله. عزت إليه الحكماء طبها، وأعزت خطبها، لما أخذ عنه من علم جليل، كم أعاذ من مندم، وصان من دم، وبصّر أعمى، وأثر نعمى، وأخمد من نار سوء المزاج العائث ما تضرّم، حتى لم يبق جسم نحيل يتوجّع، ولا أم عليل تتفجّع. ترفوا به الأعلّاء «1» ملابس صحتها، وترفل بطبّه الأصحّاء في مجرور ذيل فسحتها. قد اتفق كثير من قدماء الفلاسفة والمتطّببين على أنه أول من ذكر من الأطباء، وأول من تكلّم في الطب على طريق التجربة. وكان يونانيا، ولليونان جزيرة كانت للحكماء من الروم ينزلونها، فنسبوا إليها. وقال أبو معشر «2» :" إن بلدة من المغرب كانت تسمى: أرغس، وكان أهلها يسمون أرغيزا، ثم سميت: أيونيا، وسمي أهلها: اليونان. وكان ملكها أحد ملوك الطوائف، وأول من اجتمع له ملك أنونيا، من ملوك اليونانين كان اسمه

أيوليوس، وكان لقبه: دقطاطر، ووضع لهم سننا كثيرة مستعملة عندهم". وقال أبو سليمان السجستاني «1» :" هو إمام الطب، وأبو أكثر الفلاسفة" قال: وينسب إليه أقليدس، وأفلاطون، وأرسطو، وأبقراط، وأكثر اليونانية. قال: وكان أبقراط هو السادس عشر من أولاده، يعني البطن السادس عشر. وقال:" سولون «2» أخوه هو أبو واضعي النواميس". ويقال: إن اسقليبيوس انكشف له أمور عجيبة من أحوال العلاج بإلهام إلهي. ويحكى أنه وجد علم الطب في هيكل كان لهم بروميّة، يعرف بهيكل ابلق، ثم عرف به، وكان بيتا يحجّون إليه، وحجّ إليه جالينوس، [ومما يحقّق ذلك أن جالينوس قال في كتابه في فينكس: إن الله عز اسمه لما خلّصني من دبيلة قتالة كانت عرضت لي". حكى صاحب تاريخ الأطباء «3» : إنه كانت فيه صورة تكلّمهم عندما يسألونه. وقال جالينوس: إن طب اسقليبيوس كان طبا إلهيا. وقال: إن قياس الطب الإلهي إلى طبنا قياس طبنا إلى طب الطرقات. وقال أبقراط: إن اسقليبيوس رفع في عمود من نور. وقيل: إنه كان يستشفى

بقبره. وكان يسرج «1» عليه كل يوم وليلة ألف قنديل، وكان الملوك من نسله، وتدّعي له النبوة، وكان أولاده عالمين بالطب. وقال أبو الوفاء [المبشر] بن فاتك «2» : إن اسقليبيوس كان تلميذ هرمس، ويزعم أن هرمس هو إدريس عليه السلام. وقيل: بل كان اسقليبيوس تلميذ أعاثاديمون المصري «3» ، ومعنى اسمه: السعيد الجد، ويزعم أنه أحد أنبياء اليونانيين. ويقال: إن اسقليبيوس هو البادئ بصناعة الطب في اليونان، وعلما بنيه، وحظر عليهم أن يعلّموها الغرباء. وقد خالف أبو معشر أهل هذا القول، وقال: إنه لم يكن بالمتأله الأول في صناعة الطب، ولا المبتدئ بها، بل إنه عن غيره أخذ، ولمنهج من قبله سلك. وكان يعلّم الطب مشافهة، فلما تضعضع الأمر على أبقراط، وقلّ أهل بيته، لم يأمن أن تتعرض الصناعة، فابتدأ في تأليف الكتب على جهة الإيجاز. ومن كلامه: قوله:" من عرف الأيام لم يمهل الاستعداد". وقوله:" [كم من دهر ذممتموه، فلما صرتم إلى غيره حمدتموه، وكم من أمر أبغضت أوائله وبكي عند أواخره عليه". وقوله:" المتعبّد بغير معرفة كحمار الطاحون يدور ولا يبرح [ولا يدري ما هو فاعل] .

51 - أيلق

وقوله:" فوت الحاجة خير من طلبها إلى غير أهلها. وقوله:" إني لأعجب ممن يحتمي من المآكل الرديئة مخافة الضرر ولا يدع الذنوب مخافة الآخرة". وقوله:" أكثروا من الصمت فإنه سلامة من المقت «1» ، واستعملوا الصدق فإنه زين النطق". وقيل له:" صف لنا الدنيا. فقال: أمس أجل، واليوم عمل، وغدا أمل". وأما الثاني فهو: 51- أيلق «13» ويقال له:" أيلة"، وهو تلو «2» صاحبه، وصنو صوائبه، ومدرك وفاته، ومستدرك فواته، كم منّعا «3» جسوما، وقطّعا الأدواء حسوما، ولا يلقى في المجامع بشر تألّق وذكر بالمسامع يتعلّق، ولم يقصر به دون رجاء ياس، ولا ضاق به مدى فتر «4» في قياس. قال ابن جلجل: إنه أول حكيم تكلّم في الطب ببلد الروم والفرس، وهو أول من استنبط كتاب الإغريقي لهيامس الملك، وتكلم في الطب، وقاسه، وعمل به، وكان بعد موسى عليه السلام، في زمان بذاق الحاكم، وله آثار عظيمة، [وأخبار] شنيعة، وهو يعدّ في كثرة العجائب مثل اسقليبيوس".

ومن هنا نذكر ما وقع عليه قسم كل قسم فأما أهل الجانب المشرقي فمنهم حكماء العرب، والسريان، والعراق، وما معه، والعجم، والهند، والشام، ونبدأ بحكماء العرب:

أطباء العرب ممن كانوا في أول ظهور الإسلام ومن بعدهم

أطباء العرب ممن كانوا في أول ظهور الإسلام ومن بعدهم فمنهم: 52- الحارث بن كلدة الثّقفيّ «13» طبيب العرب، وكانت له معرفة بما يحتاج إليه من مداواتها، وخبرة في طبّ أمراضها وأدواتها، أينع من نبعة البادية غصنه الفينان، وجمع إلى فصاحة العرب حكمة اليونان، ولخصت به تلك العبارات التي لا تفهم، وخلصت خلاص ابن المهلب من الأدهم. وأخذ يعالج سكان البادية بما لا يبعد من أمزجتها، ولا يعد منه خروج عن محجّتها «1» ، بما تعهده في ديارها، وتتعهّد به ملابس غيارها.

وعمّر مدّة في صدر الإسلام، وسطر عدة تحفظ له من حرّ الكلام. وهو الذي تعدّه أمّة العرب سابق أطبائها، وسابق أبنائها، وكفاه شكرا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أجرى له ذكرا. قال ابن أبي أصيبعة «1» :" كان من الطائف، وسافر في البلاد وتعلّم الطب بناحية فارس، وتمرّن هناك، وعرف الداء والدواء. وكان يضرب بالعود، تعلّمه بفارس واليمن، وبقي أيام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم- وأدرك سلطان معاوية. وقال له معاوية: ما الطبّ؟. قال:" الأزم". يعني: الجوع. وفي الحديث:" إن عمر- رضي الله عنه- سأل الحارث بن كلدة: ما الدواء؟. قال: الأزم- يعني الحمية-. وروي عن سعد بن أبي وقاص- رضي الله عنه- أنه مرض بمكة مرضا، فعاده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم- وقال: (ادعوا له الحارث بن كلدة فإنه رجل يطبّب) «2» . فلما نظر إليه الحرث قال:" ليس عليه بأس، اتّخذوا له فريقة «3» بشيء من تمر عجوة، وحلبة «4» ، يطبخان". فتحسّاها، فبرئ. وفد على كسرى أنوشروان، فلما وقف بين يديه قال له: من أنت؟. قال: الحارث بن كلدة الثقفي. قال: ما صناعتك؟.

قال: الطب. قال: أعرابي أنت؟. قال: نعم. قال: فما تصنع العرب بطبيب مع جهلها، وضعف عقولها، وسوء أغذيتها؟. قال: أيها الملك! إذا كانت هذه صفتها كانت أحوج إلى من يصلح جهلها، ويقيم عوجها، ويسوس أبدانها، ويعدل أمشاجها «1» ، فإن العاقل يعرف [ذلك من نفسه، ويميز] موضع دائه، ويحترز عن الأدواء [كلها بحسن سياسته لنفسه] . قال كسرى: فكيف تعرف ما تورده عليها؟. ولو عرفت الحلم لم تنسب إلى الجهل. قال الحارث: الطفل يناغي فيداوى، والحيّة ترقى فتحاوى، ثم قال: أيها الملك! العقل من قسم الله تعالى، قسمه بين عباده كقسمه الرزق فيهم، [فكل من قسمته أصاب، وخص بها قوم وزاد] ، فمنهم مثر ومعدم، وجاهل وعالم، وعاجز وحازم، وذلك تقدير العزيز العليم. فأعجب كسرى من كلامه، ثم قال: فما الذي تحمد من أخلاقها، ويعجبك من مذاهبها وسجاياها «2» ؟. قال الحارث: أيها الملك!، لها أنفس سخية، وقلوب جريّة، ولغة فصيحة،

وألسن بليغة، وأنساب صحيحة، وأحساب شريفة، يمرق من أفواههم الكلام مروق السهم من نبعة «1» الرام، أعذب من هواء الربيع، وألين من السلسبيل المعين، مطعمو الطعام في الجدب «2» ، وضاربو الهامّ «3» في الحرب، لا يرام عزمهم، ولا يضام «4» جارهم، ولا يستباح حريمهم، ولا يذلّ كريمهم، ولا يقرّون بفضل للأنام إلا للملك الهمام الذي لا يقاس به أحد ولا يوازيه سوقة «5» ولا ملك. قال: فاستوى كسرى جالسا، وجرى ماء رياضة الحلم في وجهه، وقال لجلسائه: إني وجدته راجحا، ولقومه مادحا، وبفضلهم ناطقا، [وبما يورده من لفظه] صادقا، وكذلك العاقل الذي أحكمته التجارب. ثم أمره بالجلوس، فجلس. ثم قال: كيف بصرك بالطب؟. قال: ناهيك «6» . قال: فما أصل الطب؟. قال: الأزم. قال: فما الأزم؟.

قال: ضبط الشفتين، والرفق باليدين. قال: أصبت. قال: فما الداء الدويّ «1» ؟. قال: إدخال الطعام على الطعام، هو الذي يفني البريّة، ويهلك السباع في البرّيّة. قال: أصبت. قال: فما العلّة التي تصطلم «2» منها الأدواء؟. قال: هي التخمة. إن بقيت في الجوف قتلت، وإن تحللت أسقمت. قال: فما تقول في الحجامة؟. قال: في نقصان الهلال في يوم صحو لا غيم فيه، والنفس طيبة، والعروق ساكنة، لسرور يفاجئك، وهمّ يباعدك. قال: فما تقول في دخول الحمّام؟. قال: لا تدخله شبعانا، ولا تغش «3» أهلك سكرانا، ولا تقم بالليل عريانا، ولا تقعد على الطعام غضبانا، وارفق بنفسك يكن أرخى لبالك، وقلّل من مطعمك يكن أهنأ لنومك. قال: فما تقول في الدواء؟. قال: ما لزمتك الصحة فاجتنبه، فإن هاج داء فاحسمه بما يردعه قبل استحكامه، فإن البدن بمنزلة الأرض إن أصلحتها عمرت، وإن تركتها خربت.

قال: فما تقول في الشراب. قال: أطيبه أهناه، وأرقّه «1» أمرؤه «2» ، وأعذبه أشهاه، لا تشربه صرفا «3» فيورثك صداعا، ويثير عليك من الأدواء أنواعا. قال: فأي اللّحمان «4» أفضل؟. قال: الجداء الرضع الفتي، والقديد «5» المالح مهلك للآكل. واجتنب لحم الجزور «6» والبقر. قال: فما تقول في الفواكه؟. قال: كلها في إقبالها، وحين أوانها، واتركها إذا أدبرت وولّت، وانقضى زمانها. وأفضل الفاكهة الرمّان والأترج «7» ، وأفضل الرياحين الورد والبنفسج، وأفضل البقول الهندباء «8» والخس. قال: فما تقول في شرب الماء؟. قال: هو حياة البدن، وبه قوامه، ينفع ما شرب منه بقدر، وشربه بعد النوم

ضرر. لأفضله أمرؤه، وأرقّه أصفاه، ومن عظام أنهار البارد الزلال، لا يختلط بماء الآجام «1» ، والآكام، ينزل من صرادح «2» المسطان، ويتسلسل عن الرضراض «3» وعظام الحصبا في الإيفاع «4» . قال: فما طعمه؟. قال: لا يوصف له طعم، إلا أنه مشتق من الحياة. قال: فما لونه؟. قال: اشتبه على الأبصار لونه، لأنه يجلو كل لون يكون فيه. قال: فأخبرني عن أصل الإنسان ما هو؟. قال: أصله من حيث شرب الماء، يعني رأسه. قال: فما هذا النور الذي في العينين؟. قال: مركّب من ثلاثة أشياء؛ فالبياض شحم، والسواد: ماء، والنظر: ريح. قال: فعلى كم جبلّ «5» وطبع هذا البدن؟. قال: على أربعة طبائع؛ المرة السوداء: وهي باردة يابسة. والمرّة الصفراء: وهي حارّة يابسة. والدّم: وهو حارّ رطب. والبلغم: وهو بارد رطب.

قال: فلم لم يكن من طبع واحد؟. قال: لو خلق من طبع واحد لم يأكل ولم يشرب، ولم يمرض، ولم يهلك. قال: فمن طبيعتين، لو كان اقتصر عليهما؟. قال: لم يجز، لأنهما ضدان يقتتلان. قال: فمن ثلاث؟. قال: لم يصلح!، موفقان ومخالف!. فالأربع هو الاعتدال والقيام. قال: فأجمل لي الحارّ والبارد في أحرف جامعة. قال: كل حلو حار، وكل حامض بارد، وكل حريف حار، وكل مرّ معتدل، وفي المرّ حارّ وبارد. قال: فأفضل ما عولج به المرة الصفراء؟. قال: كل بارد ليّن. قال: فالمرّة السوداء؟. قال: كل حارّ لين. قال: والبلغم؟. قال: كل حارّ يابس. قال: والدم؟. قال: إخراجه إذا زاد، وتطفئته إذا سخن، بالأشياء الباردة اليابسة. قال: فالرياح؟. قال: بالحقن اللينة، والأدهان الحارّة اللينة.

قال: أفتأمر بالحقنة؟. قال: نعم. قرأت في بعض كتب الحكماء: أن الحقنة تنقي الجوف، وتكسح الأدواء عنه، والعجب لمن احتقن كيف يهرم! أو يعدم الولد!. وإن الجهل كل الجهل من أكل ما قد عرف مضرّته، ويؤثر شهوته على راحة «1» بدنه!. قال: فما الحمية؟. قال: الاقتصاد في كل شيء، فإن الأكل فوق المقدار يضيق على الروح ساحتها، ويسدّ مسامّها. قال: فما تقول في النساء، وإتيانهنّ؟. قال: كثرة غشيانهنّ رديء، وإياك وإتيان المرأة المسنّة، فإنها كالشّنّ «2» البالي، تجذب قوتك، وتسقم بدنك، ماؤها سمّ قاتل، ونفسها موت عاجل، تأخذ منك الكل، ولا تعطيك البعض، والشابّة ماؤها عذب زلال، وعناقها غنج «3» ودلال، فوها «4» بارد، وريقها عذب، وريحها طيب، وهنها ضيّق، تزيدك قوة إلى قوتك، ونشاطا إلى نشاطك. قال: فأيهنّ القلب إليها أميل، والعين برؤيتها أسرّ؟. قال: إذا أصبتها!!: المديدة القامة، العظيمة الهامة، واسعة الجبين، أقناة

العرنين» ، كحلاء، لعساء «2» ، صافية الخد، عريضة الصدر، مليحة النحر، في خدّها رقّة، وفي شفتيها لعس، مقرونة الحاجبين، ناهدة الثديين، لطيفة الخصر والقدمين، بيضاء، فرعاء «3» ، جعدة «4» ، غضّة بضّة «5» ، تخالها في الظلمة بدرا زاهرا تبسّم عن أقحوان «6» ، وعن مبسم كالأرجوان «7» ، كأنها بيضة مكنونة «8» ، ألين من الزبد، وأحلى من الشّهد، وأنزه من الفردوس والخلد، وأذكى ريحا من الياسمين والورد، تفرح بقربك، وتسرّك الخلوة معها. قال: فاستضحك كسرى حتى اختلجت كتفاه. قال: ففي أي الأوقات إتيانهنّ أفضل؟. قال: عند إدبار الليل يكون الجوف أخلى، والنفس أهدأ، والقلب أشهى، والرحم أدفأ، فإن أردت الاستمتاع بها نهارا تسرح عينيك في جمال وجهها،

ويجتني فوك من ثمرات حسنها، ويعي سمعك من حلاوة لفظها، وتسكن الجوارح كلها إليها. قال كسرى: لله درّك من أعرابي!، لقد أعطيت علما، وخصصت فطنة وفهما. وأحسن صلته، وأمر بتدوين ما نطق به. وقال الواثق بالله في كتابه المسمى:" البستان": إن الحرث بن كلدة مرّ بقوم وهم في الشمس، فقال: عليكم بالظلّ، فإن الشمس تنهج الثوب «1» ، وتنقل الريح، وتشحب اللون، وتهيّج الداء الدفين". ومن كلام الحارث:" البطنة بيت الداء، والحمية رأس الدواء، وعوّدوا كل جسد بما اعتاد". وقيل: هو من كلام عبد الملك بن أبجر. وقد نسب قوم هذا الكلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوله: (المعدة بيت الداء) «2» وهو أبلغ من لفظ

" البطنة". وروي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب- رضي الله عنه وكرّم وجهه- قال:" من أراد البقاء- ولا بقاء- فليجوّد الغذاء، وليأكل على نقاء «1» ، وليشرب على ظماء، وليقلّ من شرب الماء، ويتمدّد بعد الغداء، ويتمشّى بعد العشاء، ولا يبيت حتى يعرض نفسه على الخلاء، ودخول الحمّام على البطنة من شرّ الداء، ودخلة إلى الحمّام في الصيف خير من عشرة في الشتاء، وأكل القديد اليابس في الليل معين على الفناء، ومجامعة العجوز تهدم أعمار الأحياء". وروى حرب بن محمد قال: حدثنا أبي، قال: قال لي الحارث بن كلدة:" أربعة اشياء تهدم البدن: الغشيان على البطنة، ودخول الحمّام على الامتلاء، وأكل القديد، ومجامعة العجوز". وروى داود بن رشيد عن عمرو بن عوف قال: لما احتضر الحارث بن كلدة اجتمع إليه الناس فقالوا له: مرنا بأمر ننتهي إليه من بعدك. فقال:" لا تتزوجوا من النساء إلا شابّة، ولا تأكلوا الفاكهة إلا في أوان نضوجها، ولا يتعالجنّ

أحدكم ما احتمل بدنه الداء، وعليكم بالنّورة «1» في كل شهر؛ فإنها مذهبة للبلغم، مهلكة للمرّة، منبتة للّحم، وإذا تغدى أحدكم فلينم على أثر غدائه، وإذا تعشّى فليخط أربعين خطوة. ومن كلام الحارث أيضا:" دافع بالدواء ما وجدت مدفعا، ولا تشربه إلا من ضرورة، فإنه لا يصلح شيئا إلا أفسد مثله". وقال سليمان بن جلجل: أخبرنا الحسن بن الحسين الأزدي، قال: أخبرنا محمد بن سعيد الأموي، عن عبد الملك بن عمير قال:" كان أخوان من ثقيف من بني كنّه، يتحابّان، لم ير قط أحسن ألفة منهما، فخرج الأكبر إلى سفر فأوصى الأصغر بامرأته، فوقعت عينه عليها يوما، ولم يتعمّد لرؤيتها، فهويها، وضني، وقدم أخوه فجاءه بالأطباء، فلم يعرفوا ما به. إلى أن جاءه بالحارث بن كلدة، فقال: أرى عينين محتجبتين، وما أدري ما هذا الوجع؟ وسأجرب، فاسقوه نبيذا. فلما عمل «2» النبيذ فيه قال: [الهزج] ألا رفقا ألا رفقا ... قليلا ما أكوننّه ألمّا «3» بي إلى الأبيا ... ت بالخيف أزرهنّه غزالا ما رأيت اليو ... م في دور بني كنّه أسيل «4» الخدّ مربوب ... وفي منطقه غنّه «5»

53 - النضر بن الحارث بن كلدة

فقالوا له: أنت أطبّ العرب. ثم قال: ردّدوا النبيذ عليه. فلما عمل فيه قال: [مجزوء الخفيف] أيها الجيرة اسلموا ... وقفوا كي تكلّموا وتقضوا لبانة «1» ... وتحبوا وتنعموا خرجت مزنة «2» من ... البحر ريّا تحمحم «3» هي ما كنّتي «4» وتز ... عم أني لها حم «5» قال: فطلّقها أخوه، ثم قال له: تزوّج بها يا أخي!. فقال: لا والله! لا تزوّجتها. فمات وما تزوّجها «6» . ومنهم: 53- النّضر بن الحارث بن كلدة «13» وهو ابن خالة النبي- صلى الله عليه وآله وسلم-.

طبيب أثرت به تلك البلاد المقفرة، وأثّر بطبّه في أمزجة تلك الحمر المستنفرة «1» . تبع طريق أبيه، وأضاف إلى تالد «2» والده ظريف تأتّيه، ودرب العلاج حتى كاد يبرئ الأكمه «3» ، وكان يعرف بضياء الحس، ودرس الحكمه. ولم ينفعه من جهة الأمومة الشريفة النبوية قربه، ولم يمنعه وقد قضى عليه بالبعد ربّه قتل بسيف النبوة صبرا، وعجّل له مثوى في جهنّم يسمّى قبرا. قال ابن أبي أصيبعة «4» :" كان النضر قد سافر البلاد كأبيه، واجتمع مع الأفاضل والعلماء بمكة وغيرها، وعاشر الأحبار والكهنة، واشتغل، وحصّل من العلوم القديمة أشياء جليلة القدر، واطّلع على علوم الفلسفة، وأجزاء الحكمة، وتعلّم من أبيه أيضا ما كان تعلّمه من الطب وغيره. وكان النضر يؤاتي أبا سفيان في عداوة النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- لكونه كان ثقفيا، كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:" قريش والأنصار حليفان، وبنو أمية وثقيف حليفان" «5» . وكان النضر كثير الأذى والحسد للنبي- صلى الله عليه وآله وسلم- ويتكلم فيه بأشياء كثيرة، كما يحطّ من قدره عند أهل مكّة، ويبطل ما أتى به

- بزعمه-، ولم يعلم- بشقاوته- أن النبوة أعظم؛ والسعادة أقدر؛ والعناية الإلهية أجلّ؛ والأمور المقدرة أثبت. وإنما النضر اعتقد أن بمعلوماته وفضائله وحكمته يقاوم النبوة، وأين الثرى من الثريا، والحضيض من الأوج، والشقي من السعيد!. وما أحسن ما وجدت حكاية ذكرها أفلاطون في كتاب النواميس، في أن النبي وما يأتي به لا يصل إليه الحكيم بحكمته، ولا العالم بعلمه". قال أفلاطون:" وقد كان مارينوس ملك اليونانيين الذي يذكره أوميرس الشاعر باسمه وجبروته، وما تهيّأ لليونانيين في سلطانه، رمي بشدائد في زمانه، وخوارج في سلطانه، ففزع إلى فلاسفة عصره، فتأملوا مصادر أموره ومواردها، وقالوا له: قد تأمّلنا أمرك فلم نجد فيه من جهتك شيئا يدعو إلى ما لحقك، وإنما يعلم الفيلسوف الإفراطات وسوء النظام الواقعين في الجزء. فأما ما خرج عنه فليس تبحث عنه الفلسفة، وإنما يوقف عليه من جهة النبوة، وأشاروا عليه أن يطلب نبيّ عصره ليجتمع معهم مع علمهم ما ينبئ به، وقالوا: إنه لا يسكن في البلدان العامرة، وإنما يكون في الأقاصي المقفرة، بين فقراء ذلك العصر. فسألهم ما يجب أن يكون عليه رسله إليه. وما يكون دليلا لهم عليه؟. فقالوا: اجعل رسلك إليه من لانت سجيته، وظهرت قناعته، وصدقت لهجته، وكان رجوعه إلى الحق أحبّ إليه من الظفر به، فإن بين من استولى عليه هذا الوصف وبينه وصلة تدلهم عليه. أقول: ولما كان يوم بدر والتقى المسلمون ومشركو قريش، وكان عدّتهم ما بين التسعمائة والألف، والمسلمون يومئذ ثلاثمائة وثلاثة عشر، وأيّد الله الإسلام، ونصر نبيه عليه الصلاة والسلام، ووقعت الكسرة على المشركين، وقتل من جملتهم صناديد قريش، وأسر جماعة من المشركين، فبعضهم استفكّوا «1»

54 - عبد الملك بن أبجر الكناني

أنفسهم، وبعضهم أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقتلهم، وكان في جملة المأسورين النضر بن الحرث بن كلدة، فقتله عليه الصلاة والسلام بعد منصرفه من بدر «1» . ومنهم: 54- عبد الملك بن أبجر الكنانيّ «13» وهو من أفاضل الأطباء، وأماثل الألبّاء «2» ، وأهل العلم النافع، والتمييز بين المضارّ والمنافع. لقي حكماء المدن الممصّرة، واستضاء بتلك الفطن المبصّرة، وأقام بين أهل الكتاب الأول، ثم خالط النصارى، وخالل منهم أنصارا. وقدّم بينهم في شرائف الرتب ووظائف الحكمة التي عنها يكتتب، ولازم الطلب حتى مهر،

55 - ابن أثال

وداوم الاكتنان ببيت التدريس حتى ظهر. قال ابن أبي أصيبعة- وقد ذكره-:" كان طبيبا، عالما، ماهرا. وكان أول أمره مقيما بالاسكندرية، لأنه كان المتولّي على التدريس بها من بعد الاسكندرانيين الذين تقدّم ذكرهم. وذلك عند ما كانت البلاد في ذلك الوقت لملوك النصارى، ثم إن المسلمين لما استولوا على البلاد، وملكوا الاسكندرية، أسلم ابن أبجر على يد عمر بن عبد العزيز، وكان حينئذ أميرا قبل أن تصل إليه الخلافة، وصحبه، فلما أفضت الخلافة إلى عمر- وذلك في صفر سنة تسع وتسعين للهجرة- نقل التدريس إلى أنطاكية، وحرّان، وتفرّق في البلاد، وكان عمر بن عبد العزيز يستطب ابن أبجر، ويعتمد عليه في صناعة الطب. وروي عن ابن أبجر قال:" دع الدواء ما احتمل بدنك الداء". وهذا من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم-: (سر بدائك ما حملك) «1» . ومنهم: 55- ابن أثال «13» كتابيّ ضيّع أمانته، وباع بدنياه ديانته، كان لا يهاب اغتيال النفوس، واختتال «2» مهج الرءوس، طريقة خالف فيها شروط الأطباء، وخال أنه يخفيها عن آذان الأنباء، حتى قيلت فيه ملح الأشعار، ووسمت صيته بشنع العار، وبقيت عليه قبائحها، وذهب المعار. قال ابن أبي أصيبعة:" كان طبيبا من الأطباء المتقدّمين في دمشق، نصراني

الدّين، ولما ملك معاوية بن أبي سفيان دمشق اصطفاه لنفسه، وأحسن إليه، وكان كثير الانقياد «1» له، والاعتقاد فيه، والمحادثة معه ليلا ونهارا. وكان ابن أثال خبيرا بالأدوية المفردة والمركبة «2» ، وقواها، وما منهما سموم قواتل، وكان معاوية يقرّبه لذلك كثيرا، ومات في أيام معاوية جماعة كثيرة من أكابر الناس، والأمراء بالسم! «3» . ومن ذلك: ما حدّثنا أبو عبد الله محمد بن الحسن بن محمد الكاتب البغدادي: أن معاوية لما أراد أن يظهر العقد ليزيد، قال لأهل الشام: إن أمير المؤمنين قد كبرت سنه، ورقّ جلده، ودقّ عظمه، واقترب أجله، يريد أن يستخلف عليكم، فمن ترون؟. فقالوا: عبد الرحمن بن خالد بن الوليد. فسكت، وأضمرها، ودسّ ابن أثال النصراني الطبيب إليه فسقاه سمّا، فمات. وبلغ ابن أخيه خالد بن المهاجر بن خالد بن الوليد خبره وهو بمكة، وكان اسوأ الناس رأيا في عمه، لأن أباه المهاجر كان مع عليّ- رضي الله عنه وكرّم وجهه- بصفّين، وكان عبد الرحمن بن خالد مع معاوية. وكان خالد بن المهاجر

على رأي أبيه، هاشمي المذهب. فلما قتل عمه عبد الرحمن مرّ به عروة بن الزبير، فقال له: يا خالد! أتدع لابن أثال نقي «1» أوصال عمك بالشام، وأنت بمكة مسبل إزارك تجرّه وتخطر فيه متخايلا؟. فحمي خالد، ودعا مولى له، يقال له: نافع، فأعلمه الخبر، وقال له:" لا بدّ من قتل ابن أثال". وكان نافع جلدا شهما. فخرجا حتى قدما دمشق، وكان ابن أثال يتمسّى «2» عند معاوية، فجلس له في مسجد دمشق إلى أسطوانة، وجلس غلامه إلى أخرى حتى خرج. فقال خالد لنافع: إياك أن تعرض له أنت، فإني أضربه. ولكن احفظ ظهري، واكفني من ورائي. [فإن رأيت شيئا يريدني من ورائي] «3» فشأنك". فلما حاذاه وثب إليه خالد فقتله. وثار إليه من كان معه، فصاح بهم نافع فانفرجوا. ومضى خالد ونافع وتبعهما من كان معه، فلما غشوهما حملا عليهم فتفرقوا، حتى دخل خالد ونافع زقاقا ضيّقا ففاتا الناس. وبلغ الخبر معاوية- رضي الله عنه- فقال: هذا خالد بن المهاجر، انظروا الزقاق الذي دخل فيه. ففتش عليه وأتي به، فقال له: لا جزاك الله من زائر خيرا! قتلت طبيبي؟. فقال: قتلت المأمور، وبقي الآمر!. فقال: عليك لعنة الله، أما والله لو كان تشهّد مرة واحدة لقتلتك به. أمعك نافع؟ قال: لا. قال: بلى- والله- ما اجترأت إلا به. ثم أمر بطلبه

فوجد، فأتي به، فضرب مائة سوط، ولم يهج خالدا بشيء أكثر من أن حبسه، وألزم بني مخزوم دية ابن أثال، أثني عشر ألف درهم، أدخل بيت المال منها ستة آلاف، وأخذ ستة آلف، فلم يزل ذلك يجري في دية المعاهد حتى ولي عمر بن عبد العزيز فأبطل الذي يأخذه السلطان، وأثبت الذي يدخل بيت المال. وقال أبو عبيد القاسم بن سلام البغدادي «1» ، في كتاب" الأمثال": إن معاوية بن أبي سفيان- رضي الله عنه- كان خاف أن يميل الناس إلى عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، فاشتكى عبد الرحمن فسقاه الطبيب شربة عسل فيها سم! فأحرقته. فعند ذلك قال معاوية- رضي الله عنه- لا جدّ إلا ما أقعص عنك ما تكره «2» .

قال: وقال معاوية- رضي الله عنه- أيضا حين بلغه أن الأشتر سقي شربة عسل فيها سمّ، فمات.:" إن لله جنودا منها العسل" «1» . ونقلت من تاريخ أبي عبد الله محمد بن عمر الواقدي قال:" لما كان في سنة ثمان وثلاثين، بعث علي بن أبي طالب- رضي الله عنه وكرم الله وجهه- الأشتر واليا على مصر بعد قتل محمد بن أبي بكر، وبلغ معاوية- رضي الله عنه- مسيره، فدسّ إلى دهقان «2» بالعريش، فقال: إن قتلت الأشتر فلك خراجك عشرين سنة. فلطف له الدهقان، فقال: أيّ الشراب أحبّ إليه؟. فقيل: العسل. فقال: عندي عسل من عسل برقة «3» ، فسمّه وأتاه به، فشربه، فمات. فبلغ ذلك معاوية، فقال: لليدين وللفم «4» . وفي تاريخ الطبري:" أن الحسن بن علي رضي الله عنهما، مات مسموما في أيام معاوية- رضي الله عنه-. وكان عند معاوية- كما قيل- دهاء، فدسّ إلى

56 - أبو الحكم

جعدة بنت الأشعث- وكانت زوجة الحسن رضي الله عنه- شربة، وقال لها: إن قتلت الحسن زوّجتك يزيد!. فلما توفي الحسن، بعثت إلى معاوية تطلب قوله!. فقال لها في الجواب: أنا أضنّ بيزيد! «1» . وقال كثير يرثي الحسن رضي الله عنه: [السريع] يا جعد «2» ! بكّيه ولا تسأمي ... بكاء حقّ ليس بالباطل لن تستري البيت على مثله ... في الناس من حاف ومن ناعل «3» ومنهم: 56- أبو الحكم «13» وكان من حذّاق الحكماء، وسبّاق أهل الطبّ القدماء، وله في علمه حقائق، وفي فهمه ما ينفد مدد الأعمار وما ينتهي منه إلى دقائق، وله في دمشق بقيّة ورثوا ما خلّف من علمه، وحلى لبنيه لا يظلم أحد منهم في قسمه. قال ابن أبي أصيبعة:" كان طبيبا نصرانيا، عالما بأنواع العلاج والأدوية، وله أعمال كثيرة مذكورة، وصفات مشهورة. وكان يستطبه معاوية بن أبي سفيان، ويعتمد عليه في تركيبات أدويته

57 - حكم الدمشقي

لأغراض قصدها منه. وعمّر أبو حكم هذا عمرا طويلا حتى تجاوز المائة سنة. قال يوسف بن إبراهيم «1» :" وحدّثني عيسى بن حكم عن أبيه، أن جده أعلمه أنه كان حمى عبد الملك بن مروان من شرب الماء من علّته التي توفي فيها، وأعلمه أنه متى شرب الماء قبل نضج علّته توفي. قال: فاحتمى عن الماء يومين وبعض الثالث. قال: فإني عنده لجالس، وعنده بناته، إذ دخل عليه الوليد ابنه، فسأله عن حاله، وهو يتبين في وجه الوليد السرور بموته، فأجابه بأن قال: [الطويل] ومستخبرا عنا يريد بنا الردى ... ومستخبرات والدموع سواجم! وكان استفتاحه النصف الأول وهو مواجه للوليد، ثم واجه البنات عند قوله النصف الثاني، ثم دعا بالماء فشربه، فقضى من ساعته. ومنهم: 57- حكم الدّمشقيّ «13» ممن نمّى وراثة أبيه، ودمّى «2» بفضله قلوب حاسديه، وأمسى على من

ناوأه «1» شديد الشكيم «2» ، وأضحى وهو لا يدعى إلا الحكم الحكيم. قال ابن أبي أصيبعة:" كان يلحق بأبيه في معرفته بالمداواة والأعمال الطبّيّة، والصفات البديعة، وكان مقيما بدمشق، وعمّر أيضا عمرا طويلا كأبيه". قال يوسف بن إبراهيم: حدثني عيسى بن حكم أن والده توفي وكان عبد الله بن طاهر «3» بدمشق، في سنة عشرين ومائتين، وأن عبد الله سأله عن مبلغ عمر أبيه، فأعلمه أنه عمّر مائة وخمس سنين، لم يتغير عقله، ولم ينقص عمله!. فقال عبد الله: عاش حكم نصف التاريخ! «4» . قال يوسف: وحدّثني عيسى أنه ركب مع أبيه حكم بمدينة دمشق، إذ اجتازوا بحانوت حجّام، قد وقف عليه بشر كثير، فلما بصر بنا بعض الوقوف، قال: افرجوا، هذا حكم المتطبّب، وعيسى ابنه. وأفرج القوم، فإذا رجل قد فصده الحجّام في العرق الباسليق «5» ، وقد فصده

فصدا واسعا، وكان الباسليق على الشريان، فلم يحسن الحجّام تعليق العرق، فأصاب الشريان، ولم يكن عند الحجّام حيلة في قطع الدم. واستعملنا الحيلة في قطعه بالرفائد «1» ونسج العنكبوت والوبر، فلم ينقطع بذلك. فسألني والدي عن حيلة، فأعلمته أنه لا حيلة عندي، فدعا بفستقة، فشقّها وطرح ما فيها وأخذ أحد نصفي القشر فجعله على موضع الفصد، ثم أخذ حاشية من ثوب كان غليظ، فلفّ بها موضع الفصد على قشر الفستقة لفّا شديدا، حتى كان يستغيث المفتصد من شدته، ثم شدّ ذلك بعد اللف شدّا شديدا، وأمر بحمل الرجل إلى نهر بردى، وأدخل يده في الماء ووطّأ له على شاطئ النهر «2» ونوّمه عليه، وأمر فحسي محّات «3» بيض نمرشت «4» ، ووكّل به تلميذا من تلامذته، وأمره بمنعه من إخراج يده من موضع الفصد من الماء إلا عند وقت الصلاة، أو يتخوّف عليه الموت من شدة البرد، فإن تخوّف ذلك أذن له في إخراج يده هنيهة «5» ، ثم أمره بردّها. ففعل ذلك إلى الليل، ثم أمر بحمله إلى منزله، ونهاه عن تغطية موضع الفصد، وعن حلّ الشدّ قبل استمام خمسة أيام ففعل ذلك، إلا أنه صار إليه في اليوم الثالث وقد ورم عضده وذراعه ورما شديدا، فنفّس من الشدّ شيئا يسيرا، وقال للرجل: الورح أسهل من الموت.

58 - عيسى بن حكم الدمشقي المعروف بالمسيح

فلما كان في اليوم الخامس حلّ الشداد، فوجدنا قشر الفستقة ملتصقا بلحم الرجل. فقال والدي للرجل:" بهذا القشر نجوت من الموت، فإن خلعت هذا القشر قبل انخلاعه وسقوطه من غير فعل منك، تلفت نفسك". قال عيسى: فسقط القشر في اليوم السابع، وبقي في مكانه دم يابس في خلقة الفستقة، فنهاه والدي عن العبث به، أو حكّ ما حوله، أو حتّ شيء من ذلك الدم، فلم يزل الدم يتحاتّ حتّى انكشف موضع الفصد في أكثر من أربعين ليلة، وبرئ الرجل" «1» . ومنهم: 58- عيسى بن حكم الدّمشقيّ المعروف بالمسيح «13» عرف بهذا لما ظهرت من الآثار المسيحيّة على يديه العيسوية، ونقلت العجائب إلا أنها غير النبوية، وكان من فضلاء الأطبّاء، ونبلاء ذوي الأنباء. قال ابن أبي أصيبعة:" وهو صاحب" الكناش «2» الكبير" الذي يعرف به وينسب إليه".

قال يوسف بن إبراهيم: وحدّثني عيسى بن حكم أنه عرض لغضيض أم ولد الرشيد قولنج «1» ، فأحضرته، وأحضرت الأبح «2» ، والطبري الحاسبين. وسألت عيسى عما يرى معالجتها به؟. قال عيسى: فأعلمتها أن القولنج قد استحكم بها استحكاما إن لم تبادره بالحقنة لم يؤمن عليها التلف. فقالت للأبح والطبري: اختارا لي وقتا أتعالج فيه. فقال لها الأبح: علّتك هذه ليست من العلل التي يمكن أن يؤخر لها العلاج إلى وقت يحمده المنجّمون. وأنا أرى أن تبادري بالعلاج قبل أن تعملي عملا؛ وكذلك يرى عيسى بن حكم. فسألتني، فأعلمتها أن الأبحّ قد صدقها. فسألت الطبري عن رأيه؟. فقال: القمر اليوم مع زحل، وهو في غد مع المشتري، وأنا أرى لك أن تؤخّري العلاج إلى مقارنة القمر مع المشتري. فقال الأبحّ: أنا أخاف أن يصير القمر مع المشتري، وقد عمل القولنج عملا لا يحتاج معه إلى علاج. فتطيّرت من ذلك غضيض وابنتها أم محمد، وأمرتا بإخراجه من الدار، وقبلت قول الطبري. فماتت غضيض قبل موافاة القمر المشتري، فلما وافى القمر المشتري قال الأبح لأمّ محمد هذا وقت اختيار الطبري للعلاج؛ فأين العليل حتى نعالجه؟.

فزادتها رسالته غيظا عليه، ولم تزل سيّئة الرأي فيه حتى توفّيت. قال يوسف: نزلت على عيسى بن حكم في منزله بدمشق سنة خمس وعشرين ومائتين، وبي نزلة «1» صعبة، فكان يغذوني بأغذية طيبة، ويسقيني الثلج، فكنت أنكر ذلك، وأعلمه أن تلك الأغذية مضرّة بالنزلة. [فيعتلّ عليّ] «2» بالهواء ويقول:" أنا أعلم بهواء بلدي منك، هذه الأشياء مضرة بالعراق، نافعة بالشام". فكنت أغتذي بما يغذوني به، فلما خرجت عن البلد خرج مشيّعا لي حتى صرنا إلى الموضع المعروف بالراهب، وهو الموضع الذي فارقني فيه، فقال [لي] قد أعددت لك طعاما يحمل معك، يخالف الأطعمة التي كنت تأكلها، وأنا آمرك أن لا تشرب ماء باردا، ولا تأكل من مثل الأغذية التي كنت تأكلها في منزلي شيئا. فلمته على ما كان يغذوني به، فقال: إنه لا يحسن بالعاقل أن يلزم قوانين الطب مع ضيفه في منزله. قال يوسف: وتجاريت وعيسى يوما بدمشق ذكر البصل، فأفرط في ذمّه، ووسف معايبه. وكان عيسى وسلمويه بن بنان «3» يسلكان طريق الرّهبان، ولا يحمدان شيئا مما يزيد في الباه، ويذكران أن ذلك مما يتلف الأبدان، ويذهب الأنفس. فلم أستجز الاحتجاج عليه بزيادة البصل في الباه. فقلت له: قد رأيت

له في سفري هذا- أعني فيما بين سرّ من رأى ودمشق- منفعة. فسأل عنها، فأعلمته: أني كنت أذوق الماء في بعض المناهل، فأصبته مالحا، فآكل البصل النّيء ثم أعاود شرب الماء، فأجد ملوحته قد نقصت. وكان عيسى قليل الضحك، فاستضحك من قولي، ثم رجع إلى إظهار جزع منه، ثم قال: يعزّ عليّ أن يغلط مثلك هذا الغلط، لأنك صرت إلى أسمج نكتة في البصل، وأعيب عيب فيه، فجعلتها مدحا ثم قال: أليس متى حدث في الدماغ فساد فسدت الحواس حتى ينقص حسّ الشمّ والذوق والسمع والبصر؟. فأعلمته أن الأمر كذلك. فقال لي: إن خاصّيّة البصل إحداث فساد في الدماغ، فإنما قلّل حسّك بملوحة الماء ما أحدث البصل في دماغك من الفساد!. قال يوسف: وقال لي عيسى وقد شيّعني إلى الراهب وهو آخر كلام دار بيني وبينه: أن والدي توفي وهو ابن مائة سنة وخمس سنين، لم يتشنّج له وجه، ولم ينقص من ما وجهه، لأشياء كان يفعلها، وأنا الآن مزوّد كها فاعمل بها، وهي:" لا تذق القديد، ولا تغسل يديك ورجليك عند خروجك من الحمام أبدا إلا بماء بارد أبرد ما يمكنك، والزم ذلك فإنه ينفعك". فلزمت ما أمرني به، [من هذا الباب إلا أني ربما مصصت القطعة الصغيرة من القديد في السنة، وفي الأكثر من ذلك] «1» .

59 - تياذوق

ومنهم: 59- تياذوق «13» حكيم ماهر، وعليم علمه ماهر، وحميم لا تبل به عين صديق، ولا يعل السلسل إلا صفو رحيق، ولم يزل يقمع سلطان المرض علاجه، ويمنع وجهه الندي مناظرا يثور عجاجه. قال ابن أبي أصيبعة:" كان طبيبا فاضلا، وله نوادر وألفاظ مستحسنة في صناعة الطب، وعمّر. وكان في أول دولة بني أميّة، ومشهورا عندهم بالطب، وصحب أيضا الحجاج بن يوسف الثقفي، المتولى من جهة عبد الملك بن مروان، وخدمه بصناعة الطب، وكان يعتمد عليه، ويثق بمداواته، وكان له الجامكية «1» الوافرة، والافتقاد الكثير. ومن كلام تياذوق للحجّاج قال: " لا تنكح إلا شابّة، ولا تأكل من اللحم إلا فتيّا، ولا تشرب الدواء إلا من علّة، ولا تأكل الفاكهة إلا في أوان نضجها، وأجد مضغ الطعام، وإذا أكلت نهارا فلا بأس أن تنام، وإذا أكلت ليلا فلا تنم حتى تمشي، ولو خمسين خطوة".

فقال له بعض من حضر: إذا كان الأمر كما تقول، فلم هلك بقراط؟. ولم هلك جالينوس وغيرهما؟. ولم أر واحدا منهم فعل ذلك. قال: يا بني! قد احتججت فاسمع!. إن القوم دبّروا أنفسهم بما يملكون، وغلبهم ما لا يملكون- يعني الموت- وما يرد من خارج كالحر والبرد، والوقوع، والغرق، والجراح، والغمّ، وما أشبه ذلك. وأوصى تياذوق أيضا الحجّاج فقال:" لا تأكلنّ حتى تجوع، ولا تتكارهنّ على الجماع، ولا تحبس البول، وخذ من الحمام قبل أن يأخذ منك" «1» . وقال أيضا للحجّاج:" أربعة تهدم العمر،- وربّما قتلن-: دخول الحمّام على البطنة «2» ، والمجامعة على الامتلاء، وأكل القديد الجاف، وشرب الباء البارد على الريق، وما مجامعة العجوز ببعيدة منهنّ". ووجد الحجّاج في رأسه صداعا، فبعث إلى تياذوق، وأحضره، فقال:" اغسل رجليك بماء حارّ، وادهنهما. وخصيّ الحجّاج قائم على راسه، فقال: والله ما رأيت طبيبا أقلّ معرفة بالطب منك!. شكا الأمير الصداع في رأسه، فتصف له دواء في رجليه!. فقال له: إن علامة ما قلت فيك بيّنة!. قال الخصيّ: وما هي؟. قال: نزعت خصيتاك، فذهب شعر لحيتك!. فضحك الحجّاج ومن حضر. وشكا الحجّاج ضعفا في معدته، وقصورا في الهضم إلى تياذوق.

فقال:" يكون الأمير يحضر بين يديه الفستق الأحمر، القشر البرّاني، ويكسر ويأكل من لبه؛ فإن ذلك يقوّي المعدة. فلما أمسى الحجّاج بعث إلى حظاياه، وقال: إن تياذوق وصف لي الفستق، فبعثت إليه كل واحدة منهنّ صينيّة فيها قلوب فستق، فأكل من ذلك حتى امتلأ، وأصابته بعقبه هيضة «1» كادت تأتي على نفسه. فشكا حاله إلى تياذوق، وقال: وصفت لي شيئا أضرّني، وذكر له ما تناول. فقال له: إنما قلت لك أن تحضر عندك الفستق بقشره البراني، فتكسر الواحدة بعد الواحدة، وتلوك قشرها البراني وفيه العطرية والقبض. فيكون بذلك تقوية المعدة. وأنت فقد عملت غير ما قلت لك!. وداواه مما عرض له. قيل: ومن أخباره مع الحجّاج: أنه دخل عليه يوما؛ فقال له الحجّاج: أي شيء دواء أكل الطين؟. فقال: عزيمة مثلك أيها الأمير!. فرمى الحجّاج بالطين ولم يعد إليه أبدا. وقيل: إن بعض الملوك لما رأى تياذوق، وقد شاخ وكبر سنه، وخشي أن يموت ولا يعتاض عنه، لأنه كان أعلم الناس، وأحذق الأمّة في وقته بالطب. فقال له: صف لي ما أعتمد عليه فأسوس به نفسي، وأعمل به أيام حياتي، فلست آمن أن يحدث عليك حدث الموت، ولا أجد مثلك!. فقال تياذوق:" أيها الملك بالخيرات!. أقول لك عشرة أبواب، إن عملت بها واجتنبتها لم تعتلّ مدة حياتك، وهذه عشر كلمات:

- لا تأكل طعاما وفي معدتك طعام. - ولا تأكل ما تضعف أسنانك عن مضغه، فتضعف معدتك عن هضمه. - ولا تشرب الماء على الطعام حتى تفرغ ساعتين، فإن أصل الداء التخمة، وأصل التخمة الماء على الطعام. - وعليك بدخول الحمام في كل يومين مرة واحدة، فإنه يخرج من جسدك ما يصل إليه الدواء. - وأكثر الدم في بدنك تحرس به نفسك. - وعليك في كل فصل قيئة ومسهّلة. - ولا تحبس البول وإن كنت راكبا. - واعرض نفسك على الخلاء قبل نومك. - ولا تكثر الجماع فإنه يقتبس من نار الحياة فليكثر أو يقل. - ولا تجامع العجوز فإنه يورث الموت فجأة. فلما سمع الملك أمر كاتبه أن يكتب هذه الألفاظ بالذهب الأحمر، ويضعه في صندوق من ذهب مرصّع، وبقي ينظر إليه في كل يوم ويعمل به، فلم يعتلّ مدة حياته، حتى جاءه الموت الذي لا بدّ منه، ولا محيص عنه. وذكر إبراهيم بن القاسم الكاتب قال: قال الحجّاج لابنه: يا بني! إن تياذوق الطبيب كان قد أوصاني في تدبير الصحة بوصية كنت أستعملها، فلم أر إلا خيرا. ولما حضرته الوفاة دخلت عليه أعوده، فقال: الزم ما كنت وصيتك به، وما نسيت منها فلا تنس:" لا تشرين دواء حتى تحتاج إليه، ولا تأكلن طعاما وفي

60 - زينب طبيبة بني أود

جوفك طعام، وإذا أكلت فامش أربعين خطوة، وإذا امتلأت من الطعام فنم على جنبك الأيسر، ولا تأكلنّ الفاكهة وهي مولّية، ولا تأكلنّ من اللحم إلا فتيّا، ولا تنكحنّ عجوزا، وعليك بالسواك، ولا تتبعنّ اللحم اللحم، فإن إدخال اللحم على اللحم يقتل الأسود في الفلوات". وقال أيضا إبراهيم بن القاسم الكاتب، في كتاب" أخبار الحجّاج": إن الحجّاج لما قتل سعيد بن جبير- رحمه الله تعالى- وكان من خيار التابعين، وجرى بينهما كلام كثير، وأمر به فذبح بين يديه، وخرج منه دم كثير، استكثره وهاله. فقال الحجّاج لتياذوق طبيبه:" ما هذا؟. قال: لاجتماع نفسه، وإنه لم يجزع من الموت، ولا هاب ما فعلته به، وغيره تقتله وهو مفترق النفس، فيقل دمه لذلك". ومات تياذوق بعد ما أسنّ وكبر، وكانت وفاته بواسط في نحو سنة تسعين للهجرة «1» . ومنهم: 60- زينب طبيبة بني أود «13» وكانت طبيبة عارفة، لا كما زعم ابن أبي ربيعة: عالمة حليمة، ولا كما قال

ابن سناء الملك «1» في موشحته البديعة: متّعت بالعلم فلم تحس فوتا، ونفعت بطبّها الأحياء، وكادت تنعش الموتى، ما عرفها إلا من شكر، ولا أنصفها من قاسها من الحكماء برجل ولا الصارم الذكر. قال ابن أبي أصيبعة «2» :" كانت عارفة بالأعمال الطبية، خبيرة بالعلاج ومداواة آلام العين والجراحات، مشهورة بين العرب بذلك". قال أبو الفرج الأصفهاني في كتاب" الأغاني" الكبير، قال:" أخبرنا [محمد بن خلف المرزبان قال: حدثني حمّاد بن إسحاق عن أبيه، عن جده، قال: أتيت امرأة من بني أود لتكحلني من رمد كان أصابني، فكحّلتني ثم قالت لي: اضطجع قليلا حتى يذوب الدواء في عينيك، فاضطجعت، ثم تمثّلت قول الشاعر: [الطويل] أمخترمي ريب المنون ولم أزر ... طبيب بني أود على النأي زينبا «3» فضحكت ثم قالت: أتدري فيمن قيل هذا الشعر؟. قلت: لا. قالت: فيّ- والله- قيل. أنا زينب التي عناها، وأنا طبيبة بني أود، أفتدري من الشاعر؟. قلت: لا. قالت: عمك أبو سماك الأسدي «4» .

أطباء السريان الكائنين في ابتداء الدولة العباسية:

أطبّاء السّريان الكائنين في ابتداء الدولة العباسية: منهم: 61- جورجيس بن جبريل [بن يختيشوع] «13» طبيب طالما أصلح بين الصحة والمزاج، وأصبح وعليله لا يحتاج إلى العلاج، رزق من أبي جعفر المنصور إقبال على تجهّمه، وصادف علاجه منه قبول على توهّمه، وحظي منه بحظوة على قلة من حظي بطائل، وحبي منه بالجزيل- على بخله- بالنائل، وحمي من نزغات «1» غضبه، وما قال هذا عنه سواه قائل. قال ابن أبي أصيبعة «2» :" كانت له خبرة بصناعة الطب، ومعرفة بالمداواة وأنواع العلاج، وخدم [بصناعة الطب] المنصور، وكان حظيّا عنده، ونال من جهته أموالا جزيلة، ونقل له كثيرا من كتب اليونان إلى العربي". قال فثيون «3» الترجمان: كان المنصور قد فسدت معدته، وانقطعت شهوته،

وبقي كلما عول ازداد مرضا، فتقدّم إلى الربيع «1» بأن يجمع الأطباء لمشاورتهم، فجمعهم، فسألهم عن طبيب ماهر؟. فقالوا: ليس أحد مثل جورجيس رئيس أطباء" جندي سابور" «2» ، فأنفذ لإحضاره، فاستمهله، فاعتقله، فأتاه المطران، ورؤساء المدينة، وأشاروا عليه بالخروج بعد أن أوصى ابنه بختيشوع بأمر البيمارستان، وسائر أموره. فلما أتى حضرة المنصور، أجلسه، وسأله عن أشياء أجابه عنها بسكون. فقال له: قد ظفرت منك بما كنت أحبه، وخلع عليه، وأمر له بمنزل ونفقة، وحدّثه بعلّته، ثم نظر إلى قارورة الماء، وأشار عليه بتخفيف الغذاء، ولاطفه حتى عوفي. ثم لما دنا أجله مرض مرضا مثقلا، وأمر به المنصور فحمل إليه حتى رآه، وعرض عليه الإسلام، فأبي!! «3» ، وسأل أن يحمل إلى بلده ليدفن عند آبائه،

فأعطاه عشرة آلاف دينار، وردّه بعد أن استخلف لديه تلميذه عيسى بن سهل؛ فأساء السيرة، وبسط يده في المطارنة «1» ، والأساقفة «2» ، يأخذ أموالهم لنفسه، حتى إنه كتب لمطران نصيبي «3» يلتمس منه من آلات البيعة أشياء جليلة المقدار. وقال في كتابه إلى المطران: ألست تعلم أن أمر الملك بيدي إن شئت أمرضته وإن شئت عافيته؟!. فتلطّف المطران في الصلة بالربيع، وأقرأه كتاب عيسى بن سهل، فأعلم الربيع المنصور به، فسلبه ما كان حصّله، ثم أمر بنفيه وكتب:" إن كان جرجس حيا يحضر، وإن كان قد مات يحضر ابنه"، فصادف جرجيوس وقد وقع من السطح، وضعف ضعفا عظيما، فقيل له، فأبى أن يجهّز إلا إبراهيم تلميذه، فلما أتى المنصور استخلصه، ولم يزل معه حتى مات المنصور «4» .

62 - بختيشوع بن جرجس النصراني

ومنهم: 62- بختيشوع «1» بن جرجس النّصرانيّ «13» كان لا يكفّف له ألمعية «2» ، ولا تلوذ بعيّ له لوذعية «3» ، ولا تزال إلى نهاره مبصرة، وسحائب مدده معصره، ودنا من الخلفاء بحيث لا ترفع الستور، ولا ترتع اللحظات في غابة الليث الهصور «4» ، ورأس على أقرانه، وانبجس «5» نهرا لا يضرب الليل دونه بجرانه «6» .

وناظر الكبراء، ونافر «1» حتى الأمراء، وسار إماما في الأطباء، ولولاه لما ركبوا وراء. قال ابن أبي أصيبعة:" كان يلحق بأبيه في معرفته بالطب، وخدم الرشيد، وتميز في أيامه". قال فثيون الترجمان: لما مرض الرشيد أحضر بختيشوع من" جندي سابور" وأحضر الأطباء لمناظرته، فقال أبو قريش- وكان رأس الأطباء ببغداد-: يا أمير المؤمنين! ليس في الجماعة من يقدر على الكلام مع هذا، لأنه هو وأبوه وأهل جنسه فلاسفة!. فقال الرشيد لبعض الخدم: أحضر له ماء دابة لنختبره؛ فأتاه به. فقال: ليس هذا بول إنسان!. فقال له أبو قريش: كذبت، هذا بول حظيّة الخليفة. فقال له بختيشوع: أيها الشيخ الكريم! إنه لم يبل هذا إنسان البتة! وإن كان على ما قلت، فلعلها قد صارت بهيمة!. فقال له الرشيد: من أين علمت هذا؟. قال: لأنه ليس فيه قوام بول الإنسان، ولا لونه، ولا ريحه. فقال له: فما ترى أن يطعم صاحب هذا الماء؟. قال: الشعير!. فضحك الرشيد ضحكا شديدا، وخلع عليه، ووهبه مالا وافرا، وقال: ليكن

63 - جبريل بن بختيشوع بن جورجيس

رئيس الأطباء، ومروهم فليسمعوا له ويطيعوا" «1» . ومنهم: 63- جبريل بن بختيشوع بن جورجيس «13» يجلّ أن يقاس بالألفاء، وأن يقال اسمه إلا مع الخلفاء، عظم ثراؤه، وعمّ جداه أن يماثل به أرسطو ونظراؤه، وخلف ما يتجاوز الحد، ويداني العد، مع نفقاته الموسّعة، وصدقاته التي رفلت «2» الأيام في حللها الموشّعة «3» ، حتى شرقت «4» دونه النفوس بحسراتها، واختنقت القلوب بزفراتها، حتى كانت الخلفاء تركب إلى منزله، وترغب في إكرام نزله، وهو بشمم لا يخضع عرنينه «5» ، ولا يخشع أنينه، ولا يطلع زهر الروض الجني إلا جنينه. قال ابن أبي أصيبعة «6» :" كان مشهورا بالفضل، جيّد التصرّف في المداواة،

عالي الهمّة، سعيد الجد، حظيّا عند الخلفاء، وحصّل بهم من الأموال ما لم يحصّله أحد من الأطباء". قال الترجمان:" إن أباه أفرده لجعفر بن يحيى «1» ، وكان قد اعتلّ؛ فعالجه، فبرئ في ثلاثة أيام، فأحبّه جعفر مثل حب نفسه، وكان لا يصبر عنه. ثم تمطّت «2» حظية «3» الرشيد [ورفعت يدها، فبقيت منبسطة لا يمكنها ردها] ، ولم يفد فيها طب الأطباء، فدلّ جعفر الرشيد على ابن بختيشوع، فأحضره وقال له: ما تعرف من الطب؟. قال: أبرّد الحارّ، وأسخّن البارد، وأرطّب اليابس، وأيبس الرطب. فضحك الرشيد وقال: هذا غاية ما تحتاج إليه [..] «4» الجارية. فقال جبرائيل: لها عندي حيلة إن لم يسخط عليّ أمير المؤمنين. قال: وما هي؟. قال: تخرج الجارية إلى ههنا بحضرة الجمع، حتى أعمل ما أريده، ويمهل عليّ ولا يعجل بالسخط.

فأمر بها، فأخرجت، فحين رآها جبرائيل مشى إليها ونكس رأسها، وأمسك ذيلها، كأنه يريد سراويلها. فانزعجت الجارية؛ فاسترسلت أعضاؤها، وبسطت يدها إلى أسفل، وأمسكت ذيلها. فقال جبرائيل: قد برئت يا أمير المؤمنين!. فقال الرشيد للجارية: ابسطي يديك يمنة ويسرة؛ ففعلت. فعجب الرشيد ومن حضر، وأمر له بخمس مائة ألف درهم، وعظمت منزلته عنده، وجعله رئيسا على سائر الأطباء. وسئل عن سبب العلة؟. فقال: هذه الجارية انصبّ على أعضائها وقت الحركة خلط رقيق بالحركة وانتشار الحرارة، ولأجل سكون الجماع تكون بغتة جمدت الفضلة في بطون جميع الأعصاب، وما كان يحلّها إلا حركة مثلها؛ فاحتلت حتى انبسطت حرارتها، وانحلّت الفضلة. ولم يزدد مكانه من الرشيد إلى أن مرض الرشيد ب" طوس" «1» مرض موته، حبسه، واستطبّ أسقف فارس، فقال له: مرضك كان من خطأ طبيبك- كذبا عليه-. فأمر الرشيد بقتل جبرائيل؛ فلم يقبل منه الفضل بن الربيع، لأنه كان يئس من حياته. وأصاب تلك الأيام الفضل قولنج شديد، فكان جبرائيل يعالجه، فأفاق. ثم لما صار الأمر إلى الأمين زاد تقريبه، وضاعف مواهبه، وكان لا يأكل ولا يشرب إلا بإذنه.

ثم لما ملك المأمون كتب إلى الحسن بن سهل «1» بأن يقبض عليه لكونه بعد الرشيد أتى الأمين ببغداد، ولم يأته بخراسان، فحبسه ابن سهل. ثم لما مرض ابن سهل فعالجه الأطباء، فلم ينتفع بذلك، فأخرج جبرائيل من الحبس؛ فعالجه في أيام يسيرة، فبريء، فوهب له مالا وافرا، وتلطّف له مع المأمون، فصفح عنه، واتخذ ميخائيل صهر جبرائيل بدلا منه، وأكرمه كيادا لجبرائيل. فمرض المأمون مرضا صعبا، أعيا الأطباء علاجه، فقال أبو عيسى- ابن الرشيد- للمأمون: يا أمير المؤمنين! أحضر جبرائيل، فإنه يعرف أمزجتنا منذ الصّبا. فتغافل عنه، وأحضر يوحنّا بن ماسويه «2» ، فلما ضعفت قوة المأمون ذكّر بجبرائيل، فأمر بإحضاره، فلما حضر غيّر تدبيره كله. فانصلح بعد يوم، واستقل بعد ثلاثة أيام، ثم بعد أيام يسيرة صلح صلاحا تاما، فسرّ به المأمون، وأمر له بألف ألف درهم، وألف كرّ «3» حنطة، وردّ عليه ما كان قبض له، وصار إذا خاطبه يكنّيه. ثم انتهى إلى أن كان لا يخرج عامل إلى عمله إلا بعد أن يلقى

جبرائيل ويكرمه. وعلا محلّه، وانحطّ من سواه. وقال إسحاق بن علي الرهاوي «1» : إن يوحنا بن ماسويه أخبر أن الرشيد قال لجبرائيل بن بختيشوع وهو حاجّ بمكة: يا جبرائيل! أعلمت أني دعوت لك- والله- في الموقف دعاء كثيرا؟. ثم التفت إلى بني هاشم «2» فقال: هل أنكرتم قولي؟. فقالوا: ذمّيّ هو!. فقال: نعم، ولكن صلاح بدني وقوامه به، وصلاح المسلمين بصلاحي. فقالوا: صدقت يا أمير المؤمنين" «3» وقال ابن بختيشوع: اشتريت ضيعة بسبعمائة ألف درهم، فنقدت بعض الثمن، وتعذّر عليّ بعضه، فدخلت على يحيى بن خالد، وعنده ولده، وأنا أفكر. فقال: ما لي أراك مفكّرا؟. فأخبرته. فدعا بالدواة، وكتب:" يعطى جبرائيل سبعمائة ألف درهم". ثم دفع إلى كل واحد من ولده، فوقّع فيه ثلاثمائة ألف درهم. قال: فقلت: جعلت فداك! قد أدّيت عامّة الثمن، وإنما بقي أقلّه. قال: اصرف ذلك فيما ينوبك. ثم صرت إلى دار الرشيد، فلما رآني قال: ما أبطأ بك؟. فقلت: كنت يا أمير المؤمنين عند أبيك وإخوتك، ففعلوا بي كذا وكذا

لخدمتي لك. قال: فما حالي أنا؟. ثم دعا بدابّته، فركب إلى يحيى، ثم قال: يا أبه! أخبرني جبرائيل بما كان، فما كان حالي أنا من بين ولدك؟. فقال: مر له يا أمير المؤمنين بما شئت يحمل إليه. فأمر لي بخمسمائة ألف درهم. وحكى سعيد بن إسحاق النصراني قال: كنت مع الرشيد بالرقة «1» ، ومعه ولداه: الأمين والمأمون، وكان رجلا كثير الأكل والشرب، فأكل في بعض الأيام أشياء خلط فيها ودخل المستراح، فغشي عليه، وأخرج، فقوي عليه الغشي، حتى لم يشكّ في موته. وأرسل إليّ، فحضرت، وجسست عرقه، فوجدت نبضه خفيا، وكان قبل ذلك بأيام يشكو امتلاء، وحركة الدم. فقلت لهم: يموت! إن لم يحتجم الساعة. فأجاب المأمون إليه، وتقدّم الحجّام، وتقدّمت بإقعاده، فلما وضع المحاجم عليه ومصّها، رأيت الموضع قد احمرّ. فطابت نفسي، وعلمت أنه حيّ. فقلت للحجّام: اشرط. فشرط، فخرج الدم؛ فسجدت شكرا لله. وجعل كلّما خرج الدم يحرّك رأسه ويسفر «2» لونه. إلى أن تكلّم، وقال: أين أنا؟. فطيّبنا نفسه، وغذّيناه بصدر درّاج «3» ، وسقيناه

شرابا، وما زلنا نشمّه الروائح الطيبة، ونجعل في أنفه الطيب حتى تراجعت قوّته، ودخل الناس عليه، ثم وهب الله له عافيته. فلما كان بعد أيام، دعا صاحب حرسه، فسأله عن غلّته في السنة، فعرّفه أنها ثلاث مائة ألف درهم. فسأل صاحب شرطته؟، فقال: خمسمائة ألف درهم. فسأل حاجبه؟. فقال: ألف ألف درهم. فقال لي: ما أنصفناك، حيث غلّات هؤلاء وهم يحرسونني من الناس على ما ذكروا، وأنت تحرسني من الأمراض، وتكون غلّتك دونهم!. ثم أمر بإقطاعي ألف ألف درهم. فقلت: يا سيدي! ما لي حاجة إلى الإقطاع، ولكن تهب لي ما أشتري لي به ضياعا غلّتها ألف ألف درهم؛ فجميع ضياعي أملاك لي، لا إقطاع. والذي صار إليه في أيام خدمته للخلفاء وهي نحو ثلاثين سنة، جمل كثيرة، وجدته مدرجا بخط كاتبه، وفيه إصلاحات بخطّه. فأما ما صرفه منه في مدة حياته في نفقاته تقريا، فهو: سبعة وعشرون ألف ألف درهم، وستمائة ألف درهم. وفي ثمن دور وبساتين ومنتزهات، ورقيق، ودوابّ: سبعون ألف ألف درهم. وفي عمائر: ثمانية آلاف ألف درهم. وفي ثمن ضياع: اثنا عشر ألف ألف درهم. وفي ثمن جواهر، وما أعدّه للذخائر: خمسمائة ألف دينار، وخمسون ألف ألف درهم. وفي وجوه القرب وما كفله عن المصادرين: ثلاثة آلاف ألف درهم.

وما جحده أرباب الودائع له: ثلاثة آلاف ألف درهم. ثم الذي خلّفه بعد هذا عند وفاته لابنه بختيشوع، وجعل المأمون الوصيّ فيه فسلّمه إليه عن آخره، ولم يتعرّض إلى شيء منه: فتسعمائة ألف دينار. وهذا جبرائيل هو الذي عناه أبو نواس بقوله: [مجزوء الوافر] سألت أخي أبا عيسى ... وجبريل له عقل فقلت الراح تعجبني ... فقال: كثيرها قتل فقلت له: فقدّر لي ... فقال، وقوله فصل وجدت طبائع الإنسا ... ن أربعة هي الأصل فأربعة لأربعة ... لكل طبيعة رطل «1» وذكر أبو الفرج الأصفهاني «2» في المأمون شعرا قاله في جبرائيل، هو: على الإسلام والملّه [الهزج] ألا قل للذي ليس ... على الإسلام والملّه لجبريل أبي عيسى ... أخي الأنذال والسفله أفي طبك يا جبري ... ل ما يشفي دوا العله غزال قد سبى عقلي ... بلا جرم ولا زلّه قال [أبو الفرج: والشعر للمأمون في جبرائيل بن بختيشوع المتطبب] ، والغناء لمتيّم، خفيف الرمل. ومن كلام جبرائيل:" أربعة تهدم العمر: إدخال الطعام على الطعام قبل الانهضام، والشرب على الريق، ونكاح العجوز، والتمتع في الحمّام" «3»

64 - بختيشوع بن جبريل بن بختيشوع

ومنهم: 64- بختيشوع بن جبريل بن بختيشوع «13» عادى الكبار، وعادل البحار، وعادّ النجوم في الأقطار، وأناف رتبة على أبيه، وكانت تزاحم الأطواد، وتزاح بها أعذار حسّاده ابن الزيات «1» ابن أبي دؤاد «2» ،

فلهذا قصد مرات بالغوائل «1» ، وأرصد تارات لغلق الحبائل، فلو لم تتذكر له سوابق المساعي، ويتدارك بالدرياق به سم الأفاعي، لما امتدّ به طلق نفسه، ولا نفّس عنه حلق حبسه، ثم صلح حاله، وقوي محاله، ونطق في مجالس الخلفاء لسانه، وصدق إحسانه، واستعاد أيامه الأول أترابا، وأياماه الحسان- وطالما هزّته- إطرابا. ذكره ابن أبي أصيبعة «2» وقال فيه:" كان سريانيا نبيل القدر، وبلغ من عظم المنزلة والحال، وكثرة المال، مال لم يبلغه أحد من سائر الناس، الذين كانوا في عصره، وكان يضاهي المتوكل في اللباس والفرش". قال [فيثون] الترجمان: وكان ابن أبي دؤاد وابن الزيات يعاديانه، ويغريان به الواثق، فسخط عليه وقبض على أمواله وضياعه، ونفاه إلى" جنديسابور" فلما اعتلّ الواثق بالاستسقاء بعث لإحضاره، ثم عاجل الواثق الموت قبل وصوله، ثم صلحت أيام المتوكل حاله، إلى أن بلغ مبلغا حسده عليه المتوكّل وقبض عليه". قال:" إن بختيشوع كان عظيم المنزلة عند المتوكل، فأفرط في الإدلال عليه، فنكبه، وقبض على أملاكه، ونفاه إلى مدينة إسلام. ثم عرض للمتوكل قولنج، فاستحضره، واعتذر إليه وعالجه، فبرئ، فأنعم عليه ورضي عنه، وأعاد عليه ما كان له، ثم جرت على بختيشوع مكيدة أخرى، فنكب، ووجّه به إلى البصرة!. ثم ردّه المستعين إلى وظيفة الخدمة وأحسن إليه إحسانا كثيرا. فلما ولي المهتدي جرى مجرى المتوكل في أنسه بالأطباء، وكان بختيشوع لطيف المحل

منه، وشكا إليه بختيشوع ما أخذ منه أيام التوكل، فأمر بأن يدخل الخزائن فكل ما عرفه ردّ إليه، فلم يبق له شيء إلا أخذه، وأطلق له كل ما فاته، وكتب برعاية أسبابه". وقال بختيشوع للمهتدي في آخر أمره: يا أمير المؤمنين! لي أربعون سنة لم أفتصد، ولا شربت دواء، وقد حكم المنجّمون بأني أموت في هذه السنة. ولست أغتمّ لموتي، وإنما أغتمّ لمفارقتكم. فكلّمه المهتدي بجميل وقال: قلّ أن يصدق المنجّم. فلما انصرف كان آخر العهد به. وقال [إبراهيم بن علي الحصري «1» في كتاب:" نور الطرف ونور الظرف"] «2» " تنازع إبراهيم بن المهدي وبختيشوع، بين يدي أحمد بن أبي دؤاد في عقار بالسواد «3» ، فأغلظ عليه إبراهيم فغضب ابن أبي دؤاد وقال: يا إبراهيم! إذا تنازعت في مجلس الحكم بحضرتنا أمرا فليكن قصدك أمما «4» ، وطريقك نهجا، وريحك ساكنة، وكلامك معتدلا، ووفّ مجالس الخلافة حقوقها، فإن هذا أليق بك، وأجمل بحسن مذهبك، وشريف محتدك «5» ، ولا تعجلنّ، فربّ

عجلة تورث رثيا «1» ، والله يعصمك من الزلل، وخطل «2» القول والعمل، ويتم نعمته عليك كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق إن ربك عليم حكيم. فقال إبراهيم: أمرت- أصلحك الله- بسداد، وحضضت على الرشاد، ولست بعائد إلى ما يثلم قدري عندك، [ويسقطني من عينك] ، ويخرجني من مقدار الواجب إلى الاعتذار، فها أنا معتذر إليك من هذه البادرة اعتذار مقرّ بذنبه، لأن الغضب لا يزال يستفزّني بمراده، فيردّني مثلك بحلمه، وتلك عادة الله عندك وعندنا فيك،- وهو حسبنا ونعم الوكيل-، وقد جعلت حظي من هذا العقار ليختيشوع، وليت ذلك يقي بأرش «3» الجناية عليه، ولن يتلف مال أفاد موعظة". قال أبو محمد، بدر بن أبي الإصبع الكاتب: حدثني جدي قال:" دخلت على بختيشوع في يوم شديد الحر، وهو جالس في مجلس مخيّش عنده طاقات من الخيش، طاقان ريح بينهما طاق أسود، وفي وسطها قبة عليها جلال أسود من قصب مطهّر بدبيقي «4» ، قد صبغ بماء الورد والكافور «5» والصندل «6» وعليه جبة يماني سعيدي مثقلة، ومطرف «7» قد التحف به، فعجبت من زيه. فحين حصلت معه في القبة نالني من البرد أمر عظيم. فضحك وأمر لي بجبّة ومطرف، وقال: يا غلام!، اكشف جوانب القبة.

فكشفت، فإذا أبواب مفتوحة من جوانب الإيوان إلى مواضع مكبوسة بالثلج، [وغلمان يروّحون ذلك الثلج] «1» ؛ فيخرج منه البرد الذي لحقني. ثم دعا بطعامه، فأتي بمائدة في غاية الحسن، عليها كل شيء حسن ظريف، ثم أتي بفراريج مشوية في غاية الحمرة. وجاء الطبّاخ فنفضها كلها فانتفضت، وقال: هذه فراريج تعلف اللوز والبزر قطونا «2» ، وتسقى بماء الرمان. ولما كان في صلب الشتاء، دخلت عليه يوما والبرد شديد، وعليه جبّة محشوّة، وكساء، وهو جالس في طارمة «3» ، في الدار على بستان في غاية الحسن، وعليها سمّور «4» قد ظهرت به وفوقه جلال «5» حرير مصبّغ، ولبود مغربية، وأنطاع «6» أدم يمانية وبين يديه كانون «7» فضة مذهب مخرق، وخادم

يوقد العود الهندي، وعليه غلال «1» قصب في نهاية الرفعة، فلما حصلت معه في الطارمة، وجدت من الحرّ أمرا عظيما، فضحك وأمر لي بغلالة قصب، وتقدّم بكشف جوانب الطارمة، فإذا مواضع لها شبابيك خشب بعد شبابيك حديد، وكوانين فيها فحم الغضا «2» ، وغلمان ينفخون ذلك الفحم بالزقاق» ، كما يكون للحدادين. ثم دعا بطعامه، فأحضروا ما جرت به العادة من السرور والنظافة، وأحضرت فراريج بيض، شديدة البياض، فبشعتها «4» ، وخفت أن تكون غير نضيجة، ووافى الطباخ فنفضها فانتفضت، فسألته عنها؟ فقال: هذه تعلف الجوز المقشر، وتسقى اللبن الحليب. وكان بختيشوع بن جبرائيل يهدي البخور في درج، ومعه درج آخر فيه فحم، يتخذ له من قضبان الأترج، والصفصاف «5» ، وشنس «6» الكرم المرشوش عليه عند إحراقه ماء الورد المخلوط بالمسك والكافور، وماء الخلاف «7» ، والشراب العتيق. ويقول: أنا أكره أن أهدي بخورا بغير فحم [فيفسده فحم] «8» العامة، ويقال: هذا عمل بختيشوع! ". قال أبو محمد بدر بن أبي الأصبغ عن أبيه عن أبي عبد الله محمد بن

الجرّاح، عن أبيه أن المتوكل قال يوما لبختيشوع: ادعني. فقال: السمع والطاعة. فقال: أريد أن يكون ذلك غدا. قال: نعم وكرامة. وكان الوقت صائفا، وحرّه شديد. فقال بختيشوع لأنسابه وأصحابه:" أمرنا كله مستقيم إلا الخيش «1» ، فإنه ليس لنا منه ما يكفي!. فأحضر وكلاءه وأمرهم بابتياع كل ما يوجد من الخيش ب" سرّ من رأى"، ففعلوا ذلك وأحضروا كل من وجدوه من النجّادين «2» ، والصّنّاع، فقطع لداره كلها صحونها وحجرها، ومجالسها، وبيوتها، ومستراحاتها خيشا حتى لا يجتاز الخليفة في موضع غير مخيّش!، وأنه فكر في روائحه التي لا تزول إلا بعد استعماله مدة، فأمر بابتياع كل ما يقد عليه بسر من رأى من البطيخ، وأحضر حشمه وغلمانه، وأجلسهم يدلكون الخيش بذلك البطيخ ليلتهم كلها، وأصبح وقد انقطعت روائحه، فتقدم إلى فرّاشيه فعلقوا جميعه في المواضع المذكورة، وأمر طبّاخيه بأن يعملوا خمسة آلاف جونة «3» ، في كل جونة باب خيز سميد، ودست رقاق وزن الجميع عشرون رطلا، وحمل مشوي، وجدي بارد، وفائقة،

ودجاجتان مصدرتان، وفرخان، ومصوصان «1» ، وثلاثة ألوان، وجام «2» حلواء. فلما وافاه المتوكل، رأى كثرة الخيش وجدّته، فقال: أي شيء ذهب برائحته؟، فأعاد عليه حديث البطّيخ، فعجب من ذلك، فأكل هو وبنو عمه، والفتح بن خاقان «3» ، على مائدة واحدة، وأجلس الأمراء والحجّاب على سماطين «4» عظيمين لم ير مثلهما لأمثاله، وفرّق الجون على الغلمان، والخدم، والنقباء «5» ، والركابية «6» ،

والفرّاشين «1» ، والملّاحين وغيرهم من الحاشية، لكلّ واحد جونة، وقال:" قد أمنت ذمّهم، لأنني ما كنت [آمن] لو أطعموا على موائد أن يرضى هذا، ويغضب الآخر، ويقول: شبعت، ويقول آخر: لم أشبع. فإذا أعطي كل إنسان جونة من هذه الجون، كفته. واستشرف المتوكل على الطعام فاستعظمه جدا، وأراد النوم، فقال لبختيشوع: أريد أن تنوّمني في موضع مضيء لا ذباب فيه، وظنّ أنه يتعنّته بذلك، وقد كان بختيشوع تقدّم بأن تجعل أجاجين «2» الدبس في سطوح الدار، ليجتمع الذباب عليه، فلم يقرب أسافل الدور ذبابة واحدة. ثم أدخل المتوكل إلى بيت مرتفع كبير، سقفه كله بكواء فيها جامات يضيء البيت منها، وهو مخيّش مظهّر بعد الخيش بالدبيقي المصبوغ بماء الورد والصندل والكافور. فلما اضطجع للنوم، أقبل يشم روائح في نهاية الطيب، لا يدري ما هي؟ لأنه لم ير في البيت شيئا من الروائح والفاكهة والأنوار، ولا خلف الخيش، لا طاقات ولا موضع يجعل فيه شيء من ذلك.

فتعجّب وأمر الفتح بن خاقان أن يتتبع حال تلك الروائح، حتى يعرف صورتها. فخرج يطوف، فوجد حول البيت من خارجه ومن سائر نواحيه وجوانبه أبوابا صغارا لطافا كالطاقات محشوّة بصنوف الرياحين والفواكه، واللخالخ، والمشامّ التي فيها التفاح والبطيخ المستخرج ما فيها المحشوة بالنمّام «1» ، والحماحم اليماني «2» ، المعمول بماء الورد والخلّاف، والكافور، والشراب العتيق، والزعفران «3» الشعر. ورأى الفتح غلمانا قد وكّلوا بتلك الطاقات، مع كل غلام مجمرة فيها ندّ يسجره «4» ، ويبخّر به البيت من داخله إزار من اسفيداج «5» مخرّم خروما صغارا لا تبين، يخرج منها تلك الروائح الطيبة العجيبة إلى البيت. فلما عاد الفتح وشرح للمتوكّل صورة ما شاهده، كثر تعجّبه منه، وحسد بختيشوع على ما رآه من نعمته، وكمال مروءته، وانصرف من داره قبل أن يستتمّ يومه، وادّعى شيئا وجده من التياث «6» بدنه. وحقد عليه ذلك، فنكبه بعد أيام يسيرة، وأخذ له مالا كثيرا لا يقدّر، ووجد له في جملة كسوته أربعة

آلاف سروال دبيقي سفري، في جميعها تكك «1» إبريسم «2» أرميني. وحضر الحسين بن محمد؛ فختم على خزائنه، وحمل إلى دار المتوكل ما صلح منها، وباع شيئا كثيرا، وبقي بعد ذلك حطب وفحم ونبيذ، وتوابل، فاشتراها الحسين بن مخلد بستة آلاف دينار. وذكر أنه باع من جملته بمبلغ ثمانية آلاف دينار، ثم حسده حمدون، ووشى إلى المتوكل، وبذل فيما بقي في يده ستة آلاف دينار، فأجيب إلى ذلك، وسلّم إليه فباعه بأكثر من الضعف، وكان هذا في سنة أربع وأربعين ومائتين. قال فيثون الترجمان: كان المعتزّ بالله قد اعتلّ في أيام المتوكّل علّة من حرارة، وامتنع منها من أخذ شيء من الأغذية والأدوية. فشقّ ذلك على المتوكّل كثيرا، واغتمّ به وصار إلى بختيشوع، والأطباء عنده، وهو على حاله في الامتناع، فمازحه وحادثه. فأدخل المعتزّ يده في كمّ جبّة وشي يماني مثقلة كانت على بختيشوع، وقال: ما أحسن هذا الثوب!. فقال له بختيشوع: يا سيدي! والله ما له نظير في الحسن، وثمنه عليّ ألف دينار، فكل لي تفاحتين، وخذ الجبة. فدعا بتفاح، فأكل اثنتين، ثم قال له: تحتاج الجبة إلى ثوب يكون معها!. وعندي ثوب هو أخ لهذا، فاشرب لي شربة سكنجبين «3» ، وخذه. فشرب شربة سكنجبين، ووافق ذلك اندفاع طبيعته، فبرأ المعتزّ، وأخذ الجبة

والثوب، وصلح من مرضه، فكان المتوكل يشكر هذا الفعل أبدا لبختيشوع. قال ثابت بن قرّة بن سنان بن ثابت «1» : إن المتوكل اشتهى في بعض الأوقات الحارّة أن يأكل مع طعامه خردلا «2» فمنعه من ذلك الأطبّاء لحدّة مزاجه، وحرارة كبده، وغائلة الخردل. فقال بختيشوع: أنا أطعمك إياه، وإن ضرّك عليّ!. فقال: افعل. فأمر بإحضار قرعة «3» ، وجعل عليها طينا، وتركها في تنّور، واستخرج ماءها، وأمر بأن يقشر الخردل ويضرب بماء القرع، وقال: إن الخردل في الدرجة الرابعة من الحرارة، والقرع في الدرجة الرابعة من الرطوبة، فيعتدلان! فكل شهوتك. وبات تلك الليلة، ولم يحسّ بشيء من الأذى، وأصبح كذلك، فأمر بأن يحمل إليه ثلاث مائة ألف درهم، وثلاثون تختا «4» من أصناف الثياب.

قال إسحاق بن علي الرهاوي عن عيسى بن ماسة قال: رأيت بختيشوع بن جبرئيل وقد اعتلّ فأمر أمير المؤمنين المتوكل المعتزّ أن يعوده وهو إذ ذاك وليّ عهد. فعاده ومعه محمد بن عبد الله بن طاهر، ووصيف التركي. قال: وأخبرني إبراهيم بن محمد المعروف بابن المدبّر أن المتوكّل أمر الوزير شفاها، وقال: اكتب في ضياع بختيشوع فإنها ضياعي، وملكي، ومحلّه منا محل أرواحنا من أبداننا. قال عبيد الله بن جبرائيل هذا المذكور: مما يدلّ على منزلة بختيشوع عند المتوكل وانبساطه [معه] ، قال: من ذلك؛ ما حدّثنا به بعض شيوخنا، أنه دخل بختيشوع يوما إلى المتوكل وهو جالس على سدّة «1» في وسط دار الخاصة. فجلس بختيشوع على عادته معه على السدة، وكان عليه درّاعة ديباج رومي، وقد انفتق ذيلها قليلا، فجعل المتوكل يحادث بختيشوع ويعبث بذلك الفتق، إلى أن بلغ إلى حد النيفق «2» ودار بينهما كلام اقتضى أن سأل المتوكل بختيشوع: بماذا يعلم أن المشوش يحتاج إلى الشدّ والقيادة والوثاق؟. قال: إذا بلغ في فتق درّاعة طبيبه إلى حدّ النيفق، شددناه. فضحك المتوكل حتى استلقى على ظهره، وأمر له في الحال بخلع سنيّة، ومال جزيل.

وقال أبو الريحان البيروني «1» في كتاب:" الجماهر في [معرفة] الجواهر": إن المتوكل جلس يوما لهدايا النيروز «2» ، فقدّم إليه كل علق «3» نفيس، وكل ظريف فاخر. وأن طبيبه بختيشوع بن جبرائيل دخل، وكان يأنس به، فقال له: ما ترى في هذا اليوم؟. فقال: مثل [ ... ] «4» الشحاذين، إذ ليس قدر، وأقبل على ما معي. ثم أخرج من كمّه درج آبنوس «5» مطليا بالفضة، وفتحه عن حرير أخضر، انكشف عن ملعقة كبيرة جوهر، لمع منها شهاب، وضعها بين يديه. فرأى المتوكل ما لا عهد له بمثله، وقال: من أين هذا؟. قال: من الناس الكرام. ثم حدث أنه صار إلى أبي من أم جعفر زبيدة، في ثلاث مرات، ثلاث مائة ألف دينار، بثلاث شكايات عالجها فيها: واحدتها: أنها شكت عارضا في حلقها، منذرة بالخناق، فأشار عليها بالفصد والتطفية، والتغذي بحشو وصفه، فأحضر على نسخته في غضارة

صينية عجيبة الصفة، وفيها هذه الملعقة، فغمزني أبي على رفعها؛ ففعلت، ولففتها في طيلساني، وجاذبنيها الخادم. فقالت له:" لا طفه، ومره بردّها، وعوّضه منها عشرة آلاف دينار"، فامتنعت. وقال أبي:" يا ستي! «1» إن ابني لم يسرق قط، فلا تفضحيه في أول كرّاته، لئلا ينكسر قلبه. فضحكت، ووهبتها له. وسئل عن الأخريين؟ فقال: إنها اشتكت إليه تغيّر النكهة «2» ، بإخبار إحدى بطانتها إياها، وذكرت أن الموت أسهل عليها من ذلك. فجوّعها إلى العصر وأطعمها سمكا ممقورا «3» ، وأسقاها دردي نبيذ «4» دقل «5» بإكراه، فغثيت نفسها، وقذفت، فكرّر ذلك عليها ثلاثة أيام. ثم قال لها: تنكّهي في وجه من أخبرك بذلك، واستخبريه: هل زال؟. والثالثة: أنها أشرفت على التلف من فواق «6» شديد، كان يسمع من خارج الحجرة. فأمر الخادم بإصعاد خوابي إلى سطح الصحن، وتصفيفها حوله على الشفير،

وملأها ماء، وجلس خلف كل حبّ خادم، حتى إذا صفّق بيده على الأخرى دفعوها دفعة إلى وسط الدار، ففعلوا، وارتفع لذلك صوت شديد أرعبها وزايلها الفواق. قال أبو علي القياني «1» : حدثني أبي قال: دخلت يوما إلى بختيشوع وكان من أيام الصيف، وجلست فإن هو قد رفع طرفه إلى خادمه، وقال له: هات!. فجاء بقدح فيه نحو نصف رطل شراب عتيق، وعلى طرف خلاله «2» ذهب، وشيء أسود، فمضغه، ثم شرب الشراب عليه، وصبر ساعة، فرأيت وجهه يتّقد كالنار، ثم دعا بأطباق فيها خوخ جبلي في نهاية الحسن، فأقبل يقطّع ويأكل، حتى انتهى وسكن تلهّبه، وعاد وجهه إلى حاله. فقلت له: حدثني بخبرك. فقال: اشتهيت الخوخ شهوة، وخفت ضرره، فاستعملت الترياق والشراب، حتى نقرت الحجر ليجيد الطحن. ونقلت من بعض الكتب أن بختيشوع كان يأمر بالحقن والقمر متصل بالذنب، فيحل القولنج من ساعته، ويأمر بشرب الدواء والقمر على مناظرة الزهرة، فيصلح العليل من يومه. ولما توفي بختيشوع خلف عبيد الله ولده، وخلف معه ثلاث بنات، وكانت الوزراء والنظار «3» يصادرونهم ويطالبونهم بالأموال، فتفرّقوا واختلفوا.

65 - جبيرائيل بن عبيد الله بن بختيشوع

وكان موته يوم الأحد لثمان بقين من صفر، سنة ست وخمسين ومائتين. ومن كلام بختيشوع ابن جبرائيل: " الشرب على الجوع رديء، والأكل على الشبع أردأ منه". وقال:" أكل القليل مما يضر أصلح من أكل الكثير مما ينفع". ولبختيشوع من الكتب كتاب:" الحجامة" على طريق المسألة والجواب. ومنهم: 65- جبيرائيل بن عبيد الله بن بختيشوع «13» عالم أتقن علم الطبيعة، وأيقن في برء السقام ربيعه، بخاطر يجري عذبه سلسالا، وتجيء سحبه أرسالا، لا تلبث العلل معه، ولا تتشبّث منه ببارقه مطمعه. قال ابن أبي أصيبعة «1» :" كان فاضلا، عالما، متقنا لصناعة الطب، جيدا في

أعمالها، حسن الدراية لها، وله تصانيف جليلة في صناعة الطب، وكانت أجداده في هذه الصناعة كل منهم أوحد زمانه، وعلّامة وقته". قال عبيد الله بن جبريل: كان جدي عبيد الله بن بختيشوع متصرّفيا «1» ، ولما ولي المقتدر استكتبه بحضرته، ثم مات، فقبض المقتدر على ماله، ثم تقلّبت بمخلّفيه الأمور إلى أن دخل جبرئيل بغداد وما معه إلا النزر اليسير، فقصد طبيبا يعرف ب" ترمرة" وقرأ عليه وكان من أطباء المقتدر وخواصّه، وقرأ على يوسف الواسطي، ولازم المارستان، ثم اتصل برسول صاحب فارس، فطار ذكره إلى فارس وكرمان «2» ، وكان سبب خروجه إلى شيراز «3» ، واتصل بعضد الدولة، وأهدى إليه رسالة في عصب العين، تكلم فيها بكلام حسن، فحسن موقعه عندهن فقرّر له جاريا عليه، ثم تعرّض لروح خالة عضد الدولة مرض فأنفذ إليه فشفى على يده فأجزل عطاءه وردّه مكرّما ثم صحبه إلى بغداد وأجرى عليه رزقين في البيمارستان غير الجراية، ثم عرض لابن عباد مرض صعب في معدته، فجهّز له عضد الدولة بما يحتاج إليه، ثم بعث به إليه، فلما أتى الريّ «4» أحسن ابن عباد ملتقاه، وأكرم نزله، ثم امتحنه، فظهر له فضله، فخلع عليه خلعا سنية، ثم أمره

66 - خصيب النصراني

بعمل كنّاش يذكر فيه الأمراض التي تعرض من الرأس إلى القدم، فعمل كناشه الصغير، فحسن موقعه عنده، ثم وصله بما قيمته ألف دينار، ورفع أمره إلى عضد الدولة فزاد موضعه عنده، فلما عاد من الري دخل بغداد بزي جميل وأمر مطاع وغلمان وحشم، وخدم، وصادف من عضد الدولة ما يسرّه، واستدعاه حسام الدولة «1» إلى الموصل، وكانت له امرأة عليلة بمرض حاد، فأخذ في علاجها، وأشار بحفظ القارورة، فاتفق أن كان عنده وإذا بالجارية قد جاءت بالقارورة، فنظر إلى الماء، وقال لحسام الدولة: هذه المرأة تموت!. فانزعج لذلك وصرخت الجارية، فقال لها: جرى في أمر هذه الامرأة شيء لا أعلمه؟. فحلفت الجارية أنها لم تجاوز التدبير. فقال: لعلكم خضبتموها بالحناء. قالت: قد كان ذلك، فحرد وقال لحسام الدولة: أبشر بعد ثلاثة أيام تبرأ. فكان كما قال. ومنهم: 66- خصيب النصراني «13» خصيب لا يرتعي بكنفه المهزول، وطبيب لا يتوقّى طبه إلا من هو عن الحياة معزول، عرف باختيان «2» النفوس، وبيع غوالي المهج برخاص الفلوس. كم اجتثّ شجرة لو تركت لطالت سمراتها «3» ، وطابت ثمراتها، لا جرم أن

67 - عيسى المعروف بأبي قريش

جرمه أوبقه وجرّه إلى محبسه، ثم ما فتح إلى غير قرارة القبر مطبقه. ذكره ابن أبي أصيبعة وقال فيه «1» :" [كان نصرانيا] من أهل البصرة، ومقامه بها، وكان فاضلا في صناعة الطب، جيد المعالجة". قال محمد بن سلام الجمحي:" مرض الحكم بن محمد المازني، فأتوه بخصيب الطبيب يعالجه، فقال فيه: [مجزوء الرمل] ولقد قلت لأهلي ... إذ أتوني بخصيب ليس والله خصيب ... للذي بي بطبيبي إنما يعرف دائي ... من به مثل الذي بي وقال ابن سلام:" كان خصيب نصرانيا نبيلا، فسقى محمد بن أبي العباس السفاح شربة دواء، وهو على البصرة، فمرض بها، وحمل إلى بغداد، فمات بها، فاتّهم به خصيب، فحبس حتى مات، فنظر في علته إلى مائه، وكان عالما، فقال: قال جالينوس: إن صاحب هذه العلة إذا صار ماؤه هكذا لا يعيش. فقيل له: إن جالينوس ربما أخطأ. فقال: ما كنت إلى خطئه قط أحوج مني الآن!. ومات من علته. ومنهم: 67- عيسى المعروف بأبي قريش «13» عارف لا يعادل في طبه ولا يعادى معه السقم لخطبه، ولا يؤخر في جدل، ولا يؤرخ زمان به عدل، وكان يرجع إليه فيما التبس، ويكاد يستطلق بتطبيبه

السحاب إذا احتبس، هذا بالدربة في معرفة قوى العقاقير، ولما سبق له به سعد المقادير. ذكره ابن أبي أصيبعة، وقال:" قال إسحاق بن علي الرهاوي- فيما نقله- أن أبا قريش كان صيدلانيا يجلس على موضع بباب قصر الخلافة، وكان ديّنا صالحا، وأن الخيزران «1» وجّهت بمائها مع جارية لها إلى الطبيب. فلما خرجت، رأت أبا قريش، فأرته الماء، فقال لها: هذا ماء امرأة حبلى بغلام!. فرجعت بالبشارة، فقالت لها الخيزران: ارجعي إليه واستقصي المسألة. فرجعت، فقال لها: ما قلت إلا الحق. فلما كان بعد أربعين يوما أحسّت الخيزران بالحمل؛ فوجّهت إليه ببدرة «2» دراهم، وكتمت الخبر عن المهدي، فلمّا مضت الأيام ولدت موسى الهادي، فأعلمت المهدي، وقالت له: إن طبيبا على الباب أخبر بهذا منذ تسعة أشهر، وبعثت إليه بتحف كثيرة، وبلغ هذا جرجس فأكذبه، ثم حبلت بأخيه هارون الرشيد، فقال جرجس للمهدي: جرّب أنت هذا الطبيب، فوجّه إليه بالماء، فلما رآه قال: هذا ماء ابنتي أم موسى، وهي حبلى

بغلام آخر!. فرجعت الرسالة بذلك إلى المهدي، وأثبت اليوم عنده، فلما مضت الأيام، ولدت هارون. فأحضره المهدي ولم يزل يطرح عليه الخلع، وبدر الدراهم والدنانير، حتى علت رأسه، وصير موسى وهارون في حجره، وكناه أبا قريش- أي: أبا العرب-، وقال لجورجيس: هذا شيء أنا بنفسي جربته. ثم صار نظير جرجس في الرتبة، ومات أبو قريش وخلف اثنين وعشرين ألف دينار، مع نعمة سنية. [قال يوسف: وحدثني إبراهيم بن المهدي أن لحم عيسى بن جعفر بن المنصور كثر عليه حتى كاد أن يأتي على نفسه. وإن الرشيد اغتمّ لذلك غما شديدا أضرّ به في بدنه، ومنعه لذة المطعم والمشرب، وأمر جميع المتطبّبين بمعالجته. فكلهم دفع أن يكون عنده في ذلك حيلة. فزادوا الرشيد غما إلى ما كان عليه منه. وأن عيسى المعروف بأبي قريش صار إلى الرشيد سرا، فقال له:" يا أمير المؤمنين! إن أخاك عيسى بن جعفر] «1» رزق معدة صحيحة، وبدنا قابلا، ودهرا مسالما، [والأبدان] ما لم تختلط على أصحابها طبائعهم وأحوالهم، [فتنالهم العلل في بعض الأوقات، والصحة في بعضها، والغموم في بعضها، والسرور في بعضها، ورؤية المكاره في بعضها، والمحابّ في بعضها، وتدخلها الروعة أحيانا، والفرح أحيانا] » ، لا يؤمن عليهم منها التلف، [لأن لحمه يزداد حتى تضعف عن حمله العظام، وحتى يغمر فعل النّفس، وتبطل قوى الدماغ والكبد، ومتى كان هذا عدمت الحياة، وأخوك هذا إن لم تظهر]

موجدة تجدها عليه، أو عزيز عيه من حرمه، لم تأمن عليه. فقال: لا حيلة عندي في الموجدة عليه، ولكن احتل أنت. فذهب إليه ثم جس عرقه، وأعلمه أنه يضطر إلى محنته ثلاثة أيام قبل العلاج، فأمره بذلك، فلما فرغ منه في اليوم رأى الأمير أن يعهد، فإن لم يحدث حادث قبل أربعين يوما عالجته في ذلك بعلاج لا يمضي عليه ثلاثة أيام حتى يبرأ. ونهض وقد امتلأ قلب الرجل [من الخوف] ، فانحطّ كثير من لحمه، واستتر أبو قريش خوفا من إفشاء الخبر، فلما كان يوم الأربعين صار إلى الرشيد وقال: لا شك في نقصان بدن عيسى، فركب إليه الرشيد، ودخل عليه، ومعه أبو قريش، فوجدوا لحمه قد نقص نقصا كبيرا، فقال له عيسى بن جعفر: أطلق لي يا أمير المؤمنين قتل هذا الكافر، فقد قتلني بما أدخل علي من الروع. فقال له: يا أخي! متعت بك «1» بأبي قريش- ردت إليه الحياة بعد الموت، فاشكر الله، فنعم الحيلة احتال لك، وقد أمرت له بعشرة آلاف دينار، فأوصل أنت إليه مثلها. ففعل، وانصرف أبو قريش إلى منزله بالمال ولم يرجع إلى أبي عيسى بن جعفر الشحم إلى أن فارق الدنيا.

68 - ابن اللجلاج

ومنهم: 68- ابن اللجلاج «13» عارف بالأسباب والعلامات، درب العلاج حتى عرف بغلبة الظن إلى أن تتناهى الأعمار، وتتمادى مدد البقاء في هذه الدار، وزاد في التقريب، وكان كل شيء منه عنده بمقدار. قال ابن أبي أصيبعة:" قال إسماعيل بن أبي سهل الطبيب، عن أبيه، قال: ترافقت أنا وابن اللجلاج أيام المنصور في حجته التي حجّ فيها، فكان إذا نام المنصور تنادمنا. فسألني ابن اللجلاج- وقد عمل فيه «1» النبيذ، عما بقي من عمر المنصور؟. فأعظم أبي ذلك، وقطع النبيذ، وجعل على نفسه أن لا ينادمه، [وهجره ثلاثة أيام] . ثم اصطلحا، فلما جلسا على نبيذهما قال ابن اللجلاج لابن أبي سهل: سألتك عن علمك ببعض الأمور، فبخلت به، وهجرتني، ولست أبخل عليك بعلمي، فاسمعه. ثم قال: إن المنصور رجل محرور «2» ، وتزداد يبوسة بدنه كلما أسنّ «3» . وقد حلق رأسه، وجعل مكان الشعر غالية «4» ، وهو في هذا الحجاز يداوم الغالية، وما

69 - عبد الله الطيفوري

يقبل قولي في تركها، ولا أحسبه يبلغ إلى فيد «1» حتى يحدث في دماغه اليبس ما لا يكون عندي ولا عند أحد من المتطبّبين حيلة في ترطيبه. فليس يبلغ" فيد"- إن بلغها- إلا مريضا. ولا يبلغ مكة- إن بلغها- وبه حياة!. قال إسماعيل بن أبي سهل: قال لي أبي: فو الله! ما بلغ المنصور" فيد" إلا وهو عليل، ولا وافى مكة إلا وهو ميت، ودفن ببئر ميمون «2» . ومنهم: 69- عبد الله الطيفوري «13» هبت له رياح ثم سكنت، وتنبّهت له عيون رباح ثم وسنت «3» ، وانتعش جدّه الخامل، ثم غلب عليه الخمول، ورنح «4» غصنه المائل ثم عاجله

الذبول، وظنّ أن بارقته «1» ممطرة وقد رأى ركامها «2» ، وأمّل رهامها «3» ، فما سقته إلا رشاشا، ولا أقامته إلا وسقط يتغاشى. قال ابن أبي أصيبعة «4» :" كان حسن العقل، طيّب الحديث، على لكنة سواديّة «5» كانت في لسانه شديدة. وكان مولده في بعض قرى" كسكر" «6» ، وكان أحظى خلق الله عند الهادي «7» . قيل: إنه كان مولى الخيزران، والأصح: أنه كان مطبّبا لأخيها طيفور، فنسب إليه. ولما وجّه المنصور المهديّ إلى الري لمحاربة من بها، حمل معه الخيزران، وهي حامل بموسى، وخرج معها طيفور، والطيفوري معه، ولم تكن الخيزران شعرت بالحمل، فبعثت قارورة لها تريها الأطباء، فأتت الجارية بها أبا قريش الصّيدلاني،

70 - إسرائيل بن زكريا الطيفوري

فقال: هذه قارورة حامل بغلام. فأدّت قوله إلى الخيزران، فسرّت وأعتقت عدة رقاب. وأعلمت المهدي فأحضره، وسأله، فقال ذلك. فسرّ أكثر من سرورها، ووصله كلّ منهما بمال جزيل، وأمره بلزوم الخدمة، وترك خيمته وما كان فيها من متاع الصيادلة. قال: فأراد طيفور أن ينفعني، فبعث بي إلى الخيزران، وقال: هذا طبيبي، ماهر في الطب، فابعثي إليه بالماء ليراه. ففعلت ذلك. فقال لي: قل لها كما قال أبو قريش. فقلت: ذلك ما لا أقول! لأنني لا أكتسب بالمخرقة! «1» . ولكن هذه قارورة حامل، فأمرت لي بألف درهم، فلما وافت الري ولدت الهادي، فضممت إليه ودعيت بطبيبه وهو رضيع وفطيم، ثم ولدت أخاه الرشيد، فكان مولده شؤما على الهادي، لأنه فاز بالحظوة دونه، فأضرّني ذلك في جاهي، فلما أدرك الهادي الخلافة رفع من شأني. ومنهم: 70- إسرائيل بن زكريا الطيفوري «13» طبيب الفتح بن خاقان. كان يدل بتقدّمه في فنه، ويدل على هذا غضبه على ملكه، وقد احتجم بغير إذنه لاشتداد أسر معرفته بقوى الأمزجة، وقدر فاقة الأبدان المليّة والمحوجة.

ذكره ابن أبي أصيبعة وقال فيه:" كان مقدّما في صناعة الطب، جليل القدر عند الخلفاء والملوك، وكان مختصا بابن خاقان، وله من الإنعام الوافر، وكان المتوكل يعتمد عليه، وصار عنده إلى منزلة بختيشوع، وكان متى ركب إلى دار المتوكل في مثل مراكب الأمراء الأجلّاء القوّاد، وأمر المتوكّل صقلاب وابن الخيبري بالركوب معه، ثم أقطعه قطيعة ب" سرّ من رأى" «1» ، ركب فاختارها لنفسه خمسين ألف ذراع، وأعطاه ثلاث مائة ألف درهم لينفقها عليه، فحازها، وضرب المناور «2» عليه. وحكى الرهاوي أن إسرائيل بن الطيفوري وجد «3» على المتوكل إذ احتجم بغير إذنه فافتدى غضبه بثلاثة آلاف دينار، وضيعة تغلّ له في السنة خمسين ألف درهم، وهبها له، وسجّل له عليها. وحكى ابن ما سويه قال: رأيت المتوكل وقد عاد إسرائيل وهو مريض قد غشي عليه، فجعل يده تحت رأسه مخدّة له، ثم قال للوزير: حياتي معلّقة بحياته إن عدمته لا أعيش!. ثم كان يبعث سعيد بن صالح- حاجبه- وموسى ابن عبد الملك- كاتبه- يعودانه عنه.

71 - يزيد بن [زيد] بن يوحنا

ومنهم: 71- يزيد بن [زيد] بن يوحنّا «13» ابن أبي خالد. كان لا يخطئ له صواب، ولا يبطئ به جواب، وكان في طبه [جدّ المأمون، خدم به ... ] «1» ابن المهدي والمأمون، لأنه كان لا يتهم، ولا تسري وتدلج إليه التهم، لعلم يقين منه عقد عليه الأنامل، وأقعد لديه كل آمل. قال ابن أبي أصيبعة:" كان جيد العلم، حسن المعالجة، موصوفا بالفضل، خدم المأمون وابن المهدي، وكان له منه العناية الظاهرة، وله عليه الجامكية «2» الوافرة". قال ابن المهدي: إن أبا عثمان ثمامة العبسي صاحب الجبار اعتلّ علة تطاولت به، وكان شيخا كبيرا. قال ابن المهدي: فسألني الرشيد عن علته، وأين بلغت به؟. فأعلمته، أني لا أعلم له خبرا، فأظهر إنكار القول، ثم قال: رجل غريب من أهل الشرف قد رغب في مصاهرة أهله عبد الملك بن مروان، وقد ولدت أخته خليفتين: الوليد، وسليمان ابني عبد الملك. وقد رغب أبوك في مصاهرته، فتزوّج أخته، ورغبت أنا وأخوك في مثل ذلك منه فتزوجت ابنته، وهو مع ذلك صحابي لجدّك وأبيك، ولأختك وأخيك، فلا توجب على نفسك عيادته؟.

ثم أمرني بالمصير إليه لعيادته، فنهضت، وأخذت معي متطبّبي يزيد، وصرت إليه، فدخلت على رجل توهّمت أنه في آخر حشاشة «1» بقيت في نفسه، ولم أر فيه للمسألة موعا، فأمر يزيد متطبّبي بإحضار متطبّبه. فحضر. فسأله عن حاله؟. فأخبر أنه يقوم في اليوم والليلة مائة مجلس. وأقبل يزيد يسأل المتطبّب عن باب باب من الأدوية التي تشرب، والسفوفات «2» ، والحقن؟. فلم يذكر لذلك المتطبّب شيئا إلا أعلمه أنه قد عالجه به، فلم ينجع فيه، فوجم «3» عند ذلك يزيد مقدار ساعة، وقال: قد بقي شيء واحد أن أعمل به، رجوت أن ينتفع به، وإن لم ينجع فلا علاج له. قال أبو إسحاق: فرأيت ثمامة قد قويت نفسه عند ما سمع من يزيد ما سمع، ثم قال: وما ذلك الشيء الذي بقي- متعت بك «4» -؟. قال: شربة" الاصطمخيقون" «5» . فقال ثمامة: أحبّ أن أرى هذه الشربة حتى أشمّ رائحتها. فأخرج يزيد من كمّه منديلا فيه أدوية، وفيه شربة" أصطمخيقون" فأمر بها

ثمامة فحلّت، ثم أتي بها فرمى بها في فيه، وابتلعها، فوالله ما وصلت إلى جوفه حتى سمعت منه أصواتا لم أشك في أني لم أبلغ باب داره إلا وقد مات!. فنهضت ومتطبّبي معي، وما أعقل غما. وأمرت خادما لي يكون يحمل معي الاسطرلاب إذا ركبت بالمقام في داره، وتعرّف خبر ما كان يكون منه، فتخلّف. فوافاني كتاب الخادم بعد الزوال يعلمني أنه قام بعد طلوع الشمس إلى زوالها خمسين مرة. فقلت: تلفت والله نفس ثمامة. ثم وافى كتاب الخادم بعد غروب الشمس أنه قام منذ زوال الشمس إلى غروبها عشرين مجلسا. ثم صار إليّ الغلام مع طلوع الشمس فذكر أنه لم يكن منه منذ غروب الشمس إلى انتصاف الليل إلا ثلاثة مجالس!، ولم يكن منه إلى وقت طلوع الفجر شيء. فركبت إليه بعد أن صليت الغداة، فوجدته نائما، وكان لا ينام، فانتبه لي، وسألته عن خبره؟. فأخبرني أنه لم يزل في وجع من جوفه مانع له من النوم والقرار منذ أكثر من أربعين ليلة، حتى أخذ تلك الشربة، فلما انقطع فعل الشربة انقطع عنه ذلك الوجع، وأنه لم يشته طعاما منذ ذلك الوقت، وأنه ما يصبر في وقته من غلبة الجوع عليه، وسأل الإذن في الأكل. فأذن له يزيد في أكل" اسفيذاج" «1» قد طبخ في فروج كسكري سمين، ثم إتباعها" زيرباجة" «2» ، ففعل ذلك.

وصرت إلى الرشيد فأخبرته بما كان من أمر ثمامة!. فأحضر المتطبّب، وقال له: ويحك! كيف أقدمت على إسقائه حب الاصطمخيقون؟. فقال: يا أمير المؤمنين! هذا رجل كان في جوفه [كيموس «1» فاسد، فلم يكن يدخل في جوفه] «2» دواء ولا غذاء إلا أفسده الكيموس، وكان كلما فسد من تلك الأدوية والأغذية صار مادة لذلك الفساد، فكانت العلة لهذا السبب تزداد. فعلمت أنه لا علاج له إلا بدواء قوي على فعل الكيموس. وكانت أقوى الأشياء التي يمكن أن يسقاها:" الاصطمخيقون". فقلت له فيه الذي قلت، ولم أقدم أيضا على القول إنه يبرئه لا محالة. وإنما قلت: بقي شيء واحد، فإن هو لم ينفعه فلا علاج له. وإنما قلت ذلك لأني رأيت الرجل عليلا قد أضعفته العلة، وأذهبت أكثر قواه، فلم آمن عليه التلف إن شربه، وكنت أرجو له العافية بشربه إياه، وكنت أعلم أنه إن لم يشربه أيضا تلف. فاستحسن الرشيد ما كان من قوله، ووصله بعشرة آلاف درهم، ثم عاد الرشيد ثمامة، وقال: لقد أقدمت من شرب ذلك الدواء على أمر عظيم، وخاصة إذا كان المتطبّب لم يصرّح لك بأن في شربه العافية. فقال ثمامة: يا أمير المؤمنين! كنت قد يئست من نفسي، وسمعت المتطبّب يقول: إن شربت هذا الدواء رجوت أن ينفعه، فاخترت المقام على الرجاء ولو لحظة على اليأس من الحياة، فشربته، وكان في ذلك خيرة من الله عظيمة «3» .

72 - عبدوس بن زيد

ومنهم: 72- عبدوس بن زيد «13» وكان طبيبا حاذقا، ومصيبا لا يزال برأيه موافقا، وله فضل من السحاب لو جر ذلاذله «1» ، ونبل يتمنى لو كان فيه نقص يشغل عواذله. قال أبو علي القباني، عن أبيه، أن القاسم بن عبيد الله «2» مرض في حياة أبيه مرضا حادا في تموز، وحلّ به القولنج الصعب، فانفرد بعلاجه عبدوس بن زيد، وسقاه ماء أصول قد طبخ، وطرح فيه أصل الكرفس، والرازيانج «3» ، ودهن

الخروع، وجعل فيه شيئا من" أيارج فيقرا «1» " فحين شربه سكن وجعه، وأجاب طبعه مجلسين، فأفاق ثم أعطاه من غد ذلك اليوم ماء شعير، فاستطرف هذا منه. وقال أبو علي القباني أيضا: إن أخاه إسحاق بن علي مرض، وغلبت الحرارة على مزاجه، والنحول على بدنه، حتى أدّاه إلى الضعف، وردّ ما يأكله، فسقاه عبدوس بن زيد هذه الأصول [بالأيارج] ، ودهن الخروع، في حزيران أربعة عشر يوما، فعوفي، وصلحت معدته. وقال: في مثل هذه الأيام تحمّ حمّى حادّة، فإن كنت حيا خلّصتك بإذن الله، وإن كنت ميتا فعلامة عافيتك له دائر سنة، أن تنطلق طبيعتك في اليوم السابع، فإن انطلقت عوفيت، ومع هذا فقد تقوّت معدتك بقوى لو طرحت فيها الحجارة لطحنتها. فلما انقضت السنة، مرض عبدوس، وحمي أخي كما قال، وكان مرضهما في يوم واحد، فما زال عبدوس يراعي أخي، ويسأل عن خبره إلى أن قيل له: انطلقت طبيعته، فقال: قد تخلّص. ومات عبدوس في الغد من ذلك اليوم. ولعبدوس بن زيد من الكتب: كتاب" التذكرة في الطب".

73 - ماسرجويه «طبيب البصرة»

ومنهم: 73- ماسرجويه «طبيب البصرة» «13» هو أول من ترجم، وعرّب ما أعجم، وكان صلب العود، صعب الجلمود «1» ، لا ينقل إلا ما حرّره، وفصّل كلمه على قدر المعنى وقدّره، لا يتجوّز في كلمة يعبر بها عن معنى ما لم يكن دالة عليها بالمطابقة، مقابلة في اللغة الأخرى، لما نظرت به موافقة، وهو على هذا ظريف العبارة، لطيف الحديث إذا سمعت أخباره. قال ابن أبي أصيبعة «2» :" هو الذي نقل كناش" اهرن" من السرياني إلى العربي، وكان سريانيا يهودي الدين، وهو الذي يعنيه الرازي بقوله:" قال اليهودي". قال ابن جلجل:" كان ماسرجويه أيام بني أمية، وعرف كناش أهرن لهم، كان في خزائنهم، فلما ولي عمر بن عبد العزيز- رضي الله عنه- أخرجه فوضعه على مصلاه، واستخار الله فيه أربعين يوما، ثم أخرجه إلى المسلمين للانتفاع به".

قال الكسروي «1» : كان أبو نواس يعشق جارية لامرأة من ثقيف تسكن موضعا يعرف بحكمان، من أرض البصرة، يقال لها" جيّان". وكان أبو عثمان وأبو أمية الثقفيان من أقارب مولاتها، فكان أبو نواس يخرج كل يوم من البصرة يتلقّى من يرد من ناحية" حكمان" يسألهم عن أخبار" جيان" قال: فخرج يوما وخرجت معه، فكان أول قادم عليه ماسرجويه، فقال له أبو نواس: كيف خلّفت أبا عثمان وأبا أمية؟. فقال له ماسرجويه: جيان صالحة الحال كما تحب!. فقال: [الخفيف] أسأل القادمين من حكمان ... كيف خلّفتم أبا عثمان؟ وأبا أمية المهذّب والمأ ... مول والمرتجى لريب الزمان فيقولون لي: جنان كما ... سرّك في حالها، فسل عن جنان ما لهم؟ لا يبارك الله فيهم! ... كيف لم يغن عنهم كتماني؟ وقال:" كنت جالسا عند ماسرجويه إذ أتاه رجل فقال: إني بليت بمرض عظيم أصبح وبصري عليّ مظلم، وأنا أجد مثل لحس الكلاب في معدتي. ولا أزال هكذا حتى آكل، فإذا أكلت سكن عني ما أجد إلى وقت الظهر، ثم يعاودني ما كنت فيه، فإذا عاودت الأكل سكن ما بي إلى وقت العشاء، ثم يعاودني ما كنت فيه حتى آكل!. فقال له ماسرجويه:" على هذا المرض غضب الله، فإنه أساء لنفسه الاختيار، إذ لم يكن إلا لسفلة مثلك!. ووددت لو ابتليت أنا وبنيّ به عوضك، ولو أنه بنصف ما أملك!.

فقال له: ما أفهم ما تقول!. فقال له ماسرجويه: هذه صحة لا تستحقها، أسأل الله تعالى نقلها عنك إليّ فإني أحق بها منك!. وقال: شكوت إلى ماسرجويه تعذّر الطبيعة؟. فقال لي: أي شيء من الأنبذة تشرب؟. فقلت: الدوشاب «1» البستاني الكثير الداذي «2» . فأمرني أن آكل في كل يوم من أيام الصيف على الريق قثاءة صغيرة، فآكل منه الخمس والست والسبع، فكثر عليّ الإسهال، فشكوت إليه، فلم يكلّمني حتى حقنني بحقنة كثيرة الشحوم، والصموغ، والخطمي «3» ، والأرز الفارسي،

74 - سلمويه بن بنان «متطبب المعتصم»

ثم قال لي: كدت تقتل نفسك بإكثارك من القثاء على الريق، لأنه كان يحدر من الصفراء ما يزيد عن الأمعاء من الرطوبات اللاصقة بها ما يمنع الصفراء من سحجها وإحداث" الدوسنطاريا" «1» . ومنهم: 74- سلمويه بن بنان «متطبّب المعتصم» «13» جلّ «2» في العيان، وحلّ في الأعيان، وكان له شان لا تغص به المآقي، ولا يغضّ الأيام على لياليه البواقي، وسعد به أخوه، وصعد رتب النظراء ولم يواخوه!. ذكره ابن أبي أصيبعة وقال فيه:" لما استخلف المعتصم «3» اختاره لنفسه، وقرّبه حتى كانت التواقيع «4» في السجلات وغيرها تصدر عن المعتصم بخطه، وولى أخاه بيوت الأموال، وسلّمه خاتمه، وكان سلمويه نصرانيا محمود السيرة، وافر العقل.

75 - إبراهيم بن فزارون

قال اسحاق بن حنين عن أبيه أنه كان أعلم أهل زمانه بصناعة الطب. ولما اعتلّ عاده المعتصم، وبكى عنده، واستشاره فيمن يكون بعده، وكان المعتصم قد أرصده لعرض الحوائج إبراهيم بن المهدي أوقات خلواته. ومنهم: 75- إبراهيم بن فزارون «13» كان موقرا لا يحل له حبوة، ولا تحطّ له ربوة، ولا تبارى به الثريا إذا لاحت، ولا الحميّا «1» إذا فاحت. وكان مقدّما لتطبيب الأرواح، وتطييب الأوقات بالأفراح، لا يزال ينشر ألوية المدام، ويؤثر أندية النّدّام، ويسيرها كؤوسا تجول أشعتها حول أوانيها، وتحول أقاصي البلاد أدانيها. قال ابن أبي أصيبعة:" كان شيخ بني فزارون الكتاب. قد خرج مع غسان بن عباد «2» إلى السند، فحدّثني أن غسان بن عباد مكث بأرض السند من يوم

النيروز إلى يوم المهرجان «1» ، يشتهي أن يأكل قطعة لحم باردة، فما قدر على ذلك. فسألته عن السبب؟. فقال: كنا نطبخه فلا يبرد حتى يروح، فنرمي به. قال يوسف: وأخبرني إبراهيم بن فزارون أنه ما أكل بأرض السند لحما استطابه إلا لحوم الطواويس، وأنه لم يأكل لحما قط أطيب من لحم الطواويس ببلاد السند. قال يوسف: وحدّثني إبراهيم بن فزارون أنه رفع إلى غسان بن عباد، أن في النهر المعروف بمهران بأرض السند سمكة تشبه الجدي، وأنها تصاد ثم يطيّن رأسها وجميع بدنها إلى موضع مخرج الثفل «2» ، ثم يجعل ما لم يطيّن منها على الجمر، ويمسكها ممسك بيده حتى يستوي منها ما كان موضوعا على الجمر، وينضج ثم يؤكل ما نضج، أو يرمى به، وتلقى السمكة في الماء ما لم ينكسر العظم الذي هو صلب السمكة، فتعيش السمكة، وينبت على عظمها اللحم!!. وأن غسان أمر بحفر بركة في داره، وملأها ماء وأمر بامتحان ما بلغه. قال إبراهيم: فكنا نؤتى كل يوم بعدّة من هذا السمك، فنشويه على الحكاية التي ذكرت لنا، ونكسر من بعض عظمه الصلب، ونترك بعضه لا نكسره، فكان ما يكسر عظمه يموت، وما لم يكسر عظمه يسلم، وينبت عليه اللحم، ويستوي الجلد، إلا أن جلدة تلك السمكة تشبه جلدة الجدي الأسود، وما قشرناه من لحوم السمك التي شويناها ورددناها إلى الماء تكون على غير لون الجلدة الأولى، لأنه يضرب إلى البياض.

76 - إبراهيم بن أيوب الأبرش

قال يوسف: وسألت إبراهيم بن فزارون عن قول من يزعم أن نهر مهران [هو نهر النيل، فقال لي: رأيت نهر مهران] «1» ، وهو يصب في النهر الملح، إلا أن علماء الهند والسند أعلموني أن مخرج النيل ومخرج نهر مهران من عين واحدة عظيمة، فنهر مهران يشق أرض السند، حتى يصب في بحرها المالح، والنهر الآخر يشق أرض الهند وجميع أرض السودان حتى يخرج إلى أرض النوبة، ثم يصب باقيه في أرض مصر فيرويها، ثم يصب باقيه في بحر الروم. ومنهم: 76- إبراهيم بن أيوب الأبرش «13» كان يعرف كيف تصاد الدراهم، ويعالج جراح الفقر من ضمادات أكياسها المراهم، بصيرا بتعديل المزاج بشربها، خبيرا بهذا العلاج بطبّها، وصادف وقتا قابلا وملكا يهب، وشفيعا قائلا، فجمع ما لم يجمع، ومصّل من المال ما لا يرى مثله ولا يسمع. قال عيسى بن ماسة «2» :" رأيت الأبرش وقد عالج إسماعيل «3» - أخا المعتز- فلما بريء كلّمت" قبيحة" «4» - أمّه- المتوكل ليهبه؟.

77 - ماسويه أبو يوحنا

فقال لها: مهما أعطيتيه، أعطيته مثله!. فأمرت له" قبيحة" ببدرة، فأمر له المتوكل بمثلها. فأمرت ببدرة أخرى، فأمر له المتوكل بمثلها، فما زالا يحضران البدر حتى أحضر كل منهما ست عشرة بدرة. ثم أومأت إلى جاريتها: أن تمسك. فقال الأبرش: لا تقطعي، وأنا أرد عليك. فقالت له: خذ ما حضر، فإنه لا يملأ عينك شيء. فقال المتوكل: والله! لو أعطيتيه إلى الصباح لأعطيته مثل ذلك. ثم لما أفضت الخلافة إلى المعتز، كان أخصّ الأطباء عنده، لمكانه من أمه" قبيحة"، فلما خلع المعتز قبض عليه صالح بن وصيف «1» ومنهم: 77- ماسويه أبو «2» يوحنّا «13» دخل على الملك من بابه، وتوصّل إلى الفلك بأسبابه، وانتقل من خاصّة الكحل، إلى عامة تدبير الجسد، وتقرير إصلاح ما فسد. ثم لم يزل في مزيد في الصناعة، وتجديد ما ينمي مكاسب البضاعة، إلى أن صار لا يمترى في نفاقه، ولا

يمتار «1» إلا من فواضل أسواقه، ولا يتطبّب عليل بألطف من شمائل أخلاقه. ذكره الترجمان كيف تنقّل وآخر أمره أنه عالج عين خادم الفضل بن الربيع «2» ، فشكا الفضل عينه، فأوصله إليه، فلم يزل يكحّله إلى ثلث الليل، ثم سقاه دواء مسهلا فصلح به، فأجرى عليه رزقا. فما مضت إلا أيام حتى اشتكت عين الرشيد. فقال له الفضل: يا أمير المؤمنين! طبيبي ماسويه من أحذق الناس بالكحل. فأمر بإحضاره ثم قال له: هل تحسن شيئا من الطب سوى الكحل؟. فقال: نعم يا أمير المؤمنين!، وكيف لا أحسن وقد خدمت المرضى بالبيمارستان؟!. فأدناه منه، فنظر في عينيه، فحجمه في ساقيه، وقطر في عينيه، فبرأ بعد يومين، فأمر بأن يجرى عليه في الشهر ألفا درهم، وعلوفه «3» ، ومعونته في السنة عشرون ألف درهم. ثم اعتلّت أخت الرشيد. فعالجها جبرئيل بأنواع العلاج فلم تنتفع، فاغتمّ بها، فقال الرشيد ذات يوم: قد كان ماسويه ذكر أنه خدم المرضى بالمارستان،

78 - يوحنا بن ماسويه

وعالج الطبايع، فليدخل إلى عليلتنا لعلّ عنده فرجا؟. فأحضر جبرائيل وماسويه، فقال له ماسويه: عرّفني حالها، وجميع ما دبّرتها به إلى وقتنا هذا؟. فقصّ عليه. فقال ماسويه: التدبير صالح، والعلاج مستقيم، ولكن أحتاج إلى أن أراها. فأمر الرشيد بأن يدخل إليها. فلما تأمّلها، وجسّ عرقها بحضرة الرشيد، وخرجوا من عندها. وقال ماسويه للرشيد: يكون لك طول العمر والبقاء!. هذه تقضي بعد غد ما بين ثلاث ساعات إلى نصف الليل. فقال جبرائيل: كذب يا أمير المؤمنين!، إنها تبرأ وتعيش. فأمر الرشيد بحبس ماسويه ليسبر «1» ما قاله. وقال: ما رأينا بعلم الشيخ بأسا. فلما كان الوقت الذي وقّته ماسويه ماتت. فأمر الرشيد بإخراجه، وصيّره نظير جبرائيل في رزقه، ونزله، وعلوفته، ومعونته، ومرتّبه، ومرتبته. ومنهم: 78- يوحنّا بن ماسويه «13» طبيب على يده الشفاء، ولديه الوفاء، ما جال رأيه إلا فل أفلاطون، وجال فكر جالينوس لعله مثله يكون، وود ابن أثال لو نحت من إبلته، وتشوق الحرث

للمقيل تحت نخلته، وسرّ السريان إذ كان منهم معدودا، وآن لليونان أن يساؤوا إذ لم يكن منهم له وولودا، ولا منه لهم ودودا. قال ابن أبي أصيبعة:" كان طبيبا ذكيا، فاضلا، خبيرا بصناعة الطب، وله كلام حسن وتصانيف مشهورة، وكان مبجّلا، وكان حظيّا عند الخلفاء والملوك". قال إسحاق بن علي الرهاوي في كتاب" أدب الطبيب" عن عيسى بن ماسه «1» الطبيب، قال: أخبرني أبو زكريا يوحنا بن ماسويه أنه اكتسب من صناعة الطب ألف ألف درهم، وعاش بعد قوله هذا ثلاث سنين أخر، وكان الواثق «2» مشغوفا، ضنينا به. فشرب يوما عنده، فسقاه الساقي شرابا غير صاف ولا لذيذ، على ما جرت به العادة، وهذا من عادة السقاة إذا قصّر في برّهم، فلما شرب القدح الأول، قال: يا أمير المؤمنين! أما المذاقات فقد عرفتها وأعددتها، ومذاقة هذا الشراب خارجة عن طبع المذاقات كلها!. فوجد أمير المؤمنين على السقاة، وقال: تسقون أطبائي وفي مجلسي بمثل هذا الشراب؟!. وأمر ليوحنّا بهذا السبب وفي ذلك الوقت بمائة ألف درهم، ودعا بسمانة الخادم، وقال له: احمل إليه المال الساعة. فلما كان وقت العصر سأل سمانة: هل حمل مال الطبيب أم لا؟. فقال: لا بعد. فقال: يحمل إليه مائتا ألف درهم الساعة.

فلما صلّوا العشاء سأل عن حمل المال؟. فقيل له: لم يحمل بعد!. فدعا سمانه، وقال له: احمل إليه ثلاثمائة ألف درهم، فقال سمانة لخازن بيت المال: احملوا مال يوحنا، وإلا لم يبق في بيت المال شيء، فحمل إليه من ساعته! «1» . وقال سليمان بن حسان: كان يوحنا بن ماسويه مسيحي المذهب، سريانيا. قلّده الرشيد ترجمة الكتب القديمة، مما وجد بأنقره، وعمّورية «2» ، وبلاد الروم، حين سباها المسلمون، ووضعه أمينا على الترجمة، وخدم هارون، والأمين، والمأمون، وبقي على ذلك إلى أيام المتوكل. قال: وكانت ملوك بني هاشم لا يتناولون شيئا من أطعمتهم إلا بحضرته، وكان يقف على رؤوسهم ومعه البراني «3» بالجوارشنات «4» الهاضمة المسخنة، الطابخة، المقوية للحرارة الغريزية في الشتاء، وفي الصيف بالأشربة الباردة والجوارشنات. قال ابن النديم البغدادي الكاتب: إن يوحنا بن ماسويه خدم بصناعة الطب المأمون، والمعتصم، والواثق، والمتوكل.

قال يوسف بن إبراهيم: كان مجلس يوحنا بن ماسويه أعمر مجلس كنت أراه بمدينة السلام لمتطبّب أو متكلّم، أو متفلسف، لأنه كان يجتمع به كل صنف من أصناف أهل الأدب، وكان في يوحنا دعابة شديدة، يحضر بعض من يحضر لأجلها، وكان من ضيق الصدر، وشدة الحدّة على أكثر مما كان عليه جبريل بن بختيشوع، وكانت الحدة تخرج منه ألفاظا مضحكة، وكان أطيب مجلسه في وقت نظره في قوارير الماء، وكنت وابن حمدون بن عبد الصمد بن علي الملقّب بأبي العيرطرد، وإسحاق بن إبراهيم بن محمد بن إسماعيل الملقب ببيض البغل، قد توكلنا به نحفظ نوادره، وأظهرت له التلمذة [في قراءة كتب المنطق عليه، وأظهرا له التلمذة] «1» بقراءتهما كتب جالينوس عليه في الطب. قال يوسف: مما حفظت من نوادره في وقت نظره: أن امرأة أتته فقالت له: إن فلانة وفلانة وفلانة يقرءون عليك السلام!. فقال لها: أنا بأسماء أهل سطنطينية، وعمّورية، أعلم مني بأسماء الذين أسميتيهم، فأظهري بولك حتى أنظر لك فيه!. قال يوسف: وحفظت عليه أن رجلا شكا إليه علة كان شفاؤه منها الفصد، فأشار به عليه. فقال له: لم أعتد الفصد!. فقال له: ولا أحسب أحدا اعتاده في بطن أمه، وكذلك لم يعتد العلة قبل أن يعتل، وقد حدثت بك، فاختر ما شئت من الصبر على ما أحدثت لك الطبيعة من العلة، أو اعتياد الفصد لتسلم منها.

قال يوسف: وشكا إليه رجل بحضرتي" جريا" «1» قد أضرّ به. فأمره بفصد الاكحل من يده اليسرى، فأخبره أنه قد فعل. فأمره بشرب المطبوخ. فقال: قد فعلت. فأمره بشرب الأصطمخيقون. فأعلمه أنه قد فعل!. فأمره بشرب ماء الجبن أسبوعا، وشرب مخيض البقر أسبوعين. فأعلمه أنه قد فعل!. فقال له: إنه لم يبق شيء مما أمر به المتطبّبون إلا وقد ذكرت أنك قد عملته، وقد بقي شيء لم يذكره بقراط ولا جالينوس، وقد رأيناه يعلم على التجربة كثيرا، فاستعمله؛ فإني أرجو أن ينجح علاجك إن شاء الله. فسأله ما هو؟. فقال: ابتع زوجي قراطيس، وقطعهما رقاعا صغارا، واكتب في كل رقعة:" رحم الله من دعا لمبتلى بالعافية" وألق نصفها في المسجد الشرقي بمدينة السلام، والنصف الآخر في المسجد الغربي، وفرقها في المجالس يوم الجمعة؛ فإني أرجو أن ينفعك الله بالدعاء إذ لم ينفعك العلاج.! قال يوسف: وصار إليه- وأنا حاضر- قسّيس الكنيسة التي يتقرّب فيها يوحنّا، وقال له: فسدت عليّ معدتي!. فقال له: استعمل جوارشن الخوزبي. فقال: قد فعلت. فقال: استعمل الكمّوني. قال: قد أكلت منه أرطالا. فأمره باستعمال المقداذيقون. فقال: قد شربت منه جرّة. فقال: فاستعمل المروسيا. فقال: قد فعلت، وأكثرت. فغضب وقال له: إن أردت أن تبرأ فأسلم فإن الإسلام يصلح المعدة!. قال يوسف: واشتدّت على يوحنّا علّة كان فيها حتى يئس منه أهله. ومن عادة النصارى إحضار من يئس منه أهله جماعة من الرهبان والقسّيسين «2» ،

والشمامسة «1» يقرءون حوله. ففعل مثل ذلك بيوحنّا. فأفاق والرهبان حوله يقرءون فقال لهم: يا أولاد الفسّق! ما تصنعون في بيتي؟. فقالوا: كنا ندعو ربنا ليتفضل عليك بالعافية. فقال لهم يوحنّا: قرص ورد أفضل من صلوات جميع أهل النصرانية منذ كانت إلى يوم القيامة!، اخرجوا من منزلي فخرجوا. قال يوسف: وشكا- بحضرتي- إلى يوحنا رجل من التجّار جريا به في أيام الشتاء. فقال: ليست هذه من أيام علاج ما تجد، وإنما علاج دائك هذا في أيام الربيع، فتنكّب أكل المعفّنات كلها، وطريّ السمك، ومالحه، صغار ذلك وكباره، وكل حرّيف «2» من الأبزار والبقول، وما يخرج من الضرع. فقال له الرجل: هذه الأشياء ما أطيق عنها صبرا. فقال يوحنا: فإن كان الأمر على ما ذكرت فأدمن أكلها، وحكّ بجنك!، فلو نزل المسيح لك خاصّة لما انتفعت بدعائه لما تصف به نفسك من الشر. قال يوسف: وعاتبه النصارى على اتخاذ الجواري، وقالوا له: خالفت ديننا وكنت شمّاسا لنا!. وإما أخرجت نفسك من الشماسة، وأخذت ما بدا لك من الجواري. فقال: إنما أمرنا في موضع واحد أن لا نتخذ امرأتين، ولا ثوبين، فمن جعل

" الجاثليق «1» " العاضّ بظر أمه، أولى أن يتخذ عشرين ثوبا من يوحنا الشقي في اتخاذ أربع جوار، فقولوا لجاثليقكم أن يلزم قانون دينه، حتى نلزمه معه، وإن خالفه خالفناه!. قال يوسف: وكان بختيشوع بن جبرائيل يداعب يوحنّا كثيرا، فقال له يوما في مجلس أبي إسحاق- ونحن في عسكر المعتصم بالمدائن سنة عشرين ومائتين-: أنت يا زكرياء! أخي لأبي. فقال يوحنا لأبي إسحاق: اشهد أيها الأمير على إقراره، فو الله لأقاسمنّه ميراثه من أبيه. فقال له بختيشوع: إن أولاد الزنا لا يرثون، ولا يورّثون، وقد حكم دين الإسلام للعاهر بالحجر. فانقطع يوحنا ولم يحر جوابا. قال يوسف:" وكانت دار الطيفوري في دار الروم من الجانب الشرقي من مدينة السلام لصيقة دار يوحنّا بن ماسويه، وكان للطيفوري ابن قد علم الطب علما، يقال له: دانييل. ثم ترهّب بعد ذلك فكان يدخل مدينة السلام عند تأدّي الخبر إليه بعلّة والده، أو ما أشبه ذلك. وكان ليوحنّا طاووس كان يقف على الحائط الذي فيما بين داره ودار الطيفوري. فقدم دانييل مدينة السلام ليلا في الشهر المعروف ب" آب" وهو شهر شديد الحر، كثير الرمد، فكان الطاووس كلما اشتد عليه الحرّ صاح!؛ فأنبه دانييل، وهو في ثياب صوف من ثياب

الرهبان، فطرده مرات، فلم ينفع ذلك، ثم رفع مرزبته «1» فضرب بها رأس الطاووس! فوقع ميتا. واستتر الخبر عن يوحنّا إلى أن ركب ورجع، فصادف عند منصرفه طاووسه ميتا على باب داره، فأقبل يقذف بالجدود «2» من قتله، فخرج إليه دانييل فقال: لا تشتم من قتله، فإني قتلته، ولك عليّ مكانه عدة طواويس. فقال له يوحنا- بحضرتي-: ليس يعجبني راهب له سنام، وطول ذكر!.- إلا أنه قال ذلك بفحش-. فقال له دانييل: وكذلك ليس يعجبني شماس له عدة نساء، واسم رئيسة نسائه:" قراطيس"، وهو اسم رومي لا عربي!. ومعنى" القراطيس" عند الروم: قرنانة!، وليس تكون المرأة قرنانة حتى تنكح غير بعلها. فخرج يوحنّا، ودخل منزله مفعولا. قال يوسف: وحدّثني بمصر أحمد بن هارون الشرابي: أن المتوكل على الله حدّثه في خلافة الواثق أن يوحنّا بن ماسويه كان مع الواثق على دكان كان للواثق في دجلة، ومع الواثق قصبة فيها شصّ «3» ، وقد ألقاها في دجلة ليصيد بها السمك، فحرم الصيد، فالتفت إلى يوحنا- وكان على يمينه- فقال: قم يا مشؤوم عن يميني. فقال له يوحنا: يا أمير المؤمنين! لا تتكلّم بمحال. يوحنا بن ماسويه الخوزي، وأمه: رسالة الصقلبية، المبتاعة بثمانمائة درهم، أقبلت به السعادة إلى أن صار نديم الخلفاء، وسميرهم، وعشيرهم، وحتى غمرته الدنيا

فنال منها ما لم يبلغه أمله. فمن أعظم المحال أن يكون هذا مشؤوما، ولكن إن أحبّ أمير المؤمنين أن أخبره بالمشئوم من هو؟ أخبرته. فقال: ومن هو؟. فقال: من ولدته أربع خلفاء، ثم ساق الله إليه الخلافة، فترك الخلافة وقصورها، وبساتينها، وقعد في دكان مقدار عشرين ذراعا في مثلها، في وسط دجلة، لا يأمن عصف الريح عليه فيغرقه ثم يتشبّه بأفقر قوم في الدنيا وشرّهم، وهم صيادو السمك!. قال لي أحمد بن هارون: قال لي المتوكل: فرأيت الكلام قد أنجع فيه، إلا أنه أمسك لمكاني. قال يوسف: وحدثني أحمد بن هارون أن الواثق قال في هذا اليوم ليوحنّا وهو على هذه الدكان: يا يوحنا! ألا أعجبك من خلة؟. قال وما هي؟. قال: إن الصيّاد ليطلب السمك مقدار ساعة فيصيد السمكة تساوي الدينار أو ما أشبه ذلك، وأنا أقعد منذ غدوة إلى الليل فلا أصيد ما يساوي درهما!. فقال له يوحنا: وضع أمير المؤمنين التعجب في غير موضعه. إن الله تعالى جعل رزق الصياد من صيد السمك، فرزقه يأتيه لأنه قوته وقوت عياله، ورزق أمير المؤمنين بالخلافة، فهي غني عن أن يرزق بشيء من السمك، ولو كان رزقه جعل في الصيد لوافاه رزقه منه مثل ما يوافي الصياد. قال يوسف: وحدّثني إبراهيم بن علي متطبّب أحمد بن طولون: إنه كان في دهليز «1» يوحنا بن ماسويه ينتظر رجوع يوحنا من دار السلطان، فانصرف وقد

أسلم في ذلك اليوم عيسى بن إبراهيم بن نوح كاتب الفتح بن خاقان. قال إبراهيم: فقمت إليه وجماعة من الرهبان، فقال لنا: اخرجوا يا أولاد الزنا من داري، واذهبوا وأسلموا، فقد أسلم المسيح الساعة على يدي المتوكل!. قال يوسف: وقدم جرجة بن زكريا عظيم النوبة «1» ، في شهر رمضان سنة إحدى وعشرين ومائتين إلى سرّ من رأى، وأهدى إلى المعتصم هدايا فيها قردة!. فإني عند يوحنا في اليوم الثاني من شوال من هذه السنة، وأنا أعاتبه على تخلّفه عن حضور الدار في ذلك الوقت، لأني رأيت سلمويه وبختيشوع والحريش المتطببين، وقد وصلوا إذ دخل علينا غلام من الأتراك الخاصة، ومعه قرد من القرود التي أهداها ملك النوبة، لا أذكر أني رأيت أكبر منه جثة. وقال له: يقول لك أمير المؤمنين: زوّج هذا القرد من" حماحم" قردتك!. وكان ليوحنا قردة يسميها" حماحم" كان لا يصبر عنها ساعة!. فوجم لذلك، ثم قال للرسول: قل لأمير المؤمنين: اتخاذي لهذه القردة غير ما توهّمه أمير المؤمنين، وإنما دبرت تشريحها لأجل وضع كتاب على ما وضع جالينوس في التشريح، يكون وضعي إياه لأمير المؤمنين!، وكان في جسمها ضعف فخفت أن تكون العروق فيها والأوراد والعصب دقاقا، فلا أطيق في إيضاح الأمر فيها مثل إيضاحها فيما عظم جسمه، فتركتها لتكبر ويغلظ جسمها، فأما إذ قد وافى هذا القرد فسيعلم أمير المؤمنين أني سأضع له كتابا لم يوضع في الإسلام مثله. ثم فعل ذلك بالقرد، فظهر له منه كتاب حسن استحسنه أعداؤه فضلا عن أصدقائه.

قال يوسف: واعتلّ محمد بن سليمان بن الهادي المعروف بأبي مشغوف، علة تطاولت به، وكان أبو العباس ابن الرشيد يلزم يوحنّا تعاهده، وكان محمد بن سليمان ربما يزيد في الحديث أشياء لا يخيل باطلها على سامعها، فدخل إليه يوما وأنا عنده، فاستشاره فيما يأخذه؟. فقال يوحنا: قد كنت أشير عليك بما تأخذ في كل يوم، وأنا أحسبك تحب الصحة والعافية، فأما إذا صحّ عندي أنك تكره العافية وتحب العلة!. فقال له يوحنا: أنت والبرهان على ذلك، أن العافية في العالم تشبه الحق، والسقم يشبه الكذب، وأنت تتكلم أكثر دهرك بالكذب!، فيكون كذبك مادة لسقمك، فمتى تبرأ أنت من علة متطاولة، وأنت تمدها أكثر دهرك بالكذب الزائد فيها!. فالزم الصدق ثلاثة أيام ولا تكذب فيها، فيوحنّا بريء من المسيح إن لم تخرج من هذه العلة قبل ثلاثة أيام!. ونقلت من كتاب الهدايا والتحف لأبي بكر وأبي عثمان الخالديين قالا: حدثنا أبو يحيى قال: افتصد المتوكل فقال لخاصّته وندمائه: أهدوا إليّ يوم فصدي. فاحتفل كل واحد منهم في هديته، وأهدى إليه الفتح بن خاقان جارية لمير الراءون مثلها حسنا وظرفا وكمالا. فدخلت إليه ومعها جام «1» ذهب في نهاية الحسن، ودنّ «2» بلّور لم ير مثله،

فيه شراب يتجاوز الوصف، ورقعة فيها مكتوب: [الوافر] إذا خرج الإمام من الدواء ... وأعقب بالسلامة والشفاء فليس له دواء غير شرب ... بهذا الجام من هذا الطلاء وفص الخاتم المهدى إليه ... فهذا صالح بعد الدواء فاستطرف المتوكل ذلك، واستحسنه، وكان بحضرته يوحنا بن ماسويه، فقال: يا أمير المؤمنين! الفتح- والله! - أطبّ مني، فلا تخالف ما أشار به. قال: ومن نوادر يوحنّا بن ماسويه: أن المتوكّل قال له يوما: بعت بيتي بقصرين. فقال له آخر: الغداء يا أمير المؤمنين! - أراد المتوكل تعشّيت فضرّني لأنه تصحيفها- فأجابه ابن ماسويه بما تضمن العلاج. وعتب ابن حمدون النديم ابن ماسويه بحضرة المتوكل، فقال له ابن ماسويه: لو أن مكان ما فيك من الجهل عقلا، ثم قسم على مائة خنفساء لكانت كل واحدة منها أعقل من أرسطوطاليس!. ووجدت في كتاب:" جراب الدولة" قال: دخل ماسويه الطبيب إلى المتوكل فقال المتوكل لخادم له: خذ بول فلان في قارورة، وأت به إليّ بين يدي ابن ماسويه. فأتى به، فلما نظر إليه قال: هذا بول بغل لا محالة!. فقال المتوكل: كيف علمت أنه بغل؟. قال ابن ماسويه: أحضر لي صاحبه حتى أراه، ويتبين كذبي من صدقي. فقال المتوكل: هاتوا الغلام. فلما مثل بين يديه، قال له ابن ماسويه: أيش أكلت البارحة؟. قال: خبز شعير، وماء قراح. فقال ابن ماسويه: هذا والله! طعام حماري اليوم.

نقلت من خط المختار بن الحسن بن بطلان «1» ، أن أبا عثمان الجاحظ، ويوحنا بن ماسويه قال: اجتمعا- بغالب ظني- على مائدة إسماعيل بن بلبل الوزير، وكان من جملة ما قدم مضيرة «2» بعد سمك. فامتنع يوحنا من الجمع بينهما. قال له أبو عثمان: أيها الشيخ! لا يخلو أن يكون السمك من طبع اللبن، أو مضاد له، فإن كان أحدهما ضد الآخر فهو دواء له، وإن كانا طبعا واحدا فلنحسب أنّا قد أكلنا من أحدهما إلى أن اكتفينا. فقال يوحنا: والله ما لي خبرة بالكلام، ولكن كل يا أبا عثمان، وانظر ما يكون في غد؟. فأكل أبو عثمان- نصرة لدعواه- ففلج في ليلته!. فقال:" هذه- والله- نتيجة المحال من القياس". والذي ضلّل أبا عثمان اعتقاده أن السمك من طبع اللبن، ولو سامحناه في أنهما من طبع واحد لكان امتزاجهما قوة ليست في أحدهما. وحدّث الصولي «3» في كتاب" الأوراق" قال: كان المأمون نازلا" بذندون"-

نهر من أعمال طرسوس، فجلس يوما وأخوه المعتصم عليه، وجعلا أرجلهما فيه استبرادا له، وكان أبرد الماء وأرقّه وألذّه. فقال المأمون للمعتصم: أحببت الساعة من أزاذ «1» العراق آكله، وأشرب عليه من هذا الماء البارد. وسمع صوت حلقة البريد وأجراسه، فقيل: هذا يزيد بن مقبل بريد «2» العراق؛ فأحضر طبقا من فضة فيه رطب أزاذ!، فعجب من تمنيه، وما تم له، فأكلا وشربا من الماء ونهضا، وتودع المأمون وأقال، ثم نهض محموما، وفصد فظهرت في رقبته نفخة كانت تعتاده، ويراعيها الطبيب إلى أن تنضج، وتفتح، فتبرا. فقال المعتصم للطبيب- وهو ابن ماسويه-: ما أطرف ما نحن فيه!، تكون الطبيب المفرد المتوحّد في صناعتك، وهذه النفخة تعتاد أمير المؤمنين، ولا تزيلها عنه! وتتلطّف في حسم مادتها حتى لا ترجع إليه؟. والله لئن عادت هذه العلة عليه لأضربنّ عنقك. فاستطرق ابن ماسويه لقول المعتصم، وانصرف، فحدّث به بعض من يثق به ويأنس منه، فقال: تدري ما قصد المعتصم؟. قال: لا. قال: قد أمرك بقتله! حتى لا تعود النفخة إليه، وإلا فهو يعلم أن الطبيب لا يقدر على دفع الأمراض عن الأجسام، وإنما قال: لا تدعه يعيش ليعود المرض عليه.! فتعالل ابن ماسويه، وأمر تلميذا له بمشاهدة النفخة، والتردّد إلى المأمون نيابة عنه، والتلميذ يجيئه كل يوم، ويعرف حال المأمون، وما تجدّد له.

فأمره بفتح النفخة. فقال: أعيذك بالله؛ ما احمرّت ولا بلغت حد الجرح!. فقال له: امض وافتحها كما أقول لك، ولا تراجعني. فمضى وفتحها، ومات المأمون، رحمة الله عليه. أقول «1» :" إنما فعل ابن ماسويه ذلك لكونه كان عديم المروءة، عديم الدين والأمانة، وكان على غير ملة الإسلام، ولا له تمسك بدينه أيضا- كما حكى عنه يوسف بن إبراهيم في أخباره المتقدمة. ومن ليس له دين يتمسك به، ويعتقد فيه فالواجب أن لا يدانيه عاقل، ولا يركن إليه حازم. وكانت وفاة يوحنا بن ماسويه بسرّمن رأى، يوم الاثنين، لأربع خلون من جمادى الآخرة سنة ثلاث وأربعين ومائتين، في خلافة المتوكل. ومن كلام يوحنا بن ماسويه:" سئل عن الخير الذي لا شرّ معه؟. فقال: القليل من الشراب الصافي". ثم سئل عن الشر الذي لا خير معه؟. فقال:" نكاح العجوز". وقال:" أكل التفاح يرد النفس. فقال:" عليك من الطعام بما حدث، ومن الشراب بما عتق".

79 - ميخائيل بن ماسويه

ومنهم: 79- ميخائيل بن ماسويه «13» طبيب المأمون «1» وربيب ذلك الفضل الممنون، نفق على ذلك الفاضل، ودفع كل مناضل، لا يكذب يقينه منية الصدوق، ولا يلزّ جواده السبوق فطما مع ذلك البحر المحيط، وحجّ إليه الوفد وأول ما نزع المخيط. قال يوسف بن إبراهيم مولى إبراهيم بن المهدي:" حضر ابن ماسويه دار ابن المهدي مع جماعة من وجوه الأطباء، وكانت أمه" شكلة" عليلة، فنظروا إلى مائها، وجسّوا عرقها، ثم عادوا في اليوم الثاني، فقالوا كلهم:" إنها أصبحت صالحة لا يشكّون في إفراقها"؛ فلما نهضوا اتبعتهم، فسألت واحدا واحدا عما عنده فيها؟. فكلهم قال مثل مقالته، إلا ابن سلمويه فإنه قال:" هي اليوم أصعب حالا من أمس! ". وقال لي ميخائيل: إنه قد ظهر بالأمس بالقرب من قلبها مرض ورم لم نره في يومنا هذا، أفترى ذلك الورم ساخ في الأرض، أو ارتفع إلى السماء؟. انصرف فأعدّ لهذه المرأة جهازها، فليست تبيت من الأحياء!. فتوفيت وقت صلاة العشاء.

80 - حنين بن إسحاق العبادي

ومنهم: 80- حنين بن إسحاق العبادي «13» أبو زيد، والعباد- بفتح العين وتخفيف الباء، والعباد: بالفتح قبائل شتى، من بطون العرب، اجتمعوا على النصرانية بالحيرة. كان من أبناء الصيارف «1» ، تعلق بالعلم يطلب تحصيله، وتيقن تأصيله، يغادي إليه أيامه ويبكّر، ويهاجر منامه ولا يهجر، وكان لا يرفع له علم قدر، ولا يوسع له أكرم صدر، لمهنة آبائه الوضيعة، وأهنة أماناتهم المضيعة، ونفسه تأنف له أن يرى بعين هضيمة، أو يراقب بمعاملة مضيمة، فنهض نهضة ثائر، وقام قومة سائر، ودخل بلاد الروم فتخلّق بأخلاقهم، وجاء على وفاقهم، حتى كان كأحد علمائهم، وأوحد حكمائهم.

ثم خرج متنكّرا لا يعرف من الأعياص عيصه «1» ، ولا من أي المصايد قنيصه «2» ، حتى أجلّه من كان لا يجلّه، وقلّ لديه من كان يستقله. ذكره يوسف بن إبراهيم «3» في سبب ظهوره ما مختصره:" أن حنين العبادي كان يقرأ على ابن ماسويه، ورهط ابن ماسويه من أهل" جندي سابور" ويكرهون أهل الحيرة، فكره ذات يوم من العبادي كثرة سؤاله، فطرده، وقال له: شأنك أن تكون صيرفيّا!. فخرج من عنده، وآلى أن يتعلم لغة يونان كأحسن ما يكون. فجمعني به مجلس فإذا بإنسان له شعرة قد جلّلته، وقد ستر وجهه عني ببعضها، وطفق ينشد شعرا بالرومية، ل" أميروس" رئيس شعراء الروم، فعرفته بنغمته، وكان عهدي به بعيدا، فاستكتمني حاله، وسألني الستر عليه، فبقيت أكثر من ثلاث سنين أو أربعا لم أره، ثم إني دخلت على ابن بختيشوع وقد انحدر من معسكر المأمون، فوجدته عنده، وقد ترجم له أقساما قسمها بعض الروم في كتاب من

كتاب جالينوس، وهو يخاطبه بالإنجيل ويقول له: يا زين حنين، يعني: أيها المعلم!. فأعظمت ما رأيت، وتبين ذلك جبرائيل في وجهي، فقال: لا تستنكرنّ ما ترى من تبجيلي هذا الفتى، فو الله إن مدّ له في العمر ليفضحنّ الأول، ثم خرج حنين وتبعته، فوجدته ينتظرني، فسلم عليّ، وقال: كنت سألتك ستر خبري، والآن أسألك إظهاره، وإظهار ما سمعت جبرائيل يقوله فيّ. فقلت: إني مسوّد وجه ابن ماسويه بما سمعته. فقال: تمام سواد وجهه أن تدفع إليه هذه النسخة، ولا تعلمه من نقلها. فإذا اشتد عجبه بها أعلمه أنها إخراجي. ففعلت ذلك من يومي وقبل انتهائي إلى منزلي. فلما قرأ ابن ماسويه تلك الفصول، وهي التي يسميها اليونان:" الفاعلات"، قال:" أترى المسيح أوحى في دهرنا هذا إلى أحد؟ ". فقلت له: ما أوحى المسيح في هذا الدهر ولا في غيره إلى أحد، ولا كان المسيح إلا أحد من يوحى إليه". فقال له: دعني ليس هذا الإخراج إلا إخراج مؤيد بروح القدس. فقلت له: هذا إخراج حنين بن إسحاق الذي طردته، وأمرته أن يعمل صناعة الصيارف. فقال: هذا محال. ثم صدّق القول، وسألني التلطّف في إصلاح ما بينهما، ففعلت. وأفضل عليه أفضالا كثيرة، ثم لم يزل له مبجّلا. ثم لازم ابن ماسويه وأخذ عنه صناعة الطب، ونقل له كتبا كثيرة. ثم لما رأى المأمون في منامه كان شيخا بهيّا، جالسا على منبر وهو يخطب ويقول:" أنا أرسطوطاليس"، أحضر حنين بن إسحاق، وسأله عنه؟. فأخبره. فأمره بنقل كتب الحكماء إلى اللغة العربية، وبذل له أموالا جمّة، وقيل للخليفة إن ملك الروم ربّما دسّه عليك، فكان لا يأخذ بقوله بمفرده. ثم أراد اختباره، فخلع عليه وأعطاه خمسين ألف درهم، ثم قال له: إني أريدك تصف لي دواء أقتل به عدوّا لي سرّا. فقال: إنّي لم أتعلّم إلا الأدوية النافعة، وما علمت أمير المؤمنين يطلب مني غيرها، فإن أحبّ أن أمضي

وأتعلم، فعلت ذلك. فقال: هذا شيء يطول، ورغّبه ورهّبه، وهو لا يزيد على قوله، فحبسه في بعض القلاع، ووكّل من يأتيه بأخباره. فمكث سنة غير مكترث بما هو فيه، دأبه النقل والتفسير والتصنيف، ثم أحضره، وأحضر له أموالا وغيها، وسيفا، ونطعا يرهبه به، وهو على قوله. فقال له: إني أقتلك!. فقال: إن لي ربّا يأخذ بحقي، فإن اختار أمير المؤمنين أن يظلم نفسه فليفعل، فتبسّم له، وقال: طب نفسا، فإنما أردت أن أمتحنك لننتفع بعلمك. فقبّل حنين الأرض، وشكر له، فقال له الخليفة: ما منعك يا حنين من الإجابة مع ما رأيت منا في الحالين؟. فقال: شيئان. قال: ما هما؟. قال: الدين والصناعة. فخلع عليه، وحمل المال بين يديه، وخرج وهو أحسن عنده حالا. قال الصّقلّي: كان حنين من رفقة سيبويه في الاشتغال في النحو على الخليل بن أحمد. وخدم حنين المتوكل، وحظي في أيامه، وكان يلبس زنّارا!. قال القباني: كان حنين في كل يوم عند نزوله من الركوب يدخل الحمام يصبّ عليه الماء، ويخرج، فيلتف بقطيفة، وقد أعد له هناب من فضة، فيه رطل من شراب، وكعكة مثرودة فيه، فيأكلها ويشرب الشراب ويطرح نفسه حتى يستوفي عرقه. وربما نام، ثم يقوم ويتبخّر، ويقدّم له طعامه، وهو فرّوج كبير مسمّن، قد طبخ بزيرباج «1» ، ورغيف فيه مائتا درهم، فيحسو المرق، ثم يأكل

81 - إسحاق بن حنين بن إسحاق العبادي أبو يعقوب

الفرّوج والخبز، ثم ينام فإذا انتبه شرب أربعة أرطال شرابا عتيقا، ولم يذق غير هذا طول عمره، فإذا اشتهى الفاكهة الرطبة أكل التفاح الشامي، والرمان، والسفرجل. وعمل عليه أعداؤه حتى مات غما في ليلة واحدة «1» . ومنهم: 81- إسحاق بن حنين بن إسحاق العبادي أبو يعقوب «13» رجل ما نهنه في طلب، ولا نبّه له جفنا من طرب، ولم يضع نصيبه من كل صالحة، وتصويبه إلى صوت كل صائحة، حتى لا يخلّ تقييده لشاردة، ولا تعديده لواردة، إلا أنه كان أميل إلى الحكمة المطلقة من مفرد الطب، وهي لديه آثر ما يحب، ولم يخل من أدب راح يسوقه، وأرض يسوقه.

قال ابن أبي أصيبعة «1» :" كان يلحق بأبيه في النقل ومعرفة اللغات، إلا أن نقله لكتب الطب قليل جدا بالنسبة إلى نقله لكتب أرسطو. وخدم إسحاق من خدم أبوه من الخلفاء والرؤساء. وكان منقطعا إلى القاسم بن عبيد الله وزير المعتضد «2» ، وخصيصا به، ومتقدّما عنده، يفضي إليه بأسراره، وله حكايات مستطرفة، ونوادر. وتوفي أيام المقتدر «3» . ومن كلامه: " قليل الراح صديق الروح؛ وكثيرها عدو الجسم" «4» . وشرب دواء مسهلا، فكتب إليه القاسم بن عبيد الله الوزير مداعبا: [الهزج]

82 - يوحنا بن بختيشوع

أبن لي كيف أمسيت؟ ... وكم كان من الحال؟ وكم سارت بك الناقة ... نحو المنزل الخالي؟ فكتب إليه حنين بن إسحاق: [الهزج] بخير كنت مسرورا ... رضيّ الحال والبال فأما السير والناقة ... نحو المنزل الخالي فإجلالك أنسانيه ... يا غاية آمالي ومنهم: 82- يوحنا بن بختيشوع «13» كان له جاهه شفيعا، وعلمه يحلّه محلا رفيعا، حتى كان بدرا في منازل الخلافة طالعا، ونديما دواعي السلافة طائعا. قال ابن أبي أصيبعة «1» :" كان طبيبا متميزا، خبيرا باليونانية والسريانية، ونقل كتبا كثيرة، وخدم الموفق بالله طلحة بن جعفر المتوكل، وكان يعتمد عليه، ويسمّيه" مفرّج كربي".

83 - ثابت بن قرة الحراني، أبو الحسن

قال ابن طومار: كان الموفّق إذا جلس للشرب تقدم بين يديه صينية من ذهب، ومغسل من ذهب، و" خرداذي" بلّور، وكوز بلّور، ويجلس يوحنا بن بختيشوع عن يمينه، ويقدم إليه مثل ذلك، وكذلك بين يدي أبي غالب الطبيب، ويقدم إلى جميع الجلساء صواني مدهون، وقناني زجاج، وغير ذلك. وكان ابنه بختيشوع بمكانة من المقتدر بالله، وإقطاعات، ثم كان عند الراضي «1» كذلك «2» . ومنهم: 83- ثابت بن قرة الحرّاني، أبو الحسن «13» سماء لا تصدأ مرآتها، وورقاء لا تزال تطرب ملهاتها، وكوكب ذري كيف تسير الثواقب، وتصير المناقب، وتسوّر خود الثريا بالهلال، ويخسأ رقيب العوّاء المراقب.

ظهر له من قوة الحدس ما كاد يعدّ كرامة، ويرد به البقاء وقد كان الهلك رامه. قال ابن أبي أصيبعة «1» :" كان من الصابئين المقيمين بحرّان، وتعلم على محمد بن موسى بن شاكر فوصله بالمعتضد، فأدخله في جملة المنجّمين، وهو أصل من كان ببغداد من الصابئة، ولم يكن في زمانه من يماثله في الطب، ولا في غيره من أجزاء الفلسفة، وله تصانيف مشهورة بالجودة، وكذلك جاء جماعة من ذريته، وله أرصاد حسان للشمس، تولّاها ببغداد، وكان يدخل إلى المعتضد إلى الحبس في كل يوم ثلاث مرات يحدّثه، ويؤنسه، ويسليه، فشغف به، فلما خرج من معتقله قال لغلامه بدر: يا بدر! أي رجل أفدنا بعدك؟. فقال: من هو يا سيدي؟. قال: ثابت بن قرة. ثم أقطعه إقطاعا «2» جليلا، وكان يجلسه بين يديه، [كثيرا بحضرة العام والخاص، ويكون بدر غلام الأمير قائما والوزير، وهو جالس بين يدي الخليفة] . وحكى أبو إسحاق الصابئ أن ثابت بن قرّة بينما هو ماش مع المعتضد في الفردوس «3» ، وقد اتكأ المعتضد على يده، إذ نتر يده بشدة!، ففزع ثابت لأن

المعتضد كان مهيبا، ثم لما نترها قال له: يا أبا الحسن! وكان يكنّيه في الخلوة [وفي الملأ يسميه]- سهوت ووضعت يدي على يدك وما هكذا يجب، لأن العلماء يعلون ولا يعلون. وحكي أنه اجتاز يوما إلى دار الخلافة، فسمع صياحا وعويلا، فقال: من هذا؟ قالوا: مات القصّاب الذي كان هنا فجأة. فأتى إليه وأمر النساء بالسكوت وأن يعملوا مزوّرة «1» ، وأمر بعض غلمانه أن يضرب القصّاب على كعبه بالعصا. وجعل يده مجسّة، وما زال ذلك يضرب كعبه إلى أن قال: حسبك. ثم استدعى بقدح وأخرج من كمّه دواء، فذافه «2» في القدح بقليل ماء، وفتح فم القصّاب وسقاه إياه فأساغه، ووقعت الصيحة في الدار والشارع بأن الطبيب قد أحيا الميّت!. فتقدّم ثابت يغلق الباب، وفتح القصاب عينه، وأطعمه المزوّرة، وأجلسه، وقعد عنده ساعة، وإذا برسل الخليفة يدعونه. فلما مثل بين يديه قال له: يا ثابت! ما هذه المسيحية التي بلغتنا عنك؟. فقال: يا مولاي! كنت أجتاز بهذا القصاب وأراه يشرّح الكبد، ويطرح عليها الملح، ويأكلها. وكنت أعلم أن سيلحقه سكتة. فأعددت له هذا الدواء، فلما قيل لي اليوم إنه مات فجأة البارحة، علمت أن السكتة قد لحقته، فدخلت إليه فلم أجد له نبضا، فضربته إلى أن حركت نبضه، وسقيته الدواء ففتح عينيه، وأطعمته مزوّرة، والليلة يأكل رغيفا بدرّاج، وفي غد يخرج من بيته.

ومن كلامه:" ليس على الشيخ أضرّ من أن يكون له طبّاخ حاذق، وجارية حسناء، فيستكثر من الطعام، فيسقم، ومن الجماع فيهرم". ولما مات ابن قرّة «1» رثاه ابن المنجم النديم «2» بقصيدة منها: [الطويل] نعينا العلوم الفلسفيات كلها ... خبا نورها إذ قيل قد مات ثابت ولما أتاه الموت لم يغن طبّه ... ولا ناطق مما حواه وصامت فلو أنه يسطاع للموت مدفع ... لدافعه عنه حماة مصالت «3» أآمل أن تجلى عن الحق شبهة ... وشخصك مقبور وصوتك خافت وقد كان يجلو حسن تبيينك العمى ... وكلّ قؤول حين تنطق ساكت كأنك مسئول غارف ... ومستبدئا نطقا من الصخر ناحت فلم يتفقّني من العلم واحد ... هراق «4» إناء العلم بعدك كائت عجبت لأرض غيّبتك ولم يكن ... ليثبت فيها مثلك الدهر ثابت ولا يك لما اغتالك الموت شامت ... وأحسنت حتى لم يكن لك مبغض

84 - سنان بن ثابت بن قرة

مضى علم العلم الذي كان مقنعا ... فلم يبق إلا مخطئ متهافت ومنهم: 84- سنان بن ثابت بن قرة «13» أبو سعيد؛ مقرب كل بعيد، ما صحب صعبا إلا دمّث «1» شيمته، وليّن شكيمته «2» ، ودلّه على كرم الأخلاق، ودلّ عليه وثوب عرضه لا يمزقه إلا خرّاق «3» قال ابن أبي أصيبعة «4» :" كان يلحق بأبيه في معرفته بالعلوم، وله قوة بالغة في علم الهيئة. وخدم المقتدر والراضي، وأراده القاهر على الإسلام فهرب إلى خراسان، ثم عاد وتوفي ببغداد مسلما، وكان على البيمارستان، وكانت تواقيع الوزير عيسى بن علي تأتيه بقرب فينفذها، منها: تفقّد المحابيس وأهل السواد بالأطباء، والأدوية والأغذية، حتى كتب يستأذنه في أهل الذمة، فكتب إليه الوزير: أكرمك الله! ليس بينا خلاف في أن معالجة أهل الذمة والبهائم صواب،

ولكن الذي يجب تقديمه والعمل عليه معالجة الناس قبل البهائم، والمسلمين قبل أهل الذمة، فاعمل على ذلك، واكتب إلى أصحابك به، ووصّهم بالتنقّل في القرى والمواضع التي فيها الأوباء الكثيرة، والأمراض الفاشية، واستجدّ في زمانه بيمارستان السيدة «1» بسوق يحيى، والمارستان المقتدري «2» . ثم خدم بعد الراضي:" بحكم" «3» ، فريّض أخلاقه، وسكّن سورة غضبه، وكان قد شكا إليه ما يجده من ذلك، فقال له كلاما زبدته:" أنت قادر متى شئت على الانتقام، فإذا أردت إيقاع نقمة بأحد، أخّرها إلى الغد، لوثوقك بقدرتك، فالغضب كالسّكر إذا بات زال" «4» .

85 - ثابت بن إبراهيم بن زهرون الحراني

ومنهم: 85- ثابت بن إبراهيم بن زهرون الحراني «13» كان يتكلم بالحديث الصحيح على كل مغيّب، ويتقدّم عند ملوك قريش على كل أحلافيّ ومطيّب «1» ، لم يبالغ في وصفه من تعدّى، ولا ذكر معجز عجائبه إلا من ظنّ أنه بها يتحدّى. ذكره ابن أبي أصيبعة فقال «2» :" كان طبيبا فاضلا كثير الدراية، وافر العلم، بارعا في الصناعة، موفقا في المعالجة، مطّلعا على أسرار الطب، وكان مع ذلك ضنينا بما يحسن". نقلت من خط ابن بطلان «3» قال: كان قد أسكت «4» أبو طاهر ابن بقية في داره الشاطئة على الجسر ببغداد، وقد حضر الأمير معز الدولة بختيار، والأطباء مجمعون على أنه قد مات، فتقدم أبو الحسن الحرّاني، وكنت أصحبه يومئذ،

فقال: أيها الأمير! إذا كان قد مات فلن يضرّه الفصاد، فهل تأذن لي في فصده؟. قال له: افعل يا أبا الحسن!. ففصده، فرشح منه دم يسير، ثم لم يزل يقوى الرشح إلى أن صار الدّم يجري، فأفاق الوزير!. فلما خلوت به سألته عن الحال- وكان ضنينا بما يقول-؟. فقال: إن من عادة الوزير أن يستفرغ في كل فصل ربيع دما كثيرا من عروق المعدة، وفي هذا الفصل انقطع عنه، فلما فصدته ثابت القوة من خناقها. قال عبيد الله بن جبرائيل: لما دخل عضد الدولة- رحمه الله- إلى بغداد، إذ كان أول من لقيه من الأطباء أبو الحسن الحراني، وكان شيخا مسنّا، وسنان، وكان أصغر من أبي الحسن، وكانا عالمين فاضلين، وكانا جميعا يسعران «1» المرضى، ويمضيان إلى دار السلطان، فحسن ثناؤه عليهم، ولما دخلا على عضد الدولة قال: من هؤلاء؟. قالوا: الأطباء. قال: نحن في عافية، وما بنا حاجة إليهم. فانصرفا خجلين، فلما خرجا إلى الدهليز قال سنان لأبي الحسن: يجمل أن ندخل إلى هذا الأسد ونحن شيخان فيفترسنا؟. قال له أبو الحسن: فما الحيلة؟. قال: نرجع إليه، وأنا أقول ما عندي، وننظر أيش الجواب؟. قال: افعل. فاستأذنا، ودخلا. فقال سنان: أطال الله بقاء مولانا، موضوع صناعتنا حفظ الصحة لا مداواة الأمراض، والملك أحوج الناس إليه. فقال له عضد الدولة: صدقت. وقرر لهما الجاري السني، وصارا ينوبان مع أطبائه. قال عبيد الله بن جبرائيل: ولهما أحاديث كثيرة حسنة، منها: حديث قلاء الكبود: وذلك أنه كان بباب الأزج إنسان يقلي الكبود، فكانا إذا اجتازا عليه دعا لهما وشكرهما، وقام لهما حتى ينصرفا.

فلما كان في بعض الأيام اجتازا، فلم يرياه، فظنا أنه قد شغل عنهما، ومن غد سألا عنه؟ فقيل لهما: إنه الآن قد مات!. فعجبا من ذلك، وقال أحدهما للآخر: له علينا حق يوجب علينا قصده ومشاهدته، فمضيا جميعا وشاهداه، فلما نظراه، تشاورا في فصده، وسألا أهله أن يؤخروه ساعة واحدة، ليفكروا في أمره، ففعلوا ذلك، وأحضروا فاصدا ففصده فصدة واسعة، فخرج منها دم غليظ، وكان كلما خرج الدم خفّ عنه، حتى تكلّم وسقياه ما يصلح، وانصرفا عنه. ولما كان في اليوم الثالث خرج إلى دكانه، فكان هذا من المعجز لهما، فسئلا عن ذلك؟ فقالا: سببه أنه كان إذا قلى الكبد يأكل منها، وبدنه يمتلئ دما غليظا وهو لا يحس، حتى فاض من العروق إلى الأوعية، وغمر الحرارة الغريزية، وخنقها كما يخنق الزيت الكثير الفتيلة التي تكون في السراج، فلما بدروه بالفصد نقص الدم، وخف عن القوة الحمل الثقيل، وانتشرت الحرارة وعاد الجسم إلى الصحة، وهذا الامتلاء قد يكون من البلغم أيضا، وقد ذكر أسبابه الفاضل" جالينوس" في كتابه في تحريم الدفن قبل أربع وعشرين ساعة. قال عبيد الله بن جبرائيل: ومن أحسن ما سمعت عن أبي الحسن الحرّاني: أنه دخل إلى قرابة الشريف الجليل محمد بن عمر- رحمه الله تعالى- وكان إنسانا نبيل القدر، قد عارضه ضيق نفس شديد، صعب، فأخذ نبضه، وأشار بما يستعمله، فشاوره في الفصد، فقال له: لا أراه وإن كان يخفف المرض تخفيفا بيّنا، وانصرف، وجاءه أبو موسى المعروف ببقّة الطبيب، وأبصر نبضه وقارورته، وأشار بالفصد، فقال له الشريف: قد كان عندي أبو الحسن الحرّاني الساعة، وشاورته في الفصد فذكر أنه لا يراه صوابا. فقال بقّة: أبو الحسن أعرف!. وانصرف، فجاءه بعض الأطباء الذين هم دون

هذه الطبقة، فقال: يفصده سيدنا الساعة، فإنه في الحال يسكن، وقوي عزمه على الفصد، ولم يبرح حتى فصده، فعند ما فصده خفّ عنه ما كان يجده خفا بيّنا، ونام وسكن عنه، واغتذى وهو في عافية، فعاد إليه أبو الحسن الحرّاني آخر النهار فوجده ساكنا قارّا، فلما رآه على تلك الحال قال له: قد فصدت؟. فقال: كيف كنت أفعل ما لم تأمرني به؟. قال: ما هو هذا السكون إلا للفصد!. فقال له الشريف: لمّا علمت بهذا لم لا فصدتني؟. فقال له أبو الحسن الحرّاني: إذ قد فصد سيدنا فليبشر بحمّى ربع سبعين دور، ولو أن بقراط وجالينوس عنده ما تخلّص إلا بعد انقضائها. واستدعى دواة، ودرجا، ورتّب تدبيره لسبعين نوبة، ودفعه إليه، وقال: هذا تدبيرك، فإذا انقضى ذلك جئت إليك. وانصرف، فما مضى أيام حتى جاءت الحمّى وبقيت كما قال، فما خالف تدبيره حتى برأ. قال عبيد الله بن جبريل: ومن أخباره أنه كان للحاجب الكبير غلام، وكان مشغوفا به، واتفق أن الحاجب صنع دعوة كبيرة كان فيها أجلّاء الدولة، ولما اشتغل بأمر الدعوة حمّ الغلام حمى حادة، فورد على قلب الحاجب من ذلك موردا عظيما، وقلق قلقا كثيرا، واستدعى أبا الحسن الحرّاني، فقال له: يا أبا الحسن! أريد الغلام يخدمني في غداة، اعمل كل ما تقدر عليه، وأنا أكافئك بما يضاهي فعلك. فقال له: يا حاجب! إن تركت الغلام يستوفي أيام مرضه عاش، وإلا فيمكنني من ملازمته أن يقوم في غد لخدمتك، ولكن إذا كان العام المقبل في مثل هذا اليوم يحمّ حمّى حادّة، ولو كان من كان عنده من الأطباء لم ينجع فيه مداواته، ويموت إما في البحران الأول، أو الثاني، فانظر أيهما أحب إليك؟.

86 - ابن وصيف الصابئ

فقال له الحاجب: أريد أن يخدمني في غد، وإلى العام المقبل فرج- ظنّا منه أن هذا القول من الأحاديث المدفوعة-. ولا زمه أبو الحسن. ولما كان في غد أفاق، وأقام في الخدمة، وأعطى الحاجب لأبي الحسن خلعة سنية، ومالا كثيرا، وصار يكرمه غاية الإكرام. فلما كان في العام المقبل في مثل اليوم الذي حمّ فيه الغلام، عاودته الحمى، فأقام محموما سبعة أيام، ومات. فعظم في نفس الحاجب وجماعة من الناس قوله، وكبر لديهم محلّه، وكان هذا منه كالمعجز «1» ومنهم: 86- ابن وصيف الصابئ «13» كان يصبو إليه كلّ حكيم، ويصيب لديه غرضه كل عليم، لا ترضّ له صخره، ولا يرضى لغيره فخره، ولا يزال بعده كل عليل لصعب الأدواء ذخره. قال ابن أبي أصيبعة فيه:" كان طبيبا عالما بعلاج أمراض العين، ولم يكن في زمانه أعلم منه في ذلك، ولا أكثر مزاولة. قال سليمان «2» : حدّثني أحمد بن يونس الحرّاني، قال: حضرت بين يدي أحمد بن وصيف الحراني، وقد أحضر سبعة أنفس لقدح أعينهم، وفي جملتهم رجل من أهل خراسان، أقعده بين يديه، ونظر إلى عينيه فرأى ماء متهيّأ للقدح،

87 - غالب «طبيب المعتضد»

فسامه على ذلك، فطلب إليه فيه، واتفق معه على ثمانين درهما، وحلف أنه لا يملك غيرها. فلما حلف له الرجل اطمأنّ وضمّه إلى نفسه، ورفع يديه على عضده، فوجد بها نطاقا صغيرا فيه دنانير، فقال له ابن وصيف: [ما هذا؟، فتلون الخراساني، فقال ابن وصيف:] «1» حلفت بالله حانثا وأنت ترجو رجوع بصرك إليك؟!. والله لا عالجتك إذ خادعت ربك «2» ، فطلب إليه فأبى أن يقدحه، وصرف إليه الثمانين درهما ولم يقدح عينه. ومنهم: 87- غالب «طبيب المعتضد» «13» ما عاد مريضا فعاد مهيضا «3» ، ولا زار عليلا فشكا غليلا «4» ، ولا أتى لقى بقلبه الضنى إلا نهض من مضجعه، ونهى عن الضراء به توجّعه، نفق في مثل سوق المعتضد، ووافق منه ظنّ المعتقد، وكان منه حيث لا يقر قرار المعتمد. قال ابن أبي أصيبعة:" كان يخدم الموفق «5» أيام أبيه المتوكل، وخوّله، ونوّله، وكان يغلفه بيده، وينادمه، ثم خدم المعتضد بعد أبيه الموفق، وعالج الموفق من سهم أصابه فبرأ، فأعطاه مالا كثيرا، وقال لغلمانه: من أراد إكرامي فليكرمه، فبعث إليه مسرور بعشرة آلاف دينار، ومائة ثوب، وبعث إليه سائر الغلمان ما لا يحصى، وأقطعه مرة زيادة على رزقه ضياعا تغلّ سبعة آلاف دينار، وأتى

88 - صاعد بن بشر بن عبدوس أبو منصور

المعتضد وهو بآمد «1» خبر موته، فكان هو المبتدئ لابنه سعيد بالعزاء فيه، ثم بعث إليه الوزير وسائر أرباب الدولة لتعزيته، وبعث إليه بخون «2» الطعام، ثم خلع عليه، وأجرى عليه كل ما كان لأبيه. ومنهم: 88- صاعد بن بشر بن عبدوس أبو منصور «13» فطن لكثير من الغلط، وبيّن في أمور منها ما اختلط، حتى تلافى تلف الأبدان، ووافى بما لم يكن للحكماء القدماء به يدان، ونقل الأمزجة إلى ما يلائمها، وأجمع على هذا آراءه وقد كثر لائمها، ثم قفّى من بعده على آثاره الحكماء، وحفظ تدبيره ونسيت القدماء. ذكره ابن أبي أصيبعة «3» ، وقال:" كان قاصدا بالبيمارستان [ببغداد] ، ثم اشتغل بصناعة الطب، حتى صار من أكابر أهلها. قال: وهو أول من فطن لنقل أكثر الأمراض التي كانت تداوى بالأدوية الحارّة إلى التدبير المبرّد، كالفالج،

والاسترخاء، واللقوة، وخالف مسطور القدماء، أخذ المرضى بالفصد والتبريد، ومنع المرضى من الغذاء فأنجح تدبيره، وتقدّم، وانتهت الرياسة إليه، وعوّل الملوك عليه، فرفع عن البيمارستان المعاجين الحارة، والأدوية الحادة، ونقل تدبير المرضى إلى ماء الشعير، ومياه البزور، فأظهر من المداواة عجائب. من ذلك: ما حكاه لي" بميافارقين" الرئيس أبو يحيى ولد الوزير أبي القاسم المغربي، قال: عرض للوزير بالأنبار «1» قولنج صعب، أقام لأجله في الحمام، واحتقن عدة حقن، وشرب عدة شربات، فلم ير صلاحا. فأنفذنا رسولا إلى صاعد، فلما جاء ورآه على تلك الحال، ولسانه قد قصر من العطش، وشرب الماء الحار والسكر، وجسمه يتوقّد من ملازمة الحمّام، ومداومة المعاجين الحارة، والحقن الحارة، استدعى كوز ماء مثلوج، فأعطاه الوزير، فتوقف عن شربه، ثم إنه جمع بين الشهوة وترك المخالفة، وشربه، فرويت في الحال نفسه. ثم استدعى فاصدا ففصده، وأخرج له دما كثير المقدار، وسقاه ماء البزور، ولعابا، وسكنجبين، ونقله من حجرة الحمام إلى الخيش، وقال له: إن الوزير- أدام الله عافيته- سينام بعد الفصد، ويعرق وينتبه، فيقوم عدة مجالس، وقد تفضّل الله بعافيته. ثم تقدّم بصرف الخدم لينام. فقام الوزير إلى مرقده، وقد وجد خفّة بعد الفصد، فنام مقدار خمس ساعات، وانتبه يصيح بالفراشين. فقال صاعد للفرّاش: إذا قام من الصبيحة، فقل له يعاود النوم حتى لا ينقطع العرق، فلما خرج الفراش من عنده قال: وجدت ثيابه كأنها قد صبغت بماء الزعفران، وقد قام مجلسا ونام، ثم لا زال الوزير يتبرّد دفعات إلى آخر النهار مجالس عدة، ومن بعد هذا غذّاه بمزورة، وسقاه

ثلاثة أيام ماء الشعير، فبرأ برءا تاما، فكان الوزير أبدا يقول: طوبى لمن سكن بغداد دارا شاطئة، وكان طبيبه أبو منصور، وكاتبه أبو علي بن موصلايا، فبلغه الله أمانيه فيما طلب". ونقلت أيضا من خط ابن بطلان: أن صاعد الطبيب عالج الأجلّ المرتضى» - رضي الله عنه- من لسب «2» عقرب، بأن ضمّد [المكان] بكافور. فسكن عنه الألم في الحال. ونقلت من خط أبي سعيد الحسن بن أحمد بن علي في كتاب" ورطة الأجلاء من هفوة الأطباء" قال: كان الوزير علي بن بلبل ببغداد وكان له ابن أخت، فلحقته سكتة دموية، وخفي حاله على جميع الأطباء، وكان بينهم صاعد بن بشر حاضرا، فسكت حتى أقرّ جميع الأطباء بموته، ووقع اليأس من حياته، وتقدم الوزير في تجهيزه، واجتمع الخلق في العزاء، والناس في اللطم والنياح، ولم يبرح صاعد بن بشر من مجلس الوزير، فعند ذلك قال الوزير لصاعد بن بشر الطبيب: هل لك حاجة؟. فقال له: نعم يا مولانا!، إن رسمت وأذنت لي ذكرت. فقال: تقدّم وقل ما يلج في صدرك. فقال صاعد: هذه سكتة دموية، ولا مضرّة في إرسال مبضع واحد، وننظر، فإن نجح كان المراد، وإن تكن الأخرى فلا مضرّة فيه.

ففرح الوزير وتقدّم بإبعاد النساء، وأحضر ما وجب من التمريخ «1» والنطول «2» ، والبخور، والنشوق، واستعمل ما يجب من شد عضد المريض، وأقعده في حضن بعض الحاضرين، وأرسل المبضع بعد التعليق على الواجب من حاله، فخرج الدم، ووقعت البشائر في الدار، ولم يزل يخرج الدم حتى استتم ثلاث مائة درهم من الدم، فانفتحت العين، ولم ينطق، فشدّ اليد الأخرى، ونشّقه ما وجب تنشيقه، ثم فصده ثانيا، وأخرج مثلها من الدم وأكثر، فتكلم، ثم أسقي وأطعم ما وجب، فبرئ من ذلك، وصحّ جسمه، وركب في الرابع إلى الجامع، ومنه إلى ديوان الخليفة، فدعا له، ونثر عليه من الدراهم والدنانير الكثيرة، وحصل لصاعد بن بشر الطبيب مال عظيم، وحشّمه الخليفة والوزير، وقدّمه، وزكّاه، وتقدّم على جميع من كان في زمانه. ووجدت صاعد بن بشر قد ذكر في مقالته في مرض المراقيا ما عاينه في ذلك الزمان من أهوال وجدها، ومخاوف شاهدها، ما هذا نصه:" وإنه عرض لنا من تضايق الزمان علينا والتشاغل بالتماس الأمر الضروري، ولما قد شملنا من الخوف والحذر والفزع، واختلاف السلاطين، وما قد بلينا به مع ذلك من التنقل في المواضع غربيّها وشرقيّها، ولما قد أظلّنا من الأمور المذعرة المخوفة، التي لا نرجو في كشفها إلا الله تقدّس اسمه". هذا ما ذكره، وما كان في أيامه إلا اختلاف ملوك الإسلام بعضهم مع بعض، وكان الناس سالمين في أنفسهم، آمنين من القتل والسبي، فكيف لو شاهد ما شاهدنا، ونظر ما نظرنا في زماننا من التتر الذين أهلكوا العباد، وخرّبوا البلاد، وكونهم إذا أتوا إلى مدينة فما لهم إلا قتل جميع

89 - ديلم

من فيها من الرجال، وسبي الأولاد والنساء، ونهب الأموال، وتخريب القلاع والمدن، لكان استصغر ما ذكره، واستقلّ ما عاينه وحقره، ولكن ما طامّة إلا وفوقها طامّة أعظم منها، ولا حادثة إلا وغيرها يكبر عنها، ولله الحمد على الإسلام والعافية «1» . ومنهم: 89- ديلم «13» وكان من الأطباء المهرة، والألبّاء أهل المخبرة، تقدّم في جيله، وقدّم لتبجيله، وحبي بحب لم يمح من الضمائر، ولم يلح عليه آمر ليد لم يقصر به باعها، ولم تمدّ لجس نبض إلا وأيدي الأطباء أتباعها. ذكره ابن أبي أصيبعة وقال:" كان من الأطباء المذكورين ببغداد، المتقدمين في

90 - فنون المتطبب

صناعة الطب، وكان يتردّد إلى الحسن بن مخلد، وزير المعتمد، ويخدمه، ووجدت في بعض التواريخ أن المعتمد على الله وهو أحمد بن المتوكل أراد أن يفتصد، فقال للحسن بن مخلد: اكتب لي جميع من في خدمتنا من الأطباء حتى نتقدّم بأن تصل كل واحد منهم على قدره. فكتب الأسماء وأدخل فيها اسم: ديلم" المتطبب، وكان" ديلم" يخدم الحسن بن مخلد، فوقع تحت الأسماء بالصّلات. فقال ديلم: إني جالس في منزلي، وقد وافى رسول بيت المال، ومعه كيس فيه ألف دينار، فسلّمه إليّ، وانصرف. فلم أدر ما السبب فيه. فبادرت بالركوب إلى الحسن بن مخلد وهو حينئذ الوزير، فعرّفته ذلك، فقال: افتصد أمير المؤمنين، وأمر أن أكتب أسماء الأطباء ليتقدم بصلاتهم، فأدخلت اسمك معهم، فخرج لك ألف دينار. ومنهم: 90- فنّون المتطبّب «13» طبيب بختيار «1» ، ولبيب عرف بحسن الاختيار. أتقن الحكمة علما وعملا، وعزما وأملا، وحاز الفضائل معرفة ما ونت، ومعالجة ما دعت صحة إلا دنت. قال ابن جبريل: ومن أخباره مع بختيار: أنه رمدت عين بختيار في بعض

91 - نظيف - القس الرومي -

الأوقات، فقال له: يا أبا نصر! ليس والله! تبرح من عندي، أو تبري عيني. وأريدها تبرأ إلى يوم واحد، وأبرمه. قال: فسمعت أبا نصر يتحدّث أنه قال له: إن «1» أردت أن تبرأ فتقدم إلى الغلمان والفراشين أن يأتمروني دونك في هذا اليوم، وما منهم من يخالفني في أمري إلا قتلته، ففعل بختيار ذلك؛ فأمر أبو نصر أن يحضر إجّانة «2» مملوءة عسل الطبرزد «3» ، فلما حضر غمس يدي بختيار فيه، ثم بدأ يداوي عينيه بالشياف «4» الأبيض، وما يصلح الرمد، وجعل بختيار يصيح بالغلمان، فلا يجيبه أحد، ولم يزل كذلك يكحله إلى آخر النهار فبريء، وكان هو السفير بين بختيار والخليفة، وإذا خرجت الخلع فعلى يديه تخرج، وله منها النصيب الأوفر. ومنهم: 91- نظيف- القسّ الرّومي- «13» كان كريم العلاج إلا أنه يتلاءم، مبارك اليد إلا من رآه يتشاءم، لو رأى إبليس

طلعة وجهه قال: فديت من لا يفلح، أو أرسطوطاليس لأفسد كل ما كان يصلح، طار عليه طائر هذه السمعة القبيحة، والشنعة التي لبس منها ثوب الفضيحة، وكان فاضلا لا يعوز، ويتضاءل لديه البحر الذي يعجز. قال ابن أبي أصيبعة:" كان خبيرا باللغات والنقل، فاضلا في الطب، وكان عضد الدولة يتطيّر «1» منه، وكان [الناس] «2» يولعون به إذا دخل إلى مريض. حتى حكي في بعض الأوقات أن عضد الدولة أنفذه إلى بعض القوّاد في مرض كان عرض لهن فلما خرج من عند القائد استدعى ثقته وأنفذه إلى حاجب عضد الدولة، يستعلم منه نية الملك فيه؟. ويقول: إن كان ثمّ تغير نية فليأخذ له الإذن في الانصراف والبعد، فقد قلق لما جرى!. فسأل الحاجب عن ذلك، وسببه، فقال الغلام: ما أعرف أكثر من أنه جاءه نظيف الطبيب، وقال له: يا مولانا الملك! أنفذني لعيادتك. فمضى الحاجب؛ وأعاد بحضرة الملك عضد الدولة هذا الحديث. فضحك وأمره أن يمضي إليه، ويعلمه بحسن نيته فيه، وإن ذلك لشغل قلبه به أنفذه إليه ليعوده، وحملت إليه خلع سنيّة، سكنت بها نفسه، وزال عنه ما كان أضمره من شغل القلب، وكان دائما يولع به بسببها.

92 - ابن بطلان، أبو الحسن المختار بن عبدون بن سعدون ابن بطلان النصراني

ومنهم: 92- ابن بطلان، أبو الحسن المختار بن عبدون بن سعدون ابن بطلان النصراني «13» طبيب مكمّل، وأريب مؤمّل، وأديب يدل عليه شعره من يتأمّل رشق الكلام، شرق الضياء في الظلام، شرق عدوه بمائه وصفق وما أفاق إلا بأسمائه، وكان على إصراره على نصرانيته التي انتصر لخذلانها، وهصر غصون الإخاء لخلانها، معروفا بمروءة طال به جلبابها، واتسع لكل طالب علم وندى بابها. قال ابن أبي أصيبعة فيه «1» :" كان قد اشتغل على ابن الطّيّب «2» ، وقرأ عليه كثيرا من كتب الحكمة وغيرها، ولازم ابن زهرون، واشتغل عليه، وكان معاصرا لابن رضوان الطبيب [المصري] ، وكانت بينهما مراسلات عجيبة، وكتب غريبة، ولم يؤلف واحد منهما كتابا ولا ابتدع رأيا إلا ردّ الآخر عليه وسفّه رأيه فيه!. وسافر ابن بطلان يريد مصر ليرى ابن رضوان «3» ، فمرّ في طريقه بحلب،

93 - أحمد بن أبي الأشعث

فأكرمه صاحبها معز الدولة ثمال بن صالح، ثم أتى دولة مصر في دولة المستنصر «1» ، وجرت بين ابن بطلان وابن رضوان وقائع كثيرة، ونوادر ظريفة. قال: وألف كل منهما كتابا في الردّ على الآخر، وكلام ابن بطلان أعذب ألفاظا وأكثر ظرفا، وأميز بالأدب، ومما يدلّ على ذلك تسميته له بتمساح الجن!. وكان ابن رضوان أسود قبيح الصورة، وفيه يقول: [الطويل] ولما تبدّى للقوابل وجهه ... نكصن على أعقابهنّ من الندم وقلن وأخفين الكلام تستّرا: ... ألا ليتنا كنا تركناه في الرحم ثم سافر ابن بطلان من مصر إلى القسطنطينية وعرضت في زمانه أوباء كثيرة، وله في هذا رسالة معروفة، وله أشعار كثيرة جدا. ومنهم: 93- أحمد بن أبي الأشعث «13» طبيب يلمّ الشعث، ويضم السقام من تفاريق الأعضاء إذا انبعث، لا يغالب طبه النافع، ولا يغالط دواؤه بمدافع، تخال هيئة اسقليبيوس صفته، وتخطي

94 - أبو سهل النيلي. وهو: سعيد بن عبد العزيز

معالجة جالينوس ولا تخطيء وصفته. ذكره ابن أبي أصيبعة «1» وقال:" كان وافر العقل، كثير السكينة والوقار، متفقها في الدين، وعمّر عمرا طويلا، وكان لا يفعل إلا جميلا، وكان فاضلا في العلوم «2» الحكمية، وله تصانيف كثيرة مفضّلة، تدلّ على العلم، وعلو المنزلة، ومصنّفا في الطب لا نظير له في الجودة. وكان أصله من فارس، وكان متصرّفا ثم صودر، فخرج من بلده هاربا ودخل الموصل بحال سيئة، ووافق أن كان لصاحبها ناصر الدولة ولد عليل بقيام الدم، لا يزداد بمعالجة الأطباء إلا مرضا، فقال لأمه: أنا أعالجه، وأراها غلط الأطباء في التدبير؛ فسكنت إليه. فعالجه، فبرأ فأجزل عطاؤه، وأحسن إليه، وأقام بالموصل إلى آخر عمره". ومنهم: 94- أبو سهل النيلي. وهو: سعيد بن عبد العزيز «13» طبيب حاذق في العلاج، صادق الحدس في معرفة المزاج، لم يزر مريضا إلا أخذ بيده من الفراش، واستوقف السقم وقد جرى في المشاش «3» ، وطرد عنه

95 - ابن الواسطي «طبيب المستظهر»

وسواس حمى تتهافت به في النار تهافت الفراش. قال ابن أبي أصيبعة فيه «1» :" مشهور بالفضل، عالم الطب، جيد التصنيف، متفنّن في الأدب، بارع في الشعر، ومنه قوله: [الخفيف] استقني الراح، تشف لوعة قلب ... بات مذ بتّ للهموم سميرا هي في الكأس خمرة فإذا ما ... أفرغت في الحشا استحالت سرورا ومنهم: 95- ابن الواسطي «طبيب المستظهر» «13» كان مقبول الكلمة، مأمول الشفاعة عند الظلمة، مع نفس متّسعه، وفضل ينفق منه من سعه، وكرم يكر على أمواله ليشتتها، وعلى آماله ليثبتها، وكانت له من المستظهر كرامة لا يهان قدرها، ولا يهاب إلا إذا ضاق في مرماها الفسيح فقرها. قال ابن أبي أصيبعة:" كان رفيع المنزلة، وكان ابن المموّج صاحب الديوان قد استقرت عليه قرية بثلاثة آلاف دينار، قام منها بألفين، وسأل إنظاره بالألف المتأخرة إلى أوان الغلّة، فلم يتحصّل فأشار عليه حاجبه ابن الداوتي «2» أن يأتي ابن الواسطي «3» ليستمهل له المستظهر، فأتاه فأكبر مجيئه، وأخلى له المجلس،

96 - أبو طاهر البرخشي، أحمد بن محمد بن العباس

فعرّفه الصورة، وأنه قد رهن كتب داره على خمسمائة دينار، فلما كان من الغد بعث حاجبه يتقاضاه، فأعطاه خط الخليفة بالخمسمائة دينار، وكتب ملكه، واستقبل له من ماله، وألبس الحاجب خلعة، وبعث معه إلى ابن المعوج دست ثياب فاخر، وخمسمائة دينار للنفقة، فقبل ذلك منه وشكره". ومنهم: 96- أبو طاهر البرخشي، أحمد بن محمد بن العباس «13» من أهل واسط، وطبيب فيما أهّل له من العلم قاسط، قاس على ما صحّ من قديم التجريب، وعميم النظر الذي يحقق رأي الأريب. ذكره ابن أبي أصيبعة وقال:" فاضل في الصناعة الطبية، كامل في الأدب، كان في أيام المسترشد بالله «1» . قال: وكان يعالج بواسط مريضا به أحد أنواع الاستسقاء ولم ينجع فيه علاج، وتجاوز حد الحمية، فسهّل له في أكل ما أراد. فاجتاز به رجل يبيع الجراد مسلوقا فاشترى منه وأكل، فعرض له منه إسهال مفرط، ثم انقطع الإسهال، وأخذ مزاجه في الصلاح إلى أن عوفي، فلما علم أبو طاهر بعافيته وكان قد يئس منه، أتاه وسأله: بم وجد الراحة؟ فقصّ عليه خبر

97 - أبو غالب ابن صفية

الجراد، فأفكر وقال: ليس هذا من فعل الجراد ولا خاصيته. فتقصّى عن بائعه حتى عرفه، فقال له: أتعرف الموضع الذي صدت منه الجراد الذي أكله هذا؟ قال: نعم. قال: فامض بنا إليه. فلما أتاه رأى حشيشة هناك يرعاها الجراد، فكان يداوي بها من الاستسقاء، وأبرأ بها جماعة من هذا المرض". قال ابن أبي أصيبعة:" وهذه حكاية قديمة قد جرى ذكرها، وأن تلك الحشيشة هي المازريون. وقد ذكرها التنوخي في كتاب:" الفرج بعد الشدة" وأنشد له قوله في غلام ناوله خلالا: [الطويل] وناولني من كفه مثل خصره ... ومثل محب ذاب من طول هجره وقال: خلالي؟ قلت: كل حميدة ... سوى قتل صب حار فيك بأسره «1» ومنهم: 97- أبو غالب ابن صفية «13» النصراني. أسقطته ديانته، وأرهقته خيانته، وأترع بيده كأس الموت لنفسه، وهيّأ لمصرعه حفرة رمسه «2» ، وأتى عليه من حيث ظن أنه ينتفع، وسقط من يديه من حيث توهّم أنه يرتفع، ومن حاول قتل الأسد الضرغامه، وختل الصل الهامه، ودرأ بكفّه متن الهندواني «3» ، وفلّ بإصبعه باب اليماني، لا يعجب له من إسراع التلف، ولا من إسراف ما ينفق من عمره الذاهب بلا خلف.

حكي أنه كان يشي بأسرار المستنجد «1» إلى قايماز «2» مقدّم الأمراء إذ ذاك، وكان المستنجد يريد قبض قايماز فاعتلّ المستنجد فدسوه عليه حتى وصف له الحمّام، وكان لا يصلح له، وعرف المستنجد أن قوته لا تقوى على الحمام، فدخل عليه قايماز والأمراء حوله، وألزموه بدخوله، وكانوا قد سجّروه ثلاثة أيام بلياليهنّ، فلما دخلوا إليه ردّوا عيه بابه ساعة، فمات. وبايعوا ابنه المستضيء «3»

98 - أمين الدولة ابن التلميذ

بعد أيمان حلفوه عليها. فأقام مدة وفي نفسه من فعلتهم بأبيه، فشرع في العمل عليهم، وابن صفية على ما هو عليه من نقل خبره، فطلبه المستضيء ليلا وطلب منه ترتيب دواء قتّال ليقتل به عدوّا له، فعمله واجتهد فيه، فلما أحضره قال له: استفّ منه حتى نجرّب فعله!. فتلوّى من ذلك وقال: الله الله فيّ. فقال له: الطبيب من تجاوز حدّه فليس له إلا هذا أو السيف. فاستفّ ذلك الدواء، ففرّ من الهلاك إلى الهلاك. ثم خرج من الدار وكتب إلى قايماز بما كان، وقال له:" والانتقال من أمري إلى أمركم". ثم هلك. وعزم قايماز على الإيقاع بالخليفة فردّه الله، وهرب إلى الموصل، فمرض في الطريق ثم دخل الموصل فمات بها. ومنهم: 98- أمين الدولة ابن التلميذ «13» كان فرد قرانه، وندّ أقرانه، وبلغ بعلمه مبالغ الأشراف، ووصل في فهمه إلى حدّ الإشراف، وكان يتكلّم في مجالس الخلفاء متبسّطا، ويتقدّم في مجال السؤال للضعفاء متوسّطا، لسابقة خدمه، وباسقة صنعه في بيت الإمامة دون باقي خدمه، ولما تحلّت به شيمه من مآثر، وحلت باديه مما لا يقدر عليه مكاثر، حتى كان يناظر جلّة الفقهاء، وجملة أهل العلم سوى السفهاء، ويفترس الأدباء، ويفترش لمواطيه الأطباء، ويضرب بقلمه عصا ابن البوّاب «1» ، ويطرف طرف

طرسه مقلة ابن مقلة «1» ، وهو على دينه المخالف، وتعود ملته في الخوالف، يكره الصدور، وتخبر خبره البدور. قال ابن أبي أصيبعة «2» :" هو الأجلّ موفق الملك أمين الدولة أبو الحسن هبة الله بن أبي العلاء صاعد بن إبراهيم بن التلميذ، أوحد زمانه في صناعة الطب، ومباشرة أعمالها، وكان في أول أمره قد سافر إلى بلاد العجم، وبقي بها سنين كثيرة في الخدمة، وكان جيّد الخطّ، يكتب المنسوب في نهاية الحسن والصّحّة، وكان عارفا بالسرياني والفارسي، متبحّرا في العربية، وله شعر مستظرف، وهو من بيت كتابة، وكان هو وأوحد الزمان [أبو البركات] يخدمان المستضيء، وكان أوحد الزمان أبصر بالحكمة، وابن التلميذ أبصر بالطب، وكان بينهما شنآن «3» ، إلا أن ابن التلميذ كان أعقلهما، وخيرهما فعلا، وسعى أوحد الزمان عليه حتى كاد يرديه، ثم رد عليه كيده فوهب ماله ودمه لابن التلميذ، فعفا

عنه. وإن مما قال فيه: [البسيط] لنا صديق يهودي حماقته ... إذا تكلم تبدو فيه من فيه يتيه والكلب أعلى منه منزلة ... كأنه بعد لم يخرج من التيه وقد قيل فيهما: [الوافر] أبو الحسن الطبيب ومقتفيه ... أبو البركات في طرفي نقيض فهذا بالتواضع في الثريا ... وهذا بالتكبر في الحضيض قال عبد اللطيف البغدادي:" كان أمين الدولة حسن العشرة كريم الأخلاق، وعنده سخاء ومروءة، وأعمال في الطب مشهورة، وحدوس صائبة، منها: أنه أحضرت إليه امرأة محمولة لا يعرف أهلها في الحياة هي أم في الممات؟ وكان الزمان شتاء، فأمر بتجريدها، وصب الماء المبّرد عليها صبا متتابعا كثيرا، ثم بنقلها إلى مجلس دافئ قد بخّر بالعود والنّدّ، ودثّرت بأصناف الفراء ساعة، فعطست وقعدت، وخرجت ماشية مع أهلها إلى منزلها". قال:" ودخل إليه رجل مترف، يعرق دما في زمن الصيف، فسأل تلاميذه وكانوا خمسين نفسا، فلم يعرفوا المرض. فأمره أن يأكل خبز شعير مع باذنجان مشوي. ففعل ذلك ثلاثة أيام، فبرأ، فسأله أصحابه عن العلة؟ فقال: إن دمه قد رقّ، ومسامّه قد تفتّحت، وهذا الدواء من شأنه تغليظ الدم، وتكثيف المسام". قال:" ومن مروءته أن ظهر داره كان يلي النظامية، فإذا مرض فقيه نقله إليه، وقام في مرضه عليه، فإذا برأ وهب له دينارين وصرفه". ومما حكاه أيضا عن أمين الدولة، وكان قد تجاوز في هذه الحكاية، قال:" وكان أمين الدولة لا يقبل عطية إلا من خليفة أو سلطان، فعرض لبعض الملوك

النائية داره مرض مزمن، فقيل له: ليس لك إلا ابن التلميذ. وهو لا يقصد أحدا. فقال: أنا أتوجّه إليه!. فلما وصل أفرد له ولغلمانه دورا وأفاض عليه من الجرايات قدر الكفاية، ولبث مدة، فبرئ الملك وتوجّه إلى بلاده وأرسل إليه مع بعض التجار أربعة آلاف دينار، وأربعة تخوت عتابي، وأربعة مماليك، وأربعة أفراس، فامتنع من قبولها، وقال: إن عليّ يمينا لا أقبل من أحد شيئا. فقال التاجر: هذا مقدار كثير. قال: لما حلفت ما استثنيت. وأقام شهرا يراوده ولا يزداد إلا إباء. فقال له عند الوداع: ها أنا أسافر ولا ارجع إلى صاحبي، وأتمتع بالمال، فتتقلّد منّته وتفوتك منفعته، ولا يعلم أحد بأنك رددته!. فقال: ألست أعلم في نفسي أني لم أقبله؟ فنفسي تشرف بذلك، علم الناس أو جهلوا". وحدّثنا الحكيم مهذّب الدين عبد الرحيم بن علي قال: حدّثني الشيخ موفق الدين أسعد بن إلياس بن المطران، قال: حدّثني أبي قال: حدثني أبو الفرج بن توما، وأبو الفرج المسيحي قالا:" كان الأجلّ أمين الدولة ابن التلميذ جالسا ونحن بين يديه-: استأذنت عليه امرأة ومعها صبيّ صغير، فأدخلت عليه فحين رآها بدرها فقال: إن صبيّك هذا به حرقة البول، وهو يبول الرمل!. فقالت: نعم. فقال: فيستعمل كذا وكذا، وانصرفت. قالا: فسألناه عن العلامة الدالّة على أنّ به ذلك، وأنه لو أن الآفة في الكبد أو الطحال لكان اللون من الاستدلال مطابقا. فقال: حين دخل رأيته يولع بإحليله ويحكّه ووجدت أنامل يديه مشقّقة قاحلة. فعلمت أن الحكة من الرمل، وإن تلك المادة الحادّة الموجبة للحكة والحرقة، ربما لا مست أنامله عند ولوعه بالقضيب فتقحّل وتشقّق، فحكمت بذلك. وكان موافقا". ومن نوادر أمين الدولة وحسن إشاراته، أنه كان يوما عند المستضيء بالله وقد أسنّ أمين الدولة، فلما نهض للقيام توكّأ على ركبتيه، فقال له الخليفة:

كبرت يا أمين الدولة. فقال: نعم يا أمير المؤمنين، وتكسّرت قواريري. ففكّر الخليفة في قول أمين الدولة، وعلم أنه لم يقله إلا لمعنى قد قصده، وسأل عن ذلك، فقيل له: إن الإمام المستنجد بالله كان قد وهبه ضيعة تسمى قوارير وبقيت في يده زمانا، ثم من مدة ثلاث سنين حط الوزير يده عليها، فتعجّب الخليفة من حسن أدب أمين الدولة، وأنه لم ينه أمرها إليه ولا عرض بطلبها، ثم أمر الخليفة بإعادة الضيعة إلى أمين الدولة وأن لا يعارض في شيء من ملكه. ومن شعره قوله في ولده وكان غاية في الدين: [المنسرح] أشكو إلى الله صاحبا شكسا ... تسعفه النفس وهو يسعفها فنحن كالشمس والهلال معا ... تكسبه النور وهو يكسفها وقوله: [المتقارب] إذا وجد الشيخ في نفسه ... نشاطا، فذلك موت خفي ألست ترى أن ضوء السراج ... له لهب قبل أن ينطفي وقوله: [مجزوء الكامل] قال الأنام، وقد رأوه ... مع الحداثة، قد تصدّر: من ذا المجاوز قدره؟ ... قلت: المقدّم بالمؤخّر وقوله: [مجزوء الكامل] قد قلت للشيخ الجليل ... الأريحي أبي المظفر: ذكّر فلان الدين بي ... قال: لا يذكّر وقوله: [الكامل] العلم للرجل اللبيب زيادة ... ونقيصة للأحمق الطيّاش

مثل النهار يزيد أبصار الورى ... نورا، ويغشي أعين الخفّاش وقوله: [الوافر] أجدّك، إن من شيم الليالي ... العنيفة أن تجوز على اللهيف كمثل اللحظ أغلب ما تراه ... يصب أذاه في العضو الضعيف وقوله: [البسيط] لا تحسبنّ سواد الخال عن خلل ... من الطبيعة، أو إحداثه غلطا وإنما قلم التصوير حين جرى ... بنون حاجبه، في خده نقطا وقوله: [الطويل] براني الهوى بري المدى فأذابني ... صدودك، حتى صرت أنحل من أمس ولست أرى حتى أراك، وإنما ... يبين هباء الذر في أفق الشمس وقوله مما يكتب على حصير: [الكامل] أفرشت خدي للضيوف ولم يزل ... خلقي التواضع للبيب الأكيس فتواضعي أعلا مكاني بينهم ... طورا، فصرت أحل صدر المجلس وقوله: [المتقارب] «1» وحقك إني مذ بنت عنك ... قلبي حزين ودمعي هتون فلله أيامنا الخاليات ... لو رد سالف الدهر حنين وإني لأرعى عهود الصفا ... ويكلؤها لك ود دفين ولم لا يكون، ونحن اليدا ... ن، أنت بفضلك منها اليمين

99 - معتمد الملك أبو الفرج يحيى بن صاعد بن يحيى بن التلميذ

ومنهم: 99- معتمد الملك أبو الفرج يحيى بن صاعد بن يحيى بن التلميذ «13» بحر حكمة تطفو لآليه «1» ، وتغفو مقل النجوم في كرى لياليه، مع ملاطفة في العلاج ملأ طيفها الجفون، إلى دأب بلل الطلل طررها، وأثل الفضل سررها. قال ابن أبي أصيبعة «2» :" كان متعيّنا في العلوم الحكمية، متفننا في صناعة الطب، متحليا بالأدب، بالغا فيه أعلى الرتب. وله شعر؛ منه- ملغزا في الإبرة- قوله: [الوافر] وفاغرة فما في الرجل منها ... ولكن لا تسيغ به طعاما ومخطفة الحشا في الرأس منها ... لسان لا تطيق به كلاما تصول بشوكة تبدو وسم، ... وما من ذاقه يرد الحماما تجرّ وراءها رسنا طويلا «3» ... كما قادت يد الحادي الزماما منيعا ذا قوى لكن تراه ... بقبضتها ذليلا مستضاما فتلقيه بمحبسها مقيما ... طوال الدهر لا يأبي المقاما أيا عجبا لها سوداء خلقا ... تريك خلائقا بيضا كراما غدت عريانة من كل لبس ... وفاضل ذيلها يكسو الأناما وقوله- في دار جديدة «4» وقعت فيها نار يوم فراغها-: [الكامل]

يا بانيا دار العلى ملأتها ... لتزيدها شرفا على كيوان علمت بأنك إنما شيدتها ... للمجد والإفضار والإحسان فقفت عوائدك الكرام وسابقت ... تستقبل الأضياف بالنيران وقال أيضا: [الكامل] علق الفؤاد على خلو حبها ... علق الذبالة «1» في الحشا المصباح لا يستطاع الدهر فرقة بينهم ... إلا لحين تفرّق الشباح وقوله: [المتقارب] فراقك عندي فراق الحياة ... فلا تجهزن على مدنف «2» علقتك كالنار في شمعها ... فما إن تفارق أو تنطفي وقوله: [السريع] بدا إلينا أرج القادم ... فبرّد الغلّة من حائم روّح عن قلبي على نأيه ... وقد يلذ الطيف للحالم

100 - أوحد الزمان وهو أبو البركات هبة الله بن علي بن ملكا البلدي ثم البغدادي

ومنهم: 100- أوحد الزمان وهو أبو البركات هبة الله بن علي بن ملكا البلدي ثم البغدادي «13» طبيب لو رام الصخر الجلمد لتفجّر، أو إمساك الماء السائل لتحجّر، بمداومة نظر لو صابرت الزمان لتضجّر، أو فرّعت حصا الدهناء «1» لتشجّر. بعلم أوسع امتدادا من المشرقين، وأجمع مدى مما بين الخافقين. كان يصون وديعة العلم ويحفظها، ويغيظ بكتمانها صدور الرجال ويخفضها، ونسيمه تهبّ خافقته، وشميمه تفتت عنبر الغمام بارقته. قال ابن أبي أصيبعة «2» :" كان يهوديا وأسلم، وخدم المستنجد. وتصانيفه في النهاية «3» ، وكان له اهتمام بالغ في العلوم، ونظره فائق فيها. بدأ بالطب على أبي الحسن سعيد بن هبة الله «4» ، وكان لا يقرئ يهوديا ولا نصرانيا، فثقل عليه أبو البركات بالناس، ليقرئه فلم يفعل، فصحب بوّاب داره، ليتوصل به إلى غرضه، وكان يقعد في الدهليز فيسمع جميع ما يقرأ عليه، وما يجري معه من البحث، وهو كلما فهم شيئا وتعقّله علّقه عنده.

فلما مضت سنة أو نحوها، جرت مسألة عند الشيخ وبحثوا فيها فلم يتّجه لهم عنها جواب، فدخل أبو البركات، وخدم، وقال للشيخ: عن أمر مولانا أتكلّم في هذه المسألة؟. فقال: قل. فأجاب عنها بشيء من كلام جالينوس. ثم قال: وهذا كان بحثكم في اليوم الفلاني، في ميعاد فلان!!. فعجب الشيخ منه، ومن حرصه، فقال: من يكون هكذا ما يستحل أن نمنعه، فصار من أجلّ تلامذته. ومن نوادره أن مريضا عرض له الماليخوليا، وكان يعتقد أن على رأسه دنّا، وأنه لا يفارقه أبدا، وكان كلّما مشى يتحايد المواضع التي سقوفها قصيرة، ويمشي برفق ولا يترك أحدا يدنو منه، حتى لا يميل الدّن، أو يقع على رأسه، وبقي هذا المرض مدّة طويلة وهو في شدّة منه، وعالجته جماعة من الأطبّاء، ولم يحصل بمعالجتهم تأثير ينتفع به، وأنهي أمره إلى أوحد الزمان، ففكّر أنه ما بقي شيء يمكنه أن يبرأ به إلا بالأمور الوهمية. فقال لأهله: إذا كنت في الدار فأتوني به. ثم إن أوحد الزمان أمر أحد غلمانه بأن ذلك المريض إذا دخل عليهم وشرع في الكلام، وأشار إلى الغلام بعلامة بينهما، أنه يسارع بخشبة كبيرة فيضرب بها فوق رأس المريض على بعد منه، كأنه يريد كسر الدنّ الذي يزعم أنه على راسه. وأوصى غلاما آخر، وكان قد أعدّ معه دنّا في أعلى السطح، أنه متى رأى ذلك الغلام قد ضرب فوق رأس صاحب الماليخوليا أن يرمي الدنّ الذي معه بسرعة إلى الأرض. ولما كان أوحد الزمان في داره وأتاه من غير علم المريض، فأقبل عليه، وقال:

لا بدّ أن أكسر هذا الدّن، وأريحك منه. ثم أدار تلك الخشبة التي معه، وضرب بها فوق رأسه بنحو ذراع، وعند ذلك رمى الغلام الدّنّ من أعلى السطح، فكانت له وجبة «1» عظيمة، وكسر قطعا كبيرا. فلمّا عاين المريض ما فعل به، ورأى الدّنّ المتكسّر، تأوّه لكسرهم إياه، ولم يشكّ أنه هو الذي كان على رأسه بزعمه، وأثّر فيه الوهم أثرا برىء به من علّته تلك!. وهذا باب عظيم في المداواة، وقد جرى أمثال ذلك لجماعة من المتقدّمين مثل جالينوس وغيره «2» في مداواتهم بالأمور الوهمية. وحكى أبو الفضل تلميذ أبي البركات المعروف بأوحد الزمان، قال: كنا في خدمة أبي الزمان في عسكر السلطان، ففي بعض الأيام جاءه رجل به داحس «3» ، إلا أن الورم كان ناقصا، وكان يسيل منه صديد، قال: فحين رأى ذلك أوحد الزمان بادر إلى سلامية «4» إصبعه فقطعها!. قال: فقلنا له: يا سيدي! لقد أجحفت في المداواة، وكان يغنيك أن تداويه بما يداوي به غيرك، وتبقي عليه إصبعه، ولمناه، وهو لا ينطق بحرف!. قال: ومضى ذلك اليوم، وجاءه في اليوم الثاني رجل آخر، مثل ذلك سواء، فأومأ إلينا بمداواته، وقال: افعلوا في هذا ما ترونه صوابا. قال: فداويناه بما يداوى به الدّاحس، فاتّسع المكان، وذهب الظفر، وتعدّى

الأمر إلى ذهاب السلامية الأولى من سلاميات الأصابع، وما تركنا دواء إلا داويناه به، ولا علاجا إلا عالجناه، ولا لطوخا إلا لطخناه به «1» ، ولا مسهلا إلا وسقيناه، وهو مع ذلك يزيد، ويأكل الإصبع أسرع أكل، وآل أمره إلى القطع، فعلمنا أن وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ «2» قال: فشاع هذه المرض في تلك السنة، وغفل جماعة منهم عن القطع، فتأدّى أمر بعضهم إلى هلاك اليد، وبعضهم إلى هلاك أنفسهم. ونقلت من خط الشيخ موفق الدين عبد اللطيف البغدادي «3» ، فيما ذكره عن ابن الدّهان المنجم، قال: كان أبو البركات قد عمي في آخر عمره، وكان يملي على جمال الدين بن فضلان، وعلى ابن الدّهّان المنجّم، وعلى يوسف والد الشيخ موفق الدين عبد اللطيف، وعلى المهذب ابن النقّاش كتاب" المعتبر» ".

101 - أبو القاسم هبة الله بن الفضل البغدادي

وقيل: إن أوحد الزمان كان سبب إسلامه أنه دخل يوما إلى الخليفة فقام جميع من حضر إلا القاضي، فإنه كان حاضرا ولم ير أنه يقوم مع الجماعة لذمّيّ. فقال أوحد الزمان: يا أمير المؤمنين! كأنّ القاضي لم يقم مع الجماعة لكونه يرى أنه على غير ملّته. فأنا أسلم بين يدي مولانا، ولا أتركه ينتقصني بهذا..!، وأسلم. قال: وكان لأوحد الزمان ثلاث بنات، ولم يخلّف ولدا ذكرا. وعاش نحو ثمانين سنة. قال: وكان بين أوحد الزمان وأمين الدولة ابن التلميذ معاداة، وكان أوحد الزمان لما أسلم يتنصّل كثيرا من اليهود، ويلعنهم، ويسبّهم، فلما كان في بعض الأيام، في مجلس بعض الأعيان الأكابر، وعنده جماعة وفيهم أمين الدولة ابن التلميذ، وجرى ذكر اليهود، فقال أوحد الزمان: لعن الله اليهود. فقال أمين الدولة: نعم! وأبناء اليهود. فوجم لها أوحد الزمان، وعرف أنه أشار إليه، وعناه، ولم يتكلم!!. ومنهم: 101- أبو القاسم هبة الله بن الفضل البغدادي «13» علم طب وبيان، وإمام فضل ملء سمع وعيان، فأتى بما غلا، ومات مديحا وغزلا، وجاء بضريب الضرب، وغريب الحكمة التي ... «1» اليونان وألسنة العرب، وكان الطب عليه أغلب، والسبب إليه أجلب، فكان به ارتفاقه، ومنه

إنفاقه، وكان له هجو يجرّع المهجوّ سمّ الأساود «1» ، وسقما كلما قيل برأ منه يعاود. هذا إلى ملح أظرف من غرائب البحار، وألطف من النسيم، إذا عبث بأعطاف الأشجار. قال ابن أبي أصيبعة «2» :" كان يعاني صناعة الطب، ويباشر أعمالها، ويعدّ من الموصوفين فيها، إلا أن الشعر غلب عليه، وكان كثير النوادر وبينه وبين الحيص بيص «3» شنآن وتهاتر، وكانا قد يصطلحان وقتا، ثم يعودان إلى ما كانا عليه، وهو الذي ألصق بالحيص بيص هذا اللقب، وذلك لأن السلطان السلجوقي لما قصد بغداد في أيام المقتفي، وهمّ عسكرها بالخروج إليه، وكان الناس من ذلك في حديث كثير وحركة زائدة، فقال: مالي أرى الناس في حيص بيص؟. فألصق به هذا اللقب. قلت: كان الحيص بيص على ما هو منه معروف؛ فخرج يتمشّى ليلا حيث لا يقدم إلا الأبطال، ولا يمشي إلا من قصر عنده باع الخوف وطال، فمرّ بكلبة

مجرية «1» ، رآها فما خافها، وهي تسطو بأنياب وأظفار، وتهول مثل الليل بلا أسفار؛ فنبحت عليه نباحا ظنّ به أن الجبال عليه قد أطبقت، أو الجيوش به قد أحدقت، فامتشق سيفه وخطا إليها وقدّم قدمه، وأقدم عليها، ثم دهش للخوف من بأسها، فأضلّها، وإنما أصاب بالسيف جروا لها. فقال أبو القاسم: [البسيط] يا معشر النّاس إن الحيص بيص أتى ... بفعلة أورثته الخزي في البلد هو الجبان الذي أبدى شجاعته ... على جريّ ضعيف البطش والجلد فأنشدت أمه من بعد ما احتسبت: ... دم الأبيلق عند الواحد الصّمد أقول للنفس تأساء وتعزية ... إحدى يديّ أصابتني ولم ترد كلاهما خلف من فقد صاحبه ... هذا أخي حين أدعوه، وذا ولدي وكان المقتفي حين بويع شيخا قد علت سنّه واحد ودب غصنه، ووزيره ابن الهبيرة من علم زهاده، ومداومة درس، وعباده. وكان أبو القاسم يستطيل مدتهما، ويكره بأسهما الذي لا يلين، وشدّتهما؛ فجلس يوما المقتفي وابن هبيرة واقف أمامه، ومصرف زمانه هذا، وقد استثقل أبو القاسم طول ايامهما، وامتداد دوامهما، فقال: [السريع] يا معشر الناس!، النفير النفير ... قد جلس الهردب «2» فوق السرير وصار فينا آمرا ناهيا ... وكنت أرجو أنه لا يصير فكلّما قلت: قذى ينجلي ... وظلمة عما قليل تنير

فتحت عيني فإذا الدولة ... الدولة والشيخ الوزير الوزير وقال يهجو البديع الأسطرلابي، وكان قد حجّ: [مجزوء الكامل] لا غرو أن دهى الحجيج ... وإن رموا منه بنكبة حج البديع وعرسه «1» ... وفتاه فانظر أي عصبه؟ فثلاثة من منزل ... علق «2» ، وقوّاد، وقحبه! وقال: [السريع] يا خائف الهجو على نفسه ... كن في أمان الله من مسّه أنت بهذا العرض بين الورى ... مثل الخرا يمنع من نفسه!! وقال: [السريع] أمدحه طورا، وأهذي به ... طورا، ولا أطمع في رفده مثل إمام بين أهل القرى ... صلّى بهم والزيت من عنده! وأورد له ابن سعيد، ومن ذا الذي يسمع الحسن ولا يستعيد؟، وذلك قوله: [الكامل] خطرت فكاد الورق يسجع فوقها ... إن الحمام لمغرم بالبان من معشر نشروا على هام الربى ... للطارقين ذوائب النيران

102 - فخر الدين المارديني

ومنهم: 102- فخر الدين المارديني «13» الإمام أبو عبد الله محمد بن عبد السلام بن عبد الرحمن بن عبد الساتر الأنصاري. رجل من أسرة الأنصار، ومن سرّة أهل المدينة إذا عدّت بيوت الأمصار، في مزايا ذوي الهبات في المنن، وبقيايا ذوي الهيئات من يمن. وكان من علماء الحكماء، ونبلاء الفضلاء، وأحبار الأنام، وأخيار من لا يرى مثله إلا في المنام. قال ابن أبي أصيبعة «1» :" كان علّامة وقته في الحكمة، قويّ الذكاء، فاضل النفس، محبّا للخير، متقنا للّغة والنحو. وأجداده من أهل القدس، قرأ الطب على ابن التلميذ، وقرأ ابن التلميذ عليه المنطق، وقدم دمشق وأقرأ بها الطب، وكان لن مجلس عامّ للتدريس. وممن قرأ عليه: المهذّب عبد الرحيم بن علي، وطلب منه الملك الظاهر أن يقيم عنده بحلب، وأنعم عليه بمال طائل، فأقام عنده سنتين ثم عاد إلى ماردين، ووقف كتبه في المدرسة بها، وآخر ما قاله عند موته:" اللهمّ إني آمنت بك وبرسولك

103 - أبو نصر المسيحي

الصادق محمد صلى الله عليه وآله وسلم، إن الله يستحي من عذاب الشيخ «1» ومنهم: 103- أبو نصر المسيحي «13» وهو سعيد بن أبي الحسن بن [أبي الخير] بن عيسى.

طبيب عرّف به علمه، وفرّع كل علاج لم يحظ فيه حكمه، طالما أبرات العلل هذه المسيحية بمسحها، وأبدلت ببياض ثوب العافية سواد مسحها، واحتاج إليه كل متطبّب، وكان طبه الباعث للصحّة أو المسبّب. قال ابن أبي أصيبعة «1» :" من المتميزين في صناعة الطب، والأفاضل من أهلها، والأعيان من أربابها. ومرض الناصر لدين الله «2» بالرّمل، وعرضت له في المثانة حصاة كبيرة، مفرطة في الكبر، واشتدّ به الألم، وطال المرض، وضجر من العلاج، فأشير عليه بأن يشق المثانة لإخراج الحصاة، فسأل عن جرائحي حاذق؟ فقيل له: ابن عكاشة؛ فأحضر، وشاهد العضو العليل، وأمره ببطّه «3» فقال: أحتاج أن أشاور مشايخ الأطبّاء في هذا. فقال له: فمن تعرف من صالحيهم؟. قال: أبو نصر المسيحي، فإنه ليس في البلاد بأسرها من يماثله. فطلبه، فلما حضر قال له: اجلس. فجلس ساعة ولم يكلّمه، [ولم يأمره بشيء حتى سكن روعه] . ثم قال له الناصر: يا أبا نصر! مثّل نفسك أنك دخلت إلى البيمارستان وأنت تباشر به مريضا قد ورد من بعض الضياع، وأريد أن تباشر مداواتي، وتعالجني من هذا المرض كما تفعل بمن هذه صفته.

فقال: السمع والطاعة؛ ولكني أريد أن أعرف من هذا الطبيب المتقدّم مبادي المرض، وأحواله، وتغيراته، وما عالج به منذ أول المرض وإلى الآن. فأحضر الشيخ أبو الخير، وأخذ يذكر ابتداءات المرض، وتغيّر أحواله، وما عالج به من أول المرض وإلى آخر وقت. فقال: التدبير صالح، والعلاج مستقيم. فقال الخليفة: هذا الشيخ اخطأ، ولا بدّ لي من صلبه!. فقام أبو نصر المسيحي، وقبّل الأرض، وقال: يا مولاي! بحقّ الله عليك وبمن مضى من أسلافك الطاهرين، لا تسنّ على الأطبّاء هذه السّنّة. وأما الرجل فلم يخطئ في التدبير، ولكن بسوء حظه لم ينته المرض. فقال: قد عفوت عنه، ولكن لا يعود يدخل عليّ؛ فانصرف. ثم أخذ أبو نصر في مداواته، فسقاه ودهن العضو بالأدهان والملينات، وقال له: إن أمكن أنا نلاطف الأمر بحيث تخرج هذه الحصاة من غير بطّ؛ فهو المراد. وإن لم تخرج، فذلك لا يفوتنا. ولم يزل كذلك يومين، وفي ليلة اليوم الثالث رمى الحصاة، فقيل إنه كان وزنها سبعة مثاقيل «1» ، وقيل: خمس، وقيل: إنها كانت على مقدار أكبر من نواة تكون من نوى الزيتون.

وتتابع الشفاء، ودخل الحمّام فأمر بأن يدخل أبو نصر إلى دار الضرب «1» ، ويحمل من الذهب ما يقدر عليه. ففعل به ذلك، ثم أتته الخلع، والدنانير من أم الخليفة، ومن ولديه الأميرين محمد وعلي، والوزير نصير الدين بن مهدي العلوي الرازي، ومن سائر كبار الأمراء بالدولة، فأما أم الخليفة وأولاده، والوزير، والشرابي نجاح «2» ، فكانت الدنانير من كل واحد ألف دينار، وكذلك من أكابر الأمراء، والباقين على قدر أحوالهم، فأخبرت أنه حصّل من الذهب العين: عشرين ألف دينار، ومن الثياب والخلع: جملة وافرة. وألزم الخدمة، وأفرطوا له الجامكية اسنيّة، والراتب، والإقامة، ولم يزل مستمرا في الخدمة إلى أن مات الناصر لدين الله. قال: وحدّثني بعض الأطباء أن ابن عكاشة الجرائحي كان نذر عليه أن يتصدّق في بيعة سوق الثلاثاء بالربع مما يحصل له، وأنه حمل إلى البيعة مائتين

104 - أبو الفرج ابن توما

وخمسين دينارا. وصرف أبو الخير المسيحي من الخدمة، وقد كانت منزلته قبل ذلك جليلة عنده، ومحلّه مرتفعا، ووصله هبات وصلات عظيمة، فمن جملتها أنه أعطاه خزانة كتب الأجل أمين الدولة ابن التلميذ، وكان قد مرض الناصر مرارا وبرأ على يديه، فحصل له جملة وافرة. ثم توفي الشيخ أبو الخير في أيام الناصر فقيل له: إنه قد توفي وترك ولدا متخلفا، وعنده جملة عظيمة من المال. فقال: لا يعترض ولده فيما ورثه من أبيه، فما خرج من عندنا لا يعود إلينا. ومنهم: 104- أبو الفرج ابن توما «13» وهو: صاعد بن [يحيى بن] «1» هبة الله بن توما النصراني [أبو الكرم] البغدادي. توصّل بنجاح فنجح، ومتّ بصلاح عمله فبجح، وعدل بالآباء فرجح، وملك رياسة الأطبّاء فنجح، وورث ببلاد العراق بخت بختيشوعها، وحاز ما جرّ جرجيس إليه من مدد ينبوعها، وأبقى له يعقوب بن إسحاق أخو كندة ما كان أبقاه ليوسفه، وخلّى له أحمد بن الطيب فتى سرخس ما خصّ نصيبه من طيب مخلفه.

قال ابن أبي أصيبعة «1» :" كان من أكابر الأطباء، وخدم نجاح الشرابي «2» ، ثم صار وزيره وكاتبه، ثم دخل إلى الناصر وكان يشارك أطباءه في معالجته، ثم حظي عنده الحظوة التامة، وسلّم إليه عدّة جهات يخدم بها، وكان فيها عدّة دواوين وكتاب. وقتله بعض الجند المرتزقين تحت يده، وقيل الخليفة، فنكبه وأبقى أملاكه وعروضه لولده، وحمل ما خلفه من المال العين إلى الخزانة، وكان ثمانمائة ألف وثلاثة عشر ألف دينار! ". قال ابن القفطي- وقد ذكره وأثنى عليه- «3» :" إنه كان قد تقدّم في أيام الناصر إلى أن كان بمنزلة الوزراء، والأمراء، واستوثقه على حفظ أمواله وأموال خواصّه، وكان يودعها، وكان يظهر له في كل وقت، ويرسله في أمور خفية إلى وزرائه، وكان جميل المحضر، حسن التوسط، قضيت على يده حوائج، وكفيت شرور، ولم ير له غير شاكر ناشر".

طبقات الأطباء ببلاد العجم

طبقات الأطباء ببلاد العجم

105 - تياذورس

منهم: 105- تياذورس «13» إمام الحكماء في دولة الفرس، والماضي فيهم زمانه، المضيء كأنه ليلة العرس، وكان على كونه ذمّة فيهم ومواليا أمة تنافيهم تكرمه ملوك آل ساسان، وتطعمه من جني جنايتهم ثمر الإحسان، وكان يتقرّب إليهم بما يلائم، ويقرب لديهم كل منى كان لا يطمع بها منهم نائم. قال ابن أبي أصيبعة:" كان نصرانيا، وله معرفة جيدة بصناعة الطب، وبنى له سابور ذو الأكتاف البيع في بلاده، وكان عالما بالصناعة، موسوما بها، متميزا في زمانه، فاضلا في علوم الفرس والهند، وهو الذي جلب كتاب كليلة ودمنة إلى أنوشروان، وترجمه له". ومنهم 106- ربن الطبري «14» لاءم الفرس طبّه، وقاوم حبّ أنفسهم حبّه، وكانوا يرونه زين مجالسهم وعين مجانسهم، هذا وما هو من أهل معتقدهم، ولا ممن يحلّ مثله في معهدهم، ولم يحاول عملا إلا كان به بصيرا، ولا علما إلا وانقلب الطرف إليه لا خاسئا ولا حسيرا. قال ابن أبي أصيبعة:" كان يهوديا، طبيبا، منجما، من أهل طبرستان، وكان

107 - علي بن سهل بن ربن الطبري أبو الحسين

متميزا في الطب، عالما بالهندسة وأنواع الرياضة، وحلّ كتبا حكمية من لغة إلى لغة أخرى. وكان له تقدّم في علم اليهود- والربن والربين والراب- «1» أسماء لمقدّمي اليهود". ومنهم: 107- علي بن سهل بن ربن الطبري أبو الحسين «13» قوي المشاركة، قويم الجدد في الطرق السالكة، يجلي نوره الظلم، ويطفي تدبيره الضّرم، ويقوم الأبدان، ويقوم طبّه مقام الشمس في برء البلدان ولم يعدم ومضه، إلى أدب بدت له تضيء لمعانها، ويجيء بمسود اللمم ريعانها، ويدنو مداها ويبعد مكانها. قال ابن النديم:" علي بن ربل- باللام-، كان يكتب للمازيار بن قارن، فلما أسلم على يد المعتصم قرّبه، وظهر فضله، وأدخله المتوكّل في ندمائه، وكان بموضع من الأدب وهو الذي علّم الرازي صناعة الطب، وكان مولده ومنشؤه بطبرستان.

108 - أحمد بن محمد الطبري

ومن كلامه:" الطبيب الجاهل مستحث الموت". ومنهم: 108- أحمد بن محمد الطبري «13» أبو الحسن. تقدّم بتقديم المعرفة، وتقدّم إلى الدّاء فصرفه، مع إتقان لتشريح الأعضاء، واتّقاء لغير صريح الارتضاء، بفهم يحسن الاستنباط، وعلم يحسب في معرفة ما بين القصب والرباط، هذا إلى استقصاء الأعراض والدلائل والأمراض بسبب من خارج أو داخل، لم يعد الصواب حدسه، ولا عدّ في ذوي الخطأ حسّه، حتى قيل إنه لو أراد لأطال شعر الأجفان، وأقام الأموات من الأكفان بتلطّف يكاد يمسك به رمق النهار، ويرم في الصباح صبغة الليل الشايب. قال ابن أبي أصيبعة:" فاضل عالم بصناعة الطب، وكان طبيب ركن الدولة، وله الكناش" المعروف ب" المعالجات البقراطية" وهو من أجلّ الكتب، وأنفعها، يحتوي على مقالات كثيرة، وقد استقصى فيه ذكر الأمراض ومداواتها على أتمّ ما يكون".

109 - أبو منصور: الحسن بن نوح القمري

ومنهم: 109- أبو منصور: الحسن بن نوح القمريّ «13» قمر سماء، ورقم عذار ظلّ في وجنة ماء، ونوء حكمة ما تقشع سحابها، ولا توشع بغير مطرف الفضائل سحابها، أتى مجلس الرئيس ابن سينا وحضره، وشاهد سيما سمته ونظره، وكان يعدّه فيمن أدركه ويعدّ من العلم له ما تركه، ويطوي في حفظه من علمه البارع ما نشره، ويأخذ منه إلا أنه أخذ شره ولم يكن مثله في تعديل قوي ممتزجة، وملاطفة بعلاج موافق لا تنفر منه الأمزجة. قال ابن أبي أصيبعة:" كان سيد وقته وأوحد زمانه، مشهورا بالجودة في صناعة الطب، محمود الطريقة في أعمالها، فاضلا فيها، حسن المعالجة، جيد المداواة، متميزا عند الملوك. وحكي عن الخسرو شاهي أن ابن سينا لحق أبا منصور وهو شيخ كبير، وكان يحضر مجلسه ويلازم دروسه، وانتفع به في علم الطب.

110 - أبو سهل عيسى بن يحيى المسيحي الجرجاني

ومنهم: 110- أبو سهل عيسى بن يحيى المسيحي الجرجاني 1» له في الطب يد بيضاء كليميّة «1» ، وفي إطفاء نار الحمّى آية غرّاء إبراهيمية، مسحت بطبّه الأدواء، وصلحت اللأواء «2» ، وصحّت الأجسام، وصحت الأسقام، وسحّت السحب بمطر الإنعاش، وتهلّلت وجوه البرق الوسام، وحسبه أن ابن سيناء من جملة علمه إذا زخر ومن حمدة عزمه إذا فخر. وكان من بعض فضلاء المتأخرين المتبحّرين يفضّله على ابن سيناء، ويجعل له عليه أسناء، ويثني عليهما، وإنما يوفر له الثناء. قال ابن أبي أصيبعة «3» :" هو طبيب فاضل، بارع في صناعة الطب، علمها وعملها، فصيح العبارة، جيد التصنيف، صحيح الكتابة، متقنا للعربية". قال:" وقد رأيت بخطّه كتابه في" إظهار حكمة الله تعالى في خلق الإنسان" «4» ، وهو في نهاية الصحة والإتقان، والإعراب والضبط، وهو يدلّ على

111 - السيد أبو عبد الله محمد بن [يوسف] الإيلاقي

فضل باهر، وعلم غزير". قال:" وقيل: إن المسيحي هو معلم ابن سينا صناعة الطب. وقال عبيد الله بن جبريل: إن المسيحي كان بخراسان، وكان مقدّما عند سلطانها، وإنه مات عن أربعين سنة". ومن كلامه:" نومة بالنهار بعد أكلة خير من شربة دواء نافع"، انتهى «1» . ومنهم: 111- السيد أبو عبد الله محمد بن [يوسف] الإيلاقي «13» رجع بنسبه إلى والد شريف، وبحسبه إلى تالد «2» وطريف، فقيل في ظل علم متكاثف الشجر، متراكم السحب، هطّال المطر، سرت النوافح بأعطافه، وسرّت بألطافه، وصيّرت ثمره في أوان قطافه. قال ابن أبي أصيبعة:" هو شريف النسب، فاضل في نفسه، خبير بصناعة الطب والعلوم الحكمية، وهو ممن أخذ عن الرئيس ابن سينا، واختصر" القانون" وأجاد في تأليفه، وله كتاب:" الأسباب والعلامات"- في الطب-.

112 - أبو الريحان محمد بن أحمد البيروني

ومنهم: 112- أبو الريحان محمد بن أحمد البيروني «13» ذكي يفوح عبق ريحانه، ويكرم أرج عنبره بامتحانه. تكلّم على الكواكب ورسومها وحدودها، والنجوم ونحوسها وسعودها، وناظر الفحول، وناضل النصول «1» ، وله حكمة تلمع مشارق أنوارها، وتصدع حصباء الفجر سابق نوارها. قال ابن أصيبعة:" هو منسوب إلى بيرون، من مدن السند، وكان مشتغلا بالعلوم الحكمية، فاضلا في الهيئة والنجوم، وكان معاصرا للرئيس ابن سينا، وبينهما بحوث ومراسلات، وقد ذكر الرئيس أجوبة مسائل سأله البيروني عنها، مفيدة في الحكمة" «2» .

113 - أحمد بن عبد الرحمن بن مندويه الأصبهاني، أبو علي

ومنهم: 113- أحمد بن عبد الرحمن بن مندويه الأصبهاني، أبو علي «13» من دار ملك لا يقعد به بلده، وابن أب لا يستحي به ولده، تحلّل بالمناقب التي ما ضاقت به ملابسها، ولا دنت لغيره ملامسها، وفاضت به ينابيع الحكم، وسهلت له صعابها التي كم رامها غيره وكم. قال ابن أبي أصيبعة:" هو من الأطباء المذكورين في بلاد العجم، وخدم جماعة من ملوكها ورؤسائها «1» ، وكانت له أعمال مشهورة في صناعة الطب، وكان من ذوي البيوتات الأجلّاء بأصبهان، وكان أبوه فاضلا في علم الأدب، وأمر الدين، وله أشعار حسنة منها: [الوافر] ويمسي المرء ذا أجل قريب ... وفي الدنيا له أمل طويل ويعجل بالرحيل وليس يدري ... إلى ماذا يقرّ به الرحيل ولأبي عليّ هذا كتب كثيرة «2» ذكرها ابن أبي أصيبعة في كتابه" بغية

114 - أبو القاسم عبد الرحمن بن علي ابن أحمد بن أبي صادق النيسابوري

الألباء في تاريخ الأطباء" «1» ومنهم: 114- أبو القاسم عبد الرحمن بن علي ابن أحمد بن أبي صادق النيسابوري «13» وكان صادق الطلب، صادع الليل، سرى بحسن المتطلب منقبا عن الحكمة يستثيرها من أماكنها، ويستديرها سرجا من مساكنها، ويستميرها أقواتا، ويستميلها قصبا تميل إليه انعطافا، وظباء تحسن إليه التفاتا. قال ابن أبي أصيبعة:" هو طبيب فاضل بارع في العلوم الحكمية، كثير الدراية في الصناعة الطبية، له حرص بالغ في التطلّع إلى كتب جالينوس، وما أودعه فيها من غوامض الطب وأسرار العلم، شديد الفحص عنها، وكان فصيحا، بليغ الكلام، وما فسّره من كتب جالينوس في نهاية الجودة والإتقان، كما فعل في كتاب:" منافع الأعضاء" لجالينوس، فإنه أجهد نفسه فيه، وأجاد في تلخيص معانيه. وقد قال في أوله:" وأما نحن فقد حرّرنا معاني هذا الكتاب شرحا للعويص، وحذفا للزائد، ونظما للتشتيت، وإضافة إليه". قال صاحب" بغية الألبّاء" «2» : وحدّثني بعض الأطباء أن ابن أبي صادق

115 - السموأل بن يحيى بن عباس

اجتمع بابن سينا وقرأ عليه، وكان ممن تتلمذ له وأخذ عنه، قال: وكان هذا لا أستبعده بل هو أقرب إلى الصحة، لأن [ابن] أبي صادق لحق زمانه- أي زمان ابن سينا- وكان ببلاد العجم، ولا شكّ أنه سمع بسمعة ابن سينا، وكانت عظيمة، وكان أكبر من ابن أبي صادق قدرا". ثم ذكر تأليفاته «1» . ومنهم: 115- السّموأل بن يحيى بن عباس «13» المغربي الأصل، البغدادي الدار، العادي حيث السحاب الهطّال دار، المادّ يد البدار، الماد يد الاقتدار، ذو الذكاء الذي يضيء للمقتدح، ويضع في مهامه مهام الطلب منه المقترح، طلّاع كل نية، وطلّاب كل حنية، خرق العادة في ذكائه الفرط، ووقائه بالعلم الذي لا يقبل الغلط، على أنه لم يخل بإبداع فن، ولا أبدع حفظه علم يعرف بحقيقة أو ظنّ. قال ابن أبي أصيبعة:" كان فاضلا في العلوم الرياضية، عالما بصناعة الطبّ. وأصله من بلاد المغرب، وسكن بغداد مدة، ثم انتقل إلى بلاد العجم، ولم يزل بها إلى آخر عمره.

116 - الشريف شرف الدين إسماعيل

قال عبد اللطيف البغدادي: هذا السّموأل شابّ بغدادي، كان يهوديا، وأسلم «1» ، ومات شابا بمراغة «2» ، وبلغ في العدديات مبلغا لم يصله أحد في زمانه، وكان حادّ الذهن جدا، بلغ في الصناعة الجبرية الغاية القصوى، وأقام بديار بكر وأذربيجان، وله رسائل في الجبر والمقابلة، ردّ فيها على ابن الخشاب النحوي، وكان معاصره، وكانت له في هذا العلم يد". ومنهم: 116- الشريف شرف الدين إسماعيل «13» كمل شرف قديمه بحديثه، ووصل واني سراه بخبيثه، وعرف بأكمل أدوات العلوم ومداواة العموم وتحلّى بمفاخر الطلب لعلم يبقيه، وجسم بصالح الطب يقيه. وصل من الدولة الخوارزمية العظيمة الشان ما عدّ مثله لها من عظمتها، وامتدّ ثرى ماله من نعمتها، وجرى في طلق آماله إلى غاية همتها. قال ابن أبي أصيبعة:" كان طبيبا عالي القدر، وافر العلم، وجيها في الدولة، وكان في خدمة السلطان علاء الدين محمد خوارزم شاه، وله منه الأنعام الوافرة، والمرتبة المكينة، وكان له مقرّر على السلطان مبلغه ألف دينار في كل شهر،

وكانت له معالجات بديعة، وآثار حسنة في صناعة الطب. وتوفي في أيام خوارزم شاه بعد أن عمّر، وله عدّة مصنّفات كلها بالفارسي «1» .

أطباء الهند

أطبّاء الهند

117 - شاناق الهندي

منهم: 117- شاناق الهندي «13» هو ذو الحكم اللّوامع، والكلم الجوامع، والتنبيهات الموقظة، والتمويهات المحفظة، والتشبيهات التي أخذت بأطراف الموعظة، نطق بها عن خاطر صفا فلم يكدر، ووفى فلم يغدر، فجاءت سوانح، وجادت موانح، وحلّت من القلوب محلا، منذ دخلته سكنت به وأخلته. قال ابن أبي أصيبعة:" كانت له معالجات وتجارب كثيرة في الطب، وتفنّن في العلوم الحكمية، ومما قاله في كتابه الذي سمّاه: (منتحل الجوهر) : " أيها الوالي!! اتّق عثرات الزمان، واخش تسلّط الأيام، ولوعة الدّهر، واعلم أن للأعمال جزاء فاتّق العواقب، فإن لها غدرات، فكن منها على حذر، والأقدار

118 - منكه الهندي

مغيبات فاستعدّ لها، والزمان متقلّب فاحذر دولته، لئيم الكرّة فخف سطوته، سريع الغرّة فلا تأمن سطوته. واعلم أنه من لم يداو نفسه من سقام الآثام في أيام حياته، فما أبعده من الشفاء في دار لا دواء لها، ومن أذلّ حواسّه واستعبدها فيما يقدم من خير بان فضله، وظهر نبله، ومن لم يضبط نفسه وهي واحدة لم يضبط حواسّه وهي خمس، فإذا لم يضبط حواسّه مع قلّتها، ونفسه مع ذلّتها صعب عليه ضبط الأعوان مع كثرتهم وخشونة جانبهم، وكان عامّة الرعيّة في أقاصي البلاد وأطراف المملكة أبعد من الضبط «1» ومنهم: 118- منكه الهندي «13» طبيب توقى به الأجسام، وتوفى بسببه خير الأقسام، لو عاد الهرم لأعاد عليه ثوب شبابه، وبدّل كفن المشيب بجلبابه، فأقرّ الأرواح في أجسادها، وعاد بالصّلاح على فسادها فقرّت استقرارا، وأزالت ضرارا، وصالحت الأبدان فلم تعد إلى منافرتها، ولم تبعد من مضافرتها، فأماطت عقابيل السقم «2» ، وجذبت بأعقاب الداء العياء، وقد التقم فوجدت به الصحة، وقد عزّ لقياها، وطالت المدة وقد يئس من بقياها.

قال ابن أبي أصيبعة:" كان علاما بالطب، حسن المعالجة لطيف التدبير، فيلسوفا من المشار إليهم في العلم، متقنا للغة الهند، ولغة الفرس، وهو الذي نقل كتاب" شاناق" في السموم- إلى الفارسية، وكان في زمان الرشيد، وأتى العراق في أيامه، ثم عرف العربية فكان ينقل إليها. ومن أخبار الخلفاء أن الرشيد اعتلّ علّة صعبة لم يجد فيها طب الأطباء، فقال له أبو عمر الأعجمي: يا أمير المؤمنين!، بالهند طبيب يقال له: منكه هو أوحد عبّادهم وفلاسفتهم، فلو بعثت إليه لعلّ الله يهبك الشفاء على يده. فجهّز من وصله صلة تعينه على سفره، وحمله إليه، فعالجه فبرأ فأجرى عليه رزقا واسعا، وأموالا كافية، ثم بينما هو مارّ بالخلد «1» ، إذا هو برجل قد بسط كساءه وألقى عليه عقاقير كثيرة، وقام يصف دواء معجونا. فقال: هذا دواء لكذا وكذا، وعدّد أسقاما كثيرة، وأدواء مختلفة، حتى لم يدع عارضا إلا ذكر أن ذلك الدواء شفاؤه. فتبسّم منكة ثم قال: على كل حال ملك العرب جاهل، لأنه إن كان الأمر على ما يقول هذا فما الذي حمله على أن حملني من بلادي إليه، وأبعدني عن أهلي، وتكلّف الكثير من مؤونتي، وهو يجد هذا نصب عينيه، وإزاء ناظره؟. وإن كان على غير ما يقول فلم لا يقتله لأن الشريعة قد أباحت دم هذا ومن أشبهه لأنه إن قتل إنما هي نفس يحيا بموتها أنفس، وإن ترك وهذا الجهل قتل كل يوم أنفسا، وهذا فساد في الذهن، ووهن في الملك.

119 - صالح بن بهلة الهندي

ومنهم: 119- صالح بن بهلة الهندي «13» طبيب بيّن الانحراف والاعتدال، والصحة والاعتلال، حدس ما حدث، وبرّ وما حنث، اطّلع على كل سبب من الأسباب، وجمع بين طرفي الإيجاز والإسهاب، ورتّب لكلّ ذي سنّ ما يليق به من المداواة وما لا يطيق معرفته سواه، وشفع هذا بفضائل أخرى جتال بها فخرا، فحوى محاسن لا تعدّ كثره، ولا يزول لها أثره، وطالما حكيت عن طبّه عجائب ومحاسن ما فيها قول لعائب. قال ابن أبي أصيبعة:" كان من علماء الهند، خبيرا بالمعالجات التي لهم، وله قوة وإنذارات في تقدم المعرفة، وكان بالعراق على عهد الرشيد. قال يوسف الحاسب المعروف بابن الداية «1» ، عن مولى سلام الأبرش: أن مولاه حدّثه أن الموائد قدمت بين يدي الرشيد يوما، وابن بختيشوع غائب، فطلبه في كل مكان فلم يجده، فطفق يلعنه، وإذا به قد دخل والرشيد يلعنه، فقال: لو اشتغل أمير المؤمنين بالبكاء على ابن عمه إبراهيم بن صالح كان أشبه به من تناولي «2» . فقال له: وما خبره؟. فأعلمه أنه خلفه ومعه رمق ينقضي آخره وقت صلاة العتمة» .

فاشتدّ جزع الرشيد عليه، وأمر برفع الموائد. فقال جعفر بن يحيى: إن طبّ بختيشوع رومي، وطب ابن بهلة هندي؛ فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمر بإحضاره ليعرف ما عنده؟. فأمر بمصيره إليه، فجسّ عرقه، ثم قال: لا أخبر الخبر إلا أمير المؤمنين. فأخبر الرشيد، فأدخل عليه ابن بهلة، فلما مثل بين يديه قال: يا أمير المؤمنين! أنت الإمام وعاقد ألوية القضاء للحكام، ومهما حكمت به لم يجز لحاكم فسخه، ولا لمعقّب بعدك نسخه، وأنا أشهدك عليّ، وأشهد من حضرك أن إبراهيم بن صالح إن مات في هذه الليلة بل في هذه العلّة يكون كل مملوك لصالح بن بهلة حرّا لوجه الله، وكل دابّة له تكون حبسا «1» في سبيل الله، ويكون كل ما يملكه صدقة على الفقراء، وتكون كل امرأة له طالقا ثلاثا بتاتا. فقال الرشيد: حلفت ويلك! يا صالح على غيب. فقال صالح: كلا يا أمير المؤمنين!. إنما الغيب ما لا علم لأحد به، ولا دليل عليه، ولم أقل ما قلت إلا بدليل واضح، وعلامات بينة. قال: فسرّ الرشيد بقوله، وأحضر الطعام، فأكل وشرب، فلما كان وقت صلاة العتمة أتى الخبر بوفاة إبراهيم بن صالح!؛ فاستقبل الرشيد ورجع يلعن ابن بهلة وطب الهند، ثم بكّر إلى دار إبراهيم فأتى ابن بهلة فوقف بين يديه، فلم يناطقه إلى أن سطعت روائح المجامر وقد غسل إبراهيم وكفّن، فصاح به ابن بهلة عند ذلك: يا أمير المؤمنين! الله الله أن تحكم عليّ بطلاق زوجتي وخروجي من نعمتي، وتدفن ابن عمك حيا، فو الله ما مات!. فأطلق له الدخول عليه، والنظر إليه، ثم خرج وهو يكبّر، ثم قال: قم يا أمير المؤمنين حتى أريك عجبا. فقام معه، ثم أخرج ابن بهلة إبرة كانت معه، فأدخلها بين ظفر إبهام يد

إبراهيم اليسرى ولحمه، فجذب إبراهيم يده!، فقال ابن بهلة: يا أمير المؤمنين! هل يحسّ الميت بالوجع؟. فقال له: لا. فقال ابن بهلة: لو شئت أن أعده يكلم أمير المؤمنين الساعة لفعلت، ولكن أخاف إن عالجته وأفاق وهو في كفن فيه رائحة الحنوط أن ينصدع قلبه فيموت موتا حقيقيا، ولكن يأمر أمير المؤمنين بتجريده من الكفن، وردّه إلى المغتسل، وإعادة الغسل عليه حتى تزول رائحة الحنوط عنه، ثم يلبس مثل ثيابه التي كانت عليه، ويحوّل إلى فراش من فرشه التي كان يجلس عليها حت أعالجه، فيكلّمه من ساعته. فأمر بذلك، ففعل، ثم دعا ابن بهلة بكندس «1» ومنفحة، ونفخ الكندس في أنفه، فمكث قدر سدس ساعة ثم اضطرب جسده وعطس، وجلس قدّام الرشيد، وقبّل يده، فسأله الرشيد عن حاله؟ فذكر أنه كان نائما نوما لا يذكر أنه نام مثله قط طيبا، إلا أنه رأى في منامه كلبا عضّ إبهام يده اليسرى عضّة يجد وجعها، وأراه إبهامه الذي أدخل فيه الإبرة، وعاش بعد ذلك دهرا طويلا، ثم تزوّج بالعباسة بنت المهدي، وولي مصر وفلسطين، وتوفي بمصر وقبر بها.

أطباء الشام

أطبّاء الشّام

120 - أبو الفرج جرجس بن توما بن سهل بن إبراهيم اليبرودي

منهم: 120- أبو الفرج جرجس بن توما بن سهل بن إبراهيم اليبرودي «13» من النصارى اليعاقبة، رجل اهتم لسعادته، وتكلّم فأصاب فما خرج عن عادته، شكر بين الأطباء، وذكر ذكر الألبّاء، انتقل إلى الحاضرة «1» ، واشتغل بالمعالجة الحاضرة، وكان إذا دعي لتطبيب العلل طبّبها بما يقلّ لبثها، ويقلل بثّها «2» ، ويعجل للأجسام بإعادة صحتها، ويرخص لها ما يسام من عادة منحتها، فينهض من جدها العاثر، ويؤثر فيها ما يشاء الآثر، ولم يتعوّد طول العيادة، ولا غرابة الدواء خلاف العادة. قال ابن أبي أصيبعة:" كان فاضلا في صناعة الطب، عالما بأصولها وفروعها، معدودا من جملة الأكابر من أهلها، والمتميزين في أربابها، دائم الاشتغال، محبا للعلم، مؤثرا للفضيلة. حدّثني شرف الدين ابن عنين «3» - رحمه الله تعالى- أن اليبرودي كان لا يمل من الاشتغال ولا يسأم منه. قال: وكان أبدا في سائر أوقاته لا يوجد إلا ومعه كتاب ينظر فيه.

وحدّثني بعض النصارى بدمشق- وهو السني البعلبكي الطبيب- قال: كان مولد اليبرودي ومنشؤه بيبرود، وهي ضيعة كبيرة من صيدنايا، وبها نصارى كثيرون، وكان اليبرودي بها كسائر أهلها النصارى من معاناتهم الفلاحة، وما يصنعه الفلاحون، وكان أيضا يجمع الشيح «1» من نواحي دمشق القريبة من جهته، ويحمله على دابّة، ويأتي به إلى داخل دمشق يبيعه للذين يقدونه بالأفران وغيرها، وإنه لما كان في بعض المرّات وقد عبر من باب توما، ومعه حمل شيح، رأى شيخا من المتطبّبين وهو يفصد إنسانا قد حصل له رعاف شديد من الناحية المسامتة للموضع الذي ينبعث منه الدم، فوقف ينظر إليه وقال له: لم تفصد هذا ودمه يجري بأكثر مما يحتاج إليه؟. فعرفه أنه إنما فعله لينقطع عنه الدم الذي ينبعث من أنفه لكونه يجذبه إلى مسامتة الجهة التي ينبعث منها. فقال له: إذا كان الأمر هكذا فإننا في مواضعنا قد اعتدنا أنه متى كان نهر جار، وأردنا أن نقطع الماء عنه، فإنا نجعل له مسيلا إلى ناحية أخرى غير مسامتة، فينقطع من ذلك الموضع ويعود إلى الموضع الآخر. فأنت لم لا تفعل هكذا، وتفصده من الناحية الأخرى؟. ففعل ذلك وانقطع الرعاف عن الرجل، وقال ذلك الطبيب لليبرودي: لو أنك تشتغل بصناعة الطب جاء منك طبيب حاذق. فمال اليبرودي إلى قوله، وتاقت نفسه إلى العلم، وبقي متردّدا إلى الشيخ في أوقات وهو يعرفه، ويريه أشياء من المداواة، ثم إنه ترك يبرود وما كان يعانيه وأقام بدمشق يتعلّم أشياء من المداواة، وصناعة الطب، فلما تبصّر في أشياء

منها، وصارت له معرفة بالقوانين العلمية، حاول مداواة المرضى، ورأى اختلاف الأمراض وأسبابها، وعاماتها، وتيقّن علاجاتها، سأل عمّن هو إمام في وقته بمعرفة صناعة الطب جيدا؟. فذكروا له أنّ ببغداد أبا الفرج ابن الطيّب كاتب الجاثليق، وإنه فيلسوف متفنّن، وله خبرة وفضل في صناعة الطب، وفي غيرها من الصنائع الحكمية. فتأهّب للسفر، وأخذ سوارا كان لأمّه لينفقه، وتوجّه إلى بغداد، وصار ينفق عليه ما يقوم بأوده، ويشتغل على ابن الطيب إلى أن مهر في صناعته، وصارت له مباحثات جيدة، ودربة فاضلة في هذه الصناعة، واشتغل أيضا بشىء من المنطق والعلوم الحكمية، ثم عاد إلى دمشق وأقام بها. ونقلت هذه الحكاية المتقدمة أو قريبا منها، وإن كانت الرواية مختلفة عن شيخنا الحكيم مهذّب الدين أسعد بن إلياس ابن المطران، قال: حدّثني أبي، قال: حدثني أبو الفرج ابن الحديد، قال: كان بدمشق فاصدا يقال له: أبو الخير، ولم يكن من المهرة، وكان من أمره أنه فصد شابّا، فوقعت الفصدة في الشريان، فتحير وتبلّد، وطلب قطع الدم، فلم يقدر على ذلك، فاجتمع الناس عليه، ففي أثناء ذلك طلع صبيّ عليه وقال: يا عماه! افصده في اليد الأخرى!. فقال: شدّ الفصد الأول. فشدّه ووضع عليه لازوقا كان عنده، وشدّه. فوقف الدم وانقطع الجميع. ووجد الصبي بالسوق معه دابة عليها حمل شيح، فتشبّث به، وقال: من أين لك ما أعلمتني به؟. قال: إن أبي في وقت سقي الكرم إذا انفتح شق من النهر وخرج الماء منه بحدّة لا يقدر على إمساكه دون أن يفتح فتحا آخر ينقص منه الماء الأول الواصل

إلى ذلك الشق، ثم يسده بعد ذلك. قال: فمنعه الجرائحي من بيع الشيح واقتطعه، وعلّمه الطب، وكان منه اليبرودي، وهو من مشاهير الأطباء الفضلاء. وكان لليبرودي مراسلات إلى ابن رضوان بمصر، وإلى غيره من الأطباء المصريين، وله إليهم مسائل عدة طبية، ومباحث دقيقة، وكتب بخطه شيئا كثيرا من الطب، ولا سيما من كتب جالينوس، وشروحها، وجوامعها. وحدّثني السني البعلبكي: أن اليبرودي عبر يوما في سوق جيرون بدمشق «1» ، فرأى إنسانا وقد بايع على أن يأكل أرطالا من لحم الفرس مسلوقة، مما يباع في السوق، فلما رآه وقد أمعن في أكله بأكثر مما تحمله قوته، ثم شرب بعده فقاعا كثيرا «2» ، وماء بثلج، واضطربت أحواله، فتفرّس فيه أنه لا بدّ أن يغمى عليه، وأن يكون في حالة أقرب إلى الموت، إن لم يتلاحق، فتبعه إلى المنزل الذي له، واستشرف إلى ماذا يؤول أمره، فلم يكن إلا أيسر وقت وأهله يصيحون ويضجّون بالبكاء، ويزعمون أنه قد مات فأتى إليهم، وقال: أنا أبريه، وما عليه بأس. ثم إنه أخذه إلى حمّام قريب من ذلك، وفتح فكيه كرها، ثم سكب في حلقه ماء حارا، وقد أضاف إليه أدوية مقوية للقيء، وقيّأه برفق، ثم عاله، وتلطّف في مداواته حتى أفاق وعاد إلى صحته، فتعجّب الناس منه في ذلك الفعل، وحسن تأنّيه إلى مداواة ذلك الرجل، واشتهرت عنه هذه القضية، وتميّز بعدها.

وهذه الحكاية التي قصد اليبرودي أن يتتبّع أحوال الرجل فيها، ويشاهد ما يكون من أمره أن يكون عنده معرفة بالأعراض التي تحدث له، وأن ينقذه أيضا مما وقع فيه إن أمكنه معالجته. ومثل ذلك أيضا ما حكاه أبو جعفر أحمد بن محمد بن الأشعث في كتاب" الغاذي والمغتذي" وذلك أنه قال: إن إنسانا رأيته يوما وقد بايع أن يأكل جزر قدّره بحدّ ما، فحضرت أكله لأرى ما يكون من حاله لا رغبة مني لمجالسة من هذه حاله، ولا لي بذلك عادة والحمد لله، بل لأرى إيراد الغذاء على المعدة قسرا إلى ماذا يكون هذا الفعل، فرأيته يأكل من حائط ليري من حوله ويضاحكهم، حتى إذا مرّ على الكثير مما كان بين يديه، فرأيت الجزر ممضوغا قد خرج من حلقه، ملتفا، متحبلا، متعجبنا بريقه، وقد جحظت عيناه، وانقطع نفسه، واحمرّ لونه، ودرّت أوداجه وعروق رأسه، وأزبد، وكمد وجهه، وعرض له من التهوّع «1» أكثر مما عرض له من القذف، حتى رمى من ذلك الذي أكله شيئا كثيرا، فركنت «2» أن انقطاع نفسه لدفع المعدة حجابه إلى نحو الفم، ومنعها إياه من الرجوع إلى الانبساط إلى النفس، وأما ما عرض إلى لونه من الاحمرار، ودرور وداجيه وعروقه، فزكنت «3» أنه لإقبال الطبيعة نحو رأسه، كما يعرض لمن شدّ يده للفصد، أن تقبل الطبيعة نحو الجهة التي استنهضت نحوها.

فأما ما عرض لوجهه من الاربداد «1» والكهوبة «2» ، فرأيت أيضا أنه لسوء مزاج قلبه، وأنه لو لم يخرج ما خرج، ودافعت المعدة حجابه هذه المدافعة التي قد عاقته آلته من التنفس، عرض له الموت بالاختناق، كما قد رأينا ذلك في عدد كثير ماتوا بعقب القذف، فزكنت من ذلك أن التهوّع لشدة اضطراب في ذلك الفصل، وحسن تأتيه، ونقي المعدة. قال ابن أبي الأشعث بعد ذلك: إن الغذاء إذا حصل في المعدة وهو كثير الكمية تمدّدت تمدّدا يبسط سائر غضونها، كما رأيت ذلك في سبع شرّحته حيا بحضرة الأمير الغضنفر، وقد استصغر بعض الحاضرين معدته، فتقدمت بصب الماء في فيه، فما زلنا نصب الماء في حلقه دورقا «3» بعد أخرى، حتى عددنا من الدواريق عددا كان مقدار ما حوت معدته نحو أربعين رطلا ماء، فنظرت إذ ذاك إلى الطبقة الداخلة وقد امتدت حتى صارت له سطحا مستويا ليس بدون استواء الخارج، ثم شققتها، فعندما اجتمعت عند خروج الماء منها عاد غضون الداخلة والبواب يشهد الله في جميع ذلك، لا يرسل نفسه. وحدثني الشيخ مهذّب الدين عبد الرحيم بن علي قال: حدثني موفق الدين ابن أسعد بن إلياس ابن المطران قال: حدثني أبي عن خالي أبي الفرج بن حيان، قال: حدثني أبو الكرم الطبيب قال: كنت يوما أساير الشيخ أبا الفرج اليبرودي،

إذ اعترضه رجل فقال: يا سيدي!، كنت في صناعتي هذه في الحمام، وحلقت رأسي، وأجد الآن في وجهي كله انتفاخا وحرارة عظيمة. قال: فنظرنا إلى وجهه يربو وينتفخ، وتزيد حمرته بغير توقف ولا تدريج. قال: فأمره أن يكشف رأسه ويلقى به الماء الجاري من قناة كانت بين يديه، وكان الزمان إذ ذاك صميم الشتاء، وغاية البرد، ثم لم يزل واقفا حتى بلغ ما أراد مما أمر به، ثم أمر الرجل بالانصراف، وأشار إليه بالأوفق، وهو تلطيف التدبير واستعمال النقوع الحامض مبردا، وقطع الزّفر، قال: فامتنع أن يحدث له شرّ ما. وقال الطرطوشي في كتاب" سراج الملوك" «1» : حدثني بعض الشاميّين، أن رجلا خبازا بينما هو يخبز في تنّوره بدمشق، إذ عبر عليه رجل يبيع المشمش، فاشترى منه، وجعل يأكله بالخبز الحار. فلما فرغ سقط مغشيا عليه، فنظروا، فإذا هو ميت!؛ فجعلوا يتربصون به، ويحملون له الأطباء، فيلتمسون دلائله، ومواضع الحياة منه، فلم يجدوا؛ فقضوا بموته، فغسل وكفّن، وصلّي عليه، وخرجوا به إلى الجبانة، فبينما هم في الطريق على باب البلد إذ استقبلهم رجل طبيب يقال له اليبرودي، وكان طبيبا ماهرا حاذقا، فاضلا عارفا بالطب، فسمع الناس يلهجون بقضيته، فقال: حطّوه حتى أراه!. فوضعوه، فجعل يقلبه، وينظر في أمارات الحياة التي يعرفها، ثم فتح فمه وسقاه شيئا، أو قال: حقنه، فاندفع هناك، فإذا الرجل قد فتح عينيه، وتكلم، وعاد إلى حانوته كما كان!!. وحدّثني الشيخ مهذّب الدين عبد الرحيم بن علي عن موفق الدين أسعد بن

121 - ظافر بن جابر السكري أبو حكيم

إلياس بن المطران قال: حدثني أبي قال: حدثني عبد الله بن رجاء بن يعقوب، قال: بلغني أن أبا الفرج جرجس بن يوحنا أن اليبرودي لما توفي ظهر في تركته ثلاث مائة مقطع رومي، وخمس مائة قطعة فضة، ألطفها ثلاث مائة درهم. قال موفق الدين بن المطران: وليس ذلك بكثير، لأن الشخص متى تحقّقت أعماله، وصفت نيته، وطلب الحق، وعامل بالصحيح، واجتهد في معرفة صناعته، كان حقا على الله أن يرزقه، ومتى كان بالضد عاش فقيرا، ومات بائسا «1» . ومنهم: 121- ظافر بن جابر السكري أبو حكيم «13» حظيّ كان معانده يتلظّى، وحاسده يتشظّى «2» ، نهض للطلب أول ما قام على ساق، وتم لهلاله اتّساق، ولم يملّ سعيا ولا أخلّ وعيا، ولا خلّى زمانه سقيا له ورعيا، حتى شذا من كل علم يتعلمه منه طرفا، وخلف من كان يتقدّمه وراء القفا، فصفت مناهله، وصمت مباهله «3» ، ولم يستتم غصنه الورق، ولا اشتدّ

122 - أبو الحكم عبيد الله بن المظفر بن عبد الله الباهلي

مجلسه بالكلبة وانتطق، حتى عدّ من العلامات، وتأكّدت الأسباب له بالعلامات. قال ابن أبي أصيبعة:" كان مسلما فاضلا في الصناعة الطبية، متقنا للعلوم الحكمية، متحليا بالفضائل وعلم الأدب، محبا في الاشتغال والتطلّع في العلوم، وكان قد لقي أبا الفرج ابن الطيّب ببغداد، واجتمع به واشتغل عليه، ومعه، وكان ظافر بن جابر موجودا في سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة، وهو موصلي، وإنما انتقل من الموصل إلى مدينة حلب، وأقام بها إلى آخر عمره. ومن شعره: [الكامل] ما زلت أعلم أولا في أول ... حتى علمت بأنني لا علم لي ومن العجائب أن أكون جاهلا ... من حيث كوني أنني لا أجهل ومنهم: 122- أبو الحكم عبيد الله بن المظفر بن عبد الله الباهلي «13» أبو الحكم، وأخو الحكم. علم الفضلاء، وعصم أهل الولاء، إلا أنه كان للأعداء سماما، وللإعداء

هماما، وكان كثيرا ما يهيج للمباهلة، ويهاجى ولا يخاف، ونسبه من باهلة. أتى دمشق فرتع في جنانها، وغاص في غياض أفنانها، وبات قري جفونها المراض وجفانها، وآب إلى أندية سيادتها، فأناخ في ذلك الذرى واستطاب المناخ والقرا. قال ابن أبي أصيبعة:" كان فاضلا في الحكمة والطب، معتنيا بالأدب، كثير المجون، محبا للشراب، فإذا طرب خرج في بابة «1» الخيال، وكان يضرب بالعود، وله مدائح في أبق «2» ، وبني الصوفي، وكان يهاجي الشعراء، وفي هجائه يقول عرقلة «3» : [السريع] لنا طبيب شاعر أشتر «4» ... أراحنا من شخصه الله ما عاد في صبحة يوم فتى ... إلا وفي باقيه رثاه ومن شعره قوله [الوافر] ألا يا من لصبّ مستهمام ... معنّى لا يفيق من الغرام وكيف يفيق محزون كئيب ... أضرّ بجسمه طول السقام؟! وقوله: [المنسرح] ويح المحبّين ليت لا خلقوا ... ما برحوا في العذاب مذ عشقوا ولا رجوا راحة ولا فرحا ... إلا وسدّت عليهم الطرق

123 - ابنه: أبو المجد [محمد] بن أبي الحكم؛ أفضل الدولة

ومنهم: 123- ابنه: أبو المجد [محمد] بن أبي الحكم؛ أفضل الدولة «13» متقن لكل رياضي، وممعن في كل سماء وأرضي. رمى كل أفق بنظره، وغلب كل شارق بنيره، وخلّف وراءه الأقران، وألقى في ذروة السؤدد الجران «1» . والتفت إليه السلطان بوجه الإقبال، وحباه حتى أمن الإقلال، فتأخّر نظراؤه، وتقدّم إماما، وردّ نوءهم وسحّ غماما، وجدّل ذوي الجدال إذ جدّ اهتماما. قال ابن أبي أصيبعة:" من الحكماء المشهورين، والعلماء المذكورين، والأفاضل في الطب، والهندسة، والنجوم، والموسيقى. ويجيد الغناء والإيقاع، والزمر، وسائر الآلات، وعمل الأرغن، وبالغ في إتقانه، وكان العادل نور الدين محمود زنكي يرى له ويحترمه، وجعل له الأمر في مارستانه بدمشق، وكان يقرأ عليه الطب في إيوان المارستان «2» ، وتقدّم في زمانه".

124 - ابن البذوخ: أبو جعفر بن موسى بن علي القلعي

ومنهم: 124- ابن البذوخ: أبو جعفر بن موسى بن علي القلعي «13» كان من أعلام أهل الفضائل، وأواخر من لحقه السلف من الأوائل، جنى بيده الأدوية وركّبها، وعرف مقادير رتبها ورتّبها، إلى سوى هذا مما قضى فيه أيام عمره، وذهب وقد أبقى للناس من ثمره، وكان كأنه ما مات، ولا أكلت أنواره الظلمات، ومضى وهذا أثره، وبقي ذباب «1» السيف وهو أكثره. قال ابن أبي أصيبعة:" كان عارفا بالأدوية المفردة والمركبة، وله حواش على كتاب" القانون" «2» ، وله اعتناء بعلم الحديث، والشعر، وعمّر عمرا طويلا، وضعف عن الحركة، ثم عمي في آخر عمره بماء نزل في عينيه".

125 - حكيم الزمان أبو الفضل عبد المنعم بن عمر بن عبد الله بن حسان الغساني الجلياني

ومنهم: 125- حكيم الزمان أبو الفضل عبد المنعم بن عمر بن عبد الله بن حسان الغساني الجلياني «13» حسنة من إحسان، وبقية من آل غسان، طلع من المغرب، وسمع منه المطرب، ولا عجب أن سمي حكيم الزمان، ولقط منه نظيم. وتلقّته الملوك واصطفته، وناصفته في مجالسها وأنصفته، ومذ أنس بفطنه لم يستوحش لوطنه، ولا ظهر عليه قشف «1» البين، ولا عرف له في بشر إلا حسن أثر وعين. قال ابن أبي أصيبعة:" كان علامة زمانه في الطب والكحل، بارعا في الأدب والشعر، أتى من الأندلس إلى الشام، وأقام بدمشق، وعمّر عمرا طويلا، وله في السلطان صلاح الدين مدايح كثيرة، وصنّف له كتبا، وكان له منه الإحسان الجزيل، والإنعام الكثير. ثم خدم بصناعة الكحل الملك الأشرف أبا الفتح موسى بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب، وتوفي بالرّها سنة نيف وعشرين وستمائة. ومن شعره قوله [الطويل]

126 - المهذب ابن النقاش

على فرط شوقي تستقل الركائب ... وعن صون دمعي تستهلّ السحائب وما البرق إلا من حنيني نابض ... وما الرعد إلا من أنيني نادب نأيتم فلا صبر من القلب حاضر ... لديّ ولا قلب عن الذكر غائب فيا ليت شعري بعدنا من صحبتم ... فما بعدكم غير الهوى لي صاحب وقوله [البسيط] قالوا نرى نفرا عند الملوك سموا ... وما لهم همة تسمو ولا ورع قد يكرم القرد إعجابا بخسّته ... وقد يهان لفرط النخوة السّبع ومنهم: 126- المهذّب ابن النقاش «13» أبو الحسن علي بن عيسى بن هبة الله. طبيب لو أخذ عن جالينوس لأتاه العلم بمنصوصه، أو لزم ابن سيناء لأقبل عليه على خصوصه، أو سبق ابن عربي لاستبقى بقية من نقشه لفصوصه «1» .

وكان لا يقصر في طلب، ولا يقص النسر له جناحا إذا طلع أو غرّب، فلم يلمّ به ملل، ولا كان له في العلم أمل. قال ابن أبي أصيبعة:" كان مولده ومنشؤه ببغداد، وكان عالما بالعربية والأدب، وقرأ الطب على- أمين الدولة- ابن التلميذ، ولازمه مدة، واشتغل بعلم الحديث على ابن الحصين «1» ، وحدث معه، وسمع منه القاضي عمر بن القرشي «2» . وقال الأصفهاني في الخريدة: أنشدني مهذب الدين ابن النقاش لوالده: [المتقارب] إذا وجد الشيخ في نفسه ... نشاطا فذلك موت خفي ألست ترى أن ضوء السراج ... له لهب عند ما ينطفي؟! قال ابن أبي أصيبعة:" لما وصل المهذب ابن النقاش إلى دمشق، دبّ بها، وكان له مجلس عامّ للمشتغلين عليه، ثم توجه إلى مصر، وأقام بالقاهرة مدة، ثم رجع إلى دمشق وخدم نور الدين- أي الشهيد- بالطب، وكان له منه إحسان، وتوفي يوم السبت ثاني عشر المحرم سنة أربع وسبعين وخمسمائة، ودفن بجبل قاسيون.

127 - سكرة اليهودي الحلبي

ومنهم: 127- سكرة اليهودي الحلبي «13» حكيم فضائله غير منكرة، وطبيب حلا وصفه فقيل سكّره، وكانت له همم تواتيه، وله شمم ما خرج به من التيه، انقاد له الحظ، وأتاه بأدنى فكرة ولفظ، وأنجبت له ذرّيّة أسلموا بعده وسلّموا ولايات عدة، وذلك بعد أن رفع عليهم علم الإسلام، ودان لهم قلم الكتابة بسلام. قال ابن أبي أصيبعة:" كان له دربة بالعلاج، وتصرّف في المداواة. حكي أنه كان لنور الدين بقلعة حلب حظيّة يميل إليها، فمرضت مرضة أعيت على الأطباء، فأحضر إليها سكّرة الحكيم، فوجدها قليلة الأكل، متغيرة المزاج، فسألها عن جنسها؟ فأخبرته بأنها علّانية «1» ، ثم سألها عما كانت تأكل في بلادهم؟. فقالت: لحم البقر. فسألها عما كانت تشرب؟. فقالت: الخمر. فقال لها: أبشري بالعافية. ثم ذهب فاشترى عجلا وسلق من لحمه، ثم عمل معه شيئا من لبن وثوم، وأخذ معه خمرا، وأتى به إليها، فأطعمها، وأكلت منه بنهمة كبيرة، ثم سقاها، فطلبت النوم، فنامت وغطيت بدثار، فعرقت عرقا كثيرا، وأصبحت في عافية، ولازمها بمثل ما عالجها به، حتى برئت، فبعثت إليه بصينية مملوءة من الحلي، ثم كتبت إلى نور الدين تعلمه بعجز الأطباء عنها، وإن عافيتها كانت على يده. فلما قرأ الكتاب، طلبه وعرّفه بما قالت، ثم منّاه، فسأله

128 - أسعد بن [إلياس بن جرجس - موفق الدين] ابن المطران

عشرة أفدنة في قريتي" صمع، وعيدان"؛ فكتبها له ملكا ثم عاد إلى حلب، وكثرت أمواله، ولم يزل في نعمة طائلة هو وبنوه. ومنهم: 128- أسعد بن [إلياس بن جرجس- موفق الدين] «1» ابن المطران «13» طبيب على نصرانيته «2» وتدينه بدنيّته، قد تحلّى بمحاسن الشيم، وحلّ الغاية لولا الشمم، ودنا من الملوك مجلسا، وترك حاسده المضنوك مبلسا، وأطالت النعم رياشه، ونفضت على فائض النوء رشاشه، وأثري بالحضرة الصلاحية «3» حتى ابتلّ عوده في الثرى، وشمخ هرم ماله إلى الذرا، وكان على هذا الوفر والحظ الذي ما ذهّب بمثله سفر، يتجنّى على السلطان والذنب ذنبه، ويتناوم عليه ولا يهدأ جنبه. قال ابن أبي أصيبعة «4» :" كان للسلطان صلاح الدين- رحمه الله تعالى-

فيه اعتقاد، وأسلم في أيامه، وكان يغلب على ابن المطران الكبرياء، حتى على الملوك، وكان يعلم صلاح الدين ذلك منه. حكى عنه من كان معه في بعض غزواته أن صلاح الدين كان ينصب له في أوقات حروبه خيمة حمراء، بدهليز أحمر، وميضأة حمراء؛ فبينا هو راكب وإذا به قد نظر إلى خيمة حمراء ظنّها خيمته؛ فسأل: لمن هي؟. فقيل له: لابن المطران الطبيب. فضحك وقال: والله قد عرفت هذا من حماقته. ثم قال: ما بنا إلا أن يعبر أحد من الرسل، فيعتقد أنها خيمة أحد الملوك، وإذا كان لا بد، فليغير ميضأتها. فصعب هذا على ابن المطران، وبقي يومين لا يأتي الخدمة حتى ترضّاه صلاح الدين، وأعطاه مالا". وشكا أبو الفرج النظروي الطبيب إلى صلاح الدين ضرره ببنات له يريد تجهيزهنّ. فأمره أن يكتب ورقة بما يحتاج إليه، فكتب شيئا بنحو ثلاثين ألف درهم، فأمر له بما تضمّنته ورقته، فبلغ ذلك ابن المطران، فقصر في الخدمة، وتبين لصلاح الدين هذا من تغير وجهه، فأمر بأن يحسب جملة ثمن ما اشترى به جهاز بنات أبي الفرج، ويعطى ابن المطران نظيره. وحكى المهذب عبد الرحيم بن علي أن أسد الدين شير كوه صاحب حمص طلب ابن المطران، قال: فتوجّه وأنا معه، فبينما نحن في بعض الطريق، وإذا رجل مجذوم قد استقبله، وكان المرض قد قوي به حتى تغيرت خلقته، وتشوّهت صورته، فاستوصف منه ما يتناوله، ويتداوى به، فبقي كالمتبرّم به، ثم قال له: كل لحوم الأفاعي، فعاوده، فقال: كل لحوم الأفاعي، فإنك تبرأ، يكررها عليه، ثم مضينا إلى حمص، وأقمنا بها نعالج المريض الذي طلب لأجله، إلى أن صلح،

129 - ابن اللبودي: يحيى بن محمد بن عبدان بن عبد الواحد

ثم رجعنا فلما كنا في الطريق وإذا شابّ حسن الصورة، كامل الصحة، قد سلّم عليه، وقبّل يده، فقال له: من أنت؟. فقال له: أنا صاحب ذلك المرض الذي كنت شكوت إليك، وإنني استعملت ما وصفت لي، فصلحت من غير أن أحتاج معه إلى دواء آخر. وتوفي ابن المطران في ربيع الأول سنة تسع وخمسمائة، بدمشق «1» . ومنهم: 129- ابن اللبّودي: يحيى بن محمد بن عبدان بن عبد الواحد «13» الصاحب نجم الدين، أبو زكريا. مشيّد بيت، ومحيي فضل غير ميت، وإلى الآن بقيته، وكان وما هانت بليته. وترقّى إلى أن وزر، واتّشح برداء الكبرياء واتّزر، إلا أنه لدى ملك لم يفخر لديه خديم ولا أثرى بندى يديه عديم، لضيق نطاقه، وعدم رواج الفضل عنده ونفاقه، لصغر بلده، وقلّة ذات يده.

قال ابن أبي أصيبعة:" أوحد في الطب، قدوة في الحكم، مفرط الذكاء، فصيح اللفظ، شديد الحرص في العلوم، متقن في الآداب، فما يدانيه في شعره لبيد، ولا في ترسّله عبد الحميد «1» . [الطويل] ولما رأيت الناس دون محلّه ... تيقّنت أن الدهر للناس ناقد «2» مولده بحلب سنة سبع وستمائة، وأتى دمشق وقرأ على المهذب عبد الرحيم، وخدم المنصور إبراهيم صاحب حمص، وكان يعتمد عليه، وأحواله تزداد لديه حتى استوزره واعتمد عليه بكليّته، فلما توفي المنصور بعد كسره الخوارزميّة «3» ، توجّه إلى الخدمة الصالحية النجميّة «4» بمصر، فأكرم وجعل له كل شهر ثلاثة آلاف درهم، وبقي على ذلك مدة، ثم وجه إلى الشام ناظرا على الديوان، بجميع الممالك الشامية". وله نثر؛ منه قوله وقف الخادم على المشرفة الكريمة:" أدام الله نعمة المنعم بما

أودعها من النعم الجسام، واقتضته من الأريحية «1» التي أربى فيها على كل من تقدّمه من الكرام، وأبان فيها عما يقضي على الخادم بالاسترقاق، وللدولة- خلّدها الله تعالى- بمزايا الاستحقاق، وكلما أشار المولى إليه هو كما نص عليه، لكنه يعلم بسعادته أن الفرض تمر مرّ السحاب، [وأن الأمور المعينة في الأوقات المحدودة تحتاج إلى تلافي الأسباب] «2» ، وقد ضاق الوقت بحيث لا يحتمل التأخير، والمولى يعلم أن المصلحة تقديم النظر في هذا المهم على جميع أنواع التدبير. وما الخادم مع المولى في هذا إلا كسهم: والمولى مسدّده، والسيف: والمولى مجرّده، فالله الله في العجلة، والبدار البدار، فقد ظهرت مخايل السعادة والانتصار، والحذر الحذر من التأخير والإهمال، فيفوت- والعياذ بالله- الأوقات التي ترجو فيها بلوغ الآمال، والمسؤول من كرم الله تعالى أن ينهض المملوك في خدمة السلطان بما يبيّض وجه أمله، ويكون ذلك على يد المولى وبقوله وعمله". ومن شعره قوله يمدح سيدنا- على نبينا وعليه الصلاة والسلام-: [الكامل] هذي المهابة والجلال الهائل ... بهرا، فماذا أن يقول القائل؟ وبك اقتدى جلّ النبيين الألى ... ولديك أضحت حجة ودلائل أظهرت إبراهيم أعلام الهدى ... والخير والمعروف جودك عامل شيدت أركان الشريعة معلنا ... ومقرّرا أن الإله الفاعل ما زلت تنقل للنبوة سرها ... حتى غدا بمحمد هو واصل وقد التجأت إلى جنابك خاضعا ... متوسّلا وأنا الفقير السائل

130 - الرضي الرحبي، يوسف بن حيدرة بن الحسن أبو الحجاج

ومنهم: 130- الرضي الرحبي، يوسف بن حيدرة بن الحسن أبو الحجاج «13» حكيم لو استجارت به الأرواح لكلأها، أو أملى المسامع لملأها، كم شكيت إليه الأسقام فأبرأها، وتواثبت الأيام فردّ أجرأها، مذ وكّلت به رعاية الأبدان حرست، ومذ أترست به الأعضاء رأست. شدّ البناء وشدّد الأبناء، فقامت به الأجسام، وكانت تئن سقما، وتدافع ضعفا فتح لها فمه ملتقما، فتمّت به محاسن الوجوه الوسام، وترضى الأرواح للأجسام فخصّ بالحباء «1» وزيادة الاحتباء، فأقبل المال يتدفّق عليه تدفّق السيل، ويفيض عنده على الميزان والكيل. قال ابن أبي أصيبعة فيه:" من الأكابر في صناعة الطب، والمتقدّمين من أهلها، وله الذكر الشائع، ولم يزل مبجّلا عند الملوك. وكان عالي الهمّة كبير النفس، كثير التحقيق، شديد الاجتهاد في مداواة المرضى، ما عرف منه أنه آذى أحدا، ولا تكلّم فيه بسوء. وكان لابنه نظر في الطب، إلا أن صناعة الكحل

كانت أغلب عليه، وبها عرف، وولد ابنه الرضي بالجزيرة في جمادى الأولى سنة أربع وثلاثين وخمسمائة، ونشأ بها، وأقام بنصيبين، ثم الرحبة، ثم سافر إلى بغداد وغيرها، واشتغل في علم الطب، وتميز فيه، ثم أتى مصر واجتمع بالموفق بن جميع المصري، وانتفع به، وكان قدومه دمشق في الأيام النورية، فرأى ابن النقاش وأخذ عنه، ولزمه، فنوّه بذكره، وقدر له بالمثول الحضرة الصلاحية، فحسن موقعه إليها، ورتب في المارستان النوري، وأطلق له إدرار سلطاني ودام إلى أيام المعظم، وأشغل خلقا كثيرا صاروا شيوخ إقراء، حتى كان لو اعتبر أطباء الشام لم يوجد منهم إلا من قرأ عليه أو على من قرأ عليه. وممن قرأ عليه" المهذب": عبد الرحيم بن علي، وكان لا يرى أن يقرئ ذميا ولا عادم أهلية. وكان يلازم في طبه قوانين حفظ الصحة الموجودة، وكان يتوقى صعود السلالم، ويقول: السلم منشار العمر. ومن نوادره في طبه: أن ابن مرزوق ذكر أن الصاحب ابن شكر كان يلازم أكل الدجاج، فلحقه شحوب، فشكاه إلى الأطباء، فوصفوا له أنواعا من الأشربة وغيرها، فلما شكا إلى الرحبي قال: يحضر الجواب، ثم نهض فأحضر له قطعة من صدر دجاجة، وقطعة حمراء من لحم ضأن، ثم قال له: أنت تلازم أكل لحم الدجاج، فلا يأتي الدم المتولّد منه إلا شبهه، ولو أكلت من لحم الضأن لأتى الدم المتولد منه يشبهه، فاترك لحم الدجاج، ولازم لحم الضأن، وما تحتاج إلى علاج. ففعل ذلك، فزال شحوبه، وصلح لونه. وتوفي يوم عاشوراء سنة إحدى وثلاثين وستمائة، ودفن بقاسيون.

131 - الشرف علي شرف الدين أبو الحسن

ومنهم ابنه: 131- الشرف علي شرف الدين أبو الحسن «13» حكيم أينع في جرثومة «1» الطبّ عذقه «2» ، وصحّ في نظر المستطب حذقه، لم تخط تجاربه، ولم تخف مآربه، أحسن طبّه علاج الأمراض، وقوّم مزاج الأعراض، وعرف منه ما لم يخف على أحد، ولا عرف أن أحدا له جحد، وكان طبه شافيا للأسقام، وكافيا في الداء العقام، ولم تمسّ يده مريضا إلا مسح بيده سقمه، وسلّه من قم دائه الذي التقمه، فكان لهذا يرغب في تطبيبه، ويرى من استطب غيره سقامه من طبيبه. قال ابن أبي أصيبعة فيه:" سلك حذو أبيه، واقتفى ما كان يقتفيه، وأشبهه خلقا وخلقا، وطريقة وحذقا، ولم يزل منذ نشأ متوفرا على قراءة الكتب وتحصيلها، ونفسه تشرئبّ إلى طلب جمل الفضائل وتفصيلها. قرأ على أبيه، وعلى الموفق عبد اللطيف البغدادي، وأخذ عن السّخاوي

وغيره، وأجاد إتقان الأدب، وكان يحب التخلي للقراءة والدرس، والاطلاع على آثار القدماء، والانتفاع بتصانيف الحكماء. ولد بدمشق سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة. وحكي أنه قبل مرض موته بمدة كان يخبر أنه بعد قليل يموت، ويقول: وذلك عند قران الكوكبين، ثم يقول: قولوا هذا للناس حتى يعرفوا مقدار علمي في حياتي، وفي وقت موتي، فكان كما قال. وتوفي بذات الجنب «1» ، حادي عشر المحرم، سنة سبع وستين وست مائة. ودفن بقاسيون. ومن شعره قوله: [الطويل] سهام المنايا في الورى ليس تمنع ... فكل له يوما- وإن عاش- مصرع فقل للذي قد عاش بعد قرينه ... إلى مثلها عما قليل ستدفع فتبا لدنيا ما تزال تعلّنا ... أفاويق كأس مرّة ليس تقنع أفق وانظر الدنيا بعين بصيرة ... تجد كل ما فيها ودائع رجّع وقوله: [الطويل] تساق بنو الدنيا إلى الحتف سرعة ... ولا يشعر الباقي بحالة من يمضي كأنهم الأنعام في جهل بعضها ... بما تم من سفك الدماء على بعض

132 - عمران [بن صدقة] الإسرائيلي

ومنهم: 132- عمران [بن صدقة] الإسرائيلي «13» واسم أبيه: صدقة، ويلقّب بالأوحد. حكيم حكم له على نظرائه، وحتم بصواب آرائه، لنظر كان له أثقب من نظر الغراب، وأحدّ من السيف عند الضراب، حتى ظهر ظهور الشمس، واشتهر اشتهار ما كان في أمس، فاستدعته الملوك إلى مجالسها، وأدنته إدناء مجالسها، فأخذ منها بحظ أزلف له الغدف «1» ، وأشرف له على أبعد مشترف، وقدّمه لديهم لفضل طار به محلّقا، وأطال باعه محقّقا، وعرف بحسن التدريب، وصحة التجريب، فأجزلت له الجوائز حتى كان يأخذها آلافا، ويعجل لها إتلافا وإخلافا، وهلك بعد السرف، وكثرة ما صرف، وأمواله قد زادت على القياس. قال ابن أبي أصيبعة:" كان أبوه طبيبا مشهورا، واشتغل هو على الرضي الرحبي، وتميّز في الطب، وحظي عند الملوك، واعتمدوا عليه في المداواة والمعالجة، ونال من جهتهم الأموال الجسيمة والنعم ما يفوق الوصف، وحصّل من الكتب الطبية وغيرها ما لا يكاد يوجد عند غيره، ولم يخدم عند أحد من الملوك في الصحبة، ولا تقيّد معهم في سفر، وإنما كان كل منهم إذا عرض له مرض أو لم يعز عليه طلبه، ولم يزل يعالجه ويطبّبه بألطف علاج وأحسن تدبير إلى أن يفرغ من مداواته، ولقد حرص به الملك العادل أبو بكر بن أيوب بأن

يستخدمه في الصحبة فأبى، وكذلك غيره من الملوك. وحدّثني الأمير صارم الدين التبنيني رحمه الله: أنه لما كان بالكرك وصاحبه الملك الناصر داود بن الملك المعظم، وكان الملك الناصر قد توعّك «1» مزاجه، واستدعى الحكيم عمران إليه من دمشق، فأقام عنده مديدة، وعالجه، حتى صلح، فخلع عليه، ووهب له مالا كثيرا، ورتب له جامكية «2» في كل شهر ألف وخمسمائة درهم ناصرية، ويكون في خدمته، وأن يسلف منها عن سنة ونصف: سبعة وعشرين ألف درهم. أقول «3» : وكان السلطان الملك العادل لا يزال يصله بالأنعام الكثير، وله منه الجامكية الوافرة، والجراية، وهو مقيم بدمشق، ويتردّد إلى خدمة الدور السلطانية، والقلعة، وكذلك في أيام الملك المعظم، وكان قد أطلق له أيضا جامكية وجراية تصل إليه، ويتردّد إلى البيمارستان الكبير، ويعالج المرضى به، وكان به أيضا في ذلك الوقت شيخنا مهذّب الدين عبد الرحيم بن علي رحمه الله، وكان يظهر من اجتماعهما كل فضيلة ويتهيّأ للمرضى من المداواة كل خير، وكنت في ذلك الوقت أتدرب معهما في أعمال الطب، ولقد رأيت من حسن تأتّي عمران في المعالجة وتحقيقه للأمراض ما يتعجّب منه، ومن ذلك أنه كان يوما قد أتى إلى البيمارستان وبه مفلوج، والأطباء قد ألحّوا عليه باستعمال المغالي وغيرها من صفاتهم، فلما رآه وصف له في ذلك اليوم تدبيرا يستعمله، ثم بعد ذلك أمر بفصده، ولما فصد، وعالجه، صلح وبرئ برءا تامّا، وكذلك

133 -[موفق الدين] يعقوب بن صقلاب النصراني

رأيت له أشياء كثيرة من صفات مزاوير، وألوان كان يصفها للمرضى على سبيل شهواتهم، ولا يخرج عن مقتضى المداواة، فينتفعون بها، وهذا باب عظيم في العلاج، ورأيته أيضا وقد عالج أمراضا كثيرة مزمنة، كان أصحابها قد سئموا الحياة، ويئس الأطبّاء من برئهم، فبرؤوا على يديه، بأدوية غريبة يصفها، ومعالجات بديعة قد عرفها، وقد ذكرت من ذلك جملا في كتاب" التجارب والفوائد". توفي الحكيم المذكور في مدينة حمص، في جمادى الأولى سنة سبع وثلاثين وست مائة، وقد استدعاه صاحبها لمداواته. ومنهم: 133-[موفق الدين] يعقوب بن صقلاب النصراني «13» حكيم أطاح طبه رداء السقم، وأطار عن الأعضاء لوثة السأم، فقامت به الأجسام كأنما نشطت من عقال، أو حودثت بعد صدأ الأسقام بصقال، فحظي عند الملوك حظوة زادت في أنسه، وقضى بها يعقوبه حاجة كانت في نفسه. هذا إلى علم بصناعة الطب حفظت له فيه دروس، ونشأت له به غروس، وكان كأنما خلق من طينة أفلاطون، وجالس جالينوس، حتى اخترمته المنون. قال ابن أبي أصيبعة:" كان أعلم أهل زمانه بكتب جالينوس ومعرفتها، دائم الاستحضار لها، كأنها مصورة بين عينيه، لا ينقل إلا عنه، وكان يشرح كتب أبقراط، ويورد نص ما قاله جالينوس في شرحه، وكان يجتمع هو والمهذب عبد الرحيم بدمشق، بدار السلطان، ويجري بينهما مباحث، وكان المهذب أفصح

عبارة، وأقوى براعة، وأحسن بحثا، وابن صقلاب أكثر سكينة، وأبين قولا، وأوسع نقلا. وكان في معالجاته غاية في الجودة والنجح، لأنه كان لا يداوي حتى يجيد تحقيق المرض، وكان المعظّم يشكر هذا من فعله، ويصفه به، ويقول: لو لم يكن في الحكيم يعقوب إلا استقصاء الأمراض ليعالجها على الصواب ولا يشتبه عليه شيء من أمرها لكفاه. وكان متقنا للسان الرومي، ونقل كتاب" حيلة البرء" وغير ذلك من كتب جالينوس، منها إلى العربي. قال: كان مولده بالقدس، وأخذ الطبيعي والهندسة والحساب والنجوم عن فيلسوف كان قد ترهّب بها في دير السيق. قال: وكانت له في النجامة أحكام صحيحة، وإنذارات عجيبة، وعلت مكانته عند المعظم حتى أراد أن يوليه بعض تدبير دولته، فامتنع، وكان قد عرض له نقرس في رجليه، فكان المعظم إذا سافر أخذه معه في محفّة. وقال له يوما: يا حكيم، لم لا تداوي هذا المرض الذي في رجليك؟. فقال له: الخشب إذا سوّس ما يبقى في إصلاحه حيلة. وأدرك الناصر داود بعد أبيه. وولد بدمشق «1» سنة إحدى وستين وخمسمائة، وتوفي بها يوم فصح النصارى سنة خمس وعشرين وستمائة.

134 - رشيد الدين الصوري أبو المنصور ابن أبي الفضل بن علي

ومنهم: 134- رشيد الدين الصوري أبو المنصور ابن أبي الفضل بن علي «13» رجل تهادته الملوك، وهادنته الأيام لحسن السلوك، وكان الحظّ معه حيثما خيم، والسعد قرينه أينما يمّم، وهو من بيت تعد معه رجال، وتمتع الدهر بهم إلى آجال، وطالما زهت بهم الأيام الخوالي، وحسنت بهم الليالي الحوالي، وكان هو آخرهم، الذي كان لمسكهم ختاما، وضرب لهم حول قباب الجوزاء خياما. قال ابن أبي أصيبعة:" اشتمل على جملة من الصناعة الطبية، واطلع على محاسنها الجلية والخفية، وكان فريدا في الأدوية المفردة وماهياتها، واختلاف أسمائها وصفاتها، وتحقيق خواصّها وتأثيراتها. اشتغل على عبد اللطيف البغدادي بالقدس سنتين، وصحب الجياني، وكان عارفا بالأدوية المفردة، فانتفع به، واشتغل بها مع ما هو عليه من المروءة التي لا مزيد عليها، والعصبية التي لم يسبق إليها، والمعرفة المذكورة، والشجاعة المشهورة. وخدم بالطب: العادل «1» ، ثم صار إلى المعظّم «2» ، وحضر معه دمياط. ثم صار إلى الناصر داود، فلما توجه إلى الكرك أقام الرشيد بدمشق، وكان يشتغل بها. ولأبي نصر المهذب الحلبي «3» فيه مديح، منه: [الطويل]

سرى طيفها والكاشحون «1» هجود «2» ... فبات قريبا والمزار بعيد وتالله ما عاد الخيال وإنما ... تخيله الأفكار لي فيعود فيا لائمي كف الملام ولا تزد ... فما فوق وجدي والغرام مزيد ألا في سبيل الحب من مات صبوة ... ومن قتلته الغيد فهو شهيد ولم تر عيني مثل أسماء حلة ... تضنّ بوصلي والخيال يجود وبتّ وجنح الليل مرخ سدوله ... أضمّ غصون البان وهي تذود إلى أن تبدّى الصبح غير مذمّم ... وزال ظلام الليل وهو خميد وكيف أذم الصبح أو لا أودّه ... وإن ريع مودود به وودود وكل صباح فيه للعين حظوة ... بوجه رشيد الدين وهو سعيد فقل لبني الصوري قد سدتم الورى ... وما الناس إلا سيد ومسود وما حزتم إرث العلى عن كلالة ... كذلك آباء لكم وجدود ومن بأبي المنصور أصبح لائذا ... فقد قاربته بالنجاح سعود فيا كعبة الآمال يا ديمة الندى ... ويا من به روض الرجاء مجود ومن عنده يوم السماحة حاتم ... كما عند مدحي في علاه عبيد أياديك عندي لا أقوم بشكرها ... فما فوق ما أولت يداك مزيد ولد سنة: ثلاث وتسعين وخمسمائة بصور، ونشأ بها، وتوفي بدمشق يوم الأحد غرة رجب سنة تسع وثلاثين وستمائة «3» .

135 - سديد الدين بن رقيقة، أبو الثناء، محمود بن عمر بن محمد بن إبراهيم، ابن شجاع الحانوي، الشيباني

ومنهم: 135- سديد الدين بن رقيقة «1» ، أبو الثناء، محمود بن عمر بن محمد بن إبراهيم، ابن شجاع الحانوي، الشيباني «13» طبيب كان كالنسيم في لطف العلاج، والصباح الوسيم عند الانبلاج، وكان لا يبارى في خفة يد، ولعب أنامل في جد، مهما تقدم له مما تقدم به في ذوي الحظوظ، فما قاوى جدول تياره، ولا طاولت الحباحب «2» ناره، وكان يستحق هذا من أيامه الذاهبة، وفي زمانه وعطايا إنعامه الواهبة. ذكره ابن أبي أصيبعة فقال:" ذو النفس الفاضلة، والمروءة الكاملة، جمع من الطب ما فاق به أقوال المتقدمين، وتميز على جميع نظرائه من الحكماء والمتطبّبين، هذا مع الفطرة الفائقة، والألفاظ الرائقة، والنظم البليغ، والترسل البديع. ولازم ابن عبد السلام المارديني «3» ، وأخذ عنه الطب والحكمة، وكانت لابن

رقيقة يد طولى في الكحل والجراح، وعمل الحديد، وداوى أمراض العين، وقدح الماء النازل، وأنجب عمله، وكان المقدح الذي له مجوّفا، وله عطفة ليتمكن وقت القدح من امتصاص الماء، ويكون العلاج به أبلغ. واشتغل بعلم النجوم، ونظر في حيل بني موسى، وعمل فيها أشياء مستظرفة. ولد الحانوي «1» سنة أربع وستين وخمس مائة، وعالج صاحبها الأرتقي «2» من مرض في عينيه، فرأى سريعا، وكان إذ ذاك دون العشرين، فاستخدمه عنده. ثم خدم المنصور صاحب" حماه" مدة، ثم سافر إلى" خلاط" «3» ، وكان صاحبها الأوحد أيوب ابن العادل «4» ، فخدمه، وخدم صهره صلاح الدين ابن باغيسان «5» ، وكان زوج ابنة الأوحد، وكانت بنت الأوحد محسنة إليه، ثم خدم بعده الأشرف ملكشاه أرمن، ثم أتى إليه إلى دمشق، فأكرمه، واستخدمه لحرم، وفي البيمارستان، ولم يزل بها إلى أن توفي سنة خمس وثلاثين وست مائة. وله شعر منه: [الكامل] يا ملبسي بالنطق ثوب كرامة ... ومكمّلي ودا به ومقوّمي خذني إذا أجلي تناهى وانقضى ... عمري على خطّ إليك مقوم فقد اجتويت ثواي ثم ومن يكن ... دار الغرور له محلا يسأم

دار يغادر بؤسها وشقاءها ... من حلّها وكأنه لم ينعم لا ترتضي الدنيا الدنية موطنا ... تعلى على رتب السواري الأنجم فتشاهدي ما ليس تدرك كنهه ... بالفكر أو يتوهم المتوهم وتجاوري الأبرار في مستوطن ... لا داثر البقيا ولا متهدم يا أيها المغرور شبت ولم تعد ... عما لهجت به ولم تتندّم لا تحسبنّ الشيب فيك لعلّة ... عرضت ولا لتلزج في البلغم لكن شبابك كان شيطانا ومن ... يك ماردا بالشهب حقا يرجم والشيب إشراق الحجا وضياؤه ... فأهن هواك وإن شيبك يكرم يا جابر العظم الكسير وغافر ... الجرم الكبير لكل عبد مجرم ما لي إليك وسيلة وذريعة ... أنجو بها إلا اعتقاد المسلم وقوله: [الخفيف] لا تكن ناظرا إلى قائل القو ... ل بل انظر إليه ماذا يقول وخذ القول حين تلقيه معقو ... لا ولو قاله غبي جهول فنباح الكلاب مع خسة فيها ... على منزل الكريم دليل وكذاك النضار معدنه الأر ... ض ولكنه الخطير الجليل

136 - صدقة بن منجا بن صدقة السامري

ومنهم: 136- صدقة بن منجا بن صدقة السامري «13» رأس حكمة وأدب، وحلف همة لم يقصّر في دأب، لم يلف مثله سامريا، ولا مضطلعا سام ريا، ورد على الغمام حياضها، وراد في جنبات المجرة رياضها، طالما سهر الليالي الطوال، وأكثر في طلب العلم السؤال، إلى أن جمع على الفضائل ردنه، واتخذ كرم الفعائل خدنه، إلا أنه لم ينزع حب دينه، ولا جفا ما جفّ في طينه. قال ابن أبي أصيبعة «1» فيه:" من الأكابر في صناعة الطب، والتميزين من أهلها، والأماثل من أربابها، وافر العلم، جيد الفهم، قويا في الفلسفة، وكان يدرس في الطب وله فيه وفي الحكمة تصانيف، وخدم الأشرف شاه أرمن، وكان يحترمه غاية الاحترام، ويكرمه كل الإكرام، ويعتمد عليه، وتوفي بحرّان فيما ينيف على سنة عشرين وستمائة، وخلّف مالا جزيلا، ولم يخلّف ولدا. ومن كلامه قوله:" الصوم منع البدن [من الغذاء] وكف الحواس عن الخطاء، والجوارح عن الآثام، [وهو كف الجميع عما يلهي عن ذكر الله] «2» ."

وقال:" [اعلم أن جميع الطاعات ترى إلا الصوم لا يراه إلا الله، فإنه عمل في الباطن بالصبر المجرد] ، واللصوم ثلاث درجات: صوم العموم، وهو كف البطن والفرج. وصوم الخصوص، وهو كف السمع والبصر واللسان، وصوم خصوص الخصوص، فصوم القلب [عن الهمم الدنية] ، والأفكار [الدنياوية] «1» . وقوله:" ما كان من الرطوبات الخارجة من الباطن ليس مستحيلا «2» ولا له مقر فهو طاهر، كالدمع والعرق، واللعاب، والمخاط. وأما ما له مقر وهو مستحيل فهو نجس كالبول، والروث". ومن شعره قوله [مخلع البسيط] يا وارثا عن أب وجدّ ... فضيلة الطب والسداد وضامنا رد كل روح ... همت عن الجسم بالبعاد أقسم لو كان طب دهرا ... لعاد كونا بلا فساد «3» وقوله: [السريع] مهندس في طول أيامه ... مع قصره يبتلع الساريه مثلث يدعمه قائم ... لأنه منفرج الزاويه

137 - المهذب يوسف بن أبي سعيد بن خلف السامري

ومنهم: 137- المهذب يوسف بن أبي سعيد بن خلف السامري «13» سامري لم يخفر ذمته، ولم تقصر في طلب العلياء همته، حتى دانى الغاية على قلة ناصريه، وكثرة حسّاده في معاصريه، ولم تزل العداوة تشب اللهب، وتجلل الرماد الذهب، فألصقت به العيوب، وخرّقت إليه أستار الغيوب، ولم تزل تزعزعه العواصف إلى أن زحزح، وتكشف غماره حتى صحصح. قال ابن أبي أصيبعة «1» :" أتقن الطب والحكمة، واشتغل بعلم الأدب، وبلغ في الفضائل أعلى الرتب، وكان كثير الإحسان، غزير الامتنان، فاضل النفس، صائب الحدس، قرأ في الخدمة الصلاحية «2» ، على شمس الحكماء إبراهيم السامري، وعلى إسماعيل بن أبي الوقار الطبيب، وعلى أبي اليمن الكندي، والمهذّب ابن النقاش، وتميّز في الطب، واشتهر بحسن العلاج، وعالج ست الشام بنت أيوب من دوسنطاريا كبدية، بالكافور القيصوري «3» ، بحليب بزر بقلة محمصة، وشراب رمان، وصندل، فسارعها الدم، ثم لاطفها، حتى برأت. وخدم فرخشاه بن أيوب، ثم خدم ابنه الملك الأمجد، وأقام عنده ببعلبك،

138 - أمين الدولة أبو الحسن بن غزال بن أبي سعيد السامري

وحظي عنده، وكان يستشيره، ويعتمد عليه، ثم استوزره، وحصّل بسببه الأموال. وقال فيه فتيان «1» : [المنسرح] الملك الأمجد الذي شهدت ... له جميع الملوك بالفضل أصبح في السامري معتقدا ... ما اعتقد السامري في العجل قال ابن أبي أصيبعة «2» :" ولم يزل المهذّب على علو منزلته، حتى كثرت الشكاوى من أقاربه السامرة، وما كثر منهم من العسف والظلم، وأكل الأموال، وإفساد الحريم، ولامت الملوك الملك الأمجد عليه، فقبضه، وقبض على أقاربه، واستصفى منهم أموالا كثيرة، واعتقله ثم أطلقه، فأتى دمشق، وأقام بها في داره. ومن شعره قوله: [المجتث] إن ساءني الدهر يوما ... فإنه سرّ دهرا وإن دهاني بمال ... فقد تعوّضت أجرا الله أغنى وأقنى ... والحمد لله شكرا ومنهم: 138- أمين الدولة أبو الحسن بن غزال بن أبي سعيد السامري «13» وزير الصالح إسماعيل. كان سامريا وأسلم، ولقب كمال الدين، وكان

المهذب السامري عمه، وكان لا يطمع في معاضلته، ولا يقدر على مناضلته، إلا أنه قتل نفسه بحمقه، وتبرد بالنار من حرقه، ولم يزل منذ أخذ في الطلب يترقى ويبرّز بين المعامل ولا يتوقى، حتى تسنّم ذرى الوزارة، وغلط طيفها في غفلة الحلم وزاره، فتصدى للأموال حتى صادها، وأقام على الأعيان أرصادها، إلا أنها فرّت من شباكه، وأنفت أن تستقر في أملاكه، ثم كان آخر ما حمله عليه الهوج «1» ، وطلب به استقامة حاله من العوج، أنه أقيم من الدست الذي لم يقدّمه أحد إلى صدره، ولا جزي به بعد طول الحبس على عاقبة صبره، ثم أخذ وشنق، وكان قد أبرم بيده حبل سعادته فخنق. قال ابن أبي أصيبعة:" كان له الذكاء الذي لا مزيد عليه، والعلم الذي لا يصل سواه إليه، والإنعام العام والإحسان التام، والهمم العالية، والآلاء المتوالية. قد بلغ من صناعة الطب إلى غاياتها، وانتهى إلى نهاياتها، وفاز بمحصولها، وأتقن علم فروعها وأصولها، حتى قلّ له المماثل، وقصر عن معانيه كل فاضل. كان أولا عند الأمجد «2» صاحب بعلبك طبيبا، فلما توفي بدمشق، استقلّ أمين الدولة بالوزارة العمادية، فساس أحسن السياسة، وبلغ في التدبير نهاية الرياسة، وثبت قواعد الملك، وأبّدها، ورفع مباني الفضل وأيدها، وجدّد معالم العلم والعلماء، وأوجد من الفضائل ما لم يكن لأحد من القدماء، ولم يزل عالي القدر نافذ الأمر، مطاع الكلمة، كثير العظمة، إلى أن ملك دمشق الملك الصالح أيوب، وجعل نائبه بها [معين الدين] ابن شيخ الشيوخ، وأعطى الصالح إسماعيل بعلبك، فانتقل إليها، وبقي وزيره بدمشق، وقد جمع له ولصاحبه أموالا عظيمة جدا، أخذها من أهل دمشق، بموافقة القاضي الرفيع الجيلي، فاتّفق

ابن شيخ الشيوخ والصاحب ابن مطروح «1» على مكيدة عملت، وهو أنهما طلبا أمين الدولة، فلما أتى قاما له، وقالا له: إن أردت الإقامة بدمشق فابق على حالك، وإن أردت أن تلحق صاحبك فتقيم عنده فافعل. فقال: لا والله بل ألحق مخدومي، وأكون عنده. ثم إنه خرج بجميع أمواله وذخائره، وأحواله، وخواصّه، وجميع ما يملكه حتى أثاث بيته، وحصر دوره. فلما صار ظاهر دمشق بما معه قبض عليه وأخذ جميع ما كان قد جمعه، وأحيط على أملاكه، واعتقل، ثم حمل إلى القاهرة، فأودع السجن بقلعة الجبل مع جماعة أخر من الحاشية العمادية، فلما أتى الملك الناصر يوسف ابن العزيز من حلب إلى دمشق، وملكها، صار معه الصالح إسماعيل وسائر ملوك الشام، ثم توجه يريد مصر، فخرجت إليه عساكر المعز أيبك، وكان قد ملك بعد مولاه الصالح أيوب، فلما التقوا كانت الكسرة أولا على العسكر المصري، ثم دارت الدائرة لهم على العسكر الشامي، وقبض الصالح إسماعيل، وجماعة من الملوك والأمراء، وحبسوا بمصر، ثم أطلق بعضهم. وأما الصالح إسماعيل فكان آخر العهد به. وحكي أن أمين الدولة لما سمع بما كان من ظهور العسكر الشامي على المصريين، على ما كان أولا وعد المتحدث في القلعة عند طلوع الملوك بمواعيد أطمعته، فأخرج من كان عنده وكانوا ثلاثة: أمين الدولة، وناصر الدين ابن يغمور، وأمير كردي «2» ، فقال الكردي: يا قوم، لا تستعجلوا واقعدوا مكانكم، فإن كان الأمر صحيحا، فأستاذنا يخرجنا، ويحسن إلينا، وإن كان غير صحيح، فقعودنا أصلح لنا. فلم يلتفت أمين الدولة وابن يغمور إليه، وخرجوا، وتأخر هو، وقعد الوزير

139 - المهذب الدخوار: أبو محمد عبد الرحيم بن علي بن حامد

أمين الدولة وابن يغمور في القلعة، وأمروا، ونهوا، فلما جاءت الأخبار المؤكدة بعكس ما طار إليهم به أول الخبر، أمر المعز بقتل ابن يغمور، وشنق أمين الدولة، وإطلاق الكردي، فأطلق الكردي، وقتل ابن يغمور، وشنق أمين الدولة. قال ابن أبي أصيبعة:" وحكى لي من رآه لما شنق وعليه قندورة «1» عتابي خضراء، وفي رجله سرموزة «2» . قال: ومن العجائب أن أمين الدولة لما حبس أرسل إلى منجم بمصر كانت له إصابات لا تخرم، وسأله عما كان وما يكون من حاله؟! «3» ، فأخذ طالع الوقت، ورسمه، ثم قال: يخلص هذا من الحبس، ويخرج منه فرحا مسرورا، ويبقى له أمر مطاع، يمتثل فيه أمره ونهيه. ففرح، فلما جاءه ذلك الخبر ظنّ أنه يبقى وزيرا بمصر، فتمّ له ما ذكره المنجّم في يوم خروجه، ثم لم يعلم ما يجري له بعده. وكان ذلك في الكتاب مسطورا. ومنهم: 139- المهذّب الدّخوار: أبو محمد عبد الرحيم بن علي بن حامد «13»

طبيب نهض به طيب العناصر، ونهى علمه أن تعقد على غيره الخناصر. كان في الحكماء علما، وفي إثبات الحكم قلما، عزّ وجوده وقلّ ما، فاض إناؤه، وآض «1» اجتناؤه، وكان لفروع الطب شجرة يكاد زيتها يضيء، ويقال «2» في ظلها ويفيء. كأنما جالس أرسطوطاليس، وجال مع تلك الجماعة في تقرير تلك النوامس «3» ، ولهذا اشتهر، وملأ العيون وبهر. وكان ممن يستصحّ برأيه، ويستصبح بذكائه. هذا إلى خطّ أوتيه، وحظّ كان يواتيه. قال ابن أبي أصيبعة «4» :" إليه انتهت رياسة صناعة الطب ومعرفتها على ما ينبغي، ولم يكن في اجتهاده من يجاريه، ولا في علمه من يماثله، أتعب نفسه في الاشتغال وكدّ خاطره في تحصيل العلم حتى فاق أهل زمانه، وحظي عند الملوك، ونال من جهتهم من المال والجاه ما لم ينله غيره من الأطباء، وكان في مبدأ أمره كحّالا، وكذلك كان أخوه حامد بن علي، وكان الدّخوار يكتب خطا منسوبا، ونسخ الكثير، وقرأ النحو على الكندي، والطب على الرضي الرحبي، ثم لازم الموفق ابن المطران، ثم أخذ عن الفخر المارديني، لما قدم دمشق، وخدم الملك العادل بن أيوب، ثم لم يزل تسمو منزلته عنده حتى صار جليسه، وصاحب مشورته، وظهرت له منه نوادر في تقدم المعرفة، منها: أن العادل عرض له مرض وأشار الدخوار عليه بالفصد، فلم يوافقه بقية الأطباء على ذلك، فقال

لهم: والله إن لم يخرج دما وإلا خرج الدم من غير اختياره، فما مضى أيسر وقت حتى طفر الدم من أنفه، ورعف رعافا كثيرا، وصلح، فعلم أنه ليس في الكل مثله. ومنه: أنه كان يوما على باب دار السلطان في جماعة من الأطباء، إذ خرج خادم ومعه قارورة جارية يستوصف لها لشيء شكت منه، فلما رأوها، وصفوا لها ما حضرهم. فقال الدخوار: إن هذا الذي شكت منه ما يوجب صبغ الماء هكذا، ويوشك أنه من حناء اختضبت به. فقال له الخادم: نعم، تخضّبت بحناء. فأخبر العادل بذلك، فتزايد حسن اعتقاده فيه. ومن أحسن ما يؤثر عنه أن الملك العادل كان قد غضب على قاضي القضاة محيي الدين ابن الزكي لأمر نقمه عليه، وأمر باعتقاله بقلعة دمشق، إلى أن يزن عشرة آلاف دينار مصرية، وشدّد عليه، فأقام في السجن والمطالبة، ووزن البعض، وعجز عن البقية، وقال السلطان: إن لم يزن وإلا عذّبته. فتحيّر القاضي وباع جميع موجوده وأثاث بيته، حتى الكتب التي له، وتوسّل إلى السلطان بكثير من الأمراء والخواص في المسامحة أو التقسيط، فلم يقبل، فأتى الدخوار إليه ليتفقده لمودة قديمة بينهما، فشكا إليه حاله، وما قد تم عليه، فوعده بالمساعدة بحسب الطاقة، ثم قام فدخل على أم الصالح إسماعيل ابن العادل، وكانت ممرضة، فلما دخل عليها عرّفها بحديث القاضي وأنه مظلوم، وسألها في أمره، فقال: كيف أحدّث السلطان في أمر من لا أعرفه؟ ولو كان طبيبا يدخل علينا أو تاجرا نعامله لأمكن الكلام فيه. فقال لها: فثمّ طريق آخر يحصل به القصد. قالت: وما هو؟. قال: في وقت يكون السلطان نائما عندك تظهرين له أنك رأيت مناما يقتضي أن القاضي مظلوم، وعرّفها ما تقول. فقالت: هذا يمكن. فلما عوفيت أتاها الملك العادل، فنام عندها وهي إلى جانبه، فلما كان آخر الليل انتبهت وأظهرت

أنها مرعوبة، وأمسكت فؤادها وبقيت ترتعد وتتباكى. فانتبه السلطان وقال لها: مالك؟ وكان يحبها حبا كثيرا، ثم جعل يرشّ عليها من ماء الورد وقال لها: ما الذي بك؟ فقالت: رأيت مناما عظيما هالني، وكدت أموت منه، وهو أنني رأيت كأن القيامة قد قامت في بهو عظيم، وبها خلق عظيم، ونيران كثيرة تشعل، وناس يقولون: هذه للملك العادل لكونه ظلم القاضي!!. ثم قالت: هل فعلت قط بالقاضي شيئا؟ فما شك في قولها، وانزعج ثم قام لوقته، وطلب الخدام، وقال: امضوا إلى القاضي وطيبوا قلبه، وسلموا عليه عني وقولوا له يجعلني في حل مما تمّ له، وإن جميع ما وزنه يعود إليه، وما أطالبه بشيء. ثم لما أصبح أمر له بخلعة كاملة، وبغلة، وأعاده إلى رتبته وأعاد إليه جميع ما وزنه، واستردّ له ما باعه. وقال: مرض العادل بالشرق مرضا صعبا، وولي علاجه الدخوار، إلى أن برئ، فلما عوفي حصل له نحو سبعة آلاف دينار، وبعث له أولاد العادل وسائر ملوك الشرق، وأكابر الأمراء الخلع والبغال بأطواق الذهب، وغير ذلك. ومرض الكامل «1» فعالجه، فلما برأ حصل له نحو اثني عشر ألف دينار، وأربع عشرة بغلة بأطواق الذهب، وخلع كثيرة من الأطلس وغيره، وولي ذلك الوقت رئاسة الأطباء. وخدم مرة الأشرف، وأعطاه إقطاعا جليلا، ووقف داره بدمشق بالمناخليين مدرسة على الطب، ووقف عليها عقارات له «2» .

140 - الرشيد علي بن حليقة بن يونس بن أبي القاسم بن خليقة الأنصاري الخزرجي

ومنهم: 140- الرشيد علي بن حليقة بن يونس بن أبي القاسم بن خليقة الأنصاري الخزرجي «13» من ولد سعد بن عبادة رضي الله عنه. طبيب لو شكا إليه البرق اختلاف نبضه لأبراه، أو حاول منه الرعد ما في صحف النهر لأقراه. من أسرة سارت بهم الأمثال، وسراة أسفا على عقدهم كيف انثال، أراق الكرى عن كؤوس أجفانه، وجعل طوارق السهاد «1» من ضيفانه، همه يقظ، وعزمه حتفظ، حلّ بها أجلّ الرتب، وجلا بها عن الجسوم الريب، وكان لا يفقد السبات، ولا يخرج إلى حدّ الإعنات، لعلاجه بالملائم، واحتجاجه بما يكفي الملاوم، هذا إلى تفنّن في علوم أخر، وفضائل كأنها البحر إذا زخر، ومحاسن لو أراد بها لفخر. قال ابن أبي أصيبعة «2» :" إنه عمه، وأنه ولد بحلب سنة تسع وتسعين وخمسمائة، وقال: إن جدّه معروف بابن أبي أصيبعة، وكان قد توجه إلى مصر إذ استقلت بها الدولة الصلاحية، وإن الشهاب يوسف الكحال، وابن أبي الحوافر

كانا من أصدقائه، فلما أتيا مصر أشارا عليه بإشغال ولديه في الطب، يعني المؤرخ عمه هذا وأباه، فأمرهما بملازمة ذينك الرجلين، وأن أباه أكثر الأخذ عن الشهاب يوسف، ثم قرأ على الرئيس موسى وأهل طبقته، وأن همّه كان أو اشتغاله على أبي التقى صالح بن أحمد المقدسي، ثم لازم ابن أبي الحوافر، وكان إذ ذاك رئيس الأطباء في أيام العزيز، ثم باشر المرضى بالمارستان، ثم أخذ صناعة الكحل عن النفيس بن الزبير، وقرأ على عبد اللطيف البغدادي، وكان يشتغل بالسديد المنطيقي، واشتغل بعلم النجوم، وأخذ الموسيقى عن ابن الديجور المصري، وعلي ابن التبان «1» ، ثم اجتمع بأعيان المصنفين فيه، ثم لما عاد أبوه إلى الشام انتقل معه واجتمع بمن به من المتعينين، وباشر المارستان النوري، ثم خدم الأمجد صاحب بعلبك، ثم خدم العادل ثم المعظم، ثم الناصر ابنه، وتوفي في الثاني والعشرين من ربيع الآخر سنة ست عشرة وستمائة، ودفن بمقبرة باب الفراديس. ومن كلامه قوله:" ما أحسن الصبر لولا أن النفقة عليه من العمر". وقوله:" الأصدقاء كنفس واحدة في أجساد متفرقة". وقوله:" المال مغناطيس أنفس الجهلاء، والعلم مغناطيس أنفس العقلاء". وقوله:" القانع مساعد على بلوغ مآربه". ومن شعره: [الكامل] يا صاحبيّ سلا الهوى وذراني ... كفّا الملام عن المحب العاني لا تسألاه عن الفراق وطعمه ... إن الفراق هو الممات الثاني

141 - ابن قاضي بعلبك: المظفر بن عبد الرحمن بن إبراهيم

نادى الحداة دنا الرحيل فودعوا ... ففجعت في قلبي وفي خلاني وبكيت وجدا بعد ذاك فلم يفد ... أني وقد صار اللقاء أماني وقوله: [الكامل] أرأيتما يا صاحبي فتى تذل ... له الأسود تذلة الغزلان ما كنت ممن يسترق فؤاده ... عشق ولكن الهوى سلطان ومنهم: 141- ابن قاضي بعلبك: المظفر بن عبد الرحمن بن إبراهيم «13» الحكيم الفاضل الملاطف بدر الدين أبو التأييد. فاق في علم وقراءة، وفهم تقدم به والناس وراءه، قدّمه فضله واستحقاقه، ونبله الذي ضرب على ربى المجرّة رواقه، ولحق في أوانه بجلّة الرؤساء، وحلّ من أئمة زمانه محلة الجلساء، وسبق أهل جيله حيث لا يلحقه إحضار، وخلق مع أبناء جنسه إلا أن طينته جبلت من معدن النضار «1» ، ولم يعالج عليلا ثم أصبح ببقائه ليس ينتفع، ولا دافع مطل إلا ثم أضحى بملاطفته لا ينتفع، وكان لا يطبّب إلا بالأهون على العليل، والأحب إليه وإن كان النفع به من القليل، على أنه البحر الذي لا يشق له عباب، والوقوف عليه إذا لم يوجد باب. وألقيت عليه من الله محبة لم يره إلا من شغف بحبه، وشغل بطبه، وفضله على كل نكرة

ومعروف، وكل ذي طب يسرح نظرا بإحسان ويمسك يدا بمعروف، ولم ألحق أحدا من الكبراء وأهل العلم إلا من كان يحسن عليه الثناء، ويحلو بأوصافه الحسناء. قال لي عمي الصاحب شرف الدين أبو محمد عبد الوهاب- رحمه الله تعالى-: هو آخر الأطباء الذين رأتهم عيني. وسألت عنه شيخنا شهاب الدين أبا الثناء الحلبي فقال: كان يقال هو جالينوس وقته. ثم أخذ في وصفه، وذكر ما كان عليه من حسن الملاطفة وإحسان العلاج. قال ابن أبي أصيبعة «1» :" كان أبو مجد الدين قاضيا ببعلبك، ونشأ هو بدمشق، واشتغل بها في الطب على المهذب عبد الرحيم بن علي، وجمع له العلم الغزير، والذكاء المفرط، والمروءة التامة، وكانت له همة عالية في الاشتغال، ونفس جامعة لمحاسن الخلال، وكان لا يخلو له وقت من التزيد في العلم، والعناية بالمطالعة والفهم، وكان قد توجه صحبة المهذب لما طلبه الملك الأشرف، وخدم بالمارستان بالرقة، وصنّف مقالة حسنة في" الرقة"، واشتغل بها في الحكمة على الزين الأعمى رحمه الله، وكان إماما في العلوم الحكمية. ثم عاد ابن قاضي بعلبك إلى دمشق، فلما طلبها الجواد يونس «2» ، حظي عنده وتمكن في دولته، واعتمد عليه في صناعته، وولّاه، الرياسة على الأطباء والكحالين، والجرائحية، وكتب له توقيعا «3» بذلك، فجدّد من محاسن الطب

مادرس، وأعاد من الفضائل ما دثر، ولم يزل مجتهدا حتى اشترى أدرارا كثيرة جوار المارستان النوري، وهدمها وبناها، وأضافها إليه. ثم خدم الصالح أيوب، وأرصد لمعالجة الحرم، وجدد له توقيعا بالرئاسة على أطباء الشام، ثم خدم من بعده من الملوك ولم يغير عليه عادة مستمرة له، ثم تجرّد لعلم الفقه، وسكن بيتا بمدرسة ابن قليج «1» ، وكانت جوار داره، وتصدى لحفظ القرآن الكريم، ومعرفة القراءات والتفسير، وقراءة الفقه، وفنون الأدب، ولازم أبا شامة، ودأب في العبادة والدين. قلت: قال لي والدي رحمه الله: كان ابن قاضي بعلبك مختصا بصحبتنا، وكان يعود من مرض منا، ويتولى معالجته، وكان لا يرى التعمق في الوصف ولا المداواة بالكريه. ويقول: ما ينتفع المريض بالكريه بقدر ما يتضرر به، لكراهيته له. ويقول: ما لم يكن من المريض إقبال على الدواء لا تقبله أعضاؤه. ويقول: ربما صار الدرياق سما والدواء داء بإفراط كراهية المريض. قال والدي رحمه الله تعالى، وقد ذكره يوما: رحم الله ابن قاضي بعلبك، لم يكن في زمانه مثله في حسن شكله وسمته، وحسن حديثه وصحة صحبته، ولطف علاجه، وتبرّك الأعلّاء «2» بمقدمه لرفقه بهم، وعدم إكراهه لهم على الكريه. وقال: دخل علينا يوما ونحن نأكل طعاما فيه باذنجان قد قلي بدهن

142 - العماد الدنيسري: محمد بن العباس بن أحمد بن عبيد الربعي أبو عبد الله

الألية «1» ، فقعد فأكل، وكان أكثر أكله منه، فقلت له: يا حكيم.... الباذنجان مولد للأخلاط السوداوية، كما يقال. فقال: ذلك الباذنجان الأسود الشديد الحرافة، فأما هذا الأبيض باذنجان دمشق المقلو بدهن الألية فلو رآه جالينوس لجعله دواء للسوداء. ومنهم: 142- العماد الدّنيسري: محمد بن العباس بن أحمد بن عبيد الربعي أبو عبد الله «13» رجل يرجع إلى كرم خيم، وينفع فيه كثرة التفخيم، تفنّن في فضائل، وتيقن أن كل عظيم عنده متضائل، بعزم أطلّ على النجوم في آفاقها، وعلم استخدم السعود بأوفاقها، ولطف ذات، وظرف أدوات، وكمال محاس بجدّه بلغها، وأخذ مع توسّع حظّه بلغها، وقد كان للزمان روحا، وإلى الغايات طموحا، وكانت به الأيام سوافر، ومنه حظ للناس وافر، إلى أن عشّشت المنايا في هامته، وصرعته من قامته، ووسّدته التواب، وأفسدته على الأتراب، وخرس منه لسان كان يجادل، وسكن منه محرك تحت حصى وجنادل. ذكره ابن أبي أصيبعة: ولقّب أباه بالقاضي الخطيب تقي الدين، وقال في

عماد الدين: هو ذو الأريحية التامة، والعوارف العامة، مولده بدنيسر «1» ، سنة خمس وستمائة، ونشأ بها، واشتغل بالطب إشغالا برع به. قال: واجتمعت به فوجدت له نفسا حاتمية، وشنشنة أخزمية، وخلقا ألطف من النسيم، ولفظا أحلى من مزاج التسنيم، وأسمعني من شعره البديع معناه، والبعيد مرماه، وهو في علم الطب قد تميّز على الأوائل والأواخر، وفي الأدب قد عجّز كل ناظم وناثر، وكان قد سافر من دنيسر إلى مصر، ثم رجع إلى الشام، وأقام بدمشق، وخدم الآدر الناصرية اليوسفية بقلعة دمشق، والمارستان النوري. ومن شعره: [الطويل] نعم فليقل من شاء عني فإنني ... كلفت بذاك الخال والمقلة الكحلا فلا تعذلوني في هواه فإنني ... حلفت بذاك الوجه لا أسمع العذلا وقوله: [السريع] عذارك المخضر يا منيتي ... لما بدا في الخد ثم استدار فكان في ذاك لنا آية ... إذ جمع الليل معا والنهار وقوله: [الطويل] حلفت له لا حلت عن ولهي به ... وقلبي على ما قد حلفت له حلف إذا باعني منه الوصال لمهجتي ... شربت، وها قلبي أقدّمه سلف وقوله: [الكامل]

143 - العز السويدي: إبراهيم بن محمد الأنصاري الأوسي، عز الدين أبو إسحاق

وحياة ناظره وعامل قدّه ... روحي بعارض خدّه متململه هب أنّني متجنّن في حبه ... فعذاره في خدّه من سلسله وقوله: [المتقارب] إذا رفع العود تكبيره ... ونادى على الراح داعي الفرح رأيت سجودي لها دائما ... ولكن عقيب ركوب القدح ومنهم: 143- العز السويدي: إبراهيم بن محمد الأنصاري الأوسي، عز الدين أبو إسحاق «13» من ولد سعد بن معاذ رضي الله عنه. طبيب تؤخذ عنه الصناعة، وإمام يقدّم على الجماعة. تقدم في عصره تقدم استحقاق، وعرف علم الطب والطبيعة وما ناسبه معها، ولم يكن مثله في علا، ولا شبهه فيمن خلا، فشفيت به الأجساد، وأمنت مما يعرض للكون من الفساد، ورأيت من خطه ما كأنه ريش الطاووس، أو عذار الغلام وسالفة العروس، لا يقاس به خط قابوس ولا على صحائف النهر أشعة الشموس. قال ابن أبي أصيبعة «1» :" مولده سنة ستمائة بدمشق، ونشأ بها، وهو علّامة أوانه، وأوحد زمانه، مجموع الفضائل، كريم الأبوة، غزير الفتوة، وافر السخاء، حافظ الإخاء، اشتغل بالطب حتى أتقنه، ولم يصل أحد من أربابه إلى ما وصل إليه. أخذ عن أكابر الحكماء كالمهذب عبد الرحيم، وغيره، وقرأ في علم الأدب

144 - موفق الدين يعقوب السامري أبو يوسف يعقوب بن غنائم

وهو أسرع الناس بديهة، وكان أبوه تاجرا من السويداء بحوران، حسن الأخلاق، طيب الأعراق. وقال الحكيم عز الدين: هو أجلّ الأطباء قدرا، وأفضلهم ذكرا، وأعرف مداراة، وأنجح علاجا، وأوضح منهاجا، ودرّس بالدخوارية «1» ، وخدم السلطان والمارستان، وكتب خطا منسوبا لطريقة ابن البواب، وخطّا يشبه مولّد الكوفين وكل خط أحسن من الرياض المونقة، وأنور من الشموس المشرقة. ومن شعره قوله: [السريع] وناسك باطنه فاتك ... يا ويح من يصغي إلى مينه منزله أحرج من صدره ... وخلقه أضيق من عينه وتوفي بدمشق في [سنة 690 هجرية] «2» ودفن جوار الشبلية بالسهم الأعلى، بتربة أعدها لنفسه. ومنهم: 144- موفق الدين يعقوب السامري أبو يوسف يعقوب بن غنائم «13» بحر طبّ لم يبق إلا من ملأ من قليبه «3» ، ولم يبعد يدا من قريبه، وأتته

145 - أبو الفرج يعقوب بن إسحاق بن القف النصراني

الطلبة حتى ملأ كل سقاءه، وأمّل بقاءه، وكان لا يعدم منتابا، ولا يدع مرتابا، ولا يسمح أن يكون أحد عند مغناه، فسعد بمحضره جلساؤه، ووضح الصباح وجلاؤه، وكان في مثل هذا موفقا، وفي نقل الطب موثّقا. قال ابن أبي أصيبعة فيه:" رئيس زمانه، وعلّامة أوانه، مولده ومنشؤه بدمشق، بارع في الصناعة الطبية، جامعا لعلوم الحكمة، قد أتقن صناعة الطب علما وعملا، واحتوى على معرفتها تفصيلا وجملا، وكان محمود المداواة، مشكور المداراة، متعينا عند الأعيان، متميزا في كل مكان، مؤيدا في اجتلاب الصحة، وحفظها على الأبدان، واشتغل عليه جماعة المتطبّبين، وانتفعوا بفضله المبين، وله التصانيف الصحيحة العبارة، الفصيحة الإشارة، قوية المباني، بليغة المعاني، وعدّدها. ومنهم: 145- أبو الفرج يعقوب بن إسحاق بن القف النصراني «13» بيعة قوم توقّد نبراسها، ودوحة علم مثمرة غفل حراسها، فاق بطبّ له بالأبدان امتزاج، ويدان في تعديل كل مزاج، فطبّب كل داء، ولاطف لطف الأدواء، وكان ذا فهم كأنما كشفت له السجف «1» ، وعلم هو البئر الذي لا ينزح،

وأبوه القف ولم يزل على وثبات تقدمه وثبات قدمه، حتى قيّدت الحتوف خطاه، وأثقلت المنون مطاه، فما استقلت له قدم، ولا شبع للموت به قرم. ذكره ابن أبي أصيبعة وقال «1» :" مولده بالكرك، لسبع بقين من ذي القعدة سنة ثلاثين وستمائة، وكان أبوه الموفق يعقوب صديقا لي، مستمرا على أكيد مودّته، حافظا لها طول أيامه ودهره، يستحلى نفائس مجالسته، وتستجلى عرائس مؤانسته، ألمعيّ أوانه، وأصمعي زمانه، مجيدا في حفظ الأشعار، علّامة في نقل التواريخ والأخبار، متقدّما في علم العربية، فاضلا في الفنون الأدبية، اشتمل في الكتابة على أصولها وفروعها، وبلغ الغاية من بعيدها وبديعها، وله الخط المنسوب الذي هو نزهة الأبصار، والعناية التي لا تلحق في جميع الأقطار والأمصار، وكان في أيام العزيز كاتبا بصرخد، والنجابة تلوح على ولده أبي الفرج من صغره كما تحقق منه في كبره، وافر الذكاء، محبا للعلماء، فسألني أبوه في تعليمه، فقرأ عليّ ما عرف به أقسام الأسقام وحسم العلل، ثم انتقل أبوه إلى دمشق وخدم بها، وسافر معه ولده، ولقي العلماء، ولازم الفضلاء، وقرأ الحكمة على الخسرو شاهي، والغنوي الضرير، وقرأ الطب على علي بن المنفاخ، والموفق السامري، وقرأ أقليدس على المؤيدي العرضي، وفهمه فهما فتح به مقفل أقفاله، وحلّ به مشكل إشكاله، ثم خدم بقلعة عجلون، ثم عاد إلى دمشق، وخدم السلطان بها. وذكر الجزري في تاريخه قال: سألت أبا الفرج ابن القف عن مرض قاضي القضاة عز الدين ابن الصايغ، فقال: يموت بعد مدة عيّنها، وعن نفسه أنه يموت بعده بمدة عينها، فقلت له: أيش سبب ذلك؟.

146 - المهذب يوسف كاتب الزردكاش

فقال: القاضي كذب عليه فحصل له مراقيا «1» سوداوية، غارت إلى قلبه فقتلته سريعا. غير أني أشرب الخمر فأظهره الشراب إلى ظاهري، فأورثني الصفرة في جميع البدن، فأنا أبقى بعده مدة عينها، فاعتبرت قوله، فكان كما قال، وقلت له: أنت من كبار الفضلاء، ولك تصانيف في الطب ما تدفع عنك!، فقال: علة الموت ما لها دواء. وكان يتحسّر على نفسه. قلت: وأنشدني القاسم بن المظفر بن محمود بن عساكر لنفسه إجازة في مرض الحكيم ابن القف المذكور: [الخفيف] قيل إن ابن القف أشفى على المو ... ت ولم يبق منه غير رسيس ما نرى طبه أفاد ولا رد ... د الردى عنه قول جالينوس قلت كفوا أما سمعتم بما قيل ... وسارت به حداة العيس لو نجا الطب فاضلا كان بقراط ... ولم يعبث الردا بالرئيس إنما غاية الطبيب مع العلّ ... لة تخفيف ضرها المحسوس قال الجزري: توفي أبو الفرج ابن القف في سنة خمس وثمانين وستمائة. ومنهم: 146- المهذب يوسف كاتب الزردكاش والناس فيه وفي النفيس على خلاف، ولكل واحد منهما فريق يتعصب له، ويقطع بتفضيله، والإنصاف أن النفيس كان أقعد بالعمليات، والمهذب كان أقعد بالعلميات، لكونه كان يشغله خدمة الأمراء عن المباشرة، وكان رأس أهل زمانه في التعليم والتقريب إلى الأفهام، وكان جامعا للطب، بارعا في فنونه،

147 - النفيس أبو الفرج ابن إسحاق بن أبي الخير السامري

مفترعا لأبكاره وعونه، وكان يربأ بنفسه عن التمحض للاسترزاق بالطب، وكانت له بلة «1» من الرزق تعلّه، وقليل من متاع الدنيا يغنيه قله، ونشأت له عدة وافرة من التلاميذ، وتقدّموا واشتهروا باسمه وبانتسابهم إليه، وإلى اشتغالهم عليه، وهو والد الحكيم الفاضل غنائم الآتي ذكره والوافي كما يجب شكره. ومنهم: 147- النفيس أبو الفرج ابن إسحاق بن أبي الخير السامري طبيب جرى في مجالس جالينوس وتقدم، وإن جاء بعد اسفلنيوس، لو رآه الدخوار لخار، أو الرئيس صاحب الدلالة لحار، وابن التلميذ لتتلمذ لطبّه، أو الرحبي لرحّب به، وفقد حاسة بصره لا بصيرته، وحناه الكبر وهو على وثيرته، ولم يبق في وقته من أكابر الأطباء، إلا من كان يحسده على فضله، ولا يسعه إلا الاعتراف، فإذا أراد التنقّص به لا يجد سبيلا أكثر من أنه يقول إنه فقد حاسة البصر، وبها كان يرى السحنة التي يستدل بها، ويرى بها العلامات، وكان جل زمانه للإقراء والاشتغال في علم الطب وفروعه، والتوقيف على دقائقه، والإجادة في حسن التعليم والتفهيم، والتوقيف والتشقيف، فأنشأ أهل ذلك الجيل، وتخرّجوا عليه حتى تأهّلوا وبرعوا في الطب، وزكوا، وأذن لهم في الطب والتصرف وكلهم من عذبه الزلال استقوا، ومن شعبه ذي الأطلال ارتقوا. وكان النفيس ريّض الأخلاق، طويل الروح، كثير الاحتمال، كان للأمين سليمان رئيس الأطباء بمصر لفتات عليه، ويتنقّص به ويسمعه القبيح ويفاجئه بالصريح وهو لا يتأثّر، ولا يتقلّل بكلامه، ولا يتكثّر، وعلماء الدهر، وفضلاء العصر، كلهم

148 - الأمين سليمان الحكيم وهو سليمان بن داود

على خلاف قول الأمين سليمان فيه، ويصفه بالفضل كل طبيب فاضل وفقيه، ولما كبر انحنى ظهره، وتأطّر رمحه، فلما احدودب، كان يقال له: صندوق العلم، يسميه بهذا عامة الناس، ويعتقد فيه الفضل ويشهد له جمهور الخلق من عرفه منهم ومن لم يعرفه بالتقدم في الطب، والتبريز على كل معاصر، وكان له تفقّه في الطب، وآراء في المداواة، وتفنّن في العلاج، ولم يزل مشارا إليه إلى أن هلك، ومتبوعا في الطب أين سلك. ومنهم: 148- الأمين سليمان الحكيم وهو سليمان بن داود «13» أمين الدين أبو الربيع، رئيس الأطباء بالشام. لحق بالأوائل، وعرف العلم بالدلائل، لو عالج المعتذر لأزاح علله، أو شاء إصلاح ما بين الأفقين لسدّ خلله، لم يتقدّمه جالينوس إلا بالزمان، ولا ابن سينا إلا بكثرة الإدمان، نسي به كل من تقدّم، ونسب إليهم من الفضل ما قدّم. قرأ على العماد الدنيسري، والعز السويدي، والموفق السامري «1» ، وأخذ عن تلك الطبقة، إلا أنه كان إلى الدنيسري أشدّ انقطاعا، وإليه صارت كتبه وعليه وقف أملاكه، وكان وارث علمه وماله، وخلفه في كل أحواله، وكان منه أصل ثروته، وما حصّله وأثره وأثله. وحكى لي من رآه في حال صباه، وغصنه رطيب، ومفرقه كله مسك

وطيب، وخده مصقول السوالف، وطرفه إما ساحر أو سائف، ولأهل بلده به فتون، وفي كمده فتون، والدنيسري قد اعتلقه، وخيل إليه دوام الحياة بقربه، فاعتنقه. قال: وكان على هذا لا يخلو منه للحكماء ملعب، ولا للعلماء ندي فضل به يستوعب، فلما صارت إليه الرياسة وسارت به النفاسة قال بعض حسّاده: [الكامل] يا معشر الحكماء لا تتسخّطوا ... لعظيم ما قد تمّ في ذا العالم هذا سليمان بن داود الذي ... نال الرياسة دونكم بالخاتم قلت: وإنما نيح القمر وعارض أدنى البحر، وهيهات أن تغطي السماء بالسحاء، أو يضارّ في رؤيته ذو نظر، فلقد كان فردا في الزمان منقطع القرين، معدوم النظير، شارك في الحكمة، وبرّز في علم الطب، وصار علما فيه، وتقدّم باستحقاق وألقي عليه القبول، ومال إليه الحقير والجليل، واقتصرت على طبه الأكابر، ومالت إليه العلماء وأثنى عيه شيخنا ابن الزملكاني، وحصلت بينه وبين ابن الوكيل منافرة، ثم اتفق لابن الوكيل أن ركّب للأفرم نائب الشام سفوفا «1» يعينه على الهضم، ويسهله، فلما أخذ منه الأفرم أفرط به الإسهال، ووثب مماليك الأفرم بابن الوكيل ليقتلوه، فأتى الأمين سليمان وكفهم عنه ثم دخل على الأفرم، واعتبر إعراضه، ثم أعطاه أمراق الفراريج، وشرع في إعطاء المسهلات له، واستفرغه حتى كمل إخراج تلك المادة التي اندفعت، ثم أعطاه المقبّضات والممسكات، فبرأ وأفاق. قلت: إنما أعطاه أولا المسهّلات مع وجود الإسهال، لأنه رأى السفوف قد هيج مادّة رديّة، ولم يتم اندفاعها، وإن انحباس بقيتها مفسد للبدن، فاستعمل

استفراغ تلك المادة الردية، ثم أمسك ما سواها، وهذا من محاسن العلاج، وله غير هذا من الغرائب والعجائب في صناعة الطب. منها: أن بعض بني صصري كان يشكو نزلة متقدمة به، لا تزال تعاوده، ويلتاث جسمه ببقاياها، فشكا إليه ما يجده منها، فأمره بالحمية، وتعهّد الحمّام، حتى لطف أخلاطه، ثم أخرجه من الحمام وكشف رأسه عقيب خروجه منه حتى نزلت به نزلة أخرى، ثم استمر به على الحمية، وشرع في معالجته، وأعطاه المسهلات حتى استفرغ مواد تلك النزلة، واندفعت معها مواد النزلة القديمة، وبرأ الرجل وأفاق. ومنها: ما حكاه لي الشيخ أحمد بن براق قال: كنت عند الأمين سليمان فأتى رجل قد حصل له ورم في وجهه، وقد تلوّن بالحمرة والزرقة، فلما رمى عمامته عن رأسه، وكانت عمامة كبيرة، وبقي الرجل يخاف من البرد، وسليمان يقول له ارمها بلا فشار، ثم أمر بسطل من الماء البارد فصبّه على رأسه، وكان الفصل شتاء، ثم نقله إلى المارستان، وشرع في معالجته، وسئل عن هذا فقال: كانت قد تحركت مادة في دماغه أردت أن أجمّدها قبل أن تنصبّ جملة واحدة. قلت: وقد تقدم مثل هذا عمن تقدم، وله كل معالجة طائلة، وحدس صحيح، وتجربة محققة. ولما مرض الكرجي وهو في نيابة طرابلس، حارت فيه الأطباء فاستدعاه واستطبّه، فبرأ بقدرة الله على يده، فغمره بالإحسان، وحصل له منه ومن حاشيته نحو أربعين ألف درهم، ما هو دراهم وقماش وغير ذلك، ثم عاوده المرض فاستدعاه وطبّبه، وبرأ فحصل له منه نحو عشرين ألف درهم. وحكي لي: أنه كان أقل ما يدّخر في كل يوم دينار من الذهب، بعد كلفه وسائر نفقته، وإنه على هذا منذ بلغ عشرين سنة من العمر، وإلى آخر وقت. وكان صحيح الإسلام، حسن المعتقد، جميل اليقين، وحجّ مرات إلى البيت

الحرام، وزار النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، وكان إذا أتى المدينة الشريفة لزم المسجد وأكثر الصلاة. ولم يزل على رتبته ومكانته حتى سعي عليه عند تنكيز نائب الشام، وغير عليه خاطره، هذا إلى ما كرهه منه من قوة النفس، وكثرة الجرأة والإقدام، فعزله عن الرياسة، وحطّه عن رتبته، وأغري بذمته، والتنقّص به، وقام عبد المولى اليهودي لعناده ورماه سليمان بالبرص، وكشف فلم يصح قوله فيه، وولي عوضه جمال الدين محمد ابن الشهاب الكحال، فجرت بينهم عواصف، وتمت بينهم مع تعمّد الظلم مناصف ونامت على بغضاء تنكز له الأيام والليالي، ثم عطفته عليه عاطفة الرضا، فأقبل عليه كل الإقبال، واستصحبه في سفرة كنت فيها إلى جهة غزة، وأتينا بأنواع من الطعام فيها من السمك واللبن، فقلنا له من أيهما نأكل؟. فقال: أنا طبيبكم وكلوا مما آكل. ثم أكل من السمك، وأكلنا معه حتى كاد يشبع، ثم ترّد خبزا في اللبن، وأكل منه بالملاعق، وأكلنا معه، ثم قال: علينا بالمصلح. فقلنا: ما هو؟. فقال: العسل. فأتينا به، فلعق منه لعقا كثيرا، ولعقنا معه، ثم مكث ساعات، ثم أمر فعملنا شرابا من السكر والليمون، فشرب وشربنا معه، ثم قال: علمنا اليوم بطب الهند. قالوا: أما أن يكون أحدهما أبرد من الآخر أو هما سواء في الدرجة، فإن كان أحدهما أبرد من الآخر فالآخر مصلح له، فإن كانا سواء في الدرجة كنا كمن أكل من شيء واحد، واستكثر منه.... ثم طلب الأمين سليمان إلى باب السلطان ولحق به لتطبيب القاضي علاء الدين ابن الأثير كاتب السر- رحمه الله تعالى- من فالج أصابه، فجاء وطبّبه فلم ينجع، وسعى لأمر فما أنجع، ولم يقع من السلطان بموقع، ولا لقي أطباء الحضرة، بما يجب، فتقهقر وذمّ وأعيد إلى دمشق مبرقع الوجه بالخجل، خائب الظنة والأمل. ثم عقد له مجلس بحضرة تنكز لدواء وصفه

149 - أحمد بن شهاب الدين أبو محمد الكحال الجرائحي

لابنه، وكان قد جمد اللبن في معدنه، فوصف له أنفحة الجداي، فأنكرت الأطباء ذلك، فادّعى الصواب، وحضر المجلس المعقود له أعيان الفقهاء والحكماء، وطولب بالنقل، فأحضره، فلم ينهض بصدق دعواه، وعلى هذا فلم ينقم عليه تنكز كراهيته له، وتوفي في.... «1» . ومنهم: 149- أحمد بن شهاب الدين أبو محمد الكحال الجرائحي «13» ذو يد في صناعته ولسان، وأسى لأعمال يديه وإحسان، جرى ممتد الأرسان، واتخذ يدا عند كل يد وصنيعة عند كل إنسان، وكان رب علم يدرس وينسخ، وعمل يقطع لأجل ميل منه مائة فرسخ، فطالما بصّر من عمي، وحقن دما إذ أراق دما، بعلاج كم جبر من كسر، وأطلق من أسر، وظهر بأشتات من المحاسن جمع منها عديدا، وجعل سيف النظر بالجلاء مجوهرا وكان حديدا، هذا إلى خبرة بمفردات الأكحال وترتيبها، ومجمعات أجزائها وتركيبها، فكم سوّى منها ما خلق، وداوى رمد العين وقد خلق الإنسان من علق. ومنهم: 150- الفتح السامري: هو ابن يوسف بن إسحاق بن مسلم «14» من سبط يوسف على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وهو آخر من بقي في

الإقليمين، وصلح للتعليمين، برع في الحكمة على إطلاقها، وأعرف عن بدائع اخلاقها، وأتقن فروع الطب حتى أصبحت به فروعها مثمرة، وأغصانها على أصول الحكمة نضرة، وقرأ جانبا من النحو أقام به أود لسانه، وقام به في جدد الإحسان، وكتب خطا كما حشي عنبر الأصداغ، وسلك طرقا من العبارة لها من نطف القلوب مساغ. قرأ الطب على النفيس السامري، وغيره، وتخرّج مع سلف الأطباء، وزاحم بقايا تلك القنن، وطبّب وعالج، وظهر حسن أثره، وعرف يمن علاجه، وأثنى عليه الأفاضل، وشهدت له الأطباء بالإجادة، وكان شيخنا ابن الزملكاني يقول: ما رأيت في المسلمين أصح من ذهن البرهان الزرعي، وفي غير المسلمين من أبي الفتح السامري، قلت له مرة: فأيهما أصح ذهنا؟. قال: أبو الفتح. وكان رحمه الله يدع مشاهير الأطباء في زمانه، ومنهم الأمين سليمان، وهو أصدق صديق له، وأصحب صاحب يعتمد عليه، ويطلب الحكيم أبا الفتح ويستطبّه، وإذا حضر هو وغيره من الأطباء وهم كهول، وهو شاب، ترك أقوالهم واتبع قوله، وجعل عمدة طبه عليه. وحكى لي ولده تقي الدين عبد الرحمن قال: مرض أبي مرضة استشعر في مباديها أنها ستطول به مدتها، وتثقل عليه، فطلبني وقال: يا بني، أنا ما أعتمد في الطب إلا على أبي الفتح السامري، فإن ثقل بي المرض وغاب ذهني عني بالحمى أو غير ذلك لا تعدل بي عن طبه ومعالجته، وإياك أن تغتر وتميل إلى قول سواه، فإن أبا الفتح صحيح الحدس في معرفة المرض، وعليه رتب المداواة. قال: وكان كثير الثناء عليه، ولما كنا بحلب كان يقول إذا ذكر دمشق وحسنها يقول: كيف لا أتأسف على دمشق وفيها ربيت ونشأت؟ وفيها مثل

151 - غنائم السامري، وهو ابن المهذب يوسف كاتب الزردكاش

أبي الفتح، وكان لا يزال يشتاق إليه ويتأسف عليه. قلت: والحكيم أبو الفتح هو اليوم واحد زمانه، منقطع القرين، ما له نظير في معرفة علم الطب، وحسن العلاج، ولطف المداواة، إلى حسن الوجه، والشكل، والعبارة، والخط، وما عليه من القبول مع إذعان كل حكماء زمانه وأطباء دهره له بالتقدم والتفرد وحده في الرتبة والمكان، وما خلا الوقت ومثله موجود في الزمان. ومنهم: 151- غنائم السامري، وهو ابن المهذب يوسف كاتب الزردكاش «13» ملاطف ملأ طيف كل جفن من كرى، وعدل مزاج الزمان لم يدع منكرا. أبطل ذكر ابن بطلان، وأسخط علي بن رضوان، وأتى بما لو رآه ابن ماسويه لمسّه الإعجاب، أو حنين بن إسحاق لما وسعه إلا أن يتستّر بما طال من الثياب. قرأ على أبيه المهذّب، وأخذ عن النفيس، وأذن له في الطب، وتصرّف وطبّب، واشتهر بالعلم والاستحضار للنقل والمفردات، والعلاج الحسن، والملاطفة التامة، وغرائب المداواة، وهو ممن تزهو به دمشق، وتستطيل في الفخار، مع ما طبع عليه من أناة ورفق، وتودّد، وحسن تبصّر، ومعرفة لا تقصر، ورأيت من يرجّحه على أبيه، ويصفه ويبالغ فيه، والناس فيه وفي الحكيم أبي الفتح على قولين، وعلى الجملة فأين مثلهما أين؟.

فأما أطباء الغرب بما وقع في جانبه من مصر والاسكندرية،

فأما أطباء الغرب بما وقع في جانبه من مصر والاسكندرية، فمنهم: 152- إسحاق بن عمران «13» حلّق تحليق العقاب، وحلّ حيث لا يعاب. وافى ديار مصر فكان زلالا، وأتى المغرب فكان هلالا، فطاب به الواديان، وكان كقاب قوسين منه الواليان، واستوطن أفق المغرب وشمسه ما أذنت بأفول، وشهبه ما آن لقلائصها قفول، ثم كان يتشوق العراق، وبرد نسيمه، وورد تسنيمه، ولكن لم تدن له الأماني، ولم تدن لسعيه المتواني، ولم يتمناها إلا حين لا أوان وحيث دنت وقد حيل بين العير والنزوان. قال ابن أبي أصيبعة:" كان طبيبا مشهورا، وعالما مذكورا، ويعرف بسم ساعة، قال ابن جلجل: كان مسلم الدين، بغدادي الأصل، بعث إليه ابن الأغلب «1» ألف دينار وراحلة، وكتاب أمان بخط يده أنه متى أحب الانصراف إلى وطنه انصرف، واستجلبه، حتى دخل أفريقية على شروط ثلاثة، لم يف له بواحد منها. قال: وبه ظهر الطب في الغرب، وعرفت الفلسفة، وكان خبيرا بتأليف الأدوية المركبة، بصيرا بتفرقة العلل، أشبه الأوائل في علمه وجودة قريحته. استوطن القيروان حينا، وألف سكنه، وألّف فيه كتبا منها: كتابه في داء

153 - إسحاق بن سليمان الإسرائيلي أبو يعقوب

الماليخوليا، لم يسبق إليه، ثم توحّش له ابن الأغلب، وكان نهما، وكان إسحاق يمنعه من كثير من المآكل، فقدم عليه حدث يهودي من الأندلس، فكان يخالف إسحاق فيما يشير به على ابن الأغلب، فقدّم إليه يوما لبن، وكان يشكو ضيق نفس، فنهاه إسحاق عن أكله، وهوّنه اليهودي عليه، فأكله، فعرض له في الليل ما أشرف منه على الهلاك، فأرسل يقول لإسحاق: هل عندك علاج؟. فقال: لا. فقيل له: هذه خمس مائة دينار، وعالجه. فأبى، فلم يزل حتى أوصل إلى ألف دينار، فأخذها، وأطعمه الثلج حتى امتلأ، ثم قيّأه، فخرج جميع اللبن، وقد تجبّن ببرد الثلج، فقال له إسحاق: أيها الأمير، لو دخل هذا اللبن أنابيب رئتيك ولج فيها أهلكك بضيق النفس، لكنني أجهدته وأخرجته قبل وصوله، فقال ابن الأغلب: باع والله إسحاق روحي في البدء اقطعوا رزقه. فخرج إسحاق إلى مكان من رحاب القيروان، وصار يكتب الصفات «1» كل يوم بدنانير كثيرة، فقيل لابن الأغلب: طردت إسحاق أو دللته على الغنى؟ فسجنه، فتبعه الناس إلى السجن يستوصفونه، فأخرجه ليلا ثم كانت له معه حكايات ومعاتبات أحنقته عليه، ففصده في ذراعيه حتى مات، ومكث حتى عشّش في جوفه الطير. ومنهم: 153- إسحاق بن سليمان الإسرائيلي أبو يعقوب «13» المعروف المشهور، والمألوف طبه المشكور، طالما وهب الكواكب أيقاظ نومه،

ومنح الغياهب «1» أنقاض يومه، ودانى العلياء لو حفظ لسانه، ولفظ إلا إحسانه، لم يسلم من عثرات لا تقال، وتحفظ ولا تقال «2» ، لعجلة كانت له خلقا، وكالت بالمكاييل عليه الشقا، فلم يخل من ملام، وكلام مثل كلام «3» . قال ابن أبي أصيبعة:" كان طبيبا فاضلا، بليغا عالما، مشهورا بالحذق والمعرفة، جيد التصنيف، عالي الهمة، وهو الذي شاع ذكره وانتشرت معرفته بالإسرائيلي، وهو من أهل مصر، وكان يكحّل في أوليته، ثم سكن القيروان، ولازم إسحاق بن عمرن، وتتلمذ له، وخدم المهدي عبيد الله «4» بالطب، وعمّر إلى أن نيّف على مائة سنة، ولم يتزوج امرأة، ولا ولد ولدا، وقيل له: أيسرك أن تخلف ولدا؟. فقال: أما إذا بقي بعدي كتاب" الحميّات" فلا!. يعني: أن بقاء ذكره بهذا الكتاب الذي صنفه أكثر من بقاء ذكره بالولد. ويروى أنه قال: لي أربعة كتب تحيي ذكري أكثر من الولد «5» . وحكى قال: لما قدمت من مصر على ابن الأغلب، بعث إليّ بخمس مائة دينار، قويت بها على السفر، فلما وصلت أدخلت عليه ساعة وصولي، فسلمت عليه بالإمرة، وفعلت ما يجب أن يفعل للملوك من التعبد، فرأيت

مجلسه قليل الوقار، والغالب عليه حب اللهو، فابتدأني بالكلام، فقال ابن حبيش «1» المعروف باليوناني: تقول: إن الملوحة تحلو؟. قلت: نعم. قال: فالحلاوة إذا هي الملوحة، والملوحة هي الحلاوة، فقلت: إن الحلاوة تحلو بلطف وملائمة، والملوحة تحلو بعنف. وتمادى على المكابرة، وأحب المغالطة، فلما رأيت ذلك منه قلت له: أنت حيّ؟. قال: نعم. قلت: والكلب حي. قال: نعم. قلت: فأنت الكلب، والكلب أنت!. فضحك ضحكا شديدا، فعلمت أن رغبته في الهزل أكثر من الجد. قال: فلما وصل داعي المهدي «2» إلى" رقادة" «3» أدناني وقرّبني، وكانت به حصاة في الكلى، فعالجته بدواء فيه العقارب المحرقة، فجلست ذات يوم مع قوم من كنانة، فسألوني عن صنوف من العلل، وبقيت كلما أجبتهم لا يفقهون قولي، فقلت لهم: إنما أنتم بقر!، فبلغ الخبر داعي المهدي، فقال لي: أتقابل إخواننا المؤمنين بما لا يجب! وتالله الكريم لولا أنني أعذرك بأنك جاهل بحقهم، وبما صار إليهم من معرفة الحق وأهله لأضربنّ عنقك.

154 - أحمد بن إبراهيم بن أبي خالد المعروف: بابن الجزار القيرواني أبو جعفر

ومنهم: 154- أحمد بن إبراهيم بن أبي خالد المعروف: بابن الجزار القيرواني أبو جعفر «13» طبيب كان في فعله محمودا، وعلى فضله محسودا، يكاد طبّه يدافع الآجال، ويضيّق على جالينوس المجال، إلى دقائق أخرى، وحقائق أبقت له إلى الأخرى، مع رتبة لو أنها للنجوم لتقرّطت بأشنافها «1» ، أو بالعلوم لما كانت إلا لأشرافها. وكان لا يشمخ الكبر بعرنينه «2» ، ولا يطمع الببر «3» في دخول عرينه، وإنما كان يتحلى بالاتّضاع، ولا يروّع بفصال له من رضاع، ثم سكن الترب مضجعا، وساء شامتا ومتوجّعا، وأمسى رهين عمله، وضمين اليأس لانقطاع أمله. قال ابن أبي أصيبعة:" طبيب ابن طبيب ابن طبيب، ممن أخذ عن إسحاق بن سليمان، وكان من أهل الحفظ والتطلع، والدراسة في الطب وسائر العلوم، حسن الفهم لها.

155 - حمدون أثا

قال ابن جلجل: كان قد أخذ لنفسه مأخذا في سمته وهديه وتعدّده، ولم تحفظ له زلة، ولا أخلد إلى لذة، وكان يشهد الجنائز والأعراس، ولا يركب إلا إلى المهدي عبيد الله، وإلى عمه أبي طالب، فإنه كان له صديقا حميما، وأليفا قديما، وكان يأتيه في كل يوم جمعة، وكان ينهض في كل عام إلى رباط البحر فيكون طول مدة القيظ، وعالج ولد النعمان القاضي «1» ، فبعث إليه بمنديل مملوءة بكسوة وثلاثمائة دينار، فلم يأخذ شيئا، فقيل له: رزق ساقه الله إليك. فقال: والله لا كان لرجال معد قبلي نعمة. وعاش نيفا وثمانين سنة، وترك أربعة وعشرين ألف دينار، وخمسة وعشرين قنطارا، من كتب طبية وغيرها. ومنهم: 155- حمدون أثا «13» شفى المرض بطبه، وهوّن عن المريض همّ خطبه، وأحسن علاجا، وأحسن في ليل المساءة انبلاجا، وسلك من طرق القدماء أحصنها، وأحلّ من رمق الذماء «2» أحسنها، وكان لا يكره على مرّ الدواء، ولا يضيق في علاج الداء، لمعرفته بالأبدال، وقدرته إذا جد الجدال، فلم يزل محظيا، ولم يبرح في قومه رضيا.

156 - يحيى بن إسحاق

قال ابن أبي أصيبعة:" كان في أيام محمد بن عبد الرحمن الأوسط، وكان حاذقا مجربا، وكان صهر بني خالد، وله بقرطبة أصول ومكاسب، وكان لا يركب الدواب إلا من نتاجه، ولا يأكل إلا من زرعه، ولا يلبس إلا من كتان ضيعته، ولا يستخدم ببلاده إلا من أبناء عبيده". ومنهم: 156- يحيى بن إسحاق «13» حكيم لم يكذب صدق حدسه، ولا خفي غامض على حسّه. كان بصره منوّرا، ونظره لخفايا البواطن متصورا، ولهذا قرطس سهمه، وقرّط بالثريا اسمه، وسبق اسمه النجوم وقطعها، وسار في جميع الأرض كأنه أقطعها «1» ، وكان أهل زمانها يتهادونه الرياحين، ويظنون أنهم يحيون به إلى حين، وهيهات فيم يفخرون، وهيهات إذا جاء أجلهم لا يستقدمون ساعة ولا يستأخرون. ذكره ابن أبي أصيبعة وقال:" كان طبيبا بصيرا بالعلاج، صانعا بيده، وكان في صدر دولة عبد الرحمن الناصر، بمكان الثقة، وكان يطلعه على الكرائم والخدم، وكان قد أسلم. قال ابن جلجل عن رجل كان بباب داره إذ أتى بدوي على حمار وهو

157 - أبو داود بن جلجل: وهو سليمان بن حسان المعروف بابن جلجل الحكيم

يصيح، فخرج إليه وقال له: ما بالك يا هذا؟ فقال: أيها الوزير، ورم في إحليلي منعني من النوم منذ أيام كثيرة، فقال له: اكشف عنه. فكشف فإذا هو وارم، فقال لرجل كان مع العليل: اطلب له حجرا أملس، فأتاه به، فقال: ضعه على كفك، وضع عليه الإحليل، ففعل، فلما تمكن إحليل الرجل من الحجر، جمع الوزير يده وضرب على الإحليل ضربة غشي على الرجل منها، وجرى من الإحليل صديد الدم إلى أن نزف، ثم فتح عينيه، وبال البول، فقال له: اذهب فقد برئت، وأنت كنت قد عيّثت فأتيت بهيمة في دبرها! فصادفت شعيرة من علفها، فلجّت في عين الإحليل، فورم لها، وقد خرجت الآن في الصديد!!. فقال الرجل: قد كان ذلك مني، وأقرّ بفعلته. ومنهم: 157- أبو داود بن جلجل: وهو سليمان بن حسان المعروف بابن جلجل الحكيم «13» فاض بحره التيار، وفات سرى الكواكب ذكره السيّار، وحام على المجرّة ووردها، وجفا بطبه بنات نعش ووأدها، ولجّ على عارض الحرارة وأطفأ موقدها، وحلّ مجالس الملوك وحل عقدها، وخزي به المرض واكتأب، وحصّل بصناعته الأموال واكتسب، ولم يكن ممن يتهوّر في إقدام، ولا يتصور أن ينقل إلى ذي سفالة أقدام، فكان مدة حياته موقرا، لا يطأ أخمصه إلا حريرا وعبقرا.

قال ابن أبي أصيبعة:" كان خبيرا بالمعالجات، جيد الصرف في صناعة الطب، وكان في أيام هشام المؤيد، وخدمه، وله اعتناء بقوى الأدوية، وفسّر أسماء الأدوية المفردة من كتاب ديسقوريدس العين زربي، وأفصح عن مكنونها، وأوضح مستغلق مضمونها، وهذا الكتاب ترجمه اسطفان «1» أيام المتوكل، وفسّر من مفرداته ما عرف له اسم في اللغة العربية، وأبقى اسم ما لم يعرف له اسم. قال: وأهدى أومانون صاحب القسطنطينية إلى عبد الرحمن الناصر هدايا جليلة عظيمة المقدار، منها كتاب ديسقوريدس مكتوبا بالإغريقي، وهو اليوناني، مصورا بالتصوير الرومي العجيب، وكتب إلى الناصر يقول له: إن هذا الكتاب لا يجتنى فائدته إلا برجل يحسن العبارة باللسان اليوناني، ويعرف أشخاص الأدوية. فإن كان في بلدك من يحسن هذا، فزت بفائدة هذا الكتاب؛ فبقي في خزانة الناصر، ثم بعث أرمانوس إلى الناصر راهبا اسمه نقولا، ففسّر من أسماء عقاقير ما كان مجهولا، وهو أول من عمل بقرطبة درياق الفاروق. قال ابن جلجل: واجتمع أطباء قرطبة مع نقولا على معرفة أشخاص الأدوية المذكورة في كتاب ديسقوريدس قال: وأدركت نقولا الراهب ومن اجتمع معه في أيام المستنصر الحكم، في صدر دولته، وصحبتهم فصحّ ببحث هؤلاء الوقوف على أشخاص هذه العقاقير بمدينة قرطبة، وتصحيح أسمائها إلا القليل الذي لا بال به ولا خطر له، وذلك يكون في مثل عشرة أدوية.

158 - أبو جعفر يوسف بن أحمد بن حسداي

ومنهم: 158- أبو جعفر يوسف بن أحمد «1» بن حسداي «13» حكيم جلّ قدره، وجلا الظلماء بدره، تصدى طبه للأدواء فحسمها، وشدّ بها بناء الأعضاء وقد حطمها، وسرى علاجه في العلل الجسام، سريا لأرواح في الأجسام، وبهذا ثبت زلزالها وردّها إلى مصاحبة الجسوم وقد نوت اعتزالها، وفعل في هذا الغاية بلطف مداراته، وكف ما لم يقدر الثوب على مواراته، ثم لم يغن عنه طبه إذ حان حينه «2» ، وقرب ما بينه وبين الموت بينه. قال ابن أبي أصيبعة فيه:" من الفضلاء في صناعة الطب، وله اعتناء بالغ بالاطلاع على كتب أبقراط، وجالينوس، وفهمهما، وكان قد سافر من الأندلس إلى مصر، واشتهر بها ذكره في أيام الآمر «3» ، وكان خصيصا بالمأمون الآمري الوزير، وكان قد أمره المأمون بشرح كتاب الإيمان لأبقراط، فشرحه. وكان مدمنا للشراب، وعنده دعابة ونوادر. حكي أنه كان قد رافق بعض الصوفية في سفرة سافرها من الإسكندرية إلى القاهرة، فقال له الصوفي: أين تنزل في القاهرة حتى أكون أراك؟. فقال: ما في نيّتي أنزل إلا في الخمارة، وأشرب!. فغضب الصوفي عليه. فلما أتيا القاهرة تفرّقا، فلما كان في بعض الأيام مر ابن حسداي في السوق، وإذا بأفواج

159 - الغافقي: وهو أبو جعفر أحمد بن محمد بن سند

الناس مزدحمة، وبينهم صوفي يعزّر، فنظر إليه فإذا هو صاحبه قد أمسك وهو سكران، فقال له ابن حسداي: والله ما قتلك إلا الناموس «1» . ومنهم: 159- الغافقي: وهو أبو جعفر أحمد بن محمد بن سند «13» رسا في العلم ورسخ، وأنسى ما في كتب القدماء ونسخ، وطلع في هالات الأهلّه، وأراع علالات العله، وناسب ما يلائم النفوس وصفا، وورد مثل زرق النطاق وأصفى، ولم يعد مريضا إلا كشف غمّاء المرض، وكف إيماء المرض، وكان يتبرّك بعيادته، ويتيمن تيمنا كان سببا لسيادته، إلا أنه بمعرفة قوى الأدوية أدرب، وحدسه فيها أأرب، وكلامه فيها كلام من رأى وجرّب. قال ابن أبي أصيبعة فيه:" إمام فاضل، وحكيم عالم، ويعدّ من الأكابر، وكان أعرف أهل زمانه بقوى الأدوية المفردة، [وكتابه في الأدوية المفردة] «2» لا نظير له في الجودة، ولا شبيه له وقد استقصى فيه ما ذكره ديسقوريدس والفاضل

160 - أبو بكر عتيق بن تمام ابن أبي النوق الأزدي

جالينوس بأوجز لفظ، وأتم معنى، ثم ذكر ما تجدّد للمتأخرين فيها من الكلام، وما ألمّ به كل واحد منهم، فجاء كتابه جامعا لما قاله الأفاضل فيها ودستورا يرجع إليه فيما يحتاج إلى تصحيحه منها. ومنهم: 160- أبو بكر عتيق بن تمام ابن أبي النوق «1» الأزدي «13» طبيب أبرأ الأسقام، وأريت له من الفضل أوفر الأقسام، جرى في طلق الوفا، وجرب منه مطلق الشفا، هذا وهو شاعر لا يذعر «2» له جنان، ولا يشعر إلا وفي فيه سنان، يبعث سمام الأرقم، ويجرع الحمام في كأس العلقم. قال ابن رشيق:" غلب عليه اسم الطب، فعرف به لحذقه، ومكان أبيه منه، وهو شاعر حاذق، مفتوق اللسان، حاضر الخاطر، لم أر قط أسهل من الشعر عليه، يكاد لا يتكلم إلا به، وأكثر تأدبه بالأندلس، لقي بها ناسا وملوكا، وأخذ الجوائز، وقارع فحول الشعراء. ومما أنشده له قوله: [الطويل] فلم أنسها كالشمس أسبل فوقها ... من الشعر الوحف «3» الأثيث «4» عذوق فلو ذاب ذا أو سال جريال «5» خدها ... جرى سيح «6» منه وسال عقيق

قال: فأنت ترى الطبع كيف حمل هذا المعنى، كما تحمل الأرواح الأجسام، ولو وضع بين فسطاط المحرزين، وحمل على مذاهب المتعصبين، لرأيته أثقل من العذل، وأقتل من الجهل، لأن التصنع تكلّف، والتكلّف مغصوب مكره، غير أن القسم الآخر منقول بذاته من شعر ابن هانىء في وصف فرس. ومن أبيات ابن أبي البوق: [الطويل] فمت تسترح يا قلب إن كنت عاشقا ... فإنك فيها بالممات خليق ومن لم يمت في إثر إلف مودع ... فليس له بالعاشقين لحوق ومما أنشد له أيضا قوله «1» : [البسيط] يحمّل المرهقين الطائعين له ... في منتهى الحط أو في منتهى الفتن حتى إذا انكشفت عن عارض حسن ... سحب تصدى لها بالمنصل الخشن أراه ضربا يريه أهله معه ... ويقدح النار بين الرأس والبدن تركت أهلي وأوطاني لقصد فتى ... يداه أخصب من أهلي ومن وطني عليّ «2» الماجد الحرّ الجواد ومن ... في حزمه جمع الأشتات للحسن ومن إذا استمطر العافون راحته ... سقتهم فوق سقي الوابل الهتن ومن حوى رتبا لم يحوها بشر ... إلا الذي ولدوه معدن المنن والفرع عن جده ينمي ومحتده ... والخير والشر مشروبان في اللبن تجري النجابة طبعا في شمائله ... والمجد والبشر جري الماء في الغصن

161 - أبو محمد المصري

وقوله: [السريع] يا قائدا ما مثله قائد ... يشكره القائم والقاعد وواحدا ما إن له مشبه ... وماجد ما فوقه ماجد ومن غدا بأبيه والدا ... برا لمن ليس له والد إن قلت: كالبحر عطاء فإ ... نّ البحر لا يشكره الوارد أو قلت كالقطر سماحا فإ ... نّ القطر مع كثرته نافذ أو قلت كالبدر فقد ين ... قص البدر وهذا أبدا زائد هذا عليّ واحد للعلى ... أوحده في عصره الواحد أنا الفتى الشاكر إحسانه ... والله والله أبدا شاكد «1» ومنهم: 161- أبو محمد المصري «13» الحكيم لا يقصر في حكمه، ولا يعجز أن ينطق من تمادى في بكمه، جرى الأدب بقلمه، وسرى نفس في كلمه، وحظي بقبول كان يتلقاه حيث حل،

ويحله أكرم محل، ويتحفه بحباء الملوك بما ينعم به بالا، ويعم حساده وبالا، قد أوثقته الحدق النجل جراحا، وأوبقيته الذوائب فلا يجد سراحا، وكان كالخمر في سلب العقول، وكالسحر في الخلب بما يقول، حاذقا بصيد الدراهم، واستخراج خبايا الحبوب، ولو زرّرت بحدق الأراقم. قال ابن بسام فيه:" شيخ الفتيان، وآبدة الزمان، [وخاتمة أصحاب السلطان] وكان رحل إلى مصر واسمه خامل، وسماؤه عاطل، فلم ينشب أن طرأ على الأندلس، وقد نشأ خلقا جديدا، وأجرى إلى النباهة طلقا بعيدا، فتهادته الدول، وانتهت إليه التفاصيل والجمل، وكلما طرأ على ملك فكأنه معه ولد، وإياه قصد، فجرى مع كل أحد، وتموّل في كل بلد، وتلوّن في العلوم بلون الزمان، وتلاعب بالملوك بأفقها تلاعب الريح بالأغصان، حتى ظفر به ابن ذي النون، فشد عليه يد الضنين، فوجد كنفا سهلا، وسلطانا غفلا، فسرّ وساء، وارتسم في أي الدواوين شاء. وكان بالطب أكلف، وعليه أوقف، فتعلّق بسببه حتى اشتهر به. وكان حسن البيان، مليح المجلس، حاضر الجواب، كثير النادر، راوية للشعر والمثل السائر، نسّابة للمفاخر، عارفا بالمثالب والمناقب، وكان بالجملة روضة أدب، وهيهات أن يأتي الدهر بمثله. وتحيز إلى إشبيلية فأنس المعتمد بمكانه، وجعل له حظا من سلطانه، ثم بقي بعده على حاله مشتملا بفضل إقباله، ممتعا مقبلا على لذاته. ومما أنشد له قوله: [البسيط] قال الوشاة ودمع العين منحدر ... ودمعه فوق روض الورد قد حارا النار يحرقها قلبي بزفرته ... من العجيب فؤاد يحرق النارا!!

وقوله: ظلك أضحى لي بلا مرية ... مؤثرا في خدك الناضر ما أرفق الله بأهل الهوى ... إذ صيّر الجور على الجائر وقوله: [الطويل] ومن أصبحت فيه المكارم جوهرا ... بلا عرض فالمدح فيه قبيح ولكن رأيت الشعر يثبت ذكره ... فلا غرو أن يهدى إليك مديح وقوله- وهو معنى قول أبي نواس ولكنه نقله-: [الوافر] وما يحتاج يوم الحرب جيشا ... فإن عداه كالزرع الحطيم وإن أبقى لهم فرعون سحرا ... ففي يده عصا موسى الكليم وقوله في مهر قتله تغالب الفحول عليه: [البسيط] يا يوسف الخيل يا مقتول إخوته ... قلبي لفقدك بين الحرب والحرب إن كان يعقوب لم يقنع بكذبهم ... إني لأقنع منهم بالدم الكذب وما التناسب في القربى بنافعة ... إن لم تكن أنفس القربى ذوي نسب وقوله يصف قصر طليطلة «1» : [الكامل] قصر يقصر عن مداه الفرقد ... عذبت مصادره وطاب المورد وكأنما الأقداح في أرجائه ... درّ جماد ذاب فيه العسجد وقوله يصف القبة: [الكامل] شمسية الأنساب بدرية ... يحار في نسبتها الخاطر كأنما المأمون بدر الدجى ... وهي عليه الفلك الدائر

162 - أبو الصلت أمية بن عبد العزيز بن أبي الصلت الداني

وقوله: [مخلع البسيط] أي هلال أطلّ فينا ... مطلعه الطوق والجيوب يقودنا كيف شاء طوعا ... لأن أعوانه القلوب ومنهم: 162- أبو الصلت أمية بن عبد العزيز بن أبي الصلت الداني «13» رجل يرتع في حديقته، ويرجع الفضل إلى حقيقته، لا يقف سيف ذهنه عند حد، ولا يخرج ما سمع في حافظته من لجد حسيا في الطلب، لا ينال باللمس، ونسبا في الأدب إلا أن أمية بن عبد العزيز لا يقاس به به أمية بن عبد شمس. قال ابن خلكان:" كان فاضلا في علوم الآداب، صنّف كتابه الذي سماه: الحديقة. على أسلوب يتيمة الدهر للثعالبي وكان عارفا بفن الحكمة، وكان يقال له الأديب الحكيم، وكان ماهرا في علوم الأوائل، وانتقل من الأندلس، وسكن الإسكندرية، ثم انتقل إلى المهدية، فمات بها، وذكره العماد في الخريدة وأثنى عليه". وذكره ابن أبي أصيبعة، وقال:" وهو من الأكابر الفضلاء في الطب وغيره،

وبلغ في الطب مبلغا لم يصل إليه غيره من الأطباء، وحصل من الأدب ما لم يدركه كثير من الأدباء، وكان فريدا في علم الرياضي، مجيدا في صنعة الموسيقى، جيد اللعب بالعود، لطيف النادرة، فصيح اللسان، جيد المعاني، لشعره رونق، وأتى مصر وأقام مدة بالقاهرة، ثم عاد إلى الأندلس، وحبس بالإسكندرية، لأنه كان قد غرق بها مركب فيه أموال جليلة، فالتزم بعمل آلات يخرج بها المركب بما فيه، وشرع في عمل الآلة بحبال الإبريسم، تنطوي على دواليب، ليرفع بها المركب الغارق، فغرم عليها جملة طائلة، فلما ظهر المركب الغارق وقارب الخارج، ثقل على الحبال، فقطعها وسقط إلى قعر البحر، فغضب الوالي عليه، وحبسه، فكتب إلى ابن الصيرفي يستشفع به، وبعث إليه بقصيدتين، يمدح بهما الأفضل ابن أمير الجيوش. وأول الأولى: [مجزوء الكامل] الشمس دونك في المحل ... والطيب ذكرك بل أجل وأول الثانية: [الكامل] نسخت غرائب مدحك التشبيبا ... وكفى بها غزلا ونسيبا فأجابه بجواب وهو: [الطويل] لئن سترتك الجدر عنا فربما ... رأينا جلابيب السحاب على الشمس وردتني رقعة مولاي فأخذت في تقبيلها كأني ظفرت بيد مصدّرها، أو تمكنت من أنامل مسطرها، ووقفت على ما تضمنته من الفضل الباهر، وما أودعته من الجواهر التي قذف بها فيض الخاطر: [الطويل] نكرر طورا من قراة فصوله ... فإن نحن أتممنا قراءته عدنا

إذا ما نشرناه فكالمسك نشره ... ونطويه لا طيّ السآمة بل ضنّا فأما ما اشتملت عليه من الرضا فحكم الدهر ضرورة، وكون ما اتفق عارض بتحقق ذهابه ومروره ثقة بعواطف السلطان ومراحمه، وسكونا إلى ما جبلت النفوس عليه من معرفة فواضله ومكارمه، فهذا قول مثله ممن طهر الله دينه ونزّه من الشكوك ضميره ويقينه: [الكامل] لا يؤيسنك من تفرج كربة ... خطب رماك به الزمان الأنكد صبرا فإن اليوم يتبعه غد ... ويد الخلافة لا تطاولها يد وأما ما أشار إليه من أن الذي مني به من تمحيص أوزار سبقت، وتنقيص ذنوب اتفقت، فقد حاشاه الله من الدنايا، وبرأه من الآثام والخطايا، بل ذلك اختبار لتوكله وثقته كما يبتلى المؤمنون الأتقياء، ويمتحن البررة الأولياء، والله يدبره بأحسن التدبير، ويقضي له بتسهيل كل عسير، وقد اجتمعت بفلان فأعلمني أنه تحت وعد، وأنه ينتظر فرصة من التذكار ينتهزها ويغتنمها، ويرتقب فرجة للتقاضي يتولجها ويقتحمها، والله يعينه على ما يضمر من ذلك وينويه، ويوفقه فيما يحاوله ويبغيه، وأما القصيدتان فما عرفت أحسن منهما مطلعا ولا أجود متصرفا ومتقطعا، ولا أملك للقلوب والأسماع، ولا أجمع للإغراب والإبداع، ولا أكمل في فصاحة الألفاظ وتمكن القوافي، ولا أكثر تناسبا على كثرة ما في الأشعار من التباين والتناهي، ووجدتهما يزدادان حسنا في التكرير والترديد، وتفاءلت فيهما بترتيب قصيدة الإطلاق بعد قصيدة التقييد، والله يحقق رجائي في ذلك وأملي، ويقرب ما أتوقعه، فمعظم السعادة فيه لي، ثم أطلق سراحه.

ومن شعره: قوله في حالي نجم الثريا مشرقا ومغربا، وطالعا: [المتقارب] رأيت الثريا لها حالتان ... منظرها فيهما معجب لها عند مشرقها صورة ... يريك مخالفها المغرب فتطلع كالكأس إذ تستحث ... وتغرب كالكأس إذ يشرب وقوله «1» : [المنسرح] لله يومي ببركة الحبش ... والأفق بين الضياء والغبش ونحن في روضة مفوفة ... دبّج بالنور عطفها ووشي قد نسجتها يد الربيع لنا ... فنحن من نسجها على فرش وأثقل الناس كلهم رجل ... دعاه داعي الصبا فلم يطش «2» فعاطني الراح إن تاركها ... من سورة الهم غير منتعش وأسقني بالكبار مترعة ... فتلك أروى لشدة العطش وقوله: [الكامل] وا رحمتاه لمعذب يشكو الجوى ... بمنعّم يشكو فراغ البال نشوان من خمرين خمر زجاجة ... عبثت بمقلته وخمر دلال لا يستفيق وهل يفيق لحاله ... من ريق فيه سلافة الجريال «3» علم العدو بما لقيت فرقّ لي ... ورأى الحسود بليتي فرثى لي

وقوله: [الطويل] إذا كان أصلي من تراب فكلها ... بلادي وكل العالمين أقاربي ولا بدّ لي أن أسأل العيس حاجة ... تشق على شم الذرى والغوارب وقوله: [الكامل] دب العذار بخده ثم انثنى ... عن لثم مبسمه البرود الأشنب لا غرو إن حشي الردى في لثمه ... فالريق سم قاتل للعقرب وقوله: كيف لا تبلى غلائله ... وهو بدر وهي كتان! وقوله يصف فرسا أشهب: وأشهب كالشهاب أضحى يجو ... ل في مذهب الجلال من أنجم الصبح بالثريا ... وأسرج البرق بالهلال وقوله في طبيب اسمه شعبان: [الرمل] يا طبيبا ضجر العا ... لم منه وتبرم فيك شهران من العا ... م إذا العام تصرّم أنت شعبان ولكن ... قتلك الناس محرم وقوله: [الطويل] يقولون لي صبرا وإني لصابر ... على نائبات الدهر وهي فواجع سأصبر حتى يقضي الله ما قضى ... وإن أنا لم أصبر فما أنا صانع وقوله: [السريع]

ساد صغار الناس في عصرنا ... لا دام من عصر ولا كانا كالدست «1» مهما هم أن ينقضي ... عاد به البيدق» فرزانا «3» وقوله وقد رأى مليحا أبيض قد قام فجاء قبيح أسود قعد مكانه: [الطويل] مضت جنة المأوى وجاءت جهنم ... فقد صرت أشقى بعد ما كنت أنعم وما هي إلا الشمس حان أفولها ... وأعقبها قطع من الليل مظلم وقوله: [الطويل] وقائلة: ما بال مثلك خاملا ... أأنت ضعيف الرأي أم أنت عاجز؟ فقلت لها: ذنبي إلى القوم أنني ... لما لم يحوزوه من المجد حائز وما فاتني شيء سوى الحظ وحده ... وأما المعالي فهي عندي غرائز وقوله: [الرجز] جدّ بقلبي وعبث ... ثم مضى وما اكترث وا حربا من شادن «4» ... في عقد الصبر نفث يقتل من شاء بعيني ... هـ ومن شاء بعث! فأي ودّ لم يخن ... وأي عهد ما نكث!؟ وقوله: [الكامل]

ومهفهف تركت محاسن وجهه ... ما مجّه الكاس من إبريقه ففعالها في مقلتيه ولونها ... من وجنتيه وطعمها من ريقه وقوله: [البسيط] وقمت إذ قعد الأملاك كلهم ... تذب عنه وتحميه وتنتصر بالبيض تسقط فوق البيض أنجمها ... والسمر تحت ظلال النقع تشتجر بيض إذا خطبت بالنصر ألسنها ... فمن منابرها الأكباد والقصر «1» وذبّل من رماح الخط مشرعة ... في طولهن لأعمار العدا قصر تغشى به غمرات الموت أسد شرى ... من الكماة إذا ما استنجدوا ابتدروا مستثلمين «2» إذا سلّوا سيوفهم ... شبهتها خلجا مدت بها غدر ترتاح أنفسهم نحو الوغى طربا ... كأنما الدم راح والظّبى زهر الله زان بك الأيام من ملك ... لك الحجول «3» من الأيام والغرر وللعجاج «4» على صم القنا طلل ... هي الدخان وأطراف القنا سرر إذ يرجع السيف يبدي خده علقا ... كصحفة البكر أدمى خدها الخفر أما يهولك ما لاقيت من عدد ... سيان عندك قلّ القوم أو كثروا فاضرب بسيفك من ناواك منتقما ... إن السيوف لأهل البغي تدّخر ما كل وقت ترى الأملاك صافحة ... عن الجرائر تعفو حين تقتدر ومن ذوي البغي من لا يستهان به ... وفي الذنوب ذنوب ليس تغتفر إن الرماح غصون يستظلّ بها ... وما لهنّ سوى هام العدا ثمر

163 - أبو مروان عبد الملك بن محمد بن مروان بن زهر الإيادي الإشبيلي

أضحى شهنشاه غيثا للندى غدقا ... كل البلاد إلى سقياه تفتقر الطاعن الإلف إلا أنها نسق ... والواهب الألف إلا أنها بدر «1» ملك تبوّأ فوق النجم مقعده ... فكيف تطمع في غاياته البشر؟ يرجى نداه ويخشى عند سطوته ... كالدهر يوجد فيه النفع والضرر ولا سمعت ولا حدّثت عن أحد ... من قبله يهب الدنيا ويعتذر ولا بصرت بشمس قبل غرته ... إذا تجلى سناها أغدق المطر ولم أطلها بأني جد معترف ... بأن كل طويل فيه مختصر وأورد له ابن سعيد قوله في الرقص لمن جاد عليه قبل مديحه: [الكامل] لا غرو إن سبقت يداك مدائحي ... فتدفقت جدواك ملء إنائها يكسى القضيب ولم تجن أثماره ... وتطوق الورقاء قبل غنائها ومنهم: بنو زهر، فمنهم: 163- أبو مروان عبد الملك بن محمد بن مروان بن زهر الإيادي الإشبيلي «13» حكيم دافع قوى الضراء، وتابع صواب الآراء فراد الأسقام ومانع الداء، وقد

164 - أبو العلاء زهر بن عبد الملك

فتح فاه للالتقام، على لطف في علاجه، وتسكين لثوائر المرض وعجاجه، ورفق زانه في تأنّيه، وزاده في تأتّيه، فكان يعد فردا، ويعد من أم مشربه وردا، ثم لم يخلف له موعد، ولا يخاف معه من سحابه مرض مرعد، لكنه لم تغن عنه حيله، ولم يكن له بدّ أن يأتيه أجله. قال صاعد:" إنه دخل القيروان ومصر، وتطبّب بها زمانا طويلا، ثم رجع إلى الأندلس، وقصد مدينة دانية، واتصل بمجاهد ملكها، وأمره أن يقيم عنده فحظي واشتهر بالتقدم في الطب، وشاع ذكره منها في الأقطار، وله في صناعته إرشاد منه منعه من الحمّام لاعتقاده فيه أنه يعفّن الأجسام، ويفسد تركيب الأمزجة". قال: وهذا رأي يخالفه فيه الأوائل، ويشهد بخطئه فيه الخواص والعوام، بل إذا استعمل على الترتيب الذي يجب بالتدريج الذي ينبغي كان رياضة فاضلة، ومهنة نافعة، لتفتيحه للمسام وتطريقه للفضول، وتلطيفه لما غلظ من الكيموسات" «1» . قال ابن أبي أصيبعة:" وأقول إنه انتقل إلى إشبيلية ولم يزل بها إلى أن مات، وخلّف أموالا جزيلة، ونظيرها من الرياع والضياع". ومنهم: 164- أبو العلاء زهر بن عبد الملك «13» فرد في بني آدم، وواحد ما أتى بمثله وقد تقادم، ابن أبيه وفوق كل من يليه، لم يقف سيف ذهنه عند حده، ولا جارى البرق وقد أضمر له نار حقده، وأمسى وهو أبو العلاء، وأخو النجم في الاعتلاء. ربّي في حجر العلم ربيبا، وأصبح منذ

كان في سن الوليد حبيبا، فطلع بدرا كامل الأنوار، وطء بحرا يتمسك له بجوار حتى استهل سحابا، واستقل انسكابا، وكان لبيته تقف عليه زمر، وركبا يحج إليه ويعتمر. قال ابن أبي أصيبعة فيه:" مشهور بالحذق والمعرفة، وله علاجات مختارة تدل على قوته في الصناعة، واطّلاعه على دقائقها، وكانت له في هذا نوادر، ومعرفة بأحوال المرضى من غير أن يستخبرهم، بل لمجرّد جسه لعروقهم ونظره إلى قواريرهم، وحظي في دولة المرابطين". وقال ابن جميع «1» أن رجلا من التجار جلب نسخة فائقة من كتاب القانون إلى الأندلس، فأتحف أبا العلاء بن زهر بن تقرّبا إليه، ولم يكن وقف عليه، فلما تأمّله ذمّه واطّرحه ولم يدخله خزانة كتبه، ثم جعل يقطع من طرره «2» ويكتب فيها نسخ الأدوية للمرضى. وقال أبو يحيى اليسع بن حزم «3» أن أبا العلاء زهرا كان مع صغر سنه تصرخ النجابة بذكره، وتخطب المعارف بشكره، ولم يزل يطالع كتب الأوائل متفهما، ويلقى جلة الشيوخ متعلما، حتى برز في الطب إلى غاية عجز الطلب عن مرامها، وصرف الفهم عن إبرامها، إلى أن خرجت عن قانون الصناعة إلى ضروب الشناعة، يخبر فيصيب، ويضرب في كل ما ينتحله بأوفى نصيب، ويستغرف المدى ويغبر في وجوه سوابق الفضلاء علما ومحتدا، ويفوق الجلة سماحة لا توصف، وندى لولا بذاذة لسان وعجلة ركب عليها الإنسان، وأي الرجال تكمل

165 - ابنه أبو مروان ابن أبي العلاء، واسمه عبد الملك

خصاله وتتناسب أوصاله؟! «1» . قال ابن أبي أصيبعة: توفي بإشبيلية ودفن بها. ومما أنشد له قوله: [البسيط] يا راشقي بسهام ما لها غرض ... إلا الفؤاد وما لها منه عوض امنن ولو بخيال منك يطرقني ... فقد بسد مسدّ الجوهر العرض ومنهم: 165- ابنه أبو مروان ابن أبي العلاء، واسمه عبد الملك «13» شيخ الجلالة وفتى العلم الذي ما ورثه عن كلالة، ارتقى الذروة والغارب، وفاض على المشارق والمغارب، جنى من الفضل غضّه، وختم ختامه وفضّه، مهّدت له المضاجع ليالي اشتغاله فأقضّها، وزفّت عليه المعالي أبكارا فافتضّها، فلم يستدر لثام عارضه ولا تمت أيام رائضه إلا وهو رأس الأكابر الجلّه، ثم لم يصد شيء عن حائمات الحمام «2» ، ولا رثاه إلا نائحات الحمام. قال ابن أبي أصيبعة:" لحق بأبيه في المعالجة، وشاع ذكره في الأندلس وغيرها، وعكف الأطباء على مصنفاته، ولم يكن في زمانه من يماثله في صفاته، وله حكايات كثيرة في حسن العلاج مما لم يسبق إلى مثله، وخدم الملثمين، وحصل من جهتهم النعم، وفي وقته الذي كان فيه دخل ابن تومرت الأندلس، ومعه صاحبه عبد المؤمن، وشرع في بث الدعوة له دونه، وقرب عبد المؤمن ابن زهر

هذا، واعتمد عليه في الطب، وأناله فوق أمنيته، وله ألّف:" الدرياق السبعيني" واختصره عشاريا، ثم اختصره سباعيا. ويعرف بدرياق الأنتلة. واحتاج عبد المؤمن إلى شرب دواء مسهل، وكان يكره الدواء، فعمد ابن زهر إلى كرمة في بستانه، وجعل الماء الذي يسقيها به ماء قد أكسبه قوة الأدوية المسهلة التي أرادها لإسهاله، فطلع فيها العنب وفيه تلك القوى، فحمي عبد المؤمن وأتاه بعنقود منها، وقال له: كل منه. وكان حسن الاعتقاد فيه، فلما أكل منه وهو ينظر إليه، قال له: حسبك يا أمير المؤمنين، فقد أكلت عشر حبات من العنب، وهي تخدمك عدد هذه الحبات [عشر] «1» مجالس، فقام العدة التي ذكرها، ووجد الراحة واستحسن منه فعله، وتزايدت به منزلته عنده. وكان يجد في مروره إلى دار الخلافة مريضا به سوء قتبه «2» ، وقد كبر جوفه واصفر لونه، فلما كان في بعض الأيام وقف عنده ونظر إليه، فوجد عند رأسه إبريقا عتيقا يشرب منه الماء، فقال له: اكسر هذا الإبريق، فإنه سبب مرضك، فقال له: لا بالله يا سيدي، فإنه ما لي غيره، فأمر بعض خدمه بأن يكسره، فكسره، فطلع منه ضفدع وقد كبر مما له فيه من طول الزمان!. فقال له زهر: خلصت يا هذا من المرض". وحكي أنه كان بإشبيلية حكيم فاضل في الطب، يعرف بالفار، صنف كتابا في الأدوية المفردة، كان يرى ابن زهر كثيرا يأكل التين الأخضر، وكان الفار لا يأكله إلا نادرا، فكان يقول لابن زهر لا بدّ أن يعرض لك بمداومة أكل التين علة النغلة، وهي الدبيلة «3» ، فقال له ابن زهر: وأنت لكثرة حميتك لا بدّ أن يعرض

166 - أبو محمد ابن الحفيد أبي بكر بن زهر

لك علة التشنج، فلم يمت ابن زهر إلا بدبيلة في جنبه، ولا مات الفار إلا بعلة التشنج. قال: وكان ابن زهر يداوي دبيلته فيقول له لو زدت هذا الدواء كذا أو أبدلته بكذا، أو عملت كذا، فكان يقول له: يا بني إذا أراد الله تغيير هذه البنية فإنه لا يقدر لي أن أستعمل إلا ما تتم به مشيئته. ومنهم: 166- أبو محمد ابن الحفيد أبي بكر بن زهر «13» نير في سماء، وكوثر في عذب الماء، من بيت زاحم الإيوان «1» ، وأزاح عن رتبته كيوان «2» ، وأسس على خيط المجرّة بيت علاه، ولبس من حلية الشفق والأصيل حلاه، ولم يزل منذ سن اللبون يصول صولة البزل «3» القناعيس «4» ، ولا يقنع إلا أن يكون في أول العيس «5» ، فطالما حصّل الفوائد الغزار، وحلل الفراقد «6» وقد سلبت من جفنه الغرار «7» ، وبات الليالي في طلب العلم، لم

يطعم غمضا، ولا شام لغير سنا الصباح إلى الصباح ومضا. قال ابن أبي أصيبعة:" كان جيد الفطرة، حسن الرأي، جميل الصورة، مفرط الذكاء، محمود الطريقة، معتنيا بالطب. اشتغل على أبيه وأطلعه على كثير من أسرار هذه الصناعة وعملها، وكان الناصر أبو عبد الله يرى له ويحترمه، ويعرف مقدار علمه ويثق به. وروي أنه لما خرج إلى حضرة مراكش احتاج في نفقة سفره إلى عشرة آلاف دينار، فلما حضر لدى الناصر شكر سالف إحسانه وإحسان سلفه إليه وإلى سلفه، ثم قال: وبيدي مما سلف ووصل إلى أبي من إنعامكم ما يغنيني مدة حياتي، وإنما أتيت لأكون في الخدمة كما كان أبي، وأجلس في الموضع الذي كان يجلس فيه بين يدي أمير المؤمنين، فأكرمه كثيرا وأطلق له مالا جزيلا، وخوّله في النعم الجمّة، وأجلسه في مجلس أبيه، وكان قريبا منه. حكى القاضي أبو مروان الباجي عنه قال: كنت يوما معه، وإذا به قد قال: إنني رأيت البارحة- أي في النوم- أختي، وكانت أخته قد ماتت. قال: فقلت لها: بالله عرّفيني كم يكون عمري؟. فقالت: طابيتين ونصف!، والطابية هي الخشب يكون طولها عشرة أشبار تتخذ للبناء. قال: فقلت لها: أنا أقول لك الجد، وأنت تجيبيني بالهزء!. فقالت: لا والله ما قلت إلا جدا. وإنما أنت ما فهمت! أليس في الطابية عشرة أشبار، فانظر إلى الطابيتين ونصف خمسة وعشرين شبرا فيكون عمرك خمسا وعشرين سنة!. قال القاضي أبو مروان: فقلت له: لا تتوهم من هذا فلعلّه أضغاث أحلام، قال: فلم تكمل تلك السنة إلا وقد مات! فكان عمره كما قال لم يزد ولم ينقص.

167 - أبو جعفر ابن الغزال

وخلّف ولدين كل واحد منهما فاضل في نفسه، كريم في أبناء جنسه، وهما: عبد الملك، وأبو العلاء. ولأبي العلاء نظر جيد في كتب جالينوس، وصناعة الطب، وكانا بإشبيلية. قلت: كانا علمي طرازها، وآيتي إعجازها على سن شبيبه، ووقت اشتغال بحبيب أو حبيبه. ومنهم: 167- أبو جعفر ابن الغزال «13» من أهل المرية «1» ، تغرّب عن الأوطان حتى تقرّب إلى السلطان، وباشر في الخدم من أجلها، وحصّل من النعم جلّها، فكان واسطة العقد «2» ، ولاقطة المنهل العدّ، وحلّ محلّ الثقة من خليفته، وكان مكان المقة «3» في وظيفته، لفضائله التي ثبتت عند إمامه، وأوجبت له أن يتسلم عقد زمانه، فعلا رتبه، وامتدت إليه الأيدي رغبه. ذكره ابن أبي أصيبعة:" قرأ على الحفيد ابن زهر وعلى غيره، وأتقن الطب، وخدم المنصور به، وكان خبيرا بالمفردات، وكان المنصور يعتمد عليه في الأدوية

168 - أبو العباس ابن الرومية، وهو أحمد بن محمد بن مفرج النباتي

المفردة والمعاجين، ويتناولها منه، وكان المنصور قد أبطل الخمر وشدّد فيه، ثم إنه أمر ابن الغزال أن يجمع حوائج الدرياق ويركبه، فجمعها، ثم أعوزه الخمر لعجنه، فأنهي ذلك إلى المنصور فقال: تطلبه من كل ناحية وانظر لعله أن يكون عند أحد منه، ولو شيء يسير. فتطلّبه فلم يجد شيئا منه، فأعلم المنصور، فقال: والله ما كان بي تركيب الدرياق في هذا الوقت إلا لأعتبر هل بقي عند أحد من الخمر شيء أم لا؟! ". ومنهم: 168- أبو العباس ابن الرومية، وهو أحمد بن محمد بن مفرّج النباتي «13» من أهل إشبيلية، جوال في كل تنوفة «1» ، وجوّاب لكل مخوفة، نزل بكل أرض مخيّما، وطالما جنى النبات وجاء منها بالبينات، وشخصها بأشخاصها وبيّن ما بين عامّها وخاصّها، فعلا محلّا، وطاف كالسحاب فلم يدع محلا «2» . قال ابن أبي أصيبعة:" من أهل إشبيلية، ومن أعيان علمائها، وأكابر

169 - ابن الأصم

فضلائها، قد أتقن علم النبات، ومعرفة أشخاص الأدوية وقواها ومنافعها، واختلاف أوصافها، وتباين مواطنها، وله الذكر الشائع وحسن الوصف الجامع، قد شرف نفسه بالفضائل، وسمع الحديث وانتفع الناس به، وأتى مصر والشام، وعاين فيها نباتا كثيرا لا ينبت بالمغرب، وشاهد أشخاصها في منابتها، ونظرها في مواضعها، ولما قدم الإسكندرية كان الملك العادل ابن أيوب بالقاهرة، فاستدعاه وأكرم ملتقاه، وأراده على الإقامة عنده، فقال: إنما أتيت لأحجّ ثم أعود إلى بلدي وأهلي وولدي، ثم قضى فريضة حجّه وعاد". ومنهم: 169- ابن الأصم «13» وهو ابن الأصمّ إلا أنه كان أسمع، وانعقد عليه التفضيل وأجمع، وكان يكرم أبا، ويعد منه والدا لو كان من الشهور لكان رجبا، إلى طبّ طالما صاد به المنون، وصاد ما لم تجله الظنون، وانتاش مهجة لم يبق منها إلا آخر الذماء «1» ، وردّ مرضا لم يطل زاخر الدماء، وكانت إشبيلية به في حلل المفاخر تختال، وتكف بأس من يغتال، وتتيه بنسبته إليها وسمته التي دلّت دليل نسيم السحر عليها. قال ابن أبي أصيبعة:" هو من الأطباء المشهورين بإشبيلية، وله قوة نظر في الاستدلال على الأمراض ومداواتها، وله حكايات مشهورة، ونوادر في معرفته بالقوارير، وإخباره عندما يراها بجملة حال المريض، وما يشكوه وما قد تناوله من الأغذية. حدثني أبو عبد الله المعري قال: كنت يوما عند ابن الأصم، وإذا

أما أطباء مصر:

بجماعة قد أقبلوا إليه ومعهم رجل وفي فمه حية قد دخل بعضها مع رأسها في حلقه، وبقيتها ظاهر، وهي مربوطة بخيط قنب إلى ذراع الرجل، فقال لهم: ما شأن هذا؟ فقالوا له: إن من عادته أن ينام وفمه مفتوح، وكان قد أكل لبنا ونام، فلما جاءه هذه الحية لعقت من فيه ودخلته وهو نائم، فأحست بمن أتى فخافت وانساب بعضها في حلقه، وأدركناها فربطناها بهذا الخيط لئلا تدخل في حلقه، وقد أتينا به إليك. فلما نظر إلى ذلك الرجل وجده وهو في الموت من الخوف، فقال: لا بأس عليك، كدتم تهلكون الرجل. ثم قطع الخيط فانسابت الحية، وبلغت إلى جوفه واستقرت. فقال له: الآن تبرأ. وأمره أن لا يتحرك، وأخذ أدوية وعقاقير فأغلاها في الماء غليا جيدا وجعل ذلك الماء في إبريق وسقاه الرجل، وهو حارّ فشربه وصار يجس معدته حتى قال: ماتت الحية، ثم سقاه ماء آخر مغليا فيه حوائج، وقال: هذه تهريء الحية مع هضم المعدة، وصبر مقدار ساعتين وسقاه ماء قد أغلي فيه أدوية مقيئة، فجاشت نفس الرجل وذرعه القيء، فعصب عينيه وبقي يتقيّأ في طست فوجدنا تلك الحية هي قطع، وهو يأمره بكثرة القيء حتى تنظفت معدته، وخرجت بقايا الحية، وقال له: طب نفسا فقد تعافيت، وذهب الرجل مطمئنا صحيحا بعد أن كان في حالة الموت. أما أطباء مصر: فمنهم: 170- بليطيان «13» وهو رجل مشهور في النصارى، معروف بينهم معدود في بطاركتهم، طبيب تدارك النفوس وسيوف المنايا تنوشها، ومواقيت الآمال قد قامت لها

نعوشها. رأس في ملته، وكان رئيس محلّته، لخلال حمدت، وأفضال شعله ما خمدت، وكان من أئمة العيسوية، وذوي القسمة بالسوية، إلى صحة حدس وذكاء نفس وكرم عشيرة، وشيم بالتقلل مشيرة. قال ابن أبي أصيبعة:" كان نصرانيا من الملكية «1» ، عالما بشريعة النصارى، وجعل بطرك الإسكندرية. حكي أنه كان للرشيد جارية مصرية كان يحبها، فاعتلت علة عظيمة، فعالجها الأطباء فلم تنتفع بشيء، فقيل له: لو بعثت إلى عاملك بمصر ليبعث إليك بطبيب منها، فإنه أبصر بهذه الجارية من أطباء العراق. فكتب إليه فبعث إليه ببلطيان، وكان طبيبا عارفا حاذقا، فأخذ معه من كعك مصر، والصير «2» المعمول بها، فلما أتى بغداد ودخل على الجارية أطعمها من الكعك والصير فرجعت إلى طبعها، وزالت عنها العلة، ووهب له الرشيد مالا جزيلا وكتب له منشورا بإعادة كل كنيسة تغلّب اليعاقبة «3» فيها على الملكية، ثم أمر بأن يكون يحمل مثل هذا الكعك والصير إلى خزانة السلطان في كل وقت، فكان ذلك لا يزال يحمل موظفا فيما يحمل إليها إلى آخر أيام المتوكل.

171 - سعيد بن توفيل

ومنهم: 171- سعيد بن توفيل «13» جمرة تشتعل توقدا، وجملة لا يضم إليها إلا فرقدا، سعى للعلم سعيا، وأوعاه وعيه، حظي بالخدم، وحلّ حيث لا تنصب الخيم، إلا أن الأيام قلبت له ظهر المجن، وحققت له خلاف ما ظن، فأفلتت رداءه وأشمتت به أعداءه، ولم يجن ذنبا سوى نصحه الذي حمل على الغش، وقتل عقابا به جانيه عليه ولم يعش. قال ابن أبي أصيبعة:" كان طبيبا نصرانيا يخدم ابن طولون «1» ولا يفارقه، فلما أدركت ابن طولون الهيضة «2» التي مات بها طلبه فلم يجده إلا بعد يومين، فعنّفه ثم قال له: ما الصواب؟ قال: أن لا تقرب غذاء. قال: أنا والله جائع وما أصبر. فقال له: هذا جوع كذاب لبرد المعدة. فلما نصف الليل استدعى بشيء يأكله، فجيء بفراريج كردناج «3» حارة، وجدي بارد، فأكل منها فانقطع الإسهال عنه، فخرج نسيم الخادم وسعيد في الدار، فقال له: أكل الأمير!. فخفّ

عنه القيام، فقال سعيد: الله المستعان، ضعفت قوته الدافعة بقهر الغذاء لها، وستتحرك حركة منكرة، فما وافى السحر حتى قام قياما كثيرا، وخرج من أنطاكية وعلّته تتزايد ثم أتى مصر على عجلة تجرّ بالرجال، فلما أتى الفرما «1» شكا انزعاجا فركب الماء إلى الفسطاط، وضربت له بالميدان قبة نزل فيها، ثم ظهرت منه لسعيد بن نوفل نبوة وشكاه إلى كاتبه إسحاق بن إبراهيم، فأخذ يلوم ابن نوفل فقال: والله ما خدمتي له إلا خدمة الفار للسنور والسخلة للذئب. قال نسيم الخادم: وكان ابن توفيل آيسا من حياته، لأن ابن طولون امتنع من مشاورته، ويعتقد فيه أنه فرّط في أول أمره، وجيء بفاكهة من الشام، فقال له: ما تقول في السفرجل؟. فقال: تمصّ منه على خلو المعدة. فلما خرج سعيد من عنده أكل سفرجلا عقيب عصيدة كان قد أكلها على غير رأي سعيد، فعصرها فتدافع الإسهال، فدعا به ثم قال: يا ابن الفاعلة! قلت إن السفرجل نافع لي، وقد عاد الإسهال. فقام فنظر المادة ورجع إليه، فقال: هذه العصيدة التي حمدتها وقلت إني غلطت في منعها عصرها السفرجل، وأنا ما أطلقت لك السفرجل وإنما أشرت بمصه، فقال: يا ابن الفاعلة! تريد تحجني وأنت صحيح سوي، وأنا عليل مدنف؟. ثم ضربه مائتي سوط، وطاف به على جمل، ونودي عليه: هذا جزاء من اؤتمن فخان، وأمر ببيته فنهب، ثم لم يعش سعيد بعد ذلك إلا يومين ومات.

172 - سعيد بن البطريق

ومنهم: 172- سعيد بن البطريق «13» طبيب طالما خلّص الأجسام من دائها، واستلّ النفوس من أعدائها، مع علم بشريعته، وعمل حسن في شيعته، إلا أنه لم تصف له موارد الأيام، ولم ينصف على عوائد الأنام، وبلي باختلاف قومه، وما برحوا في شقاق ولا صحوا من سكرة إشفاق، ولم يزل عودهم معه في التواء، وعودهم إليه بغير استواء، هذا ولم يكن غرّا ولا رأى وجوه التجارب إلا غرّا، مع سعة اطّلاع كأنما أشرف عليه من عالي التلاع «1» ، واضطلاع قلّ أن حنيت عليه حنايا أضلاع، ويد ما قصّرت في ضبط ولا غرب عنها ما في قطّ قط، ولكنها الأيام وعاداتها، ومواهبها واستعداداتها. قال ابن أبي أصيبعة:" كان من أهل مصر، وكان طبيبا نصرانيا مشهورا عارفا بعلم صناعة الطب وعملها، وكانت له دراية بعلوم النصارى ومذاهبها، ثم صيّر في أول يوم خلافة القاهر «2» بطرك الإسكندرية، وكان في زمانه شقاق عظيم،

173 - التميمي: وهو أبو عبد الله محمد بن سعيد التميمي

وشرّ متصل بينه وبين شيعته، وله تصانيف كثيرة «1» وتواريخ محرّرة، ولحقه إسهال مات به بالإسكندرية. ومنهم: 173- التميمي: وهو أبو عبد الله محمد بن سعيد التميمي «13» جادة إحسان، ومادة بقاء الإنسان، عرف الأدوية لطول ما ألفها، وركّب مفرداتها وألّفها، وجناها من رؤوس الشجر ومما يعرشون، ويبسطون من الأرض ويفرشون، إلى إتقان لقواعد الطب وأصوله، وعوائد المستطب في العام وفصوله، حتى إنه إليه المرجع وعليه الاعتماد في كل دواء ينجع. ذكره ابن أبي أصيبعة «2» وقال:" كان مقامه أولا بالقدس ونواحيه، وله معرفة جيدة بالنبات وماهياته، وكان متميزا في صناعة الطب، والاطلاع على دقائقها، وله خبرة بتركيب المعاجين والأدوية المفردة، واستقصى معرفة الدرياق الكبير الفاروق وتركيبه، وركّب منها شيئا كثيرا على أتم ما يكون من حسن الصنعة، وانتقل إلى مصر، وأقام بها حتى مات". قال ابن القفطي «3» :" إن التميمي هو الذي أكمل الدرياق الفاروقي، بما زاده فيه من المفردات، وكان خصيصا بالحسن بن عبد الله بن طغج صاحب الرملة،

وعمل له معاجين ولخالخ «1» طبية، وأنواع دخن دافعة للوباء وركب سفوف الرجفان الحادث عن المرة السوداء المحترقة، وكان يذكر أنه نقله عن راهب كان بالقدس فاضلا في الحكمة والطب، وأدرك الدولة العلوية «2» بمصر، وصحب يعقوب بن كلس «3» ، وزير المعز والعزيز، ولقي الأطباء بمصر وناظرهم. وحكي عن أبيه أنه سكر مرة سكرا مفرطا غلب على عقله، فسقط في بعض الخانات من موضع عال إلى أسفل الخان وهو لا يعقل، فحمله صاحب الخان وخدمه حتى أدخله الحجرة التي كان ساكنها، فلما أصبح قام وهو يجد وجعا ووهنا في مواضع من جسده، ولا يعرف لذلك سببا، فركب وتصرف في بعض أموره، إلى أن تعالى النهار، ثم رجع فقال لصاحب الخان: إني وجدت في جسدي وجعا وتوهّنا شديدا لست أدري ما سببه. فقال صاحب الخان: ينبغي أن تحمد الله على سلامتك. قال: فماذا؟. قال: أو ما علمت ما نالك البارحة؟. قال: لا. قال: فإنك سقطت من أعلى الخان إلى أسفل، وأنت سكران. قال: ومن أي موضع؟. فأراه الموضع. فلما رآه حدث به للوقت من الوجع والضربان ما لم يجد معه سبيلا إلى الصبر، وأقبل يصيح ويتأوّه، إلى أن جاؤوه بطبيب ففصده، وشد على مفاصله المتوهّنة جبارا، وأقام أياما كثيرة إلى أن برأ وذهب عنه الوجع. أقول: ومما يناسب هذه الحكاية أن بعض الناس كان في بعض أسفاره في مفازة، ومعه رفقة له، فنام في منزلة نزلها في الطريق ورفقته جلوس، فخرجت حية من بعض النواحي، فصادفت رجلا، فنهشته فيها، وذهبت، وانتبه مرعوبا من الألم وبقي يمسك رجله ويتأوه منها، فقال له بعضهم ما عليك مددت

رجلك بسرعة وقد صادفت رجلك شوكة في هذا الموضع الذي يوجعك. وأظهر له أنه أخرج الشوكة وقال: ما بقي عليك باس، وسكن عنه الألم بعد ذلك ورحلوا، فلما كان بعد عودهم بمدة وقد نزلوا في تلك المنزلة قال له صاحبه: أتدري ذلك الوجع الذي عرض لك في هذا الموضع من أي شيء كان؟. فقال: لا. فقال: إن حية ضربتك في رجلك ورأيناها، وما أعلمناك، فعرض له في الوقت ضربان قوي في رجله وسرى في بدنه، إلى أن قرب من قلبه وعرض له غشي، ثم تزايد به إلى أن مات، وكان السبب في ذلك أن الأوهام، والأحداث تؤثر في البدن تأثيرا قويا، فلما تحقّق أن الآفة التي عرضت له كانت من نهشة الحية تأثر ذلك وسرى ما كان في ذلك الموضع من بقايا السم في بدنه، ولما وصل إلى قلبه أهلكه. قلت: ومن نسبة ما حكى عن أبيه ما شاهدته بعيني سنة ست وسبع مائة، وذلك أنه كان عندنا صغير في سطح الدار يلعب، وبيده تفاحة، فجعل يلقيها من يده ثم يجري وراءها، ويأخذها، وألقاها مرة فتدحرجت وجرى هو خلفها، فوقعت من طاقة في السطح معدة لرمي الثلج ترمى إلى الطريق علوها عن الأرض يقارب عشرين ذراعا، واستمر هو جاريا خلفها ليأخذها، فوقع من ذلك العلو إلى الأرض قائما على قدميه، واستمر جاريا خلف التفاحة حتى أخذها ولم يضره شيء البتة، وكان سداسي السن وكنت قريبا من سنه وأنا أشاهده، وأنا على باب الدار، فسبحان الله اللطيف بخلقه.

174 - ابن الهيثم: وهو أبو علي محمد بن الحسن بن الهيثم البصري ثم المصري

ومنهم: 174- ابن الهيثم: وهو أبو علي محمد بن الحسن بن الهيثم البصري ثم المصري «13» رجل أخذ الفرائد فنظمها، والفوائد فأجلّها قدرا في الصدور وعظّمها، بطرف طموح وطرف تحت عقد بيانه جموح «1» ، فأثبت الغرر، وأنبت الدرر، وصاغ النجوم وأشباهها، وتبجّس فحكى الغيوم وأمواهها، لفضائل حصّلها من الصّغر، وورد منها أصفى المناهل ولم يعرف الصّدر، فبقيت كتبه قدوة للمتأمّل، وجلوة مثل الصباح المتهلّل. قال ابن أبي أصيبعة:" أصله من البصرة، ثم انتقل إلى مصر فأقام بها إلى آخر عمره، وكان فاضل النفس، قوي الذكاء، مفننا في العلوم، وكان كثير التصنيف، ظاهر الزهد، ولخّص كثيرا من كتب أرسطو وجالينوس، وشرح العويص، وكان حسن الخط، جيّد العربية". حكي أنه كان قد وزّر بالبصرة ونواحيها، فمنعته عن النظر، فآثر التجرّد ليتوفّر على العلم، فأظهر خبالا في عقله وتغيّرا في تصوّره، حتى تمكن من مراده، ثم أتى مصر، وأقام بالجامع الأزهر، ثم كان يكتب" أقليدس، والمجسطي" ويتقوّت بالثمن.

175 - علي بن رضوان

وقيل: إنه بلغ الحاكم أنه كان يقول: لو كنت بمصر لعملت في النيل عملا يحصل به النفع في كل حال من حالاته من زيادة ونقص. فاستدعاه ومشى إليه، فلم يجد أنه يتم له ما أراده، فعاد خجلا واعتذر إلى الحاكم بما قبل منه ظاهره، ثم إنه ولاه بعض الدواوين، فوليها رهبة لا رغبة، ثم تحقّق غلطه إذ قيل لكثرة استحالة الحاكم وإقدامه على سفك الدماء، فلم يجد طريقا إلا معاودة الجنون، فاحتيط على موجوده «1» وقيّد، ووكّل به من يخدمه ويقوم بمصالحه، فلما مات الحاكم أظهر العقل وعاد إلى ما كان عليه، وأعيد عليه ماله، فاستوطن قبة على باب جامع الأزهر ملازما وظائف الاشتغال والإفادة والتصنيف حتى مات. ومنهم: 175- علي بن رضوان «13» رجل كان جمال إيوان، وكمال ديوان، ورئيس قوم، ورأس ذكر باق إلى اليوم، طالما أخليت له المجالس، وخليت الصدور له ولمن يجالس، فطال في الدولة الفاطمية ذيلا، ومال به الدهر ميلا، وحصّل من أولئك الكرام المرام، وبلغ لديهم غاية الاحترام، وفضائله تقول: هل من مزيد، وتتدفق فوق بردى ويزيد، حتى آن

176 - افرائيم [بن الزفان] الإسرائيلي

أن يخلق رداء مفاخره، وينتهي كل شيء إلى آخره. قال ابن أبي أصيبعة:" مولده ومنشؤه بمصر، وبها تعلم الطب، وحكي عنه أنه قال: أخذت في تعلم الطب ولم يكن لي مال أنفق منه، فلذلك عرض لي في التعليم صعوبة ومشقّة. قال: إنه ولد بالجيزة، وكان أبوه فرّانا، ولم يزل ملازما للاشتغال والنظر في العلم إلى أن تميز وصار له الذكر الحسن، والسمعة العظيمة، على سفهه وإزرائه بالعلماء، وخدم الحاكم وجعله رئيسا على الأطباء، ثم أخذت يتيمة كان ربّاها مالا جليلا كان له نحو عشرين ألف دينار، وهربت به فاختل عقله". ومنهم: 176- افرائيم [بن الزفّان] الإسرائيلي «13» طبيب صفت له المشارب، وصحت معه التجارب، واتصل بالدولة الفاطمية اتصال اليد بالعنان، وطال بها طول الرمح بالسنان، وكان منها مكان الشجاعة من الجنان، وقرّ لديها استقرار الخاتم في البنان، ثم جاءته منيته وقرعت بصفا اللحود ثنيته. قال ابن أبي أصيبعة:" وهو من الأطباء المشهورين بديار مصر، وخدم الخلفاء الذين كان في زمانهم، وحصل من جهتهم من الأموال والنعم شيئا كثيرا، وكان

177 - سلامة بن رحمون أبو الخير

قد قرأ صناعة الطب على أبي الحسن علي بن رضوان وهو من أجلّ تلامذته، وكانت له همّة عالية في تحصيل الكتب، وفي استنساخها، حتى كانت عنده النسّاخ يكتبون، ولهم ما يقوم بكفايتهم منه، ومن جملتهم: محمد بن سعيد بن هشام الحجري، وهو المعروف بابن ملساقة، ووجدت بخط هذا عدة كتب وعليها خط أفرائيم. وحدثني أبي أن رجلا من العراق وكان قد أتى إلى مصر ليشتري كتبا ويتوجّه بها، وأنه اجتمع بأفرائيم، واتفق الحال فيما بينهما أن اباعه أفرائيم من الكتب التي عنده عشرة آلاف مجلدة، وكان ذلك في أيام الأفضل ابن أمير الجيوش. فلما سمع بذلك أراد أن تلك الكتب تبقى بالديار المصرية، ولا تنتقل إلى موضع آخر، فبعث إلى أفرائيم والعراقي عليها، ونقلت الكتب إلى خزانة الأفضل، وكتب عليها ألقابه، ثم خلف من الكتب ما يزيد على عشرين ألف أخرى، ومن الأموال والنعم شيئا كثيرا جدا". ومنهم: 177- سلامة بن رحمون أبو الخير «13» قرن لا يمل المصاع «1» ، ولا يكايل بالمد والصاع، فكان لو عوّقه في طريقه جبل لاقتلعه، أو أشرقه «2» بريقه أسد لابتلعه، إلا كدية عرضت له فلم يستطع

صعود ذروتها، ولا بدر على ارتقاء صفاها ولا مروتها، فباء بخجلته وبقي تحت مذلة مضلّته. قال ابن أبي أصيبعة:" كان يهوديا له أعمال حسنة، واطّلاع على كتب جالينوس، والبحث عن غوامضها، ولما وصل أبو الصلت إلى مصر اجتمع به وجرت بينهما مباحث ومشاغبات، وقد ذكر أبو الصلت في رسالته المصرية قال: وأشبه من رأيته منهم وأدخله في عداد الأطباء رجل من اليهود يدعى أبا الخير سلامة بن رحمون، فإنه لقي أبا الوفاء المبشر بن فاتك، وأخذ عنه شيئا من صناعة المنطق، تخصص بها، وتميز على أضرابه، وأدرك أبا كثير بن الزفان تلميذ أبي الحسن بن رضوان، فقرأ عليه بعض كتب جالينوس، ثم نصّب نفسه لتدريس جميع المنطق، وجميع كتب الفلسفة الطبيعية والإلهية، وشرح بزعمه، وفسر، ولخّص، ولم يكن هنك في تلخيصه وتحقيقه واستقصائه عن لطيف العلم ودقيقه، بل كان يكثر كلامه فيضل، ويسرع جوابه فيزل، ولقد سألته أول لقائي له واجتماعي به عن مسائل استفتحت مباحثته بها مما يمكن أن يفهمها من لم يكن يمتد في العلم باعه، ولم يكثر تبحره واتساعه، فأجاب عنها بما أبان عن تقصيره ونطق بعجزه، وأعرب عن سوء تصوره وفهمه، وكان مثله في عظم دعاويه وقصوره عن أيسر ما هو متعاطيه، كقول الشاعر: [المتقارب] يشمر للج عن ساقه ... ويغمره الموج في الساحل أو كما قال الآخر: [المتقارب] تمنيتم مائتي فارس ... فردّكم فارس واحد قال أبو الصلت: وكان بمصر طبيب من أهل أنطاكية يسمى جرجس، ويلقب بالفيلسوف على ما قيل في الغراب أبي البيضاء، وفي اللديغ سليم، قد

178 - بلمظفر ابن معرف: وهو نصر بن محمود بن المعرف

تفرغ بالتولّع بابن رحمون والإزراء عليه، وكان يزوّر فصولا طبية وفلسفية، يقررها في معارض ألفاظ القوم وهي محال لا معنى لها، وفارغة لا فائدة فيها، ثم إنه ينفذها إلى من يسأله عن معانيها، ويستوضحه أغراضها، فيتكلم عليها، ويشرحها بزعمه، دون تيقظ ولا تحفظ بل باسترسال واستعجال، وقلة اكتراث واهتبال، فيوجد فيها عنه ما يضحك منه. وأنشدت لجرجس هذا عنه وهو أحسن ما سمعته: [السريع] إن أبا الخير على جهله ... يخفف في كفته الفاضل عليله المسكين من شؤمه ... في بحر هلك ما له ساحل ثلاثة تدخل في دفعة ... طلعته والنعش والغاسل ومنهم: 178- بلمظفر ابن معرف: وهو نصر بن محمود بن المعرّف «13» عالم بأسرار الطبيعة، وعارف بأخبار الشريعة، وفاضل كاد يحوز الفضل جميعه، وكان محبا لكثرة الثراء، ومبلّلا بثرى تربته الخضراء، لا يعدل شيء عنده نعمة الغنى، ولا يصرف إلى غيرها همة المنى، وعانى الصنعة فلم يبتل له منها عود بماء، ولا حصل له صاد الصديق ولا كاف الكيمياء، مهما أنفق من مال، وأخفق من مآل.

ذكره ابن أبي أصيبعة وأثنى على فضله، وقال:" كان مغرما بصناعة الكيمياء والاجتماع بأهلها، وكتب بخطه كثيرا من الكتب التي صنفت فيها، وفي الطب والحكمة، وكانت له همة عالية في تحصيل الكتب وقراءتها، قال: ومن أعجب شيء منه أنه كان قد ملك ألوفا كثيرة من الكتب في كل فن، ولا يوجد شيء منها إلا وقد كتب على ظهره ملحا ونوادر مما يتعلق بالعلم الذي صنف ذلك الكتاب فيه، وقد رأيت كتبا كثيرة من كتب الطب وغيرها كانت له وعليها اسمه، وما منها شيء إلا وعليه تعاليق حسنة وفوائد متفرقة. وأنشد من شعره قوله [المتقارب] وقالوا الطبيعة مبدا الكيان ... فيا ليت شعري ماذا الطبيعه؟ أقادرة طبعت نفسها ... على ذاك أم ليس بالمستطيعه؟ وقوله [المتقارب] وقالوا الطبيعة معلومنا ... ونحن نبيّن ما حدّها ولم يعرفوا الآن ما قبلها ... فكيف يرومون ما بعدها؟! ومنهم: أولاد أبي الحفائر وكلهم أفاضل أطباء، وأماثل ألبّاء، خدموا الملوك، وأحسنوا السلوك، ولا طفوا الأمزجة، وشارفوا في العلم أعلى درجه، لو استسقى بهم الحظ العليل لبرأ، أو سكن بهم عاصف الريح العقيم لما درأ.

179 - أبو عمر وعثمان بن هبة الله بن أحمد بن عقيل القيسي جمال الدين

منهم: 179- أبو عمر وعثمان بن هبة الله بن أحمد بن عقيل القيسي جمال الدين «13» هو الذي شيّد بناء البيت، ومهّد لمشاهيره الحي منهم والميت. قال ابن أبي أصيبعة فيه:" أفضل الأطباء، وسيد العلماء، وله اشتغال بالأدب، وشعره صحيح المباني، بديع المعاني، خدم العزيز ابن صلاح الدين «1» ، ودام حتى خدم الكامل «2» . ومنهم: 180- ابنه الفتح [فتح الدين بن جمال الدين بن أبي الحفائر] «14» وكان مثل أبيه، وإن لم يكن مثله فيدانيه. وقال ابن أبي أصيبعة فيه:" كان نزيه النفس، صائب الحدس، حسن المداواة، لطيف المداراة، فصيح اللسان كثير الإحسان، خدم الكامل والصالح «3» ، وفي أيامه توفي بالقاهرة".

181 - ابنه المهذب [شهاب الدين ابن فتح الدين]

ومنهم: 181- ابنه المهذب [شهاب الدين ابن فتح الدين] «13» زاد على أبيه فضله، وزان علا سلفه نبله. وقال ابن أبي أصيبعة فيه:" جمع بين الفضائل، وتميز على الأواخر والأوائل، علامة وقته في حفظ الصحة ومراعاتها، وإزالة الأمراض وعلاجاتها، اقتفى سيرة آبائه، وفاق نظراءه في همته وإبائه": [الكامل] ورث المكارم عن أبيه وجده ... كالرمح أنبوبا على أنبوب فأما من سواهم: فمنهم: 182- الخونجي: محمد بن ناماور أفضل الدين أبو عبد الله «14» قاضي القضاة، تمام الأفاضل، وإمام كل فاضل، ولهذا لقب بأفعل التفضيل، ولقي الود من كل فضيل، إلى علوم شرعية، وعلو قدر لرتبة مرعية، هذا إلى وفور إحسان، وظهور أياد حسان، مع سلامة صدر، وسذاجة مفرطة بلا قدر، فلم

183 - أبو سليمان داود بن أبي المنى ابن فانة

يكن مثل بزّه الرفيع الساذج، ومهزّه الرطب عند قضاء الحوائج. قال ابن أبي أصيبعة فيه:" اجتمعت به ووجدته الغاية القصوى في سائر العلوم، وكان يعرض له انشداه خاطر لكثرة انصباب ذهنه إلى العلم، وتوفّر فكره عليه، وولي قضاء القضاة بمصر وأعمالها". ومنهم: بنو فانه:- أهل بيت تنسقوا في الفضائل، وتناسبوا في كرم الشمائل، وتناسلوا لا تكذب فيهم المخايل كأنما توالدوا من ظهور إقلينوس، أو تعاقدوا على حل مشكلات جالينوس، لو جلسوا في رواق أرسطو لسطا بهم في النظر وسما بهم إلا أنه يرضى جنب القمر. وأولهم: 183- أبو سليمان داود بن أبي المنى ابن فانة «13» وكان في أهل ملته يأوي إلى جناب منيع، ويهمي بسحاب لا يجحد له حسن الصنيع، وهذا إلى فهم ثاقب، وعزم لا يوني في طلب المناقب. قال ابن أبي أصيبعة:" كان طبيبا نصرانيا من أهل القدس، حظيا عند الخلفاء، فاضلا من فضلاء الأطباء، وأخذه الملك ماري من مصر إلى القدس «1» ليقيم عنده به، ولما وقع الفقيه عيسى عنده في الأسر مرض مرضا أشفى منه، فأمر ماري ابن فانة بمعالجته، فلما رآه مثقلا بالحديد في قعر الجب قال لماري: هذا رجل ذو

184 - ابنه: الموفق أبو شاكر موفق الدين

نعمة، ولو سقيته ماء الحياة على مثل هذه الحال لم ينتفع به، فأطلقه من الحديد والجب وأكرمه فإنّ ذلك كاف في علاجه. فقال له: هذا عليه قطيعة «1» كثيرة وأخاف أن يهرب. فقال ابن فانة: أيها الملك! سلّمه إليّ وضمانه عليّ. فقال له: تسلّمه، فإذا جاءت قطيعته لك فيها ألف دينار. ثم أخذه إليه وفكّ حديده وأخلى له موضعا من داره، وبالغ في إكرامه؛ فلما مضت ستة أشهر، أمره ماري بإحضاره، فأحضره، فوجد قطيعته قد جاءت في أكياس، فأعطى ابن فانة منها كيسا فيه ألف دينار، كما وعده وأطلق سراح الفقيه عيسى؛ فقال ابن فانة: أيها الملك هذه الألف دينار قد صارت لي، وأتصرّف فيها تصرّف الملّاك في أملاكهم، قال له: نعم. فأعطاها للفقيه لوقته، وقال له: أنا أعرف أن هذه القطيعة ما جاءت وقد تركت خلفك شيئا وربما استدانوا لك فيها، فاقبل مني هذه في نفقة الطريق، فقبلها منه، وكان ابن فانة عارفا بالنجامة، ورأى أن صلاح الدين سيدخل القدس من باب الرحمة، فبعث ولده أبا الخير إليه مبشرا بذلك، فأجازه جائزة سنية، وأعطاه علما أصفر، ونشابة لأمانه، فلما دخل صلاح الدين إلى القدس دخل الفقيه عيسى داره وحماها أن تنال بسوء هي وجميع ما جاورها. ومنهم: 184- ابنه: الموفق أبو شاكر موفق الدين «13» لم يقف عند غاية أبيه وهي نائيه، ولم يقف آثاره والسحب وراءها غير متوانيه، تشرّف بالإسلام وتعرّف بالهدى وعداه الملام، وحظي ممن خدمهم من

185 - الرشيد أبو حليقة: وهو أبو الوحش ابن الفارس ابن أبي الخير بن أبي سليمان داود ابن أبي المنى ابن فانة

الملوك بما لم يحظ به من مخدوم وغلام. وقف له مثل العادة في نهجه، وأمطاه من كراكيبه ما ركب منه في غير سرجه. قال ابن أبي أصيبعة:" قرأ على أخيه أبي سعيد، ثم تميز واشتهر، وحظي عند الكامل، وأقطعه ضياعا وغيرها، وكان يتفقّده بالهبات الوافرة والصّلات المتواترة، وكان يدخل في جميع قلاعه راكبا لا ينزل ثم أسكنه عنده بقلعة الجبل، وركبه العادل مرة بغلته التي كانت قد شدّت في النوبة له، وركب ووقف بين القصرين ينتظره حتى جاء ثم أخذ بيده وجعل يتحدث معه إلى أن أتيا دار الوزارة، وكان العادل يسكنها وهو معه راكب، والأمراء ومن سواهم مشاة في الخدمة. وفيه يقول ابن منقذ: [المتقارب] رأيت الحكيم أبا شاكر ... كثير المحب مع الشاكر خليفة بقراط في عصرنا ... وثانيه في علمه الباهر ومنهم: 185- الرشيد أبو حليقة: وهو أبو الوحش ابن الفارس ابن أبي الخير بن أبي سليمان داود ابن أبي المنى ابن فانة «13» وسبب تسميته بأبي حليقة لأن أباه كان لا يعيش له ولد، فقيل لأمه: لو

عملت في أذنه حلقة لعاش؛ فعملتها. والملك الكامل هو الذي سمّاه بهذا الاسم لأنه طلبه مع غلام فقال له: من هومن الأطباء؟ فقال هو أبو حليقة. فعرف بذلك، وكان مذ كان منقطع القرين مهيبا لا يقتحم له عرين، معظّما في النفوس، متمما لمحاسن أهل الشموس، تجلّه الملوك وتحلّه حيث لا يصل إليه سلوك. قال ابن أبي أصيبعة بعد الثناء الجميل عليه بالعلم والدين والمروءة إنه:" ربي بجعبر، وكان أبوه يلبسه زي الجند، فدخل الملك الكامل مرة الحمام قريبا من داره، فبعث إليه أبوه معه ماء ورد، وأطباق فاكهة، فقبلها الأمير وملأ أطباقه تفاصيل سنية، ثم دخل به على ابنه الملك العادل فلما رآه قال: هذا ابن الفارس لأنه عرفه بالشبه، فقال له: نعم. فالتفت إلى أبيه وكان قائما في الخدمة وقال له: ولدك هذا ذكي لا تعلّمه الخدمة، فالجند عندنا كثير وأنتم أهل بيت تبرّكنا بطبكم، فسيّره إلى عمه أبي سعيد إلى دمشق ليقرئه الطب، ففعل، فمهر، ثم رحل إلى القاهرة وخدم الكامل وحظي لديه، وأقطعه ثم خدم من بعده إلى الملك الظاهر بيبرس على أجمل العوائد. قال: وكانت له نوادر في العلاج؛ منها: أنه كان يعالج حظيّة الكامل كانت معه بالعباسية، ثم عرض للرشيد شغل دخل لأجله إلى القاهرة، وأقام بها ثمانية عشر يوما، ثم عاد فوجد الأطباء قد تردّدوا إليها، فلما حضر باشر معهم، فقالوا له: إن هذه على موت، والمصلحة أن نعلم السلطان بهذا قبل أن يفجأه أمرها بغتة، فقال لهم: الذي عندي أن هذه ما هي في مرض الموت. فقال له شيخ منهم: أنا باشرت المرضى أكثر منك. فطالع السلطان فلم يوافقه. فأجمع الأطباء على المطالعة بهذا إلا هو، فكتبوا إلى السلطان بموتها، فأرسل إليهم رسولا ومعه نجار ليعمل لها تابوتا تحمل فيه؛ فأتيا والأطباء جلوس، فقال له الرشيد: ما هذا؟

فأخبره بما أتيا له. فقال للرسول: أتضعها في التابوت وهي في الحياة؟. فقال: لا، ولكن بعد موتها، فقال له: ارجع بهذا التابوت وقل للسلطان عني خاصة أنها لا تموت في هذه المرضة، فرجع وأخبره بذلك، فلما كان الليل استدعاه وقال له: أنت منعت عمل التابوت؟ قال له: نعم. قال له: بم عرفت ذلك دون الأطباء؟. قال: بمعرفتي بمزاجها دونهم. فقال له: امض فطبّبها، فطبّبها فعوفيت. ومنها: أن الكامل لفّ مرة يده وأخرجها مع أيدي الحرم وهو يجس الأيدي، فلما انتهى إلى نبض الكامل قال: هذا نبض مولانا السلطان، وهو صحيح بحمد الله!. ومنها: أنه جاءته امرأة من الريف ومعها ولدها شاب غلب عليه النحول لتريه إياه، واتفق أنها جاءت به إليه بالغداة، والوقت بارد، فجسّ نبضه، وبينما هو يجس نبضه، إذ قال لغلامه: ادخل ناولني الفرجية لألبسها، فتغير نبض الشاب عند قوله تغيرا كثيرا، فحدس أن يكون عاشقا، ثم جس نبضه بعد ذلك فتساكن، وعند ما خرج الغلام إليه وقال له: هذه الفرجية جس نبضه أيضا فوجده قد تغير. فقال لوالدته: إن ابنك هذا عاشق، والذي يهواها اسمها" فرجية". فقالت: إي والله يا مولاي هو يحب واحدة اسمها فرجية، وقد عجزت مما أعذله فيها، وتعجبت من قوله لها غاية العجب، ومن اطّلاعه على اسم المرأة من غير معرفة متقدمة له بذلك. أقول: ومثل هذه الحكاية كانت عرضت لجالينوس لما عرف المرأة العاشقة، وذلك أنه كان استدعي إلى امرأة جليلة القدر وكان المرض قد طال بها، وحدس أنها عاشقة، فتردد إليها، ولما كان عندها وهو يجس نبضها، وكانت الأجناد قد ركبوا في الميدان وهم يلعبون، فحكى بعض الحاضرين ما كانوا فيه، وإن فلانا

186 - ابنه المهذب: أبو سعيد محمد بن أبي حليقة

تبينت له فروسية ولعب جيد، فعند ذلك لما سمعت باسم ذلك الرجل تغير نبضها واختلف، ثم جسها بعد ذلك فوجده قد تساكن إلى أن عاد إلى حاله، ثم إن جالينوس أشار إلى الحاكي سرا أن يعيد قوله، فلما أعاده وجسّ نبضها وجده أيضا قد تغير فتحقّق من حالها أنها تعشق ذلك الرجل، وهذا مما يدل على وفور العلم وحسن النظر في تقدمة المعرفة. ومنهم: 186- ابنه المهذب: أبو سعيد محمد بن أبي حليقة «13» وأيّ الرجال المهذب؟، وأي الآصال عصره المذهب، وكان له أي مجلس مغشي، وأنس أضوأ من مصابيح العشي، يعشى إلى ضوء ناره، ويعزى الفضل إلى ساكن داره، ويوصف بخلائق تتكفل بري الظماء، وتلذ لذة العسل بالماء، ولم يزل فجره يتزيّد في إنارته، وبدره لا يخرج من دارته حتى طما على روضته سيل المنون، وطحنه تحت ضرسه المنجنون «1» . قال ابن أبي أصيبعة فيه:" أوحد العلماء، وأكمل الحكماء، ولد بالقاهرة وسمي محمدا لما أسلم أيام الظاهر «2» . منحه الله من العقل أكمله، ومن الأدب

187 - أبو سعيد بن موفق الدين يعقوب

أفضله، ومن الذكاء أغزره، ومن العلم أكثره، أتقن الطب وعرف الحكمة، ولا أحد يدانيه فيما يعانيه، ولا يصل إلى الخلائق الجميلة التي أجمعت عليه". انتهى ذكرهم فأما من سواهم؛ فمنهم: 187- أبو سعيد بن موفق الدين يعقوب «13» ويلقب بالموفق، وكان في فعله موفقا، وفي نقله موثّقا، يصيب شاكلة الرمي، ويتلقى عدو المرض تلقي الكمي «1» ، وله علاج يقوم بالأبدان، ويدوم تهاديه في البلدان، وينقل من خبره ما يكون أرجا للمجالس، وحرجا للمنافس، وطالما طال أمثاله في البيع «2» ، وكانوا له كالتبع، ثم خدم السلطان فتم ممتد الاتّطان حتى شجب بعلته، وانتحب بالبكاء عليه أهل ملته. قال ابن أبي أصيبعة:" هو من نصارى القدس، وكان خبيرا في الطب علما وعملا، حادّ الذهن، وخدم الكامل ثم ابنه الصالح، وعالجه وهو بدمشق من أكلة كانت في فخذه، وكانت بينه وبين الرشيد أبي حليقة منافسة، فقال أبو سعيد: إن معالجة أبي حليقة على غير الصواب، فنظر الصالح إلى أبي حليقة نظرة غضب، فقام من بين يديه وقعد بباب الدار، ثم عرض أبو سعيد إليه مرة أخرى في مجلس السلطان، فعرض له فالج وبقي ملقى قدامه فأمر السلطان بحمله إلى داره، فمات بها بعد أربعة أيام، ثم عاد الصالح إلى مصر بعلّته وبها مات".

188 - ابن البيطار: عبد الله بن أحمد المالقي النباتي، ضياء الدين أبو محمد

ومنهم: 188- ابن البيطار: عبد الله بن أحمد المالقي النباتي، ضياء الدين أبو محمد «13» سحاب أتى سيله فطمّ على القرى، وسحب ذيله فتم نشج العبقرى، وكأنما كان بأسرار الأدوية مناجي أو أوتي أجزل من ابن جزلة منهاجا، لعلم بالعقاقير وأشخاصها، وعموم منافعها واختصاصها، مع حسن جمع وإتقان ما يلج في سمع، وعرف فيها مقالات الحكماء وحزرها، وألّف فيها المطوّلات وحبّرها، وكان نسيج وحده، ووشيج جفان بأسده، تقلّب في البلاد وجلب ما يبقى على الآباد، ثم مات ولله في خلقه أمر، وجناها على نفسه وقال: بيدي لا بيد عمرو. قال ابن أبي أصيبعة فيه:" أوحد زمانه، وعلّامة أوانه، في معرفة النبات وتحقيقه واختباره ومواضع نباته، ونعت أسمائه على اختلافها وتنوعها، سافر إلى بلاد الأغارقة، وأقصى بلاد الروم، ووجد جماعة ممن يعاني هذا الفن، وأخذ عنهم معرفة نبات كثير وعاينه في مواضعه، واجتمع أيضا في المغرب وغيره بكثير من الفضلاء في علم النبات، وعاين نباته وتحقق ماهيته، وأتقن دراية كتاب ديسقوريدس إتقانا بلغ فيه إلى أن لا يكاد يوجد من يجاريه فيما هو فيه، وذلك أنني وجدت عنده من الذكاء والفطنة والدراية في النبات وفي نقل ما

ذكره ديسقوريدس وجالينوس فيه ما يتعجب منه. أول اجتماعي به كان بدمشق سنة ثلاث وثلاثين وست مائة، ورأيت أيضا من حسن عشرته، وكمال مروءته، وطيب أعراقه، وجودة أخلاقه، وكرم نفسه ما يفوق الوصف، ويتعجب منه، ولقد شاهدت معه في ظاهر دمشق كثيرا من النبات في مواضعه، وقرأت عليه أيضا تفسيره لأسماء أدوية كتاب ديسقوريدس، فكنت أجد من غزارة علمه ودرايته وفهمه شيئا كثيرا، وكنت أحضر لدينا عدة من الكتب المؤلّفة في الأدوية المفردة، مثل كتاب ديسقوريدس وجالينوس، والغافقي، وأمثالها من الكتب الجليلة في هذا الفن، فكان يذكر أولا ما قاله ديسقوريدس من نعته وصفته وأفعاله، ويذكر أيضا ما قاله جالينوس فيه من نعته وأفعاله ومزاجه وما يتعلق بذلك، ويذكر أيضا ما قاله المتأخرون وما اختلفوا، ومواضع الغلط والاشتباه الذي وقع لبعضهم في نعته، فكنت أراجع تلك الكتب معه، ولا يغادر شيئا بما فيها، وأعجب من ذلك أيضا أنه كان ما يذكر دواء إلا ويعين في أي مقالة هو من كتاب ديسقوريدس وجالينوس، وفي أي عدد هو من جملة الأدوية المذكورة، وفي تلك المقالة. وكان في خدمة الملك الكامل محمد بن أبي بكر بن أيوب، وكان يعتمد عليه في الأدوية المفردة، والحشائش، وجعله في الديار المصرية رئيسا على سائر العشابين، وأصحاب البسطات، ولم يزل في خدمته إلى أن توفي الملك الكامل رحمه الله بدمشق، وبعد ذلك توجه إلى القاهرة ثم خدم الملك الصالح نجم الدين أيوب ابن الملك الكامل، وكان حظيا عنده، مقدما في أيامه، وكانت وفاة ضياء الدين العشاب- رحمه الله- بدمشق في شهر شعبان سنة ست وأربعين وستمائة. وكتابه الجامع في الأدوية المفردة لا يوجد كتاب في الأدوية أجلّ ولا أجود منه، وصنّفه للملك الصالح نجم الدين أيوب ابن الملك الكامل.

قلت: ويحكى أنه سمّ نفسه فمات!. حدثني الحكيم أمين الدين سليمان بن داود المتطبّب قال: كان الملك الصالح قد أعطى ابن البيطار ألف دينار لينفقها على أثمان أدوية دعت إليها حاجته، واجتناء حشائش شامية ورومية، فلما أتى بيت المقدس رأى امرأة نصرانية اسمها مريم، فأحبّها وأنفق عليها ذلك المال حتى أنفده وأهمل حاجة الملك الصالح، فلما قدم الملك الصالح إما قال: القدس، أو قال: دمشق، لم يكن لابن البيطار دأب ليله أراد الصالح يدخل البلد في صباحها إلا أنه أحضر النصرانية، وبات معها في أكل وشرب واستماع غناء واستمتاع حتى كان الثلث الآخر فأخرج حشيشة معه فسحقها في هون ثم استفها ونام، وقال: غطوني، ثم إذا أصبحتم لا تسحقوا شيئا في الهون حتى تجيدوا غسله فإنه قد صار مسموما، فلم يفهموا مقاله إلى أن أصبحوا فرأوه ميتا، ففهموا ما كان قاله، وغسلوا الهون، فلما دخل السلطان سأل عنه فحكيت إليه القصة فقال: لقد أساء بنا الظن وأين مثله لأشتريه بشطر ملكي، والله لو علمت لأعطيته عشرة آلاف دينار يصرفها في لذته، وكان أمتعنا بنفسه. قلت: ويحكى أنه ترك عقاقير كثيرة ومفردات عدة لم يذكرها في كتابه الجامع ضنا بها، وبخلا على غيره بمعرفتها. قال لي الحكيم صلاح الدين ابن البرهان: كان ابن البيطار يعرف مما يدخل في علم الكيمياء أشياء لم يذكره في جامعه. قلت: وابن البرهان كان مغرى بالكيمياء، مصدقا بعلمها وإن كان لا يعملها بيده، ولهذا أظنه قال ما قال: [الوافر] وكل يدعي وصلا بليلى ... وليلى لا تقر لهم بذاك

189 - علي بن أبي الحزم: علاء الدين ابن النفيس القرشي الدمشقي

ومنهم: 189- علي بن أبي الحزم: علاء الدين ابن النفيس القرشي الدمشقي «13» فرد الدهر وواحده، وأخو كل علم ووالده، إمام الفضائل، وتمام الأوائل، والجبل الذي لا يرقى علاه بالسلالم، والحبل الذي لا يعلق به إلا الغريق السالم، لم يبق إلا من اغترف منه غرفة بيده، وأخذ منه حلية لمقلده، حلّ مصر في محل ملكها، ونسخت لياليها بإشراقه صبغة حلكها، وقرأ عليه بها الأعيان وكلأ فضله وأعان، ولم يكن على علم واحد بمقتصر، ولا شبهه بالبحر إلا مختصر، هذا إلى حسب غير مرءوس، وحسب مثل جناح الطاووس، وشرف قرشي لا يحل معه في بطحائه، ولا يحث في البيد قلاص بطائه، زكا محتدا، وزها بيتا لم يضرب غير متوسط السماء وتدا، وكمّل ذاته بكرم وخير، ومجد في أول وأخير، ومزايا استحقاق وسجايا كحواشي النسيم الرقاق، ومحاسن كطوالع النجوم ما فيها شقاق. قال ابن أبي أصيبعة «1» :" نشأ بدمشق واشتغل بها في الطب على المهذّب

الدخوار منجبا، تخرج عليه جماعة منهم: الرضي وابن قاضي بعلبك، والشمس الكلي، وكان علاء الدين إماما في علم الطب لا يضاهى في ذلك ولا يدانى، استحضارا واستنباطا، واشتغل على كبر وله فيه التصانيف الفائقة والتواليف الرائقة. صنف كتاب" الشامل" في الطب، تدل فهرسته على أنه يكون في ثلاث مائة سفر، هكذا ذكر بعض أصحابه، وبيّض منها ثمانين سفرا، وهي الآن وقف بالبيمارستان المنصوري بالقاهرة، وكتاب" المهذب" في الكحل، و" شرح القانون" لابن سينا، في عدة أسفار، وغير ذلك في الطب، وهو كان الغالب عليه. وأخبرني شيخنا أبو الثناء محمود أنه كان يكتب إذا صنف من صدره، من غير مراجعة حال التصنيف، وله معرفة بالمنطق، وصنف فيه مختصرا، وشرح الهداية لابن سينا في المنطق، وكان لا يميل في هذا الفن إلا إلى طريقة المتقدمين كأبي نصر، وابن سينا، ويكره طريقة الأفضل الخونجي «1» ، والأثير الأبهري «2» ، وصنف في أصول الفقه، والفقه، والعربية، والحديث، وعلم البيان، وغير ذلك، ولم يكن في هذه العلوم بالمتقدم إنما كان له مشاركة ما، وقد أحضر من تصنيفه في العربية كتابا في سفرين أبدى فيه عللا تخالف كلام أهل الفن، ولم يكن قرأ في هذا الفن سوى" الأنموذج" للزمخشري، قرأه على ابن النحاس، وتجاسر به على أن صنف في هذا العلم، وعليه، وعلى العماد النابلسي تخرج الأطباء بمصر والقاهرة، وكان شيخا طوالا، أسيل الخدين، نحيفا، ذا مروءة.

وحكي أنه في علّته التي توفي فيها أشار عليه بعض أصحابه الأطباء بتناول شيء من الخمر! إذ كان صالحا لعلته على ما زعموا، فأبى أن يتناول شيئا منه، وقال: لا ألقى الله تعالى وفي باطني شيء من الخمر. وكان قد ابتنى دارا بالقاهرة وفرشها بالرخام حتى إيوانها، وما رأيت إيوانا مرخما في غير هذه الدار، ولم يكن مزوجا. ووقف داره وكتبه على البيمارستان المنصوري، وكان يغض من كلام جالينوس، ويصفه بالعي والإسهاب الذي ليس تحته طائل، وهذا بخلاف النابلسي فإنه كان يعظّمه ويحث على قراءة كلام جالينوس. وكان علاء الدين قد نزل يدرس بالمسرورية بالقاهرة «1» في الفقه، وذكروا أنه شرح في أول التنبيه إلى باب السهو شرحا حسنا، ومرض رحمه الله تعالى ستة أيام أولها يوم الأحد، وتوفي سحر يوم الجمعة الحادي والعشرين من ذي القعدة سنة سبع وثمانين وستمائة بالقاهرة. قال أبو الصفاء: أخبرني الإمام العلامة الشيخ برهان الدين الرشيدي خطيب جامع أمير حسين بالقاهرة قال: كان العلاء ابن النفيس إذا أراد التصنيف توضع له الأقلام مبرية، ويدير وجهه إلى الحائط ويأخذ في التصنيف إملاء من خاطره، ويكتب مثل السيل إذا تحدّر، فإذا كلّ القلم وحفي رمى به وتناول غيره لئلا

يضيع عليه الزمان في بري القلم. قلت: وبهذا حدّثني شيخنا أبو الثناء محمود: قال أبو الصفاء: وأخبرني شيخنا نجم الدين الصفدي أن ابن النحاس كان يقول: لا أرضى بكلام أحد في القاهرة في النحو غير كلام ابن النفيس، أو كما قال. وقد رأيت له كتابا صغيرا عارض به رسالة حي بن يقظان لابن سينا، ووسمه بكتاب:" فاضل بن ناطق"، وانتصر فيه لمذهب أهل الإسلام وآرائهم في النبوات والشرائع، والبعث الجسماني، وخراب العالم. ولعمري لقد أبدع فيها ودلّ ذلك على قدرته وصحة ذهنه، وتمكنه من العلوم العقلية. وأخبرني السديد الدمياطي الحكيم بالقاهرة، وكان من تلاميذه قال: اجتمع ليلة هو وابن واصل «1» ، وأنا نائم عندهما، فلما فرغا من صلاة العشاء الآخرة شرعا في البحث وانتقلا من علم إلى علم، والشيخ علاء الدين كل ذلك يبحث برياضة ولا انزعاج، وأما القاضي جمال الدين فإنه ينزعج ويعلو صوته، وتحمر عيناه، وتنتفخ عروق رقبته، ولم يزالا كذلك إلى أن أسفر الصبح، فلما انفصل الحال قال القاضي جمال الدين: يا شيخ علاء الدين، أما نحن فعندنا مسائل ونكت وقواعد، وأما أنت فعندك خزائن علوم. وقال أبو الصفاء: قال السديد أيضا: قلت يا سيدي لو شرحت" الشفاء" لابن سينا، كان خيرا من شرح" القانون" لضرورة الناس إلى ذلك. فقال:" الشفا"

عليّ فيه مواضع تريد أيتها؟. قلت: يريد أنه ما فهم تلك المواضع لأن عبارة الرئيس في" الشفا" غلقه. قال: وأخبرني آخر قال: دخل الشيخ علاء الدين مرة إلى الحمام التي في باب الزهومة، فلما كان في بعض تغسيله خرج إلى مسلخ الحمام واستدعى بدواة وقلم وورق، وأخذ في تصنيف مقالة في النبض إلى أن أنهاها، ثم عاد ودخل الحمام وكمل تغسيله!. وقيل: إنه قال: لو لم أعلم أن تصانيفي تبقى بعدي عشرة آلاف سنة ما وضعتها، والعهدة في ذلك على من نقله عنه. وعلى الجملة كان إماما عظيما وكبيرا من الأفاضل جسيما، وكان يقال: هو ابن سينا الثاني. قال: ونقلت من ترجمته في مكان لا أعرف من هو الذي وضعه، قال: شرح" القانون" في عشرين مجلدا شرحا حلّ فيه المواضع الحكمية، ورتّب فيه القياسات المنطقية، وبين فيه الإشكالات الطبية، ولم يسبق إلى هذا الشرح لأن قصارى كل من شرحه أن يقتصر على الكليات إلى نبض الحبالى، ولا يجري فيه ذكر الطب إلا نادرا، وشرح كتب بقراط كلها، ولأكثرها شرحان؛ مطوّل ومختصر، وشرح" الإشارات" وكان يحفظ:" كليات القانون" ويعظم كلام بقراط، ولا يشير على مشتغل بغير القانون، وهو الذي جسّر الناس على هذا الكتاب، وكان لا يحجب نفسه عن الإفادة ليلا ولا نهارا، وكان يحضر مجلسه في داره جماعة من الأمراء، والمهذب ابن أبي حليقة رئيس الأطباء، وشرف الدين ابن صغير، وأكابر الأطباء، ويجلس الناس في طبقاتهم، ومن تلاميذه الأعيان: البدر حسن الرئيس، وأمين الدولة ابن القف، والسديد الدمياطي، وأبو

190 - أحمد المغربي

الفرج الإسكندري، وأبو الفرج ابن صغير. وحدثني عنه غير واحد منهم شيخنا أبو الفتح اليعمري قال: كان ابن النفيس على وفور علمه بالطب وإتقانه لفروعه وأصوله قليل البصر بالعلاج، فإذا وصف لا يخرج بأحد عن مألوفه، ولا يصف دواء ما أمكنه أن يصف غذاء، ولا مركبا ما أمكنه الاستغناء بمفرد، وكان ربما وصف القمحية لمن شكا القرحة، والتطماج لمن شكا هواء، والخروب «1» والقضامة لمن شكا إسهالا، ومن هذا ومثله ولكل بما يلائم مأكله ويشاكلها، حتى قال له العطار الشرابي الذي كان يجلس عنده: إذا أردت أنك تصف مثل هذه الوصفات اقعد على دكان اللحام، وأما إذا قعدت عندي فلا تصف إلا السكّر والشراب والأدوية. وحكى لي شيخنا أبو الثناء الحلبي الكاتب قال: شكوت إلى ابن النفيس عقالا «2» في يدي، فقال لي: وأنا والله بي عقال، فقلت له: فبأي شيء أداويه؟. فقال لي: والله ما أعرف بأي شيء أداويه!، ثم لم يزدني على هذا. ومنهم: 190- أحمد المغربي «13» شهاب الدين والد الرئيس جمال الدين إبراهيم ابن المغربي رئيس الأطباء بمصر والشام، وإليه انتهت الحشمة والاحتشام. كوكب الفضائل الطالع نيرا، والمشرق قمرا منورا.

أخذ من كل العلوم الحكمية بنصيب موفّر الأجزاء، موفّر الجناب، يعزى إليه بالاعتزاء. قدم مصر واستوطنها، وقطع بفضله من قطنها، وكان فريدا في أنواع العلم، إلا أنه عرف بالطب أكثر من بقية ما عرف به من المعارف، وحصل من التالد والطارف «1» ، وخدم السلطان وتقدم الرهط، وتفرد في جماعة الأطباء، وأقرأ العلم وأفاد، وباشر المرضى وأحسن العلاج، وعدّل منحرف كل مزاج، وكان وافر الحظ من السلطان والأمراء والوزراء، وسائر الكبراء، وكان بصيرا بالنجامة، متقدما في علمها، وكان يتكلم فيها مع السلطان وأرباب الدولة، وحصل النعم الجمّة، والأموال الجزيلة، وخدم بنوه السلطان، وتقدموا في الخدم، وصحب ابنه جمال الدين السلطان حين همّ بالحج أيام سلطنته الثانية، فلما أقام بالكرك أقام معه، وترك أسبابه وراءه بمصر منقطعة، فرعى له السلطان حق انقطاعه، وزاد في قدر إقطاعه، وولاه الرياسة حتى تجاوز قدر الرؤساء، وقرّبه حتى كان من أخصّاء الجلساء، وكان لا يزال يفاوضه في كل حديث ويطلعه على أكثر الأمور، ورفع إليه يوما الصلاح ابن البرهان قصة يسأل فيها الإعفاء من وظيفته في الطب بالخدمة، وكنت سفيره فيه، فقال لي السلطان: هذا الصلاح أفضل من إبراهيم- يعني ابن المغربي- وما يطلب ترك الخدمة إلا لأجله، لكونه مقدّما عندنا عليه، فقل له: نحن نعرف فضيلتك وكبر قدرك، وإنك أفضل من إبراهيم وأكبر، ولكن إبراهيم له علينا حق الخدمة من وقت كنا في الكرك، وهو صاحبنا ما هو طبيب عندنا. فبلّغته الرسالة بنصّها، فسكت على مضض!.

191 - السديد الدمياطي

قلت: هذا قول السلطان، وأما الرئيس جمال الدين إبراهيم فإنه من أعيان الأطباء، وأهل الفضل والتقدم في العلم والعمل في الطب وصناعته، والاجتهاد دائما في توفير بضاعته، ولهذا اكتفيت عن إفراده بترجمة. ومنهم: 191- السديد الدمياطي «13» اليهودي، يعرف بابن كوجك. وبنو كوجك وبنو صغير أهل بيت واحد، وهم من يهود بلاد العجم، وكلهم كانوا لا يعرفون إلا ببني كوجك، وكوجك باللغة العربية: صغير «1» ، فلما قدموا مصر عرّب فريق منهم اسم جدهم المنسوبين إليه وبقي فريق على اسمه الأعجمي، وكان" السديد" شديد المقال، مديد المجال، جالينوس زمانه في الطب الذي لم يبلغ، والعلم الذي لم يدرك. قرأ على ابن النفيس، والنابلسي، وعلى ابن النفيس أكثر، ومن مدده استكثر. أتقن الحكمة والطب، وأخذ من كل فن بطرف، وأذعن كل فاضل له واعترف، وكان يحفظ غالب ديوان أبي الطيب المتنبي، بل كله، وينشد منه، ويستشهد به في موضعه إذا تكلم، وخدم السلطان، وتقرّر لديه فضله، واستقرّ في كل خاطر أنه لا نظير له في الدهر، وتنافست الأمراء وأكابر الدولة في معالجته، وكانت الأطباء إذا اختلفت في حدس مرض أو وصف دواء عادوا إلى

رأيه، ورجعوا إلى قوله، فإذا قال سكت كل قائل، وسلّم كل منازع، وكانوا إذا عرض للسلطان مرض وحضروا عنده تقدم السديد فأمسك يد السلطان وجسّ نبضه قبل الرئيس، وقبل كل أحد، وكان الرئيس هو السائل عن الأعراض بحضوره، ثم تحصل الشورى بينهم على ما يوصف، ويكون مدار الكل على كلام السديد، واعتماد السلطان عليه دون الكل. وكان السديد رجلا عاقلا ساكنا لا يكاد يتكلم، حتى إذا تكلم كان البحر الزاخر، والسيل المنحدر، والضرام المتّقد، والأسد الصؤول، إلى نقول يستحضرها، وبحوث يحررها، وتجارب يذكرها. وكانت له يد في علم الموسيقى والطرب، رأيت ابن كرّ «1» يصفه ويثني على علمه وينصفه. وكان على هذا الفضل الغزير والمدد الوافر لا يتوسع في الوصف ولا يخرج عن الجادة، ولا يعدل عن المعهود، ولا يرى التفقه في الطب كما كان عليه فرج الله بن صغير «2» ، وكان السديد اجتهاده لنفسه، وفرج الله اجتهاده للعليل، على أن السديد كان إذا لم يشاركه طبيب آخر يطبّب تطبيبا مستقصى، وإن لم يتوسع، فأما إذا شورك سكت وجمد واكتفى بقول المشارك له، وإن كان عنده في الباطن خلافه، وبالجملة كان من الأفراد، وممن يقدم إذا حضرت الأفاضل بالأعداد.

192 - فرج الله بن صغير

ومنهم: 192- فرج الله بن صغير طبيب لو حضر معه ابن ماسويه لما مسّ العلاج، أو أبو قريش «1» لما أقرّ له ابن اللجلاج «2» ، أو استشعر به حنين بن إسحاق «3» لحنّ إلى لقائه، أو كان في زمانه ابن الأشعث للمّ شعثه ببقائه، لنفع لو كان للمطجّن لأكل جديه الحنيذ «4» ، أو لأمين الدولة لكان عنده ابن التلميذ «5» ، وصدق ودّ لو أنه لابن كلدة لو كل إليه الوفاء، أو لسني لابن سيناء لنسب إليه دون الشفا، ولم يكن شرواه «6» في مداواة سقام، ومدافعة سمام، بملاطفة ما حظي بها النسيم، ولا عبث بشبهها في ملاعبه عطف الروض النسيم. قال لي: إنه قرأ على أبيه وعلى ابن النفيس، وتلك الطبقة، واقتصر على علم الطب وحقّقه، وأذن له في الكحل ثم في الطب، وجلس للتطبيب، وعاد المرضى، وظهر أثر علمه، وكثر النفع به، وبرء المرضى على يده. وخدم السلطان وأطلق له المعلوم الوافر والراتب الكامل، وتفرد بخدمة بكتمر

الساقي «1» ، وكان يعتمد عليه دون سائر الأطباء، ويعمل بقوله في معالجته ومعالجة ولده وحريمه، وخواصه، وأعزائه. وكان سلطاننا الملك الناصر يثق به وأفرده بعد بكتمر الساقي لخدمة الدور السلطانية والنساء والحرم، مع مشاركة الجماعة في مباشرة طبه والحضور عنده، ولم يزل موفّر الحظ من الإكرام، وكانت بيننا وبينه صحبة، وله بنا خصوصية، وله من حسن الملاطفة في العلاج ما لم يكن لأحد سواه، وكان في هذا غاية. جرى ذكره عند الحكيم الفاضل ناصر الدين محمد بن صغير، وهو عليل بدمشق، فقال: من كان مثل الحكيم فرج الله؟. وأخذ في وصفه ووصف فضيلته والثناء عليه، وبالغ في هذا وأطنب فيه، فقال له بعض من حضر: فكيف كان السديد الدمياطي؟. فقال: كان السديد يعمل في ما يصفه مصلحته، وفرج الله يعمل مصلحة المريض. قلت: والأمر هو على ما قاله، فإن السديد قلّ أن كان يخوض الغمرات في الوصف، وفرج الله يخوض الغمرات في الوصف، ويودّ لو نزع من جسده ثوب العافية وألبسه المريض، وإذا كره المريض أو من حضره غذاء أو دواء، أبدله بغيره فإن كرهوا أبدله بغيره، يفعل هكذا حتى يصيب موافقة من رضاهم أو مقاربة، وكان يرى أن هذا أجدى في نفع المريض، وكانت له معالجات موافقة، وإصابات في تقدم المعرفة خارقة.

حكى لي غير واحد من جيراننا بالقاهرة أنه كان معودا بمعالجة رجل بسويقة الصاحب، وقد عرف مزاجه ودربه، فمرّ به ذات يوم وهو راكب على حماره قد نزل من القلعة على بيته، فرأى ذلك الرجل جالسا على باب المدرسة الصاحبية «1» ، فوقف فرج الله قدامه، وذلك الرجل لا يشعر به، وأطال فرج الله النظر إليه، والتأمّل إلى سحنته، وهو صحيح سوي، لا يشكو مرضا ولا عرضا، ثم قال له: يا فلان هل عضّك في هذه الأيام كلب قطّ؟. فقال له: نعم، من أيام قلائل. فقال له: قم اقعد في بيتك والحق نفسك بالمداواة، ثم ساق حماره وأتى إلى أهل بيت الرجل، وقال لهم: اعلموا أنني رأيت صاحبكم ورأيت عليه علائم الكلب، فسألته إن كان عضّه كلب؟ فقال: نعم. فأمرته بأن يقعد في بيته، ويلحق نفسه بالمداواة والطب، فالله الله فيه والله الله في أنفسكم، فإنه قد كلب ويوشك أن يجفل من الماء بعد كذا وكذا يوم، ثم يموت بعد كذا وكذا!. فكان الأمر كما ذكره لم يخرم في شيء منه. ولما اعتلّ والدي- رحمه الله- العلّة التي مات فيها كان أولها انصباب مادّة بلغمية إلى يده، فورمت منها يده، وهو ونحن لا نكترث بذلك ولا يهمنا، والأطباء تتردّد إليه في كل صباح ومساء لمعالجته، وفرج الله منهم، فأصبح ذات يوم وقد تصرّف الورم بجملته من يده وأصبح بارئا لا يشك في ذلك نحن ولا الأطباء، وكان منهم ابن البرهان، والسديد الدمياطي، فلما انصرفوا قال لي فرج الله: اعلم أن هذه المادة لم تتصرف، وإنما انصبّت بجملتها إلى مكان استضعفته من الأعضاء الباطنة، وأكبر ظني أن تكون انصبّت إلى قصبة الرئة، ولئن كان

كذلك ليعرضن له آخر هذا اليوم ضيق نفس، ثم قلّ أن تنجع معالجته مع ما بلغه من هذا السن، فلم يأت آخر ذلك اليوم إلا وقد عرض له مبادي ضيق نفس، ثم لم يزل يتزايد إلى أن أتى عليه يوم لم نشك أنه لا يخرج عنه، فلما أتاه ورأى ماءه واستقرى أعراضه ووصف له ما وصف وقام، وذلك يوم نصف شعبان. قلت له: تقول يمسي عليه المساء؟. قال: نعم، ويمسك إلى آخر هذا الشهر، إلى خمسة، ستة أيام أخرى في شهر رمضان. فكان الأمر كما ذكره لم يخرم!. قلت: وقلّ أن وصف لي دواء إلا وبين أثره ليومه، ثم حمدت عاقبته فيما بعد. وعرض لي مرة دوار صفراوي، فأمر بماء فأسخن فوق الإسخان المستطاب، ثم شدّ قدمي بأنشوطة من فوق الكعبين، وأمر بتدليتهما في ذلك الماء، وتعجيل حل الأنشوطة عند تدليتهما في الماء، ففعل ذلك، ثم أمر بإطالة اللبث، ثم حكّهما بالحجر الخشن والملح والنخالة، فلم يكن بأسرع من زوال ذلك الدوار لانعكاس المادة، وتفتّح المسام في سفل القدم، وأثّر ذلك لساعته. ولما أردت الحج في حجتي الثالثة كان الزمان صيفا، والحر شديدا إلى غاية، فسألته عما اعتمدته؟. فقال لي: إذا خفت الحرّلتّ «1» بزرقطونا «2» بماء، ثم أضف إليه شيئا من الخل الحاذق «3» الثقيف «4» ، وضمّد به صدرك ورقبتك،

193 - محمد بن صغير، ناصر الدين

فإنك لا تبالي بالحر!. فو الله لقد كنت أنا ومن معي نعمله ونركب في الهواجر المتّقدة والقيظ المضطرم، ونحن نظن أن على صدورنا قطع الثلج، لا نحسّ ما الحر، وما ندري ما السموم، إلى غير هذا مما كان فيه من الفضائل وما فاق به الأنظار وفاق الأماثل. فليت الشمس لو أبقته قليلا، ووا أسفا على مثله كيف مات على اليهودية. ومنهم: 193- محمد بن صغير، ناصر الدين طبيب جامع، ولبيب بشرق كلماته في المسامع، وفاضل لم يقصّر في نوع من الفضائل على كثرة تشعّبها، مع أخلاق لو تخلّقت بها المدام لما قطّب شاربها، ولما قدر أن يذكرها عائبها.. إلى فضائل شريفة، وشمائل ظريفة، وأخوّة صحيحة الإخاء، صريحة الانتحاء، وقول جزم أنه قد أصبح اليوم فردا واحدا لما جمع من شتّى المحاسن، وكمال الأوصاف. قرأ العلم واشتغل به، وخدم السلطان، وباشر المرستان، وقرأ النحو والأدب، وتطبّع به حتى صار خلقا له، وله في حسن العلاج يد طويلة، وآثار جميلة، وأفعال حسنة مشكورة، وهو يرى لطف التدبير في معالجة المرضى، وعدم الإقدام عليهم بالأدوية، وكان السلطان يشكره ويثني على نشأته الحسنة، إلى غير هذا مما يتفكّه به من جني الألسنة.

آخر الجزء الثامن من كتاب: «مسالك الأبصار في ممالك الأمصار» ويتلوه إن شاء الله تعالى: «وممن يعدّ مع الحكماء: أهل علم الموسيقى» والحمد لله رب العالمين «1» .

مصادر التحقيق

مصادر التحقيق 1- الإعلام بوفيات الأعلام. 2- الأعلام لخير الدين الزركلي. 3- إغاثة اللهفان لابن قيم الجوزية. 4- الإكمال لابن ماكولا. 5- الإمتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي. 6- الأنساب للسمعاني. 7- إيضاح المكنون في الذيل على كشف الظنون للبغدادي. 8- البداية والنهاية لابن كثير. 9- بغية الطلب لابن العديم. 10- بغية الوعاة في طبقات النحاة لابن القفطي. 11- تاريخ ابن الفرات. 12- تاريخ ابن الوردي. 13- تاريخ الإسلام للإمام الذهبي. 14- تاريخ الحكماء للشهرستاني. 15- تاريخ الحكماء للقفطي. 16- تاريخ الخلفاء للإمام السوطي. 17- تاريخ الزمان للعبري. 18- التاريخ المظفري لابن أبي الدم. 19- التاريخ المنصوري. 20- تاريخ حكماء الإسلام للبيهقي. 21- تاريخ مختصر الدول للعبري. 22- تاريخ مختصر الدول.

23- تراث العرب العلمي لطوقان. 24- التعريف بمصطلحات صبح الأعشى. 25- التقييد لابن نقطة. 26- تكملة إكمال الإكمال لابن الصابوني. 27- خزانة الأدب للبغدادي. 28- الدارس في تاريخ المدارس للنعيمي. 29- ديوان ابن الأبار الأندلسي. 30- ديوان ابن النواس. 31- ديوان ابن عنين- تحقيق خليل مردم بك. 32- ديوان الطغرائي. 33- ديوان المتنبي بشرح البرقوقي. 34- ديوان كثير عزة. 35- ذيل تاريخ بغداد لابن الدبيثي. 36- روضات الجنات للخوانساري. 37- الروضتين لابن أبي شامة، وذيله. 38- سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي. 39- شذرات الذهب لابن العماد الحنبلي. 40- الشقائق النعمانية لطاش كبري زاده. 41- صبح الأعشى للقلقشندي. 42- صوان الحكمة للسجستاني. 43- طبقات الأمم لصاعد. 44- طبقات الحكماء لابن جلجل. 45- طبقات الشافعية الكبرى للسبكي.

46- طبقات الشافعية لابن دقماق. 47- طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة. 48- طبقات الشافعية لابن هداية الله. 49- طبقات الشافعية للإسنوي. 50- طبقات الفقهاء لطاش كبري زاده. 51- طبقات المفسرين للإمام السيوطي. 52- العبر للإمام الذهبي. 53- عقود الجوهر للعظم. 54- عيون الأنباء في طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة. 55- الفلاكة والمفلوكون للدلجي. 56- فهرست ابن النديم. 57- الفهرست لابن النديم. 58- فواصل السمر في فضائل آل عمر لابن فضل الله العمري. 59- القاموس المحيط للفيروزآبادي. 60- قصد السبيل للمحبي. 61- القضاة الشافعية للنعيمي. 62- قضاة دمشق للنعيمي. 63- الكامل في التاريخ لابن الأثير. 64- الكتاب الذهبي للمهرجان الألفي لابن سينا. 65- كشف الخفاء ومزيل الإلباس للإمام العجلوني. 66- كشف الظنون لحاجي خليفة. 67- كنوز الأجداد لمحمد كرد علي. 68- لسان العرب لابن منظور.

69- مؤلفات ابن سينا لأمين مرسي قنديل. 70- مؤلفات ابن سينا لجورج قنواتي. 71- المختار من تاريخ ابن الجزري. 72- معجم الأدباء لياقوت الحموي. 73- معجم الأدباء لياقوت الحموي. 74- معجم البلدان لياقوت الحموي. 75- معجم المؤلفين لعمر رضا كحالة. 76- معجم المطبوعات ليوسف اليان سركيس. 77- المعرب للجواليقي. 78- مفتاح السعادة لطاش كبري زادة. 79- المقفى الكبير للمقريزي. 80- المنهل الصافي للصفدي. 81- ميزان الاعتدال للذهبي. 82- النجوم الزاهرة لابن تغري بردي. 83- نزهة الأرواح للشهرزوري. 84- نصارى بغداد لبابو إسحاق. 85- النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير الجزري. 86- هدية العارفين للبغدادي. 87- الوافي بالوفيات لابن شاكر الكتبي. 88- الوافي بالوفيات للصفدي. 89- وفيات الأعيان لابن خلكان. 90- الوفيات لابن قنفذ. 91- يتيمة الدهر للثعالبي. وغيرها كثير ذكر كل في موضعه.

الفهرست

الفهرست مقدمة 9 هرمس الأول 15 هرمس الثاني 17 هرمس الثالث 18 فيثاغورس 20 5- سقراط 23 6- أفلاطون 28 7- أرسطوطاليس 31 8- يعقوب بن اسحاق الكندي 39 9- أحمد بن الطيب السرخسي 42 10- كنكه الهندي 43 11- صنجهل الهندي 44 12- أبو نصر الفارابي 45 13- يحيى بن عدي 54 14- أبو بكر محمد بن زكرياء الرازي 55 15- أبو سليمان السجستاني 59 16- ابن الخمار 62 17- أبو الفرج بن هندو 64 18- الشيخ الرئيس أبو على الحسين 69 19- أبو الفرج عبد الله بن الطيب 102 20- أبو المؤيد محمد بن المجلي 105 21- ابن الخطيب الرازي 110

22- إبراهيم بن علي بن محمد السلمي 127 23- عبد اللطيف البغدادي 128 24- ابن الخوييّ شمس الدين أبو العباس 157 25- الرفيع الجيلي 160 26- الشهاب السهروردي 163 27- الخسرو شاهي (عبد الحميد بن عيسى) 175 28- السيف الآمدي 179 29- البديع الأصطرلابي 183 30- ابن الشبل البغدادي 185 31- النصير الطوسي 194 32- القطب الشيرازي 203 33- الشيخ صفي الدين الهندي 205 34- علاء الدين التبريزي 206 35- جلال الدين القزويني 211 36- السيد العبري برهان الدين 226 37- الشيخ شمس الدين الأصفهاني 229 38- يحيى بن يحيى (ابن السمينه) 253 39- ابن المجريطي 255 40- أبو القاسم أصبغ (ابن السمح) 256 41- أبو الحكم الكرماني 259 42- ابن واقد 260 43- محمد بن يوسف المنجم 262 44- أبو بكر باجة 263

45- المبشر بن فاتك 267 46- الحفيد أبو بكر محمد 269 47- ابن القوبع محمد بن محمد بن عبد الرحمن 274 48- ابن البرهان الجرائحي 282 49- ابن الأكفاني 288 50- اسقليبوس بن ريوس 294 51- أيلق 297 52- الحارث بن كلدة الثقفي 301 53- النضر بن الحارث 314 54- عبد الملك بن ابجر الكناني 317 55- ابن اثال 318 56- أبو الحكم 318 57- حكم الدمشقي 324 58- عيسى بن حكم الدمشقي 327 59- تياذوق 331 60- زينب طبيبة بني أود 335 61- جورجيس بن جبريل 337 62- بختيشوع بن جرجس النصراني 340 63- جبريل بن بختيشوع 342 64- بختيشوع بن جبريل 350 65- جبيرائيل بن عبيد الله 366 66- خصيب النصراني 368 67- عيسى المعروف بأبي قريش 369

68- ابن اللجلاج 373 69- عبد الله الطبقوري 374 70- إسرائيل بن زكريا 376 71- يزيد بن يوحنا 378 72- عبدوس بن يزيد 382 73- ماسرجوية 384 74- سلموية بن بنان 387 75- إبراهيم بن فزارون 388 76- إبراهيم بن أيوب 390 77- ماسويه أبو يوحنا 391 78- يوحنا بن ماسويه 393 79- ميخائيل بن ماسويه 408 80- حنين بن إسحاق 409 81- إسحاق بن حنين 413 82- يوحنا بن بختيشوع 415 83- ثابت بن قرة الحراني 416 84- سنان بن ثابت 420 85- ثابت بن إبراهيم 423 86- ابن وصيف الصابئ 427 87- غالب 428 88- صاعد بن بشر 429 89- ديلم 433 90- فنون المتطبب 434

91- نظيف (القس الرومي) 435 92- ابن بطلان 437 93- أحمد بن أبي الأشعث 348 94- أبو سهيل النيلي 439 95- ابن الواسطي 440 96- أبو طاهر البرخشي 441 97- أبو غالب بن صفيه 442 98- أمين الدولة ابن التلميذ 444 99- أبو الفرج يحيى بن صاعد 450 100- أبو البركات 452 101- أبو القاسم هبة الله 456 102- فخر الدين المرديني 460 103- نصر المسيحي 461 104- أبو الفرج بن توما 465 105- تياذورس 469 106- ابن الطبري 469 107- علي بن سهل بن ربن 470 108- أحمد بن محمد الطبري 471 109- الحسن بن نوح القمري 472 110- أبو سهل عيسى بن يحيى 473 111- السيد أبو عبد الله محمد 474 112- أبو الريحان البيروني 475 113- أحمد بن عبد الرحمن بن مندويه 476

114- أبو القاسم عبد الرحمن 477 115- السموأل بن يحيى 478 116- الشريف شرف الدين إسماعيل 479 117- شاناق الهندي 483 118- منكه الهندي 484 119- صالح بن بهلة الهندي 486 120- أبو الفرج جرجس 491 121- ظافر بن جابر السكري 498 122- أبو الحكم عبيد الله 499 123- أبو المجد محمد بن أبي الحكم 501 124- ابن البذوخ 502 125- أبو الفضل عبد المنعم بن عمر 503 126- المهذب بن النقاش 504 127- سكرة اليهودي الحلبي 506 128- اسعد بن إلياس 507 129- ابن اللبودي 509 130- الرضي الرحبي 512 131- الشرف علي شرف الدين 514 132- عمران بن صدقة 516 133- موفق الدين 518 134- رشيد الدين الصوري 520 135- سديد الدين بن رقيقة 522 136- صدقة بن منجا 525

137- المهذب بن يوسف 527 138- أمين الدولة أبو الحسن 528 139- المهذب الدخور 531 140- الرشيد علي بن حليقة 535 141- المظفر بن عبد الرحمن 537 142- العماد الدنيسري 540 143- عز الدين أبو إسحاق 542 144- موقف الدين يعقوب 543 145- أبو الفرج يعقوب بن القف 544 146- المهذب يوسف 546 147- النفيس أبو الفرج 547 148- الأمين سليمان، الحكيم 548 149- أحمد بن شهاب الدين 552 150- الفتح السامري 552 151- غنائم السامري 554 152- إسحاق بن عمران 555 153- إسحاق بن سليمان 556 154- ابن الجزار القيرواني 556 155- حمدون أثا 560 156- يحيى بن إسحاق 561 157- ابن جلجل الحكيم 562 158- أبو جعفر يوسف بن أحمد 564 159- الغافقي 565

160- أبو عتيق بن تمام الأزدي 566 161- أبو محمد المصري 568 162- أبو الصلت أمية بن عبد العزيز 571 163- أبو مروان الإشبيلي 578 164- أبو العلاء زهر بن عبد الملك 579 165- أبو مروان ابن أبي العلاء 581 166- أبو محمد بن الحفيد 583 167- أبو جعفر بن الغزال 585 168- أبو العباس ابن الرومية 586 169- ابن الأصم 587 170- بليطيان 588 171- سعيد بن توفيل 590 172- سعيد بن البطريق 592 173- أبو عبد الله التميمي 593 174- ابن الهيثم البصري 596 175- علي بن رضوان 597 176- زفرائيم بن الزفان 598 177- سلامة بن رحمون أبو الخير 599 178- نصر بن محمود بن المعرف 601 179- أبو عمرو بن عثمان القيسي 603 180- فتح الدين بن جمال 603 181- شهاب الدين بن فتح الدين 604 182- الخونجي محمد بن ناماور 604

183- أبو سليمان داود 605 184- الموفق أبو شاكر موفق الدين 606 185- الرشيد أبو حليقة 607 186- أبو سعيد محمد بن أبي حليقة 610 187- أبو سعيد بن موفق الدين يعقوب 611 188- ابن البيطار 612 189- علاء الدين بن النفيس 615 190- أحمد المغربي 620 191- السديد الدمياطي 622 192- فرج الله بن صغير 624 193- محمد بن صغير، ناصر الدين 628

[الجزء العاشر] مسالك الأبصار في ممالك الأمصار

صورة غلاف الجزء العاشر من مسالك الأبصار

صورة الصفحة الأولى من المخطوطة فيها بداية الكتاب وختمان وتمليك الكتاب

صورة الصفحة الثانية من الكتاب وفيها المصطلحات الموسيقية القديمة

صورة الصفحة 252 وفي السطر الأخير بيان بنهاية الاختيار من كتاب أبي الفرج الأصفهاني

صورة الصفحة 253 وفي أعلاها تعليق علي الحموي الحنفي

صورة الصفحة 420

صورة الصفحة 421 وهي ما قبل الأخيرة

صورة الصفحة الأخيرة من الجزء العاشر وهي نهاية الجزء الخاص بالأغاني وفيها أشعار المصنف ابن فضل الله العمري

الجزء العاشر

المقدمة هذا هو الجزء (السفر) العاشر من كتاب مسالك الأبصار في ممالك الأمصار للعالم الأديب البارع شهاب الدين أحمد بن يحيى بن فضل الله العمري المتوفى سنة 749 هـ، ويشتمل هذا الجزء على الغناء والموسيقا، وتراجم المغنين والمغنيات، وما يتعلق بذلك من شعر وأخبار وأحاديث مجالس الطرب. والكتاب ثروة أدبية وفنية نفيسة، وصورة من صور الحضارة الإسلامية في أزهى مظاهرها، على مدى ستة قرون أو تزيد، وقد جمع فيه المصنّف من الأشعار والأخبار وتراجم المغنين والمغنيات والشعراء والخلفاء والأمراء والوزراء وبقية الأعلام الكثير الغزير، فجاء بكل رائع ونفيس، وقد حفظ شعرا مختارا جيدا، كما حفظ كثيرا من الشعر الضائع أو المجهول الذي لم تحوه الكتب والدواوين التي وصلتنا، وحفظ كذلك تراجم المغنين والمغنيات الذين لم تصل تراجمهم وضاعت أخبارهم فيما ضاع من كتب التراث، ويعد هذا السفر مرآة واضحة صادقة للحياة العباسية في جانبها الفني المنصرف إلى الغناء والموسيقا ومجالس الأنس والطرب. وصف مخطوطة الكتاب: المخطوطة كما يظهر من صورة الغلاف فيها اسم الكتاب والجزء واسم المؤلف، ومكان المخطوطة (برسم خزانة السلطان المالك الملك المؤيد شيخ عصره، الجامع الذي أنشأه بباب زويلة عمرها الله ببقائه) وجاء بعدها بخط فارسي ذكر أن الكتاب وقف (الحمد لله وقف هذا الجزء وما قبله وما بعده الملك المؤيد أبو النصر نسخ على طلبة العلم بالجامع المؤيدي وشرط ألا يخرج منه) ، وهناك مطالعة لأحد العلماء على الجانب الأيسر بخط فارسي ولم يتضح اسم كاتبها.

يبدأ هذا الجزء بقول المؤلف بعد البسملة: (ربنا افرغ علينا صبرا وأعن، وممن يعد من الحكماء أهل علم الموسيقا إذ هو من الطبيعي، وقد أتيت منهم على مشاهير أهل الغناء ممن ذكره أبو الفرج الأصفهاني في كتابه الجامع، وفي كتاب الإماء، وممن ذكره ابن ناقيا النحوي البغدادي في كتاب المحدث ثم ذيلت ذلك بما نظرته في الكتب والتقطته منها التقاط الفرائد من السحب) . وفي جانب الصفحة الأولى في بداية الكتاب ختم دائري فيه: (الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله) وفيه أيضا رسم طغراء، وتحت الختم وبخط فارسي جميل: (وقف هذه النسخة الجليلة سلطاننا الأعظم الخاقان المعظم مالك البرّين والبحرين خادم الحرمين الشريفين السلطان بن السلطان، السلطان الغازي محمود خان، وقفا صحيحا شرعيا مصححا لمن طالع وتبصر واعتبر ويذكر لي أجزل الله تعالى لواءه المعظم أحمد شيخ زاده.. أوقاف الحرمين الشريفين غفر الله لهما) . وفي الصفحة 253 من الأصل المخطوط تعليق لعلي الحمودي الحنفي بعد قول المصنف: (هذا آخر ما يقع عليه الاختيار من جامع أبي الفرج الأصفهاني، اقتصرت فيه على ما ذكره من مشاهير المغاني، وقد بقيت مدة لا أجد ما أذيل عليه، ولا ما أصله به إلى زماننا هذا على ما جرينا عليه في جميع هذا الكتاب) . ويعلق الحنفي على هذا الكلام بخط فارسي كبير في أعلى الصفحة: (أقول إن المؤلف لم يحرر كلامه هنا ولم يستوف تراجم الأغاني، فإن كثيرا ممن ذكره هنا إلى آخر هذا الباب مذكور في الأغاني، يعلم ذلك من استوفى للأغاني نظرا، وقد طالعته ثلاث مرات، وأنت ترى جماعة من هذا الذيل قبل زمن أبي الفرج بمدد ولا يشذوا (كذا) عنه مع كثرة اطلاعه واستيعابه المجمع على سعة مادته وتقصيه وتغضيه، والمؤلف معذور طالت عليه الشقة وأراد التبجح عند من

ليس له كثير اطلاع لعلمه باضمحلال أهل هذا الفن والمحرر له وذهل عن قوله: جاء شقيق عارضا رمحه ... إنّ بني عمك فيهم رماح ففي كل زمن بقية معتبرة، فكم ترك الأول للآخر؟ علي الحموي الحنفي، وينتهي الجزء دون خاتمة أو ذكر اسم الناسخ، وكل جزء له ناسخه لاختلاف الخطوط، وآخر هذا الجزء أشعار للمؤلف ابن فضل الله العمري في ص 422 قوله: ومنها قولي: يا أخلائي بنجد ... لي فؤاد مستهام وجفون قد جفاها ... بعد أجفاني المنام إن وصلتم فسرور ... واغتباط والتئام أو هجرتم وكفينا ... فعلى الدنيا السلام تقع مخطوطة هذا الجزء في 211 ورقة في 422 صفحة، في الصفحة 23 سطرا، في السطر 12- 14 كلمة، كتبت بخط نسخ جيد، والمخطوطة محفوظة بمكتبة السليمانية- أيا صوفيا بإستانبول تحت رقم 2423، وقد صور كتاب مسالك الأبصار كله معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية في إطار جامعة فرانكفورت، بألمانيا الاتحادية. وعلى الرغم من جودة الخط وجماله ووضوحه، إلا أن الناسخ كان قليل الدراية باللغة العربية، فقد جاء فيها شكل قليل، وكثير من هذا الشكل غير صحيح، وكلماتها معجمة، ولكن هذا الإعجام غير مطرد ففيها كثير من الكلمات مهملة، والإعجام فيها لا يعتمد عليه فقد يكتب الياء ويريد التاء، ويكتب النون ويريد الباء، وهكذا، أما الأخطاء النحوية فكثيرة كثرة ملفتة للنظر، وقد نبهنا إلى بعضها وصححنا البقية دون تنبيه، وكثير من الأشعار فيها

الكتاب ومنهج مؤلفه:

نقص أو تحريف أو خلل في الوزن، وكذلك أسماء الأعلام فيها المحرف والمغير. الكتاب ومنهج مؤلفه: هذا الجزء خاص بأهل الموسيقا والغناء، وهو في حقيقته إيجاز لأكثر ما جاء في كتاب الأغاني من تراجم المغنين والمغنيات وذكر أصواتهم وأشعارهم، والأشعار التي تغنوا بها، ويذكر المؤلف منهجه في الكتاب ومصادره، فيقول: (وممن يعد من الحكماء أهل الموسيقا، إذ هو من الطبيعي، وقد أتيت منهم على مشاهير أهل الغناء ممن ذكره أبو الفرج الأصفهاني في كتابه الجامع، وفي كتاب الإماء، وممن ذكره ابن ناقيا النحوي البغدادي في كتاب المحدث «1» ، ثم ذيلت ذلك بما نظرته من الكتب والتقطته منها التقاط الفرائد من السحب) ، وكان اعتماد المؤلف على كتاب الأغاني وكذلك الإماء الشواعر واختياره منهما واعتماده عليهما في ثلثي الكتاب، والمغنون والمغنيات في هذا القسم هم من مشاهير أهل المشرق، أما الثلث الأخير الذي يبدأ من الصفحة 253 من الأصل المخطوط فهو مما التقطه من الكتب ومن كتاب ابن ناقيا، وهو خاص بمغنّي الأندلس والمغرب ومصر من المتأخرين بعد القرن الخامس الهجري إلى أوائل الثامن الهجري [الرابع عشر الميلادي] ، والمؤلف ينص على هذا في مقدمة الكتاب بقوله: (وواخيت أهل الجانب الشرقي بأمثاله في الجانب الغربي ومصر، وإن لم يطاول الماء السماء، وسقت في الجانبين إلى زماننا سياقة لم آل فيها الجهد) ، ثم يبين أسماء الألحان والأنغام عند القدماء، وما طرأ عليها من تغيير عند المتأخرين، ويذكر أسماء هذه الألحان والأنغام عند المتأخرين، ويشكو المؤلف من جهل المتأخرين وعدم عنايتهم بالغناء وسبب ذلك ويذكر مصادره في هذا القسم فيقول في ص

253 من الأصل بعد أن ذكر اختياره من كتاب الأصفهاني: (وقد بقيت مدة لا أجد ما أذيل عليه ولا ما أصله به إلى زماننا هذا على ما جرينا عليه في جميع هذا الكتاب، لقلة اعتناء المتأخرين ولا سيما بهذا الفن الذي فني ولم يبق من يعاينه أو يسمعه، لرغبة ملوك زماننا فيما سوى هذا، وشواغل أبناء الزمان بالهموم الصادرة عن السرور، ثم ظفرت لابن ناقيا بتأليف جاء في تضاعيفه عرضا ذكر جماعة على ذيل زمان أبي الفرج، ثم اقتطفت من كتب التواريخ والأخبار المقيدة عن أواخر الخلفاء من بني العباس، وبقايا الخلفاء بالأندلس من بني أمية، وأعقاب الملوك والجلة من كل أفق ما جمعت مفرقه وألفت ممزقه، ثم اتبعته بما التقفته من ذماء بقية من أهل الاعتناء ممن تأخر بهم الأجل إلى هذا العصر وبذلت الجهد فيه حسب الطاقة ونقبت فيه حتى لم أجد، وأبديت فيه حتى لم أعد) . وكتاب ابن ناقيا في الأغاني الذي نوّه به المؤلف ونقل منه واعتمد في هذا القسم عليه، فإنه لم يصلنا وكل ما لدينا منه ما حفظه المؤلف ابن فضل الله العمري من اقتباسات منه، وكان المؤلف في القسم الأول ينقل ويختار ويختصر متابعا نهج أبي الفرج، أما في القسم الأخير الخاص بالأندلس والمغرب ومصر، فإنه يحاول أن يتوسع في النقل والاستشهاد بالشعر، لقلة المعلومات والكتب عن المغنين والمغنيات، لذلك نراه حين يذكر اللحن والشعر الذي غني به من قصيدة، يذكر الأبيات، ثم يتبعها بذكر القصيدة أو الأبيات اللاحقة لأبيات الغناء، ويذكر أيضا مختارات من شعره هو مما يناسب معاني الأبيات المستشهد بها. لقد اختار المؤلف في مجمل كتابه تراجم لعدد كبير من المغنين والمغنيات بلغ عددهم (189) مئة وتسعة وثمانين مغنيا ومغنية عدد المغنين منهم (130) مئة وثلاثون مغنيا وعدد المغنيات (59) تسع وخمسون مغنية وفيهن الشواعر

وغير الشواعر، وكلهم مذكور في فهرس الموضوعات. لقد حفظ هذا الكتاب ثروة كبيرة من شعر الشعراء، سواء الذي غني به أو لم يغن، وهذه الأشعار تغطي عصور الأدب من الجاهلي القديم وحتى عصر المؤلف مرورا بالعصر الأموي والعصور العباسية والأندلسية، وهناك أشعار كثيرة لم تحوها الدواوين لشعراء معروفين أو مجهولين، وخاصة في القسم الأخير الخاص بالشعراء المتأخرين، كما حفظ الكتاب روايات أخرى لأشعار الشعراء المشهورين وغير المشهورين، أما الأشعار التي لم تحوها الدواوين والكتب- وهي أشعار مستدركة على هذه الدواوين والكتب- فقد أشرت إليها ونبهت عليها بقولي: (لم أجدها في ديوان فلان) ، ولم أستعمل لفظ القائلين: (أخل بها ديوانه) ، أو فات محقق الديوان هذا الشعر، لأن في هذا اتهاما للمحققين بالنقص في أعمالهم، وقد دأب على هذا بعض المحققين المبتدئين الذين يركبهم الغرور، لأن في تلك العبارات مسبّة وانتقاصا وعدوانية على محققي الدواوين وجامعي الشعر، ولا أحب العدوان والمعتدين، وجل من لا يغفل ويسهو. وقد حوى القسم الأخير كذلك أسماء مغنين ومغنيات لم تعرف لهم تراجم، وأشعارا لشعراء من العصور المتأخرة التي لم تصلنا كتبهم ودواوينهم، فهو بذلك قد حفظ شعرا مجهولا وعرّف بأعلام غير معروفين لأهل المشرق خاصة، كما حفظ الكتاب المصطلحات الموسيقية المتأخرة التي لم يذكرها كتاب الأغاني ولم تكن معروفة في عصره وقد شاعت مسمياتها بعد عصر أبي الفرج الأصفهاني، ونعدّ كذلك من الفوائد التي حواها هذا الكتاب تلك النقول والاقتباسات التي نقلها عن كتب لم تصل، وليس لها ذكر في الكتب المتأخرة، وفيها أخبار المغنين والمغنيات ومصطلحاتهم الموسيقية واللحنية. إن المؤلف كان واسع الثقافة غزير المعرفة، محبّا للشعر، وهو نفسه شاعر

منهج التحقيق:

سجل بعض أشعاره في الكتاب، ولذلك فهو يكثر من التمثّل بالأشعار وحتى تضمينها في أسلوبه، ومنهجه في التعريف بالمغنين أن يبدأ بالترجمة لهم بأسلوبه هو، وأسلوبه يغلب عليه السجع، وهو أسلوب عصره، وفيه إطالة وإغراب وميل للكلمات الفصيحة والغريبة في الإشادة بالمغني أو المغنية، وهذا الأسلوب المسجوع قد يخرج به عن الموضوع والمعنى المراد ويضيع كثيرا من المعاني الدقيقة التي ينتظرها القارئ، ولكنه بعد ذلك حين ينتهي من الترجمة يتابع أبا الفرج في أسلوبه في عرض الأفكار والأشعار، ويعود إلى الأسلوب المرسل الذي لا سجع فيه، والمؤلف حين يقتبس من كتاب الأغاني أو غيره، يقتبس روايات منتقاة ويجردها من سند الرواة، ويختصر بعض الروايات، ويصوغ بعضها بأسلوبه. وبعد: فالكتاب في جملته ثروة نفيسة، جمع فيه المصنف أخبار الغناء والمغنين، وأخبار الخلفاء والأمراء والوزراء المتعلقة بمجالس الغناء والطرب، وذكر لهم أشعارا كثيرة جيدة فيها كثير من النوادر، وكشف من خلال ذلك عن حياة العصور السابقة في جانبها الفني اللاهي، وفيه وصف وتصوير دقيق لمجالس الخلفاء وأحوال المطربين وأخبارهم ورواية لأحاديثهم وكشف لدقائق حياتهم، والكتاب صورة صادقة للحياة العباسية خاصة، والعصور التي تلتها عامة، وما فيها من مظاهر حضارية وثقافية وأدبية. منهج التحقيق: على الرغم من سعة الكتاب وضخامته، وما فيه من تراجم كثيرة وأشعار غزيرة، وأعلام بعضهم مغمور أو مجهول، لم نجد لهم ترجمة في المصادر، وعلى الرغم من الصعوبات التي تعترض كتابا كهذا يتعلق بالغناء والموسيقا، وما فيه

من مصطلحات مختلفة المدلول حسب العصور، على الرغم من كل ذلك، فقد وجدت في هذا الكتاب متعة في قراءته وتحقيقه وجلاء غامضه، لما فيه من جيد الأخبار وجميل الأشعار وجودة المختار من تراجم الأعلام، وقد سرت في التحقيق على الوجه الذي يخدم النص تصويبا وتقويما، وهدفي أن أحرر نصا هو أقرب إلى ما أراده مؤلفه، وقد سرت في التحقيق على الوجه الآتي: 1- صححت النص وقومت ما فيه من أخطاء لغوية ونحوية وإملائية ووهم وتحريف وتصحيف، وقد جاء كثير من الألفاظ والعبارات محرفة أو خالية من الإعجام، أو أن إعجامها غير صحيح أو كان فيها لحن أو خطأ أو تحريف أو نقص، فاستدركت كل ذلك وأشرت لبعض التصويبات، وقد صححت الأخطاء ولم أشر إليها لكثرتها حرصا على عدم إثقال الهوامش بالتصويبات المتشابهة وهي كثيرة، ويبدو أن الناسخ كان قليل الدراية بالعربية، وقد تعزى الأخطاء الكثيرة إلى السهو والعجلة، وقد وضعت كل إضافة واستكمال أو تصويب بين عضادتين [] 2- ضبطت الشعر بالشكل وكذلك الكلمات التي بحاجة إلى الضبط دفعا للبس والوهم في القراءة، وقد جاءت بعض الكلمات في الشعر مضبوطة في الأصل، ولكن ضبطها عند التحقيق غير صحيح وخاصة في الشعر، وقد يكون ضبطه مدعى إلى اللحن. 3- الكلمات في الأصل أكثرها معجمة وبعضها مهمل، ولكن الإعجام في كثير من الكلمات غير صحيح، فقد يكتب التاء ويريد الياء، وقد يكتب الباء ويريد النون، فأعجمت المهمل وصوبت المحرف والمصحف. 4- في بعض الأشعار نقص أو خلل في الوزن، فأتممت النقص وصححت

الوزن، وأشرت إلى الأبيات التي لم أهتد إلى وجه الصواب فيها. 5- خرّجت الشعر بالرجوع إلى الدواوين والمصادر وبيّنت اختلاف الروايات وأشرت للروايات المهمة، وكان التخريج قد أعان في الوصول إلى صواب القراءة في الشعر المخطوء، وهناك أشعار لم أجد لها ديوانا أو مصدرا وخاصة ما يتعلق بالمتأخرين. 6- بينت بحور الشعر لكل قصيدة أو قطعة أو بيت. 7- شرحت الكلمات الغامضة والعبارات التي تحتاج إلى شرح وإيضاح. 8- ترجمت للأعلام الذين لهم صلة بالمضمون، واستثنيت من الترجمة المشهورين من الخلفاء والشعراء وغيرهم، وقد جاء كثير من أسماء الأعلام محرفة، فصححتها بالرجوع إلى كتب التراجم. 9- بينت معاني المصطلحات الموسيقية والألحان بالقدر الذي توصلت إليه من خلال كتب الغناء والموسيقا، وقد ذكرت موجزا بالمصطلحات الغنائية القديمة والمتأخرة كملحق لئلا يتكرر شرح المصطلحات وتكرارها كثيرا. 10- ترجمت للمواضع والبلدان الواردة في النص أو الشعر، وعرفت بالجماعات أو الشعوب حين تدعو الضرورة لذلك. 11- هناك نقص في بعض نصوص الكتاب نتيجة للاختصار والتلخيص، فأكملت النقص بالرجوع إلى الكتب المنقول عنها وأهمها كتاب الأغاني، وقد ترد عبارات هي خلاف المعنى المراد، فصححت ذلك وأرجعت العبارة إلى أصلها ووجهتها الصحيحة بالرجوع إلى المصادر. وبعد: فلم آل جهدا ولم أدخر وسعا في سبيل خدمة هذا السفر الجليل، وقد

انصرفت إليه بكلي وأعطيته عزيز وقتي وبقية عمري، مقرنا ليلي بنهاري، راجيا أن أكون قد أدركت بعض ما سعيت إليه من خدمة تراث الأمة الجليل، فإذا بلغت الغاية أو بعضها فلله الحمد على ما أعان ووفق، وإن قصرت وضللت فسبحان من له الكمال وحده، وأنا أحد بني آدم الذين لم يعصموا من النقص والجهل والتقصير. والحمد لله أولا وآخرا. يحيى وهيب الجبوري

مقدمة المؤلف

[مقدمة المؤلف] بسم الله الرحمن الرحيم ربّنا أفرغ علينا صبرا وأعن وممّن يعد من الحكماء أهل الموسيقا، إذ هو من الطبيعي، وقد أتيت منهم على مشاهير أهل الغناء ممن ذكره أبو الفرج الأصفهاني «1» في كتابة الجامع «2» ، وفي كتاب الإماء، وممن ذكره ابن ناقيا «3» النحوي البغدادي في كتاب المحدث «4» ، ثم ذيلت ذلك بما نظرته في الكتب، والتقطته منها التقاط الفرائد من السحب، وواخيت «5» أهل الجانب الشرقي بأمثال [هم] في الجانب الغربي ومصر، وإن لم يطاول الماء السماء وسقت في الجانبين إلى زماننا سياقة لم آل «6» فيها الجهد، وأتيت به على ترتيب ما وقع الاختيار منه، وجئت على حكمه بالدليل عليه. ومن تأمل ما أتيته علم مقدار جهدي المبذول في تحصيل ما حصلته،

وكبر لديه ما جمعته، وشهد «1» لي بأني لم أقصر، وبالفضل لمن اتبعته، ورأيت بين القدماء والمحدثين اختلافا في ألقاب الأنغام التي صنعوا فيها الأصوات، اختلافا في الأسماء لا في المسميات. وكنت وقفت على كتاب ابن ناقيا في الأغاني، وهو على طريقة القدماء، ولم أجد على طريقة المحدثين ما أرجع إليه ولا أتفهّم «2» منه، وسألت جمال الدين عمر بن حضر بن جعفر، (عرف بابن زاده الديسني المشرقي) عن هذا ليبيّنه لي وهو عالم «3» هذا الشأن بالشام، فلجلج «4» ولم يبيّن، غير أنه قال: إنما غيرت التسميات إذ نشأ التوثي صاحب الأرمال الأربعة والأربعين ضربا، ثم سراج الدين الخراساني صاحب شيوه، وكلاهما من أهل ما وراء النهر، وكان ذلك بحضور الشيخ الفاضل شمس الدين محمد بن شكر الديري، فجعل يديه على الطريق وهو تارة وتارة، فآخر ما انتهى معه إليه أن قال: جسّ «5» لي هذه الأبيات، ثم جعل ينشده بيتا بيتا من الأبيات التي فيها أصوات الأول المسماة بمصطلحهم، إلى أن ظهر له اتفاق القدماء والمحدثين في المعنى واختلافهم في اللفظ، فنزّل أسماء «6» المحدثين على أسماء القدماء، ورتّب في هذا المقال، وفعل ما يعجز القرائح، ويرقّ عنها الأفهام «7» ، ثم لخص فيه ما مضمونه: اعلم أن الأوائل رحمهم الله، رتبوا ألحانهم على نوعين: ضرب ولحن، مسمّيات بأسماء اصطلحوا عليها، وجعلوا أنواع الضروب

ستة: ثقيل أول «1» ، وثقيل ثان «2» ، وخفيف الثقيل [3] «3» ، ورمل وخفيف الرمل «4» وا [ل] هزج «5» ، وهذا كما يقال إن الضرب فيه نقرات «6» ثقال وخفاف، وخفاف الخفاف. وأما الأصابع فهي الألحان عندهم، وهي ست كذلك: المطلق «7» والمعلق

والمحمول «1» والمنسرح والمزموم «2» والمجنب «3» ، وإذا ضربت ثلاثة في ستة كانت ثمانية عشر رجوعا مع الضرب بالقوة، والضرب فيسمى كل واحد باسم، ولهذا يقولون: مطلق السبابة والوسطى والخنصر والشهادة أو مقبوضها، كل ذلك إشارة منهم إلى الألحان المختلفة، فسموا كل لحن باسم علم عليه، يعرف به لئلا يصل العلم عند التعليم، كذلك فعل المتأخرون من الفرس حين سمّوا هذه الأسماء الأعجمية المصطلح عليها في زماننا وهي: الراست «4» والعراق «5» والزيلكفند «6»

والأصبهان والزنكلا والبزرك «1» والراهوي «2» والحسيني «3» والماآه وأبو سلمك «4» والنوى «5» والعشاق «6» ، وأوانها وهي:

النيروز «1» والشهناز «2» والسلمك والحجاز «3» ، والكوشت على اختلاف في هذه التسمية فهذه تلك الست تضاعفت بثلاثة، بحسب التركيب، فبلغت ثمانية عشر، فالمطلق هو الراست، والمعلق هو العراق، والمحمول هو الزيلفكند، والمنسرح هو اصفهان، والمزموم زنكلا. وتركبت الستة الباقية من الستة الأولى، فالرهوي من المطلق والمعلّق، والحسيني من المحمول، والمنسرح والماآه وأبو سلمك من المزموم، والنوى والعشاق من المجنب، ثم أخذ بالتركيب. النيروز من المطلق والمعلق لاختلاف الضرب، ثم الشهناز من المحمول والمنسرح، ثم السلمك من المزموم والمجنب ثم الزركشي من المحمول والمنسرح، والحجاز من المزمور «4» ، والكواشت من المجنب.

تراجم اهل الموسيقى

أما الماخوري «1» والمحصور «2» والمشكول، فتأخر تسميته مع متأخري أوائلهم. وكذلك غيرها وتركيبها كتركيب الشاذ عند المتأخرين، والله أعلم. فأما ما نحن بصدده ممن نذكره في المفاضلة بين الجانبين من أهل هذه الصناعة [تراجم اهل الموسيقى] فسنبدأ بالمختار من كتاب أبي الفرج الاصفهاني الجامع، ثم من كتاب الإماء «3» ، ثم ما ذكره ابن ناقيا «4» ثم ندخل حتى يرفل هذا الكتاب في فاصل برده، فمنهم: 1- ابن محرز «5» محرز لغاية، ومبترز في غواية، تردد بين الحرمين، مكة والمدينة للقاء المحسنين

والإلقاء من المغنّين، ثم لم يقنع حتى أتى بلاد فارس، وجنى من تلك المغارس، وأصبح لا يدع طرفا به إلا انسجم، ولا مختارا إلا مجموعا فيه عربا على عجم «1» ، فلم يبق في الغناء نادّة «2» حتى جازها ولا شاذة أعجزت [ص 4] من قبله من أهل الطرب حتى شانها «3» كأنّه لهذا خلق، وبه استحق التقدم، وإن سبق إلا أنّ داءه أزواه حتى كان بلقاء العيون وما رمق «4» . قال أبو الفرج، قال إسحاق، كان يسكن المدينة مرة، ومكة مرة، فإذا أتى المدينة أقام بها ثلاثة أشهر، يتعلم الضرب من عزة الميلاد «5» ثم يرجع مكة، فيقيم بها ثلاثة أشهر، ثم صار بعد ذلك إلى فارس، فتعلم ألحان الفرس فأخذ غناءهم، ثم صار إلى الشام فتعلم ألحان الروم، فأخذ غناءهم، فأسقط من ذلك

ما لا يستحسن من نغم الفريقين، وأخذ محاسنهما، ومزج بعضهما «1» ببعض، والّف منهما الأغاني التي صنعها من أشعار العرب، فأتى بما لم يسمع بمثله، وكان يقال له: صناج العرب. قال إسحاق: وكان ابن محرز قليل المخالطة للناس، فأخمل ذلك ذكره، فما يذكر الآن غناؤه، وأخذت كل غنائه «2» جارية لصديق له من أهل مكة كانت تألفه، فأخذ الناس عنها، ومات بالجذام، قال إسحاق: خرج ابن محرز يريد العراق فلقيه حنين «3» فقال: كم منّتك نفسك من العراق، قال ألف دينار، قال: فهذه خمس مئة دينار، فخذها وانصرف، واحلف أن لا تعود. قال إسحاق: ولم يعاشر الخلفاء ولم يخالط الناس لأجل الداء الذي كان به، ولما شاع ما فعله حنين لامه أصحابه، فقال: لو دخل العراق لما كان لي معه خبز آكله، ولا طّرحت وسقطت إلى آخر الدهر.

2 - ابن عائشة

ومنهم: 2- ابن عائشة «1» طوى زمان الغناء بموت قرنائه، وأنسى إحسان المحسنين بغنائه، وأسس مالم يشيد على بنائه، حتى كان مجمع أولئك العشاق وطراز حواشي تلك الأيام الرقاق، وألف من صغره مغازلة النساء، فجاء على غنائه تلك الرقة، وبان في أصواته الشّجية البكاء لتلك الفرقة، واتصل بالخلفاء اتصال أمثاله، واتصف بما فات مراد الظرفاء من آماله. قال أبو الفرج، قال الوليد بن يزيد «2» لابن عائشة: يا محمد ألبغيّة أنت؟ قال: لا، ولكن كانت أمي يا أمير المؤمنين ما شطة، وكنت غلاما، وكانت إذا دخلت إلى موضع قالوا: ارفعوا هذا لابن عائشة، فغلبت على نسبي. قال إسحاق: أخذ الغناء عن معبد ومالك، ولم يموتا حتى ساواهما، وكان حسن الصوت يفتن كل من سمعه، وابتداؤه الغناء كان يضرب به المثل، فيقال: كأنه ابتداء ابن عائشة في الحسن. قال يحيى المكي: ثلاثة من المغنين كانوا أحسن الناس حلوقا: ابن عائشة [ص 5] وابن بيرق «3» وابن أبي اللباب، قال:

رأى «1» ابن أبي عتيق يوما حلق ابن عائشة مخدّشا، قال: من فعل بك هذا؟ فقال: فلان، فمضى ونزع ثيابه، وجلس للرجل على بابه، فلما خرج، أخذ بتلابيبه «2» ، وجعل يضربه ضربا شديدا، والرجل يقول: مالك تضربني؟ أي شيء صنعت؟ وهو لا يجيبه حتى فرغ منه، ثم خلاه، وأقبل على من حضر فقال: أراد أن يكسر مزامير داود، شدّ على ابن عائشة فخنقه وخدش حلقه. قال صالح بن حيّان «3» ، وذكر يوما المغنّين بالمدينة، فقال: لم يكن بها أحد بعد طويس «4» أعلم من ابن عائشة، ولا أظرف «5» مجلسا ولا أكثر طيبا، وكان يصلح أن يكون نديم خليفة وسمير ملك. قال إسحاق: كان ابن عائشة تائها سيىء الخلق، فإن قال له إنسان تغنّ، قال: ألمثلي يقال هذا؟ فإن قال له قائل وقد ابتدأ وهو يغني: أحسنت، قال: ألمثلي يقال أحسنت؟ وسكت، وكان قليلا ما ينتفع به، فسال العقيق مرة «6» ، فدخل

الماء عرصة سعيد بن العاص «1» حتى ملأها، فخرج الناس إليها، وخرج ابن عائشة فيمن خرج، فجلس على قرن الثنيّة، فبيناهم كذلك إذ طلع الحسن «2» بن علي عليهما السلام، على بغلة وخلفه غلامان أسودان كأنهما الشياطين، فقال: امضيا رويدا حتى تقفا بأصل القرن الذي عليه ابن عائشة، فخرجا حتى فعلا ذلك، ثم ناداه الحسن: كيف أصبحت يا ابن عائشة؟ فقال: بخير فداك أبي وأمي، قال: انظر من تحتك، فنظر فإذا العبدان «3» ، فقال له: أتعرفهما؟ قال نعم، قال: هما حرّان لئن لم تغنّ مئة صوت لأمرتهما بطرحك، وهما حرّان لئن لم يفعلا لأنكلنّ بهما «4» ولآمرنّ بقطع أيديهما، فاندفع ابن عائشة يغني، وكان أول ما ابتدأ به صوت، وهو: «5» [مجزوء الوافر] ألا لله درّك من ... فتى قوم إذا رهبوا «6» ثم لم يسكت حتى غنّى مئة صوت، فقال: إن الناس لم يسمعوا من ابن عائشة أكثر مما سمعوه ذلك اليوم، وكان آخر ما غنّى به: [البسيط] «7»

قل للمنازل بالظّهران قد حانا ... أن تنطقي فتبيني اليوم تبيانا «1» قال جرير: ما رئي يوم أحسن منه «2» ، وما بلغني أن أحدا تشاغل عن غنائه بشيء، ولا انصرف أحد لقضاء حاجة ولا لغير ذلك حتى فرغ، ولقد تبادر الناس من المدينة [ص 6] وما حولها حيث بلغهم الخبر لاستماع غنائه، فما يقال إنه رئي جمع في ذلك الموضع مثل ذلك اليوم «3» ، ولقد رفع الناس أصواتهم: أحسنت والله، أحسنت والله، ثم انصرفوا حوله يزفونه إلى المدينة. قال علي بن الجهم «4» : حدثني رجل أن ابن عائشة كان واقفا بالموسم متحيرا، فمر رجل من بعض أصحابه، فقال له: ما يقيمك هاهنا؟ قال: إني أعرف رجلا لو تكلم لحبس الناس، فقال له الرجل، ومن ذاك؟ قال: أنا، ثم اندفع يغني: «5» [الوافر] جرت سنحا فقلت لها أجيزي ... نوى مشمولة فمتى اللّقاء قال: فحبس الناس، واضطربت المحامل، ومدت الإبل أعناقها، وكادت الفتنة أن تقع، فأتي به هشام «6» ، فقال: يا عدو الله أردت أن تفتن الناس، فأمسك

عنه، وكان تياها «1» ، فقال له هشام: ارفق بتيهك يا ابن عائشة، فقال: حقّ لمن كانت هذه مقدرة «2» أنّ القلوب أن يتيه، فضحك منه وخلّى سبيله. قال عمر «3» بن شبة، قال شيخ من تنوخ: كنت صاحب ستر الوليد بن يزيد، فرأيت عنده ابن عائشة، وقد غنّاه: «4» [الكامل] إني رأيت صبيحة النّفر ... حورا نفين عزائم الصّبر «5» مثل الكواكب في مطالعها ... بعد العشاء أطفن بالبدر وخرجت أبغي الأجر محتسبا ... فرجعت موفورا من الوزر قال فطرب حتى كفر وألحد، فقال: يا غلام أسقنا «6» بالسماء الرابعة، وكان الغناء يعمل فيه عملا يضلّ عنه رشده من بعده، ثم قال أحسنت والله يا أمير المؤمنين «7» ، أعد بحقّ فلان، حتى بلغ من الملوك نفسه، فقال: أعد بحياتي، فأعاد، فقام إليه فلم يبق عضو من أعضائه إلا قبّله، وأهوى إلى هنه فضم [ابن عائشة] فخذيه، فقال: والله العظيم لا تريم حتى أقبله، فأبداه له فقبله، ثم نزع ثيابه فألقاها على ابن عائشة، وبقي مجرّدا إلى أن أتوه بغيرها، ووهب له ألف دينار وحمله على بغلة، فقال: اركبها بأبي أنت وانصرف، فقد تركتني على مثل المقلى من حرارة غنائك، فركبها على بساطه وانصرف.

قال: وخرج ابن عائشة يوما من عند الوليد بن يزيد وقد غنّاه: «1» [الوافر] أبعدك معقلا أرجو وحصنا ... قد اعيتني المعاقل والحصون [ص 7] قال: فأطرق وأمر له بثلاثين ألف درهم، وبمثل كارة القصار «2» ثيابا «3» . فبينا ابن عائشة يسير إذ نظر إليه رجل من أهل وادي القرى «4» ، كان يشتهي الغناء وشرب النبيذ فدنا منه غلامه وقال: من هذا الراكب؟ قال: ابن عائشة المغني، فدنا منه، فقال: جعلت فداك، انت ابن عائشة أم «5» أمير المؤمنين؟ قال لا، أنا مولى لقريش، وعائشة أمي، وحسبك هذا، ولا عليك أن تكثر. قال: وما هذا [الذي] أراه بين يديك؟ «6» قال: المال والكسوة «7» ، قال: غنيت أمير المؤمنين صوتا فأطربه، فكفر وترك الصلاة، وأمر لي بهذا المال والكسوة، فقال: جعلت فداك، فهل تمنّ عليّ أن تسمعني ما أسمعته إياه، فقال له: ويلك أمثلي يكلم بهذا في الطريق؟ قال: فما أصنع؟ قال: الحقني بالباب، وحرك ابن عائشة بغله شقراء كانت تحته لينقطع عنه، فغدا معه حتى وافيا «8» الباب كفرسي رهان، فدخل ابن عائشة فمكث طويلا طمعا في أن يضجر فينصرف، فلم يفعل، حتى قال لغلامه: أدخله، فلما أدخله قال له: من أين صبك

الله عليّ؟ قال: أنا رجل من أهل وادي القرى أشتهي هذا الغناء، قال له: هل لك فيما هو أنفع لك منه؟ قال: وما ذلك؟ قال: مئة «1» دينار وعشرة أثواب تنصرف بها إلى أهلك، قال له: جعلت فداك إن لي لبنية ما في أذنها- علم الله- حلقة من الورق «2» فضلا عن الذهب، وإن لي زوجة ما عليها- شهد الله- قميص، ولو أعطيتني جميع ما أمر لك به أمير المؤمنين على هذه الخلعة «3» والفقر الذي عرّفتكهما وأضعفت لي ذلك، لكان الصوت أحبّ إليّ، وكان ابن عائشة تائها لا يغني إلا لخليفة، أو لذي قدر جليل من إخوانه، فعجب منه وغناه الصوت، فطرب طربا شديدا وجعل يحرك رأسه حتى ظن أن عنقه ستنقصف، ثم خرج من عنده ولم يزوّده «4» شيئا، وبلغ الخبر الوليد بن يزيد، فسأل ابن عائشة عنه فجعل يغيب عن الحديث، فعزم عليه الوليد فعرفه، فأمر بطلب الرجل فأحضره ووصله بصلة سنيّة وجعله من جملة ندمائه ووكّله بالسّقي، فلم يزل معه حتى مات. قال يونس الكاتب «5» : كنا يوما متنزهين بالعقيق أنا وجماعة من قريش، فبينا نحن [على] حالنا، إذ أقبل ابن عائشة ومعه غلام من بني ليث وهو متوكّئ على يده [ص 8] فلما رأى اجتماعنا وسمعني أغني، جاءنا فسلّم وجلس إلينا وتحدث معنا، وكانت الجماعة تعرف سوء خلقه وغضبه إذا سئل أن يغني، فأقبل بعضهم على بعض يتحدثون بأحاديث (كثيّر) و (جميل) وغيرهما،

يستخرجون بذلك أن يطرب فيغني، فلم يجدوا عنده ما أرادوا، فقلت لهم أنا: حدثني بعض الأعراب حديثا يأكل الأحاديث، فإن شئتم حدثتكم إياه، قالوا: هات، قلت: حدثني هذا الرجل أنه مرّ بناحية الرّبذة «1» ، فإذا صبيان يتغاطسون في غدير، فإذا شاب جميل منهوك الجسم، وعليه آثار العلة، والنحول في جسمه بين، وهو جالس ينظر إليهم فسلمت فرد السلام وقال: من أين وضح الراكب؟ «2» فقلت: من الحمى «3» ، قال: ومتى عهدك به؟ قلت: رائحا، قال: وأين كان مبيتك؟ قلت: ببني فلان، قال: أوّه، وألقى نفسه على ظهره وتنفس الصعداء تنفسا «4» قلت قد خرق حجاب قلبه، ثم أنشأ يقول: «5» [الطويل] سقى بلدا أمست سليمى تحلّه ... من المزن ما يروي به ويسيم «6» وإن لم أكن من قاطنيه فإنه ... يحلّ به شخص عليّ كريم ألا حبذا من [ليس] يعدل قربه ... لديّ وإن شطّ المزار نعيم «7» ومن لا مني فيه حميم وصاحب ... فردّ بغيظ صاحب وحميم ثم سكت كالمغشي «8» عليه، فصحت بالصبيان، فأتوا بماء فصببته على وجهه، فأفاق وأنشأ يقول: «9» [الوافر]

إذا الصبّ الغريب رأى خشوعي ... وأنفاسي تزيّن بالخشوع «1» ولي عين أضرّ بها التّفاتي ... إلى الأجراع مطلقة الدموع إلى الخلوات يأنس فيك قلبي ... كما أنس الغريب إلى الجميع فقلت له: أنزل فأساعدك، وأكثر عودي علي بذي الحمى، في حاجة إن كانت لك، أو رسالة؟ قال: جزيت الخير وصحبتك السّلامة امض لطلبتك، فلو علمتك أنك تغني عني شيئا لكنت موضعا للرغبة وحقيقا بإسعاف المسألة، ولكنك أدركتني في صبابة من الحياة يسيرة، فانصرفت وأنا لا أراه يمسي «2» ليلته إلا ميتا، فقال القوم: ما أعجب هذا الحديث [ص 9] فاندفع ابن عائشة فغنّى في الشعرين جميعا فطرب وشرب بقية يومه، ولم يزل يغنينا إلى أن انصرفنا. قال: وتوفي ابن عائشة في أيام الوليد بن يزيد، وقيل في أيام هشام. قال المدائني [فحدثني] «3» بعض أهل المدينة قال: أقبل ابن عائشة من عند الوليد بن يزيد، وقد أجازه وأحسن اليه، فجاء بما لم يأت أحد بمثله من عنده، فلما قرب من المدينة نزل بذي خشب «4» على أربعة «5» فراسخ من المدينة، وكان واليها

3 - حنين الحيري

إبراهيم بن هشام المخزومي ولاه هشام وهو خاله، وكان في قصره هناك، فقيل له: أصلح الله الأمير، هذا ابن عائشة قد أقبل من عند الوليد، فلو سألته أن يقيم عندنا اليوم فيطربنا وينصرف من غد، فدعاه فسأله المقام عنده، فأجابه إلى ذلك، فلما أخذوا في شرابهم، أخرج المخزومي جواريه، فنظر إلى ابن عائشة وهو يغمز جارية منهن، فقال لخادمه: إذا خرج ابن عائشة يريد حاجة فارم به، وكانوا يشربون فوق سطح يشرف على بستان، فلما قام ليبول، رمى به الخادم من فوق السطح فمات، فقبره هناك، قال: وقام قوم، بل قدم المدينة فمات بها. قال: فلما مات، قال [أشعب] «1» : قد قلت لكم، ولكن لا يغني حذر من قدر، زوجوا ابن عائشة من ربيحة الساسانية «2» يخرج من بينهما مزامير داود، فلم تفعلوا، وجعل يبكي والناس يضحكون منه. 3- حنين الحيري «3» مطرب لا يرتفع لديه رأس مطرق، ولا ينتفع منه أمل متشوق، من سراة أهل الغناء، وسراة «4» الطرب للغناء، يكاد سامعه يخرج من إهابه ويحرق بالتهابه ما حرّك عوده إلا بغم «5» ، ولا بنت شفة إلا في نغم، لو سمعه جبل لتحرك، أو دخل

في أذن سوقة لظن أنه قد تملك، وهو القائل: «1» [المنسرح] أنا حنين ومنزلي النّجف ... وما نديمي إلا الفتى القصف أقرع بالكأس بطن باطية ... مترعة تارة وأغترف من قهوة باكر التّجار بها ... باب يهود قرارها الخزف فالعيش غض ومنزلي خصب ... لم تعد لي شقوة ولا عنف قال إسحاق: قيل لحنين، أنت تغني من نحو خميسن سنة، ما تركت لكريم مالا ولا عقارا إلا أتيت عليه، فقال: بأبي أنتم، إنما هي أنفاسي أقسمها بين الناس، أفتلوموني أن أغلي بها الثمن؟ وكان حنين قد رحل إلى عمر «2» الوادي وحكم الوادي «3» وأخذ منهما، وغنى لنفسه في أشعار الناس [ص 10] فأحكم الصنعة، ولم يكن بالعراق غيره، فاستولى عليه من عصره، وقدم ابن محرز حينئذ إلى الكوفة، فبلغ حنينا خبره، فخاف أن يعرفه الناس فيستحلونه ويسقط هو، فلقيه فقال: كم منّتك نفسك من العراق، قال: ألف دينار، قال: فهذه خمس مئة دينار فخذها وانصرف. قال: وكان بعض ولاة الكوفة في أيام بني أمية يذم الحيرة، فقال له رجل من

أهلها: أتعيب بلدة يضرب بها المثل في الجاهلية والإسلام، قال: وبماذا تمدح؟ قلت: بصحة هوائها، وطيب مائها، ونزهة ظاهرها، تصلح للخف والظلف «1» ، سهل وجبل، بادية وبستان، بر وبحر، محل الملوك ومرادهم ومسكنهم ومأواهم وقدمتها- أصلحك الله- مخفّا فأصبحت مثقلا، ووردتها مقلا فأصارتك مكثرا، قال: وكيف نعرف ما وصفتها به من الفضل؟ قال: تصير إليها، ثم ادع بما شئت من لذات العيش، فو الله لا أجوز بك الحيرة فيه، قال: فاصنع لي صنيعا، واخرج من قولك، قال: أفعل، فصنع لهم طعاما فأطعمهم من خبزها وسمكها، وما صيد من وحشها من ظباء «2» ، ونعام وأرنب وحبارى «3» ، وسقاهم ماءها في قلالها، وخمرها في آنيتها، وأجلسهم على رقمتها «4» ، ولم يستخدم لهم عبدا ولا حرا إلا من مولداتها ووصائف كأنهم اللؤلؤ، لغتهم لغة أهلها، ثم غناهم حنين وأصحابه فى شعر عدي بن زيد شاعرهم، وأعشى همدان، لم يتجاوزهما، وحياهم برياحينها، ونقلهم «5» بفواكهها، ثم قال: [هل] رأيتني استعنت على شيء مما «6» رأيت، وأكلت وشربت، وشممت وسمعت، بغير ما في الحيرة؟ قال: لا، ولقد أحسنت في صفة بلدك، وأحسنت نصرته، والخروج مما ضمنته، فبارك الله لكم في بلدكم.

قال عبيد بن حنين الحيري: كان المغنون «1» في عصر جدي أربعة نفر، ثلاثة بالحجاز، وهو وحده بالعراق، فالذين بالحجاز «2» ابن سريج والغريض ومعبد، وكان بلغهم أن حنينا قد غنّى في هذا الشعر: «3» [الكامل] . هلا بكيت على الزّمان الذاهب ... وكففت عن ذمّ المشيب الآيب هلا وربّ مسوّفين سقيتهم ... من خمر بابل لذّة للشّارب بكروا عليّ بسحرة فصبحتهم ... بإناء ذي كرم كقعب «4» الحالب بزجاجة ملء اليدين كأنّها ... قنديل فصح في كنيسة راهب قال: فاجتمعوا فتذاكروا [أمر] «5» جدّي، وقالوا: ما في الدنيا أهل صناعة شر منّا، لنا أخ بالعراق ونحن بالحجاز لا نزوره ولا نستزيره، اكتبوا إليه، فكتبوا إليه، ووجهوا إليه نفقة، وقالوا: نحن ثلاثة وأنت واحد، فأنت أولى بزيارتنا، فشخص إليهم، فلما كان على مرحلة من المدينة، بلغهم خبره، فخرجوا يتلقونه، فلم ير يوم كان أكثر حشدا ولا جمعا [من] «6» يومئذ، ودخلوا المدينة، فلما صاروا ببعض الطريق، قال لهم معبد صيروا [إليّ] ، قال ابن سريج: إن كان لك في اليسر والمروءة مالمولاتي سكينة بنت الحسين عطفنا إليك، فقال: مالي من ذلك شيء، فعطفوا على منزل سكينة، فأذنت لهم إذنا عاما، فغصّت الدّار بهم، فصعدوا في السطح، وأمرت لهم بالأطعمة، فأكلوا، ثم سألوا جدّي أن يغنيهم صوته:

4 - الغريض

(هلا بكيت على الشباب الذاهب) «1» فغناهم بعد أن قال لهم: ابدأوا أنتم [فقالوا] : ما كنا لنتقدمك حتى نسمع هذا الصوت، فغناهم إياه، وكان من أحسن الناس صوتا، فازدحم الناس على السطح وكثروا يسمعونه، فسقط الرّواق «2» على من تحته، فسلموا جميعا وأخرجوا أصحابه سوى حنين، فإنه مات وحده تحت الهدم، فقالت سكينة: لقد كدّر حنين سرورنا، وانتظرناه مدة طويلة، كأننا كنّا نسوقه إلى منيّته. [ومنهم] 4- الغريض «3» لا يناضل على غرض ولا يفاضل في عرض كان أشجى من النوائح، وأهزّ للكريم من المدائح «4» ، لو أصغت إليه الحمائم لخلعت عليه أطواقها أو الحوائم لما بكت بعبرة أشواقها، لا يدع عبرة لم تسكب، ولا حشاشة لم تسلب، ولا زمان صبا لم يذكر «5» ، ولا ذيول صبابة لم تسحب. أخذ الغناء في أول أمره عن ابن سريج، لأنه كان يخدمه، فلما رأى ابن سريج طبعه وظرفه وحلاوة منطقه، خشي أن يأخذ غناءه فيغلبه بصوته وحسن وجهه، فحسده واعتلّ عليه، وجعل

يتجنّى عليه فيطرده؛ فشكا «1» ذلك إلى مولياته وأعلمهنّ غرض ابن سريج في تنحيته إياه عنه، وأنه حسده على تقدّمه [ص 11] فقلن له: هل لك أن تسمع نوحنا على قتلانا، فتأخذه وتغنّى عليه؟ قال: نعم، فأسمعنه المراثي فاحتذاه، «2» فخرج غناؤه عليها، وكان ينوح مع ذلك، ويدخل المآتم، وتضرب دونه الحجب، ثم ينوح فيفتن كلّ من سمعه. ولما كثر غناؤه اشتهاه الناس وعدلوا إليه لما كان فيه من الشجا «3» ، وكان ابن سريج لا يغني صوتا إلا عارضه «4» ، فغنّى فيه لحنا آخر، فلما رأى ابن سريج موضع الغريض، اشتد عليه وحسده، فغنى الأرمال والأهزاج، فاشتهاها الناس، وقال [له] الغريض: يا أبا يحيى، قصرت الغناء وحذفته، قال: نعم يا مخنّث، جعلت تنوح على أبيك «5» وأمك. قال إسحاق: سمعت جماعة من البصراء بالغناء قد أجمعوا على [أن] الغريض أشجى غناء، وابن سريج أحكم صنعة. قال بعض أهل العلم بالغناء: لو حكمت بين أبي يحيى «6» وأبي يزيد لما فرقت بينهما، وإنما تفضيلي أبا يحيى بالسبق، فأما غير ذلك فلا، لأن أبا يزيد «7» عنه أخذ ومن بحره اغترف، وكذلك قالت سكينة لما غنّى الغريض وابن سريج: «8» [السريع]

عوجي علينا ربّة الهودج والله ما أفرّق بينكما، وما أنتما عندي إلا كمثل اللؤلؤ والياقوت في أعناق الجواري الحسان، لا يدرى أي ذلك أحسن. قال يونس الكاتب: «1» : أمر بعض أمراء مكة بإخراج المغنين من الحرم، فلما كانت الليلة التي عزم على النفي فيها، اجتمعوا في غدها إلى أبي قبيس «2» ، وكان معبد قد زادهم، فبدأ فغنّى: «3» [الطويل] أتربيّ من عليا معدّ هديتما ... أجدّا البكا إنّ التّفرّق باكر فما مكثنا دام الجميل عليكما ... بثهلان إلا أن تزمّ الأباعر قال: فتأوه أهل مكة وأنّوا وتمحّصوا «4» ، واندفع الغريض يغني ويقول: «5» أيها الرائح المجدّ ابتكارا «6» [المديد] واندفع ابن سريج يغني ويقول: «7» [الخفيف] جدّدي الوصل يا قريب وجودي ... لمحبّ خياله قد ألمّا فاندفع الصراخ في الدور بالويل والحرب «8» ، واجتمع الناس إلى الأمير

يستعفونه «1» [ص 13] من نفيهم فأعفاهم. قال أبو الفرج، أخبرني عبد الرحمن بن محمد السعدي قال: حضرت شطباء المغنية جارية علي بن جعفر ذات يوم وهي تغني «2» : [الخفيف] ليس بين الرّحيل والبين إلا ... أن تردّوا جمالهم فتزمّا فطرب علي بن جعفر وصاح: سبحان الله لا يكون قربه ولا يشدون ألا يعقلون بشعره «3» ، لا تسلمون على جار، هذه والله العجلة. قال إسحاق: بلغني أن سكينة حجّت، فدخل إليها ابن سريج والغريض، فقال لها ابن سريج: يا سيدتي إني كنت صنعت صوتا وحسّنته وتنوّقت «4» فيه، وخبّأته لك في درج مملوء مسكا، فنازعنيه هذا الفاسق- يعني الغريض- وأردنا أن نتحاكم إليك فيه، فأيّنا قدّمته [فيه] تقدّم، قالت: هاته، فغناها: «5» [السريع] عوجي علينا ربّة الهودج ... إنّك إن لم تفعلي تحرجي فقالت: هاته أنت يا غريض فغناها إياه «6» ، فقالت لابن سريج: أعده، فأعاده، فقالت: أعده يا غريض، فأعاده، فقالت: ما أشبهكما إلا بالجديين الحار والبارد، لا أدري أيهما أطيب. قال إسحاق: ولي قضاء مكّة الأوقص المخزوميّ، فما رأى الناس مثله في عفافه

ونبله، فإنه لنائم في جناح، إذ مرّ به سكران يغني: عوجي علينا ربّة الهودج فلم يجده، فقال له: يا هذا شربت حراما، وأيقظت نياما، وغنّيت خطأ، خذه عنّي، فأصلحه له وانصرف. قال: خرج ابن أبي عتيق على نجيب له من المدينة، قد أوقره من طرفها المآرب «1» وغير ذلك، فلقي فتى من بني مخزوم مقبلا من بعض ضياعه، فقال: يا بن أخي أتصحبني؟ قال: نعم، قال المخزومي فمضينا حتى إذا قربنا من مكة جزناها، فصرنا إلى قصر، فاستأذن ابن أبي عتيق، فأذن له، فدخلنا فإذا رجل جالس كأنه عجوز ويداه مختضبة لا شك في ذلك، فإذا هو الغريض قد كبر، فقال له ابن أبي عتيق: تشوّقنا إليك، وأهدى له ما كان معه، ثم قال: نحبّ أن نسمع: عوجي علينا ربّة الهودج فقال: ادعوا فلانة، جارية له، فجاءت فغنت، فقال لها: ما صنعت شيئا، ثم حلّ خضابه [ص 14] وغنّى: عوجي علينا ربّة الهودج فما سمعت أحسن منه، فأقمنا عنده أياما كثيرا، وخبّازه قائم، وطعامه كثير، ثم قال ابن أبي عتيق: إني أريد الشخوص، فلم يبق بمكة تحفة عدنيّ ولا يماني ولا عود إلا أوقر به راحلته، فلما رحلنا وبرزنا، صاح به الغريض: هى هى، فرجعت إليه، فقال: ألم ترووا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: (يحشر من بقيعنا هذا سبعون ألفا على صورة القمر ليلة البدر) ؟ فقال له ابن أبي عتيق:

بلى، فقال: هذه «1» سنّ انتزعت فأحبّ أن تدفنها لي بالبقيع، فخرجنا والله ولم ندخل المدينة حتى دفناها بالبقيع. قال: خرج الغريض مع قوم فغناهم هذا الصوت: «2» [الطويل] جرى ناصح بالودّ بيني وبينها ... فقرّ بني يوم الحصاب إلى قتلي فاشتد سرور القوم، وكان «3» معهم غلام فأعجبه، فطلب اليهم أن يكلّموا الغلام في الخلوة معه، ففعلوا، وانطلق مع الغلام حتى توارى بصخرة، فلما قضى حاجته أقبل الغلام إلى القوم، وأقبل الغريض يتناول حجرا حجرا ويقرع به الصخرة، ففعل ذلك مرارا، فقالوا: ما هذا يا أبا زيد «4» ؟ فقال: كأني بها وقد جاءت يوم القيامة رافعة ذيلها تشهد علينا بما كان منّا إلى جانبها، فأردت أن أجرّح شهادتها على ذلك اليوم، والشعر الذي غناه لعمر ابن أبي ربيعة: جرى ناصح بالودّ بينى وبينها ... فقرّبني يوم الحصاب إلى قتلي فقالت وأرخت جانب السّتر إنّما ... معي فتحدّث غير ذي رقبة أهلي فقلت لها «5» ما بي لهم من ترقّب ... ولكنّ سرّي ليس يحمله مثلي قال الزبير «6» : رأيت علماءنا جميعا لا يشكون في أن أحسن ما يروون في

حفظ السّرّ قول ابن أبي ربيعة: ولكنّ سرّي ليس يحمله مثلي قال المدائني: بلغني أن الفرزدق سمع عمر بن أبي ربيعة ينشد هذه القصيدة، فلما بلغ إلى قوله: فقمن وقد أفهمن ذا اللّبّ أنّما ... فعلن الذي يفعلن من ذاك من أجلي فصاح الفرزدق وقال: [هذا] «1» والله الشعر [الذي] «1» أرادته الشعراء فأخطأته وبكت الديار [ص 15] . قال مصعب الزبيري: اجتمع نسوة فذكرن عمر بن أبي ربيعة وشعره وظرفه وحسن مجلسه وحديثه، فقالت سكينة: أنا لكنّ به، فبعثت رسولا إليه، ووعد [ته] الصّورين «2» لليلة سمّتها له، فوافاها على راحلته ومعه الغريض، فحدّثهنّ حتى رأى الفجر وحان انصرافهن، فقال لها: والله إني لمشتاق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصلاة في مسجده، ولكن والله لا أخلط زيارتكن بشيء، ثم انصرف إلى مكة، فقال: «3» [البسيط] ألمم بزينب إنّ البين قد [أفدا] ... قلّ الثّواء لئن كان الرّحيل غدا قد حلفت ليلة الصّورين جاهدة ... وما على الحرّ إلا الصّبر مجتهدا لأختها ولأخرى من مناصفها ... لقد وجدت به فوق الذي وجدا لعمرها ما أراني إن نوى نزحت ... وهكذا الحبّ إلا ميّتا كمدا

قال: يا غريض، إني أريد أن «1» أخبرك بشيء يتعجل لك نفعه، ويبقى ذكره، فهل لك فيه؟ قلت: من ذاك ما أنت أهله، قال: إني قد قلت في الليلة التي كنا فيها شعرا، فامض به إلى النسوة فأنشدهن ذلك، وأخبرهن أني قد وجهت بك عامدا، قال: نعم، فحمل الغريض الشعر ورجع إلى المدينة فقصد لسكينة، وقال لها: جعلت فداك يا سيدتي ومولاتي، إن أبا الخطاب- أبقاه الله- وجّهني إليك قاصدا، قالت: أو ليس في خير وسرور وبركة؟ قال: نعم، قالت: وفيم وجّهك أبو الخطاب حفظه الله؟ قال: جعلت فداك، إن ابن أبي ربيعة حمّلني شعرا، وأمرني أن أنشدك إياه، فقالت: هاته، فأنشدها: ألمم بزينب إنّ البين قد أفدا ... قلّ الثّواء لئن كان الرّحيل غدا الشعر كله، فقالت: يا ويحه ما كان عليه ألا يرحل في غد، فوجهت إلى النسوة، فجمعتهن وأنشدتهن الشعر، وقالت للغريض: هل عملت فيه شيئا؟ قال: قد غنّيته «2» ابن أبي ربيعة، قالت: فهاته، فغناه الغريض، فقالت سكينة: أحسنت والله، وأحسن ابن أبي ربيعة ولولا أنك سبقت وغنيته ابن أبي ربيعة لأحسنّا جائزتك، يا بناتة، أعطه لكل [بيت] ألف درهم، فأخرجت بأبياته أربعة آلاف درهم، فدفعتها إليّ، وقالت سكينة: لو [ص 16] زادنا عمر لزدناك. قال محمد بن سلام: حجت «3» عائشة بنت طلحة بن عبيد الله، فجاءتها الثّريّا وأخواتها ونساء أهل مكة القرشيات وغيرهن، وكان الغريض ممن جاء، ودخل النسوة عليها، فأمرت لهنّ بكسوة وألطاف «4» كانت قد أعدتها لمن

جاءها «1» ، فجعلت كل واحدة تخرج ومعها جاريتها تحمل ما أمرت لها به عائشة، والغريض بالباب، حتى خرج مولياته مع جواريهن الخلع، فقال الغريض: أين نصيبي من عائشة؟ فقلن له: أغفلناك وذهبت عن قلوبنا، فقال: ما أنا ببارح من بابها أو آخذ بحظي منها، فإنها كريمة، واندفع يغني بشعر جميل: «2» [الطويل] تذكّرت ليلى والفؤاد عميد ... وشطّت نواها والمزار بعيد فقالت: ويلكم، هذا مولى العبلات بالباب قد ذكر بنفسه، هاتوه، فدخل، فلما رأته ضحكت، ثم قالت: لم أعلم بمكانك، ثم دعت له بأشياء أمرت له بها، ثم قالت له: إن غنّيتني «3» صوتا في نفسي، فلك حكمك، فغنّاها في شعر كثير: «4» [الطويل] وما زلت في ليلى لدن طرّ شاربي ... إلى اليوم أخفي حبّها وأداجن وأحمل في ليلى لقلبي ضغينة ... وتحمل في ليلى عليّ الضّغائن «5» فقالت: ما عدوت والله ما في نفسي، ووصلته وأجزلت، قال إسحاق: فقلت لأبي عبد الله: فهل علمت [حديث] «6» هذين البيتين؟ ولم سألت الغريض ذلك؟ قال: نعم، حدثني أبي قال، قال الشعبي: دخلت المسجد فإذا بمصعب بن الزبير على سرير جالس، والناس حوله، فسلمت، ثم ذهبت لأنصرف، فقال لي: ادن، فدنوت حتى وضعت يدي على مرافقه «7» ، ثم قال لي: إذا قمت فاتبعني،

فجلس قليلا ثم نهض فتوجه نحو دار موسى بن طلحة، فتبعته، فلما طعن في الدار، التفت إليّ فقال: ادخل فاذا حجلة «1» ، وإنها لأول حجلة رأيتها لأمير، فقمت ودخلت الحجلة، فسمعت حركة، فكرهت الجلوس، ولم يأمرني بالانصراف، فاذا جاريته قد خرجت، فقالت: يا شعبي، إن الأمير يأمرك أن تجلس، فجلست على وسادة، ورفع سجف «2» الحجلة، فإذا أنا بمصعب بن الزبير، ورفع السجف الآخر، فإذا أنا بعائشة بنت طلحة، فلم أر زوجا قط كان أحسن منهما: مصعب وعائشة، فقال مصعب: يا شعبي، هل تعرف هذه؟ قلت: نعم [ص 17] أصلح الله الأمير، قال: ومن هي؟ قلت: سيدة نساء المسلمين عائشة بنت طلحة، قال: ولكن هذه ليلى [التي] يقول فيها الشاعر: وما زلت في ليلى لدن طرّ شاربي ثم قال: قم إذا شئت، فقمت، فلما كان العشيّ رحت، فإذا هو جالس في المسجد على سرير، فسلمت عليه، فلما رآني قال: ادن مني، فدنوت حتى وضعت يدي على مرافقه، فأصغى إلي وقال: رأيت مثل ذلك الإنسان قط؟ قلت: لا والله، قال: أفتدري لم أدخلناك؟ قلت: لا، قال: لتحدّث بما رأيت، ثم التفت إلى عبد الله بن فروة، فقال: اعطه عشرة آلاف درهم وثلاثين ثوبا، وانصرف، وما انصرف أحد بمثل ما انصرفت بعشرة آلاف درهم، وبمثل كارة القصار ثيابا «3» ، وبنظرة من عائشة بنت طلحة. قال: وكانت عائشة بنت طلحة عند عبد الرحمن بن أبي بكر، وكان أبا عذرتها، «4» ثم هلك، وتزوجها مصعب

ابن الزبير فقتل، ثم تزوجها عمر بن عبيد الله بن معمر، فبنى بها بالحيرة، ثم انصرف عن سبع مرات تلك الليلة، فلقيته مولاة له حين أصبح، فقالت: يا أبا حفص، كملت في كلّ شيء حتى في هذا، فلما مات ناحت عليه قائمة، ولم تنح على أحد منهم [قائمة] ، وكانت العرب إذا ناحت المرأة قائمة على زوجها، علم أنها لا تريد أن تتزوج بعده، فقيل لها: يا عائشة ما صنعت هذا بأحد من أزواجك، قالت: إنه كان أقرب مني قرابة، وأردت أن لا أتزوج بعده. قال: وقدم «1» يزيد بن عبد الملك مكة، فبعث إلى الغريض سرا، فأتاه فغناه بهذا اللحن في شعر كثير: «2» [الطويل] وإنّي لأرعى قومها من جلالها ... وإن أظهروا غشا نصحتهم جهدي ولو حاربوا قومي لكنت لقومها ... صديقا ولم أحمل على قومها حقدي فأشير إلى الغريض أن اسكت، وفطن يزيد، فقال: دعوا أبا يزيد يغنيني بما يريد، فأعاد عليه الصوت مرارا، ثم قال: زدني مما عندك، فغناه في شعر عمرو بن شأس الأسدي: «3» [الطويل] فوا ندمي على الشّباب وواندم ... ندمت وبان اليوم منّي بغير ذم أرادت عرارا بالهوان ومن يرد ... عرارا لعمري بالهوان فقد ظلم [18] قال: فطرب يزيد وأمر له بجائزة سنيّة.

قال إسحاق: فحدثت أبا عبد الله هذا الحديث، وكنا قد أخذنا في أحاديث الخلفاء، ومن كان يسمع الغناء، فقال أبو عبد الله: كان قدوم يزيد مكة وبعثه إلى الغريض سرّا قبل أن يستخلف، قلت له: فلم أشير إلى الغريض: اسكت حيث غنّاه: وإني لأرعى قومها من جلالها وما السبب في ذلك؟ قال: أنا أحدثك، حدثني أبي قال: كان عبد الملك بن مروان أشدّ الناس حبا لعاتكة بنت يزيد بن معاوية امرأته، وهي أم يزيد بن عبد الملك، فغضبت مرة على عبد الملك، وكان بينهما باب فأغلقته فشق غضبها على عبد الملك، وشكا إلى خاصته، فقال له عمرو بن بلال الأسدي: مالي عندك إن رضيت؟ قال: حكمك، فأتى [عمر] بابها، فجعل يتباكى، وأرسل إليها بالسلام، فخرجت إليه خاصّتها «1» وجواريها، فقلن: مالك؟ قال: فزعت إلى عاتكة في أمر رجوتها له، فقد علمت مكاني من «2» أمير المؤمنين معاوية ومن أبيها بعده، قلن: ومالك؟ قال: ابناي لم يكن لي غيرهما، فقتل أحدهما صاحبه، وقال أمير المؤمنين: أنا قاتل الآخر به، فقلت: يا أمير المؤمنين، أنا الولي وقد عفوت، قال: لا أعوّد الناس هذه العادة، وقد رجوت أن يحيي الله ابني هذا على يدها، فدخلن عليها فذكرن لها ذلك، فقالت: فكيف أصنع مع غضبي عليه وما أظهرت له؟ قلن: إذا والله يقتل، فلم يزلن «3» بها حتى دعت ثيابها فأحضرنها، ثم خرجت نحو الباب، وأقبل جريج الحصيني «4» فقال: يا أمير

المؤمنين، هذه عاتكة قد أقبلت، قال: ويلك ما تقول، قد والله طلعت فأقبلت فسلّمت، فلم يردّ عليها السلام، فقالت: والله لولا عمرو ما جئت، تعدّى أحد ولديه على الآخر، وأردت قتل الآخر، وهو الولي، وقد عفا، قال: إني أكره أن أعّود الناس هذه العادة، قالت: أنشدك الله يا أمير المؤمنين، قد عرفت مكانه من أمير المؤمنين معاوية، ومن أمير المؤمنين يزيد، وهو ببابي، فلم تزل به حتى أخذت برجله فقبلتها، فقال: هولك، فلم يبرحا حتى اصطلحا، ثم راح عمرو ابن بلال على عبد الملك، فقال: يا أمير المؤمنين، كيف رأيت؟ قال: رأينا أثرك، فهات حاجتك، قال: مزرعة بعبيدها «1» وما فيها وألف دينار، وفرائض لولدي وعيالي، قال: ذلك لك، ثم اندفع عبد الملك [19] فتمثل بقول كثير: «2» [الطويل] وإني لأرعى قومها من جلالها ثم علمت «3» عاتكة ما أراد، فلما غنّى يزيد بهذا الشعر، كره مواليه، إذ كان عبد الملك تمثّل به في أمّه. قال أبو عبد الله «4» ، واما خبره لما غنى بشعر عمرو بن شأس، فإن ابن الأشعث «5» لما قتل، بعث الحجاج إلى عبد الملك برأسه مع عرار بن عمرو بن شأس، فلما ورد به، وأوصل كتاب الحجاج إليه، جعل عبد الملك يقرأه، وكلما شك في شيء سأل عرارا عنه فأخبره، فعجب عبد الملك

من بيانه وفصاحته مع سواده، فقال عبد الملك متمثلا: «1» [الطويل] وإن عرارا إن يكن غير واضح ... فإنّي أحبّ الجون ذا المنكب العمم فضحك عرار من قوله ضحكا غاظ عبد الملك، فقال له: ممّ ضحكت ويلك؟ قال: ألا تعرف عرارا يا أمير المؤمنين الذي قيل فيه هذا الشعر؟ قال: لا، قال: فأنا والله هو، فضحك عبد الملك وقال: حقّ وافق حكمة «2» ، وأحسن جائزته وسّرحه. قال أبو عبد الله: وإنما أراد الغريض [أن] يغنّي يزيد بتمثيلات عبد الملك وسائر أموره. قال يونس الكاتب: حدثني معبد قال خرجت إلى مكة في طلب لقاء الغريض وقد بلغني حسن غنائه في لحنه: «3» [الطويل] وما أنس م الاشياء لا أنس شادنا ... بمكّة مكحولا أسيلا مدامعه وقد كان بلغني أنه أول لحن صنعه، وأنّ الجنّ نهته أن يغنيه، لأنه فتن طائفة منهم من مكة لأجل ذلك وحسنه، فلما قدمت مكة سألت عنه فدللت على منزله، فأتيته فقرعت الباب، فما كلمني أحد، فسألت بعض الجيران، فقلت: هل في الدار أحد؟ قالوا: نعم، الغريض، فقلت: إني قد أكثرت دقّ الباب فما أجابني أحد، قالوا: إن الغريض هناك، فرجعت فدققت الباب فلم يجبني، فقلت: إن نفعني غنائي يوما من الدهر نفعني اليوم، فاندفعت فغنيت لحني في شعر جميل: «4» [الطويل]

علقت الهوى [منها] وليدا فلم يزل ... إلى اليوم ينمي حبّها ويزيد فو الله ما سمعت حركة الباب، فقلت: بطل سحري وضاع تعبي، وجئت أطلب ما هو [ص 20] عسير عليّ، واحتقرت نفسي، وقلت: لم يتوهمني «1» لضعف غنائي عنده، فما شعرت إلا بصائح يصيح بي: يا معبد، ابلغني أفهم، وبلّغ عنّي شعر جميل الذي تغنّي [فيه] يا شقي البخت، وغنى: «2» [الطويل] ولا أنس م الأشياء لا أنس قولها ... وقد قربت نضوي أمصر تريد ولا قولها لولا العيون التي ترى ... أتيتك فاعذرني فدتك جدود خليليّ ما أخفي من الوجد باطن ... ودمعي بما قلت الغداة شهيد يقولون جاهد يا جميل بغزوة ... وأيّ جهاد غيرهنّ أريد لكل حديث بينهن بشاشة ... وكل قتيل بينهن شهيد قال: فلقد سمعت شيئا لم أسمع قط أحسن منه، وقصر إلى نفسي، وعلمت فضله عليّ، وقلت: إنه لحريّ بالاستتار من الناس ترفيها «3» لنفسه، وتعظيما لقدره، وإن مثله لا يستحق الابتذال، ولا أن يتداوله الرجال، فأردت الانصراف إلى المدينة راجعا، فلما كنت غير بعيد، إذا بصائح يصيح: يا معبد، انتظر أكلمك، فرجعت فقال لي: إن الغريض يدعوك، فأسرعت فرحا، فدنوت من الباب، فقال: أتحب الدخول، فقلت: وهل إلى ذلك من سبيل؟ فقرعت الباب، فقال لي: ادخل، فدخلت فإذا الشمس طالعة في بيت، فسلمت، فردّ عليّ السلام، ثم قال: اجلس فجلست، فإذا أنبل الناس وأحسنهم وجها وخلقا

وخلقا، فقال: يا معبد كيف تطرّيت «1» إلى مكة؟ فقلت: جعلت فداك: وكيف عرفتني؟ قال: بصوتك، فقلت: وكيف ولم تسمعه قط؟ فقال: لما غنيت عرفتك، وقلت: إن كان معبد في الدنيا فهذا، فقلت جعلت فداك كيف أحسنت «2» بقولك: ولا أنس م الأشياء لا أنس قولها ... وقد قربت نضوي أمصر تريد فقال: علمت أنك تريد تسمع صوتي: «3» [الطويل] وما أنس م الأشياء لا أنس شادنا ... بمكة مكحولا أسيلا مدامعه فلم يكن إلى ذلك سبيل، لأنه صوت قد نهيت أن أغنيه، فغنيتك هذا الصوت، جوابا لما سألت، فقلت: والله ما عدوت ما أردت، فهل لك حاجة؟ فقال: يا أبا عبّاد، لولا ملالة الحديث وثقل إطالة الجلوس، لاستكثرت منك، فاعذر، فخرجت من عنده [ص 21] وإنه لأجل الناس عندي، ورجعت فما رأيت إنسانا هو «4» أعظم منه في عيني، وذكرت جميلا وبثينة، فقلت: لئن أصبت إنسانا يحدثني بقصة جميل وقوله هذا الشعر، فسألت عن ذلك، فإذا الحديث مشهور، وقيل: إن أردت أن تخبر بما شاهدته فأت بني حنظلة فإن فيهم شيخا منهم يقال له فلان فيخبرك الخبر، فأتيت الشيخ فسألته فقال: نعم بينا أنا في إبل في الربيع إذا أنا برجل منطو على راحلته كأنه جان، فسلم عليّ ثم قال لي: ممن أنت يا عبد الله [فقلت] : أحد بني حنظلة، قال: فنسبني حتى بلغت فخذي الذي أنا منه، ثم سألني عن بني عذرة، فقلت هل ترى ذلك السفح «5»

فإنهم نزلوا من ورائه، قال: يا أخا بني حنظلة، هل لك في معروف تصنعه إلي؟ فو الله لو أعطيتني ما أصبحت تسوق إليه من الإبل ما كنت أشكر مني لك عليه، فقلت ومن أنت اولا؟ فقال: لا تسألني من أنا ولا أخبرك [غير] أني رجل بيني وبين هؤلاء القوم ما يكون بين بني العم، فإن رأيت أن تأتيهم فإنك تجد القوم في مجلسهم فتنشدهم بكرة أدماء» تجرّ خفّيها عبلاء واسمة «2» ، فإن ذكروا لك شيئا فذاك، وإلا استأذنتهم في البيوت وقلت: إن الصبي والمرأة يريان مالا يرى الرجال، فتنشدهم ولا تدع أحدا تصيبه عينك، ولا بيتا من بيوتهم، إلا وأنشدتها فيه، فأتيت القوم، فإذا بهم على جزور يقسمونها، فسلمت وانتسبت، وذكرت لهم ضالتي فلم يذكروا لي شيئا، فاستأذنتهم في البيوت، وقلت: إن الصبي والمرأة يريان ما لم ير الرجل، فأذنوا إليّ، فأتيت أقصى بيت، ثم استقريتها بيتا بيتا، فلا يذكرون لي شيئا حتى انتصف النهار وآذاني حرّ الشمس وعطشت، وفرغت من البيوت، وذهبت لأنصرف فحانت مني التفاتة فرأيت ثلاثة أبيات، فقلت: ما عند هؤلاء، إلا ما عند غيرهم، ثم قلت لنفسي سوءة ونوى زعم أن حاجته تعدل مالي، ثم أتيته فأقول: عجزت عن ثلاثة أبيات، فانصرفت عائدا إلى أعظمها بيتا، فإذا هو قد أرخى مقدمه ومؤخره، فسلمت فرد السلام، وذكرت لهم ضالتي، فقالت [جارية منهم] «3» يا عبد الله، قد أصبت ضالتك، وما أظنك إلا وقد اشتد عليك الحر واشتهيت الشراب، فقلت: أجل فدخلت [الجارية] فأتتني بصحفة فيها تمر من [ص 22] تمر هجر «4» وقدح فيه لبن، والصفحة مضرية والقدح مفضض، لم أر إناء قطّ أحسن

منه، فقالت: دونك، فأكلت وشربت من اللبن حتى رويت، ثم قلت: يا أمة الله، ما أنست اليوم أكرم منك، ولا أحقّ بالفضل، فهل ذكرت من ضالتي ذكرا؟ فقالت: أجل، ترى هذه الشجرة فوق الشرف «1» ، قلت: نعم، قالت: فإن الشمس غربت أمس وهي تطيف حولها، ثم حال الليل بيني وبينها، فقمت وجزيتها الخير، وقلت: والله لقد تغدّيت وتروّيت، فخرجت حتى أتيت الشجرة، فأطفت بها، فو الله ما رأيت من أثر، فانصرفت إلى صاحبي، فإذا هو متّشح في الإبل بكسائه، ورافع عقيرته «2» يغني، فقلت: السلام عليك، قال: وعليكم السلام، قال: ما وراءك؟ قلت: ما ورائي من شيء، قال: لا عليك، فأخبرني بما فعلت، قال: فقصصت عليه القصة، حتى انتهيت إلى ذكر المرأة وأخبرته بالذي صنعت، قال: قد أصبت ضالتك، فعجبت من قوله ولم أجد شيئا، ثم سألني عن صفة القدح والصفحة، فوصفتها له، فتنفّس الصعداء، ثم قال: أصبت طلبتك، ثم ذكرت له الشجرة وأنها رأتها تطيف بها، فقال: حسبك، فمكثت حتى إذا أوت إبلي إلى مباركها، دعوته إلى العشاء، فلم يدن، وجلس عني بمزجر الكلب، فلما ظنّ أنّي قد نمت رمقته، فقام إلى عيبة «3» له، فاستخرج منها بردين، فأتزر بأحدهما، وارتدى بالآخر، ثم انطلق عامدا نحو الشجرة، واستبطنت الوادي، فجعلت أحضر، حتى إذا خفت أن يراني انبطحت فلم أزل كذلك حتى سبقته إلى شجرات قريبة من تلك الشجرة حيث أسمع كلامهما، فاستترت بهما، وأقبل حتى إذا كان غير بعيد، قالت: اجلس، فو الله لكأنه لصق بالأرض، فسلم عليها وسألها عن حالها أكرم سؤال ما سمعته قط،

وأبعده عن كل ريبة، وسألته عن مثل مسألته، ثم أمرت الجارية فقربت إليه طعاما، فلما أكل، قالت: أنشدني ما قلت فأنشدها: «1» [الطويل] علقت الهوى منها وليدا فلم يزل ... إلى اليوم ينمي حبّها ويزيد ولم يزالا يتحدثان، ما يقولان فحشا ولا هجرا، حتى التفتت التفاتة فرأت الصبح قد طلع، فودع كل منهما صاحبه أحسن وداع سمعته، ثم انصرفا فمضيت إلى إبلي فاضطجعت، وكل واحد منهما يمشي خطوة ويتلفت إلى صاحبه، فجاء بعد ما أصبحنا، فرفع برديه ثم [ص 23] قال: يا أخا بني حنظلة «2» ، حتى متى تنام، فقمت وتوضأت وصليت، وأعانني عليها وهو أظهر الناس سرورا، ثم دعوته إلى الغداء، فتغدينا ثم قام إلى عيبته ففتحها، فإذا فيها السلاح وبردان مما كسته الملوك، فأعطاني أحدهما، وقال: والله لو كان معي شيء ما ذخرته عنك، وحدثني حديثه وانتسب إليّ، فإذا [هو] جميل بن معمر، والمرأة بثينة، وقال لي: إني قد قلت أبياتا في منصرفي من عندها، فهل لك في أن أنشدها لك؟ قال نعم: «3» ولا أنس م الأشياء لا أنس قولها ... وقد قربت نضوي أمصر تريد؟ الأبيات، ثم ودعني وانصرفت، فمكث حتى أخذت إبلي مراتعها، ثم عمدت إلى دهن كان معي فدهنت به رأسي، ثم ارتديت بالبردة وأتيت المرأة، فقلت: السلام عليكم، إني جئت أمس طالبا، وجئت اليوم زائرا، فتأذنون؟ فقالت: نعم، فجعلت جارية تقول: يا بثينة، عليه برد جميل، فجعلت أثني

على ضيفي وأشكره، فقلت: إنه ذكرك فأحسن الذكر، فهل أنت بارزة [لي] حتى أنظر إليك، قالت نعم، فلبست ثيابها ثم برزت، ودعت لي بطرف، وقالت: يا أخا «1» بني تميم، والله ما ثوباك هذا بمشتبهين، ودعت بعيبتها وأخرجت لي ملحفة مروية «2» مشبعة من العصفر، ثم قالت: أقسمت عليك لتقومنّ إلى كسر البيت لتخلعنّ مدرعتك «3» ثم لتأتزرنّ بهذه الملحفة، فهي أشبه ببردك، فقمت ففعلت وأخذت مدرعتي بيدي فوضعتها إلى جانبي، وأنشدتها الأبيات فدمعت عيناها، وتحدثنا طويلا من النهار، ثم انصرفت إلى إبلي بملحفة بثينة وبردة جميل، ونظرة من بثينة. قال [معبد] فجزيت الشيخ خيرا وانصرفت من عنده، وأنا أحسن الناس حالا بنظرة من الغريض واستماع غنائه، وعلم بحديث جميل وبثينة، فيما غنيّت أنا به، وفيما غنّى به الغريض، على حق ذلك وصدقه، فما رأيت قط ولا سمعت بزوجين أحسن من جميل وبثينة، ومن الغريض ومنّي. قال: قدم الوليد بن عبد الملك مكة فأراد أن يأتي الطائف، فقال: هل من رجل عالم يخبرني عنها؟ فقالوا: عمر بن أبي ربيعة، قال: لا حاجة لي به، ثم دعا فسأل فذكروه إياه، فقال: هاتوه، فأتوا به، فركب [ص 24] معه، ثم جعل يحدثه، ثم حول عمر رداءه ليصلحه على نفسه، فإذا على ظهره أثر، فقال الوليد: ما هذا الأثر؟ فقال: كنت عند جارية لي، إذ جاءتني جارية برسالة جارية أخرى، فجعلت تسارّني، فعضّت التي كنت عندها منكبي، فما وجدت ألم عضتها من لذة ما كانت تلك تنفث في أذني حتى بلغت ما ترى، فضحك الوليد، فلما رجع عمر، قيل له: ما الذي كنت تضحك به أمير المؤمنين؟ قال:

ما زلنا في حديث الزّنا حتى رجع، وكان حمل الغريض معه، فقال له: يا أمير المؤمنين، إن عندي أجمل الناس وجها وأحسنهم حديثا، فهل لك أن تسمعه؟ فقال: هاته، فدعا به، فقال له: أسمع أمير المؤمنين أحسن شيء قلته، فاندفع يغني بشعر جميل: «1» [الكامل] إني لأحفظ سرّكم ويسرّكم ... لو تعلمين بصالح أن تذكري ويكون يوم لا أرى لك مرسلا ... أو نلتقي فيه عليّ كأشهر يا ليتني ألقى المنيّة بغتة ... إن كان يوم لقائكم لم يقدر ما كنت والوعد الذي تعدينه ... إلا كبرق سحابة لم تمطر تقضى الديون وليس ينجز عاجلا ... هذا الغريم لنا وليس بمعسر «2» قال: فاشتد سرور الوليد بذلك وقال: يا عمر، هذه رقيتك، ووصله وكساه [وقضى] حوائجه. قال: وكانت وفاة الغريض في أيام سليمان بن عبد الملك، أو عمر بن عبد العزيز ولم يتجاوزها، وكان موته باليمن، لأن الوليد كان ولى نافع بن علقمة مكة، فهرب منه الغريض، فأقام باليمن واستوطنها مدة، ثم مات بها. قال عمر بن شبّة «3» : زعم المكيّون أنّ الغريض أتى بلادا من بلاد الجنّ، فغنّى ليلا: «4» [مجزوء الوافر]

هم ركب لقي ركبا ... كما قد يجمع السّيل فصاح به صائح اكفف يا أبا مروان فقد سفّهت حلماءنا، وأصبيت سفهاءنا، قال: فأصبح ميتا. قال إسحاق، قال أبو قبيل: رأيت الغريض في عرس أو ختان لبعض مواليه، فقيل له: تغنّ، فقال: هو ابن زانية إن فعل، فقال له بعض مواليه: فأنت هو والله كذلك، قال: أفكذلك أنا؟ قال: نعم، قال: أنتم أعلم، ثم أخذ الدّفّ فرمى به ثم مشى مشية «1» [ص 25] ، لم أر أحسن منها، ثم غنّى: «2» [الطويل] تشرّب لون الرّازقيّ بياضه ... أو الزعفران خالط المسك رادعه فجعل يغنيه مقبلا ومدبرا حتى التوت عنقه، فخرّ صريعا، وما رفعناه إلا ميتا، فظنناه فالجا عاجله. قال إسحاق: وحدثني ابن الكلبي عن أبي مسكين قال: إنما نهته الجنّ أن يغني هذا الصوت: «3» [الطويل] وما أنس م الأشياء لا أنس شادنا ... بمكة مكحولا أسيلا مدامعه

5 - طويس

5- طويس «1» كان مشئوم الطلعة، مذموم السمعة، ما بشّر به، ولا بشّر بحظّ جليل، ورزء ليس بقليل، ومصاب أبات الناس بليل طويل، جرّب فصحّ أنّه مشئوم، وأن والدا ولده ملوم، وأنه ممن لو وضع الملح في الطعام لفسد منه، ولو أبصره إبليس لحيّاه، وقال: فديت من لا يفلح، لو مرّ بسوق النفاق لكسد، أو جاز الخمر الرحيق لفسد، أو دخل بين أخوين متحابّين لداخل كلّ منهما لأخيه الحسد، أو نظر نظرة في الطب لما قنع حتى يفرق بين الروح والجسد، فعجبا أن عد من أهل الإيمان، ووا أسفا إذ لم يبق في حرّ أمّه إلى آخر الزمان. قال ابن الكلبي: أول من غنّى بالعربيّ بالمدينة طويس، وهو أول من ألقى الخنث «2» بها، وكان طويلا أحول، وكان لا يضرب بالعود، وإنما ينقر بالدف، وكان ظريفا عالما بالمدينة وأنساب أهلها، وكان يتّقى لسانه، قال: وسئل عن مولده فذكر أنه ولد يوم قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفطم يوم مات أبو بكر، وختن يوم قتل عمر، وتزوج يوم قتل عثمان، وولد له يوم قتل علي رضي الله عنهم. قال: وكانت أمه تمشي بين نساء الأنصار بالنميمة، قال: وأول غنائه وهزج

هزجه: «1» [مجزوء الرمل] كيف يأتي من بعيد ... وهو يخفيه القريب لاح بالشام عشاء ... وهو مشكاك هبوب «2» قد براني الحبّ حتّى ... كدت من وجد أذوب وهذا البيت يسمى: الذائب. قال يونس: وكان أول من تغنّى بالمدينة [ص 26] غناء يدخل في إيقاع طويس، قال ابن الكلبي: كان بالمدينة مخنّث يقال له النّغاشيّ، فقيل لمروان [بن الحكم] إنه لا يقرأ من القرآن شيئا، فبعث إليه وهو بالمدينة يومئذ، فاستقرأه أمّ الكتاب، فقال: والله ما أقرأ البنات فكيف أمّهنّ؟ فقال: أتهزل لأمّ القرآن لا أمّ لك، فأمر به فقتل، وقال: من جاءني بمخنث فله عشرة دنانير، فأخبر طويس فهرب من وقته حتى نزل السويداء على ميلين من المدينة، فلم يزل بها عمره، وعاش إلى ولاية الوليد بن عبد الملك. قال المدائني: كان عبد الله بن جعفر معه رفقة له في عشية من عشيات الربيع، فراحت عليهم السماء بمطر جود، فسال كل شيء، فقال لهم عبد الله [هل لكم] في العقيق وهو منزه أهل المدينة في أيام الربيع والمطر، فركبوا دوابهم، ثم انتهوا اليه، فوقفوا على شاطئه وهو يرمي بالزبد مثل الفرات، فإنهم لينظرون إذ هاجت السماء، فقال عبد الله لأصحابه: ليس معنا جنّة «3» نستجنّ بها، وهذه سماء خليقة أن تبلّ ثيابنا، فهل لكم في منزل طويس، فإنه قريب منا، فنستكن

فيه فيحدثنا ويضحكنا، وطويس في النّظّارة يسمع كلام عبد الله بن جعفر، فقال له عبد الرحمن بن حسان: جعلت فداك، وما تريد من طويس عليه غضب الله مخنّث شائن لمن عرفه، فقال له عبد الله بن جعفر: لا تقل ذلك، فإنه خفيف مليح لنا فيه أنس، فلما استوفى طويس كلامهم تعجّل إلى منزله، فقال لامرأته: ويلك، قد جاء سيدنا عبد الله بن جعفر فما عندك؟ قالت: نذبح هذه العناق «1» ، وكانت عندها عنيّقة قد ربتها باللبن، واختبز [خبزا] رقاقا، فبادر ذبحها وعجنت هي، ثم خرج فتلقاه مقبلا إليه، فقال له طويس، بأبي أنت وأمي، هذا المطر «2» ، فهل لك في المنزل لتسكن فيه إلى أن تكف السماء؟ قال: إياك أريد، قال: فامض يا سيدي على بركة الله، وجاء يمشي حتى جلسوا [فتحدثوا] حتى أدرك الطعام، فقال: بأبي أنت وأمي، تكرمني إذ دخلت منزلي أن تتعشى عندي، قال: هات ما عندك، فجاء بعناق سمينة ورقاق، فأكل كل القوم حتى تملّئوا، وأعجبه طيب طعامه، فلما غسلوا أيديهم قال: بأبي أنت وأمي، أتمشّى لك وأغنّيك، قال: بلى يا طويس، فأخذ ملحفة فأتزر بها، وأرخى لها ذنبين، ثم أخذ المربّع «3» فتمشّى وغنّى: «4» [المديد] [ص 27] يا خليلي نا بني سهدي ... لم تنم عيني ولم تكد «5» كيف تلحوني على رجل ... ابنه تلتذّه كبدي «6»

قال: فطرب القوم، وقال: أحسنت والله يا طويس، ثم قال: يا سيدي أتدري لمن هذا الشعر؟ قال: لا أدري لمن هو، إلا أني سمعت شعرا حسنا، قال: هو لفارعة بنت ثابت [أخت حسان بن ثابت] وهي تتعشق عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فنكس القوم رؤوسهم، وضرب عبد الرحمن رأسه [على صدره] فلو شقّت له الأرض لدخل فيها. قال المدائني حدّثت أن طويسا تبع جارية فردعته، فلم ينقطع عنها، فلما جاوزت مجلس قوم وقفت وقالت: يا هؤلاء، لي صديق ولي زوج ولي مولى، فسلوا هذا ما يريد مني؟ قال: أضيّق ما وسّعوه. قال المدائني: وكان طويس مولعا بالشعر الذي قالته الأوس والخزرج في حروبهم، فقلّ مجلس اجتمع [فيه] هذان الحيان فغنى طويس إلا وقع فيه شر. قال المدائني: قدم ابن سريج المدينة، فجلس يوما في جماعة وهم يقولون: أنت والله أحسن الناس غناء، إذ مر بهم طويس فسمع قولهم، فاستلّ دفّه ونقره وغنّى: «1» [مجزوء الكامل] إن المخنّثة التي ... مرّت بنا قبل الصّباح في حلّة موشيّة ... يمنية غرثى الوشاح «2» زين لمشهد فطرهم ... وتزينهم يوم الأضاحي فقال ابن سريج: هذا والله أحسن الناس غناء لا أنا.

6 - يزيد حوراء

6- يزيد حوراء «1» كان مطربا لو مزج بغنائه الماء لأسكر، أو قرع به المساء لما تنكر «2» ، أو قرن به القدماء وأنصف لم يكن معه أحد يذكر، ولهذا حسد حتى تحيّل «3» عليه وتوصّل إلى ما لديه، فأخذ ما كان به يمتاز، وترك ما عنده شيء أحد يعتاز وعلى هذا كان مقدّما، وكان سامعه كأنما يفتح منه إناء مفدّما «4» . قال أبو الفرج: قدم على المهدي في خلافته فغناه، وكان حسن الصوت، مليح الشمائل، فذكر ابن خرداذبة [أنه بلغه أن] إبراهيم الموصلي حسده على شمائله وإشاراته في الغناء، واشترى عدّة جوار وشاركه [ص 28] فيهن، وقال له: علمهن الغناء فما رزق الله من ربح فهو بيننا، وأمرهنّ [أن] يجعلن وكدهنّ «5» أخذ إشاراته، ففعلن ذلك، وكان إبراهيم يأخذ عنهن «6» هو وابنه ويأمرهن بتعليم كل من يعرفنه ذلك حتى شهرها في الناس، فأبطل عليه ما كان منفردا به في ذلك. قال إسحاق، قال يزيد حوراء: كنت أجلس بالمدينة على أبواب قريش وكانت تمرّ بي جارية تختلف إلى الزرقاء تتعلم منها الغناء، فقلت لها يوما افهمي قولي وردّي جوابي، وكوني عند ظني، فقالت: هات ما عندك، فقلت: بالله ما اسمك؟ قالت: ممنّعة، فأطرقت طيرة «7» من اسمها مع طمعي فيها، ثم

قلت: [بل] باذلة أو مبذولة إن شاء الله، فاسمعي مني، فقالت وهي تبتسم: إن كان عندك شيء فقل، فقلت: [الطويل] «1» ليهنك منّي أننّي لست مفشيا ... هواك إلى غيري ولو متّ من حبّي ولا مانحا خلقا سواك مودّة ... ولا قائلا ما عشت من حبّكم حسبي قال: فنظرت إليّ طويلا، ثم قالت: أنشدك الله أعن فرط محبّة أو اهتياج غلمة؟ فقلت لا والله إلا عن فرط محبة، فقالت: [الطويل] فو الله ربّ النّاس لا خنتك الهوى ... ولا زلت مخصوص المحبّة من قلبي فثق بي فإني قد وثقت ولا تكن ... على غير ما أظهرت لي يا أخا الحبّ «2» قال: فو الله لكأنما أضرمت في قلبي نارا، فكانت تلقاني في الطريق الذي كانت تسلكه فتحدثني وأتفرج «3» بها، ثم اشتراها بعض أولاد الخلفاء، وكانت تكاتبني وتلاطفني دهرا. قال عبد الله بن العباس الربيعي: كان يزيد حوراء نظيفا ظريفا حسن [الوجه] شكلا، لم يقدم علينا من الحجاز أظرف ولا أشكل منه، وكان يتعصب لإبراهيم الموصلي على ابن جامع، وكان إبراهيم يرفع منه ويشيع ذكره بالجميل وينبّه على تقدّمه وإحسانه، وكان يبعث ابنه إسحاق يأخذ عنه، وكان يزيد صديقا لأبي مالك التميمي الأعرج، ولا يكاد يفارقه، فمرض يزيد مرضا شديدا، فاغتمّ عليه الرشيد وبعث مسرورا مرات يسأل عنه، ثم مات، فقال أبو مالك: «4» [الخفيف]

7 - عبد الرحمن الدفاف

لم يمتّع من الشّباب يزيد ... صار في التّرب وهو غضّ جديد فكأن لم يكن يزيد ولم يش ... ج نديما يهزّه التّغريد 7- عبد الرّحمن الدّفّاف «1» كان مغنّيا مغنيا، ومقربا للسّرور مدنيا، كان يحيي أطايب الطرب ويدني غرائب الرّغب، لظرفه إلى القلوب خلوص، وبطربه مثل رقص القلوص ما طرب وأبقى من أرب إلا أن الجدّ لم يقل من عثاره، ولم يقد ظباء الجلميين لأخذ ثاره. قال أبو الفرج: كان منقطعا إلى علي بن المهدي المعروف بريطة، قال عبد الصمد بن المعذل: غنّت جارية يوما بحضرة الرشيد: «2» [المنسرح] قل لعلي يا فتى العرب ... وخير نام وخير منتسب أعلاك جدّاك يا عليّ إذا ... قصّر جدّ عن ذروة النّسب فأمر بضرب عنقها، فقالت: يا سيدي وما ذنبي؟ هذا الصوت علّمته والله وما أدري من قاله، ولا فيمن قيل، فعلم صدقها، فقال لها: عمّن أخذته؟ قالت: عن عبد الرحمن الدّفّاف، فأمر بإحضاره وقال: يا عاضّ بظر أمّه، تغنّي في شعر تفاخر [فيه] بيني وبين أخي؟ جرّدوه، فجرّدوه عن ثيابه، ودعا له بالسياط

8 - ابن مسجح

فضرب بين يديه مئة سوط «1» . قال عبد الرحمن: دخلت يوما على [عليّ بن] ريطة، وستارته منصوبة، فعنّت جاريته: «2» [الطويل] أناس أمنّاهم فنمّوا حديثنا ... فلما كتمنا السّرّ عنهم تقوّلوا فقلت له: أرأيت إن غنّيتك هذا الصوت وفي «3» تمامه زيادة بيت آخر «4» أيّ شيء لي عليك؟ قال: خلعتي «5» هذه، فغنّيته: فلم يحفظوا الودّ الذي كان بيننا ... ولا حين همّوا بالقطيعة أجملوا قال: فنزع خلعته فجعلها عليّ، وأقمت عنده بقيّة يومي على عربدة كانت فيها. 8- ابن مسجح «6» سابق أغرّ وسارق ما غرّ، أول من تفطن لغناء فارس، وكان له في بلاد العرب الفارس إلى بر من العجم «7» ، وألقى سمعه إلى أصواتها، وابتزّ أرواح طربها من

لهواتها، ونقل ما تصوّر في خاطره من تلك الصور الأعجمية والتماثيل التي لا ترى للعيون العميّة، إلى أن أبرزها عربا أبكارا، وأسكنها أسماعا وأفكارا، وأدراها شمولا لا يسمع عليها إنكارا، ثم منه أدهقت آنيتها «1» ، وسمعت قاصيتها [ص 30] ودانيتها. قال أبو الفرج، قال هاشم بن المرّيّة: إن أول من غنى هذا الغناء العربي بمكة ابن مسجح، وذلك أنه مرّ بالفرس وهم ينصّون «2» المسجد الحرام، فسمع غناءهم بالفارسية، فنقله في شعر عربي، وهو الذي علّم الغريض وابن سريج. قال: وهو أول من غنى الغناء الثقيل، وعاش ابن مسجح حتى لقيه معبد وأخذ عنه في أيام الوليد بن يزيد بن عبد الملك. قال دحمان [الأشقر] : كنت عاملا لعبد الملك بن مروان بمكة، فقيل إن رجلا يقال له ابن مسجح قد أفتن فتيان قريش فأنفقوا عليه أموالهم، فكتب إليه: أن اقبض ماله وسيّره، ففعل، وتوجه ابن مسجح إلى الشام، فصحبه رجل له جوار مغنيات في طريقه، فقال له: أين تريد؟ «3» ، فأخبره خبره، وقال: أريد الشام، قال له: فكن معي، فصحبه حتى بلغا دمشق، فدخلا مسجدها، فسألا عن أخص الناس بالامير قالوا: هؤلاء النفر من قريش من بني عمه، فوقف ابن مسجح عليهم، وسلم ثم قال: يا فتيان، هل فيكم من يضيف رجلا غريبا من أهل الحجاز؟ فنظر بعضهم إلى بعض وكان عليهم موعد أن يذهبوا إلى قينة يقال لها برق الأفق فتثاقلوا به إلا فتى منهم تذممّ «4» ، فقال: أنا أضيفك، وقال لأصحابه: انطلقوا أنتم وأنا أذهب مع ضيفي، قالوا: بل تجيء

معنا أنت وضيفك فذهبوا جميعا إلى بيت المغنية، فلما أتوا بالغداء قال لهم سعيد: «1» إني رجل أسود ولعل فيكم من يقذرني، فأنا أجلس فآكل ناحية، فاستحيوا منه، وبعثوا له بما أكل، فلما صاروا إلى الشراب قال لهم مثل ذلك، ففعلوا، وأخرجوا جاريتين فجلستا على سرير قد وضع لهما، فغنتا إلى العشاء، ثم دخلتا، وخرجت جارية حسنة الوجه والهيئة وهما معها فجلست على السرير، وجلستا أسفل منها على يمين السرير وشماله، قال ابن مسجح: فتمثلت بهذا البيت: «2» [الطويل] فقلت أصبح أم مصابيح بيعة ... بدت لك خلف السّجف أم أنت حالم فغضبت الجارية وقامت وقالت: أيضرب مثل هذا الاسود فيّ الأمثال؟ فنظروا إليّ نظرا منكرا، ولم يزالوا بها [يسكنونها] حتى غنّت، فقلت: أحسنت والله، فغضب مولاها فقال: مثل هذا الأسود يقدم على جاريتي! فقال الرجل الذي أنا عنده: قم فانصرف [ص 31] إلى منزلي فقد ثقلت على القوم، فذهبت لأقوم، فتذمم القوم وقالوا: بل أقم وأحسن أدبك، فأقمت، وغنّت، فقلت: أخطأت وأسأت، ثم اندفعت فغنيت الصوت، فقالت الجارية: هو والله أبو عثمان سعيد ابن مسجح، فقلت: إي والله أنا هو، وو الله لا أقيم عندكم، فوثب القرشيون، فقال هذا: تكون عندي، [وقال هذا تكون عندي] ، فقلت: لا والله لا أقيم إلا عند سيدكم- يعني الرجل الذي أنزله عنده- وسألوه عمّا أقدمه، فأخبرهم الخبر، فقال له صاحبه: أنا أسمر الليلة عند أمير المؤمنين، فهل تحسن أن تحدو «3» ؟ فقلت لا والله، ولكني أصنع حداء، قال له: إن منزلي بحذاء أمير المؤمنين فإن وقعت منه على طيب نفسه أرسلت إليك، ومضى إلى عبد الملك، فلما رآه طيّب

9 - عطرد

النفس أرسل إلى ابن مسجح، فأخرج رأسه من وراء شرف القصر، ثم حدا، فقال [عبد] الملك للقرشي: من هذا، قال: رجل حجازي قدم عليّ، قال: أحضره، فأحضره فقال له: احد، فحدا، فقال له: هل تغني غناء الركبان؟ قال: نعم، قال: غنّه فغنى فاهتز عبد الملك طربا، ثم قال: أقسم إن لك في القوم اسما كبيرا، فمن أنت؟ قال: أنا المظلوم، المقبوض ماله، المسيّر عن وطنه سعيد بن مسجح، قبض مالي عامل الحجاز ونفاني، فتبسم عبد الملك ثم قال: قد وضح عذر فتيان قريش أن ينفقوا عليك أموالهم، وأمّنه ووصله، وكتب إلى عامله بردّ ماله وأن [لا] يعرض له. قال: ومن غنائه القديم الذي صنعه: «1» [الكامل] أسلام إنّك قد ملكت فأسجحي ... قد يملك الحرّ الكريم فيسجح منّي على عان أطلت عناءه ... في الغلّ عندك والعناة تسرّح «2» إني لأنصحكم وأعلم أنه ... سيان عندك من يغش وينصح وإذا شكوت إلى سلامة حبّها ... قالت أجدّ منك ذا أم تمزح؟ 9- عطرّد «3» وكان عطرّد عطاردّيا لبقا ذكيا ارضيا سماويا، كأنّه «4» خلق للسرور وخبّئ لبلابل الصدور، وكان رحيب الباع، كثير الأتباع، لو لاطف الصخر لذاب، ولو

حضر يوم الفراق لطاب، لو غنّى للجواد الممتدّ في طلقه لصفن «1» ، او للميت- استغفر الله- لقام ينفض الكفن «2» ، لا يلذ إلا به الغزل، ولا يعد أحد من طبقته إلا إذا نزل. قال أبو الفرج، قال [ص 32] إسحاق: كان جميل الوجه حسن الغناء، جيد الصنعة، طيب الصوت، حسن الرأي، فقيها قارئا للقرآن، وكان يغني مرتجلا، وأدرك دولة بني العباس، وبقي إلى ايام الرشيد، وكان معدّل الشهادة بالمدينة. قال إسحاق: ولي مسلمة بن عباّد القضاء بالبصرة، فقصد ابنه عباد بن مسلمة عطردا وهو بها مقيم، قد قصد آل سليمان بن علي وأقام معهم، فأتى بابه ليلا فدقّ عليه، ومعه جماعة من أصحابه أصحاب القلانس، فخرج عطرّد إليه، فلما رآه ومن معه ارتاع، فقال لا ترع «3» : [الكامل] إنّي قصدت إليك من أهلي ... في حاجة يأتي بها مثلي «4» قال: وما هي أصلحك الله؟ فقال: لا طالبا شيئا إليك سوى ... «حيّ الحمول بجانب العزل» «5» قال عطردّ: [انزلوا] على بركة الله، ولم يزل يغنيهم هذا وغيره حتى أصبحوا.

10 - الأبجر

قال: ولي زيد الهاشمي المدينة، فأمر بأصحاب الملاهي فحبسوا، وحبس عطرّد فيهم، وحضر لعرضهم، وشفع في عطرّد رجال من المدينة وأخبروه أنه من أهل الدين والمروءة، فخلّى سبيله، وخرج فإذا هو بالمغنّين قد أحضروا ليعرضوا، فرجع إليه عطرّد فقال: أصلح الله الأمير، أعلى الغناء حبست هؤلاء؟ قال نعم، قال: فلا تظلمهم فو الله ما أحسنوا شيئا منه قط، فضحك وأطلقهم جميعا. 10- الأبجر «1» وكان ذا طرب يفرط في لجاجته، ويلهي العجول عن حاجته، ينهب حبّات «2» القلوب نهبا، ويأخذ حباء الملوك غصبا، لو تغنّى ساعة عرفة لألهى الحجيج، أو ثبّى يوم منى لأكثر الضجيج، لو قدمت الخمس الظوامي وهو يترنم إلى الماء، لطوت جوانحها على الغلل الظماء «3» ، وكان لا يرى إلا في هيئة تسرّ المبصر، وتسوّل للغويّ «4» أنه لا يقصر. قال أبو الفرج، قال إسحاق: لم يكن أحد أظرف منه، ولا أحسن هيئة منه، كانت حلته بمائة دينار، وكان يقف بين المأزمين «5» ويرفع صوته، فيقف الناس له ويركب بعضهم بعضا.

قال إسحاق: جلس الأبجر في ليلة اليوم السابع من أيام الحج على قرب من التنعيم «1» ، فإذا عسكر جرّار قد أقبل في آخر الليل، وفيه دواب تجنب وفيها [ص 33] فرس أدهم [سرج] حليته ذهب، فاندفع يغنّي: «2» [الطويل] عرفت ديار الحيّ خالية قفرا ... كأنّ بها لما توهمتها سطرا فلما سمعه من في القباب والمحامل أمسكوا، وصاح صائح: ويحك أعد الصوت، فقال: لا والله، إلا بالفرس الأدهم، بسرجه ولجامه وأربعمائة دينار، وإذا الوليد بن يزيد صاحب العسكر، فنودي أين منزلك؟ ومن أين أنت؟ قال: أنا الأبجر، ومنزلي على رأس زقاق الخرازين، فغدا إليه رسول الوليد بذلك الفرس وأربعمائة دينار وتخت من ثياب وشي وغير ذلك، ثم أتى به الوليد فأقام عنده وقام مع أصحابه عشية التروية «3» ، وهو أحسنهم هيئة وخرج معه إلى الشام. قال عمر بن حفص بن كلاب: كان الأبجر مولانا، وكان إذا قدم المدينة نزل علينا، فقال لنا يوما: أسمعوني غناء ابن عائشتكم هذا، فأرسلنا إليه فجمعنا بينهما في بيت ابن هفان «4» ، فغنّى ابن عائشة، فقال الأبجر: كل مملوك لي حر إن غنّيت معك إلا بنصف صوتي «5» ، ثم أدخل إصبعه في شدقه، ثم غنّى، فسمع صوته من في السوق فحشر النّاس علينا، فلم يفترقا حتى تشاتما، قال: وكان ابن عائشة حديدا «6» جاهلا.

قال إبراهيم بن المهدي: حدثني ابن أشعب عن أبيه قال: دعا الوليد بن يزيد ذات يوم المغنين، وكنت نازلا معهم، فقلت للرسول: خذني معهم، قال: لم أؤمر بذلك، وإنما أمرت بإحضار المغنّين، وأنت بطّال «1» لا تدخل فيهم، فقلت له: والله أنا أحسن غناء منهم، ثم اندفعت فغنيت، فقال: لقد سمعت حسنا، ولكني أخاف، فقلت: لا خوف عليك ولك مع هذا شرط، قال: وما هو؟ قلت: كل ما أصبته فلك شطره، فقال للجماعة: اشهدوا عليه، فشهدوا، ومضينا فدخلنا على الوليد وهو خاثر «2» النفس، فغناه المغنون في كل فن من ثقيل وخفيف، فلم يتحرك ولا نشط، فقام الأبجر إلى الخلاء، وكان خبيثا داهيا، فسأل الخادم عن خبره وبأي شيء هو خاثر النفس، فقال: بينه وبين امرأته كلام، لأنه عشق اختها فغضبت عليه، وهو إلى أختها أميل، وقد عزم على طلاقها، وحلف لها لا يذكرها بمراسلة ولا بمخاطبة، وخرج على هذا الحال من عندها، وعاد الأبجر إلينا [ص 34] فما استقر به مجلسه حتى اندفع يغني: «3» [الطويل] فبيني فإني لا أبالي وأيقني ... تصاعد باقي حبّكم أم تصوبا ألم تعلمي أني عزوف عن الهوى ... إذا صاحبي من غير شيء تغضّبا فطرب الوليد وارتاح، وقال: أصبت والله يا عبيد [الله] ما في نفسي، وأمر له بعشرة آلاف درهم، وشرب حتى سكر، ولم يحظ أحد بشيء سوى الأبجر، فلما أيقنت بانقضاء المجلس، وثبت وقلت: يا أمير المؤمنين إن أمرت من يضربني مئة الساعة، فضحك ثم قال: قبحك الله، وما السبب في ذلك؟ فأخبرته بقصتي مع الرسول، فأريد أن أضرب مئة ويضرب بعدي مئة، فقال: لقد ألطفت، بل

11 - فريدة

أعطوه مئة دينار، وأعطوا الرسول خمسين دينارا من مالنا، عوض الخمسين التي «1» أراد أن يأخذها ابن اشعب، فقبضها وقمنا، فما حظي أحد بشيء غيري وغير الرسول «2» . قال إسحاق: حدّثت أن الأبجر أخذ صوتا من الغريض ليلا، ثم دخل الطواف، فلقي عطاء بن أبي رباح يطوف، فقال له: يا أبا محمد اسمع صوتا أخذته في هذه الليلة من الغريض، فقال له: ويحك، في هذا الموضع، فقال: كفرت برب هذه البنيّة لئن لم تسمعه مني سرّا إن لم أجهر به، فقال: هاته، فغناه: «3» [السريع] عوجي علينا ربّة الهودج ... إنك إن لم تفعلي تحرجي في الحجّ إن حجّت وماذا منى ... وأهله إن هي لم تحجج فقال له عطاء: الخير كله في منى وأهله، حجّت أو لم تحجّ فاذهب الآن. قال: وختن عطاء بنيه أو بني أخيه، فكان الأبجر يختلف إليهم ثلاثة أيام يغني [لهم] . 11- فريدة «4» وكانت فريدة جمال، ووحيدة كمال، وبديعة حسن وإحسان، وفصيحة عود ولسان، ربيبة خدر، وشبيهة بدر، ومتقنة لطرب، ومحسنة لا يقاس بها من

إذا أحسن كان قد ضرب، توقع الضرب فلا تبين أناملها اللمس، وتضرب بالدّفّ فلا يظنّ إلا أن البدر في يد الشمس، ولع بها الواثق أشد الولوع، وكان يضنّ بها على من بعده، ويجري «1» الدموع. قال أبو الفرج، قال علي بن يحيى المنجم: حدثني محمد بن الحارث بن بسخنّر قال: كانت لي في خدمة الواثق في كل جمعة نوبة، إذا حضرت، ركبت إلى الدار، فإن نشط للشرب [ص 35] أقمت عنده، وإن لم ينشط انصرفت، وكان رسمنا ألا يحضر أحد منا إلا في يوم نوبته، فإني لفي منزلي في غير يوم نوبتي، إذا رسل الواثق قد هجموا عليّ وقالوا لي: احضر، قلت: لخير؟ قالوا: خيرا إن شاء الله، فقلت: إن هذا يوم لم يحضرني فيه أمير المؤمنين قط، ولعلكم غلطتم، قالوا: الله المستعان، لا تطل وبادر، فقد أمرنا أمير المؤمنين أن لا ندعك تستقر على الأرض، فداخلني فزع عظيم، وخفت أن يكون ساع سعى عليّ، أو بلية قد حدثت في رأي الخليفة فيّ، فتقدمت لما أردت حتى وافيت الدار [فذهبت] لأدخل «2» من حيث كنت أدخل، فمنعت، وأخذ بيدي الخادم، فعدلوا بي إلى ممرات لا أعرفها، فزاد ذلك من جزعي، ثم لم يزل [الخدم] يسلموني من خدم إلى خدم حتى أفضيت إلى دار مفروشة الصحن «3» ، ملبسة الحيطان بالوشي المنسوج بالذهب، ثم أفضيت إلى رواق أرضه وحيطانه ملبسة

كذلك، ثم نظرت فإذا الواثق في صدره على سرير مرصع بالجوهر، وعليه ثياب منسوجة بالذهب، وإلى جانبه فريدة جاريته عليها مثل ثيابه وفي حجرها عود، فلما رآني قال: جودت «1» والله يا محمد إلينا «2» ، فقبلت الأرض، وقلت: خيرا يا أمير المؤمنين، قال: خيرا، أما ترانا: طلبت والله ثالثا يؤنسنا، فلم أر أحق بذلك منك، بحياتي بادر وكل شيئا وعجّل إلينا، فقلت: قد والله يا سيدي أكلت وشربت آنفا، قال: فاجلس، فجلست، وقال: هاتوا لمحمد رطلا في قدح [فأحضرت] ، فاندفعت فريدة تغني: «3» [الطويل] أهابك إجلالا وما بك قدرة ... عليّ ولكن ملء عين حبيبها وما هجرتك النّفس أنّك «4» عندها ... قليل ولكن قلّ منك نصيبها فجاءت والله بالسحر، ثم إن الواثق جعل يحادثها في خلال ذلك وتغني الصوت بعد الصوت، وأغني أنا أيضا في خلال غنائها، فمّر لنا يوم حسن، ما مرّ لأحد مثله، فإنا لكذلك إذ رفع رجله فضرب بها صدر فريدة ضربة فدحرجها من السرير إلى الأرض، وتفتت عودها ومرت تصيح، وبقيت كالمنزوع الروح، لم أشك في أن عينه وقعت عليّ، وقد نظرت إلى الأرض، وأطرقت أتوقع ضرب العنق، فأنا كذلك إذ قال: يا محمد، فوثبت قائما، فقال: ويحك، أرأيت ما اتفق، علينا؟ قلت: يا سيدي، الساعة تخرج روحي، فقل لي، من أصابنا بالعين [ص 36] لعنه الله، وما كان السبب؟ قال: لا والله، ولكني فكرت أن جعفرا كان يقعد هذا المقعد، وتقعد معه كما هي قاعدة معي، فلم أطق الصبر، وخامرني ما

أخرجني إلى ما رأيت، فسرّي عني، وقلت: بل يقتل جعفر ويحيا أمير المؤمنين أبدا وقبّلت الأرض وقلت: الله الله يا أمير المؤمنين ارحمها فأمر بردّها، فقال لبعض الخدم الوقوف من يجيء بها، فلم يكن بأسرع من أن أقبلت وفي يدها عودها، وعليها غير الثياب التي كانت عليها، فلما رآها جذبها إليه وعانقها، فبكت وجعل يبكي، واندفعت أنا في البكاء، وقالت: ما ذنبي يا مولاي، وبأي شيء استوجبت هذا، فأعاد عليها ما قاله لي وهو يبكي، فقالت: سألتك الله يا أمير المؤمنين إلا ضربت عنقي السّاعة وأرحتني من الفكر في هذا، وأرحت نفسك من الهم، وجعلت تبكي ويبكي، ثم مسحا أعينهما، ورجعت إلى الغناء، وأومأ إلى خدم فمضوا وأحضروا أكياسا فيها عين وورق «1» ، ورزما فيها ثياب كثيرة، وجاء خادم بدرج ففتحه فأخرج منه عقدا ما رأيت مثله قط فألبسها إيّاه، وأحضرت بدرة «2» فيها عشرة آلاف درهم فوضعت بين يديّ، وخمسة تخوت «3» ثياب، وعدنا إلى أمرنا، وإلى أحسن ما كنا فيه، فلم نزل كذلك إلى الليل، ثم تفرقنا. وضرب الدهر من ضربه، وتقلد المتوكل الخلافة، فو الله إني لفي منزلي في غير يوم نوبتي، إذ هجم عليّ رسل الخليفة، فما أمهلوني حتى ركبت وصرت إلى الدار، فأدخلت والله الحجرة بعينها، وإذا المتوكل في الموضع الذي كان فيه الواثق بعينه، وعلى ذلك السرير، وإلى جانبه فريدة، فلما رآني قال: ويحك ما ترى ما نحن فيه من هذه! أنا من غدوة أطلبها أن تغني فتأبى ذلك، فقلت: سبحان الله، تخالفين سيدك وسيد البشر، بحياته غني، فضربت والله العظيم واندفعت

12 - الدلال

تغنّي: «1» [الوافر] مقيم في ضريح لا يرجّى ... إياب منه إلا في المعاد فلا تبعد فكلّ فتى سيأتي ... عليه الموت يطرق أو يغادي ثم رمت بالعود إلى الأرض، ورمت نفسها عن السرير، وقامت تعدو وهي تصرخ: وا سيّداه، فقال [لي] : ويحك ما هذا؟ فقلت: ما أدري، قال: ويحك ما ترى؟ فقلت: أرى والله يا سيدي [ص 37] أن أنصرف أنا وتحضر هذه ومعها عودها، وتحضر غيرها من الجواري، فإن الأمر يؤول إلى ما يحب أمير المؤمنين، قال: فانصرف في حفظ الله، فانصرفت، ولم أدر ما كانت القصة بعد ذلك. 12- الدّلال «2» ألأم لئيم، وأخبث زنيم، وأقبح مؤنث مذكر، وساع بين اثنين في منكر، سواء لديه شهوات الرجال والنساء، وبياض الصباح وظلمة المساء، قد انغمس في القبيح، وارتكز في الغش ذي النصيح «3» ، كان يسلك المنهجين، ويهتك الفرجين، ويهلك في الزوجين مع الوقوع، فذهب مفتونا، وخلد في النار ملعونا. قال أبو الفرج: لم يكن في المخنثين أحسن وجها، ولا أنظف ثوبا ولا أظرف

من الدلال، وهو أحد من خصاه ابن حزم، فلما فعل ذلك به قال: الآن تمّ الخنث. قال: وإذا تكلّم أضحك الثكلى، وكان مبتلى بمخاطبة النساء «1» ، فكان كل من أراد خطبة من امرأة جليلة سأله عنها وعن غيرها، ولا يزال يصف له واحدة واحدة حتى ينتهي إلى ما يعجبه منهن. قال مصعب الزبيري: أنا أعلم خلق الله بالسبب الذي من أجله خصي الدّلال، وذلك أنّه [كان] القادم يقدم المدينة فيسأل عن امرأة يتزوجها، فيدلّ على الدلال، فإذا جاء فقال صف لي من تعرف من النساء للتزويج، فلا يزال يصف واحدة واحدة حتى يوافق قوله، فيقول: كيف لي بذلك، فيقول: امهرها كذا وكذا، فإذا رضي بذلك، أتاها الدلال فقال لها: إني قد أصبت لك زوجا وهو هيئته ويساره، ولا عهد له بالنساء، وإنما قدم [بلدنا] آنفا، ولا يزال بذلك يشوّقها ويحرّكها حتى تطيعه، فيأتي الرجل فيعلمه أنّه قد أحكم ما أراد، فإذا سوّي الأمر تزوجته الامرأة وقال لها: قد آن لهذا الرجل أن يدخل بك، والليلة موعده، وأنت مغتلمة «2» شبقة جامّة، فساعة يجامعك [يراك] قد دفعت عليه مثل سيل العرم، فيقذرك ولا يعاودك، وتكونين «3» من أشأم الناس على نفسك وعلى غيرك، فتقول: ما أصنع؟ فيقول لها: أنت أعلم بدواء فرجك ودائه، وما يسكن عليه، فتقول له، ما أعرف شيئا أشفى من الجماع، فيقول لها: إن لم تخافي من الفضيحة فابعثي إلى بعض الزنوج حتى يقضي بعض وطرك، ويكفّ عادية فرجك، فتقول له: ويلك، ولا كل هذا، فلا تزال المحاورة بينهما حتى

يقول: فكما جاء عليّ فأنا أقوم أخففك وإني إلى التخفيف أحوج، فتقول المرأة: هذا الأمر مستور [ص 38] . فيجامعها، حتى إذا قضى لذته منها، قال لها: أما أنت فقد استرحت وأمنت العيب، وبقيت أنا. ثم يجيء إلى الزوج فيقول له «1» : قد وعدتها أن تدخل إليك الليلة، وأنت رجل غريب عزب، ونساء أهل المدينة يريدون المطاولة، وكأني بك لما تقربها تفرغ وتقوم، فتبغضك وتمقتك، ولو أعطيتها الدنيا، ولا تنظر في وجهك بعدها، ولا يزال في مثل هذا القول حتى يعلم أنه قد هاجت شهوته، فيقول: تطلب زنجية تجامعها مرتين أو ثلاثة حتى يسكن عليك، فإذا دخلت الليلة بأهلك لم تجد أمرك إلا جميلا، فيقول له: أعوذ بالله من هذا الحال، زنا وزنجية؟ لا والله ما أفعل، فإذا أكثر محاورته فيقول له: قم فافعل بي أنا حتى تسكن عليك غلمتك وشبقك، فيفرح، ويفعل ذلك مرة أو مرتين، فيقول له: قد استوى أمرك وطابت نفسك، فتدخل على زوجتك فتجامعها مجامعة تملأها سرورا ولذة، فيقرب المرأة قبل زوجها، والرجل قبل امرأته، فكان ذلك دأبه، فبلغ ذلك سليمان بن عبد الملك، وكان غيورا، فأمر بأن يخصى هو وسائر المخنثين، وقال: إن هؤلاء يدخلون على نساء قريش ويفسدونهن، فورد الكتاب على ابن حزم [فخصاهم] . وقد قيل إن الذي هيج سليمان بن عبد الملك على ما فعله بمن كان بالمدينة من المخنثين أنه كان مستلقيا على فراشه في الليل، وجارية إلى جانبه، وعليها غلالة ورداء معصفران، وعليها وشاحان من ذهب، وفي عنقها فضلات من حب لؤلؤ وزبرجد وياقوت، وكان سليمان بها مشغوفا، وفي عسكره رجل يقال له سمير الأيلي يغنّي، فلم يفكر سليمان في غنائه شغلا بها، وإقبالا عليها وهي لاهية عنه لا تجيبه مصغية إلى الرجل، حتى طال ذلك على سليمان، فحول وجهه مغضبا، وعاد إلى ما كان من

همه بها، فسمع سميرا يغني بأحسن صوت وأطيب نغمة: «1» [البسيط] محجوبة سمعت صوتي فأرّقها ... من آخر الليل لما طلّها السّحر تدني على جيدها ردني معصفرة ... والحلي فيها على لبّاتها خصر في ليلة النّصف ما يدري مضاجعها ... أوجهها عنده أبهى أم القمر لو خلّيت لمشت نحوي على قدم ... تكاد من رقّة للمشي تنفطر قال: فلم يشكّ سليمان أن الذي بها مما سمعت، وأنها تهوى سميرا، فوجه من وقته بمن أحضره ودعا [ص 39] لها بالسيف والنطع، وقال لها: والله لتصدقنّي، أو لأضربن عنقك، قالت: سلني عما تريد، قال: أخبريني عما بينك وبني هذا الرجل، قالت: والله ما أعرفه ولا رأيته قط، وأنا جارية منشئي الحجاز، ومن هنالك حملت إليك، والله ما أعرف بهذه البلاد أحدا سواك، فرقّ لها، وأحضر الرجل فسأله عن مثل ذلك وتلطف في المسألة، فلم يجد بينه وبينها شائبة، ولم تطب نفسه بتخليته سويا فخصاه، وكتب إلى جميع عمّاله بذلك. قال: لما أخصى المخنثين مرّ بابن أبي عتيق فقال: أخصيتم الدّلال، والله لقد كان يجيد: «2» [مجزوء الوافر] لمن ربع بذات الجي ... ش أمسى دارسا خلقا «3» ثم رجع فقال: إنما أعني خفيفه، لست أعني ثقيله. قال حمزة النوفلي: صلّى الدّلال المخنث إلى جانبي فضرط ضرطة هائلة سمعها من في المسجد فرفعنا رؤوسنا وهو ساجد يقول في سجوده رافعا صوته:

سبح لك أعلاي وأسفلي، فلم يبق أحد في المسجد إلا فتن وقطع صلاته بالضحك. قال المدائني: اختصم شيعيّ ومرجئيّ «1» ، فجعل «2» بينهما أول من يقطع «3» حكما، فقطع الدلال فقال: يا أبا زيد، أيهما خير الشيعيّ أم المرجئيّ؟ قال: لا أدري، إلا أن أعلاي شيعي وأسفلي مرجئ. قال: قدم مخنث من مكة، فجاء الدلال فقال له: يا أبا زيد، دلّني «4» على بعض مخنثي المدينة أكايده وأمازحه وأحادثه، قال: قد وجدته لك، وكان خثيم بن غزال صاحب شرطة زياد بن عبيد الله جاره، وقد خرج في ذلك الوقت ليصلي في المسجد، فقال: الحقه في المسجد، فإنه يقوم فيه ليصلي ليرائي الناس، فإنك ستظفر بما تريد منه، فدخل المسجد وجلس إلى جانب ابن غزال، فقال: عجلي صلاتك لا صلى الله عليك، قال خثيم: سبحان الله، فقال المخنث: سبحت في جامعة «5» فرّاجة، انصرفي حتى أتحدث معك، فانصرف خثيم من صلاته، وعاد بالشرط، فقال: خذوه، فأخذوه [فضربوه] مئة سوط وحبسوه. قال إسحاق: صلى الدّلال يوما خلف الإمام بمكة فقال: «وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» «6» ، قال الدّلال: لا أدري والله، فضحك أكثر الناس، وقطعوا الصلاة.

قال: سأل رجل الدّلال أن يزوجه امرأة فزوجه، فلما أعطاه صداقها وجاء بها إليه ودخل بها، فلما قام يواقعها ضرطت قبل أن يطأها، فكسل عنها ومقتها، وأمر بها فأخرجت، وبعث إلى [ص 40] الدّلال فعرفه ما جرى عليه، فقال له الدلال: فديتك هذا من عزة «1» نفسها. فقال: دعني منك، فإني قد أبغضتها، فاردد إليّ دراهمي، فردّ بعضها فقال: لم رددت بعضها، وقد خرجت كما دخلت؟ قال: للروعة التي أدخلتها على استها، فضحك وقال: أنت أقضى الناس وأفقههم. قال: خرج الدّلال يوما إلى نزهة مع فتية، وكان معهم غلام جميل الوجه، وجلس يشرب، وسألوه أن يغنيهم فغناهم: «2» [الطويل] زبيرّية بالعرج منها منازل ... وبالخيف من أدنى منازلهم رسم «3» أسائل عنها كلّ ركب لقيته ... ومالي بها من بعد مكّتها علم أيا صاحب الجامات من بطن أرثد ... إلى النخل من ودّان ما فعلت نعم «4» فإن تك حرب بين قومي وقومها ... فإني لها في كل نائرة سلم «5» قال: فطرب القوم وصاحوا، فنذر بهم السلطان وتعادت «6» الشّرط، فأحسوا

بالطلب، فهربوا وبقي الغلام والدّلال ما يطيقان براحا من فرط السكر، فأخذا وأتي بهما أمير المدينة، فقال للدّلال: يا فاسق، قال: من فمك إلى السماء، فقال: يا عدو الله، وما وسعك بيتك حتى خرجت بهذا الغلام إلى الصحراء تفسق به؟ قال: لو علمت أنك تغار علينا وتشتهي أن نفسق به سرا ما خرجت به من بيتي. قال: جردوه واضربوه حدّا، قال: وأي شيء ينفعك هذا، وأنا والله أضرب في كل يوم حدودا، قال: ومن يتولى ذلك؟ قال: أيور المسلمين، قال: ابطحوه واجلسوا على ظهره، قال: أحسب الأمير قد اشتهى أن يراني كيف أناك، قال: أقيموه لعنه الله وأشهروه في المدينة مع الغلام، فأخرجا يدار بهما في السّكك، فقيل له: ما هذا يا دلال، قال: اشتهى الامير أن يجمع بين الرأسين، فجمع بيني وبين هذا، ونادى علينا، ولو قيل له الآن إنّك قوّاد غضب، فبلغ خبره الوالي، فقال: خلّوا سبيلهما لعنة الله عليهما. قال: كان سليمان بن عبد الملك يبلغه نوادر الدّلال وطيبه وحديثه، فوجه مولى له وقال: جئني به سرّا، فنفذ المولى إليه وأعلمه ما أمر به، فخرج معه إلى الشام، فدخل على سليمان ليلا، فقال: ويلك ما خبرك؟ قال: جببت من القبل مرة يا أمير المؤمنين، فهل تريد أن تجبني الكرة من الدّبر؟ فضحك [ص 41] . وقال: اغرب أخزاك [الله] ، ثم قال له: غنّ، فغنّاه في شعر العرجي: «1» [الطويل] أفي رسم دار دمعك المتحدّر ... سفاها وما استنطاق ما ليس يخبر تغيّر ذاك الرّبع من بعد جدّة ... وكلّ جديد مرّة يتغيّر

13 - أبو سعيد مولى فائد

فقال له سليمان: حق لك يا دلال أن يقال لك أحسنت وأجملت، فو الله ما أدري أيّ أمريك أعجب، سرعة جوابك أم حسن غنائك وجودة فهمك، بل جميعا عجب، وأمر له بصلة سنيّة، وأقام عنده شهرا يشرب على غنائه، ثم سرحه إلى الحجاز. قال: كان الدّلال لا يشرب النبيذ، فخرج مع قوم إلى متنزّه لهم، ومعهم نبيذ، فشربوا وسقوه عسلا مجدوحا «1» ، فكان كلما تغافل صبوا عليه نبيذا، فلا ينكر حتى كثر ذلك وسكر وطرب، فقال: اسقوني من شرابكم، فسقوه حتى ثمل ونام عريانا، فغطاه القوم بثيابهم وحملوه إلى منزله ليلا فنوّموه وانصرفوا عنه، فأصبح وقد تلوثت ثيابه، فأنكر نفسه، فحلف أن لا يغنّي أبدا ولا يعاشر من يشرب نبيذا، فوفى بذلك إلى أن مات، وكان يجالس المشيخة والأشراف فيفيض معهم في اخبار الناس وأيامهم حتى قضى نحبه. 13- أبو سعيد مولى فائد «2» رجل حق وباطل، ودينه محلّى وعاطل، لم يحبط بمروءته الغناء، ولا أثّر في مروءته الغناء، وكان على اشتهاره بالغناء ومداومته وإقامة شوقه ومقاومته من

رجال أهل المدينة، عرضا مصونا وجنابا حصينا، لا ينظر بعين نقيصة، ولا يرى إلا والمسامع على أصواته حريصة، فكان لا يرى مسئولا، ولا يبرح يداوي بريئا ومتبولا. قال أبو الفرج الاصبهاني: ذكر أن أبا سعيد مولى فائد حضر مجلس محمد بن عمران التميمي قاضي المدينة لأبي جعفر المنصور، وكان مقدما لأبي سعيد، فقال له: يا أبا سعيد، أنت القائل: «1» [الطويل] لقد طفت سبعا قلت لما قضيتها ... ألا ليت هذا لا عليّ ولا ليا يسائلني صحبي فما أعقل الذي ... يقولون من ذكر لليلى اعترانيا قال: لعمر أبيك إنّي لقائله، وإني لأدمجه إدماجا من لؤلؤ، فرد محمد بن عمران شهادته في ذلك المجلس، وقام أبو سعيد من مجلسه مغضبا وحلف أن لا يشهد عنده [ص 42] أبدا، فأنكر أهل المدينة ردّ شهادته، وقالوا لابن عمران: عرّضت حقوقنا للبوار وأموالنا للتّلف، لأنا كنا نستشهد هذا الرجل لعلمنا ما كنت عليه، والقضاة من قبلك من الثقة به وتقديمه وتعديله، فندم ابن عمران على ردّ شهادته ووجّه إليه فسأله حضور مجلسه والشهادة عنده ليمضي شهادته، فامتنع وذكر أنه لا يقدر على حضور مجلسه ليمين لزمته، إن حضر حنث «2» ، قال: فكان ابن عمران إذا ادعى أحد عنده شهادة أبي سعيد، صار إلى منزله وإلى مكانه من المسجد حتى يسمع ويسأله عما يشهد به فيخبره، وكان محمد بن عمران كثير اللحم كبير العجز صغير القدمين دقيق الساقين، يشتد عليه المشي، وكان كثيرا ما يقول: لقد أتعبني هذا الصوت «لقد طفت سبعا» وأتعبني «3»

وأضرّ بي إضرارا طويلا، وأنا رجل ثقال بترددي «1» إلى أبي سعيد لأسمع شهادته. وتمام الأبيات: إذا جئت باب الشّعب شعب ابن عامر ... فأقرئ غزال الشّعب منّي سلاميا «2» وقل لغزال الشّعب هل أنت تارك ... لشعبك أم هل يصبح القلب ثاويا «3» لقد زادني الحجّاج شوقا إليكم ... وإن كنت قبل اليوم للحجّ قاليا وما نظرت عيني إلى وجه قادم ... من الحجّ إلا بلّ دمعي ردائيا قال إسحاق: حججت مع الرشيد، فلما قربت من مكة استأذنته في التقدم، فأذن لي، فدخلت مكة، فسألت عن أبي سعيد مولى فائد، فقيل لي هو بالمسجد الحرام، فأتيت المسجد فدللت عليه، فإذا هو قائم يصلي، فجلست قريبا منه، فلما فرغ قال: يا فتى ألك حاجة؟ قلت: نعم، تغنيني «لقد طفت سبعا» ، فقال لي أو أغنيك أحسن منه؟ قلت: أنت وذاك، فاندفع يغني شعره: «4» [الخفيف] إنّ هذا الطويل من آل حفص ... نشر المجد بعد ما كان ماتا وبناه على أساس وثيق ... وعماد قد أثبتا إثباتا «5» مثل ما قد بنى له أوّلوه ... وكذا يشبه النبات النباتا «6» فأحسن فيه، فقلت يا أبا سعيد: «فغنني لقد طفت سبعا» ، قال: أو أغنيك

ما هو أحسن منه؟ [ص 43] ، فقلت: أنت وذاك فغنّى «1» فاندفع وقال: «2» [الكامل] قدم الطويل فأشرقت واستبشرت ... أرض الحجاز وبان في الأشجار «3» إنّ الطويل من ال حفص فاعلموا ... ساد الحضور وساد في الأسفار فأحسن فيه، فقلت: أحسنت يا أبا سعيد، فغنّني «قد طفت سبعا» ، فقال: أو أغنيك ما هو أحسن منه: «4» [قال: فغنّني؛ فغناه] «5» [الخفيف] أيّها السائل الذي يخبط الأر ... ض دع النّاس أجمعين وراكا وأت هذا الطويل من آل حفص ... إن تخوّفت غفلة او هلاكا «6» فأحسن فيه، فقلت: غنني «قد طفت سبعا» فقد أحسنت فيما غنّيت، ولكني أحب أن تغنّيني ما سألتك فيه، فقال: لا سبيل إلى ذلك، لأني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في منامي وفي يده شيء لا أدري ما هو، وقد رفعه ليضربني به وهو يقول: يا أبا سعيد، لقد طفت سبعا، ما صنعت بأمتي [في] هذا الصوت؟ فقلت: بأبي أنت وأمي اغفر لي، فو الذي بعثك بالحق نبيا لا غنّيت هذا الصوت أبدا، فردّ يده عني وقال: عفا الله عنك إذا، ثم انتبهت. وما كنت لأعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا في منامي، فأرجع فيه في يقظتي.

قال إسحاق: فبكيت «1» وقلت: لا تعد يا أبا سعيد في غنائه، فقال: إذا أردت أن تسمعه فاسمعه من منّة جارية البرامكة، فودعته وانصرفت. قال إبراهيم بن المهدي: كنت بمكة في المسجد الحرام، فإذا شيخ قد طلع، وقد قلب إحدى نعليه على الأخرى، فسألت عنه فقلت: من هذا، فقيل هو أبو سعيد مولى فائد، فقلت لبعض الغلمان: احصبوه، فحصبوه، فأقبل عليّ وقال: ما يظن أحدكم إذا دخل المسجد إلا أنه له، فقلت للغلام؛ ما يقول لك أبلغني، فقال له أبو سعيد: ومن مولاك حفظك الله؟ فقال: مولاي إبراهيم بن المهدي، فقام فجلس بين يديّ، فقال: لا والله بأبي أنت وأمي ما عرفتك، فقلت: لا عليك، أخبرني [عن] هذا الصوت: «2» [المتقارب] أفاض المدامع قبلي الكرى ... وقتلى بكثوة لم ترمس «3» فقال: هو لي ورب هذا البيت، لا تبرح حتى تسمعه، ثم قلب إحدى نعليه وأخذ [ص 44] بعقب الأخرى وجعل يقرع بحرفيها على الأخرى ويغنّيه حتى أتى عليه، فأخذته منه، وهذا البيت من قصيدة يرثي بها «4» أبو سعيد بني أمية الذين قتلهم عبد الله وداود ابنا عليّ بن عبد الله بن عباس: «5» [المتقارب] أولئك قومي أناخت بهم ... نوائب من زمن متعس

إذا ركبوا زيّنوا الموكبين ... وإن جلسوا زينة المجلس هم أضرعوني لريب الزّمان ... وهم ألصقوا الرّغم بالمعطس «1» قال: لما وضع رأس مروان «2» بين يدي أبي عباس، خرّ لّله ساجدا، وقال: الحمد لله الذي أظفرني بك، وأظهرني عليك ولم يبق ثاري قبلك وقبل رهطك أعداء الدين، ثم تمثل قول ذي الإصبع العدواني: «3» [البسيط] لو يشربون دمي لم يرو شاربهم ... ولا دماؤهم للغيظ ترويني قال: نظر عبد الله بن علي في القتال إلى فتى عليه أبهة الشرف وهو يقاتل مستقبلا، فناداه: يا فتى، لك الأمان ولو كنت مروان بن محمد الأكبر، قال: إلا أكنه «4» فلست بدونه، قال: فلك الأمان من كنت، فأطرق ثم قال: «5» [المتقارب] أذلّ الحياة وكره الممات ... وكلا أراه طعاما وبيلا «6» فإن لم يكن غير إحداهما ... فسيرا إلى الموت سيرا جميلا ثم قاتل حتى قتل، فإذا هو [ابن] «7» مسلمة بن عبد الملك. قال الزبير: سبب قتل السّفاح بني أمية بحضرته، أن السّفاح مدح بقصيدة، فأقبل على بعضهم فقال: أين هذا مما مدحتم به، فقال: هيهات لا يقول والله

14 - فليح بن أبي العوراء

أحد فيكم مثل ما قال ابن قيس الرقيات فينا: «1» [المنسرح] ما نقموا من بني أميّة إلا ... أنهم يحلمون إن غضبوا وأنّهم معدن الملوك ولا ... تصلح إلا عليهم العرب فقال: يا ماصّ كذا وكذا، إن الخلافة لفي شكّ «2» بعد! خذوهم، فأخذوا وقتلوا، ثم أمر ببساط فبسط عليهم، ودعا بالغداء، فجلس فوقه يأكل وهم يضطربون تحته، فلما فرغ [من الأكل] قال: ما أعلم أني أكلت أكلة قط كانت أطيب ولا أهنأ من هذه في نفسي [ص 45] فلما رفع الطعام قال: جرّوا بأرجلهم فالقوهم في الطريق ليلعنوهم «3» أمواتا كما لعنوهم أحياء. قال: فرأيت الكلاب تجر بأرجلهم وعليهم سراويلات الوشي، حتى أنتنوا، وحفرت لهم بئر فألقوا فيها، وقال ابن هرمة في ذلك: «4» [البسيط] فلا عفا الله عن مروان مظلمة ... ولا أميّة بئس المجلس النّادى كانوا كعاد فأمسي الله أهلكهم ... بمثل ما أهلك الماضين من عاد 14- فليح بن أبي العوراء «5» رجل طالما ندّم نديما، وعادت صباه عقيما، تمرّ به الرياح مرورها

بالخيف «1» ، ويقوم به السرور فيميل بالحيف، فكان يثقل على محاضره، وينغص على جليسه وناظره، لكنه كان من الجلّة السوابق، وأهل التقدم المأخوذة عنهم الطّرائق، ما غنّى إلا أطرب، ولا قال إلا أعرب. قال أبو الفرج الأصفهاني، قال محبوب بن الهفتي: دعاني محمد بن سليمان فقال: قدم فليح بن أبي العوراء من الحجاز وقد نزل عند مسجد ابن رغبان «2» ، فسر إليه وأعلمه إن جاءني قبل أن يدخل إلى الرشيد خلعت عليه خلعة من ثيابي، ووهبت له خمسة آلاف درهم، فمضيت فأخبرته بذلك، فأجابني إليه إجابة مسرور به، نشيط له، وخرج معي فعدل إلى حمام كان بقربه، فدعا القيّم فأعطاه درهمين، وسأله أن يجيئه بشيء يأكله ونبيذ يشربه، فجاءه بشراب ورأس عجل ودوشابي «3» غليظ مسحوري «4» رديء، فقلت: لا تفعل وجهدت به أن لا يأكل ولا يشرب إلا عند محمد بن سليمان فلم يلتفت إليّ، وأكل من ذلك الرأس وشرب من ذلك النبيذ حتى طابت نفسه، [وغنى] وغنى القيّم معه مليّا، ثم خاطب القيّم بما أغضبه، وتلاحيا «5» وتواثبا، فأخذ القيّم شيئا [فضربه به على] رأسه فشجه حتى جرى دمه، فلما رأى الدم سائلا على وجهه، اضطرب وجزع، ثم قام فغسل وجهه، وعاجله بصوفة محروقة وزيت

وعصابة، وتعمّم وقام معي، فلما دخلنا دار محمد بن سليمان، ورأى الفرش والآلة وحضر الطعام ورأى سروره وطيبه، وحضر النبيذ وآلته، ومدّت الستائر، وغنّى الجواري، أقبل عليّ وقال: يا مجنون، سألتك بالله، أيما أحق بالعربدة واولى، منزل القيم أو مجلس الأمير؟ فقلت: وكأنه لا بد من [ص 46] عربدة، قال: لا والله مالي منها بدّ، فأخرجتها من رأسي هناك، فقلت: أما على هذه الشريطة فالذي فعلت أجود، فسألني محمد بن سليمان عما كان منه، فأخبرته، فضحك ضحكا كثيرا وقال: هذا الحديث والله أظرف وأطيب من كل غناء، وخلع عليه وأعطاه خمسة آلاف درهم. قال فليح بن أبي العوراء: كان في المدينة فتى يعشق ابنة عم [له] ، فوعدته أن تزوره، وشكا إليّ أنها تأتيه ولا شيء عنده، فأعطيته كسر دينار للنفقة، فلما زارته قالت له: من يلهينا؟ قال: صديق لي ووصفني لها، ودعاني فأتيته، وكان اول ما غنيت: «1» [الوافر] من الخفرات لم تفضح أخاها ... ولم ترفع لوالدها شنارا «2» فقامت إلى ثوبها لتلبسه وتنصرف، فعلق بها، وجهد أن تقيم، فلم تقم، وانصرفت، وأقبل علي يلومني في أن غنيت ذلك الصوت، فقلت: لا والله ما هو شيء اعتمد فيه مساءتك، ولكنه شيء اتفق، قال: فلم نبرح إذ عاد رسولها بعدها ومعه صرة [فيها ألف دينار] دفعها إلى الفتى وقال له: تقول لك ابنة عمك، هذا مهري ادفعه إلى أبي واخطبني، ففعل ذلك وتزوجها. والبيت

15 - الهذلي

للسليك بن السلكة، وبعده: كأنّ مجامع الأرداف منها ... نقا درجت عليه الرّيح هارا «1» يعاف وصال ذات البذل قلبي ... ويتبع الممنّعة النّوارا «2» ومنهم: 15- الهذلي «3» كان من القدماء المشاهير من أهل الغناء في المجاهير، لم يذكر معه أحد زاد في حسن الصنعة إلا انتقص، ولا أمال إليه أحد نجوى سمعه إلا رقص، لو سمعه صاحبه أبو ذؤيب «4» لأنساه ثكل بنيه وسلاه، إذ كان غناؤه في التسلي يغنيه، ولما عرف أنه بين الشعراء يتفجع، ولما رئي إلا مسرورا لا يقول: «أمن المنون وريبها تتوجع» «5» .

16 - مالك بن [أبي] السمح

قال أبو الفرج: وكان فتيان قريش يغدون إليه وقد عمل عمله بالليل، ومعهم الطعام والشراب والدراهم، فيقولون: قد جئنا، فيقول: الوظيفة الأخرى، أنزلوا أحجاري، فيلقون ثيابهم ويأتزرون بأزرهم وينقلون الحجارة وينزلونها، ثم ينزل على شنخوب «1» [ص 47] من شناخيب الجبل، ويجلسون تحته في السهل، يشربون وهو يغنيهم حتى المساء وكانوا كذلك مدة. قال إسحاق: زوج ابن سريج لما حضرته الوفاة الهذلي بابنته، فأخذ عنها أكثر غنائه وادّعاه، فغلب عليه، وولدت ابنا، فلمّا يفع جاز يوما بأشعب «2» وهو جالس في فتية من قريش، فوثب فحمله على كتفه، وجعل يرقصه، ويقول: هذا ابن مزامير داود، فقيل له: ويلك ما تقول، ومن هذا الصبي؟ قال: أو ما تعرفونه، هذا ابن الهذلي من ابنة ابن سريج، ولد على عود، واستهل على غناء «3» ، وحنك «4» بملوى «5» ، وشدت سرته بوتر، وختن بمضراب. 16- مالك بن [أبي] السّمح «6» مطرب لو لم يضمه معبد إليه لكان نظيره أو يزيد عليه، طرح عليه أصواته

فحفظها، وشجا حسّاده وأحفظها، وأخذ جوائز الأمراء، وحصل جزيل الثراء، وكان يرمى بحمق ربما أدّاه إلى صواب الرأي، وهواه، وسبب حياته ومدّ مداه، وأحياه ليميت به عداه. قال أبو الفرج الأصفهاني رحمه الله تعالى، قال الورد «1» : كان مالك بن أبي السمح من طيء، فأصابتهم حطمة «2» في بلادهم بالجبلين «3» ، فقدمت به أمه وأخوه، وأخوات أيتام لا شيء لهم، وكان يسأل الناس عن باب حمزة بن عبد الله ابن الزبير، وكان معبد منقطعا إلى حمزة، يكون عنده ويغنيه، فسمع مالك بن أبي السمح غناءه فأعجبه واشتهاه، وكان لا يفارق باب حمزة، يسمع غناء معبد إلى الليل، ولا يطوف بالمدينة، ولا يطلب من أحد شيئا «4» ولا يريم «5» [موضعه] فينصرف إلى أمه ولم يكسب شيئا فتضربه وهو مع ذلك يترنم بألحان معبد ويؤديها دورا دورا، نغما بغير لفظ، ولا روى شيئا من الشعر، وجعل كلما غدا وراح رآه ملازما لبابه، فقال لغلامه: أدخل هذا الغلام الأعرابي إليّ، فأدخله إليه، فقال له حمزة: من أنت يا غلام؟ قال: أنا غلام من طيء أصابتنا حطمة بالجبلين فحطّتنا إليكم، ومعي أم لي وإخوة، وإني لزمت بابك، فسمعت من دارك صوتا أعجبني فلزمت بابك من أجله، فقال: هل أنت تعرف منه شيئا؟ قال: أعرف لحنه كله ولا أعرف الشعر [ص 48] ، قال: إن كنت صادقا إنك لفهم،

ودعا بمعبد فأمره أن يغني صوتا، فغناه، ثم قال لمالك: هل تستطيع أن تقوله؟ قال: نعم، قال: هاته، فاندفع فغناه وأدى نغمته بغير شعر يؤدي مدّاته وليّاته وعطفاته ونبراته وتعليقاته، ولا يخرم حرفا، فقال لمعبد: خذ هذا الغلام وخرجه فليكونن له شأن، قال معبد: ولم أفعل ذلك؟ قال: لتكون محاسنه منسوبة إليك، وإلا عدل إلى غيرك وكانت محاسنه منسوبة إليه، فقال: صدق الأمير، وأنا أفعل ما أمرني به، ثم قال حمزة لمالك: كيف وجدت ملازمتك لبابنا؟ قال: والله ثم والله، ما شبعت على بابك شبعة قط، ولا انقلبت إلى أهلي منه بخير، فأمر له ولإخوته وأمه بمنزل، وأجرى لهم رزقا وكسوة، وأمر لهم بخادم يخدمهم وعبد يسقيهم الماء، وأجلس مالكا معه في مجلسه، وأمر معبدا أن يطارحه، فلم يلبث أن مهر وحذق، وكان ذلك بعقب مقتل هدبة بن خشرم «1» ، فخرج مالك يوما فسمع امرأة تنوح على زيادة الذي قتله هدبة بشعر أخي زيادة: «2» [الطويل] أبعد الذي بالنّعف نعف كويكب ... رهينة رمس ذي تراب وجندل «3» أذكّر بالبقيا على ما أصابني ... وبقياي أنّي جاهد غير مؤتلي فلا يدعني قومي كريما لحرّة ... لئن لم أعجّل ضربة أو أعجّل «4» فغنّى في هذا الشعر لحنين «5» ، أحدهما نحا فيه نحو المرأة في زوجها ورققه وأصلحه وزاد [فيه] ، والآخر نحا فيه نحو معبد في غنائه، ثم دخل على حمزة

فقال: أيها الأمير إني صنعت غناء [في شعر] سمعته من بعض أهل المدينة ينشده فأعجبني، فإن أذن الأمير غنيته فيه، فقال: هات، فغناه اللحن الذي نحا فيه نحو معبد، فطرب حمزة، وقال: أحسنت يا غلام، هذا الغناء غناء معبد وطريقته، فقال: لا تعجل أيها الأمير واسمع مني شيئا آخر ليس من غناء معبد ولا من طريقته، فقال: هات، فغناه باللحن الذي يشير فيه بنوح المرأة، فطرب حمزة حتى ألقى [عليه] «1» حلّة كانت عليه، قيمتها مئة دينار، ودخل معبد فرأى حلّة حمزة عليه فأنكرها وعلم حمزة بذلك، فأخبر معبدا بالسبب، فأمر مالكا فغناه [ص 49] الصوت «2» ، فقال: قد كرهت أخذها فيعتمد غنائي ويدعيه لنفسه، فقال له حمزة: لا تعجل واسمع غناء صنعه «3» ، ليس من شأنك ولا من طريقتك، وأمره أن يغني اللحن الآخر، فغناه، فأطرق معبد، فقال حمزة: والله لو تفرد بهذا لضاهاك، ثم يتزايد على الأيام، وكلما كبر هو زاد، وكلما شخت أنت نقصت ولأن «4» يكون منسوبا إليك، اجمل، فقال معبد وهو منكسر: صدق الأمير فأمر حمزة له بخلعة من ثيابه وجائزة، حتى طابت نفسه، وسكن، فقام مالك على رجله فقبل رأس معبد، وقال له: يا أبا عباد [أساءك] ما سمعت من غنائي، بالله العظيم لا أغني لنفسي شيئا أبدا ما دمت حيا، فإن غلبتني نفسي فغنيت شعرا استحسنته لأنسبنّه إليك، فطب نفسا وارض عنّي، فقال له معبد: أو تفعل هذا وتفي به؟ قال: إي والله وأزيد، وكان مالك بعد ذلك إذا غنّى صوتا فسئل عنه، قال: هذا لمعبد، ما غنيت لنفسي شيئا قط، وإنما

17 - دحمان الأشقر

آخذ غناء معبد فأنقله إلى الأشعار وأحسّنه وأزيد فيه وأنقص منه. قال ابن عائشة: حضرت الوليد بن يزيد يوم قتل، وكان مالك بن أبي السمح معنا، وكان أحمق الخلق، فلما قتل الوليد قال: اهرب بنا، فقلت: وما يريدون منا؟ فقال: وما يؤمنك أن يأخذوا رأسينا فيجعلوا رأسه بينهما ليخفوا أمرهم بذلك، قال ابن عائشة: فما رأيت منه عقلا قط قبل ذاك اليوم. وفي مالك بن أبي السمح يقول الحسين بن عبد الله بن العباس: «1» [المنسرح] أبيض كالبدر أو كما يلمع ال ... بارق في حالك من الظّلم من ليس يعصيك إن رشدت ولا ... يهتك حقّ الإسلام والحرم «2» فيقال إن مالكا قال له: والله ولا إن غويت أيضا أغضبك 17- دحمان الأشقر «3» نفق على الخلائف، ونفذ من برّهم باللطائف حتى سمت به نفسه إلى رتب الصعود، وطلب مالم ينله إلا ولاة العهود، وكان له على المهدي نفاق، وبكرمه المجدي أرزاق «4» ، وكان أطرب من سمع، وأطيب من عليه جمع، كان إذا غنّى

كأنما يستلّ الأكباد [ص 50] ويستلب في كل لحن قطعة من الفؤاد. قال أبو الفرج: كان يقول: ما رأيت باطلا أشبه بحق من الغناء. ويقال: إن دحمان شهد عند عبد العزيز بن حنظلة «1» وهو يلي القضاء، لرجل من أهل المدينة على رجل من أهل العراق شهادة فأجازها وعدله «2» ، فقال العراقي: إنه دحمان، قال: أعرفه ولو لم أعرفه لسألت عنه، فقال: إنه يغني، ويعلم الجواري الغناء، قال: غفر الله لنا ولك، وأيّنا لا يتغنّى، اخرج إلى الرجل من حقه. قال عمر «3» بن شبّة: بلغني أن المهدي أعطى دحمان في ليلة خمسين ألف دينار، وذلك أنه غناه من شعر الأحوص: «4» [مجزوء الوافر] قطوف المشي إذ تمشي ... ترى في مشيها خرقا «5» فطرب واستخفه السرور حتى قال لدحمان: سلني ما شئت، قال: ضيعتان بالمدينة يقال لهما: ريان وغالب «6» ، فأقطعه إياهما، فلما خرج التوقيع إلى أبي عبد الله وعمر بن بزيع، راجعا المهدي فيه وقالا: إن هاتين الضيعتين لم يملكهما

18 - سياط

قط إلا خليفة، وقد استقطعهما ولاة العهود في أيام بني أمية فلم يعطوها، فقال: والله لا أرجع عنهما إلا بعد أن يرضى، فصولح على خمسين ألف دينار. قال إسحاق: مرّ دحمان الأشقر المغني وعليه رداء جيد، فقال له بعض من حضر: بكم اشتريت هذا يا أبا عمرو؟ فقال: [المنسرح] [ما] ضرّ جيراننا إذ انتجعوا «1» 18- سياط «2» كان سرورا للسامع، وشجا لابن جامع، لا يزال يغيظه ويزهق باقي ذمائه «3» من ليس، ويفيظه «4» ولم تكثر عدد أصواته التي صنفها، وأبياته في الأنغام التي ألفها، إلا أنه يكثر فيها الصناعة، ويظهر فيها البراعة، ويطرب بها ما لا يطرب اليراعة «5» ، وكانت أخباره قلائل، وآثاره عليه دلائل. قال أبو الفرج، قال إسحاق: ولقب هذا اللقب لأنه كان كثيرا ما يغني: «6»

19 - ابن جامع

[الوافر] كأنّ مزاحف الحيّات فيها ... قبيل الصّبح آثار السّياط قال المهدي يوما وهو يشرب لسلامة الأبرش: جئني بسياط وعقال «1» وحبال، فارتاع كل من حضر، وظن جميعهم أنه يريد الإيقاع بهم، فجاء بسياط المغني [ص 51] وعقال المدائني الذي كان يوقع عليه، وحبال الزامر، فجعل الندماء يشتمونهم، والمهدي يضحك. قال: دخل ابن جامع على سياط وقد نزل به الموت، فقال له: ألك حاجة؟ قال: نعم، قال: لا تزد «2» في غنائي شيئا ليس منه، دعه رأسا برأس، فإنما هو ثمانية عشر صوتا. 19- ابن جامع «3» مطرب جليل، ومطر ما عنده قليل، لم يقصر عن إسحاق فيما جمع، ولا تأخر فيما لم يعلق به طمع، وكان لا يرى إلا أن يكون ظيره، وأن يعدّ نظيره «4» ، وله في كل حديث إذا شاء نصيب، وكلام مصيب، إلا أن الغناء كان عليه العلم الذي به عرف، والسبب الذي لولاه لما كان عكف.

قال أبو الفرج: كان حسن السمت «1» ، كثير الصلاة، قد أخذ السجود في جبهته «2» ، وكان يعتم بعمامة سوداء، على قلنسوة، ويلبس لباس الفقهاء، ويركب حمارا مرّيسيّا «3» في زي أهل الحجاز، فبينما هو واقف على باب يحيى بن خالد يلتمس الاذن عليه، إذ أقبل أبو يوسف القاضي بأصحابه أهل القلانس «4» ، فوقف ابن جامع إلى جانبه فالتفت اليه أبو يوسف، فرأى سمته وحلاوة هيئته، فقال له: امتع الله بك، توسمت فيك الحجازية، قال: أصبت، قال: فمن أي قريش؟ قال: من بني سهم، قال: فأي الحرمين منزلك؟ قال: مكة، قال: فمن لقيت من فقهائهم؟ قال: [سل] عمّن شئت، ففاتحه في الحديث فوجد عنده ما أحبّ، فأعجب به، ونظر الناس إليهما فقالوا: هذا القاضي قد أقبل على المغني، وأبو يوسف لا يدري أنه ابن جامع، فقال أصحابه: لو أخبرناه عنه، ثم قالوا: لعله لا يعود إلى مرافقته بعد اليوم، فلم نغمّه، فلما كان في الإذن الثاني ليحيى، غدا عليه الناس، وغدا عليه أبو يوسف، فنظر ابن جامع، فلما رآه ذهب فوقف إلى جانبه، فحادثه كما فعل [في المرة الاولى] فلما انصرف قال له بعض أصحابه: أيها القاضي، أتعرف هذا الذي ترافقه وتحادثه؟ قال: نعم، رجل من قريش من أهل مكة من الفقهاء، قالوا: هذا ابن جامع المغني، قال: إنّا لله، قالوا: إن الناس قد شهدوا مرافقته «5» فأنكروا ذلك من فعلك. فلما كان الإذن الثالث، جاء أبو يوسف ونظر إليه فتنكّبه، وعرف ابن جامع أنّه قد [ص 52]

أنذر، فجاء حتى وقف وسلم عليه، فرد أبو يوسف بغير ذلك الوجه الذي كان يلقاه [به] ، ثم انحرف عنه، فدنا منه ابن جامع، وعرف الناس القصة، وكان ابن جامع جهيرا، فرفع صوته ثم قال: يا أبا يوسف، مالك تعرض عنّي؟ أي شيء أنكرت؟ قالوا لك إني ابن جامع المغني فكرهت مرافقتي «1» ، اسألك عن مسألة فاصنع «2» ما شئت، وأقبل الناس نحوهما مستمعين، فقال: يا أبا يوسف، لو أن أعرابيا جلفا وقف بين يديك، فأنشدك بجفاء وغلظ من لسانه، فقال وحكى الأعرابي: «3» [البسيط] . يا دار ميّة بالعلياء فالسّند ... أقوت وطال عليها سالف الأبد أكنت ترى بذلك بأسا؟ قال: لا، وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في سماع الشعر، وقد روي عنه الحديث. قال ابن جامع: فإن قلت [أنا] هكذا، ثم اندفع يغني فيه حتى أتى عليه، ثم قال: يا أبا يوسف، رأيتني زدت فيه أم نقصت؟ قال: عافاك الله، اعفنا من هذا، قال: يا أبا يوسف، أنت صاحب فتيا، هل زدته أم حسّنته بألفاظي فحسن في السمع، ووصل إلى القلب. ثم تنحّى عنه ابن جامع. قال: دعا الرشيد يوما جعفر بن يحيى، وابن جامع عنده، فلم يزل يغنّيهم يومهما، ثم انصرفا، فلما كان من الغد، دخل إبراهيم الموصلي على جعفر بن يحيى، فسأله عن يومه فقال له: إنّه لم يزل ابن جامع يغنّينا إلا أنه كان يخرج عن الإيقاع- وهو في قوله هذا يريد أن يطيب نفس إبراهيم- قال، فقال إبراهيم: أنت تريد أن تطيب نفسي بما لا تطيب، ألا بالله ما ضرط ابن جامع منذ ثلاثين سنة إلا بإيقاع، فكيف يخرج عن الإيقاع في الغناء؟

كان ابن جامع برّا بوالدته، وكانت مقيمة بمكة، فدعاه إبراهيم بن المهدي فأظهر له كتابا إلى أمير المؤمنين في نعي والدته، فجزع لذلك جزعا شديدا، وجعل يعزيه جميع من حضر، وجاؤوا بالطعام فلم يتركوه حتى أكل وشرب، وسألوه الغناء فامتنع، فقال له إبراهيم: إنك ستبذل هذا لأمير المؤمنين، فابذله لإخوانك، فاندفع يغنّي: «1» [البسيط] كم بالدّروب وأرض الشام من قدم ... ومن مصارع قوم ما هم قبروا بقندهار ومن تقدر منيّته ... بقندهار يرجّم دونه الخبر «2» [ص 53] وجعل إبراهيم يسترده حتى صلح له، ثم قال: لا والله، ما كان مما أخبرناك شيء «3» ، فإنما مزحنا معك، فطابت نفسه، ثم قال له إبراهيم: ردّ عليه الصوت، فغنّاه، فلم يكن من الغناء الأول في شيء، فقال إبراهيم: خذه الآن عليّ، فأدّاه إبراهيم على السماع [الأول] ، فقال له ابن جامع: أحب أن تطرحه أنت عليّ كذلك. قال ابن جامع: ضمني الدهر «4» ضما شديدا بمكة، فانتقلت عنها بعيالي إلى المدينة، فأصبحت يوما ولا أملك إلا ثلاثة دراهم، فهي في كمي، إذا أنا بجارية حميراء، على رقبتها جرة تريد الرّكي «5» تستقي، وهي ترنم بصوت شجي: «6» [الطويل] . شكونا إلى أحبابنا طول ليلنا ... فقالوا لنا ما أقصر الليل عندنا

وذاك بأنّ النّوم يغشى عيونهم ... سراعا ولا يغشى لنا النّوم أعينا «1» إذا ما دنا اللّيل المضرّ بذي الهوى ... جزعنا وهم يستبشرون إذا دنا فلو [أنّهم] كانوا يلاقون مثل ما ... نلاقي لكانوا في المضاجع مثلنا قال: فأخذ الغناء بقلبي، ولم يدر لي منه حرف، فقلت: يا جارية ما أدري أوجهك أحسن أم غناؤك؟ فلو شئت أعدت، قالت: حبا وكرامة، ثم اندفعت فغنّته، فو الله ما دار لي منه حرف، فقلت: أحسنت فلو تفضلت فأعدته مرة أخرى، فقطّبت وكلحت «2» وقالت: ما أعجب أحدكم! لا يزال يجيء إلى الجارية عليها الضريبة فيشغلها، فضربت يدي إلى ثلاثة الدراهم فدفعتها إليها، وقلت لها: أقيمي بها وجهك اليوم إلى أن نلتقي، فأخذتها كالكارهة وقالت: أنت الآن تريد أن تأخذ مني صوتا، أحسبك ستأخذ عليه ألف دينار وألف دينار، قال:: واندفعت تغني، فأعملت فكري في غنائها حتى بان لي الصوت وانصرفت مسرورا إلى منزلي أردّده حتى خفّ على لساني، ثم إني لما خرجت أريد بغداد، دخلتها فنزل بي المكاري على باب المحوّل «3» ، ولا أدري أين أتوجه، ولا من أقصد، فمازلت أمشي مع الناس حتى أتيت الجسر، فعبرت ثم انتهيت إلى الشارع بالميدان، فرأيت مسجدا بالقرب من دار الفضل بن الربيع مرتفعا، فقلت: مسجد قوم سراة، فدخلته وحضرت صلاة المغرب فصلّيت، وأقمت مكاني حتى صليت [ص 53] العشاء الآخرة على جوع وتعب، وانصرف أهل المسجد، وبقي رجل يصلي خلفه جماعة من الخدم وخول «4»

ينتظرون فراغه، فصلّى ملّيا، ثم التفت فقال لي: أحسبك غريبا، فقلت: أجل، فقال: متى كنت في هذه المدينة، فقلت: آنفا، وليس لي بها منزل ولا معرفة، وليست صناعتي من الصنائع المذكورة لأهل الخير، قال: وما صناعتك؟ قلت: الغناء، فوثب مبادرا، فدخل ووكل بي بعض من معه، فسألت الموكّل بي فقال: هذا سلام الأبرش «1» ، قال: فانتهى إلى قصر من قصور الخليفة وجاوز بي من مقصورة إلى مقصورة، حتى أدخلني إلى مقصورة في آخر الدهليز، ودعا بطعام، فأتيت بمائدة عليها طعام من طعام الملوك، فأكلت حتى امتلأت، فإني كذلك إذ سمعت ركضا من الدهليز وقائلا يقول: أين الرجل؟ قال: ها هو ذا، قال: ادعوا له بغسول وخلعة وطيب، ففعل بذلك بي، وحملت على دابة إلى دار الخليفة، فعرفتها بالتكبير والحرس والنيران، فجاوزت مقاصير «2» عدة، حتى صرت إلى دار قوراء «3» فيها أسرة في وسطها قد أضيف بعضها إلى بعض، قال: فأمرني الرجل بالصعود، فصعدت، وإذا رجل جالس عن يمينه ثلاث جوار في حجورهن العيدان، وفي حجر الرجل عود، فرحّب الرجل بي، وإذا مجالس خالية، كان فيها قوم قد قاموا عنها، فلم ألبث أن خرج خادم من وراء الستر، فقال للرجل: تغنّ، فانبعث يغنّي بصوت فيه لي وهو: «4» [البسيط] لم تمش ميلا ولم تركب على قتب ... ولم تر الشّمس إلا دونها الكلل تمشي الهوينى كأنّ الشمس توحشها ... مشي اليعافير في جيآته الوهل «5»

فغنّى بغير إصابة وأوتار مختلفة ودساتين «1» مختلفة، ثم عاد الخادم إلى الجارية التي تليه فقال: تغنّي، فغنت بصوت لي كانت فيه أحسن حالا من الرجل، وهو: «2» [البسيط] يا دار أضحت خلاء لا أنيس بها ... إلا الظّباء وإلا الناشط الفرد «3» أين الذين إذا ما زرتهم جذلوا ... وطار عن قلبي التّشواق والكمد ثم عاد الخادم إلى الجارية الثانية فاندفعت تغني بصوت لحكم الوادي وهو: «4» [الطويل] فو الله ما أدري أيغلبني الهوى ... إذا جدّ جدّ البين أم أنا غالبه فإن أستطع أغلب وإن يغلب الهوى ... فمثل الذي لا قيت يغلب صاحبه [ص 55] ثم عاد الخادم إلى الجارية الثالثة فغنّت بصوت لحنين وهو قوله: «5» [الطويل] مررنا على قيسيّة عامريّة ... لها بشر صافي الأديم هجان «6» فقالت وألقت جانب السّتر دونها ... من ايّة أرض أم من الرّجلان فقلت لها أما تميم فأسرتي ... هديت وأمّا صاحبي فيمان رفيقان ضمّ السّفر بيني وبينه ... وقد يلتقي الشّتى فيأتلفان

قال: ثم خرج الخادم فقال: تغنّ عافاك الله، فغنّيت بصوت الرجل على غير غنائه، فإذا الخادم قد خرج فقال لي ويحك لمن هذا الغناء؟ فقلت: لي، فانصرف عنّي ثم عاد فقال: كذبت، هذا الغناء لابن جامع، ودار الدّور، فلما انتهى إليّ غنيته بصوت الجارية الثانية، فخرج الخادم فقال: ويحك لمن هذا الغناء؟ فقلت: لي، فرجع وخرج فقال: كذبت، هذا لابن جامع، ودار الدّور فلمّا انتهى إليّ الغناء تغنيت بصوت لي [لا] يعرف إلا بي، وهو: «1» [الكامل] عوجي عليّ وسلّمى جبر ... فيم الصّدود وأنتم سفر ما نلتقي إلا ثلاث منى ... حتّى يفرق بيننا النّفر «2» قال: فزلزلت والله الدار عليهم، وخرج الخادم فقال: ويحك، لمن هذا الغناء؟ فقلت: لي، فرجع ثم خرج فقال: كذبت، هذا الغناء لابن جامع، فقلت: أنا إسماعيل بن جامع، قال: فما أشعر إلا وأمير المؤمنين وجعفر بن يحيى قد أقبلا من وراء الستر الذي كان يخرج منه الخادم، فقال له الفضل بن الربيع: هذا أمير المؤمنين قد أقبل إليك، فلما صعد السرير وثبت قائما، فقال لي: ابن جامع؟ فقلت: ابن جامع جعلت فداك يا أمير المؤمنين، فقال لي: ويحك متى كنت في هذه المدينة؟ فقلت: آنفا دخلتها في الوقت الذي علم بي أمير المؤمنين. قال: اجلس ويحك يا بن جامع، ومضى هو وجعفر بن يحيى فجلسا في بعض تلك المجالس، وقال لي: أبشر يا بن جامع وابسط أملك، فدعوت له، ثم قال: غنّني يا ابن جامع غنّني، فخطر ببالي صوت الجارية، فاندفعت أغنّيه، فنظر

الرشيد إلى جعفر وقال: سمعت كذا قط؟ قال جعفر: لا والله ما خرق مسامعي قط مثله، فرفع الرشيد رأسه إلى خادم له بالقرب منه، فدعا [ص 56] بكيس فيه ألف دينار فرمى به إليّ، فصيرته تحت فخذي ودعوت لأمير المؤمنين، فقال جعفر: يا بن جامع، ردّ على أمير المؤمنين الصوت، فرددته وتزيدت في غنائي، فقال له جعفر: يا سيدي، ما تراه كيف يتزيّد في الغناء؟ هذا خلاف ما سمعنا أولا، وإن كان الأمر في اللحن واحدا، ثم دعا بكيس آخر فيه ألف دينار، فجاءني به، فصيرته تحت فخذي، وقال: تغنّ «1» يا إسماعيل ما حضرك، فجعلت أقصد الصوت بعد الصوت مما كان يبلغني أنه يشتري عليه الجواري، فأغنيه فلم أزل أفعل ذلك إلى أن عسعس «2» الليل، فقال: أتعبناك يا إسماعيل هذه الليلة بغنائك، فأعد على أمير المؤمنين الصوت، يعني صوت الجارية، فغنّيت به، فدعا بكيس ثالث فيه الف دينار، قال: فذكرت ما كان من قول الجارية فتبسمت، فقال: يا بن الفاعلة ممّ تتبسّم؟ فجثوت على ركبتي وقلت: يا أمير المؤمنين، الصدق منجاة فقال بانتهار: قل، فقصصت عليه خبر الجارية، فقال: صدقت قد يكون هذا، وقام فنزل عن السرير، وبقيت لا أدري أين أقصد، فابتدرني فرّاشان، فصارا بي إلى دار قد أمر لي بها أمير المؤمنين، ففرشت وجعل فيها جميع ما يكون في مثلها من آلة جلساء الملوك وندمائهم، فدخلت بغداد فقيرا وأصبحت من جلّة أهلها ومياسيرهم. قال: كان ابن جامع يعدّ [صيحة الصوت] «3» قبل أن يصنع عمود اللحن. قال ابن جامع: لولا أن القمار وحبّ الكلاب قد شغلاني ما تركت أحدا من المغنّين يأكل خبزا.

20 - جميلة

قال: أهدى رجل إلى ابن جامع كلبا، فقال: ما اسمه؟ قال: لا أدري، فأخرج دفترا فيه أسماء الكلاب فجعل يدعوه باسم اسم حتى أجابه. 20- جميلة «1» مغنية المدينة ومغنية أهلها عن كل زينة، وكان بيتها منتدى الظرفاء ومنتأى الشرفاء، وفتنة لأهل القريتين، ومظنة لسكان الحرّتين «2» ، لا يفتأ فتيان الحي تبغي ائتلافها وتولي الودّ ورّادها وألافها، ونوت نية صالحة في ترك الغناء فما تركت، وكثر عليها فلو لم تكفّ «3» لأصبحت المدينة وكم فيها مهجة سفكت [ص 57] . قال أبو الفرج، قال إسحاق: بلغني أن جميلة قعدت يوما على فرش لها وقالت لآذنتها: لا تحجبي اليوم عنّا أحدا، واقعدي على الباب، وكلّ من مرّ فاعرضي عليه مجلسي، ففعلت ذلك حتى غصّت الدار بالناس، فقالت جميلة: اصعدوا إلى العلالي، فصعدت جماعة حتى امتلأت «4» السطوح، وتعالى النهار، واشتد الحر، فاستسقى الناس الماء، فدعي لهم بالسويق «5» ، فشرب من أراد، وقام على رؤؤسهم الجواري بالمناديل والمراوح الكبار، ثم قالت: إني رأيت في

منامي شيئا فأفزعني «1» ، وقد خفت أن يكون قد قرب أجلي، وليس ينفعني إلا صالح عملي، وقد رأيت أن أترك الغناء كراهة أن يلحقني منه شيء عند ربي، فقال قوم منهم: نفعك الله وثبت عزمك، وقال آخرون: لا حرج عليك، وقال الشيخ منهم: قد تكلمت الجماعة، وكل حزب بما لديهم فرحون، فاسمعوا قولي وأنصتوا، ثم حمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: يا معشر أهل الحجاز، إنكم متى تخاذلتم فشلتم، ووثب عليكم عدوكم وظفر بكم، فلا تفلحوا بعدها أبدا، قد انقلبتم على أعقابكم لأهل العراق وغيرهم، ممن لم يزل ينكر عليكم ما هو وراثة فيكم، لا ينكره عالمكم، ولا يدفعه عابدكم، وأكثر ما يكون الجلوس عنه لا للتحريم له، لكن الزهد في الدنيا «2» ، لأن الغناء من أكبر اللذات وأسرّ للنفوس من سائر الشهوات، يحيي القلب ويزيد في العقل ويسر النفوس، ويفسح في الرأى، وتسر به العين، وتفتح به الحصون، وتذلل به الجبابرة، حتى يمتهنوا أنفسهم عند استماعه، ويبرئ المرض، ومن مات عقله وقلت شهوته، يزيد أهل الثروة غنى، وأهل الفقر قناعة ورضا، ومن تمسك به كان عالما، ومن فارقه كان جاهلا، وكيف يستحسن تركه ولا يستعان على النشاط في عبادة ربنا إلا به. فما رد أحد عليه حرفا، ولا أنكر ذلك عليه، وعاد كل بالخطإ على نفسه، وأقر له بالفضل، ثم قال لجميلة: أوعيت ما قلت، ووقع في نفسك ما ذكرت؟ قالت: أجل، وأنا أستغفر الله، قال: فاختمي مجلسنا وفرقي جمعنا بصوت واحد، فغنت هذا البيت: «3» [الطويل] أفي رسم دار دمعك المترقرق ... سفاها وما استنطاق ما ليس ينطق

21 - معبد

[ص 58] فقال الشيخ: حسن والله، أمثل هذا يترك؟ فيم يتشاهد الرجال؟ لا والله ولا كرامة للشيطان، ثم قام [وقام] الناس معه، وقال: الحمد لله الذي [لم] يفرق جماعتنا على إنكار حسن، ولا جحود فضيلة، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته يا جميلة. ومن مشهور غناء جميلة صنعتها في بيتين لامرئ القيس وهما: «1» [الطويل] ولمّا رأت أنّ الهجير يضرّها ... وأنّ البياض في فرائصها دامي «2» تيمّمت العين التي عند ضارج ... يفيء عليها الظّلّ عرمضها طامي «3» 21- معبد «4» رأس الجماعة، وأساس الطرب، الذي لا يملّ أحد سماعه، وهو الذي ينشي السامع، وينسي حديث سواه خروق المسامع ويأتي بالبدائع، التي تضرب دونها أعناق الرجال المطامع، ويتفرد بالصنائع التي لم تقع على مثلها عين وما طهرتها بالمدامع، سمعت منه الأصوات وقرعت به اللهوات، وجاء بكل المراد، فلم يدع

غرضا «1» للغريض، ولا شهوة لشهوات أكرم به من معبد لم ير مثله من يمشي بنظره في الجامع كتاب أبي الفرج وطلب الزيادة وصعد الدرج، بل ولو زاد في شدّة الأسر وحلّق، حتى حام على النسر. وما قصبات السبق إلا لمعبد «2» قال أبو الفرج الاصفهاني، قال إسحاق: كان معبد يقول: لقد صنعت ألحانا لا يقدر أن يغنيها شبعان، ولا يقدر سقّاء يحمل القربة على الترنّم بها حتى يقعد مستوفزا «3» ، ولا القاعد حتى يقوم. قال إسحاق: قيل لمعبد كيف تصنع إذا أردت أن تصوغ الغناء؟ قال: أرتحل قعودي «4» ، وأوقّع بالقضيب على رحلي، وأترنّم عليه بالشعر حتى يتبين لي الصوت، فقال له: ما أبين هذا في غنائك! قال ابن الكلبي: قدم ابن سريج والغريض المدينة يتعرضان لمعروف أهلها، فلما شارفاها تقدّما ثقلهما ليرتادا منزلا حتى إذا كانا بالمغسلة، وهي جبّانة على طرف المدينة يغسل فيها الثياب، إذا هما بغلام ملتحف بإزار، وطرفه على رأسه، وبيده حبالة يتصيّد بها الطير، وهو يغني هذا الصوت: «5» [البسيط]

القصر فالنّخل فالجمّاء بينهما ... أشهى إلى القلب من أبواب جيرون [ص 59] فإذا الغلام معبد، فلما سمعاه مالا إليه فاستعاداه منه، فسمعا شيئا لم يسمعا مثله قط، فأقبل أحدهما على الآخر فقال: هل سمعت مثل هذا قط؟ قال: لا والله، قال: فما رأيك؟ قال ابن سريج: هذا غناء غلام يتصيد الطير، فكيف بمن في الحومة؟ - يعني المدينة- أما أنا فثكلته والدته إن لم يرجع، فكرّا راجعين. قال إسحاق: أخبرت عن معبد أنه قال «1» : بعث إليّ بعض أمراء مكة بالشخوص إليه، فشخصت، قال: فتقدمت غلامي في بعض الطريق واشتد عليّ الحر والعطش فانتهيت إلى خباء فيه غلام أسود، وإذا حباب «2» ماء قد بردت، فملت إليه، وقلت: يا هذا، اسقني من هذا الماء شربة، قال: لا، قلت: تأذن لي في أن أكنّ «3» ساعة؟ فأنخت ناقتي ولجأت إلى ظلها واستترت به، وقلت: لو أحدثت «4» لهذا الأمير شيئا أقدم [به] عليه، ولعلي أيضا إن حرّكت لساني أن يبتلّ حلقي بريقي فيخف عني بعض ما أجده من العطش، فترنمت بصوتي: «5» [البسيط] القصر فالنّخل فالجمّاء بينهما ... أشهى إلى القلب من أبواب جيرون فلما سمعه الأسود، ما أشعر إلا وهو قد حملني حتى أدخلني خباءه، وقال: بأبي أنت وأمي، هل لك في سويق السّلت «6» بهذا الماء البارد؟ قلت: قد

منعتني أقلّ من ذلك شربة ماء تجزئني «1» . قال: فسقاني حتى رويت وأقمت عنده إلى وقت الرواح، فلما رأيت الرحلة قال: بأبي أنت وأمي، الحر شديد ولا آمن عليك مثل هذا الذي أصابك، فتأذن لي في أن أحمل قربة من ماء على عاتقي وأسعى بها معك، فكلما عطشت سقيتك صحنا «2» وغنّيتني صوتا. قال: قلت ذلك [لك] ، قال: فأخذ قربة فملأها ماء باردا من ذلك الماء، وحملها على عاتقه، وركبت أنا راحلتي، فأقبل يسقيني شربة وأغنّيه صوتا حتى بلغت المنزل الذي أردت ولحقت بغلامي وثقلي «3» . قال إسحاق: حدّثني سياط عن يونس الكاتب قال: كان معبد قد علّم جارية من جواري الحجاز الغناء تسمى (ظبية الوادي) وعني بتخريجها، فاشتراها رجل من أهل العراق، فأخرجها إلى البصرة، وباعها هناك، فاشتراها رجل من أهل الأهواز فأعجب بها، وذهبت به كل مذهب، وغلبت عليه، ثم مات، بعد أن أقامت عنده زمانا، فأخذ جواريه أكثر غنائها [عنها] وكان لمحبته [إيّاها] وأسفه عليها، لا يزال يسأل عن معبد وأين [ص 60] مستقره، ويظهر التعصب له والميل إليه، والتقديم لغنائه على سائر أغاني أهل عصره، إلى أن عرف ذلك منه، وبلغ معبدا خبره، فخرج إليه، فلما قدم البصرة، صادف الرجل قد خرج منها في ذلك اليوم إلى الأهواز، فلم يجد إلا سفينة الرجل، وليس يعرف أحدهما صاحبه، فأمر الرجل الملاح فأجلسه معه في مؤخرة السفينة، ففعل ذلك وانحدر، فلما صاروا في نهر الأبلّة «4» تغدوا وشربوا، وأمر جواريه فغنّين ومعبد ساكت، وهو [في]

ثياب السفر، وعليه فرو وخفّان غليظان، إلى أن غنّت إحدى جواريه صوت معبد في شعر النابغة: «1» [البسيط] بانت سعاد وأمسى حبلها انصرما ... واحتلّت الغور فالأجزاع من إضما «2» ولم تجد أداءه، فصاح معبد: يا جارية، هذا ليس بمستقيم، فقال مولاها وقد غضب: وأنت ما يدريك الغناء ما هو؟ ألا تمسك وتلزم شأنك، فأمسك ثم غنّت صوتا من غناء غيره وهو ساكت لا يتكلم، حتى غنت صوتا اخر لمعبد في شعر عبد الرحمن بن أبي بكر: «3» [المديد] يا بنة الجوديّ قلبي كئيب ... مستهام عندها ما يثيب فأخلّت ببعضه، فقال معبد: يا جارية، قد أخللت بهذا الصوت إخلالا بينا، فغضب الرجل وقال: ويلك ما أنت والغناء؟ ألا تكفّ عن الفضول؟ فأمسك، فغنّت إحداهن في شعر كثيّر، وقالت: «4» [الطويل] خليلّي عوجا فابكيا ساعة معي ... على الرّبع نقض حاجة ونودّع فلم تصنع شيئا، فقال معبد: يا هذه ما تقومين «5» على أداء صوت واحد، فغضب الرجل وقال: أقسم بالله لئن عاودت لأخرجنّك من السفينة، فلما سكن

الجواري، اندفع معبد يغني الصوت الأول، فصاح الجواري: أحسنت والله يا رجل، فأعده، فقال: لا والله ولا كرامة، ثم غنّى الثاني فقلن لسيّدهنّ: هذا والله أحسن الناس غناء، فاسأله أن يعيد علينا ولو مرة واحدة، لعلنا نأخذ منه، فو الله إن فاتنا لم نجد مثله أبدا، فقال الرجل: قد أسلفناه مكروها، فاصبرن حتى نداويه، ثم غنّى الثالثة، فزلزلت عليهم الأرض، فوثب الرجل فقبل رأسه وقال: يا سيدي أخطأنا عليك، ولم نعرف موضعك، وسأله أن يختلط معه، وسأل: من أين أخذ جواريه الغناء، فأعلمه، فقال معبد: وإنك [ص 61] لأنت هو، فتعرفني؟ قال: لا والله، قال: أنا معبد، وإليك قدمت من الحجاز، والله لا قصرت في جواريك، فأكبّ «1» على يديه ورجليه، ثم خلع الرجل عليه عدة خلع، وأعطاه من وقته ثلاث مئة دينار وطيبا وهدايا، وانحدر معه إلى الأهواز، فأقام عنده حتى رضي حذق جواريه، وما أخذنه عنه، ثم ودّعه وانصرف إلى الحجاز. قال: قال الوليد بن يزيد يوما: لقد اشتقت إلى معبد، فوجّه إليه البريد إلى المدينة، فأتي بمعبد وأمر به فجلس، والبركة بينهما مملوءة بالخمر والماء وستر مرخى، فقال: غنّني يا معبد، فقال: «2» [البسيط] لهفي على فتية دان الزّمان بهم «3» ... فما أصابهم إلا بما شاؤوا ما زال يعدو عليهم ريب دهرهم ... حتّى تفانوا وريب الدّهر عدّاء أبكي فراقهم عيني فأرّقها ... إنّ التّفرّق للأحباب بكّاء فغنّاه إياها، فرفع الوليد السّتر، ونزع ملاءة مطيّبة كانت عليه، وقذف بنفسه

في البركة، فنهل فيها نهلة، ثم أتي بأثواب غيرها، وتلقوه بالمجامر والطيب، ثم قال: يا معبد، غنّني، فقال: «1» [مجزوء الكامل] ولو انّ دون لقائها جبلا بمزلقة هضابه لأتيتها إنّ المحبّ إذا نأى طال اكتئابه ولو أنّ دون لقائها ضرغامة كالزّجّ نابه لأتيتها بالسيف لا أخاف ولا أهابه فغنّاه إياها، فرمى نفسه بالبركة، فنهل منها نهلة كان فيها النقصان، ثم أتي بأثواب غيرها، وتلقوه بالمجامر والطيب، ثم قال: غنّني يا معبد، فقلت: «2» [الكامل] يا ربع مالك لا تجيب متيّما ... قد عاج نحوك زائرا ومسلّما جادتك كلّ سحابة هطّالة ... حتّى ترى عن زهرة متبسّما قال فدعا له بخمسة عشر ألف دينار، فصبّها بين يديه، ثم قال: انصرف إلى أهلك واكتم ما رأيت. قال، قال يزيد بن عبد الملك يوما لمعبد: يا عباد، أريد أن أخبرك عن نفسي وعنك، فإن قلت فيه خلاف ما تعلم فلا تحاش أن تردّ عليّ، فقد [ص 62] أذنت لك، فقال: يا أمير المؤمنين، لقد وضعك ربك بموضع لا يعصيك إلا ضال ولا يرد عليك إلا مخطئ، فقال: إنّ الذي أجده في غنائك لا أجده في غناء ابن سريج، أجد في غنائك متانة وفي غنائه انخناثا «3» ولينا، فقال: والذي أكرم

أمير المؤمنين بخلافته وأرضاه لعباده، وجعله أمينا على أمة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ما عدا صفتي وصفة ابن سريج، وكذا يقول ابن سريج وأقول، ولكن إن رأى أمير المؤمنين أن يعلمني هل وضعني ذلك عنده فليفعل. قال: لا والله، ولكني أوثر الطّرب على كلّ شيء، قال: يا سيدي كلما كان ابن سريج يذهب إلى الخفيف من الغناء، أذهب أنا إلى الكامل التام، فأغرب أنا، ويشرق هو، فمتى نلتقي؟ قال: أفتقدر أن تحكي رقيق ابن سريج؟ قال: نعم، فصنع لحنا في الخفيف: «1» [الهزج] ألا لله أمّ و ... لدت أخت بني سهم هشام وأبو عبد ... مناف مدره الخصم وذو الرّمحين أشباك «2» ... على القوّة والحزم فهذان يذودان ... وذا عن كثب يرمي وغنّاه، فردّ عليه أولا، فأعاد ثم قال: أعد، فأعاد فاستخفّه، ثم قال لجواريه: افعلن كما أفعل، وجعل يدور في الدار ويقول: «3» [مجزوء الرجز] يا دار دوّريني ... يا قوم أمسكوني «4» آليت منذ حين ... حقّا لتصرميني إن لم تواصلوني «5» ... بالله فارحميني لم تذكري يميني

22 - ابن سريج

قال: فلم يزل يدور كما يدور الصبيان ويدرن «1» معه، حتى خرّ مغشيّا عليه ما يعقل ولا يعقلن، فابتدره الخدم فأقاموا من كان على ظهره من الجواري، وحملوه حتى ادخلوه. قال إسحاق، أخبرت عن حكم الوادي قال: كنت أنا وجماعة من المغنين نختلف إلى معبد، نأخذ عنه ونتعلم، فغنّانا يوما ما صنعه وأعجب به هو: «2» [البسيط] القصر فالنّخل فالجمّاء بينهما ... أشهى إلى القلب من أبواب جيرون فاستحسنّاه، وكنت أوّل من أخذه عنه ذلك اليوم فاستحسنه مني، وأعجبته نفسه، فلما انصرفت عملت فيه لحنا آخر، وبكرت إلى معبد مع أصحابي وأنا معجب بلحني، فلما تغنينا أصواتا قلت له: إنّي قد عملت بعدك لحنا في الشعر الذي غنيت فيه، واندفعت فغنيته [ص 63] لحني فوجم معبد ساعة يتعجب منه، ثم قال: قد كنت أمس أرجى منّي اليوم لك، وأنت اليوم أبعد من الفلاح، قال حكم الوادي: فأنسيت علم الله صوتي منذ تلك الساعة، فما ذكرته إلى وقتي هذا. 22- ابن سريج «3» مطرب كان في أصحابه من أهل الانتهاء، نظير موافقه ابن سريج في الفقهاء «4» ، لم يكن إلا من يذعن بتقدمه، ويهابه فلا يكلمه إلا [عند] «5»

تبسمه ويفتح وما سمعه، ويلتقط ويتشطط بأمانيه ويشترط، ويصلح خلله الكثير منه باليسير، ويتخذ منه ما يلقيه في أصواته كالإكسير، وكان لأهل مكة البطحاء به ضنانة، وبسببه يهتك نسبه صيانة، تتقيّل بضلاله، وتقيل في ظلاله، وعلى هذا مضى عبّاد الحجاز، كانوا لا يرون بالغناء باسا، ولا يرون أوقات «1» أنسهم بغيره «2» مقياسا. قال أبو الفرج، قال إسحاق: أصل الغناء أربعة نفر: مكّيان ومدنيّان، فالمكيّان: ابن سريج وابن محرز، والمدنيّان: معبد ومالك «3» . قال إبراهيم: أدركت يونس الكاتب فحدثني عن الأربعة: ابن سريج وابن محرز ومعبد والغريض، فقلت له: من أحسن الناس غناء؟ قال: أبو يحيى، قلت: عبيد ابن سريج؟ قال: نعم، قلت: وكيف ذلك؟ قال: إن شئت فسّرت وان شئت أجملت، قلت: أجمل، قال: كأنه خلق من كل قلب فهو يغنّي لكل إنسان ما يشتهي. قال إسحاق: وسألت هشام بن مرّيّة، وكان عمّر، وكان حاذقا بالغناء، فقلت له: من أحذق الناس بالغناء؟ فقال لي: تحب الإطالة أو الاختصار؟ فقلت: أحبّ اختصارا يأتي على سؤالي «4» ، فقال: ما خلق بعد النبي داود عليه السلام أحسن صوتا من ابن سريج، ولا صاغ المغنى أحذق «5» منه، ويدل على ذلك أن معبدا كان إذا أعجبه غناؤه قال: أنا اليوم سريجي.

قال: وكان ابن أبي عتيق يسوق في كل عام بدنة «1» ينحرها عنه، ويقول: هذا بأقل حقه علينا. قال أبو نافع الأسود، وكان آخر من بقي من غلمان ابن سريج: إذا أعجزك القرشي أن تطرب فغنّه غناء ابن سريج في شعر ابن أبي ربيعة، فإنك ترقصه. قال جحظة، حدثني عليّ بن يحيى، قال: أرسلني محمد بن الحسن بن مصعب إلى إسحاق أسأله عن لحنه ولحن ابن سريج [ص 64] في: «2» [الطويل] تشكّى الكميت الجري لمّا جهدته أيّهما أحسن؟ فصرت إليه فسألته عن ذلك، قال لي: يا أبا الحسن، والله قد أخذت بخطام «3» راحلته فزعزعتها «4» وأنختها، وقمت بها فما بلغته «5» ، فرجعت إلى محمد بن الحسن فأخبرته، فقال: والله إنه ليعلم أن لحنه أحسن من لحن ابن سريج، ولقد تحامل لابن سريج على نفسه ففضل القدماء. قال إبراهيم بن المهدي، حدّثني إبراهيم الموصلي، قال: حدّثني الزبير بن دحمان عن أبيه أن معبدا تغنّى في شعر عبد الرحمن بن حسان: «6» [الرمل] ربّ قلبي بهموم وفكر ... من حبيب هاج حزني والسّهر

يوم أبصرت غرابا واقعا ... شرّما طار على شرّ شجر «1» فعارضه مالك فغنّى في أبيات من هذا الشعر: «2» [الرمل] وجرت لي ظبية يتبعها ... ليّن الأظلاف من حوّ البقر «3» كلّما كفكفت منها عبرة ... فاضت العين بمنهلّ درر قال: فتلاحيا «4» جميعا فيما صنعاه من هذين الصوتين، قال كل واحد منهما لصاحبه: أنا أجود صنعة منك، قال: فتنافرا «5» إلى ابن سريج إلى مكة، فلما قدماها، سألا عنه فأخبرا أنه خرج يتطرّف «6» بالحناّء في بعض بساتينها، فاقتصا «7» أثره حتى وقفا عليه وفي يده الحناء، فقالا له: إنا خرجنا إليك من المدينة لتحكم بيننا في صوتين صنعناهما، فقال لهما: ليغنّ كلّ واحد منكما صوته «8» ، فابتدأ معبد فغنّى لحنه، فقال له: أحسنت والله على سوء اختيارك للشعر، ويحك ما حملك على ما صنعت هذه الصنعة الحسنة في حزن وسهر وهموم وفكر!؟ أربعة ألوان من الحزن في بيت واحد، وفي البيت الثاني شران في مصراع واحد، وهو: «9» شرّ ما طار على شرّ الشّجر

ثم قال لمالك: هات صوتك، فغناه مالك، فقال: أحسنت والله ما شئت، فقال له مالك: وإنما هو ابن شهر «1» ، فكيف تراه يا أبا يحيى إذا حال عليه الحول؟ قال دحمان: فحدثني [ص 65] معبد أن ابن سريج غضب عند ذلك غضبا شديدا، ثم رمى بالحناء من يده وأصابعه، ثم قال: يا مالك، لي تقول هذا هو ابن شهر «1» ؟ اسمع ابن ساعته، ثم قال: يا أبا عباد، أنشدني القصيدة التي تغنيتما فيها «2» ، فأنشدته القصيدة حتى انتهيت إلى قوله: «3» [الرمل] تنكر الإثمد ما تعرفه ... غير أن تسمع منه بخبر فصاح بأعلى صوته: هذا خليلي، وهذا صاحبي، ثم تغنّى فيه، فانصرفا مغلوبين مفضوحين، من غير أن يقيما بمكة ساعة واحدة. قال: لما ضادّ ابن سريج الغريض وتلاحيا، جعل ابن سريج لا يغنّي صوتا إلا عارضه الغريض يغني فيه لحنا غيره، وكانت في بعض أطراف مكة دار يأتيانها «4» كل جمعة، ويجتمع إليهما ناس كثير، فيوضع لكل واحد منهما كرسيّ يجلس عليه، ثم يتقاضيان الغناء ويترادّانه، فلما رأى ابن سريج موقع الغريض وغنائه من الناس لقربه من النوح وشبهه به، مال إلى الأرمال والأهزاج «5» ، فاستخفها الناس، وقال له الغريض: يا أبا يحيى، قصرت الغناء وحذفته وأفسدته، قال: نعم يا مخنث، جعلت «6» تنوح على أبيك وأمك ألي أن تقول هذا، والله لأغنّينّ

غناء ما غنّى أحد أثقل منه ولا أجود، ثم غنّى:» [الطويل] تشكّى الكميت الجري لما جهدته قال إسحاق: حدثني شيخ من موالي المنصور قال: قدم علينا المدينة فتيان بني أمية يريدون مكة، فسمعوا معبدا ومالكا فأعجبوا بهما، ثم قدموا مكة فسألوا عن ابن سريج فوجد مريضا، فأتوا صديقا له فسألوه أن يسمعهم غناءه، فخرج معهم حتى دخلوا عليه فقالوا: نحن فتيان من قريش أتيناك مسلمين عليك وأحببنا أن نسمع غناءك «2» فقال: أنا مريض كما ترون، قالوا: إن الذي نكتفي به منك يسير- وكان ابن سريج أديبا طاهر الخلق عارفا بأقدار الناس- فقال: يا جارية، هاتي جلبابي وعودي، فأتته جارية بخامة فشدها على وجهه، وكان يفعل ذلك إذا تغنى لقبح وجهه، ثم أخذ العود فغناهم حتى اكتفوا، ثم ألقى العود وقال: معذرة، قالوا: قد قبل الله عذرك وأحسن إليك، ومسح على ما بك من الضّرّ، ثم انصرفوا يتعجبون مما سمعوا، فمروا بالمدينة منصرفين [ص 66] فسمعوا من معبد ومالك فجعلوا لا يطربون، فقال «3» أهل المدينة: نقسم بالله لقد سمعتم ابن سريج بعدنا، قالوا: أجل لقد سمعناه، فسمعنا ما لم نسمع مثله قط ولقد نقص إلينا ما بعده «4» . قال إسحاق، حدثني إسحاق بن يحيى بن طلحة قال: قدم جرير المدينة ونحن يومئذ شبّان نطلب الشعر، فاحتشدنا له ومعنا الشعراء، فبينا نحن عنده إذ قام

لحاجته، فأقمنا لم نبرح، وجاءنا الأحوص الشاعر من قبا «1» على حمار، فقال: أين هذا؟ قلنا: قام لحاجته، فما حاجتك إليه؟ قال: إني أريد أن أعلمه أن الفرزدق أشرف منه وأشعر، قلنا: ويحك لا تعرض له، فانصرف وخرج جرير، فلم يكن بأسرع من أن أقبل الأحوص فوقف عليه فقال: السلام عليك، فقال: وعليك السلام، فقال: يا بن الخطفى، الفرزدق أشرف منك وأشعر، قال جرير: من هذا؟ قلنا: الأحوص بن محمد، قال: نعم هذا الخبيث ابن الطيب، أنت القائل: «2» [الطويل] يقرّ بعيني ما يقرّ بعينها ... وأحسن شيء ما به العين قرّت «3» قال: نعم، قال: إنه يقر عينها أن يدخل فيها مثل ذراع البكر، فيقر ذلك بعينك؟ قال: وكان الأحوص يرمى بالأبنة «4» ، فانصرف فبعث إليهم بتمر وفاكهة، وأقبلنا على جرير نسأله، وألح عليه أشعب فقال له: والله إني لأراك أقبحهم وجها، وأظنّك الأمهم حسبا، وقد أبرمتني منذ اليوم، فقال: إني والله أنفعهم لك، قال: ويحك وكيف ذلك؟ قال: إني أملّح شعرك وأجيد مقاطعه ومبادئه، قال: قل ويحك، فاندفع فنادى بلحن ابن سريج: «5» [الكامل] يا أخت ناجية السّلام عليكم ... قبل الرّحيل وقبل لوم العذّل

لو كنت أعلم أنّ آخر عهدكم ... يوم الرّحيل فعلت ما لم أفعل فطرب جرير وجعل يزحف نحوه حتى مست ركبته ركبته، وقال: لعمري لقد صدقت إنك لأنفعهم لي، ولقد حسنته وأجدته، وأحسنت والله، ووصله وكساه، فلما رأينا إعجاب جرير بذلك الصوت، قلنا له: كيف لو سمعت واضع هذا، قال: وإن له [ص 67] لواضعا غير هذا؟ قلنا: نعم، قال: وأين هو؟ قلنا: بمكة، قال: فلست بعازم حجا حتى أبلغه «1» ، فمضى ومضى معه جماعة ممن يرغب في طلب الشعر في صحابته، وكنت فيهم، فقدمنا مكة فأتيناه جميعا، فإذا هو في فتية من قريش كأنهم المها مع ظرف كثير، فرحبوا به وأدنوا مجلسه، وسألوه عن الحاجة، فأخبرناهم الخبر، فرحبوا بجرير وأدنوه وسروا بمكانه، وعظم ابن سريج موضع جرير، وقال: سل ما تريد، جعلت فداك، [قال أريد] أن تغنيني لحنا سمعته بالمدينة أزعجني إليك «2» ، قال: وما هو؟ قال: يا أخت ناجية السّلام عليكم فغنّاه ابن سريج، وبيده قضيب يوقع به وينكت، فو الله ما سمعت شيئا أحسن من ذلك، فقال جرير: لله دركم يا أهل مكة، ما أعطيتم: والله لو أن نازعا نزع إليكم ليقيم بين أظهركم يسمع هذا صباحا ومساء، كان أعظم الناس حظا ونصيبا، وكيف ومع هذا بيت الله الحرام، ووجوهكم الحسان، ورقة ألسنتكم، وحسن شارتكم «3» ، وكثرة فوائدكم. قال إسحاق: كان ابن سريج جالسا فمر به عطاء وابن جريج، فحلف عليهما

بالطلاق أن يغنيهما، على أنهما إن نهياه عن الغناء بعد أن يسمعا منه تركه أبدا، فوقفا له وغناهما: «1» [المديد] إخوتي لا تبعدوا أبدا ... وبلى والله قد بعدوا فغشي على ابن جريج، وقام عطاء فوقف. قال إسحاق: كان ابن سريج عند بستان ابن عامر، فغنّى بلحنه في هذا الشعر: «2» [مجزوء الوافر] لمن نار بأعلى الخب ... ت دون البئر ما تخبو أرقت لذكر موقعها ... فحنّ لذكرها القلب فجعل الحجاج يركب بعضهم بعضا، حتى جاء إنسان من آخر القصرات فقال: يا هذا، قد قطعت على الحجاج وحبستهم، والوقت قد ضاق، فاتق الله وقم عنهم، فقام وسار الحجاج. قال إسحاق، قال ابن مقمّة: دخلت على ابن سريج في مرضه الذي مات فيه، فقلت: كيف أصبحت يا أبا يحيى؟ [ص 68] قال: أصبحت والله كما قال الشاعر «3» [الوافر] كأنّي من تذكّر ما ألاقي ... إذا ما أظلم الليل البهيم سقيم ملّ منه أقربوه ... وأسلمه المداوي والحميم «4» ثم مات.

قال إسحاق، قال ابن مقمّة: لما احتضر ابن سريج نظر إلى ابنته تبكي، فبكى وقال: إن من أكبر همي أنت، واخشى ان تضيعي بعدي، قالت: لا تخف، فما غنيّت شيئا إلا وأنا أغنّيه، فقال: هاتي، فاندفعت تغنّي أصواتا وهو مصغ إليها، فقال: قد أصبت ما في نفسي، وهونت علي أمرك، ثم دعا سعيد بن مسعود الهذلي «1» فزوجه إياها، فأخذ عنها أكثر غناء أبيها وانتحله، فهو الآن ينسب إليه. قال إسحاق: وأخبرني هشام بن المرية، أن قادما قدم المدينة فسارّ معبدا بشيء، فقال معبد: أصبحت أحسن الناس غناء، فقلنا: أو لم تكن كذلك؟ قال: لا، ثم قال: أتدرون ما خبرني به هذا؟ قالوا: لا، قال: أعلمني أن عبيد بن سريج مات، ولم أكن [أحسن] الناس غناء وهو حي. قال إسحاق: قال كثير بن كثير السهمي يرثيه: «2» [البسيط] ما اللهو عند عبيد حين يخبره ... من كان يلهو به منه بمطّلب «3» لله قبر عبيد ما تضمّنه ... من لذّة العيش والإحسان والطّرب «4» لولا الغريض ففيه من شمائله ... مشابه لم أكن فيه بذي أرب قال مصعب الزبيري: حدثني شيخ من المكييّن قال: كان ابن سريج قد أصابه الريح الجنبية «5» ، فآلى يمينا أن لا يغني، ونسك ولزم المسجد حتى عوفي، ثم

خرج وبه بقية من العلة، فأتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وموضع مصلاه، فلما قدم المدينة نزل على بعض إخوانه من أهل النّسك والقراءة، وكان أهل الغناء يأتونه فيسلمون عليه فلا يأذن لهم في الجلوس بالمحادثة له «1» ، فأقام بالمدينة حولا: حتى لم يحس في علته بشيء، وأراد الشخوص فبلغ سكينة بنت الحسين «2» ، فاغتمت اغتماما شديدا وضاق صدرها [ص 69] وكان أشعب يخدمها، وكانت تأنس به وتضاحكه، فقالت: ويلك، إن ابن سريج شاخص، وقد دخل المدينة منذ حول، ولم أسمع من غنائه لا قليلا ولا كثيرا وتعذّر ذلك عليّ فكيف الحيلة في الاستماع منه ولو صوتا واحدا؟ فقال لها أشعب: جعلني الله فداك، أنّى لك بهذا والرجل زاهد ولا حيلة لك فيه؟ فارفعي طمعك والحسي بوزك «3» [تنفعك] «4» حلاوة فمك، فأمرت بعض جواريها فوطئت بطنه حتى كادت تخرج أمعاؤه، وخنقته حتى [كادت] تزهق روحه، ثم أمرت فسحب على وجهه حتى أخرج من الدار إخراجا عنيفا، فخرج واغتمّ غما شديدا، وندم على ممازحتها في وقت لم ينبغ له ذلك فيه، فأتى منزل ابن سريج ليلا فطرقه، فقيل له: من هذا؟ قال: أشعب، ففتحوا له، فرأى على وجهه ولحيته التراب، والدم سائل من أنفه وجبهته على لحيته، وثيابه ممزقة، وبطنه وصدره قد عصرهما الدوس والخنق.

ومات الدم فيها، فنظر ابن سريج إلى منظر فظيع «1» هاله وراعه، فقال: ما هذا ويحك، فقص عليه قصته، فقال ابن سريج: إنا لله وإنا إليه راجعون، ماذا نزل بك، والحمد لله الذي سلم نفسك، لا تعودن إلى هذا أبدا، قال أشعب: فديتك، هي مولاتي، ولا بد لي منها، ولكن هل لك حيلة في أن تصير إليها وتغنّيها، ويكون ذلك سببا إلى أن ترضى عني؟ قال ابن سريج: لا يكون ذلك أبدا بعد أن تركته، قال أشعب: فديتك، قد قطعت أملي ورفعت رزقي، وتركتني حيران في المدينة لا يقبلني أحد، وهي ساخطة عليّ، فالله الله، وأنا أنشدك الله إلا «2» تحملت هذا الأمر وإن كان إثما، فقال ابن سريج: والله لا يكون هذا أبدا، فلما رأى أشعب أنّ ابن سريج قد تمّ على الامتناع، قال في نفسه، لا حيلة لي وهذا خارج، وإن خرج هلكت، فصرخ صرخة آذن أهل المدينة لها، ونبّه الجيران من رقادهم، وأقام الناس من فرشهم، ثم سكت، فلم يدر الناس ما القضية عند خفوت الصوت بعد أن قد راعهم، فقال ابن سريج: ويلك، ما هذا؟ قال: والله لئن لم تصر معي إليها، لأصرخنّ صرخة ثانية لا يبقى بالمدينة أحد إلا صار بالباب، ثم لأفتحنّه ولأرينّهم ما بي، ثم أعلمنّهم أنك أردت أن تفعل كذا وكذا بفلان، يعني غلاما كان لابن سريج شهر به [ص 70] ومنعتك وخلّصت الغلام من يدك حتّى فتح الباب ومضى، ففعلت بي هذا غيظا وتأسفا، وإنك إنما أظهرت النسك والقراءة لتظفر بحاجتك منه، وأهل مكة والمدينة يعلمون بحاله، فقال ابن سريج: اغرب أخزاك الله، فقال أشعب: والله الذي لا اله إلا هو، وإلا فما أملك صدقه، وامرأته طالق ثلاثا، إن أنت لم تنهض معي في هذه الليلة لأفعلنّ، فلما رأى ابن سريج الجدّ منه، قال لصاحبه: ويحك، أما ترى ما وقعنا فيه؟ وكان صاحبه الذي نزل عليه ناسكا، فقال: ما أدري ما أقول فيما وقع بنا

من هذا الخبيث، وتذمّم ابن سريج من الرجل صاحب المنزل، وقال لأشعب: اخرج من منزل الرجل، فقال: رجلي مع رجلك، فخرجنا، فلما صار ببعض الطريق، قال ابن سريج لأشعب: امض عني، قال: والله لئن لم تفعل ما قلت لأصيحنّ الساعة حتى يجتمع الناس، ولأقولنّ إنك أخذت مني سوارا من ذهب لسكينة، على ان تجيئها فتغنيها سرا، وإنك كابرتني عليه وجحدتني وفعلت بي هذا الفعل، فوقع ابن سريج فيما لا حيلة [له] فيه، فقال: امض لا بارك الله فيك، فمضى معه، فلما صار إلى باب سكينة، قرع الباب، فقيل: من هذا؟ فقال: أشعب قد جاء بابن سريج، ففتح الباب ودخلا إلى حجرة من دار سكينة، فجلسا ساعة، ثم أذن لهما فدخلا إلى سكينة، فقالت: يا عبيد، ما هذا الجفاء؟ فقال: قد علمت بأبي أنت وأمي ما كان مني، قالت: أجل، فتحدّثا ساعة وقصّ عليها ما صنع [به] أشعب، فضحكت وقالت: لقد أذهب ما كان مني عليه، وأمرت لأشعب بعشرة «1» دنانير وكسوة، ثم قال لها ابن سريج: أتأذنين بأبي أنت وأمي؟ قالت: وأين تريد؟ قال: المنزل، قالت: برئت من جدّي إن برحت من داري ثلاثة أيام، وبرئت من جدّي إن [أنت] لم تغنّ إن خرجت من داري شهرا، وبرئت من جدي إن أقمت في داري شهرا لم أضربك كل يوم عشرا، وبرئت من جدّي إن حنثت في يميني إن شفعت فيك أحدا، قال عبيد: واسخنة عيناه! واذهاب دنياه! وا فضيحتاه! ثم اندفع يغنّي: «2» [الخفيف] أستعين الذي بكفّيه نفعي ... ورجائي على التي قتلتني قالت سكينة: هل عندك من صبر؟ ثم أخرجت دملجا «3» من ذهب كان في

عضدها وزنه أربعون مثقالا، فرمت به إليه، فقالت: أقسمت عليك لما أدخلته في يدك، ففعل، ثم قالت لأشعب: [ص 71] اذهب إلى عزّة الميلاء «1» فاقرئها مني السلام، واعلمها أن عبيدا عندنا، فلتأتنا متفضلة بالزيارة، فأتاها أشعب فأسرعت المجيء، فتحدثوا باقي ليلتهم، ثم أمرت عبيدا وأشعب فناما في حجرة مع مواليها، فلما أصبحت هيّئ لهم غداؤهم، وأذن لابن سريج فدخل فقعد بالقرب منها مع أشعب في مواليها، وقعدت هي مع عزّة وخواصّ جواريها، فلما فرغوا من الغداء قالت يا عزّة، أن رأيت ان تغنّينا، قالت: إي وعيشك، فغنّت لحنها في شعر عنترة العبسي: «2» [الكامل] حيّيت من طلل تقادم عهده ... أقوى وأقفر بعد أمّ الهيثم إن كنت أزمعت الفراق فإنما ... زمّت ركابكم بليل مظلم فقال ابن سريج: أحسنت والله يا عزّة، وأخرجت سكينة الدّملج الآخر من يدها فرمت به إلى عزّة وقالت: صيّري هذا في يدك، ففعلت ثم قالت لعبيد: هات غننا،» فقال: حسبك ما سمعت البارحة، فقالت: لا بد أن تغنينا في كل يوم لحنا، فلما رأى ابن سريج أنه لا يقدر على الامتناع، غنّى: «4» [البسيط] قالت من انت على ذكر فقلت لها ... أنا الذي ساقه للحين مقدار «5»

قد حان منك- فلا تبعد بك الدّار- ... بين وفي البين للمتبول إضرار «1» ثم قالت لعّزة في اليوم الثاني: غنّي، فغنّت لحنها في شعر الحارث بن خالد المخزومي: «2» [الطويل] وقرّت بها عيني وقد كنت قبلها ... كثيرا بكائي مشفقا من صدودها وبشرة خود مثل تمثال بيعة ... تظلّ النّصارى حوله يوم عيدها «3» فقال ابن سريج: والله ما سمعت مثل هذا حسنا قط و [لا] طيبا، ثم قالت لابن سريج: هات، فغنّى بشعر عمر بن أبي ربيعة: «4» [مجزوء الوافر] أرقت فلم أنم طربا ... وبتّ مسهّدا نصبا لطيف أحبّ خلق ال ... له إنسانا وإن غضبا فلم أردد مقالتها ... ولم أك عاتبا عتبا فقالت سكينة: قد علمت ما أردت بهذا، قالت: وقد شفعناك، وإنما كانت يميني على ثلاثة [ص 72] أيام، فاذهب في حفظ الله وكلاءته، ثم قالت لعزّة: إذا شئت، وأمرت لها بحلّة حسنة، ولابن سريج بمثلها، وانصرفت عزّة: وأقام ابن سريج حتى انقضت ليلته، وانصرف ذاهبا إلى مكة. قال أبو يوسف بن إبراهيم: حضرت أبا إسحاق ابراهيم بن المهدي وعنده إسحاق الموصلي، فقال إسحاق: غنّى ابن سريج ثمانية وستين صوتا، فقال له ابن

المهدي: ما تجاوز قط ثلاثة وستين صوتا، ثم جعلا يتناشدان الصحيح حتى بلغا ثلاثة وستين صوتا، وهما متفقان في ذلك، ثم أنشد إسحاق بعد ذلك خمسة أصوات، فقال له ابن المهدي: صدقت، هذا من غنائه، ولكن لحن هذا الصوت نقله من لحنه في الشعر الفلاني، ولحنه الثاني من لحنه الفلاني، حتى عدّ له خمسة الأصوات، فقال له إسحاق: صدقت، ثم قال له إبراهيم: [إن] ابن سريج كان رجلا عاقلا أديبا، وكان يعاشر الناس بما يشتهون، فلا يغنيهم صوتا يمدح به أعداءهم، ولا صوتا عليهم فيه عار أو غضاضة، ولكنه يعدل «1» بتلك الألحان إلى أشعار في أوزانها، والصوتان واحد لا ينبغي أن يعتدّ بهما في صوتين عند التحصيل، ثم اتفقا على ان قدما من غنائه ثمانية أصوات. فالأول: «2» [الرمل] فإذا ما عثرت في مرطها ... نهضت باسمي وقالت يا عمر والثاني: «3» [مجزوء الخفيف] حيّيا أمّ يعمرا ... قبل شحط من النّوى والثالث: «4» [الكامل] فتركته جزر السّباع ينشنه ... ما بين قلّة رأسه والمعصم والرابع: «5» [الطويل] فلم أر كالتّجمير منظر ناظر ... ولا كليالي الحجّ أفتنّ ذا هوى

23 - أبو كامل

والخامس: «1» [السريع] عوجي علينا ربّة الهودج ... إنك إن لم تفعلي تحرجي والسادس: [ص 73] «2» [مجزوء الوافر] ألا هل هاجك الأظعا ... ن إذ جاوزن مطّلحا والسابع: «3» [الرمل] تنكر الإثمد لا تسمعه ... غير أن تسمع منه بخبر والثامن: «4» [الطويل] ومن حبّ ذات الخال أعملت ناقتي ... أكلّفها سير الكلال مع الظّلع 23- أبو كامل «5» من أجلّ من ذكره أبو الفرج، وحدّث عن بحره ولا حرج، طلع بدره في الدولة الأموية مشرقا، ولمع بارق سحبه الروّية مبرقا، وخرج بالحباء، وأدلج والحظّ يسوق إبله بغير الحداء، وذخر من فواضل تلك الأيام ما كان يجد فيه ريحها، ويجيد به مديحها، ويأسف إذ لا يجد من مميح، ولا يلقى من نازح ولا سنيح،

ولا يرى من يشتري الحمد بالثمن البخس ولا الربيح. قيل إنه غنّى الوليد ذات يوم: «1» [الخفيف] جنّباني أذاة كلّ لئيم ... إنّه ما علمت شرّ نديم فطرب الوليد حتى خلع عليه ثيابه كلّها حتى قلنسية «2» وشي كأنت عليه، وكان أبو كامل «3» يصونها ولا يلبسها إلا من عيد إلى عيد، ثم يمسحها بكمه ويرفعها ويبكي ويقول: إنما أرفعها لأني أجد فيها ريح سيدي الوليد، وللوليد بن يزيد أشعار كثيرة، فمنها ما يغنّى به: «4» [مجزوء المتقارب] سقيت أبا كامل ... من الأصفر البابلي وسقيتها معبدا ... وكلّ فتى فاضل «5» لي المحض من ودّهم ... ويغمرهم نائلي وما لا مني فيكم ... سوى حاسد جاهل قال: وكان المعتضد إذا غنّي هذا الصوت يقول للجلساء: أما ترون شمائل الملوك في هذا الشعر ما أبينها، يعني قوله: لي المحض من ودّهم ... ويغمرهم نائلي

24 - إسماعيل بن الهربذ

24- إسماعيل بن الهربذ «1» ملتقط فوائد، ومحصّل فرائد، تتعب ألف رائد، يبدر إلى محاسن المقال، وينظر [ص 47] إليه لا إلى من قال، يأخذ الغناء من الأمة الوكعاء «2» ، وينوي الغنا عن الأمة الخلعاء، وكان من أفراد أهل الطرب، وورّاد ما منع منه من موارد الطلب، وذكر ابن عساكر من أخباره ما ليس هذا موضعه، ولا الذي يحبّ مرقله ولا موضعه. قيل إنه قدم مكة على الرشيد وعنده ابن جامع وإبراهيم وابنه إسحاق وفليح وغيرهم، والرشيد يومئذ خاثر «3» ، به خمار «4» شديد، فغنّى ابن جامع ثم فليح وإبراهيم، فما حرّكه أحد منهم ولا أطربه، فاندفع [ابن] الهربذ يغني، فعجبوا من إقدامه في تلك الحال على الرشيد، فغنّى: «5» [مجزوء الكامل] يا راكب العيس التي ... وخدت إلى البيت الحرام «6» قل للإمام أخي الإما ... م ابن الإمام أبي الإمام زين البرية إذ بدا ... فيكم كمصباح الظّلام جعل الإله الهربذ ... يّ فداك من بين الأنام

قال: فكاد الرشيد يرقص، واستخفّه الطرب حتى ضرب بيديه «1» ، ورجليه، وأمر له بعشرة آلاف درهم، فقال له: يا أمير المؤمنين، لهذا الصوت خبر، فإن أذن لي أمير المؤمنين حدثته، قال: حدّث، قال: كنت مملوكا لرجل من آل الزبير، فدفع إليّ درهمين أبتاع له بهما لحما، فخرجت فلقيت جارية على رأسها جرة مملوءة من ماء العقيق، وهي تغنّي بهذا اللحن في شعر غير هذا الشعر في وزنه ورويه، فسألتها ان تعلمنيه، فقالت: لا وحقّ القبر «2» ، إلا بدرهمين، فدفعت إليها الدرهمين فعلمتنيه، فرجعت إلى مولاي بغير لحم، فضربني ضربا مبرحا شغلت بنفسي معه، فأنسيت الصوت، ثم دفع إليّ درهمين آخرين لأبتاع بهما لحما، فلقيت الجارية، فسألتها أن تعيد الصوت، فقالت: لا والله، إلا بدرهمين، فدفعتها إليها، فأعادته مرارا حتى أخذته، فلما رجعت إلى مولاي أيضا بلا لحم معي، قال: ما القصة في هذين الدرهمين؟ فصدقته عن القصة، وأعدت عليه الصوت، فقبّل بين عيني وأعتقني، فرحلت إليك بهذا الصوت، وقد جعلت لك اللحن في هذا الشعر، فضحك، ثم قال: دع الأول وتناسه، وأقم على هذا [ص 75] الشعر بهذا اللحن، وأما مولاك فإني أدفع إليه بكل درهم ألف دينار، ثم أمر بذلك فحمل إليه من وقته. ومما غنّى به إسماعيل الهربذيّ الوليد بن يزيد بن عبد الملك: «3» [الهزج] سليمى تلك في العير ... قفي أخبرك أو سيري إذا ما أنت لم ترثي ... لصبّ القلب مغمور فلمّا أذّن الصّبح ... بأصوات العصافير خرجنا نتبع الشّمس ... عيونا كالقوارير

25 - أبو دلف العجلي

وفينا شادن أحو ... ر من حور اليعافير 25- أبو دلف العجلي» القاسم بن عيسى بن إدريس بن معقل بن عمير العجلي، أحد قواد المأمون ثم المعتصم من بعده، ضرب الهام بسيوفه حتى زواها، والجيوش بصفوفه حتى سوّاها، وعاطى الأعداء كؤوس الدماء، وعاقر الأمور البعيدة للإدناء، فاستقلّ ملكا مهابا «2» ، وفلكا كم أطلع شهابا، وسحّ سحابه وهطل، وصحّ أنّ اسم من يقدمه بطل، فأصبحت به تضرب المثل «3» ، وتركب السّبل، فدعته ألسنة الآمال، وبايعته نفائس الآجال وملئت ساحته بالركائب، وملأت سماحته بالرغائب، وكان يطعن الطعنة النجلاء، ويرشق السهم بنظر النظرة الكحلاء، ويقتاد الحصان يزل اللّبد عن صهواته، ويشتكي ساقط الرمح بعد مهواته، سكن الجبال، وسكب على الكفار الوبال، وسكت «4» وكلت عنه النبال، ورعت الخلفاء منه نصيحا، ودعت منه فصيحا، واستنبطت «5» لأدوائها منه مسيحا، وأعدت لأعدائها منه مشيحا، وكان بسقام الخلافة طبنا «6» خبيرا، وبالانتقام لها مبيدا مبيرا، وهو مع هذه الصرامة التي تتأكّل منها النار، والشهامة التي يتفتح بها

شجر الغناء بالجلنار، أرق من النسيم شمائل، وأرق من الغيد بوصف البانة المتمايل، يوفي كل مقام حقه، وكل مقال صدقه، ويضحى به البوس، ويضحك الزمان العبوس، حضر مع مواليه للمنادمة، وقد بذل [ص 76] لهم لبلوغ المنى دمه، وكان يغنّي له بالأصوات، ويعنى في كل شعر له موات. وكان قوي القريحة، فما لا يدرك مهلة، ولا يظن البحار إلا نهله. قال أبو الفرج: وكان أحمد بن أبي دواد «1» ، ينكر أمر الغناء إنكارا شديدا، فأعلمه المعتصم أن صديقه أبا دلف يغني، فقال: ما أراه مع عقله يفعل ذلك، فستر المعتصم أحمد بن أبي دواد [في موضع وأحضر أبا دلف، وأمره أن يغني، ففعل ذلك وأطال، ثم خرج أحمد بن أبي دواد] «2» عليه من موضعه، والكراهة ظاهرة في وجهه، فلما رآه قال أحمد: سوءة لهذا من فعل، أبعد الستين وهذا المحل تضع نفسك بما أرى؟ فخجل أبو دلف وتشوّر «3» وقال: إنهم أكرهوني على الغناء، [فقال: هبهم أكرهوك على الغناء] «4» أفأكرهوك على الإحسان فيه؟ قال أحمد بن عبيد الله: كنّا عند المبرّد يوما، وعنده فتى من ولد أبي البختري وهو ابن أبي وهب بن عمار القاضي له جمال ظاهر، وفتى من ولد أبي دلف العجلي شبيه به في الجمال، فقال المبرّد لابن أبي البختري: أعرف لجدك قصة من

الكرم حسنة لم يسبق إليها، قال: وما هي؟ قال: دعي رجل من أهل الأدب إلى بعض المواضع، فسقي نبيذا غير الذي يشربونه، فقال فيهم: [المتقارب] نبيذان في مجلس واحد ... لإيثار مثر على مقتر فلو كان فعلك ذا في الطّعام ... لزمت قياسك في المسكر «1» ولو كنت تطلب شأو الكرام ... فعلت كفعل أبي البختري تتبّع إخوانه في البلاد ... فأغنى المقلّ عن المكثر فبلغت الأبيات أبا البختري، فبعث إليه ثلاث مئة دينار، قال ابن عمار: فقلت له: قد فعل جدّ هذا الفتى في هذا المعنى أحسن من هذا، قال: وما فعل؟ قال: بلغه أن رجلا افتقر بعد ثروة، فقالت له امرأته: افترض في الجند، فقال: «2» [البسيط] إليك عنّي فقد كلفّتني شططا ... حمل السّلاح وقيل الدار عين قف تمشي المنايا إلى قوم فأكرهها ... فكيف أمشي إليها عاري الكتف حسبت أنّ نفاد المال غيّرني ... وأنّ روحي في جنبي أبي دلف فبلغت الأبيات أبا دلف، فأحضره وقال: كم أملت أن تعيش؟ [قال:] عشرون سنة، قال: [ص 77] فأمر بإعطائه ألف دينار، قال: فرأيت وجه ابن أبي دلف يتهلل، وانكسر ابن أبي البختري انكسارا شديدا. في شعر أبي دلف «3» وله فيه صنعة قوله: «4» [الوافر]

بنفسي يا جنان وأنت منّي ... مكان الروح في جسد الجبان «1» ولو أنّي أقول مكان نفسي ... خشيت عليك بادرة الزّمان لإقدامي إذا ما الخيل خامت «2» ... وهاب كماتها حرّ الطّعان حدّث المبرّد قال: دخل عليّ بن جبلة الشاعر على أبي دلف فأنشده قصيدته التي يقول فيها: «3» [المديد] إنّما الدّنيا أبو دلف ... بين باديه ومحتضره فإذا ولّى أبو دلف ... ولّت الدّنيا على أثره يا دواء الأرض إن فسدت ... ومجير اليسر من عسره «4» لست أدري ما أقول له ... غير أن الأرض في خفره كلّ من في الأرض من عرب ... بين باديه إلى حضره مستعير منك مكرمة ... يكتسيها يوم مفتخره فاستحسنها القوم وقالوا: أيها الأمير ما هذه من قبله، وما هي إلا من نجر «5» رقيق الطبع، فقال له أبو دلف: ألا تسمع ما يقولون؟ قال: بلى أصلح الله الأمير، قال: والذي يصدقك، قال: أن أعطى صدورا فأردفها بأعجاز، فضحك أبو دلف

وقال: أنصفت وبالغت، ثم تناول أبو دلف القلم والبياض وكتب: «1» [الرجز] ريعت لمنشور على مفرقه ... ذمّ لها عهد الصّبا حين انتسب أهدام شيب جدد في رأسه ... مكروهة الجدّة أنضاد العقب ثم تناوله ذلك وقال: ابن لي عليه أبياتا، وقد أجّلتك فيه حولا، فقال: أيها الأمير، تأمر فيفرغ لي بيت حتى يكون أجلى للشك، فأمر أبو دلف أن يخلى له بيت، ثم ركب أبو دلف إلى المأمون وخرج معه متصيدا، فرجع آخر النهار، فلما نزل، لم ينزع سواده قال: ليت شعري ما خبر عليّ بن جبلة الشاعر؟ قال: أيها الأمير، إنه زعم أنه فرغ من عمل القصيدة، فقال: [ص 78] ويحكم أخرجوه إليّ، فأخرج. فقال أبو دلف: هيه يا عليّ، ما عملت؟ قال: قد فرغت، قال: هات ويحك، بيّض وجهي عند من زعم أنك لست بشاعر، فأنشأ يقول: «2» [الرجز] أشرقن في أسود أزرين به ... كان دجاه لهوى البيض سبب «3» فاعتقن أيام الغواني والصّبا ... عن ميّت مطلبه حبّ الأدب «4» لم يرتدع مرعويا حين ارعوى ... لكن يد لم تتّسع لمطّلب لم أر كالشّيب وقارا يجتوى ... أو كالشباب الغض ظلا يستلب «5» كان الشباب لمة ازهى بها ... وصاحبا غمرا عزيز المصطحب إذ أنا أجري ددنا في غيّه ... لا أعتب الدّهر إذا الدهر عتب «6»

أبعد شأو اللهو عن أخذنا ... وأقصد الخود وراء المحتجب «1» وأذعر الرّبرب عن أبطاله ... بأعوجيّ دلفيّ المنتسب «2» مطّردا يرتجّ في أقطاره ... كالماء جالت فيه ريح فاضطرب تحسبه أقعد في استقباله ... حتى إذا استدبرته قلت أكب «3» فهو على إرهافه وضمره ... يقصر عنه المحزمان واللّبب «4» تقول فيه جنب إذا استوى ... وهو كمتن القدح ما فيه جنب «5» إذا تمنّينا به صدّقه ... وإن تمنّى فوته العير كذب «6» لم يبلغ الجهد به راكبه ... ويبلغ الرمح به حيث طلب ثم اقتضى ذاك كأن لم يعنه ... وكلّ بقيا فإلى يوم العطب «7» فحمّل الدّهر ابن عيسى قاسما ... ينهض به أبلج فرّاج الكرب كرونق السّيف انبلاجا بالنّدى ... أو كغراريه على أهل الرّيب «8» لا وسنت عين رأت رؤيته ... فأيقظته نوبة من النّوب «9» لولا ندى القاسم كنّا هملا ... لم يعتقد مجد ولم يرع حسب

ولم يقم بيوم بأس وندى ... ولا تلاقى حسب إلى حسب [ص 79] تكاد تبدي الأرض ما تضمره ... إذا تنادى خيله هلا وهب «1» وتستهلّ أملا وخيفة ... إذا استهلّ وجهه وإن قطب وهو وإن كان ابن فرعي وائل ... فبمساعيه ترقّى في الحسب يا واحد الدّنيا ويا باب النّدى ... ويا مجيب الرّعب في يوم رهب لولاك ما كان سدى ولا ندى ... ولا قريش عرفت ولا عرب «2» خذها امتحانا من مليء بالثّنا ... لكنّه غير مليء بالنّشب «3» وقرّ بالأرض أو استنفر بها ... أنت عليها الرأس والنّاس ذنب فتهلل وجه أبي دلف سرورا به، وقال له: أحسنت لله أنت، ومثلك فليمدح الملوك، ثم أمر له بمائة ألف درهم، وخلعه سنية وفرس من مراكبه الخاصة، واعتذر إليه من التقصير. وقدم أبو الشمقمق «4» على أبي دلف، فلما دخل عليه سلم، فرد عليه السلام، ثم قال: ليس يمنعني منك أبا الشمقمق ملوك هذه الدنيا، قال: وما ألزمتهم؟ قال: تزعم أن كفّك عن الهجاء يقوم مقام المدح، وليس والله تأخذ مني صلة أو تمدحني، قال: قد مدحتك أيها الأمير، قال: هات، فأنشأ يقول: «5» [السريع]

من ملك الموت إلى قاسم ... رسالة في بطن قرطاس فقال أبو دلف ويلك، ما في بطن القرطاس؟ قال: يا فارس الهيجاء يوم الوغى ... مرني بمن شئت من النّاس فقال أبو دلف: أحسنت والله، فأسألك الآن بالله، هل هجوتني؟ فقال: أيها الأمير، سألتني بعظيم، نعم قد هجوتك، قال: فأنشدني، قال: على أن تؤمنني، قال: أنت في أمان (الله) تعالى، فأنشده يقول: «1» [مجزوء الرمل] قد بلوناك بالحرو ... ب فلم تأت طائلا وسألناك نائلا ... فوجدناك سائلا فقال أبو دلف: هجوتني قبل أن أستوجب الهجاء، فقال: أصلح الله الأمير، صيرته عدة، وهو ثوب نسجته ووضعته في تخت، فإن احتجت إليه نشرته وإلا كان مطويا [ص 80] فضحك أبو دلف وأمر له بعشرة آلاف درهم، وقال: دعه يكون مطويا. وقال القاسم بن عيسى المعروف بأبي دلف: [الطويل] وقالوا بلاد الشام أرض تقدست ... فما بالنا في أرضنا لا نقدس فلا شوقنا فان ولا الهم منقض ... ولا هدأة تغشى العيون فتنعس وقال أيضا: [الخفيف] عاقني عن وداعك الأشغال ... وأمور جرت عليّ ثقال في بلاد يذل فيها عزيز الن ... فس حتى تهينه الأنذال حيث لا مدفع بسيف من الضي ... م ولا للجياد فيها مجال

ومما ذكر أبو الفرج «1» : أن الأفشين «2» كان عرض لأبي دلف واعتل له باطنه، ذوى بدائه، وملئ بالعمل على إرادته، ولم يزل يغري به المعتصم ويرمي جانبه السليم منه بما يصم، حتى أسرّ إليه قتل أبي دلف، وأمر فيه بأمر يفضي به إلى التلف، فأخذه إليه وعفى على آثاره، وعمّى بصراء أخباره، فأتى الخبر ابن أبي دواد، وقد خيم الليل وطنب، وأسكت من أنب، ولم يبق باب إلا وقد أوثق بالرتاج، ولا أحد إلا وجفنه قد طعم النوم أو احتاج، فخاف إن أخّر إلى بكرة غده أن تفوت فيه الحيلة، وأن يودعه سر تلك الليلة الثقيلة، فدعا بجماعة من عدول الشهود، ونهض بهم إلى باب الأفشين حتى طرقه واستفتح غلقه، ثم دخل عليه هجما، وانقضّ شيطانه المريد في تلك الليلة رجما، وقال له: هؤلاء شهود أمير المؤمنين، وأنا قاضيه ورسوله إليك في أمر هو من وراء تقاضيه، وهو يأمرك بالإمهال في أمر «3» أبي دلف، وأنك لا تعجل عليه، ولا تمد يدك ببطش إليه، وها هو لديك حي يرزق وسالم الأعضاء، قادر على المضاء، وها أنا قد أبلغتك رسالة أمير المؤمنين، وهؤلاء يشهدون وفي بكرة غد لشهادتهم عند أمير المؤمنين يؤدون، وكان قد أحضر أبا دلف ليقتله في تلك الساعة والسيف مصلت قد أظمأه له وأجاعه ثم كرّ ابن أبي دواد راجعا، وترك الأفشين فاجعا، وكان ابن أبي دواد قد فعل هذه الأعجوبة، وأتى لإبقاء نفس ذلك «4» المسلم [ص 81] بهذه الأكذوبة، والمعتصم لم يخاطبه فيه ببنت شفة، ولا أراه من جنى نخلته له تمرة

ولا حشفة، فلم يكن له همّ إلا أن أنتظر آخر الليل، حتى طار غرابه، وجرد عن سيف النهار قرابه، وشرع الفجر ينفجر، والأفق بملاءة الصباح يعتجر، وبكر إلى دار الخلافة، والمعتصم قد انفتل عن المحراب، ولمح ابن أبي دواد فما استراب، فتقدم إليه، وقصّ عليه القصة، والمعتصم يسمع، وحدثه بما كادت له مقلته تدمع، وقال له: يا أمير المؤمنين، إني لم أجئك بتهمة في عمري سواها، ولا أتيت بمثلها ونفس وما سواها، ولو لم تكن إنقاذ وليّ من أوليائك وينجي بقاءه من حلوق أعدائك، لما فعلتها، ولا اجترأت على أمير المؤمنين وقلتها، فضحك أمير المؤمنين ضحك معجب بجميل صنعه، فعجل إلى عدم منعه، وقال له: قد أجزت ما قلت أيها القاضي وما فعلت، ثم بثّ رسله إلى الأفشين يأمره بإحضار أبي دلف، فما نشب أن أحضره، وسنّى إطلاقه، ثم لم يبرح ابن أبي دواد حتى أعاده إلى منزلته «1» ، وعاد الأفشين وأماته بعلته. قال ابن خلكان: «2» كان أبو دلف كريما سريا جوادا ممدحا شجاعا مقداما، ذا وقائع مشهورة، وصنائع مأثورة، أخذ عنه الأدباء الفضلاء، وله صنعة في الغناء، وصنّف عدة كتب في (البزاة والصيد) و (السلاح) و (النزه) و (سياسة الملوك) وغير ذلك، ومدحه أبو تمام الطائي بأحسن المدائح، وفيه يقول بكر بن النطاح: «3» [الكامل] يا طالبا للكيمياء وعلمه ... مدح ابن عيسى الكيمياء الأعظم

لو لم يكن في الأرض إلا درهم ... ومدحته لأتاك ذاك الدرهم ويحكى أنه أعطاه على هذين البيتين سبعين «1» ألف درهم، فأغفله قليلا، ثم دخل عليه وقد [اشترى] بتلك الدراهم قرية في نهر الأبلّة، فأنشده: «2» [الطويل] بك ابتّعت في نهر الأبلة قرية ... عليها قصير بالرّخام مشيد إلى جنبها أخت لها يعرضونها ... وعندك مال للهبات عتيد فقال له: وكم ثمن هذه الأخت؟ فقال: عشرة آلاف درهم، فدفعها له، ثم قال [ص 82] تعلم أن نهر الأبلّة عظيم وفيه قرى كثيرة، وكل أخت إلى جانبها أخرى، وإن فتحت هذا الباب اتسع الخرق، فاقنع بهذه ونصطلح عليها، فدعا له وانصرف. وقد ألمّ أبو بكر محمد بن هاشم «3» أحد الخالديين بمعنى قول بكر بن النطاح «4» المذكور في البيتين الأولين، فقال: «5» [الكامل] وتيقّن الشعراء أنّ رجاءهم ... في مأمن بك من وقوع الياس ما صحّ علم الكيمياء لغيرهم ... فيمن عرفنا من جميع النّاس

تعطيهم الأموال في بدر إذا ... حملوا الكلام إليك في قرطاس وكان أبو دلف قد لحق أكرادا قطعوا الطريق في عمله، فطعن فارسا فأنفذت الطعنة إلى فارس آخر وراءه رديفه، فنفذ فيه السنان، فقتلهما، فقال في ذلك ابن النطاح: «1» [الكامل] قالوا وينظم فارسين بطعنة ... يوم الهياج ولا نراه كليلا لا تعجبوا فلو أنّ طول قناته ... ميل إذا نظم الفوارس ميلا «2» وكان أبو عبد الله أحمد بن أبي فنن صالح مولى بني هاشم، أسود مشوه الخلق قصيرا، فقالت له امرأته: يا هذا، إن الأدب أراه قد سقط نجمه، وطاش سهمه، فاعمد إلى سيفك ورمحك وقوسك، وادخل مع الناس في غزواتهم، عسى الله أن ينفعك من الغنيمة بشيء، فأنشد يقول: «3» [البسيط] مالي ومالك [قد] كلفتني شططا ... حمل السلاح وقول الدّار عين قف أمن رجال المنايا خلتني رجلا ... أمسى وأصبح مشتاقا إلى التّلف تمشي المنايا إلى غيري فأكرهها ... فكيف أمشي إليها بارز الكتف ظننت أنّ نزال القرن من خلقي ... أو أنّ قلبي في جنبي أبي دلف «4» فبلغ خبره أبا دلف فوجّه إليه ألف دينار. وكان أبو دلف لكثرة عطائه قد ركبته الديون، واشتهر ذلك عنه، فدخل عليه بعضهم، وأنشده: «5» أيا ربّ المنائح والعطايا ... ويا طلق المحيّا واليدين

[ص 83] لقد خبّرت أنّ عليك دينا ... فزد في رقم دينك واقض ديني فوصله وقضى دينه. ودخل عليه بعض الشعراء وأنشده: «1» [البسيط] الله أجرى من الأرزاق أكثرها ... على يديك تعلّم يا أبا دلف ما خطّ (لا) كاتباه في صحيفته ... كما تخطط (لا) في سائر الصّحف بارى الرياح فأعطى وهي جارية ... حتّى إذا وقفت أعطى ولم يقف وكان أبوه قد شرع في عمارة مدينة الكرج «2» وأتمها هو، وكان بها أهله وعشيرته وأولاده، وكان قد مدحه بها بعض الشعراء فلم يحصل له منه ما في نفسه، فانفصل عنه وهو يقول: «3» [الطويل] دعيني أجوب الأرض في فلواتها ... فما الكرج الدنيا ولا الناس قاسم وهذا مثل قول بعضهم: «4» [البسيط] فإن رجعتم إلى الإحسان فهو لكم ... عبد كما كان مطواع ومذعان وإن أبيتم فأرض الله واسعة ... لا النّاس أنتم ولا الدنيا خراسان

ولما قدم أبو دلف من الكرج صنع الأمير علي بن عيسى بن ماهان مائدة، ودعاه إليها وكان قد احتفل بها غاية الاحتفال، فجاء بعض الشعراء ليدخل دار علي بن عيسى، فمنعه البواب، فتعرّض الشاعر لأبي دلف، وقد قصد دار علي بن عيسى، وبيده جزازة، فناوله إياها، فإذا فيها: «1» [مجزوء الخفيف] قل له إنّ لقيته ... متأن بلا وهج جئت في ألف فارس ... لغداء من الكرج ما على النّاس بعدها ... في الدناءات من حرج فرجع أبو دلف، وحلف أنه لا يدخل الدار ولا يأكل منها شيئا. وقيل إن الشاعر هو عباد بن الحريش. وقيل إن أبا دلف لما مرض مرض موته، حجب الناس عن الدخول إليه لثقل مرضه، فاتفق أنه أفاق في بعض الأيام فقال لحاجبه [ص 84] من بالباب من المحاويج؟ فقال: عشرة من الأشراف قد وصلوا من خراسان، ولهم بالباب عدة أيام لم يجدوا طريقا، فقعد على فراشه واستدعاهم، فلما دخلوا رحّب بهم وسألهم عن أحوالهم وبلادهم وسبب قدومهم، فقالوا: ضاقت بنا الأحوال وسمعنا بكرمك فقصدناك، فأمر خازنه بإحضار بعض الصناديق وأخرج منه عشرين كيسا في كل كيس ألف دينار، ودفع إلى كل واحد منهم كيسين، ثم أعطى كل واحد منهم مؤونة طريقه، وقال لهم: لا تمسوا الأكياس حتى تصلوا بها سالمة إلى بلادكم، واصرفوا هذا في مصالح الطريق، ثم قال: ليكتب كل واحد منهم خطه أنّه فلان بن فلان حتى ينتهي إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ويذكر جدته فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنها، ثم يكتب: يا

رسول الله، إني وجدت إضاقة وسوء حال في بلدي، فقصدت أبا دلف العجلي، فأعطاني ألفي دينار، كرامة لك، وطلبا لمرشاتك، ورجاء لشفاعتك، فكتب كل واحد منهم ذلك، وتسلّم الأوراق، وأوصى من يتولى تجهيزه إذا مات أن يضع تلك الأوراق في كفنه، حتى يلقى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعرضها عليه. وحكي عنه أنه قال: من لم يكن مغاليا في التشيع فهو ولد زناء، فقال ولده دلف له: يا أبتي لست على مذهبك، فقال له أبوه: لما وطئت أمك وعلقت بك ما كنت قد استبرأتها، فهذا من ذلك، والله أعلم. ومع هذا فقد حكى جماعة من أرباب التاريخ، أن دلف بن أبي دلف قال: رأيت في المنام آتيا أتاني، فقال: أجب الأمير، فقمت معه فأدخلني دارا وحشة وعرة سوداء الحيطان مغلقة «1» السقوف والأبواب، وأصعدني على درج منها، ثم أدخلني غرفة منها، في حيطانها أثر النيران، وإذا في أرضها أثر الرماد، وإذا بأبي وهو عريان واضع رأسه بين ركبتيه، فقال كالمستفهم: دلف؟ فقلت: دلف، فأنشأ يقول: «2» [الخفيف] أبلغن أهلنا ولا تخف عنهم ... ما لقينا في البرزخ الخنّاق قد سئلنا عن كلّ ما [قد] فعلنا ... فارحموا وحشتي وما قد ألاقي ثم قال: أفهمت؟ قلت: نعم، فأنشد: «3» [ص 85] [الوافر] فلو كنّا إذا متنا تركنا ... لكان الموت راحة كلّ حيّ ولكنّا إذا متنا بعثنا ... ونسأل بعده عن كلّ شيّ

26 - البردان

ثم قال: أفهمت؟ قلت: نعم، وانتبهت. توفي ببغداد سنة ست وعشرين ومئتين. 26- البردان «1» فقيه نزّل الغناء منزلة حسن الإنشاد، وبنى منزله على بيوته وشاد، حكم في القضاء، وحتم فيه بالإمضاء، ولم ينكر أنه يعرف الغناء، ويقطف منه اجتناء، لم ير بأسا بتصحيح الأصوات، وتنقيح أناشيد الأبيات، تكميلا لما حصل ذكره من فنون، وحصّن صدره من مكنون، حتى تجلت به أولى الليالي الغوابر، وأقالت الأيام الغوابر، وكان كأنما التطم به بحران، وانقاد الفضل كله بالجران، وأعاد دجى الليل وقد طلع بدره الطالع وهو بدران. قال إسحاق: قدّم إليه رجل خصما له يدّعي عليه حقا، فوجب الحكم «2» عليه، فأمر به إلى الحبس، فقال [له الرجل] : أنت بغير هذا أعلم منك بهذا، فقال: ردوه، فردوه، فقال: لعلك تعني الغناء، أي والله، إني لعارف به، ومهما جهلت فإني موجب الحق عليك عالم، اذهبوا به إلى الحبس ليخرج إلى غريمه من حقه. قال سياط «3» : رأيت البردان بالمدينة يتولّى سوقها، وقد أسنّ، فقلت: يا عم، إني قد رويت لك صوتا صنعته، فأردت أن تصححه لي، فقال لعله: [الوافر] كم أتى دون عهد أمّ جميل «4»

27 - سائب خاثر

قلت: نعم، فقال: قم بنا، ومال إلى دار في السوق، ثم قال: غنّه، فقلت: بل تتمّ يا عمّ إحسانك وتغنيني أنت به، فإن سمعته كما أقوله غنيته وإن [كان] فيه مستصلح «1» استعدته، فضحك وقال: أنت لست تريد تصحيح غناء، إنما تريد أن تقول إنك سمعتني وأنا شيخ وقد انقطعت [ص 86] وأنت شاب، فقلت للجماعة: إن رأيتم أن تسألوه أن يشفّعني «2» فيما طلبت منه فسألوه فاندفع فغنّاه وأعاده ثلاث مرات، فما رأيت أحسن من غنائه، على «3» كبر سنه ونقصان صوته، ثم قال: غنّه، فغنيته فطرب الشيخ حتى بكى وقال: اذهب يا بني، فأنت أحسن الناس غناء، وإن عشت ليكونن لك شأن. 27- سائب خاثر «4» مطرب حرّك بغنائه معاوية الحكيم، وحرّض على «5» الإنفاق عبد الله بن جعفر الكريم، وأحدث للعرب ما لم تكن تعهد ونفث، فلم يكن يخلو «6» من

نفثاته بيت ولا معهد، اقترح في الغناء وفتح فيه للبناء، تقيّل عن الفرس غرائب الضروب، وغزائر الفكر التي ترنّح كلّ طروب، وحظي لدى أشراف المدينة لغناء كان يحلّ حباهم «1» ويحل مثله رباهم، إلا أنه جرى جري الجواد، وترك الكل للجواد، كان قدم إلى المدينة رجل فارسي يعرف ببسيط يغني بها، فأعجب عبد الله بن جعفر، فقال له سائب خاثر: أنا أصنع لك مثل غناء هذا الفارسي بالعربي، ثم غدا على عبد الله بن جعفر، وقد صنع: «2» [الكامل] لمن الديار رسومها قفر وهذا أوّل صوت غنّي به في الإسلام من الغناء المتقن في الصنعة. قال: ثم اشترى عبد الله بن جعفر بسيطا بعد ذلك، فأخذ عن سائب خاثر الغناء العربي، وأخذ عن سائب أيضا ابن سريج وجميلة ومعبد وعزّة الميلاء وغيرهم. قال: وفد عبد الله بن جعفر على معاوية، ومعه سائب خاثر، فوقّع له في حوائجه «3» ، ثم عرض عليه حاجة لسائب خاثر، فقال معاوية: من هذا؟ فقال: رجل من أهل المدينة ليثي، ويروي الشعر، قال: أو كلّ من روى الشعر ازداد فضله؟ قال: إنه يحسّنه، قال: وإن حسّنه، قال: أفأدخله إليك يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم، فلما دخل قام على الباب فرفع صوته، ثم غنّى: «4» [الكامل]

لمن الدّيار رسومها قفر ... لعبت بها الأرواح والقطر فالتفت معاوية إلى عبد الله وقال: أشهد لقد حسّنه، وقضى حوائجه. قال: [ص 87] أشرف معاوية ليلا على منزل يزيد ابنه، فسمع صوتا أعجبه، واستخفّه السماع، فاستمع قائما حتى ملّ، ثم دعا بكرسي فجلس عليه، واستمع بقية ليلته، فلما أصبح غدا عليه يزيد فقال له: يا بني، من كان جليسك البارحة؟ قال: أي جليس يا أمير المؤمنين؟ وتجاهل عليه، فقال: عرفني، فإنه لم يخف عليّ شيء من أمرك، قال: سائب خاثر، قال: فاخثر «1» له يا بني من برك، فما [رأيت] بمجالسته بأسا. قال ابن الكلبي: وفد معاوية المدينة في بعض ما كان يفد، فأمر حاجبه بالإذن للناس، فخرج الحاجب، ثم رجع فقال: ما بالباب من أحد، قال: وأين الناس؟ قال: عند عبد الله بن جعفر، فدعا معاوية ببغلته فركبها، ثم توجه إليهم، فلما جلس قام سائب خاثر، ومشى بين السماطين «2» وتغنّى: «3» [الطويل] لنا الجفنات الغرّ يلمعن بالضّحى ... وأسيافنا يقطرن من نجدة دما فطرب معاوية وأصغى إليه حتى سكت، وهو مستحسن لذلك، ثم قام وانصرف. قال: وقتل سائب خاثر يوم الحرّة، فلما عرضت أسماء من قتل على يزيد بن معاوية، مرّ به اسمه، فقال: إنا لله، وبلغ القتل إلى سائب خاثر إلى طبقته، ما

28 - عبد الله بن جدعان [ص 88]

أظن أنه بقي بالمدينة من أحد، ثم قال: قبّحكم الله يا أهل الشام، تجدهم صادفوه في حديقة أو حائط مستترا فقتلوه. وحدّث مويلك عن أبيه «1» قال: قال لي سائب خاثر يوم الحرّة: هل أسمعك شيئا صنعته؟ فغنّاني: «2» [الطويل] لمن طلل بين الكراع إلى القصر ... يغيّر عنالونه سبل القطر «3» قال: فسمعت عجبا معجبا من ذكر أهله وولده، فقلت: فما يمنعك من الرجوع إليهم؟ فقال: أما بعد شيء سمعته، ورأيته من يزيد بن معاوية فلا، ثم تقدم فقاتل حتى قتل. وتمام الصوت: «4» سوى خامدات ما يرمن وهامد ... وأشعث ترميه الوليدة بالفهر 28- عبد الله بن جدعان «5» [ص 88] سيد تيم في الجاهلية، ومشيد المفاخر الجليّة، شرّفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بدخول داره، وطرفه مطارف فخاره، وكان قد أتى كسرى ملك آل

ساسان، وسمع عنه غناء الحسان، وشدا جانبا مما سمع، واحتذى منه مالو علم جمع، وإنما كان هو وسادات العرب يتغنى غناء الركبان، ويتأتى به خلا [ل] الفضلاء ورؤوس الكثبان، وقد ذكر أبو الفرج في أنباء صوت ذكر، وصوب من بارقه الجنوبي مبتكر. قالت عائشة رضي الله عنها: قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ابن جدعان في الجاهلية كان يصل الرحم، ويطعم المساكين، فهل تلك نافعة له؟ قال: (لا، لأنه لم يقل اللهم اغفر لي خطيئتي يوم الدين) . قال: قدم أمية بن أبي الصلت «1» على عبد الله بن جدعان، فقال عبد الله: أمر ما أتى بك؟ فقال أمية: كلاب وغرماء «2» قد نبحتني ونهشتني، فقال له عبد الله: قدمت عليّ وأنا عليل من حقوق لزمتني، فأنظرني قليلا يحم «3» ما في يدي، وقد ضمنت قضاء دينك، ولا أسألك مبلغه، فأقام اميّة ايّاما ثم قال: «4» [الوافر] أأذكر حاجتي أم قد كفاني ... حياؤك إن شيمتك الحياء وعلمك بالأمور وأنت قرم ... لك الحسب المهذّب والسّناء

كريم لا يغيّره صباح ... عن الخلق السّني ولا مساء تباري الريح مكرمة وجودا ... إذا ما الكلب احجره الشتاء إذا أثنى عليك المرء يوما ... كفاه من تعرّضه الثّناء فلما أنشده أمية هذا الشعر كانت عنده قينتان، فقال لأمية: خذ إحداهما، فأخذ إحداهما وانصرف، فمر بمجلس من مجالس قريش، فلاموه على أخذها، وقالوا: لقد لقيته عائلا، ولو رددتها، فإن الشيخ محتاج إلى خدمتها، كان ذلك أقرب لك عنده، فوقع الكلام في أمية موقعا، وندم فرجع لردها إليه، فلما أتاه بها قال ابن جدعان: لعلك إنما رددتها لأن قريشا لاموك على أخذها، ووصف لأمية ما قال القوم له، فقال له أمية، والله ما أخطأت يا أبا زهير، فقال عبد الله: فما الذي قلت في ذلك؟ فقال [ص 89] أمية: «1» [الطويل] وليس بشين لا مرئ بذل وجهه ... اليك كما بعض السؤال يشين فقال عبد الله لأمية: خذها، يعني الأخرى، فأخذهما جميعا وانصرف. قال الحسن المروزي: سألت سفيان بن عيينة فقلت: يا [أبا] محمد، ما تفسير قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (كان دعاء أكثر الأنبياء قبلي بعرفة لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) وإنما هو ذكر وليس فيها من الرجاء شيء» ، فقال لي أعرفت حديث مالك بن الحويرث، يقول الله جل ذكره: «إذا شغل عبدي ثناؤه عليّ عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطى السائلين» ، قال: قلت: نعم، أنت حدثتنيه عن منصور عن مالك ابن الحويرث، قال: فهذا تفسير ذلك، ثم قال: أعلمت ما قال أمية بن أبي الصّلت

29 - متيم الهشامية

حين خرج إلى ابن جدعان يطلب نائله؟ قلت: لا أدري، قال: قال فيه: «1» [الوافر] أأذكر حاجتي أم قد كفاني ... حياؤك إنّ شيمتك الحياء إذا أثنى عليك المرء يوما ... كفاه من تعرّضه الثناء ثم قال سفيان: فهذا مخلوق بسبب الجود قيل له: يكفينا من مسألتك أن نثني عليك ونسكت حتى تأتي حاجتنا، فكيف بالحق عز وجل؟ وكان ابن جدعان ممّن حرّم على نفسه الخمر في الجاهلية، وذلك أن أمية شرب معه، فلما أصبح رأى بعين أمية أثرا، فقال: ما هذا، فعرفه أنه فعله به، فأعطاه عشرة آلاف درهم دية عينه، وقال: الخمر عليّ حرام. 29- متيّم الهشاميّة «2» وكانت مقيم سرور، ومديم غرور، ولو مرت بأم خشف سانح، سلبت منها ما في الجوانح، كانت لبني هاشم سرّة البطحاء، ومسرّة أهل الرّوحاء، نشأت في تلك البيوت تمتع بحلولها، وتحدّ لحاظها في غلولها، إذا غنّت تجدد صبوة الهرم، وتشب صفحة الماء فيضطرم لا تخلو أيادي سراة لها من ذكر لا ينصرف سراه، ولا

يتفرق مجمع إلا ولها فضل عليه يجمع ودامت «1» . قال أبو الفرج: كلّم عليّ بن هشام «2» [ص 90] متيّما «3» بشيء فأجابته جوابا لم يرضه فدفع [يده] في صدرها فغضبت ونهضت، وتثاقلت عن الخروج إليه، فكتب إليها: «4» [الطويل] فليت يدي باتت غداة مددتها ... إليك فلم ترجع بكفّ وساعد فإن يرجع الرحمن ما كان بيننا ... فلست إلى يوم التنادي بعائد قال: فتمادى غضبها وترضاها فلم ترض، فكتب إليها: الإدلال يدعو إلى الإملال «5» ، ورب هجر دعا إلى صبر، وإنما سمي القلب قلبا لتقلّبه ولقد صدق العباس بن الأحنف حيث يقول: «6» [الخفيف] ما أراني الا سأهجر من لي ... س يراني أقوى على الهجران مّلني واثقا بحسن وفائي ... ما أضرّ الوفاء بالإنسان «7» قال: مرت متيم في نسوة وهي متخفية بقصر على بن هشام بعد أن قتل، فلما رأت بابه مغلقا لا أنيس به، وقد علاه التراب، وقد طرحت في أفنيته المزابل،

30 - سلامة القس

وقفت عليه وتمثلت: «1» [السريع] يا منزلا لم تبل أطلاله ... حاشا لأطلالك أن تبلى لم أبك أطلالك لكنّني ... بكيت عيشي فيك إذ ولّى قد كان لي فيك هوى مرّة ... غيّبه التّرب وما ملا فصرت أبكي بعده جاهدا ... عند ادّكاري حيثما حلا والعيش أولى ما بكاه الفتى ... لا بدّ للمحزون أن يسلى قال: ثم بكت حتى سقطت من قامتها، وجعل النسوة يقلن لها: نفسك فإنك تؤخذين الآن، فبعد لأي احتملت بين امرأتين، حتى جاوزت الموضع. 30- سلّامة القسّ «2» وكانت شمس كواكب وأنس لاعب، لو قابلت البدر لاستتر، أو هابّت النسيم لفتر، قد طالت منى، وطابت جنى، وعرفت بالقس لأن بها لا يقاس، ولأن كل قلب لها دير أو كناس، أوقفت الغوادي، وبدت كالقمر البادي، إلى غناء تخالس الجليس ويحتبس الظعائن [ص 91] وقد شدّت العيس، يغنى عن منّة الأوتار، ورنّة الإعلان عند بلوغ الأوطار «3» .

قال أبو الفرج: إنما سمّيت سلامة القس، لأن رجلا يعرف بعبد الرحمن بن عمار الجشمي من قرّاء أهل مكة، كان يلقب القس لعبادته وأنه مرّ بمنزل أستاذ سلامة، فسمع غناءها فهويها «1» وهويته، وشغف بها واشتهر، حتى غلب عليها لقبه، وفيها يقول: «2» [الوافر] أهابك أن أقول بذلت نفسي ... ولو أنّي أطيع القلب قالا «3» حياء منك حتّى سلّ جسمي ... وشقّ عليّ كتماني وطالا قال إسحاق: كانت حبابة وسلامة من قيان أهل المدينة، وكانتا حاذقتين ضاربتين ظريفتين، وكانت سلامة أحسنهما وجها، وكانت سلامة تقول الشعر، وكانت حبابة تتعاطاه فلا تحسنه. قال أيوب بن عباية: كانت سلامة أحسنهما غناء، وهي المقدمة فلما صارتا إلى يزيد بن عبد الملك، ورأت حبّابة إيثار يزيد لها، ومحبته إياها، استخفت بسلامة «4» ، فقالت لها: يا أخيّة، نسيت فضيلتي عليك، ويلك، أين تأديب الغناء؟ وأين خلق التعليم؟ أنسيت قول جميلة وهي تطارحنا وتقول: خذي اتقان ما أطارحك من أختك سلامة ولن تزالي بخير ما بقيت لك، وكان أمركما مؤتلفا، قالت: صدقت يا أخت والله لا عدت إلى شيء تكرهينه، فما عادت إلى مكروه، وماتت حبّابة، وعاشت سلامة بعدها زمانا طويلا. قال: لما قدم عثمان بن حيان المري المدينة واليا عليها، قال له قوم من وجوه الناس: إنك وليت المدينة على كثرة من الفساد، فإن كنت تريد أن تصلح،

فطهرها من الغناء والزنا، فصاح في ذلك وأجلّ أهلها «1» ثلاثا يخرجون فيها من المدينة، وكان ابن أبي عتيق غائبا، فلما كان آخر ليلة من الأجل قدم، قال: لا أدخل على منزلي حتى أدخل على سلامة القس، فدخل عليها فقال: ما دخلت منزلي حتى جئتكم أسلم عليكم، قالوا: ما أغفلك عن أمرنا؟ وأخبروه الخبر، فقال: [ص 92] اصبروا الليلة، فقالوا: نخاف ألا يمكنك شيء، قال: إن خفتم شيئا فاخرجوا في السّحر، ثم خرج فاستأذن على عثمان بن حيان، فأذن له وذكر غيبته وأنه جاء لقضاء حقه، ثم جزاه خيرا على ما فعل من إخراج أهل الغناء والزنا، وقال: [أرجو أن] «2» لا تكون عملت عملا هو خير لك من ذلك، قال عثمان: قد فعلت وأشار به عليّ أصحابك، قال: قد أصبت، ولكن ما تقول- أكرمك الله- في امرأة كأنت هذه صناعتها، وكانت تكره على ذلك، ثم تركته وأقبلت على الصوم والصلاة والخير، وإني رسولها إليك، تقول: أتوجه اليك وأعوذ «3» بك أن يخرجني من جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم ومسجده، قال فإني أدعها لك ولكلامك، قال ابن أبي عتيق: لا يدعك الناس، ولكن تأتيك وتسمع كلامها وتنظر إليها، فإن رأيت أن مثلها ينبغي أن يترك تركتها، قال: نعم، فجاء بها وقال: احملي معك سبحة وتخشعي، ففعلت، فلما دخلت عليه حدثته، فإذا هي أعلم الناس بالأخبار والأحاديث، فأعجب بها، وحدثته عن آبائه وأمورهم ففكه «4» لذلك، فقال لها ابن أبي عتيق: اقرئي على الأمير، فقرأت له، فقال: احدي «5» للأمير، ففعلت، فكبر عجبه بها، فقال: كيف لو سمعتها في صناعتها، فلم يزل يزين لها شيئا بعد شيء حتى أمرها بالغناء، فقال لها ابن أبي

عتيق عند ذلك غني: «1» [الطويل] سددن خصاص الخيم لمّا دخلنه ... بكلّ لبان واضح وجبين «2» فغنّته، فقام عثمان من مجلسه فقعد بين يديها، ثم قال: لا والله ما مثل هذا من يخرج، فقال له ابن أبي عتيق: لا يدعك الناس، يقولون: أقرّ سلامة واخرج غيرها، قال: فدعوهم جميعا، فتركوا وأصبح الناس يتحدثون بذلك، يقولون: كلّم ابن أبي عتيق في سلامة فتركوا جميعا. قال ابن أبي أويس: كان يزيد بن عبد الملك [يقول] : ما يقرّ بعيني ما أتيت من أمر الخلافة، حتى أشتري «3» سلامة وحبّابة، فأرسل فاشتريتا، فلما اجتمعتا عنده قال أنا والله كما قال الشاعر «4» : [الطويل] فألقت عصاها فاستقرّ بها النّوى ... كما قرّ عينا بالإياب المسافر [ص 93] فلما توفي يزيد رثته سلامة وهي تنوح على قبره «5» : [مجزوء الرمل] لا تلمنا إن خشعنا ... أو هممنا بخشوع إذ فقدنا سيّدا كا ... ن لنا غير مضيع قد لعمري بتّ ليلي ... كأخي الداء الوجيع كلّما أبصرت ربعا ... خاليا فاضت دموعي «6»

31 - عبيد الله بن عبد الله بن طاهر

31- عبيد الله بن عبد الله بن طاهر «1» توشّح بالأدب، وترشّح للطلب، واقتنى الجواري وأخذهنّ بالإحسان، وألقى عليهن الأصوات، وأبقى لهن حياة في الأموات، ولم يكن يذكر بالغناء إلا جواريه، ولا يظهر، ولو فعل لم يكن أحد يباريه، وإنما كان كلفا بالشعر والإحسان [في] قريضه، ومحاسن تصريحه وتعريضه، وهو فرع من تلك الغضراء، وبقية من تلك الدولة الغراء. قال أبو الفرج، قال جحظة: كان المعتضد [يغنّى] بصوت لشاجي، فأرسل إلى عبيد الله يقسم بأن يأمرها بزيارته، ففعل، قال جحظة: فحدثني من حضر من المغنيات ذلك المجلس يخدمون المعتضد، قلن: دخلت علينا، وما منّا إلا من يرفل في الحليّ والحلل، وهي في أثواب ليست كأثوابنا، فاحتقرناها، فلما غنّت احتقرنا أنفسنا، ولم يزل كذلك حالنا إلى أن صارت في أعيننا كالجبل، وصرنا كلا شيء، قال: ولما انصرفت أمر لها المعتضد بمال وكسوة، ودخلت على مولاها، فجعل يسألها عن خبرها وما استطرفت مما رأت، وما استغربت مما سمعت، فقالت: ما استحسنت هناك ولا استغربته من غناء ولا غيره، إلا عودا محفورا من عود، فإني استظرفته، قال جحظة: فما قولك فيمن دخل إلى دار الخلافة فلم تمتد عينه إلى شيء استحسنه إلا عودا. قال بعضهم: كنت عند عبيد الله بن عبد الله بن طاهر، وعنده أخوه محمد

يأمره بإحضاري وتقليدي القضاء، وقد بلغت هذه «1» السن وأتولى القضاء بعدها، وبعد ما قد رويت: من ولي القضاء فقد ذبح بغير سكين [ص 94] فقال محمد: فتلحق أمير المؤمنين (بسرّمن رأى) وتسأله إعفاءك، قال: أفعل، فأمر له بمال ينفقه وبظهر يحمله ويحمل ثقله، ثم قال: إن رأيت يا أبا عبد الله أن تفيدنا منك شيئا قبل أن نفترق، قال: نعم، انصرفت من عمرة المحرّم، فبينما أنا بالعرج إذ أنا بجماعة مجتمعة، فأقبلت إليهم، فإذا أنا برجل كان يتقنّص الظّباء، وقد وقع ظبي في حبائله، فذبحه فانتفض في يده فضرب بقرنه صدره فمات، وأقبلت فتاة كأنها المهاة، فلما رأت زوجها ميتا شهقت وقالت: «2» [البسيط] يا حص جمّع أحشائي وقلقلها ... رداك يا حصن لولا غرّة جلل أضحت فتاة بني نهد علانية ... وبعلها فوق أيدي القوم محتمل قال: ثم شهقت فماتت، فما رأيت أعجب من الثلاثة؛ الظبي مذبوح، والرجل ميت جريح، والفتاة ميتة حرّى، قال: فأمر له عبيد الله بمال آخر، ثم أقبل على أخيه محمد فقال له: أما إن الذي أخذنا من الفائدة في خبر حسن وفي قولها: أضحت فتاة بني نهد علانية - تريد ظاهرة- أكثر مما أعطيناه من الصلة. ومن شعر عبيد الله بن طاهر: «3» [الطويل] فأنفق إذا أيسرت غير مقصّر ... وأنفق إذا خيّلت أنك معسر فلا الجود يغني المال والجدّ مقبل ... ولا البخل يبقي المال والجدّ مدبر

32 - محمد بن الحارث بن بسخنر

32- محمّد بن الحارث بن بسخنّر «1» رئيس طرب يشجي صوته الورقاء إذا ناحت، وذات اللفاء (؟) إذا باحت، طالما صبّ الدموع دما، وصدّ الثاكل أن يتذكّر عدما، لو باكى السيل لاستوقفه إذ جرى، أو شاكى المسهد لأشغله عن الكرى، راق الخلفاء كأس عناية، واتخذوه لذماء «2» الروح أجل غذائه، فكانوا لا يرون سرورا بغيره يتمّ، ولا حبورا بسواه يلمّ. قال أبو الفرج: كان قديما يغنّي بالمعزفة «3» [ص 95] وكانت تحمل معه إلى دار الخلافة، فمر غلامه بها يوما، فقال قوم كانوا جلوسا على الطريق: مع هذا الغلام مصيدة الفأر، قال بعضهم: لا، هذه معزفة محمد بن الحارث، فحلف يومئذ بالطلاق والعتاق لا يغنّي بمعزفة أبدا، أنفة [من] أن تشبه التي يغني بها بمصيدة الفار، فصار يغني مرتجلا، وكان أحسن الناس أخذا للغناء وأحسنهم أداة. قال أبو عبد الله الهاشمي، سمعت إسحاق المصعبي يقول للواثق، قال لي إسحاق بن إبراهيم الموصلي: ما قدر أحد أن يأخذ شيئا مستويا إلا محمد بن الحارث، فقال له الواثق: حدثني إسحاق عن إسحاق الموصلي بكذا وكذا، قال: قد قال لي إسحاق مرارا، قال له الواثق: فأي شيء أحدث من صنعته أحسن عندك؟ فقال: هو يزعم أنه لم يأخذ منه أحد قط هذا الصوت كما أخذته، وهو هذا: «4» [الطويل]

إذا المرء قاسى الدهر وأبيضّ رأسه ... وثلّم تثليم الإناء جوانبه فليس له في العيش خير وإن بكى ... على العيش أو رجّى الذي هو كاذبه فأمره الواثق أن يغنيه إياه، فأحسن واستعاده الواثق منه، فاستحسنه، وأمر برده مرارا حتى أخذه الواثق، وأخذه جواريه والمغنون. وذكر يحيى المنجم أن إسحاق غنّى بحضرة الواثق: «1» [الطويل] ذكرتك إذ مرت بنا أمّ شادن ... أمام المطايا تشرئبّ وتسنح «2» من المؤلفات الرّمل أدماء حرّة ... شعاع الضحى من متنها يتوضّح «3» فأمره الواثق أن يعيده على الجواري، وأحلفه بحياته أن ينصح فيه، فقال: لا يستطعن «4» الجواري أن يأخذنه مني، ولكن يحضر محمد بن الحارث فيأخذه مني، وتأخذه الجواري منه، فأحضره وألقاه عليه، فأخذه منه، وألقاه على الجواري. قال أحمد بن الحسن بن هشام: جاءني محمد بن الحارث بن بسخنّر يوما، فقال لي: قم حتى أطفّل بك على صديق لي حر، وله جارية احسن خلق الله تعالى وجها وغناء، فقلت: أنت طفيليّ وتطفل بي؟ هذا والله [ص 96] أخس حال، وقمت معه فقصد بي دار رجل من فتيان (سرّ من رأى) كان لي صديقا، ويكنى أبا صالح، وقد غيّرت كنيته على سبيل اللقب «5» ، فلقّب أبا الصالحات، وكان

ظريفا حسن المروءة، ويضرب بالعود على مذهب الفرس ضربا حسنا، ولم يكن منزله يخلو من طعام وشراب، لكثرة من يقصده من إخوانه، فلما طرق بابه، قلت: فرجت عني [هذا] «1» صديقي، فدخلنا، وقدم لنا طعاما نظيفا فأكلنا، وأحضر النبيذ وأحضر جاريته، فغنت غناء حسنا، ثم غنت صوتا كانت أخذته من محمد بن الحارث، من صنعته، والشعر لابن أبي عيينة: «2» [الكامل] ضيّعت عهد فتى لعهدك حافظ ... في حفظه عجب وفي تضييعك إن تقتليه وتذهبي بفؤاده ... فبحسن وجهك لا بحسن صنيعك فطرب محمد بن الحارث، ونقطها بدنانير مسيّفة «3» كانت في خريطته، ووجه بغلامه فجاءها ببرنية «4» فيها غالية فغلفها «5» منها، ووهبها الباقي، وكان معنا أخ لمحمد بن الحارث يكنّى أبا هارون ظريف طيب، فطرب ونعر ونخر «6» ، وقال لأخيه: والله إني أريد أن أقول لك شيئا في السر، وأسألك أن تخبرني هل فيه حرج، قال: قله علانية، قال: لا يصلح، قال: والله ما بيني وبينك شيء أبالي أن أقوله جهرا، فقله، قال: أشتهي أن تسأل أبا الصالحات أن ينيكني، فعسى صوتي أن ينصلح ويطيب غنائي، فضحك أبو الصالحات، وخجلت الجارية وغطت وجهها.

قال أبو العباس: حدثني محمد بن الحارث بن بسخنّر عن ابنه، قال لي الرشيد: أنا عليّ أن أتغدّى عندك في غد، قال: فضاق عليّ من الأرض العريض، فجئت إلى عبد الملك بن صالح وقلت له: قد وقعت في بلية، قال: وما هي؟ قلت: زعم الرشيد انه يتغدّى عندي غدا، فقال: اذهب ففرّغ جهودك للقلايا والمعلكة ولا يخفك بسوى ذلك، قال: ففعلت، فلما جاءني قال: دعني من تخليطك وهلم إليّ بقلايا «1» ومعلكة، قال: فجئت بها، فقال: ضع يدك على رأسي، واحلف لتصدقني، قال: فوضعت يدي على رأسه وحلفت [ص 97] ، قال: من أشار عليك بهذا؟ قلت: عبد الملك بن صالح، قال: أما والله لو كان طولب بالعشرة آلاف التي عليه، لما تفرغ لفضول الرأي. قال محمد بن الحارث: كنت مع المأمون وهو يريد بلاد الروم، ومعه عدة من المغنين، فجلس يوما والمعتصم والعباس، فبعث المأمون بأصل شاهسفوص «2» وقد لفّ على رأسه حرير، فجاءني الغلام وقال: أعد الصوت، فأخذته وشممته، ووثبت فغنيته قائما، ووضعت الأصل بين يديّ وقلت للمغنين: حكم لي أمير المؤمنين عليكم بالحذق «3» بالغناء، قالوا: وكيف: [قال] قد دفع إليّ لواء الغناء من بينكم، قالوا: ليس كما ذكرت، ولكن حيّاك إذ أطربته، والرسول قائم، فانصرف بالخبر، فما لبث أن رجع فقال: كما قلت.

قال: صنع محمد بن الحارث لحنا في: «1» [مجزوء الكامل] أصبحت عبدا مسترقّا ... أبكي الألى سكنوا دمشقا أعطيتهم قلبي فمن ... يبقى بلا قلب فأبقى وطرحه على المسدود الطنبوري، فوقع له موقعا حسنا، واستحسنه محمد بن الحارث منه، فقال له: أتحبّ أن أهبه لك؟ قال: نعم، قال: قد فعلت، وكان يغنيه ويدعيه، إنما هو لمحمد بن الحارث. قال: دعا إسحاق بن إبراهيم المصعبي المأمون، فصار إليه معه المعتصم وعبد الله ابن طاهر وسائر جلسائه ومغنيه، فلما جلس المأمون على شرابه، كان ممن حضر المجلس من المغنين محمد بن الحارث، وقد شاع في المأمون الطرب، فغناه: «2» [المنسرح] لو كان حولي بنو أميّة لم ... تنطق رجال أراهم نطقوا قال: فغضب المأمون، ودارت عينه في رأسه، وكان لا يكاد يغضب، فإذا غضب بلغ غاية الغضب، ثم التفت إليه فقال: تغنّيني في وقت سروري «3» ، وساعة طربي في شعر تمدح فيه أعدائي، وأنت مولاي، وربيب نعمتي؟ ادعوا أحمد [ص 98] بن هشام، وكان على حرسه، وكان المأمون لا يمضي إلى موضع، إلا ومعه صاحب شرطته وحرسه، وكان احمد قاعدا في حراقة «4» على باب إسحاق في دجلة، فجاء أحمد حتى مثل بين يديه، وكان عبد الله بن طاهر قد قام ليجدد وضوءا، فقال أحمد: خذه إليك فاضرب عنقه وانتسفه من الأرض، ومرّ به مبادرا

33 - عبد الله بن طاهر

لينفذ أمره فيه، ولم يتهيأ لإسحاق كلام المأمون فيه، وعدل إلى عبد الله بن طاهر فأخبره الخبر وقال: إن تهيأ هذا في منزلي يوم فخري وسروري كانت سبّة عليّ وعلى أهلي، فهدأ أحمد، فسأله أن يتوقف ويبادر إلى أمير المؤمنين يسأله العفو عنه، فقال عبد الله بن طاهر لأحمد في التوقف عنه، وجاء حتى أقام بين يدي المأمون وهو على غضب، فأمره بالجلوس، فأبى، فقال: لم؟ قال: يا أمير المؤمنين، نعمك عليّ جلية، ومننك لديّ نفيسة، وفي نفسي وأهلي عظيمة، وهذا يوم شرّفت فيه ابن عمي إسحاق بزيارته، ورفعت بذلك من قدره، وأعليت من ذكره، وقد كان من هذا الجاهل ما كان، فإن «1» في سعة خلق أمير المؤمنين، وكرم عفوه، أن يعود عليه بفضله، والطول بصفحه، ولا يخرجه إلا إلى ما خرج من الأمر بقتله، كان هذا شيئا إن تهيأ في منزل خادمه كان سبة عليه وعلينا إلى آخر الدهر، هذا إلى حرمة محمد وخدمته، وإن الذي تمّ عليه كان بسوء الاتفاق لا العمد، فإن رأى أمير المؤمنين أن يعود بحلمه ويراجع ما عوّد الله خدمه من العفو والإقالة، قال: قد فعلت، وأمر برده إلى مجلسه، فجاء فوقف بين يديه فقال: إياك ومعاودة مثل ما كان منك، وأخذ في لهو ولعب وسرور. 33- عبد الله بن طاهر «2» ملك علا علو النجوم، وجاد جود «3» الغيوم، وأجاد في كل ضرب من

الإحسان، وكانت أيامه أيام الورد في نيسان، محلا النجاد بأدب حل منه النجاد، ووقار رأى الطود إليه الافتقار، وهو من أبناء الشيعة العباسية في رأس فرقها، ومجمع طرفها، صعدت فيها جدوده الذروة، وسعدت لتمسكها بالعروة، وكان عبد الله يتكلم الغناء وهو معبده وغريضه، ويده فيه لا تقصر به ولا نهوضه [ص 99] إنما كان يخاف به الإزراء، وتعدّ أصواته المنسوبة إليه الأرزاء. قال أبو الفرج: أعطي عبد الله بن طاهر مال مصر لسنة، خراجها وضياعها، فوهبه كله وفرقه على الناس، ورجع صفرا من ذلك، فغاظ المأمون فعله، فدخل إليه يوما بعد مقدمه فأنشده «1» : [البسيط] نفسي فداؤك والأعناق خاضعة ... للنائبات أبيّا غير مهتضم إليك أقبلت من أرض أقمت بها ... حولين بعدك في شوق وفي ألم أقفو مساعيك اللاتي خصصت بها ... حذو الشّراك على مثل من الأدم فكان فضلي منها أنّني تبع ... لما سننت من الإحسان والكرم فضحك المأمون وقال: والله ما نفست عليك مكرمة نلتها «2» ، ولا أحدوثة حسن عنك ذكرها، ولكن هذا شيء إذا عودته نفسك افتقرت ولم تقدر على لمّ شعثك ولا إصلاح حالك، وزال ما كان في نفسه. وقال غيره: لما افتتح عبد الله بن طاهر مصر، سوغه المأمون خراجها، فصعد المنبر، فلم يزل حتى أجاز بها ثلاثة آلاف ألف دينار ونحوها، فأتاه معلّى الطائي وقال: اعلموه ما صنع، وكان واجدا عليه، فوقف بين يديه تحت المنبر وقال: أصلح الله الأمير، أنا معلّى الطائي، وقد بلغ منّي ما كان منك من جفاء وغلظة،

فلا يغلظن علي قلبك، ولا يستخفنك الذي بلغك، أنا الذي أقول «1» : [البسيط] يا أعظم الناس عفوا عند مقدرة ... وأعظم النّاس عند الجود للمال لو أصبح النيل يجري ماؤه ذهبا ... لما أشرت إلى خزن بمثقال وهي عدة أبيات، فضحك عبد الله بن طاهر وقال: يا أبا السمراء، أقرضني عشرة آلاف دينار، فما أمسيت أملكها، فأقرضه فدفعها إلى معلّى الطائي. قال محمد بن الفضل الخراساني أحد قواد عبد الله بن طاهر، لما قال عبد الله بن طاهر قصيدته التي يفخر فيها بمآثر أبيه وأهله، ويفخر بفضلهم وقتلهم المخلوع، عارضه محمد بن زياد الأموي الحصني من ولد مسلمة بن عبد الملك، فأفرط في السب وتجاوز قبح الرد، وتوسط بين القوم وبين بني هاشم [ص 100] فأربى في التوسط، وكان فيما قال فيه: «2» [المديد] يا بن بيت النار يوقدها ... ما لحاذيه سراويل «3» من حسين من أبوك ومن ... مصعب غالتكم غول نسب في الفخر مؤتشب ... وأبوّات أراذيل وهي قصيدة طويلة، فلما ولي عبد الله بن طاهر، وردّ إليه أمر الشام علم الحصني أنه لا يفلت منه إن هرب، ولا ينجو من يده، فثبت في موضعه، وأحرز حرمه، وترك أمواله ودوابه، وكل ما يملك في موضعه، وفتح باب حصنه وجلس عليه يتوقع من عبد الله بن طاهر أن يوقع به، فلما شارفنا بلده وكنا على أن

نصبحه، دعاني عبد الله في الليل فقال: أنت «1» عندي الليلة، ولتكن فرسك عندك لا تردّ، فلما كان في السحر أمر غلمانه وأصحابه أن لا يرحلوا حتى تطلع الشمس، وركب في السحر وأنا وخمسة من خواص غلمانه [معه] ، وسار حتى صبّح «2» الحصني، فرأى بابه مفتوحا، ورآه جالسا مسترسلا، فقصده وسلم عليه، ونزل عنده، وقال: ما أحلّك هاهنا وحملك على ان فتحت بابك ولم تتحصن من هذا الجيش المقبل، ولم تتنحّ عن عبد الله بن طاهر، مع ما في نفسه عليك، وما بلغه عنك؟ فقال: إن الذي قلت لم يذهب عليّ، وإنما تأملت أمري وعلمت أني قد أخطأت خطيئة حملني عليها نزق الشباب وغرة الحداثة، وإني إن هربت لم آمنه، فباعدت البنات والحرم، واستسلمت بنفسي وكل ما أملك، فإني [من] أهل بيت قد أسرع القتل فينا، ولي فيمن مضى أسوة، فإن الرجل إذا قتلني وأخذ مالي وشفى غيظه، لم يجاوز ذلك إلى الحرم، ولا له فيهن أرب، ولا يوجب جرمي إليه أكثر مما بذلته، قال: فو الله، ما اتقاه عبد الله إلا بدموعه تجري على لحيته، ثم قال: أتعرفني؟ قال: لا والله، قال: أنا عبد الله بن طاهر، وقد أمّن الله خوفك وحقن دمك، وصان حريمك، وحرس نعمتك، وعفا عن ذنبك، وما تعجلت إليك وحدي إلا لتأمن «3» وأن لا يخالط عفوي عنك روعة، فبكى الحصني وقام فقبل رأسه، وضمّه إليه عبد الله وأدناه، ثم قال: أما الآن فلا بد من عتاب، يا أخي جعلت فداك، قلت شعرا في قومي أفخر بهم [ص 101] لم أطعن فيه على حسبك، ولا ادعيت فضلا عليك، وفخرت بقتل رجل، هو وإن كان من قومك، فهم القوم الذين ثأرك عندهم، وكان يسعك السكوت. وإن لم

تقترف لم تسرف، فقال: أيها الأمير، فإن عفوت، فاجعله العفو الذي لا يخالطه تثريب، ولا يكدر صفوه تأنيب، قال قد فعلت، فقم بنا ندخل منزلك حتى نوجب عليك حقا بالضيافة، فقام مسرورا، فدخلنا منزله، ودعا بالطعام الذي كان أعده «1» لنفسه، فأكلنا وجلسنا نشرب في مستشرف له، واقبل الجيش، وأمرني عبد الله أن أتلقاهم فأرحّلهم، ولا يترك أحد منهم في البلدة، ثم دعا بدواة، فكتب له يسوغه خراجه سبع سنين، وقال: إن نشطت لنا فالحق بنا، وإلا فأقم مكانك، فقال: أنا أتجهز وألحق الأمير، ففعل ولحق بمصر، ولم يزل مع عبد الله ابن طاهر لا يفارقه حتى دخل العراق، فودعه وأقام ببلده. قال ابن خرداذبة: كان موسى بن خاقان مع عبد الله بن طاهر، وكان نديمه، وجليسه، وكان له مؤثرا مقدما، فأصاب معه معروفا كثيرا، وأجازه جوائز سنية، ثم إنه وجد عليه في بعض الأمر فجفاه، فرجع موسى إلى بغداد، فكتب إليه: «2» إن كان عبد الله خلانا ... لا مبديا عرفا وإحسانا فحسبنا الله رضينا به ... ثم بعبد الله مولانا يعني بعبد الله الثاني المأمون، وغنّت فيه جاريته لحنا من الثقيل الأول، وسمعه المأمون منها، فاستحسنها، ووصله وإيّاها، فبلغ ذلك عبد الله بن طاهر، فغاظه، وقال: أجل، صنعنا المعروف إلى غير أهله فضاع.

34 - معبد اليقطيني

34- معبد اليقطيني «1» مطرب كم أخذ عنه صوت، ومجيدكم استدرك به لمعبد الأول فوت، وإن قيل «وما قصبات السبق إلا لمعبد» ، وعنى الأول أنه أعرب قيل ذلك له وللثاني منه ما أطرب، ثم ختل لبيبا وقتل كئيبا وفعل بالغناء ما يفعل بالناي، كان أطيب من العود أنفاسا، وأقرب إيناسا، يختلب الألباب، ويستلب العقول للأحباب، ويجتلب [ص 102] الهوى لذكر زينب اجتلاب الرباب. قال أبو الفرج، قال عبد الله بن أبي سعيد، حدثني معبد غلام ابن يقطين قال: كنت منقطعا إلى البرامكة، آخذ منهم وألازمهم ولا أفارقهم، فبينا أنا ذات يوم في منزلي إذا بابي يدق، فخرج غلامي ثم رجع فقال: على الباب فتى ظاهر المروءة يستأذن عليك، فأذنت له، فدخل علي شاب ما رأيت أحسن وجها، ولا أنظف ثوبا، ولا أجمل زيا منه، عليه آثار السقم ظاهرة، فقال: إني اخاف «2» لقاءك مذ مدّة، فلا أجد إليه سبيلا، إنّ لي حاجة، قلت: ما هي؟ فأخرج ثلاث مئة دينار فوضعها بين يدي، ثم قال: أسألك أن تقبلها وتصنع في بيتين قلتهما لحنا تغنيني به، قلت: هاتها، فأنشدني: «3» [البسيط] والله يا طرفي الجاني على بدني ... لتطفئنّ بدمعي لوعة الحزن

أو لأبوحنّ حتى يحجبوا سكني «1» ... فلا أراه ولو أدرجت في كفني قال: فصنعت فيهما لحنا ثم غنيته إياه، «2» فأغمي عليه، حتى ظننته قد مات، ثم أفاق فقال: أعد فديتك، فناشدته الله في نفسه، وقلت: أخشى أن تموت، فقال: هيهات، أنا أشقى من ذلك، وما زال يخضع ويتضرع «3» حتى أعدته، فصعق صعقة أشد من الأولى، حتى ظننت أن نفسه قد فاضت «4» ، فلما أفاق رددت عليه الدنانير ووضعتها بين يديه، وقلت له: يا هذا خذ دنانيرك وانصرف عني، فقد قضيت حاجتك وبلغت طرفا مما أردته، ولست أحب أن أشرك في دمك، فقال: يا هذا، لا حاجة لي في الدنانير، وهذه مثلها لك، وأخرج مثلها ثلاث مئة دينار أخرى فوضعهما بين يدي وقال: أعد الصّوت عليّ مرة أخرى وخلاك ذم، فشرهت نفسي إلى الدنانير، فقلت: لا والله ولا بعشرة أمثالها، إلا على ثلاث شرائط، قال: وما هن؟ قلت: أولهن أن تقيم عندي، وتتحرّم بطعامي، والثانية أن تشرب أقداحا من النبيذ تشد قلبك ويسكن مما بك، والثالثة أن تحدثني بقضيتك، قال: أفعل ما تريد، فأخذت الدنانير ودعوت بالطعام فأصاب منه إصابة معذر «5» ، ثم دعوت بالنبيذ فشرب أقداحا، وغنيّته بشعر غيره في نحو من معناه، فجعل يبكي أحر بكاء

وينشج «1» [ص 103] أشد نشيج، فلما رأيت النبيذ قد شد قلبه، كررت عليه صوته مرارا ثم قلت: حدثني حديثك، قال: أنا رجل من أهل المدينة، وخرجت متنزها في ظاهرها، وقد سال العقيق في فتية من أترابي، فبصرنا بفتيات قد خرجن لمثل ما خرجنا له، فجلسن حجزة «2» منا، وبصرت بفتاة كأنها قضيب قد طله الندى، فأطلنا وأطلن حتى تفرق الناس، وانصرفت وقد أثبتت في قلبي جرحا بطيئا اندماله، فعدت إلى منزلي وأنا وقيذ «3» ، وخرجت من الغد إلى العقيق وليس به أحد، فلم أر لها أثرا، فجعلت أتبعها في طرق المدينة وأسواقها، فلم أحسّ لها بعين ولا أثر، وسقمت حتى أيس مني أهلي، وخلت بي ظئر لي «4» واستعلمتني وضمنت لي كتمانها والسعي فيما أحبه، فأخبرتها بقضيتي، فقالت: لا بأس عليك، هذه أيام الربيع، وهي سنة خصب وأنواء، وليس يبعد عنك المطر، فأخرج أنا وأنت إلى العقيق، فإن النسوة سيجئن، فإذا فعلن فرأيتها عرفتها حتى أتبعها فأعرف موضعها فأتبعها وأصل بينك وبينها، وأسعى لك في تزويجها، فكأن نفسي اطمأنت إلى ذلك، ووثقت به، وسكنت إليه، فقويت نفسي وتراجعت، وجاء مطر بعقب ذلك، فسال العقيق، وخرج الناس وخرجت مع إخواني، فجلسنا مجلسنا الأول بعينه كما كنا والنسوة أقبلن، فأومأت إلى ظئري فجلست حجزة منا ومنهن وأقبلت إلى إخواني فقلت: لقد أحسن القائل: «5» [الطويل] رمتني بسهم أقصد القلب وانثنت ... وقد غادرت جرحا به وندوبا فأقبلت على صويحباتها وقالت: أحسن والله القائل حيث يقول: [الطويل]

بنا مثل ما تشكو فصبرا لعلّنا ... نرى فرجا يشفي السّقام قريبا فأمسكت عن الجواب خوفا أن يظهر ما يفضحني وإياها، وعرفت ما أرادت، ثم تفرق الناس وانصرفنا، فتبعتها ظئري حتى عرفت منزلها، وصارت إلي فأخذت بيدي ومضينا إليها، فلم تزل تتلطف حتى وصلت إليها فتلاقينا على حال مجالسة، فشاع حديثنا، فحجبها أهلها، فسألت أبي أن يخطبها، فمضى أبي ومشيخة أهلي إلى أبيها، فخطبوها، فقال: لو كان فعل هذا قبل أن يفضحها لأسعفته بما التمس، فأما الآن وقد عرّها «1» فما [ص 103] كنت لأحقق ظن الناس بتزويجها إيّاه، فانصرفت على يأس منها ومن نفسي. قال معبد: فسألته أن ينزل فحبرني «2» ، وصارت بيننا عشرة، ثم جلس جعفر بن يحيى للشرب، فأتيته وكان أول صوت غنيته في شعر الفتى، فطرب عليه طربا شديدا، فقال: ويحك، ما سمعت هذا منك قط، فقلت: إن لهذا الصوت حديثا، قال: فما هو؟ فحدثته، فأمر بإحضاره، فأحضر الفتى بين يديه، فاستعاده الحديث، فأعاده عليه، فقال: هي في ذمتي حتى أزوجك أيّاها، فطابت نفسه، فأقام معنا حتى أصبح وغدا جعفر إلى الرشيد، فحدثه الحديث العجيب، فأعجب منه، وأمر بإحضارنا جميعا، فأحضرنا وأمر أن أغنيه الصوت، فغنيته فشرب وطرب، وأمر من وقته بكتاب إلى عامل المدينة بإشخاص الرجل وابنته وجميع أهله إلى حضرته، فلم يمض إلا مسافة الطريق، فأحضروا، وأمر الرشيد بإيصاله إليه، فأوصل وخطب الجارية للفتى، وأقسم لا يخالف أمره، فأجابه أبوها، وحمل إليه الرشيد ألف دينار لنفقة الطريق، وألف دينار لجهازها وأمر للفتى بألفي دينار، ولي بألف دينار، وأمر لنا جعفر بألفي دينار لي وله، وكان الفتى بعد ذلك من ندماء جعفر بن يحيى.

35 - محمد الزف

35- محمد الزّف «1» سابق لا يكر معه في جولة، ولا يقر معه لصولة، ولا يذكر مع بوارقه برقة ثهمد ولا خولة «2» . ما أبو كامل عنده إلا ناقص، ولا الكميت المذكور في صوت ابن سريج عنه إلا ناكص، ولا ابن محرز معه ممن تحرّز ولا ابن ميمون الموصلي إلا ممن تغنى «3» وما نسج مثل نسجه ولا طرّز. قال أبو الفرج الأصفهاني: كان أسرع خلق الله أخذا للغناء من جميع خلقه وأصحه أداء له، وكان يتعصب على ابن جامع، ويميل إلى إبراهيم وابنه، فكانا يرفعان منه ويقدمانه، ويجلبان له الصلات من الخلفاء، وكان في ابن جامع بخل شديد لا يقتدر معه أن يسعفه ببر، وقد كان ابن جامع إذا غنى صوتا أصغى إليه حتى يحكيه ويلقيه على جماعة المغنين، فغنى ابن جامع يوما بحضرة الرشيد: «4» [الخفيف] أرسلت تقرئ السلام الرّباب [ص 105] ... في كتاب وقد أتانا الكتاب فيه لو زرتنا لزرناك ليلا ... بمنى حيث تستقلّ الرّكاب قال إسحاق: ونظرت إلى الزّفّ فغمزته، وقمت إلى الخلاء، فإذا هو قد جاءني، فقلت: أي شيء قد عملت؟ قال: قد فرغت لك منه، فقلت: هاته، فرده علي

ثلاث مرات حتى عرفت مقاطعه وفهمته وصح لي، فأخذته وعدت إلى مجلسي وأنا مسرور «1» ، وغمزت عقيدا ومخارقا فقاما وتبعهما، فألقاه عليهما، وابن جامع لا يعرف الخبر، فلما عاد إلى المجلس، أومأت إليهما أسألهما عنه، فعرفاني أنهما أخذاه، فلما بلغ الدور إلي كان الصوت أول ما غنيته، فحدد الرشيد نظره إليّ، ومات ابن جامع وأسقط في يده «2» ، فقال لي الرشيد: من أين لك هذا؟ قلت: أنا أرويه قديما، وقد أخذه عني مخارق وعقيد، فقال: غنياه، فغنياه، فوثب ابن جامع، فجلس بين يديه، وحلف بالطلاق ثلاثا أنه صنعه في ليلته الماضية، ما سبقه إليه أحد من الناس، فنظر إليّ الرشيد فغمزته بعيني أنه صدق، وجدّ الرشيد في العبث به بقية يومه، ثم سألني بعد ذلك في الخبر فصدقته، فجعل يضحك ويقول: لكل شيء آفة، وآفة ابن جامع الزف. ومن مشهور صنعته في طريقة الرمل: «3» [البسيط] بان الحبيب فلاح الشيب في راسي ... وبتّ منفردا وحدي بوسواس ماذا لقيت فدتك النفس بعدكم ... من التّبرّم بالدنيا وبالناس لو كان شيء يسلّي النّفس عن شجن ... سلّت فؤادي عنكم لذّة الكاس ما دارت الكأس إلا كان ذكركم ... مجاز كأسي وأنسي بين جلاسي

36 - عثعث

36- عثعث «1» برز في تصاريف العقلاء، وتبرأ من تكاليف الثقلاء، واطّرحت الخلفاء معه الاحتشام، وجعل بوارق السرور متى لاح تشام، وكان قمر تلك المجالس وقمري تلك الرحاب الأوانس، لا ترقل ركائب المدام إلا على حدائه، ولا تطل حدود الكؤوس إلا بإدنائه، تترنح به المعاطف، ترنح الاغصان بالنسيم، وتهتز القلوب اهتزاز المفارق للمعهد القديم. قال أبو الفرج، قال ابن حمدون [ص 106] قال لي عثعث: دخلت يوما على المتوكل، وهو مصطبح وابن المارقي يغنيه شعره: «2» [الطويل] أقاتلتي بالجيد والخدّ والقد ... وباللون في وجه أرقّ من الورد وهو على البركة جالس، وقد طرب فاستعاد الصوت مرارا، وأقبل عليه، فجلست ساعة، ثم قمت لأبول فصنعت هزجا في شعر البحتري يصف البركة: «3» [البسيط] إذا النجوم تراءت في جوانبها ... ليلا حسبت سماء ركّبت فيها وإن علتها الصّبا أبدت لها حبكا ... مثل الجواشن مصقولا حواشيها قد زانها زينة من بعد زينتها ... إن اسمه حين يدعى من أساميها فلما سكت ابن المارقي مستوفيا، اندفعت أغني هذا الصوت، فأقبل علي

وقال: أحسنت، وحياتي أعد، فأعدت فشرب ولم يزل يستعيده ويشرب حتى اتكأ ثم قال للفتح بن خاقان: بحياتي ادفع إليه السّاعة ألف دينار وخلعة تامة، واحمله على شهري «1» فاره بسرجه ولجامه، فانصرفت بذلك أجمع. قال ابن جامع: كنا مجتمعين في منزل أبي عيسى ابن المتوكل، وقد عزمنا على الصبوح، ومعنا جعفر بن المأمون، وسليمان بن وهب، وإبراهيم بن المدبر، وحضرت عريب وشارية وجواريها، ونحن في أتم سرور، وكان أهل الظرف والمتعانون في ذلك الوقت ضربين، عريبيّة وشرويّة «2» فمال كل حزب إلى من يتعصب له منهما في الاستحسان والظرف والأفراح، وعريب وشارية ساكتتان لا تنطقان، وكل واحدة من جواريهما تغني صنعة ستها» لا تجاوزها، حتى غنت عرفان: «4» [المديد] بأبي من زارني في منامي ... فدنا منّي وفيه نفار فأحسنت ما شاءت، وشربنا جميعا، فلما أمسكت، قالت عريب لشارية: يا أختي، لمن هذا اللحن؟ قالت: لي كنت صنعته في حياة سيدي، تعني إبراهيم المهدي فاستحسنه وعرضه على إسحاق وغيره فاستحسنوه، وامسكت عريب، ثم قالت لأبي عيسى: أحب [ص 107] يا بنيّ فديتك أن تبعث الساعة إلى عثعث الأسود من يجيء به، فوجه إليه فحضر، وجلس، فلما اطمأن وشرب وغنى، قالت له عريب: يا أبا دليجة، أتذكر صوتا غناه زبير [بن] دحمان عندي وأنت حاضر، فسألته أن يطرحه عليك؟ فقال: وهل الغواني لها عذرها «5» ، نعم والله، إني لذاكره، حتى كأننا أمس افترقنا عنه، قالت: غنّه، فاندفع يغني

37 - بصبص جارية ابن نفيس

الصوت الذي ادّعته شارية حتى استوفاه، وتضاحكت الأخرى عريب، ثم قالت لجواريها: خذوا في الحق ودعوا الباطل، وغنوا الغناء القديم، فغنت بدعة وسائر جواريها، وخجلت شارية وأطرقت وظهر الانكسار فيها، ولم تنتفع هي يومئذ ولا أحد من جواريها، ولا متعصبيها بأنفسهم. 37- بصبص جارية ابن نفيس «1» جارية سمراء تهزأ بالأسمر، وترسل في طرفها الأسود الموت الأحمر، انغمست في ماء الدلال، وطبعت على صورة الهلال، بحمرة دبت في وجناتها، وأمكنت بواكير الورد من جناتها، وذبلت نرجس العيون وأقاح المقل من جناتها، وروّقت في رضابها الرحيق، وأشعلت فيما تحت نقابها الحريق، وجلتها كالبدر يعلوه تحت الشفوف غيم رقيق، كلف بها المهدي على عفاف مضاجعه، وكف مطامعه وصارت إلى ملك حيث الملوك إلى أبوابه وافدة، والأقدار له على عدوه مرافدة، واختصها بأنسه، واستخلصها لنفسه، وأولدها عليّة بنت المهدي، ولهذا نزعت إلى أمها، واغترفت الغناء من يمّها، وكانت قد أدّبها ابن نفيس فمهرت، وحجبها مدة مقصورة على التعليم حتى ظهرت. قال أبو الفرج: كان يحيى بن نفيس مولاها صاحب قيان يغشاه الأشراف، ويسمعون غناء جواريه، وكان فيمن [يغشاه] عبد الله بن مصعب بن ثابت بن

عبد الله بن الزبير، فحج أبو جعفر أبو جعفر في بعض السنين، ومر بالمدينة، فقال عبد الله ابن مصعب، تذكر: «1» [السريع] أراحل أنت أبا جعفر ... من قبل أن تسمع من بصبصا لو أنّها تدعو إلى بيعة ... بايعتها ثم شققت العصا [ص 108] فبلغت أبا جعفر، فدعا به فقال: أما أنكم يا آل الزبير قديما قادتكم النساء، وشققتم العصا، حتى صرت أنت آخر الحمقى تبايع النساء المغنيات، فدونكم يا آل الزبير هذا المرتع الوخيم، قال: ثم بلغ المنصور بعد ذلك أن عبد الله بن مصعب قد اصطلح «2» مع بصبص وهي تغنيه: «3» [السريع] إذا تمزّزت صراحيّة ... كمثل ريح المسك أو أطيب «4» ثم تغنّى لي بأهزاجه ... زيد أخو الأنصار أو أشعب حسبت أني مالك جالس ... حفّت به الأملاك أو موكب وما أبالي وإله الورى ... أشرّق العالم أم غرّبوا قال أبو جعفر: لكن العالم لا يبالون كيف أصبحت، ولا كيف أمسيت، ثم قال أبو جعفر: لكن الذي يعجبني الليلة أن يحدوني الحادي بشعر طريف العنبري فهو ألذ في سمعي من غناء بصبص، ثم دعا الحادي «5» ، وكان إذا حدا أصغت الإبل إلى صوته وانقادت انقيادا عجيبا، فسأله المنصور: ما بلغ من حسن حدائه؟

[قال] : تعطش الإبل خمسا وتدنى من الماء، وأحدو أنا، فتتبع كلّها صوتي ولا تقرب الماء، فحفظ الشعر، وهو «1» : [الكامل] إنّي وإن كان ابن عمّي كاشحا ... لمزاحم من دونه وورائه وممدّه نصري وإن كان امرأ ... متزحزحا في أرضه وسمائه «2» وأكون مأوى سرّه وأصونه ... حتّى يحقّ عليّ يوم أدائه وإذا أتى من غيبة بطريفة ... لم أطّلع ماذا وراء خبائه وإذا تحيّفت الحوادث ماله ... قرنت صحيحتنا إلى جربائه وإذا تريّش في غناه وفرته ... وإذا تصعلك كنت من قرنائه وإذا غدا يوما ليركب مركبا ... صعبا قعدت له على سيسائه «3» قال: فلما كان الليل حدا به الحادي بهذه الأبيات، فقال: هذا والله أحثّ [ص 109] على المروءة، وأشبه لأهل الأدب من غناء بصبص، قال: فحدا به ليله أجمع، فلما أصبح قال: يا ربيع، أعطه درهما، قال: يا أمير المؤمنين، حدوت لهشام بن عبد الملك فأمر لي بعشرين ألفا، وتأمر لي أنت بدرهم! قال: إنا لله، ذكرت مالم نحب أن تذكره، وصفت رجلا ظالما أخذ مال الله من غير حله، وأنفقه في غير حقه، يا ربيع، اشدد يديك به حتى يرد المال، فبكى الحادي وقال: يا أمير المؤمنين، قد مضت به السنون، وقضيت به الديون، ولا والذي أكرمك بالخلافة ما بقي منه شيء، فلم يزل به أهله وخاصته يسألونه في أمره حتى كف عنه، وشرط عليه أن يحدو به ذاهبا وراجعا، ولا يأخذ منه شيئا.

قال: هوي محمد بن عيسى الجعفري بصبصا جارية ابن نفيس، فهام بها، وطال عليه ذلك، فقال لصديق له: لقد شغلتني هذه عن ضيعتي وكل أمري، وقد وجدت مسّ السّلوّ عنها، فاذهب بنا حتى أكاشفها بذلك وأستريح، فأتيتها، فلما غنت لهما، قال محمد بن عيسى: أتغنين: «1» [الوافر] وكنت أحبّكم فسلوت عنكم ... عليكم في دياركم السّلام قالت لا، ولكني أغني: [الوافر] تحمّل أهلها عنّا فبانوا ... على آثار من ذهب العفاء قال: فاستحسنها، ثم زاد بها كلفا، فأطرق ساعة، ثم قال لها: أتغنيني: «2» [الطويل] وأخضع بالعتبى إذا كنت مذنبا ... وإن أذنبت كنت الذي أتنصّل قالت نعم، وأغني: [الطويل] فإن تقبلوا بالودّ نقبل بمثله ... وننزلكم منّا بأقرب منزل قال: فتقاطعا في بيتين، وتواصلا في بيتين. وفي بصبص هذه يقول ابن أبي الزوائد: «3» [السريع] بصبص أنت الشمس مزدانة ... فإن تبذّلت فأنت الهلال سبحانك اللهمّ ما هكذا ... فيما مضى كان يكون الجمال [ص 110] إذا دعت بالعود في مشهد ... وعاودت يمنى يديها الشمال غنّت غناء يستفده الفتى ... حذقا وزان الحذق منها الدلال

38 - الزرقاء جارية ابن رامين

38- الزّرقاء جارية ابن رامين «1» أنست ذكر زرقاء اليمامة، وغنت فأغنت عن الورقاء والحمامة، لم يبق معها لليمامية ولو أنها أفضل عين ولا أثر، ولا للزّرقاء «2» أم بني أمية خبر يقع عليه الطرف إذا عثر، أبدعت في تكميل الغناء وتحصيل ما لا ينصرف عنه للاستغناء، ثم أصبحت والحجب تضرب عنها دونها، والستر يسبل عنها مصونها، والنجوم لا ترمقها، والشموس تشهد منها مشرقها «3» . قال أبو الفرج، قال إسحاق، كان روح بن حاتم المهلبي كثير الغشيان لمنزل ابن رامين، وكان يختلف إلى الزرقاء، وكان محمد بن جميل يهواها وتهواه، فقال لها روح بن حاتم: قد ثقل علينا «4» ، قالت: فما أصنع، قد غمر مولاي ببره، قال: احتالي له، فبات عندهم روح ليلة، فأخذت سراويله وهو نائم فغسلته، فلما أصبح سأل عنه، فقالت: غسلناه، ففطن أنه أحدث فيه فاحتيج إلى غسله، فاستحيا من ذلك وانقطع عنها، وخلا وجهها لابن جميل. قال: واشترى جعفر بن سليمان الزرقاء بثمانين ألف درهم، فلما مضت لها مدة عنده، قال لها يوما: هل ظفر أحد منك ممن كان يهواك بخلوة أو قبلة، فخشيت أن يبلغه شيء كانت فعلته بحضرة جماعة، أو يكون قد بلغه، فقالت: لا والله، إلا يزيد بن عون العبادي قبلني قبلة وقذف في فمي لؤلؤة بعتها بثلاثين ألف درهم،

فلم يزل جعفر يطلبه ويحتال له حتى وقع في يده، فضربه بالسياط حتى مات. قال إسحاق: شربت الزرقاء دواء فأهدى لها ابن المقفع ألف درّاجة على جمل قراسيّ. «1» قال محمد بن سلام: اجتمع عند ابن رامين معن بن زائدة وروح بن حاتم وابن المقفع، فلما غنت بعث معن إليها بدرة، «2» فصبها بين يديها، وبعث روح إليها أخرى فصبها بين يديها، ولم يكن عند ابن المقفع دراهم، فجاء بصك ضيعته وقال: هذه عهدة ضيعتي خذيها، فأما الدراهم [ص 111] فما عندي منها شيء. قال إسماعيل بن عمار: كنت أختلف إلى منزل ابن رامين فأسمع جاريته الزرقاء وسعدة، وكانت سعدة أظرف من الزرقاء، فأعجبت بها، وعلمت ذلك مني، وكانت كاتبة، فكتبت إليها أشكو ما ألقى بها، فوعدتني فكتبت إليها رقعة مع بعض خدمهم فيها: «3» [البسيط] يا ربّ إنّ ابن رامين له بقر ... عين وليس لنا غير البراذين لو شئت أعطيته مالا على قدر ... يرضى به منك غير الخرّد العين «4» فإن تجودي بذاك الشيء أحي به ... وإن بخلت به عنّي فزنّيني «5» قال: فجاءني الخادم فقال: ما زالت تقرأ رقعتك وتضحك، وكتبت إلي: حاشاك

39 - حبابة جارية يزيد بن عبد الملك

من أن أزنيّك، ولكني أصير إليك وأغنيك وألهيك، وأرضيك، وصارت إلي فأرضتني بعد ذلك. قال ابن عمار: «1» [الخفيف] لابن رامين خرد كمها الوح ... ش حسان وليس لي غير بغل رب فضلته علي ولو شئ ... ت لفضلتني عليه بفضل وقال محمد بن الأشعث بن نجوة الكاتب الكوفي: «2» [البسيط] أمسى لسلامة الزرقاء في كبدي ... صدع مقيم طوال الدهر والأبد لا يستطيع صناع القوم يشعبه ... وكيف يشعب صدع الحب في الكبد 39- حبّابة جارية يزيد بن عبد الملك «3» أمة غلبت على الحرائر، وفتنت بإطرابها، وحسنت بين أترابها، وسفرت فراب البدور سفورها، وملأ الصدور سرورها، ووصلت إلى حجب يزيد، وكان حب «4» شغفه لها يزيد، فكان لو خيّر بينها وبين الخلافة لاختارها، أو سمّيت «5» هي

والشهد لترك الشهد واشتارها «1» ، وكانت هي سبب الطعن عليه حتى أنفذته الرماح ونبذته لقى في مهبات الرياح، صارت إليه هي وسلامة القس، ونعم بهما طوال مدته مثل ليلة العرس، إنّ هوى حبابة سكن حبه وقلبه، وأشعله حتى ذهب بلبه، ثم وهبها سلامة ورضي بها، ولم يسخطه ملامة. [ص 112] قال أبو الفرج: أول ما ارتفعت منزلة حبابة عند يزيد أنه أقبل يوما إلى البيت الذي هي فيه، فقام من وراء الستر، فسمعها تترنم وتغني: «2» [الخفيف] كان لي يا يزيد حبّك حينا ... كاد يقضي عليّ لما التقينا والشعر كان يا سفين» ، فرفع الستر، فوجدها مضطجعة مقبلة على الجدار، فعلم أنها لم تعلم به، فألقى بنفسه عليها وخزلت «4» منه. قال ابن شبه: لما ألح يزيد على الشرب وسماع الغناء، أقبل مسلمة عليه يلومه ويقول له: إنك وليت بعقب عمر بن عبد العزيز وعدله، وقد تشاغلت بهذه الأمة عن النظر في أمور المسلمين، والوفود ببابك وأصحاب الولايات والظلامات يصيحون، وأنت غافل عنهم، قال: صدقت والله، وأعتبه وهمّ بترك الشراب أيّاما، ولم يدخل على حبابة مدة، فدست حبابة إلى الأحوص أن يقول بيتا في ذلك، وقالت: إن رددته عن رأيه فلك ألف دينار، فدخل الأحوص على يزيد، فاستأذنه، فأذن له فقال: «5» [الطويل]

ألا لا تلمه اليوم أن يتبلّدا ... فقد غلب المحزون أن يتجلّدا بكيت الصّبا جهدي فمن شاء لامني ... ومن شاء آسى في البكاء فأسعدا وإنّي وإن فنّدت «1» في طلب الصبا ... لأعلم أنّي لست في الحبّ أوحدا إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى ... فكن حجرا من يابس الصّخر جلمدا فما العشق إلا ما تلذّ وتشتهي ... وإن لام فيه ذو الشّنار وفنّدا وحفظت حبابة الأبيات، وعملت فيها لحنا، وكان يزيد قد أقام جمعة لا يدخل إليها، فلما كان يوم الجمعة، قالت لبعض جواريها: إذا خرج أمير المؤمنين إلى الصلاة فأعلميني، فلما أراد الخروج أعلمتها، فتلقته بالعود في يدها، فغنت البيت الأول، فغطى وجهه وقال: مه، لا تفعلي، ثم غنّت الأبيات، فلما بلغت إلى: وما العيش إلا ما تلذ وتشتهي «2» عدل إليها وقال: صدقت، قبّح الله من لامني فيك، يا غلام مر مسلمة [ص 113] فليصل بالناس، وأقام معها وعاد إلى حاله. وذكر ابن عياش «3» أن سلامة وحبابة اختلفتا في صوت معبد: «4» [الوافر] ألا حيّ الديار بسعد إنّي ... أحبّ لحبّ فاطمة الديارا «5» إذا ما حلّ أهلك يا سليمى ... بدارة صلصل شحطوا المزارا «6»

فبعث يزيد إلى معبد فأتى، فسأل: لم بعث إليه؟ فأخبر، فقال: لأيتهما المنزلة عند أمير المؤمنين؟ قالوا: لحبابة، فلما عرضتا عليه الصوت، حكم لحبابة، فقالت سلامة: والله يا بن الزانية إنك لتعلم وتتحقق أن الحق والصواب ما قلت، ولكنك سألت: أيتهما آثر عند أمير المؤمنين، فقيل لك حبابة، فاتبعت هواه ورضاه، فضحك يزيد وطرب، وقالت سلامة: أتأذن لي يا أمير المؤمنين في صلة معبد، فإن له علي حقا، قال: قد أذنت، فوصلته بما لم تصله به حبابة. وقال الزبير بن بكار: حدثتني طيبة، أن حبابة أنشدت يوما يزيد بن عبد الملك: «1» [الوافر] لعمرك إنني لأحبّ سلعا ... لرؤيتها ومن بجنوب سلع «2» ثم تنفست شديدا فقال لها: مالك؟ أنت في ذمة أبي لئن شئت لأقلعنه إليك حجرا حجرا، فقالت: وما أصنع به، ليس إياه أردت، إنما أردت ساكنه. قال الزبير: وحدثتني ظبية، أنّ يزيد قال لحبابة وسلامة، أيّتكما غنتني ما في نفسي، فلها حكمها، فغنت سلامة [فلم تصب ما في نفسه، وغنت حبابة فأصابت ما في نفسه، فقال احتكمي، فقالت: سلامة، تهبها لي] «13» ومالها، قال: اطلبي غير هذا، فأبت، فقال لها: قد وهبتها لك، فلقيت سلامة من ذلك أمرا عظيما، فقالت لها حبابة: اطمئني فإنك لا ترين إلا خيرا، فجاءها يزيد يوما فسألها أن تبيعه إياها بحكمها، قالت: أشهد أنها حرة، فاخطبها حتى أزوجك مولاتي. قال المدائني: كانت حبابة إذا غنت وطرب يزيد قال: أطير؟

فتقول: إلى من تدع أمور المسلمين؟ فيقول: إليك. قال الزبير وحدثتني ظبية أن حبابة غنت يوما فطرب يزيد ثم قال لها: هل رأيت أطرب [ص 114] مني؟ قالت: نعم، مولاي الذي باعني «1» ، فغاظه ذلك، فكتب في حمله مقيدا، فلما قدم أمر بإدخاله إليه، فأدخل يرسف في قيده، وأمرها بالغناء، فغنت: «2» [المتقارب] تشطّ غدا دار جيراننا ... وللدّار بعد غد أبعد فوثب فألقى نفسه على الشمعة، فأحرقت لحيته، وجعل يصيح: الحريق يا أولاد الزنا! فضحك يزيد وقال: لعمري إن هذا لأطرب مني، وأمر بحل قيوده ووصله بألف دينار، ووصلته حبابة بمثلها، وزودته إلى المدينة. قال: نزل يزيد بيت ديرانية بالشام، ومعه حبابة فقال: زعموا أنه لا يصفو لأحد عيشه إلى الليل إلا «3» يكدّره شيء، وسأجرب ذلك، ثم قال لمن معه، إذا كان غدا فلا تخبروني بشيء، ولا تأتوني بكتاب، وخلا بحبابة، فأتيا بما يأكلان، فأكلت رمانة فشرقت بحبة فماتت، فأقام لا يدفنها ثلاثا حتى نتنت، وامتنع من الأكل والشرب وخطاب الناس، وجعل يشمها ويترشفها، فعاتبه أقرباؤه وقالوا: قد صارت جيفة بين يديك، ولم يزالوا به حتى أذن لهم في دفنها، وأمر فأخرجت في نطع «4» ، وخرج لا يتكلم حتى جلس على قبرها، قال: أصبحت والله كما قال كثير: «5» [الطويل] فإن تسل عنك النّفس أو تدع الصّبا ... فباليأس يسلو عنك لا بالتّجلّد

40 - بديح مولى عبد الله بن جعفر [ص 115]

وكلّ خليل زارني فهو قائل ... من أجلك هذا هامة اليوم أو غد قال: فما أقام إلا خمسة عشر يوما حتى مات، ودفن إلى جانبها. وروى المدائني: أنه اشتاق إليها بعد ثلاثة أيام من دفنها، فأمر بنبشها فنبشت، فكشف عن وجهها وقد تغير تغيرا قبيحا فقيل له: اتق الله ألا ترى كيف صارت، فقال: ما رأيتها قط أحسن من هذا اليوم، أخرجوها فجاء مسلمة ووجوه قومه وأهله، فلم يزالوا به حتى أزالوه عن ذلك، ودفنوها. 40- بديح مولى عبد الله بن جعفر «1» [ص 115] صاحب فكاهة تحلو مذاقها، ومحاسن تعرو بها البدور محاقها، وكان لا يعاصيه احتيال ولا يلاويه اختيال، لو رقى الجندل لاستخرج ماءه، أو لاطف الدجى لجلّى ظلماءه، وأعرق في شرف الولاء، وأجزل له طرف الآلاء، ولم تنقص له عطيه، ولا قصّرت به رتبة عليّه. قال أبو الفرج: روى الحديث عن عبد الله بن جعفر، وقيل إنّ عبد الله بن جعفر دخل على عبد الملك بن مروان، وهو يتأوّه من عرق النّسا، فقال: يا أمير المؤمنين، مالك؟ قال: قد هاج بي عرق النّسا في ليلتي هذه فبلغ مني، فقال: إن بديحا مولاي يرقي منه، فوجه إليه عبد الملك بن مروان، فلما مضى الرسول، قال عبد الله في نفسه: كذبة قبيحة عند خليفة، وأسقط في يده، فما كان بأسرع من أن طلع بديح، فقال له: كيف رقيتك من عرق النّسا؟ قال: أرقى الخلق يا أمير المؤمنين،

41 - هاشم بن سليمان

قال: فسرّي عن عبد الله بن جعفر، لأن بديحا كان صاحب فصاحة وفكاهة يعرف بها، فمد رجله فتفل عليها ورقاها مرارا، فقال عبد الملك: الله أكبر، وجدت والله خفّا، يا غلام، ادع فلانة حتى تكتب الرقية، فإنا لانأ من هيجانها بالليل، فلا نذعر بديحا، فلما جاءت الجارية، قال بديح: يا أمير المؤمنين، امرأته طالق إن كتبتها حتى تعجل حبائي، فأمر له بأربعة آلاف درهم، فلما صارت بين يديه قال: امرأته طالق إن كتبتها أو يصير المال في منزله، فأمر فحمل، فلما أحرزه قال: يا أمير المؤمنين امرأتي طالق إن كنت قرأت عليك وعلى رجلك إلا أبيات نصيب: «1» [الطويل] ألا إنّ ليلى العامرية أصبحت ... على النأي عني ذنب غيري تنقم وما ذاك عن ذنب أكون اجترمته ... إليها لتجزيني بها حيث أعلم ولكنّ إنسأنا إذا ملّ صاحبا ... وحاول صرما لم يزل يتجرّم قال: ويلك ما تقول، قال: امرأته طالق إن كان قال إلا بما قال، قال: [ص 116] فاكتمها، قال: وكيف ذاك وقد سارت بها البرد إلى أخيك بمصر، فطفق عبد الملك ضاحكا. 41- هاشم بن سليمان «2» محصل ثروة، ومحصن ذروة، بفطانة تقطع على ما في النفوس، وتدرك منه ما لا يدرك بالمحسوس، بحدس كأنما كان به يتكهن، ويقوى لديه ولا يتوهن، وله في صناعة الغناء يد لا تطيش، وسهم له في القلوب بسويدائها تريش «3» ، يجني السامع تمرا، ويخيل للسامع أنه ازداد عمرا.

42 - عمرو بانة

قال أبو الفرج، قال هاشم بن سليمان: أصبح موسى الهادي يوما وعنده جماعة منا، فقال: غنّنا: «1» [الكامل] أبهار قد هيّجت لي أوجاعا ... وتركتني عبدا لكم مطواعا فإن أصبت حاجتي فلك حاجة مقضية، فغنّيته فقال: أصبت وأحسنت، سل تعط حاجتك، فقال: يا أمير المؤمنين، تأمر بأن يملأ هذا المكان دراهم، وكان بين يديه كانون عظيم، فأمر به فملىء، فلما حصلها قال: يا قصير الهمة، والله لو سألت أن أملأها دنانير لفعلت، فقلت: أقلني يا أمير المؤمنين، قال: لا سبيل إلى ذلك، ولم يسعدك الجد به، وتمام الصوت الذي اقترحه موسى الهادي على هاشم بن سليمان: «2» [الكامل] بحديثك الحسن الذي لو حلفت ... وحش الفلاة به لجئن سراعا وإذا مررت على البهار منضدا ... في السوق هيج [لي] إليك نزاعا والله لو علم البهار بأنّها ... أضحت سميته لطال ذراعا 42- عمرو بانة «3» مفيد طرب، ومجيد إذا ضرب، طالما غنّى فخرق كلّ حجاب، واستنفق العبرة بغير حساب، كم له في الطرب دقة داخلة، ويد غير باخلة، بكل إشارة وافية،

وعبارة للعود الأعجم بما يتخير من معاني العرب كافية، كم حضر في مجلس فقال السرور ما غبت، وانجح فقال الاستحقاق «1» ما خبت، [ص 117] وكان مهما حضر دار الخلافة، استقله معروفها، ودبت إليه قطوفها، فكان أنّى أمر الدهر ائتمر، ومهما غرس الطرب في سمع اجتنى الثمر. قال أبو الفرج: كان تائها معجبا، وكان ينادم الخلفاء على ما فيه من الوضح، وفيه يقول الشاعر: «2» [المتقارب] أقول لعمرو وقد مرّ بي ... فسلّم تسليمة جافيه لئن فضّلوك بحسن الغناء ... لقد فضّل الله بالعافية قال أبو معاوية الباهلي: سمعت عمرو بن بانة يقول لإسحاق في كلام جرى بينهما: ليس كمثلي «3» يقاس بمثلك، لأنك تعلمت الغناء تكسبا، وتعلمته تطربا، وكنت أضرب لئلا أتعلمه، وأنت تضرب لأن تتعلمه. قال: اجتمع عمرو بن بانة والحسين بن الضحاك «4» في منزل ابن شعوف، وكان له خادم يقال له مفحم، وكان عمرو يتهم به، فلما أخذ منهم الشراب، سأل عمرو بن بانه الحسين بن الضحاك أن يقول شعرا يغني فيه، فقال: «5» [المنسرح] وا بأبي مفحم بغرّته ... قلت له إذ خلوت مكتتما

تحبّ بالله من يخصّك بال ... حبّ فما قال لا ولا نعما فغنى فيه عمرو بن بانة، ولم يزل هذا الشعر غناءهم، وفيه طربهم، فأتاهم في عشيتهم إسحاق بن إبراهيم الموصلي، فسألوا ابن شعوف «1» أن لا يأذن له، فحجبه، وانصرف إسحاق إلى منزله، فلما تفرقوا، مر به الحسين بن الضحاك، فأخبره بجميع ما دار في مجلسهم، فكتب في ذلك إسحاق إلى ابن شعوف: «2» [المنسرح] يا بن شعوف أما علمت بما ... قد صار في النّاس كلّهم علما أتاك عمرو فبات ليلته ... في كلّ ما يشتهي كما زعما حتى إذا ما الظلام خالطه ... سرى دبيبا يجامع الخدما ثمّت لم يرض أن يفوز بذا ... سرّا ولكن أبدى الذي كتما حتّى تغنى لفرط صبوته ... صوتا شفى من فؤاده سقما [ص 118] وا بأبي مفحم بغرّته ... قلت له إذ خلوت مكتتما تحب بالله [من] يخصك بال ... حب فما قال لا ولا نعما قال: فهجر ابن شعوف ابن بانة وقطع عشرته. قال: جمع عبد الله بن طاهر بين المغنين، وأراد أن يمتحنهم، وأخرج بدرة دراهم سبقا «3» لمن تقدم منهم وأحسن، فحضر مخارق وعلوية وعمرو بن بانة ومحمد ابن الحارث، فغنى علوية، فلم يصنع شيئا، وتبعه محمد بن الحارث، فكانت

هذه سبيله، وامتدت الأعين إلى مخارق، فبدأ مخارق فغنى: «1» [مجزوء الكامل] إنّي امرؤ من جرهم ... عمّي وخالي من جذام فما نهنه عمرو بن بانة من انقطاع نفسه حتى غنّى «2» [السريع] يا ربع سلامة بالمنحنى ... بخيف سلع جادك الوابل «3» وكان إبراهيم بن المهدي حاضرا، فبكى طربا، وقال: أحسنت والله واستحققت «4» السبق، فإن أعطيته وإلا فخذه من مالي، يا حبيبي عني أخذت هذا الصوت، وقد والله زدت عليّ فيه وأحسنت غاية الإحسان، ولا يزال صوتي عليك أبدا، فقال عبد الله بن طاهر: من حكمت له بالسبق فقد حصل له، وأومأ بالبدرة فحملت إلى عمرو. قال: فلقي إسحاق [عمرو] بن راشد الخناق فقال له: بلغني خبر المجلس الذي جمع فيه عبد الله بن طاهر المغنين ليمتحنهم، ولو شاء كفيته، قال: أما مخارق فأحسن الناس غناء إذا اتفق له أن يحسن، وقلما يتفق له ذلك، وأما محمد بن الحارث فأحسنهم شمائل وأملحهم إشارة بأطرافه ووجهه في الغناء، وليس عنده غير ذلك، وأما عمرو بن بانة، فإنه أعلم القوم وأوفاهم، وأما علويه فمن أدخله مع هؤلاء؟

43 - وجه القرعة

43- وجه القرعة «1» وجه كله أسارير، وصباح كله تباشير، ورسيل قيان يقال له رفقا سيرك بالقوارير، جار على قديم، وسار على طريق قويم، وسبق وما تخلف، وجدّ وما تكلفّ، وقال كلّ قول يشق المسامع ويلجها، ويقع على الخواطر ويبلجها. [ص 119] قال أبو الفرج الأصفهاني، قال محمد بن حية «2» : دخلنا على إسحاق الموصلي نعوده في علة كان وجدها، فصادف عنده مخارقا وعلويه وأحمد بن [يحيي المكّي ومحمد بن] «3» حمزة وجه القرعة، فعرض عليهم إسحاق أن يقيموا عنده ليفرح بهم ويخرج إليهم ستارة يغنون من ورائها، ووضع النبيذ، فغنّى مخارق صوتا من الغناء القديم، فخالفه محمد بن حمزة في صناعته [وطال] مراؤهما «4» في ذلك، وإسحاق ساكت، ثم تحاكما إليه، فحكم لمحمد، فراجعه مخارق فقال له إسحاق: حسبك، فو الله ما فيكم أدرى بما يخرج من رأسه منه، فقال: ثم غنّى أحمد بن يحيى المكي: «5» [البسيط] قل للحمامة لا تعجل بإسراج فقال محمد: هذا اللحن لمعبد، ولا يعرف له هزج غيره، فقال أحمد: أما على ما شرط أبو محمد آنفا من أنه ليس في الجماعة أدرى بما يخرج من رأسه منك،

44 - شارية

فلا معارض لك، فقال له إسحاق: يا أبا جعفر، ما غنيتك والله فيما قلت، ولكن قد قال إنه لا يعرف لمعبد هزج «1» غيره، فاكذبه أنت بهزج آخر له مما لا يشك فيه، فقال أحمد: لا اعرف، تمام الصوت: [البسيط] قل للحمامة لا تعجل بإسراج ... ليس الجواد بذاك السابح النّاجي لما دعا دعوة أخرى فأسمعني ... أخذت قولي واستعجلت إدلاجي «2» 44- شارية «3» جارية بيضاء مذكورة، هيفاء ممكورة، باهت بالغناء، وتاهت تيه الحسناء، وأربت على كل مجيد، وأبرّت على كل ذات سالفة وجيد، يقال إنها ريحانة من رياحين مخزوم، وممن حار بحبها اللزوم، فكانت درة تقلدها ملك فخر بأجداده، وجمع النقيضين ببياضها وسواده «4» ، وكانت تفوق كل جارية، وتفوت الكواكب وهي سارية. قال أبو الفرج، قال عيسى بن هارون المنصوري: إنّ مولاة شارية «5» قدمتها ببغداد لتبيعها، فعرضتها على إسحاق بن إبراهيم [ص 120] الموصلي، فأعطى بها ثلاث مئة دينار ثم استعادها بذلك ولم يردّها، فجيء بها إلى إبراهيم بن المهدي، فعرضت عليه، فساوم بها، فقالت مولاتها: قد بذلتها لإسحاق بثلاثة

مئة دينار، والأمير أعزه الله أحق بها، فقال: زنوا لها ما قالت، ثم دعا بقيّمته فقال لها: خذي هذه الجارية ولا ترينيها سنة، وقولي للجواري يطرحن عليها، فلما كان بعد سنة، أخرجت إليه وسمعها، فأرسل إلى إسحاق وأراه إيّاها، وأسمعه غناءها، قال: هذه جارية تباع فبكم تأخذها لنفسك؟ فقال إسحاق: آخذها بثلاثة آلاف دينار «1» وهي رخيصة، فقال إبراهيم، أتعرفها قال: لا، قال: هذه الجارية التي عرضتها عليك الهاشمية بثلاث مئة دينار فلم تقبلها، فبقي إسحاق متعجبا من حالها وما انقلبت إليه. قال ابن المعتز، ذكر أبو يوسف بن إبراهيم المصري صاحب إبراهيم بن المهدي، أن إبراهيم وجه إلى عبد الوهاب بن عليّ في حاجة كانت له، قال: فلقيته وانصرفت من عنده، فلم أخرج من دهليزه حتى استقبلتني امرأة، فلما بصرت [بي] «2» سترت وجهها عني، فأخبرني بعض الشاكرية أن الامرأة أم شارية جارية إبراهيم، فبادرت إلى إبراهيم، وقلت: أدرك أم شارية في دار عبد الوهاب، وهي من تعلم، فقال لي في جواب ذلك: أشهدتك ان جاريتي شارية صدقة مني على ميمونة بنت إبراهيم بن المهدي، ثم أشهد ابنه على مثل ذلك، وأمرني بالركوب إلى دار ابن أبي دواد «3» وإحضار من قدرت عليه من الشهود، فأحضرتهم وكانوا أكثر من عشرين شاهدا، وأمر بإخراج شارية، فأخرجت، فقال: اسفري، فجزعت من ذلك، فأعلمها أنما أمرها بذلك لخير يريده لها، ففعلت، فقال: تسمي، فقالت: أنا شارية أمتك، فقال لهم: تأملوا وجهها، ففعلوا، فقال: أشهدكم أنها حرة لوجه الله تعالى، وأني قد تزوجتها وأصدقتها

عشرة آلاف درهم، يا شارية مولاة إبراهيم بن المهدي أرضيت؟ قالت نعم، رضيت، والحمد لله على ما أنعم عليّ، وأمرها بالدخول [ص 121] ، وأطعم الشهود وطيبهم وانصرفوا، فما أحسبهم بلغوا دار ابن أبي دواد، حتى دخل علينا عبد الوهاب بن علي فأقرأه السلام من المعتصم، ثم قال له: يقول لك أمير المؤمنين المفترض عليّ طاعتك، وصيانتك من كل ما يعودك، إذ كنت عمي وصنو أبي، وقد رفعت إليّ امرأة في قريش قصة ذكرت فيها أنها من بني زهرة صليبة «1» ، وأنها أم شارية أمتك، وكيف تكون امرأة من قريش أمة، فإن كانت هذه المرأة صادقة في أن شارية ابنتها، وأنها من بني زهرة، فمن المحال أن تكون شارية أمة، والأصلح بك والأشبه اخراج شارية من دارك، وتصيرها عند من تثق به من أهلك، حتى نكشف ما قالته المرأة، وكان في ذلك الحظ الأوفر لك في دينك وحقك، وإن لم يصح لك، أعيدت الجارية إلى منزلك، وقد زال عن نفسك القول الذي لا يليق بك ولا يحسن. فقال له إبراهيم: فديتك، هب شارية بنت زهرة بن كلاب، أتنكر على ابن العباس بن عبد المطلب أن يكون بعلا لها؟ قال: لا، فقال إبراهيم فأبلغ أمير المؤمنين أطال الله بقاءه، أن شارية حرة، وقد تزوجتها بشهادة جماعة من العدول، وقد كان الشهود بعد منصرفهم من عند إبراهيم، صاروا إلى ابن أبي دواد، فشم رائحة الطيب منهم، فأنكره، فسألهم عنه فأعلموه أنهم حضروا عتق شارية جارية إبراهيم بن المهدي وتزوجه إياها، فركب إلى المعتصم فحدثه الحديث، فقال: ضلّ سعي عبد الوهاب، فلما رآه يمشي في صحن الدار سد المعتصم أنف نفسه، فقال: يا عبد الوهاب إني أشمّ رائحة صوف محرق، وأحسب عمي لم يقنعه ردك [إلا و] «2» على أذنك صوفة حتى أحرقها، فشممت رائحتها منك، فقال: الأمر على ما ظن أمير المؤمنين

وأسمج، ولما انصرف عبد الوهاب من عند إبراهيم، ابتاع إبراهيم من ميمونة شارية بعشرة آلاف درهم وستر ذلك عنها، وكان عتقه إياها وهي في ملك غيره، ثم ابتاعها من ميمونة فحل له فرجها، فكان يطؤها على أنها أمة، وهي تتوهم على أنه يطؤها على أنها زوجته حرة، فلما توفي طلبت مشاركة أم محمد [ص 122] بنت خالد زوجته في المهر، فأظهرت خبرها، وسألت ميمونة وهبة الله عن الخبر، فأخبرتا به، فأمر المعتصم بابتياعها، فابتيعت من ميمونة [بخمسة آلاف و] خمس مئة دينار، فحولت إلى داره، فكانت في ملكه إلى أن توفي. قال ابن المعتز: وحدث حمدون بن إسماعيل أنه دخل على إبراهيم يوما فقال له: أتحب أن أسمعك شيئا لم تسمع قط مثله، فقلت: نعم، فقال: هاتوا شارية، فخرجت فأمرها أن تغني لحن إسحاق «1» [البسيط] هل بالدّيار التي أحببتها أحد قال حمدون: فغنّي شيء لم أسمع قط مثله، فقلت: لا والله يا سيدي ما سمعت هكذا قط، قلت: أتحب أن تسمعه أحسن من هذا؟ قلت: لا يكون، قال: بلى والله، تقر بذلك، فقلت: على اسم الله، فغناه هو، فرأيت فضلا عجيبا، فقلت: ما ظننت أن هذا يفضل ذلك هو الفضل، قال: أفتحب أن تسمعه أحسن من هذا وذاك؟ قلت: هذا الذي لا يكون أبدا، فقال: بلى والله، فقلت: هات، قال: بحياتي يا شارية قوليه وأحيلي «2» حلقك [فيه] ، قال: فغنّت، فسمعت والله فضلا بيّنا، فأكثرت التعجب، فقال لي: والله يا أبا جعفر ما أهون هذا على السمع! تدري كم رددت عليها موضعا في هذا الصوت؟

45 - خليدة المكية

قلت: لا، قال: قل وأكثر، قلت: مئة مرة؟ قال: أضعف ما بدا لك، قلت: ثلاث مئة مرة؟ قال: أكثر والله من ألف مرة، حتى قالته كذا. كانت ريّق تقول: إن شارية إذا اضطربت في صوت فغاية ما يكون عنده من عقوبتها أن يقيمها تغنيه على رجلها، فإن لم تبلغ الذي أراد، ضربت ريّق بين يديها «1» . قال محمد بن سهل بن عبد الكريم: ثم أعطى المعتصم بشارية سبعين ألف دينار. قال عبد الله بن طاهر: أمرني المعتز ذات يوم بالقيام عنده، فأقمت وأمر فمدّت الستارة، وغنت شارية [ص 123] ولم أكن سمعتها قبل، فاستحسنت ما سمعت، فقال لي المعتز: يا عبد الله، كيف تسمع منها عندك؟ فقلت: حظ العجب من هذا الغناء أكثر من حظ الطرب فاستحسن ذلك، فأخبرها فاستحسنته. 45- خليدة المكيّة «2» خلّدت لها ذكرا، وخلّت حديثها يستحسن وإن كان نكرا، خلقت من طينة العنبر الورد وطابت أنفاسا وإن اسود كأنما نفضت عليها صبغتها الحدق ممّا حدقت ناظرة إليها، إلا أنها كانت ذات ملح ما اشتملت عليها احناء ظلام، ولا مجاجة أقلام، فلهذا عشقت وما ضاعت الأعمار التي أنفقت. قال أبو الفرج، قال الفضل بن الربيع: ما رأيت ابن جامع يطرب كما يطرب لغناء خليدة المكية. قال عمر بن شبة: بلغني أن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان، أرسل إلى خليدة المكية مولاه أبا عمرو يخطبها عليه، فاستأذنها عليه فأذنت له،

46 - عمرو الميداني

وعليها ثياب رقاق لا تسترها، فوثبت وقالت: إنما ظننتك بعض سفهائنا، ولكني ألبس لك لباس مثلك ثم أخرج اليك ففعلت، ثم قالت: قل، قلت: أرسلني إليك مولاي، وهو من تعلمين ابن رسول الله وابن علي وعثمان، وهو ابن عم أمير المؤمنين، يخطبك، قالت: قد نسبته فأبلغت، فاسمع نسبي، أنا- بأبي أنت- إن أبي بيع على غير عقد الإسلام ولا عهده، فعاش عبدا ومات وفي رجليه قيد، وفي عنقه سلسلة على الإباق «1» والسرقة، وولدتني أمّي منه على غير رشدة، وماتت وهي آبقة، وأنا من تعلم، فإن أراد صاحبك نكاحا مباحا، أو زنا صراحا، فليهمّ «2» إلينا فنحن له، فقلت: إنه لا يدخل في الحرام، فقالت: ولا ينبغي أن يستحي من الحلال، فأما نكاح السر فلا والله ما فعلته، ولا كنت عارا على القيان أبدا، فأتيت محمدا فقال: ويلك، أتزوجها معلنا وعندي بنت طلحة بن عبيد الله «3» ، لا، ولكن ارجع إليها فقل لها تختلف إليّ أردد بصري فيها [ص 124] لعلي أن أسلو، فرجعت إليها فأبلغتها الرسالة فضحكت وقالت: أما هذا فنعم. 46- عمرو الميداني «4» مطرب مجالس، ومطري مجالس، وزند سرور قادح، وعهد حبور سلم من فادح «5» ، اقتصر على الضرب بالطنبور، فيبست العيدان، ويئست أن تحوز صنعة

الميدان، ووضع لها في الأصوات ما يناسب، وقنع منها بما تيسر من المكاسب، ثم ما ضمّ مصرورا، ولا مضى مسرورا. قال أبو الفرج، قال علي بن أمية: دخلت على عمرو الميداني، وكان له بقّال على باب داره ينادمه ويقترض منه إذا أعسر، فوجدته عنده، فقال: يا أبا عمرو، معي أربعة دراهم اشتروا بها ما أحببتم، وعندي نبيذ، وأنا أغنيكم، والبقال يحضركم من الأبقال اليابسة مما في حانوته، فوجهنا بالبقال، فاشترى لنا لحما وخبزا وفاكهة، وجاءنا من دكانه بحوائج سكباج «1» ونقل، فبينا نحن نتوقع فراغ القدر، إذا بفرانق «2» يدق الباب، وقال: أجب إسحاق بن إبراهيم، فحلف علينا ألا نبرح، ومضى هو وأكلنا وشربنا، وانصرفت عشاء، وبكر إليّ رسوله فصرت إليه، فقلت له أعطني خبرك، قال: أدخلت فوضعت بين يدي مائدة، كأنها جزعة» يمانية، قد فرشت في عراصها أنواع الأطعمة، فأكلت وسقيت رطلين، فدفع إلي الطنبور، فدخلت إلى إسحاق فوجدته جالسا وخلفه ستارة وعنده مخارق وعلوية، فقال: أنت عمرو الميداني؟ فقلت: نعم، قال: أكلت؟ قلت: نعم، [قال] هاهنا أو في منزلك؟ قلت: بل هاهنا، قال: أحسنت، تغنّ بصوتك: «4» [مجزوء الخفيف] يا شبيه الهلال كلّل في الأفق أنجما فغنيته، فضرب الستارة، وقال: قولوه «5» أنتم [فقالوه] ، فقال لمخارق وعلوية: كيف تسمعان؟ قالا: هذا والله ذاك، وذاك هذا [فردّدنه] ، وشرب عليه مرارا، ثم قال لي: أنا اليوم على خلوة ولك إليّ عودات، فانصرف اليوم بسلامة، فخرجت

47 - أشعب الطامع

ودفع إليّ الغلام خمسة [ص 125] آلاف درهم، هذه والله لا استأثرت عليكم منها بدرهم، فلم نزل عنده نقصف بها حتى نفدت كلها. 47- أشعب الطّامع «1» رجل من أهل المدينة، كان يعد الوهم حقيقة، ويظن وادي العقيق عقيقة، ولو رأى البرق المقتدح لحسبه طابخا، أو الفجر الطالع في الليل لظنه لإهاب شاة ملحاء سالخا، ما خيّم الضباب إلا قال هذه دخان رفعت لنا القرى، وما بانت له الآكام إلا قال سأستضيف بعض هذه القرى، لو قدر من طمعه لتعلق بحبال الشمس، واسترد اليوم ما فات في أمس، لو حضر امرؤ القيس للزمه وتبتل، ووقف يندب عقائره التي تقتل، ولخاطف العذارى منها على لحم وشحم كهدّاب الدّمقس المفتل، لا يسلك في غير الخدع المطمعة الجدد، ولا يعرف من قدماء العرب إلا طابخة بن أدد، لو سئل عن فواتر الأجفان لقال لا أعرف إلا فوائر الجفان، يعجله النهم عن التسمية والحمد، ولا يحمله الشره على ملاحظة أطراف الأكيل على عمد، لو نظر إلى خيال النجوم في الغدير، لقال دعوني بلقط هذه الدنانير، أو فاته تحصيل ذرّ الهباء «2» لعض على الأباهم، وكان على هذه الخصال التي تسود الصحف، وتخزي ما تحت اللحف، من أقيال الغناء وأهل أقوال الطرب المعروفة لابن اللخناء، إلى نوادر له في الطمع، ونكت له كالنظافة في الطبع، وعلى هذا أصبحت الناس، وأصبح واحدا والخلق في أجناس.

قال أبو الفرج رحمه الله: كان يحكى عن أمّه أنها كانت تغري بين أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتمشي بينهم بالنميمة، وأنها زنت فحلقت وطيف «1» بها أسواق المدينة، وكانت تنادي على نفسها: من رآني فلا يزني، فقالت لها امرأة: يا فاعلة، نهانا الله عز وجل عنه فعصيناه، نطيعك أنت؟ وأنت مجلودة راكبة جمل؟ وقد روى الحديث عن جماعة من الصحابة، من «2» الحديث الذي رواه عن عبد الله بن جعفر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ص 126] «لو دعيت إلى كراع لأجبت» «3» . قال المدائني: دفعت ابنة عثمان أشعب في البزازين، فقالت له بعد حول السنة أتوجهت بشيء؟ قال: نعم: توجهت وتعلمت نصف العلم، قالت: وما هو؟ [قال] : تعلّمت النّشر وبقي الطّيّ. قال المدائني، قال أشعب: تعلقت بأستار الكعبة وقلت: اللهم أذهب عنّي الحرص والطلب إلى الناس، ومررت بالقرشيين وغيرهم فلم يعطني أحد شيئا، فجئت إلى أمي فقالت: مالك قد جئت خائبا؟ فأخبرتها، فقالت: لا والله، لا تدخل حتى ترجع فتستقيل ربك، فرجعت فقلت: يا رب أقلني، فلم أمر بمجلس من قريش وغيرهم إلا أعطوني، ووهب لي غلام، فجئت أمي [بحمار] موقرا «4» من كل شيء، فقالت: ما هذا الغلام؟ فجئت لأخبرها فخفت أن تموت فرحا، فقلت: وهبوا لي، قالت: أي شيء؟ قلت: غين، قالت: أيش غين، قلت:

لام، قالت أي شيء لام؟ قلت: ألف، قالت: أي شيء ألف؟ قلت: ميم، قالت: وأي شيء ميم قلت: غلام، فغشي عليها، ولو لم أقطع الحروف لماتت الفاسقة فرحا. قال أشعب: سمعت الناس يموجون في أمر عثمان، ثم أدركت المهدي، وقال تغدى أشعب مع زياد الحارثي فجاء بصحفة فيها مضيرة «1» ، فقال أشعب للخباز: ضع ذلك على يدي، فقال زياد: من يصلي بأهل السجن، فقالوا: ليس لهم إمام، فقال: أدخلوا أشعب يصلي بهم، فقال أشعب: أو خير من ذلك؟ قال: وما هو؟ قال: أحلف ألا آكل مضيرة أبدا. قال: صلّى أشعب يوما إلى جانب مروان بن أبان بن عثمان، وكان مروان عظيم الخلقة والعجيزة، فما لبث أن أفلتت منه ريح عند نهوضه لها صوت، فانصرف أشعب من الصلاة، يوهم الناس أنه هو الذي خرجت منه الريح، فلما انصرف مروان إلى منزله، جاء أشعب فقال له: الدّية، قال: دية ماذا؟ قال: الضرطة التي تحملتها [عنك] ، ولم يدعه حتى أخذ منه. قال أبو بكر الزيني، حدثني من رأى أشعب، علق رأس كلبه وهو يضربه ويقول: تنبح للهدية، وتبصبص «2» للضيف. [ص 127] قال: غذا أشعب جديا بلبن أمه «3» وغيرها، حتى بلغ غاية، وقال لزوجته: ابنة وردان، أحب أن ترضعيه بلبنك، ففعلت، ثم جاء به إلى إسماعيل بن جعفر الصادق فقال: بالله إنه [لابني] قد رضع بلبن زوجتي، حبوتك به ولم أجد من يستأهله سواك، قال: فنظر إسماعيل إلى الجدي فأعجبه، فأمر بذبحه وأسمط،

فأقبل أشعب وقال: ما عندي والله شيء ونحن من تعرف وذلك غير فائت لك، فلما أيس منه قام من عنده، فدخل على أبيه جعفر بن محمد، ثم اندفع يشهق حتى التفت أضلاعه، ثم قال: أخلني، قال: ما معنا أحد، قال: وثب ابنك إسماعيل على ابني فقتله وأنا أنظر إليه، قال: فارتاع جعفر وقال: ويحك، وفيم؟ وتريد ماذا؟ قال: أما ما أريد فو الله مالي في إسماعيل حاجة، ولا يسمع هذا سامع أبدا بعدك، فجزاه خيرا وأدخله منزله، وأخرج له مئتي دينار، وقال له: خذ هذه، ولك عندي ما تحب، قال: وخرج جعفر إلى اسماعيل لا ينظر ما يطأ عليه، فإذا به مسترسل [في مجلسه] فلما رأى وجه أبيه نكره وقام إليه، فقال: يا إسماعيل وفعلتها بأشعب وقتلت ولده، فاستضحك وقال: جاءني بجدي من صفته وخبره كذا، فأخبره أبوه بما كان منه وصار إليه، قال: وكان جعفر يقول لأشعب: رعتني راعك الله، فيقول: روعتي في الجدي أكثر من روعتك في المائتي دينار. قال: وقف أشعب على امرأة وهي تعمل طبق خوص، فقال: كبرّيه، قالت: ولم؟ أتريد أن تشتريه؟ قال: لا، ولكن عسى أن يشتريه إنسان فيهدي إلي فيه شيئا. قال المدائني قالت صديقة أشعب لأشعب: هب لي خاتمك أذكرك به، فقال: اذكريني بأني منعتك إيّاه، فهو أحب إليّ. قال أشعب مرة للصبيان: هذا عمرو بن عثمان يقسم مالا، فامضوا إليه، فلما أبطاؤا عليه أتبعهم يحسب أن الأمر قد صار حقا كما قال. قال المدائني، قال رجل: رأيت أشعب بالمدينة يقلب مالا كثيرا، فقلت له: ويحك، ما هذا [الحرص] ؟ ولعلك أن تكون أيسر من الذي يعطيك، قال: إني قد مهرت في المسألة وأخاف أن أدعها فتنفلت مني.

قال المدائني: قيل لأشعب: ما بلغ [ص 128] من طمعك؟ قال: ما رأيت اثنين يتشاوران قط إلا ظننت أنهما قد أمرا لي بشيء. قال المدائني: قال أشعب لأمه: رأيتك في النوم مطلية بعسل، وأنا مطلي بعذرة «1» ، فقالت يا فاسق، هذا عملك الخبيث كساك هو الله عز وجل، قال: إن في الرؤيا شيئا آخر، قالت: وما هو؟ قال: رأيت أني ألطعك وأنت تلطعيني، قالت: لعنك الله يا فاسق. قال المدائني: كان أشعب يتحدث إلى امرأة بالمدينة حتى عرف بذلك، فقالت لها جاراتها: لو سألته شيئا فإنه موسر، فلما جاء قالت: إن جاراتي ليقلن لي: ما يصلك بشيء، فخرج نافرا من منزلها، فلم يقربها شهرين، ثم إنه جاء ذات يوم فجلس على الباب، فأخرجت له قدحا مملوءا ماء، فقالت: اشرب هذا من الفزع، فقال: اشربيه أنت من الطمع. قال المدائني، قال رجل لأشعب: لو تحدثت عندي العشية؟ فقال: أكره أن يجيء ثقيل، فقلت: ليس غيري وغيرك، قال: فإذا صليت الظهر فأنا عندك، فصلّى وجاء، فلما وضعت الجارية الطعام، إذا بصديق لي يدقّ الباب، فقال: ألا تراها، قد جاءنا ثقيل؟ قلت: عندي له عشر خصال، قلت: أولها أنه لا يأكل ولا يشرب، قال: رضيت والتسع خصال له، أدخله. قال المدائني: دخل أشعب يوما على الحسين بن علي رضي الله عنه وعنده اعرابي قبيح الوجه، فسبّح أشعب حين رآه، ثم قال للحسين: بأبي أنت وأمي، أتأذن لي

أن أسلح عليه؟ فقل له الأعرابي: إن شئت، ومع الأعرابي قوس وكنانة، ففوّق نحوه سهما وقال: والله لئن فعلت لتكون آخر سلحة سلحتها، فقال أشعب للحسين: فديتك قد أخذني القولنج «1» . قال المدائني: توضأ أشعب فغسل رجله اليسرى وترك اليمنى، فقيل له: لم تركت غسل اليمنى؟ قال: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أمتي غر محجلون «2» من آثار الوضوء، فأنا أحب أن أكون مطلق اليمنى. قال: سمع أشعب حبّى المدينية وهي تقول: اللهم لا تمتني أو تغفر لي ذنوبي، فقال لها: يا فاسقة، أنت لم تسأليه المغفرة، انما سألته عمر الأبد. قال: ساوم أشعب بقوس عربية،، فقال صاحبها: لا أنقصها من مئة دينار، فقال أشعب: أعتق ما أملك، لو أنها إذا رمي بها طائر في جو السماء [ص 129] ووقع مشويا بين رغيفين ما أخذتها بدينار واحد. قال: قيل لأشعب: رأيت أحدا أطمع منك؟ قال: نعم، كلب تبعني أربعة أيام على مضغ العلك. قال: لقي أشعب صديق لأبيه، فقال له: ويحك يا أشعب، كان أبوك ألحى وأنت أثط «3» ، فإلى من خرجت، قال: إلى أمي. قال: ولما ولّى الرشيد إبراهيم بن المهدي دمشق بعث إلى عبيد بن أشعب، وكان قدم عليه من الحجاز وأراد أن يطرفه به فقدم عليه، قال إبراهيم: فكان يحدثني

من حديث أبيه بالطريف، وعادلته «1» يوما وأنا خارج من دمشق في قبة على بغل لألهو بحديثه، فأصابنا في الطريق برد شديد، فدعوت بدواجّ سمّور «2» لألبسه، فأتيت به، فلما لبسته أقبلت على ابن أشعب فقلت: حدثني بشيء مما بلغ طمع أبيك، فقال: مالك ولأبي، ها أنا حين دعوت بالديباج، فما شككت والله أنّ ما جئت به لي، فضحكت ثم دعوت له بغيره، ثم قلت له: ألأبيك غيرك من الأولاد؟ قال: كثير، قلت: عشرة؟ قال: أكثر، قلت: خمسون؟ قال: أكثر، قلت: فمئة؟ قال: دع المئتين وخذ الألوف، قلت: ويلك، أي شيء تقول؟ أشعب أبوك ليس بينك وبينه أب، كيف يكون له الوف؟ فضحك ثم قال: في هذا خبر ظريف، فقلت له حدثني به، قال: كان أبي منقطعا إلى سكينة بنت الحسين، وكأنت متزوجة بزيد بن عمرو بن عثمان بن عفان، وكانت محبة له، وكان لا يستقر معها، تقول له: أريد الحج فيخرج معها فإذا مضوا إلى مكة قالت: أريد الرجوع إلى المدينة، فإذا عاد إلى المدينة قالت: أريد العمرة، فهو معها في سفر لا ينقضي، قال عبيد بن أشعب: فحدثني أبي كانت قد حلفته يمينا لا كفارة لها، أن لا يتزوج عليها ولا يتسرّى ولا يلمّ بنسائه ولا جواريه إلا بإذنها، وحج الخليفة في سنة من السنين، فقال لها: قد حج أمير المؤمنين ولا بد لي من لقائه، قال: فحلف لها أنّه لا يدخل الطائف، ولا يلم بجواريه بعد أن قالت له: لا آذن لك إلا على هذا، ثم قالت: احلف بالطلاق، فقال: لا أفعل ذلك، ولكن ابعثي معي ثقتك، فدعتني وأعطتني ثلاثين دينارا، وقالت: اخرج معه وحلفتني بالطلاق من ابنة وردان زوجتي أن لا أطلق له الخروج إلى الطائف بوجه ولا سبب، فحلفت لها بما أثلج صدرها، وأذنت له، فخرج وخرجت معه، فلما حاذينا الطائف، قال لي: يا أشعب، أنت تعرفني وتعرف [ص 130]

صنيعتي عندك، وهذه ثلاث مئة دينار فخذها وأذن لي أن ألمّ بجوارييّ، فلما سمعتها ذهب عقلي، وقلت: يا سيدي، إنها سكينة، فالله الله فيّ، قال: أو تعلم سكينة الغيب؟ فلم يزل بي حتى أذنت له، فمضى وبات عند جواريه، فلما أصبحنا رأيت أبيات قوم من العرب قريبة منا، فلبست حلّة وشي كانت لزيد قيمتها ألف دينار، وركبت فرسه وجئت إلى النساء، فسلّمت فرددن علي السلام وأجللنني وسألنني عن نسبي، فانتسبت بنسب زيد، فحادثنني وأنسن بي، فجاءني شيخ فسلّم علي وعظمني وسألني فأخبر بنسبي فنظر إلي وقال: ما هذه خلقة قرشيّ ولا هو إلا عبد، ثم بادر إلى بيته، وعلمت أنه يريد شرا، فركبت الفرس ثم مضيت، ولحقني فرماني بسهم ما أخطأ قربوس السرج، وما شككت في أنه يلحقني بآخر فيقتلني، فسلحت يعلم الله في ثيابي ولوثتها ونفذ إلى الحلّة فصيّرها شهرة، وأتيت رحل زيد، فجلست أغسل الحلّة وأنشفها، وأقبل زيد فرأى ما لحق بالحلة والسرج، فقال لي: ما القصة ويلك؟ فقلت: يا سيدي، الصدق أنجى وأسلم، وحدثته الحديث، فاغتاظ، ثم قال لي: ألم يكفك أن تلبس حلتي وتصنع ما صنعت، وتركب فرسي وتجلس إلى النساء حتى انتسبت بنسبي وفضحتني وجعلتني عند العرب ولاجا «1» ، أنا نفيّ من أبي، منسوب إلى أبيك إن لم أسؤك وأبالغ فيك، أو قال: في ذلك، ثم لقي الخليفة، وعاد ودخلنا إلى سكينة، فسألته عن خبره كله، فحدثها فقالت له: هل مضيت إلى جواريك؟ فقال: لا أدري، سلي ثقتك، فدعت بي فسألتني، فبدأت فحلفت بكل يمين محرجة أنه ما مرّ بالطائف، ولا فارقني، ولا دخلها، فقال: اليمين التي حلفها لازمة لي إن لم أكن دخلت الطائف وبت عند جواري وغسلتهن «2» جميعا، وأخذ مني ثلاث مئة دينار،

وفعل كذا وكذا، وأراها الحلة والسرج، فقالت لأشعب: فعلتها، أنا نفية من أبي إن لم أنفقها إلا فيما يسوؤك ثم أمرت بكبس «1» منزلي واحضارها الدنانير، فأحضرت، واشتري بها خشب وبيض وسرجين «2» ، فعملت من الخشب بيتا وحبستني فيه، وحلفت ألا أخرج منه حتى أحضن البيض كله، فمكثت أربعين يوما إلى أن نقب كله وخرج منه فراريج كثير، فربتهن وتناسلن وكن في المدينة يسمّين أولاد أشعب، وهن إلى اليوم بالمدينة يسمين بذلك، وتزيد على الألوف، كلهن أقاربي وأهلي، قال [ص 31] إبراهيم: فضحكت والله منه ضحكا ما أذكر أني ضحكت قدره قط، ووصلته، ولم يزل عندي زمانا حتى خرج إلى المدينة. قال: كان أبان بن عثمان من أهزل الناس وأولعهم، وبلغ من عبثه أنه كان يجيء إلى منزل الرجل له لقب يغضب منه، فيقول: أنا فلان بن فلان، ثم يهتف به بلقبه فيشتمه أقبح شتم، وأبان يضحك، قال: فبينا أشعب ذات يوم عند داره، إذ أقبل أعرابي معه جمل، والأعرابي أشقر أزرق غضوب يتلظّى كأنه أفعى، ويتبين الشر في وجهه، فقال أبان: هذا والله من البادية، ادعوه، فدعا به، فقيل له: إن الأمير أبان بن عثمان يدعوك، فأتاه، فسلم عليه، فسأله عن نسبه، فانتسب له، فقال: حيّاك الله يا خال، اجلس، فقال: إني في طلب مثل جملك هذا منذ مدة، فلم أجده كما أشتهي بهذه الهامة، وبهذا اللون والصدر والورك والأخفاف، والحمد لله الذي أظفرني به عند من أحبه، أتبيعه؟ قال: نعم أيها الأمير، قال: فإني قد بذلت مئة دينار، وكان الجمل يساوي عشرة، فطمع الأعرابي وسرّ وانتفخ وبان الطمع في وجهه، فأقبل أبان على أشعب وقال: ويلك يا أشعب، إن خالي من

أهلك وأقاربك- يعني في الطمع- فأوسع له ما عندك، قال: نعم بأبي أنت وأخي وزيادة، فقال له: يا خال، إنما زادك في الثمن على بصيرة، إن الجمل يساوي ستين دينارا، ولكني زدتك وبذلت لك مئة [لقلة النقد عندنا] فزاد طمع الأعرابي وقال: قد قبلت ذلك أيها الأمير، فأسر إلى أشعب وأخرج شيئا مغطى وقال: أظهر ما جئت به، قال: فأخرج جرد عمامة خز تساوي أربعة دراهم، فقال: قومها يا أشعب، فقال: عمامة الأمير، تعرف به، ويشهد فيها الأعياد والجمع، ويلقى فيها الخلفاء، خمسون دينارا، فقال: ضعها بين يديه، وقال لكاتبه: أثبت قيمتها، فكتب ذلك، ووضعت العمامة بين يدي الأعرابي، فكاد يدخل بعضه في بعض غيظا، ولم يقدر على الكلام، ثم قال هات قلنسيتي، فأخرج قلنسية طويلة خلقة قد علاها الوسخ والدهن وتخرقت تساوي نصف درهم، فقال: قلنسية الأمير، تعلو هامته ويصلي فيها الصلوات ويجلس للحكم، ثلاثون دينارا، فقال: أثبت، فأثبت، ووضعت [ص 132] بين يدي الأعرابي فتربّد وجهه، وجحظت عيناه وهم بالوثوب، وتماسك قليلا وهو متقلقل ثم قال أبان لأشعب: هات ما عندك، فأخرج خفين خلقين قد نقبا وتقشرا، فقال: قوم، فقال: خفا الأمير يطأ بهما الروضة، ويعلو منبر النبي صلى الله عليه وسلم أربعون دينارا، فقال: ضعها بين يديه، فوضعها، ثم قال لبعض الأعوان «1» : اذهب فخذ الجمل، وقال لآخر: امض مع الأعرابي فاقبض ما عنده من بقية الثمن المباع وهو عشرون دينارا، فوثب الأعرابي وأخذ القماش فضرب به وجه القوم، ثم قال لأبان: أتدري أصلحك الله من أي شيء أموت؟ قال: لا، قال: حيث لم أدرك أباك عثمان فأشترك والله في دمه، إذ ولد مثلك، ثم نهض مثل المجنون فأخذ بزمام بعيره، وضحك أبان حتى سقط، وكان الأعرابي إذا لقي أشعب يقول: يا بن

48 - يونس الكاتب

الخبيثة هلم إلي حتى أكافئك على تقويمك المتاع، فيهرب منه أشعب. قال: لاعب أشعب رجلا بالنرد فأشرف على أن يقمره «1» ، إلا أن يضرب دويك «2» ، ووقع الفصان في يد الرجل فأصابه زمع «3» ، وخرج فضرب يكين وضرط مع الضربة، فقال أشعب: عليه من امرأته الطلاق إن لم أحسب له الضرطة نقطة حتى يصير اليكان دويك ويقمر، فسلم إليه القمر بسبب الضرطة. وكانت صنعته في الغناء طيبة، فمن صنعته في شعر كثير، وهو الصوت الذي ذكرت أخباره بسببه: «4» [المتقارب] . ألا ناد جيراننا نقصد ... فنقضي اللبانة أو نعهد كأن على كبدي جمرة ... حذارا من البين ما تبرد توفي أشعب سنة أربع وخمسين ومئة. 48- يونس الكاتب «5» كمل بالطرب أدواته، وجعل جس العود دواته، وكانت أنامله بالوتر أليق من

القلم، وأوفق بإمداد مما يمده المداد من الظلم، حلق فيه تحليق الطائر، وحقق فيه ما لا يحقق من النظائر، وأطرب من سمع، وأطرق «1» كل مجتمع، حتى ألف أنغامه، وخلف لأنف الحاسد إرغامه، وقسم أنواع الضروب، وغال [ص 133] الأفئدة بالأكول الشروب. قال أبو الفرج: هو أول من دون الغناء، ويقال: إنه خرج إلى الشام في تجارة، فبلغ الوليد بن يزيد مكانه، فلم يعلم يونس إلا ورسله قد دخلت عليه الخان، والوليد اذ ذاك أمير، قال: فنهضت معهم حتى أدخلوني على الأمير، لا أدري من هو، إلا أنه أحسن الناس وجها، فسلمت وأمرني بالجلوس، ثم دعا بالشراب والجواري، فغنيت: «2» [الخفيف] إن يعش مصعب فنحن بخير ... قد أتأنا من عيشنا ما نرجّي ثم تنبهت، فقطعت الصوت، فقال: مالك، فأخذت أعتذر من غنائي بشعر في مصعب، فضحك وقال: إن مصعبا قد مضى وانقطع أثره، ولا عداوة بيني وبينه، إنما أريد الغناء، فامض في الصوت، فعدت فيه فغنيته ولم يزل يستعيده حتى أصبح، فشرب عليه مصطبحا، وهو يستعيد في الصوت لا يجاوزه حتى مضت ثلاثة أيام، قلت: أيها الأمير، جعلني الله فداك إني رجل تاجر، خرجت مع تجارة وأخاف أن يرحلوا فيضيع مالي، فقال: أنت تغدو غدا، وشرب باقي ليلته، وأمر لي بثلاثة آلاف دينار، فحملت إليّ، وغدوت إلى اصحابي، فلما خرجت من عنده، سألت عنه، فقيل: هذا الأمير الوليد بن يزيد، ولي عهد أمير المؤمنين هشام، فلما استخلف بعث إليّ فأتيته، ولم أزل معه إلى أن قتل.

49 - أحمد النصبي

49- أحمد النّصبيّ «1» رجح سعدا، ونجح وعدا، وأقمر أمله، وأثمر بحسن الصنيعة عمله، وكان من رؤساء أهل الغناء، وجلساء الملوك المصغين لمسامعهم للاجتناء، إذا استقر في المجلس تحرك، وراجع رأيه زمان السرور واستدرك، وتكاثر الآباء، وتناثر الحباء، وجاءت النعم وفاقا، والدّيم دفاقا، واقتدحت بروح وتتوجت بأقدامها هام الراح، وتسلبت حتى الهموم القطاع، وحفظ الأدب، وأما النّدّ فضاع. قال أبو الفرج: هو أول من غنى بالطنبور في الإسلام، وكان ينادم عبيد الله بن زياد سرا [ص 134] ويغنيه، وله صنعة كثيرة حسنة، كان مؤاخيا لأعشى همدان «2» مواصلا له، وأكثر غنائه في شعره، يقال: لقي أعشى همدان وأحمد النصبي خرجا في بعض مغازيهما، فنزلا على سليمان «3» بن صالح بن سعيد بن جابر العنبري، وكان منزله بساباط المدائن «4» فأحسن قراهما، وأمر لدوابهما

بعلوفة وقضيم، واقسم عليهما أن ينتقلا عنده، ففعلا، فعرض عليهما الشراب فأجابا، فوضع بين أيديهما، وجلسا يشربان، فقال أحمد للأعشى: قل في هذا الرجل الكريم شعرا تمدحه به حتى أغني فيه، فقال الأعشى يمدحه: «1» [السريع] يا أيّها القلب المطيع الهوى ... أنّى اعتراك الطرب النازح تذكر جملا فإذا ما نأت ... طار شعاعا قلبك الطامح يقول فيها: إني توسّمت امرأ ماجدا ... يصدق في مدحته المادح ذؤابة العنبر واخترته «2» ... والمرء قد ينعشه الصايح «3» قد علم الحيّ إذا أمحلوا ... أنّك رفّاد لهم مانح في الليلة القالي قراها التي ... لا غابق فيها ولا صابح فالضيف معروف له حقّه ... له على أبوابكم فاتح والخيل قد تعلم يوم الوغى ... أنّك عن جمرتها ناضح قال: فغنى أحمد النصبي في هذه الأبيات، وجارية لسليم في السطح جالسة، فسمعت الغناء فنزلت إلى مولاها، فقالت: إني سمعت من أضيافك شعرا ما سمعت أحسن منه، وغناء في غنوة فيه أحسن غناء سمعته، فخرج مولاها فاستمع حتى فهم، ثم نزل فدخل عليهما فقال: لمن هذا الشعر والغناء؟ ومن أنتما؟ فقال: الشعر لهذا وهو أبو المصبح أعشى همدان، والغناء لي وأنا

50 - سليم

همدان النصبي «1» ، فانكبّ على رأس أعشى همدان فقبّا «2» وقال: كتمتماني أنفسكما وكدتما تفارقاني ولم أعرف خبركما، قال: فاحتبسهما عنده شهرا، ثم حملهما على فرسين وقال: [ص 135] خلّفا عندي ماكلّ من دوابكما، ثم ارجعا من مغزا كما إليّ، فمضيا إلى مغزاهما فأقاما حينا ثم انصرفا، فلما شارفا منزله قال أحمد للأعشى: إني أرى عجبا، قال: وما هو؟ قال: أرى فوق سطح سليم ثعلبا، قال: لئن كنت صادقا، فما بقي في القرية أحد، قال: فدخلنا القرية فوجدنا سليما وجميع أهل القرية قد أصابهم الطاعون، فمات أكثرهم، وانتقل باقيهم. 50- سليم «3» مطرب قد هزج، ومدير سلاف لو مزج بالروح لا متزج، وكان في أمره عجبا، وبطربه لا يدع محتجبا، وفتى القيان، وأتى بما يملأ العيان، وكان هذا شحيحا لحزا، لا يجري دفقا ولا نزرا «4» ، على ما كان له من وفور إدرار، وسني الجوائز التي تقر له كل قرار. قال أبو الفرج، قال أبو الحاجب الأنصاري، قال لي سليم يوما: امض إلى موسى ابن إسحاق الأزرق فادعه، ووافياني مع الظهر، فجئناه الظهر، فأخرج إلينا ثلاثين جارية محسنة ونبيذا، ولم يطعمنا شيئا، ولم نكن أكلنا [شيئا] فغمز «5» موسى غلامه، فذهب فاشترى لنا خبزا وبيضا، ودخلنا الكنيف «6» ، فجلسنا

51 - ابن عباد الكاتب [ص 136]

نأكل، فدخل إلينا، فلما رآنا نأكل خاصمنا وقال: أهكذا يفعل الناس؟ تأكلون ولا تطعموني، وجلس معنا في الكنيف يأكل كما نأكل حتى فني ذلك. قال إسحاق: غنّى سليم يوما وبرصوما يزمر عليه بين يدي الرشيد، فقصر في موضع صيحة، فأخرج برصوما الناي «1» من فمه ثم صاح: يا أبا عبد الله، صيحة أشد من هذا، فضحك الرشيد حتى استلقى. قال إسحاق: وضحكت أنا ضحكا ما أذكر أني ضحكت قط مثله. قال محمد بن الحسن: إنما أخّر سليما عن أصحابه في الصنعة ولعه بالأهزاج، فإن ثلثي صنعته هزج، وغنى سليم بين يدي الرشيد ثلاثة أصوات من الهزج فأطربه، فأمر له بثلاثين ألف درهم، وقال: لو كنت حكم الوادي ما زدت على هذا الإحسان في أهزاجك شيئا. 51- ابن عبّاد الكاتب «2» [ص 136] جمع الصنعتين فأبدع، وفاق فيهما لكنه سرّ من رأى دون سروره من استمع، كان في الغناء للقلب خالبا، وللب سالبا، وللسرور جالبا، وللهم الذي شد خناقه على الصدور غالبا، وله طرف تحكى، وغرائب تروى، آثار تنقل، وأصوات تطرب.

52 - يحيى المكي

قال أبو الفرج الأصفهاني، قال ابن عباد: إني لأمشي بأعلى مكة في العشر «1» ، إذا أنا بمالك على حمار له ومعه فتيان من أهل المدينة، فظننت أنهما قالا له: هذا ابن عباد، فمال إليّ، فملت إليه، فقال لي: أنت ابن عباد، فقلت: نعم، فقال: مل معي هاهنا، فأدخلني شعب ابن عامر، ثم أدخلني دهليز ابن عامر، قال: غنّني، قلت: أغنّيك وأنت مالك، وقد كان يبلغني أنه يثلب أهل مكة، ويتعصب عليهم، فقال: بالله إلا غنّيتني صوتا من صنعتك، فاندفعت فغنيته: [الوافر] ألا يا صاحبيّ قفا فعوجا ... على ربع تقادم بالمنيف «2» فأمست دارهم شحطت وبانت ... وأضحى القلب يخفق ذا وجيف وما غنيته إياه إلا على احتشام، فلما فرغت نظر إليّ وقال: والله لقد أحسنت، ولكن حلقك كأنه حلق زانية، فقلت: أما إذ «3» أفلت منك بهذا فقد أفلتّ. قال: وبقي ابن عباد إلى أيام المهدي، فقدم بغداد وتوفي بها في أيامه، ودفن بباب حرب. 52- يحيى المكّي «4» رابط فكر سانح، وخاطر مانح، واضطلاع فيما نقل، واطلاع على ما كان

يظن أنه لم يقل، وإتقان لصنعته يجمع طرقتها «1» ، ويعرف فرقها، ويؤنس غربتها، ويحلّي غربلتها، وأذن الخلافة مصغية إلى اجتناء الطرائف، واقتناء الشرايف، واستحسان الحسن، واستنطاق الألسن، فنفقت بضاعته، وفتقت الحجب، إلى القلوب صناعته. قال أبو الفرج: قال أحمد بن سعيد المالكي: حضرت يحيى المكي يوما وقد غنّى لحنا لمالك، فسئل عن صانعه فقال: هذا لي، فقال إسحاق: قلت ماذا؟ قلت: فديتك، وتضاحك به، وأخبر [ص 137] أنه لمالك، فغنّى الصوت فخجل يحيى «2» ، وأمسك عنه، ثم غنّى بعد ساعة صوتا آخر، فسئل عنه فنسبه إلى الغريض، فقاله إسحاق: يا أبا عثمان، ليس هذا من نمط الغريض ولا طريقته، فلو شئت لأخذت مالك وتركت للغريض ماله «3» ولم تتعب، فاستحيا يحيى، ولم ينتفع بنفسه [بقية] يومه، فلما انصرف بعث إلى إسحاق بألطاف «4» وهدايا، وكتب إليه يعاتبه ويقول له: لست من أقرانك فتضادني، ولا أنا ممن يتصدى لمباغضتك ومباراتك فتكايدني وأنت أولى أن أفيدك وأعطيك ما تعلم أنك لا تجده عند غيري، فتسمو بي على أكفائك أحوج منك على أن تباغضني، وأعطي غيرك سلاحا إذا حمله عليك لم تقم له، وأنت أولى وما تختار، فعرف إسحاق صدقه فكتب إليه يعتذر، ورد الألطاف، وحلف له أن لا يعارضه بعدها، وكان يأخذ عنه غناء المتقدمين ويستفيد منه أشياء فاق بها نظراءه، وكان يحيى بعد

ذلك إذا سئل بحضرته عن شيء صدق فيه، وإذا غاب إسحاق خلط فيما سئل عنه. قال إسحاق يوما للرشيد قبل أن تصلح الحال بينه وبين يحيى المكّي، أتحب يا أمير المؤمنين أن أظهر لك كذب يحيى فيما ينسبه من الغناء؟ قال: نعم، قال: أعطني أي شعر شئت حتى أصنع فيه، وسلني بحضرته عن صانعه، فإني سأنسبه إلى رجل لا أصل له، وسلني وسل يحيى عنه إذا غنيته، فإنه لا يمتنع أن يدّعي معرفته، فأعطاه شعرا وصنع فيه لحنا وغناه الرشيد بحضرة يحيى، فسأله: لمن هو، قال له إسحاق: لغناديس المدني، فأقبل الرشيد على يحيى فقال له: لقيت غناديس المدني «1» ؟ قال: نعم، وأخذت عنه صوتين، ثم غنّى صوتا وقال: هذا أحدهما، فلما خرج يحيى، حلف إسحاق بالطلاق ثلاثا، وعتق جواريه، أن الله عز وجل ما خلق أحدا اسمه غناديس، ولا سمع في المغنين ولا غيرهم وأنه وضع هذا الاسم في وقته. قال زرزر مولى علي المالقي «2» ، قال إبراهيم بن المهدي يوما لمولاه: ويلك يا مارق «3» ، إن يحيى المكي غنّى البارحة أمير المؤمنين ذكر فيه صوتا فيه ذكر زينب «4» ، وكان النبيذ أخذ مني فأنسيت شعره، فاستعدته إياه، فلم يعده [ص 138] فاحتل لي عليه حتى تأخذه لي منه ولك علي سبق «5» ، فقال لي مولاي: اذهب إليه وأعلمه أني أسأله أن يكون اليوم عندي، فمضيت إليه فجئت به، فلما قعدنا ووضع النبيذ، قال له المارقي: إني كنت سمعتك تغني صوتا فيه ذكر

زينب، وأنا أحب أن آخذه منك، وكان يحيى يوفي هذا الشأن حقه ولا يحضر إلا بحذر، ثم لا يدع الطلب والمسألة، ولا يلقي صوتا إلا بعوض، فقال له: وأي شيء العوض إذا ألقيت عليك هذا الصوت، فقال: ما تريد؟ فقال: هات الدلية «1» الأزمنية، أما آن لك أن تملّها؟ قال: بلى، وهي لك، قال: وهذه الظباء الحرمية، أنا مكّيّ وأنا أولى بها منك، قال: هي لك، وأمر بحمل ذلك إليه، وقال: يا غلام هات العود، فقال يحيى: والميزان والدراهم وكان لا يغني صوتا إلا بخمسين درهما فأعطاه إياها، وألقى عليه الصوت وهو: «2» [الطويل] بزينب ألمم قبل أن يظعن الرّكب ... وقل إن تملينا فما ملّك القلب فلم يشك المارقي أنه قد أخذ الصوت الذي طلبه إبراهيم وأدرك حاجته، فبكّر إلى إبراهيم وقد أخذ الصوت، فقال: جئتك بالحاجة، فدعا بالعود، فغناه إياه، فقال: لا والله، ما هذا هو، وقد خدعك، فعاود الاحتيال عليه. فقال زرزر: فبعثني إليه وبعث معي خمسين درهما، فلما دخل إليه وأكلا وشربا، قال له يحيى: قد واليت بين دعوتيك لي ولم تكن برا ولا وصولا، فما هذا؟ قال: لا شيء والله إلا محبتي لك، والأخذ عنك والاقتباس منك، فقال: سرّك الله، فمه؟ قال: تذكرت الصوت الذي سألتك إياه، فإذا ليس هو الذي ألقيته، قال: فتريد ماذا؟ قال: تذكر الصوت، قال: أفعل، فغناه: «3» [البسيط] ألمم بزينب إنّ البين قد أفدا ... قلّ الثّواء لئن كان الرّحيل غدا فقال: نعم، فديتك يا أبا عثمان، هذا هو، فألقه عليّ، قال: العوض؟ قال: ما

شئت، قال: هذا المطرف «1» الأسود، قال: هو لك، فأخذه وألقى عليه الصوت حتى استوى له، وبكّر إلى إبراهيم فقال له: ما وراءك؟ قال: قد قضيت الحاجة، فغناه إياه، فقال: خدعك والله، ليس هو هذا، فأعد الاحتيال عليه، وكلما تعطيه إياه فألزمني به، [ص 139] فلما كان في اليوم الثالث، بعث إليه، وفعل مثل فعله بالأمس، فقال له يحيى مالك أيضا؟ فقال: يا أبا عثمان، ليس هذا هو الصوت الذي أردت، قال له: لست أعلم ما في نفسك فاذكره، وإنما علي أن أذكر ما فيه زينب من الغناء كما التمست حتى لا تبقى زينب البتة إلا حضرت بها، قال: هات على اسم الله تعالى، [قال] «2» اذكر العوض، قال: هذه الدّراعة الوشي التي عليك، فأخذها، قال: والخمسين درهما، فأحضرت، فأخذها وألقى عليّ: «3» [الطويل] لزينب طيف تعتريني طوارقه ... هدّوا إذا النجم ارجحنّت لواحقه فأخذه ومضى إلى إبراهيم، فصادفه يشرب مع الحرم، فقال له حاجبه: ما تصل إليه، فقال له: قل له قد جئتك بحاجتك، فدخل فأعلمه، فقال له: يدخل فيغنيه في الدار قائما، فإن كان هو، وإلا فليخرج، قال: ففعل ذلك، فقال: لا والله ما هو هذا، فعاود الاحتيال عليه، ففعل مثل ذلك، فقال له يحيى وهو يضحك: ما ظفرت بزينبك بعد؟ قال: لا والله يا أبا عثمان، وما أشكّ إلا أنك تعتمدني بالمنع «4» مما أريده، وقد أخذت كل شيء عندي معابثة، فقال له يحيى: قد استحييت الآن منك وأنا ناصحك على شريطة، قال: نعم، قال:

الشريطة أن لا تلمني أن أعاتبك لأنك أخذت في معاتبتي «1» والمطلوب إليه أقدر من الطالب، فلا تعاود أن تحتال عليّ فإنك لا تظفر مني بما تريد، وقد دسّك إبراهيم عليّ لتأخذ صوتا غنيته، وسألني إعادته فمنعته إياه، بخلا عليه به، لأنه لم يلحقني منه خير ولا بركة، ويريد أن يأخذ غنائي باطلا وطمع بموضعك عندي أن يأخذ الصوت بلا ثمن ولا حمد، لا والله، إلا بأوفر ثمن وبعد اعترافك، وإلا فلا تطمع في الصوت، فقال له: أما إذا قد فطنت فتغنيه الآن إن كان هو، وإلا فعليك إعادته بعينه ولو غنّيتني كلّ شيء تعرفه لما أحسنت «2» لك إلا به، فقال: اشتره، فتساومنا طويلا، وما كسته إلى أن استقرّ الأمر على ألف درهم، فدفعتها إليه، وألقى: «3» [الكامل] طرقتك زينب والمزار بعيد ... بمنى ونحن معرّسون هجود فكأنّما طرقت بريّا روضة ... أنف تسجّح مزنها وتجود «4» [ص 140] قال: وهو صوت كثير العمل، حلو النغم، كثير الصنعة، صحيح القسمة، حسن المقاطع، فأخذه وبكّر إلى إبراهيم فقال له: قد أفقرني هذا الصوت وأعراني وأبلاني بوجه يحيى وشحه وشرهه، وحدثه بالقصة فضحك إبراهيم، وغناه إياه، فقال: هو هذا وأبيك هو بعينه، فألقاه عليه حتى أخذه، وأخلف كل شيء أخذه يحيى منه، وزاده خمسة آلاف درهم، وحمله على برذون «5» أشهب بسرجه ولجامه، وقال له: يا سيدي، فغلامك زرزر المسكين قد تردد عليه حتى ظلع «6» ، هب له شيئا، فأمر له بألف درهم.

قال: كان إبراهيم بن المهدي في مجلس محمد الأمين، والمغنون حضور، فغنّى يحيى المكي: «1» [مجزوء الوافر] خليل لي أهيم به ... فلا كافا ولا شكرا فاستعاده إبراهيم وأحب أن يأخذه منه، فجعل يحيى المكي يفسده، وفطن الأمين بذلك، فأمر له بعشرين ألف درهم وأمره برده وترك التخليط فيه، فدعا له، وقبّل الأرض بين يديه، وردّد الصوت وجوّده، فاستعاده إبراهيم، فقال له يحيى: ليست تطيب نفسي لك به إلا بعوض من مالك، ولا أنصحك والله، فهذا مال أمير المؤمنين مولاي فلم تأخذ أنت غنائي، فضحك الأمين وحكم على إبراهيم بعشرة آلاف درهم، فأحضره «2» وقبّل يحيى يده، فأعاد الصوت وجوّده، فنظر إلى مخارق وعلوية متطلعين لأخذه، فقطع الصوت، ثم أقبل عليهما فقال: قطعة من خصية الشيخ تغطّي أستاه عدة صبيان، والله لا أعدته بحضرتكما، ثم أقبل على إبراهيم بن المهدي، فقال له: يا سيدي، أنا أصير إليك حتى تأخذه متمكنا، ولا يشركك فيه أحد، فصار إليه فأعاده حتى أخذه، وأخذه جواريه. قال: غنّى ابن جامع للرشيد يوما بيتا، وهو هذا: «3» [الكامل] إنّي امرؤ مالي يقي عرضي ... ويبيت جاري آمنا جهلي فأعجب به الرشيد، فاستعاده مرارا وأسكت لابن جامع سائر المغنين، وجعل

يسمعه ويشرب عليه، ثم أمر له بعشرة آلاف درهم، وعشر خلع، وعشرة خواتم، وانصرف، ومضى إبراهيم الموصلي من وجهه إلى يحيى المكي، فأخبره بالذي كان [ص 141] من ابن جامع، واستغاث به، فقال له يحيى: أفزاد على البيت الأول شيئا؟ قال: لا، قال: أفرأيت إن زدتك بيتا ثانيا لم يعرفه إسماعيل، أو عرفه ثم انسيه، طرحته عليك حتى تأخذه، ما تجعل لي؟ قال: النصف مما يصل إلي بهذا البيت، قال: والله؟ قال: والله، فلما استوثق منه بالأيمان، ألقى عليه: [الكامل] وأرى الذّمامة للرفيق إذا ... ألقى رحالته إلى رحلي فأخذه وانصرف، فلما حضر المغنون من غد، كان اول صوت غنّاه إبراهيم هذا الصوت، وتحفّظ فيه وأحسن فيه كل الإحسان، فطرب الرشيد عليه واستعاده حتى سكر، وأمر لإبراهيم بعشرة آلاف دينار «1» ، وعشرة خواتيم وعشر خلع، فحمل ذلك معه وانصرف من وجهه إلى يحيى، فقاسمه ومضى إلى منزله، وانصرف ابن جامع إليه من دار الرشيد، وكان يحيى في بقايا علة، فاحتجب عنه، فدفع ابن جامع في صدر بوّابه، ودخل إليه، وقال: إيه يا يحيى، كيف صنعت، ألقيت الصوت على الجرمقاني «2» ، لا دفع الله صرعتك، ولا وهب عافيتك، وتشاتما ساعة، وخرج ابن جامع من عنده وهو مدوّخ. قال يحيى المكي: أرسل اليّ الرشيد، فدخلت عليه، وهو جالس على كرسي بتلّ

53 - حكم الوادي

دارا «1» ، فقال: يا يحيى غنّني: «2» [الطويل] متى تلتقي الألّاف والعيس كلّما ... تصعّدن من واد هبطن إلى واد قال: فلم أزل أغنّيه إيّاه، ويتناول أقداحا، إلى أن أمسى، فعددت عليه عشر مرات استعاده فيها، وشرب عليه عشرة أقداح، ثم أمر لي بعشرة آلاف درهم، وأمرني بالانصراف. 53- حكم الوادي «3» تنقل في فنون الطرب، وتوقل الرجال في الطلب، وكان مثل حمامة الوادي طربا، يصدع زجاجة الأحشاء، ويكون حاجة الانتشاء، ويفعل في هذا شبيه السحر في التخييل، ونظيره في التضليل، ومثله في تحسين «4» الأباطيل، وكان على اتفاق، وعمله كله على النفاق. قال أبو الفرج، قال إسحاق: سمعت حكم الوادي يغنّي صوتا فأعجبني، فسألته: لمن هذا؟ قال: ولمن يكون إلا لي «5» ؟ [ص 142] قال: وغنّى حكم الوادي يوما فقال له رجل، أحسنت، فألقى الدف بين يديه وقال للرجل: قبحك

54 - عمر الوادي

الله، تراني مع المغنين منذ ستين سنة [وتقول لي أحسنت؟] قال إسحاق: أربعة بلغوا في الإحسان في أربعة أجناس مبلغا قصر عنهم غيرهم، معبد في الثقيل الأول، وابن سريج في الرمل، وحكم في الهزج، وإبراهيم في الماخوري «1» . ويقال: إن حكم الوادي غنّى في الأهزاج في آخر عمره، فلامه ابنه على ذلك وقال: بعد الكبر تغني غناء المخنثين، فقال له: اسكت فإنك جاهل، غنّيت الثقيل ستين سنة فلم أفد إلا القوت، وغنيت الأهزاج منذ سنتين فكسبت مالم تر مثله قط. قال يحيى بن خالد: ما رأينا فيمن يأتينا من المغنين أجود أداء من حكم الوادي، وليس أحد يسمع منه غناء إلا وهو يغيره ويزيد فيه وينقص، إلا الحكم، فقيل لحكم ذلك، فقال: إني لست أشرب، وهؤلاء يشربون، فإذا شربوا تغيّر غناؤهم. 54- عمر الوادي «2» رجل نغمه بالطرب موصول، وإلى خلب الكبد له وصول، لو مرّ السيل المنحدر لوقف وأنصت، أو الطير في جو السماء لخرس وما صوّت، مع حسن

صنعة لا يدخل الخلل ضروبها، ولا يكون بلوغ الأمل ضريبها، ولا يتم سرور المجالس إلا إذا سمع منه في جنباتها، وطلع عوده المخضرّ الغضّ في جنباتها، فكان مجنى المحاضر، ومنى السامع والناظر. قال أبو الفرج: اتصل بالوليد بن يزيد فتقدم عنده، وكان يسميه جامع لذاتي ومحيي طربي، وقتل الوليد وهو يغنيه، وكان آخر الناس عهدا به. وقيل إن الوليد كان يوما جالسا وعنده عمر الوادي وأبو رقيّة، وكان ضعيف العقل [ص 143] وكان يملي المصحف على [أم] الوليد «1» ، فقال الوليد لعمر وقد غنّاه صوتا: أحسنت والله يا جامع لذاتي، وأبو رقية مضطجع، وهم يحسبونه نائما، فرفع رأسه إلى الوليد وقال له: وأنا جامع اللذات لأمك، فغضب الوليد وهمّ به، فقال له عمر الوادي: والله جعلني الله فداك ما يعقل أبو رقيّة وهو سكران، فأمسك عنه، قال عمر الوادي: بينا أنا أسير من العرج «2» والسّقيا، إذ سمعت إنسأنا يغني غناء لم أسمع قط أحسن منه، وهو هذا: «3» [الطويل] . وكنت إذا ما جئت ليلى بأرضها ... أرى الأرض تطوى لي ويدنو بعيدها من الخفرات البيض ودّ جليسها ... إذا ما انقضت أحدوثة أن تعيدها فكدت أسقط من ناقتي طربا، فقلت: والله لألتمسن الصوت والوصول إليه ولو بذهاب عضو من أعضائي، فقصدت نحو الصوت حتى ذهبت من الشرف «4» ، وإذا أنا برجل يرعى غنما، فإذا هو صاحب الصوت، فأعلمته الذي

أقصدني «1» إليه، وسألته إعادته عليّ، فقال: والله لو كان عندي قرى «2» لما فعلت، ولكني أجعله قراك، فربما ترنمت به وأنا جائع فأشبع، وكسلان فأنشط، ومتوحش فآنس، فأعاده عليّ مرارا حتى أخذته، فو الله ما كان لي كلام غيره حتى دخلت المدينة، ولقد وجدته كما قال. قال عمر الوادي: خرج إليّ الوليد بن يزيد يوما، وفي يده خاتم فضة وعليه ياقوت أحمر، فقال لي: أتحب أن أهبه لك؟ قلت: نعم والله يا مولاي، فقال: غن في هذه الأبيات التي أنشدكها، واجهد نفسك، فإن أصبت إرادتي فهنيئا لك، فقلت: أجهد وأرجو التوفيق، فقال: «3» [مجزوء الوافر] ألا يسليك عن سلمى ... قتير الشّيب والحلم وأنّ الشّك ملتبس ... فلا وصل ولا صرم وكيف بظلم جارية ... ومنها اللين والرّحم فخلوت في بعض المجالس، وما زلت أديره حتى استقام، ثم خرجت إليه وعلى رأسه وصيفة وبيدها كأس، وهو يروم شربه فلا يقدر خمارا «4» ، فقال: ما صنعت؟ قلت: قد [ص 144] فرغت ممّا «5» أمرت به، وغنيته، فصاح: هذا والله، ووثب قائما، وأخذ الكأس وقال: أعد فديتك، فأعدته عليه، فشرب ودعا ثانيا وثالثا ورابعا، وهو على حاله يشرب قائما حتى كاد أن يسقط، وجلس ونزع الخاتم والحلة التي كانت عليه، وألبسنيها وأجلسني في حجره وقال: و [الله] العظيم لا تبرح هكذا حتى أسكر، وما زلت أعيده ويشرب حتى مال على جنبه سكرا ونام.

55 - أحمد بن يحيى المكي

55- أحمد بن يحيى المكّي «1» أطنب فأطرب، وأعرب فأغرب، وجمع شتى الأصوات وزيّنها، وأتى بالغرائب وحسّنها، وانهل منه صيّب لا يعرف الإمساك، وتدفق سكوب لو كنت تتذكر معه البحر لأنساك، تقدم في أهل صناعته حتى كان لا يراهم إلا إذا التفت، وفرع منهم حاجة الجلساء حتى تمسكت به فاكتفت. قال أبو الفرج، قال جحظة، حدثني محمد بن أحمد بن يحيى المكّي، قال: ناظر أبي بعض المغنين ليلة بين يدي المعتصم وطال تلاحيهما في الغناء، فقال [أبي] للمعتصم: يا أمير المؤمنين، من شاء منهم فليغنّ عشرة أصوات لا أعرف فيها ثلاثة، وأنا أغني عشرة وعشرة وعشرة، لا يعرف أحد منهم صوتا منها، فقال إسحاق: صدق يا أمير المؤمنين، واتبعه ابن بسخنر وعلوية «2» ، فقالا: صدق إسحاق يا أمير المؤمنين، فأمر له بعشرة آلاف درهم. قال محمد «3» : ثم عاد ذلك الرجل إلى مماظته «4» يوما، فقال: قد دعوتك إلى النصفة فلم تقبل، وأنا أبدأ بما دعوتك إليه، فاندفع فغنّى عشرة أصوات، فلم يعرف أحد منهم صوتا واحدا، كلها من الغناء القديم، والغناء اللاحق به صنعة المكييّن الحذّاق

56 - بذل

الخاملي الذكر، فاستحسن المعتصم منها صوتا، فأسكت المغنين له، وأعاده مرات وهو يستعيده، ولم يزل يشرب عليه سحابة يومه، وأمر له بألفي دينار، وخلع عليه وعلى جماعته الندماء مماطر «1» لها شأن من ألوان شتى، فسأل عبد الوهاب ابن علي أن يرد عليه الصوت [ص 145] ويجعل له ممطره، فغنّاه إيّاه، فلما خرجوا للانصراف أمر غلمانه بدفع الممطر إلى غلمان أبي، فسلموه إليهم. والصوت: «2» [الخفيف] لعن الله من يلوم محبّا ... ولحى الله من يحبّ فيابى ربّ إلفين أظهرا الحبّ دهرا ... فعفا الله عنهما حين تابا 56- بذل «3» جارية نقصت البدور المقمرة، واستنقصت فيها القناطر المقنطرة، وتحاسدت عليها الملوك وأصحاب الأسرة، واهتبلت فيها الغرّة، وسخت فيها النحر بمنى، وأمتحن بمماثلة «4» طيبها المسك فأصبح تحت الفهر ممتهنا، وكانت رأسا في الطرب، إلا أنه بالتاج معتصب، ولهوى الخلفاء مغتصب، وبرزت على كل ذات قناع، وأخذت القلوب بلا امتناع، وكانت أعلام الغناء نكرات لديها، ومنكرات

لا تصل إليها، يعترف لها مثل ابن المهدي، ويعترض عليها حتى تحضر معها في الندي، وكان لا يرى بنو العباس غير فينتها شرفا، ولا بعد أدنى هوى الرشيد في هواها إلا سرفا «1» . قال أبو الفرج: كانت حلوة الوجه ضاربة متقدمة، وابتاعها جعفر بن موسى الهادي وأخذها منه محمد الأمين، وكانت قد وصفت له فبعث إلى جعفر يسأله أن يريه إياها فأبى، فزاره إلى منزله فسمع شيئا لم يسمع مثله، فقال لجعفر: بعني يا أخي هذه الجارية، فقال: يا سيدي مثلي لا يبيع جارية، فقال: هبها لي، فقال: هي مدبّرة «2» ، فاحتال عليه محمد حتى أسكره، وأمر ببذل فحملت معه إلى الحرّاقة «3» وانصرف بها. فلما انتبه جعفر سأل عنها، فأخبر بخبرها، فسكت، فبعث إليه محمد من الغد، فجاءه وبذل جالسة فلم يقل له شيئا، فلما اراد جعفر الانصراف قال: أوقروا حراقة ابن عمي دراهم، فكان مبلغ ذلك عشرين ألف ألف درهم، قال: وبقيت بذل في دار محمد إلى أن قتل، ثم خرجت، وكان ولد محمد يدعون ولاءها، فلما ماتت ورثها ولد عبد الله بن [ص 146] محمد الأمين. وقيل: كان محمد الأمين قد وهب لها من الجوهر شيئا لم يكن يملك أحد مثله، فسلم لها، فكانت تخرج منه الشيء فتبيعه بالمال العظيم، إلى أن ماتت. وكان إبراهيم بن المهدي «4» يعظمها ويتوافى لها، ثم تغير بعد ذلك استغنى بنفسه عنها، فعلمت ذلك وصارت إليه، ودعت بعود وغنّت في طريقة واحدة

وإيقاع واحد مئة صوت، لم يعرف إبراهيم منها واحدا ووضعت العود وانصرفت، فلم تدخل داره حتى طال طلبه لها وتضرعه إليها في الرجوع إليه. قال أحمد بن شعيب المكي: خالف بذلا إسحاق في صوت غنّته بحضرة المأمون، فأمسكت عنه ساعة، ثم غنّت ثلاثة أصوات في الثقيل الثاني، واحدا بعد واحد، وسألت إسحاق عن صانعها، فلم يعرفه، فقالت «1» للمأمون: هي والله يا أمير المؤمنين لأبيه أخذتها من فيه، فإذا كان لا يعرف غناء أبيه، فكيف يعرف غناء غيره فاشتد «2» ذلك على إسحاق حتى بان فيه. قال: وذكر أن المأمون كان قاعدا يوما يشرب، ومعه قدح، إذ غنّت بذل: «3» [الطويل] ألا لا أرى شيئا ألذّ من الوعد ... ومن أملي فيه وإن كان لا يجدي فجعلته: ألا لا أرى شيئا ألذّ من السّحق فوضع المأمون القدح من يده، والتفت إليها، فقال: بلى النّيك ألذّ من السّحق، فتشوّرت «4» وخافت غضبه، فأخذ قدحه وقال: أتمي صوتك وزيدي فيه: «5» ومن غفلة الواشي إذا ما أتيتها ... ومن زورتي أبياتها خاليا وحدي

57 - عزة الميلاء

ومن ضحكة في الملتقى ثم سكتة ... وكلتاهما عندي ألذّ من الخلد 57- عزّة الميلاء «1» وضرة الظبية الكحلاء، كان بيتها مأوى كل شريف، ومثوى كل ظريف، ونديّ كل ذي كلف نزح به الغرام، وقرح جفنه وأدماه حب الآرام، أقامت بالمدينة وفتية قريش تغشى معهدها المعمور، وترى مشهدها من مهمات الأمور، وأدركت من الأول السلف قوما شرفت برؤياهم، ولزمت [ص 147] بهم، ومن لطوالع الشموس بأن تلحق بأخراهم. قال أبو الفرج، قال يونس: كان ابن سريج في حداثته يأتي المدينة فيسمع من عزّة ويتعلم غناءها، وكان إذا سئل: من أحسن الناس غناء؟ قال: مولاة الأنصار المفضلة على كل من غنّى وضرب بالمعازف والعيدان، من الرجال والنساء. وكان عبد الله بن جعفر وابن أبي عتيق وعمر بن أبي ربيعة، يغشونها في منزلها فتغنيهم، وغنت يوما عمر بن أبي ربيعة لحنا لها في شيء من شعره، فشقّ ثيابه، وصاح صيحة عظيمة صعق منها، فلما أفاق قال له القوم: لغيرك الجهل يا أبا الخطاب، قال: إني سمعت والله ما لم أملك به نفسي ولا عقلي.

قال خارجة بن زيد: دعينا إلى مأدبة في آل نبيط فحضرتها وحسان بن ثابت، فجلسنا معا على المائدة، وهو يومئذ قد ذهب بصره، ومعه ابنه عبد الرحمن، وكان إذا أتي بطعام سأل: أطعام يد أو يدين؟ يعني باليد الثريد، وباليدين الشواء، إلا أنه يمسّ مسّا، فإذا قيل له طعام يد أكل، وإذا قيل «1» يدين أمسك يده، فلما فرغوا من الطعام أتي بجاريتين مغنيتين إحداهما رائعة والأخرى عزّة، فجلستا وأخذتا مزهريهما وضربتا ضربا عجبا بقول حسان: «2» [المنسرح] انظر نهارا بباب جلّق هل ... تؤنس دون البلقاء من أحد فأسمع حسان يقول: (قد أراني هناك سميعا بصيرا) ، وعيناه تدمعان، فإذا سكتتا سكت عنه البكاء، فإذا غنتا بكت، فكنت أرى ابنه عبد الرحمن إذا سكت يشير إليهما أن تغنيا فيبكي أباه. قال: كان بالمدينة رجل ناسك من أهل العلم والفقه، وكان يغشى عبد الله بن جعفر «3» ، فسمع جارية لبعض النخاسين تغني: [البسيط] بانت سعاد فأمسى حبلها انقطعا فاستهتر «4» بها وهام، وترك ما كان عليه، حتى مشى إليه عطاء «5»

وطاوس «1» فلاماه، فكان جوابه أن تمثّل بقول [ص 148] الشاعر: «2» [البسيط] يلومني فيك أقوام أجالسهم ... فما أبالي أطار النّوم أم وقعا وبلغ عبد الله بن جعفر خبره، فبعث إليه النخاس، فاعترض الجارية، وسمع غناءها بهذا الصوت، وقال لها: ممن أخذته، فقالت: من عزّة الميلاء، فابتاعها بأربعين ألف درهم، ثم بعث إلى الرجل، فسأله عن خبره، فأعلمه إياه وصدقه عنه، فقال: أتحب أن تسمع هذا الصوت ممن أخذت عنه تلك الجارية، قال: نعم، فدعا بعزة الميلاء وقال: غنّيه إياه، فغنّته، فصعق الرجل، وخرّ مغشيا عليه، فقال ابن جعفر: أثمنا فيه، الماء الماء، فنضح على وجهه، فلما أفاق قال: أكل هذا بلغ بك عشقها؟ فقال: وما خفي عليّ أكثر، قال: أتحب أن تسمع منها، قال: قد رأيت ما نالني حين سمعته من غيرها، فكيف يكون حالي إن سمعته منها، وأنا لا أقدر على ملكها، قال: أفتعرفها إن رأيتها؟ قال: أو أعرف غيرها! فأمر بها فأخرجت، وقال: خذها فهي لك، والله ما نظرت إليها إلا من عرض، فقبل الرجل يديه ورجليه، وقال: أنمت عيني، وأحييت نفسي، وتركتني أعيش بين قومي، ورددت إليّ عقلي، ودعا له دعاء كثيرا، فقال: ما أرضى أن أعطيها هكذا، يا غلام: احمل معه مثل ثمنها لكي تهتم بك، وتهتم بها.

58 - فند مولى عائشة

58- فند مولى عائشة «1» جملة عجز وصدر صدّ وحجر أشدّ من مرزمة الإبل توانيا، وأعظم من مكدية الأمل تفانيا، أبطأ من الخيل نهوضا، وأطول من كلب أهل الكهف ربوضا، ولو سابقه المقيد في الوثاق لسبقه، والطائر المقصوص الجناح لبلغ قبله طلقه، يرى المخالفة طاعة، والسنة تمضي بتمامها، إذا أسرع في الحاجة ساعة، إلى تخلف عن كل خير وتوان إلا في فند يحثّ إليه السير، وقبح فعلة، بقيت بقاء الأبد، وعمرت أكثر من نسور لبد، وشؤم طلعة، وكساد سلعة، إلا أنه ممن ألحفه الأصفهاني الجناح، وذكرّ فغدا أوراح «2» . قال أبو الفرج: كان يجمع بين النساء والرجال في منزله، فلذلك «3» يقول فيه عبيد الله بن قيس الرقيات: «4» [ص 149] [الخفيف] قل لفند يسيّر الأظعانا ... طالما سرّ عيشنا وكفانا صادرات عشية من قديد ... واردات مع الضّحى عسفانا «5» ويه يضرب المثل في الإبطاء، قال: أرسلته عائشة بنت سعد ليجيئها بنار، فخرج لذلك، فلقي عيرا خارجة إلى مصر، فخرج معهم، فلما كان بعد سنة رجع فأخذ نارا ودخل على عائشة وهو يعدو، فسقط وقد قرب منها، فقال:

59 - دنانير البرمكية

تعست العجلة، قال بعض الشعراء في رجل وصفه بذلك: [الرمل] ما رأينا لعبيد مثلا ... إذ بعثناه يجي بالمسأله غير فند بعثوه قابسا ... فثوى حولا وسبّ العجله 59- دنانير البرمكيّة «1» جارية منذرة، وملهية للآلي الدمع مبدرة، ومطربة لو جاءت كلّ «2» ورقاء على فنن لأسكتتها، أو طارحت كل ذات شجن لبكّتتها، وكانت أعز مما سميت به من الدنانير التي تدخل عليها الصرف، ويظهر عليها سيماء الوجل لا الظرف، نالت عواليها آل برمك خطى قاد لها الجامع «3» وقال به في فيّ خدرها الطامح، وأبدعت صورة وكانت فيها المحاسن محصورة. قال أبو الفرج: كانت صادقة الملاحة، فرآها يحيى فوقعت في قلبه واشتراها، وكان الرشيد يصير إلى منزله ويسمعها، حتى ألفها واشتد عجبه بها ووهب لها هبات سنية، منها أنه وهب لها في ليلة عيد عقدا قيمته ثلاثون ألف دينار، فردته عليه في مصادرة البرامكة بعد ذلك، وعرفت أم جعفر الخبر فشكته إلى عمومته فصاروا جميعا إليه، فعاتبوه فقال لهم: مالي في هذه الجارية من أرب في

نفسها، وإنما أربي في غنائها، فاسمعوها، إن استحقت أن يؤلف غناؤها فذاك، وإلا فقولوا ما شئتم، فأقاموا عنده، ونقلهم إلى «1» يحيى حتى سمعوا عنده فعذروه، وعادوا إلى ام جعفر فأشاروا عليها ألا تلح عليه في أمرها فقبلت، وأهدت إلى الرشيد عشر جوار، منهنّ: مراجل أم المأمون، وماردة أم المعتصم، [ص 150] وفاردة أم صالح. قال إسحاق، قال لي أبي، قال لي يحيى بن خالد: إن ابنتك دنانير قد عملت صوتا اختارته وأعجبت به، فقلت لها: لا يشتد إعجابك بما تصنعينه حتى تعرضيه على شيخك، فإن رضيه واستجاده وشهد بصحته فارضيه لنفسك، وإن كرهه فاكرهيه، امض حتى تعرضه عليك، قال: فقلت له أيها الوزير: كيف إعجابك أنت به، فأنت ثاقب الرأي، عالي الفطنة، صحيح التمييز، قال: أكره أن أقول لك أعجبني فيكون عندك غير معجب، إذ كنت رئيس صناعتك تعرف بها ما لا أعرف، وتقف من لطائفها على مالا أقف، وأكره أن أقول لك لم يعجبني، وقد بلغ من قلبي مبلغا محمودا، وإنما يتم لي السرور به إذا صادف ذلك منك استجادة وتصويبا، قال: فمضيت إليها، وقد كان تقدم إليّ خدمه بذلك وقال لدنانير: إذا جاءك إبراهيم فاعرضي عليه الصوت الذي صنعته واستحسنته، فإن قال لك أصبت سررتني بذلك، فإن كرهه فلا تعلميني لئلا يزول سروري بما صنعت فلما حضرت «2» الباب أدخلت ونصبت الستائر، فسلمت على الجارية، فردت علي السلام وقالت: يا أبت أعرض عليك صوتا قد تقدم إليك خبره، وقد سمعت الوزير يقول: إن الناس يفتنون بغنائهم ويعجبهم منهم ما لا يعجبهم من غيرهم، وكذلك يفتنون بأولادهم فيحسن في أعينهم منهم ما ليس يحسن، وقد خشيت على هذا الصوت أن يكون كذلك، فقلت: يا بنية، هات، فأخذت عودها فغنت: «3» [الكامل]

نفسي أكنت عليك مدّعيا ... أم حين أزمع بينهم خنت إن كنت مولعة بذكرهم ... فعلى فراقهم ألا متّ قال: فأعجبني والله غاية الإعجاب، واستخفني الطرب حتى قلت لها: أعيديه، وأنا طالب فيه موضعا أصلحه أو أغيره لتأخذه عني، فلا والله ما قدرت على ذلك، ثم قلت لها: اعيديه الثالثة، فأعادته، فإذا هو المصفى، فقلت لها: احسنت يا بنية وأصبت وأجدت، وقد قطعت عنك بجودة إصابتك [ص 151] وحسن إحسانك فائدة المتعلمين، إذ قد صرت تحسنين الاختيار، وتجيدين الصنعة، ثم خرج فلقيه يحيى بن خالد فرآه متهللا، فقال له: كيف رأيت صنعة ابنتك دنانير؟ فقال: أعز الله الوزير، ما يحسن كثير من حذاق المغنين مثل هذه الصنعة، ولقد قلت لها أعيديه، فأعادته ثلاث مرات كل ذلك أريد إعناتها لأجلب لنفسي مدخلا يؤخذ عني وينسب إليّ، فلا والله ما وجدته، فقال لي يحيى: وصفك لها يقوم مقام تعليمك إياها، والله لقد سررتني وسأسرك، فوجه إليه بمال كثير. قال حماد البشري: مررت بمنزل من منازل طريق مكة يقال له النّباج «1» ، وإذا كتاب على حائط في منزل، فقرأته فإذا هو: النيك أربعة، [فالأول] شهوة، والثاني لذة، والثالث شفاء، والرابع داء، وحر «2» إلى أيرين، أحوج من فرج إلى حرين، وكتبت دنانير مولاة البرامكة بخطها مدّة طويلة. قال ابن شبة: أخذت دنانير مولاة البرامكة غناء إبراهيم [الموصلي] حتى كانت تغني غناء فتحكيه فيه حتى لا يكون بينهما فرق، وكان إبراهيم يقول

60 - الزبير بن دحمان

ليحيى: متى فقدتني ودنانير باقية، فما فقدتني. قال: أصاب دنانير العلّة الكلبيّة، فكانت لا تصبر على الأكل ساعة واحدة، وكان يحيى يتصدق عنها في كل [يوم من] شهر رمضان بألف دينار، لأنها كانت لا تصومه، وبقيت بعد البرامكة مدة طويلة. 60- الزّبير بن دحمان «1» واقع على غرض، ورافع لبعض ما عرض، كان مشهور الأصوات، مشكور الفعل حتى بألسن الأموات، متى رفع عقيرته متع جيرته لضرب لا تدعيه مطمعة، ولا تعيه الآن مسمعة، أكثر استنهاضا من الحمية في الأمور، وأكبر إعراضا من صدّ الكؤوس عن الخمور، وله في مجالس الخلفاء ولوج، حيث يرى أذن، ولا يقبل الآراء أفن. قال أبو الفرج: كان الرشيد بعد قتله البرامكة شديد الندم على ما فعله بهم، ففطن الزبير لذلك، وكان يغنيه في هذا [ص 152] المعنى فيحركه، فغناه يوما: «2» [البسيط] من للخصوم إذا جدّ الخصام بهم ... يوم الجياد ومن للضمّر القود فرّجته بلسان غير مشتبه ... عند الحفاظ وقلب غير رعديد وموقف قد كفيت النّاطقين به ... في مجمع من نواصي الناس مشهود

فقال له الرشيد: أعد، فأعاد فقال: ويحك كأن قائل هذا الشعر يصف به يحيى ابن خالد وجعفر بن يحيى، وبكى حتى جرت دموعه، ووصل الزبير بصلة سنية. قال إسحاق: كان عندي الزبير بن دحمان يوما، فغنيت لأبي «1» : [الطويل] أشاقك من أرض العراق طلول فقال الزبير: أنت الأستاذ وابن الأستاذ السيد، وقد أخذت عن أبيك هذا الصوت، وأنا أغنيه أحسن من هذا، فقلت له: والله إني لأحب أن يكون كذلك، فغضب وقال: أنا والله أحسن غناء منك ومن أبيك، فتلاحينا طويلا، فقلت له: هلم نخرج إلى صحراء الرقة، فيكون أكلنا وشربنا هنالك، ونرضى في الحكم بأول من يطلع علينا، فقال: أفعل، فأخرجنا طعاما وشرابا، وجلسنا على الفرات نشرب، فأقبل حبشي يضرب الأرض، فقلت له: ترضى بهذا؟ فقال: نعم، فدعوناه وأطعمناه وسقيناه، وبادرني الزبير بالغناء، فغنى الصوت، فطرب الحبشي وحرك رأسه حتى طمع الزبير [فيّ] ، ثم أخذت العود فغنيته، فتأملني الحبشي ساعة وصاح: وأي شيطان أنت؟ ومدّ بها صوته، فما أعلم أني ضحكت مثل ضحكي يومئذ وانخذل الزبير واستحيا. قال: غضب الرشيد على أم جعفر، ثم ترضاها، فأبت أن ترضى عنه، فأرق ليله، ثم قال: افرشوا لي على دجلة، ففعلوا، فقعد ينظر إلى الماء وقد زاد زيادة عجيبة، فسمع غناء في هذا الشعر: «2» [الطويل] جرى السّيل فاستبكاني السّيل إذ جرى ... وفاضت له من مقلتي غروب

61 - ومنهم - عبد الله بن العباس

وما ذاك إلا حين أيقنت أنّه [ص 153] ... يمرّ بواد أنت منه قريب يكون أجاجا دونكم فإذا انتهى ... إليكم تلقّى نشركم فيطيب فيا ساكني أكناف دجلة إنكم ... إلى القلب من أجل الحبيب حبيب فسأل عن الناحية التي فيها الغناء، فقيل: دار ابن المسيب، فبعث إليه أن ابعث لي بالمغنيّ فبعث به، فإذا هو الزبير بن دحمان، فسأل عن الشعر فقال: هو للعباس بن الاحنف، فأحضره فاستنشده إياه، وجعل الزبير يغنيه والعباس ينشده، وهو يستعيدهما، حتى أصبح، وقام فدخل على أمّ جعفر فسألت عن دخوله فعرّفته، فوجهت إلى العباس بن الأحنف بألف دينار، وإلى الزبير بألف دينار. 61- ومنهم- عبد الله بن العبّاس «1» ابن الفضل بن الربيع، بيت رفيع، وقوم لهم ما لفضل الربيع من طراوة ندى، وطلاوة حدى، ورونق يزين الدنيا أبدا، ومعال أثرت بها مآثرهم، ومعان أثرها أكابرهم، فورثها أصاغرهم، حجّاب الخلفاء الأعز المكارم، وحفظة أبواب كالأنهار وراء بحور خضارم، وجدّه الربيع خدم المنصور فادعى إليه ولاء، وارتقى به إلى أن عقدت له ذوائب الكواكب لواء، وعبد الله هذا من سرّ صميمهم، وأرج شميمهم، إلا أنه بالغناء وضع قدر حبّه «2» ، وصنع ما لا يليق بنسبه، تعلم الغناء سرا، وتقدم قشرا «3» ، فأطرب كلّ محزونه، وأنفق من ذخائر

العاشقين سقمها، وحنّ العود في يده حنين الحمام عليه أيام تأوّد. ذكر أبو الفرج فقال، [قال] يحيى بن حازم، حدثني عبد الله بن العباس الربيعي قال: دخل محمد بن عبد الملك الزيات «1» على الواثق، وأنا بين يديه أغني، وقد استعادني صوتا فأعدته فأحسنت، فقال له ابن الزيات: هذا والله يا أمير المؤمنين أولى الناس بإقبالك عليه واستحسانك له، واصطناعك إياه، فقال: أجل، فلما كان الغد [ص 154] جئت محمد بن عبد الملك الزيات شاكرا لحسن محضره، فقلت له في أضعاف كلامي: وأفرط الوزير أعزه الله في وصفي وتقريظي بكل شيء حتى وصفي بجودة الشعر، وليس ذلك عندي، وانما أعبث بالبيت والبيتين والثلاثة ولو كان عندي شيء يعد من ذلك لصغر عن أن يصف الوزير، ومحله في هذا الباب المحل الرفيع المشهور، فقال لي: والله إنك لو عرفت مقدار قولك حين تقول: «2» [المجثث] يا شادنا رام إذ مرّ ... في الشّعانين قتلي يقول لي كيف أصبح ... ت كيف يصبح مثلي؟ لما قلت هذا القول، والله لو لم يكن لك شعر في عمرك كله إلا قولك (كيف يصبح مثلي) لكنت شاعرا.

قال إسحاق: لقيت عبد الله بن العباس يوما في الطريق فقلت له: ما كان خبرك أمس؟ فقال: اصطبحت، فقلت: على ماذا ومع من؟ فقال: مع خادم صالح بن عجيف، وأنت به عارف وبخبري ومحبتي له، فاصطبحنا على صفة بنت الخس «1» لما حملت: «2» [الطويل] أشمّ كغصن البان جعد مرجّل ... شغفت به لو كان شيئا مدانيا ثكلت أبي إن كنت ذقت كريقه ... سلافا ولا ماء من المزن صافيا وأقسم لو خيّرت بين فراقه ... وبين أخي لاخترت أن لا أخاليا فإن لم أوسّد ساعدي بعد رقدة ... غلاما هلاليّا فشلت بنانيا فقلت له: أقمت على لواط وشربت على زناء، والله ما سبقك إلى هذا أحد، فقلت: وقد كان على جلالة قومه ونباهتهم مغرى بالاصطباح، مغرما به في كل صباح، ومثاله مما قاله في هذه الحالة: «3» [البسيط] ومستطيل على الصهباء باكرها ... في فتية باصطباح الراح حذاق فكل كف رآه ظنه قدحا ... وكل شخص رآه ظنه الساقي وقوله في ذلك: «4» [المجتث]

باكر الراح صبحا ... لا يسبقنك فجر وإن يفتك اصطباح ... فلا يفوتنك سكر [ص 155] ويقال إنه شرب أواخر شعبان وكان قد نما إلى الخليفة انهماكه على المدام وانتهاكه للحياء مع الندام، وكذلك بلغه عن غيره، فبث رسله القيام في طلب هتك حرمة الصيام، وأتاه النذير وهو بين تربه مقبل على شربه، فقال: «1» [الخفيف] عللاني نعمتما بمدام ... واسقياني من قبل شهر الصيام حرم الله في الصيام التصابي ... فتركناه طاعة للإمام ثم دام على غيّه وضلاله، وأقام عمر قمر شعبان وهلاله حتى قارب رمضان أن يستهل، وحل خيط المدام أن يسلّ، ولم يبق غير دنو رمضان وإقباله، وإن ليله يلقى حافر هلاله، فقال: «2» [المديد] اسقني صهباء صافية ... ليلة النوروز والأحد حرم الله اصطباحتها ... فتزود شربها لغد قال: [خالد] بن حمدون: كنا عند الواثق في يوم دجن «3» ، فلما برق واستطار، قال «4» : قولوا في هذا شيئا، فبدرهم عبد الله بن [العباس بن] الفضل بن الربيع فقال: «5» [المتقارب] أعنّي على بارق لامع ... خفيّ كلمحك بالحاجب كأن تألقه في السماء ... يدا كاتب أو يدا حاسب

وصنع فيه لحنا شرب الواثق عليه بقية يومه، واستحسن شعره وغناءه وصنعته، ووصله بصلة سنية. وكان لدخول عبد الله في الغناء سبب حكاه وقصد استهون به فحواه، واستهول عقباه حتى أصباه، وذلك أنه هوي جارية لعمته وكان لا يقدر عليها ولا يستطيع الجلوس إليها، خيفة أن يبدو حبه فتمنعه عنها، وتفطن لما بطن فلا تمكنه منها، فأسر في نفسه غرضه، وداوى مرضه بعلة ممرضة وجملة معترضة، واحتال في رأي على عمته عرضه، هو أنه أظهر لها الرغبة في الغناء وتعلمه، واستكتمها عن جده في تكتمه، فأنفت [ص 156] له عمته الغناء ومذهبه، وكرهت ما يشين أباه وجده ومنصبه، فأبى إلا طربا، وتصابى حتى صبا، وتلاعب حتى جد لعبا، وداوم حتى أحسن قوة التصنيف، فصنع صوتين أنفق عليهما جهده من التثقيف، وعرضهما على الجارية، فقالت: هذا في الصنعة فوق الاتقان، ولا يحسن أحد في الزمان أكثر من هذا الإحسان، ونمى خبر الصوتين حتى غنيا للرشيد، فسأل عنهما وعلم لمن هما، فطلب جده وحدثه بما عنده، وعتبه على إخفاء أمره، وظن أنه يعلم به وقد أخفاه عنه، فأقسم الفضل أنه إلى الآن لم يعلم أن له ولدا من الغناء بهذا المكان، ثم كان من شهرته ما كان. وقد ذكر أبو الفرج هذه القصة فقال: قال أحمد بن المرزبان، حدثني عبد الله ابن العباس قال: كان سبب دخولي في الغناء وتعلمي إياه، أني كنت أهوى جارية لعمتي رقية بنت الفضل بن الربيع، وكنت لا أقدر عليها ولا الجلوس معها، خوفا من أن يظهر مالها عندي فيكون سببا لمنعي منها، فأظهرت لعمتي أنني أشتهي أن أتعلم الغناء، ويكون ذلك [في] ستر من جدي، وكان جدي وعمتي على حال من الرقة علي والمحبة لي لأن أبي توفي في حياة جدي الفضل، فقالت: يا بني، ما دعاك إلى ذلك؟

قلت: شهوة غلبتني، إن منعت منها متّ غمّا، وكان لي في الغناء طبع قوي، فقالت لي: أنت أعلم وما تختاره، والله ما أحب منعك من شيء، وإني لأكره أن تشتهر به فتسقط ويفتضح أبوك وجدك، فقلت: لا تخافي من ذلك، فإنما آخذ منه مقدار ما ألهو به، ولازمت الجارية لمحبتي إياها بعلّة الغناء حتى تقدمت سائرهم حذقا وصنعة، وأقررن «1» لي بذلك، وبلغت ما كنت أريده منه ومن أمر الجارية، وصرت ألازم مجلس جدي، وكان يسر بذلك ويظنه تقربا مني إليه، وانما كان وكدي فيه أخذ الغناء، فلم يكن يمر لإسحاق ولا لابن جامع ولا للزبير بن دحمان، ولا لغيرهم صوت الا اخذته، ثم أحسست من نفسي قوة في الصنعة، فصنعت أول صوت صنعته في شعر العرجي: «2» [الطويل] [ص 157] أماطت كساء الخز عن حرّ وجهها ... وأدنت على الخدين بردا مهلهلا ثم صنعت: «3» [المنسرح] أقفر من بعد أهله سرف ... فالمنحنى فالعقيق فالجرف «4» وعرضتهما على الجارية التي كنت أهواها، وسألتها عما عندها فيهما، فقالت: لا يجوز أن يكون في الصنعة شيء فوق هذا، وكان جواري الحارث بن

بسخنر وجواري ابنه محمد «1» يدخلن إلى جارنا، ويطرحن على جواري عمتي وجواري جدي ويأخذن أيضا ما ليس عندهن من غناء دارنا، فسمعنني ألقي هذين الصوتين على الجارية فأخذنهما مني، وسألن الجارية عنهما، فأخبرتهن أنهما من صنعتي، ثم اشتهرا حتى غنّى الرشيد بهما يوما فاستظرفهما، وقال لإسحاق: تعرفهما؟ قال: لا، وإنهما لمن حسن الصنعة ومتقنها، ثم سأل الجارية فتوقفت خوفا من عمتي، وحذرا أن يبلغ جدي أنها ذكرتني، فانتهرها الرشيد، فأخبرته القصة، فوجه من وقته فدعا بجدي فأحضره فقال: يا فضل، يكون لك ابن يغني ثم يبلغ في الغناء المبلغ الذي يمكنه أن يصنع صوتين يستحسنهما إسحاق وسائر المغنين، ويتداولهما جواري القيان ولا تعلمني بذلك؟! كأنك رفعت قدره عن خدمتي في هذا الشأن، فقال له جدي: وحق ولائك يا أمير المؤمنين ونعمتك، وإلا فأنا نفيّ منها بريء من بيعتك، وعلى العهد والميثاق والعتق والطلاق، إن كنت علمت بشيء من هذا من ولدي قط، إلا منك الساعة، فجاء جدي وهو يكاد أن ينشق غيظا، فدعاني فخرجت إليه، وقال: يا كلب، بلغني من امرك ومقدارك أن تحسن أن تتعلم الغناء بغير أمري، ثم لم تقنع بهذا حتى ألقيت صنعتك على الجواري في داري ثم تجاوزتهن إلى جواري الحارث بن بسخنر، فاشتهرت وبلغ أمير المؤمنين ذلك، فتنكر لي ولا مني، وفضحتني وفضحت آباءك في قبورهم، وسقطت إلى الأراذل من المغنين، فبكيت غما بما جرى مني، وعلمت أنه قد صدق، فرحمني وضمني إليه وقال: قد صارت الآن في أبيك مصيبتان، إحداهما به وقد مضى وفات، والأخرى فيك، وهي موصولة بحياتي، ومصيبة باقية العار عليّ وعلى أهلي بعدي، وبكى وقال: يعزّ عليّ يا

بني أن أراك على غير ما أحب، وليست لي [ص 158] في هذا الأمر حيلة، لأنه قد خرج من يدي، ثم قال: جئني بعود حتى أسمعك وأنظر كيف أنت، فإن كنت تصلح للخدمة في هذه الفضيحة، وإلا جئته بك منفردا وعرفته بخبرك، واستعفيته لك، فأتيته بعود وغنيت غناء قديما، فقال: بل غن صوتيك اللذين صنعتهما، فغنيته إياهما فاستحسنهما وبكى، ثم قال: بطلت والله يا بني وخاب أملي فيك، فواحزنا عليك وعلى أبيك، فقلت: ليتني مت يا سيدي من قبل ما أنكرته ولخرست، ومالي حيلة، ولكن وحياتك يا سيدي، وإلا فعليّ عهد الله وميثاقه، والعتق والطلاق وكل يمين يحلف بها حالف، لازمة لي، لا غنيته أبدا إلا لخليفة أو وليّ عهد، فقال لي: قد أحسنت فيما قد تنبهت عليه من هذا، ثم ركب وامرني فأحضرت ووقفت بين يدي الرشيد، وأنا أرعد، واستدناني حتى صرت أقرب إليه، ومازحني واقبل علي، وسكن مني، وامر جدي بالانصراف، واومأ إلى الجماعة فحدثوني وسقوني اقداحا، وغنى المغنون جميعا، واومأ إلى إسحاق أن أغني إذا بلغت النوبة إليّ، ليكون ذلك أملح، فلما بلغت النوبة إليّ أخذت عودا ممن كان إلى جانبي، وقمت قائما واستأذنت في الغناء، فضحك الرشيد وقال: غنّ جالسا، فجلست فغنيت لحني الأول، فطرب واستعادني ثلاث مرات، وشرب عليه ثلاثة أقداح وأنصاف، فكانت هذه حاله، فدعا مسرورا فقال: احمل إليه الساعة عشرة آلاف درهم «1» ، وثلاثين ثوبا من فاخر ثيأبي وعتيدة مملوءة طيبا، فحمل ذلك أجمع معي. قال عبد الله: ولم أزل كلما أراد وليّ عهد أن يعلم من الخليفة بعد الخليفة الوالي، أهو أم غيره، دعاني «2» وأمرني أن أغني، فأعرفه بيميني [فيستأذن

الخليفة في ذلك، فإن أذن لي في الغناء عنده عرف أنه ولي عهد] «1» وإلا عرف أنه غيره، حتى كان آخرهم الواثق، فدعاني في أيام المعتصم وسأله أن يأذن لي في الغناء فأذن لي، ثم دعاني المعتصم من الغد فقال: ما صار غناؤك إلا سببا لإظهار سري وأسرار الخلفاء قبلي، لقد هممت أن آمر بضرب عنقك، لا يبلغني أنك امتنعت من الغناء عن أحد، فو الله لئن بلغني لأقتلنك وأعتق من كنت تملكه يوم حلفت من المماليك، وطلق من كان عندك يومئذ من الحرائر، واستبدل بهن، وعليّ العوض من ذلك وأرحنا من يمينك هذه المشؤومة، فقمت من عنده وأنا لا أعقل، فاستفتيت «2» أبا يوسف القاضي حتى [ص 159] خرجت من يميني، وصرت بعد ذلك أغنّى لإخواني جميعا، حتى اشتهر أمري وبلغ المعتصم خبري، فتخلصت منه، ثم غضب علي الواثق لشيء أنكره، وولي الخلافة وهو ساخط علي، فكتبت إليه: «3» [الكامل] أدعو إلهي أن أراك خليفة ... بين المقام ومسجد الخيف «4» فدعاني ورضي عني وقال سليمان بن أبي شيخ: دخلت على العباس بن الفضل بن الربيع ذات يوم وهو مختلط مغتاظ، وابنه عبد الله عنده، فقلت له: مالك أمتع الله بك، فقال: لا يفلح والله ابني هذا أبدا، فظننته قد جنى جناية، فجعلت أعتذر إليه [له] فقال: ذنبه أعظم من ذلك وأشنع، قلت: وما ذنبه؟

قال: جاءني بعض غلماني فحدثني أنه رآه يشرب بقطربّل «1» الداذي «2» بغير غناء، فهل هذا فعل من يفلح؟ فقلت له وأنا أضحك: سهّلت عليّ القصة، فقال: لا تقل ذاك، فإن هذا من ضعة النفس وسقوط الهمة، فكنت إذا رأيت عبد الله بعد ذلك في جملة المغنين، وشاهدت تبذّله في هذا الحال، وانخفاضه عن مرتبة أهله، ذكرت قول أبيه. قال: قالت بذل الكبيرة لعبد الله بن العباس: قد بلغني أنك قد عشقت جارية يقال لها عساليج، فاعرضها عليّ، فأما إن عذرتك في حبها، أو عذلتك في أمرها «3» ، فوجه بها إليها وقال لبذل: هذه سيدتي فانظري واسمعي ومري بما شئت أطعك، فأقبلت عليه عساليج فقالت: يا عبد الله، أتشاور فيّ، وو الله ما شاورت فيك لما صاحبتك، فنعرت «4» بذل وقالت: أحسنت والله يا صبية، ولو لم تحسني شيئا ولا كانت فيك خصلة تجمل، لوجب أن تعشقي لهذه الكلمة، ثم قالت لعبد الله: ما صنعت، احتفظ بصاحبتك. قلت: وربما أن فيها قوله: «5» [الرمل] إنّ في القلب من الظّبي كلوم ... فدع اللّوم فإن اللّوم لوم «6»

لم أكن أوّل من سنّ الهوى ... فدع العذل فذا داء قديم قال عبد الله بن العباس الربيعي [ص 160] لقيني سوار بن عبد الله القاضي، وهو سوار الأصغر «1» ، فأصغى إليّ وقال: إن لي إليك حاجة، فأتني في خفي، فأتيته فقال لي: قد أنست إليك لأنك لي كالولد، ولي إليك حاجة، فإن ضمنت كتمانها أفضيت بها إليك، فقلت: ذاك للقاضي عليّ فرض واجب، فقال لي: إني قلت أبياتا في جارية لي أميل إليها، وقد هجرتني، وأنا أحب أن تصنع فيها لحنا وتسمعنيه، فإن غنيته وأظهرته بعد ألا يعلم أحد أنه شعري، فلست أبالي، أتفعل ذلك؟ قلت: حبا وكرامة للقاضي، فأنشدني سوار لنفسه: «2» [الطويل] سلبت عظامي لحمها فتركتها ... عواري في أجلادها تتكسّر وأخليت منها مخّها فتركتها ... أنابيب في أجوافها الريح تصفر إذا سمعت ذكر الفراق ترعّدت ... مفاصلها من هول ما تتحدّر خذي بيدي ثم ارفعي الثوب فانظري ... بلى جسدي لكنّني أتستّر وليس الذي يجري من العين ماؤها ... ولكنّها روح تذوب فتقطر قال عبد الله: فصنعت لحنا ثم عرّفته خبره في رقعة، وسألته أن يعدني المصير إليه، فكتب إليّ: نظرت في القصة، فوجدت هذا لا يصلح ولا ينكتم حضورك، ولا سماعي إياك، وأسأل الله أن يسرّ ويبقيك، فغنيت بالصوت حتى ظهر وتغنى به الناس، فلقيني سوار يوما فقال لي: يا بن أخي شاع أمرك في ذلك الباب، حتى سمعناه من بعيد، كأننا لم نعرف القصة.

62 - أبو صدقة

62- أبو صدقة «1» من المشهورين في أهل الموسيقا، والمشكورين تحقيقا، أطرب أصواتا، وأحيا نفوسا مواتا، خطب للتقريب وخطي إليه من غير مكان قريب، وإذا كان اندفع يغنّي استوجف الطير، وأوقف الراكب العجل عن السير، فكل مطرب يطير في الأوتار، ويطيب به حتى ذو الاقتار، لا يغلب على تدبير، ولا يشبه تلعّبه بالقلوب لاعب بالماء في الغدير «2» . قال أبو الفرج: «3» كان الرشيد يعبث به كثيرا، فقال ذات يوم لمسرور: قل لابن جامع، وإبراهيم الموصلي، والزبير [ص 161] بن دحمان وبرصوما، وابن أبي مريم المديني، إذا رأيتموني قد طابت نفسي فليسألني كل واحد منكم حاجة، مقدارها مقدار صلته، وذكر لكل واحد منهم مبلغ ذلك، وأمرهم أن يكتموا أمرهم عن أبي صدقة، فقال لهم مسرور ما قال له، ثم أذن لأبي صدقة قبل إذنه لهم، فلما جلس قال: يا أبا صدقة، قد أضجرتني «4» كثرة مسألتك، وأنا في هذا اليوم ضجر قد أحببت أن أتفرج وأفرح، ولست آمن أن تنغص عليّ مجلسي بمسألتك، فإما إن أعفيتني أن تسألني اليوم حاجة [وإلا فانصرف] ، قال: يا

سيدي لست أسألك في يومي هذا ولا إلى شهر حاجة، فقال له الرشيد: أما إذ قد شرطت لي هذا على نفسك فقد اشتريت منك حوائجك بخمس مئة دينار، وها هي ذه فخذها طيبة معجلة، فإن سألتني بعدها في هذا اليوم فلا لوم عليّ إن لم أصلك سنة بشيء، فقال له: نعم، فقال له الرشيد، زدني في الوثيقة، فقال: قد جعلت أمر أمّ صدقة إليك فطلقها منّي متى شئت، إن شئت واحدة، وإن شئت الفا، إن سألتك في يومي هذا حاجة، وأشهد الله ومن حضر على ذلك، ودفع المال إليه، ثم أذن للجلساء والمغنين فدخلوا، وشرب القوم، فلما طابت نفس الرشيد، قال ابن جامع: يا أمير المؤمنين، قد نلت بك مالم تبلغه أمنيتي، وكثر إحسانك إليّ حتى قتلت أعدائي، وليس لي بمكة دار تشبه حالي، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمر لي بمال أبني به دارا وأفرشها، لأفقأ عيون أعدائي وأزهق نفوسهم، فعل، فقال: كم قدرت لذلك؟ قال: أربعة آلاف دينار، فأمر له بها ثم قام إبراهيم الموصلي فقال: قد ظهرت نعمتك عليّ وعلى أكابر ولدي، وفي أصاغرهم من قد بلغ وأريد تزويجه، ومنهم من أحتاج أن أطهره، ومنهم صغار وأحتاج أن أتخذ لهم خدما، فإن رأى أمير المؤمنين أن يحسن معونتي على ذلك، فأمر له بمثل ما أمر لابن جامع. وجعل كل واحد منهم يقوم فيقول من الثناء ما يحضره، ويسأل حاجة على قدر جائزته، وأبو صدقة ينظر إلى الأموال تفرق يمينا وشمالا، فوثب على رجليه قائما ورمى بالدنانير من كمه، وقال: يا أمير المؤمنين أقلني أقال الله عثرتك، قال له الرشيد: لا أفعل، فجعل يستحلفه ويضطرب ويلح، والرشيد يضحك ويقول [ص 161] : ما إلى ذلك سبيل، الشرط أملك، فلمّا عيل صبره أخذ الدنانير فرمى بها بين يدي الرشيد، فقال: هاكها قد رددتها عليك وزدتك فرج أم صدقة، فطلقها إن شئت واحدة، وإن شئت ألفا، وإن لم تلحقني بجوائز القوم،

فألحقني بجائزة هذا البارد ابن البارد، وأراد بذلك عمر بن الغزال، وكانت [صلته ألف دينار، فضحك الرشيد حتى استلقى، ثم رد عليه خمس مئة الدينار، وأمر له [ب] «1» ثلاثة آلاف دينار معها، وكان ذلك أكثر ما أخذه منه منذ يوم خدمته إلى أن مات. قال: دخل جعفر بن يحيى على الرشيد صبيحة يوم مطر، فسأله عن يومه الماضي وما صنع فيه، فقال: كان عندي أبو زكّار الأعمى «2» وأبو صدقة، فغناني أبو صدقة صوتا من صنعته فطربت وو الله يا أمير المؤمنين طربا ما أذكر أني طربت مثله وهو: «3» [الخفيف] فتنتني بفاحم اللّون جعد ... وبثغر كأنه نظم درّ وبوجه كأنّه طلعة البد ... روعين في طرفها نفث سحر فقلت له: أحسنت يا أبا صدقة، فلم أسكت عن هذه الكلمة حتى قال لي: يا سيدي، إني قد بنيت دارا وقد انفقت عليها حريبتي «4» ، وما أعددت لها فرشا فافرشها لي، نجّد «5» الله لك ألف قصر في الجنة، فتغافلت عنه، وأعاد الغناء والمسألة، فتغافلت، فقال: يا سيدي، هذا التغافل متى حدث لك؟ سألتك الله، وبحق أبيك عليك إلا أجبتني عن كلامي ولو بشتم، فأقبلت عليه وقلت: أنت والله بغيض، فاكفف عن المسألة الملحة، فوثب من بين يدي، فظننت أنه يخرج

لحاجة، فإذا هو قد نزع ثيابه، وتجرد منها خوفا من المطر، ووقف تحت السماء لا يواريه شيء، والمطر يأخذه، فرفع رأسه فقال: يا رب أنت تعلم أني مله ولست نائحا، وعبدك هذا الذي رفعته عليّ وأحوجتني إليه، يقول لي أحسنت، ولا يقول لي أسأت، وأنا منذ جلست اقول له بنيت ولا أقول له هدمت، فيحلف بك جراءة عليك أني بغيض، فاحكم بيني وبينه يا سيدي، فأنت خير الحاكمين. فغلبني الضحك وأمرت به فجيء، وجهدت به في أن يغني، فامتنع حتى حلفت له بحياتك أني أفرش له داره يا أمير المؤمنين، وخدعته فلم أسمّ له ما أفرشها به، فقال الرشيد [ص 163] : طيب والله [الآن] تمّ لنا اللهو، هو ذا ادعوه، فإذا رآك فسيتنجز لك الفرش، لأنك حلفت له بحياتي، فهو يقتضيك ذلك بحضرتي ليكون أوثق، فإن قال لك فيه فقل: أنا أفرشها لك بالبواري «1» ، وإن شئت فالبردي «2» من الحصر، وحاكمه إلي، ثم دعا به فأحضر، فلما استقر في مجلسه قال لجعفر: الفرش الذي حلفت بحياة أمير المؤمنين الذي تفرش به داري تقدم فيه، فقال له جعفر: تخير إن شئت فرشتها لك بالبواري، وإن شئت فالبردي من الحصر، فضج واضطرب، فقال له الرشيد: وكيف كانت القصة؟ [فأخبره] فقال له: أخطأت يا أبا صدقة، إذ لم تسمّ النوع ولم تحدد القيمة، فإن فرشها لك بالبواري، أو بما دون ذلك، فقد وفي بيمينه، وإنما خدعك ولم تفطن أنت ولا توثقت، وضيعت حقك، فسكت وقال: نوفر عليه أيضا، البردي والبواري أعزّه الله. وغنى المغنون، حتى انتهى الدور إليه، فأخذ يغني غناء الفلاحين والملاحين والسقائين، وما جرى مجراه من الغناء، فقال له الرشيد: وأي شيء هذا من الغناء

63 - عمرو بن أبي الكنات

ويلك، قال: من فرشت داره بالبواري والبردي، فهذا الغناء كثير منه، وكثير أيضا لمن هذه صلته، فضحك الرشيد وطرب وصفق، وأمر له بألف دينار من ماله، فقال له: افرش دارك من هذه، فقال له: وحياتك لا آخذها أو تحكم عليه بما وعدني، وإلا متّ والله أسفا لفوت ما وعدني به، فحكم له على جعفر بخمس مئة دينار، فقبلها جعفر وأمر له بها. 63- عمرو بن أبي الكنّات «1» مطرب نهج السّنن «2» القديم، وأحلّ الغائب في محل النديم، واسمع كل ذي إصغاء، وجمع كل ذي ابتغاء، وغنّى والناس في صنوف المعايش لاهية قلوبهم، أشتات مطلوبهم، بين دان ونازح، ومقبل على معاشه، ومقيل في رياشه، فجعلوا رؤيته دأب «3» نواظرهم، وغناءه شغل خواطرهم، حتى لكاد يطرب الحيتان في الماء، والطير صافات في جو السماء. قال أبو الفرج، قال بعضهم: وافقت ابن أبي الكنّات في جسر بغداد في أيام الرشيد، فحدثته [بحديث] اتصل بي عن ابن عائشة [ص 164] في الموسم، أنه مر به فقال: إني لأعرف رجلا لو تكلم لحبس الناس، فلم يذهب أحد ولم يجيء، فقلت: ومن هذا الرجل؟ قلت: أنا، ثم اندفع يغني: «4» [الوافر]

جرت سنحا فقلت لها أجيزي ... نوى مشمولة فمتى اللّقاء قال: فحبس الناس واضطربت المحامل «1» وكادت الفتنة أن تقع، فأتي به هشام فقال له: يا عدوّ الله، أردت أن تفتن الناس، فأمسك عنه، وكان تياها، فقال له: ارفق بتيهك، فقال ابن عائشة: حق لمن كانت هذه مقدرته على القلوب ان يكون تياها، فضحك وأطلقه، فقال ابن أبي الكنات: فأنا أفعل كما فعل، وقدرتي على القلوب أكثر من قدرته كانت، ثم اندفع يغني في هذا الصوت ونحن على جسر بغداد، وكان إذ ذاك على بغداد ثلاثة جسور معقودة، فانقطعت الجسور بالناس من ازدحام الخلق عليها فأتى به الرشيد فقال: يا عدو الله أردت أن تفتن الناس، قال: لا والله يا أمير المؤمنين، ولكن بلغني أن ابن عائشة فعل مثل هذا في أيام هشام، فأردت أن أكون في أيامك، فأمر له بمال، واحتبسه عنده ليسمع غناءه. قال يحيى بن يعلى بن معبد: بينا أنا ليلة في منزلي في الرمضة أسفل مكة، إذ سمعت صوت عمرو بن أبي الكنّات كأنه معي، فأمرت الغلام فأسرج لي دابتي، وخرجت أريده، فلم أزل أتبع الصوت حتى وجدته جالسا على الكثيب العارض على بطن عرنة «2» ، قلت: وهذا كذب لا شك فيه، إذ لا يبلغ حاسة الأذان إلى بعض ذلك «3» .

64 - خليلان المعلم

64- خليلان المعلّم «1» رجل كان لما أراد مهيأ، خلط عملا صالحا وآخر سيّئا، كان يلقن القرآن ويعلم الغناء، ويقرب من هذا وهذا الأدناء، وكان بابة «2» الذكر في أهل الشأن، تائه العطف لا يتقدم الزمان، لو جالس كئيبا لانشرح، وحبيبا مسكه تيه الحب لاطّرح، لألحان حرها وأصوات مثل بيت جان لم تصورها. قال أبو الفرج: كان يعلم الصبيان القرآن، ويعلم الجواري الغناء [ص 165] في موضع واحد. قال بعضهم: وكنت يوما عنده وهو يردّد على صبيّ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ «3» ، ثم يلتفت إلى صبية بين يديه يرددها عليها: «4» [السريع] اعتاد هذا القلب بلباله ... أن قرّبت للبين أجماله «5» فضحكت ضحكا مفرطا لفعله، فالتفت إليّ وقال: مالك ويلك؟ فقلت: ما سبقك إلى هذا أحد، انظر أي شيء أخذت على الصبي من القرآن، والله إني لأظنك ممن يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله، فقال: أرجو ألا أكون كذلك إن شاء الله تعالى. قال عبد الصمد بن المعذل: دخل يوما خليلان المعلم على عقبة بن سلم

65 - عبيدة الطنبورية

الأزدي الهنائي فاحتبسه عنده، فأكل وشرب، فحانت منه التفاتة فرأى عودا معلقا، فعلم أنه عرض له به، فدعا به وأخذه وغنّى «1» : [المديد] يا بنة الأزديّ قلبي كئيب ... مستهام عندها ما ينيب والتفت فرأى وجه عقبة بن سلم متغيرا، قد ظن أنه عرّض به «2» ، ففطن، فغنى غيره، فسرّ عقبة وشرب فلما فرغ وضع العود من حجره، وحلف بعد ذلك بالطلاق ثلاثا أنه لا يغنّي إلا على من يجوز أمره عليه. والصوت الذي صنعه: «3» [المتقارب] ألا طرقت في الدّجى زينب ... وأحبب بزينب إذ تطرق عجبت لزينب إنّي سرت ... وزينب من ظلّها تفرق 65- عبيدة الطّنبوريّة «4» مهزّ قضيب، وممر كثيب، وربيبة كناس، وحبيبة أناس، برعت في الضرب بالطنبور، وأسرعت إلى الصدور بالحبور، وعدلت عن العود وتعب صناعته، وتأبى طاعته وصدورة شيرته «5» ، وكثرة تعجيزه، إلى ما خف موقعا، وكان مقنعا، وجاءت فيه بكل إجادة، وجاوزت غاية العود وزيادة.

قال أبو الفرج، قال علي بن الهيثم اليزيدي: دعوت يوما إسحاق الموصلي وكان يألفني فقال [ص 166] : من عندك؟ قلت: محمد بن عمرو بن مسعدة، وهارون بن هشام، وقد دعونا عبيدة الطنبورية، فقال: أفعل، فإني كنت أشتهي أن أسمع عبيدة، ولكن لي عليك شريطة، فقلت: هاتها، قال: إن عرفتني وسألتموني أن أغني بحضرتها، لم يخف عليها أمري وانقطعت، فلم تصنع شيئا، فدعوها على حجلتها «1» ، فقلت: أفعل ما أمرت به، فنزل وردّ دابته، وعرّفت صاحبي ما جرى، وأكلنا ما حضر، وقدم النبيذ، فغنت لحنا: «2» [مجزوء الوافر] قريب غير مقترب ... ومؤتلف كمجتنب له ودّي ولي منه ... دواعي الهمّ والكرب أواصله على سبب ... ويهجرني بلا سبب ويظلمني على ثقة ... بأنّ إليه منقلبي فطرب إسحاق وشرب نصفا، ثم غنت وشرب حتى والى بين عشرة أنصاف، وشربناها معه، وقام يصلي فقال لها هارون بن أحمد بن هشام: ويحك يا عبيدة، ما تبالي والله متى متّ، قالت: ولم؟ قال: أتدرين من المستحسن غناءك والشارب عليه ما شرب؟ قالت: لا والله، قال: إسحاق بن إبراهيم الموصلي، فلا تعرّفيه أنك قد عرفته، فلما جاء إسحاق ابتدأت تغني، فلحقتها هيبة له واختلاط، فنقصت نقصانا بينا، فقال لنا: أعرّفتموها من أنا؟ فقلنا: نعم، عرفها هارون بن أحمد، فقال إسحاق: نقوم إذا فننصرف، فلا خير في عشرتكم الليلة، ولا فائدة لي ولا لكم، ثم قام فانصرف.

66 - أبو حشيشة

قال جحظة حدثني شرائح «1» قال: كانت عبيدة تعشقني فتزوجت فمرت بي يوما، فسألتها الدخول إلي، فقالت: يا كشخان «2» ، كيف أدخل إليك وقد أقعدت في بيتك صاحب مسلحة، ولم تدخل. قال: وكان لها غلام يضرب عليها يقال له عليّ ويلقب ظئر «3» عبيدة، وكانت إذا خلت في البيت وشبقت اعتمدت عليه، وتقول: بغل الطّحان يصلح للحمل والطحن والركوب. قال: اجتمع الطنبوريون عند أبي العباس الرشيد يوما وفيهم المسدود وعبيدة، فقالوا للمسدود: غن، فقال: لا والله لا تقدمت عبيدة [ص 167] وهي الأستاذة، فما غنى حتى غنت. قال جحظة: وهب لي جعفر بن المأمون طنبورا فإذا عليه مكتوب: «4» [مجزوء الخفيف] كلّ شيء سوى الخيا ... نة في الحبّ محتمل 66- أبو حشيشة «5» سرى فأصبح، وأرى بصره الفاسد فأصلح، وفهم دقائق الغناء وأوضحها،

وعلم حقائق الطرب وفضحها، وسارّ الأوتار، وسامى النظراء، لا يرهقه الإقتار، ودخل أخبية الملوك وأخذ عطاياها، وحث مطاياها وفاز بصفوة مواهبها، وجلا عليهم حسان الأصوات المختارة في مذاهبها، وادخر خير أموالها، وأبقى الفضول لناهبها. قال أبو الفرج، قال نوبخت: رأيته وقد حضرت عريب عند ابن المدبر، وقد تغنى، فقالت له عريب: أحسنت يا أبا جعفر، ولو عاش الشيخان ما قلت لهما هذا، علوية ومخارق. قال جحظة، حدثني أبو حشيشة قال: هجم عليّ خادم أسود فقال: البس ثيابك، فعلمت أن [هذا] لا يكون إلا عن أمر خليفة أو أمير، فلبستها ومضيت معه، فعبر بي الجسر، وأدخلني دارا لا أعرفها، فأدخلني في حجرة مفروشة، وجاءني بمائدة كأنها جزعة «1» ، وقد نشر في أعراضها الخبز، فأكلت وسقاني رطلين، وجاء بصندوق ففتحه، وإذا فيه طنابير، فقال: اختر ما تريد، فاخترت واحدا، فأخذ بيدي فأدخلني إلى دار فيها رجلان، على أحدهما قباء غليظ ملحم «2» ، وعلى الآخر ثياب ملحم وخز، فقال لي صاحب الخز: اجلس، [فجلست] فقال لي: أكلت وشربت؟ قلت: نعم، فقال: قل ما نقول لك، فقلت: قل، فقال: غنّ بصنعتك: «3» [الخفيف] يا مليح الإقبال والانصراف ... وملولا ولو أشا قلت جافي

67 - إسحاق الموصلي

فغنيته إياه، ولم يزل يطلب مني صوتا بعد صوت من صنعتي فأغنيه ويستعيده، ويشرب هو والرجل، وأسقى بالأنصاف المختوتة «1» إلى أن صلوا العشاء [ص 168] الآخرة، ثم أومأ إلى الخادم فقمت، فقال لي صاحب القباء منهما: أتعرفني؟ قلت: لا، قال: أنا إسحاق بن إبراهيم الطاهري، وهذا محمد ابن أسد الخناق، والله لا بلغني أنك تقول رأيتني لأضربنّ عنقك، انصرف، وخرجت، ودفع الخادم ثلاث مئة دينار، فجهدت أن يقبل منها شيئا على سبيل البرّ، فلم يفعل. 67- إسحاق الموصلي «2» رجل تعقد عليه الخناصر، ويعتد عليه الناصر، علم منوع ويمّ لا يخلو من الإخلاطة بكل مشرع، أخذ من كل فن ظرفا، وعلا على كل فضل شرفا، حتى كان يعدّ القضاء وناظر العلماء، وأبكى بغلبة الجفون دماء، وكان يربأ بنفسه إلى أن يدخل على الخلفاء مع أهل الفقه، ويختلط بهذا الشبه، وبرع في الأدب وأفانينه، وغنى بالشعر وتحسينه، وخلف وراءه السباق، وفي حسن نظمه وتحسينه، وحلّ من الرشيد فمن بعده من الخلفاء محل الأصفياء، وفازوا منه

بالوفاء، وفاز هو بما تجلى له منهم من موارد الصفاء، وكانوا يرونه القلب الذي يسع سرورهم، والشباب الذي يحسن غرورهم، وأيامه مطويات إلى بلوغ آرابه، وسبوغ النعمة فيما زنده أورى به، هذا إلى عفاف تشهد به المضاجع، وكرم وخير وتقدم في أول وأخير، ونفس ما أشربت حب الحرام ولا اشرأبت إلى غير اختلاف الكرام. قال أبو الفرج، قال إسحاق: بقيت زمانا من دهري أغلّس «1» كل يوم إلى هشيم، ثم أصير إلى الكسائي وأقرأ عليه جزءا من القرآن، وآتي الفرّاء فأقرأ عليه أيضا، ثم آتي منصور زلزل فيضاربني طرقين «2» أو ثلاثة، ثم آتي عاتكة بنت شهدة فآخذ منها صوتا أو صوتين، ثم آتي الأصمعي فأناشده، وآتي أبا عبيدة فأذاكره، ثم أصير إلى أبي فأعلمه ما صنعت، ومن لقيت، وما أخذت، وأتغدى معه، فإذا كان العشاء رحت إلى الرشيد. قال إسحاق: دعاني المأمون يوما فسألني عن صوت، فقال: أتدري من صنعه، فقلت: أسمعه، ثم أخبر أمير المؤمنين بذلك إن شاء الله تعالى، فأمر جارية من جواريه وراء الستارة، فغنت وضربت [ص 169] [فإذا] هي قد شبهته بالقديم، فقلت: زدني معها عودا آخر، فإنه أثبت لي، فزادني عودا آخر، فقلت: يا أمير المؤمنين، هذا الصوت محدث لامرأة ضاربة، فقال: من أين قلت ذلك؟ فقلت لما سمعته وسمعت لينه، عرفت أنه من صنعة النساء، ولما رأيت جودة مقاطعه، علمت أن صاحبته ضاربة وقد حفظت مقاطعه وأجزاءه، ثم طلبت عودا آخر فلم أشك، قال: صدقت، الغناء لعريب.

قال إسحاق بن إبراهيم الظاهري، حدثتني مخارق مولاتنا قالت: كان لمولانا الذي علمني الغناء فراش رومي، وكان يغني بالرومية صوتا مليح اللحن، فقال لي مولاي: يا مخارق، خذي هذا اللحن الرومي فانقليه إلى شعر صوت من أصوات العربية حتى أمتحن به إسحاق الموصلي فأعلم أين يقع من معرفته، ففعلت ذلك، فصار إليه إسحاق فأجلسه، وبعث إليّ مولاي أن أدخلي اللحن الرومي في وسط غنائك، فغنيته إياه في درج أصوات مرت [قبله] ، فأصغى إليه إسحاق وجعل يتفهمه ويقسمه ويتفقد أوزانه، فقال: هذا الصوت رومي اللحن، فمن أين وقع إليك؟، فكان مولاي بعد ذلك يقول: ما رأيت شيئا أعجب من استخراجه لحنا روميا لا يعرفه، ولا العلة فيه، وقد نقل إلى غناء عربي، وامتزجت نغمته، حتى عرفه ولم يخف عليه. قال: تناظر المغنون يوما عند الواثق، فذكروا الضرّاب وحذقهم، فقدم إسحاق ربربا «1» على ملاحظ، ولملاحظ الرياسة في ذلك عليهم جميعهم، فقال لهم الواثق: هذا حيف وتعدّ منك، فقال إسحاق: يا أمير المؤمنين، اجمع بينهما وامتحنهما، فإن الأمر سينكشف لك فيهما، قال: فأمر بهما فأحضرا، قال له إسحاق: إن للضراب أصواتا معروفة، فامتحنهما بشيء منها، قال: أجل أفعل، فسمّى ثلاثة أصوات كان أولها: «2» [السريع] علّق قلبي ظبية السّيب

فضربنا عليه فتقدم ربرب وقصر عنه ملاحظ، فعجب الواثق من كشفه لما ادّعاه في مجلس واحد، فقال له ملاحظ [ص 170] : ما باله يا أمير المؤمنين يحيلك على الناس، ولم لا يضرب هو؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إنه لم يكن أحد في زماني أضرب مني، إلا أنكم أعفيتموني، فتفلّت مني، على أنّ معي بقية لا يتعلق بها أحد من هذه الطبقة، ثم قال: يا ملاحظ: شوش عودك وهاته، ففعل ذلك ملاحظ، قال إسحاق: يا أمير المؤمنين، هذا خلط الأوتار خلط متعنت، فهو لا يألو ما أفسدها، ثم أخذ العود فجسه ساعة حتى عرف مواضعه، وقال: يا ملاحظ «1» ، غنّ أيّ صوت شئت فغنى ملاحظ، فضرب عليه إسحاق بذلك العود الفاسد التسوية، فلم يخرج عن لحنه في موضع واحد حتى استوفاه، عن تقوية «2» واحدة، ويده تصعد وتنحدر على الدساتين «3» ، فقال له الواثق: لا والله ما رأيت مثلك قط، ولا سمعت به، اطرح هذا على الجواري، فقال: هيهات يا أمير المؤمنين، هذا شيء لا تفي به الجواري، ولا يصلح لهن، وإنما بلغني أنّ الفهليذ ضرب يوما بين يدي كسرى أبرويز فأحسن، فحسده رجل من حذّاق صنعته، فترقبه حتى قام لبعض شأنه، ثم خالفه إلى عوده فشوّش بعض أوتاره، فرجع فضرب وهو لا يدري، والملوك لا تصلح في مجالسها العيدان، فلم يزل يضرب بذلك العود الفاسد، إلى أن فرغ، ثم [قام] على رجله فأخبر الملك بالقصة، فامتحن العود فعرف ما فيه، فقال: زه زه وزهان زه «4» ، ووصله بالصلة التي كان يصل بها من خاطبه بهذه المخاطبة، فلما تواترت الروايات بهذا، أخذت

نفسي بها، ورضتها عليه، وقلت: لا ينبغي أن يكون الفهليذ أقوى على هذا مني، فمازلت أستنبط بضع عشرة سنة حتى لم يبق في الأوتار موضع على طبقة من الطبقات، إلا وأنا أعرف نغمته كم هي، والمواضع التي يخرج النغم كلها منها، وهذا شيء لا تفي به الجواري، فقال له الواثق: لعمري لقد صدقت، ولئن متّ لتموتنّ هذه الصناعة بموتك، وأمر له بثلاثين ألف درهم. قال: إسحاق: دعاني [المأمون وعنده] «1» إبراهيم بن المهدي، وفي مجلسه عشرون جارية، وقد أجلس عشرا عن يمينه، وعشرا عن يساره، ومعهن العيدان، فلما دخلت سمعت من الناحية اليسرى خطأ فأنكرته، فقال المأمون: يا إسحاق، أتسمع خطأ؟ فقلت: نعم يا أمير المؤمنين، مر الجواري اللواتي في الناحية اليمنى [ص 171] يمسكن، فأمرهن فأمسكن، فقلت لإبراهيم: هل تسمع خطأ؟ فقال: [ما] هاهنا خطأ، فقلت: يا أمير المؤمنين يمسكن وتضرب الثامنة، فأمسكن وضربت الثامنة، فعرف إبراهيم الخطأ، فقال: نعم يا أمير المؤمنين، ها هنا خطأ، فقال المأمون عند ذلك لإبراهيم بن المهدي: لا تمار إسحاق بعدها، فإن رجلا «2» يعرف الخطأ بما بين وتر وعشرين لجدير أن لا تماريه، فقال: صدقت يا أمير المؤمنين. قال أحمد بن حمدون: سمعت الواثق يقول: ما غنّاني إسحاق قط إلا ظننت أنه قد زيد لي في ملكي، ولا سمعته يغني غناء ابن سريج إلا ظننت أن ابن سريج قد نشر، وأنه ليحضرني غيره إذا لم يكن حاضرا فيتقدمه عندي بطيب الصوت، حتى إذا اجتمعا عندي رأيت إسحاق يعلو، ورأيت غيره ينقص، وإن إسحاق

لنعمة من نعم الملوك التي لم يحظ أحد بمثلها، ولو أن العمرو الشباب والنشاط مما يشترى لاشتريتهنّ بشطر ملكي. قال ابن المنجم: سأل إسحاق الموصلي المأمون أن يكون دخوله إليه مع أهل الرواية والعلم لا مع المغنين، فإذا أراد الغناء غناه، فأجابه إلى ذلك، ثم سأله بعد ذلك أن يأذن له في الدخول مع الفقهاء، فأذن له، ثم سأله أن يأذن له في لبس السواد يوم الجمعة والصلاة معه في المقصورة، فقال ولا كل هذا يا إسحاق، وقد اشتريت منك هذه المسألة بمائة ألف درهم. قال: وكان معه جماعة من المغنين يحضرون عند الواثق، وعيدانهم معهم، إلا إسحاق، فإنه كان يحضر بلا عود للشرب والمجالسة، فإذا أراد الخليفة أن يغني له، أحضر له عودا، فإذا غنى وفرغ شيل من بين يديه، إلى أن يطلبه، وكان الواثق يكنيه «1» ، وكان إذا غنى وفرغ الواثق من شرب قدحه، قطع الغناء، فلم يعد منه حرفا، إلا أن يكون في بعض بيت فيتمه، ثم يقطع ويضع العود من يده. قال: كان إبراهيم يأكل المغنين أكلا، حتى إذا حضر إسحاق فيداريه إبراهيم ويطلب مناقبه، ولا يدع إسحاق تبكيته ومعارضته، وكان إسحاق [ص 172] آفته، كما لكل شيء آفة. قال محمد بن راشد الجنان «2» : سألني إسحاق أن أصير إلى إبراهيم بن المهدي، وقال: قل له أسألك عن شيء، فإذا قال لك: سل، قل له أخبرني عن قولك: «3» [الطويل]

ذهبت من الدنيا وقد ذهبت مني أي شيء كان معنى صنعتك فيه، وأنت تعلم أنه لا يجوز في غنائك الذي صنعته إلا أن تقول: (ذهبتو) بالواو، فإن قلت (ذهبت) ولم تمدها تقطع اللحن، وإن مددتها قبح الكلام، وصار مثل كلام النبط، فقال له: يا أبا محمد، كيف أخاطب إبراهيم بهذا؟ فقال: هي حاجتي إليك، وقد كلفتك إياها، قال: فأتيت إبراهيم وجلست عنده وتحادثنا إلى أن جئنا إلى ذكر الغناء، فذكرت له ما قال إسحاق، فتغير لونه وانكسر، وقال: يا محمد، ليس هذا من كلامك، هذا من كلام الجرمقاني «1» ، قل له عني: أنتم تصنعون هذا للصناعة، ونحن نصنع هذا للهو واللعب والعبث. قال يحيى بن محمد الظاهري، قال حدثني ينشو مولى أبي أحمد بن الرشيد قال: اشتراني مولاي أبو أحمد بن الرشيد واشترى معي رفيقي يحموما، ودفعنا إلى وكيل له أعجميّ خراساني، وقال له: انحدر بهذين الغلامين إلى بغداد إلى إسحاق الموصلي، وادفع إليه مئة ألف درهم وشهريا «2» بسرجه ولجامه وثلاثة ادراج «3» فضة مملوءة طيبا، وسبعة تخوت «4» وشي كوفي، وثلاثين ألف درهم للنفقة، وقال للرسول: عرّف إسحاق أن هذين الغلامين لرجل من وجوه العرب

أهل خراسان، وجّه بهما إليه ليتفضل عليه بتعليمهما أصواتا اختارها وكتبها له في الدرج، وقال له: كلما علمهما صوتا فادفع إليه ألف درهم حتى يتعلما بها مئة صوت، فإذا علمهما الصوتين اللذين بعد المئة فادفع إليه الشهري، ثم إذا علمهما الثلاثة التي بعد الصوتين، فادفع إليه لكل صوت درجا من الأدراج، ثم لكل صوتين بعد ذلك تختا وسفطا، حتى ينفد ما بعثت به معك، ففعل وانحدر بنا إلى بغداد، واتينا إسحاق فغنّينا بحضرته، وأبلغه الوكيل الرسالة، فلم يزل يلقي [ص 173] علينا الأصوات حتى أخذناها كما أمر سيدنا، ثم صرنا إلى (سرّ من رأى) ، فدخلنا عليه وغنيناه جميع ما أخذناه فسرّ بذلك. وقدم إسحاق من بغداد إلى سر من رأى، فلقيه مولانا فدعا بنا وأوصانا بما أراد، وغدا بنا إلى الواثق، وقال: إنكما ستريان إسحاق بين يديه، فلا توهماه أنكما رأيتماه قط، وألبسنا أقبية «1» خراسانية ومضينا معه إلى الواثق، فلما دخلنا عليه قال له سيدي: هذان غلامان اشتريا لي من خراسان يغنيان بالفارسية، فقال: غنيا، فضربنا ضربا فارسيا، وغنينا غناء فهليذيا، فطرب الواثق وقال: احسنتما، فهل تغنيان بالعربية؟ قلنا: نعم، واندفعنا فغنيناه ما أخذنا من إسحاق، وإسحاق ينظر إلينا، ونتغافل حتى غنيناه اصواتا من غنائه، فقام إسحاق وقال: وحياتك وبيعتك وإلا فكل مملوك لي حر، وكل مال لي صدقة، إن لم يكن هذان الغلامان من تعليمي، ومن قصتهم كيت وكيت، فقام أبو أحمد وقال للواثق ما أدري ما يقول هذا، إني اشتريتهما من رجل نخّاس خراساني، [فقال له] من أين يجيد تلك الأغاني؟ فضحك أبو أحمد وقال للواثق، صدق والله، أنا احتلت عليه، ولو رمت بأن أعلمهما ما أخذاه منه إذا علم أنهما لي بأضعاف ما أعطيته ما فعل، فقال له إسحاق قد تمت عليّ حيلته يا أمير المؤمنين.

قال: كنت عند الرشيد فقال: يا إسحاق تغن: «1» [الوافر] شربت مدامّة وسقيت أخرى ... وراح المنتشون وما انتشيت فغنيته فأقبل عليّ إبراهيم بن المهدي وقال لي: ما أصبت يا إسحاق، «2» فقلت له: ليس هذا مما تحسنه أنت، ولا تعرفه، وإن شئت فغنّه، فإن لم أجدك تخطئ فيه منذ ابتدائك إلى انتهائك فدمي حلال، ثم أقبلت على الرشيد وقلت: يا أمير المؤمنين، هذه صناعتي وصناعة أبي التي قربتني منك واستخدمتنا لك، وأوطأتنا بساطك، وإذا نازعنا أحد فلا نجد بدا من الإيضاح والذب «3» ، فقال: لا غرو ولا لوم عليك، وقام الرشيد ليبول، فأقبل إبراهيم بن المهدي عليّ وقال: ويحك [ص 174] يا إسحاق، وتجترئ عليّ وتقول لي ما قلت يا ابن الزانية؟ فدخلني مالم أملك نفسي معه، وقلت له: أنت تشتمني ولا أقدر على إجابتك، وأنت ابن الخليفة ثم أخو الخليفة، ولولا ذلك لكنت أقول لك يا بن الزانية كما قلت لي، ولكن قولي في ذمك ينصرف إلى خالك الأعلم «4» ، ولولاك لذكرت صناعته ومذهبه، قال إسحاق: وكان بيطارا، قال: وسكت إبراهيم، وعلمت أنه يشكوني إلى الرشيد، وأن الرشيد سوف يسأل من حضر عما جرى فيخبرونه، ثم قلت له: أتظن أن الخلافة تصير إليك فلا تزال تهددني بذلك، وتعادي سائر أولياء أخيك حسدا له ولولده على الأمر، وإن تضعف عنه وعنهم فتستخف بأوليائهم تشفيا، وإني أرجو ألا يخرجها الله عن الرشيد وولده، وأن يقتلك دونها، فإن صارت إليك- وبالله العياذ- فحرام عليّ العيش حينئذ، والموت أطيب من الحياة معك، واصنع حينئذ ما بدا لك، فلما خرج

الرشيد وثب إبراهيم فجلس بين يديه، وقال: يا أمير المؤمنين، شتمني وذكر أمي واستخفّ بي، فغضب الرشيد، وقال لي: ما تقول ويلك؟ فقلت: لا أعلم، سل من حضر، فأقبل على مسرور وحسين «1» ، فسألهما عن القصة، فجعلا يخبرانه، ووجهه يتربد «2» ، إلى أن انتهيا إلى ذكر الخلافة فسرى عنه ورجع، وقال لإبراهيم: ماله ذنب شتمته فعرفك أنه لا يقدر على جوابك، ارجع إلى مكانك وأمسك عن هذا، فلما انقضى المجلس وخرج الناس، أمر أن لا أبرح، وخرج كل من حضر حتى لم يبق غيري، فساء ظنّي وهمتني نفسي، فقال: ويحك، يا إسحاق، أتراني لا أعرف وقائعك، قد والله زنيته «3» دفعات ويحك لا تعد ويلك، حدثني عنك، لو ضربك إبراهيم، أكنت أقتص لك منه فأضربه وهو أخي، يا جاهل أتراه لو أمر غلمانه فقتلوك، أكنت أقتله بك، فقلت: قد والله قتلتني يا أمير المؤمنين بهذا الكلام، ولئن بلغه ليقتلني، وما أشكّ في أنّه قد بلغه الان، فصاح بمسرور وقال: علي بإبراهيم الساعة، وقال لي: قم فانصرف، فقلت لجماعة من الخدام وكلهم [كان] لي محبا وإلي مائلا: أخبروني بما يجري، فأخبروني من غد أنه لما دخل عليه وبخه وجهله، وقال له: تستخف بخادمي وبصنيعتي ونديمي وابن خادمي وصنيعتي [ص 175] وصنيعة أبي، وتقدم علي وتضع في مجلسي؟ هاه هاه! تقدم على هذا وأمثاله وأنت أنت مالك والغناء؟، وما يدريك ما هو؟ ومن أخذك به وطارحك إيّاه حتى تظن أنك تبلغ منه مبلغ إسحاق الذي غذّي به وهو صناعته، ثم تظن أنك تخطئه فيما لا تدريه، ويدعوك إلى إقامة الحجة عليك، فلا تثبت لذلك وتعتصم منه بشتمه، أليس

هذا مما يدل على السقوط وضعف العقل وسوء الأدب من دخولك فيما لا يشبهك، ثم إظهارك إيّاه ولم تحكمه وادعائك ما لا تعلمه حتى ينسبك الناس إلى إفراط الجهل، وألا تعلم- ويحك- أن هذا سوء الأدب وقلة معرفة ومبالاة بالخطإ والتكذيب والرد القبيح؟ ثم قال له: والله العظيم وحق رسوله الكريم: وإلا فأنا نفيّ لأبي إن أصابه سوء أو سقط من دابته، أو سقط عليه سقفه، أو مات فجأة لأقتلنك، فو الله والله والله، وأنت أعلم، فلا تعرض له، قم الآن فاخرج، فخرج وقد كاد يموت، فلما كان بعد ذلك دخلت عليه وإبراهيم عنده، فأعرضت عنه، وجعل ينظر إليه مرة وإليّ أخرى ويضحك، ثم قال له: إني لأعلم محبتك لإسحاق وميلك إليه وإليّ الأخذ عنه، وأن هذا لا يجيئك من قبله إلا أن يرضى، والرضا لا يكون بمكروه، ولكن أحسن إليه وأكرمه واعرف قدره وحقه وصله، فإذا فعلت ذلك ثم خالف ما تهواه عاقبته بيد منبسطة ولسان منطلق، ثم قال لي: قم إلى مولاك وابن مولاك فقبّل رأسه، فقمت إليه وأصلح الرشيد بيننا. قال إسحاق: لما أراد الفضل بن يحيى الخروج إلى خراسان، ودعته ثم أنشدت: «1» [المتقارب] فراقك مثل فراق الحياة ... وفقدك مثل افتقاد النّعم عليك السّلام فكم من وفاء ... أفارق منك وكم من كرم قال: فضمني إليه، وأمر لي بألف دينار، وقال لي: يا أبا محمد، لو حليت هذين البيتين بصنعة، وأودعتهما بعض من يصلح من الخارجين معنا، لأهديت لي بذلك أنسا وأذكرتني نفسك، ففعلت ذلك وطرحته على بعض المغنين وكان

كتابه لا يزال يرد [ص 176] عليّ ومعه ألف دينار وألفا دينار يصلني بذلك كلّما غني بهذا الصوت. قال أحمد بن يحيى المكي: دعاني الفضل بن الربيع، ودعا علوية ومخارقا، وذلك في أيام المأمون بعد رجوعه له ورضاه عنه، فلما اجتمعنا عنده كتب إلى إسحاق الموصلي يسأله أن يصير إليه ويعلمه الحال في اجتماعنا عنده: فكتب إليه: لا تنتظروني في الأكل، فإني قد أكلت، وأنا أصير إليكم بعد ساعة، فأكلنا وجلسنا نشرب، حتى قربت صلاة العصر، ثم وافى إسحاق وجاء غلامه بقطرميز «1» نبيذ فوضعه ناحية، وأمر صاحب الشراب بإسقائه منه، وكان علوية يغني الفضل صوتا اقترحه عليه وأعجبه، وهو: «2» [الطويل] فإن تعجبي أو تبصري الدّهر ضمّني ... بأحداثه ضمّ المقصّص بالجلم «3» فقد أترك الأضياف تندى رحالهم ... وأكرمهم بالنّحض والنّاصل الشّبم «4» فقال: أخطأت يا أبا الحسن في قسمة هذا الصوت، وأنا أصلحه لك، فجن علوية واغتاظ وقامت قيامته، فأقبل عليه إسحاق وقال: يا حبيبي، ما أردت الوضع منك بما قلت لك، وإنما أردت تهذيبك وتقويمك لأنك منسوب في الصواب والخطأ إلى أبي وإليّ، فإن كرهت ذلك تركتك وقلت لك أحسنت وأجملت، فقال له علوية، والله ما هذا أردت [ولا أردت] إلا ما لا تتركه أبدا من سوء عشرتك، أخبرني عنك حين تجيء هذا الوقت لما دعاك الأمير وعرفك أنه نشط للاصطباح، ما حملك على الترفع من مباركته وخدمته؟ أمن شغل؟ فما

يشغلك عنه شيء إلا الخليفة، ثم تجيئه معك قطرميز نبيذ ترفعا عن شرابه، كما ترفعت عن طعامه ومجالسته؟ وترى أنك تجيئه كما تشتهي حتى تبسطكما الأكفاء، ثم تعمد إلى صوت وقد اشتهاه واقترحه وسمعه جميع من حضر، فما عابه أحد فعبته، ليتم تنغيصك إياه لذته، والله لو أن الفضل بن يحيى وأخاه جعفرا، لا والله، بل بعض أتباعهم دعاك إلى مثل ما دعاك إليه الأمير، لبادرت وباكرت وما تأخرت ولا اعتذرت، قال: وأمسك الفضل [عن الجواب] إعجابا بما خاطب [به] علويه إسحاق، قال له [ص 177] إسحاق: أما ما ذكرته من تأخري إلى الوقت الذي حضرت فيه، فهو يعلم أني لا أتأخر عنه إلا بعائق قاطع، إن وثق بذلك مني وإلا ذكرت الحجة سرا من حيث لا يكون لك فيه مدخل، واما ترفعي عنه، فكيف اترفّع عنه وأنا أنتسب إلى صنائعه واستمنحه، وأعيش في فضله منذ كنت، وهذا تضريب «1» منك لا أبالي به، وأمّا حملي النبيذ معي، فإن لي في النبيذ شربا من طعمه إن لم أجده لم أقدر على ذلك الشرب منه، وينغص علي يومي أجمع، وإنما حملته ليتم نشاطي وينتفع بي، وأما طعني على ما أختاره، فإني لم أطعن على اختياره، وإنما أردت تقويمك، ولست والله تراني متتبعا لك بعد اليوم، ولا مقوما شيئا من خطاياك، وأنا أغني له- أعزه الله «2» - هذا الصوت، فيعلم وتعلم ويعلم من حضر أنك قد أخطأته «3» وقصرت فيه، وأما البرامكة وملازمتي لهم فأشهر من أن أجحده، وذلك والله أقل ما يستحقونه مني، ثم أقبل على الفضل- وقد غاظه في مدحه لهم- فقال: اسمع مني شيئا أخبرك به فيما فعلوه بي، ليس هو كثيرا في صنائعهم عندي ولا عند أبي، فإن وجدت لي في ذلك عذرا وإلا فلم: كنت مع ابتداء أمري نازلا مع أبي في داره،

فكان لا يزال يجري بين غلماني وغلمانه، وجواري وجواريه الخصومة، كما تجري بين هذه الطبقات، فيشكونهم إليه، فأتبين الضجر في وجهه، فاستأجرت دارا واسعة، فلم أرض ما معي من الآلات لها لمن يدخل إليّ من إخواني، أن يرى مثله عندي، وفكرت في ذلك وكيف أصنع فيه، وزاد فكري حتى خطر بقلبي فتح الأحدوثة من نزول مثلي في داره بأجرة، وإني لا آمن في وقت أن يستأذن «1» عليّ، وعندي بعض الرؤساء والأصدقاء الذين احتشمهم ولا يعلمون حالي، فيقال: صاحب دارك، أو يوجه في وقت فيطلب أجرة الدار وعندي من أستحشمه، فضاق بذلك صدري ضيقا عظيما: حتى جاوز الحد، فأمرت غلامي بأن يسرج لي حمارا كان عندي لأمضي إلى الصحراء أتفرج فيها، مما دخل إلى قلبي، فأسرجه وركبت برداء ونعل، فأفضى بي المسير وأنا مفكر لا أميز الطرق التي أسلك فيها، وهجم بي على باب [ص 178] يحيى ابن خالد، فوثب غلمانه إليّ وقالوا: أين هذا الطريق؟ فقلت: إلى الوزير، فدخلوا فاستأذنوا وخرج إليّ الحاجب فأمرني بالدخول، وبقيت خجلا، قد وقعت في أمرين قبيحين، إذ دخلت عليه برداء ونعل، وأعلمته أني قد قصدته في تلك الحال كان سوء أدب، وإن قلت له أين كنت مجتازا ولم أقصدك فجعلتك طريقا، كان قبيحا، ثم عزمت على صدقه، فلما رآني تبسم وقال: ما هذا الزي يا أبا محمد، احتسبنا لك بالبر والقصد والتفقد، ثم علمنا أنك جعلتنا طريقا، فقلت: لا والله أيّها الوزير، ولكني أصدقك، قال: هات، فأخبرته بالقصة من أوّلها إلى آخرها، فقال: هذا حق مستو، أفهذا شغل قلبك، قلت: أي والله، وزاد فقال: لا تشغل قلبك بهذا، يا غلام: ردوا حماره، وهاتوا خلعة، فجاؤوني بخلعة من ثيابه تامة فلبستها، وجيء بالطعام

فأكلنا، ووضع النبيذ فشربت وشرب وغنيته، ثم دعا بدواة ورقعة، فكتب أربع رقعات، فظننت توقيعا بجائزة فإذا هو قد دعا بعض وكلائه فساره بشيء، فزاد طمعي بالجائزة، ومضى الرجل وجلسنا نشرب وأنا أنتظر، فلا أرى شيئا إلى العتمة، ثم اتكأ يحيى فنام، وقمت من عنده وأنا منكسر خائب فخرجت وقدم لي حماري، فلما تجاوزت الدار قال لي غلامي [إلى اين تمضي] قلت: إلى البيت، قال: قد بيعت وأشهد على صاحبها، وابتيع الدرب كله ووزن ثمنه، والمشتري جالس على بابك ينتظر ليعرفك وأظنه ابتاع ذلك للسلطان، لأني رأيت الأمر في عجلة واستحثاث أمر سلطانيا، فوقعت من ذلك فيما لم يكن في حسأبي، وأنا لا أدري ما أعمل، فلما نزلت على باب داري، [إذا أنا] بالوكيل الذي ساره يحيى قد قام إليّ وقال: ادخل- أيّدك الله- دارك، حتى أدخل إليك في أمر أحتاج إلى مخاطبتك فيه، فطابت نفسي بذلك، ودخلت الدار ودخل إلي فأقرأني توقيع يحيى: (يطلق لأبي محمد إسحاق مئة ألف درهم يبتاع له بها داره، وجميع ما يجاورها ويلاصقها) والتوقيع الثاني إلى ابنه الفضل: (قد أمرت لأبي محمد إسحاق [بمائة ألف درهم] يبتاع له بها داره فأطلق له مثلها على إصلاح الدار كما يريد وبنائها على ما يشتهي) ، والتوقيع الثالث إلى ابنه جعفر [ص 179] (قد أمرت لأبي محمد إسحاق بمائة ألف درهم يبتاع له منها منزل يسكنه، وأمر له أخوك بمائة ألف درهم ينفقها على بنائها ومرّمتها على ما يريد فأطلق أنت له مئة ألف درهم يبتاع بها فرشا لمنزله) ، والتوقيع الرابع إلى محمد ابنه: (قد امرت وأخواك بثلاث مئة ألف درهم لمنزل يبتاعه وفرش يبتذله فيه، ونفقة ينفقها عليه فأمر له بمائة ألف درهم ينفقها في سائر نفقته) ، وقال لي الوكيل: قد حملت المال كله واشتريت كل شيء حولك بسبعين ألف درهم) وهذه كتب الابتياعات باسمي والإقرار لك، وهذا المال الباقي في يدي ها هو

بورك لك فيه، فقبضته، وأصبحت احسن الناس حالا ومرأى في منزلي وفرشي وآلتي، والله ما هذا من أكثر شيء فعلوه بي، أفألام على ذلك في شكرهم؟ فبكى الفضل بن الربيع وكلّ من حضر، وقالوا: لا والله، لا يلام على شكرهم، ثم قال له الفضل: بحياتي عليك، غن الصوت ولا تبخل على أبي الحسن أن تقومه له، قال: أفعل، وغناه، فتبين علوية أنه كما قال، فقام فقبل رأسه، وقال: أنت أستاذنا وابن أستاذنا وأولى بتقويمنا واحتمالنا من كل أحد، وردّه «1» إسحاق مرات حتى استوى لعلوية. قال إسحاق: قلت في ليلة من الليالي: «2» [الخفيف] هل إلى نظرة إليك سبيل ... يرو منها الصّدى ويشفى الغليل إن ما قلّ منك يكثر عندي ... وكثير ممّن تحبّ القليل فلما أصبحت أنشدتها الأصمعي، فقال: هذا الديباج الخسرواني «3» ، هذا الوشي الإسكندراني، لمن هذا؟ فقلت: ابن ليلته، فتبيّنت الحسد في وجهه، وقال: أفسدته! أفسدته! أما إنّ التوليد فيه لبين. قال الأصمعي: دخلت أنا وإسحاق الموصلي يوما على الرشيد فرأيته لقس «4» النّفس، فأنشده إسحاق: «5» [الطويل] وآمرة بالبخل قيل لها اقصري ... فذلك شيء ما إليه سبيل

أرى الناس خلان الكرام ولا أرى ... بخيلا له حتّى الممات خليل [ص 180] وإنّي رأيت البخل يزري بأهله ... فأكرمت نفسي أن يقال بخيل ومن خير حالات الفتى قد علمته ... إذا نال خيرا أن يكون ينيل وكيف أخاف الفقر أو أحرم الغنى ... ورأي أمير المؤمنين جميل فقال الرشيد: لا تخف «1» إن شاء الله، ثم قال: لله در أبيات تأتينا بها، ما أشد أصولها، وأحسن فصولها، وأقل فضولها، وأمر له بخمسين ألف درهم. فقال له إسحاق: وصفك والله يا أمير المؤمنين لشعري أحسن منه، فعلام آخذ الجائزة؟ فضحك الرشيد وقال: اجعلوها لهذا القول [مئة ألف درهم] ، قال الأصمعي: فقلت يومئذ إن إسحاق أحذق بصيد الدراهم. قال إسحاق: جاءني الزبير بن دحمان مسلّما فاحتبسته، فقال لي: قد أمرني الفضل بن الربيع بالمصير إليه، فقلت له: أقم يا أبا العوام ويحك نشرب ونله مع اللاهين ونلعب: «2» [الطويل] إذا ما رأيت اليوم قد بان خيره ... فخذه بشكر واترك الفضل يصخب فأقام عندي وشربنا يوما، ثم صار إلى الفضل بن الربيع، فسأله عن سبب تأخره، فحدثه الحديث وأنشده الشعر، فغضب وحول وجهه عني، وأمر عونا حاجبه ألا يدخلني إليه ولا يستأذن لي عليه، ولا يوصل لي رقعة إليه، فقلت: «3» [الطويل]

حرام عليّ الكأس ما دمت غضبانا ... وما لم يعد عنّي رضاك كما كانا فأحسن فإني قد أسأت ولم تزل ... تعوّدني عند الإساءة إحسانا قال: فأنشدته إياها فضحك ورضي عني، وعاد إلى ما كان عليه. قال ابن المكي: كان المغنون يجتمعون مع إسحاق، وكلهم أحسن صوتا منه، ولم يكن فيه عيب إلا صوته، فيطمعون فيه، فلم يزل بلطفه وحذقه ومعرفته حتى يغلبهم ويبذهم جميعا، ويفضلهم ويتقدم عليهم. قالوا: هو أول من أحدث المجنب «1» ليوافق صوته ويشاكله، فجاء معه عجبا من العجب، وكان في حلقه نبوّ عن الوتر. قال إسحاق «2» : كنت يوما عند إسحاق بن إبراهيم بن مصعب، فلما جلسوا للشرب، جعل الغلمان يسقون من حضر، وجاء غلام قبيح الوجه، إليّ [ص 181] بقدح فيه نبيذ، فلم آخذه، ورآني إسحاق فقال: لم لا تشرب؟ فقلت له: «3» [البسيط] اصبح نديمك أقداحا تسلسلها ... من الشّمول وأتبعها بأقداح «4» من كفّ ريم مليح الدّلّ ريقته ... بعد الهجوع كمسك أو كتفّاح

لا أشرب الرّاح إلا من يدي رشأ ... تقبيل راحته أشهى من الراح «1» فضحك وقال: صدقت والله، ودعا بوصيفة تامة الحسن في زي غلام عليها أقبية «2» ومنطقة، وقال لها: تولي سقي أبي محمد، فما زالت تسقيني حتى سكرت، ثم أمر بتوجيهها وكل ما لها في دارها الي، فحملت معي. قال ابن المكي: تذاكرنا يوما عند [أبي] صنعة إسحاق، وقد كنا بالأمس عند المأمون فغناه إسحاق لحنا صنعه في [شعر] ابن ياسين: «3» [مجزوء الخفيف] الطّلول الدّوارس ... فارقتها الأوانس أوحشت بعد أهلها ... فهي فقر بسابس قال: فقال لي أبي: لو لم يكن من بدائع إسحاق غير هذا لكفاه (الطلول الدوارس) كلمتان قد غنى فيهما استهلالا وبسطا، وصاح وسجع ورجع النغمة، واستوفى في ذلك كله في كلمتين، وأتى بالباقي مثله، فمن شاء فليفعل مثل هذا أو فليقاربه، ثم قال إسحاق: والله والله ما في زماننا فوق ابن سريج والغريض ومعبد، ولو عاشوا حتى يروه لعرفوا فضله، واعترفوا له به. قال صالح بن الرشيد: كنا يوما عند المأمون، ومعه جماعة من المغنين، فيهم إسحاق وعلويه ومخارق وعمرو بن بانة، فغنى مخارق صوتا من صنعة إسحاق، وهو: «4» [الطويل]

أعاذل لا آلوك إلا خليقتي ... فلا تجعلي فوقي لسانك مبردا ذريني أكن للمال ربّا ولا يكن ... لي المال رباّ تحمدي غبّه غدا ذريني يكن مالي لعرضي وقاية ... يقي المال عرضي قبل أن يتبدّدا ألم تعلمي أني إذا الضيف نابني ... وعّز القرى اقري السديف المسرهدا «1» [ص 182] فقال له المأمون: لمن هذا اللحن؟ قال: لهذا الهزبر الجالس (يعني إسحاق) ، فقال المأمون لمخارق: قم واقعد بين يدي وأعد عليّ الصوت، فقام فجلس بين يديه، فغناه فأجاد، وشرب المأمون عليه رطلا، ثم التفت إلى إسحاق فقال غن هذا الصوت، فغناه فلم يستحسنه كما سمعه من مخارق، ثم دار الدور إلى علوية، فغنى صوتا من صنعة إسحاق أيضا، وهو: «2» [الوافر] أريت اليوم نارك لم أغمّض ... بواقصة ومشربنا برود «3» فلم أر مثل موقدها ولكن ... لأيّة نظرة زهر الوقود فبتّ بليلة لا نوم فيها ... أكابدها وأصحابي رقود كأنّ نجومها ربطت بصخر ... وأمراس تدور وتستزيد فقال المأمون: لمن هذا الصوت؟ فقال: لهذا الجالس، وأشار إلى إسحاق، فقال لعلوية: اعده، فأعاده وشرب عليه رطلا، وقال لإسحاق: غنه، فغناه، فلم يطرب عليه طربه لعلوية، فالتفت إسحاق وقال: أيها الأمير لولا أنه مجلس سرور وليس مجلس حجاج وجدل لأعلمته أنه طرب على خطأ، وأن الذي استحسنه، إنما هو

تزايد منهما يفسد قسمة اللحن وتجزئته، وكان الصواب ما غنيته لا ما زاداه، ثم أقبل عليهما وقال يا مخنثان، قد علمت أنّكما لم تريدا بما فعلتما مدحي ولا رفعي، وأنا على مكافأتكما قادر، فضحك المأمون وقال له: ما كان ما رأيته من طربي إلا استحسانا لأصواتهما، لا تقديما لهما، ولا جهلا بفضلك. قال إسحاق: كانت أعرابية تقدم من البادية، فأفضل عليها وكانت فصيحة، فقالت لي: والذي يعلم مغزى كل ناطق، لكأنك في عملك ولدت فينا ونشأت معنا، ولقد أريتني نجدا بفصاحتك وأحللتني الربيع بسماحتك، فلا اطّرد لي قول إلا شكرتك، ولا نسمت لي ريح إلا ذكرتك. قال الهشامي «1» : كان أهلنا يعتبرون «2» إسحاق فيما يقوله في نسبة الغناء واختياره، بأن يجلسوا كاتبين فهمين خلف الستارة [ص 183] يكتبان ما يقوله ويضبطانه، ثم يتركونه مدة حتى ينسى ما جرى، ثم يعيدون تلك المسألة عليه، فلا يزيد فيها ولا ينقص منها حرفا كأنه يقرأه من دفتر، فعلموا حينئذ أنه لا يقول في شيء يسأل عنه إلا الحق. قال عبد الله بن العباس الربيعي: اجتمعنا بين يدي المعتصم، فغنى علوية: «3» [الطويل] لعبدة دار ما تكلّمنا الدّار فقال له إسحاق: شتمنا قبّحه الله، وسكت وبان ذلك فيه، وكان علوية أخذه

من إبراهيم. قال يحيى بن معاذ: كان إسحاق الموصلي وإبراهيم بن المهدي إذا خلوا فهما أخوان، وإذا التقيا عند خليفة تكاشفا أقبح تكاشف، فاجتمعا يوما عند المعتصم فقال لإسحاق يا إسحاق، إن إبراهيم يثلبك ويغض منك، فقال إسحاق: يا أمير المؤمنين، أفعل الساعة فعلا إن زعم أنه يحسنه فلست أحسن شيئا، وإلا فلا ينبغي أن يدعي مالا يحسنه، ثم أخذ عودا فشوش أو تاره، فقال لإبراهيم: غن على هذا او يغني غيرك، واضرب عليه، فقال المعتصم: يا إبراهيم، قد سمعت قول إسحاق فما عندك؟ قال: ليفعله هو إن كان صادقا، فقال إسحاق: غن حتى أضرب، فأبى، فقال لزرزر الكبير، غن أنت، فغنى، وإسحاق يضرب عليه، حتى فرغ من الصوت، ما علم أن العود مشوش، ثم قال: هاتوا عودا آخر (فشوشه) وجعل كل وتر منه في الشدة واللين مقدار العود المشوش الأول، حتى استويا، فقال لزرزر، خذ أحدهما، فأخذه، ثم قال: انظر إلى يدي وأفعل كما افعل واضرب، ففعل، وجعل إسحاق يغني ويضرب، وزرزر ينظر إليه ويضرب، ويعمل كما يعمل، فما ظن أحد أن في العودين شيئا من الفساد، ثم قال لإبراهيم: خذ الآن [احد] العودين فاضرب منه مبدأ أو طريقة أو كيف شئت، إن كنت تحسن شيئا فلم يفعل، وانكسر انكسارا شديدا، فقال له المعتصم: أرأيت مثل هذا قط؟ قال: لا والله، ما رأيت، ولا ظننت أن مثله يتم ولا يكون. قال: كان الواثق إذا صنع صوتا قال لإسحاق: هذا [ص 184] وقع إلينا البارحة فاسمعه، فكان ربما أصلح فيه الشيء بعد الشيء، فكاده مخارق عنده، وقال له: إنما يستجيد صنعتك إذا حضر ليقاربك ويستخرج منك فإذا فارقك قال في صنعتك غير ما تسمع، قال الواثق: فأنا أحب أن أقف على ذلك، فقال مخارق:

أنا أغنيه صوتك «1» : [الطويل] أيا منشر الموتى فإنه [لم] يعلم أنه لك، ولم يسمعه من أحد، قال: فافعل، فلما دخل إسحاق، غناه مخارق وتعمد لأن يفسده بجهده، وفعل ذلك في مواضع خفية لم يعرفها الواثق من قسمته، فلما غناه، قال الواثق لإسحاق: كيف ترى هذا الصوت؟ قال: فاسد غير مرضي، فأمر به فسحب من المجلس حتى أخرج عنه، وأمر بنفيه من بغداد، ثم جرى ذكره يوما فقالت فريدة: يا أمير المؤمنين، إنما كاده مخارق فأفسد الصوت في حيث أو همك أنه زاد فيه بحذقه نغما وجودة، وإسحاق يأخذ نفسه بقول الحق في كل شيء ساءه أو سره، ويفهم من غامض علم الصناعة ما لا يفهمه غيره، فليحضره أمير المؤمنين ويحلفه بغليظ الأيمان على حقيقة الصوت، فإن كان فاسدا فصدق عنه إن لم يكن عيبا ووافقناه عليه حتى يستوي، فليس يجوز أن يتركه فاسدا، وإن كان صحيحا، قال فيه ما عنده، فأمر بالكتاب بحمله فحمل وأحضر، وأظهر الرضا عنه، ولزمه أياما، ثم أحلفه أنه يصدقه عما يمر في مجلسه، فحلف له، ثم غني الواثق أصواتا يسأله عنها أجمع فيخبر فيها بما عنده، ثم غنته فريدة هذا الصوت، وسأله الواثق عنه، فرضيه واستجاده وقال: ليس على هذا سمعته المرة الاولى، وأبان عن المواضع الفاسدة، وأخبر بإفساد مخارق إياها، فسكن غضبه الذي كان، وتنكر لمخارق مدة. قال إسحاق: ما كان يحضر الواثق أعلم منه بالغناء، قال إسحاق: كتبت إلى هشام أطلب نبيذا، فبعث إليّ بما التسمت، وكتب: قد وجهت إليك بشراب

أصلب من الصخر، وأعتق من الدهر، وأصفى من القطر. [ص 185] قال: لما غنى إسحاق [محمدا الأمين] لحنه في شعر هو «1» : [المنسرح] يا أيّها القائم الأمين فدت ... نفسك نفسي بالمال والولد بسطت للّناس إذ وليتهم ... يدا من الجود فوق كلّ يد أمر له بألف ألف درهم، فحملت إليه على مئة فرّاش حتى أدخلت إليه. قال عمرو بن بانة «2» : رأيت المهدي يناظر إسحاق في الغناء، فتكلما بما فهماه، ولم أفهم منه شيئا، فقلت لهما: لئن كان ما أنتما فيه من الغناء، فما نحن في قليل منه ولا كثير. قال: خالف إبراهيم إسحاق في شيء من التجزئة، فقال له:: إلى من أحاكمك، فالناس بيننا حمير! قال ابن المنجم، قال لي محمد بن الحسين بن مصعب، وكان بصيرا بالغناء والنغم: لحن إسحاق في (تشكى الكميت الجري) «3» أحسن من لحن ابن سريج فيه، ولحنه (تبدي لنا) أحسن من لحن معبد فيه، وذلك من اجود صنعة ابن سريج، وهذا من أجود صنعة معبد، قال: فأخبرت إسحاق بقوله، فقال: قد

أخذت بزمامي راحلتهما فزعزعتهما ثم أنختهما فما بلغتهما، فأخبرت بذلك محمد بن الحسن، فقال: هو والله يعلم أنه قد برز عليهما، ولكنه لا يدع تعصبه للقدماء. قال أبو الفرج: وكان إسحاق قد اعتلت عيناه «1» ، وضعف بصره، وكف في آخر عمره، قال: وكان السبب في علة عينيه أن إبراهيم ابن أخي سلمة الوصيف، نازع إسحاق بين يدي الرشيد في شيء من الغناء، فرد عليه، فشتمه إبراهيم، فرد عليه إسحاق وأربي «2» عليه في الرد، فقال [إبراهيم] : أترد علي وأنا مولى أمير المؤمنين فقال إسحاق: اسكت، فإنك من موالي العبدين «3» ، فقال له الرشيد: يا إسحاق، وأي شيء موالي العبدين؟ فقال: يا أمير المؤمنين، يشتري للخلفاء كل صانع في العبيد للعتق، فيكون فيهم الحائك والحجّام والسائس، فهو أحد هؤلاء الذين ذكرتهم، قال: وخرج إبراهيم فوقف له في طريقه، فلما جاز عليه منصرفا ضرب «4» رأسه بمقرعة فيها معول، فكان ذلك سبب ضعف نظره، فبلغ الرشيد الخبر فأمر [بأن] يحجب [ص 186] عنه إبراهيم، وحلف ألا يدخل عليه، فدس إلى الرشيد من غناه: «5» [الخفيف] من لعبد أذلّه مولاه ... ماله شافع إليه سواه يشتكي ما به إليه ويخشا ... هـ ويرجوه مثل ما يخشاه

فسأل الرشيد عن صانع لحنها فعرفه، فحلف أن لا يرضى عنه حتى يرضى إسحاق، فقام [إسحاق] وقال: قد رضيت عنه يا سيدي رضى صحيحا، وقبل الأرض لما كان من قوله، فرضي عنه وأحضره وأمره أن يترضى إسحاق ففعل. قال ابن المكّي: كان إسحاق إذا غنى هذا الصوت، يأخذ بلحيته ويبكي: «1» [الطويل] إذا المرء قاسى الدّهر وأبيضّ رأسه ... وثلّم تثليم الإناء جوانبه فللموت خير من حياة خسيسة ... تباعده طورا وطورا تقاربه قال أبو الفرج: كان إسحاق يأخذ عن الأصمعي، ويكثر الرواية عنه، ثم فسد ما بينهما، فهجاه إسحاق وثلبه، وكشف للرشيد معايبه، وأخبره بقلة شكره وبخله وضعف نفسه، وأن الصنيعة لا تزكو عنده، وأن أبا عبيدة أوثق منه وأصدق وأسمح بالعلم منه، فأنفذ إليه من أقدمه، وأبعد الأصمعي، فقال الأصمعي لإسحاق: «2» [البسيط] أإن تغنيت للشّرب الكرام: ألا ... رد الخليط جمال الحي فانفرقوا وقيل أحسنت فاستدعاك ذاك إلى ... ما قلت ويحك لا يذهب بك الخرق وقيل أنت حسان الناس كلهم ... وابن الحسان فقد قالوا وقد صدقوا فما بهذا تقوم النادبات ولا ... يثنى عليك إذا ما ضمّك الخرق قال إسحاق: جاء عطاء الملط «3» بجماعة من أهل البصرة إلى قريب أبي

الأصمعي، وكان نذلا من الرجال، فوجده ملقى على وجهه في كساء نائما في الشمس، فركله برجله، وصاح به: يا قريب، قم ويلك، فقال: هل لقيت أحدا من أهل العلم، أو من أهل اللغة، أو من العرب، أو من المحدثين؟ قال: لا والله، فقال لمن حضر: هذا أبو الأصمعي، فاشهدوا لي عليه وعلى ما سمعتم منه، لا [ص 187] يقول لكم الأصمعي غدا أو بعده: حدثني أبي، أو أنشدني أبي، ففضحه. قال الصولي: كان لإسحاق غلام يقال له فتح يسقي الماء لأهل داره على بغلين من بغاله دائما، فقال له إسحاق يوما: أي شيء خبرك يا فتح، قال خبري أنه ليس في هذه الدار أشقى مني ومنك، قال: وكيف ذاك؟ قال: أنت تطعم أهل الدار الخبز، وأنا أسقيهم الماء، فاستظرف قوله وضحك منه، فقال: وأيّ شيء [تحب قال] تعتقني وتهب لي البغلين أسقي عليهما، قال: قد فعلت. قال: وكان إسحاق يقول الإسناد فيه الحديث فتحدث مرة بحديث لا إسناد له، فسئل عن إسناده فقال: هذا من المرسلات عرفا. قال إسحاق، قال لي الرشيد يوما، أيّ شيء يتحدث الناس؟ قال: يتحدثون بأنك تقبض على البرامكة، وتولي الفضل بن الربيع الوزارة، فغضب وصاح، وقال: ما أنت وذاك ويلك، فأمسكت، فلما كان بعد أيام دعا بنا «1» فرأيته عيانا، وكان أول شيء غنيته أبياتا لأبي العتاهية: «2» [مجزوء الوافر] إذا نحن صدقناك ... فضّر عندك الصدق

طلبنا النفع بالباط ... ل إذ لم ينفع الحقّ فلو قدّم صبّا في ... هواه الصبر والرفق لقدّمت على الناس ... ولكن الهوى رزق فضحك الرشيد وقال: ويلك يا إسحاق قد صرت حقودا. قال إسحاق: ذكر المعتصم يوما بعض أصحابه وقد غاب عنه، فقال: تعالوا حتى نقول ما يصنع في هذا الوقت، فقال قوم: يلعب بالنرد، وقال قوم: يغني، فبلغتني النوبة، فقال: قل يا إسحاق، فقلت إذا أقول وأصيب، قال: أتعلم الغيب؟ قلت: لا، ولكني أفهم ما يصنع وأقتدر على معرفته، قال: فإن لم تصب؟ قلت: فإن أصبت؟ قال: لك حكمك، قال: فإن لم تصب؟ قلت: لك دمي، فقال: وجب، فقلت: وجب، قال: فقل، قلت: [ص 188] يتنفس، قال: فإن كان ميتا؟ فقلت: تحفظ الساعة التي تكلمت فيها، فإن كان مات فيها أو قبلها، فقد قمرتني «1» ، فقال قد أنصفت، قلت: فالحكم؟ قال: احتكم ما شئت؟ فقلت: ما حكمي إلا رضاك يا أمير المؤمنين، قال: فإن رضاي لك، وقد أمرت لك بمائة ألف درهم، أتري مزيدا؟ فقلت: ما أولاك بذلك يا أمير المؤمنين، قال: فانها مئتا ألف، أترى مزيدا؟ فقلت: ما أحوجني إلى ذلك يا أمير المؤمنين، قال: فإنها ثلاث مئة ألف، قلت: ما أولاك بذلك يا أمير المؤمنين، قال: يا صفيق الوجه ما نزيدك على هذا. قال إسحاق: لم أر قط مثل جعفر بن يحيى، كانت له فتوة وظرف وأدب وحسن غناء وضرب بالطبل، وكان يأخذ بأجزل حظ من كل فن الأدب والفتوة،

فحضرت باب الرشيد يوما، فقيل لي: إنه نائم، فانصرفت فلقيني جعفر بن يحيى، فقال لي: ما الخبر؟ فقلت: أمير المؤمنين نائم، فقال لي: قف مكانك، ومضى إلى دار أمير المؤمنين وخرج إليه الحاجب فأعلمه بأنه نائم، ورجع فقال: صربنا إلى المنزل حتى نخلو جميعا بقية يومنا، وأغنيك وتغنيني، ونأخذ في شأننا من وقتنا هذا، فقلت: نعم، فصرنا إلى منزله، فنزعنا ثيابنا ودعا بطعام فأكلنا، وأمر بإخراج الجواري وقال: لتبرزن، فليس عندنا من تحتشمنه، فلما وضع الشراب، دعا بقميص حرير فلبسه ودعا بخلوق «1» فتخلّق به، ثم دعا لي بمثل ذلك، وجعل يغنيني وأغنيه، حتى دعا بالحاجب وتقدم إليه، وأمره بأن لا يأذن لأحد من الناس كلهم، وإن جاء رسول أمير المؤمنين أعلمه بأنه مشغول واحتاط في ذلك، وتقدم فيه إلى جميع الحجاب والخدم، ثم قال: إن جاء عبد الملك فأذنوا له، يعني رجلا كان يأنس به ويمازحه ويحضر خلواته، ثم أخذنا في شأننا، فو الله إنا لعلي حالة سارة عجيبة، إذ رفع الستر، فإذا عبد الملك بن صالح الهاشمي قد أقبل، وغلط الحاجب فلم يفرق بينه وبين الذي عناه جعفر [ص 189] بن يحيى، وكان عبد الملك بن صالح من جلالة قدره والتقشف والامتناع من منادمة أمير المؤمنين على أمر جليل، وكان الرشيد قد اجتهد به أن يشرب معه أقداحا، فلم يفعل ذلك رفعا لنفسه، فلما رأيناه مقبلا، أقبل كل واحد منا ينظر إلى صاحبه، وكاد جعفر أن ينشق غيظا، وفهم حالنا، فأقبل نحونا، حتى إذا صرنا بالقرب منه، وصار إلى الرواق الذي نحن فيه، نزع قلنسيته فرمى بها مع [طيلسانه] «2» جانبا، ثم قال: اطعمونا شيئا، فدعا له جعفر بالطعام، وهو منتفخ غيظا وغضبا، فطعم، ثم دعا برطل فشربه، ثم أقبل إلى

المجلس الذي نحن فيه فأخذ بعضادتي «1» الباب، ثم قال: أشركونا فيما أنتم فيه، فقال له جعفر: ادخل، ثم دعا بقميص حرير وخلوق، فلبس وتخلق، ثم دعا برطل «2» ورطل حتى شرب عدة أرطال، ثم اندفع يغنينا، فكان أحسننا والله جميعا غناء، فلما طابت نفس جعفر بن يحيى وسرّي عنه ما كان به، التفت إليه فقال: ارفع حوائجك، قال: ليس هذا موضع حوائج، قال: لتفعلن، قال فلم يزل يلح عليه حتى قال: أمير المؤمنين واجد [علي] وأحب أن تترضاه لي، قال: فإن أمير المؤمنين قد رضي عنك، فهات حوائجك، قال: هذه كانت حاجتي، قال: ارفع حوائجك كما أقول لك، قال: عليّ دين فادح، قال: هذه أربعة آلاف درهم «3» ، فإن أحببت تقتضيها من مالي الساعة فاقبضها، فإنه لم يمنعني عن إعطائك إياها إلا أن قدرك يجلك أن يصلك مثلي، ولكني ضامن لها حتى تحمل إليك من مال أمير المؤمنين فسل أيضا، قال ابني، تكلم أمير المؤمنين حتى ينوه باسمه، فقال: قد ولاه أمير المؤمنين مصر، وزوجه ابنته العالية وأمهرها عنه بألفي ألف درهم، قال: إسحاق: فقلت في نفسي: قد سكر الرجل،- يعني جعفرا- فلما اصبحت لم يكن لي همة إلا حضور دار الرشيد، فإذا جعفر بن يحيى قد بكر، ووجدت في الدار جلبة، وإذا أبو يوسف القاضي ونظائره، قد دعي بهم، ثم دعي بعبد الملك بن صالح الهاشمي [وابنه] فأدخلا جميعا على الرشيد، فقال الرشيد لعبد الملك: إن أمير المؤمنين كان واجدا عليك [ص 190] ، وقد رضي عنك، وأمر لك بأربعة آلاف [ألف] درهم، فاقبضها من جعفر بن يحيى الساعة، ثم دعا بابنه فقال: اشهدوا أني قد زوجته العالية بنت أمير المؤمنين، وأمهرتها عنه

بألفي ألف درهم [من مالي] ووليته مصر، فلما خرج جعفر بن يحيى سألته عن الخبر فقال: بكرت على أمير المؤمنين، فحكيت له جميعا ما كان منا وما كنا فيه حرفا حرفا، ووصفت له دخول عبد الملك وما صنع، فعجب لذلك وسر به، ثم قلت له: وقد ضمنت له يا أمير المؤمنين عنك ضمأنا، قال: وما هو؟ فأعلمته، قال: نفي له بضمانك، وأمر باحضاره، فكان ما رأيت. قال اسحاق: ما اغتممت [بشيء قط مثلما اغتممت] بصوت مليح صنعته بهذا الشعر: [المديد] كان لي قلب أعيش به ... فاكتوى بالنّار فاحترقا أنا لم أرزق محبّتها ... إنّما للعبد ما رزقا لم يكن ما ذاق طعم ردى ... ذاقه لا شكّ إن عشقا فإني صنعت فيه لحنا، وجعلت أردده في جناح لي سحرا، فأظن أن إنسانا من العامة، سمعه فأخذه، وبكرت من غد إلى المعتصم لأغنيه به، وإذا أنا بسواط يسوط الناطف «1» ويغني اللحن بعينه، إلا أنه غناء فاسد، فعجبت وقلت: ترى من أين للسواط هذا الصوت، ولعلي أن غنيته أن يكون مر بهذه السفلة بعض من يحضر معنا فسمعه يغنيه، وبقيت متحيرا، ثم قلت له: يا فتى، ممن سمعت هذا الصوت؟ فلم يجبني، فالتفت إلى شريكه فقال: خذ إليك [هذا] يسألني ممن سمعته، والله لو سمعه إسحاق الموصلي لخريء في سراويله، فبادرت والله هاربا خوفا من أن يمر بي إنسان فيسمع ما جرى فأفتضح، وما علم الله أني نطقت بذلك الصوت بعدها.

قال إسحاق: غدوت يوما ضجرا من ملازمة دار الخلافة والخدمة فيها، فخرجت وركبت بكرة، وعزمت على أن أطوف الصحراء أفترج فيها، فقلت لغلماني: إن جاء رسول الخليفة، فعرفوه أني بكرت في بعض مهماتي، وأنكم لا تعرفون أين توجهت، ومضيت فطفت ما بدا لي، ثم عدت وقد حمي [ص 191] النهار، فوقفت في شارع المخرم «1» في فناء ثخين الظل وجناح رحب على الطريق لأستريح، فلم ألبث أن جاء خادم يقود حمارا فارها «2» عليه جارية راكبة تحتها منديل دبيقي «3» ، وعليها من اللباس الفاخر ما لا غاية بعده، ورأيت لها قواما عادلا حسنا وظرفا وشمائل حسنة، فحدست عليها أنها مغنية، فدخلت الدار التي كنت واقفا عليها، ثم لم ألبث أن أقبل خادمان ومعهما رجلان شابان جميلان، فاستأذنا فأذن لهما، فنزلا ونزلت معهما، ودخلت فظنا أن صاحب الدار دعاني، وظن صاحب البيت أني معهما، فجلسنا وأتي بالطعام فأكلنا، وبالشراب فشربنا أقداحا، وقمت لأبول، فسأل صاحب المنزل الرجلين عني، فأخبراه أنهما لا يعرفاني، فقال: هذا طفيلي، ولكنه ظريف، فأجملا عشرته، وجئت فجلست، فغنت الجارية في لحن لي: «4» [الطويل]

ذكرتك إذ قّرت بنا أمّ شادن ... أمام المطايا تشرئبّ وتسنح من المؤلفات الرّمل أدماء حرّة ... شعاع الضّحى في متنها يتوضّح فأدته أداء صالحا، ثم غنت أصواتا شتى، وغنت في أضعافها [من] صنعتي: «1» [مجزوء الخفيف] الطّلول الدّوارس ... فارقتها الأوانس أو حشت بعد أهلها ... فهي قفر بسابس فكان أمرها فيه أصلح من الأول، ثم غنت أصواتا من القديم والحديث، وغنت في أضعافها من صنعتي: «2» [مجزوء الخفيف] قل لمن صدّ عاتبا ... ونأى عنك جانبا قد بلغت الذي أرد ... ت ولو كنت لا عبا فكان أصلح من الأولين، فاستعدتها لأصلح ما فيه، فقال لي أحد الرجلين: ما رأيت طفيليا أصفق وجها منك، لم ترض بالتطفيل حتى اقترحت «3» ، فهذا غاية المثل: (طفيلي مقترح) ، فأطرقت ولم أجبه، وجعل صاحبه يكفه عني فلا يكف، ثم قاموا إلى الصلاة، وتأخرت قليلا، فأخذت عود الجارية ثم شددت طبقته وأصلحته إصلاحا محكما، وعدت إلى موضعي فصليت [ص 192] وعاد وأخذ ذلك [الرجل] في عربدته عليّ، وأنا صامت، ثم أخذت العود الجارية فجسّته، فأنكرت حاله، وقالت: من مس عودي؟ قالوا: ما مسه أحد، قالت: بلى والله قد مسه حاذق متقدم، وشد طبقته وأصلحه إصلاح متمكن في صناعته، فقلت لها: أنا أصلحته، قالت: فبالله عليك، خذه واضرب به، فأخذته

وضربت به مبدأ عجيبا ضربا صعبا فيه نقرات متحركات، فما بقي أحد منهم إلا وثب فجلس بين يدي، فقالوا: بالله يا سيدي أتغني؟ قلت: نعم، وأعرفكم بنفسي، أنا إسحاق الموصلي، والله إني لأتيه على الخليفة إذا طلبني، وأنتم تسمعوني ما أكره منذ اليوم، لأني تملحت معكم، وو الله لا نطقت بحرف، ولا جلست معكم، حتى تخرجوا هذا المعربد المقيت الغث، فقال له صاحبه: من هذا حذرتك، فأخذ يعتذر، فقلت: ما أنطق بحرف أو تخرجوه، فأخذوا بيده فأخرجوه، فبدأت فغنيت الأصوات التي غنتها الجارية من صنعتي، فقال لي الرجل: هل لك في خصلة؟ وما هي؟ قال: تقيم عندي شهرا، والجارية والحمار لك مع ما عليها من حليّ، فقلت: أفعل، فأقمت عنده شهرا، لا يعرف أحد أين أنا، والمأمون يطلبني في كل موضع، فلا يعرف لي خبرا، فلما كان بعد ثلاثين يوما، سلم إليّ الجارية والحمار والخادم، فجئت بذلك إلى منزلي، وركبت إلى المأمون من وقتي، فلما رآني قال: إسحاق، ويلك أين تكون؟ فأخبرته، فقال: عليّ بالرجل الساعة، فدللتهم عليه، فأحضر، فسأله المأمون عن القصة فأخبره بخبرها وخبر الرجل المعربد، وما حلفت من إخراجه، فقال: أنت رجل ذو مروءة، وسبيلك أن تعان على مروءتك، ثم أمر له بمائة ألف درهم، وقال له: لا تعاشر ذلك الرجل المعربد، وامر لي بخمسين ألف درهم، وقال لي: أحضر الجارية، فأحضرتها فغنته، فقال لي: قد جعلت عليها نوبة في كل يوم ثلاثاء تغنيني من وراء الستار مع الجواري، وأمر لها بخمسين الف درهم، فربحت وأربحت. قال إسحاق: دخلت يوما دار الواثق بغير إذن، إلى موضع أمر أن أدخله إذا كان جالسا، فسمعت صوت عود من بيت [ص 193] وترنما لم أسمع مثله قط حسنا، فأطلع خادم رأسه ثم ردّه وصاح بي، فدخلت فإذا الواثق، فقال لي: أي شيء سمعت؟ فقلت: الطلاق لي لازم، وكل مملوك لي حر، لقد سمعت ما لم

أسمع مثله قطّ حسنا فضحك وقال: وما هو! إنما هو فضلة أدب وعلم، مدحه الأوائل واشتهاه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن بعده من التابعين، وكثر في حرم الله ومهاجر رسول الله، أتحبّ أن تسمعه؟ قلت: إي والله الذي شرّفني بخطابك وجميل رأيك، فقال: يا غلام، هات العود، وأعط إسحاق رطلا، فدفع الرطل إليّ، وضرب وغنّى في شعر لأبي العتاهية بلحن صنعه فيه: «1» [البسيط] أضحت قبورهم من بعد عزّهم ... تسفي عليها الصّبا والحرجف الشّمل «2» لا يدفعون هواما عن وجوههم ... كأنهم خشب بالقاع منجدل فشربت الرطل ثم قمت فدعوت له، فأجلسني وقال: أتشتهي أن تسمعه ثانية؟ فقلت: إي والله ثانية وثالثة، وصاح ببعض خدمه وقال: احمل إلى إسحاق ثلاث مائة ألف درهم الساعة، ثم قال: يا إسحاق، قد سمعت ثلاثة أصوات وشربت ثلاثة أرطال، وأخذت ثلاث مائة ألف درهم، فانصرف إلى أهلك بسرورك ليسرّوا معك، فانصرفت بالدراهم. قال إسحاق: ما وصلني أحد من الخلفاء مثل ما وصلني به الواثق، ولا كان أحد منهم يكرمني إكرامه، ولقد غنّيته لحني في «3» : [الطويل] لعلك ان طالت حياتك ان ترى ... بلادا بها مبدى لليلى ومحضر فاستعاده مني جمعة لا يشرب على غيره، ثم وصلني بثلاث مئة ألف درهم، ولقد قدمت عليه في بعض قدماتي، فقال لي: ويحك يا إسحاق أما اشتقت

إلي؟ فقلت: بلى والله يا سيدي، وقلت في ذلك أبياتا، إن أمرتني أن أنشدها، فقال: هات، فأنشدته: «1» [البسيط] أشكو إلى الله بعدي عن خليفته ... وما أقاسيه من هم ومن كبر لا أستطيع رحيلا إن هممت به ... يوما إليه ولا أقوى على السفر «2» أنوي الرحيل إليه ثم يمنعني ... ما أحدث الدهر والأيام في بصري ثم استأذنته في إنشاد قصيدة مدحته بها فأذن لي، فأنشدته قصيدتي التي أقول فيها: [ص 194] «3» [البسيط] لما أمرت بإشخاصي إليك هوى ... قلبي حنينا إلى أهلي وأولادي ثم اعتزمت فلم أحفل لبينهم ... وطابت النفس عن فضل وحماد كم نعمة لأبيك الخير أفردني ... بها وخص بأخرى بعد إفرادي فلو شكرت أياديكم وأنعمكم ... لما أحاط بها وصفي وتعدادي فقال: أحسنت يا أبا محمد، فكناني «4» وأمر لي بمائة ألف درهم، ثم قلت: [الطويل] «5» أتبكي على بغداد وهي قريبة ... فكيف إذا ما ازددت عنها غدا بعدا لعمرك ما فارقت بغداد عن قلى ... لو أنّا وجدنا من فراق لها بدا إذا ذكرت بغداد نفسي تقطعت ... من الشوق أو كادت تموت بها وجدا كفى حزنا أن رحت لم تستطع بها ... وداعا ولم تحدث بساكنها عهدا

فقال لي: يا موصلي، قد اشتقت إلى بغداد: فقلت: يا أمير المؤمنين، لا والله، ولكني اشتقت إلى الصبيان، وقد حضرني بيتان، فقال: هاتهما، فقلت: «1» [الوافر] حننت إلى الأصيبية الصغار ... وشاقك منهم قرب المزار وكل مفارق يزداد شوقا ... إذا دنت الديار من الديار فقال: يا إسحاق صر إلى بغداد، فأقم شهرا مع صبيانك، ثم عد إلينا، وقد أمرنا لك بمائة ألف درهم. قال إسحاق الموصلي: قدمت سنة من السنين من الحج فصرت إلى سر من رأى فدخلت إلى الواثق، فقال لي: بأي شيء أطرفتني من أحاديث الأعراب وأشعارهم؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، جلس [إلي] فتى من الأعراب في بعض المنازل، فحادثني فرأيت منه أحلى من رأيت من الفتيان منظرا وحديثا وظرفا وأدبا، وسألته إنشادي، فأنشدني «2» : [الطويل] سقى العلم الفرد الذي في ظلاله ... غزالان مكحولان مؤتلفان إذا أمنا التفا بجيدي تواصل ... وطرفاهما للريب مسترقان أرغتهما ختلا فلم أستطعهما ... ورميا ففاتاني وقد قتلاني ثم تنفس تنفسا ظننت أنه قد قطع حيازيمه، فقلت: مالك بأبي أنت؟ فقال: لي وراء هذين الجبلين [ص 195] شجن «3» وقد حيل بيني وبين الوصول إليه، وقد نذروا دمي، وأنا أتمتع بالنظر إلى الجبلين تعللا بهما إذا قدم الحاج، ثم

يحال بيني وبين ذلك، فقلت له: زدني مما قلت شيئا في ذلك، فأنشدني: «1» [الطويل] إذا ما وردت الماء في بعض أهله ... حضور فعرض بي كأنك مازح فإن سألت عني حضور فقل لها ... به غبّر «2» من دائه وهو صالح فأمرني الواثق فكتبت له الشعرين، فلما كان بعد أيام دعاني فقال: قد صنع بعض عجائز دارنا في أحد الشعرين لحنا فأسمعه، فإن ارتضيت أظهرناه، وإن رأيت فيه موضع إصلاح أصلحناه، فغنى لنا من وراء الستارة، فكان في نهاية الجودة، وكذلك كان يفعل، إذا صنع شيئا، فقلت: أحسن والله صانعه ما شاء، فقال: بحياتي عليك، قلت: أي وحياتك، وحلفت له بما يوثق به، وأمر لي برطل فشربته، ثم أخذ العود فغناه ثلاث مرات، وسقاني ثلاثة ارطال، وأمر لي بثلاثين ألف درهم، فلما كان بعد أيام دعاني وقال: قد صنع عندنا أيضا في الشعر الآخر، وأمر فغني به، فكانت الحال فيه مثل الحال الاول، فلما استحسنته وحلفت له على جودته، وأعاده لي ثلاث مرات، وسقاني ثلاثة أرطال، وأمر لي بثلاثين الف درهم، ثم قال: هل قضيت حق هديتك؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين، فأطال الله بقاءك، وتمم نعمتك، ولا أفقدنيها منك وبك، فقال: لكنك لم تقض حق جليسك الأعرابي، ولا سألتني معونته على أمره، وقد سبقت مسألتك، وكتبت إلى صاحب الحجاز وأمرته بإحضاره، وخطبت له المرأة وحمل صداقها إلى قومها عنه من مالي، فقبلت يده وقلت: السبق إلى المكارم لك، وأنت أولى بها من عبيدك ومن سائر الناس. قال: لما خرج المعتصم إلى عمورية، واستخلف الواثق بسر من رأى كانت أموره

كلها كأمور أبيه، موجه إلى الجلساء والمغنين أن يبكروا إليه يوما حدد لهم، ووجه إلى إسحاق فحضره، فقال لهم الواثق: إني عزمت على الصبوح، ولست أجلس على سرير «1» حتى اختلط بكم ونكون كالشيء الواحد، فاجلسوا معي حلقة، ولكن كل جليس إلى جانبه مغن، فجلسوا كذلك، فقال الواثق: أنا أبدأ، فأخذ عودا وغنى [ص 196] وشربوا، وغنى من بعده حتى انتهى إلى إسحاق، فأعطي العود، فلم يأخذه، فقال: دعوه، ثم غنى وغنوا دورا آخر، فلما بلغ إسحاق، لم يغن، وفعل هذا ثلاث مرات، فوثب الواثق فجلس على سريره، وأمر الناس فأدخلوا، فما قال لأحد منهم اجلس، ثم قال: علي بإسحاق، فلما رآه قال: يا خوزي «2» يا كلب، أتبذّل لك وأغني، وترتفع عني؟! أترى لو أني قتلتك لكان المعتصم يقيدني بك؟ [ابطحوه] فبطح وضرب ثلاثين مقرعة، وحلف لا يغني سائر يومه [سواه] ، فاعتذر وتكلمت الجماعة فيه، فأخذ العود وما زال يغني حتى انقضى ذلك اليوم. قال إسحاق: دخلت يوما على الواثق وهو مضطجع، فقال: غنني يا إسحاق صوتا غريبا لم أسمعه منك، حتى أسر به بقية يومي، قال: وكأن الله عز وجل أنساني الغناء كله إلا هذا الصوت: «3» [السريع] يا دار إن كان البلى قد محاك ... فإنه يعجبني أن أراك أبكي الذي [قد] كان لي مألفا ... فيك فآتي الدار من أجل ذاك قال: فتبينت الكراهة في وجهه، وندمت على ما كان مني، وتجلد فشرب رطلا

كان بيده، وعدلت عن الصوت إلى غيره، وكان ذلك اليوم والله آخر جلوسي معه. قال: وتوفي إسحاق ببغداد أول خلافة المتوكل، وكان يسأل الله ألا يبتليه بالقولنج لما رأى من صعوبته على أبيه، فأصابه ذرب «1» في شهر رمضان سنة خمس وثلاثين ومئتين، وكان يتصدق في كل يوم أمكنه أن يصومه بمائة درهم، ثم ضعف عن الصوم، ومات في رمضان. لما تولى المتوكل الخلافة بعد الواثق، طلب إسحاق، فلما حضر رمى إليه مخدة وقال: اجلس عليها، فإني سمعت أن المعتصم أول يوم خلافته رمى إليك بها وقال: ما يستجلب ما عند الحر إلا بالكرامة، وسأله سماع شيء من أغانيه، فغناه لحنه نظمه في نفسه وعماه: «2» [البسيط] ما علّة الشيخ عيناه بأربعة ... تغرورقان بدمع ثم تنسكب «3» فأنعم عليه بمائة ألف درهم وصرفه، وسأله العود فتوجه من سر من رأى [ص 197] إلى بيته ببغداد، فتوفي بعد شهر، فبلغ المتوكل وفاته، فغمه وحزن عليه. قال ادريس بن أبي حفصة يرثي إسحاق الموصلي: «4» [الطويل] سقى الله يا بن الموصلي بوابل ... من الغيث قبرا أنت فيه مقيم ذهبت فأوحشت الكرام فما يني ... بعبرته يبكي عليك كريم إلى الله أشكو فقد إسحاق إنني ... وإن كنت شيخا بالعراق مقيم

وقال محمد بن عمر الجرجاني يرثيه: «1» [الطويل] على الجدث الشرقي عوجا فسلما ... ببغداد لما ضن عنه عوائده وقولا له لو كان للموت فدية ... فداك من الموت الطريف وتالده أإسحاق لا تبعد وان كان قد رمى ... بك الموت وردا ليس يصدر وارده إذا هزل اخضرت متون حديثه ... ورقت حواشيه وطابت مشاهده وإن جد كان القول جدا وأقسمت ... مخارجه ألا تلين معاقده فابك على ابن الموصلي بعبرة ... كما ارفضّ من نظم الجمان قلائده وقال مصعب الزبيري يرثيه، تغمده الله برحمته: «2» [الكامل] لله أي فتى إلى دار البلى ... حمل الرجال ضحى على الأعواد كم من كريم ما تجف دموعه ... من حاضر يبكي عليه وباد أمسى يؤبّنه ويعرف فضله ... من كان يثلبه من الحساد فسقتك يا بن الموصلي سحابة ... تروي صداك بصوبها وغواد وقال أيضا: «3» [المتقارب] تولى شبابك إلا قليلا ... وحل المشيب فصبرا جميلا كفى حزنا بفراق الصبا ... وإن أصبح الشيب منه بديلا ولما رأى الغانيات المشي ... ب أغضين دونك طرفا كليلا سأندب عهدا مضى للصبا ... وأبكي الشباب بكاء طويلا

68 - إبراهيم بن المهدي [ص 198]

68- إبراهيم بن المهدي «1» [ص 198] رجل وضع في شرفه، وخضع من شرفه، رضع حب الغناء منذ فطم، وأعطى قياده لغير أهل الغناء وما حطم، وانحط إلى الحضيض وحطه كذي «2» الجناح المهيض، حتى إنه بعد أن أصفقت له الأيدي المبايعة «3» ، وصفت له القلوب للمشايعة «4» وعقدت البيعة في الرقاب، وعينت له الألقاب، وصعد المنبر وتبوأ أعلاه، وولج المحراب، وأقام الصلاة جذب «5» عن ذلك المقام، وكذب عليه ليقام، وعير بالغناء مهنته وانشغاله أهنته، حتى استحر وخلع، وعضد اصل سؤدده وقلع، ثم كان هذا عليه عارا يلبسه، وشنارا كما نهض به حسبه يجلسه «6» . قال أبو الفرج، كان إبراهيم يقول: لولا أني أرفع نفسي عن هذه الصناعة لأظهرت فيها ما يعلم معه أنهم لم يروا قبلي مثلي. قال إبراهيم: دخلت يوما على الرشيد، وفي رأسي فضلة من خمار «7» ، وبين يديه ابن جامع وإبراهيم الموصلي، فقال: بحياتي يا إبراهيم غنني، فأخذت

العود، ولم ألتفت إليهما فغنيت: «1» [الكامل] أسرى لخالدة الخيال ولا أرى ... شيئا ألذ من الخيال الطائف قال: فسمعت إبراهيم يقول لابن جامع: لو طلب هذا بهذا [الغناء] ما نطلب لما أكلنا خبزا أبدا، فقال له ابن جامع: صدقت، فلما فرغت من غنائي، وضعت العود وقلت: خذا في حقكما ودعا باطلنا. قال هبة الله بن إبراهيم بن المهدي: اتخذ أبي حراقة «2» ، فأمر بشدها في الجانب الغربي حذاء داره، فمضيت إليها ليلة، وكان أبي يخاطبنا من داره بأمره ونهيه وبيننا عرض دجله، فما أجهد نفسه. قال ابن قتيبة، حدثني ابن أبي ظبية، قال: كنت أسمع إبراهيم بن المهدي يتنحنح فأطرب. قال ابن خرداذبة، حدثني محمد بن الحارث بن بسخنر، قال: وجه إبراهيم بن المهدي يوما يدعوني، وذلك في أول خلافة [ص 199] المعتصم، فصرت إليه وهو جالس وحده، وشارية جاريته خلف الستارة، فقال لي: قد قلت شعرا وغنيت فيه، وطرحته على شارية فأخذته وزعمت أنها أحذق به مني، وأنا أقول إنها دوني في الحذق، وقد تراضينا بك حكما لموضعك من هذه الصناعة، فاسمعه مني ومنها، ولا تعجل حتى تسمعه مني ومنها ثلاث مرات، فاندفع يغني هذا الصوت: «3» [الطويل] أضن بليلى وهي غير سخية ... وتبخل ليلى بالهوى وأجود فأحسن وأجاد، ثم قال لها: تغني فغنته فبرزت فيه كأنه كان معها في الجد،

ونظر إلي فعرف أني قد عرفت فضلها، فقال: على رسلك، وتحدثنا وشربنا، ثم اندفع فغناه ثانية، فأضعف في الإحسان، ثم قال لها: تغني، فغنت وبرعت وزادت وزادت اضعاف زيادته، وكدت أشق ثيابي طربا، فقال لي: تثبت ولا تعجل، ثم غناه ثالثة فلم يبق عليه في الإحكام، ثم أمرها فغنت، فكأنه إنما كان يلعب، ثم قال لي: [قل] ، فقضيت لها عليه، فقال: أصبت، فكم تساوي الآن عندك؟ فحملني الحسد عليها له والنفاسة بمثلها ان قلت: تساوي مئة ألف درهم، فقال: أو ما تساوي على هذا كله الا مئة ألف درهم؟! قبح الله رأيك، والله ما أجد شيئا في عقوبتك ابلغ من أن أصرفك، فقم فانصرف إلى منزلك مذموما، فقلت له: ما لقولك اخرج من منزلي جواب، فقمت وانصرفت وقد أحفظني كلامه وأرمضني «1» ، فلما خطوت خطوات التفت إليه فقلت: يا إبراهيم، أتطردني من منزلك، فو الله ما تحسن أنت ولا جاريتك شيئا. وضرب الدهر من ضربه، ثم دعانا المعتصم بعد ذلك وهو بالوزيرية في قصر الليل «2» ، فدخلت أنا ومخارق وعلوية، وإذا أمير المؤمنين مضطجع «3» ، وبين يديه ثلاث جامات: جام فضة مملوءة دنانير جددا، [وجام ذهب مملوءة دراهم جددا] وجام قوارير مملوءة عنبرا، فظننا أنها لنا لم نشك به في ذلك، فغنيناه وأجهدنا بأنفسنا، فلم يطرب ولم يتحرك لشيء من غنائنا، ودخل الحاجب فقال: إبراهيم بن المهدي، فأذن له، فدخل فغناه أصواتا فأحسن فيها، ثم غناه بصوت من صنعته وهو هذا: «4» [ص 200] [البسيط] ما بال شمس أبي الخطاب قد غربت ... يا صاحبيّ أظن الساعة اقتربت

فاستحسنه المعتصم وطرب وقال: أحسنت والله، فقال إبراهيم: يا أمير المؤمنين فإن كنت قد أحسنت فهب لي إحدى هذه الجامات، فقال: خذ أيها شئت، فأخذ التي فيها الدنانير، فنظر بعضنا إلى بعض، ثم غناه إبراهيم بشعر له: «1» [المتقارب] فما مزة قهوة قرقف ... شمول تروق براووقها فقال: أحسنت والله يا عم وسررت، فقال: يا أمير المؤمنين: إن كنت أحسنت فهب لي جاما أخرى، قال: فخذ أيها شئت، قال: فأخذت الجام التي فيها الدراهم، فعندها انقطع رجاؤنا منها، وغنى بعد ساعة: «2» [الطويل] ألا ليت ذات الخال تلقى من الهوى ... عشير الذي ألقى فيلتئم الحب فارتج بنا المجلس الذي كنا فيه، وطرب المعتصم، واستخفنا الطرب، فقام على رجليه وجلس، وقال: أحسنت والله يا عم، قال: فإن كنت أحسنت فهب لي الجام الثالثة، قال: خذها، فأخذها، وقام أمير المؤمنين، فدعا إبراهيم بمنديل فثناه طاقين، ووضع الجامات فيه، ودعا بطين فختمه ودفعه إلى غلامه، ونهضنا للانصراف، وقدمت دوابنا، فلما ركب إبراهيم التفت إلي وقال: يا محمد بن الحارث، زعمت أني لا أحسن أنا وجاريتي شيئا، وقد رأيت ثمرة الإحسان، [فقلت في نفسي: قد رأيت، فخذها لا بارك الله لك فيها! ولم أجبه بشيء] . قال: دخل الحسن بن سهل «3» يوما على المأمون وهو يشرب، فقال: بحياتي

عليك يا محمد، إلا شربت معي قدحا، وصب له من نبيذ قدحا فأخذه بيده وقال له: من تحب أن يغنيك فأومأ إلى إبراهيم بن المهدي، فقال له المأمون: غن يا عم: «1» [البسيط] تسمع للحلي وسواسا إذا انصرفت يعرض به لما كان لحقه من السوداء والاختلاط، فغضب المأمون حتى ظن إبراهيم أنه سيوقع به، ثم قال له: أبيت إلا كفرا، يا أكفر خلق الله تعالى لنعمه، والله ما حقن دمك غيره، ولقد اردت قتلك فقال لي إن عفوت عنه فعلت فعلا لم يسبقك إليه أحد [ص 201] فعفوت والله عنك لقوله، أفحقه أن تعرض به؟ والله لا تدع كيدك ودخلك، «2» وأنفت من إيمائه إليك بالغناء، فوثب إبراهيم قائما وقال: يا أمير المؤمنين، لم أذهب حيث ظننت، ولست بعائد، فأعرض عنه. قال حمدون: كنت أحب أن أجمع بين إبراهيم بن المهدي، وأحمد بن يوسف الكاتب، لما كنت أراه من تقدم أحمد عليه [وغلبته] الناس جميعا بحفظه وبلاغته وأدبه في كل محضر ومجلس، فدخلت يوما على إبراهيم بن المهدي، وعنده أحمد بن يوسف وأبو العالية الخزري، فجعل إبراهيم يحدثنا فيضيف شيئا إلى شيء، مرة يذكر ومرة يونث، ومرة يعظنا ومرة ينشدنا ومرة

يضحكنا، وأحمد بن يوسف ساكت، فلما طال بنا المجلس، أردت أن أخاطب [أحمد] ، فسبقني إليه أبو العالية فقال: «1» [الرجز] مالك لا تنبح يا كلب الدوم ... قد كنت نباحا فما لك اليوم فتبسم إبراهيم وقال: لو رأيتني في يد جعفر بن يحيى لرحمتني منه، كما رحمت أحمد مني. قال إبراهيم بن المهدي: قلت للأمين يوما: يا أمير المؤمنين، جعلني الله فداك! [فقال: بل جعلني الله فداك] فأعظمت ذلك، فقال: يا عم، لا تعظمه فإن لي عمرا لا يزيد ولا ينقص، فحياتي مع الأحبة أطيب من تجرعي فقدهم، وليس يضرني عيش من عاش [بعدي] منهم. قال إبراهيم بن المهدي: غنيت يوما الأمين: «2» [مجزوء الكامل] أقوت منازل بالهضاب ... من آل هند فالرباب خطارة بزمامها ... وإذا ونت ذلل الركاب «3» ترمي الحصا بمناسم ... صم صلادمة صلاب قال: فاستحسن اللحن، وسألني عن صانعه، فأعلمته أن ابن جامع حدثني عن سياط «4» أنه لابن عائشة، فلم يزل يشرب عليه لا يتجاوزه، ثم انصرفنا ليلتنا تلك، ووافاني رسوله حين انتبهت [من النوم] وأنا أستاك، فقال لي: يقول

لك بحياتي يا عم، لا تشتغل بعد الصلاة بشيء غير الركوب [إليّ] فصليت وتناولت طعاما خفيفا وركبت إليه، فلما رآني من بعيد، صاح بي، بحياتي يا عم (خطارة بزمامها) ، فلما دخلت المجلس، ابتدأت [ص 202] فغنيته إياه، فأمر بإخراج صبية كان يتحظاها، فأخرجت إليه صبية كأنها لؤلؤة في يدها عود، فقال: بحياتي يا عم ألقه عليها، فأعدته مرارا وهو يشرب، حتى ظننت أنها قد أخذته، وأمرتها أن تغنيه، فإذا هو قد استوى لها، إلا في موضع كان فيه، وكان صعبا جدا، فجهدت جهدي أن يقع لها طلبا ليسر به، فلم يقع لها بتة، ورأى جهدي في أمرها وتعذره عليها، فأقبل عليها وقد سكر وقال: نفيت من الرشيد، وكل أمة لي حرة، وعلي عهد الله، لئن لم تأخذيه في المرة [الثالثة] لأمرن بإلقائك في دجلة، قال: ودجلة تطفح وبيننا وبينها ذراعان، وذلك في الربيع، فتأملت القصة، فإذا هو قد سكر والجارية لا تقوله كما أقوله أبدا، فقلت: هذه والله داهية ويتنغص عليه يومه، وأشرك في دمها، فعدلت عما كنت أغنيه عليه وتركت ما كنت أقوله، وغنيته كما كانت هي تقوله، وجعلت اردده حتى انقضت ثلاث مرات أعيده عليها، كما كانت هي تقوله، وأريته أني اجتهدت، فلما انقضت الثلاث مرات، قلت لها: هاتيه، فغنته على ما كان وقع لها، فقلت: أحسنت والله يا أمير المؤمنين، ورددته عليها ثلاث مرات، فطابت نفسه، وسكر فأمر لي بثلاثين ألف درهم. قال محمد بن الحارث بن بسخنر: غنى إبراهيم بن المهدي يوما بحضرة المأمون: «1» [الكامل] يا صاح يا ذا الضامر العنس ... والرحل ذي الأنساع والحلس أما النهار فأنت تقطعه ... ركضا وتصبح مثل ما تمسي

قال: فاستحسنه المأمون وذهبت آخذه، ففطن بي إبراهيم، فجعل يزيد فيه مرة وينقص أخرى بزوائده التي كان يعملها في الغناء، وعلمت ما يصنع فتركته، فلما قام قلت للمأمون: يا سيدي، إن رأيت أن تأمر إبراهيم أن يلقي علي: يا صاح يا ذا الضامر العنس فقال: أفعل، فلما عاد قال له: يا إبراهيم ألق على محمد: يا صاح يا ذا الضامر العنس فألقاها علي كما كان يغنيه مغيرا، ثم انقضى المجلس وسكر المأمون، فقال لي إبراهيم: قم الآن فأنت أحذق الناس به، فخرج وخرجت، وجئته إلى منزله، فقلت له: ما في الأرض أعجب منك، أنت ابن خليفة وأخو خليفة [ص 203] تبخل على وليّ لك مثلي لا يفاخرك بالغناء، ولا يكاثرك بصوت! فقال لي: يا محمد، ما في الدنيا أضعف عقلا منك، والله ما استبقاني المأمون محبة لي، ولا صلة لرحمي، ولكنه سمع من هذا الجرم شيئا فقده من سواه، فاستبقاني لذلك، فغاظني قوله، فلما دخلت إلى المأمون حدثته بما قال لي، فقال لي: يا محمد، هذا أكفر الناس لنعمة، وأطرق مليا ثم قال: لا نكدر على أبي إسحاق وقد عفونا عنه، ولا نقطع رحمه، واترك هذا الصوت الذي ضن به عليك إلى لعنة الله. قال محمد بن يزيد: لما رضي المأمون عن إبراهيم بن المهدي ونادمه، دخل إليه متبذلا في ثياب المغنين وزيهم، فلما رآه ضحك وقال: نزع عمي ثياب الكبر عن منكبيه، فدخل فجلس، فأمر المأمون ان يخلع عليه فلبس الخلع، ثم ابتدأ مخارق يغني: «1» [الطويل]

خليلي من كعب ألما هديتما ... بزينب لا يفقد كما أبدا كعب فقال إبراهيم: أسأت واخطأت، فقال له المأمون: يا عم إن كان أساء وأخطأ فأحسن أنت، فغنى إبراهيم الصوت، فلما فرغ منه قال لمخارق: أعده الآن، فأعاده فأحسن، فقال له إبراهيم: يا أمير المؤمنين، كم بينه الآن وبينه في أول الامر، فقال: ما ابعد ما بينهما، فالتفت إلى مخارق وقال: مثلك يا مخارق مثل الثوب الوشي الفاخر، إذا تغافل عنه أهله سقط عليه التراب، فحال لونه، فإذا نفض عنه عاد إلى جوهره. قال إسحاق بن إبراهيم بن رياح: كنت أسأل مخارقا: أي الناس أحسن غناء؟ فيجيبني جوابا مجملا حتى حققت عليه يوما، فقال لي: إبراهيم الموصلي أحسن غناء من ابن جامع بعشر طبقات، وأنا أحسن من إبراهيم بعشر طبقات، وإبراهيم بن المهدي أحسن غناء مني بعشر طبقات، ثم قال: أحسن الناس غناء أحسنهم صوتا، وإبراهيم بن المهدي أحسن الإنس والجن والوحش والطير صوتا، وحسبك هذا. قال إبراهيم بن المهدي وقد ذكر الطبل والإيقاع به، فقال: هو من الآلات التي لا يجوز أن تبلغ نهايتها، فقيل له: وكيف خص الطبل بذلك؟ [ص 204] فقال: لأن عمل اليدين فيه عمل واحد ولا بد أن يلحق اليسار فيه نقص عن اليمين، ودعا بالطبل ليرينا ذلك، فأوقع إيقاعا لم نظن أن يكون مثله، وهو مع ذلك يرينا زيادة اليمين على اليسار، وقال له الامين في بعض خلواته: يا عم، أشتهي أن أراك تزمر، فقال: يا أمير المؤمنين، ما وضعت على فمي ناياقط، ولا أضعه، ولكن يدعو أمير المؤمنين بفلانة- من موالي المهدي- حتى تنفخ في الناي وأمر يدي عليه، وأحضرت فوضعت الناي على فمها وأمسكه إبراهيم، فكلما مر الهواء

69 - علية بنت المهدي

«1» مر إصبعه، فيسمع زمرا، أجمع سائر من حضر أنه لم يسمع مثله قط. قال محمد بن موسى المنجم «2» : حكمت بأن إبراهيم بن المهدي أحسن الناس غناء ببرهان، وذلك أني كنت أراه في مجالس الخلفاء مثل المأمون والمعتصم، يغني ويغني المغنون، فإذا ابتدأ الصوت لم يبق من الغلمان والمتصرفين في الخدمة وأصحاب الصناعات والمهن الصغار والكبار، إلا ترك ما في يده وقرب من أقرب موضع يمكنه أن يسمعه، فلا يزال مصغيا إليه، لاهيا عما كان فيه ما دام يغني، حتى إذا أمسك وغنى [غيره] رجعوا إلى التشاغل بما كانوا فيه، ولم يلتفتوا إلى ما يسمعون، ولا برهان مثل هذا أقوى من شهادة الفطن واتفاق الطبائع- مثل اختلافها وتشعب طرقها- على الميل إليه. 69- عليّة بنت المهدي «3» ضربت عليها الخلافة سرادقها، ونصبت لها المهلة نمارقها، وأسبلت دونها

الحجب المنيعة، وأسدلت بين أخصاء الخدم وبينها الستور الرفيعة، وكان الرشيد شديد الغيرة عليها، والغيلة لمن أومأ بنظره إليها، هذا حاله مع خدم الدار «1» ، وحرم من آواه» حرم ذلك الجدار، فأما من سواهم، فلا يقع عليها مقل النجوم نظر ناظر، ولا يمر من خاطر النسيم على ذكر ذاكر، إجلالا لمكانها، وإجفالا من رقباء الرشيد الطائفة بأركانها، ثم هتكت بالغناء سترها الرفيع، وهونت حجابها المنيع، فعرضت عرضها «3» للتشنيع، وعرضت عرضها للتضييع، ولم يغنها أن أخلدت إلى هذه الصناعة، ورمت مالها بالإضاعة [ص 205] ، حتى صارت تظهر لأهل الغناء، وتختلط بمن يؤهل من قومه المهناء، فأصبحت لا تعد في ذوات الستور، ولا تعاب إلا بما تحمد به البدور من السفور، وإنما أمها بصبص، وحق سرها فيها قد حصحص، وكانت هي وأخوها إبراهيم أقدر أخوين على الغناء، وأقوم رسيلين بالغناء كانت كأنما أعطيت مزمارا من مزامير داود، أو حركت أوتارا ركبت في لهواتها لا في العود، على كمال أدب بارع، وظرف إلى هز المعاطف مسارع، مع جمال تنقبت بنقابه وكمال تجلببت بجلبابه، ورقة خلائق كان نشر الصبا يدمثها، ودقة معان كان صوت اليراع ينفشها، وكان الرشيد لا يقدر على فراقها لسماع تلك الأغاريد، وإمتاع ذلك اللسان الحلو بلقائط تلك الأناشيد، وكان لا يتم سروره الا بحضورها، ولا يعم حبوره إلا إذا برزت نحوه من ستورها. قال محمد بن إسماعيل بن موسى الهادي، كنت عند المعتصم وعنده مخارق وعلوية ومحمد بن الحارث بن بسخنر وعقيد، وكنت أضرب عليه فغنى: «4» [المديد]

نام عذالي ولم أنم ... واشتفى الواشون من سقمي وإذا ما قلت بي ألم ... شك من أهواه في ألمي فطرب المعتصم وقال: لمن هذا الشعر، فأمسكوا، فقلت: لعلية، فأعرض عني، فعرفت غلطي، وأن القوم أمسكوا عمدا، فقطع بي «1» ، وتبين حالي، فقال: لا ترع يا محمد، فإن نصيبك منها مثل نصيبنا. قال إسحاق الموصلي: عملت في أيام الرشيد لحنا: «2» [البسيط] سقيا لأرض إذا ما نمت نبهني ... بعد الهدوء بها قرع النواقيس «3» كأن سوسنها في كل شارقة ... على الميادين أذناب الطواويس قال: فأعجبني وعزمت على أن أباكر به الرشيد، فلقيني في طريقي خادم لعلية بنت المهدي، فقال: مولاتي تأمرك بدخول الدهليز لتسمع من بعض جواريها [ص 206] صوتا أخذته عن أبيك، وشكّت فيه الآن، فدخلت معه حجرة قد أفردت لي كأنها كانت معدة، فجلست وقدم لي طعام وشراب، فنلت حاجتي منهما، ثم خرج إليّ خادم فقال: تقول مولاتي، أنا أعلم أنك قد غدوت إلى أمير المؤمنين بصوت قد أعددته له محدث، فأسمعنيه ولك جائزة سنية، فغنيتها إياه ولم [تزل] تستعيده مرارا، ثم قالت: اسمعه الآن، فغنته غناء ما سمع سمعي مثله قط، ثم قالت: كيف تراه؟ قلت: أرى والله ما لم أر مثله، ثم أمرت جارية فأخرجت لي عشرين ألف درهم، وعشرين ثوبا، فقلت: هذا ثمنه، وأنا الآن داخلة إلى أمير المؤمنين ولم أبدأ بغناء غيره، وأخبره أنه صنعتي، وأعطي الله عهدا لئن نطقت بأن لك فيه صنعة لأقتلنّك، هذا إن نجوت منه إن علم بمصيرك إليّ،

فخرجت من عندها، والله إني كالموقر «1» بما أكره من جائزتها أسفا على الصوت، فما جسرت والله بعد ذلك أن أتنغّم به في نفسي فضلا عن أن أظهره حتى ماتت. فدخلت على المأمون في أول مجلس جلس به للهو بعدها، فبدأت به في اول ما غنيت، فتغير وجه المأمون، وقال: من أين لك هذا ويلك؟ قلت: ولي الأمان على الصدق، قال: ذلك لك، فحدثته الحديث، فقال: يا بغيض، فما كان لك في هذا من التعاسة حتى شهرته، وذكرت هذا منه، مع ما أخذته من الجائزة. وهجنني «2» فيه هجنة وددت معها أنني لم أذكره، فآليت على نفسي ألا أغنيه بعدها أبدا. قال: أهديت للرشيد جارية في غاية الجمال والكمال، فخلا معها يوما، وأخرج كل قينة في داره واصطبح، فكان من حضر من جواريه للغناء والخدمة والشراب زهاء ألفي جارية في أحسن زي، وفي كل نوع من أنواع الجواهر والثياب، واتصل الخبر بأم جعفر، فغلظ عليها ذلك، فأرسلت إلى علية تشكو إليها، فأرسلت إليها علية: لا يهولنك ما رأيت، والله لأردنه إليك، قد عزمت أن أصنع شعرا، وأصوغ فيه لحنا، وأطرحه على الجواري فلا تبقى عندك جارية إلا بعثت بها إلي، وألبسيهن أنواع الثياب، ليأخذن الصوت مع جواري [ص 207] ففعلت أم جعفر ما أمرتها به علية، فلما جاوزت صلاة العصر لم يشعر الرشيد الا وعلية قد خرجت إليه من حجرتها، معها زهاء ألفي جارية من جواريها وسائر جواري القصر، عليهن غرائب اللباس، وكلهن في لحن واحد هزج: «3» [مجزوء الرجز] منفصل عني وما ... قلبي عنه منفصل

يا قاطعي اليوم لمن ... نويت بعدي أن تصل فطرب الرشيد وقام على رجليه حتى استقبل أم جعفر وعلية وهو على غاية السرور، وقال: لم أر كاليوم قط، يا مسرور، لا تبقين اليوم درهما في بيت المال الا نثرته، وكان مبلغ ما نثر يومئذ ستة آلاف ألف درهم. قال: كانت علية تقول: [من] لم يطربه الرمل لم يطربه شيء، وكانت تقول: من أصبح وعنده طباهجة «1» ولم يصطبح ضاع سروره. قال إبراهيم بن المهدي: ما خجلت قط خجلتي من علية بنت المهدي، حين دخلت إليها يوما، فقلت لها: كيف أنت يا أختي جعلت فداك، وكيف حالك وخبرك؟ فقالت: بخير والحمد لله، ووقعت عيني على جارية لها كانت تذب عنها «2» ، فتشاغلت بالنظر إليها وأعجبتني، وطال جلوسي ثم استحييت من علية، فأقبلت عليها فقلت لها: كيف أنت وكيف حالك جسمك «3» جعلت فداك؟ فرفعت رأسها إلى حاضنة لها وقالت: أليس قد مضى هذا وأجبنا عنه؟ فخجلت خجلا ما خجلت مثله قط، وقمت وانصرفت. قال محمد بن جعفر بن يحيى: شهدت أبي جعفرا وأنا صغير، وهو يحدث أباه يحيى بن خالد في بعض ما كان يخبره به من خلواته مع الرشيد، فقال: يا أبت، أخذ بيدي أمير المؤمنين، ثم أقبل في حجرة يخترقها حتى انتهى إلى حجرة مغلقة، ففتحها بيده ودخلنا جميعا، فأغلقها من داخل بيده، ثم صرنا إلى رواق ففتحه، وفي صدره مجلس مغلق، فقعد على باب المجلس، فنقر الباب [ص 208] فسمعنا حسنا، ثم أعاد النقر، فسمعنا صوت عود، ثم أعاد الثالثة

فغنت جارية ما ظننت أن الله تعالى خلق مثلها في حسن الغناء، وجودة الضرب، فقال أمير المؤمنين لها بعد أن غنت أصواتا: غني صوتي، فغنت «1» : [الكامل] ومخنث شهد الزفاف وقبله ... غنى الجواري حاسرا ومنقبا لبس الدلال وقام ينقر دفه ... نقرا أقر به العيون وأطربا إن النساء رأينه فعشقنه ... فشكون شدة ما بهن فأكذبا «2» قال: فطربت والله طربا هممت معه أن أنطح برأسي الحائط، ثم قال: غنني، فغنت: «3» [المديد] طال تكذيبي وتصديقي ... لم أجد عهدا لمخلوق لا تراني بعدهم أبدا ... أشتكي عشقا لمعشوق قال: فرقص الرشيد ورقصت معه، ثم قال: امض بنا فإنني أخشى أن يبدو منا ما هو أكثر من هذا، فمضينا فلما صرنا إلى الدهليز، قال: وهو قابض على يدي: عرفت هذه المرأة؟ قلت: لا يا أمير المؤمنين، قال: فإني أعلمك ستسأل عنها فلا تكتم ذلك، وأنا أخبرك بها، هذه علية بنت المهدي، وو الله لئن لفظت به بين يدي أحد وبلغني لأقتلنك، قال: فسمعت جدي يقول له، قد والله لفظت به، وو الله لأقتلنك «4» فاصنع ما أنت صانع.

ومن شعرها في طلّ: «1» [الكامل] يا رب إني قد غرضت بهجرها ... وإليك أشكو ذاك يا رباه مولاة سوء قد تضر بعبدها ... نعم الغلام وبئست المولاه طلّ ولكني حرمت نعيمه ... وهواه إن لم يغنني الله «2» يا رب إن كانت حياتي هكذا ... ضرّا عليّ فما أحب حياه قال: ماتت علية سنة تسع ومئتين، ولها من العمر خمسون سنة، وصلى عليها المأمون، وكان سبب وفاتها أن المأمون يوما ضمها إليه وجعل يقبل رأسها، وكان وجهها مغطى، فشرقت من ذلك وسعلت ثم حمت بعقب هذا أياما يسيرة وماتت. وكانت تحب خادما لها اسمه طل فأقصاه الرشيد [ص 209] عنها خلافا لمرادها، وأقصدها من فراقها بسهم لم يخط صميم فؤادها فأبعده إلا عن موضعه من حبها، وأخرجه إلا من مكانه من قلبها، وإنما أظهرت التجلد لأجله، وأبدت التثبت خوفا أن يسبق السيف لعذله، فلم تتمكن بعد أن نفض عن ستورها سقيط طلّه إلا أن تجمع بالبكاء طلها بوبله، فبلغ الرشيد ولعها بتذكره، ودمعها الباكي على ساقط الطل في ثغر الأقحوان الضاحك، فقويت عزيمتها على الطرب، وإن كان مر المذاق، وتماسكت، وما عسى أن يتماسك المشتاق، فدخل الرشيد عليها يوما وهي تقرأ: «فإن لم يصبها وابل فطل» «3» ، فقالت: فإن لم يصبها وابل فما نهى أمير المؤمنين عنه، فقال لها: يا علية ولا في القرآن، ثم أذن له فيما بعد أن يكون بمكانه من بابها في جملة الخدم، ولا يتأخر عنهم ولا

يتقدم، فكان على ذلك وهي أشدّ ما كانت به ولوعا، وإليه نزوعا، تتشكى الظمأ، ولا ترى الماء إلا ممنوعا «1» ، ومضت عليها أيام لا تراه، فمشت على ميزاب مخاطرة في هواه، فلما وصلت إليه أنشدت من حرقتها عليه: «2» [الكامل] قد كان من كلّفته زمنا ... يا طل من وجد بكم يكفي حتى أتيتك زائرا عجلا ... أمشي إلى حتفي على حتفي وقالت في طل وصحفت اسمه: «3» [الطويل] أيا سروة البستان طال تشوقي ... فهل لي إلى ظل إليك سبيل متى يلتقي من ليس يقضى خروجه ... وليس لمن يهوى إليه سبيل وكانت لأم جعفر جارية يقال لها طغيان، فوشت بعلية إلى رشأ وقالت عنها ما لم تقل، فقالت علية فيها: «4» [الطويل] لطغيان خف مذ ثلاثين حجة ... جديد فلا يبلى ولا يتخرّق وكيف بلى خف هو الدهر كله ... على قدميها في السماء معلق فما خرقت خفا ولم تبل جوربا ... وأما سراويلاتها فتمزق ومن شعرها وقولها: «5» [ص 210] [المديد] نام عذالي ولم أنم ... واشتفى الواشون من سقمي وإذا ما قلت بي ألم ... شك من أهواه في ألمي

وقولها وقد خرجت مع أخيها الرشيد: «1» [الطويل] ومغترب بالمرج يبكي لشجوه ... وقد غاب عنه المسعدون على الحب «2» إذا ما أتاه الركب من نحو أرضه ... تنشق يستشفي برائحة الركب وقولها: «3» [الطويل] وأحسن أيام الهوى يومك الذي ... تروع بالهجران فيه وبالعتب ومنه قولها: «4» [مجزوء الكامل] اشرب على وجه الغزال ... الناعم الحلو الدلال «5» اشرب عليه وقل له ... يا غلّ ألباب الرجال وقولها: «6» [مجزوء الرجز] منفصل عني وما ... قلبي عنه منفصل يا قاطعي اليوم لمن ... نويت بعدي أن تصل؟

70 - ومنهم - أبو عيسى

70- ومنهم- أبو عيسى «1» الزبير «2» علمه الغناء والفراغ، وظفر الاعتناء منه بما يراغ «3» ، ولم يرعه من صنعة هذه الصنعة شرف أبيه، وشره مثله إلى ما يعليه، ونزوع نفسه إلى التشبه بأخويه، والتشبث بما كان يؤمل أن يصير إليه. وإنما أعجزه؟ على غرة شبابه عمه إبراهيم فخلّط عليه، وكان ذا جمال لا يدع لذي حسن نفاقا، وكمال يدير «4» عليه من حذق نطاقا. قال الأصفهاني: ومن شعره وله فيه صنعة: «5» [مجزوء الرجز] قام بقلبي وقعد ... ظبي نفى عني الجلد خلفني مدلها ... أهيم في كل بلد أسهرني ثم رقد ... ومارثى لي من كمد ظبي إذا ازددت له ... تذللا تاه وصد [ص 211] واعطشا إلى فم ... يمج خمرا من برد وكان يقال: انتهى جمال ولد الخلافة إلى أولاد الرشيد، ومن اولاد الرشيد إلى محمد وأبي عيسى [وكان أبو عيسى] إذا عزم على الركوب جلس الناس له حتى يروه، اكثر مما كانوا يجلسون للخلفاء. قال الرشيد لأبي عيسى وهو صبي: ليت جمالك لعبد الله (يعني المأمون) فقال: على أن حظه منك لي، فعجب من جوابه على صباه وضمه إليه وقبله.

ولما قال [أبو] عيسى: «1» [الطويل] دهاني شهر الصوم لا كان من شهر ... ولا صمت شهرا بعده آخر الدهر فلو كان يعديني الإمام بقدرة ... على الشهر لا ستعديت جهدي على الشهر ناله بعقب قوله لهذا الشعر صرع، فكان يصرع في اليوم مرات، ولم يبلغ شهرا مثله. قال ابن حمدون: قلت لإبراهيم بن المهدي: من أحسن الناس غناء؟ قال: أنا، قلت: ثم من؟ قال: أبو عيسى بن الرشيد، قلت: ثم من؟ قال مخارق. قال: كان أبو عيسى بن الرشيد وطاهر بن الرشيد يتغديان مع المأمون. فأخذ أبو عيسى هندباءة «2» وغمسها في الخل، وضرب بها عين طاهر الصحيحة، فغضب وقال: يا أمير المؤمنين: إحدى عيني ذاهبة، والأخرى على يدي عدل، يفعل بي هذا بين يديك؟ فقال المأمون: يا أبا الطيب، إنه والله يعبث معي أكثر من هذا العبث. قيل: كان المأمون يخطب يوم جمعة على المنبر بالرصافة، وأخوه أبو عيسى تلقاء وجهه في المقصورة، إذ أقبل يعقوب بن المهدي، وكان من أفسى الناس، معروفا بذلك، فلما أقبل وضع أبو عيسى كمه على أنفه، وفهم المأمون ما أراد، فكاد أن يضحك، فلما انصرف بعث إلى أبي عيسى فأحضره وقال: والله لهممت أن ابطحك فأضربك مئة درة «3» ، ويلك أردت أن تفضحني بين أيدي

الناس يوم الجمعة وأنا على المنبر، إياك أن تعود لمثل هذا، وكان يعقوب بن المهدي لا يقدر أن يمسك الفساء إذا جاءه، فاتخذت له داية مثلثة «1» [ص 212] وطيبتها وتنوقت فيها، فلما وضعتها تحته [فسا] ، فقال: هذه ليست بطيبة، [فقالت له الداية هذه قد كانت طيبة] وهي مثلثة، فلما ربعتها فسدت. قال: وكان يعقوب هذا محمّقا، وكان يخطر بباله الشيء يشتهيه، ثم يثبت تحته ليس عندنا، فوجد في دفتر له ثبت ما في الخزانة من الثياب المثقلة الإسكندرانية، لا شيء، الفصوص الياقوت الأحمر من حالها كذا ومن نعتها كذا: لا شيء، فحمل إلى المأمون ذلك الدفتر فضحك لما قرأه حتى فحص برجليه وقال: ما سمعت بمثل هذا قط. قال عمرو بن سعيد: لما مات أبو عيسى بن الرشيد وجد عليه المأمون وجدا شديدا، حتى امتنع من النوم ولم يطعم شيئا، فدخل عليه أبو العتاهية، فقال له المأمون: حدثني بحديث بعض الملوك ممن كان قبلنا في مثل بعض حالنا وفارقها، فحكى له حكاية الجارية التي أخبر سليمان بن عبد الملك أنها عرضت له وهو خارج إلى الجمعة، وأنشدته: «2» [الخفيف] أنت خير المتاع لو كنت تبقى البيتان وأنه أعرض بوجهه، فلم تدر عليه الجمعة إلا وهو تحت التراب.

71 - علويه

قال: فبكى المأمون والناس، فما رأيت أكثر باكيا من ذلك اليوم، والبيتان لموسى شهوات. ومن شعر أبي موسى وله فيه صنعة: «1» [مجزوء الخفيف] رقدت عنك سلوتي ... والهوى ليس يرقد وأطار السهاد نو ... مي فنومي مسهد أنت بالحسن منك يا ... أحسن الناس تشهد وفؤادي بحسن وج ... هك يشقى ويكمد 71- علّويه «2» كوكب أفق وسحب أنواء دفق، توقل «3» منارا، وتوقد شجره الأخضر نارا، صنع غرائب الألحان، وظهر بعجائب الامتحان، وأدنته مجالس الخلفاء، وأدنته «4» بالزيادة على الأكفاء وحلت له عقدة الحظ، وعقلة الزمن الفظ، فباء بالنعم الوافرة، وآب بالآمال النافرة، وراد معاندة خاسر [ص 213] الصفقة، حاسي الرفقة، لا يضم رجاؤه على النجاح كشحا، ولا تأتيه دقائق الرزق إلا رشحا. قال أبو الفرج، قال أبو عبيد الله بن حمدون، حدثني أبي قال: اجتمعت مع إسحاق يوما في بعض دور بني هاشم، وحضر علويه فغنى أصواتا، ثم غنى من

صنعته: «1» [الطويل] ونبئت ليلى أرسلت بشفاعة ... إلي فهلا وجه ليلى شفيعها فقال له: أحسنت والله يا أبا الحسن ما شئت، فقام علويه من مجلسه فقبل رأس إسحاق وجلس بين يديه، وسر بقوله سرورا شديدا، ثم قال له: أنت سيدي وأستاذي، ولي إليك حاجة، قال: قل فو الله إني أبلغ فيها ما تحب، فقال: أيما أفضل أنا عندك أم مخارق فإني أحب أن يسمع منك في هذا المعنى قول يؤثر ويحكيه عنك من حضر، فتشرفني به، قال إسحاق: ما منكما إلا محسن مجمل، ولا نريد أن يجري في هذا شيء، قال: سألتك بحقي عليك وبتربة أبيك، وبكل حق تعظمه إلا ما حكمت، فقال: ويحك لو كنت أستجيز أن أقول غير الحق لقلته فيما تحب، فأما إذ أبيت إلا ذكر ما عندي، فلو خيرت أنا من يطارح جواري أو يغنّيني، لما اخترت غيرك، ولكنكما إذا غنيتما بين يدي خليفة أو أمير، غلبك على إطرابه، واستبد عليك بجائزته، فغضب علويه، وقام وقال: أفّ من رضاك، وأف من غضبك. قال عبد الله بن طاهر، سمعت الواثق يقول: علويه أصح الناس صنعة بعد إسحاق، وأطيب الناس صوتا بعد مخارق، وأضرب الناس بعد زلزل «2» ، فهو مصلي «3» كل سابق ناذر «4» ، وثاني كل أول فاضل. قال: وكان الواثق يقول: غناء علويه مثل نقر الطست يبقى ساعة في السمع بعد سكونه. وكان علويه أعسر، وكان عوده مقلوب الأوتار، البم أسفل، ثم المثلث فوقه،

ثم المثنى ثم الزير، فيكون مستويا على يده، مقلوبا في يد غيره. قال: غنى علويه يوما بين يدي الأمين «1» : [ص 214] [الرمل] ليت هندا أنجزتنا ما تعد ... وشفت أنفسنا مما تجد وكان الفضل بن الربيع يضطغن عليه شيئا، فقال للأمين: إنما يعرض بك ويحرض المأمون، ويستبطئ محاربته إياك، فأمر به فضرب خمسين سوطا «2» وجر برجله حتى أخرج، وجفاه مدة، فلما قدم المأمون، تقرب إليه بذلك، فلم يقع له بحيث يحب، وقال له: إن الملوك بمنزلة الأسد والنار فلا تتعرض لما يغضبه، فإنه ربما جرى منه ما يتلفك، ثم لا تقدر بعد ذلك على تلافي ما فرط منه، ولم يعطه شيئا. ومثل هذا من «3» فعل الأمين ما حكاه إسحاق قال: دخلت يوما على الأمين فرأيته مغضبا كالحا، فقلت: ما للأمير تمم الله سروره ولا نغصه إياه كالخاثر، فقال: غاظني أبوك الساعة، والله لو كان حيا لضربته خمس مئة سوط، ولولاك لنبشت الساعة قبره وأحرقت عظامه، فقمت على رجلي وقلت: أعوذ بالله من سخطك يا أمير المؤمنين، ومن أبي وما مقداره حتى تغتاظ منه، وما الذي غاظك، فلعل له عذرا فيه، فقال: شدة محبته المأمون، وتقديمه إياه عليّ قال في الرشيد شعرا يقدمه علي وغناه فيه، وغنيته الساعة فأورثني هذا الغيظ، فقلت: والله ما سمعت بهذا قط، ولا لأبي غناء إلا وأنا أرويه، ما هو؟ «4» فقال قوله: «5»

[الوافر] أبو المأمون فينا والأمين ... له كنفان من كرم ولين فقلت له: لم يقدم المأمون هذا لتقديمه إياه في الموالاة، ولكن الشعر لم يصح وزنه إلا هكذا، فقال: وكان ينبغي له إذا لم يصح وزنه إلا هكذا أن يدعه إلى لعنة الله، قال: فلم أزل أرفق به إلى أن سكن، فلما قدم المأمون سألني عن هذا الحديث، فحدثته به فجعل يضحك ويتعجب منه. قال أحمد بن يحيى المكي: دخلت على علويه أعيده من علة اعتلها، فجرى حديث المأمون، فقال: علم الله كدت أذهب ذات يوم وأنا معه، لولا أن الله عز وجل سلمني ووهب [ص 215] لي حكمة، فقلت كيف كان ذاك؟ قال: كنت معه لما خرج إلى الشام، فدخلنا دمشق وجعل يطوف على قصور بني أمية، فدخلنا صحنا «1» ، فإذا هو مفروش بالديباج والرخام الأخضر، وفيه بركة ماء يدخلها ويخرج منها من عين تصب إليها، وفي البركة سمك، وبين يديها بستان، وعلى أربع زواياها أربع سروات «2» ، كأنها قصت بمقراض من التفافها أحسن ما رأيت قط من السرو قدا، فاستحسن ذلك وعزم على الصبوح «3» ، وقال: هاتوا لي الساعة طعاما خفيفا، فأتي ببزماورد «4» فأكله، ودعا بالشراب، وأقبل علي فقال: غنني ونشطني، فكأن الله عز وجل أنساني الغناء «5» [كله إلا

هذا الصوت: «1» [المنسرح] لو كان حولي بني أمية لم ... تنطق رجال أراهم نطقوا] فنظر إلي مغضبا وقال: عليك وعلى بني أمية لعنة الله، ويلك، قلت لك سؤني أو سرّني، ألم يكن لك وقت تذكر فيه بني أمية إلا هذا الوقت تعرض بي، فتحيلت عليه وعلمت أني قد أخطأت، فقلت: أتلومني على أن أذكر بني أمية، هذا مولاكم زرياب «2» عندهم «3» يركب في مئتي غلام له، ويملك ثلاث مئة ألف دينار، وهبوها له، سوى الخيل والضياع والرقيق، وأنا عندكم أموت جوعا!! قال: أو لم يكن لك شيء تذكرني به نفسك غير هذا؟ فقلت: هكذا خطر لي حين ذكرتهم، قال: اعدل عن هذا ونبه على إرادتي، فأنساني الله كل شيء أحسنه إلا هذا الصوت: «4» [الكامل] الحين ساق إلى دمشق وما ... كانت دمشق لأهلها بلدا فرماني بالقدح فأخطأني، وانكسر القدح، وقال: قم عني إلى لعنة الله وحر سقر، وقام فركب، فكانت والله تلك الحالة آخر عهدي به، حتى مرض ومات. قال: ثم قال لي علويه: يا أبا جعفر، كم تراني أحسن، أغني ثلاثة آلاف صوت أربعة آلاف صوت؟ خمسة آلاف صوت؟ أنا والله أغني أكثر من ذلك، ذهب

والله كله عني، حتى كأني لم اعرف غير ما غنيت، ولقد ظننت أن لو كان لي ألف روح، ما نجت منها واحدة، ولكنه كان رجلا حليما. قال: وغنى يوما علويه بحضرة الرشيد: «1» [ص 216] [الكامل] وأرى الغواني لا يواصلن امرأ ... فقد الشباب وقد يصلن الأمردا فدعابه الرشيد وقال: يا عاض بظر أمه، تغني في مدح المرد وتذم الشيب، وستارتي منصوبة وقد شبت، كأنك إنما تعرض بي، ثم دعا بمسرور فأمره أن يأخذ بيده فيضربه مئة «2» درة، ولا يرد إلى مجلسه، ففعل ذلك به، ولم ينتفع الرشيد يومئذ بنفسه. قال: دخل علويه يوما على إبراهيم بن المهدي، فقال له إبراهيم: ما الذي أحدثت بعدي من الصنعة يا أبا الحسن؟ قال: صنعت صوتين، قال فهاتهما إذا، فغناه: «3» [الطويل] ألا إن لي نفسين نفسا تقول لي ... تمتع بليلى ما بدا لك لينها ونفسا تقول استبق ودك واتئد ... ونفسك لا تطرح على من يهينها قال: فكاد إبراهيم أن يموت من حسده، وتغير لونه، ولم يدر ما يقول له، لأنه لم يجد في الصوت مطعنا، فعدل عن الكلام في هذا المعنى، وقال له: هذا يدل على أن ليلى هذه كانت من لينها مثل الموم «4» بدهن البنفسج، ثم سأله عن

72 - ومنهم - مخارق

الصوت الآخر [فغناه] : [الطويل] «1» إذا كان لي شيئان يا أم مالك ... فإن لجاري منهما ما تخيرا وفي واحد إن لم يكن غير واحد ... أراه له أهلا إذا كان مقترا قال: فكاد إبراهيم أن يموت حسدا له، قال: وإن كان لك امرأتان يا أبا الحسن، حبوت جارك بواحدة، فخجل علويه وما نطق بحرف بقية يومه. 72- ومنهم- مخارق «2» نبعة لا يقاتل بغرب، ولا يقابل في طرب، أتى في الغناء بكل خارق، وواتى ضربه إيماض كل شارق، وزاحم في مجالس الخلفاء، ووقف والقوم جثيّ على الركب، وقام بحصائد لسانه، وكل واحد به نكب، وكان زبدة تلك الحلبة، ودرّة تلك الجلبة، وأسرع الكل اقتباسا [ص 217] وأبرع نطقا لا يعرف احتباسا، ولهذا كان لا يعدل بأحد، ولا يعد معه من إذا خول النعمة جحد. قال أبو الفرج: لما صار مخارق للرشيد كان يقف بين يديه ويغني وهو واقف، فغنى ذات يوم ابن جامع: «3» [البسيط]

كأن نيراننا في جنب قلعتهم ... مصبغات على أرسان قصّار «1» هوت هرقلة لما أن رأت عجبا ... حمائما ترتمي بالنفط والنار «2» فطرب الرشيد واستعاده عدة مرات، وهو شعر مدح به الرشيد في فتح هرقلة، فأقبل الرشيد على ابن جامع، وقال له: أحسنت أحسنت، فغمز مخارق إبراهيم الموصلي بعينيه وتقدمه إلى الخلاء «3» ، فلما جاء قال له: مالي اراك منكسرا، قال: أما ترى إقبال أمير المؤمنين على ابن جامع بسبب هذا الصوت، فقال له مخارق: قد والله أخذته، فقال: ويحك إنه الرشيد، وابن جامع من تعلم، ولا يمكن معارضته الا بما يزيد على غنائه، وإلا فهو الموت، فقال: دعني وخلاك ذم، وعرّفه أني أغني به، فإن أحسنت فإليك ينسب إحساني، وأن اسأت فعلي يعود اللوم، قال: صدقت وعاد إلى موضعه، ثم قال: يا أمير المؤمنين، أراك معجبا بهذا الصوت فوق ما يستحقه ويستوجبه، قال: فلقد أحسن فيه ابن جامع ما شاء، قال: أو لابن جامع هو؟ قال: نعم هكذا ذكر، قال: فإن عبدك مخارقا يغنيه غناء أحسن من هذا وأطيب، فنظر إلى مخارق وقال: تغنيه؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، قال: هاته، فغناه وتحفظ فيه، فأتى بالعجائب، فطرب الرشيد حتى كاد يطير فرحا، وشرب، ثم أقبل على ابن جامع فقال: ويلك، ما هذا! فابتدأ يحلف له بالطلاق وكل محرجة أنه لم يسمع ذلك الصوت قط إلا

منه، ولا صنعه غيره، وأنها حيلة تمت عليه، فأقبل على إبراهيم، وقال: اصدقني بحياتي، فصدقه في قصة مخارق، قال: نعم يا مولاي، قال: اجلس إذا مع أصحابك، فقد تجاوزت مرتبة من يقوم، فأعتقه ووصله بثلاثة آلاف دينار وأقطعه [ضيعة] ومنزلا. قال الحسين بن الضحاك: حدثني مخارق [ص 218] أن الرشيد قال يوما وهو مصطبح لجماعة من المغنين: من منكم يغني هذا الصوت «1» : [البسيط] يا ربع سلمى لقد هيجت لي طربا ... زدت الفؤاد على علاته وصبا فقمت وقلت: أنا يا أمير المؤمنين، فقال: هاته، فغنيته فطرب وشرب وقال: علي بهرثمة «2» ، فقلت في نفسي: ما يريد منه، فجاؤوا به فأدخل إليه وهو يجر سيفه، فقال: يا هرثمة، مخارق الشاري الذي قتلناه في ناحية الموصل، ما كانت كنيته؟ قال: أبو المهنا، قال: فانصرف، ثم أقبل علي بوجهه وقال: قد كنيتك أبا المهنا لإحسانك، وأمر له بمائة ألف درهم. قال: كان الواثق يقول: أتريدون أن تعرفوا فضل مخارق على جميع أصحابه، انظروا إلى هؤلاء الغلمان الذين يقفون في السماط، فكانوا يتفقدونهم وهم وقوف وكلهم يستمع الغناء من المغنين جميعا وهو واقف مكانه ضابط لنفسه،

فإذا غنى مخارق خرجوا من صورهم، فتغيرت وجوههم وتحركت ارجلهم ومناكبهم، وظهرت أسباب الطرب فيهم، وازدحموا على الحبل الذي يقفون من ورائه. قال: سمع إبراهيم الموصلي يوما مخارقا يغني وهو صغير، فقال له: نعم الفسيلة غرس إبليس منك في الأرض. قال هارون بن محمد بن هشام: دعانا مخارق يوما فأطعمنا جزورية، وجلسنا نشرب، فإذا نحن بامرأة تصيح: يا أبا المهنا، الله الله في، حلف زوجي بالطلاق أن يسمع غناءك ويشرب عليه، قال: اذهبي فجيئي به، فجاء فجلس، فقال له: ما حملك على ما صنعت، قال: يا سيدي، كنت سمعت صوتا من صنعتك فطربت عليه حتى استخفني الطرب، فحلفت أن أسمعه منك، ثقة بك، وكانت زوجته داية هارون بن مخارق، فقال له: ما الصوت؟ فقال: «1» [الكامل] بكرت علي فهيجت وجدا ... هوج الرياح وأذكرت نجدا أتحن من شوق إذا ذكرت ... نجد وأنت تركتها عمدا [ص 219] فغناه إياه وسقاه رطلا وأمره بالانصراف، وقال له: احذر أن تعاود فانصرف، فلم يلبث أن جاءت المرأة وعاودت الصياح، وهي تقول: يا سيدي، قد عاود اليمين، الله الله فيّ وفي أولادي، فقال: هاتيه، فأحضرته، فقال لها: انصرفي أنت، فإن هذا كلما انصرف حلف وعاود، فدعيه يقيم عندنا اليوم، فتركته وانصرفت، فقال له مخارق: ما قصتك؟ قال: رجل طروب، وكنت سمعت صوتا من صنعتك فاستخفني الطرب حتى حلفت أن أسمعه منك،

قال: وما هو؟ قال: «1» [مجزوء الرمل] ألف الظبي بعادي ... ونفى عني رقادي وعدا الهجر على الوص ... ل بأسياف حداد قال: فغناه إياه وسقاه رطلا، ثم قال: يا غلام، ائتني بمقارع، فجيء بها، فأمر بالرجل فبطح وضربه خمسين مقرعة وهو يستغيث ولا يكلمه، ثم قال له: احلف بالطلاق أنك لا تذكرني أبدا، وإلا كان هذا دأبك إلى الليل، فحلف بالطلاق ثلاثا على ما أمره به، ثم أخرج، فجعلنا نضحك بقية يومنا من حمقه، وما أصاب الرجل. قال: كان مخارق ممن إذا تنفس أطرب «2» من يسمع نفسه. قال: خرج مخارق مع بعض إخوانه إلى بعض المتنزهات، فنظر إلى قوس مذهبة مع بعض من خرج معه، فسأله أن يهبها له، فضن المسئول [بها] ، قال: وسنحت ظباء بالقرب منه فقال مخارق: أرأيت إن غنيت صوتا فعطفت به عليك خدود الظباء أتدفع لي هذه الأقواس؟ قال: نعم والله، فاندفع مخارق يغني: «3» [المجتث] ماذا تقول الظباء ... أفرقة ام لقاء أم عهدها بسليمى ... وفي البيان شفاء مرت بنا سانحات ... وقد بدا الإمساء فما أحارت جوابا ... وطال فيها العناء

قال: فعطفت الظباء راجعة إليه حتى وقفت بالقرب منه مستشرفة تنظر إليه، ومصغية تسمع صوته، فعجب من حضر من رجوعها ووقوفها، وناوله الرجل [ص 220] القوس فأخذها، وقطع الغناء فعاودت الظباء نفارها، ومضت راجعة إلى سننها. قال بعض أصدقاء مخارق: ركبت معه مرة في طيّار «1» ليلا وهو سكران، فلما توسط دجلة اندفع بأعلى صوته، فما بقي أحد في الطيّار من ملاح أو غلام أو خادم إلا بكى من رقة صوته، ورأيت الشمع والسرج «2» من جانبي دجلة في صحون القصور والدور يتساعون «3» بين يدي أهلها يسمعون غناءه. قال هبة الله بن إبراهيم بن المهدي: غنت شارية يوما بحضرة أبي صوتا، فأحد النظر إليها وقال لها أمسكي، فأمسكت، فقال: عرفت إلى أي شيء ذهبت، أردت أن تتشبهي بمخارق في تزايده. [قالت: نعم يا سيدي قال: إياك ثم] إياك أن تعودي، فإن مخارقا خلقه الله وحده في طبعه وصوته ونفسه، يتصرف في ذلك أجمع حيث يحب، ولا يلحقه أحد، قد أراد غيرك أن يتشبه به في هذه الحال فهلك وافتضح ولم يلحقه، فلا أسمعنّك تتعرضين لهذا بعد هذا الوقت. قال مخارق، ودعا أمير المؤمنين محمد الامين يوما، وقد اصطبح، فاقترح علي: [البسيط] استقبلت ورق الريحان تقطفه ... وعنبر الهند والوردية الجددا

ألست تعرفني في الحي جارية ... ولم أخنك ولم ترفع إليّ يدا فغنيته إياه، فطرب طربا شديدا، وشرب عليه ثلاثة أرطال، وأمر لي بألف دينار، وخلع علي جبة وشي كانت عليه مذهبة ودراعة «1» مثلها وعمامة مثلها، فما لبست ذلك وراه عليّ ندم، وكان كثيرا ما يفعل ذلك، فقال لبعض الخدم: قل للطباخ يأتينا بمصلية «2» معقودة الساعة، فأتينا بها، فقال: كل معي، فامتنعت لما أعرفه من كراهيته، فحلف أن آكل معه، فحين أدخلت يدي في الغضارة «3» رفع يده وقال: أفّ نغصتها والله وقذرتها بإدخالك يدك معي فيها، ثم رفس القصعة رفسة فإذا هي في حجري وودكها «4» يسيل على الخلعة حتى نفذ إلى جلدي، فقمت مبادرا فنزعتها وبعثت بها إلى منزلي، وغيرت ثيابي، وأنا مغموم بها وهو [ص 221] يضحك، فلما رجعت إلى منزلي، جمعت كل صانع حاذق فجهدوا في إخراج ذلك الأثر منها فلم يخرج، ولم أنتفع بها حتى أحرقتها وأخذت ذهبها. وضرب الدهر ضربة، ثم دعاني أمير المؤمنين المأمون يوما، فدخلت عليه وهو جالس، وبين يديه مائدة عليها رغيفان ودجاجتان «5» ، فقال لي: تعال فكل، فامتنعت، فقال لي: تعال ويلك فساعدني، فجلست وأكلت معه حتى فرغ، ووضع النبيذ ودعا علويه فجلس، وقال: يا مخارق، أتغني: «6» [الطويل]

أقول التماس العذر لما ظلمتني ... وحملتني ذنبا وما كنت مذنبا هبيني امرأ إما بريئا ظلمته ... وإما مسيئا قد أناب وأعتبا «1» فقلت: نعم يا سيدي، قال: غنه، فغنيته، فعبس في وجهي وقال: قبحك الله، أهكذا يغنى هذا؟ ثم أقبل على علويه فقال: أتغنيه، قال: نعم سيدي، قال: غنه، فغناه، فو الله ما قاربني فيه، فقال: أحسنت والله، وشرب رطلا واستعاده ثلاثا، ثم شرب عليه ثلاثة أرطال، وأعطاه كل مرة يعيده عشرة آلاف درهم، ثم خذف «2» بإصبعه وقال: برق يمان، وكان إذا أراد قطع الشراب فعل ذلك، وقمنا فعلمت من أين أتيت. ولما كان بعد أيام دعاني «3» فدخلت وهو جالس في ذلك الموضع يأكل، فقال لي: تعال يا مخارق، فقلت لا والله يا سيدي ما أقدر على ذلك، فقال: تعال ويلك أتراني [بخيلا] على الطعام لا والله، ولكني أردت أن أؤدبك، أن السادة لا ينبغي لعبيدها ان تؤاكلها، أفهمت؟ قلت: نعم، قال: فتعال الآن وكل على الأمان، فقلت: إذا أكون أول من أضاع تأديبك أياه، واستحق العقوبة من قرب، فضحك حتى استغرق، وأمر لي بألف دينار، فمضيت إلى حجرتي المرسومة في الخدمة، وأتيت بطعام فأكلت، ووضع النبيذ، فدعاني ودعا علويه، فلما جلسنا قال: يا علي أتغني: «4» [البسيط] الم تقولي نعم قالت أرى وهما ... مني وهل يؤخذ الإنسان بالوهم

73 - عريب جارية المأمون

فقال: نعم يا سيدي، قال: هاته، فغناه، فعبس في وجهه وبسر «1» ثم أقبل علي [ص 222] وقال: أتغنيه يا مخارق؟ فقلت: نعم يا سيدي، وعلمت أنه أراد أن يستقيد لي «2» من علويه ويرفع مني، وإلا فما أتى فيه علويه لا يعاب به، فغنيت فطرب وشرب، وأمر لي بعشرة آلاف درهم، وفعل بي ذلك ثلاث دفعات، كما فعل به، ثم أمر بالانصراف فانصرفنا، وما عاودت بعد ذلك مؤاكلة خليفة إلى وقتنا هذا. قال حج رجل مع مخارق، فلما قضيا الحج وعادا، قال الرجل، بحقي عليك غنني صوتا، فغنى: «3» [الطويل] رحلنا فشرّقنا وراحوا فغرّبوا ... وفاضت لروعات الفراق عيون فرفع الرجل يده إلى السماء وقال: اللهم إني أشهدك أني قد وهبت حجتي له. وتوفي مخارق في أول خلافة المتوكل، وقيل: بل في آخر خلافة الواثق، وذكر ابن خرداذبة أنه كان أكل قرنبيطيّة باردة فقتلته من يومه. 73- عريب جارية المأمون «4» وهي التي تحفظ أخبارها، ولا يقاس عليها، ولا يقال عن أحد فيكون بالنسبة

إليها، وكانت أنفذ من السهام إلى أغراضها «1» وأطيب من زوال السقام لأمراضها، غلب معها المأمون وسرت إلى هواها سرى الأمون، وكانت لا تتحاشى، ولا ترى لها بغير أن تعاشر انتعاشا، وكانت ذات فنون ومحاسن كما في الظنون، وبديهة تتوقد، وميامن كأنها الفرقد. ذكرها أبو الفرج الأصفهاني وقال، قال: دخل أبو عبيد الله الحسامي على المعتز، وعريب تغني فقال: يا بن هشام غن، فقلت: تبت من الغناء مذ قتل سيدي المتوكل، فقالت له عريب: قد والله أحسنت حيث تبت فإن غناءك كان لا متقنا ولا صحيحا ولا مطربا، فأضحكت أهل المجلس منه وخجل. وكانت عريب مولدة في دار جعفر بن يحيى، وقيل إن أمها كانت تسمى فاطمة، وإن جعفرا تزوجها سرا وأسكنها دارا، ووكل بها من يحفظها، وكان يتردد إليها، فولدت عريبا في إحدى وثمانين ومئة، وعاشت ستا وسبعين [ص 223] سنة. قال: وماتت أم عريب في حياة جعفر بن يحيى، فدفعها إلى امرأة نصرانية وجعلها داية لها، فلما حدثت الحادثة بالبرامكة باعتها من شنين «2» النخاس، فباعها من عبد الله بن إسماعيل المراكبي، ثم باعها فاشتراها المأمون بخمسين ألف درهم. قال الفضل بن مروان: كنت إذا نظرت إلى قدمي عريب «3» شبهتها بقدمي جعفر

ابن يحيى. قال: وذكرت بلاغتها لبعض الكتاب فقال: وما يمنعها من ذلك وهي بنت جعفر ابن يحيى. قال أبو العنبس بن حمدون، حدثني أبي قال: دخلنا على عريب يوما مسلمين، فقالت: أقيموا اليوم عندي حتى أطعمكم لوزينجه «1» صنعتها بدعة بيدها من لوز رطب، وأغنيكم أنا وهي، قال: فقلت لها: على شريطة، قالت: وما هي؟ قلت: شيء أريد أن أسألك عنه وأنا أهابك، قالت: ذاك إليك وأنا أقدم الجواب قبل أن تسأل، تريد أن تسألني عن شرطي أي شيء هو، فقلت: والله ذلك الذي أردت، قالت: شرطي أير صلب ونكهة طيبة، فإن انضاف إلى ذلك حسن وجمال زاد قدره عندي، وإلا فهذا ما لا بد منه. قال: عتب المأمون على عريب بهجرها أياما ثم اعتلت فعادها، فقال لها: كيف وجدت طعم الهجر، فقالت: يا أمير المؤمنين، لولا مرارة الهجر ما عرفت حلاوة الوصل، ومن ذم بدء الغضب، أحمد عاقبة الرضا، فخرج المأمون إلى جلسائه فحدثهم ذلك، ثم قال: أترى هذا لو كان من كلام [النظام] «2» ألم يكن كبيرا. قال: وكانت عريب تهوى محمد بن حامد، فكتب إليها: أخاف على نفسي، فكتبت إليه «3» [المتقارب]

إذا كنت تحذر ما تحذر ... وتزعم أنك لا تجسر فما لي أقيم على صبوتي ... ويوم لقائك لا يقدر فصار إليها من وقته واصطلحا، واقام عندها يومه قال [ص 224] ابن حمدون: ركبت ليلة في حاجة للمأمون، فإذا أنا بصوت حافر، ووافت برقة فأضاء لها وجه الراكب، فإذا عريب، فقلت: عريب: قالت: نعم، ابن حمدون؟ قلت: نعم، ثم قلت لها: من أين أقبلت في هذا الوقت؟ قالت: يا تكش «1» ! عريب في مثل هذا الوقت من عند محمد بن حامد خارجة من مضرب الخليفة وراجعة إليه، تقول أي شيء عملت عنده؟! صليت معه التراويح، أو قرأت عليه جزءا من القرآن؟! أو دارسته شيئا من الفقه؟! يا أحمد، تحادثنا وتعاتبنا وأكلنا وشربنا ولعبنا وغنينا وتنايكنا [وانصرفنا] ، فأخجلتني وغاظتني، وافترقنا، ومضيت في حاجتي ثم عدت إلى المأمون، فأخذنا في الحديث وتناشدنا الاشعار، فهممت أن أحدثه بحديثها، ثم هبت أن أذكر ذلك، فقلت أقدم قبل ذلك تعريضا بشيء من الشعر، فأنشدته: «2» [الطويل] ألا حي أطلالا لواسعة الحبل ... ألوف تساوي صالح القوم بالرذل فلو أن من أمسى بجانب تلعة ... إلى جبلي طيّ مساقطة الحبل جلوس إلى أن يقصر الظل عندها ... أراحوا وكل القوم منها على وصل فقال لي المأمون: اخفض صوتك لا تسمع عريب فتغضب، وتظن أنك في حديثها، فأمسكت عما أردت [أن أخبره] وخار الله في ذلك.

قال اليزيدي: خرجت مع المأمون في خرجته إلى الروم، فرأيت عريب في هودج، فلما رأتني قالت: يا يزيدي: أنشدني شعرا قلته حتى أصنع فيه لحنا، فأنشدتها: «1» [الرجز] ماذا بقلبي من دوام الخفق ... إذا رأيت لمعان البرق من قبل الأردن أو دمشق ... لأن من أهوى بذاك الأفق ذاك الذي يملك مني رقي ... ولست أبغي ما حييت عتقي فلما سمعته تنفست نفسا ظننت أن ضلوعها قد تفصلت منه، فقلت: والله هذا نفس عاشق، فقالت: اسكت يا عاجز، أنا أعشق؟ والله لقد نظرت نظرة مريبة في [ص 225 مجلس فادعاها من أهل المجلس عشرون رئيسا، ما علم أحد منهم لمن كانت إلى اليوم. قال ابن حمدون: وقعت ملاحاة بين عريب وبين محمد بن حامد وشر، وكان في قلبها أكثر مما في قلبه منها، فلقيته يوما فقالت له: كيف قلبك يا محمد، قال: أشقى والله ما يكون وأقرحه، فقالت: استبدل تسل، فقال: لو كانت البلوى باختيار لفعلت، فقالت: لقد طال إذا تعبك، فقال: وما يكون؟ أصبر مكرها، اما سمعت قول العباس بن الأحنف: «2» [الكامل] تعب يطول مع الرجاء لذي الهوى ... خير له من راحة في الياس لولا كرامتكم لما عاتبتكم ... ولكنتم عندي كبعض الناس قال: فذرفت عيناها واعتذرت إليه وعاتبته، واصطلحا.

قال أحمد بن عبد الله بن إسماعيل المراكبي، قالت لي عريب: حج بي أبوك وكان مضعوفا، فكان عديلي «1» ، وكنت في طريقي أطلب الأعراب فاستنشدهم الأشعار، وأكتب عنهم النوادر، فوقف شيخ من الاعراب يسأل، فاستنشدته، فأنشدني: «2» [البسيط] يا عز هل لك في شيخ فتى أبدا ... وقد يكون شباب غير فتيان فاستحسنته، ولم أكن سمعته قبل ذلك، فاستنشدته «3» باقي الشعر فقال لي: هو يتيم، فاستملحت قوله وبررته، وحفظت البيت وغنيت فيه لحنا من الثقيل الأول، ومولاي لا يعلم بذلك لضعفه، فلما كانت عشية ذلك اليوم، قال لي: ما كان أحسن البيت الذي أنشدك الأعرابي إياه وقال لك إنه يتيم، أنشدينيه إن كنت حفظته، فأنشدته إياه وأعلمته أني قد غنيت فيه، ثم غنيته له، فوهب لي ألف درهم، وفرح بالصوت فرحا شديدا. قال أبو الخطاب العباس بن أحمد بن الفرات، حدثني أبي قال: كنا يوما عند جعفر بن المأمون نشرب، وعريب حاضرة، اذ غنى بعض من كان هناك «4» [ص 226] [الكامل] يا بدر إنك قد كسيت مشابها ... من وجه ذاك المستنير الواضح وأراك تمحص بالمحاق وحسنها ... باق على الأيام ليس ببارح «5»

فطربت عريب وصفقت ونعرت «1» ، وقالت: ما على وجه الارض من يعرف خبر هذا الصوت غيري، فلم يعرف ولم يقدر أحد منا على مسألتها عنه غيري، [فسألتها] فقالت: أنا أخبركم بقصته، ولولا أن صاحب القصة قد مات، لما أخبرتكم، إن أبا محلم قد قدم بغداد فنزل بقرب دار صالح المسكين في خان هناك، فاطلعت أم محمد على أبي محلم يوما فرأته يبول فأعجبها متاعه، فأحبت مواصلته، فجعلت لذلك علة بأن وجهت إليه تقترض منه مالا، وتعلمه أنها في ضيقة، وأنها ترده إليه بعد جمعة، فبعث إليها عشرة آلاف درهم، وحلف لها أنه لو ملك غيرها لبعث به، فاستحسنت ذلك منه وواصلته، وجعلت القرض سببا للوصلة، وكانت تدخله إليها ليلا، وكنت أنا أغني لهم، فشربنا ليلة في القمر، وجعل أبو محلم ينظر إليها، ثم دعا بدواة ورقعة، وكتب فيها: [الكامل] يا بدر إنك قد كسيت مشابها ... من وجه أم محمد ابنة صالح والبيت الآخر، وقال لي: غني فيه، ففعلت واستحسناه وشربنا عليه، فقالت لي أم محمد في آخر المجلس: يا أختي انك قد غنيت في هذا الشعر وأراه سيبقى علي فضيحة آخر الدهر، قال أبو محلم، فأنا أغيره، فجعل مكان (ام محمد ابنة صالح) ، (ذاك المستنير اللائح) ، وغنيته كما غيره، وأخذه الناس عني ولو كانت أم محمد حية، لما أخبرتكم بالخبر. قال أبو الحسن بن الفرات: كنت يوما عند أخي أبي العباس بن الفرات، وعنده عريب تغني، فقالت لأخي، وقد جرى ذكر الخلفاء: ناكني منهم ثمانية، ما اشتهيت منهم أحدا، إلا المعتز، قال ابن الفرات: فأصغيت إلى بعض بني أخي،

فقلت: كيف ترى شهوتها الساعة، فضحك من قولي، فقالت: أي شيء قلتم؟ فجحدتها، فقالت: جواري حرائر [ص 227] لئن لم تخبراني بما قلتما لأنصرفن، ولئن قلتما لي لاحذرت من شيء جرى، ولو أنها تسفيل، فصدقتها فقالت: وأي شيء في هذا، أما الشهوة فبحالها، ولكن الآلة قد ضعفت، عودوا إلى ما كنتم فيه. قال أبو عبد الله بن حمدون: زارت عريب محمد بن حامد، وجلسا جميعا فجعل يعاتبها ويقول: فعلت كذا وفعلت كذا، فقالت: يا عاجز، خذ فيما نحن فيه، واجعل سراويلي مخنقتي «1» ، والصق خلخالي بقرطي، فإذا كان غد فاكتب إلى بعتابك حتى أكتب اليك بعذري، فقد قال الشاعر: «2» [الوافر] دعي عد الذنوب إذا التقينا ... تعالي لا نعد ولا تعدي قال: اصطبح المأمون وعنده ندمان، وفيهم محمد بن جامع وجماعة من المغنين، وعريب معه على مصلاه، فأومأ محمد بن حامد إليها بقبلة، فاندفعت تغني ابتداء: «3» [الطويل] رمى ضرع ناب فاستمر بطعنة ... كحاشية البرد اليماني المسهم فقال المأمون: أمسكي، فأمسكت، ثم أقبل على الندماء فقال: من منكم أومأ إلى عريب بقبلة؟ والله لئن لم يصدقني لأضربن عنقه، فقام محمد فقال: أنا يا أمير المؤمنين أومأت إليها، والعفو أقرب للتقوى، فقال: قد عفوت عنك. فقال: [كيف] استدل أمير المؤمنين على ذلك فقال: ابتدأت صوتا وهي لا تغني

74 - إبراهيم الموصلي

ابتداء أبدا إلا لمعنى، فعلمت أنها لم تبتدئ بهذا الصوت إلا لشيء أومئ إليها به، ولم يكن من شرط هذا المعنى إيماء إلا بقبلة، فعلمت أنها أجابت بطعنة. قال: لما وقف المأمون على خبرها مع محمد بن حامد، أمر بالباسها جبة صوف وختم زيقها «1» وحبسها شهرا في كنيف «2» مظلم لا ترى الضوء، يدخل إليها خبز وملح وماء من تحت الباب، ثم ذكرها فرق لها، وامر باخراجها، فلما فتح الباب عنها وأخرجت، لم تتكلم بكلمة حتى اندفعت تغني: «3» [ص 228] [الكامل] حجبوه عن بصري فمثّل شخصه ... في القلب فهو محجب ما يحجب فبلغ المأمون ذلك، فعجب منه، وقال: لن تفلح هذه أبدا. 74- إبراهيم الموصلي «4» أصلح طرائق الغناء وسددها، وشيد شيز «5» العيدان وشددها، أغري بهذه

الصناعة حتى أتقنها، ودافع فيها الشك حتى تيقنها وولع بها والأيام «1» قد لقحت بسعادته، وحملت بحظه ساعة ولادته، حتى انتهت الليلة إلى فجرها «2» والحامل إلى شهرها، فما أجاءها المخاض حتى اغرق في السعادة، وما خاض [حتى] اتصل بالخلفاء، وحصل فوق الاكتفاء، وأثرى ثراء تضيق به الكنوز، وتضيع في معرفته الرموز، واقتنى الجواري اللاتي طلعن أقمارا، وسمعن وكان حديثهن أسمارا. قال أبو الفرج، قال ابن المنجم: كان سبب قولهم «3» الموصلي أنه لما نشأ وبلغ صحب الفتيان واشتهى الغناء فطلبه، واشتد اخواله عليه في ذلك، وبلغوا منه، فهرب إلى الموصل فأقام بها نحوا من سنة، فلما رجع إلى الكوفة، قال له إخوانه من الفتيان: مرحبا بالفتى الموصلي، فمرت عليه. قال: وأول خليفة غناه إبراهيم وسمع غناءه المهدي، وكان لا يشرب وأراد من إبراهيم ملازمته وترك الشرب، فأبى وكان يغيب عنه أياما فشرب عند موسى وهارون [فحبسه المهدي وقال] «4» لا تدخل على موسى وهارون البتة، فو الله لئن دخلت عليهما لأفعلن ولأصنعن، فقال: نعم، ثم بلغه أنه دخل عليهما وشرب معهما، وكانا مشهورين «5» بالنبيذ، فدعاه فضربه ثلاث مئة سوط، وقيده وحبسه، فأقام مدة ثم أخرجه وأحلفه بالطلاق والعتاق، وكل يمين لا فسحة له فيها، ألا يدخل على موسى وهارون أبدا، ولا يغنيهما، وخلى سبيله.

قال: فلما ولي موسى الهادي الخلافة، استتر إبراهيم منه، فكان منزله يكبس «1» في كل وقت، وأهله يروعون بطلبه، حتى أصابوه فمضوا به إليه، فلما عاينه قال: يا سيدي [فارقت] أم ولدي وأعز خلق الله علي، ثم غناه في شعره: «2» [الخفيف] يا بن خير الملوك لا تتركني ... غرضا للعدو يرمي حيالي [ص 229] فلقد في هواك فارقت أهلي ... ثم عرضت مهجتي للزوال ولقد عفت في هواك حياتي ... وتغربت بين أهلي ومالي قال إسحاق: فموّله والله الهادي وخوله «3» ، وحسبك أنه أخذ منه في يوم واحد خمسين ألف دينار، ولو عاش لنا لبنينا حيطان دارنا بالذهب والفضة. قال إسحاق: كان لأبي طعام معد أبدا في كل وقت، وذلك أنه كان له في كل يوم ثلاث شياه: واحدة مقطعة في القدور، وأخرى مسلوخة معلقة، وأخرى حية، فإذا أتاه قوم أطعموا ما في القدور، فإذا فرغ قطعت الشاة المعلقة ونصبت القدور وذبحت الحية فعلقت، وأتي بأخرى وهي حية في المطبخ، وكانت وظيفته [لطعامه] وطيبه في كل شهر ثلاثين ألف درهم سوى ما كان يجري وسوى كسوته، ولولا يقع عندنا من الجواري والودائع لإخوانه ثمانون جارية، ما فيهن واحدة الا ويجري عليها من الطعام والكسوة والطيب، ما يجري لأخص جواريه، فإذا ردت الواحدة إلى مولاها، أوصلها وكساها، ومات وما في ملكه أكثر من ثلاثة آلاف دينار، وعليه من الدين مئة ألف «4» دينار.

قال إسحاق: اشترى الرشيد من أبي جارية بستة وثلاثين ألف دينار، فأقامت عنده ليلة، ثم أرسل إلى الفضل بن الربيع يقول: إنما اشترينا هذه الجارية من إبراهيم ونحن نحسب أنها من بابتنا «1» ، فليس كما ظننا، وما قربتها، وقد ثقل علي الثمن، وبينك وبينه ما بيننا، فاذهب إليه وسله أن يحطنا من ثمنها ستة آلاف دينار، وقال: فصار إليه الفضل فاستأذن فخرج أبي إليه فتلقاه فقال: دعني من هذه الكرامة التي لا مؤونة فيها، لست ممن يحب ذلك، وقد جئتك في أمر أصدقك عنه، وخبره بالخبر كله، فقال له أبي إنما أراد أن يبلو قدرك عندي، قال: ذاك أراد، قال: فما لي عليه في المساكين صدقة، إن لم اضعفه لك، قد حططتك اثني عشر ألف دينار، فرجع إليه الفضل بالخبر فقال له: ويلك، احمل إلى هذا ماله، فما رأيت سوقة قط أنبل منه نفسا. [ص 230] قال إسحاق: وكنت قد قلت له: ما كان لحطيطة هذا المال معنى، فقال لي: يا أحمق، أنا أعرف الناس به، والله لو أخذت المال منه كاملا، ما أخذته إلا وهو كاره له، ولحقد ذلك علي، وكنت أكون عنده صغير القدر، وقد مننت عليه وعلى الفضل، فانبسطت نفسه، وعظم قدري عنده وإنما اشتريت الجارية بأربعين ألف درهم، وقد اخذت بها أربعة وعشرين ألف دينار، فلما حمل المال بلا حطيطة، دعاني فقال: كيف رأيت يا إسحاق، من البصير أنا أم أنت فقلت: بل أنت جعلني الله فداك. قال إبراهيم بن المهدي: انصرفت ليلة من الشماسية «2» ، فمررت بدار إبراهيم

الموصلي، فإذا هو في روشن، «1» وقد صنع لحنه في: «2» [الطويل] ألا رب ندمان علي دموعه ... تفيض على الخدين سحا سجومها فهو يعيده ويلعب فيه بنغمة ويكررها لتستوي له، وجواريه يضربن عليه، فوقفت تحت الروشن حتى أخذته، ثم انصرفت إلى منزلي، فما زلت أعدله حتى بلغت فيه الغاية القصوى، وأصبحت فغدوت إلى الشماسية، واجتمعنا عند الرشيد، فاندفع إبراهيم فغناه أول شيء غناه، فلما سمعه الرشيد طرب واستحسنه وشرب عليه، ثم قال: لمن هذا يا إبراهيم؟ فقال: لي يا سيدي صنعته البارحة، فقلت: كذب يا أمير المؤمنين، هذا الصوت قديم وأنا أغنيه، فقال: غنه يا حبيبي، فغنيته كما غناه إبراهيم، فبهت إبراهيم وغضب الرشيد وقال: يا ابن الفاجرة! أتكذبني وتدعي ما ليس لك؟ قال: فظل «3» إبراهيم بأسوإ حال، فلما صليت العصر، قلت للرشيد: الصوت وحياتك له، ولكنني مررت [به] البارحة وهو يردده وجوار يضربن عليه، فوقفت تحت روشنه حتى حفظته. قال إسحاق، قال ابن جامع يوما لأبي: رأيت في منامي كأني وإياك راكبان في محمل، فسفلت حتى كدت تلصق بالأرض، وعلا الشق الذي أنا فيه، فلأعلونك في الغناء، قال أبي: الرؤيا حق والتأويل باطل [ص 231] إني وإياك كنا في ميزان فرجحت بي وشالت كفتك، وعلوت ولصقت أنا بالأرض، فلأبقين بعدك ولتموتن قبلي، قال إسحاق: فكان كما قال أبي، علا عليه «4» وأفاد من أكثر فوائده، ومات ابن جامع قبله، وعاش أبي بعده.

قال مخارق: اشتغل الرشيد يوما واصطبح مع الحرم، وقد أصبحت السماء مغيمة، فقلت والله لأذهبن إلى أستاذي إبراهيم فأعرف خبره، فجئت فدخلت عليه وهو في رواق له، وبين يديه قدور تغرغر «1» ، وقناني تزهر، والستارة منصوبة، والجواري خلفها، وبين يديه صينية فيها رطلية وكوز وكأس، فقلت: ما بال الستارة لست أسمع من ورائها؟ فقال: اقعد ويحك، إني أصبحت على الذي ظننت، فأتاني خبر ضيعة تجاورني، قد والله طلبتها زمانا ومنيتها فلم أملكها، وقد أعطي بها مئة ألف درهم، فقلت: وما يمنعك منها؟ فو الله لقد أغناك الله أضعاف هذا المال وأكثر، قال: صدقت، ولست أطيب نفسا بأن أخرج هذا المال، قلت فمن يعطيك الساعة مئة ألف درهم، وما أطمع في ذلك من الرشيد فكيف بمن دونه، فقال: اجلس فخذ هذا الصوت، ثم نقر بقضيب معه على الدواة وألقى علي هذا الصوت: «2» [البسيط] . نام الخليّون من هم ومن سقم ... وبت من كثرة الأحزان في الم يا طالب الجود والمعروف مجتهدا ... اعمد ليحيى حليف الجود والكرم قال: فأخذته فأحكمته، وقال لي امض الساعة إلى باب يحيى بن خالد، فإنك تجد الناس عليه، وتجد الباب قد فتح ولم يجلس بعد، فاستأذن عليه قبل أن يصل إليه أحد، فإنه سينكر مجيئك ويقول لك: من أين أقبلت في هذا الوقت؟ فحدثه بقصدك إياي وما ألقيت إليك من خبر الضيعة، وأعلمه أني صنعت هذا الصوت وأعجبني، ولم أر أحدا يستحقه إلا فلانة جاريته، وأني ألقيته عليك حتى أحكمته لتطرحه عليها، فسيدعو بها، ويأمر بالستارة فتنصب، ويقول لك

اطرحه علهيا بحضرتي فافعل، وأثني بما يكون بعدها من الخبر، قال: فجئت باب يحيى فوجدته كما وصف [ص 232] وسألني فأعلمته ما أحضرني به وأمرني به، فأحضر الجارية، فألقيته عليها، ثم قال لي: تقيم عندنا يا أبا المهنا «1» أو تنصرف، فقلت: أنصرف، فقال: يا غلام، احمل مع أبي المهنا عشرة آلاف درهم، واحمل إلى أبي إسحاق مئة ألف درهم ثمن هذه الصنعة، فحملت العشرة آلاف درهم معي، فأتيت منزلي، فقلت أسر يومي هذا، وأسر من عندي، ومضى الرسول بالمال، وأقمت ليلتي فلما أصبحت غدوت عليه، فوجدته على مثل ما كان عليه، فترنمت وطربت، فلم يتلق ذلك بما يجب، فقلت: ما الخبر؟ ألم يأتك المال؟ قال: بلى، قال: فما خبرك أنت فأخبرته بما وهب لي، فقال: ارفع السجف «2» ، فرفعته فإذا عشر بدر «3» ، قلت: في أي شيء بقي عليك في أمر الضيعة؟ فقال: والله ما هو إلا أن دخلت منزلي حتى شححت عليها، وصارت مثل ما حويت قديما، قلت: سبحان الله العظيم، فتصنع ماذا؟ [قال] : قم حتى ألقنك صوتا يفوق ذلك، فقمت فجلست بين يديه، فألقى عليّ: «4» [الطويل] ويفرح بالمولود من آل برمك ... بغاة الندى والسيف والرمح ذو النصل وتنبسط الآمال فيه لفضله ... ولا سيما إن كان من ولد الفضل قال مخارق: فسمعت مالم أسمع مثله قط، وصغر عندي الأول، فأحكمته، وقال: امض الساعة إلى الفضل بن يحيى، فإنك تجده لم يأذن لأحد بعد، وهو

يريد الخلوة مع جواريه اليوم، فاستأذن عليه وحدثه بحديثنا الأول من أمس وما كان من أبيه إلينا وإليك، وأعلمه أني صنعت هذا الصوت، وكان عندي أرفع منزلة من الصوت الأول الذي وضعته، وإني ألقيته عليك حتى أحكمته، ووجهت بك قاصدا لتلقيه على فلانة جاريته، فصرت إلى الفضل فوجدت الأمر على ما ذكر، فاستأذنت فوصلت إليه، فسألني عن الخبر، فأعلمته بخبري وما وصل إلي وإليه من المال، فقال: أخزى الله إبراهيم ما أبخله على نفسه! ثم دعا خادما وقال له: اضرب الستارة، فضربها، فقال: ألقه، فألقيته، فلما ألقيته قال: أحسن والله أستاذك، وأحسنت أنت يا مخارق، ولم أبرح حتى أخذته الجارية وأحكمته [ص 233] فسر بذلك وقال: يا غلام، احمل مع أبي المهنا عشرين ألف درهم، واحمل إلى إبراهيم مئتي ألف درهم، فانصرفت إلى منزلي بالمال فنثرت منه على الجواري، وشربت وسررت أنا ومن عندي، فلما أصبحت بكرت إلى إبراهيم فوجدته على الحال التي كان عليها، فدخلت أترنم وأصفق، فقال لي: ادن، فقلت: ما بقي؟ فقال: اجلس وارفع سجف هذا الباب فإذا عشرون بدرة مع تلك العشر، فقلت: ما تنتظر الآن؟ فقال: والله ما هو إلا أن حصلت حتى جرى مجرى ما تقدم، فقلت: والله ما أظن أن أحدا نال في هذه الدولة ما نلته، فلم تبخل على نفسك بشيء تمنيته، دهرك، وقد ملكك الله أضعافه؟ ثم قال: اجلس فخذ هذا الصوت، فألقى علي صوتا أنساني الأولين: «1» [الطويل] أفي كل يوم أنت صب وليلة ... إلى أم بكر لا تفيق فتقصر أحب على الهجران أكناف بيتها ... فيالك من بيت يحب ويهجر إلى جعفر سارت بنا كل جسرة ... طواها سراها نحوه والتهجر إلى واسع للمجتدين فناؤه ... تروح عطاياه عليهم وتبكر

قال مخارق: فسمعت مالم أسمع قط مثله حسنا، فردده علي حتى أخذته ثم قال: امض إلى جعفر فافعل به كما فعلت بأخيه وأبيه، فمضيت ففعلت مثل ذلك، وخبرته بما كان منهما، وعرضت عليه الصوت، فسره وامر خادما فضرب الستارة، وأحضر الجارية وقعد على كرسي، ثم قال: هات يا مخارق، فاندفعت وألقيت الصوت عليها حتى أخذته الجارية، فقال: أحسنت يا مخارق، وأحسن أستاذك، يا غلام، تحمل معه ثلاثين ألف درهم، وإلى الموصلي ثلاث مئة ألف درهم، فصرت إلى منزلي بالمال فأقمت ومن عندي مسرورين نشرب بقية يومنا ونطرب، ثم بكرت إلى إبراهيم فتلقاني قائما وقال لي: أحسنت يا مخارق، فقلت: وما الخبر؟ قال: اجلس، فجلست، فقال لمن خلف الستارة، خذوا فيما أنتم فيه، ثم رفع السجف فإذا المال كاملا، قلت: فما خبر الضيعة؟ فأدخل يده تحت مسورة «1» هي متكأه، فقال: هذا صك [ص 234] الضيعة، سئل عن صاحبها فوجد ببغداد فاشتراها منه يحيى بن خالد، وكتب إلي: قد علمت أنك لا تسخو نفسك بشراء الضيعة بمال يحصل لك ولو حيزت لك الدنيا كلها، وقد ابتعتها لك من مالي، ثم وجه إلي بصكها، وهذا المال كما ترى، ثم بكى وقال: يا مخارق، إذا عاشرت فعاشر مثل هؤلاء، [هذه] ستمئة ألف درهم، وضيعة بمائة ألف درهم، وستون ألف درهم لك، حصلنا ذلك أجمع وأنا جالس في منزلي لم أبرح منه، متى يوجد مثل هؤلاء؟ قال إسحاق: حضر أبي يوما عند موسى الهادي، فقال له: يا إبراهيم، غنني جنسا من الغناء ألذه وأطيبه وأطرب عليه، ولك حكمك، قال: وكنت أراه لا يصغي إلى شيء من الأغاني إصغاءه إلى النسيب والرقيق [منه] ، فغنيته: «2»

[الطويل] وإني لتعروني لذكراك نفضة ... كما انتفض العصفور بلله القطر فضرب بيده إلى جيب دراعته فخرقها «1» ذراعا آخر، وقال: زدني، ويلك أحسنت والله ووجب حكمك، فغنيته: «2» [الطويل] هجرتك حتى قيل لا يعرف الهوى ... وزرتك حتى قيل ليس له صبر فرفع صوته وقال: أحسنت لله أبوك، ها ما تريد، قلت: يا سيدي، عين مروان بالمدينة، فدارت عيناه في رأسه وقال: يا بن اللخناء، أردت أن تشهرني بهذا المجلس، فيقول الناس: أطربه فحكمه، فتجعلني سمرا وحديثا، يا إبراهيم الحراني، خذ بيد هذا الجاهل إذا قمت فأدخله بيت مال الخاصة، فإن أخذ كل ما فيه فخله وإياه، فدخلت فأخذت منه خمسين ألف دينار. قال إسحاق: اشترى أبي لجعفر بن يحيى جارية مغنية بمال عظيم، فقال له جعفر: أي شيء تحسن هذه حتى بلغت هذا المال كله؟ قال: لو لم تحسن شيئا إلا أنها تحكي قولي: «3» [الكامل] لمن الديار ببرقة الروحان لكانت تساوي وزيادة، فضحك جعفر وقال: أفرطت.

وقال إسحاق: صنع أبي تسع مئة صوت، منها دينارية [ص 235] ومنها درهمية، ومنها فلسية، فأما ثلاث مئة منها، فإنه تقدم الناس جميعا فيها، وأما ثلاث مئة فشاركوه وشاركهم، وأما ثلاث المئة الأخرى فلعب وطرب، [وأسقط] إسحاق بعد ذلك ثلاث المئة الأخيرة، وكان بعد ذلك إذا سئل عن صنعة [أبيه] قال ست مئة «1» صوت. قال إسحاق: غنّي مخارق بين يدي الرشيد صوتا فأخطأ فيه، فقال له: أعد، فأعاده وكان الخطأ خفيا، فقلت للرشيد: سيدي قد أخطأ فيه، فقال لإبراهيم بن المهدي: ما تقول فيما ذكره إسحاق، قال: ليس الأمر كما قال، ولا هاهنا خطأ، فقلت له: أترضى بأبي؟ فقال: إي والله، وكان أبي في بقية علة، فأمر الرشيد بإحضاره فجيء به في محفة «2» ، فقال لمخارق: أعد الصوت، فأعاده، فقال له: ما عندك يا إبراهيم في هذا الصوت، قال: قد أخطأ فيه، فقال: هكذا قال ابنك إسحاق، وذكر أخي إبراهيم أنه صحيح، فنظر إلي وقال: هاتوا دواة، فأتي بها، فكتب شيئا لم يقف عليه أحد، ثم قطعه ووضعه بين يدي الرشيد، وقال لي: اكتب بذكر الوضع الفاسد من قسمة هذا الصوت، فكتبته وألقيته، فقرأه وضحك، وقام فقرأه بين يدي الرشيد، فعجب ولم يكن أحد في المجلس إلا قرّظ وأثنى ووصف، وخجل إبراهيم بن المهدي. قال إسحاق: غنى أبي يوما بحضرة الرشيد هذا البيت: «3» [الطويل]

سلي هل قلاني من عشير صحبته ... وهل ذمّ رحلي في الرّفاق رفيق فطرب واستعاده وأمر له بألف «1» دينار، فلما كان بعد سنين خطر ببالي ذلك الصوت وذكرت قصته، فغنيته إياه، فطرب وشرب ثم قال لي: يا إسحاق كأن «2» في نفسك ذكر حديث أبيك، وأني أعطيته ألف دينار على هذا الصوت، فطمعت في الجائزة، فضحكت وقلت: والله سيدي ما أخطأت، فقال: أخذ أبوك ثمنه مرة فلا تطمع، فعجبت من قوله، ثم قلت: يا سيدي، قد أخذ أبي منك أكثر من مئتي ألف دينار، ما رأيتك ذكرت منها غير هذا الألف على بختي أنا، فقال: ويحك، أكثر من مئتي ألف؟! فقلت: أي والله، فوجم من ذلك وقال: أستغفر الله من ذلك، ويحك [ص 236] فما الذي خلف منها؟ قلت: خلّف عليّ ديونا فقضيتها، قال: ما أدري أينا أشد تضييعا، والله المستعان. قال إسحاق، قال أبي: أتيت الفضل بن يحيى يوما، فقلت له: يا أبا العباس، جعلت فداك، هب لي دراهم، فإن الخليفة قد حبس يده، فقال: ويحك يا أبا إسحاق، ما عندي مال أرضاه لك، ثم قال: هاه! إلا أن هاهنا خصلة، أتانا رسول صاحب اليمن، فقضينا حوائجه، ووجه إلينا بخمسين ألف دينار نشتري لنا بها ما نحب، فما فعلت ضياء جاريتك، قلت: عندي جعلت فداك، قال فهو ذا، أقول لهم حتى يشتروها منك، فلا تنقصها من خمسين ألف دينار، فقبلت رأسه وانصرفت، فبكر عليّ [رسول] صاحب اليمن، ومعه صديق له، فقال: جاريتك فلانة، فقلت: عندي، فقال اعرضها علّي، فعرضتها، فقال: بكم، قلت: بخمسين ألف دينار لا أنقص منها واحدا، وقد أعطاني بها الفضل بن يحيى أمس هذه العطية، فقال لي: له أريدها، فقلت: أنت أعلم إذا اشتريتها فصيرها لمن شئت، فقال لي:

هل لك في ثلاثين ألف دينار مسلمة؟ قال: وكان شراء الجارية على أربع مئة دينار، فلما وقع في أذني [ذكر] ثلاثين ألف دينار أرتج علي ولحقني زمع «1» ، وأشار علي صديقي الذي معه بالبيع، وخفت والله أن يحدث بالجارية أو بي أو بالفضل [حدث] فسلمتها وأخذت المال، ثم بكرت إلى الفضل بن يحيى، فإذا هو جالس وحده، فلما نظر إلي ضحك، ثم قال لي: يا ضيق الحوصلة، حرمت نفسك عشرين ألف دينار! فقلت له: جعلت فداك، دع ذا عنك، فو الله لقد دخلني شيء أعجز عن وصفه، وخفت أن تحدث بي حادثة أو بالجارية أو بك أو بالمشتري، فبادرت بقبول ثلاثين ألف دينار، فقال: لا ضير، يا غلام جيء بالجارية، فقال: خذها مباركا لك فيها، فما أردنا إلا نفعك، ولم نرد الجارية، فلما نهضت قال لي: مكانك، رسول صاحب أرمينية قد جاءنا فقضينا حوائجه ونفذنا كتبه، وذكر أنه قد جاءنا بثلاثين ألف دينار يشتري لنا ما نحب، فاعرض عليه جاريتك هذه ولا تنقصها من ثلاثين ألف دينار، فانصرفت [ص 237] بالجارية، وبكر عليّ صاحب أرمينية ومعه صديق لي آخر، فقاولني بالجارية، فقلت: لست أنقصها من ثلاثين ألف دينار، فقال: معي عشرون ألف دينار مسلمة تأخذها بارك الله لك فيها، فدخلني والله مثل ما دخلني في المرة الأولى، وخفت مثل خوفي الأول، فسلمتها إليهم وأخذت المال، وبكرت على الفضل بن يحيى، فلما رآني ضحك وضرب برجله وقال: ويحك حرمت نفسك عشرة آلاف دينار، فقلت له: أصلحك الله، خفت والله مثل ما خفت في المرة الأولى، فقال لي: لا ضير، يا غلام: جاريته، فجيء بها، فقال: خذها ما أردناها ولا أردنا إلا نفعك، فلما ولت الجاري صحت بها ارجعي، فرجعت، فقلت: أشهدك- جعلت فداك- أنها حرة لوجه الله، وأني قد تزوجتها على عشرة آلاف درهم،

كسبت لي في يوم خمسين ألف دينار، فما جزاؤها إلا هذا، فقال: وفقت إن شاء الله. قال: لما [صنع] أبي لحنه: «1» [الرمل] ليت هندا أنجزتنا ما تعد خاصمته وعبته في صنعته وقلت له: بإزائك من ينتقد أنفاسك ويعيب محاسنك وأنت لا تفكر تجيء إلى صوت قد عمل [فيه] ابن سريج لحنا فتعارضه بلحن لا يقاربه، والشعر أوسع من ذلك، فدع ما قد اعتورته «2» صناعة القدماء وخذ في غيره، فغضب، وكنت لا أزال أفاخره بصنعتي وأجب «3» ما يعاب من صنعته، فإن قبل مني فذاك، وإن غضب داريته وترضيته، فقال لي: ما يعلم الله أني أدعك أو تفاخرني بخير صوت صنعته في طريقة هذا الصوت، فلما رأيت الجد منه اخترت لحني في: «4» [مجزوء الخفيف] قل لمن صدّ عاتبا ... ونأى عنك جانبا وكان ما تجاريناه ونحن نتساير في الصحراء لنقطع فضل خمارنا «5» ، فقال: من تحب أن يحكم بيننا، فقلت: من ترى يحكم؟ قال: أول من يطلع علينا، أغنيه لحني وتغنيه لحنك، فطمعت فيه وقلت: نعم، وأقبل شيخ نبطيّ على حمار له، فأقبل عليه أبي وقال: إني وصاحبي هذا قد تراضينا بك في شيء،

قال: وأي شيء هو؟ قال: زعم كل وأحد منا أنه أحسن غناء من صاحبه، فتسمع مني ومنه وتحكم بيننا، فقال: على اسم الله، فبدأ أبي فغنى لحنه، وتبعته [ص 238] فغنيت لحني، فلما فرغت أقبل عليّ فقال: قد حكمت عليك عافاك الله ومضى، فلطمني [أبي] لطمة ما مر بي مثلها، وسكت فما أعدت عليه حرفا. قال الرشيد يوما لجعفر بن يحيى: قد طال سماعنا هذه العصابة على اختلاط الأمر فيها، فهلم أقاسمك إياها فأخايرك، فاقتسما المغنين على أن جعلا بإزاء كل رجل نظيره، فكان ابن جامع في حيز الرشيد، وإبراهيم في حيز جعفر، وحضر الندماء لمحنة «1» المغنين، وأمر الرشيد ابن جامع بالغناء، فغنى صوتا أحسن فيه كل الإحسان، وأطرب الرشيد غاية الإطراب، فلما قطعه، قال الرشيد لإبراهيم: هات هذا الصوت فغنه، فقال: لا والله يا أمير المؤمنين لا أعرفه وظهر الانكسار فيه، فقال الرشيد لجعفر: هذا واحد، ثم قال لابن جامع: غنّ يا إسماعيل، فغنى صوتا ثانيا أحسن من الأول، فلما استوفاه قال الرشيد لإبراهيم: هاته يا إبراهيم، فقال: لا والله لا أعرف هذا، فقال: هذان اثنان، يا إسماعيل غن يا إسماعيل، [فغنى] ثالثا يتقدم الصوتين فلما أتى على آخره، قال: هاته يا إبراهيم، فقال: ولا والله ما أعرفه، فقال له جعفر: أخزيتنا أخزاك الله، وأتمّ ابن جامع يومه والرشيد مسرور به، وأجازه وخلع عليه، ولم يزل إبراهيم منخذلا حتى انصرف، قال: فمضى إلى منزله، فلم يستقر حتى بعث إلى محمد المعروف بالزف «2» ، وكان من المغنين المحسنين، وكان أسرع الناس أخذا للصوت، وكان الرشيد وجد عليه في أمر فألزمه بيته وتناساه، فقال إبراهيم للزف، إني اخترتك على من هو أحب إليّ منك لأمر لا يصلح له غيرك، فانظر كيف تكون، قال:

أبلغ في ذلك محبتك إن شاء الله، فأدى له الخبر وقال: أريد أن تمضي من ساعتك إلى ابن جامع فتعلمه أنك صرت إليه مهنّئا بما تهيأ له علي، وتثلبني وتشتمني، وتحتال في أن تسمع منه الأصوات وتأخذها، ولك كل ما تحبه من جهتي مع رضا الخليفة إن شاء الله، قال: فمضى من عنده فاستأذن على ابن جامع، فأذن له، فدخل وسلم عليه وقال: جئتك مهنئا بما بلغني من خبرك، والحمد لله الذي كشف الفضل عن محلك في صناعتك، قال: وهل بلغك خبرنا؟ قال: هو أشهر من أن يخفى [ص 239] على مثلي، قال: ويحك إنّه يقصر عن العيان، قال: أيها الأستاذ سرني بأن أسمعه من فيك حتى أرويه عنك وأسقط الأسانيد، قال: أقم عندي حتى أفعل، فدعا ابن جامع بالطعام، فأكلنا وشربنا، ثم بدأ وحدثه بالخبر، حتى انتهى إلى خبر الصوت الأول، فقال له الزف: وما هو أيها الأستاذ، فغناه ابن جامع، فجعل محمد يصفق ويشرب، وابن جامع مشتغل في شأنه، حتى أخذه منه، ثم سأله عن الصوت الثاني، فغناه إياه، وفعل مثل ما فعله في الأول، ثم كذلك في الصوت الثالث، فلما أخذ الأصوات وأحكمها، قال له: يا أستاذ، قد بلغت ما أحب، فأذن له بالانصراف، فانصرف محمد من وجهه إلى إبراهيم، فلما طلع من باب داره قال: ما وراءك؟ قال: ما تحب، ادع لي بعود، فدعا به فضرب، وغناه الأصوات، قال إبراهيم: هي وأبيك بصورتها وأعيانها، وأرددها عليّ الآن، فلم يزل يرددها حتى صحّت لإبراهيم، وانصرف محمد إلى منزله، وغدا إبراهيم إلى الرشيد، فلما دعا بالمغنين دخل فيهم، فلما بصر به قال: أو قد حضرت؟ أما كان ينبغي أن تجلس في منزلك شهرا بسبب ما لقيت من ابن جامع، قال: ولم ذلك يا أمير المؤمنين جعلني الله فداك، والله لئن أذنت لي أن أقول لأقولن، قال: وما عساك أن تقول؟ قل، قال: إنه ليس لي ولا لغيري أن يراك متعصبا لحيز فيغاضبك أو يغالبك، وإلا فما في الأرض صوت إلا وأنا أعرفه، فقال له: دع ذا عنك، قد

أقررت أمس بالجهالة بما سمعت من صاحبنا، قال: فإن كنت أمسكت عنه بالأمس على معرفة كما تقول، فهاته اليوم، فليست هاهنا عصبية ولا تمييز، فاندفع يغني الأصوات كلها، وابن جامع مصغ مستمع له، حتى أتى على آخرها، فاندفع ابن جامع يحلف بالأيمان المحرجة أنه ما عرفها قط ولا سمعها ولا هي إلا من صنعته لم تخرج إلى أحد غيره، فقال له: ويحك فما أحدثت بعدي؟ قال: ما أحدثت حدثا، قال: يا إبراهيم بحياتي اصدقني، قال: وحياتك لأصدقنك، رميته بحجره، بعثت بمحمّد الزّفّ وضمنت له ضمانات، أولها رضاك عنه، فمضى فاحتال عليه حتى أخذها عنه ونقلها إليّ، وقد سقط الآن عنّي اللوم بإقراره بأنه ليس علي أن أعرف ما صنعه هو «1» ولم يخرجه [ص 240] إلى الناس، وهذا باب من الغيب، وإنما يلزمني أن يعرف هو شيئا من غناء الأوائل وأجهله أنا، وإلا فلو لزمني أن أروي صنعته، للزمه أن يروي صنعتي وللزم كل وأحد منا لسائر طبقته، ونظرائه مثل ذلك، فمن قصر عنه كان مذموما ساقطا، فقال له الرشيد: صدقت يا إبراهيم ونضحت عن نفسك وقمت بحجتك، ثم اقبل على ابن جامع فقال له: يا إسماعيل: أتيت، أبطل عليك الموصلي ما فعلته، به أمس، وانتصف منك، ثم دعا بالزّفّ ورضي عنه. قال إسحاق: وأصوات ابن جامع هذه، الأول منها قول قيس بن «2» ذريح: «3» [الوافر] بكيت نعم بكيت وكلّ إلف ... إذا بانت قرينته بكاها وما فارقت لبنى عن تقال ... ولكن شقوة بلغت مداها

قال: والثاني منها قول حماد الراوية: «1» [المتقارب] عفت دار سلمى بمفضى الرغام ... رياح تعاقبها كل عام خلاف الحلول بتلك الطلول ... وسحب الذيول بذاك المقام قال: والثالث منها قول [ابن] الأحنف: «2» [الكامل] نزف البكاء دموع عينك فاستعر ... عينا لغيرك دمعها مدرار من ذا يعيرك عينه تبكي بها ... أرأيت عينا للبكاء تعار قال: لما أنشد بشار قول العباس بن الأحنف: نزف البكاء دموع عينك البيتين، قال: لحق هذا الفتى بالمحسنين، وما زال يدخل نفسه معنا ونحن نخرجه حتى قال هذا الشعر. قال: ولما أنشد الرشيد قول العباس بن الأحنف: من ذا يعيرك عينه تبكي بها قال: يعير عينيه من لا حاطه الله ولا كلأه «3» . قال [الرشيد] لإبراهيم بن المهدي، وإبراهيم الموصلي، وابن جامع، وابن أبي الكنّات: باكروني غدا، وليكن كل واحد منكم قد قال [ص 241] شعرا، إن كان يقدر أن يقوله، ويغني فيه لحنا، وإن لم يكن شاعرا، غنى في شعر غيره. قال إبراهيم بن المهدي: قمت في السحر واجتهدت على شيء أصنعه فلم يتفق لي، فلما خفت طلوع الفجر، دعوت غلماني وقلت لهم: أريد المضي إلى موضع

لا يشعر بي أحد حتى أصير إليه، وكانوا في زنيديات لي يبيتون على باب داري، فقمت فركبت في إحداها، وقصدت دار إبراهيم الموصلي، وكان قد حدثني أنه إذا أراد الصنعة لم ينم حتى يدبر ما يحتاج إليه، فإذا قام إلى حاجته في السحر، اعتمد على خشبة له في المستراح، فلا يزال يقرع عليها حتى يفرغ من الصوت ويرسخ في قلبه، فجئت حتى وقعت تحت مستراحه، فإذا هو يردد هذا الصوت: «1» [الطويل] إذا سكبت في الكأس قبل مزاجها ... ترى لونها في جلدة الكأس مذهبا «2» وإن مزجت راعت بلون تخاله ... إذا ضمنته الكأس بالكأس كوكبا أبوها نجاء المزن والكرم أمها ... ولم أر زوجا منه أشهى وأطيبا «3» فجاءتك صفرا أشبهت غير جنسها ... وما أشبهت في اللون أما ولا أبا [قال] فما زلت واقفا أسمع الصوت حتى أخذته، ثم غدونا إلى الرشيد فلما جلسنا إلى الشرب جاء الخادم الي فقال: يقول لك أمير المؤمنين، يا بن أم، غنني، فاندفعت فغنيته هذا الصوت، والموصلي في الموت، حتى فرغت منه، وشرب عليه وأمر لي بثلاث مئة ألف درهم، فوثب الموصلي وحلف بالطلاق وبحياة الرشيد أن الشعر له، قاله البارحة وغنى فيه، ما سبقه إليه أحد، فقال إبراهيم: يا سيدي، فمن أين هو لي لولا كذبه وبهته «4» ، وإبراهيم يضرب ويضج، فلما قضيت أربا من العبث به، قلت للرشيد: الحق أحق ما استعمل، وصدقته، فقال الرشيد: أما أخي فقد أخذ المال ولا سبيل إلى رده، وقد أمرت لك بمائة ألف

درهم، عوضا عما جرى عليك، ولو ابتدأت بالصوت لكان حظك، فأمر بها فحملت إليه. وذكر أن الرشيد هب من نومه في ليلة من الليالي، فدعا بحمار كان يركبه في القصر أسود قريب من الأرض، فركبه وخرج في درّاعة «1» وشي، متلثما بعمامة وشي، ملتحفا بإزار وشي، وبين يديه أربع مئة خادم أبيض سوى الفراشين [ص 242] وكان مسرور الفرغاني جريئا عليه لمكانته عنده، فلما خرج قال: إلى أين تريد يا أمير المؤمنين في هذه الساعة؟ قال: أردت بيت الموصلي، قال مسرور: فمضى ونحن معه وبين يديه، حتى أتى إلى منزل إبراهيم، فخرج وتلقاه، وقبل حافر حماره، وقال له: يا أمير المؤمنين، أفي هذه الساعة تظهر، قال: نعم، شوقك بي، ثم نزل فجلس في طرف الإيوان وأجلس إبراهيم، فقال: يا سيدي، أتنشط لشيء تأكله؟ فقال: نعم، خاميز «2» ظبي، فأتي به كأنه كان معدا له، فأصاب منه شيئا يسيرا، ثم دعا بشراب حمل معه، فقال الموصلي: يا سيدي، أغنيك أم تغنيك إماؤك؟ قال: بل الجواري. فخرج جواري إبراهيم، فأخذن صدر الإيوان وجانبيه، فقال: أيضربن كلهن أم واحدة واحدة؟ فقال: تضرب اثنتان اثنتان، وتغني واحدة واحدة ففعلن ذلك حتى مرّ صدر الإيوان وأحد جانبيه، والرشيد يسمع ولا ينشط لشيء من غنائهن، إلى أن غنت صبية من حاشية الصفة: «3» [البسيط] يا موري الزند قد أعيت قوادحه ... اقبس إذا شئت من قلبي بمقباس ما أقبح الناس في عيني وأسمجهم ... إذا نظرت فلم أبصرك في الناس

قال: فطرب لغنائها، واستعاد الصوت مرارا، وشرب أرطالا، ثم سأل الجارية عن صانعه، فأمسكت، فاستدناها فتقاعست، فأمر بها فأقيمت، حتى أقيمت بين يديه، فأخبرته بشيء أسرته إليه، ودعا بحماره فركبه وانصرف، ثم التفت إلى إبراهيم فقال: ما ضرك يا إبراهيم ألا تكون خليفة، فكادت نفسه تخرج، حتى دعا به بعد ذلك وأدناه، وكان الذي أخبرته به الجارية أن الصنعة في الصوت لأخته علية وكانت لها، وجهت بها [إلى] إبراهيم تطارحه. قال لي إبراهيم، قال لي الرشيد يوما: يا إبراهيم، بكّر غدا حتى نصطبح، فقلت: أنا والصبح كفرسي رهان، فبكرت فإذا به خال وبين يديه جارية كأنها خوط بان «1» او جدل «2» عنان، حلوة المنظر، دمثة الشمائل في يدها العود، فقال لها: غني، فغنت في شعر أبي نواس، وهو هذا: «3» [الطويل] توهمه قلبي فأصبح خده ... وفيه مكان الوهم من ناظري أثر ومر بفكري خاطرا فجرحته ... ولم أر جسما قط يجرحه الفكر [ص 243] وصافحه قلبي فآلم كفه ... فمن غمز قلبي في أنامله عقر قال إبراهيم: فذهبت والله بعقلي، حتى كدت أفتضح، فقلت: من هذه يا أمير المؤمنين؟ قال: التي يقول فيها الشاعر: «4» [الوافر] لها قلبي الغداة وقلبها لي ... فنحن كذاك في جسدين روح قال: ثم شرب أرطالا وسقاها، وقال: غن يا إبراهيم، فغنيت حسب ما في قلبي

غير متحفظ: «1» [الطويل] تشرّب قلبي حبها ومشى بها ... تمشي حميا الكأس في كف شارب ودب هواها في عظامي فشفها ... كما دب في الملسوع سم العقارب قال: ففطن بتعريضي، وكانت جهالة مني، وأمرني بالانصراف، ولم يدع بي شهرا ولا حضرت مجلسه، فلما كان بعد شهر دس إلي خادما معه رقعة فيها مكتوب: «2» [الخفيف] قد تخوفت أن أموت من الوج ... د ولم يدر من هويت بمابي يا كتابي فاقر السلام على من ... لا أسمي وقل له يا كتابي إن كفا إليك قد كتبتني ... صبت فؤاده في عذابي «3» فأتاني الخادم بالرقعة، فقلت: ما هذا؟ قال: رقعة فلانة التي غنتك بين يدي أمير المؤمنين، فأحسست بالقصة، فشتمت الخادم، ووثبت إليه، وضربته ضربا شفيت به غيظي، وركبت إلى الرشيد من فوري، فأخبرته بالقصة، وأعطيته الرقعة، فضحك حتى كاد يستلقي، ثم قال: على عمد فعلت ذلك، أردت لأمتحن مذهبك وطريقتك، ثم دعا بالخادم، فلما رآني قال: قطع الله يديك ورجليك، ويلك قتلتني، فقلت: القتل كان بعض حقك لما وردت به عليّ، ولكنّي رحمتك فأبقيت عليك، وأخبرت أمير المؤمنين ليأتي عقوبتك بما تستحقه، فأمر لي الرشيد بصلة سنية، والله أعلم ما فعلت الذي فعلته عفافا، ولكني خفت.

قال إسحاق: سمعت الرشيد وقد سأل أبي: كيف يصنع إذا أراد أن يصوغ الألحان، قال: يا أمير المؤمنين، أخرج [ص 244] الهم من فكري وأمثل الطرب بين عيني، فتسرع لي مسالك الألحان التي أريد فأسلكها بدليل الإيقاع، فأرجع مصيبا ظافرا بما أريد، فقال: يحق لك يا إبراهيم أن تصيب وتظفر، وإن حسن وصفك مشاكل لحسن صنعتك وغنائك. قال ثمامة بن أشرس: مررت بإبراهيم الموصلي ويزيد حوراء وهما مصطبحان «1» ، وقد أخذا بينهما صوتا يغنيانه، هذا بيتا وهذا بيتا: «2» [الطويل] أيا جبلي نعمان بالله خليا ... سبيل الصبا يخلص إلي نسيمها فإن الصبا ريح إذا ما تنسما ... على نفس مكروب تجلت همومها قال ثمامة: فو الله ما خلت أن شيئا بقي من لذات الدنيا بعد ما كانا فيه قال إبراهيم الموصلي، قال لي جعفر بن يحيى يوما: صر اليّ حتى أهب لك شيئا حسنا، فصرت إليه فقال لي [أيما] أحب إليك، أهب لك الشيء الحسن الذي وعدتك به، أو أرشدك إلى شيء تكسب به ألف ألف درهم، فقلت بل يرشدني الوزير أعزه الله إلى هذا الوجه، فإنه يقوم مقام إعطائه إياي هذا المال، فقال: إن أمير المؤمنين يحفظ شعر ذي الرمة حفظ الصبا، ويعجبه ويؤثره، فإذا سمع فيه غناء أطربه أكثر مما يطربه غيره مما لا يحفظ شعره، فإذا غنيته، وأطربته وأمر لك بجائزة، فقم على رجلك وقبل الأرض وقل له: لي حاجة غير هذه الجائزة، أريد أن أسألها أمير المؤمنين، وهي حاجة تقوم عندي مقام كل فائدة ولا تضره ولا

ترزؤه، فإنه سيقول لك: أي شيء حاجتك؟ فقل: قطيعة تقطعنيها سهلة عليه، ولا قيمة لها ولا منفعة لأحد فيها، فإذا أجابك إلى ذلك، فقل له: تقطعني شعر ذي الرمة، أغني فيه ما أختاره، وتحظر على المغنين جميعا أن لا يداخلوني فيه، فإني أحب شعره وأستحسنه فلا أحب أن ينغصه عليّ أحد منهم، وتوثق منه في ذلك، فقبلت هذا القول منه، وما انصرفت [بعد ذلك] إلا بجائزة من عنده، وتوخيت وقتا للكلام حتى وجدته، فقمت وسألت كما قال لي، فرأيت السرور في وجهه، وقال: [ص 245] ما سألت شططا، قد أعطيتك ما سألت، فجعلوا يتضاحكون من قولي، ويقولون: لقد استضخمت القطيعة وهو ساكت، فقلت: يا أمير المؤمنين أتأذن لي في التوثق «1» ؟ قال: توثق «1» كيف شئت، فقلت: بالله وبحق رسوله وبتربة أمير المؤمنين المهدي، إلا جعلتني في ثقة من ذلك، بأن تحلف لي بأن لا تعطي أحدا من المغنين جائزة على شيء يغنيه في شعر ذي الرمة، فإن ذلك وثيقتي، فحلف مجتهدا له لئن غنّاه أحد منهم في شعر ذي الرمة لا أثابه ولا أبره ولا سمع غناءه، فشكرت فعله وقبلت الأرض بين يديه، فانصرفنا فصنعت مئة صوت وزيادة عليها في شعر ذي الرمة، وكان إذا سمع منها شيئا طرب، وزاد في الطرب، ووصلني وأجزل، ولم ينتفع به أحد منهم غيري، فأخذت والله منه ألف ألف درهم، وألف ألف درهم. قال: اجتمع إبراهيم الموصلي وزلزل وبرصوما بين يدي الرشيد، فضرب زلزل وزمر برصوما وغنى إبراهيم: «2» [الوافر] صحا قلبي وراع [إليّ] عقلي ... وأقصر باطلي ونسيت جهلي «3»

رأيت الغانيات وكنّ صورا ... إليّ صرمنني وقطعن حبلي فطرب هارون حتى وثب على رجليه وصاح: يا آدم، لو رأيت من يحضرني من ولدك اليوم لسرك! ثم جلس وقال: أستغفر الله. قال: علي بن عبد الكريم: زار ابن جامع إبراهيم الموصلي، فأخرج إليه ثلاثين جارية، فضربن جميعا طريقة واحدة، ثم غنّين فقال ابن جامع: في الأوتار وتر غير مستو، فقال إبراهيم: يا فلانة، شدي مثناك، فشدته [فاستوى] ، فعجبت أولا من فطنته وابن جامع للوتر بعينه. قال إبراهيم الموصلي: قال لي الرشيد يوما يا إبراهيم إني جعلت غدا للحرم، وجعلت ليلته للشرب مع الرجال، وأنا مقتصر من المغنين عليك، فلا تشغل غدا بشيء، ولا تشرب نبيذا، وكن بحضرتي وقت العشاء الآخرة، فقلت: السمع والطاعة لأمير المؤمنين، فقال: [ص 246] وحق أبي لئن تأخرت أو اعتللت بشيء لأضربن عنقك، أفهمت؟ قلت: نعم، وخرجت، فما جاءني أحد من إخواني إلا احتجبت عنه، ولا قرأت رقعة لأحد حتى صليت المغرب وركبت قاصدا إليه، فلما قربت من داره مررت بفناء قصر، وإذا زنبيل «1» كبير مستوثق منه بحبال وأربع عرى أدم، وقد دلي من القصر، وجارية تنتظر إنسانا قد وعد ليجلس فيه، فنازعتني نفسي، إلى الجلوس فيه، ثم قلت: هذا خطأ، ولعله يجري سبب يعوقني عن الخليفة فيكون الهلاك، ولم أزل أنازع نفسي وتنازعني، حتى غلبتني، فنزلت وجلست فيه، ومدّ الزنبيل حتى صار في أعلى القصر، ثم خرجت فنزلت، فإذا جوار كأنهن المها جلوس، فضحكن وطربن، وقلن: قد جاء والله [من أردنا] ، فلما رأينني من قريب تبادرن عني وقلن: يا عدو الله ما

أدخلك إلينا؟ فقلت: يا عدوات أنفسهن من الذي أردتن إدخاله، ولم صار أولى بها مني؟ فلم يزل ذلك دأبنا، هن يضحكن وأضحك معهن، ثم قالت إحداهن: أما من أردنا فقد فات، وما هذا إلا ظريف، فهلمن نعاشره عشرة جميلة، فأخرج إليّ طعام ودعيت إلى أكله، فلم يكن فيّ فضل إلا أنني كرهت أن أنسب إلى سوء العشرة، فأصبت منه إصابة معذور، ثم جيء بالنبيذ فجلسنا نشرب، فأخرجن إليّ ثلاث جوار لهن فغنين غناء مليحا، وغنت إحداهن صوتا لمعبد، فقالت إحدى الثلاث من وراء الستر: أحسن إبراهيم هذا له، فقلت: كذبت ليس هذا له، فقالت: يا فاسق، ما يدريك الغناء ما هو؟ ثم غنت الأخرى صوتا للغريض، فقالت: اللهمّ أحسن إبراهيم هذا له أيضا، فقلت: كذبت يا خبيثة، هذا للغريض، فقالت: اللهمّ أخزه، ويلك ما يدريك؟ ثم غنت الأخرى صوتا لي فقالت تلك: أحسن ابن سريج هذا له، قلت: كذبت هذا لإبراهيم، وأنت تنسبين غناء الناس إليه، وغناءه إليهم، قالت: ويلك وما يدريك؟ فقلت: أنا إبراهيم، فتباشرن بذلك جميعا وظهرن كلهن لي وقلن: كتمتنا نفسك وقد سررنا، فقلت: أنا الآن أستودعكنّ الله، فقلن: ما السبب؟ فأخبرتهن بقصتي مع الرشيد، فضحكن وقلن: الآن طاب حبسك علينا، وعلينا إن أخرجت أسبوعا، فقلت: هو والله القتل، فقلن: إلى لعنة الله، فأقمت عندهن أسبوعا لا أزول، فلما كان بعد أسبوع، ودعنني وقلن: إن سلمك [ص 247] الله، فأنت بعد ثلاثة أيام عندنا، فأجلسنني في الزنبيل وسرحت، فمضيت لوجهي حتى أتيت دار الرشيد، فإذا النداء قد أشيع ببغداد في طلبي، وأن من أحضرني فقد سوغ ملكي وأقطع مالي، فاستأذنت فبادر الخادم حتى أدخلني إلى الرشيد، فلما رآني شتمني وقال: السيف والنطع «1» ، إيه يا إبراهيم، تهاونت بأمري وتشاغلت

بالعوام عما أمرتك به، وجلست مع أشباهك من السفهاء حتى أفسدت علي لذتي، فقلت: يا أمير المؤمنين، أنا بين يديك، وما أمرت غير فائت، ولي حديث عجيب ما سمع بمثله قط، وهو الذي قطعني عنك ضرورة لا اختيارا، فاسمعه فإن كان عذرا فاقبله، وإلا فأنت أعلم، قال: هاته فليس ينجيك، فحدثته فوجم ساعة ثم قال: إن هذا لعجب، فتحضرني معك هذا الموضع؟ قلت: نعم، وأجلسك معهن إن شئت قبلي حتى تحضر عندهن، وإن شئت على موعد، فقال: بل على موعد، قلت: أفعل، قال: انظر، قلت: ذاك حاصل لك مني متى شئت، فعدل عن رأيه في، وأجلسني وشرب وطرب، فلما أصبحنا أمرني بالانصراف، وأن أجيئه من عندهن، فمضيت إليهن في وقت الموعد، فلما وافيت الموضع، إذا الزنبيل معلق، فجلست فيه، ومده الجواري وصعدت، فلما رأينني تباشرن بي، وحمدن الله على سلامتي، وأقمت ليلتي، فلما أردت الانصراف قلت لهن: إن لي أخا هو عديل نفسي عندي، وقد أحب معاشرتكن ووعدته بذلك، فقلن: إن كنت ترضاه فمرحبا، فواعدتهن ليلة غد وانصرفت، وأتيت الرشيد فأخبرته، فلما كان الوقت خرج معي متخفيا حتى أتينا الموضع، فصعدت وصعد بعدي، ونزلنا جميعا، وقد كان الله وفقني بأن قلت لهن «1» : إذا جاء صديقي فاستترن عني وعنه، ولا يسمع لكن نطقة وليكن ما تخترنه من الغناء أو تقلنه من قول مراسلة، فلم يتعدين ذلك، وأقمن على أتم ستر وخفر، وشربنا شربا كثيرا، وقد كان أمرني أن لا أخاطبه بإمرة أمير المؤمنين، فلما أخذ مني النبيذ، قلت سهوا يا أمير المؤمنين، فتبادرن من وراء الستار حتى غابت عنا حركاتهن، فقال لي: يا إبراهيم قد أفلت من أمر عظيم، والله لو برزت لك واحدة منهن لضربت رقبتك، قم بنا، فانصرفنا، فإذا هنّ له، وقد [ص 247]

وقد كان غضب عليهن فحبسهن في ذلك القصر، ثم وجّه من غد بخدم فردهن إلى قصره، ووهب لي مئة ألف درهم، وكانت الهدايا والألطاف بعد ذلك تأتيني منهن. قال مخارق: كنا عند الرشيد في بعض أيامنا، فغناه ابن جامع، ونحن يومئذ بالرقة: «1» [الخفيف] هاج شوقا فراقك الأحبابا ... فتناسيت أو نسيت الربابا حين صاح الغراب بالبين منهم ... فتصاممت أن سمعت الغرابا لو علمنا أن الفراق وشيك ... ما انتهينا حتى نزور القبابا أو علمنا حين استقلت نواهم ... ما أقمنا حتى نزم الركابا قال: فاستحسنه الرشيد وطرب عليه وأعجبه واستعاده مرارا، وشرب عليه أرطالا حتى سكر، وما سمع شيئا غيره ولا أعجبه، ولا أقبل على أحد، وأمر لابن جامع بخمسة آلاف دينار، فلما انصرفنا قال لي إبراهيم: لا ترم منزلك حتى أصير إليك، فصرت إلى منزلي، فلم أغير ثيابي حتى أعلمني غلامي بموافاته، فلقيته في دهليزي «2» ، فدخل فجلس وأجلسني بين يديه، ثم قال لي: يا مخارق، أنت نسيلة «3» مني إحساني إليك، وقبحي عليك، ومتى تركنا ابن جامع على ما ترى غلبنا على الرشيد، وقد صنعت صوتا في طريقة صوته الذي غنّاه، أحسن صنعة منه وأشجى، وإنما يغلبني «4» عند هذا الرجل بصوته، ولا مطعن على صوتك،

وإذا أطربته وغلبت عليه بما يأخذه مني، قام ذلك مقام الظفر، وسيصبح أمير المؤمنين، ويدخل الحمام غدا، ويحضر فيدعو بالطعام ويدعو بنا، ويأمر ابن جامع فيرد الصوت الذي غناه، ويشرب عليه رطلا، ويأمر له بجائزة، فإذا غناه فلا تنتظره أكثر من أن يرد ردته حتى تغني ما أعلّمك السّاعة، فإنه يقبل عليك ويصلك، ولست أبالي أن لا يصلني بعد أن يكون إقباله عليك، فقلت: السمع والطاعة، فألقى عليّ لحنه في أبيات لابن هرمة، وهي: «1» [المنسرح] يا دار سعدي بالجزع من ملل ... حييت من دمنة ومن طلل «2» إني إذا ما البخيل أمّنها ... باتت ضموزا مني على وجل «3» [ص 249] لا أمتع العوذ بالفصال ولا ... أبتاع إلا قريبة الأجل «4» وردده حتى أخذته وانصرف، ثم بكر عليّ فاستعاد [الصوت] مني حتى رضيه، ثم ركبنا وأنا أدرسه حتى صار إلى الرشيد، فلما دخلنا فعل الرشيد جميع ما وصفه إبراهيم شيئا فشيئا، وكان إبراهيم أعلم الناس به، ثم أمر ابن جامع فرد الصوت ودعا برطل فشربه، فلما استوفاه، واستوفى ابن جامع صوته، لم أدعه يتنفس حتى اندفعت فغنيت صوت إبراهيم، فلم يزل يصغي إليه، وهو باهت، حتى استوفيته، فشرب وقال: لمن هذا الصوت؟ قلت: لإبراهيم، فلم يزل يستدنيني حتى صرت قدام سريره، وجعل يستعيد الصوت وأعيده حتى شرب عليه أرطالا، وأمر لإبراهيم بجائزة سنية، وأمر لي بمثلها، وجعل ابن جامع

[يشغب ويقول] يجيء بالغناء فيدسّه في أستاه الصبيان، إن كان محسنا فليغنه «1» هو، والرشيد يقول له: دع ذا عنك، قد والله استقاد «2» منك وزاد. قال يحيى بن عروة بن أذينة: خرجت في حاجة لي، فلما كنت بالسيالة «3» ، وقفت على منزل إبراهيم بن هرمة فصحت: يا أبا إسحاق، فأجابتني ابنته: من هذا؟ فقلت: أعلمي أبا إسحاق، قالت: خرج آنفا قال، فقلت: هل من قرى، فإني مقو «4» من الزاد، قالت: لا والله ما صادفته حاضرا، فقلت: فأين قول أبيك: [المنسرح] لا أمتع العوذ بالفصال ولا ... أبتاع إلا قريبة الأجل قالت: فذاك والله أفناها قال إسحاق: لما دخلت سنة ثمان وثمانين ومئة، اشتد أمر القولنج «5» على أبي ولزمه، وكان يعتاده في الأحيان، فقعد عن الخدمة للخليفة، وعن نوبته في ذلك، وقال في ذلك: «6» [مجزوء الرمل] ملّ والله طبيبي ... عن مقاساة الذي بي سوف أنعى عن قريب ... لعدوّ وحبيب [ص 250]

قال: وركب الرشيد حمارا ودخل يعوده، فوجده وهو جالس على الأبزن «1» ، فقال له: كيف أنت يا إبراهيم، فقال له: إنا والله يا سيدي كما قال الشاعر: «2» [الوافر] سقيم ملّ منه أقربوه ... وأسلمه المداوي والحميم فقال الرشيد: إنا لله، وخرج، فما بعد حتى سمع الواعية «3» عليه قال عمر بن شبة: مات إبراهيم الموصلي في سنة ثمان وثمانين ومئة، ومات في ذلك اليوم الكسائي و [العباس بن] الأحنف، فرفع ذلك إلى الرشيد، فأمر المأمون أن يصلي عليهم، فخرج فصفّوا بين يديه، فقال: من هذا الأول؟ قيل: إبراهيم الموصلي، قال: أخروه وقدموا العباس بن الأحنف فقدم فصلّى عليهم وانصرف، ودنا منه هاشم بن عبد الله الخزاعي فقال: يا سيدي، كيف آثرت العباس بالتقدمة على من حضر، قال لقوله: «4» [الكامل] وسعى بها واش فقالوا إنها ... لهي التي تشقى بها وتكابد ثم قال: أتحفظها؟ قلت: نعم، قال: أنشدني باقيها، فأنشدته لما رأيت الليل سدّ طريقه ... عني وعذّبني الظلام الرّاكد والنجم في كبد السّماء كأنه ... أعمى تحير ما لديه قائد ناديت من طرد الرقاد بصده ... عما أعالج وهو خلو هاجد

يا ذا الذي صدع الفؤاد بصده ... أنت البلاء طريفه والتالد ألقيت بين جفون عيني فرقة ... فإلى متى أنا ساهر يا راقد فقال المأمون: أليس من قال هذا الشعر حقيقا بالتقدمة؟ فقلت: بلى يا سيدي. قال إسحاق: دخلت يوما إلى الرشيد بعقب وفاة والدي، وذلك بعد فوات شهرين «1» ، فلما جلست، رأيت موضعه الذي يجلس فيه خاليا، فدمعت عيني فكفكفتها وتصبرت، فلمحني الرشيد، فدعاني إليه وأدناني منه، وقبلت يده ورجله، والأرض بين يديه، فاستعبر وكان رقيقا، فوثبت قائما، ثم قلت: «2» [ص 251] [الخفيف] في بقاء الخليفة الميمون ... خلف من مصيبة المحزون لا يضير المصاب رزء إذا ما ... كان ذا مفزع إلى هارون قال لي: كذلك والله هو، ولن تفقد من أبيك ما دمت حيا إلا شخصه، وأمر بإضافة رزقه إلى رزقي، فقلت: بل يأمر به أمير المؤمنين إلى ولده، ففي خدمتي له ما يغنيني أنا، فقال: اجعلوا رزق إبراهيم لولده، وأضعفوا رزق إسحاق. وأما الصوت الذي ذكرت أخبار إبراهيم بسببه والشعر فيه والغناء له، وهو من المئة صوت المختارة، فهو: «3» [مجزوء الرمل] ربما نبّهني الإخ ... وان والليل بهيم حين غارت وتدلت ... في مهاويها النجوم ونعاس الليل في عي ... ني كالثاوي مقيم للتي تعصر لما ... أينعت منها الكروم

أنا بالرّيّ مقيم ... في قرى الرّيّ أهيم ما أراني عن قرى الرّ ... يّ مدى دهري أريم ومما رثي به إبراهيم الموصلي قول ابنه: «1» [الطويل] أيا قبر إبراهيم حييت حفرة ... ولا زلت تسقى الغيث من سبل القطر «2» لقد عزني وجدي عليك فلم يدع ... لقلبي نصيبا من عزاء ولا صبر وقد كنت أبكي من فراقك ليلة ... فكيف إذا صار الفراق إلى الحشر وقال أيضا: «3» [الطويل] سلام على القبر الذي لا يجيبنا ... ونحن نحيي تربه ونخاطبه ستبكيه أشراف الملوك إذا رأوا ... محل التصابي قد خلا منه جانبه ويبكيه أهل الظرف طرا كما بكى ... عليه أمير المؤمنين وحاجبه ولما بدا لي اليأس منه وأبرقت ... عيون بواكيه وقلّت نوادبه وصار شفاء النفس من بعد ما بها ... إفاضة دمع تستهل سواكبه جعلت على عيني للصبح عبرة ... ولليل أخرى ما بدت لي كواكبه [ص 252] وقال أيضا: «4» [الطويل] عليك سلام الله من قبر فاجع ... وجادك من نوء السماكين وابل هل أنت محيي القبر أم أنت سائل ... وكيف تحيا تربة وجنادل

75 - أبو زكار

أظل كأني لم تصبني مصيبة ... وفي الصدر من وجد عليك بلابل «1» وهوّن عندي فقده أن شخصه ... على كل حال بين عينيّ ماثل 75- أبو زكّار «2» رجل أوفى بعهده، ووفى بعقده، صحب بني برمك، وهم الغيوث السوافح، والبحار الطوافح، فغمروه بالنعماء، ورعوه أكثر مما رعت ابن ثابت «3» ، صنائع آل جفنة «4» الكرماء، فلم ينس لهم حسن الصنيع، ويمن الأيام التي مالا انحاز عن مثلها الصديع، وكان في أهل الغناء مقدما بصيرا مع ما هو عليه من العمى. قال أبو الفرج: أخبرت عن أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن مالك الخزاعي، أنه قال: سمعت مسرورا الكبير يحدث أبي قال: أمرني الرشيد بقتل جعفر بن يحيى، دخلت إليه وعنده أبو زكار الأعمى الطنبوري يغنيه: «5» [الوافر] فلا تبعد فكلّ فتى سيأتي ... عليه الموت يطرق أو يغادي «6»

فقلت له: في هذا والله أتيتك، وأمرت بضرب عنقك، فضربت عنقه، فقال لي أبو زكار: نشدتك الله إلا ألحقتني به، فقلت له: وما رغبتك في ذلك؟ فقال: إنه أغناني عمن سواه بإحسانه، فما أحب أن أبقى بعده، فقلت: أستأمر أمير المؤمنين في ذلك، فلما أتيت الرشيد برأس جعفر، أخبرته بقصة أبي زكار، فقال: هذا رجل فيه مصطنع فاضممه إليك، وانظر ما كان جعفر يجريه عليه فأتممه له. قال: غنى علّويه يوما بحضرة إسحاق: «1» [البسيط] عمّيت أمري على أهلي فنمّ به ... دمع إذا ذكرت مكنونة سفحا قال إسحاق: هذا صوت معروف في العمى، الشعر لبشار الأعمى، والغناء لأبي زكّار الأعمى، وأوله: عميت. وهذا آخر ما يقع عليه الاختيار [ص 253] «2» من جامع أبي الفرج الأصفهاني، اقتصر فيه على من ذكره من مشاهير المغاني، وقد بقيت مدة لا أجد ما أذيل عليه، ولا ما أصله به إلى زماننا هذا على ما جرينا عليه في جميع هذا الكتاب، لقلة اعتناء المتأخرين، ولا سيما بهذا الفن الذي فني ولم يبق من يعانيه أو يسمعه، لرغبة ملوك زماننا فيما سوى هذا، أو شواغل أبناء الزمان بالهموم

76 - ومنهم دليل الطنبوري

الصادة عن السرور ثم ظفرت لابن ناقيا «1» بتأليف جاء في تضاعيفه عرضا ذكر جماعة على ذيل زمان أبي الفرج، ثم اقتطعت من كتب التواريخ والأخبار المقيدة عن أواخر الخلفاء من بني العباس، وبقايا الخلفاء بالأندلس من بني أمية وأعقاب الملوك، والجلّة من كل أفق، ما جمعت مفرقه وألفت ممزقه، ثم أتبعته بما التقفته من ذماء «2» بقية من أهل الاعتناء ممن تأخر بهم الأجل إلى هذا العصر، وبذلت الجهد فيه حسب الطاقة، ونقبت فيه حتى لم أجد، وأبديت فيه حتى لم أعد، فأما نسبة الأصوات فقد أتيت بما قدرت عليه في ذلك دون ما صدني عنه العجز، وعن حال بيني وبينه يقضي أوقات السرور بأهله، على أنني لم أخلّ محسنا، ولا أهملت حسنا، وكثيرا ما انبتّت «3» عليه طاقة مثلي، وزماني «4» وإخماد حدثان الدهر لجمرتي، وتكديره «5» لصفوة مسرتي، وبالله أستعين. 76- ومنهم دليل الطّنبوري كان بدمشق وأخذ صناعة الغناء عن مشايخها، وتفرد بضرب الطنبور، وأتى العراق، ولم يجد له بها عظيم نفاق، فعاد إلى دمشق وأقام بها، ونفق على أمرائها، وحضر مجالس سرواتها، ومن مشاهير أصواته: «6» [الكامل]

77 - علي بن يحيى المنجم

ومكلل بالدر والمرجان ... كالورد بين شقائق النعمان أخذ المراة «1» وقد أراد زيارتي ... فرأى محاسن وجهه فجفاني والشعر لأبي تمام، قال ابن ناقيا: هو في الثقيل الأول من المعلق. وكذلك صوته الآخر في مشطور السريع [ص 254] وهو «2» [الرّجز] وشادن مكتحل بسحر ... أجفانه سكرى بغير خمر أرق من رقة ماء يجري ... أملك بي مني وليس يدري آليت لا أملك «3» عنه صبري ... أو أسترد ما مضى من عمري والشعر لأبي الفرج الوأواء شاعر شامي مقل، إلا أنه مطبوع الكلام، وكان عاميا مقلا من الأدب، وله عدة مقاطع يغنّى فيها ويأتي ذكره في موضعه. 77- عليّ بن يحيى المنجّم «4» كان من الشعراء الرواة الإخباريين المحدثين للغناء، وكان الأصفهاني شديد الكراهة له، وروى عن إسحاق الموصلي، وأذكر أكابر أهل الصنعة والحذّاق، وأخذ عنهم فطار اسمه في العراق، وهو ممن جرى مع أولئك السبق وأخرس تلك الألسنة النطق، فجثم لديه أولئك الملأ العقود، وجفّ كل بنان، ويبس على عود،

وكان يعد من ندماء الخلفاء وأهل القرب، والإصفاء، كأنما تخير أبوه المنجم لمولده الطالع، وختم عليه من خاتم الزهرة بالطابع، فجاء مطبوعا على الطرب، لو تنحنح أطرب، ولو تكلم بالكلام المألوف لأعرب، لا يلحق الا بالشمس أو هي منه أقرب، ومن مشاهير أصواته: «1» [الطويل] ومجدولة جدل العنان كأنما ... سنا البرق في داجي الظلام ابتسامها ولما التقينا قالت اليوم فالتمس ... سوى جلدها هيهات منها مرامها فقلت معاذ الله أسأل حاجة ... أموت وتبقى بعد ذاك أثامها فبت أثنيها علي كأنها ... من اللين سكرى أو قطاة عظامها الشعر من أناشيد إسحاق، وقد رواه عنه، والصنعة له فيه خفيف ثقيل مشتركان في الإصبع، وذكر ابن ناقيا صوتا لإسحاق بن إبراهيم وهو: «2» [الطويل] وأبرزتها بطحاء مكة بعدما ... أصات المنادي للصلاة فأعتما «3» فما ذر قرن الشمس حتى تبينت ... بعسفان نخلا شامخا ومكمما «4» وذكر أنه غنى فيه في باب الرمل المزموم، ثم قال: والشعر لأبي دهبل الجمحي «5» وكان له ناقة يقال لها العجاجة، زعم العرب أنه لم يكن في زمانها أسير منها، ولا أحسن صورة، وفيها يقول هذا الشعر يصف حسن سيرها.

قال موسى بن يعقوب: أنشدني أبو دهبل قوله: فما ذرّ قرن الشمس [حتى تبينت] فقلت له: ما كنت إلا على الريح، قال: يا بن أخي إن عمك كان إذا هم فعل، وهي العجاجة. قال ابن ناقيا: أنشدنا الشريف المرتضى لنفسه إجازة لقول أبي دهبل: (وأبرزتها بطحاء مكة) ونقل الصفة إلى امرأة من أبيات: «1» [الطويل] فطيب رياها المقام وضوأت ... بإشراق مرآها الحطيم وزمزما «2» فيا ربّ إن لقّيت وجها تحية ... فحيّ وجوها بالمدينة سهما قال: وقال لي بعض أرباب الصناعة: إن أبا عبد الله ابن المنجم قد غنى في هذين البيتين مع بيتي أبي دهبل في هذا المذهب، ومن قلائده: «3» [الخفيف] يا خليلي من ذؤابة قيس ... في التصابي رياضة الأخلاق غنياني بذكركم تطرباني ... واسقياني دمعي بكأس دهاق وخذا النوم من جفوني فإني ... قد خلعت الكرى على العشاق «4» والشعر لأبي القاسم الشريف المرتضى، والغناء فيه مطلق من سادس الهزج، ويقال: إن أخاه الشريف الرضي لما أنشد هذه الأبيات قال: لقد وهب ما لا يملك لمن لا يقبل.

78 - ومنهم - زرفل بن إخليج [ص 255]

وحكى ابن ناقيا أنه كان يحضر مجلس المرتضى شيخ طيّب الخلق يعرف بالقاضي المالكي ممن يتوكّف «1» برّه ويصفو مع إمساكه وشحه، فلما قال المرتضى (قد خلعت الكرى على العشاق) قال المالكي: هذا لما تفضل سيدنا وخلع، فضحك منه المرتضى ولم يؤاخذه به. 78- ومنهم- زرفل بن إخليج [ص 255] ابن عبد الملك الأهوازي، كان إذا نطق اهتز المجلس، واعتز المؤنس، وهز القلوب منه المطمع المؤيس، يصغي لأصواته كلّ خلي يده فوق خلبه «2» ، ويتقلب والشوق حشو قلبه، ولولاه لم ندر كيف تفتت الأكباد، ولا كيف يتحرك الجماد، ولا كيف تسمع الأذن فيهيم الفؤاد، كان في كل لهاة له ضارب فتر، وكان له في كل نغمة ما لو صدع الحجر لا نفطر، وأكثر أصواته في الزريقي وما لهج به خلف المتأخرين من أهل الغناء، ومنها: [مجزوء الكامل] اشرب معتقة اليهود ... صرفا تضرم في الخدود اشرب على تفاحة ... قد أينعت من غير عود ومنها: [مجزوء الكامل] أطع الهوى واعص الأدب ... وكذاك يفعل من أحب لا يشغلنك شاغل ... عن بنت صافية العنب جاءت بخاتم ربها ... فافتضها شيخ الأدب

79 - ومنهم - إسرائيل العواد

79- ومنهم- إسرائيل العوّاد ذكر ابن ناقيا في غير موضع في كتابه المسمى بالمحدث في الأغاني «1» ، وذكره غيره المغنيات والمغاني «2» ، وطالما ضمّ إليه العود فترنم مسرورا وترنح محبورا، وتذكر وهو في شعب الأغصان عهدا غير راجع، وزمانا تعلم فيه الضرب من السواجع، فحنّ حنين المفارق، وشكا فجاوبه كل عاشق، فمهد مجلس أنسه بالترحيب، وأنّ فساعده كلّ مغرم بالبكاء والنحيب، ومن مشاهير أصواته «3» : [الطويل] فلم أستطع رد الدموع التي جرت ... ومن ذا يرد الدمع من مقلة الصبّ «4» فيا حسرات الشوق دمعي على الخبا ... ويا قلبي المكروب لا زلت في كرب والشعر لأبي بكر العنبري، صاحب أدب منسوب إلى صناعته، كان يعمل العنابر «5» ، وأصله من البصرة، ثم ألف بغداد وأقام بها وأحبها وفضلها على البصرة، وكان [ص 257] مذهبه التصرف والإيقاع عن الناس، وله شعر مدون مأخوذ عنه. من أصواته: [الكامل] أصبحت كالجمل المضاع زمانه ... بكرا يلاعب ناقة وزماما ما هاج شوقك من بكاء حمامة ... تدعو على فنن الأراك حماما لولا تذكرك الأوانس بعدما ... قطع المطي سباسبا وهياما قال ابن ناقيا: في هذا الصوت من أغاني إسرائيل في هذا المذهب، يعني مذهب

صوت إبراهيم الموصلي في شعر مروان بن أبي حفصة: «1» [الكامل] طرقتك زائرة فحيّ خيالها ... بيضاء تخلط بالحياء دلالها قال ابن ناقيا: ولم أسمعه إلا منه، يعني من إسرائيل، وممن أخذه عنه، وهو جيد الصنعة، وفيه لحن منسوب إلى يحيى المكي من خفيف ثقيل بالبنصر من كتاب أبي الفرج، والشعر لثابت قطنة مولى بني أسد بن الحارث بن عتيك، ولقّب قطنة لأن سهما أصابه في إحدى عينيه، فذهب بها في بعض حروب الترك، فكان يجعل عليها قطنة، وهو شاعر فارس شجاع، من شعراء الدولة الأموية، وكان في صحابة يزيد بن المهلب، ولاه أعمالا من أعمال الثغور فحمد فيها مكانه لكفايته وطاعته، وفيه يقول حاجب بن دينار المازني: «2» [البسيط] لا تعرف النّاس منه غير قطنته ... وما سواه من الإنسان مجهول ومن قلائد إسرائيل: «3» [الطويل] أما وجلال الله لو تذكرينني ... كذكريك ما نهنهت للعين مدمعا فقلت بلى والله ذكرا لو انّه ... تضمنه صم الصفا لتصدعا والشعر للصمة بن عبد الله القشيري، والغناء فيه في الممخر من خفيف الرمل، وسبب قول الصمة هذا، فيما رواه الهيثم بن عدي أنه كان يهوى ابنة عم له، فخطبها إلى أبيها، فاقترح مبلغا شطيطا «4» من المهر، وذلك من أبيه، فجعل يدافعه فغضب على أبيه وركب ناقته ورحل إلى الثغور، وقال هذين البيتين في قصيدة يصف [ص 258] فيها شوقه إلى ابنة عمه وحنينه إلى وطنه، ولم

80 - ومنهم، طريف بن معلى الهاشمي

يرم «1» هناك حتى مات، ذكر ذلك ابن ناقيا، قال: ولعريب المأمونية في ذلك لحن من خفيف الرمل، وقال: فأما لحنها في هذا الباب فمن نقل المحدثين، وذكر ابن ناقيا له صوتا: [مجزوء الكامل] يوم أتاك مبشرا ... بسعود جدك حين لاحا اشرب سقيت مدامة ... نشر العبير بها ففاحا والشعر لجعفر الكرخي، والغناء فيه خفيف ثقيل المزموم، وذكر له أصواتا أخر: [الرمل] قل لمن يحمل ما حملته ... من رسيس الحب إلا ظلعا لم يزدني الحب إلا حسرة ... ودواعي الشوق إلا طمعا والشعر لمهيار بن مرزويه، والغناء فيه من خفيف الثقيل المجنب. ومن أصواته: [الكامل] ألا رحمتم موقفي بفنائكم ... متلددا «2» في داركم أتصدق متحيّرا أبكي إلى من مرّ بي ... مثل الغريق بما يرى يتعلق والشعر مجهول، والغناء فيه من الرمل المجنب. 80- ومنهم، طريف بن معلّى الهاشمي من ولد جعفر بن أبي طالب، كان يدعي هذا النسب، وكان يطعن عليه فيه، ويقال زيادة على هذا إنه لغير أبيه، إلا أنه ذو أدب نهض بحسبه، وبيض منه

عرق مكتسبه، وولع بالقيان واقتنائهن، وسماع غنائهن، ثم دخل في الطرب حتى أخذ بأزمته وتقدم حتى عد من أئمته، ومن أصواته: «1» [الطويل] عجبت وقد ودعتها كيف لم أمت ... وكيف انثنت يوم الفراق يدي معي فيا مقلتي العبرى عليها اسكبي دما ... ويا كبدي الحرّى عليها تقطعي والشعر لأبي القاسم كشاجم، والغناء فيه في خفيف الرمل المعلق. ومن أصواته: «2» [الكامل] تعب يطول مع الرجاء لذي الهوى ... خير له من راحة في الياس [ص 259] لولا كرامتكم لما عاينتكم ... ولكنتم عندي كبعض الناس والشعر للعباس بن الأحنف، والغناء فيه من خفيف الرمل المزموم، ويعرض فيه ما حكاه ابن حمدون النديم، قال: وقع بين عريب المأمونية ومحمد بن حامد شر، وكان يجد بها الوجد كله، وتجد به «3» مثل ذلك، فلقيته يوما فقالت: كيف قلبك يا محمد؟ فقال: أشقى والله ما كان وأقرحه، قالت: استبدل تسل، فقال: لو كانت البلوى باختيار لفعلت، فقالت: لقد طال إذا تعبك، فقال: وما يكون أصبر مكرها وأقول بقول الشاعر: «4» [الكامل] تعب يطول مع الرّجاء- البيت- فذرفت عيناها واعتذرت إليه وأعتبته واصطلحا، وعادا إلى أفضل ما كانا عليه.

81 - ومنهم، تحفة جارية المعتز

قلت: وذكر ابن ناقيا في هذا الشعر صوتا لعريب، قال: ومن أغانيها في هذا المذهب أيضا من كتاب أبي الفرج فيما تضمنه في ذكر حالها، أن المأمون لما وقف على خبرها، أمر بإلباسها جبة صوف وختم زيقها وحبسها في بيت مظلم، ثم ذكر الحكاية، وقد تقدمت ترجمة عريب المأمونية. ومن أصوات طريف: [مجزوء الرمل] حبذا صبح تبدى ... والدجى وحف «1» الجناح طلعت لي فيه شمس ... أشرقت حتى الصباح فشربت الراح صرفا ... من ثناياك الأقاح من غزال سرق الخل ... خال عطشان الوشاح والشعر من المجهول، والغناء فيه مطلق من الطريقة السادسة من الهزج. 81- ومنهم، تحفة جارية المعتز أدّها ابن المعتز وخرّجها، وعلّمها النحو واللغة، وروّاها الشعر وأيام الناس، وعلمها الغناء وضرب العود، وجمع لها الحذاق من أهل الصنعة حتى أخذت عنهم، وصارت من المجيدات في الصنعة، لا تلحق في ميدانها، ولا تمارى في نطق عيدانها، إلى جمال بارع، وخلال عذبه المشارع، وحسن باهر، وإحسان ظاهر، بوجه نقل بدرا، [ص 260] وطرف ينفث سحرا، وقدّ يستقل غصنا نضرا، هذا مع جبين يجني من عناقيد الأصداغ أعنابا، وبنان يقطف منه جناه الحسن عنابا. ومن مشاهير أصواتها: «2» [البسيط]

82 - ومنهم - إسحاق المنجم

حطوا الرحال إلى خمّار دسكرة ... مستعجل بافتتاح الدن محثوث «1» تميل من سكرات الخمر قامته ... كمثل ماش على دف بتخنيث والشعر لمولاها أبي العباس بن المعتز، والغناء فيه ثقيل أول محمول على نحو صوت إسحاق الموصلي: «2» [الطويل] تغير لي فيمن تغير حارث ... وكم من أخ قد غيرته الحوادث أحارث إن شوركت فيك فطالما ... عمرنا وما بيني وبينك ثالث والشعر لإسحاق أيضا ذكره ابن ناقيا في كتاب المحدث في الأغاني، وكذلك لتحفة جارية أبي العباس صوت في شعر مولاها، وهو: [مخلّع البسيط] أجوز جهرا بلا حذار ... خوف رقيب على حبيب وذاك أني ضنيت حتى ... خفيت عن ناظر الرقيب والغناء فيه من محمول الرمل الذي يحصر بالسبابة. 82- ومنهم- إسحاق المنجّم وكان بدرا لا يتآكله المحاق، وجوادا لا يحاول به اللحاق، وبحرا في كل علم لا يشبه إلا بسميّه إسحاق، وكان يتحفّى بالغناء تحفي المنهمك في طلب المطالب، ويتكتم تكتم المأمون من أبيه حب آل أبي طالب، إلا أنه كان تلو «3»

أخيه في اتساع الرواية وارتفاع الراية، ومن مشاهير أصواته: «1» [الكامل] ما يستحي أحد يقال له ... نضلوك آل بويه أو فضلوا فوق السّماء وفوق ما طلبوا ... فإذا أرادوا غاية نزلوا والشعر لأبي الطيب المتنبي، والغناء فيه في الهزج والمزموم، وكذلك صوته: «2» [المتقارب] أرى ذلك القرب صار ازورارا ... وصار طويل السلام اختصارا تركتني اليوم في خجلة ... أموت مرارا وأحيا مرارا [ص 261] أسارقك اللحظ مستخفيا ... وأزجر في الخيل مهري سرارا وأعلم أني [إذا] ما اعتذرت ... أراد اعتذاري إليك اعتذارا والشعر لأبي الطيب المتنبي، والغناء فيه ثقيل أول محمول. قال ابن ناقيا: وفي هذا المذهب [المتقارب] أقول وقد أزمعو «3» اللنوى ... عشية للبين حثوا المسير «4» يعز علي فراقي لكم ... وإن كان سهلا عليكم يسير ولإسحاق المنجم صوت هو من قلائده وفرائده، وهو: «5» [السريع] أعددت للأعداء خيفانة ... مثل عقاب السرحة العادي وأسمرا في رأسه أزرق ... مثل لسان الحية الصادي

أين محل الحي دون الغضا ... خبّر سقاك الرائح الغادي والشعر لدعبل والغناء فيه من الرمل المسرح. وذكر ابن ناقيا من أصواته في شعر أبي نواس: «1» [البسيط] إن كنت لست معي فالذكر منك معي ... يراك قلبي إذا ما غبت عن بصري العين تبصر من تهوى وتعدمه ... وناظر القلب لا يخلو من النظر والغناء فيه من الرمل المزموم. ومن أصوات إسحاق بن المنجم أيضا: «2» [البسيط] نطوي الليالي علما أن ستطوينا ... فشعشعيها بماء المزن واسقينا وتوّجي بكؤوس الراح راحتنا ... فإنما خلقت للراح أيدينا والشعر للسّريّ بن أحمد بن السّريّ الرفاء الموصلي، والغناء فيه مطلق من الطريقة الرابعة من الرمل، وكان السّريّ من شعراء سيف الدولة، فحسده الخالديان فارتحل إلى بغداد قاصدا حضرة الوزير المهلبي، فارتحلا وراءه ودخلا على المهلبي وثلباه فلم يحظ بطائل، فأقام ورّاقا ببغداد إلى أن مات، وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى في موضعه. ذكر أبو بكر الخطيب قال: أنشدني أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الجبار قال: رأيت في منامي كأني دخلت [ص 262] دار عضد الدولة، ووصلت

إلى الصّفّة «1» الكبيرة التي على البستان، فرأيته جالسا في صدرها، وبين يديه أبو عبد الله بن المنجم وهو يغني، فقال لي عضد الدولة: كيف تراه يغني، طيبا؟ فقلت: نعم، فقال: فاعمل له قطعة يغنيها، فانصرفت من حضرته، وجلست على طرف البستان، ومعي دواة وكاغد لأعمل وبدأت أفكر «2» ، فإذا الشيخ قد وافاني من عنده، وعليه رداء، فقال: ماذا تصنع؟ قلت: أعمل قطعة لأبي عبد الله ابن المنجم يغني بها، فقال: فنتعاون عليها، فقلت: أفعل، فقال: إن شئت أن تعمل الصدور، وأعمل الأعجاز فافعل، فبدأت وقلت: [الطويل] فبتنا وسادانا ذراع ومعصم فقال في الحال: وعضد على عضد وخدّ على خدّ فقلت: بكر التّشاكي في حديث كأنّه فقال في الحال: تساقط ذو [ب] العقد والعنبر الهندي فقلت: وقد لفّ جيدينا عناق مضيّق «3» فقال في الحال:

83 - ومنهم - ابن العلاف نديم المعتضد

فلم تدر عين أيّنا لابس العقد فقلت: أضنّ على بدر السّماء بوجهها فقال: وأستره من أن يلاحظه جهدي ثم قال: ألست تعلم أن قولك هذا في النوم، فقلت: بلى، فقال: كرّرها حتى تحفظها وتثبتها إذا انتبهت ولا تنسها، واخذ الرقعة بيده، وطفقت أقرأها عليه مرات حتى حفظتها، ثم انتبهت فعملت لها أولا مصوغا هو: وزارت بلا وعد بنفسي التي ... تسير من الواشين في غابة الأسد «1» وبعد الأبيات: إلى أن ثنت ريح الصبا من خمارها ... فأبصر أبهى منه منها [بلا] حمد ولم أدر أن البدر أمسى متيما ... يجن بها ما في حشاي من الوجد وكنت مروعا منه يفضح سرنا ... ولم أدر أن البدر يفضح من عندي 83- ومنهم- ابن العلّاف نديم المعتضد «2» وهو أبو بكر الحسن بن علي بن أحمد بن بشار نديم المعتضد، ومسايس ذلك

الأسد، وملاين صعاب تلك العريكة، ومجالس تلك الصمصامية على الأريكة، وكان ممن أجاد في الغناء، وجاء في ألحانه بقطع الروضة الغناء، وكان لا يغني إلا للمعتضد [ص 263] منفردا، ولا يسمع منه صوت إلا كالماء مطردا، ولم تنقل أصواته إلا من دفتر كان له دوّن فيه غناءه، وعرف به من بعده اعتناءه: «1» [الطويل] لعمرك إني في الحياة لزاهد ... وفي العيش مالم ألق أم حكيم من الخفرات البيض لم أر مثلها ... شفاء لذي بث ولا لسقيم ولو شهدتنا يوم دولاب أبصرت ... طعان فتى في الحرب غير ذميم والشعر لقطري بن الفجاءة، وروي لعمرو القنا، وروي لحبيب بن سهم، وقيل: بل لعبدة بن هلال اليشكري، ودولاب اسم قرية من أعمال الأهواز كانت بها حرب الأزارقة وابن عنبس بن كريز أيام ابن الزبير، والغناء فيه ثقيل أوّل مزموم، وذكره ابن خرداذبة ونسب صنعته إلى المعتضد، وقد نسب إليه عدة أصوات كثيرة، منها في شعر عمر بن أبي ربيعة: «2» [الطويل] رأت رجلا أمّا إذا الشمس عارضت ... فيضحى وأما بالعشي فيخصر أخا سفر جواب أرض تقاذفت ... به فلوات فهو أشعث أغبر قليل على ظهر المطية ظله ... سوى ما نفى عنه الرداء المحبر وكان الأصمعي يقول: كان جرير إذا أنشد شعر عمر بن أبي ربيعة قال: هذا شعر تهامي إذا أنجد وجد البرد، حتى سمع قوله هذا فقال: ما زال هذا القرشي يهذي حتى قال الشعر.

عدنا «1» إلى ابن العلاف، ومن أصواته في شعره: [الطويل] سرى طيف سعدى موهنا فاستقر بي ... هيوبا وصحبي بالفلاة رقود ولما انتهينا للخيال الذي سرى ... إذا الدار قفر والمزار بعيد فقلت لعيني عاودي النوم واهجعي ... لعل خيالا طارقا سيعود والبيت الثاني منسوب إلى المعتضد وباقيه لابن العلاف، وكان ينادم المعتضد، ويشرف في الاجتماع به ولا يقتصد. وقد حكي أن المعتضد بعث إليه بخادم من خاصته في بعض الليالي، فقال: إن أمير المؤمنين يقول لك: ارقب الليلة، فعملت بيتا من الشعر وأرتج عليّ تمامه، قال: [ص 264] وأنشد البيت، قال: فأجزته له، فمضى وعاد، فقال: أحسنت ووقع قولك على غرض أمير المؤمنين، وقد أمر لك بجائزة، وها هي، فدفعها إليّ، فقلت: [الطويل] وآخر يأتي رزقه وهو نائم قال: ثم أمرني فغنيت فيه، والغناء فيه خفيف الثقيل المزموم. ومن الأصوات المنسوبة إليه: [الكامل] يا من يحاكي البدر عند تمامه ... ارحم فتى يحكيه عند محاقه أو ليس من إحدى العجائب أنني ... فارقته وبقيت بعد فراقه والشعر له ويروى لغيره، والغناء فيه من الهزج المحمول، ولغيره فيه غناء: [البسيط] أما ترى الليل قد ولت عساكره ... مهزومة وجيوش الصبح في الطلب

84 - ومنهم - مؤدب الراضي

والبدر في الأفق الغربي مطلعه ... من فوق دجلة منحازا إلى الهرب «1» كأنما هو بالخط السوي بها ... قد مدّ «2» جسرا على الشطين من ذهب والشعر لبعض الهاشميين والغناء فيه في الهزج المجنب، وللمختارين فيه غناء في الزريقي المطلق وفي هذا ذكره ابن ناقيا وقال: وغنوا في هذا المذهب: [الوافر] وخمار تخب إليه ليلا ... قلائص قد تعبن من النهار فحمحم والكرى في مقلتيه ... لمخمور شكا ألم الخمار «3» أبن لي كيف صرت إلى حريمي ... وجفن الليل مكتحل بقار فقلت له ترفق لي فإني ... رأيت الصبح من خلل الديار فكان جوابه أن قال صبح ... ولا صبح سوى ضوء العقار 84- ومنهم- مؤدّب الرّاضي «4» مؤدب ذلك الخلق السّمح، ومؤدى ذلك الكرم الجم إلى الصفح، كان بقربه محظيا، وبحبه الراضي مرضيا، ولم يخف أفق جمال هو كوكبه، ولا شرف سماء به موكبه، وكانت يده تسحّ عليه سجالا، وتمر إليه عجالى، وكان في علم النغم

85 - ومنهم - أبو سعد بن بشر

عالما لو اهتدت إليه الأوائل لما ذكر قائل. ومن أصواته: [البسيط] قالت بعادك من قربي يقربني ... وفي دنّوك أخشى النّار والعارا «1» [ص 265] إذا قضيت لنا ما منك نأمله ... فاستغفر الله تلقى الله غفارا قالت لقد بعد المسرى فقلت لها ... من عاجل الشوق أن يستبعد الدارا والشعر فيه قديم، والغناء فيه من خفيف الرمل المزموم، وله صوت في شعر الواثق، وكان قد صنع فيه الواثق لحنا ولم ينقل محفوظا وهو هذا: [البسيط] لما استقل بأرداف تجاذبه ... واخضر فوق حجاب الدر شاربه كلمته بجفون غير ناطقة ... فكان من ردها «2» ما قال حاجبه والغناء فيه من الهزج المزموم. 85- ومنهم- أبو سعد بن بشر العطار الطنبوري المعروف بغلام الديلمي، وإمام هذه الصناعة، وكم من كميّ كاد به الطنبور أن يبيت يحرق العود، ويزم المزمار، وإن أعطي نعمة من آل داود، وكان لا يعدل طرب صوت وتره الفصيح، وصوت ترتيبه الصحيح، وشدو أوتاره التي لو حيّت بها القسي لكانت لها تناهز، ولما قيل فيها وقد ترنمت ثكلى أوجعتها الجنائز، ومن أصواته: [المديد] رنة الدولاب في السحر ... واصطلاح الناي والوتر تركتني جار معصرة ... لا أفيق الدهر من سكري

86 - ومنهم - مسكين بن صدقة

والشعر لأبي الحسن عاصم بن الحسن بن عاصم، والغناء فيه مطلق من الطريقة الرابعة وهي الرمل. 86- ومنهم- مسكين بن صدقة «1» المديني مولى قريش، ومكمل طيب كل عيش، كان من صفو الحياة وطيبها، ولدارة أيام العمر ونصيبها، لو بات يسمع السليم لألهاه، أو يشغل الكئيب لأسلاه، كان أنسا للجليس، ونفسا للخندريس، وشمسا للندماء، بل ابن الشمس منه لمن يقيس. ومن أصواته: «2» [الكامل] يا ويح من لعب الهوى بحياته ... فأماته من قبل حين مماته وحياة من أهوى فإني لم أكن ... أبدا لأحلف كاذبا بحياته لأخالفن عواذلي في لذتي ... ولأسعدن أخي على لذاته والشعر لأبي العتاهية، والغناء فيه مطلق من الرمل، وقد ذكر ابن ناقيا في هذا المذهب صوتا: [ص 266] [الكامل] الله يعلم ما هممت بسلوة ... الدمع يخلف والعواذل تشهد وعلي من ذكرى عهودك آمر ... ينهي الفؤاد عن السلو ويبعد

87 - ومنهم - بديع بن محسن

قال: والشعر لأبي محمد بن معروف القاضي، ثم قال: وحكي أن بعض الرؤساء عاتبه على قول الغزل، فجحد ذلك فقال له: من الذي يقول: الدّمع يخلف والعواذل تشهد غيرك، فإن هذه صفة مجلس الحكم. 87- ومنهم- بديع بن محسن ابن عبد الرحمن من ولد عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان العرجي الشاعر، كجده الشارع سبيلا لودّه، كان مع نظم القريض، وعظم شرفه المستفيض، مبرّزا في صناعة الغناء قيّما بألحانها، منعما في صفوف ريحانها، كأنما جاء في عصر أردشير «1» ، وأخذ عن الموابذة الزمزمة «2» بالأساطير، تعلم ما يقرب به لقباذ، وزمزم به أنو شروان «3» حول كروم طيزناباذ «4» ، فسلب حلي فارس، وجنى من شجر لم يكن له بغارس. ومن أصواته: [المتقارب] سهرت اغتنام «5» ليالي الوصال ... لعلمي بها أنها تنفد فقال وقد رق لي قلبه ... وأيقن أني به مكمد إذا كنت تسهر ليل الوصال ... وليل الصدود متى ترقد

88 - ومنهم - غضوب جارية المتقي

والشعر مجهول، والغناء فيه مطلق من الرمل. ومن أصواته: [مجزوء البسيط المخلّع] نكهتك العنبر الفتات «1» ... وريقك البارد الفرات وعارضاك اللذان راقا ... لما بدا فيهما النبات وحيث ما كنت من بلاد ... فلي إلى وجهك التفات والشعر يروى للشريف الرضي، والثالث معروف له، والغناء فيه من مجهول الرمل الذي يحصر بالسّبّابة. ومن أصواته: [الخفيف] لي حبيب تسيء فيه الظنون ... ليس لي في هواه دمع مصون قال لي كيف كان حالك بعدي ... قلت مثلي بأي حال يكون والشعر مجهول، والغناء فيه من خفيف الرمل المعلق [ص 267] 88- ومنهم- غضوب «2» جارية المتّقي شمس كلل وطراز حلل، ورضى وإن سمّيت بغضوب، وبدرا وإن عوجلت بغروب، ولم تعرف إلا بعد المتقي، وامتداد أجلها الشقي، وكانت على عهده لا يعرف عنها مخبرا ولا يبلغ ريح الصبا عنها خبرا، وكانت من المهرة الحذّاق، والجواري اللائي لم يلحقن إلا فتنة للعشاق. ومن أصواتها: [الكامل] أوفى على بدر السماء بحسنه ... وزها على الشمس المنيرة إذ زها

وإذا أراد تنزها في روضة ... أخذ المراة بكفه فتنزها فكأنما أعطاه خالقه المنى ... وحباه من حلل الملاحة طرزها «1» والشعر مجهول، والغناء فيه من الرمل المسرح. ومن أصواتها الطائرة: «2» [الوافر] فقلت لها ظلوم مطلت ديني ... وشر الغارمين ذوو المطال فقالت ويح نفسي كيف أقضي ... غريما ما ذهبت له بمال والشعر لكثير بن عبد الرحمن صاحب عزّة، والغناء فيه من الرمل المزموم وكذلك صوتها في شعر ابن المعتز: «3» [الوافر] شجاني صوت مسمعة وراح ... يباكرني إذا برق الصباح ومعشوق الشمائل عسكري ... جنى قتلي وليس له سلاح كأن الكأس في يده عروس ... لها من لؤلؤ رطب وشاح وقائلة متى يفنى هواه ... فقلت لها إذا فني الملاح وكذلك صوتها: [الطويل] ألا أيها الظبي الذي مل من قربي ... أبن لي فدتك النفس بالله ماذنبي فإن كان ذنبي أنني بك ذا ضنى ... فلا غفر الرحمن ذلك من ذنبي والشعر مجهول، والغناء فيه من الزريقي المطلق. وبهذا ذكرت شعرا كنت

89 - ومنهم - معمر بن قطامي

قلته وهو: [الطويل] تصدّين عني والفؤاد معذب ... وما كنت يوما عن ودادك راغبا لئن كان ذنبي أنني لك عاشق ... فعذبت بالهجران إن جئت تائبا [ص 268] 89- ومنهم- معمر بن قطامي ابن خالد الدمشقي، كان بدمشق من أطرب شحاريرها، وأطيب على مجاري تلك المياه من أصوات خريرها، أقام طول عمره يؤخذ عنه الغناء، وتأليف ضروبه، وتصنيف غريبه، وإتقانه على حسن ترتيبه، فكان لا يثبت سامعه، ولا يماثل به معبد ولا أبو الفرج وما حواه جامعه. ومن أصواته: [مجزوء الكامل] يا راحلا جعل الفرا ... ق لبعده سبب التلاقي قد كان ساء فضمني ... ضم المودع للفراق قد كان صد فحين وا ... صلني على غير اتفاق عانقته وبكيت من ... جزعي لما بعد العناق والشعر لأبي القاسم المطرزي، والغناء فيه من المطلق في الرمل. ومن أصواته: [المتقارب] مرض الجفون بلا علة ... ومكتحل الطرف لم يكتحل شكا حسنه قبح أفعاله ... فأثر في وجنتيه الخجل أقلي الملام ولا تعذلي ... ففي ذا الغزال يطيب الغزل والشعر لنصر بن أحمد الأرزي، والغناء فيه في رابع الرمل.

90 - ومنهم - تحفة جارية أبي محمد [ص 269]

وكذلك صوته: «1» [الطويل] وخبرني عن مجلس كنت زينة ... رسول أمين والنساء شهود فقلت لها كري الحديث الذي مضى ... وذكرك من بين الحديث أريد والشعر للعباس بن الأحنف، والغناء فيه خفيف الرمل المزموم. قال: ومنهم ابن ناقيا في هذا المذهب: [الطويل] وكنت وأيام المزار رخية ... علي ورخص الود لي فيك مطمع أعز فلا أعطي الهوى فيك حقه ... من الشكر والمعطي مع الحق يمنع فلما استرد الدهر مني عطاءه ... وكادت شعاب من هواي تقطع فعدت مع الهجران أبكي على الهوى ... وأسأله عن فائت كيف يرجع 90- ومنهم- تحفة جارية أبي محمّد [ص 269] الحسن بن عيسى بن المقتدر، وكانت تغني غناء المقتدر، وتسرع أول المغاني وتبتدر وتذهب في أصواتها مذهب الأوائل، وتخلب القلوب بلقابة «2» الشمائل، تسلي عن هوى ميّ ذا الرمة، وتنسي هوى زينب بشارا الأكمه، تعاود بها لهزم شبابه، ويعيد حبّها زمان زيد وحبّابة «3» . ومن أصواتها: [مجزوء الرمل] يا بديعا ألبس السّق ... م به جسما بديعا

91 - تحفة؟؟؟ جارية أبي يعقوب

إنّ صبري وعزائي ... هلكا فيك جميعا والشعر مجهول، والغناء فيه في الطريقة الرابعة من الرمل. وكذلك صوتها في بحر المنسرح وهو: [المنسرح] هل لك في خمرة مشعشعة ... تضحك في كأسها لشاربها كأنما الماء حين خالطها ... يلعب بالنرد في جوانبها وكذلك صوتها: «1» [الطويل] لقد قتلت عيناك نفسا كريمة ... فلا تأمني إن مت سطوة ثائر كأن فؤادي في السماء معلق ... إذا غبت عن عيني بمخلب طائر والشعر لابن المعتز، والغناء فيه في خفيف الرمل المحمول فيه. 91- تحفة؟؟؟ جارية أبي يعقوب «2» وكانت تخلف القمر إذا غاب، وتخلب السالي وقد فارق زمان الشباب، تبسم عن سمطي جمان، وتقرن تفاح خدودها من النهود برمان، وكان حسنها المفرط يأبى أن يصان، وصوتها المطرب لا تحكيه الحمائم على الأغصان، ومن أصواتها: «3» [مجزوء الرمل] آح من حبّك آح ... آح منه لابراح إنما تيّم قلبي ... عقد درّ ووشاح والشعر للوليد بن يزيد، والغناء فيه مطلق في الطريقة الرابعة من الرمل.

92 - ومنهم - أبو العز العواد

وكذلك صوتها: [مجزوء الكامل] هبوا إلى حلب الكرو ... م مزاجه حلب السحاب فالدهر يركض فاركضوا ... ركض المشيب إلى الشباب ودعوا العتاب فإنه ... وقت يجل عن العتاب [ص 270] والشعر مجهول، والغناء فيه في خفيف الرمل المسرح. 92- ومنهم- أبو العزّ العوّاد واسمه نصر الله بن أحمد، ويعرف بالبصري، وكان شاعرا مغنيا، ونديما معينا، حاذقا في صناعته، نافقا في سوق بضاعته، جيد الصوت، مليح النغم، صحيح الضرب، مذهبه مذهب الزّطّ «1» في الحركة والخفة في المقاطع وصحة الإيقاع. قال ابن ناقيا: وله غناء في عدة قطع «2» من شعري، ومن أصواته في شعر نفسه: [الطويل] جعلتك لي عينا وأذنا «3» لأنني ... أراك بعين الود أشرف منهما واسأل «4» عن القلب الذي لا يحلّه ... سواك لتدري ما يجنّ فترحما

93 - ومنهم - عين الزمان أبو القاسم

93- ومنهم- عين الزّمان أبو القاسم مطرب لو غنى للجهام لهتن، أو للسالي الغرام لأثار له الفتن، بضرب أشجى من الورقاء، وأشد حنينا من قلب المحب للقاء، لو سمعته صخرة الوادي لتفجرت، أو مقلة القاسي لجرت، وله أصوات منها: [الكامل] سترت بنفسج صدغها بنقابها ... وحمته بالتطريف من عنابها بدوية ألفاظها ولحاظها ... والروم تستولي على أنسابها شرق «1» الجمال بحمرة في خدها ... خجلا فكاد يفيض ماء شبابها والشعر لأبي الوليد أحمد بن محمد البخاري، والغناء فيه مزموم الرمل. قال ابن ناقيا: أنشدني إياه عنه أبو محمد الحسن بن سهل بن خلف، شيخ من مشايخنا، مليح العارضة والمحاضرة، قد لقي جماعة من العلماء، وروى عنهم الأحاديث والأسانيد، وكان قد صحب الإخوان، وعرف الزمان وحلب الدهر أشطره وأتلف باللذة تالده في معاشرة من عاشره، حتى سلب الشيب غرامه، وجلله ثغامه، فأيقظ حلمه، وألقى بين عينيه غرمه، فكان يحضر مجالس الأنس تعللا، لاحظ له في غير السماع والمشاهدة والمحادثة والمناشدة، فبينا أنا وجماعة [ص 271] من أبناء الأدب، حضور عند بعض الرؤساء على مذاكرة ومعاقرة، والشيخ قد انتظم في سلك اجتماعنا، ونثرت الأغاني عقودها في أسماعنا، قال الشيخ: بيوم من أيام الشبيبة، وقد حضر مجلسا كمجلسكم هذا، آهلا من الأدب والطرب، وطرأ إلينا أبو الوليد البخاري، فأخذ في شأننا، ولم يأل في إنشادنا، وكان مطبوع الخلق، محتملا للدعابة، فقلت له مازحا: دعنا من أقطاعك الباردة، فقال: هل لك في الإنصاف؟ فقلت: أجل، فأنشد أبياته المذكورة، وقال: أمن الشعر البارد هذا؟ قلت: لا والله، وجعلت أعتذر إليه،

94 - ومنهم - أبو العبيس بن حمدون

وتعاطى روايتها جماعة الحاضرين شغفا بها، واقترحها على بعض المغنين، فغنّى فيها، وتصرم يومنا بسماعها، حتى أخذ منا الشراب، فيا له يوما كأيام، ثم نطقت إشارته بالتأسف على ما مضى من زمانه، فقلنا له: نحن نتمم لك الحلف من يومك السالف باقتراح الغناء في الأبيات، وإليك ما يقتضيه سماعها، وتقدمنا إلى أبي القاسم عين الزمان وهو حاضر، وكان له مذهب في حسن الإيقاع وجودة الاختراع، فغنى بها في هذا اللحن، فطار المجلس بأهله سرورا وطربا وقام الشيخ الخلفيّ يصفق بيده ثم قال: والله لأؤدينّ هذا الصوت بنقض التوبة، وتناول كأسا فسرّ بها فداخلنا العجب مما رأينا من ارتياحه وطربه، وصار الصوت من قلائد عين الزمان وخاصة غنائه يسميه ناقض التوبة. 94- ومنهم- أبو العبيس بن حمدون متقن للألحان، مؤثر في الألقاب تأثير بنت الحان، لو تغنى لمغنّ لأزال عنه النصب، أو عاد بعوده لمشف لأزال عنه الوصب، أو وقع على دف لأغناه عن موصول القصب، يطرب السّمع ويرقص في المجلس حتى الشّمع، يعرض دونه الغريض، ويرى علويه وقد انكسر لخفض جناحه المهيض: «1» [الطويل] فديتك أعدائي كثير وشقتي ... بعيد وأنصاري لديك قليل وكنت إذا ما جئت جئت بعلّة ... فأفنيت علاتي فكيف أقول؟ فما كل يوم لي بأرضك حاجة ... ولا كل يوم لي إليك رسول [ص 272] والشعر ليحيى بن طالب الحنفي، ويروى لابن الدمينة، والغناء فيه ثقيل أول مزموم، وكذلك من قلائد أصواته: «2» [الخفيف]

95 - ومنهم - جيداء جارية سيف الدولة

بأبي أنت شادنا بي فظّا ... لم تدع للظّباء عندي حظّا لست أنساك ما حييت ولكن ... كلّ يوم تزيد عندي وتحظى والشعر مجهول لا يعرف قائله، والغناء فيه ثاني ثقيل المجنب، وقد روى له المأمون صوتا: «1» [الطويل] لقد جعلت نفسي على النّأي تنطوي ... وعيني على فقد الحبيب تنام وفارقت حتّى ما أبالي من النّوى ... وإن بان جيران عليّ كرام والشعر للطرماح ويروى لمؤرج السدوسي، والغناء فيه من الممخر من خفيف الثقيل. 95- ومنهم- جيداء جارية سيف الدّولة «2» ابن حمدان، وكانت أخت الغزالة محاسن، وشبه الغزال من نظر فاتن، إلى سرّ فيها كامن، وسرى طرب يحرك كل ساكن، وخلائق كأنّ نشر الصبا دمّثها «3» ، وكأن هاروت وماروت نفثها، لو اعترضت لسرية عبس لأوقفتها عن السّرح، أو سمعتها أذن بلقيس لألهتها عن الصرح، ولو تلمحت عن وجهها الأسارير «4» لقالت إنه صرح ممرّد من قوارير، ومن مشاهير أصواتها: [المنسرح] يا طول شوقي إلى الرحيل غدا ... ويا بلائي منه إذا وفدا

أضناني الحبّ إذا تعرض بي ... ما قتل الحبّ هكذا أبدا والشعر لسيف الدولة، ويقال لغيره، والغناء فيه ثقيل أول مزموم. وكذلك من أصواتها: [الخفيف] لك أن تمنع الجفون الهجوعا ... ولنا أن نسحّ فيها الدّموعا يا بديع الجمال أبدعت في الصّد ... د كما في هواك صرت» بديعا والشعر لعلي بن محمد العلوي. قال ابن ناقيا: ويغنّى في الرمل المطلق، وحكي أنها كانت تنافث «2» العلماء، وتطارح الشعراء، وكانت لا تزال تحضر مجلس سيف الدولة وراء ستر يسبل دونها، وهي بإزاء عين سيف الدولة، حيث ينظر [ص 273] ، فلما أقام أبو الطيب المتنبي لديه ماثلا، وأنشد في مدحه قائلا قصيدته التي أولها: «3» [الطويل] لكلّ امرئ من دهره ما تعوّدا ... وعادات سيف الدّولة الطّعن في العدى اهتزت لها من وراء الستر طربا، وصنعت لحنا في قوله منها: «4» [الطويل] تركت السرى خلفي لمن قل ماله ... وأنعلت أفراسي بنعماك عسجدا وقيدت نفسي في هواك محبة ... ومن وجد الإحسان قيدا تقيدا إذا أنت أكرمت الكريم ملكته ... وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا والغناء فيه رمل مطلق، فلم يفرغ أبو الطيب من إنشاده حتى فرغت من

صنعته، ثم بعثت بالخادم إلى سيف الدولة تعلمه أنها صنعت لحنا فيه، فصرف الناس إلا خاصته، وأبقى أبا الطيب منهم، ثم قال: يا جيداء، هات ما صنعت، فاندفعت تغني الأبيات، قال أبو الطيب: فو الله ما ظننت إلا أن المجلس يرقص بنا، فاستعادها، ثم لم يزل يستعيدها وهي ترددها حتى مضت سحابة يومنا، وكأننا في كل مرة أول ما سمعناه، ثم أمر لي سيف الدولة بجائزة جليلة، فقلت: هي والله يا أمير المؤمنين أحق بها، فسألتك بالله إلا ما جعلته لها، فقال: بل هي لك ولها مثلها. ومن أصواتها السيارة في شعر ابن المعتز: «1» [الوافر] وليل قد سهرت ونام فيه ... ندامى صرّعوا حولي رقودا أنادم فيه قهقهة القناني ... ومزمارا يعللني وعودا فكاد الليل يرجمني بنجم ... وقال أراه شيطانا مريدا والغناء فيه من الرمل المزموم، وقد ذكر الثعالبي في اليتيمة لجيداء هذه خبرا مع سيف الدولة وأبي فراس بن حمدان قريبه غير أنه لم يسمّها، قال: وكان سيف الدولة قلما ينشط لمجلس الأنس لاشتغاله عنه بتدبير الجيوش، وملابسة الحروب، وممارسة الخطوب، فوافت حضرته إحدى «2» المحسنات من فتيات بغداد، فتاقت نفس أبي فراس إلى سماعها، ولم تر أن يبدأ باستعارتها قبل سيف الدولة، فكتب إليه يحثه على استحضارها، فقال: «3» [السريع] محلك الجوزاء أو أرفع ... وصدرك الدهناء بل أوسع «4»

96 - ومنهم - القاسم بن زرزر

[ص 274] وقلبك الرحب الذي لم يزل ... للجد والهزل به موضع رفه بقرع العود سمعا غدا ... قرع العوالي جل ما يسمع فبلغت هذه الأبيات المهلبي الوزير، فأمر القيان بحفظها وتلحينها، وصار لا يشرب إلا عليها، انتهى «1» . ولعل هذه جيداء، وكان هذا قبل أن يشتريها سيف الدولة، أو لعلها جارية أخرى قدمت عليه ولم تصر إليه. 96- ومنهم- القاسم بن زرزر ذكره ابن ناقيا، وشكره حقيقة لا رياء، وإذا «2» غنّى سلّى الحزين فجعه، وسلب الحمام سجعه، وغرغر في المآقي دمعة المشوق، ومثل للمفارق طعنة المعشوق، كم هزّ غصن بان، وأنسى المتيم الشغف من بان، وكان يغنّي في رسيل وآلة ومن أصواته المشهورة: «3» [الطويل] وركب كأطراف الأسنة عرسوا ... على مثلها والليل تسطو غياهبه لأمر عليهم أن تتم صدوره ... وليس عليهم أن تتم عواقبه والشعر لأبي تمام في قصيدة يمدح بها عبد الله بن طاهر، وهو على خراسان. وقال ابن ناقيا: وحكي أنه لما أنشده إياها أمر فنثر عليه ألف دينار، ثم حمل إليه الجائزة بعد ذلك، والغناء فيه ثقيل مزموم. ثم قال: وفي هذا المذهب من بحر المديد: [المديد]

يا نديمي الصّبح قد وضحا ... فأدر لا تحبس القدحا «1» ما ترى برد الهوى عبقا ... بنسيم المسك قد نفحا؟ وهذا البيت الثاني في نحوه ما يأتي من شعر فلتة، ونحن في مجلس قد ركّب على نهر مطّرد كأنه أيم «2» فرّ من يد قاتله أو اضطرب في جوف مخاتله، والدوح قد مالت ذوائبه، والنسيم قد رقّ ولان جانبه، والليل قد جلّل الأفق مسكي ردائه، وبلّل مطارف الثرى بأندائه، والقمر قد أقبل على طوق هالته، وجلا ضوؤه المنير حالك حالته: [البسيط] [ص 275] لله مجلسنا والنهر مطرد ... كأنه ممعن قد جد في الهرب والدّوح قد مال مهتزا بلا طرب ... فكيف لو حركته نشوة الطرب «3» وللنسيم بنا أخذ تلذ به ... كأنه أخذة الوسنان بالهدب هذا وقد ذر مسك الليل أجمعه ... لولا نوافجه في الليل لم يطب «4» وعندنا كل ذي ودّ نسر به ... هو السرور فدع عنك ابنة العنب وأقبل البدر محفوفا بهالته ... كمثل بيضاء في طرق من الذهب عدنا إلى ذكر زرزر، ومن أصواته: [مجزوء الكامل] يا عين ما ظلم الفؤا ... دوما تعدى في الصنيع ذوقته ألم الهوى ... فمحا سوادك بالدموع

97 - ومنهم - علي بن منصور الهاشمي

والشعر مجهول، والغناء فيه من الممخر من ثاني ثقيل، ومن أصواته في شعر نفسه: [مجزوء الكامل] بالرّاح أعمر راحتي ... ما دام لي جسدي وروحي وعلى النّصيح ملامتي ... وعليّ عصيان النّصيح والغناء فيه من مزموم الرمل. 97- ومنهم- عليّ بن منصور الهاشميّ إمام من أئمة الغناء، وتمام من البدور الكاملة السّناء، يأخذ القلوب أخذة الوسن الوسنان، ويملك الألباب ملكة الجواد بالعنان، فلم «1» يفتح على مثله طرف، ولا منح شبيه فضله صاحب ظرف، كان في فنه غريبا، وعلى بعده إلى النفوس قريبا. وله أصوات منها: [مجزوء الرمل] قل لمن ريقته مس ... ك وند وندام والذي حلّل قتلي ... وهو محظور حرام كل نار غير ناري ... فيك برد وسلام والشعر لابن الحجاج، والغناء فيه فى الرمل المزموم، قال ابن ناقيا وفى هذا المذهب صوت: [السريع] يا ويح قلبي من تقلبه ... أبدا يحن إلى معذبه قالوا كتمت هواه عن جلد ... ولو انّ لي جلدا لبحت به [ص 276]

98 - ومنهم - كردم بن معبد

98- ومنهم- كردم بن معبد ابن الوليد بن محمد بن معبد بن كردم بن معبد المديني، أحد المغاني الفصاح، وواحد أهل المباني الصحاح، له نسب معرق لا يدانى ذلك الأب أبوه، وذلك النسب بالطرب يحبوه لكنه لم تنقل عنه أعمال، ولم تنحل المنى آمال. وله صوت هو: «1» [الخفيف] قل لأحبابنا الجفاة رويدا ... درّجونا على احتمال الملال أحسنوا في صنيعكم لمحب ... لا عدمناكم على كل حال إن هذا الصدود من غير جرم ... لم يدع فيّ موضعا للمقال والشعر لأبي فراس بن حمدان، والغناء فيه من الرمل المجنب. 99- ومنهم- أحمد بن أسامة النّصبيّ «2» كان من أسباب الطرب، وأشتات الأدب، لا يعدله في ضربه ضريب، ولا في نظرائه من يصبو «3» به اللبيب، يسلب الضاحي رداء الوقار، ويلبس الصاحي جلاء العقار، ويفعل طربه بالألباب، ما يفعله قرع المزاج بالحباب، إلى أدب ما قل له من نصيب، وطرب ليس هو من مثله بعجيب. ومن مشاهير أصواته: «4» [الكامل]

أصبحت رهنا للعداة مكبلا ... أمسي وأصبح في الأداهم أرسف ولقد أراني قبل ذلك ناعما ... جذلان آبي أن أضام وآنف «1» والشعر للأعشى، أعشى همدان، والغناء فيه مطلق من الطريقة الثالثة، وهي من خفيف الثقيل، والبيتان من قصيدة أولها: لمن الظعائن سيرهن ترجّف ... عوم السفين إذا تقاعس يجدف مرت بذي خشب كأن حمولها ... نخل بيثرب طلعه متصفف وغدت بهم يوم الفراق عرامس ... فتل المرافق بالهوادج دلف بان الخليط وفاتني برحيله ... خود إذا ذكرت لقلبك تشغف [ص 277] وسبب قول الأعشى هذه القصيدة أن الحجاج كان قد أغزاه بلد الديلم «2» ، فأسر، ثم إن بنتا للعلج الذي أسره هويته، وصارت إليه ليلا ومكنته [من نفسها] فأصبح قد واقعها ثماني مرات، فقالت: يا معاشر المسلمين، أهكذا تفعلون بنسائكم، فقال: هكذا نفعل كلنا، فقالت: بهذا الفعل نصرتم، ثم عاهدته أن يصطفيها لنفسه إن خلصته، فلما كان الليل حلت قيوده وأخذت طرقا تعرفها حتى نجا. فقال شاعر من أسرى المسلمين يعرّض به: «3» [الطويل] فمن كان يفديه «4» من الأسر ماله ... فهمدان تفديها الغداة أيورها ومن أصوات النصبي: [المتقارب]

100 - ومنهم - وشيحة

أيا دهر ويلك ماذا جميل ... فؤاد عليل وإلف نحيل «1» كأني أرى شخصه في المراة ... يلوح ومالي إليه سبيل والشعر لأبي الحسن محمد بن محمد البصروي، والغناء فيه من الطريقة الرابعة من الرمل. 100- ومنهم- وشيحة جارية من أهل منبج محسنة وناطقة لسنة، كأن أناملها على محضر العود سوسنة، لطيفة تعشق، وظريفة بسهام النواظر ترشق، لغنائها أخذة الكرى بالهدب، وهبة الصبا بالكتب، لم يسعد بها جد البحتري حيث حاطت، وإلى منهج التامير، وحل منه بعد المتوكل محل السمير «2» ، ولا قيّض له هواها فكان لا يذكر علويه «3» ، ولا يتبصّر طيفها ولو من علوه ويمنع برقها أن يشام، وجانب هواها ولم يقل يا دار علوة من أعالي الشام. ومن أصواتها المشهورة: «4» [المتقارب] ولما عبثن بأوتارهن ... قبيل التبلج أيقظنني عمدن لإصلاح عيدانهن ... فأصلحنهن وأفسدنني والشعر لأبي الفتح كشاجم، والغناء فيه مطلق من الطريقة الثالثة، وهي من خفيف الثقيل.

101 - ومنهم - إسرائيل اليهودي

101- ومنهم- إسرائيل اليهوديّ أثرى في أهل صناعته وتخوّل، وخلف منهم إسرائيل الأول، إلا أن ضعة دينه وضعته، وضائقة دينه ما وسعته، فكان عند اليهود محرما، لكنه أدام درس [ص 278] الزبور، ولبس الحبور حتى أصلح عوج لسانه، وأوضح منهج إحسانه، فصبر لمعاداة أهل دينه واحتسب، وألهاه كثرة ما اكتسب. ومن أصواته: [الطويل] أيا نفحات الريح من أرض بابل ... بحق الهوى إلا حملت رسائلي فإن لصحراء الغوير منازلا ... لأحبابنا أكرم بها من منازل وفيها التي هام الفؤاد بحبها ... وكم سائل لم يحظ منها بطائل تعلقها بالأمس خلوا من الهوى ... فقد شغلته اليوم عن كل شاغل والشعر لأبي بكر العنبري، والغناء فيه خفيف الثقيل المعلق، وكذلك صوته في شعر أبي الهندي: [البسيط] أبا الوليد أما والله لو عملت ... فيك الشّمول لما فارقتها أبدا «1» فلا نسيت حميّاها ولذّتها ... ولا عدلت بها مالا ولا ولدا 102- ومنهم- يحيى جارية أبي محمّد المهلّبي وكانت جارية تملأ العين، وتفرع العين، لو رآها ابن عيينة لما لبث بلحظه أن رشقها، أو أبو يزيد البسطامي، لما زاد في أن بسط عذر من عشقها، هيفاء رؤد بيضاء، تطول بحدق سود، مخصّرة تزدان بها عقودها، وترفّ «2» إليها رفيف الخزامى بان كل «3» نجودها، ومن أصواتها: [المتقارب]

103 - ومنهم - عنان جارية النطافي

تأوب عيني طيف ألم ... لطارقة طرقت في الظلم تخيل منها خيال سرى ... لتسلب حلمي بذاك الحلم فما أنس لا أنس إذ أقبلت ... تميس كغصن سقته الديم على رأسها معجر أخضر ... وفي جيدها سبح من برم «1» والشعر لأبي الفرج الأصفهاني، والغناء فيه من خفيف الثقيل المزموم، وحكى أبو الفرج قال: أنفذ إليّ الوزير أبو محمد المهلبي «2» ذات ليلة خمسة آلاف درهم صلة، لا أعرف سببها، فلما حضرت مجلسه من الغد على العادة في المنادمة قلت: لقد خفت أن يكون الرسول قد أخطأ القصد فيما حمله إليّ، وإن كان لا ينكر خطرات كرم الوزير، فقال: إني جلست البارحة على الشرب وخرجت إليّ يحيى وفي يدها عودها، وعليها قناع أخضر، وفي عنقها مخانق البرم «3» ، فذكرت أبياتا في قصيدة أنشدتها معزّ الدولة، وذكر [ص 279] هذه الأبيات، قال: فأنشدتها إياّها، فغنّت فيها، وتقدمت بإنفاذ الدراهم إليك، فقلت: هي الآن صلة أخرى بالسكون إلى علم سببها وشكرته على فعله. 103- ومنهم- عنان جارية النّطافيّ «4» مهاترة أبي نواس، ومظهرة غرائب الأنفاس، لم تبلغ مبلغها في المولدين امرأة

من النساء، ولا حظي بمثلها أحد من الرؤساء، ولا سمع مثل شعرها إلا من الخنساء، وغلبت على هوى الرشيد غلبة أوهنت عرقه، وأوهنت حدقه، حتى كاد ينضب بها جدول أمّ جعفر، وتمر ماردة وتكفر، فنصبت لها أمّ جعفر أشراك الحيل، ومدت لها طوائل الطيل «1» ، وأقامت من أبي نواس لها قرنا منابذا، وراميا إليها سهما نافذا «2» ، مقبحا لحسنها، ومبغضا لأجنها «3» ، حتى سفّه رأي الرشيد، ونكّد فيها علة عيشه الرغيد. قال أبو الفرج: نشأت باليمامة وتأدبت، وهمّ الرشيد أن يبتاعها، ثم منعه هجاء الشعراء لها، وكان ذلك بكيد من زبيدة، دخلت عليه وهي تتبختر، فقال لها: أتحبين أن أبتاعك؟ قالت: ولم لا أحب ذلك يا أحسن الناس خلقا وخلقا قال: أما الخلق فظاهر، وأما الخلق فما علمك به؟ قالت: رأيت شرارة قد طاحت من المجمرة حين جاء الغلام بالبخور إليك، فسقطت على ثوبك فأحرقته، فو الله ما قبضت لها وجها، ولا راجعت في جنايتها حرفا فقال لها: والله لولا أن العيون قد ابتذلتك لاشتريتك، ولكن لا يصلح للخلافة ما هذا سبيله، فاشتراها طاهر ابن الحسين. وروى الأصمعي قال: بعثت إليّ أم جعفر أن أمير المؤمنين قد لهج بذكر عنان، فإن صرفته عنها فلك حكمك، قال: فالتمست وقتا لخطابه فأعوز، وكنت أهابه فلا أقدم عليه ابتداء، فرأيت يوما في وجهه أثر الغضب، فقال: هذا

الناطفي مولى عنان، أما والله لولا أني لم أجر في حكم قط متعمدا «1» ، لجعلت على كل حبل منه قطعة، ومالي في جاريته أرب غير الشعر، فقلت: أجل ما فيها غير الشعر، أو يسرّ أمير المؤمنين أن يجامع الفرزدق، فضحك حتى استلقى وترك ذكرها. «2» وحكى يعقوب بن إبراهيم، أن الرشيد طلب من الناطفي جارية، فأبى أن يبيعها بأقل من مئة [ص 280] ألف دينار، فقال له: أعطيتكها على صرف سبعة دراهم بدينار، فأمر أن تحضر، فأحضرت ثم لم يمض البيع، ولم تزل في قلب الرشيد حتى مات مولاها الناطفي، فبعث بمسرور الخادم، فأخرجها إلى باب الكرخ، ووقفها على سرير، وعليها رداء رشيدي قد جللها، فنودي عليها، بعد أن شاور الفقهاء فيها، وقال: على مالكها دين، فأفتوا في بيعها، فانتهت إلى مئتين وخمسين ألف درهم، فأخذها مسرور «3» ، ولم يكن فيها ما يعاب، فطلبوا لها عيبا لئلا تصيبها العين، فأوقعوا بخنصر رجلها شيئا في ظفرها. فأولدها الرشيد ابنين ماتا صغيرين، ثم خرج بها إلى خراسان، فمات هناك، وماتت بعده بمدة يسيرة. وروى ابن عمار أنها خرجت إلى مصر وماتت بها حين أعتقها النطاف، ورثته بقولها: «4» [الكامل] يا دهر أفنيت القرون ولم تزل ... حتّى رميت بسهمك النّطافا وكانت مجيدة في الشعر مقصرة في الغناء، جارت مروان بن أبي حفصة وأبا نواس والعباس بن الأحنف، وكان يتعشقها العباس بن الأحنف. حكى رجل أن ابن أبي حفصة قال: لقيني الناطفي فدعاني إلى عنان،

فانطلقت معه إليها، فقال لها: قد جئتك بأشعر الناس مروان، وكانت عليلة، فقالت: إني عنه لفي شغل، فأهوى إليها بسوطه «1» ، فضربها به، فبكت فرأيت الدموع تنحدر من عينيها فقلت: «2» [السريع] بكت عنان فجرى دمعها ... كالدّرّ إذ ينسلّ من خيطه فقالت مسرعة بديهة: «3» [السريع] فليت من يضربها ظالما ... تيبس يمناه على سوطه «4» فقلت للنطاف: أعتق مروان ما يملك إن كان في الإنس والجن أشعر منها. وأنشدها أبو نواس: «5» [المنسرح] علقت من لو أتى على أنفس الما ... ضين والغابرين ما ندما قالت: «6» لو نظرت عينه إلى حجر ... ولّد فيه فتورها سقما وحكى أحمد بن معاوية قال، قال لي رجل تصفحت كتبا، فرأيت فيها بيتا جهدت جهدي [ص 281] أن أجد أحدا يجيزه «7» لي فلم أجده، فقال لي

صديق لي: عليك بعنان، فأتيتها فأنشدتها وهو: «1» [الطويل] ويبكي فأبكي رحمة لبكائه ... إذا ما بكى دمعا بكيت له دما وحكى الحسن بن وهب قال: دخلت على عنان يوما، فسألتني أن أقيم عندها، ففعلت، وأتينا بالطعام والشراب، فأكلنا وشربنا، وغنتني، فكان غناؤها دون شعرها، فشربت ستة أرطال ونكتها خمسة، وضجرت فقالت لي: ما أنصفت، شربت ستة ونكت خمسة، فتغافلت وقلت: غني صوتي: «2» [الطويل] خليلي ما للعاشقين قلوب ... ولا للعيون الناظرات ذنوب ويا معشر العشاق ما أبغض الهوى ... إذا كان لا يلقى المحب حبيب فغنت: «3» [الطويل] خليلي ما للعاشقين أيور ... ولا لحبيب لا يناك سرور ويا معشر العشاق ما أبغض الهوى ... إذا كان في أير الحبيب فتور فخجلت وانصرفت. وكتبت عنان على عصابتها باللؤلؤ: (إذا لم تستح فاصنع ما شئت)

104 - دنانير جارية محمد بن كناسة

وقال هبة الله بن إبراهيم بن المهدي: أنشدني أبي لعنان: «1» [الكامل] نفسي على حسراتها موقوفة ... فوددت لو خرجت مع الحسرات لو في يديّ حساب أيامي إذا ... أنفقتهن تعجلا لوفاتي لا خير بعدك في الحياة وإنما ... أبكي مخافة أن تطول حياتي 104- دنانير جارية محمّد بن كناسة «2» جارية لا تسام بألوف، ولا تنفر عن ألوف، أجادت في الشعر كل الإجادة وزادت فيه على الشعراء حتى استبعدت أبا عبادة، وشدت من الغناء شدوا، وقنعت منه بما جاء عفوا، وكانت ملهية النوادر، مسرعة البوادر، تشد إزارها على الكثيب وتعدل قوامها إلا على الكئيب، كانت مولّدة من مولّدات الكوفة [ص 281] رّباها ابن كناسة وأدّبها، فخرجت شاعرة أديبة فصيحة، قيل إنها كانت تغني، وكان ابن كناسة ديّنا صالحا، وهو ابن خالة إبراهيم بن أدهم «3» ، وذكر علي بن عثام الكلابي قال: كان لابن كناسة صديق له يكنّى أبا الشعثاء، وكان عفيفا مزّاحا، فكان يدخل على ابن كناسة يسمع غناء جاريته دنانير ويعرض لها بأنه يهواها فقالت: فيه شعرا منه: «4» [الرمل] لأبي الشّعثاء حبّ ظاهر ... ليس فيه مطعن للمتّهم

105 - ومنهم، فضل اليمامية

يا فؤادي فازدجر عنه ويا ... عبث الحبّ به فاقعد وقم 105- ومنهم، فضل اليماميّة «1» جارية المتوكل وهي المعروفة بفضل الشاعرة، أجلّ أن تكون أخت الخنساء، أو تقع في تخت أحد من الرؤساء، جارت الفحول وجبذت «2» وقيدتهم الوحول «3» ، ومهرت في القريض، وحبّرت «4» منه الروض الأريض، وعلقت فيه القرناء، وقد ذكرها صاحب كتاب الإماء «5» قال: كانت من مولدات البصرة، وبها نشأت، وذكر محمد بن داود أنها عبدية، وكانت تزعم أن أمها علقت بها من مولى لها من عبد القيس، وأنه مات وهي حامل بها، فباعها ابنه فولدت بعد بيعها واسترقت، وكانت سمراء حسنة الوجه والقد والجسم، شكلة حلوة أديبة فصيحة سريعة الهاجس، حادة الخاطر، مطبوعة في الشعر متقدمة فيه، وكانت تجلس في مجلس المتوكل على كرسي وتقارض الشعراء الشعر بحضوره، فألقى عليها يوما أبو دلف [العجلي] «6» [الكامل]

قالوا عشقت صغيرة فأجبتهم ... أشهى المطي إلي مالم يركب كم بين حبة لؤلؤ مثقوبة ... لبست وحبة لؤلؤ لم تثقب فأجابته بديها:» [الكامل] للناس أهواء ولذة بعضهم ... وهواه في الأمر الذي لم يصعب ويرى سواه يحب بكرا كاعبا ... كم بين بكر في القياس وثيب وكتب إليها بعض من كان يحضرها: «2» [الطويل] ألا ليت شعري أنت هل تذكرينني ... فذكرك في الدنيا إلي حبيب [ص 283] وهل لي نصيب في فؤادك ثابت ... كما لك عندي في الفؤاد نصيب فلست بمتروك فأحيا بزورة ... ولا النفس عند اليأس عنك تطيب «3» فكتبت إليه: «4» [الطويل] نعم وإلهي إنني بك صبة ... فهل أنت يا من لا عدمت مثيب «5»

لمن أنت منه في الفؤاد مصوّر ... وفي العين نصب العين حين تغيب فثق بفؤاد أنت تظهر مثله ... على أن بي سقما وأنت طبيب وقال علي بن يحيى: دخلت على المتوكل يوما، فدفع إليّ رقعة وأمرني بقراءتها، فإذا فيها: «1» [مجزوء الرمل] قد بدا شبهك يامو ... لاي يحدو بالظلام فأجب نقض لبانا ... ت اعتناق والتزام قبل أن تفضحنا عو ... دة أرواح النيام قلت: مليح والله قائلها، لمن هو؟ قال: وعدتني فضل البارحة على أن أبيت معها، فسكرت سكرا شديدا منعني من التيقظ لها، فلما أصبحت وجدت رقعتها في كمي، والشعر لها وهو بخطها. وروى أبو هفان عن رجل قال: خرجت قبيحة «2» على المتوكل في يوم نيروز «3» وفي يدها كأس من بلور فيه شراب صاف، فقال: ما هذا؟ فقالت: هديتي إليك في هذا اليوم، عرفك الله يمنه، فشربه وقبّل خدّها، فقالت فضل: «4» [السريع] سلافة كالقمر الباهر ... في قدح كالكوكب الزاهر

يديرها خشف كبدر الدجى ... فوق قضيب أهيف ناضر على فتى أروع من هاشم ... مثل الحسام المرهف الباتر وحكى أحمد بن أبي طاهر قال: ألقى بعض أصحابنا على فضل: «1» [الطويل] ومستفتح باب البلاء بنظرة ... تزّود منها قلبه حسرة الدّهر فقالت: «2» [الطويل] فو الله ما يدري أيدري بما جنت ... على قلبه أم أهلكته وما يدري [ص 284] وحكى أبو يوسف الضرير قال: صرت أنا وأبو منصور الباخرزي «3» إلى فضل الشاعرة، فحجبنا عنها، وما علمت بنا، ثم بلغها خبرنا بعد انصرافنا، فكتبت إلينا تعتذر: «4» [الطويل] وما كنت أخشى أن ترى لي زلّة ... ولكّن أمر الله ما عنه مهرب أعوذ بحسن الصّفح منكم وقبلنا ... بعفو وصفح ما تعوّذ مذنب «5» فكتب إليها أبو منصور [الباخرزي] «6» [الطويل]

لئن أهديت عتباك لي ولإخوتي ... لمثلك يا فضل الفضائل تعتب إذا اعتذر الجاني محا العذر ذنبه ... وكل امرئ لا يقبل العذر مذنب وحكى عليّ بن الجهم قال: كنت يوما عند فضل الشاعرة فلحظتها لحظة استرابت بها، فقالت: «1» [الرجز] يا ربّ رام حسن تعرّضه ... يرمي ولا يشعر أنّي غرضه فقلت: «2» [الرجز] أيّ فتى عهدك ليس يمرضه ... وأيّ عهد محكم لا ينقضه «3» فضحكت وقالت: خذ في غير هذا الحديث. ومن شعرها ما كتبت إلى سعيد بن حميد، فكان منهما ما كان: «4» [الكامل] الصّبر ينقص والسّقام يزيد ... والدّار دانية وأنت بعيد أشكوك أم أشكو إليك فإنّه ... لا يستطيع سواهما المجهود وكتبت: «5» [الطويل]

وعيشك لو صرحت باسمك في الهوى ... لأقصرت عن أشياء في الجد والهزل ولكنني أبدي لهذا مودة ... وذاك وأخلو منك خلوة ذي خبل مخافة أن يغرى بنا قول كاشح ... عدوا فيسعى بالصدود على الوصل فكتبت إليها: «1» [الطويل] تنامين عن ليلي وأسهره وحدي ... وأنهى جفوني أن تبثك ما عندي فإن كنت لا تدرين ما قد فعلته ... بنا فانظري ماذا على قاتل العمد [ص 285] وحكى القاسم بن زرزر «2» قال: قصد سعيد [بن حميد العراق] لحمى نالته، فسألتني فضل أن أساعدها أنا وعريب، في المضي إليه للسلام عليه، وأهدت إليه هدايا فيها ألف جدي وألف دجاجة فائقة وألف طبق فاكهة، وطيب كثير وشراب وتحف حسان، فكتب إليها سعيد: إن سروري لا يتم إلا بحضورك، فجاءته في آخر النهار، وجلسنا نشرب، واستأذن غلامه بنان، فأذن له فدخل إلينا وهو يومئذ شاب طرير «3» حسن الوجه، حسن الغناء، سريّ الملبوس كثير العطر شكل «4» ، فذهب بفضل كل مذهب، وبان ذلك في إقبالها عليه، وتحققها به، فتنمر سعيد واستطير غضبا، وتبين ذلك لبنان فانصرف، وأخذ سعيد يعذلها ساعة ويوبخها تارة ويزيد في تأنيبها، وهي تعتذر منه، ثم سكت، فكتبت إليه

106 - ومنهم - تيماء جارية خزيمة بن خازم

فضل: «1» [مجزوء الكامل] يا من أطلت تفرسي ... في وجهه وتنفسي أفديك من متدلل ... يزهى بقتل الأنفس هبني أسأت- وما أسأ ... ت- بلى أقر أنا المسي أحلفتني أن لا أسا ... رق نظرة في مجلسي فنظرت نظرة مخطئ ... أتبعتها بتفرسي ونسيت أني قد حلف ... ت فما عقوبة من نسي؟ فقام سعيد لوقته وقبل رأسها، وقال: لا عقوبة عليك، بل نحتمل هفوتك ونتجافى عن زلتك، وغنت عريب في الشعر رملا، وشربوا عليه بقية يومهما ذلك، ثم افترقا، وقد أثر بنان في قلبها أثرا، وعلقته، ولم تزل تواصله سرا حتى ظهر أمرهما، ثم غضب بنان على فضل في أمر أنكره، فاعتذرت فلم يقبل، فكتبت إليه كأنها تخاطب نفسها: «2» [السريع] يا فضل صبرا إنّها ميتة ... يجرعها الكاذب والصادق ظنّ بنان أننّي خنته ... روحي إذا من جسدي طالق 106- ومنهم- تيماء جارية خزيمة بن خازم «3» وكانت مدنية شاعرة جريئة، ذات عورة «4» ضحوك لعوب، كسلى دلال لا

يعتريها لغوب «1» ، [ص 286] تجرّ على الغواني ذيلا، وتخسف البدور ليلا، وتخطئ المتيم الذي يقول: [الطويل] وخبرتماني أن تيماء منزل لليلى.. وأجادت في الشعر، ولم تقصر في الغناء، ولم تدع لمن بعدها غير الغناء، ومن شعرها: «2» [البسيط] تفديك تيماء من سوء تحاذره ... فأنت مهجتها والسمع والبصر لئن رحلت لقد أبقيت لي حزنا ... لم يبق لي معه في لذة وطر فهل تذكرت عهدي في المغيب كما ... قد شفني الهم والأحزان والفكر وحكت أنها عرضت على خزيمة هي ووصيفة بكر حلوة الوجه، فمال إليها، وأقبل علي كالمعتذر فقال: «3» [الكامل] قالوا عشقت صغيرة فأجبتهم البيتان فقلت: «4» [الكامل] إن المطيّة لا يلذّ ركوبها ... حتّى تذلّل بالزّمام وتركب

107 - ومنهم - سكون جارية طاهر بن الحسين

والدّر ليس بنافع أصحابه ... حتّى يؤلّف بالنظام ويثقب «1» هكذا رواهما أبو الفرج في كتاب الإماء. قالت تيماء فضحك واشترانا معا، ثم غلبتها عليه، ولها غناء فيهما. 107- ومنهم- سكون «2» جارية طاهر بن الحسين وكانت بيضاء مولدة بادية السناء، حسنة الوجه والغناء، ربيت في دار بسخنر «3» بن محمد، وأخذت الغناء عنه وعن ابنه وبناته وجواريه، وتلقت عن إسحاق [الموصلي] وطبقته، واستحسنها إبراهيم الموصلي وسائر رفقته، وأعجب بها ابن المهدي، واهتز لصوتها الندي، وكانت مبرزة في الشعر، تعد من الشعراء، وتلحق منهم بالرجال لا بالنساء، وسمعها إبراهيم الموصلي فاستحسن طبعها، وقال: ليت شعري هذا السيف لمن يشحذ. وحظيت عند طاهر بن الحسين ثم غلبتها عليه جارية أخرى انقطع إليها مدة، ثم جاز بحجره، سكون، فوثبت إليه وقبلت يديه وقال: الليلة أزورك، فتأهبت لذلك وتزينت وتعطرت، وأنسي طاهر فلم يأت إليها، فكتبت إليه: «4» [الوافر] ألا يا أيّها الملك الهمام ... لأمرك طاعة ولنا ذمام طمعنا في الزيارة والتّلاقي ... فلم يك غير عذر والسّلام

108 - ومنهم - فنون جارية يحيى بن معاذ

فلما أتته رقعتها حرّكته وهاجت دواعيه وأطربته، فقام إليها ودخل مسارعا عليها [287] فأقام عندها ثلاثا، وأبرم لها حبله الذي كان أنكاثا، وعاد لها إلى ما كان عليه، وعلى مالم يزل لديه. 108- ومنهم- فنون جارية يحيى بن معاذ وكانت كاتبة شاعرة، حلوة الوجه، والنادرة، بارعة في الغناء عزيزة لا تسام بالغلاء وهي القائلة: «1» [البسيط] يا ذا الذي لام في تخريق قرطاسي ... كم مر مثلك في الدنيا على راسي الحزم «2» تخريقه إن كنت ذا أدب ... وإنما الحزم سوء الظن بالناس إذا أتاك وقد أدى أمانته ... فاحفظ أساطيره عن كل وسواس واشقق كتاب الذي تهواه معتمدا ... فرب مفتضح في حفظ قرطاس 109- ومنهم- صرف جارية أمّ حصين «3» مولى جعفر بن سليمان، وكانت جارية مليحة وشاعرة فصيحة، ومغنية حسنة الوجه والغناء كأن الشمس من أخواتها والورق في لهواتها، من مولدات البصرة، ومتوكدات الحسرة، ولها في الغناء صنعة بديعة، ذكر الهاشمي منه هذا الصوت: «4» [الطويل]

110 - ومنهم - نسيم جارية أحمد بن يوسف الكاتب

كريم يغض الطرف فرط حيائه ... ويدنو وأطراف الرماح دوان وكالسيف إن لا ينته لان متنه ... وحداه إن خاشنته خشنان ولحنه في خفيف الرمل. وكتب إليها عبد الصمد بن المعذل: «1» [السريع] حبوت صرفا بهوى صرف ... لأنها في غاية الظرف يا صرف ما تقضين من عاشق ... بكاؤه يبدي الذي يخفي فكتبت إليه: «2» [السريع] لبيك من داع أبا قاسم ... حبك يدنيني من الحتف صرف التي تسقيك صرف الهوى ... وخلة جلت عن الوصف 110- ومنهم- نسيم جارية أحمد بن يوسف الكاتب «3» شاعرة مغنية، زاهرة عن الكواكب مغنية، مولّدة مولّدة لكل صبابة طبعت عليها [ص 288] النفوس، وكأنه «4» خلعت عليها فلا ينزع لها لبوس.

111 - ومنهم - عارم جارية وليهدة النخاس

وهي القائلة في سيدها وقد مات: «1» [الطويل] ولو أن حيا هابه الموت قبله ... لما جاءه أو جاء وهو هيوب ولو أنّ حيا قبله صانه البلى ... إذن لم يكن للأرض فيه نصيب وكذلك هي القائلة فيه: «2» [البسيط] نفسي فداؤك لو بالناس كلهم ... ما بي عليك تمنوا أنهم ماتوا وللورى ميتة في الدهر واحدة ... ولي من الهمّ والأحزان موتات 111- ومنهم- عارم جارية وليهدة النخاس «3» مولّدة من مولّدات البصرة، والمولّدات في القلوب الحسرة، باعها مولاها فابتاعها بعض الكتاب، وحلت منه محلا لم يبلغه العتاب. قال الخاركي «4» الشاعر: مرت بي عارم يوما وأنا مخمور، فاستوقفتها وقلت لها: «5» [الرجز] هل لك في أير وأير مثلي ... ينهض قدّامي وفوق رجلي أدقّ عرقيه كأير بغل

112 - ومنهم - سلمى اليمامية

فضحكت ثم قالت: «1» [الرجز] هل لك في أضيق من حر أمّكا ... مستحصف داخله كهمّكا «2» تموت إن أبصرته بهمّكا 112- ومنهم- سلمى اليماميّة جارية أبي عباد، وكانت فتنة للنظر، ومحنة لمن بات من العشق على غرر، وهي القائلة: «3» [الكامل] يا نازحا شط المزار [به] ... شوقي إليك يجل عن وصفي «4» أسهرت عيني في تفرقنا ... ما التذّ بعدك بالكرى طرفي أغفي لكي ألقاك في حلمي ... ومن الكبائر ثاكل تغفي 113- ومنهم- مراد جارية عليّ بن هشام «5» مولدة من مولدات المدينة، صفراء كأنها الذهب، هيفاء كأنها مال بها الطرب، اشتراها علي بن هشام لما حج وكانت تقول الشعر في معاني فتوحه، وتداني به ما يهتز به [ص 289] من مديحه، وغضبت عليه مرة وهجرته،

114 - ومنهم - متيم الهشامية

وتعرض إلى ترضيها، فزجرته، فكتب إليها: «1» [الطويل] لئن كان هذا منك حقا فإنني ... مداوي الذي بيني وبينك بالهجر ومنصرف عنك انصراف ابن حرة ... طوى وده والطي أبقى على النشر فكتبت إليه: «2» [الطويل] إذا كنت في رقي هوى وتملك ... فلابد من صبر على غصص الصبر وإغضاء أجفان طوين على قذى ... وإذعان مملوك على الذل والقسر فذلك خير من معاصاة مالك ... وصبر على الإعراض والصد والهجر 114- ومنهم- متيّم الهشاميّة «3» كانت تعبث بالشعر فإذا قالته تجيده، وقادته لا يأتي عليها شريده، وعلى أنه بحر لم تقع إلينا منه إلا فريده، قال لها المأمون أجيزي: «4» [الطويل]

115 - سمراء وهيلانة

تعالي يكن للكتب بيني وبينكم ... ملاحظة نومي بها ونشير فعندي من الكتب المشومة خيرة ... وعندي من شؤم الرسول أمور فقالت: «1» [الطويل] جعلت كتابي عبرة مستهلة ... وفي الخد من ماء الجفون سطور وهي القائلة: «2» [السريع] يا منزلا لم تبل أطلاله ... حاشا لأطلالك أن تبلى الأبيات، وفيه صنعة رمل على طريق النوح، وقد ذكر في أخبار المعتصم. 115- سمراء وهيلانة «3» شاعرتان فاخرتان، ومولّدتان للقلوب مفسدتان، من مولّدات الحجاز، ومجددات الهوى الذي ماله حجاز، وكان يجمع لمعارضة الشعراء لهما أهل الآداب ووجوه الكتاب. قال أبو الشبل البرجمي «4» الشاعر: دخلت إلى سمراء فتحدثنا ساعة، ثم

أنشدتها بيتا لأبي المستهل «1» في المعتصم: «2» [المتقارب] أقام الإمام منار الهدى ... وأخرس ناقوس عموريه ثم قلت لها اجيزي، فقالت: «3» [ص 290] [المتقارب] كساني المليك جلابيبه ... ثيابا علاها بسموريه «4» فأعلى افتخاري بها رتبتي ... وأذكى ببهجتها نوريه ثم أكلنا عندها، وخرجت من عندها، فأتيت هيلانة فقالت: من أين يا أبا الشبل؟ فقلت: من عند سمراء، فقالت: قد علمت أنك تبتدئ بها، وكانت سمراء أجملهما، فقالت: وأعلم أنها لم تدعك حتى أكلت عندها، قلت: أجل، قالت: فهل لك في الشرب، قلت: نعم، فأحضرت شرابا، فشربت منه، ثم قالت: أخبرني بما جرى بينكما، فأخبرتها، قالت: هذه المسكينة كانت تجد البرد، واحتاجت إلى سمورية، فهلا قالت: «5» [المتقارب] أضحى به الدين مستبشرا ... وأضحت زناد الهدى «6» موريه فقلت لها: أنت في كلامك أشعر منها في شعرها، وشعرك فوق شعراء أهل عصرك.

116 - ومنهم - ظلوم جارية محمد بن مسلم

116- ومنهم- ظلوم جارية محمّد بن مسلم وكانت شاعرة ماهرة، وناشرة باهرة، وكاتبة قادرة، ومغنية محسنة، سريعة البادرة، كانت لأبي صالح محمد بن مسلم الكاتب، ثم باعها لبعض الكتاب، فاستفادت عنده طرائق الكتاب، واستزادت فوق ما يحتاج إليه في هذا الباب. قال جعفر بن قدامة، حدثني احمد بن أبي طاهر: كان محمد بن مسلم لي صديقا، وكان يقال له أبو الصالحات، فرأيت جاريته يوما إلى جانبه وعلى رأسها كور منسوج بالذهب مكتوب عليه بخط أحسن من كتب: «1» [الطويل] وإني على الود الذي قد عرفتم ... مقيم عليه لا أحول على العهد وذلك أدني طاعتي لمحبتي ... كأيسر ما أطفي به علة الوجد فقلت لها: ما أملح هذا الشعر الذي على كورك، قالت: هو شعري أفتحب أن أغنيك به؟ قلت: أجل، فغنته أملح غناء، ثم اشتراها بعد ذلك فتى من الكتّاب. 117- ومنهم- عاذل «2» جارية زينب بنت إبراهيم الهاشميّة من أحسن الناس شعرا وغناء، وسنا وسناء، إلى محيا وسيم، وقوام كما [ص 291] عبث بغصن البان النسيم، ورقة معاطف كأنما تصبّب من قطراتها المدام، ولين بشرة «3» كأنما تصوّب من خطراتها الغمام، وكان إبراهيم بن العباس الصولي بها سكران لا يفيق، ونشازا لا يأنس إلى رفيق.

قال ابن السخي: وكانت مولاتها زينب بنت إبراهيم أخت عبد الوهاب بن إبراهيم تقيّن «1» عليها وتخرجها إلى الوجوه بسرّمن رأى، وكانت كاملة في الظرف، وكان إبراهيم بن العباس «2» ممن اخرجتها عليه، فمالت إليه وأصفته هواها، فلم يكدر له جوّه، ولا تنكر له دوّه «3» وامتنعت من جماعة كانوا يهوونها واحتجبت منهم حتى كأنهم ما كانوا يرونها، ثم إن إبراهيم علق غيرها جارية كانت للواثق أهداها إليه بعض ملوك الأتراك، فخرجت بعد وفاة الواثق حرة، وكانت ولدت منه بنتا، فلما واصلها جفا ظلوم «4» وظلمها في الوفاء، وأضرمها بنار لا تعاجل بالانطفاء، فلما رأت تكدره، وتبيّنت تغيره لها وتنكره، كتبت إليه «5» : [المنسرح] [بالله] يا ناقض العهود بمن ... بعدك من أهل صبوتي أثق وأسوأتا ما استحيت لي أبدا ... إن ذكر العاشقون من عشقوا لا غرني كاتب له أدب ... ولا ظريف مهذب لبق قال إبراهيم ابن الصولي: فلما قرأت الأبيات، أخذني مثل الجنون عليها، ثم هجرت الواثقية وأقبلت عليها، ولم نزل على مصافاة ومواصلة حتى قطع الموت بيننا، وقرب حيننا حيننا.

118 - ومنهم - ريا وظمياء

118- ومنهم- ريّا وظمياء مولّدتان يماميتان، هما الشمس وأختها، والخطيّة وتحتها غصن بانة، ومعطفا ريحانة، وغزالا سرب، وقسيما شرب وقمرها له ومقلتها، ظبي أفلت من حباله. حكى أحمد بن خلف قال: حدثني أحمد بن سهل وكان أحد كتاب صاعد، قال: سمعت الحسن بن مخلد يحدث، أن رجلا نخّاسا من اليمامة قدم بجاريتين شاعرتين على المتوكل، فنظر إلى إحداهما فقال: ما اسمك؟ قالت: ريا، قال: أنت شاعرة؟ قالت: كذا زعم مالكي، قال: فقولي في مجلسنا شعرا ترتجلينه، وتذكرينني وتذكرين الفتح، فوقفت هنيهة ثم قالت: «1» [الطويل] أقول وقد أبصرت صورة جعفر ... إمام الهدى والفتح ذا العز والفخر أشمس الضحى أم شبهها وجه جعفر ... وبدر السماء الفتح أم شبهه البدر [ص 292] فالتفت إلى الأخرى، ثم قال: وقولي أنت، فقالت «2» : [الطويل] أقول وقد أبصرت طلعة جعفر ... تعالى الذي أعلاك يا سيد البشر وأكمل نعماه بفتح نصيحة ... فأنت لنا شمس وفتح هو القمر فأمر أن تشترى الأولى وتردّ الأخرى، فقالت المردودة: ولم رددتني يا مولاي؟ قال: لأن بوجهك نمشا، فقالت: لم يسلم الظبي على حسنه ... يوما ولا البدر الذي يوصف الظبي فيه خنس ظاهر ... والبدر فيه نكت تعرف

119 - ومنهم - بنان جارية المتوكل

فاشتراهما معا، ولم يفرق لهما مجمعا، إلى أن فرق بينهما الدهر المشتت، وبت «1» اجتماعهما صرف الزّمان المبتّت. 119- ومنهم- بنان جارية المتوكّل وكانت تخجل القمر بصفحتها، والغزال بلمحتها، والقضيب المتأود بقدها، والتفاح الجنّي بخدّها، وتغير القلائد بنظمها الذي لا يحلّيه «2» إلا مبسمها، ولا يضاهية إلا الثريا لمن يتوسمها، لا تجيء عريب لها بأصبع من بنان، ولا دنانير إلا مما لا يدّخر للامتنان، ولا سابقة لا تلحق إلا وهي معها في طيّ عنان. قال الفضل بن العباس الهاشمي، حدثتني بنان الشاعرة المتوكلية قالت: خرج المتوكل يوما يمشي في صحن القصر وهو يتوكأ على يدي ويد فضل الشاعرة فأنشد: «3» [الطويل] تعلّمت أسباب الرّضا خوف هجرها ... وعلّمها حبّي لها كيف تغضب ثم قال لنا: أجيزا هذا البيت، فقالت فضل: «4» [الطويل] تصدّ وأبدي بالمودّة جاهدا ... وتبعد عنّي بالوصال وأقرب وقلت أنا: «5» [الطويل]

120 - ومنهم - ريا جارية إسحاق [الموصلي]

وعندي له العتبى على كلّ حالة ... فما عنه لي بد ولا عنه مذهب 120- ومنهم- ريّا جارية إسحاق [الموصلي] وكانت مولدة ربيت باليمامة، وتربت على غناء أشجى من تغريد اليمامة، وكانت صفراء كأنما [ص 293] تجر معصفرات الجلابيب، أو تكسى مصفرات الذهب الصبيب «1» ، هذا إلى حلاوة تؤكل بالعيون، وحسن لا يقضى منه عدات الديون، وكانت شاعرة لو فاوضت النساء أو أوجبت عليهن الفخر «2» ، أو باكت الخنساء لما كانت لها عينان تجري على صخر، وطالما تمناها متيم لو أن الأيام ساعدت، وظل لا يزيد على ان يقول: «3» [الطويل] حننت إلى ريّا ونفسك باعدت حكى حماد بن إسحاق الموصلي قال: اشتراها أبي لما حج، وكان يحبها ويستحليها وهي التي تقول فيه: «4» [مجزوء الخفيف] يا لذيذ المعانقه ... يا كثير المفارقة جزت يا منتهى المنى ... فيّ حدّ الموافقه وأنا دون من ترى ... لك والله عاشقه قال حماد: وفيه لحن من الرمل لبعض جوارينا، إما صيد وإما دمن وكانت قد أخذت عنهما الغناء وسرقته من إسحاق.

121 - ومنهم - محبوبة جارية المتوكل

121- ومنهم- محبوبة جارية المتوكّل «1» وكانت ضرة الشمس، ومسرة النفس، قيد كل ناظر، وأمنية كل خاطر، لو حدرت في الليل قناعها لابيضت غرابيبه، «2» واتّقدت بطلائع الصباح جلابيبه، أحسن من الريم سالفة وحدقا، وأكثر من الأغصان أعطافا ومعتنقا، هذا إلى صفاء فيه لا تناول «3» ، وصفاء لا يقاس به الشمول، وإجادة في الشعر لا يعرف لذات خمار، ولا يعد للأخيلية «4» معها إلا ما يحكى في أكاذيب الأسمار، تنحطّ عنها رتبة عليّة «5» أخت إبراهيم، وترد عنان وقد أصبحت حدائقها كالصريم. قال أبو الفرج في كتاب الإماء «6» : كانت مولدة شاعرة مغنية متقدمة في الحالين على طبقتها، وكانت حسنة الوجه والغناء، أهداها عبد الله بن طاهر للمتوكل في جملة أربع مئة فيهن قيان وسواذج «7» ، فتقدمتهن جميعا عنده،

ولما قتل صارت إلى وصيف «1» ، فلزمت النسك حزنا ووفاء للمتوكل، حتى أراد وصيف قتلها، فاستوهبها منه بغا «2» ، فأعطاه إيّاها فأعتقها [ص 294] ، وقال: أقيمي حيث شئت، فانحدرت عن سر من رأى إلى بغداد وأخملت نفسها إلى أن ماتت. قال: وحدثني جعفر بن قدامة عن عليّ بن الجهم قال: كنت يوما بحضرة المتوكل وهو يشرب ونحن بين يديه، إذ دفع إلى محبوبة تفاحة مغلفة بغالية «3» ، فقبلتها وانصرفت عن حضرته إلى مجلسها، ثم خرجت جارية لها ومعها رقعة، فدفعتها إلى المتوكل، فقرأها وضحك ضحكا شديدا، ثم رمى بالرقعة إلينا، فإذا فيها: «4» [المنسرح] يا طيب تفّاحة خلوت بها ... تشعل نار الهوى على كبدي أبكي إليها وأشتكي دنفي ... وما ألاقي من شدّة الكمد لو أنّ تفاحة بكت لبكت ... من رحمة هذه التي بيدي إن كنت لا تعلمين ما لقيت ... نفسي فمصداق ذاك في جسدي وان تأمّلته علمت بأن ... ليس لخلق عليه من جلد قال: فما [بقي] أحد والله إلا استظرفها واستملح الأبيات، وتقدم المتوكل إلى عريب وشارية «5» أن يصنعا في الأبيات لحنا، فصنعتا لحنين وغنتا بهما.

وحدثني جعفر بن قدامة قال، حدثني علي بن يحيى المنجم قال، قال المتوكل لابن الجهم وكان يأنس به ولا يكتمه شيئا: يا عليّ إني دخلت على قبيحة الساعة فوجدتها قد كتبت اسمي على بياض ذلك الخد، فقل في هذا شيئا، وكانت محبوبة جالسة من وراء الستارة تسمع فسبقت علينا على البديهة، وقالت: «1» [الطويل] وكاتبة بالمسك في الخدّ جعفرا ... بنفسي مخطّ المسك من حيث أثرا لئن كتبت في الخدّ سطرا بكفّها ... لقد كتبت بالقلب في الحبّ أسطرا «2» فيا من لمملوك لملك يمينه ... مطيع له فيما أسرّ وأظهرا ويا من مناها في المنيّة جعفر ... سقى الله عهدا من ثناياك جعفرا «3» أنشدتها للمتوكل، فبقي علي بن الجهم واجمالا ينطق بحرف، وغنت عريب بهذه الأبيات. وحدثني جعفر قال، حدثني علي بن يحيى [المنجم] : أن جواري المتوكل تفرقن بعد قتله، فصار لوصيف عدة فيهن محبوبة، فاصطبح وأمر بإحضار الجارية والجواري [ص 295] فأحضرن وعليهن أصناف الثياب والحلي متزينات متعطرات، سوى محبوبة، فإنها جاءت شعثاء متسلبة «4» ، عليها ثياب بيض «5» ، فغنين وطربن وشرب وصيف وطرب، ثم قال لمحبوبة: غني، فغنت على العود: «6»

[مجزوء الخفيف] أيّ عيش يطيب لي ... لا أرى فيه جعفرا ملكا قد رأته عي ... ني صريعا معفّرا كلّ من كان ذا سقا ... م وحزن فقد برا غير محبوبة التي ... لو ترى الموت يشترى لاشترته بما حوت ... هـ جميعا لتقبرا فاشتد ذلك على وصيف وهم بقتلها، فاستوهبها منه بغا، فأعتقها وأطلقها حيث أحبت، فلم تزل متسلبة حتى ماتت. وحدثني جعفر قال: قال علي بن يحيى بن الجهم قال: غاضب المتوكل محبوبة فاشتد عليه بعدها، ثم جئته يوما فحدثني أنه رأى في النوم أنها صالحته، ودعا له بخادم فقال له: اذهب فاعرف لي خبرها، فمضى وعاد فأعلمه أنها جالسة تغني، فقال: ما ترى إلى هذه؟ أنا غضبان عليها وهي تغني، ثم قال: قم معي حتى نسمع ما تغني به، فقمنا حتى انتهينا إلى حجرتها، فإذا هي تغني: «1» [مخلّع البسيط] أدور في القصر لا أرى أحدا ... أشكو إليه ما يكلّمني حتّى كأنّي أتيت معصية ... ليست لها توبة تخلّصني فهل لنا شافع إلى ملك ... قد زارني في الكرى فصالحني حتى إذا ما الصباح لاح لنا ... عاد إلى الهجر فصارمني قال: وطرب المتوكل فأحسّت به، فخرجت إليه وخرجنا نتبادر، فأعلمته أنها رأته في النوم قد صالحها، وأنها صالحته في النوم، وقد صنعت تلك الأبيات وغنت

122 - ومنهم - أمل جارية قرين النخاس

فيها، وحدّثها بما رأى، فتعجبا جميعا، واصطلحا، وأقاما يشربان يومهما. 122- ومنهم- أمل جارية قرين النّخّاس أخذت من الأقمار غرتها ولزّت «1» بالشمس فكانت ضرتها، جاءت في غرة الشباب [ص 296] وجالت من الحسن [في] «2» جلباب، وأصبحت تترشقها النظرات، وتتشوقها في أوراقها النضرات، لو بدت للأيام لجلت بكرها الوضاح، أو للبدر لتستر بالغمام خشية الافتضاح. وحكى أبو حفص الشطرنجي قال؛ قال لي صالح بن الرشيد «3» : إن لقرين النخاس جارية شاعرة، فاعترضها وعرفني خبرها، فدخلت إلى قرين فأخرج إليّ جارية حسنة طريفة حلوة المنطق، فقلت: ما اسمك؟ قالت: شيء إذا بلغته نلت المنتهى، قلت: إذا أمل، فضحكت، فقلت: يقول لك الأمين: «4» [مجزوء الكامل] أسل المهيمن خالق ال ... خلق الكثير ورازقه أن لا أموت بغصّتي ... يوما وأنت مفارقه فأخذت درجا وكتبت: «5» [مجزوء الكامل] لا بل أراك وأنت لي ... مملوكة ومعانقة

123 - ومنهم - رابعة جارية إسحاق بن إبراهيم الموصلي

لدنوت منك ولو علو ... ت إلى الجبال الشاهقه ولهان عندي قول سا ... ع ناطق أو ناطقه هل [غير] قولهم جمي ... عا فاسق أو فاسقة وكذاك نحن فكان ما ... ذا عاشق مع عاشقه وقالت: ادفع هذا الجواب إلى الأمين، فأتيته بخبرها وجوابها فسرّ به وأمر بابتياعها. 123- ومنهم- رابعة جارية إسحاق بن إبراهيم الموصليّ «1» غراء تستنير الأيام بصنعها، فرعاء تستديم الليالي بفرعها، جيداء لا تلتفت إلى الغزال، غيداء لا تصلح إلا للأغزال، أجلب للعلّة من السّقم، وأجلى من النعم المجلية لآثار النقم، مع سهم ضارب في الشعر والغناء، وخلائق تسام فيها بالعلاء. قال الأصفهاني: كان يقال إنها أخت مخارق «2» ، ويقال: كانت صاحبته نشئا «3» في موضع واحد، شاعرة مولدة.

124 - ومنهم - قاسم جارية ابن طرخان

وقال: أخبرني جعفر بن قدامة، قال: أنشدني عبد الله بن طاهر لرابعة: «1» [ص 297] [مجزوء الكامل] قل للأمير المصعبيّ ... أخي المكارم والمنن والمشتري الحمد الرفي ... ع بما يجلّ من الثمن [أدر] المدامة بكرة ... واشرب على الوجه الحسن «2» واغنم سرورك عاجلا ... من قبل أحداث الزّمن إن لم تكن فطنا لما ... قد قلت من هذا فمن؟ عيش الفتى شرب المدا ... م وترك ذاك من الغبن وكتب بها إلى إسحاق، فقال: لعمري إن ترك ما أشارت يغبن، واصطبح به أياما معها وغنت. 124- ومنهم- قاسم جارية ابن طرخان ربيبة حجر وحبيبة قلب لا تروع بالهجر، لو أشارت إلى القمر المخسوف لانجلى، أو الشمس في الكسوف لأبرزتها تجتلى، ما خطرت والمسك مكتّم إلا فاح، ولاسفرت إلا رأيت صفحات الصفاح، ولا نظرت إلا ذكت اللواعج، وأذكرت بالحنين إلى أوطانها النواعج. قال الأصفهاني، حكى يزيد بن محمد المهلبي عن إسحاق قال: دخل العباس بن الأحنف على قاسم جارية ابن طرخان، وكانت شاعرة

125 - ومنهم - مها جارية عريب

مغنية، فقال لها: أجيزي هذا البيت: «1» [الكامل] أهدى له أحبابه أترجّة ... فبكى وأشفق من عيافة زاجر فقالت بديها: «2» [الكامل] متطيّرا لما أتته لأنّها ... لونان باطنها مخالف ظاهر 125- ومنهم- مها جارية عريب وكانت جارية تسفر كالقمر الطالع، وتظهر كالنجم ما فيه أمل لطالع، تحلي العقد الرائع، وتحكي الظبي الراتع، تربية مثل عريب وهل تلك، ومن جواريها الحسان ردة في سلك، وكانت تجيد الشعر وتغني، وتزيد أمنية المتمني. قال أبو الفرج الأصفهاني، قال سراج المالكي: كنت أهوى جارية لعريب يقال لها مها، فكانت في غنائها أديبة شاعرة، فكان سبب عشقي لها أدبها وغناءها، وتعرضتها وقتا [ص 298] وكتبت لها بيتا قلته: «3» [البسيط] كيف احتيالي بنفسي أنت يا أملي ... في زورة منك قبل الموت تحييني «4» فوقعت في ظهرها: «5» [البسيط] أنفد صحاحك إنّ الشّعر مفسدة ... بضاعة الشّعر من نقد المجانين فبعت ضيعة لي بثلاثين ألف درهم، وأنفقتها عليها

126 - ومنهم - بدعة الكبرى جارية عريب

126- ومنهم- بدعة «1» الكبرى جارية عريب وكانت بديعة في الجمال، ونبعة للآمال، إلى صنعة غريبة، ولفتات للظنون مريبة، وحركات من حركات عريب قريبة، حتى لأصبحت بها تشبه المحسنات، وتنبه اللواحظ الوسنات، قام بها الحسن أتم القيام، وجلاها في صفة التمام. قال الأصفهاني: كانت أحسن أهل دهرها وجها وغناء، وقد ذكرت من أخبارها في كتاب القيان، وكانت تقول شعرا ليس هو بمستحسن من مثلها «2» ، وكان إسحاق التغلبي «3» يهواها، وخبره معها مشهور، فلم تفكر فيه حتى التقيا بحضرة المعتصم، ثم عرفت مقداره وواصلته وزارته، فحدثني عرفة وكيلها قال: لما رأى إسحاق بن أيوب بدعة، وسمع غناءها زاد عشقه بها ومالت إليه، بعد انحراف ونفار وبغض له، وكانت تبعث «4» بالشعر فكتبت إليه: «5» [الخفيف] كيف أصبحت سيدي وأميري ... عشت في [ظل] نعمة وحبور «6» علم الله كيف كان اغتباطي ... ونعيمي وبهجتي وسروري بلقاء الأمير لاعدمت نف ... سي وعيني لقاءه من أمير

فلما أوصلتها [إليه] سرّ بها سرورا [شديدا] ، وخلع عليّ خلعة نفيسة من ثيابه، ووصلني بثلاث مئة دينار، وبعث معي بهدايا إليها فيها ألف دينار مسّيفة «1» قد أطبقت دينارين دينارين على غالية «2» ودرج كبير من ذهب مملوء مسكا وعنبرا وندّا «3» ، ومئة ثوب من ألوان الثياب وفاخرها وكتب إليها: «4» [الخفيف] أنا في نعمة بقربك تفدي ... ك حياتي من مفظعات الأمور بلغت مهجتي بقربك منّي ... أملي كلّه وتمّ سروري [ص 299] وصل الله ذاك ما عش ... نا وأبقاك لي بقاء الدّهور «5» وحدثني عرفة قال: لما قدم المعتضد من حرب وصيف «6» دخلت عليه بدعة فقالت: يا مولاي شيّبتك والله هذه السفرة، فقال: دون ما كنت فيه يشيب، فقالت: «7» [الخفيف] إن تك شبت يا مليك البرايا ... لأمور عانيتها وخطوب فلقد زادك المشيب جمالا ... فالمشيب البادي كمال الأديب فابق أضعاف ما مضى لك في عز ... ز وملك وخفض عيش رطيب فطرب المعتضد لها وخلع عليها، وقال لها يوما: يا بدعة أما ترين الشيب

127 - ومنهم - مثل جارية إبراهيم بن المدبر

كيف اشتعل في لحيتي ورأسي؟ فقالت: يا سيدي عمرك الله حتى ترى أولادك وقد شابوا، فأنت والله في الشيب أحسن من القمر، وفكرت طويلا ثم قالت هذه الأبيات، وغنت بها: «1» [مجزوء المجتث] ما ضرّك الشّيب شيئا ... بل زدت فيه جمالا قد هذّبتك الليالي ... وزدت فيه كمالا فعش لنا في سرور ... وأنعم بعيشك بالا تزيد في كلّ يوم ... وليلة إقبالا في نعمة وسرور ... ودولة تتعالى فوصلها بصلة سنية، من ثياب ومال وطيب كثير 127- ومنهم- مثل جارية إبراهيم بن المدبّر جارية طالما غنت فأطربت، وسميت مثلا وما ضربت، طلبت الشعر وخاضت لجج البحور، وأضاءت منه بالدرر في النحور، فاقت في الجواري، وفاتت المجاري، وشغفت سيدها، وشغلت بضرب العود يدها، حتى عدت الأضراب، وعدّت في التراب الأتراب. ذكرها صاحب كتاب الإماء وقال الأصفهاني، حدثني جعفر بن قدامة، قال، حدثني إبراهيم بن المدبر، قال: اشتريت جارية شاعرة مدنية يقال لها مثل، وقد تعالت سني وكبرت، فلما كان الليل خلوت بها، فأردتها فلم تنهضني الشهوة، فخجلت منها فقلت لها: [ص 300] «2» [البسيط]

128 - ومنهم -[نبت جارية مخفرانة]

قد يدرك المتأنّي بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزّلل فقالت مجيبة غير متوقفة بديها: «1» وربّما فات بعض القوم آمرهم ... مع التأنّي وكلّ الحزم لو عجلوا فازداد والله خجلي، ثم علمت أن فيها ما في المدنيات من الشبق وأنا عاجز «2» عن بلوغ رجائها، فبعتها كارها غير راض. 128- ومنهم-[نبت جارية مخفرانة] «3» جارية يجور قدها المعتدل، ويجوز الوهم به على المعتقل، يستنطق ألحاظها الجمود، ويشق نظرها القلوب قبل الجلود، يقل قضيبا في نقا، وتقل صبر أهل التقى، البدر تحت خمارها إلا أنه غير جانح، واللهب في وجناتها إلا أنه بين الجوانح علقت المستوفز لسماعها، وحطت رجال الركائب للإقامة بعد إزماعها، بحسن غناء ما أوتيته جارية، ولا وعته أذن إلا وأنهلت الدموع جارية. قال الأصفهاني: كانت مغنية محسنة، وأخبرني جعفر بن قدامة قال، حدثني أحمد بن أبي طاهر قال: دخلت على نبت يوما، وكانت حسنة الوجه والغناء،

فقلت: «1» [البسيط] يا نبت حسنك يغني بهجة القمر فقالت: قد كاد «2» حسنك أن يبتزّني بصري ووقفت أنا فسبقتني هي فقالت: «3» [البسيط] وطيب نشرك مثل المسك قد نسمت ... ريّا الرّياض عليه في دجى السّحر فثبط طبعي فقالت: [البسيط] فهل لنا منك حظّ في مواصلة ... أو لا فإني راض منك بالنّظر فقمت من عندها محتشما من انقطاعي عن مساجلتها، ثم عرضت ذلك على المعتمد فاشتراها فامتحنها في الكتابة والغناء فأرضته، وكان أول صوت غنته شعر عريب وصنعتها لعريب في المعتمد وهو: «4» [الكامل] سنة وشهر قابل بسعود وقد مضت الأبيات في أخبار عريب فأغنت عن إعادتها، فطرب المعتمد، وتبرك بما استفتحت [ص 301] به، ثم قال لابن حمدون «5» : قارضها بشعر،

129 - ومنهم - صاحب جارية ابن طرخان النخاس

فقال: «1» [مجزوء الرجز] وهبت نفسي للهوى فقالت: فجار لّما أن ملك فقال: فصرت عبدا خاضعا فقالت: يسلك بي حيث سلك [فأمر بابتياعها، فابتيعت بثلاثين ألفا] «2» 129- ومنهم- صاحب جارية ابن طرخان النخاس «3» وكانت شاعرة مغنية، تنظم الشعر وتصنف مذهبه، وتفوق مذهبه بما يسوغ الطرب، ويسول للنفس الأدب، هذا إلى جمال فتان، وكمال تم فيه الحسن والإحسان، وكان ابن أبي أمية «4» يهواها هوى يخالط صميمه ويخالل صبابته القديمة، فكتب إليها: «5» [الكامل]

130 -[ومنهم جلنار جارية أخت راشد بن إسحاق الكوفي الكاتب]

إني رأيتك في المنام كأنّما ... عاطيتني من ريق فيك البارد وكأنّ كفّك في يدي وكأنّما ... بتنا جميعا في فراش واحد ثم انتبهت ومعضداك كلاهما ... بيدي اليمين وفي يمينك ساعدي قال فأجابته: «1» [الكامل] خيرا رأيت وكلّ ما عاينته ... ستناله منّي برغم الحاسد إنّي لأرجو أن تبيت معانقي ... وتظلّ منّي فوق ثدي ناهد ونبيت أنعم عاشقين تفاوضا ... طرف الحديث بلا مخافة واحد 130-[ومنهم جلّنار جارية أخت راشد بن إسحاق الكوفي الكاتب] «2» جل نار منها في الخدود، وجلنار ثمرة رمان النهود، من مولدات الكوفة، وموليات العيون على القلوب المخوفة، شاعرة تأتي بالعجب، ومغنية ترى استقطاع هوى العشاق من بعض ما وجب، قال عيسى بن القاشي الكاتب: كانت لأخت راشد جارية يقال لها جلنار، وكانت مليحة حسنة الغناء حسنة الشعر، فحدثني راشد أخو مولاتها قال: عشقتها وهمت شغفا بها، وعلمت أختي بذلك فحجبتني عنها «3» أشد حجاب، إلا بأن أبتاعها بحصتي من ضيعة

ورثتها أنا وهي عن أبينا، وحلفت أن لا تبيعها إلا بذلك، فشاورت ثقات إخواني، فعابوا هذا عليّ، ونهوني عن إتيان ذلك، وضننت أنا بالضيعة أن تخرج من يدي، ثم غلبني ما أجده، فقلت: «1» [المتقارب] أيعذل صبّ على وجده ... وقد لجّ مولاه في صدّه «2» [ص 302] وكيف أرى الصّبر عمّن أرى ... دنوّ المنيّة في بعده غزال ينسّيك قدّ القضي ... ب بحسن الرشاقة في قدّه إذا عدم الورد في روضه ... فلم يعدم الورد من خدّه قال: وبلغني أن الجارية تتعجب من صبري عنها، ومن إيثاري الضيعة على نفسي في حبها، وتقول غدر بي واختار ملكه علي، فأجبت أختي إلى ذلك مع الحصة، وتقرر الأمر بيننا، فكتبت إلى الجارية: «3» [الكامل] نزل الوصال بساحة الهجر ... ومحا الوفاء معالم الغدر وغدا اللقاء عليهما بلوائه ... وعليه تخفق راية النّصر فكتبت إليّ: «4» [الكامل] ما كان أخوفني من الهجر ... حتى كتبت إليّ بالعذر «5» فسكنت منك إلى مراجعة ... قوي الوصال بها على الهجر

131 - ومنهم - خنساء البرمكية

أرجو وفاءك لي ويؤنسني ... أشياء تعرض منك في صدري لاشتّت الرحمن شمل هوى ... متآلف منّا على الدّهر ثم اشتريتها وصارت في ملكي، فما آثرت عليها أحدا طول مقامها عندي، حتى ماتت. 131- ومنهم- خنساء البرمكيّة «1» وكانت لبعض آل يحيى بن خالد، تزهى بها الأساور والقلائد، تفتك بلحظها، وتفتن بلفظها، مغنية تهز الجماد، وشاعرة لا تغترف من ثماد «2» ، لو قيست ببنت عمرو بن الشريد «3» لعرف من أي البحرين يلتقط الفريد «4» . قال عمرو بن بانة: كان من جيراني رجل من البرامكة، وكانت له جارية أديبة مغنية يقال لها خنساء، يدخل إليها الشعراء فيقارضونها ويسألونها عن المغاني فتأتي بكل غريبة وبديعة، فدخل إليها يوما سعيد بن وهب فحدثها طويلا ثم قال: «5» [الهزج] أبيني لي يا خنسا ... ء عن جنس من الشّعر

وماذا طوله شبر ... وقد يوفي على الشّبر [ص 303] له في رأسه شق ... نطوف بالنّدى يجري إذا ما جفّ لم ينفع ... ك في برّ ولا بحر وإن بلّ أتى بالع ... جب المعجب والسّحر وإنّي لم أرد فحشا ... وربّ الشّفع والوتر ولكن صغت أبياتا ... حوت معنى من السّرّ قال: فغضب مولاها وتغير لونه، وقال لسعيد: أتخاطب جاريتي بالفحش والخنا؟ فقالت الجارية: خفض عليك، فما ذهب إلى ما ظننت، وإنما يعني القلم، فسري عنه وضحك سعيد وقال: هي أعلم منك بما سمعت، فاحتبسه مولاها عنده يومه، فجعلت تغنيهم تارة وتقارضهم تارة إلى أن سكروا. قال عمرو [بن بانة] ثم لقيني مولاها فسألته عن القصة فحدثني بها، وأخرج إليّ ابتداء سعيد وجوابها تحته، وهو: [الهزج] أبا عثمان حاجيت ... بما قلت من الشعر فتاة ذلّل الشعر ... لها صافية الفكر وفي ظاهره فحش ... وليس الفحش في السّرّ أردت المخطف المرهف ... إذ يبريه من يبري وكتبت البرمكية على عصابتها: [الطويل] ولا خير في شكوى إلى غير مشتكي ... ولا بدّ من شكوى إذا لم يكن صبر وكانت جارية ماهرة، أديبة شاعرة، تأتي بكل غريب، وتبلغ مالا يجرجر فيه بعنان ولا تحدث عن عريب، صفراء من مولدات البصرة نشأت حيث يرف النخيل، ويرق السلسبيل، وكانت فضل الشاعرة تهاجيها ولا تهيجها، ولا يلفى

في الحسن ما تنشره بهجتها، وكان لكل واحدة منهما عصبة من شعراء الوقت يتعصبون لها وهي لا تتقنع، ويعيبون لديها الأخرى وما فيهم إلا من يتصنع. حكى أحمد بن أبي طاهر قال: كانت فضل تهاجي خنساء جارية هشام المكفوف، وكان أبو الشبل عاصم بن وهب البرجمي يعاون فضلا الشاعرة على خنساء ويهجوها [ص 304] على لسانها، وكان الحفصي والصعيدي يعاونان خنساء، فقال أبو الشبل فيها على لسان فضل: «1» [السريع] خنساء طيري بجناحين ... أصبحت معشوقة نذلين «2» من كان يهوى صاحبا واحدا ... فأنت رهن بهوى اثنين هذا الصعيدي وهذا الفتى ال ... حفصي زاراك كقردين وكنت من هذا وهذا كما ... ينعم خنزير بحشّين «3» فقالت خنساء: «4» [لسريع] ماذا مقال لك يا فضل بل ... مقال خنزيرين فردين يكنى أبا الشّبل ولكنّه ... دعوه بالكلب بن كلبين «5» فقالت خنساء في فضل: «6» [الطويل]

تقول له فضل إذا ما تخوّفت ... ركوب قبيح الذّلّ في طلب الوصل حر أمّ فتى لم يلق في الحب ذلّة ... فقلت لها لا بل حر أمّ أبي الشّبل ولها أيضا فيها أبيات: «1» [الكامل] لعب الفحول بسفلها وعجانها ... فتمرّدت كتمرّد الفحل «2» لّما كنيت بما كنيت به ... وتسمّت النقصان بالفضل «3» كادت بنا الدنيا تميد ضحى ... وترى السماء تذوب كالمهل «4» فغضب أبو الشبل وهجا مولاها فقال: «5» [الخفيف] نعم مأوى الغراب بيت هشام ... مسعف بالحرام أهل الحرام من أراد المبيت يبغي سفاحا ... وينال المراد تحت الظلام فهشام يبيحه في دجى اللي ... ل فتاة تدعى فتاة هشام ذاك حرّ دواته لا تعرّى ... أبدا من تردّد الأقلام «6» وذكر أحمد بن الطيب أن أبا الشبل «7» كان يهوى خنساء ثم هجاها فهجرته، فعدل عنها إلى فضل الشاعرة، ووعد أبو الشبل يوما خنساء أن تزوره،

132 -[ومنهم خزامى جارية الضبط المغني]

وجاء [ص 305] مطر شديد منعها من زيارته، فقال يذم المطر: «1» [البسيط] دع المواعيد لا تعرض لوجهتها ... إنّ المواعيد مقرون بها المطر إنّ المواعيد للأحباب قد منيت ... به بأنكد ما يمنى به البشر كذا الثياب فلا يغررك إن غسلت ... صحو شديد ولا شمس ولا قمر وإن هممت بأن تلقاك زائرة ... فالغيث لا شك مقرون به السّحر وكان سبب القطيعة بينهما أنه سكر عندها، فخاطبها مغلظا لها في شيء فقالت: بم تدل على الناس؟ بأكثر من شعرك؟ وإنه لغير طيب، وو الله لئن شئت لأهجونك بما يبقى عليك عاره، فغضب وقال فيها: «2» [مخلع البسيط] خنساء قد أفرطت علينا ... تزعم أن ليس لي مجير تاهت بأشعارها وصالت ... كأنّما ناكها جرير فخجلت ولم تجبه، وتقاطعا، وقيل: بل قالت فيه مبتدئة: [مخلع البسيط] قل لأبي الشّبل إن أتاه ... مقذع سبّ له مجير هيهات ما إن له مجير ... ولا نصير ولا ظهير 132-[ومنهم خزامى جارية الضبط المغني] «3» الملقب بالطيط (الضبط) ، كانت حسنة الوجه والغناء، شاعرة بيوتها وثيقة

البناء، وكان ابن المعتز يقدمها ويثقف قناتها ويقومها، ولا يبخل باستدعائها واستئمانها على خفايا السر واسترعائها. قال ابن المعتز: كانت خزامى جارية الطيط (الضبط) تألفني وتنادمني وأنا حدث، ثم تابت من النبيذ، وكانت مغنية حسنة الغناء، شاعرة ظريفة نظيفة، فراسلتها مرارا أستدعيها فتأخرت، فكتبت إليها وأهديت لها وردا: «1» [الطويل] رأيتك قد أظهرت زهدا وتوبة ... فقد سمجت من بعد توبتك الخمر فأهديت وردا كي يذكّر ريحه ... لمن لم يمتعنا ببهجتها الدّهر فأجابتني تقول: «2» [ص 306] أتاني قريض يا أميري محبّر ... حكى لي نظم الدّر فصّل بالشّذر أأنكرت يا بن الأكرمين بأنّني ... وقد أفصحت لي ألسن الدّهر بالزّجر وآذنني شرخ الشّباب ببينه ... فياليت شعري بعد ذلك ما عذري قال ومن شعرها: [مجزوء الرمل] قل لمن تاه علينا ... وجفانا وتعاطى نلت والرّحمن من قل ... بي بالحسن اختصاصا فتوقّ اليوم في قل ... بي أن تلقى قصاصا

133 - ومنهم - صدقة بن محمد

133- ومنهم- صدقة بن محمّد من أغنياء أهل الغناء، وأذكياء أصحاب الاعتناء، ذكره ابن المستوفي في ترجمة البحراني النحوي، قال حدثني صدقة بن محمد الملحن، قال: حضرت القاضي أبا حامد السهروردي وقد صنعت لحنا في أبيات البحراني: [الرمل] أيّها البارق من وادي سلم ... أبسلمى لك علم قل نعم أنت لو لم تقتبس من وجهها ... هذه الأنوار لم تجل الظّلم فارقتنا بقلوب لم يفق ... من هواها وجفون لم تنم وتولّت ويدي في كبد ... أوقد الوجه عليها فاضطرم قال: فجعل يهزه الطرب والارتياح، فيميل مثل النشوان مالت به الراح، ويقول: لمن هذا الشعر الذي دونه السحر؟ فقلت: لأبي عبد الله البحراني، فما زال يستعيده ويكرره ويوفيه في الإحسان حقه، إلى أن تقوض المجلس عليه، وقمنا وبه ما يعلم الله من الشوق إليه، وهذا اللفظ لابن المستوفي. 134- ومنهم- الحسين بن الحسن ابن أبي نصر بن منصور الدهان زين الدين أبو عبد الله الموصلي، سابق يوم الرهان، وفاتق عرف بكل وردة من الدهان، تنسب إليه محاسن من الأمور، ويقسم من زخرف بنانه بالسقف المرفوع والبيت المعمور، وتجني من إنعامه كل ذات كمام كأنها زهرة في دهانه، وثمرة غريبة من بدائع ألوانه، أتى بالبديع وأجاد [ص 307] في نغمه ودهائه، فجاء في كل منهما بالصنيع، وأبدع فيهما، فقيل هذه البلابل غنت وهذه المصبغات ألوان فصل الربيع، وكان عالما فاضلا أديبا حسن الأخلاق، لا يمل جليسه محادثته، فريد عصره في صناعة الطرب

وعلم الموسيقا، وله فيه مصنف، وسمع منه الكمال ابن الفوطي وغيره، ومن شعره: [الطويل] وحلو اللّمى مذ عاين النمل قد بدت ... له زمر تبغي بفيه جنى النّحل غدا جاحدا قتلي بسيف لحاظه ... ومن حمرة الخدّين لي شاهدا عدل ومنه: [الطويل] رأيت حبيبي بكرة وهو معرض ... فسمّيته فازوّر يرنو إلى الشرق فيا عاذلي كن عاذري فيه رحمة ... فقد أظلمت من فرط هجرانه طرقي ومنه: [الوافر] ألا يا سادة ما زال قلبي ... لطول فراقهم في ضيق سجن وحقّ جميل ما أوليتموني ... من الإحسان لم تتبع بمنّ إليه صادق أني إذا ما ... ذكرتكم شرقت بماء جفني فعيني ما رأت حسنا سواكم ... وغير حديثكم ما راق أذني فقدت لطول غيبتكم سروري ... ومذ فارقتكم واصلت حزني ندمت ندامة الكسعيّ لكن ... على أوقاتكم وقرعت سنّي كفى حزني فراقكم وحسبي ... بشوقي أنّه ما انفكّ عنّي ومنه ما يكتب على مقلمة: [الكامل] كلّ السّيوف لها جفون تنتضى ... منها وإني جفن كلّ يراع واعلم بأنّ السّعي للقلم الذي ... لولاه خابت للسيوف مساع ومنه: [الرجز] يا خالقي من نطفة مهينة ... وموجدي من عدم مقدرتي يا عدّتي في وحدتي يا مؤنسي ... في وحدتي إذا نزلت حفرتي

135 - ومنهم -[ياقوت المستعصمي]

اغفر ذنوبي وتجاوز كرما ... عنّي بعفو منك واكشف كربتي [ص 308] ولا تؤاخذ بذنوب سلفت ... لشقوتي فأنت أهل الرحمة وعافني من مرض تصدّقا ... وجد على ضعفي واردد غربتي ومن أصواته ما رواه لي عنه الجمال المشرقي في الراست: [مجزوء المجتث] يا نار أسود قلبي ... ونور أسود عيني كن راحما لمحبّ ... أباحك الأسودين توفي يوم الجمعة سابع عشر رمضان سنة سبع وثمانين وست مئة ودفن بالودية شرقي دار السلام، وكان له اختصاص بالسلطان بدر الدين لؤلؤ «1» صاحب الموصل. 135- ومنهم-[ياقوت المستعصميّ] «2» وهو الياقوت الذي لا يغلو به سعر، ولا يعرف الدر إن لم ينشد له شعر، بل هو الذي دونه ياقوت الخدود، ودر العقود، ووسائط القلائد، ولا أعني إلا قواعد النهود، كتب فسلب، وشعر فخلب، وغنى فقيل من أين جاء إلى العراق وادي

سرنديب «1» هذا الجلب، وكان في الكنف المستعصمي يرد طرف كل مبهوت، ويوفي حق كل خدمة لا تفوت، وتفرد بكل خاصة، يقول القني في لظى فإن أحرقني فتيقن أني لست بالياقوت. ما تقدم لمناهلته إلا من تأخر، ولا لمباهاته إلا من قيل له هيهات يا عرض أغلى أفخر الجوهر يتكبر، ولا لمضاهاته إلا من صفى جمره وتكشف عنه الرماد، وتوقد وخمد والياقوت ياقوت ما نقص ولا زاد «2» . مجيد في الشعر والموسيقا والخط، وله الأدب الكامل والنحو المتقن، أخذ الأدب والنحو عن نجم الدين بن كبوش البصري، ومن شعره: [مجزوء الرجز] بدا بوجه مخجل ... الشمس المنير المشرقه في أذنه لؤلؤة ... كأنّها والحلقه قدّاحة في وردة ... بالياسمين ملحقه وله: [مجزوء الهزج] وحمّام دخلنا و ... فيه مقيم حامي «3» بأنواع من الخدم ... ة لا ألوى ولا واني «4» فتمريخ بمعروف ... وتسريح بإحسان

136 - عبد المؤمن بن يوسف

وله: «1» [الخفيف] وعدت أن تزور ليلا فألوت ... وأتت بالنّهار تسحب ذيلا قلت هلا صدقت في الوعد قالت ... كيف صدّقت أن ترى الشمس ليلا [ص 309] وكان هو وظهير الدين بن محاسن في زيارة كمال الدين ابن عم ظهير المذكور، وانتبها وقد برد، فقال: [البسيط] جاء الشتاء ببرد لا مردّ له ... ولم يطق حجر قاس يقاسيه لا الكأس عندي ولا الكانون متّقدا ... كفى ظلامي وكيس قلّ ما فيه دع الكباب وخلّ الكس وا أسفا ... على كساء أتغطّى في دياجيه «2» فأعطاه ظهير الدين فروة سمور «3» كانت لابن عمّه الكمال هناك، فلما سمع الكمال بالأبيات، أعطاه عمامة دمياطية ومئة دينار. 136- عبد المؤمن بن يوسف «4» ابن فاخر الأرموي، صفي الدين أبو الفضائل، مؤلف ضروب أشتات، ومصنف نوب يجمع عليها شتات، خدم الخلافة زمنا، وأخذ الدنيا لأنفاسه

ثمنا، وبلغ من علم الموسيقا مبلغا ضم له ضمن لحده سائب، وحاق به لإسحاق أن يظهر المعايب، لو سمعته الوحوش الشوارد لأنست، وأوعته لما نبست، وأغنى في واقعة هولاكو بما منح من حسن التدبير، ويمن اللفظ في المقادير بالتلطف مع من أبيحت له لأيدي النهب محلته، وتعتعت «1» له بسنابك الركض حلته، لكنما القدرة أذهبت الحفيظة، وبردت حرق الصدر المغيظة، ثم كان هذا سببا له إلى هولاكو فأوجب «2» به صلته، وأوجز منه صلته. ذكر الشيخ أبو الخير سعيد الدهلي ومخلص «3» ما قال: ورد بغداد في زمن المستعصمي أبي أحمد ونزل في رباط ابن البيار وكتب له مصحفا بخط منسوب، ووصل إلى المستعصم فتعرف إليه به وجعل من الملازمين الباب يكتب المصاحف ويعلم أولاد المستعصم، ثم بلغ عنده مالم ينله عنده أحد من المقربين، وكان ابن سيدانا اليهودي كاتبه، وكان مقصوده منه أن يغنيه في علم الحساب لتقسيم أجزاء الموسيقا «4» ، ولم يلزم بيده دينارا ولا درهما، وكان خرجه في سنة واحدة كما ذكر ابن سيدانا ثلاث مئة ألف دينار عوالا «5» ، وكانت له معرفة بسائر العلوم، تغلب عليه الحكميات والرياضيات، وبلغ من الموسيقا مالم يبلغه أحد من المتأخرين، وصف [ص 310] وصنف في عملياته كثيرا، حفظ له الناس ثلاثين ومئة نوبة، ولم يكن نكتة عويصة إلا وصنف فيها نوبة مذكورة متداولة بين الناس، وصنف كتابين في علم الموسيقا، أحدهما الشرقية باسم

شرف الدين هارون ابن الوزير شمس الدين الجويني، والكتاب الآخر يسمى الأدوار «1» ، وله النظم الرائق والخط الفائق، وكان مليح الشكل «2» عذب الأخلاق، ذا مروءة وقوة وكرم نفس، ظريفا لطيفا، وكتب عليه ياقوت المستعصمي وابن السهروردي، واشتغل عليه في الموسيقا في جماعة من الأعيان، قال: ومن كتابته السطر الطومار الذي على بركة جامع الكوفة التي عمرها الصاحب علاء الدين الجويني، وكتب درجا للسلطان هولاكو فأعجبه، ثم وقع ذلك الدّرج في يد من عرضه للبيع فاشتراه بمائة دينار عوال، وفوض إليه هولاكو نظر الأوقاف بجميع العراق وصدورها، وعظم عند الناس بمنزلة هولاكو، ثم توصل خواجا نصير الطوسي بالجوينيين، وابتاع منه صدورية الوقف بسبعين الف دينار رائجا، وبان على الأئمة وأهل الأوقاف فقده، لأنه كان محسنا إليهم، بخلاف من ولي بعده، ومن شعره: [الطويل] لحسنك من كلّ العيون نصيب ... وأنت إلى كلّ القلوب حبيب ومن شعره أيضا: [الوافر] ألاقي في سهادي ما ألاقي ... وأنتم في الكرى ملء المآقي ومن شعره أيضا: [الخفيف] يا حياة النّفوس يا مشتهاها ... أنت للعاشقين أقصى مناها قال الدهلي: وصنف عليه قولا في العشاق طويلا. ومن شعره أيضا: [الكامل]

هل للمعنّى الهائم المضنى الصّدىّ ... من راحم أو مسعد أو منجد عرف الهوى وتلطّفت أسراره ... فسرى ورقّ توجّعا للمكمد يصبو لبثّ جوى يكاد زفيره ... لولا الرجاء لدقّ صمّ الجلمد ليس الودود فتى يودك يومه ... حتى إذا استغنى يملّك في غد [ص 311] بل إنّما الخلّ الودود فتى إذا ... قعد الزمان بصاحب لم يقعد «1» قال الدهلي: وسمع من نظمه جماعة، منهم الإمام علي بن سعيد المغربي قديما ببغداد، وتوفي في يوم الأربعاء ثامن عشر من صفر سنة ثلاث وتسعين وست مئة. وحدثني الجمال المشرقي عنه، وذكر عدة أصوات له، فمنها في شعر المتنبي: «2» [الكامل] اليوم موعدكم فأين الموعد ... هيهات ليس ليوم وعدكم غد والغناء فيه في الروكند، وفي هذا البيت: [الطويل] لحسنك من كلّ القلوب نصيب ... وأنت إلى كلّ القلوب حبيب والغناء فيه في المجيّر من النيروز، وفي هذا البيت: [الكامل] اصنع جميلا ما استطعت لأنّه ... لا بدّ أن يتحدّث السّمّار قال الجمال المشرقي: ولي في هذا المعنى: [الكامل] اعدل إلى فعل المكارم والعلى ... إنّ المكارم للعلى أنصار

وذكر العز حسن الأربلي في تاريخه قال: جلست مع عبد المؤمن بالمدرسة المستنصرية، وجرى ذكر واقعة بغداد، فأخبرني أن هولاكو طلب رؤساء البلد وعرفاءه، وطلب منهم أن يقسموا دروب بغداد ومحالها وبيوت ذوي يسارها على أمراء دولته، فقسموها وجعلوا كل محلة أو محلتين أو سوقين باسم أمير كبير، فوقع الدرب الذي كنت أسكنه في حصة أمير مقدم عشرة آلاف فارس اسمه بانوابوين، وكان هولاكو قد رسم لبعض الأمراء أن يقتل ويأسر وينهب مدة ثلاثة أيام، ولبعضهم يومين، ولبعضهم يوم واحد، على حسب طبقاتهم، فلما دخل الأمراء إلى بغداد، أول درب جاء إليه الدرب الذي أنا ساكنه، وكان قد اجتمع إليه خلق كثير من ذوي اليسار، واجتمع عندي نحو خمسين جوقة من أعيان المغاني من ذوي المال والجمال فوقف بانوابوين على باب الدرب وهو مدبس «1» [ص 312] بالأخشاب والتراب، فطرقوا الباب وقالوا: افتحوا لنا الباب وادخلوا في الطاعة، ولكم الأمان، وإلا أحرقنا الباب وقتلناكم، ومعه الزراقون «2» والنجارون وأصحابه بالسلاح، قال عبد المؤمن: السمع والطاعة، أنا أخرج إليه، ففتحت الباب وخرجت إليه وحدي وعليّ ثياب وسخة، وأنا أنتظر الموت، فقبلت الأرض بين يديه، فقال للترجمان: قل له من أنت، كبير هذا القوم الذي في الدرب؟ قلت: نعم، فقال: إذا أردتم السلامة من الموت، فاحملوا لنا كذا وكذا وطلب شيئا كثيرا، فقبلت الأرض مرة ثانية وقلت: كل ما طلب الأمير يحضر، وقد صار كل ما في هذا الدرب بحكمك، فمر جيوشك ينهبون باقي الدروب المعنية، وانزل حتى أضيفك ومن تريد من خواصك، فأجمع لك كل ما طلبت، فشاور أصحابه، ونزل في نحو ثلاثين رجلا، فأتيت به داري،

وفرشت له الفرش الخليفية الفاخرة، والستور المطرزة بالزركش، وأحضرت له في الحال أطعمة قلايا وشوايا وحلو، وأكلت بين يديه شسني «1» ، فلما فرغ من الأكل، عملت له مجلسا ملوكيا وأحضرت له الأواني المذهبة من الزجاج الحلبي وأواني فضة فيها شراب مروق، فلما دارت الاقداح وسكر قليلا، أحضرت عشر جوق «2» مغاني كلهم نساء، كل جوقة تغني بملهاة غير ملهاة الأخرى، وأمرتهم فغنوا كلهم على سار واحد فارتجّ المجلس وطرب وانبسطت نفسه، وضم واحدة من المغنيات أعجبته فواقعها في المجلس، ونحن نشاهده، وتم يومه في غاية الطيبة، فلما كان وقت العصر، حضر أصحابه بالنهب والسبايا، قدمت له ولأصحابه الذين كانوا معه تحفا جليلة من أواني الذهب والفضة، ومن النقد والذهب، ومن الأقمشة الفاخرة شيئا كثيرا، سوى العليق وهبات العوانية «3» الذين كانوا بين يديه، واعتذرت من التقصير وقلت: جاء الأمير على غفلة، لكن غدا إن شاء الله أعمل للأمير دعوة أحسن من هذه، فركب وقبّلت ركابه، ورجعت فجمعت أهل الدرب من اليسارة «4» ، وقلت لهم: انظروا لأنفسكم [ص 313] ، هذا الرجل غدا عندي، وكذا بعد غد وكل يوم، وأريد أضعاف اليوم المتقدم، فجمعوا لي من بينهم ما يساوي خمسين ألف دينار من أنواع الذهب والأقمشة الفاخرة والسلاح، فما طلعت الشمس إلا وقد وافاني، فرأى ما أذهله، وجاء في هذا اليوم ومعه نساء، فقدمت إليه ولنسائه من الذخائر والذهب والنقد ما قيمته عشرون ألف دينار، وقدمت له في اليوم الثالث لآلىء نفيسة، وجواهر ثمينة،

وبغلة جليلة بآلات خليفية، فقلت: هذه مراكب الخليفة، وقدمت لجميع من معه وقلت: هذا الدرب قد صار بحكمك، فإن تصدقت على أهله بأرواحهم، فيكون لك وجه أبيض عند الله وعند الناس، فما بقي عندهم سوى أرواحهم، فقال: قد عرفت ذلك ومن أول يوم، وهبتهم أرواحهم، وما حدثتني نفسي بقتلهم ولا سبيهم، ولكن أنت تجهز معي قبل كل شيء إلى حضرة القان، فقد ذكرتك له وقدمت له شيئا من المستظرفات التي قدمتها لي فأعجبته، ورسم بحضورك، فخفت على نفسي، وعلى أهل الدرب، وقلت: هذا يخرجني إلى خارج بغداد ويقتلني وينهب الدرب، فظهر عليّ الخوف، وقلت: يا خوند، هولاكو ملك كبير وأنا رجل حقير مغنّ أخشى منه ومن هيبته، فقال: لا تخف ما يصيبك إلا الخير، فإنه رجل يحب أهل الفضائل، فقلت: أنا في ضمانك أنه لا يصيبني مكروه، قال: نعم، فقلت: لأهل الدرب: هاتوا ما عندكم من النفائس، فأتوني بكل ما يقدرون عليه من المغيبات الجليلة ومن النقد الكثير من الذهب والفضة، وهيأت من عندي مآكل كثيرة طيبة وشرابا كثيرا عتيقا فائقا وأواني فاخرة كلها من الذهب والفضة المنقوشة، وأخذت معي ثلاثة جوق مغاني من أجمل من كان عندي وأتقنهن للضرب، ولبست بدلة من القماش الخليفي، وركبت بغلة جليلة كنت أركبها إذا رحت «1» إلى الخليفة، فلما رآني بانوابوين بهذه الحالة قال لي: أنت وزير، قلت: بل أنا مغني الخليفة ونديمه، ولكن لما خفت منك لبست هذه الثياب المقطعة الوسخة «2» ، ولما صرت من رعيتك أظهرت نعمتي وأمنت، وهذا الملك هولاكو ملك عظيم، وهو أعظم من الخليفة، فما ينبغي أدخل عليه [ص 314] إلا بالحشمة والوقار، فأعجبه مني هذا

وخرجت معه إلى مخيم هولاكو، فدخل عليه وأدخلني معه، وقال لهولاكو: هذا الرجل الذي ذكرته، وأشار إليّ، فلما وقعت عين هولاكو عليّ قبلت الأرض، وجلست على ركبتي كما هو من عادة التتار، فقال له بانوابوين: هذا كان مغني الخليفة وقد فعل معي كذا وكذا، وقد أتاك بهدية، فقال: أقيموه، فأقاموني فقبلت الأرض مرة ثانية ودعوت له، وقدمت له ولخواصه الهدايا التي كانت معي، فكلما قدمت شيئا سأل عنه، ثم يفرقه، ثم فعل بالمأكول كذلك، ثم قال لي: أنت كنت مغني الخليفة؟ فقلت: نعم، فقال: إيش أجود ما تعرف في علم الطرب؟ فقلت: أحسن أغني غناء إذا سمعه الإنسان ينام، فقال: فغن لي الساعة حتى أنام، فندمت وقلت: إن غنيت له ولم ينم قال: هذا كذاب وربما قتلني، ولا بد لي من الخلاص منها بحيلة، فقلت: يا خوند، الطرب بأوتار العود لا يطيب إلا على شرب الخمر، ولا بأس أن يشرب الملك قد حين ثلاثة حتى يقع الطرب في موقعه، فقال: أنا مالي في الخمر رغبة لأنه يشغلني عن مصالح ملكي، ولقد أعجبني من نبيكم تحريمه، ثم شرب ثلاثة أقداح كبار، فلما أحمرّ وجهه أخذت منه دستورا «1» وغنيته، وكان معي مغنية اسمها صبا، لم يكن في بغداد أحسن منها صورة، ولا أطيب صوتا، فأصلحت أنغام العود على أنغام ضربة جالبة للنوم مع زم رخيم الصوت، وغنيت فلم أتمّ النوبة حتى رأيته قد نعس، فقطعت الغناء بغتة، وقويت ضرب الأوتار فانتبه، فقبلت الأرض وقلت: نام الملك، فقال: صدقت، تمنّ عليّ، فقلت: أتمنى على الملك أن يطلق لي (السّميلة) قال: وأي السميلة شيء هي، قلت: بستان كان للخليفة، فتبسم وقال لأصحابه: هذا مسكين مغني قصير الهمة، وقال للترجمان: لم لا تمنيت

137 - ومنهم - لحاظ المغنية

قلعة أو مدينة، إيش هو بستان، فقبلت الأرض وقلت: يا ملك هذا البستان يكفي وأنا ما يجيء مني صاحب قلعة ولا مدينة، فرسم لي بالبستان وبجميع ما كان لي من المرتب أيام الخلافة، وزادني علوفة تشتمل على خبز ولحم وعليق دواب يساوي دينارين، وكتب لي بذلك [ص 315] فرمانا مكمل العلائم، وخرجت من بين يديه، وأخذ لي بانوابوين منه أميرا بخمسين فارسا ومعهم علم أسود هو كان علم هولاكو الخاص به يرسم حماية دربي، فجلس الأمير على باب الدرب ونصب العلم الأسود على أعلى باب الدرب، فبقي الأمر كذلك إلى أن رحل هولاكو عن بغداد. قال الأربلي: فكم نابك في الثانية من المغارم؟ قال: أكثر من ستين ألف دينار ذهب، وأكثرها ممن كان انزوى إلى دربي من ذوي اليسار، والباقي من نعم موفرة كانت عندي من صدقات الخليفة، فسألته عن المرتب والبستان فقال أخذه مني أولاد الخليفة وقالوا: هذه إرثنا من أبينا، والعلوفة أقطعها عني الصاحب شمس الدين الجويني، وعوضني عنها وعن البستان ستين ألف درهم. 137- ومنهم- لحاظ المغنّية سحرت فقيل لحاظ، وملأت نفس كل عاشق مغاظ، طالما تجلّت فجلت الهموم، وغنّت فاقتادت القلوب المزموم، وبرزت فتنة للأنام، ومحنة للمستهام، إلا أنها لو تقدمت زمانا كما لو تقدمت افتنانا، لأرخصت دنانير وصرفت عنانا «1» ، وأعربت بما لم تدع لعريب «2» امتنانا، كانت تلازم مجلس الغناء عند الخليفة المستعصم، وكان يعجبه غناؤها.

138 - ومنهم - الثوني

قال صفي الدين عبد العزيز، حدثتني لحاظ قالت: داعبني الخليفة، يعني المستعصم، يوما ونحن في خلوة مداعبة ظننت أنه يريد مني بعض الأمر، فظهر له مني ما يدل على الإجابة، فتوقر وغضب، وقال: ويلك أظننت أني جاد، وهل ترين إلا المزاح، نعوذ بالله من المعصية. قال عبد المؤمن: كان ببغداد رجل يقال له ابن معمر، وكان ناظر ديوان المكوس، وكان يسكن الكرخ، وكان يحمل إليها في كل شيء خمس مئة دينار، وانطوى ذلك عن الخليفة، ففي بعض الأيام حضرت لحاظ على عادتها بين يدي الخليفة مع جماعة من المغنين فغنت: [ص 316] [الخفيف] ذكر الكرخ نازح الأوطان ... فاستهلّت مدامع الأجفان فقال بعض الحاضرين من المغنين: كيف لا يذكر الكرخ من يصل إليه في كل شهر خمس مئة دينار، فسأل الخليفة عن القصة، فأخبروه بالحال، فأمر بنفي المغنية، وعزل ابن معمر عن ولايته، وما زالت تستصفى أمواله. 138- ومنهم- الثّوني صاحب الأرمال واسمه، ومن أصواته قوله والشعر له، والغناء في السيكاه «1» : [الطويل] أيجمل «2» من بعد الوصال صدود ... وتنسى مواثيق لنا وعهود وتجحد ما بيني وبينك في الهوى ... ولي من ضنى جسمي عليك شهود شهودي عظامي ناحلات من الضّنى ... وأجفان عيني بالدماء تجود وروحي نأت يوم نأيتم وأقسمت ... يمينا بكم إن عدتم ستعود «3»

139 - ومنهم - الخروف

ومنها أيضا له والشعر والغناء في السيكاه: [الوافر] عليل الشّوق فيك متى يصحّ ... وسكران بحبّك كيف يصحو وأعجب أن يكون له شفاء ... فؤاد من لحاظك فيه جرح وبين القلب والسلوان حرب ... وبين الجفن والعبرات صلح مزحت بحبّكم يا صاح جهلا ... وكم جلب السّقام عليّ مزح 139- ومنهم- الخروف من ندماء الملك المنصور صاحب جماعة ومغانيه، واهل الحظوة الذي لم يكن فيها أحد يدانيه، والنجب الذي أدناه من صاحب البخت لبلوغ أمانيه، وكان من نجوم مجلسه الطالعة، وغصون حضرته اليانعة، وجلساء مدامه وأخصاء ندامه، وكان سري الخلائق يدمث عطف النسيم، ويبعث النشوة في شمائل النديم، أصله من مدينة درع «1» ، وقدم دمشق وبرع، وعدّى المنتهين في الغناء من أول شرع، وكان جلاء البصر، وسراج هم الخاطر إذا انحصر، خدم البيت الأيوبي واقتاد بهم الخط الأبي، ومن أصواته: [ص 317] [الكامل] إن غاض دمعك والركاب تساق ... مع ما بقلبك فهو منك نفاق لا تحبسن ماء الجفون فإنّه ... لك يا لديغ هواهم درياق واحذر مصاحبة العذول فإنّه ... مغر وظاهر عذله «2» إشفاق لا يبعدن زمن مضت أيّامه ... وعلى متون غصونها أوراق أيام نرجسنا العيون ووردنا ... غضّ الخدود وخمرنا الأرياق «3»

فلئن بكت عيني دما شوقا إلى ... ذاك الزمان فمثله يشتاق والشعر للشريف البياضي. وحكى لي أبو جعفر بن غانم أنه حضر مجلس صاحب حماة، وهو مخيم ببارين» في زمن الربيع وقد أطلع بدائع النور وتجلى بسوابغ الأنهار، والروض قد فك عنه حجز الغمام، والنسيم قد مشى في جوانبه مسبل الأكمام، وأمر بالمغاني فأحضروا وفيهم الخروف ووجهه باسر يلوح يكلح، ولبه ذاهب كأنه ما جاء ليغني وإنما قد قدم ليذبح، فقال له: ما هذا الذي أراه بك؟ أهذا لمفارقة حماة أم لشيء لدينا تتحاماه؟ أما تنظر إلى فسيح هذا الفضاء، وإلى هذا الجو وقد موّه بالفضة البيضاء؟ والخروف مطرق كأنه يرى السكين في يد الذابح، والنار تشب في زناد القادح، لهوى كان عقده بحماة «2» جديدا، وفارقه وإن لم تكن النوى رمت به مكانا بعيدا، ثم لم يطل به السكوت، ولم «3» يتمادى لسانه في اعتقاد الصموت، حتى اندفع يغني صوتا عمله لوقته، ونطق به وخرج من عهدة صمته، وهو: [الكامل] قسما بأيام التداني ولذة ال ... وصال وإني في يميني صادق «4» ما سرّ قلبي مذ نأيت ولاحلا ... لي العيش واللذات منّي طالق وأنّي أرى هنا الفضاء الذي أرى ... فسيحا علينا بعدكم متضايق وما سرّ قلبي الروض يزهر حسنه ... وأني كفيتم عاشق ومفارق فطرب صاحب حماة حتى مال، وسأله أن يطلعه على حقيقة ما قال، فقص عليه [ص 318] خبره مع شجنة وما جلبه فراقها عليه من حزن، وسأله: لمن

الشعر؟ فقال: والله لا أعرف، ولكنه شيء أحفظه، فلما عاينت من ذكرك الموت جاء على خاطري، فصنعت فيه هذا الصوت، فقال: والله حسن جميل ما صنعت وإن مساعدتك لتعين، ثم أصبح فقوض خيامه عائدا، ثم دام له على هواه مساعدا، ثم أمر له بصلة سنية وزاد في راتبه. وحكي أن صاحب حماة جلس ليلة على نهر العاصي «1» ، والقمر مبدر، والليل قد أصحر أسده المخدر، والمجرة قد كاثرت المجلس بأكوابها، والظلماء قد لعبت أشعة البدر بأثوابها، والصهباء قد ذهّبت شبح الظلام، والأبارق قد شبت شعل ذلك الضرام، فاستدعى في ذلك المجلس الأسنى، واقترح عليه صوتا فيه: «2» [البسيط] قم فانتصف من صروف الدهر والنّوب ... واجمع بكأسك [شمل] اللهو والطّرب أما ترى الليل قد قامت عساكره ... في الشرق ينشر أعلاما من الذهب والجوّ يختال في حجب ممسّكة ... كأنما البرق فيها قلب ذي رعب فاخلع عذارك واشرب قهوة مزجت ... بقهوة الرفقة المعسولة الشّنب والشعر للسري الرفاء. ومن أصواته المشهورة: [الطويل] ترى علمت وجدي بها ربّة الخال ... ومن قلبها من شغل قلبي بها خالي ومن أنا صبّ في هواها متيّم ... وما كنت منها قطّ يوما على بال تنوّرتها كالبدر أدنى مزارها ... فؤادي وما أدناه لي المنظر العالي «3» والشعر لشيخنا أبي الثناء محمود الحلبي:

ومن أصواته: «1» [الطويل] أقول وقد ناحت بقربي حمامة ... أيا جارتا هل بات حالك حالي معاذ الهوى ما ذقت طارقة النوى ... ولا خطرت منك الهموم ببالي أتحمل محزون الفؤاد قوادم ... على غصن نائي المسافة عال «2» أيا جارتا ما أنصف الدهر بيننا ... تعالي أقاسمك الهموم تعالي تعالي ترى روحا لديّ ضعيفة ... تردّد في جسم يعذّب بالي لقد كنت أولى منك بالدمع مقلة ... ولكنّ دمعي في الشدائد غال [ص 319] والشعر لأبي فراس بن حمدان. وحكي أنه كان يوما بين يديه في خاصة من ندمائه، إذ أقبل غلام كالبدر في سمائه، قد شد وسطه ببند «3» قطع بين خصره وردفه، ومنع بين الواصف ووصفه، وطرفه قد سجى، وغرته تحت طرته صبح في دجى، وعذاره في خده قد شق في الورد بنفسجا، فجاء حتى وقف بإزائه، والوجد به قد أضرم الجوانح، وهاج الولع بالظباء السوانح، فلم يبق إلا من أنشد شعرا نظمه واستشهد به، وذكر حسن ذلك الغزال السانح من سربه [و] «4» الخروف مطرق في فكر، يسبح في لججه «5» وذكر، لما ينطق به لسان حججه، حتى صاغ لحنا، واندفع فيه يغني: [الكامل] قسما بطرّته وحسن عذاره ... وبما حواه الخصر من زنّاره

وبحسن وجنته وضوء جبينه ... وببدر تمّ لاح من أزراره وبوعده وبصدّه وبغدره ... وبقرب جفوته وبعد مزاره لأخالفنّ عواذلي في حبّه ... مهما استطعت ولو صليت بناره والشعر مجهول. ومن أصواته التي اقترح عليه الغناء فيها: [الكامل] أنصفته من مهجتي لو أنصفا ... ووددت لو راعى ودادي أو وفى وطمعت مغترّا بجوهر ثغره ... فصفا وكدّر من حياتي ما صفا خادعته بحديث لين قوامه ... فسطا وهزّ عليّ منه مثقفا فذهبت من يده إلى أجفانه ... فرقا وسلّ عليّ منها مرهفا والشعر للجلال ابن الصفّار المارديني، ومن هذه القطعة تلو الصوت: [الكامل] كالبدر أعيت حسنه وهيبته ... لي وجنتيه أن يكون مشنّفا «1» وكفته خمرة ريقه ورضابه ... فكفته أن يرد العقار القرقفا أرأيت خدا لا يزيد تلهّبا ... فيزيدني إلا عليه تلهّفا أم هل سمعت بمن شكا حرق الهوى ... مثلي فداو النار بالنار اشتفى رشأ رشيقا ظلّ يحذف خصره ... ردفا عتا فقضى له أن يضعفا «2» يا نسمة ضمنت تعطّف قدّه ... هلا مررت بقدّه فتعطّفا أحببته متجنبا ووددته ... متجنّيا وعشقته متعفّفا

[ص 320] فاخترت للجسم الضّنى وجعلت لل ... قلب الفنا ورضيت منه بالجفا ومن أصواته المعروفة له: [البسيط] من منصفي من هلال يخضع القمر الس ... اري له وغزال يصرع الأسدا لم لا يخاف العدا أسياف ناظره ... وقد رأوا سالفيه ألبسا زردا وكيف لا في الهوى ينحلّ عزمهم ... وبنده فوق ذاك الخصر قد عقدا يا من حكى الصّعدة السّمراء قامته ... كم قد تنفّس فيك العاشق الصّعدا والشعر لابن الدجاجية الدمشقي. ومن أصواته: [الكامل] أشذاكم عند الصباح يفوح ... أم نشر ليلى قد طوته الرّيح؟ ملنا فكلّ من تأرّج عرفه ... نشوان فوق مطيّة مطروح؟ فكأنّما دارت علينا في السّرى ... كأس على نغم الحداة طفوح أنسيم ليلى هل مررت على الحمى ... ليلا وليلى في الديار يروح؟ والشعر لبعض نصارى ماردين «1» ومن أصواته: «2» [الكامل] طللّ لعلوة دون سفح محجّر ... روّته ديمة كلّ غيث ممطر وسرت عليه نسيمة معتلّة ... عن غير طيّب نشره لم ينشر حتّى تسهّم برده بمقضّب ... ومخضّب ومدرهم ومدنّر

ربع علقت به وغصن شبيبتي ... نضر وفودي ليله لم يقمر «1» والشعر للشهاب التلعفري. ومن قطعة ألزم فيها عدم الإلف وتمامها: [الكامل] لله عصر شبيبة قضيته ... في جوّه برحيق صرف مسكر مع كلّ معتدل بريح صعدة ... من قدّه ويدير مقلة جؤذر ورشيقة ممشوقة لو نصبت «2» ... للبدر ليلة تمّه لم يسفر خود تريك سقيم جفن لم يكن ... عن قتل صبّ مغرم مثلي بري تحمي مقبّله بطرف سهمه ... يصمي به عن غير قوس مؤثر يفترّ عن ثغر نضيد نوره ... حفّت حقيقته بسمطي جوهر وانظر إلى هذه القطعة التي كأنها من قطع الروض [ص 321] المرقع في عنفوان زمن الربيع، وكيف جاءت مع هذا الالتزام خفيفة الموقع، قريبة من الخاطر، لا ترى الكلفة «3» عليها ولا تتطرق للاستهجان. وكذلك من أصواته في شعر ابن الحجاج، وحكي أن الملك المنصور صاحب حماة استصحبه معه إلى مصر في بعض سفراته إليها، فحضر يوما يغنيه، وقد حضر عنده أبو الحسين الجزار الشاعر، واندفع الخروف يغني صوتا أوله: [الوافر] مريق دمي وسالب نوم عيني وطفق «4» يردده ويكرره، فقال له الجزار: لك الأمان يا شيخ أحمد، فضحك

صاحب حماة ومن حضر. قلت: ولم يقع إليّ من هذا الصوت غير ما ذكرت. حكي أنه كان مع صاحب حماة على مجلس الشراب وهم ببلاد بارين «1» ، والربيع قد سحب بردائه على الثرى، والسحاب قد أودع في ثغور الأقاح جوهرا، والنسيم قد هب من تحت أعكان «2» الليل معنبرا «3» ، والروض قد أخذ زخرفه، والنور قد نظم أحرفه، والبدر قد طرح تاجه، وألبس الشمس شرفه، والراح قد راقت كأنها وجه حبيب، وطابت كأنها غفلة رقيب، والمدام قد أديرت في عسجدية، والكؤوس قد رقت في تلك الصفحة الندية، والسقاة كأنها أقمار توشحت الجوزاء مناديل، والأصداغ كأنها محاريب اشتعلت فيها الخدود قناديل، فاقترح عليه الغناء في شعر خمري يناسب ذلك المقام، ويحث به سوابق كبنت تلك المدام، فاندفع يغني: [البسيط] والكأس تسلبني عقلي وأهون ما ... لهوت عن ذكره عقلي إذا سلبا خمرا تمشّي بناني وهي فوق يدي ... منها بمثل شعاع الشمس مختضبا شربتها غير مخمور ولو طلب ال ... خمّار روحي بها أعطيت ما طلبا وأربح الناس عندي في تجارته ... محصّل يشتري بالفضّة الذّهبا ومن أصوات الخروف: [الطويل] إذا لم تكن تنهي إلى غيرك الشكوى ... فما ثمّ إلا الصّبر فيك على البلوى [ص 322]

140 - ومنهم - محمد بن غرة

وإنّي وإن أتلفت بالهجر مهجتي ... لأرضى الذي ترضى وأهوى الذي تهوى عرضت على روحي تلافي فما أبت ... وعرّضت روحي للسّلوّ فما السّلوى ومن لم يجد بالروح في الحبّ لم تكن ... محبّته إلا إذا حقّقت دعوى والشعر لابن إسرائيل. 140- ومنهم- محمّد بن غرّة من مغاني صاحب حماة، وممن يؤتى في مغاني حماه، ثم لما هدمت الأيام ذلك البيت المعمور، وهدت تلك الجبال الشم حوادث الأمور، أتى دمشق ولزم بعض كبرائها، وقطع باقي أيامه البيض في خضرائها، وقضى فيها ما كان بقي من أجل سروره، وعجل غروره، وكان ممن يقر له أهل صناعته، ويقدر له الذي لا يقدر على إضاعته، ومن أصواته: [البسيط] من منصفي من عيون كلّما نظرت ... إلى خليّ فؤاد بات في شغل إذا رنت فسيوف من بني أسد ... وإن رمت فسهام من بنى ثعل أنا القتيل بها والمستجير بها ... منها فياليتها تقضي عليّ ولي وبي أغن غضيض الطرف قامته ... تزري إذا مال بالعسالة الذبل «1» زها على البدر في حسن وفي شرف ... وأخجل الغصن في لين وفي ميل إذا بدا قال بدر التّمّ واكلفي ... أو انثنى قال غصن البان واخجلي «2» والشعر للجماز، وكذلك صوته في شعره أيضا: [مجزوء الرجز] كحّل جفني بالأرق ... ساجي الجفون والحدق

مهفهف كالغصن قد ... دا والعبير «1» منتشق حلو اللّمى والمجتنى ... والمجتلى والمعتنق قد سحرت أجفانه ... ألبابنا والسّحر حق وكلّ طرفي بالبكا ... وكلّ قلبي بالقلق فمقلتي ومهجتي ... بين دموع وحرق وصوته في شعر الباخرزي: [ص 323] [البسيط] أبقيت منّي روحا مالها بدن ... لذاك زوّرت من روحي لها بدنا «2» يا فالق الصّبح من لألاء غّرته ... وجاعل الليل من أصداغه سكنا بصورة الوثن استعبدتني ولها ... فتنتني وقديما هجت لي فتنا لا غرو إن أحرقت نار الهوى كبدي ... فالنار حق على من يعبد الوثنا وهذا الصوت أوله من قطعة: [البسيط] أنت الذي نقض الميثاق لست أنا ... فدع جفاءك إن كان الوفاء أنى «3» ومن أصواته: «4» [مجزوء الرمل] أيّها الصّبّ المعنّى ... يتبع الرّئم الأغنّا كيف يحنو من هوى ... من كلّ يوم يتجنّى أودع النّفس ملاء ... معرض أعرض عنّا جاد بالهجران منه ... وبوصل الصّبّ ضنّا كلّ يوم أنا منه ... نادم أقرع سنّا

ليس في كفّي منه ... غير أن كان وكنّا والشعر لأبي نواس. وكذلك صوته: [البسيط] حاشا لوجهك يا من لا أسمّيه ... من أن يقاس إلى مثل وتشبيه أنّى وكيف ولو كانت محاسنه ... للشمس ما طلعت من شدّة التّيه انظر إلى كل شيء طيب حسن ... وانظر إليه تجد أمثاله فيه أستغفر الله ممّا قلته عبثا ... أنّ القضيب وإنّ البدر يحكيه «1» والشعر مجهول وكذلك صوته: [البسيط] أحبابنا لا بليتم بالبعاد ولا ... خلت ربوع لكم منكم وأوطان قطعتم سبل المعروف فابتدئوا ... في حسنكم فكمال الحسن إحسان أقسمت لارمت منهم سلوة أبدا ... ولا مللت وإن خانوا وإن مانوا «2» ما ضّرهم لو وفوا أو أنصفوا كرما ... هيهات هيهات ما هم لي كما كانوا [ص 324] والشعر للزكي النابلسي. وكذلك من أصواته في شعر العفيف التلمساني: [الطويل] رعى الله مرأى حاجر ورباها ... وحيّا الحيا أطلالها وسقاها وراعت إليها الريح مثلي عليلة ... لينقل أقوال الغصون شفاها «3» وشقّت بها ثوب الشقيق يد الندى ... وبدّدت الأرواح عرف شذاها»

141 - ومنهم - القاضي محمد العواد

إلى أن سرى سرّ الوشائع شائعا ... وتصبح رهوا أرضها كسماها فكم ليلة بتنا نرى البدر أخته ... بها ويرينا في السماء أخاها وكذلك صوته: [المديد] ما هوى إلا له سبب ... منه يبدو ثم ينشعب وكذلك صوته: [مخلع البسيط] أبعدتني عنك بعد قربي ... يا ليت شعري ما كان ذنبي لهفي لعيش قد كنت فيه ... أدعوك يا منيتي بلبّي وقال الجمال المشرقي: والشعر لابن الكرخي، والغناء فيه في الراست ونفق به ابن غرّة برهة من العمر وحصل به جدى كثيرا. 141- ومنهم- القاضي محمّد العوّاد ويعرف بابن القاضي أيضا، وكان من مغاني صاحب حماة الذين شرّفوا إليه بالانتساب، وعرفوا لديه بالاكتساب، وكان ممن يحضر في يده العود، ويبيض به وجوه الليالي التي لا تعود، وكان في لسانه ثقال، حتى إذا غنّى لم ير مثله في طلاقة اللسان، والطاقة التي ما لأحد في هذا الباب نظيرها من الإحسان، وأتى دمشق بعد انهدام ذلك المغنى «1» المشيد، وانقضاض ذلك الركن السديد، فأقام به مسترزقا، ولباقي أيام عمره فيها منفقا. ومن أصواته: [ص 325] [مجزوء الكامل] جنح الحبيب إلى الصّدود ... وافى وما وفّى وعودي

وإذا العوارض بالبنف ... سج جاورت ورد الخدود وتموّجت كثب الرّوا ... دف تحت أغصان القدود شاهدت في أيدي الظّبا «1» ... ء قياد أعناق الأسود والشعر مجهول. وكذلك صوته: [الكامل] يا مسكري وجدا بكأس جفونه ... قل لي أتلك لواحظ أم قرقف؟ يا من حكى الغصن الرّطيب رشاقة ... هلا عطفت فمثل قدّك يعطف بادر جمالك بالجميل فربّما ... ذوت الملاحة أو أبلّ المدنف «2» واسبق عذارك «3» قبل أن ... يأتي بعزل هواك منه ملطف وكذلك صوته: [مجزوء الرجز] هل بعد جيران النّقا ... يلذّ للصّب البقا «4» أو ترتضي أجفانه ... إلا البكا والأرقا وهل يلوم قلبه ... إذا قضى تشوّقا أهكذا حكم الهوى ... ليت الهوى لا خلقا أصمى القلوب بالأسى ... وبالسّهاد الحدقا أقضي نهاري أسفا ... وعمر ليلي قلقا والشعر للمجاور، وهو من قصيدة تخف على السامع منها: [مجزوء الرجز] مولى سما بأصله ... على البرايا وسمق

142 - ومنهم - الدهمان محمد بن علي بن عمر المازني

جواد فضل ما جرى ... لغاية إلا سبق لم يخلق الله تعا ... لى ندّه وما خلق ويح الكماة إن سطا ... والفصحاء إن نطق وفارس الخيل إذا ... جدّ الصدام والحنق فرّقها في البيد بالض ... رب وبالعطن فرق «1» [ص 326] بأبيض برق المنا ... يا في غراريه ائتلق وأدهم كالليل يب ... دو بين عينيه القلق 142- ومنهم- الدّهمان محمّد بن عليّ بن عمر المازني أبو الفضل شمس الدين ذو يد في الأدب غير قصيرة، وذهن لا يتمثل شيئا إلا أحسن تصويره، لو صور نفسه لم يزدها، ولو بدّلت بالكواكب صنعته لم يردها، أجاد في صنعته، وواسى بفهمه أباريده (؟) ، وأتى بكل بديع الصنعة لا يدني تدبيجها للغمام، بعيد السمعة والذي صوره أقرب شيء إلى الأفهام، صنائع فكر ويد جاء فيها بألوان ما يسر الناظر، ويسير الديوان فما أبقى من محاسن أدب ودهان، وأمسك منها قلم الشعر، والشعر لأنه حاز قصب الرهان، وغادر من أثريه خط ناظر امرئ وسمعيه، نشر منها قطع الرياض، ونطف الغدر «2» الا أن ذهب الأصيل، طفح على إنائها الفضي من جوانبه وفاض، وعلى ما كان يعاني من عبء هاتين الصنعتين، فعززهما بثالث، بصوت مثان ومثالث، له

في كل واحدة من هذه الثلاثة معان لا تتناهى، وصور قبل إبرازها إلى الخارج لا يتصوّرها أحد ولا يعرف معناها، في أي صورة ما شاء ركّبها، وفي أي مذهب أراد أذهبها، وكان فريدا في توقيع الألحان، وتنوع الشكر بما يعقّ من تمام الفدام «1» عن بنت ألحان، وكان له بالربوة من وادي دمشق دار نقشها زمانا، وأخرج فيها جهد صناعة الثلث فكتب عليها شعره وذهّبها، ثم كان يغنيها ألحانا، وكان يؤخذ عنه علم الطرب، وكان علما فيه واحدا، ومحركا لا يدع في السماع القائم قاعدا. ومن شعره الذي صاغه شعرا وألحانا، وجمع فيه محاسن الدهر زمانا زمانا، وأتقن تراكيبه كأنما أضرمه إذهابا وأتقنه دهانا، قوله: [الخفيف] إنّ فصل الرّبيع أطيب فصل ... طالع وجهه بكلّ سعاده [ص 327] طاب في فصل صحة فلهذا ... كلّ يوم جماله في زياده تبرز الأرض منه في سندس ... الوشي حاكت سحابه أبراده لم يزل ورده يغازل للمن ... ثور حتّى شقّ الشّقيق فؤاده وقوله: [البسيط] يهيج شوقي إليه كلّما صدحت ... تدعو هديلا مع الأصباح في فنن حمامة وجدت وجدي فلي ولها ... قلبان شدّا مع الأشواق في قرن قامت تنوح على ساق وقمت على ... ساق أنوح فأشجتني ولم تعن والشعر له، وكذلك الغناء له، وله صوت مشهور لم يبق في زمانه من لم يقر له فيه إحسانه، وهو [الرّجز] هل حيها على الغوير واجد ... أم أقفرت من زينب المعاهد «2»

خفيت حتّى من سقامي والضّنى ... لولا أنيني ما رآني العائد حتى رثت لي رحمة حواسدي ... يا ويح من ترثي له الحواسد يا كعبة الحسن التي أجّجها ... فؤاد مضناك عليك واقد كم سقت في الهوى إليكم مقلتي ... والحرّ من يحفظ من يعاهد والشعر لغيره، والغناء فيه له. وبتنا ليلة في داره بالربوة وواديها يصفح، وناديها بنشر البنفسج ينفح، والليل قد رق جلبابه، وعلق في جوه ربابه، وهو تارة يحيينا من أناشيده، وتارة يطوينا طائره المترنم بتغريده، حتى حان الصباح ونحن لا نظن أن الليل قد نصّف، ولا أن فرع الجوزاء «1» قد تهدل أو تقصف، ثم التفت فإذا الصباح قد أشرق، وجمر الفجر قد شب إلا أنه ما أحرق، وتلفت يرى بكاء الطلّ في عيون النرجس ما رقا، والبرق بإزاء الليل الكافر مارقا «2» ، وجبين الصبح يرشح ماؤه، وجبين الفجر سقطا ينضح الشفق دماءه، فاندفع يغني: [الطويل] ألا حبّذا الوادي وروض البنفسج ... وطيب شذا من عرفه المتأرّج [ص 328] وأغصان بان في حفافيه ميّد ... بكلّ قديم القدّ غير معوّج «3» وأنهار ماء في صفاء ورقّة ... يسيل به ما بين روض مدبّج كذوب لجين «4» او كمتن مهنّد ... يمرّ مرور الزئبق المترجرج

143 - ومنهم - الكمال التوريزي

إذا قابلته الشمس أبصرت مذهبا ... من الوشي يبدو ببريق وزبرج «1» وإن جعّدته خطرة من نسيمة ... فيا حسن مرأى متنه المتموّج جنان إذا ريح الصّبا نفحت بها ... فبعدا لأطلال الرّبا بمنعج «2» وكان له مملوك أفرط في حبه، وأخذ بمجامع قلبه، فغاله منه حادث الموت، فحزن عليه حزنا ذبّ عن جفنه الغرار «3» ، وأحرم قلبه الفرار، فأتى صاحبنا الخطيب الصوفي وكان بينهما صداقة أكيدة، ومزاح فكه، ثم أنشد لنفسه كأنه يعزيه، وإنما قصده أنه يخزيه «4» : [الطويل] لئن مات يا دهّان مملوكك الذي ... بلغت به في النّفس ما كنت ترتجي فمثّله بالأصباغ شكلا وصورة ... وقدّا وردفا واترك الحزن واصلج «5» فقام الدهان بأقبح خزية وأضرها، وأعظم كآبة وأشهرها، ثم قاطعه مدة فلم يكلمه. 143- ومنهم- الكمال التّوريزي سقطت لنا أخباره سقوط الندى، وبدت لنا بدو البدور على بعد المدى، كان إذا غنى تزلزل زلزل «6» ، ونسي جميل جميل وما يتغزل، ونزل صوت في بيت عاتكة الذي يتعزل، ولم يرض له معبدا عبدا، ولا ابن جامع الذي تضوّع ندّه

ندّا، «1» ولا إسحاق إلا الذبيح، ولا ابن المهدي إلا المخلوع الطريح «2» ، وكان فرد زمانه في كرم السجايا وحسن الأخلاق، وسعة النفس، قالوا: [كان] طيب المجالسة لا يملّ حديثه، مكثرا من الأخبار والحكايات والنوادر، عارفا بأخبار ملوك بيت جنكيز خان «3» ، وخصوصا أولاد هولاكو بن تولي، وأحوال الوزراء والخواجكية، وله مشاركة جيدة في العلوم العقلية، ودربة بمخاطبة الملوك والأمراء والوزراء، والخواتين والخواجكية والكبراء متقنا للموسيقا علما وعملا [ص 329] مجيدا في صناعة الغناء، لا يجارى ولا يبارى، ولا يطمع في مضاهاته ولا مداناته، اتصل بالسلطان أبي سعيد، وكان محبا للغناء والمغاني، فلما اتصل به الكمال، اقتصر عليه، واختص به، وجعل كل أهل هذه الصناعة، وسائر الجلساء والندماء دونه، وكان يشاربه ويحضر معه في أخص خلواته، ولا يكاد يصبر عنه ساعة في سائر أوقاته. وحكى لي خواجا إسماعيل السامي: أن أبا سعيد كان مغرى «4» بطول المكث في الحمام والشرب فيه، وجعل له حماما جعل جدره من الزاج «5» ، وكان يدخل إليه ومعه أمراؤه «6» ببغداد ومشافر وكان كلفا به والكمال التوريزي، ويجلس الجلساء والندماء خارج الحمام، والسقاة تسقي، فإذا وصل الدور إلى الجالسين خارج الحمام أخرج إليهم من كوى بينهم، والمغاني تغني بالنوبة خارج الحمام، فإذا انتهت النوبة إلى الكمال غنى داخل الحمام وربما غنى

أبو سعيد والكمال لا يغني، وربما غنيا معا، وذكر أنه استفاد بأبي وبالأمراء والوزراء وأرباب الدولة وسائر الناس لأجله أموالا جمة جليلة، لا تكاد تحصر، وسأله السلطان أبو سعيد أن يعلمه الموسيقا، فعلمه قدر ما احتمله فهمه، ثم ازداد نهمته «1» من هذا العلم، وأكثر ملازمة الكمال حتى برع وصار غاية في ذلك، ورأسا من رؤوسه، وصار يصنع الأصوات ويعرضها على الكمال، فتارة يصوب رأيه، وتارة يصلح له الصوت ندر وأجاد، وزاد وأحسن، وكانت أكثر أصوات الكمال في الأشعار المنظومة باللغة الفارسية، وهكذا كانت غالب أصوات أبي سعيد، وهو الذي استنبط هذا الغناء الذي يغنى به اليوم، ويسمى (البيشرون) «2» وهو أنغام تطول على مقدار بيت الشعر ويقبض على وسع عبارة فيسدّ بأنواع من الكلام الملفق الذي لا يحصر بوزن ولا قافية، قلت: ولقد حرصت على تخريجه أو مقابلته بتفاعيل يوازن بها فلم أستطع، وسألت عنه الإمام حجة العرب أبا عبد الله بن الصائغ الأموي المروي فقال لي: هذا لا يتخرج ولا يوزن إلا بالنغم مثل الموشحات إذا كانت غير شعرية «3» ، فإنها لا تنضبط ولا يعرف صحيحها من مكسورها إلا إذا غنيت، قلت: وهذا الغناء يستلذ في المشارب وحانات [ص 330] القصف «4» ، ولأهل مصر به ولوع وعليه وقوع، ولا يليق الغناء به في مجالس الملوك والكبراء، ولم يقع إليّ من أصواته في الشعر العربي إلا أربعة أصوات، فمنها في شعر التلعفري: [الكامل] .

ما صدّ جفن العين عن إغماضه ... إلا بريق لاح في إيماضه خفق الفؤاد بخفقة فغدا كما ... حكم الهوى وقفا على إمراضه ما زال يغري مغرما لمعانه ... بالمنحنى وغياضه ورياضه واها له من عارض تعريضه ... لي بالأحبّة كان في إعراضه ومنها في شعر محمد ابن التلمساني هذا: [الوافر] صدودك هل له أمد قريب ... ووصلك هل يكون ولا رقيب ملوك الحسن ما صنعي بطرف ... تمنى مثله الرشأ الربيب رمى فأصاب قلبي باجتهاد ... صدقتم كلّ مجتهد مصيب وفي تلك الهوادج ظاعنات ... سرين وكلّ ذي وله حبيب ومنها في شعره أيضا «1» : [الطويل] تحكّم إذا جاز الجمال تحكّما ... فما لمحبّ منك أن يتظلّما حبيبي إن حرمت سهما في الكرى ... فقد حللت عيناك في القلب اسهما فداك صبّ فيك أسكنه الهوى ... وإن كان من سيف الصدود تكلّما وما كان يدري حفظ عهد لغادر ... فما زال يهوى الحسن حتّى تعلّما ومنها في شعر مجهول: [الخفيف] برح السّقم بي فليس صحيحا ... من رأت عينه عيونا مراضا إنّ للأعين المراض سهاما ... صيّرت أنفس الورى أغراضا قلت: وقد كان سلطاننا حرص على إشخاصه إليه، وطلبه طلب متهافت عليه، فعزم على قصده، وقدمت مسيره للسير، فصده عنها قرارة لحده.

144 - ومنهم - محمد بن الكسب

144- ومنهم- محمّد بن الكسب الذي يوقد المصابيح، ويجيء بأسلس من دهنه وأطيب في الريح، أول ما تخرج مع أبيه، ثم [ص 331] تزيّد تزيّد الهلال، وتفرد تفرد العذب الزلال، وحصل العجب لما رأى بالكسب من الكسب، وبما سمع من طرب له في الأعضاء ذهب إلا أنه ماله سبب «1» ، وكان لا يزال المنصت يتتبع أصواته لا يمله إكثارها، والمسامع تقول عجبا للبصر وسم سمة تشكر آثارها، اشتغل بصناعة الغناء، حتى بلغ فيها المراتب، وأصبح بها يحسد ابن الكسب ابن السمسماني الكاتب، فأبرّ في تفرده يمين كل مقسم، وأودى كيد حاسده وحبسه في أقماع السمسم «2» ، بدهن أصفى من دهن السليط، وأكثر من تلعبه بالفتيلة في التسليط، وأملى الأصوات وأمن من القالي، وحمّص قلوب الأعداء كما يقال على المقالي، فسلم إلا أنه برع في لطافة الشمائل، وشبت الضرم في المعاطف «3» ، كما ترى فعل السليط في القنديل باللهب المتمايل، وجميع أهل صناعته تصفه بالإحسان، وتقر له بالتقدم في آخر الزمان، وله من أصواته إجادة فيها وأتقنها كل الإتقان، وجمع فيها بين الشعر والألحان، فمن أصواته، والشعر للخطيب جمال الدين يوسف الصوفي: [الكامل] يا مقلتي أين المدامع هاتي ... لا تبخلي بلآلئ العبرات هذا الفراق عليه قد حسن البكا ... وتردّد الحسرات واللهفات بالله يا حاد حدا بأحبّتي ... وقضى على تأليفنا بشتات مهلا عليّ فإن يوم وداعهم ... مر ولكن فيه حلو ممات

145 - ومنهم - الكتيلة

ورثاه الخطيب جمال الدين الصوفي النابلسي بقوله: [الطويل] تعالوا بنا نذري الدموع الجواريا ... ونستوقف الحادي ونبكي المغانيا ونذكر عيشا مرّ حين حلا لنا ... بأيّام أنس قد خلت ولياليا ونسأل عن روح الحياة وطيبها ... ملاعب ربّاب الحجاب الغوانيا فإنا ذممنا العيش بعد محمّد ... وذكّر بالأحزان من كان ناسيا 145- ومنهم- الكتيلة بدر الدين محمد الجتكي المارديني، خطبته الملوك لمجالستها، وحطته مواضع [ص 332] القرناء لمنافستها، ونضرته لنعيمها «1» ، وسرته من العوارف بعميمها، وكان بصيرا بأخلاق العظماء، خبيرا باستدرار أخلاف الكرماء، ولم يزل جوّاب أسفار، وجوال بدر في غروب وأسفار، قليلا على ظهر المطية ظله «2» ، خفيفا مكانه من الخواطر ومحله، يزاحم في سحابه الوارد، ويتشوق إليه تشوق الظمآن إلى الماء البارد، واليقظان المسهد إلى المنام «3» الشارد، أتى قلعة الجبل وحل هالات دورها، وحظي بأيام سرورها، هذا وسلطانها يقبل المتاب، ويقبل على المنتاب، ويتلقى القادم بطلاقته، ويفك الرهن من عاقته، ووجد الزمان ما بسر «4» ، والبغاث «5» ما استنسر، والراعي لا يخاف الذئب على غنمه، والدم لا

يستباح منه إلا ما على الطرف المخضب من عنمه، والقلعة مسرح ظباء، ولا عقرب إلا بصدغ مليحة، ولا سيف يسل إلا بكرة صبيحة فقطع تلك المدد والدهر غافل، والبر سحابه حافل، والبدر في تلك الآفاق طالع غير آفل، ودخان الند يعقد سماء، وخدود الملاح يشرب ماء، ثم مات حيث تلاشى ذماء «1» الجود، ومص الثرى بقية الماء من الفرد. أصله من أبناء الكتّاب، وكتب خطا حسنا، وقرأ طرفا من النحو والعربية، واتقن علم الموسيقا، وحفظ كثيرا من الشعر للقدماء والمحدثين، ونقل الأصوات المشهورة، وحفظ كثيرا من نوب عبد المؤمن وانخرط في سلك الندماء، وأهل المحاضرات، وملح وندر، وحكى الحكاية والخبر، وخدم ملوك ماردين «2» واتصل بهم، وحكي أنه حظي عند الملك الصالح شمس الدين وراج لديه، وسمع به السلطان الناصر فاستدعاه، وأقبل عليه غاية الإقبال، وكان له مكانة لم يبلغها أحد من أمثاله، وأمره بملازمة الجواري وتعليمهن ويلقي عليهن الأصوات، حتى تخرج غالب الجواري المحسنات، وكان يتردد إلى باب الستارة في كل يوم، وتخرج إليه الجواري، وكان مجيدا في الغناء، متقنا في سائر الخفيف والثقيل منه، غاية في ضرب الجنك «3» العجمي وتأليف الأنغام عليه، ولا يكاد يثبت سامعه لشدة الطرب، وكان يقيم بمصر المدد الطويلة، ثم يسأل في العود إلى ماردين فيؤذن له، فلا يكاد يصل [ص 333] ماردين ويستقر بها إلا وجهز السلطان في طلبه وبحث في سرعة عوده، فإذا وصل ضاعف الإكرام وعومل

بأكثر مما يعهد، وحصّل بهذا أموالا جزيلة، ونعما كثيرة والأنزال التي تزيد على عادة مثله، وحضرت مجلس السلطان مرة وعنده موسى بن مهنا، وكلاهما يضرب بالجنك بين يديه، فرأيت موسى بن مهنّا على سكونه العظيم ووقاره يميل يمنة ويسرة، وكان كتيلة ذلك اليوم كله يردد صوتا صنعه، والصوت: [البسيط] يا دار عّزة من للواله الباكي ... بنظرة يتملّى من محيّاك ما هبّ من أيمن الوادي نسيم صبا ... إلا وكان الهوى العذريّ يمناك تحمّلي واحملي يا نوق واصطبري ... على المسير فهذا من سجاياك ولم يبق أحد من غلمان الدار وأعيان الأمراء، حتى هزه الطرب، ولولا مهابة السلطان لرقصوا، فلما فرغ مما هو فيه، أثنى السلطان عليه، وقال لموسى بن مهنا: كيف رأيت؟ فقال والله ظننت أنه يجذبني إليه، ولو لم أملك نفسي لوقعت عليه، وأمر له السلطان بألف دينار يتّجر بها، وكتب له توقيع مسامحة بما يجب عليه فيها من الموجبات الديوانية في السفر دائما صادرا وواردا، ومضى يوم عجيب لم ير مثله، ودخلت على السلطان يوما آخر وهو عنده، وقد أخذ في صوت صنعه، والصوت: [الطويل] سلام على ليلى وليلى بعيدة ... ولكنّها طيف إليّ قريب بديعة حسن مالها من مماثل ... إذا طلعت شمس النهار تغيب كما أنّ قلبي في البلاد متيّم ... كذا حسن ليلى في الحسان غريب وكان الكتيلة يجيء إليّ في حوائجه التي تكون له عند السلطان، وكان كامل الأدب وافر المروءة، حسن الخلق، جميل العشرة، يرجع إلى كرم وطيب أعراق، وكان بينه وبين الكمال التوريزي ما يكون بين أرباب كل فن من المنافسة والحسد، وكان السلطان قد سمع بالكمال، وجاءته الأخبار بأنه فرد من أفراد

الدهر في فنه، فبعث إليه من يشخصه اليه، وتطلع إلى مقدمه عليه، وفخاف كتيلة من بواره به، فلم تمتد الأيام حتى جاءت الأخبار بأن الكمال مات فجاءة، فشاع ذكر بأن كتيلة إنما دبر عليه من قتله، ولعل هذا إنما من تشنيع العوام [ص 334] وأقوال الحسدة الطغام، ثم لم يلبث كتيلة بعده إلى أن عاد إلى ماردين فمات رحمه الله. قلت: ولما انتهيت في ترجمتي هذه إلى هنا، وقعت على أصوات له صنع فيها ألحانا مشهورة، مما حدثني به خواجا محمد المارديني. وكان من خلطائه وأهل صحبته، فمنها شعر الحلاوي وهو: [الكامل] . ألف الملام ولام عن ميثاقه ... رشأ فراق النفس دون فراقه عذب اللّمى حلو الخلال كأنّما ... خلقت مراشف فيه من أخلاقه دقّت معاني حسنه ولقدّه ... عبث الأنام من القنا بدقاقه يهوى الوصال ولو بأيسر موعد ... ويصد حتّى الطيف عن مشتاقه يا محرقا قلبا أقام بربعه ... ألا كففت جفاك عن إحراقه «1» ومنها في شعر الحلاوي أيضا: [الكامل] أحيا بموعده قتيل وعيده ... رشأ يشوب وصاله بصدوده قمر يفوق على الغزالة وجهه ... وعلى الغزال بمقلتيه وجيده ياليته بعد الملام فإنّه ... ما زال ذا لهج بخلف وعوده يفترّ عن عذب الرضاب حياتنا ... في ورده والموت دون وروده قمر أطاع الحسن منه وجهه ... حتّى كأنّ الحسن بعض عبيده أنا في الغرام شهيده ما ضرّه ... لو أنّ جنّة وصله لشهيده وهذه الأبيات من قصيدة فائقة منها مدح الملك الناصر داود: [الكامل]

يا يوسف الحسن الذي أنا في الهوى ... يعقوبه نبّئ إلى داوده أشكو إليه من الزمان فإنّه ... ملك يشيب شظاه رأس وليده ملك إذا اللأواء لاح لواؤها ... هزمت كتائبها طوالع جوده «1» غمرت مواهبه العفاة فأصبحت ... ترجى المواهب من وفود وفوده وإذا العدوّ نحته لدن رماحه ... فتكت ثعالبها بغلب أسوده من كلّ أسمر في الملاحم طالما ... عاد الردى مهج الكماة بعوده غصبت عواملها الظلام نجومها ... والبان قد سلبته لين قدوده [ص 335] سمر إذا الجبّار سام دفاعها ... وردت أسنّتها نجيع وروده عذباتها صفر كوجه عدوّه ... بالنصر تخفق مثل قلب حسوده «2» ملك ألان لنا الزمان وإنّما ... داود معجزة للين حديده ومن أصوات كتيلة مما ذكر لي صاحبه خواجا محمد المارديني، أنّ كتيلة غناه بين يدي سلطاننا فأجزل عطاياه، ورفع على كاهل الجوزاء مطاياه: [الكامل] ملك الملوك محمد أنت الذي ... ذلّت ملوك الأرض بين يديه شرف الملوك بأن يكون عبيده ... أو أن يكونوا واقفين لديه جهدوا وما دانوك في أدنى العلا ... هيهات إن وصل الملوك إليه «3» وإذا هم بلغوا السماء مكانه ... لما تراموا في السماح عليه والشعر لرجل من أهل ماردين. ومنها صوته في شعر القاضي أبي الحسن: [الطويل]

أأيامنا بين الكثيبين في الحمى ... وطيب ليالينا الحميدة فيهما صحبنا بها شرخ الشّباب فدلّنا ... على أعين كانت عن البين نوّما فمن قائل لا آمن الدّهر حاسدا ... وقائلة لا روّع البين مغرما بدت صفرة في وجنتيه فلم تزل ... مدامعه حتّى شربنا بها دما ومنها صوته في شعر ابن زريق الكاتب: [البسيط] بالله يا منزل القفص الذي درست ... آثاره وعفت مدنية أربعه «1» هل الزمان معيد فيك لذّتنا ... أم الليالي التي أمضته ترجعه في ذمة الله من أصبحت منزله ... وجاد غيث على مغناك يمرعه من عنده لي عهد لا يضيّعه ... كما له عهد صدق لا أضيّعه وقصيدة ابن زريق التي منها الصوت معروفة مشهورة لها في كل ناد نداء، ولها في كل واد حداء، وحمله مختارها سواه: [البسيط] لا تعذليه فإن العذل ينفعه ... قد قلت قولا ولكن لست أسمعه «2» [ص 336] جاوزت في لومه حدّ المضرّبه ... من حيث قدّرت أنّ اللوم ينفعه فاستعملي الرّفق في تأنيبه بدلا ... من عنفه فهو مضنى القلب موجعه يكفيه من روعة التفنيد أنّ له ... من الهوى كلّ يوم ما يروّعه ما آب من سفر إلا وأزعجه ... رأي إلى سفر بالعزم يجمعه كأنما هو من حلّ ومرتحل ... موكّل بفضاء الأرض يذرعه والله قسّم بين النّاس رزقهم ... لم يخلق الله من خلق يضيّعه

أستودع الله في بغداد لي قمرا ... بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه ودّعته وبودّي لو يعاجلني ... ورد الحمام وأني لا أودّعه لا أكذب الله ثوب الصبر منخرق ... عنّي بفرقته لكن أرقّعه إنّي لأقطع أيامي وأنفذها ... لحسرة منه في قلبي تقطّعه لأصبرنّ لدهر لا يمتّعني ... به ولا بي في حال تمتّعه علما بأنّ اصطباري معقب فرجا ... فأضيق الأمر إن فكّرت أوسعه عسى الليالي التي أضنت بفرقتنا ... سمحا ستجمعني يوما وتجمعه وإن تغل أحدا منّا منيّته ... فما الذي في قضاء الله يصنعه وموضع الصوت يكون أوله تلو: (إني لأقطع أيامي وانفذها) البيت. ومن أصوات كتيلة في شعر البارع: [البسيط] بالله يا ريح إن مكّنت ثانية ... من صدغه فأقيمي فيه واستتري وراقبي غفلة منه لتنتهزي ... لي فرصة وتعودي منه بالظّفر وإن قدرت على تشويش طرّته ... فشوّشيها ولا تبقي ولا تذري ولا تمسّي عذاريه فيفضحني ... بنفحة المسك بين الورد والصّدر وتتمة هذه القطعة: وباكري عذب ورد من مقبّله ... معلّل الطّعم بين الطّيب والخصر «1» ثمّ اسلكي بين برديه على عجل ... واستبضعي الطّيب وأتيني على قدر [ص 337] ونبّهيني دوين القوم وانتفضي ... عليّ واللّيل في شكّ من السّحر لعلّ نفحة طيب منك ثانية ... تقضي لبانة قلب العاقر الوطر

ومن أصواته في شعر الجلال ابن الصفار المارديني: [الكامل] يسعى بأبرق ذا من ثغره ... يحيي وذا من مقلتيه قاتل «1» عنيت إنسانا هما من لحظه ... ذا سايف وبهديه ذا نابل «2» فمتى تقوم قيامتي بوصاله ... ويضمّ شملينا معاد شامل وأكون من أهل الخطايا خدّه ... ثاري وصدغاه عليّ سلاسل وأولها: أين السلو وما يروم العاذل ... ممن له بهواك شغل شاغل أنا ما سلوت وبرق فيه خلب ... أسلو وعارضه أمامي سائل ومن أصواته في شعره أيضا: [الطويل] وفي خزرم لما حللنا فناءها ... سكرى حيارى تحت ظل الغياهب «3» تبدت لنا عند الصباح طليعة ... من الترك مرد فوق جود السلاهب «4» بأيديهم سمر طوال كأنما ... أسنتها تبغي التقاط الكواكب تثنوا غصونا في السروج وأطلقوا ... سهام لحاظ من قسي الحواجب «5»

ولو كشفوا بيض العوارض في الوغى ... لأغنتهم عن مثل بيض القواضب ومن أصواته في شعره أيضا: [الكامل] برق بدا من ثغرك المنعوت ... أم لؤلؤ قد ضمّه ياقوت؟ يا للنصارى برقعوا شمّاسكم ... قبل الضلال فإنّه طاغوت «1» ما قام أقنوم الجمال بوجهه ... إلا وفي ناسوته اللاهوت «2» يشتاقه قلب إليه طائر ... صبّ وطرف حائر مبهوت فاحسن فإنّ الحسن وصف زائل ... واصنع جميلا فالجمال يفوت [ص 338] واستبق من أهل الغرام ولا تجر ... فيقلدوك دماءهم وتموت أخبرني الجمال المشرقي ما معناه: أن أبا كتيلة كان يعزف، وزجاجته ما أبرزت، وكانت له معه نوادر تستحسن، ووقائع لا يعرف أنها أحسن، قال: ومنها أنه لما اشتدّ يافعا، وأصبح لا يراد منه نافعا، سلك سبيل العتب في الإدلال، وفرط وأفرط في الاحتمال، حتى أتى إلى بركة كان قد صنعها النجم يحيى ملونة بالزجاج، ومشفقة كالقصور والجام، قد أقيمت حروفها وأحكم تأليفها، فأخذ حجرا بيده ورماها به، فثلمها وحطّ رتبة حسنها وحطّمها، فقال فيه: [السريع] قل للذي ثلّم [في] بركة ... ما يأخذ الثأر ولو هدّها

فتحت في أسفلها ثغرة ... لو عاش ذو القرنين ما سدّها «1» قال: ثم تعدى شوط عداته وتعالى قدره في بلاد ماردين، فخدم في أعمالها، وختم بتصرفه على مآلها، وولي نظر دنيسر، وهمى عليه صوب الرزق فأيسر، ونشأ ابناه مسعود ومحمد كتيلة وتعلما، وكبرا وتقدما، إلا أنّ الحمام أتى على مسعود أولا وشبابه شارخ، وغناؤه لم يصرخ باسمه صارخ، فبقي الذكر لأخيه مفردا، كأن لم يكن سواه من أبيه. فقال: وكان مسعود متعلقا بحبائل «2» ابن الملك المنصور صاحب ماردين، لا يخاف منه الخبر، ولا يسأل دونه السفر، وكان الملك المنصور قد أخذ ابنة الجنك البغدادية المغنية بغتة من بغداد، وأتى بها إلى ماردين وتركها بها مقيمة، وأهلها لا تعرف أرضا ابتلعتها، أو سماء اقتلعتها، وكان سبب هذا أن الملك المنصور كان رجلا جسيما وكان قد نقص عيار الدراهم بماردين حتى حول الدرهم مقدار الثلثين، فلما نزل الأرد ببغداد سافر للقاء القان، فلما كان يوم دخوله إلى بغداد، خرج أهلها ليروه، وكانت ابنة الجنك ممن خرجت، فلما مرّ عليها، قالت لبعض من كان عندها: من هو صاحب ماردين في هؤلاء؟ فقيل لها: هذا، وأشاروا إليه، فنظرت إليه وقالت: كل هذا بثلثين الا مارديني هو، فدخلت كلمتها [ص 339] في صماخ اذنه، وأذكت عليه نار إحنه، فطلب بعض خاصة قومه، وأمره أن يتعرف أمرها، حتى عرفها ثم عدا «3» عليها حتى أحضرها إليه ليلا لتغنيه فاختطفها وأركبها الخيل، وسيق بها

النهار والليل حتى أتى بها ماردين، وقبرها في بعض دورها، وتركها لا يحفل بأمورها، ثم أحضرها ليسمع غناءها، فما رآها حتى رابه أمره، وخامر لبه خمره، وتلف بها جوى في الجوانح، وهوى صاد شركه الجوارح، ثم طال عليها الاغتراب والحبس المضيق في عش الغراب، وكانت قد أنست إلى مسعود بن غدايفال لطول اجتماعها به في مجلس الملك المنصور، وعلقت قلبه فلم يجد سبيلا إليها إلا بأن حسّن لابن الملك المنصور حبّها وهون عليه قربها، واستغفل الملك المنصور حتى سافر إلى الموصل، واتى مع ابنه إليها، وباتا يحثان كؤوس الراح عليها، فلما عاد الملك المنصور أتته عينه الناظرة بما رأت، وحدثته ثقات خبره بالليلة التي جرت، فأحل بمسعود المنحوس الحمام، وأورده مورد الموت الحمام، وقد خافت بنت الجنك فأمسكت خفيها على يديها وتدلت من الساتون «1» حتى ثبتت على الأرض قدميها ولقت هناك خدمها، وكانت قد اتعدت مع ثقات لها منهم إلى هناك بالخيل، وسارت تقطع وتسابق السحاب الركام، حتى وافت مدينة سنجار «2» ، وبها الأمير يحيى بن الجلال، فاستجارت به فأجارها، ووسع تحت نقاط يده وجارها «3» ، وأتى الخبر الملك المنصور، فقتل صبرا، ولام أهل مشورته للتدبير، وبعث رسله إلى ابن الجلال يعتب، فضم ظهور المطي، وخصم ألسنة الملي البدري وأعلمه بما يجد لفرقتها، ويكوى به من نار حرقتها، فبعث بها إليه فتلقاها وأقرها لديه على أتم الأحوال وأبقاها، وذهب دم ابن غدا يفال هدرا، وكان حمه لها قدرا.

146 - ومنهم - خالد

146- ومنهم- خالد لو أدركه عبد المؤمن لأخذ عنه النوب، أو السهروردي لعلم أنه سهوردي، وما حصل من العلم معه إلا على اسم الطرب، لو حضر مجلس ابن المهدي لتيقن أنه ما اهتدى، أو ماثل ابن بانة لما مال غصنه متأودا، أو لو طارح الأمير ابن طاهر لود أن يكون من عدته [ص 340] أو الهذلي لأقرانه لأقصر عن مداه، إلا أن طائفة تغض منه غض الحاسد، وتريد أن يكون لها مثل سيفه الخالدي، وهيهات إنما يضرب في حديد بارد، وتظن أنها من أقرانه ولكن من هو من أقران خالد، لو كان في زمانه سميّه خالد بن عبد الله القسري «1» لبادر العيش وانتهب، أو عاصر سميّه الآخر خالد بن يزيد الأموي «2» لعلم أن صنعة الطرب والغناء أجدى عليه من صنعة الكيمياء والذهب، فقد خلّد له ذكرا، وخلف له ما يحتاج سامعه معه شكرا، وأبقى له ما إذا ذكرته به لا أزيد عليه شكرا، ومن أصواته: [البسيط] ردّوا على مقلتي النوم الذي ذهبا ... وخبّروني بقلبي أيّة ذهبا علمت لّما رضيت العيش منزلة ... أنّ المنام على عينيّ قد غضبا إني له عن دمي المسفوك معتذر ... أقول جملته من سفكه تعبا هل تشتفي منك عين أنت ناظرها ... قد نال منها سهاد الليل ما طلبا ماذا ترى في محب ما ذكرت له ... إلا بكى أو شكا أو جنّ أو طربا ترى خيالك في الماء الزلال إذا ... رام الشراب فروّى منه ما شربا

والشعر للأرجّاني والغناء فيه رمل وكذلك صوته في شعره أيضا، والغناء فيه دوكاه وهو: [الكامل] إن كنت عن نظر المحب تغيب ... فهواك من كل القلوب قريب لك في سويدا القلب أشرف منزل ... ما حل فيه سواك قط حبيب يا من تحجب عزة عن ناظري ... أنت المنى والسؤل والمطلوب وحياة وجهك إن جيش تضرري ... ولى وجيش عزيمتي مغلوب وله صوت في شعر ابن نباتة المصري، والغناء فيه من عراق، وهو: [البسيط] نادى وقامته تهتزّ بالتّيه ... فكادت الشّمس قيد الرّمح تحكيه [ص 341] وقمت أذكره بالظبي ملتفتا ... فقال لي طرفه من غير تشبيه ما للذي فتنت طرفي محاسنه ... أضحى يعذب روحي وهي تفديه وما لعاذل قلبي في محبته ... تعبان يدخل فيما ليس يعنيه القلب قد أسكن الله الحبيب به ... فما الملام على حال بمخليه لا يختشي بيت قلبي غزو لائمه ... فإن للبيت ربا سوف يحميه «1» وله صوت شعر مجهول، والغناء فيه راست معشّق الدقات وهو: [المديد] زار والواشون قد غفلوا ... رشأ من ريقه ثمل كل مخلوق له أجل ... وهواه ماله أجل صرت في حبي له مثلا ... وحلالي ذلك المثل قلت قد أتلفتني مللا ... قال كم قد أتلف الملل

وله صوت في شعر ابن عربي والغناء فيه دوكاه: [البسيط] نعم لقلبي ببانات الحمى أرب ... ولي دموع لذكراهن ينتسب هبت له نسمة من نحو كاظمة ... فاعتاده لهبوب النسمة الطرب «1» يا ساكني الجزع [لي] ؟ في حيكم قمر ... طرفي على البعد يرعاه ويرتقب بدر به يهتدي الساري فواعجبا ... يجلو الدجى قمر بالشمس محتجب وله صوت في شعره أيضا، والغناء فيه رمل: [الرمل] من لقلب بالعيون النجل مضنى ... حسنها أورثه سقما وحزنا وفؤاد ما أتاه خبر ... عن أهيل المنحنى إلا وحنا ورشيق القد ألمى أسمر ... هزمن قامته أسمر لدنا خلته لما تبدى غصنا ... فتجلى قلت بدر قد ثنى وكذلك له صوت في شعره، والغناء فيه كوشتا، وهو: [الخفيف] كل يوم يزيد وجهك حسنا ... وفؤادي يزيد وجدا وحزنا [ص 342] أنت والله أحسن الناس شكلا ... ما للفظ الجمال غيرك معنى لي قلب يحن نحوك شوقا ... وضلوع على الصبابة تحنى من يكن رام عن هواه سلوا ... فأنا المدنف الكئيب المعنى وله صوت أظنه في شعره أيضا، والغناء فيه عراق وهو: [البسيط] لو بلغ الشوق هذا البارق الساري ... أو بعض وجدي الذي أخفي وتذكاري

ما بتّ أرعى الدجى شوقا إلى قمر ... ولا معنى بطيف طارق طاري «1» جيراننا كنتم بالرقمتين فمذ ... بعدتم صار دمعي بعدكم جاري «2» فكم أواري عزما من جوى وأسى ... زناده تحت أثناء الحشا وار وله صوت في شعر مجهول، والغناء فيه ماه يوسليك وهو: [الكامل] شوقي إليك أجلّه أن يذكرا ... وهوى يرق لطافة أن تنشرا بيني وبينكم إذا حكم الهوى ... فرق كما بين الثريا والثرى ريم رمى قلبي فأصبح ساكنا ... فيه ومسكنه أصاب وما درى ساومته روحي وكانت ملكه ... فأبى وقال الوقف ما يشترى «3» وله صوت في شعر محاسن الشوا، والغناء فيه مبرقع وهو: [البسيط] أشكو إلى الله لا أشكو إلى أحد ... حزنا يكابده من بعدكم كبدي أحبابنا كيف أسلو عن محبتكم ... وعقد ودكم ديني ومعتقدي وبين حبكم والروح معرفة ... تأكدت قبل خلق الروح والجسد لا تأخذوا بدمي أجفان طيبكم ... فالروح روحي وقد أتلفتها بيدي وكذلك أيضا: [الوافر] بعادك علم النوم البعادا ... وكحّل مقلتي فيك السّهادا [ص 343]

أو يأسه (؟) اخيالا منك يسري ... فلو أرسلت طيفا ما أرادا وألهبت القلوب بنار شوق ... أبت يوم النوى إلا البعادا ولم تترك لذي طرف مناما ... يلم ولا لذي جلد فؤادا والشعر للمجاور والصوت فيه طرف. وكذلك صوته في شعر شيخنا أبي الثناء الحلبي، والغناء فيه محير الحسيني: [الخفيف] أيها المنزل الذي كان فيه ... ليجلي شموسهم إشراق والذي كان فيه بدر المسرا ... ت تماما لا يعتريه محاق أوحشوني مذ فارقوني فهل ... أصبحت مثلي إليهم تشتاق فابك لي مسعدا عليهم فلا ... بأس إذا ما تساعد العشاق وكذلك صوته في شعر ابن نباتة المصري: «1» [مجزوء الكامل] يا قلب أنت ومقلتي ... متحاربان كما ترى هاتيك تمنعك الهدوء ... وأنت تمنعها الكرى وأنا الذي قاسيت بي ... نكما العذاب الأكبرا وكذلك صوته في شعره أيضا، والغناء فيه زنكلا «2» : [الوافر] غني الحسن خالي الوجنتين ... متى يقضي وعود الهجر ديني متى بالثغر والخدّين تجلو ... بوارق رامة والرقم شين أبثك إن عاد لي المعنى ... رآك بعين حبّ مثل عيني

فحاكى قلبه قلبي خفوقا ... وحكّمك الهوى في الخافقين وله صوت في شعر مجهول، والغناء فيه راست، وهو: [البسيط] بي من جفاك صبابات وتسهيد ... فهل ليوم وصال منك موعود سلي نجوم الدجى تنبيك عن سهري ... لتعلمي أن يومي فيك مفقود أو فانظري سقمي إن كنت منكرة ... فالعين تشهد والأخبار تقليد يا ضرة الشمس عودي غير هاجرة ... عسى بوصلك أن يخضر لي عود وكذلك له صوت في شعر مجهول، والغناء فيه عراق: [الكامل] [ص 344] حسب المحب فقد تمزق صبره ... وبدا لعاذله المعنف عذره في حب أغيد لم تزل أجفانه ... مكسورة فيها تأكد نصره ظبي وغصن مقلتاه وقده ... بدر وليل وجنتاه وشعره أقسى من الصخر الأصم فؤاده ... وأرق من شكوى المتيم خصره وله صوت في شعر مجهول، والغناء فيه حسيني وهو: [السريع] من علم الغصن الرطيب الدلال ... حتى سطا جورا علينا ومال ومن أحل القتل في مذهب ال ... حب وأفتى أن هذا حلال يا فتنة العاشق من واضح ... يشرق في جنح الدجى كالهلال أحور كالحور ولكنه ... ينفر من عاشقه كالغزال وكذلك له صوت في شعر مجهول، والغناء فيه عراق: [مجزوء الكامل] ومهفهف كالغصن مائل ... مرّ الجفا حلو الشمائل من مقلتيه صوارم ... ومن الجفون له حمائل

ترف الدّلال يكاد يد ... ميه من التّرف الغلائل كم عنفت فيه الوشا ... ة وأطنبت فيه العواذل وكذلك له صوت في شعر مجهول، والغناء فيه نكاري: [البسيط] ناولتها شبه خديها مشعشة ... مثل الصباح تحاكي ضوء مقباس فقبّلتها وقالت وهي ضاحكة ... فكيف تسقي خدود الناس للناس قلت اشربي إنها دمعي وعاصرها ... دمي وطابخها في الكأس أنفاسي قالت إذا كنت من أجلي بكيت دما ... فسقّنيها على العينين والرأس وكذلك له صوت في شعر مجهول، والغناء فيه زوالي: [الطويل] أمن أرض ليلى للنسيم هبوب ... فمن نشرها فيه تضوع طيب تهب قبولا والقبول أمامه ... وتسري جنوبا والغراب جنيب «1» صبا للصّبا قلبي وكل متيم ... يحن إذا هبت صبا وجنوب [ص 345] وأرتاح منها للرياح إذا سرت ... مراضا كأني للنسيم نسيب وله صوت في شعر الخطيب يوسف الصوفي، والغناء فيه زنكلا وهو: [الكامل] أبدى دلالك للغرام دلائلا ... فعصيت لوّاما ولمت عواذلا وإذا رأيت القلب يشكو في الهوى ... فقرا إليك جعلت دمعي سائلا ينهيك أن الشوق أمسى نازلا ... في مهجتي والصبر أصبح راحلا وتركت عزمي مثل جفنك فاترا ... وجعلت جسمي مثل خصرك ناحلا

وله صوت في شعر شيخنا أبي الثناء، والغناء فيه رمل، وهو: [الطويل] أشوق وهم في ربع قلبك سكان ... ووجد وما شطّ المزار ولا بانوا نعم هي روح أحرقتها صبابة ... فسالت دموعا والجوانح أجفان تمر بها الأنفاس وهي رطيبة ... وترجع عنها وهي بالوجد نيران فلو كان هذا الدمع ماء لأعشبت ... ربا الحيّ منه وامتلت منه غدران وله صوت في شيخنا الصائغ بن سباع، والغناء فيه رمل، وهو: [الكامل] حبس الهوى نومي وأطلق أدمعي ... ضنا بطيفك أن يلم بمضجعي يا ساكن الجفن القريح أما ترى ... حقا لجارك في هواك مضيّع وأنا الفداء لنازح سكن الغضا ... من مهجتي والمنحنى من أضلعي أبدا يلوح خياله في ناظري ... ويجول طيب حديثه في مسمعي ولقد شكوت إلى الفراق صبابتي ... يوم النوى وولوع قلبي الموجع فأبى وعيشك أن يرق لحالتي ... أو أن يجيب هناك سائل أدمعي وله صوت في شعر أبي تمام حبيب ابن أوس، والغناء فيه زاولي وهو: «1» [الخفيف] حسنت عبرتي وطاب نحيبي ... فيك يا كنز كل حسن وطيب لك قدّ أرق من أن يحاكى ... بقضيب في النعت أو بكثيب «2» حار حكمي في قلبه وهواه ... بعد ما جار حكمه في القلوب كاد أن يكتب الهوى بين عيني ... هـ كتابا هذا حبيب حبيب [ص 346]

وكذلك صوت في شعره، والغناء فيه زاولي، وهو: [مجزوء الخفيف] لا وورد بخدّه ... واعتدال بقدّه لا تعشّقت غيره ... لو براني بصدّه إن يكن أقسم الهوى ... بعد تصحيح ورده فعساه بعد التمن ... نع يرثي لعبده وله صوت في شعر مجهول والغناء فيه حسيني، وهو: [مجزوء الخفيف] ربّ ليل سهرته ... فيك لولاك نمته بحنين ولوعة ... وبكاء قطعته فلق العين مفكرا ... في وصال حرمته بأبي وجهك الجمي ... ل الذي لا عدمته وله صوت في شعر ابن مطروح، والغناء فيه راست، وهو: [الكامل] أوثقتني من ناظريك جراحا ... وتركتني لا أستطيع براحا أحسبت أنّي ساليا لا والذي ... أبدى بليل الشّعر منك صباحا ما بحت بالسّر المصون وإن سلا ... غيري وخان عهوده وأباحا لكنّني حرّمت عنك تصبّري ... ورضيت قتلي في هواك مباحا وله صوت في شعر البهاء زهير، والغناء فيه أصفهان راست، وهو: «1» [مجزوء الكامل] يا معرضا متغضّنا ... حاشاك يا عيني وروحي

لم تدر ما فعل البكا ... ء عليك بالجفن القريح لك من ضميري ما علمت ... به من الود الصحيح فمتى أفوز بنظرة ... من وجهك الحسن المليح وكذلك له صوت في شعره، والغناء فيه حسيني: [مجزوء الكامل] يا غادرين ألم يكن ... بيني وبينكم عهود ظهرت وبانت لي قضي ... تكم فما هذا الجحود [ص 347] وحلفتم ما خنتم ... وعلى خيانتكم شهود يا من تبدل في الهوى ... يهنيك صاحبك الجديد وله صوت في شعر الأمجد، والغناء فيه جاركاه: [الطويل] ترى تسمح الأيام لي فأراكم ... وأشكو إليكم منذ يوم نواكم فياليت أني لم أكن بنت عنكم ... ويا ليت أني لا عرفت هواكم وأعظم ما ألقاه أني لواجد ... سلوا لقلبي عنكم بسواكم وإني لأرضى أن أموت صبابة ... إذا كان موتي في الهوى من رضاكم وله صوت في شعر مجهول، والغناء فيه جاركاه: [الكامل] لما بدا مرخى الذوائب مسفرا ... عاينت فوق الغصن ليلا مقمرا وجننت لما هز غصن قوامه ... سكر الدلال صبابة وتذكرا لما دجت أصداغه وتضرمت ... وجناته لبس الجمال مشهرا وكأنّ بحر الحسن لما ماج في ... خديه ألبس ساحليه العنبرا

147 - ومنهم - السهروردي شمس الدين

وله صوت في شعر الوأواء، والغناء فيه سيكاه: «1» [البسيط] ما حكّم البين إلا جار محتكما ... ولا انتضى سيفه إلا أراق دما الله يعلم أنّي يوم بينهم ... ندمت إذ لم أمت في إثرهم ندما قد سرّني أنّهم قد سّرهم سقمي ... فازددت كيما يسرّوا بالضّنى سقما ديارهم خبّرينا بالذي فعلوا ... فربّما جهل المشتاق ما علما «2» 147- ومنهم- السّهروردي شمس الدّين كتب مثل ياقوت الدّر، وزاد عليه ففضل الرفيق الحرّ، وباهى الروض وقال بيدي ما بيدي ولا حى النرجس، وقال كيف تدرك الغاية وطرفك قد نعس، وسهر وردي وكيف يقاس بي وقد تطاولت ولم يبلغ الشجر أو يشبه بي عزيز غال، وإن قيل ياقوت، فهل هو إلا حجر وهبه، أجاد الخط أتى بأحسن مما أتيت، أو أنه سابق فهل خط معي إذ خط الرهان فأبيت، أو قيل إنه قد أجاد حتى من علم الطرب فيما ادعيت وسبق، وإن كنت أنت بعده قد طرف وما سعيت فهل شهد إلا بالخط الذي عليه [ص 348] أقصر، وإلى الخط ما طمح على أنه اقتصر، ولا ملأ إلا البصر، وحده بحسن خطه وقد ملأت السمع والبصر «3» ، مولده ببغداد في المحرم سنة أربع وخمسين وست مئة ببغداد، حفظ القرآن، وتفقه على مذهب الشافعي، وقرأ العربية ونظر في اللغة والمعقول، وحفظ المقامات الحريرية، وفاق الناس في الخط بعد ياقوت المستعصمي، وقيل: إنه كتب قلم النسخ أحسن من

ياقوت، وكتب على الشيخ زكي الدين عبد الله، وفاق عليه في الكتابة. قال العلامة تاج الدين بن البشاك: كنت أكتب على ياقوت وأجود قلم النسخ، فكان يغير عليّ ويوقفني على الأصول، وكنت أستزيده فيوقفني إلى أن بلغت طبقة لم يغير عليّ فيها شيئا، فاستزدته فلم يزدني، وألححت عليه فقال: ما عليّ مزيد، أتظن أنك تبلغ طبقة شمس الدين السهروردي، فإن نسخه خير من نسخي، قال أبو الخير الذهلي: وأجمع الناس على أنه لم يدرك أحد غايته في كتابات المينا على الآجر وغيره، وكتاباته مشهورة بالروم والعراق وخراسان وفارس وغير ذلك من البلاد، وسمع الحديث على جماعة منهم: رشيد الدين أبو عبد الله المقري، وعماد الدين أبو البركات ابن الطبال، وأجاز له جماعة، وكان حسن الأخلاق كثير الحياء، شديد المقال، ذا مروءة وفتوة، وشرف نفسي وتواضع، كثير البشاشة ظريفا لطيفا، معمور الأوقات بالاشتغال والأشغال، صاحب رأى وحزم وعزم وتؤدة وفصاحة، وبلغ في الموسيقا، وعلمه بالغاية القصوى، واعترف الفضلاء بإحرازه فيه قصب السبق، أخذ علمه وعمله عن صفي الدين عبد المؤمن، وأجمع الناس على أنه لم يأت بعده مثله، ومنه استفاد المينا وبرز عليه فيه، ووصلت تصانيفه في الموسيقى شرقا وغربا، وكتب بخطه ثمانية وسبعين مصحفا، منه خمس ربعات، كل ربعة وقر بعير، وكتب إحياء علوم الدين للغزالي، وكتاب المصابيح للبغوي ثلاث نسخ، وعوارف المعارف للجدابية ثلاث نسخ، ومشارق الأنوار للصنعاني ثلاث نسخ، وكتاب الشفاء لابن سينا في مجلد، والكتاب في نفسه في كثير من النسخ المتوسطة ستة عشر مجلدا [ص 349] والمقامات ثلاث نسخ، ومفصّل الزمخشري نسختين ونهج البلاغة أربع نسخ، وكتب من الأحاديث والأدعية والدواوين والدروج شيئا كثيرا، وكان حظيا عند السلطان، وكاتبه سلطان الهند واليمن غير مرة وجماعة

من الكبراء على أن يمضي إليهم فلم يفعل، وكتب عليهم خلق كبير، منهم السلطان أبو سعيد، والسلطان أبابك، وسلطان السّلم «1» ، والوزير غياث الدين محمد بن الرشيد، ونظام الدين الطياري، وأولاد الأئمة والقضاة، والفضلاء والرؤساء والوزراء، وقصد من البلاد لأجل الخط والموسيقا: [الرمل] قد قنعنا بخمول عن غنى ... وبعزّ اليأس عن ذلّ التّمنّي فكريم القوم لا أسأله ... فلمإذا يعرض الباخل عنّي وقوله: [السريع] يا من بنور العلم ... «2» ... متعك الله بما خوّلك ولا برحت الدهر في نعمة ... صافية المشرب والأمر لك ما هينمت ريح الصبا سحرة ... وغنت الورق ودار الفلك ومن شعره أيضا: [الوافر] بدا نجم السعادة في الصعود ... وبشر بالميامن والسعود وحقّق فيك آمال البرايا ... بما أولاك من كرم وجود فلاح لنا الفلاح وحل فينا ... محل الروح من جسد العميد وأبقيت النفوس بظل أمن ... يعم الخلق في مدن وبيد بعدل شامل في كل أرض ... لسلطان الزمان أبو سعيد ومن أصواته: [الكامل]

ذكر العذيب ومائلات قبابه ... وقف الفؤاد على أليم عذابه ومهب أنفاس الصبا من جوه ... فيه شفاء الصب من أوجابه «1» فدع النسيم يبث من أنبائه ... وعلى دموع العين رد جوابه [ص 350] ويشوقني أن المحب يسوقه ... لقيا القريب العهد من أحبابه ويروى الشعر لابن قيس، ويروى لغيره، ومن أصواته [الوافر] أعاتبه فيطرب من حياء ... وفي الخدين من خجل دليل كأن الجلنار بوجنتيه ... وماء الياسمين به تجول ويزعم أنني ما رمت هذا ... ويطرق ثم ينكر ما أقول وكم لام العذول عليه جهلا ... وآخر ما جرى عشق العذول والشعر مجهول، وله صوت في شعر ابن قرطابا: [الطويل] لذي السالف المسكي والمقلة الكحلي ... رسيس هوى في الحب يبلى ولا يبلى عزيز عرفت الدل من كلفي به ... وكم من عزيز في الهوى عرف الدلا كثير التجني ليس لي عنه سلوة ... وأعجب شيء جائر الحكم لا يسلا «2» ومعتدل كالغصن لا عدل عنده ... ولولا سقامي في الهوى عرف العدلا فلا تعذلوني في هواه فإنني ... حلفت بذاك الوجه لا أقبل العذلا دعوني وشكوى الحب بيني وبينه ... فما أعذب الشكوى إليه وما أحلا

وكذلك له صوت صنعه في شعر الملك الأمجد صاحب بعلبك: [الطويل] أحبة قلبي بعد ما بان أنسكم ... وبنتم عن الجرعاء كيف أكون قضى الوجد لي أن لا أزال مسهدا ... إذا رقدت تحت الظلام عيون أأحبابنا لي بالإياب مواعد ... فحتّام تلوى والعداة ديون وحتام أشكو الهجر منكم شكاية ... تعلم صلد الصخر كيف يكون وله شعر في صوت آخر وهو: [البسيط] ما ضر أهل الحمى لو أنهم رجعوا ... بانوا فأقفر مصطاف ومرتبع نأوا فبان على آثار بينهم ... عصر الشباب فمن أبكي ومن أدع مناي إصلاح ما بيني وبينكم ... وكل شيء من الدنيا له تبع أبعد ذاك التداني من دياركم ... أبيت والقلب عن لقياكم يزع [ص 351] وله صوت في شعر ابن الساعاتي: [الكامل] هذا الذي قتل المحب ومادرى ... فحذار منه ولم يفد أن تحذرا ما كنت أحسب قبل لؤلؤ ثغره ... أن الثمين يكون منه الأصغرا قاسمته قسم الجفون فليته ... يوما يقاسم ناظري سنة الكرى يهتز غصن نقا ويعقب زهره ... ويصول قسورة ويرنو جؤذرا «1» غنى فناح الورق من حسد له ... وانقد قد الغصن حين تبخترا في خدّه المبيض أسود عارض ... من خوف جمرته انثنى فتحيرا وكان في آخر عمره يأنف من علم الموسيقا، ولم يكن في لحيته من البياض

148 - ومنهم - الشمس الكرمي

إلا شعرات يسيرة إلى أن مات، ولم يحصن «1» قط رحمه الله تعالى، وتوفي في آخر شهر ربيع الأول سنة إحدى وأربعين وسبع مئة، وصلى عليه جماعة من الخلفاء، ودفن عند «2» جده، ولم يخلف بعده في سائر البلاد «3» بعده مثله في حسن الخط وعلم الموسيقا. 148- ومنهم- الشّمس الكرمي محتسب صفد يحكى عنه العجب، ويحدّث بما يهز العذب، ويخبر بما لا هو في قوة العجم والعرب، وكان ابنه المعروف ببدر الدين محمد كاتبا من كتاب صفد في الجهات الديوانية، وربما كتب الدرج لبعض المشدين، وكان هذا الشمس ينادم الأمير علاي الدين أيدغدي الألذكزي النائب بها، وكان من كبار الأمراء الظاهرية القدماء، وحكى لي الشيخ الإمام أبو الصفاء الصفدي عن علاي الدين علي دوادار الألذكزي أنه كان يأخذ الدف بيده ويحلق به في الهواء ثم يتلقاه على خمس أنامل، وينقر بكل أنملة منها على نغم، وكان الألذكزي يقول له: إن نادمتني ليلتي كلها أعطيتك مئة درهم، وكان يكثر منادمته لذلك، وكان يلعب له بالجغانة «4» وكان الدوادار الجاكي ينقل عنه كثيرا من أصواته، ويلعب بالجغانة، وربما تخرّج عليه، لأنه كان كثير النقل عنه. قلت: وحدثني بأمر إلقائه الدف وتلقيه بأنامله ونقره بكل أنملة منها في نغم، القاضي أبو العباس أحمد بن قاضي نابلس: [ص 352] [السريع]

149 - ومنهم - يحيى الغريب الواسطي المشيب

إلى متى أطلب منك الوصال ... مضى زماني وانقضى بالمطال يا قلب لا تطمع في وصلهم ... تحصيل مالم يتحصل محال «1» 149- ومنهم- يحيى الغريب الواسطيّ المشيب ابن زادة الديسني جمال الدين أبو سعيد المشرقي رجل من الأبناء حسن الأنباء أضرّ بسهم أصابه، وأطال بفقد عينيه مصابه، وأبوه كردي، وأمه من البيت المودودي مات أبوه بالالموت «2» ، وقد قدر له أن يحيى به ويموت، قال لي ابنه هذا أنه أجزم جزمة غيّرت عليه هولاكو، وكان هو الذي اصطنعه ويسر له من الأمل ممتنعه، فلما ارتكب عنق الجريمة ومنى نفسه العظيمة، أودعه المجلس وأقيم وودعه المجلس، ثم غامت له سماؤه، وغاضت في خلج السيوف دماؤه، ثم أمر به فصلب، وبما ملكت يداه فسلب، وأتبع حريمه وبنوه أشتاتا، وتعاصى عليه الزمان كما واتى. قال واشتراني الصاحب شرف الدين هارون بن الجويني، فصرت إليه وبصرت فتقربت إليه بما كان ينفق عليه، وكان ينفق عليه الغناء، ومجلسه مأهول برب كل فضيلة، وبكل من يأوي منه إلى فضيلة، وكان يغشاه من أهل الغناء الأوحدين كسبا، وزير البر واناه وعبد المؤمن فاخر الأرموي، والزين ابن الدهان الموصلي، وحسن النائي، وسعد الدين السليكو، والبدر الأربلي، وأبو بكر التوريزي، وكانوا كلهم أئمة في هذا الشأن، وكان الصاحب ابن الجويني رحب الندى كريما إليه، وبيته للطارق والمشاب «3» ، وكرمه ما بعده على الزمان غياب، وكان قد أخذ عن هؤلاء، وعرف جيد الغناء من رديئه بدليل وعن نظر «4» فاجتهدت في الطلب، واجتهدت نفسي حتى فقت في الطرب، ثم

قدمت هذه البلاد، ووفدت على حضرة السلطان بمصر، واستخدمت على خبز في الخدمة، وفي جملة الخدام والقصاد بالخدمة، حتى أصبت في عيني في بعض الوقائع، فرتّب لي مرتّب أنا منه أقتات، وقنعت بعد الخبز [ص 353] بالفتات. وأخبرني أن مولده ليلة الجمعة المسفرة عن الخامس والعشرين من شهر رمضان سنة إحدى وستين وست مئة، وأنه صنف كتابا في هذا العلم سماه الكنز المطلوب في علم الدواير والضروب وأرانيه، وحدثني بكثير مما فيه. قلت: وكان الأمير الكافل بنكر قد قربه واستخدمه ليعلم جواريه وكان يتردد إليه ويجتمع به، وكان قد قيل إنه هدى له انقطاع إلى ملوك ماردين ثم ملوك حماه، وله معهم أخبار لا حاجة إلى الإطالة فيها. ومن أصواته هذه الأبيات الثلاثة، كل بيت منها في صوت: [الطويل] أيا طفلة إحدى الكبائر عشقها ... ويا جنّة قد أوقفت في جهنّم بحقّك ردّي الطّيف عنّي فإنه ... يقول بقتل المستهام المتيّم ولا تودعي الأسرار عنّي فإنّما ... تصبّين ماء في إناء مثلّم والغناء فيه في الأول في الزوالي «1» يهبط على النيروز، وفي الثاني في الزروكند، وفي الثالث في العراق، وفي هذا البيت وهو: [الطويل] عسى من كسا جسمي السّقام يعود ... وينجز من بعد المطال وعود والغناء فيه من أصبهان، وفي هذين البيتين: [الطويل] يمينا لقد أسرفت يا بدر في الصّدّ ... على مغرم ما حال يوما عن العهد وجاوزت حدّ الهجر والبعد والقلى ... فهل أمد للوصل يقضى من البعد

والغناء فيه في الراست، وفي شعر الشمس الدهان: [الكامل] فضح الغصون بقدره لما انثنى ... وسبا القلوب بلحظه لما رنا وبدا وبدر التم في ظلماته ... بادي الجمال وكان منه أحسنا «1» والغناء فيه في الراست، وفي هذين البيتين: [السريع] أصل تلافيكم من تلافيكم ... يا حبذا إن كان يرضيكم عذبتم قلبي وما خلته ... يشقى وقد أصبح يؤويكم والغناء فيه في الدوكاه، وأحضر له من أماليه عدة أصوات [354] منها صوت: [الطويل] وكنت إذا جئت الحمى متنكرا ... أزور به ليلى سعيت على خدي قال: وتعلمته من ابن كسبا الأستاذ، من بحر الطويل، ضربه من الثقيل الخراساني، دائرته ثمانية عشر دورا، لكل دور (أحد عشر «13» دقة) ، وربع وثمن دقة، منها ثقال وخفاف، الخفاف ونغمه الراست، صوت من شعر أبي تمام: «2» [الطويل] وأحسن من نور تفتّحه الصّبا ... بياض العطايا في سواد المطالب «3» قال: وهذا قول صنعته أنا في الاثني عشر نغما، وستّ الأوزان وهو من بحر الطويل أيضا، ضربه من الثقيل الخراساني، دائرته اثنان وأربعون، كل دور (اثنا عشر دقة «14» ) ، صوت «4» : [الوافر]

فتى جبلت يداه على العطايا ... كما جبل اللّسان على الكلام «1» قال: وهو قول صنعته أيضا في الاثني عشر بردا من غير أواز وهو من الوافر ودائرته ستة وثلاثون دورا، كل دور (اثنا عشر «13» دقة) ، وهو من الضرب الثقيل الخراساني، والشعر للتهامي. صوت: [الطويل] فؤاد بنار الشّوق والوجد محرق ... وجفن بأمواج المدامع تغرق وقال: وهذا القول استفدته من الأستاذ صفي الدين عبد المؤمن، عروضه في الطويل، وضربه من الثقيل الخراساني، دائرته أحد وعشرون دورا، كل دور إحدى عشرة دقة «2» وربع دقة، وثمن دقة. صوت: [الكامل] مرّ النّسيم على ربوع ديارهم ... فكأنّما كانوا على ميعاد قال: وهذا قول صنفته أيضا في نغمة الراست، مظافر في أربع برداوات «3» أوازين، ومعنى كونه مظافرا أنه يظفر من الراست، وهو أول الأنغام إلى العشاق وهو آخرها، ثم يعود ويظفر من العشاق وهو آخرها إلى العراق، وهو ثانيها، ثم يظفر من العراق وهو الثاني إلى النوى، وهو الحادي عشر، ومن المعلوم أن بين الراست والعراق أوارهو النيروزي، وبين النوى والعشاق أواز [ص 355] هو الكواشت، دائرته أربع وعشرون دورا، كل دور إحدى عشرة دقة وربع وثمن

بالشرح، وضربه الثقيل الخراساني، فليعلم. صوت: [الطويل] ولا توعدي الأسرار عيني وإنما «1» ... تصبّين ماء من إناء مثلّم قال: هذا قول صنفته من نغمة العراق، عروضه من الطويل وضربه من خفيف الخراساني، دايرته ستة وثلاثون دورا، كل دور اثنا عشر. صوت: [الطويل] رنا فانتضى من جفنه كلّ لهذم ... وماس فأزرى بالوشيج المقوّم قال: هذا قول صنفته في برد الأصفهاني، وهو من الطويل، وضربه من الثقيل الخراساني، دائرته أربعة وعشرون دورا، كل دور (اثنا عشر «13» دقة) بالشرح. صوت: [الكامل] اليوم موعدكم فأين الموعد ... هيهات ليس لوعدكم غد قال: وهذا قول افاد نيه صفي الدين عبد المؤمن، وهو من نغم الزيلفكند، وضربه من الثقيل الخرساني، دائرته اربعة وعشرون دورا، كل دور اثنا عشر «13» دقة بالشرح. صوت: [المديد] عبث الشّوق بالركائب والرّك ... ب فلم ندر أيّنا المسهام قال: هذا قول أخذته من الأستاذ صفي الدين بن الباصوان النحوي، وهو من بحر المديد، وضربه خفيف المخمس، دائرته سبع وعشرون، كل دور (اثنا عشر «13» دقة) ، نغمته الزنكلا «2» . صوت: [الطويل]

تملّكتم قلبي فصار لحبّكم ... حمى فرعى الله الحمى ورعاكم قال: [وهو] قول من بحر الطويل صنعته في نغم البزرك الكبير «1» ، وضربه مختلف، وهو من (أربع «13» ضروب) ، دائرته سبعة وعشرون دورا، كل دور اثنتا عشرة دقة «2» بالشرح. صوت: [المنسرح] تبلّ خدّيّ كلّما ابتسمت ... من مطر برقه ثناياها [ص 356] قال: وهذا قول عملته من نغم الرهاوي، يهبط فكند نيروز «3» وهو من بحر الوافر «4» ، وضربه الثقيل الخراساني، دائرته إحدى وعشرون كل دور اثنتا عشرة دقة بالشرح. صوت: [الطويل] يقول وقد قبّلته ورشفته ... أراك تحبّ الخمر والخمر في فمي قال: وهو قول من بحر الطويل، صنعه في نغم الحسيني من ضرب الثقيل الخراساني، دائرته ثمانية عشر، كل دور اثنتا عشرة دقة بالشرح.

صوت: [الطويل] عليك اعتمادي في جميع أموري ... وأنت منى قلبي وأنت سروري قال: [وهو] قول من بحر الطويل، صنعته في نغم الحسيني من ضرب الثقيل الخراساني، دائرته ثمانية عشر، كل دور اثنتا عشرة دقة بالشرح. صوت: [الطويل] عليك اعتمادي في جميع أموري ... وأنت منى قلبي وأنت سروري قال: [هو] قول من بحر الطويل، صنعته في نغم الماء آه، وضربه الثقيل الخراساني، دائرته خمسة عشر دورا، كل دور اثنتا عشرة دقة، بالشرح. صوت آخر: [الوافر] لحاظك أيّها القمر ... لقلب الصّبّ قد أسروا «1» وقدّك من معاطفه ... غصون البان تستتر قال: وهذا جارخانا، من بحر الوافر، صنعته في ماءآه، محلض وضربه تركي رخم، دائرته تسعة أدوار، كل دور اثنتا عشرة دقة بالشرح. صوت: [الطويل] صحا كلّ سكران من العشق قلبه ... ومن هو سكران يحبّك لا يصحو قال: وهذا قول استفدته من الأستاذ عجيب الزمان، وهو من بحر الطويل، ونغمه الأبوسليك، وضربه الثقيل الخراساني، دائرته اثنا عشر دورا، كل دور اثنتا عشرة دقة بالشرح. صوت: [الطويل]

إذا ما اشتهى الخلخال أخبار قرطها ... فيا طيب ما تملي عليه الضفائر «1» قال: وهذا قول من الطويل، صنعته في نغم النوى، وضربه الثقيل الخراساني، دائرته أربعة وعشرون دورا، كل دور اثنتا [ص 357] [عشرة] دقة بالشرح. صوت: [الخفيف] طاب ذلّي ولذّلي فيك عذلي ... وحلالي بسيف حبّك قتلي وهذا قول أخذته من الأستاذ المعروف بالنقشواني، وهو من بحر الكامل «2» ، ونغمه في النيروز، وضربه الثقيل الخراساني، دائرته أحد عشر دورا، كل دور اثنتا عشرة دقة بالشرح. صوت: [الوافر] هل لك في إغاثة مستهام ... يقاد إلى الغرام بلا زمام قال: وهذا القول من الكامل «3» ، ونغمه الشنهاز، وضربه التركي رخم، دائرته واحد وعشرون دورا، كل دور اثنتا عشرة دقة بالشرح. صوت: [الطويل] ترى تسمح الأيّام لي بلقاكم ... ويفرح قلبي بعد طول جفاكم قال: هذا قول من الطويل، صنعته في نغم الزركشي، وضربه الثقيل الخراساني، دائرته ثمانية عشر دورا، كل دور اثنتا عشرة دقة، بالشرح. صوت: [الطويل] ولّما تلاقينا جرت من عيوننا ... عيونا كففناها بروس الأصابع

قال: هذا القول من الطويل، أخذته من الأستاذ سراج الدين الخراساني، ونغمه حجاز، وضربه الثقيل الخراساني، دائرته ثمانية عشر دورا، كل دور اثنتا عشرة دقة بالشرح. صوت: [المنسرح] كلّ جريح ترجى سلامته ... إلا فؤادا دهته عيناها وهذا القول من بحر الوافر «1» ، صنعته في نغم الكواشت، ويضرب [ص 358] في أربعة ضروب الأصول، دائرته أربع عشرة دائرة، وأدواره مختلفة بحسب الضروب المتقدمة. صوت: [الطويل] فؤاد بنار الشّوق والوجد محرق ... وجفن بأمواج المدامع مغرق قال: وهذا قول أفادنيه أستاذ صفي الدين عبد المؤمن، وهو من بحر الطويل، ونغمه اليكاه، دائرته إحدى وعشرون دائرة، كل دور إحدى عشرة دقة وربع وثمن [دقة] بالشرح، وضربه الثقيل الخراساني. صوت: [الكامل] إنّ الملوك إذا حللن ببلدة ... كانوا كواكبها وأنت هلال قال: وهذا القول أفادنيه الأستاذ ابن كسبا، وهو من بحر الرجز «2» ، ونغمه الدوكاه، ويخالط أنغاما كثيرة، وضربه الثقيل الخراساني، دائرته سبعة وعشرون دورا، كل دور اثنتا عشرة دقة، بالشرح.

صوت: [الطويل] تكلّفتم من بعدكم شوق واحد ... وحمّلتموني شوقكم كلّكم وحدي وهذا القول صنعته في نغم السيكاه، وهو من بحر الطويل، وضربه الثقيل الخراساني، ودائرته خمسة عشر دورا، كل دور إحدى عشرة دقة وربع وثمن دقة بالشرح. صوت: [الكامل] ليس الودود فتى يودّك يومه ... حتّى إذا استغنى يملّك في غد قال: وهذا قول أفادنيه عبد المؤمن صفي الدين، وهو من بحر الرجز «1» ، وضربه الثقيل الخراساني، دائرته خمسة عشر دورا، كل دور اثنتا عشرة [دقة] بالشرح. صوت: [الخفيف] كيف يخفي سرّ الهوى المستهام ... هي جروى وما الخيام خيام ولئن كانت الخيام فما النّا ... س به الناس وما الغرام الغرام هذا قول مسدود من نغمة النوى على حركات الغناء المعلى الموافق للشبابة [ص 359] المعروفة بالصبرغي، وهي معروفة عندهم، ضربه من الثقيل بالدقة المفردة، دائرته اثنا عشر دورا، كل دور ستة مفرد. صوت: [الطويل] تجلّى أمير الحسن والليل قد هدى ... فأيقنت أنّ الصّبح من وجهه بدا ولاح محيّاه الكريم وقد دجا ... ضلالا فجار الرّكب واتّضح الهدى

150 - ومنهم - حسن التاي

وهذا قول سرح الأرغل الذي يغني فيه الإفرنج وهو من نغم الماآه وأبو سليك، ضربه من الثقيل، دائرته أربع وعشرون مفردة، آخر أماليه، وقد روى عن جماعة. 150- ومنهم- حسن التاي وروى عنه: [المتقارب] إن استحسنت مقلتي غيركم ... أمرت السّهاد بتعذيبها والغناء فيه من المحير، وفاخر به عبد المؤمن، فأخذه هارون بن الجويني وقيده وحبسه لكونه فخر عليه، فقال: ما أنا أضجر من حبسك، ولكن ابعث إلى عبد المؤمن لتحكمه، فحفظه خواجا زيتون، وركبه البريدي حتى أتى عبد المؤمن، فلما دخل عليه غناه، فسأله: لمن هو؟ فحكى له، فقطع على نفسه، وبعث له معه خلعة وبغلة، فقال: حسن ولدي وأنا علمته. 151- ومنهم- السّيلكو وروي عنه: [البسيط] جودوا عليّ بوصل منكم جودوا ... عدمت صبري وعندي الوجد موجود والغناء فيه من العزال من الشواذ. وروي عنه: [الكامل] كم من دم يوم الفراق سفكتم ... لما حدت بكم الحداة وبنتم والغناء فيه في الرهو.

152 - ومنهم - البدر الأربلي

152- ومنهم- البدر الأربلي سيد الجنكيين «1» ، وكان عند المظفر بماردين، وقتله مجير الدين بن ضبرت، أستاذ أرسلان الدوادار، ولم يكن مثله. 153- ومنهم- التّاج بن الكنديّ وروي عنه: [مجزوء الكامل] بالخيف مخطفة الحشا ... تهوى الغصون له القدودا «2» أخذ الغزال نفارها ... وأعارها طرفا وجيدا [ص 360] والغناء فيه من العشاق «3» . 154- ومنهم- خواجا أبو بكر النّوروزي وروي عنه: [السريع] يا ملك الأرض ووالي الزّمان ... اشرب كؤوسا غيّبت في الدّنان والغناء فيه ضرب الفاختية في بوسليك. 155- ومنهم- علاء الدّين دهن الحصا وأخوه الكمال يوسف، وكلاهما فريد ومصنف مجيد، كان يوسف أمير المطربين، وكان أخوه علّي نديم الحضرة، وكانا عند لؤلؤ صاحب الموصل إلى قوم آخرين، وهم تقي الدين بن بياع الدقيق، وكمال الدين بن الدويك، وخواجا صدر الدين الفتشواني.

فلعلاء الدين: [الطويل] أكتّم وجدي خيفة من عواذلي ... وأظهر للواشي النّموم بشاشتي والغناء فيه في الجاركاه. ولأخيه يوسف: [الكامل] إن كنتم بصبابتي لا تعلموا ... الله يعلم ما بقلبي منكم «1» والغناء فيه في الرهوي. ولابن بياع الدقيق، وهو مصنف ضرب الفاخية: [الطويل] صبا ما صبا حتّى علا الشّيب رأسه ... فلمّا علاه قال للباطل ابعد والغناء فيه زرو كند. ولا بن الدويك: [الطويل] عليك اعتمادي في جميع أموري ... وأنت منى قلبي وأنت سروري والغناء فيه للعراق وللقشواني: [الطويل] ظفرنا بكم والليل مقدار هجعة ... وغابوا كأنّا في المنام رأيناهم [ص 361] والغناء فيه في الحجاز، وهو من المخرج له.

156 - ومنهم - نظام الدين يحيى بن الحكيم

156- ومنهم- نظام الدّين يحيى بن الحكيم الجعفري الطيّاري البغدادي الدار، المقيم الآن بدمشق حيث تشوق ربوتها، وتسوق الصبابة إلى النفوس صبوتها، قد تم بمن وراءه إلى هذه البلاد آمنين، وقام مشكورا هذه السنين وعكف على الحديث النبوي يسمعه ويكتب أجزاءه وطباقه، ويجد إليه تبكره وسباقه، وله حديث لا يمل، وأنس على القلوب لا يذل، وفضل أصبح له خلفا، وكرم لو وصف به غيره لكان خرفا، وله مشاركة في الأدب، ومحاسنه تأتي منه بآيات لا يتقاصر بناؤها، وفقرات ظاهر غناؤها، فأما صناعة الغناء، فهو محرز قصباتها ومستمع مضروباتها، لو عرض الموصلي عليه أصواته لجودها، أو زلزل لثبت قدمه ووطدها، أو ابن جامع «1» لأقر له في المجامع، أو معبد لاعترف له بأنه المفرط وهو الجامع، وهو من صدور بغداد، وممن يدخل مع خلة أهلها في الأعداد، وله جملة محاسن تغني معرفتها عن التعداد، كان الحكيم نور الدين «2» من الحكماء الفضلاء، والأعيان المتميزين في صناعة الكحل، واتصل بالأردو وخدم البيت الهولاكي، والقان والخواتين والأمراء والخواجكية «3» ، واتصل بالوزراء واختلط في صحبتهم، وعدّ في جملتهم، وحصل الأمور الجمّة. والملك والعقار، واقتنى ببلاد بغداد والحلة» من ذلك ما يتحصل منه الريع الكثير، والمبلغ الجزيل، واشتغل نظام الدين ولده، وكتب وتأدب وأخذ تعليم المنسوب والموسيقا عن السهروردي، وكتب خطا حسنا

مليحا، وتفرد بعمل المشجّرات، حتى شجر في العلوم على اختلاف أنواعها، وأجاد في الموسيقا وبرز فيها، وسمعت من صناعته المطربة، ورأيت من تشجيره الفائق ملء العين والأذن، وسر البصر والسمع، ودنا من السلطان أبي سعيد بهادر قان رحمه الله دنوا زائدا، وكان ممن شملته لديه عناية الوزير ملك الوزراء محمد خواجا رشيد، وتقدم به، كان لا يزال يحضر مجلسه ويكون [ص 362] من المقربين إليه وأهل الحظوة لديه، واستكتبه عن القان أبو سعيد، وعنه [تصدر] الكتب العربية التي كانت تكتب إلى سلطاننا، وإلى السلطان محمد بن طغلقشاه بالهند، وكانت له جملة كبيرة على ذلك، مع ما له من المقدرات والأقدارات والرواتب، وكان لا يتلقى المراسم إلا عن الوزير، ولم يكن كاتبا مستقرا للإنشاء، إذ لا عادة للقوم بذلك، ولكنه كان في هذا المعنى، ولقد كانت تجيء بخطه الكتب المليحة البليغة بالخط المليح، والألفاظ الفصيحة السهلة التناول، القريبة المأخذ، على خاطري منها في كتاب كبير عن أبي سعيد إلى سلطاننا في معنى الحاج العراقي، وأنّ توجّهه من العراق إلى الحجاز، أقرب عليه من توجّهه على الشام إلى الحجاز. قال فيه: «والقلوب بالإحسان تملك، وأقرب الطرق إلى الله أولى بأن تسلك» ، وهاتان كلمتان تقوم في المعنى المقصود مقام كتاب مطول، مع خفة موقعهما، وتمكينهما في موضعهما، ولقد كان يقع في كتبه في هذه النسبة كل حسن، وكان يجري على الطلق «1» ممتد الرسن، وقد جهز مرات أميرا على المركب العراقي، تارة مستقلا، وتارة شريكا، وكانت تجيء أخباره بتوجهه، ولما آل الملك إلى موسى قان الملك القائم من ولد بيدو، ضاعف علي باشا بن حنجل- القائم بدولته- إكرامه، ووفّر احترامه، وكان هو والأمير الوزير نجم الدين محمود

157 - ومنهم - كمال الدين محمد بن البرهان الصوفي

بن شرويز «1» ، وقاضي القضاة حسام الدين الغوري من خاصة أهل الاصطفاء، فلما دارت على موسى قان وعلي باشا الدائرة، وطلّت دماؤهما في ثورة تلك الثائرة، تسحّب الوزير محمود، والقاضي الغوري، وابن الحكيم منهزمين إلى أبواب سلطاننا، فتلقاهم بنعمة، وتولاهم برحمة، ورتّب لابن الحكيم بدمشق راتب، وعينت له الربوة وأقام بها، واستطاب وطنها، وطلب الحديث واجتهد فيه، ودأب عليه وكتب الأجزاء والطباق والأثبات «2» بخطه، ثم سافر إلى العراق لاستغلال ملكه، فلم يحصل له، لاستيلاء الخراب والأيدي العادية عليه إلا ما قل، فعاد كالخائب، ثم توجه إلى مصر [ص 363] لحديث يستفيده ورزق يستزيده، وأقام بها مدة ثم عاد إلى العراق: [المتقارب] ألا ليت شعري متى نلتقي ... ومن مدة الهجر كم قد بقي لقد طال عهد النوى بيننا ... كأن التواصل لم يخلق ومن شعره ومن أصواته: [الطويل] لكم منّي الود الذي ليس يبرح ... ولي فيكم الشوق الشديد المبرح وكم لي من كتب ورسل إليكم ... ولكنها عن لوعتي ليس تفصح وفي القلب ما لا أستطيع أبثه ... ولست به للكتب والرسل أفصح زعمتم بأني قد سلوت هواكم ... لقد كذب الواشي الذي يتنصح 157- ومنهم- كمال الدّين محمّد بن البرهان الصّوفي موصلي الأصل، بغدادي الدار، من أهل الأقدار، ذكره النظام بالإعظام، وأشار إليه في علم الموسيقا وقال: إن له يدا طولى في معرفته، وأبلغ منه مبلغا

158 - ومنهم - حسين بن علي المطري العزاوي

يقصر عن وصفه، وذكر أنه يصحب أقضى القضاة ابن السباك، وله به اعتلاق أكيد، واعتلاء ما عليه لمثله مزيد. 158- ومنهم- حسين بن عليّ المطريّ العزاويّ متقن لفضيلة، ومتيقن لخير فضيلة، ومجيد في صناعة يد وخاطر، وسرور سمع وناظر، قرأ كتب الحكمة ودرسها، وصور المشجرات بيده كأنه غرسها، وعرف من الموسيقا ما أخذه بدليل، واطّلع منه على علم جليل، وضرب بآلاته كلها لتكميل الأودات «1» ، لا للتكسب والمعيشة، وترجية زمان يؤمل أن يعيشه، وزيّن هذا كله بنزاهة نفس تعتاف حتى الجليل، ويعف حتى عن الخليل، إلى صفاء باطن ما تكدّر، وصدق وداد ما استحال مثل البكاء وتغير، صحبني بمصر وقدم على دمشق، وصوّر صور هذا الكتاب، وجاء فيه بعجائب التصور والاكتساب، وهو- أعانه الله- ممن قدّر عليه رزقه، إلا أن عفافه يقنعه، وحكمته عن المطالب تمنعه، ورياضته تشغله بحسن ما [ص 364] يقرره، وإحسان يده فيما يصنعه، وله أصوات جليلة، منها في قولي: [البسيط] سعى بكأسيه كي أصلى بناريه ... بالخد والكأس يا سكري بخمريه ظبي أغنّ أخذت المسك من فمه ... والعنبر الرطب من خطّي عذاريه يا سيف مقلته الوسنى غررت بنا ... لما استبحت فؤادي في غراريه لم يرض قلبي ولا عيني لمسكنه ... وا شوقتى منه لم يلمم بداريه والغناء فيه زنكلا، ومنها قولي: [الخفيف] حدثاني عن الهوى العذريّ ... واطنبا في عذاره العنبريّ واستعيرا لمقلتيّ هجوعا ... واسألا للشجي صبر الخلي

وهبا لي من السلو قليلا ... أو دعاني مع كل صب غوي قد أخذتم صبري فهلا أخذتم ... لي فؤادي من طرفه البابلي والغناء فيه عراق. ومنها في قولي أيضا في عراق: [الرجز] غن لها برامة ولعلع ... واذكر لها ما بالحمى والأجرع وانزل بسكان الكثيب سحرة ... واقبس لهيب نارهم من أضلعي واحمل إلى أهل الحمى تحية ... من عاشق في حبهم لا يدعي ولا تسل سقيا الحمى صوب الحيا ... يكفيه ما أسقيته من أدمعي ومنها في قول لي وهو في عراق أيضا: [مجزوء الوافر] هواكم ماله سبب ... سوى قلبي كما طلبوا ألا يا عاذلي فيهم ... دع العشاق ينتحبوا أتعجب من ضنى جسدي ... وحالي كله عجب وقالوا إنني مضنى ... وحق الله ما كذبوا ومنها في قول أيضا [الطويل] تجلت فلاح البدر تحت نقابها ... وما ست ففاح الطيب طيّ ثيابها [ص 365] قضيب وما غصن النقا مثل قدها ... ولا لينه في الروض مثل شبابها طلا الظبي لا يشرق لحاظ عيونها ... كفى عينك الكحلاء صبغ خضابها أأهلك فيها هكذا بصبابتي ... وأخشى أسود الغيل حول قبابها نأيت إذا عن حب سمراء في الهوى ... إذا لم أخض بيض السيوف ببابها

يلذّ إليّ القتل صبرا بأرضها ... إذا دفنوني بعد ذا في ترابها والغناء فيه محير. ومنها في قولي: [مجزوء الخفيف] يا حبيبي وعيني ... خل هجري وبيني أنت أوفى البرايا ... لا تماطل بديني ما أتى منك عندي ... فوق رأسي وعيني فاسقني خمر ريق ... من جنى الجنتين ومنها في قولي: [مجزوء الخفيف] في الحشا منك نار ... وأسى وادكار «1» طار قلبي اشتياقا ... ما لقلبي قرار أنت غصن رطيب ... أين منك الثمار عيروني بحبي ... ليس في الحب عار والغناء فيهما محير. ومنها في قولي: [الكامل] لاموا عليك وما قلوبهم معي ... كلا ولا عبراتهم في مدمعي يا من تلفت كالغزال بلحظه ... حسبي التفاتك يا غزال ومطمعي «2» هب أن شخصك لا يزال بناظري ... من ذا الذي أغرى بذكرك مسمعي «3»

يا هاجري كن كيف شئت فإنّني ... وحياة عينك لست أملك أدمعي والغناء فيه في الرمل ومنها في قولي: ص 366] «1» أحبابنا ما هكذا كنتم لنا ... ما بيننا لا تشمتوا حاسدا بنا وما في وفاكم من ضنى أو ... حضوركم لقد لذّلي في حبّكم ملبس الفنا وأنتم بقيتم لا عدمنا وصالكم ... أو فى البرّية على هجركم عندنا وقلتم بأنّا في غنى عن وصالكم ... على كّل حال مالنا عنكم غنى والغناء فيه سيكا. ومنها في قولي: [الرجز] متيم فيك على نار الجوى ... تشب نيران حشاه بالهوى بالله خفف عنه بعض ما به ... لو أنه من جبل كان هوى وخله إذا غوى في حاله ... فهل رأيت عاشقا وما غوى إيه وردد طيب ذكراك له ... وغن للعشاق إلا في النوى والغناء فيه عشاق «2» . وحدثني ما معناه: أنّه كان قد صنع قانونا اقتناه، وكان ربما غنّى عليه وأخوه

159 - ومنهم - عزيز جارية الحكم بن هشام

الأديب أبو علي حاضر يسمعه، ويجني له من عوده ثمر السرور أجمعه، ثم فقد أخوه ذلك القانون، وطوى منه طرب المسامع والعيون، فأفكر فيه أيّة ذهب، وما الذي اختطف أوقاته به وانتهب، ثم وقع على الخبر في ذهابه وفجيعة أترابه بإطرابه، فإذا كان قد رأى صبيا فتنه بحسنه، واستماله بميل غصنه، جعل ذلك القانون صداقه وخلا معه، وعقد عليه عناقه، وبات معه مستبدلا من نظر الخلوة بجهر الخلوة، فساء ذلك أخاه، وثوّره ونحاه، وقال ما أحوجك إلى بلد يصونك، وإخراج العزيز الغالي من مكنونك، وهبك رأيت ظبيا سانحا أعجزك، وأنت أنت عن صيده وقد سنح، وإمساكه وقد جنح، وهل خلقنا لغير هذا، أو عرفت سهامنا إلى غيره نفاذا، ونحن نصل من الصيد إلى ما لا يصل إليه الطير ولا النشاب، ولا غيرهما من مثل هذه الأسباب، ثم حصره في أرجائه، وقسره في هجائه، فقال: [الكامل] لي في دمشق أخ قليل عقله ... لا بل سليب الذّهن كالمجنون [ص 367] أفعاله أبدا خراف كلّها ... لكن ينيك العلق بالقانون «1» 159- ومنهم- عزيز جارية الحكم بن هشام «2»

جارية لو أماطت نقابها للبدر لتلثم، ولو عاطت رضا بها البريء لتأثم، لو ألمت بحبها عزة الميلاء لما مالت، أو دعت لبنى للبثّ ما قالت، أو أسفرت لابن الرقيات لما رابه من ليلى أذى، أو جليت على بقية العشاق لعذر جميل إذ قال: (رمى الله في عيني بثينة بالقذى) «1» ، مع سرعة بوادرر، وطرف نوادر، وحسن غناء يجر الافئدة بأشطان «2» ، وينفذ إلى القلوب بسلطان، وينفث السحر، فلا غرو إذا قيل إن الغناء مزمار الشيطان. ومن أصواتها: «3» [الطويل] وإني لأستحيي القنوع ومذهبي ... فسيح وآبى الشح إلا على عرضي وما كان مثلي يعتريك رجاؤه ... ولكن أساءت سيمة من فتى محض وإني وأشواقي إليك بهمتي ... لكالمستقي من زبدة الماء بالمخض والشعر لمسلم بن الوليد، والغناء فيه من أول الثقيل، وكذلك صوتها: «4» [الخفيف] يا شبابي وأين مني شبابي ... آذنتني أيامه بانقضاب ومعز عن الشباب مواس ... بمشيب اللدات والأصحاب قلت لما انتحى يعد أساه ... من مصاب شبابه فمصاب ليس تأسو كلوم غيري كلومي ... ما به ما به وما بي وما بي والشعر لابن الرومي، والغناء فيه في الهزج.

وكذلك صوتها: «1» [المجتث] تأمل العيب عيب ... وليس في الحق ريب فكل خير وشر ... دون العواقب غيب وإنما كل شيء ... شبيبة ثم شيب لا تحقرن سبيبا ... كم جر نفعا سبيب والشعر لابن الرومي، والغناء فيه.... وحكي أن الحكم [ص 368] كان يهوى جارية من جواريه اسمها حين، فخرج مرة إلى الصحراء متنزها، والربيع قد وشى الجلابيب، ووشح مجر أذيال الكثيب، فنزل والأصل قد اعتلت كأنها تشكو فراق حبيب، والشمس قد جعلت نصب عينها المغيب، وكان قد خلف حينا «2» وراءه فبات لا تطعم النوم جفونه، ولا تلمس الرقاد عيونه، فاستدعى ملهياته ليشغلنه ليلته بطربهن، وكانت عزيز شاعرة مغنية لبيبة أديبة فطينة، كثيرة الرواية، ففطنت لحال مولاها وما وجده لفراق حنين، ووجهه من القلق لوشيك البين، فصنعت لحنا في شعر بعض الأزد، وهو أبو عدي عامر بن سعيد أحد بني النمر بن عثمان: «3» [الطويل] ألا من لنفس [لا] تؤدى حقوقها ... إليها ولا ينفك غلا وثيقها عصت كل ناه مرشد عن غواته ... فإن لها في الغي نحبا يسوقها إذا استدبرت من غيها عطف الهوى ... عليها أمورا عصبة ما تطيقها وقد دهديت بالحي دار مشتة ... وصرف النوى اشتاتها وصفوقها

ألا طرقتنا أم سلم وأرقت ... فيا حبذا إلمامها وطروقها فيا ليتني حمت لنفسي منيتي ... ولم تتعلقني لحين علوقها وردّدته حتى أجادته، فلما استدعى الحكم جواريه، دخلت عزيز من باب المضرب وهي تغنّي هذا الصوت، فاهتز الحكم حتى خرج عن فرشه وقال: لله أنت يا عزيز، ما أبصرك بمواقع البلوى، وأعرفك بمواضع الشكوى، لمن الشعر؟ فقالت: إنه لرجل من بني النمر بن عثمان، فقال: والله أنت أحق منه، إذ أتيت به كأنه صيغ لما نحن فيه، ثم أمرها بإعادته، وبعث لوقته من أحضر حينا، وأقام في منتزهه أياما كأنما كانت أحلاما، وأمر لعزيز بعشرة آلاف، وأمرت لها حين بمثلها، ثم كانت تصفيها الودّ مدة حياة الحكم. وحكي أنه استدعى بها في غرة يوم طلعت شمسا في صباحها وكأسا لا صطباحه، وكان [ص 369] الحكم لا ينال اللذات إلا سرا، ولا يلم بالشراب حتى يلقي عليها سترا، ولا يجالس إلا من داخل ستارة، ولا ينافس في القمر إلا من دائرة دائرة، خوفا من فضيحة الاشتهار، وفرارا من علن الإظهار، وظل يقترح يومه عليها وعلى سائر جواريه الأصوات، ويحث المدام بها في الخلوات، إلى أن صدع الليل زجاج النهار، وبان في جفن عين الشمس الانكسار، وشرعت تنكر الجواد، وتقبل شيعة الليل من الشرف بشعار السواد. قال الحكم: هل فيكن من ينظم في هذا الشعر؟ فبدرت عزيز فقالت: [الخفيف] قد تقضي النهار إلا بقايا ... من شعاع مخلّف للأصيل «1» وأتانا الظلام من جهة الشر ... ق فأهلا منه بخير نزيل

160 - ومنهم - عزيز جارية الحكم بن هشام

دام هذا وذا بطول بقاء ال ... حكم السيد الفتى المأمول فوقع شعرها منه موقع الاستحسان، ووصلها بما غمرها به من الإحسان، ثم أمرها فصاغت فيه لحنا، وغنت فيه ليلتها كلها وهو يوالي عليه الكؤوس ويحثها حتى أحرقت فحمة الليل جمرة الشموس، فلما أصبح يريد البكور إلى الرواق للجلوس على سريره ويكمله بتصريف الأوامر تمام شكوره، أمر لعزيز بعشرة آلاف درهم، وكارة «1» جليلة من القماش، وزاد في قدر جاريتها، ثم نقلها إلى خواص حظاياه وامهات اولاده، وبقيت على هذا حتى ماتت وهي ضجيعته وعلى وساده. 160- ومنهم- عزيز جارية الحكم بن هشام «2» جارية تفتن البصر، وتعقل اللسان بالحصر، وتفوت رام رامه، وتتهم بشبهها خادر تهامة، وتصمي الأحشاء من حدقها بقسيّ ماله وتر «3» ، وتشب جمر القلوب من جفنها بما فتر، وتغني والحمام قد أخذت بأهزاجها، والبروق قد علنت بماء السحاب مزاجها، فتهز القدود أكثر من هز الأغصان، وتكلف اللّحز الشحيح بذل ما صان، ولهذا كان هواها حكما على الحكم، ومستنطقا لعبراته وقد أبكم، فكان لا يصبر على نأيها، ولا يصبر [ص 370] عن ماءتها، يظن أنفاسها أنفاسه التي هي مدد الحياة وسبب وجوده في الدنيا وبقياه، ولها صناعة في أصوات منها: «4» [المنسرح]

كان رحيلي من أرضكم عجبا ... وحادثا من حوادث الزّمن من قبل أن أعرض الفراق على ... قلبي وأن أستعدّ للحزن والشعر للعباس بن الأحنف، والغناء من الثقيل الأول. وحكي أنّ الحكم كان يهوى جارية له لا يرى القمر إلا طالعا في لبتها «1» ولا الرأي إلا محبتها، ثم تنكر لها فتجنت عليه وتثنت، إلا أنها ما ألوت إليه، فعز لديه هجرانها، وأعرض عنها وفي أحشائه نيرانها، ثم لم يجد إلا أن أغلظ في عتباها، وظنه سببا لمتابها، فزادت عليه تأتيا كدّر عيشه ونكد عليه نكدا ضعضع جيشه، وكان لا يتسلى ولا يهنأ بعيش ولا يتملّى، ولم يجسر أحد على خطابه، وكف جامح عتابه، حتى أمر جواريه أن تغنيه، فغنين حتى فرغن وما أغنين، فلما انتهت النوبة إلى عزيز اندفعت تغني هذا: «2» [الطويل] بزينب ألمم قبل أن يرحل الركب ... وقل إن تملينا فما ملّك القلب وقل إن أنل بالحب منها مودة ... فما فوق ما لا قيت من حبكم حب وقل في تجنيها لك الذنب إنما ... عتابك أن عاتبت فيما له عتب فمن شاء رام الهجر أو قال ظالما ... لذي وده ذنب وليس له ذنب والشعر لنصيب، والغناء فيه ثاني الرمل، فقام لوقته وصالحها، ووهب عزيزا وأوصلها، وقال: هلا منكن واحدة فعلت فعلها، وهذا الصوت من قصيدة طايلة «3» وهي: خليلي من كعب ألما هديتما ... بزينب لا يفقد كما أبدا كعب ومل يوم زوراها فإن مطينا ... غداة غد عنها وعن أرضها نكب

161 - ومنهم - بهجة جارية الحكم

فقولا لها لم يبق حبا ولم يدم ... على الحال إلا أن يكون له عتب [ص 371] وقولا لها ما في البعاد لذي الهوى ... رواح وما فيها لصدع الهوى شعب وقولا لها يا أم بكر أحلّة ... مساعفة في وصلنا أنت أم حرب وقولا لها إن أجز بالنصب منكم ... سلاما ففيما قد كلفت بكم نصب فقد كنت أعصي فيك أهل قرابتي ... وأشغب بالأقصى الذي قوله شغب وأغضي كثيرا عن نواحي مقالة ... أمضّ لها جلدي كما يؤلم الضرب وقد أنكرتني الأرض بعد اغتباطها ... بمعرفتي والأرض طيبة خصب وقد قال ناس حسبه من طلابها ... فقلت كذبتم ليس لي دونها حسب ومن قبل ما قالوا صبا فرددتهم ... بقولي ألم يلقوا امرأ فيكم يصبو وعلقتها غرا حديثا ولم ترد ... شبابا على أيام كان له إتب «1» إلى اليوم حتى عاد في رأسي الخلى ... سريعا وأقراني مفارقهم شهب «2» 161- ومنهم- بهجة جارية الحكم «3» جارية تخجل الشمس فتتبرقع بالشفق، وتفضح النسيم فلا غرو بسعيه إذا خفق، كانت إذا اندفعت للغناء فتقت ما على المسامع من الغشاء، وطفقت تزيد حياء، جارية تنقص، وصفقت الجداول والأغصان ترقص، وانقطعت سلامة القس في ديرها، وقلّت فضل بالنسبة إليها فكيف حال غيرها، وكانت تذكر البقية المروانية سالف الأيام، وطائف خيال زمانهم، وفي طاعتهم الأنام فيذكر

باقيهم أباه الأملاك، ويقول كما قال جده عبد الملك نحن كذلك، فسعى مدامعه البشام، وأسف لطيب أيام، لو تكون له بالشام وهي الأيام لا تذر، ولا تصفح عمن أضر واعتذر، سلبتهم جلباب ذاك الأوان، وفعلت بهم فعلها بصاحب الإيوان، إلا أنهم عمرو الأندلس بالملاذ، وغنوا بها عن دمشق وبغداد، وداموا بها، إلا أن كل نعيم إلى نفاد. ولها أصوات فمن مشهورها قولها: «1» [مجزوء الرمل] يا شبية البدر في الحس ... ن وفي بعد المنال [ص 372] جد فقد تنفجر الصّخ ... رة بالماء الزّلال والشعر لابن الرومي، والغناء فيه في الهزج. وحكي أن الحكم جلس في مجلس له يمتد فيه طلق النظر في فسيح الفضاء، وقد خلا بلذاته، وأقبل على أنسه، وجمع جواريه واقترح عليهن الأصوات، وجعل بينهن الخيار، فلم تبق واحدة منهن حتى بلغت جهدها فيما أتت به، فلما تصرم المجلس أو كاد، وبرز جنح العصر في مجسد من جساد ورق ليصدع زجاجته، وبرق نهر النهار لأنفته من محاجّته، أقبل عليهن وقال لهن: أيّتكنّ تضع لحنا في شعر من أشعار عشاق العرب يحسن لديّ موقعه، ويزلف له في قلبي موضعه، حكمت لها على صاحباتها، وأجبتها إلى ما تمنّت، فلم يبق منهنّ إلا من صنع لحنا، وأبدع فيه حسنا، وهو لا يقبل عليه ولا يلتفت إليه، حتى اندفعت بهجة تغني هذا: «2» [الطويل]

وإني لتعروني لذكراك هزة ... لها بين جلدي والعظام دبيب وما هو إلا أن أراها فجاءة ... فأبهت حتى ما أكاد أجيب وأصرف عن رأي الذي كنت أرتئي ... وأنسى الذي أعددت حين يغيب ويظهر قلبي عذرها ويعينها ... علي فما لي في الفؤاد نصيب وقد عدمت نفسي مكان شفائها ... قريبا وهل ما لا ينال قريب لئن كان برد الماء أبيض صافيا ... إلي حبيبا إنها لحبيب والشعر لعروة بن حزام العذري، والغناء فيه ثاني الرمل، فطرب الحكم ومال وقال: والله كأني لهذا كنت أحاول، وله أتطلب، ثم حكم لها على كل من تغنت، وأنجز لها ما تمنت. من أصواتها هذا: «1» [الطويل] وإني لمحزون عشية جئتها ... وكنت إذا ما جئتها لا أعرّج فلما التقينا لجلجت في حديثها ... ومن آية الهجر الحديث الملجلج [ص 373] والشعر لأبي دهبل الجمجي، والغناء فيه في ثاني الرمل مزموم. وحكي أن الحكم جلس في مجلس، وحكي أنها حضرت يوما لديه وكان قد وجد لفراق جارية له كانت استأذنته في الخروج للتنزه في بعض القصور، وشعرت لما في نفسه، فغنت: «2» [الطويل] أحبابنا قد أنجز البين وعده ... وشيكا ولم ينجز لنا منكم وعد

أأطلال دار العامرية باللوى ... - سقت ربعك الأنواء- ما فعلت هند بنفسي من عذبت نفسي محبة ... وإن لم يكن [منه] وصال ولا ودّ حبيب من الأحباب شطت به النوى ... وأي حبيب ما أتى دونه البعد والشعر للبحتري، والغناء فيه في الثقيل الأول، فقال لها: لكأنك كنت في صدري، ثم أمر لها بمائتي دينار وقطعا من الجوهر. وكذلك من أصواتها: «1» [البسيط] بانوا فكانت حياتي في اجتماعهم ... وفي تفرّقهم قلبي وإقصادي وفي الخدور غمامات برزن لنا ... حتى تصيّد منا كل مصطاد وهن ينبذن من قول يصبن به ... مواقع الماء من ذي الغلة الصادي يقتلننا بحديث ليس يعلمه ... من يتقين ولا مكنونه باد والشعر للقطامي، والغناء فيه مزموم «2» . ومن محاسن القصيد التي منها هذا الصوت: «3» [البسيط] حلّوا بأخضر قد مالت شرارته ... من ذي غناء على الأعراض أنضاد مالي أرى الناس مزورا فحولهم ... غنى إذا سمعوا صوتي وإنشادي فطالما ذب عني سيّر جرد ... يصبحن فوق لسان الرائح الغادي

فلا يطيقون حملي إن هجوتهم ... وإن مدحتهم لم يبلغوا آدي «1» من مبلغ زفر القيسي مدحته ... من القطامي قولا غير أفنادي إني وإن كان قومي ليس بينهم ... وبين قومك إلا ضربة الهادي «2» [ص 374] مثن عليك بما استبقيت معرفتي ... وقد تعرض مني مثقل بادي فلن أثيبك بالنعماء مشتمة ... ولن أبدل إحسانا بإفساد وما نسيت مقام الورد تحبسه ... بيني وبين خفيف الغابة الغادي لولا كتائب من عمرو تصول بها ... أرديت يا خير من يندو له النادي «3» إذا الفوارس من قيس [بشكّتهم] ... حولي شهود وما قومي بشهاد إذ يعتريك رجال يسألون دمي ... ولو أطعتهم أبكيت عوادي والصيد آل نفيل خير قومهم ... عند الشتاء إذا ماضن بالزاد يا قوم قومي مكاني منصب لهم ... ولا يظنون إلا أنني راد «4» ولا كردك مالي بعد ما كربت ... تبدي الشناءة أعدائي وحسادي لا يبعد الله قوما من عشيرتنا ... لم يخذلونا على الجلى ولا العادي «5» محمية وحفاظا إنهم شيم ... كانت لقومي عادات من العاد لم تر قوما هم شر لإخوتهم ... منا عشية يجري بالدم الوادي

162 - ومنهم - مهجة جارية الحكم

مستلبثين وما كانت أناتهم ... إلا كما لبث الضاحي عن الغادي حتى إذا ذكت النيران بينهم ... للحرب يوقدن لا يوقدن للزاد نقريهم لهذميات يقدّ بها ... ما كان خاط عليهم كلّ زراد «1» أبلغ ربيعة أعلاها وأسفلها ... إنا وقيسا تواعدنا لميعاد فكان قومي ولم تغدر لهم ذمم ... كصاحب الدين مستوف ومزداد 162- ومنهم- مهجة جارية الحكم جارية تجلو القمر إذا غاب، ويحل ظبيها الكانس في غاب، تدني الرغاب، وتلهي بأشجان طربها السّغاب «2» ، هوى المتمني ورضى المختلي، لا يعدوها الاقتراح، ولا يعد لها حبيب وقت راح، إلى ذكاء وفطنة لا تقتدحها خواطر النساء، ولا يقترحها الفحول على الخنساء، لو مرّ بها ذو الرمّة لما كان سواها عليه ينفق، ولا وصف غيرها هانئ ينفق. ولها أصوات منقولة مشهورة: «3» [ص 375] [الطويل] سأعرض عما أعرض الدهر دونه ... وأشربها صرفا وإن لام لوّم فإني رأيت الكأس يا سلم خلة ... وفت لي ورأسي بالمشيب معمم وصلت فلم تبخل علي بوصلها ... وقد بخلت بالوصل تكنى وتكتم ومن صارم اللذات إن خان بعضها ... ليرغم دهرا ساءه فهو أرغم والشعر لابن الرومي، والغناء فيه. وكذلك صوتها وهو مما اقترح الحكم أن تغني فيه: «4» [الوافر]

ألا زارت وأهل منى هجود ... وليت خيالها بمنى يعود حصان لا المريب لها خدين ... ولا تفشي الحديث ولا ترود ونحسد أن نزوركم ونرضى ... بدون البذل لو رضي الحسود فلا بخل فيوئس منك بخل ... ولا جود فينفع منك جود شكونا ما علمت فما أويتم ... وبا عدنا فما نفع الصدود هوى بتهامة وهوى بنجد ... فلبّتني التهائم والنجود والشعر لجرير، والغناء فيه. وحكي أن بعض جواريه سألته في الخروج إلى بعض متنزهات قرطبة «1» النائية، فأذن لها على كره منه لفراقها، ثم قال: والله لا تذهبين حتى أراك عندي الليلة كلها، ثم أحضر جواريه الغناء، وقضى معها ليلة متلألئة السناء، فلما صدح الصباح وفتح النهار بابا كان في الليل مرتجا، أزمعت الجارية على الخروج، وقد قدمت المراكيب، وجاء الصبح بموعده القريب، أخذ الحكم كالأفكل «2» وعلاه النحيب، ثم أنشد متمثلا، قول ذي الرمة: أفي الدّار تبكي أن تحمّل أهلها ... وأنت امرؤ قد حكّمتك العشائر وجعل يردد هذا البيت، وقال لجواريه: أيّتكنّ سبقت إلى عمل لحن في هذا البيت وما يضمّ إليه، فلها حكمها، فابتدرت مهجة وغنّت، ثم سوّغها الحكم ما تمنّت، والصوت: «3» [الطويل]

أفي الدار تبكي أن تحمل أهلها ... وأنت امرؤ قد حكمتك العشائر فلا ضير أن تستعبر العين إنني ... على ذاك إلا جولة الدمع صابر وإن لامني ياميّ من دون صحبتي ... لك الدهر من أحدوثة النفس ذاكر وأن لا ينال الركب تهويم وقعة ... من الليل إلا اعتادني منك زائر والصوت من قصيدة من غرر ذي الرّمة. ومنها: لقد نام عن ليلي لقيط وشاقني ... من البرق علوي السناء مياسر أرقت له والثلج بيني وبينه ... وحومان حزوى فالحمول البواكر «1» أجدّت بأغباش فأضحت كأنها ... مواقر نخل أو طلوح نواضر «2» وتحت العوالي والقنا مستظلة ... ظباء أعارتها العيون الجآذر «3» هي الأدم حاشا كل قرن ومعصم ... وساق وما ليثت عليه المآزر وغبراء يحمي دونها ما وراءها ... ولا يختطيها الدهر إلا مخاطر قطعت بخلقاء الدفوف كأنها ... من الحقب ملساء العجيزة ضامر «4» إذا القوم راحوا راح فيها تقاذف ... إذا شربت ماء المطي الهواجر وماء تجافى الغيث عنه فما به ... سواء الحمام الحضّن الخضر حاضر وردت وأرداف النجوم كأنها ... وراء السماكين المها واليعافر «5» على نضوة تهدي بركب تطوّحوا ... على قلص أبصارهن غوائر وحكي أن الحكم اقترح عليها أن تصنع صوتا في شعر أبي تمام.

وهذا هو: «1» [الطويل] أنا ابن الذين استرضع المجد فيهم ... وسمي فيهم وهو كهل ويافع مضوا وكأن المكرمات لديهم ... لكثرة ما وصّوا بهن شرائع فأي يد في المجد مدت فلم تكن ... لها راحة في مجدهم وأصابع هم استودعوا المعروف محفوظ مالنا ... فضاع وما ضاعت لدينا الصنائع [ص 377] فصنعت في ثقيل الرمل فلم تقع في نفسه بموقع فقالت: سأصوغ له لحنا غير هذا، فقال: هيهات قد تكدّر عليّ صفوه، ولكن انظري شيئا تصنعين فيه سواه، فصنعت في قول أبي تمام: «2» [الطويل] جرى حاتم في حلبة منه لو جرى ... بها القطر قال الناس أيهما القطر فتى ذخر الدنيا أناس ولم يزل ... لها باذلا فانظر لمن بقي الذخر فمن شاء فليفخر بما كان من ندى ... فليس لحي غيرنا ذلك الفخر جمعنا العلى بالجود بعد افتراقها ... إلينا كما الأيام يجمعها الشهر فلما تغنّت به اهتز الحكم حتى كاد يخرج عن السرير، وقال لها: أحسنت والله وأجملت وزدت على ما في أمنية نفسي، وأمر لها بمائة دينار لكل بيت، فقامت بأربع مئة دينار. وجمع الحكم يوما جواريه وأمرهن أن يغنين في شعر الفرزدق: «3» [الوافر] وقالوا إن عرضت فأغن عنا ... دموعا غير راقية السجام «4» وكيف إذا رأيت ديار قوم ... وجيران لنا كانوا كرام

أكفكف عبرة العينين مني ... وما بعد المدامع من لمام فعملن فيه أصواتا أخذن ألحانها، وأقمن أوزانها، وكانت مهجة أوقعهن على ما في نفسه، فقال لها: اقترحي حكمك، فقالت: أن لا يغنين إلا من أصواتي، فأمرهن بذلك، وأمرها بأن تلقي عليهن حتى حفظن ذلك عنها ثم غنينه ذلك اليوم بأصواتها، فأجزل صلتها ووصل سائرهن. وهذا الصوت من قصيدة هجا الفرزدق فيها جريرا، ومدح هشام بن عبد الملك، فمنها في هجاء جرير: «1» [الوافر] وبيض كالدمى قد بت أسري ... بهن إلى الخلاء عن النيام مشين إلي لم يطمثن قبلي ... وهن أصح من بيض النعام وبتن لدي فيه مصرعات ... وبت أفض أغلاق الختام [ص 378] كأن مغالق الرّمان فيه ... وجمر غضى قعدن عليه حام ومنها في مدح هشام: «2» يقول بنيّ هل لك من رحيل ... لقوم منك غير ذوي سوام «3» فينهض نهضة لبنيك فيها ... غنى لهم من الملك الشآمي أقول لناقتي لما ترامت ... بنا بيد مسربلة القتام أغيثي من وراءك من ربيع ... أمامك مرسل بيدي هشام

يدي خير الذين بقوا وماتوا ... إمام وابن أملاك عظام إلام تلفّتين وأنت تحتي ... وخير الناس كلهم أمامي متى تردي الرصافة تستريحي ... من التهجير والدبر الدوامي ويلقى الرحل عنك وتستغيثي ... بغيث الله والملك الهمام وحبل الله حبلك من يذله ... فما لعرى يديه من انفصام يداك يد ربيع الناس فيها ... وفي الأخرى الشهور من الحرام وإن الناس لولا أنت كانوا ... حصى خرز تبدّد من نظام وليس الناس مجتمعين إلا ... لخندف في المشورة والخصام وبشرت السماء الأرض لما ... تحدثتا بإقبال الإمام إلى أهل العراق وإنما هم ... بقايا مثل أشلاء الرمام أتانا زائرا كانت علينا ... زيارته من النعم الجسام فجاء بسنّة العمرين فيها ... شفاء للصدور من السقام رآك الله أولى الناس طرا ... بأعواد الخلافة والسلام رأيت الظلم لما قام جذت ... عراه بشفرتي ذكر حسام إذا ما سار في أرض تراها ... مظللة عليه من الغمام وفي هذه القصيدة أبيات طائلة «1» في وصف الناقة والسير، وهي: «2» تزف إذا العرى قلقت عليها ... زفيف الهادجات من النعام «3» [ص 379] كأن أراقما علقت يداها ... معلقة إلى عمد الرخام

163 - ومنهم - فاتن جارية الحكم

كأن العنكبوت تبيت تبني ... على الأشداق من زبد اللغام رجوف الليل قد بقيت وكلت ... من الآداب فائرة النعام فما بلغت بنا إلا جريضا ... بنقي في العظام وفي السنام كأن النجم والجوزاء يسري ... على آثار صادية أوام كأن العيس حين أنخن هجرا ... مفقأة نواظرها سوامي ومن أصواتها في شعر ابن الدمنية هذا: «1» [الطويل] لقد كان في الهجران لي أجر لقد ... مضى الأجر لي في الهجران منذ زمان «2» فو الله لا أدري أكل ذوي الهوى ... على ما بنا أم نحن مبتليان 163- ومنهم- فاتن جارية الحكم «2» جارية قرطبة بمحاسنها قرطبة «3» ، وأفرطت في التمايل بأصواتها المطربة، لو أسفرت لا تهمت في طلاها كل أم خشف، ولو سقت المحرور بسوى رضابها لم يشف، حجبت بستور الخلائف الأموية حيث دالت دولتها، وعادت صولتها، وسلت من وراء البحر الأخضر سيوفها فراع بريقه في بغداد أهل السواد، وخاف

كل راكب على عود رقاه الأعواد، وكانت تشف كما تشف الشمس وراء الغمام، وتبدو بدّو البدر التمام. ومن أصواتها المشهورة: «1» [الطويل] إذا حان منا بعد ميّ تعرض ... لنا حنّ قلب بالصبابة مولع وما يرجع الدهر الزمان الذي مضى ... وما للفتى في دمنة الدار مجزع «2» عشية مالي حيلة غير أنني ... بلقط الحصى والخط في الدار مولع أخط وأمحو الخط ثم أعيده ... بكفي والغربان في الدار وقّع والشعر لذي الرمة والغناء فيه [ص 380] وخرق إذا الآل استحارت نهاؤه ... به لم يكد في جوزه السير ينجع «3» قطعت ورقراق السراب كأنه ... منابت في أرجائه تتربع وقد ألبس الآل الأياديم وارتقى ... على كل نشز من حوافيه مقنع «4» بمخطفة الأحشاء أزرى بنيّها ... جذاب السرى بالقوم والطير هجع «5» إذا انجابت الظلماء أضحت رؤوسهم ... عليهن من طول الكرى وهي ظلع «6» يقيمونها بالجهد حالا وتنتحي ... بها نشوة الإدلاج حينا فتركع ترى كل مغلوب يمد كأنه ... بحبلين من مشطونة يتنوع «7»

164 - فاتك جارية الحكم بن هشام

على مسلهمّات بجانب سبقها ... غرائب حاجات ويهماء بلقع «1» بدأنا بها من أهلها وهي بدّن ... فقد جعلت في آخر الليل تضرع «2» وما قلن إلا ساعة في مغوّر ... وما بتن إلا تلك والصبح أدرع «3» إذا أبطأت أيدي امرئ القيس بالقرى ... عن الركب جاءت حاسرا لا تقنّع «4» كأن مناخ الراكب المبتغي القرى ... إذا لم يجد إلا امرأ القيس بلقع 164- فاتك جارية الحكم بن هشام «5» عقلية حجب، وعقيدة نجب، بيضاء حمراء، غراء قمراء، فاتر لفظها، فاتك لحاظها، اكتنفتها الستور الأموية، وكفتها أن يعدل معها أحد بالسوية، ورقت تلك السرور «6» ، وراقت لها نطف تلك الغدر، وكانت زهرة زهراتها، وثمرة سرّائها. وحكي أنها بلغت من الأدب ما أنطق لسانها، وحقق إحسانها، وولعت بصناعة الغناء حتى كانت بأفق الأندلس بدل بدل، ونظير ما ضرب به مثل مثل، وأمل المقترح وزيادة على أمل، أكثر ماله للقدود من نوافح الصباء، وسوافح الأنواء.

ومن أصواتها: «1» [الطويل] أمن رسم كلد مربع ومصيف ... بعينيك من ماء الشؤون وكيف «2» تذكرت فيها الحي حتى تبادرت ... دموعي وأصحابي علي وقوف [ص 381] يقولون هل يبكي من الشوق حازم ... وإن بان حبّ بالنوى وأليف فلأيا أزاحت علتي ذات منسم ... نكيب لها إثر الفراق وجيف «3» والشعر للحطيئة وفيه تحريف كلم، والغناء فيه من المزموم. ومن تمام هذا الشعر: إليك سعيد الخير جبت مهامها ... يقابلني آل بها وتنوف «4» فلولا الذي العاصي أبوه لما ثوت ... بحوران مذعان العشي عصوف «5» وذاك أصيل اللب غض شبابه ... كريم لأيام المنون عروف إذا هم بالأعداء لم تثن همه ... حصان عليها لؤلؤ وشنوف «6» حصان لها في البيت زي وبهجة ... ومشي كما تمشي القطاة قطوف «7»

ولو شاء وارى الشمس من دون وجهه ... حجاب ومطوي السراة منيف «1» ولكن إدلاجا بشهباء فخمة ... لها لقح في الأعجمين كشوف «2» إذا قادها للموت يوما تتابعت ... ألوف على آثارهن ألوف فصفوا وماذي الحديد عليهم ... وبيض كأولاد النعام كثيف «3» خفيف المعى لا يملأ الهم صدره ... إذا سمته الزاد الخبيث عيوف «4» وحكي أنّ الحكم دخل عليها وهي نائمة، وقد كحّلت أجفانها بسباتها، وصقل صفائح وجناتها، وقد وسّدها سكر الدلال اليمين والشمائل، وجلا منها اطّراح اللثام ما تحت الخمر والغلائل، وقد كلل الجبين لؤلؤ العرق، واجتمع الحسن فيها كما اتفق، فاختلس منها قبلة، أكل بها ما وجد من الحلاوة في صحن خدها، ثم ضمها إليه ضمة دخل بها بين ترائبها وعقدها، وهي لا تتيقظ، كأنها مخمورة، ولا تنفك من يده كأنها مأسورة، ثم لم يزل يقبلها في مضجعها ويقلّبها ولا يرثي لتفجّعها، حتى ذبل ورد مراشفها، وانتهب عناقيد سوالفها، فانتبهت كأنها ظبية مذعورة، وقامت تهتز مثل غصن بان ممطورة، ثم قالت: [ص 382] [الخفيف] من أباح التّقبيل واللّثم خدّي ... فجنى ريقتي وذبّل وردي ليت من جاء آخر الليل نحوي ... كان حبّي من أوّل الليل عندي فقال الحكم: لله أنت إذ قمت ولله أنت إذ قلت، ثم أمرها فغنّت فيها، ولم تزل تردد الصوت ويستعيده ويستطيبه ويستجيده حتى كان ذلك لها يوما معدودا، وعيدا لا عيب فيه، إلا أنّا لم نره مشهودا.

165 - ومنهم - أفلح الرباني

165- ومنهم- أفلح الرّباني ممن قدم على الحكم، رجل لا يملّ منه سمير، ولا يحلّ مثله في ضمير، قدم على الملك الهمام، وتقدم الصفوف إلى الإمام، وسلطان الحكم يومئذ زاخر العباب، فاخر الجلباب، وطائره ميمون، وزائره ما عليه إن فاته المأمون، قد أزلفت له بقرطبة «1» الجنان، وزخرفت الأفنان، والحكم ينفض عن الحكم وسنه، ويسكت من الرق لسنه، وأياديه بيض، وعواديه تفيض، وأعاديه إذا ذكرت ذكره تحيض، فاشترى إليه ما لم يجده عنده ابن أبي سفيان، سائب خاثر «2» من الأيادي، ولا عند ابن يزيد عمر الوادي «3» . ومن أصواته: «4» [الطويل] دع القلب واستبق الحياء فإنما ... تباعد أو تدني الرباب المقادر «5» أمت حبها واجعل رجاء وصالها ... وعشرتها كبعض من لا يعاشر وهبها كشيء لم يكن أو كنازح ... به الدار أو من غيبته المقابر فإن كنت علقت الرباب فلا تكن ... أحاديث من يبدو ومن هو حاضر «6» والشعر لعمر بن أبي ربيعة.

166 - ومنهم - رغد جارية المغيرة بن الحكم

166- ومنهم- رغد جارية المغيرة بن الحكم «1» جارية «2» لم تكن أيام وصلها هي العيش لما سميت رغدا، ولا جعلت لليوم غدا، متعت القلوب بصفاتها، وجمعت بين العيون وإغفائها (؟) ، ووصلت إلى البقية الأموية، وقد سلبوا رداء الخلافة، وقربوا من [ص 383] ردى الهلك، فأحيت الذماء، وأحرزت الدماء، فكانت تضيء في مجالس القوم إضاءة الشّمع المتقد، وتجلس من تعنت المنتقد، إلا أنها كانت حاكمة على المغيرة، لو كلفته بذل نفسه لما بخل، أو ألجأته إلى ما دخل فيه الوليد لدخل، حتى كادت تكون المبيرة، وتنهب غاراتها لبّ المغيرة، ويحكى عنها كمال أدب كانت أتقنته، وإتقان طرب حسنته، وتمام جمال أوتيت منه أوفر الحظوظ، وأوفى ما يرى من الحسن الملحوظ، وفضل أدوات وإجادة في شعر وأصوات. شعرها الذي لحنته [الخفيف] أين أيامنا بجلق أينا ... كان ذاك الزمان للدهر عينا شتتونا وأسهروا كل عين ... لا تهنّا العادي ولا قر عينا ومن أصواتها المشهورة «3» [الطويل] إذا قمن أو حاولن مشيا تأطرا ... إلى حاجة مالت بهن الروادف فلما هممنا بالتفرق أعجلت ... بقايا اللبانات الدموع الذوارف فأتبعتهن الطرف متّبل «4» الهوى ... كأني يعانيني من الجن طائف وكل الذي قد قلت يوم لقيتكم ... على حذر الأعداء للقلب شاعف

والشعر لعمر بن أبي ربيعة، والغناء فيه في الثقيل الأول. [ومن أصواتها] : «1» [الطويل] لقد هاج هذا القلب عينا مريضة ... أجالت قذى ظلّت به العين تمرح «2» صحا القلب عن سلمى وقد برحت به ... وما كان يلقى من تماضر أبرح إذا سايرت أسماء قوما ظعائنا ... فأسماء من تلك الظعائن أملح تقول سليمى ليس للبين راحة ... بلى إن بعض البين أشفى وأروح والشعر لجرير، والغناء فيه في الرمل المزموم، وهذه قصيدة هي من قلائده أولها: أجدّ رواح الحي أم لا تروّح ... نعم كل من يعنى بجمل مبرّح «3» [ص 384] إذا ابتسمت أبدت غروبا كأنها ... عوارض مزن تستهل وتلمح «4» ومنها في وصف السير في وقت قيظ: أعائفنا ماذا تعيف وقد مضت ... بوارح قدام المطي وسنّح «5» نقيس بقيات النطاف على الحصى ... وهن على طي الحيازيم جنّح «6»

ويوم من الجوزاء مستوقد الحصى ... تكاد صياصي العين منه تصيّح «1» شديد اللظى حامي الوديقة ريحه ... أشد لظى من شمسه حين تصمح «2» نصبت له وجهي وعنسا كأنها ... من الجهد والإسآد قرم ملوح «3» ومن أصواتها: «4» [البسيط] إنا محيّوك فاسلم أيها الطلل ... وإن بليت وإن طالت بك الطول إني اهتديت لتسليم على دمن ... بالغمر غيّرهن الأعصر الأول «5» فهن كالحلل الموشي ظاهرها ... او كالكتاب الذي قد مسه بلل كانت منازل منا قد نحل بها ... حتى تغير دهر خائن خبل أمست عليّة يرتاح الفؤاد لها ... وللرواسم فيها بيننا عمل «6» والعيش لا عيش إلا ما تقر به ... عين ولا حال إلا سوف تنتقل والشعر للقطامي عمرو بن شييم بن عمرو التغلبي، والغناء فيه، وهو هذه الأبيات من كلمة له طويلة طائلة «7» ، أغار مسلم بن الوليد على سرحها «8» ، وجهد نفسه حتى اطّلع على صرحها، ومنها:

والناس من يلق خيرا [قائلون] له ... ما يشتهي ولأم المخطئ الهبل «1» قد يدرك المتأني بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزلل ومنها في وصف الأينق: حتى ترى الحرة الوجناء لاغبة ... والأرحبي الذي في خطوه خبل «2» خوصا تدير عيونا ماؤها سرب ... على الخدود إذا ما اغرورق المقل «3» [ص 385] يرمي الفجاج بها الركبان معترضا ... أعناق بزّلها مرخى لها الجدل «4» لواغب الطرف مثقوبا جوانبها ... كأنها قلب عادية مكل «5» يمشين رهوا فلا الأعجاز خاذلة ... ولا الصدور على الأعجاز تتكل «6» يتبعن سامية العينين تحسبها ... مجنونة أم ترى مالا ترى الإبل ومن أصواتها المشهورة: «7» [الطويل] تغن بريّا يا بن سعد فإنما ... تلام على الصمت النساء الحرائر

167 - ومنهم - سليم مولى المغيرة بن الحكم

غناء يظل الجود منه كأنما ... على رأسها من سورة السمع طائر والشعر للصمّة بن عبد الله القشيري، والغناء فيه: [المنسرح] لا النوم أدري به ولا الأرق ... يدري بهذين من به رمق إن دموعي من طول ما استبقت ... كلت فما تستطيع تستبق ولي مليك لم تبد صورته ... مذ كان إلا صلّت له الحدق نويت تقبيل وجنتيه وخف ... ت أدنو منهما فأحترق «1» والشعر للصنوبري، «2» والغناء فيه ثاني الرمل. 167- ومنهم- سليم مولى المغيرة بن الحكم رجل سعد بمواليه، وصعد حتى رأى النجم يليه، خلطوه بأنسابهم، وخلوه معدودا في أحسابهم، أخذ الطرب من رسل أتوه من قبل النصارى وأمر بتأخيرهم ووكل بهم إلى حين مسيرهم، وأتقن الفن وحقق الظن، ثم أتى إلى المغيرة بن الحكم بجارية عراقية، كانت قد أنتجت له من تلك الخادر، وأتت تقيم بحسنها عذر العاذر، وكانت تطارحه الغناء حتى برع وجمع الغناء العراقي مع ما جمع، وكانت تجري بينهما في مجلس المغيرة مؤاخذات أرق من نسمات الأسحار، وأعطر من نفحات الأشجار، آها عليها كيف لم تنقل وتحبس شواردها وتعقل. ومن أصواته: «3» [ص 386] [البسيط] أمن خليدة وهنا شبت النار ... ودونها من ظلام الليل أستار

باتت تشب وبتنا الليل نرقبها ... تعنى قلوب بها مرضى وأبصار فما أبالي إذا أمسيت جارتنا ... مقيمة ما أقام الناس أم ساروا «1» يا أيها اللائمي فيها لأصرمها ... كثرت لو كان يغني عنك إكثار فاقصد فلست مطاعا إن وشيت بها ... لا القلب سال ولا في حبها عار والشعر للأحوص بن محمد الأنصاري، والغناء فيه ثاني الرمل، وهذه القطعة فيها أبيات مختارة، منها: «2» جود مبتلة نضح العبير بها ... كأنها روضة ميثاء محبار لو دب حولي ذر تحت مدرعها ... أضحى بها من دبيب الذر آثار كأن خمر مدام طعم ريقتها ... مما ينير خلايا النحل مشتار «3» ومنها في المديح: «4» لولا يزيد وتأميلي خلافته ... لقلت ذا من زمان الناس إدبار إني أرى زمنا للمرجفين به ... عزّ وفيه لأهل الدين إصرار أغر لو قام في ظلماء داجية ... وهنا لحان لداجي الليل إسفار إن ينسبوا فهو إن عدوا لأربعة ... خلائف كلهم للدين أنصار وحضر مرة مجلس الحكم وقد قعد مقعد الخلافة، وقد أتي بكتب جاءت بها التجار من بلاد المشرق، وقد حملت رياضتها إلى نوئه المغدق، فرمى بطرفه ديوانا منه قد ضمّن شعر المقلين الثلاثة الذي فضّلوا في الجاهلية، ومنهم المسيب بن

علس بن مالك خال الأعشى، فأخذه الحكم بيده، وفضّ مرتج أغلاقه، وتأمل ما فيه من نفائس أعلاقه، فرأى منها كلمته: «1» [الكامل] [ص 387] بان الخليط ورقّع الخرق ... يوم الفراق فرهنهم غلق «2» قطعوا المزاهر واستتب بهم ... يوم الرحيل للعلع طرق رجلا يتابع خلفها رجل ... نشط العقال قواه منطلق للعبقرية فوقها صبح ... كدم الذبيح نجيعه دفق وكأن ظعنهم مقفية ... نخل ابن يامن موقر سحق وكأن ظعنهم غداة غدوا ... والآل تسترهم وتنخرق جبار عيدان أمرّ له ... دون الفرات مزعزع تئق علت العذوق على كوافرها ... متلفع بالليف منتطق حمر الكبائس قد ينوق «3» بها ... وهو الخضاب كأنه علق فأمره ان يغني فيها بقوله: رميننا في كل مرتقب ... تحت الخدود وسيرهم نشق غيد سوالفها وأوجهها ... بيض وفوق صدورها الحقق تبلت فؤادك إذ عرضت لها ... حسن برأي العين ما تمق بمهى يرف كأنه برد ... نزل السحابة ماؤه يدق

168 - ومنهم - وضيح بن عبد الأعلى

والوجه دينار ومنسدل ... يغشى الضجيع لنشره عبق بانت وصدع بالفؤاد لها ... صدع الزجاجة ليس يتفق فصنع صوتا في مزموم الرمل، حرك به الحكم وسائر أهل المجلس، وامتدّ الرجاء والطمع بعد القنوط الموئس، وألقى إليه بمطرف خزّ بنفسجي كان عليه، مبطنا بالفنك، وأمر له بمائتي دينار، ومرّ يوم لم ير مثله. 168- ومنهم- وضيح بن عبد الأعلى طلع به في ذلك الأفق كوكبة الغارب، ورجع سحابه الغارب، وبلغ أمره المؤيد هشاما، وما كانت فترت جمرته، ولا فنيت إمرته، فأمر باستدنائه، واستدعى به لأجل غنائه، فلما حضر مجلسه المهيب وأحس بيانه المتوقد اللهب، انقلب رجاؤها قنوطا، وانقطع مما كان به منوطا، إلى أن سكن إنباضه، وأزال [ص 388] بالبسطة انقباضه، فأظهر الصناعة التي كانت إليه معزوة، وولت الهموم التي أصبحت به معزوة، فأحيا من القلوب رميما، وطرح عن النفوس عظيما، ثم أخذ العود وضرب به ضربا كان شفاء للفهم السقيم، ودرياقا للقلب السليم، فتهلل وجه المؤيد حتى ظهر البشر على جبينه، وأمر له من الذهب بمثل يمينه. ومن اصواته: «1» [الكامل] لمن الديار كأنها لم تحلل ... بين الكناس وبين طلح الأعزل «2»

ولقد أرى بك والجديد إلى بلى ... موت الهوى وشفاء عين المجتلي ولقد أرى بك والمطي خواضع ... وكأنهن قطا فلاة مجفل يا أم ناجية السلام عليكم ... قبل الرواح وقبل لوم العذل لو كنت أعلم أن آخر عهدكم ... يوم الرحيل فعلت ما لم أفعل أو كنت أرهب وشك بين عاجل ... لقنعت أو لسألت ما لم يسأل والشعر لجرير، والغناء فيه، وهذه من طنانات جرير، ومنها في هذا: أعددت للشعراء سما ناقعا ... فسقيت آخر هم بكأس الأول لما وضعت على الفرزدق ميسمي ... وعلى البعيث جدعت أنف الأخطل أخزى الذي سمك السماء مجاشعا ... وبنى بناءك بالحضيض الأسفل فامدح سراة بني فقيم إنهم ... قتلوا أباك وثأرهم لم يقتل ودع البراجم إن شربك فيهم ... مر عواقبه كطعم الحنظل بات الفرزدق يستجير لنفسه ... وعجان جعثن كالطريق المعمل أين الذين عددت أن لا يدركوا ... بمجر جعثن يا بن ذات الرّمل أسلمت جعثن إذ تجر برجلها ... والمنقري يدوسها بالمنشل تهوى استها وتقول يا لمجاشع ... ومشق نقبتها كعين الأقبل لا تذكروا حلل الملوك وأنتم ... بعد الزبير كحائض لم تغسل [ص 389] ما كان ينكر في يدي مجاشع ... أكل الخزيز ولا ارتضاع الفيشل حكي أنه ممن كان محمد بن عبد الرحمن خليفة الأندلس يلحقه برعايته، ويلحظه بعنايته، وكان قد سافر عنه مدة أطال شقّتها، وحمل وقر أعبائه شقتها، ثم آن له العود إلى ذلك النديّ، وقرب بحيث شم سوابق عرفه الندي، ولم تبق

169 - ومنهم - ابن سعيد كامل

إلا مرحلة يقطعها وسوط مطية تمتد به أذرعها، فهاجه قرب الدار إليه شوقا، وطار به إليه سوقا، فصنع لحنا من شعر الحسين بن مطير: «1» [الطويل] ولما تنكبنا الكثيب وأطلعت ... لنا السدة العلياء قلت لصاحبي ألا فانشرح صدرا فلم تبق بيننا ... وبين المنى إلا كناخة راكب ورفع ببيتيه عقيرته تغنى في النداء، وصاغه بين غناء الركبان والحداء، وسمعها في النفر من منه حفظها، وأداها كما منه تلفظها، فما أتى وضيح باب محمد بن عبد الرحمن إلا وقد سبق بها الخبر إليه، كأنما ألقتها الريح في أذنه، فحين دخل عليه، قال له: لينشرح صدرك، فلم يك قد كان بقي بينك وبين المنى إلا إناخة راكب، فهات الآن ما صنعت، فاندفع يغنّي فيه، ومحمد بن عبد الرحمن يميل حتى كاد يسقط عن السرير، ثم عجل له بتخت من القماش، وثلاث مئة من الدنانير. 169- ومنهم- ابن سعيد كامل أثمرت بالسرور أنامله، وتم تمام البدر كامله، وشغل أوقاته بالطرب، فجاءت طيوره سانحة، وجادت له بالأيام مانحة، ولزم المؤيد هشاما، وقد وطئ البلاد بهيبته، وسر البلاد بأوبته، وكان في عنفوان ملكه كجده هشام بالشام، وقد بسط ظله على الأنام، وأجار بعدله من الأيام، وكان يحضر مجلسه الخاص حيث يكون رواق الليل سجافه، ورقيب السمع سميه، وبطون الجواري سريره، وكان منه بالايحاشى، ولا يجد منه إيحاشا، وكان يدخل على جواريه [ص 390]

الحجاب، ويعلمهن ما ظهر من الإعجاب، ويلقي عليهن غناء يطرب سامعه، وتكثر به نقوط كل حاضر تجري مدامعه، ومن أصواته المشهورة: «1» [الوافر] تكلم أيها الطلل القديم ... عفت منه أجيرة والحريم تأبد ما بدا للريح منه ... وآلاء بتيمن لا تريم إذا ما قلت أقصر عن صباه ... فكان كحين يحتضر القسيم تأوبه خيال من سليمى ... كما يعتاد ذا الدين الغريم والشعر لسلمة بن الخرشب الأنماري، والغناء فيه خفيف الرمل، وكذلك صوته: «2» [الطويل] سقى طلل الحي الذي أنتم به ... بشرقيّ سلع صيّف والربيع مضى زمن والناس يستشفعون [بي] ... فهل لي إلى لبنى الغداة شفيع فسوف أسلي النفس عنك كما سلا ... عن البلد النائي البعيد يروع يقولون صبّ بالنساء مولّع ... وهل ذاك من فعل الرجال بديع والشعر لقيس بن ذريح، والغناء فيه في الطريقة الرابعة من الهزج. وكذلك صوته: «3» [الكامل] ومتيم جرح الفراق فؤاده ... فالدمع في أجفانه يترقرق هزته ساعة فرقة فكأنما ... في كل عضو منه قلب يخفق والشعر لابن المعتز.

170 - ومنهم - حصن بن عبد بن زياد

170- ومنهم- حصن بن عبد بن زياد أصله من برّ العدوة، ودخل الأندلس متمسكا بالعروة، وكان مطربا أورد الأنس الوافر، ورد السرور النافر، ورق به قلب الليل على أنه كافر، وشجع قوي القلب وكان أجبن من صافر، ولج بلاد النصارى وتوغل في ولوجها، وسكنها وسكن إلى علوجها، ثم عاد إلى حوز المسلمين، ورجع ما كسب إلا الغناء [ص 391] بعد طول سنين، فاتصل بالعالي واتصف باقتناء الغالي، فأعلى العالي كعبه، ولمّ شعبه، وكان لا يزال يحضره في خلوته، وتجنبه نزع هفواته. ومن أصواته: «1» [الطويل] دعتنا بكهف دون حنفاء دعوة ... على عجل دهماء والركب رائح «2» إذا الناس قالوا كيف أنت وقد بدا ... ضمير الذي بي قلت للناس صالح ليرضى صديق أو ليسخط كاشح ... وما كل من سلفته الود ناصح وإني لتلحاني على أن أحبها ... رجال تعزيهم قلوب صحائح والشعر لتميم بن أبي [بن] مقبل، والغناء فيه مزموم الرمل. وكذلك صوته: «3» [الكامل] نام الخلي وما أحس رقادي ... والهم محتضر لدي وسادي من غير ما سقم ولكن شفني ... هم أراه قد أصاب فؤادي «4» ومن الحوادث لا أبا لك أنّني ... ضربت علي الأرض بالأسداد

171 - ومنهم - ساعدة بن بريم

لا أهتدي فيها لموضع تلعة ... بين العراق وبين أرض مراد والشعر للأسود بن يعفر النهشلي، والغناء فيه ثاني الثقيل. 171- ومنهم- ساعدة بن بريم مطرب تعلق بالسها، وعلق بالمسامع بما ألهى، وكان لنوافر القلوب مؤلفا، ولم يقدم وراءه مخلفا، حكي أنه كان من أبناء النصارى، طلع في سواد المسوح قمرا زاهرا، وسكن الديارات فأعاد ذواءها يانعا زاهرا، وخلافي جانب مكانه فحلّ عزائم البرهان، وشد زناره «1» على غصن بان، ففتن بحسنه القسوس، وجرى في حبه ما هوّن حرب البسوس، فترك النصرانية وأسلم إسلاما الله يعلم ما وراءه، وماذا صرف إليه فيه آراءه، ثم غوي الغناء وطلبه، وتتبعه ليجلبه، وركب فيه ثبج البحر وقد لانت عريكته، وألقيت أريكته، ثم بلغ من هيجه مبلغا أفضى فيه إلى التلف، وانتقم منه أضعاف ما سلف، إلا أنه سلم على لوح من ألواح [ص 392] المركب، وقد ظن أن روحه فيما ينكب، فخرج إلى مصر ثم أتى إلى الشام والعراق، وورد ما راق، ورد ما طلبته ما تضيق به الأوراق. ومن مشاهير أصواته: «2» [الطويل] إذا خطرت من ذكر بثنة خطرة ... عصتني شئون العين فانهل ماؤها «3» فإن لم أزرها عادني الشوق والهوى ... وإن زرتها شف الفؤاد لقاؤها «4» وإن قلت أسلوها تعرض طيفها ... وعاود قلبي من بثينة داؤها وكيف بنفس أنت هيجت سقمها ... ويمنع منها يا بثين شفاؤها

172 - ومنهم - سعد المجدع

لقد كنت أرجو أن تجود بنائل ... فأخلف نفسي في الوعود رجاؤها إذا قلت قد جادت لنا بنوالها ... أبت ثم قالت خطة لا أشاؤها! والشعر لجميل والغناء فيه، وهذا الصوت من قصيدة من الغرّ منها هذا: أعاذلتي فيها لك الويل فاقصري ... من اللوم عني اليوم أنت فداؤها إذا قعدت في البيت يشرق بيتها ... وإن برزت يزداد حسنا فناؤها قطوف ألوف للحجال يزينها ... مع الدل منها جسمها وحياؤها فهذا ثنائي إن نأت وإذا دنت ... فكيف علينا ليت شعري ثناؤها 172- ومنهم- سعد المجدّع مولى أم سليمان بن الحكم، ذكر غلب عليه التّخنيث، ورجل شارك النساء في التأنيث، وكان جدّ خبيث، ومجد سرى حثيث، إلا أنه لا يسري إلا إلى حان، ولا يسير إلا بحذاء ألحان، قبح عند الامتحان، ونقص عند الرجحان، وكان لا يرى إلا عقير عقار، أو عقيب خمار، أو في نادي نسوة، أو جاعلا نفسه لهن أسوة، يغلّ «1» بالخضاب يده، ويغلف بالسواد حاجبيه، ويلبس فاخر الثياب على خزى يحسده، ويقلب عنقه بالعقود، ليته بالسيوف قلده، وكان مع هذا الدّبر الذي فنيت فيه الزّبر، وقدّ به قميصه من دبر، زنّام زمر «2» [ص 393] وإمام غناء مشتبه الأمر، ومنبع طرب يسكر مثل ابنة الأعناب، ومنبت عيدان يا قبح ما تجني جناة الحسن من عنّاب. ومن أصواته: «3» [الخفيف]

أقفرت بعد عبد شمس كداء ... فكديّ فالركن فالبطحاء «1» فمنى فالجمار من عبد شمس ... مقفرات فبلدح فحراء «2» قد أراهم وفي المواكب إذ يغ ... دون حلم ونائل وبهاء وحسان مثل الدمى عبشميّا ... ت عليهن بهجة وحياء حبذا أنت حين قومي جميع ... لم تفرق أمورها الأهواء قبل أن تطمع القبائل في مل ... ك قريش ويشمت الأعداء. والشعر لعبيد الله «3» بن قيس الرقيات، والغناء فيه من خفيف الرمل، وهذه الأبيات من قصيدة غراء منها: أيها المشتهي فناء قريش ... بيد الله عمرها والفناء إن تودع من البلاد قريش ... لا يكن بعدهم لحي بقاء أو تقفى وتترك الناس صاروا ... غنم الذئب غاب عنها الرعاء هل ترى من مخلد غير أن الله ... يبقى وتذهب الأشياء يأمل الناس في غد رغب الده ... رألا في غد يكون القضاء فرضينا فمت بدائك عنا ... لا تميتن غيرك الأدواء لو بكت هذه السماء على حي ... ي كريم بكت علينا السماء قلت: وفي هذه القصيدة ذكر حمزة وعليّ وجعفر والزبير وابن الزبير رضي الله عنهم، ومن العجب أن يغني شاعر بني أمية في شعر فيه ذكر هؤلاء، وإن لم يأت في الصوت.

173 - رداح جارية عبد الرحمن [ص 394]

173- رداح جارية عبد الرّحمن [ص 394] المستظهر «1» ، وكانت أي هيفاء رداح «2» ، وسمراء تنتضي من جفونها السود بيض الصفاح، ذات جمال يغير البدر إن سفرت، ودلال يغير الغصن إن خطرت، وغنج يعيد سحر بابل إن نظرت، هذا إلى نغم يعلّم الحمائم في الأراك، ويوقع العشاق في الأشراك، ويفعل فعل البابلي، ويغسل حتى قلب الخلي، ويغلّ النار في الجوانح، ويشعر طرفها الكاسر بأن الظباء تصيد الجوارح. قيل إنّه كان يقال إنها بدعة القيان، وإنها بهذا كانت تدعى، ويحكى عنها لطائف وظرائف، ولها شعر ليس بطائل، ولها أعمال صنيعة، وأصوات بديعة، فمنها هذا:» [الطويل] أتعرف رسما كاطراد المذهب ... لعمرة وحشا غير موقف راكب ديار التي كادت ونحن على منى ... تحل بنا لولا نجاء الركائب تبدت لنا كالشمس تحت غمامة ... بدا حاجب منها وضنت بحاجب ولم أرها إلا ثلاثا على منى ... وعهدي بها عذراء ذات ذوائب والشعر لقيس بن الخطيم، والغناء فيه، ومن هذه القصيدة: فلما رأيت الحرب حربا تجددت ... لبست مع الحربين ثوب المحارب

رجال متى يدعوا إلى الموت يرقلوا ... إليه كإرقال الجمال المصاعب إذا فزعوا مدوا إلى الليل صارخا ... كموج الأتي المزبد المتراكب صبحناهم الآطام حول مزاحم ... قوانس أولى بيضها كالكواكب إذا ما فررنا كان أسوا فرارنا ... صدود الخدود وازورار المناكب إذا قصرت أسيافنا كان وصلنا ... إلى نسب من جذع غسان ثاقب «1» صبحناهم شهباء يبرق بيضها ... تبين خلاخيل النساء الهوارب فأبنا إلى أبياتنا ونسائنا ... وما من تركنا في بعاث بآئب وحكي أن عبد الرحمن [ص 395] عزم على التفسّح في بعض الظواهر مدة يقيم بها في مضارب نصبت له على نهر يروق انحداره، وربيع بقل في وجنة الروض عذاره وكان الشتاء قد كلح وساء به مزاج الزمان ثم صلح، فلما عزم على الخروج أتت جواريه لوداعه، ورداح بينهن قد اغرورقت مقلتاها بالمدامع، وقطعت لديها أعناق المطامع، فوقفت وقفة المتعني، ثم اندفعت في صوت صنعته تغني: «2» [البسيط] شط المزار بحدوى وانتهى الأمل ... فلا خيال ولا عهد ولا طلل إلا رجاء فما تدري أندركه ... أم يستمر فيأتي دونه الأجل والشعر لعمرو بن أحمر الباهلي «3» ، والغناء فيه من الهزج، ثم اتبعته بصوت آخر صنعته: [الطويل] إذا ما كتمنا الحب نمّت عيوننا ... علينا وأبدته العيون السواكب

وإن نحن أخفينا ضمائر حبنا ... أشارت بتسليم علينا الحواجب والشعر فيه مجهول، فبكى عبد الرحمن لبكائها، وطفق يضمها إليه، ثم أقبل على جواريه فقال: هلا كان فيكن واحدة فعلت مثل فعلها، ثم أمر بأن تخرج معه فأبت، فقالت: والله لا خرجت إلا أنا وصويحباتي، قال: فليخرجن، ثم خرجن معه، فلم يكن أحسن من ذلك المربع، ولا من أيام مضين فيه. وحكي أن عبد الرحمن نظر إلى جارية عند بعض نساء الحرائر فأحبها، وفطنت الحرة لذلك، فحجبت الجارية عن نظره، وطالت مدة حجابها، وزيادة ما يجده من الجوى بها، ونمي الخبر في جواريه، واستفاض حال غرامه بها وعدم قراره لأجلها، فصنعت رداح صوتا وجودته ثم دخلت عليه وهي تغني به، والصوت: «1» [الطويل] تمسك بحب الأخيلية واطرح ... عدا الناس فيها والوشاة الأدانيا فإن يمنعوا ليلى وحسن حديثها ... فلم يمنعوا مني البكا والقوا فيا يلومك فيها اللائمون فصاحة ... فليت الهوى باللائمين مكانيا لو انّ الهوى في حب ليلى أطاعني ... أطعت ولكن الهوى قد عصانيا [ص 396] والشعر لتوبة بن الحميّر، والغناء فيه كان في مذهب شيخي، لم يتمالك معه عبد الرحمن أن فاضت عينه بالبكاء، وقال: ما الحيلة يا رداح؟ قالت: عزيمة مثلك، قال: هيهات أن تنفع العزيمة، ولكن قد يجيء في أحداث الدهر مالا يتوقعه المنتظر، فنقل المجلس إلى تلك الحرة، فقالت: هو ولي النعمة وأنا أمته

174 - ومنهم - خليد مولى الأدارسة

والجارية أحداث الدهر، قالت: فأحمد الله يا أمير المؤمنين، فخرّ ساجدا ثم نهض حتى دخل على الحرة فشكر لها، ثم ضم الجارية إليه وأسنى جاريته رداح، وتماثل حاله، وكان قد يئس من الإصلاح. 174- ومنهم- خليد مولى الأدارسة ومحيي تلك الأطلال الدارسة، كان يحيى به كلّ أرض يحلها، وتهتز أذن كل سامع تطلّها، أكثر إحياء لها مدّ الثرى من المطر، أهزّ للقدود من كل رديني تأطر. حكي أنه حضر مجلس المأمون أحد مواليه، وشرع يغنيه في شعر رثي به بعض أعاديه، فحميت حماليقه بنار الغضب، وأخذ منه العود ثم ضرب به خلاف ما ضرب، فأصاب به عينه فأساء فيها الأثر، ونكب بها نكبة، على أن العود الضارب فيها عثر ثم أقبل عليه بالرضى واعتذر، وآنسه أنسا أزال عنه الحذر، ثم أولى إليه الجوائز، ونبّه له الحسد حتى من أهل الجنائز، فكان لا يرى ذلك العمى في عينه إلا كالحور، ولا يزال نظراؤه تضعف أيديهم عن جسّ العود الخور، وحسدته الناظرة سحرا إليه كالحول، ويقول: من للحول بالعور، وكان على عوره بصيرا بالصنعة، مطلا للدمع الذي لا يقال له صرعة. ومن أصواته: «1» [الوافر] ألم ترها تريك غداة بانت ... بملء العين من كرم وحسن فأعطت كلما سئلت شبابا ... فأنبتها نباتا غير حجن فقلت وكيف صادتني سليمى ... ولما أرمها حتى رمتني ألا يا ليتني حجر بواد ... أنام وليت أمي لم تلدني

175 - ومنهم - سعدى جارية المعتمد بن عباد

[ص 397] والشعر للنمر بن تولب، والغناء فيه في سادس الهزج، وكذلك صوته في شعر الكميت بن زيد، ودست عليه الشيعة الأموية من قتله لأجل تغنيه به، وهو هذا: «1» [الطويل] ألم ترني من حب آل محمد ... أروح وأغدو خائفا أترقب على أي جرم أم بأية سيرة ... أعنف في تقريظهم وأكذب أناس بهم عزت قريش فأصبحوا ... وفيهم بناء المكرمات المطيب وهم رئموها غير ظأر وأشبلوا ... عليها بأطراف القنا وتجلببوا فإن هي لم تصلح لحي سواهم ... فإن ذوي القربى أحق وأقرب وإلا فقولوا غيرها تتعرفوا ... نواصيها تردى بنا وهي شزب والغناء فيه في ثقيل الرمل، وكان يتغنى به أيام استظهار الأدارسة فأصبح قتيلا ملقى على باب داره. 175- ومنهم- سعدى جارية المعتمد بن عبّاد «2» وكانت جارية يسعد بها ضجيعها، وينعم ولو ورد مدامعه نجيعها، فاتنة

الطرف كأنها مهاة، أو أمنية مشتهاة، لو تجلت لمحيي البدر سافرة لتبرقع، أو لمرأى الشمس لأمتع، لو طرقت جريرا لما قال ارجعي بسلام «1» أو لاقت جميلا لما قنع بالكلام «2» ، أو كانت في عصمة ابن ذريح لما أطاع فيها أباه «3» ، أو لاحت لابن الملوح لنسي ليلى حتى إنها لم تمثل بكل سبيل إليه «4» ، زادت ملك ابن عباد حسنا، وطلعت في سمائه القمراء وأسنى. ولها أصوات بها تغني، فمنها: «5» [البسيط] لولا عيون من الواشين ترمقني ... وما أحاذره من قول حراسي لزرتكم لا أكافيكم بجفوتكم ... مشيا على الوجه أو سعيا على الراس والشعر للمعتمد، والغناء فيه. وحكي أن المعتمد عزم على إخراج حظاياه من بلد إلى آخر، فخرجن في أول الليل كأنهن النجوم الطوالع، وخرج [ص 398] يشيعهن وقلبه لأمر «6» صبره

غير طائع، فسايرهن ليله كله، حتى قوض بناء الليل، وأقبل الصباح في كتيبته الشهباء مبّتوث «1» الحيل، فرجع وقد صدعت أحشاؤه مغارب تلك النجوم، وأغرت مقلته سحائب تلك الدموع السجوم فقال: «2» [الكامل] سايرته والليل غفل ثوبه ... حتى تبدى للنواظر معلما فوقفت ثمّ مودّعا وتسلمت «3» ... مني يد الأصباح تلك الأنجما ثم بعث بها إلى سعدى وأمرها أن تغني منها صوتا، فغنت فيه. ومن أصوات سعدى المشهور لها: «4» [السريع] إن الذي هامت به النفس ... عاودها من سقمها نكس كانت إذا ما جاءها المبتلى ... أبرأه من كفها اللمس وا بأبي الوجه الجميل الذي ... قد حسدته الجن والإنس إن تكن الحمى أضرت به ... فربما تنكسف الشمس والشعر للعباس بن الأحنف، واقترحه المعتمد عليها. وقد دخل على جارية له، رآها مدنفة مصفرة لتوالي الحمى، قد امتقع بالصفرة بياض صفحتها، وردّى الغيار محاسن لمحتها، فبرزت كالشمس في الكسوف، والقمر في الخسوف، ولوحه هجير الحمى، ثم فارقها ووجهها كأنه الدينار المشوف «5» ، وكان المعتمد لا يزال على جواريه يقترح، ولأزندة خواطرهن يقتدح.

176 - ومنهم - ميمون الجوهري [أو الجهوري]

176- ومنهم- ميمون الجوهريّ [أو الجهوريّ] «1» وهو ممن جهر به النداء، وجأر بتفضيله الأعداء، لاذببني جهور حتى نسب إلى ولائهم، وحسب واحدا منهم لما غمر من آلائهم، وكان نديما لا يمل له محاضرة، ولا تفي الروايات المعدة بأجوبته الحاضرة، وكان الغناء أغلب فنونه عليه، وعيونه التي لا تحصى ما ينظر منها لديه، وداخل بها رؤساء الأندلس وكبراءه، ودانى علماءه ووزراءه، وأمر أمره [ص 399] فعلا قدره وجالس أمراءه، وكان مما جرى الفأل بتسميته ميمون النقيبة ممنون الرغيبة، ما خالل أحدا إلا سمق، ولا خالط إلا من ظن أنه من السماء وإن رمق. وله صنعة في أصوات، منها: «2» [الطويل] وجفن سلاح قد رزيت فلم أمت ... عليه ولم أبعث إليه البواكيا وفي جوفه من دارم ذو حفيظة ... لو انّ المنايا أنسأته لياليا والشعر للفرزدق، والغناء فيه في ثقيل الرمل. وكذلك صوته: «3» [المنسرح] يا ليلة بت في دياجيها ... أسقى من الراح صفو صافيها ما تشتهي العين أن ترى حسنا ... إلا رأته في وجه ساقيها

177 - ومنهم - طريف بن عبد الله السميع القابسي

وصيفة للغلام تصلح للأ ... مرين كالغصن [في] تثنيها في قرطق زانه تخرسنها ... قد عقربت صدغها مداريها «1» والشعر لأبي نواس، والغناء فيه في الهزج. 177- ومنهم- طريف بن عبد الله السّميع القابسيّ وكان مغني أهل بادية، ومطرب حي أسمع صوته كل عادية، أول ما ألف ما عهده حيث تنصب الخيام، وينصب عليه الحيام «2» ، ثم دخل مدن إفريقية، وقد وافاها أقوام مصر، كان فيهم من تلبس بالغناء كان ترفع به عقيرته، وتجل به حقيرته، فانحاز إلى فئتهم، ودخل بينهم مثل هيئتهم، فأصغى إليهم بسمعه، ودخل غناءهم دبر أذنيه، فانثني إليهم ناسيا ما كان تعلم، سالبا سواه وإن يتم، وأسف على زمنه الذاهب، وجهل كل طريق إلا تلك المذاهب، فأعمل الرحلة إلى مصر، وماله رفيق إلا ظله، ولا له طريق إلا حيث قذف به جهله، وأتى مصر وبها ذماء «3» من أهل هذا الشأن تخلفوا على حفر اللحود، وسلالة مصّ منهم الثرى بقية الماء من العود، إلا أنهم فاتوا أهل كل إجادة، فعاد عنهم موفورا، ورجع وقد جمع عطاء موفورا [ص 400] ومن أصواته: «4» [الطويل]

ونحن بطحنا يوم ألف فلم تعد ... سليم بن منصور بشهباء فيلق غداة أسرنا في الجبال ملوكهم ... غناة بني الصباح وابن المحلق صبحناهم والشمس خضراء غضة ... بذات اللظى حد السنان المخرق غداة اتقونا بالسيوف أجنة ... من الحرب في منتوجة لم تطوق والشعر لمليح بن الحكم الهذلي، والغناء فيه. وروي له صوت آخر، وهو هذا: «1» [المنسرح] ما ضر جيراننا إذا انتجعوا ... لو أنهم قبل بينهم ربعوا إن لبينى قد أضر أقربها ... ولو أرادوا أن ينفعوا نفعوا هم باعدوا بالذي كلفت به ... أليس بالله بئس ما صنعوا بانوا فقد فجعوا لبينهم ... ولم يبالوا بحزن من فجعوا والشعر للأحوص بن محمد، والغناء فيه. وكذلك صوته: [الطويل] تلومينني في طارق بعد هجعة ... تجيء به دامي الأظل طليح تنكل ثوب الليل عنه كأنه ... من الضر من كلتا يديه جريح فإن كنت قد أنكرت يوما خلافتيا ... فإن اجتماعا بعده لقبيح والشعر لأعرابي مجهول، والغناء فيه في ثقيل الرمل.

178 - ومنهم - زيد الغناء بن المعلى

178- ومنهم- زيد الغناء بن المعلّى ابن عبد العظيم، روح غناء، ودرج اجتناء، وبوح اجتلاء، عرف بالغناء حتى أضيف إليه، وأضيف «1» تعريفا عليه، ودعي به بين ندمائه، ثم أطلق عليه فكان أشهر أسمائه، وكان إذا غنى أوقف الطير، وعقل المنطلق على السير، فرغ لها باله، وهيج بلباله، حتى أتقنه إتقانا صار به علمه عنده مستقرا، وعمله عليه مستمرا، وعمل فيه أعمالا نقلت، وأطلقت يده التي على العود علقت [ص 401] . وحكي أنه حج وأتى منى فوقف عند جمرة العقبة، وقد كظّ المحصبّ، وبان البنان العاطل المخضّب، وقد شغل الأيدي حصى الجمار، وملأ العيون سنا الأقمار، ثم اندفع يغني فانصرف إليه كل نظر، وبقي دأب كل من حضر، فلما فرغ من صوته عاد إلى رمي الحصاب، وعرف العاطل من ذات الخضاب. ومن أصواته: «2» [الطويل] خصيم الليالي والغواني مظلم ... وعهد [الليالي] والغواني مذمم رأيت سواد الرأس واللهو تحته ... كليل وحلم بات رائيه ينعم وصفراء بكر لاقذاها مغيّب ... ولا سر من حلت حشاه مكتم هي الورس في بيض الكؤوس فإن بدت ... لعينيك في بيض الوجوه فعندم سقتني بها بيضاء فوها وكأسها ... شبيها مذاق عند من يتطعم من الهيف لو شاءت لقامت بكأسها ... وخاتمها في خصرها يتختم والشعر لابن الرومي، والغناء فيه.

وجملة هذه القصيدة التي منها الصوت جميلة منها في المدح: بنو مصعب فينا سماء رفيعة ... لها درر ليست يد الدهر تعدم «1» سماء أظلت كل شيء وأعلمت ... سحائب شتى صوبها المال والدم ليمدحكم من شاء جهد مديحه ... فللشعر فيه بعده متردم أناس إذا دهر تبسم مرة ... فعنهم وعن آياته تتبسم يرى أبدا فيهم جواد معدل ... وليس يرى فيهم بخيل ملوّم ولم أر مالا حازه مثل عزمهم ... يروح ويغدو وهو نهب مقسم تحكم في أموالهم من أطاعهم ... وأسيافهم فيمن عصا تتحكم نجوم الدجى منها شهاب على العدا ... ومنها سماك للعفاة ومرزم أعمهم مدحا وأختص منهم ... أخاهم عبيد الله والحق يلزم [ص 402] يعدّ إذا عدّ الملوك مبدّأ ... كما عدّ رأسا للشهور المحرم فتى ليس من يوم يمر ولا يرى ... لنعماه فيها أو لبؤساه أنعم تمر العطايا والمنايا لأهلها ... على هينة منه ولا يتندّم فتى عزمه سيف جسام وسيفه ... قضاء إذا لاقى الضريبة مبرم يباشر أطراف القنا وهو حاسر ... ويلقى لسان الذم وهو ملأم هو الغرة البيضاء من آل مصعب ... وهم بعده التحجيل والناس أدهم

179 - ومنهم - جارية تميم

179- ومنهم- جارية تميم «1» جدّ المعزّ بن باديس، جارية طار بلبها الهوى، وطاف بقلبها الجوى، ورمى بها الإغراب مراميه، وأطال بها النوى لياليه، حتى سارت بتشتيت الفراق، وصارت إلى المغرب من العراق، ثم كانت لا تزال تتذكر نادي ذلك الفريق، وتنادي بلسان عرابها (؟) نار ذلك الحريق، وتتلفت إلى العراق، وظل ريفه الظليل، ومبسم مرآه الجميل وظبائه الجآذر، ولها بينهم مقيل فنان حسرة بين عوادها، وتبكي وإنما بدلت قطعة من فؤادها، إلى أن عادت بلطيف الحيلة، إلى أكناف تلك الجميلة، فذهب بحق صبابتها باطلة، والتقى كل ذي دين وماطله. وحكي أن أبا الحسين ابن الأشكري المصري قال: كنت رجلا من جلاس الأمير تميم بن أبي تميم وممن يخف عليه، فأرسل إلى بغداد فابتيعت له جارية فائقة رائقة الغناء، فلما وصلت إليه، دعا جلساءه، قال: وكنت فيهم ثم مدّت السّتارة وأمرها بالغناء، فغنت: [الكامل] وبدا له من بعد ما اندمل الهوى ... برق تألف موهنا لمعانه يبدو كحاشية الرداء ودونه ... صعب الذرى متمنع أركانه فمضى لينظر كيف لاح فلم يطق ... نظرا إليه وصده أشجانه فالنار ما اشتملت عليه ضلوعه ... والماء ما سمحت به أجفانه

[ص 403] قال: فطرب الأمير تميم ومن حضر طربا شديدا، ثم قال: غنّي فغنت: «1» [البسيط] أستودع الله في بغداد لي قمرا ... بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه وهذا لمحمد بن زريق الكاتب. فاشتد طرب تميم وأفرط جدا، ثم قال لها: تمنّي ما شئت، فقالت: أتمنى عافية الأمير وسلامته، فقال: والله لا بد أن تتمني، [فقالت] على الوفاء أيها الأمير؟ فقال: نعم، فقالت: أتمنى أن أغني بهذه النوبة بغداد، فامتقع لونه وتغير وجهه وتكدّر المجلس، وقام وقمنا. قال ابن الأشكري: فلقيني بعض الخدم، وقال لي: ارجع فالأمير يدعوك، فرجعت فوجدته جالسا ينتظرني، فسلّمت عليه وقمت بين يديه، فقال: ويحك أرأيت ما امتحنّا به؟ فقلت: نعم أيها الأمير، فقال: لابد من الوفاء لها، ولا أثق في هذا بغيرك، فتأهب لتحملها إلى بغداد، فإذا غنّت هناك فاصرفها، فقلت: سمعا وطاعة، قال: ثم قمت، وتأهبت، وأمرها بالتأهب وأصحبها جارية سوداء له تعادلها «2» وتخدمها، وأمر بناقة ومحمل أدخلت فيه، وجعلها معي، وصرت إلى مكة مع القافلة، فقضينا حجنا، ثم دخلنا في قافلة العراق، فلما وردنا القادسية أتتني السوداء عنها فقالت: تقول له ستي، أين نحن؟ فقلت لها: نزول بالقادسية، فانصرفت إليها فأخبرتها، فلم أنشب أن سمعت صوتا قد ارتفع بالغناء منها، وغنت: [مجزوء الكامل] لما وردنا القادسي ... ة حيث مجتمع الرفاق وشممت من أرض الحجا ... ز نسيم أنفاس العراق

أيقنت لي ولمن أحب ... يجمع شمل واتفاق وضحكت من فرح اللقا ... ء كما بكيت من الفراق لم يبق لي إلا تجشم ... هذه السبع الطباق حتى يطول حديثنا ... بصفات ماكنا نلاقي قال: فتصايح الناس من أقطار القافلة: أعيدي بالله أعيدي، قال: فما سمع لها كلمة. [ص 404] قال: ثم نزلنا الياسرية «1» ، وبينها وبين بغداد نحو خمسة أميال في بساتين متصلة، ينزل بها الناس فيبيتون ليلتهم ثم يبكرون لدخول بغداد، فلما كان وقت الصباح، إذا بالسوداء قد أتتني مذعورة، فقلت: مالك؟ فقالت: إن سيدتي ليست بحاضرة، فقلت: ويلك! وأين هي؟ فقالت: والله ما أدري، قال: فلم أحس لها أثرا بعد تلك، ودخلت بغداد، وقضيت حوائجي بها وانصرفت إلى الأمير تميم، فأخبرته خبرها، فعظم ذلك عليه، واغتم له غما شديدا، ثم لم يزل ذاكرا لها، آسفا عليها. ومن أصواتها هذا: «2» [مجزوء الكامل] يا أيها الساقي الهوى ... ضجرا بأن صد الحبيب اسمع فإني قائل ... قولا سيعرفه البيب الحب داء ما يلين ... بمثل حرقته القلوب والحبّ ليس له سوى ... من قد كلفت به طبيب والشعر لأبي نواس، والغناء فيه في الطريقة الرابعة من الهزج.

180 - ومنهم - الكينو احمد بن محمد

ومن أصواتها: «1» [الطويل] تذكرت ريا وانبرى لك حبها ... ومن دونها الأعداء خزر عيونها وحنت قلوصي آخر الليل حنة ... فيا روعة ما راع قلبي حنينها حنت في عقاليها وشامت عيونها ... سنا البرق علويا فجن جنونها فقلت لها حني فكل قرينة ... مفارقها لا بد يوما قرينها والشعر للصمة بن عبد الله، والغناء في أول الثقيل، وهذا القول من قطعة جملتها ثمانية أبيات، وتمامها: وقلت لها حثي رويدا فإنني ... وإياك نخفي عولة سنبينها فما برحت حتى ارعوينا لصوتها ... وحتى انبرى منا معين يعينها ظللت بها أبكي بعين حزينة ... مراها الهوى حتى استهلت جنونها «2» [ص 405] تعز بصبر أن تلام فإنما ... على النفس ما جرّت وللنفس دينها 180- ومنهم- الكينو «3» احمد بن محمّد ابن أحمد اللخمي من أهل تونس، قال شيخنا أبو حيان: حضرت معه في بستان كان استدعاني إليه الكاتب أبو الحسن ديسم، وكان يحسن الضرب بالعود والغناء، وأنشد لنفسه هذا: [الرمل] كلّ معنى من معانيه بدا ... لست أسلو عن هواه أبدا مطلق الحسن خلا عن مشبه ... وأنا في الحب ممن قيدا

181 - ومنهم - أبو عبد الله اللالجي

إن غيّي في هواه رشدي ... وضلالي فيه لا شك هدى شهد الكون له أجمعه ... لا ترى في حبه من فنّدا وأنشد أيضا مما قاله في السماع: [مجزوء البسيط] ماذا يريد العذول مني ... صمّت عن العاذلين أذني بمهجتي شادن ربيب ... يسبي البرايا بكل فنّ رشا كنس قضيب آس ... رياض حسن هلال دجن قلبي مقيم على هواه ... إن ضجّ أو لجّ في التجني فحدثوا بالدلال عنه ... وحدثوا بالخضوع عني قال: ولما توفي الداعي المسمى بالفضل ملك إفريقية، كان هذا ابن الإمام يمدحه ويهجو من عاداه، ويصرح بذلك في تونس، فلما قتل الدعي وتولى أبو حفص، قتله لما كان بلغه من ذمه وهجيه «1» . 181- ومنهم- أبو عبد الله اللالجي [الطويل] تعاللت كي أشجى وما بك علة ... تريدين قتلي قد ظفرت بذلك وقولك للعواد كيف ترونه ... فقالوا قتيلا قلت أيسر هالك لئن ساءني أن نلتني بمساءة ... لقد سرني أني خطرت ببالك «2» وهذا آخر معروف بالغناء [ص 406] بالجانب الغربي على ما أنفذنا فيه وسع الحيلة، وتسمحنا فيه لتكثير الفئة القليلة، وقد تكلفنا له فوق الجهد

182 - ومنهم - ناطقة جارية الزاعوني

والطاقة، ودخلنا فيه من الباب والطاقة. فأما مصر فإنها وإن حوت الجماهير، وجمعت المشاهير، فإن أفراد أهل الغناء بها أقل من وجود الصديق، وجود الزمان الخالي من الترنيق، ومنهم أناس سنذكرهم وتعرفهم ولا تنكرهم. 182- ومنهم- ناطقة جارية الزّاعوني «1» جارية تفتك بالمهج، وتقبل ولا إثم عليها ولا حرج، هزّت من قدها رمحا، وسلّت من أجفانها سيفا لا يعرف صفحا، فملكت القلوب عنوة، وأنست الهوى المغلوب علوة، وكانت في أفق الدور الأموية شمس صباحها وبدر صباحها وكأس شمولها، وقصارى مأمولها، إلى أن غلبت الأهواء، وأعلت وأغلت الدواء، وأضحت تجاور في قتل أهل الغرام بها عودا إلى أن ينطلق له لسان، ولا يسفك بمثل إشارته دم إنسان، وكانت أيام الإخشيد تغشى مجلس ابن الفرات، وتحاور منه في جانب النيل الفرات، وكان يصلها بالمواهب، ويقدمها على كل مواظب، ثم قطعها أيام المعز، وكان لها لا يبزّ. ومن أصواتها المشهورة: «2» [الطويل] إذا كنت ذا تعس جواد ضميرها ... فليس يضير الجود إن كنت معدما رآني بعين الجود فانتهز الذي ... أردت ولم أفغر إليه بها فما ظلمتك إن لم أجزك الشكر بعدما ... جعلت إلى شكري نوالك سلما وإنك لم تترك يداك ذخيرة ... لغيرك من شكري ولا متلوما والشعر لمسلم بن الوليد، والغناء فيه في مزموم الرمل.

183 - ومنهم - بديع جارية المحلمي

183- ومنهم- بديع جارية المحلميّ وكانت جارية سمراء تحكي الأسمر البرني قدّا كأنه أنبوب، والأبيض الايزني «1» طرفا [ص 407] تقدّ به القلوب، كأنما خلقت من ليل كله سحر، وسواد طرف ملؤه حور، ألذ من الظل للمحرور، وأحسن من اختلاط مسك وكافور، وكان سيدها قد أخذها بالتأديب، واقتنصها من البر اقتناص الظبي الربيب، واشتراها صغيرة من مولدات الصعيد، وحظي بها إنه لسعيد، ولقيت أهل التعليم، وبقيت تفهم بالإيماء فهم التكليم، حتى كانت إذا نطقت أذابت صبر الجليد، وألانت قلب الجلمد والحديد. ومن أصواتها المشهورة: «2» [الرمل] بدل الطرف من النوم السهر ... حين صد الظبي عني وهجر رشأ أودع قلبي حسرة ... وحمى عيني من الدمع النظر وله ثغر شتيت نبته ... وبعينيه من السقم حور بأبي ذاك حبيبا هاجرا ... لم يدع في الحب عنه مصطبر والشعر لابن الرومي، والغناء فيه في مزموم الرمل. وكذلك من أصواتها: «3» [الكامل] بان الخليط وفاتني برحيله ... خود إذا ذكرت لقلبك يشغف تجلو بمسواك الأراك منصبا ... عذبا إذا ضحكت تهلل ينظف وكأن ريقتها على علل الكرى ... عسل يصفى في القلال وقرقف وإذا تنوء إلى القيام تدافعت ... مثل النزيف ينوء ثمّت يضعف

184 - ومنهم - صافية جارية بدر أمير الجيوش

والشعر لأعشى همدان، والغناء فيه في ثاني ثقيل. 184- ومنهم- صافية جارية بدر أمير الجيوش «1» وكانت شمسا لا تصلح إلا لبدر، وقلبا لا يضم إلى كل صدر، لا تطرف له عنها عين غافية، ولا تكدر «2» له في النطف صافية، وكانت تزري بالقضيب، وتسبي بالبنان الخضيب، وتسفه رأي الملك الضليل، إذ قال: (أفاطم مهلا بعض هذا التدلّل) «3» ، والصادق الحب جميل إذا شكا من حب بثينة التململ «4» ، لا يعلق له بغيرها أمل، ولا يرى إلا أنه بها قد تم تمامه وكمل، لا تلائم جنبه إذا فقدها المضاجع، ولا [ص 40] إذا وجدها قال جفنه للنوم متى أنت راجع، وكانت قمرية مجلسه، وأيكة دوحه النابت في مغرسه، ولها أصوات في أشعار مختارة، وكانت لا تميل إلا إلى هذا ومثله، ولا تعجب إلا به وبشبهه. ومن أصواتها المشهورة: «5» [الطويل] وإن دما لا تعلمين جنيته ... على الحي جاني مثله غير سالم ولكن لعمر الله ما طل مسلما ... كغر الثنايا واضحات الملاغم

رمين فأقصدن القلوب ولم نجد ... دما مائرا إلا جوى في الحيازم وخبّرك الواشون أن لا أحبّكم ... بلى وستور الله ذات المحارم والشعر لأبي حية النميري «1» ، والغناء فيه في ثاني الرمل، ولها أصوات في شعر الصمة بن عبد الله، كان يقترح عليها، فمنها هذا: «2» [الطويل] لعمري لئن كنتم على النأي والقلى ... بكم مثل ما بي إنكم لصديق إذا زفرات الحب صعدن في الحشى ... رددن ولم تنهج لهن طريق ومنها أيضا: «3» [الطويل] إذا ما أتتنا الريح من نحو أرضها ... أتتنا برياها وطاب هبوبها أتتنا بريح المسك خالط عنبرا ... وريح خزامى باكرتها جنوبها ومنها أيضا: [الطويل] نظرت وطرف العين يتبع الهوى ... بشرقي بصرى نظرة المتطاول لأبصر نارا أو قدت بعد هجعة ... لريا بذات الرمث من بطن حائل ومنها أيضا: [الطويل] خليلي قوما فاشرقا القصر فانظرا ... بأعياننا هل يؤنسان به الرندا فإني لأخشى أن علوناه علوة ... ويشرق أن يزداد ويحكما وجدا نظرت وأصحابي ندورة نظرة ... فلو لم تفض عيناي أبصرتا نجدا [ص 409] إذا مر ركب يصعدون ظننتني ... مع الرائحين المصعدين لهم عبدا

185 - ومنهم - عيناء جارية بدر أمير الجيوش

وكلها في أزمان. 185- ومنهم- عيناء جارية بدر أمير الجيوش وكانت جارية جائرة، فاتنة فاترة، تتلفت تلفت الريم، وتسفر إسفار الصباح في الليل البهيم، بمحيا لو غاب البدر ثم أسفرت أطلعته، وعيون لو نظرت إلى سرب المها صرعته، مع إحسان في كل ضرب، وأجفان تقيم كل حرب، وظرف ما كان مثله لعريب جارية المأمون، ولا لبدعة وهي التي مثلها في الدنيا لا يكون، وكان بدر يرى أنها شمس نهاره، وأسمى أقماره. ولها عدة أصوات مشهورة، فمنها هذا: «1» [الطويل] وهل خلة معسولة الطعم تجتنى ... من البيض إلا حيث واش يكيدها مع الواصل الواشي وهل تجتني يد ... جنى النحل إلا حيث نحل يذودها والشعر لابن الرومي، والغناء فيه في الثقيل. ولها صوت في شعر الصمّة بن عبد الله: [الطويل] أمارد ردّي منّة الوصل بيننا ... ولا تشمتي بي الكاشحين الأعاديا أمارد لا والله ما بي عن البكا ... عزاء وما فيه شفاء لما بيا والغناء فيه رمل مزموم، ولم تقع إلينا من أصواتها سواهما. 186- ومنهم- مغنّي الصّالح بن رزّيك «2» وكان لا يزال يغشى منزله، ويستدعي أنسه، ويشغله عن كل خاطر، وكان

مجيدا في علم الغناء، إذا غنّى اطّرح الوقار، ورمى الأوائل بالاحتقار، وكان يغنيه غناء عاما، ويدنيه إدناء تاما، وصنع عدة أصوات في مواضع من شعره، كان يقترحها عليه ويقترحها من إضاءتيه، وكان لا يزال حباؤه متكاثرا لديه متواترا تواتر المطر السكوب اليه. وحكي أنه غنّى يوما [ص 410] بين يديه: «1» [البسيط] ودّع هريرة إن الرّكب مرتحل ... وهل تطيق وداعا أيّها الرّجل فوثب القاضي الفاضل وكان إذ ذاك يكتب للصالح، وأنشأ يقول: [البسيط] دعوا هريرة إن حلت وإن رحلت ... فيكم تحل وعنكم ليس ترتحل على فترة للجود عارضة ... فما رأى الناس إلا أنكم رسل دمتم لنا وأدام الله دولتكم ... وسخرت لكم الأملاك والدول هذا شجاع وهذي مصر في يده ... والعمر والحسن والإقبال مقتبل فوقعت منه وممن حضر ألطف موقع، وأمر المغنّي فصنع فيه صوتا، وغنّي به لوقته.

187 - ومنهم - سرور جارية العزيز

187- ومنهم- سرور جارية العزيز «1» وكانت لا تعدل بها امرأة، ولا تذكر بقبيح إلا كانت عنه مبرأة، وكانت جارية لامرأة بالقاهرة، علّمتها الخط وحفّظتها القرآن، وعلمتها النحو واللغة والأدب، وروّتها الأشعار، ووفّرتها على تصفح الأخبار، وأخذتها بصناعة الغناء، حتى فاقت كل جارية كانت تسمى، ولا تماثل بها ظلوم وأمثالها إلا ظلما، ورءاها العزيز زمان أبيه فهوي بها ولم يقدر على ملك رقها خوفا من أبيه، حتى ملك السلطنة ووليها، وكانت بينهما مدة حياة أبيه مراسلات وأشاير وعلامات وأماير. حكي أنها أهدت إليه مرة أكرة من العنبر فيها زر من الذهب، فلم يفهم معناه، ولا كشف معمّاه «2» ، فأخبر الفاضل وكان لا يكتمه من أمره حاضرة ولا غائبة، ولا آئبة ولا ذاهبة، فأنشده الفاضل: [السريع] أهدت لك العنبر في وسطه ... زرّ من التّبر خفي اللحام والتّبر في العنبر معناهما ... زر هكذا مختفيا في الظّلام وكتبت إليه مرة أخرى رقعة تعرض عليه فيها أن يشتريها، وكتبت في أولها قول [ص 411] ابن الرومي: «3» [المنسرح] كثّر بشخصي من اصطنعت من الن ... اس وإن لم أزنك لم أشن «4» ما حقّ من لان صدره لك بال ... ود لقاء بجانب خشن

188 - ومنهم - فنون العادلية

فلم يكن له هم إلا مشتراها أول ما ملك. ومن أصواتها المشهورة: [الكامل] ومهفهف حلو اللمى خنث ... سبقت محاسنه إلى الوصف كالليل قد جمعت كواكبه ... في موضع التقبيل والرشف والشعر لابن الجلال المصري، والغناء فيه لها. وحكي أن العزيز هوي عليها جارية اسمها ألوف، فتبدّل بها حال سرور، وتنكرت عليها بسببها من أحوال العزيز أمور، فلما رأت ازورار جانبه وتقلّص أنسه من جوانبه، أخلدت إلى القطيعة، وعصت فيها نفسها المطيعة، فأخذته العزة حتى صار انجماعه غضبا، وفتوره عنها لهبا، وهم بإخراجها من داره، فخافت بأس اقتداره، وأتت إليه قبل اقتداره، ولم تكلمه حتى ترامت على قدميه، واندفعت تغني بين يديه: «1» [البسيط] وأنتم النخلة الطولى التي بسقت ... قدما وبورك منها الأصل والطرف فإن زوى عني الجمار طلعته ... فلا يصبني [بحدي] شوكه السعف والشعر لابن الرومي، والغناء فيه خفيف الرمل، فلم يتمالك العزيز أمر نفسه حتى ضمها إلى صدره، وقبلها وبلغها من عود عاطفته أملها؛ ثم رجع إليها الكرّة وترك هوى ألوف، ولا أليف لها إلا طول الحسرة. 188- ومنهم- فنون العادليّة جارية تعيب البدر إذا بزغ، وتعين الشيطان إذا نزغ، بصورة جلّ خالقها، وجلب الكرى المشرد ليراعها عاشقها، أقتل من الصدود وأقل رضى من الشيء

المعدود، [ص 412] بتأت يعذر به من أحبّها، وملك قلبه حبّها، أهديت من ملوك الروم إلى الملك العادل، ودنت فأسكت نايها كل مجادل، وكانت حاذقة بالضرب بأنواع الملاهي، مغلبة للمباهي، إلى طيب مجالسة، وإمتاع مؤانسة، وابتداءات مبهتة، وأجوبة مسكتة، وكانت زينة القصر، وجليلة ذلك العصر. ومن مشاهير أصواتها: [مجزوء الكامل] أدر المدامة يا نديم ... واطرب فقد رق النسيم واملأ كؤوسك واسقني ... صفراء صانعها حكيم من كف أهيف كالقضيب ... كلامه العذب الرخيم ومن العجائب طرفه ... لي مسقم وهو السقيم رقت معاقد خصره ... وكأنه جسمي الأليم دبت عقارب صدغه ... فلذاك عاشقه سليم والشعر لابن محارب من قصيدة يمدح فيها الصاحب بن شكر، ومنها في المديح: ومديح مولانا الوزير ... هو الصراط المستقيم يروى براحته الصدى ... ويرى بطلعته النعيم وله حديث مكارم ... تروى ومسندها قديم في كفه القلم الذي ... وجه الزمان به وسيم وخطابه الحق المبي ... ن وخطبه النبأ العظيم قبل يديه مبادرا ... فبيمنه يشفى الكليم وكذلك من أصواتها في شعر الباخرزي: «1» [المتقارب] أروح وفي القلب منّي شجى ... [و] أغدو وفي القلب منّي شجن

أبكي ولا طوق لي بالفراق ... إذا ذات طوق بكت في فنن فللماء في مقلتي ما بدا ... وللنار من مهجتي ما كمن [ص 413] ومن لجفوني بشيء نسيت ... وأحسبه كان يدعى الوسن وحكي أنها دخلت عليه بكرة يوم والصباح المقبل قد ركض جبينه في أحشاء الشجر، ونفض العنبر المغلف على أصداغ الطرر، والشمس قد همت بأن تحدر النقاب، ثم تمنعت وتطلعت من الألقاب «1» ، والفضاء قد أصبح فضيا، والروض قد أضحى سماويا أرضيا، والطير قد هتف للإعجاب، وبشر بتقشع الظلام المنجاب، والماء قد أرفضّ «2» إذ تكشّفت السماء، ولم يبق بينه وبينها حجاب، فسرّ بزيارتها، وقدح زند فجره المشرق بأثارتها، واستدعى منها الغناء فغنت: [الخفيف] مرحبا بالصباح لما وافى ... وانتضى في الدجى له أسيافا رافعا في الظلام جنح دجاه ... عاجلا مثلما رفعت السجافا مثل سيف الدين المليك المفدى ... عندما جاء شقق الأسدافا كان كل الزمان بالظلم ليلا ... فمحاه واطلع الإنصافا فأعجبه الشعر والغناء، وهما لها، ثم سألها حاجتها، فذكرت له أسيرا في يد الفرنج سئلت فيه الفداء فعجل به.

189 - ومنهم - عجيبة مغنية الكامل

189- ومنهم- عجيبة مغنّية الكامل «1» وكانت في نساء زمانها عجيبة، وفي أوانس أخدانها غريبة، من المغاني المشهورات، الغواني المذكورات، شغف بها الملك الكامل على دثور عقله، ووفور فضله، وكان لا يصبر عنها ليلة من الليالي، ولا يدع استرازها ولو بين تشجّر العوالي، وكانت ظريفة تأخذ بمجامع القلوب، وتخلب صوادف النفوس، وكانت تطلع إلى الملك الكامل وجنكها «2» محمول معها ووراءها الجواري والخدم، وكانت تحضر مجلسه سرا وعلانية، وتغنيه على الجنك وبالدف، وبها قدح فيه ابن عين الدولة القاضي لما قال له الملك الكامل في قضية من القضايا: أنا أشهد عندك بكذا، فقال: السّلطان يأمر وما يشهد، فأعاد عليه السلطان القول [ص 414] وأعاد عليه القاضي الجواب، فلما زاد الأمر، قال له السلطان: أنا أشهد، تقبلني أنت أولا؟ فقال: لا ما أقبلك، وكيف أقبلك وعجيبة تطلع إليك بجنكها كل ليلة وتنزل، تأتي يوم بكرة وهي تتمايل على أيدي الجواري والخدم، وينزل ابن الشيخ من عندك أنحس مما نزلت، فقال له السلطان (يا كنفرخ) وهي لفظة شتم بالفارسية، فظن ابن عين الدولة أنه قال له: كل فراخ، فقال: ما في الشرع كل فراخ، اشهدوا علي أني قد عزلت نفسي، وقام فجاء ابن الشيخ إلى الملك الكامل وقال له: المصلحة إعادته لئلا يقال لأي شيء عزل

القاضي نفسه، فيقال «1» : لأنه شهد السلطان عنده فما قبله، فيقال: لأي شيء ما قبله؟ فيقال: لأجل عجيبة، فتتمضمض بنا العوام، وتطير بها الأخبار إلى بغداد وإلى الملوك، فقال: صدقت، ونهض إلى القاضي فترضّاه، وأعاده إلى القضاء، وتأخر الأمر الذي كان يريد أن يشهد به. عدنا إلى ذكر عجيبة والذي نعرف من أصواتها: [البسيط] رفقا على ما أبقيت من رمقي ... لا تأتسي لي بأن أبقى ولا تبقي «2» هيهات أين البقا من موجع كمد ... عليك صب بنار الشوق محترق يا سائلي عن دمي لا تطلبوا أحدا ... بعدي به فدمي المسفوك في عنقي إني حملت على نفسي لشقوتها ... مثل الجبال من البلوى فلم تطق فمن رأى ليت شعري مثل موقفنا ... يوم النوى أبحرا تجري من الحرق يا آمري في دموعي بعد ما فنيت ... بأن أصون وأحمي ما عساه بقي والشعر لابن حجاج. وحكي أنه أمر بها فأحضرت والغيم قد فرق في السماء قطعه، وطرز مذهّب البروق خلعه، وتشرين قد أرسل نجائب السحائب محبرة، والخريف قد جاء وراياته المختلفة مبشرة، وثغر الروض قد راق، ووقت السرور قد لاق، ولمى النهر قد حلا في فم من ذاق، وحر الهجير قد خمد لهيبه، وسبج «3» الفحم قد آن في المواقد ذهيبه، والبيوت قد هيّئت للكنّ، والمنازل [ص 415] قد قربت إلى الدنّ، والرواق قد رفعت صلبه المعلقة، والكؤوس بنطف الماء مخلقة وغير مخلقة، وقد حصل العود والعود، وأزلف المجلس لتطلع فيه طوالع السعود،

واندفعت تغنّي بصوت صنعته في بعض المشارقة، وصدعت به صباح تلك الشارقة، وهو هذا: [الطويل] مشوق إذا ما ارتاح هيجه الحب ... وصب لوبل الدمع في خده صب وإن لاح وهنا برقه منه ينثني ... وفي جفنه للدمع قد خده غرب نضا عضب جفنيه عليّ عذاره ... فمن مهجتي جفن ومن جفنه عضب يعذب قلبي ظالما عذب ظلمه ... ولكن تعذيبي لمرشفه عذب «1» فلم يبق في المجلس إلا من مال، ودب للسكر بطربها في مفاصلهم نمال، واستدعى بها يوما وهو بداره بالفسطاط «2» المطلة على النيل، وقد نضدت رواشنها «3» ، وتلبثت قدامها أنواع المسك، وبرزت وعليها جواشنها «4» ، والنيل قد صفى مشربه، وخفي بتكاثر الأمواج مسربه، والبرق قد كحل جفن السحاب بمروده، والليل قد ذرّ في عين الشمس من إثمده «5» ، والهلال بقطع الغيم قد احتجب، والهلال المولي قد بلّل جناحه ليطير، وهذا من العجب في وقت غفل عنه الرقيب، ولم يحضره إلا مثل إسحاق أو حبيب، وأقبلت تحدثه وتغنّيه، وتفتح على يديه السؤل وتمنيه، وممّا غنته من أصواتها، والشعر قديم: [المنسرح] دعه يداري فنعم ما صنعا ... لو لم [يكن] عاشقا كما خضعا «6» وكل من في فؤاده وجع ... يطلب شيئا يسكن الوجعا وا رحمتا للغريب في البلد النا ... زح ماذا بنفسه صنعا

فارق أحبابه فما انتفعوا ... بالعيش من بعده ولا انتفعا ودام معها ليلته كلها، والبدر لا يعرف السرار، والبحر لا يدرك له قرار، والشموع كأنها عشاق تجري دموعها وتلتهب قلوبها الحرار، حتى هم الفجر أن يبوح بسره المكتوم، ويفك عن سفط النجوم طوابع الختوم، وقطرت أعطاف السحب متصببة، وجرت [ص 416] دموع النرجس في خدود الشقيق متصوبة، وقارب طلوع الصباح والجو بين برديه، وسيف البرق بين غمديه، واضطرب النسيم مذبذبا مبلبلا تلك الحدائق، واضطر الفجر إلى أن يقبل في ثغر الصبح المفتر تلك العقائق، فأشرف الملك الكامل، ومن مجر الرعد قد هول، والصباح الآتي قد فض ذيل الليل وقصر منه ما طول، فدعاها إلى الصبوح، وأقام بوجهها عذره عند الدهر الصفوح، فلما دارت به الحميّا، وذكرته هندا وميّا، أمرها أن تصنع لحنا في شعر بعض متيمي العرب، فصنعت في شعر ذي الرمه: «1» [الطويل] أراني إذا هومت ياميّ زرتني ... فيا نعمتا لو أن رؤياك تصدق «2» يلوم على ميّ خليلي وربما ... يجور إذا لام الشفيق ويحرق غداة منى النفس أن تسعف النوى ... بميّ وقد كادت من الوجد تزهق لها جيد أم الخشف ريعت فأتلعت ... ووجه كقرن الشمس ريان يشرق «3» فوقع منه موقعا كان يجتذبه، ويأخذ بسمعه إليه ولو أراد أن يجتنبه، ثم أفاض عليها سجاله، ووسع في الكرم عليها محاله ومما يتبقى من محاسن هذه القصيدة المختار منها الصوت: «4»

190 - ومنهم - الكركية

وتيهاء تودي بين أرجائها الصبا ... عليها من الظلماء جلّ وخندق «1» غللت المهارى بينها كل ليلة ... وبين الدجى حتى أراها تمزق «2» فأصبحت أجتاب الفلاة كأنني ... حسام جلت عنه المداوس مخفق «3» نظرت كما جلى على رأس رهوة ... من الطير أقنى ينفض الطل أزرق «4» طراق الخوافي واقع فوق ريعة ... ندى ليلة في ريشه يترقرق «5» 190- ومنهم- الكركيّة مغنية الظاهر بيبرس «6» ، وكانت من أبرع الناس نطقا، وأبدع أهل الغناء حذقا، تجيد لمختلف الأصوات التآلف، وتجوز الغاية في الثقيل والخفيف، وتأتي بما بعد على بدعة في زمانها، ولم تنفرد به فريدة في أوانها، ولا تجيء دنانير حبّة في [ص 417] ميزانها، هذا إلى قريحة قادرة، وحلاوة في نادرة، وسرعة جواب، وصنعة إتقان لا يخرج اللحن فيها عن صواب.

حكى لي شيخنا أبو الثناء الحلبي عنها قال: لو كنت أستحسن أخرج خبية لأضحكت به الحزين الثاكل، واقتديت به الجحود الناكل، وبهذا ومثله كانت تستلين من الظاهر وأهل دولته أولئك الصخور، وتستنزل أولئك الشم وما منهم [إلا] كلّ مختال فخور، وهيهات إن كان يندى لأحد منهم راحة، أو تبل لواحد منهم يد بسماحة. ومن أصواتها: [الكامل] سن الظّبا من طرفه الوسنان ... ورمى فراش سهامه ورماني «1» وبدا فذاب البدر من حسد له ... فلذاك ما ينفك من نقصان ماء النعيم يرف في وجناته ... يسقي رياض شقائق النعمان «2» قالت عقود نهوده لقوامه ... من أنبت الرمان في المرّان «3» والشعر للتاج بن نصر مظفر بن محاسن بن علي بن نصر الله الدمشقي المزوق الذهبي، وكذلك صنعت لحنا كانت تغني به في شعر ابن الحلاوي: [الطويل] حكاه من الغصن الرطيب وريقه ... وما الخمر إلا وجنتاه وريقه هلال ولكن أفق قلبي محله ... غزال ولكن سفح عيني عقيقه وأسمر يحكي الأسمر اللدن قدرة ... عذارا سقى قلب المحب رشيقه على خده جمر من الحسن مضرم ... يشب ولكن في فؤادي حريقه أقر له من كل حسن جليله ... ووافقه من كل معنى دقيقه

على سالفيه للعذار جديده ... وفي شفتيه للسّلاف عتيقه وكذلك صوتها في شعر راجح الحلي: [الوافر] فؤاد عن هواكم لا يحول ... وجسم ماد يخفيه النّحول [ص 418] فكيف يميلني عنكم ملام ... ويطمع في مخادعتي عذول أبى لي أن أبيت صحيح قلب ... نسيم من خيامكم عليل سأبعث في القلوب لكم سلاما ... رجاء أن يقابله قبول أحملها تحياتي إليكم ... لو أنّ الريح تفهم ما أقول وهذه من أول قصيدة طنانة في كل سمع، منها: ومما شاقني لمعان برق ... طربت له وقد جنح الأصيل تلبّس في عبوس الدجن حتى ... تحدر دمع ديمته الهطول أراني بالفرات نخيل أرضي ... وغاب ولا الفرات ولا النخيل يقول منها: وذي أمل يحث به المطايا ... وأدنى السير وخد أو ذميل أقول لهم هلم فأي عذر ... لسعيك أن يجاريك الدليل أمامك ظل عز الدين فانزل ... بأبلج لا يضام له نزيل وراءك أيها الراجي مداه ... فدون بلوغه طرف يهول تزحزح عن طريق العيب واطلب ... نجاة لا تغيرك السيول به سار من السلطان يعلي ... دعائم ملكه وبه نصول رعينا في جناب أبي سعيد ... رياضا لا تحول بها المحول تراوح زهره ريح التصافي ... ويضحك نوره الغيث الهطول

فلا عدمت توافي الشعر مولى ... إلى الآمال أنعمه تميل وكذلك صوته في شعره أيضا: [الطويل] ملكت كما شاء الهوى فتحكم ... وإلا ففيم الهجر لي وإلى كم ولو جحدت عيناك قلبي وأنكرت ... أقرّ به خطّ «1» العذار المنمنم متى تسمح الأيام منك بعطفة ... وهل في منى من راحة لمتيم [ص 419] وهبني أرضى بالخيال وزورة ... فمن لي [بمن] بجفو يجفن مهموم «2» وهذه من قصيدة مدح بها المعظم عيسى: وفي شعب الأكوار أبناء مطلب ... شعارهم ترصيع شعر منمنم هداهم غلام من خزيمة عالم ... بقطع الفيافي بالمطي المحرم إلى ملك من دوحة شادوية ... يفيء على ورد من الجود مفعم إلى الأبلج الطلق الذي قد غدا به ... مشوقا [له] من دهرنا كل مظلم إلى من كان [فيه] لا يدين بظله ... من الأمن ما بين الحطيم وزمزم «3» تريه وجوه الغيب مرآة فكره ... فيؤمنه من كل ظن مرجم ويغشى غمار الموت في كل معرك ... يراع له قلب الخميس العرمرم ويطربه خلع النفوس على العنا ... إذا رنحت أعطافها حمرة الدم له نشوة في الجود ليست لحاتم ... وشنشنة في المجد ليست لأخزم يقول منها في وصف القصيدة:

191 - ومنهم - الزركشي أبو عبد الله

فدونكها أحلى من الأمن موقعا ... وأطيب من وصل إلى قلب مغرم إذا حدثت أبياتها عن غلامكم ... عدت أم أوفى دمنة لم تكلم «1» 191- ومنهم- الزّركشي أبو عبد الله ناصر الدين الفقيه الحنفي، فقيه بارع، ونبيه لكل علا قارع، هذا على أنه أتقن علم الموسيقا وحققه، وأجال النظر في فنها ودققه، ووقف منها على طرف الأوائل التي عفا أثرها، وذهب أكثرها، وبقيت كمدارج النمل الخوافي، ومناهج الرمل تحت السوافي. حدثني ابن كرّ عنه أنه كان في صناعة الزركش بدمشق، ثم كان فقيها بالمدرسة الشبلية بسفح قاسيون «2» بين ظهراني الفقهاء، ويجتمع إليه أهل الطرب والإلهاء، ودام على هذه المدة ثم تخرّصوا له المعايب، وأرادوا ترديته بالمثالب، فأتى مصر واتخذها دارا وقرارا حتى مات. قيل: وكان واحد زمانه [ص 420] لا يقصر عن الأوائل، قال: وهو ممن أخذت عنه، واستفدت منه، وكنا نجتمع ونتذاكر، وتنفد وننكر (؟) صبيحة كل يوم يسمع كل واحد منا صاحبه، ولم أر مثله، وحدثني عنه غيره. وله اصوات منها: «3» [الخفيف] خبروها أني مضيت «4» فقالت ... أضنى طارفا شكا أم تليدا

192 - ومنهم - ابن كر أبو عبد الله

وأشاروا بأن تعود وسادي ... فأبت وهي تشتهي أن تعودا وأتتني في خيفة وهي تشكو ... ألم الوجد والمزار البعيدا ورأتني كذا فلم تتمالك ... أن أمالت عليّ عطفا وجيدا والعشر للطغرائي «1» ، وكذلك صوته في شعر الحاجري، وهو هذا: [الطويل] بحقك ذكّرها العقيق لعلها ... تجد راحة في عودها وسراها إذا ما حدا الحادي بنجد تمايلت ... كأن سلافا في النشيد سقاها كأنكم يوم الرحيل رحلتم ... بنومي فعيني لا تلذ كراها وكنت شحيحا من دموعي بقطرة ... فقد صرت سمحا بعدكم بدماها وكذلك صوته في شعر ابن حجاج، وهو هذا: «2» [البسيط] نامي هنيئا لعينيك الرقاد فما ... أمسيت أعرف إلا السهد والأرقا وإن أردت حياتي فاحفظي رمقي ... إن كان عندك شيء يمسك الرمقا يا شامتا إذ رأى قلبي رهين أسى ... وشر ما فيه أن الرهن قد غلقا إن فرق الدهر شخصينا مراغمة ... فثمّ قلبان لا والله ما افترقا 192- ومنهم- ابن كرّ أبو عبد الله الشيخ شمس الدين محمد البغدادي الأصل، المصري الدار والمولد، هو في علم الموسيقى فرد لا يخلف، لحق بالأوائل وما تخلف، وأتى ببدائع الألحان وما تكلف، [ص 421] لا يختبي على مثله الوجود في بردتيه، ولا يجنى شبيه

النهار بكره وآصاله «1» بوردتيه، يطرب قبل الإنشاد، ويحرك حتى الجماد، وتخرس لديه أصواته المثاني والمثالث وما تجنح، وتهتز المغاني والأغاني وما يتزحزح، نقل مذاهب القدماء، كابن المهدي وإسحاق «2» ، وجدد طوالع تلك الأهلة التي أكلها المحاق، لا يمر به صوت مما ذكره أبو الفرج الأصفهاني إلا ويجيء به ويجيده، ويعيده ويزيده، وصنف كتابا يقال له أحسن ما صنف لجمع وشنف لسمع، وقد خطأ الفارابي «3» في هذا العلم، وأنكر عليه أهل المعرفة ثم سلموا إليه أنه إنما قاله عن علم، وابن كرّ هذا من بيت امرأة تناقل سلفه في بغداد إرثها حتى ملكها التتار، فلزم أبوه مصر، فأجري عليه راتب عاد إلى ابنه هذا بعضه، وهو الآن في زاوية قرب المشهد الحسيني بالقاهرة المعزية [أقطعها] «4» من وقفه أو وقف أبيه، وله عز نفس، وشمم عفاف، ما اتخذ هذه الصناعة الطربية إلا ريحانا له لا استرزاقا به، وله بي صحبة أعرف حقها له، كان يتردد إليّ ويتودد ويتفقد ولا ينفقه، ولقد غنى فأضحك وغنى فأبكى، وغنى فأنام، فرأيت بعيني منه ما سمعته أذناي عن الفارابي، فصدق الخبر الخبر، وحقق العين الأثر، ورأيت منه واحدا، سبحان من وهبه ما لا هو في قدرة البشر.

وله أصوات في أشعار لي، فمنها قولي: «1» [الكامل] أفدي حبيبا قد فتنت بحبه ... لو كان يرثي للمحب إذا شكا والله ما هبت نسيم دياره ... إلا اعتلقت بذيلها متمسكا يا عين أنت شكيتي في حبه ... لما نظرت له وأنت المشتكى قالت عليك بأدمعي فأجبتها ... لو كان دمعي البحر أفناه البكا ومنها قولي: «2» [الطويل] قفاني على الوادي أودع مهجتي ... وأستودع الأحباب مني ما بقي فيا ليت شعري هل نعود إلى الحمى ... ويجمعنا سفح الكثيب فنلتقي [ص 422] ونعقل في ظل النخيل ركابنا ... ونشرب من ماء الغزير ونستقي «3» ونشكو الذي نلقاه من ألم الهوى ... وهيهات ما عند الحبيب تشوقي ومنها قولي: [مجزوء الرمل] يا أخلائي بنجد ... لي فؤاد مستهام وجفون قد جفاها ... بعد أجفاني المنام إن وصلتم فسرور ... واغتباط والتئام أو هجرتم- وكفينا- ... فعلى الدنيا السلام

قال محقق الكتاب: تم السفر العاشر من كتاب مسالك الأبصار في ممالك الأمصار.

ملحق بالمصطلحات الموسيقية

ملحق بالمصطلحات الموسيقية

مصطلحات الموسيقا العربية القديمة

مصطلحات الموسيقا العربية القديمة 1- بعد البقية: هو أصغر الألحان اللحنية، ومسافته كل وثلاثة عشر جزءا من مئتين وثلاثة وأربعين 256/243. 2- بعد المجنب: ونسبته كل وتسع كل 10/9 إذا كان كبيرا، وجزء من خمسة عشر جزءا من كل 16/15 إذا كان صغيرا. 3- البعد الطنيني: هو حبس تسع الوتر واهتزاز ثمانية، اتساعه ونسبته كل وثمن كل 9/8. 4- بعد ذي الربع: ونسبته كل وثلث كل وهو حبس الوتر واهتزاز ثلاثة أرباعه 4/3، وسمي بذي الأربع لاحتوائه على أربع نغمات محيطة بثلاثة أبعاد في أكثر الأحيان، ويسمى عند الافرنج (تتراكورد) . 5- بعد ذي الخمس: ونسبته كل ونصف كل 3/2 وهو حبس ثلث الوتر واهتزاز ثلثيه، وسمي بذي الخمس لاحتوائه في أكثر الأحيان على خمس نغمات محيطة بأربعة أبعاد، ويسمى عند الإفرنج (بنتراكورد) . 6- بعد ذي الكل: هو الديوان الموسيقي (الأوكتاف) ونسبته نسبة الضعف 2/1 ويتكون من بعد ذي الأربع وبعد طنيني يسمى (الفاصلة) ، أو من بعد ذي الأربع وذي الخمس، وهو حبس نصف الوتر واهتزاز نصفه الآخر. 7- بعد ذي الكل والأربع: ونسبته نسبة الضعف والثلثين 8/3 وهو حبس ثلاثة أخماس الوتر واهتزاز خمسيه، ويتألف من بعد ذي الكل وذي الأربع.

8- بعد ذي الكل والخمس: ونسبته ثلاثة الأمثال 3/1 وهو حبس ثلثي الوتر واهتزاز ثلثه الآخر، ويتألف من بعد ذي الكل وبعد ذي الخمس. 9- بعد ذي الكل مرتين وهو ديوانان موسيقيان، ونسبته نسبة أربعة الأمثال 4/1، وهو حبس ثلاثة أرباع الوتر واهتزاز ربعه الآخر. 10- بعد ذي الكل ثلاث مرات: وهو ثلاثة دواوين موسيقية، ونسبته نسبة ثمانية الأمثال 8/1 وهو حبس سبعة أثمان الوتر واهتزاز ثمنه الآخر. 11- بزرك: كلمة فارسية معناها (الكبير) ، وهي في الموسيقا العربية اسم نغمة في المنطقة الحادة، تسمع من العود بالإصبع البنصر على الوتر الخامس، وهي صياح النغمة المسماة في الطبقة الوسطى (سيكاه) ، وتطلق (بزرك) أيضا على هيئة لحنية لجماعة أنغام مؤلفة تأليفا معينا، فيما يسميه أهل الصناعة مقام (بزرك) وهو اسم آخر لطريقة مقام (الماهور) . 12- بوسلك: وتسمى هنا (أبو سلمك، والسلمك) ، وهي تسمية اصطلاحية في الموسيقا لنغمة في الطبقة الوسطى تسمع من آلة العود فيما بين سبابة الوتر الثالث المسمى (دوكا) ، وبين نغمة وسطاه، ويسمى أيضا باسم (بوسلك) هيئة لحنية تسمى (مقام بوسلك) في المنطقة الوسطى، مؤسسة على نغمة (دوكاه) ، يستعمل فيها من الأجناس اللحنية الجنس ذو الأربعة المسمى (جنس بوسلك) وهو القوي الأرخى غير المتتالي، الذي يرتب فيه أصغر الأبعاد الثلاثة وسطا، وقد تسمى هذه الهيئة اللخنّية بمقام عشاق. 13- حجاز: اصطلاح في الموسيقا العربية، يطلق على النغمة الرابعة الزائدة قليلا بمقدار، بعد إرخاء مما يلي النغمة الرابعة الأساسية المسمى (جهار كاه) ، وتؤخذ على العود بالإصبع البنصر على الوتر الثالث، ويسمى

باسم حجاز أو حجازي هيئة نغم في المنطقة الوسطى تؤسس على النغمة الأساسية (دوكاه) وهي نغمة مطلق الوتر الثالث في العود. 14- الحسيني: اصطلاح في الموسيقا العربية يطلق على النغمة التي تسمع من سبابة الوتر الرابع في العود، وهو (وتر النواة) ، وسجاح هذه النغمة، أي نظيرتها بالقوة الأثقل هي نغمة (عشيران) ، وتسمع من مطلق الوتر الثاني المسمى وتر (العشيران) وتسمى باسم (حسيني) أيضا، هيئة لحنية لجماعة نغم تعرف (بمقام الحسيني) ، وتميز عند الإجراء باستعمال نغم الجنس القوي المرتكز على نغمة الحسيني، ثم تستقر على نغمة (دوكاه) التي هي مطلق الوتر الثالث في العود، ونغمة حسيني إذا لم تكن صياح مطلق وتر العشيران، فتحولت قليلا إلى جهة الثقل، فإنّها تسمى باسم آخر فهي تارة باسم (شورى) وتارة باسم (حصار) وهذه تسمع من العود قريبا من الأنف على وتر النواة. 15- الدستان: جمعها دساتين ودستانات، كلمة فارسية معناها اليدان، واصطلاحا: موضع أصابع اليد على العود. 16- الراست: كلمة فارسية بمعنى مستقيم، تطلق اصطلاحا على هيئة لحنية لجماعة النغم الأساسية في الموسيقا العربية، التي تعرف بالجماعة المستقيمة، واصطلاحا راست، ويسمى بهذا الاسم أيضا نغمة أساس الجمع المسمّاة (يكاه) ، وكذلك الجنس الأساسي ذو الأربع، وهو من أصناف الجنس القوي المتصل المسمى اصطلاحا (جنس الراست) . 17- راهوي: يستعمل اصطلاحا في الموسيقا العربية على هيئة لحنية تؤخذ من جماعة نغم، تستقر على درجة (الراست) فيما يسمونه (مقام راهوي) ، أو

(رهاوي) ، واستعمال المحدثين لهذا النغم يشبه (مقام الراست) وأما المتوسطون فكانوا يطلقون اسم (راهوي) على ترتيب جماعة أخرى غير التي يستعملها المحدثون. 18- الشهرناز (وجاء باسم الشهناز) : وهو اسم فارسي، معناه (مدينة الدلع) ، ويطلق اصطلاحا في الموسيقا العربية علي هيئة لحنية مركبة تبدأ من المنطقة الحادة بجنس الراست في الكردن، ثم بجنس الراست على النواه، على أن تجعل النغمة المسماة حسيني ظهيرا لجنس الراست النواه، ثم يختم بجنس البيات مؤسسا على الحسيني، وهو الجنس القوي غير المتتالي. 19- عراق: اصطلاح في الموسيقا العربية، تسمى به نغمة في المنطقة الثقيلة، تسمع في العود من مجنب سبابة الوتر الثاني المسمى وتر العشيران، ويختلف تحديد هذه النغمة باختلاف تسوية نغمة مطلق وتر العشيران، ونغمة صياحها بالقوة في المنطقة الوسطى، تسمى (أوج) ، ويسمى أيضا باسم (عراق) هيئة اللحن الذي يستقر على هذه النغمة المسمى باسم (العراق) ، والجنس المميز للحن هذه الجماعة هو القوي المتصل الأشد غير المنتظم. 20- عشاق: اسم آخر لهيئة اللحن المسمى في الموسيقا العربية مقام (بوسلك) الذي يستقر في المنطقة الوسطى على نغمة (دوكاه) ، وهي نغمة مطلق الوتر الثالث في العود، وقد يسمى هذا باسم مقام (عشاق مصري) ، تمييزا له عن المقام المشهور باسم (عشاق تركي) الذي يشبه مقام البيات. 21- الماخوري: ضرب من الإيقاعات الموسيقية العربية التي اشتهرت قديما، كان أهل الصناعة وقتذاك يعدونه هو بعينه (إيقاع خفيف الثقيل الثاني) ، واسم

الماخوري مشتق عن تمخير الإيقاع، ليكون وسطا بين الحثيث من الإيقاعات والخفيف. 22- محصور، أو محصور بالبنصر: اصطلاح موسيقي عند العرب المتوسطين، يطلق على هيئة ترتيب نغم الجنس الذي يستقر على نغمة بنصر الوتر ببعد بقية، وأما المشهور في تجنيس الأغاني في هذا الجنس، فهو مذهب إسحاق الموصلي. 23- المحمول: اصطلاح في الموسيقا عند العرب المتوسطين، لتعريف نغم الجنس الذي يستقر على دستان الوسطى في العود، والأرجح أنهم يعنون الوسطى الفارسية أو مجنب الوسطى، فيشبه ما هو محمول بالوسطى بين السبابة والبنصر، وأما التعريف المشهور الذي يقابله عند القدماء على مذهب إسحاق الموصلي فهو مطلق في مجرى البنصر. 24- المزموم: تجنيس من مصطلحات الأغاني، كان العرب المتوسطون يستعملونه لنغم الجنس الذي يستقر على نغمة سبابة الوتر في العود، مسبوقة بنغمة مجنب الوسطى، أو يستقر على نغمة مطلق الوتر مسبوقة بنغمة مجنبة. 25- المطلق: اصطلاح في تجنيسات الأغاني عند العرب على مذهب إسحاق الموصلي، وهو أن للغناء مجريين في كل طبقة أحدهما منسوب إلى الوسطى والآخر منسوب إلى البنصر، فأيهما جعلت المجرى كانت الطبقة منسوبة إليه. 26- المجنب: أنواع، مجنب السبابة، مجنب الوتر، مجنب الوسطى، وهو تعريف عربي قديم، وهو اسم دستان من دساتين العود تستخرج منه النغمة التي هي أقرب ثقلا إلى نغمة دستان السبابة.

أوتار العود وما يتعلق بها:

27- النوا (النوى) : اصطلاح يطلق على الوتر الرابع في العود، ويسمى أيضا (نواة) ، وكذلك تسمى نغمة مطلقة، وهي الخامسة التامة في ترتيب النغمات الأساسية في المنطقة المتوسطة صعودا من الأولى المسماة (يكاه) أو (راست) ، وتسمى باسم (نوا) أيضا هيئة لحنية لجماعة نغم تستقر على النغمة المسماة (دوكاه) فيما يعرف باسم (مقام نوا) ، وهو من المقامات المركبة من حجاز النوا عند الاستهلال إلى المنطقة الحادة، وجنس الراست محولا على (الدوكاه) ثم التسليم بجنس البيات. 28- الهزج: في الموسيقا العربية، الإيقاع الموصل ذو الزمان الواحد المتساوي بين كل نقرتين متواليتين. أوتار العود وما يتعلق بها: 1- الاصطحاب: تسوية الأوتار (أي نصبها) . 2- الاصطحاب المعهود: مصاحبة مطلق كل وتر من مطلقات جميع أوتار العود، مع ما في جنبه على نسبة ذي الأربع ويسمى (شد أصل) . 3- الاصطحاب غير المعهود: وهو مصاحبة كل وتر من مطلقات الأوتار مع ما في جنبه على غير ذي الأربع ويسمى (شد غير أصل) . 4- مطلق الوتر: العزف على الوتر بدون جس. 5- البم: اسم الوتر الأعلى من العود. وبم: كلمة فارسية معناها الغليظ. 6- المثلث: (على وزن مطلب) اسم الوتر الثاني من الأعلى. 7- المثنى: (على وزن معنى) اسم الوتر الثالث من الأعلى.

8- الزير: اسم الوتر الأول من الأسفل. وزير: كلمة فارسية مناها أسفل. 9- ثقل النغمة: قرار النغمة. 10- حدة النغمة: جواب النغمة. 11- أرقام الكسور الاعتيادية المستعملة في نسب الأبعاد: الرقم المقامي يمثل طول الوتر، والرقم البسطي يمثل طول الوتر المهتز، والعدد الفارق بينهما يمثل طول الوتر المحبوس، فمثلا: 4/3 ويطلق عليه كل وثلث كل، لأن الأربعة هي كل الثلاثة وثلثها، فالأربعة تمثل طول الوتر بصورة عامة، الثلاثة تمثل طول الوتر المهتز، والفارق بينهما وهو العدد واحد من الأربعة طول الوتر المحبوس، وهو ربع الأربعة، أي ربع الوتر. وقد استعمل بعض القدماء ومنهم اللاذقي (صاحب الرسالة الفتحية في الموسيقا) الأنغام بواسطة الحروف الأبجدية، فالحروف العشرة الأبجدية الأولى وهي (أب ج د هـ وز ح ط ي) ، وإضافة الحرف العاشر الذي هو الياء إلى الحروف التسعة الباقية فتكون (يا يب يج يد يه يو يز يح يط) . ثم بإضافة الحروف التسعة إلى حرف الكاف الذي رقمه عشرون، وهكذا بإضافة الحروف تسعة إلى الحروف ذات الأرقام العشرية، فاللام ثلاثون، والميم أربعون والنون خمسون.

أسماء النوتات العربية وما يقابلها في النوتات العالمية التي استعملها اللاذقي في كتاب الرسالة الفتحية

أسماء النوتات العربية وما يقابلها في النوتات العالمية التي استعملها اللاذقي في كتاب الرسالة الفتحية رموز نغمات اللاذقي/ رموز النوتة العربية/ ما يقابلها من رموز النوتة العالمية 1- أ/ عشيران/ لا 2- ب/ عشيران عجم/ سي بيمول 3- ج/ عراق (+) / سي كاربيمول (+) 4- د/ كواشت/ سي 5- هـ/ رست/ دو 6- و/ زير كولاه (-) / دوديز (-) 7- ز/ زير كولاه/ دوديز 8- ح/ دوكاه/ ره 9- ط/ كوردي/ مي بيمول 10- ي/ سيكاه (+) / مي (-) 11- يا/ بوسليك/ مي 12- يب/ نيم حجاز/ فاكار ديز 13- يج/ حجاز/ فاديز 14- يد/ حجاز (+) / فاديز (+) 15- يه/ نوى/ صول 16- يو/ حصار/ لا بيمول 17- يز/ تك حصار/ لا كار بيمول (+)

18- يح/ حسيني/ لا 19- يط/ عجم/ سي بيمول 20- ك/ أوج (+) / سي كاربيمول (+) 21- كا/ ماهور/ سي 22- كب/ كردان/ دو 23- كج/ شهناز (-) / دوديز (-) 24- كد/ شهناز/ دوديز 25- كه/ محيّر/ ره 26- كو/ سنبلة/ مي بيمول 27- كز/ بزرك (+) / مي (-) 28- كح/ جواب بوسيلك/ مي 29- كط/ جواب نيم حجاز/ فاكارديز 30- ل/ جواب حجاز/ فاديز 31- لا/ جواب تك حجاز (-) / فاديز (+) 32- لب/ سهم/ صول 33- لج/ جواب حصار/ لا بيمول 34- لد/ جواب تك حصار (+) / لاكار بيمول (+) 35- له/ جواب حسيني/ لا

الدوائر النغمية المشهورة ولكل دائرة لها نغماتها المعروفة لدى الموسيقيين وهي اثنتا عشرة دائرة هي:

الدوائر النغمية المشهورة ولكل دائرة لها نغماتها المعروفة لدى الموسيقيين وهي اثنتا عشرة دائرة هي: عشاق، نوى، بوسليك، راست، عراق، أصفهان، زاير افكند، بزرك، زنكولة، راهوي، حسيني، حجازي. ومن المصطلحات التي ترد في الكتاب وأكثرها من أصول فارسية: كان القدماء يسمون بعض الألحان المشهورة في زمانهم مقاما، وبعضها أوازه وبعضها شعبة: المقام: كان المقام يسمى بأسماء الأصابع والدساتين والطرائق، ثم أطلق عليه شد أو دور، ثم أطلق عليه اسم مقام، وأول من ذكر اسم (مقام) هو قطب الدين محمود بن مسعود بن مصلح الشيرازي (ت 710 هـ) في كتابه (درة التاج لغرة الديباج) . الأواز: أصل كلمة (أوازه) فارسية معناها الصوت، أو جماعة نغم محددة، ويعني جلبة أو شهرة، واصطلاحا: هو ما يتفرع من مقامين، قال بدر الدين الأربلي (ت 755 هـ) : وفرّعوا من كلّ شدّين نغم ... سمّوه أوازا فبعض قد رسم ويتفرع من الأواز ستة أنغام: الأول: كوشت، وهو عشر نغمات مشتملة على تسعة أبعاد. الثاني: نوروز، ونوروز اسم فارسي معناه (اليوم الجديد) ، وهو اسم لمقام خاص يستقر على درجة العجم، والنوروز عندهم على نوعين، أحدهما ما يكون

أربع نغمات مشتملة على ثلاثة أبعاد، ويسمى هذا بنوروز أصل صغير ونغمته بالنوتة الحديثة (ره دو سي) ، وثانيهما ما يكون سبع نغمات مشتملة على ستة أبعاد، ويسمى هذا بنوروز كبير. الثالث: سلمك، وهو إحدى عشرة نغمة مشتملة على عشرة أبعاد، وسلمك اسم فارسي، وهو سلم لطريقة مقام الراست. الرابع: كردانية، وهو ثماني نغمات مشتملة على سبعة أبعاد. الخامس: مايه، وهو أربع نغمات مشتملة على ثلاثة أبعاد، ومائة كلمة فارسية معناها (الخميرة) . السادس: شهناز، وهو سبع نغمات مشتملة على ستة أبعاد، وشهناز: كلمة فارسية مؤلفة من كلمتين، شاه: معناها الملك، وناز: معناها المدلل. ويكون المعنى: (الملك المدلل) . الشعبة: هيئة انتقالية على نغمات المقام على وجه مخصوص، وسميت شعبة لتشعبها من المقام، وهي أربع وعشرون: الشعبة الأولى: دوكاه، وهي كل نغمتين مشتملتين على بعد طنيني، ودوكاه: كلمة فارسية مركبة من كلمتين: دو بمعنى اثنين وكاه بمعنى مقام أي المقام الثاني، وهكذا بقية المقامات السيكاه والجهاركاه والبنجكاه بمعنى المقام الثالث والرابع والخامس وهكذا. الشعبة الثانية: سه كاه، وهي ثلاث نغمات مشتملة على بعد طنيني في الأثقل ومجنب في الأحد. الشعبة الثالثة: جاركاه، وهو قسم رابع من الأقسام السبعة (أي أقسام الطبقة

الثانية) المستعملة من الأحد، فيكون أربع نغمات محيطة بثلاثة أبعاد، ويسمى هذا بجاركاه ذي الأربع أيضا. الشعبة الرابعة وهي على نوعين: أحدهما بنجكاه أصل، وهو قسم رابع لذي الخمس (أي القسم الرابع من الطبقة الثانية) فيكون خمس نغمات محيطة بأربعة أبعاد. وثانيهما: بنجاكاه زايد، وهو قسم ثامن لذي الخمس، فيكون ست نغمات محيطة بأربعة أبعاد. الشعبة الخامسة: عشيرا، وهو ست نغمات مشتملة على خمسة أبعاد، ويصدق عليه أنه حسيني محطه يكاه. الشعبة السادسة: نوروز عرب، وهو ست نغمات مشتملة على خمسة أبعاد. الشعبة السابعة: ماهور (وما هور كلمة فارسية معناها الهلال) ، وهي على نوعين: أحدهما ما هور صغير، وهو قسم أخير من أقسام الطبقة الثانية (أي القسم الثالث عشر من أقسام الطبقة الثانية) ، فيكون هو خمس نغمات مشتملة على أربعة أبعاد. وثانيهما: ماهور كبير، وهو ثماني نغمات مشتملة على سبعة أبعاد. الشعبة الثامنة: نوروز خارا، وهو ست نغمات مشتملة على خمسة أبعاد. الشعبة التاسعة: نوروز بياني، وهو خمس نغمات. الشعبة العاشرة: حصار، وهو ثماني نغمات محيطة بسبعة أبعاد. الشعبة الحادية عشرة: نهفت (نهفت كلمة فارسية معناها الخفي المستور) ، وهو

ثماني نغمات مشتملة على سبعة أبعاد. الشعبة الثانية عشرة: عزال، وهو قسم سادس من أقسام ذي الخمس، فيكون هو خمس نغمات مشتملة على أربعة أبعاد، وهو حجازي عند القدماء مع بعد طنيني في الأحد، فيصدق عليه أنه دوكاه محطة حجازي. الشعبة الثالثة عشرة: أوج (أوج معناه الأعلى، وبالفارسي (أويج) والأوج نغمة من نغمات السلم الموسيقي الشرقي وهو جواب نغمة العراق) وهو ثماني نغمات مشتملة على سبعة أبعاد. الشعبة الرابعة عشرة: نيريز (نيريز مقام من المقامات الشرقية التي تستقر على درجة الرست) وهو على نوعين: أحدهما نيريز صغير: وهو القسم الثاني عشر من أقسام ذي الخمس، فيكون خمس نغمات مشتملة على أربعة أبعاد، فيصدق عليه أنه حجازي عند القدماء محطه يكاه. وثانيهما: نيريز كبير، وهو ثماني نغمات محيطة بسبعة أبعاد. الشعبة الخامسة عشرة: مبرقع، وهو كل نغمتين مشتملتين على بعد مجنب. الشعبة السادسة عشرة: ركب، وهو ثلاث نغمات مشتملة على بعدين مجنبين. الشعبة السابعة عشرة: صبا (الصبا مقام من المقامات الشرقية التي تستقر على درجة الدوكاه، ونغماته: ماهوران بوسليك شهنازا محير كردان عجم حسيني صبا جهاركاه سيكاه دوكاه صعودا) وهو خمس نغمات مشتملة على أربعة أبعاد.

الشبة الثامنة عشرة: همايون، وهو سبع نغمات محيطة بستة أبعاد. الشعبة التاسعة عشرة: زوالي وهو سيكاه بشرط أن يضاف إلى أحده بعد الإرخاء وهو بعد ربع الطنيني. الشعبة العشرون: أصفهانك (والأصفهانك مقام من المقامات الشرقية التي تستقر على درجة الدوكاه) ، وهو خمس نغمات مشتملة على أربعة أبعاد. الشعبة الحادية والعشرون: بستة نكار (البسته نكار مقام من المقامات الشرقية التي تستقر على درجة العراق، ونغماته: (شهناز أو محير كردان عجم حسيني صبا جهاركاه سيكاه دوكاه رست عراق صعودا) وهو ثماني نغمات مشتملة على سبعة أبعاد. الشعبة الثانية والعشرون: نهاوند (النهاوند مقام من المقامات الشرقية التي تستقر على درجة الرست، وسلمه: كردان نيم ماهرو حصار نوى جهاركاه كردي دوكاه رست صعودا) وهو ثماني نغمات مشتملة على سبعة أبعاد. الثالثة والعشرون: خوزي، وهو ست نغمات مشتملة على خمسة أبعاد. الشعبة الرابعة والعشرون: محيّر (المحير درجة من درجات السلم الموسيقي الشرقي وهو جواب الدوكاه، وسلمه: محير كردان أوج حسيني نوى جهاركاه سيكاه دوكاه صعودا) ، وهو ثماني نغمات مشتملة على سبعة أبعاد.

المقامات وصلتها بالأبراج وتأثيراتها:

المقامات وصلتها بالأبراج وتأثيراتها: المقامات: الأول: راست، وهو منسوب إلى برج الحمل فطبيعته ناري (راست كلمة فارسية معناها: المستقيم، واصطلاحا: هو السلم الموسيقي الطبيعي للموسيقا الشرقية) . الثاني: عراق وهو منسوب إلى الثور فطبيعته ترابي، وهو ثلاث نغمات مشتملة على المجنب في الأثقل، والطنيني من الأحد إلى الأثقل. الثالث: أصفهان وهو منسوب إلى الجوزاء فطبيعته هوائي. الرابع: زير افكند (زير افكند جملة فارسية معناها: لأن يسقط) ويقال له عند بعضهم كوجاك (كوجاك: كلمة فارسية تركية معناها: صغير) وأرباب الموشح (الموشح أحد الفنون الشعرية السبعة التي هي: الشعر والموشح والمواليا والزجل والدوبيت والقوما والكان كان) يقولونه محبة الأنغام، وهو منسوب إلى السرطان فطبيعته مائي. الخامس: برزك السادس: زنكولة (زنكولة: كلمة فارسية معناها: جرس صغير) وهو منسوب إلى السنبلة، فطبيعته ترابي. السابع: راهوي، وهو منسوب إلى الميزان، فطبيعته هوائي. الثامن: حسيني، وهو منسوب إلى العقرب، فطبيعته مائي (كما يطلق على الحسيني سابقا ششكاه) .

الإيقاعات الموسيقية القديمة وعددها اثنا عشر وهي:

التاسع: حجازي، وهو منسوب إلى القوس، فطبيعته ناري. العاشر: أبوسه ليك (أبوسه ليك: جملة تركية معناها: اللثم الخفيف) ، وهو منسوب إلى الجدي، فطبيعته ترابي. الحادي عشر: نوى، وهو منسوب إلى الدلو فطبيعته هوائي. الثاني عشر: عشاق (عشاق مقام من المقامات الشرقية التي تستقر على درجة الدوكاه) وهو منسوب إلى الحوت، فطبيعته مائي. الإيقاعات الموسيقية القديمة وعددها اثنا عشر وهي: 1- الثقيل الأول أو الورشان- 16 نقرة. 2- برافشان- 17 نقرة. 3- الثقيل الثاني- 16 نقرة. 4- خفيف الثقيل- 16 نقرة. 5- ثقيل الرمل- 24 نقرة. 6- خفيف الرمل- 10 نقرات. 7- الهزج الكبير- 10 نقرات. 8- الهزج الصغير- 6 نقرات. 9- الرمل- 12 نقرة. 10- الفاختي الصغير- 10 نقرات.

الإيقاعات عند المتأخرين وعددها عشرون إيقاعا وهي:

11- الفاختي الكبير- 20 نقرة. 12- الفاختي الأكبر- 28 نقرة. الإيقاعات عند المتأخرين وعددها عشرون إيقاعا وهي: 1- الثقيل- 48 نقرة. 2- الخفيف- 32 نقرة. 3- سه ضرب طويل- 32 نقرة. 4- سه ضرب صغير- 16 نقرة. 5- أوسط كبير- 24 نقرة. 6- أوسط صغير- 12 نقرة. 7- جهار ضرب- 96 نقرة. 8- الفاختي الصغير- 10 نقرات. 9- ضرب إنكيز أوروان- 10 نقرات. 10- عمل أو تركي ضرب- 14 نقرة. 11- رمل طويل- 24 نقرة. 12- رمل قصير- 24 نقرة. 13- سرندان- 10 نقرات. 14- صماعي- 10 نقرات.

أسماء المقامات وما يتصل بها ومعانيها باللغة الفارسية:

15- جر ثقيل أو نيم ثقيل- 24 نقرة. 16- روان- 8 نقرات. 17- محجل- 56 نقرة. 18- ضرب الفتح- 88 نقرة. 19- برافشان- 17 نقرة. 20- أزج أو سريع الهزج- هو كل جماعة نقرات بينها أزمنة (أ) . أسماء المقامات وما يتصل بها ومعانيها باللغة الفارسية: الماهور: كلمة فارسية معناها: الهلال. الراست: كلمة فارسية معناها: المستقيم. السوزناك: كلمة فارسية معناها: المؤلم. النيروز او النوروز: كلمة فارسية معناها: عيد الربيع. الماية المغربية: كلمة فارسية معناها: الخميرة. دلنشين: كلمة فارسية معناها: ساكن القلب. النهاوند: اسم مدينة فارسية، ويسمى هذا المقام في الجزائر رهاوي أو ساحلي، وفي تونس: محير سيكاه، وفي تركيا: بوسلك أو سلطاني يكاه أو فرح فزا، وعند الفرس: أصبهان. النكريز: كلمة فارسية معناها: لا تهرب.

الحجاز كار: كلمة فارسية معناها: عمل الحجاز. الزنكولا: كلمة فارسية معناها: جرس الرأس. الشاهناز: كلمة فارسية معناها: دلال السلطان. الهمايون: كلمة فارسية معناها: المبارك. البسته نكار: كلمة فارسية معناها: رابط المحبوب. الزيرفكند: كلمة فارسية معناها: زير أسفل أو قديم. زنكلاه: كلمة فارسية معناها: حبشي. بزرك: كلمة فارسية تركية بمعنى: عظيم أو كبير. يكاه: كلمة فارسية مركبة من لفظين أولهما (يك) ومعناه واحد، والثاني (كاه) ومعناه مقام أو درجة صوتية. دوكاه: كلمة فارسية معناها: المقام الثاني. سيكاه: كلمة فارسية معناها: المقام الثالث. جهار كاه: كلمة فارسية معناها: المقام الرابع. بنج كاه: كلمة فارسية معناها: المقام الخامس. ششكاه: كلمة فارسية معناها: المقام السادس. هفتكاه: كلمة فارسية معناها: المقام السابع.

المصادر والمراجع:

المصادر والمراجع: أفدنا من الكتب الآتية في هذه المصطلحات: الأرموي: صفي الدين عبد المؤمن الأرموي البغدادي (ت 693 هـ) - الرسالة الشرفية في النسب التأليفية، نسخة مخطوطة بمكتبة برلين الغربية برقم (5506) ، حققه الحاج هاشم محمد الرجب، وزارة الثقافة، بغداد. الخوارزمي: محمد بن أحمد بن يوسف (ت 387 هـ) - مفاتيح العلوم. صالح المهدي: مقامات الموسيقا العربية، نشر المعهد الرشيدي للموسيقى التونسية، تونس د. ت. فارمر: هنري جورج- تاريخ الموسيقا العربية حتى القرن الثالث عشر الميلادي، ترجمة وتعليق جرجيس فتح الله المحامي، ط مكتبة دار الحياة، بيروت 1955 م. اللاذقي: محمد بن عبد الحميد (ت بعد 888 هـ) - الرسالة الفتحية في الموسيقا، تحقيق وشرح الحاج هاشم محمد الرجب، ط المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت 1986 م. مجهول المؤلف (من القرن 11 هـ) : الشجرة ذات الأكمام الحاوية لأصول الأنغام، تحقيق وشرح غطاس عبد الملك خشبة وإيزيس فتح الله، ط الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1983 م. محمد شفيق غربال وآخرون: الموسوعة العربية الميسرة، طبعة مصورة، دار التراث العربي، بيروت 1987 م.

مصادر التحقيق

مصادر التحقيق - أزهار الرياض في أخبار عياض- المقري: أحمد بن محمد (ت 1041 هـ) . طبعت ثلاثة أجزاء من أربعة في مصر 58- 1361 هـ. - أشعار أولاد الخلفاء وأخبارهم- الصولي: أبو بكر محمد بن يحيى (ت 335 هـ) . وهو جزء من كتاب الأوراق، نشر هيورث دن، ط مصر 1355 هـ/ 1936 م. - الإصابة في تمييز الصحابة- ابن حجر العسقلاني: أحمد بن علي (ت 852 هـ) . ط السعادة مصر 1329 هـ، وتحقيق علي محمد البجاوي، ط مصر 1971 م. - الأعلام- الزركلي: خير الدين بن محمود بن محمد (ت 1396 هـ) . الطبعة الثالثة، بيروت 1389 هـ/ 1969 م. - أعلام النساء- كحالة: عمر رضا. ط دمشق 1359 هـ. - الأغاني- الأصفهاني: أبو الفرج علي بن الحسين الأموي (ت 360 هـ) . ط دار الكتب المصرية، وط ساسي، وط دار الكتب العلمية، بيروت. - الإماء الشواعر- الأصفهاني: أبو الفرج (السابق) . تحقيق جليل العطية، ط دار النضال، بيروت 1984 م. - أمراء البيان- كرد علي: محمد بن عبد الرزاق (ت 1372 هـ/ 1953 م) . ط مصر 1355 هـ/ 1937 م.

- إنباه الرواة على أنباه النحاة- القفطي: جمال الدين علي بن يوسف (ت 646 هـ) . ط دار الكتب المصربة 50- 1955 م. - البداية والنهاية- ابن كثير: الحافظ إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي (ت 774 هـ) . ط السعادة، مصر 1932 م، وط مكتبة المعارف بيروت 1966 م. - بدائع الزهور في وقائع الدهور- ابن إياس: محمد بن أحمد بن إياس الحنبلي (ت 930 هـ) . الأجزاء الثلاثة الأولى، ط في مصر 1311 هـ والرابع والخامس، ط في إستانبول 31- 1932 م. - بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة- السيوطي: جلال الدين عبد الرحمن بن أي بكر (ت 911 هـ) . ط مصر 1329 هـ، وتحقيق محمد أبو الفضل ابراهيم، ط القاعرة 1964 م. - البيان والتبيين- الجاحظ: أبو عثمان عمرو بن بحر (ت 255 هـ) . تحقيق عبد السلام هارون، ط مكتبة الخانجي، مصر 1968 م. - البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب- ابن عذاري المراكشي: محمد بن محمد (ت 695 هـ) . أربعة أجزاء طبع الأول والثاني في ليدن 48- 1951 م، والثالث في باريس 1930 م، والرابع في تطوان 1956 م.

- تاريخ الإسلام وطبقات مشاهير الأعلام- الذهبي: شمس الدين محمد بن أحمد (ت 748 هـ) . ط السعادة، مصر 67- 1969 م. - تاريخ ابن الوردي- ابن الوردي: زين الدين عمر بن مظفر (ت 749 هـ) . ط دار الكتب العلمية، بيروت 1996 م. - تاريخ بغداد- الخطيب البغدادي: أحمد بن علي (ت 463 هـ) . ط مصر 1349 هـ، وط دار الكتاب العربي، بيروت. - تاريخ التراث العربي- فؤاد سزكين. الترجمة العربية، ط جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض 1983 م. - تاريخ ابن خلدون (العبر وديوان المبتدأ والخبر) - ابن خلدون: عبد الرحمن بن محمد (ت 808 هـ) . ط مصر 1284 هـ، وط مصر 1355 هـ. - تاريخ الطبري- الطبري: محمد بن جرير (ت 310 هـ) . ط الحسينية، القاهرة 1939 م، وتحقيق محمد أبو الفضل، ط دار المعارف، مصر 60- 1969 م. - تاريخ الموسيقا العربية- فارمر: هنري جورج. ترجمة فتح الله جرجيس، ط دار مكتبة الحياة، بيروت 1955. - تاريخ الموسيقا العربية وآلاتها- شعراني: منى سنجقدار. ط بيروت 1987 م.

- تاريخ ابن الوردي (تتمة المختصر في أخبار البشر) - ابن الوردي: عمر بن المظفر (ت 749 هـ) . ط مصر 1285 هـ. - تهذيب تاريخ دمشق- (تاريخ دمشق لابن عساكر) : أبو القاسم علي بن الحسين بن هبة الله (ت 571 هـ) . عبد القادر بدران، ط دمشق 1329- 1351 هـ. - تهذيب التهذيب- ابن حجر العسقلاني: شهاب الدين أحمد بن علي (ت 852 هـ) . ط حيد أباد، الهند 25- 1327 هـ. - ثمار القلوب في المضاف والمنسوب- الثعالبي: أبو منصور عبد الملك بن محمد النيسابوري (ت 429 هـ) تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ط نهضة مصر، القاهرة 1384 هـ/ 1965 م. - جذوة المقتبس في ذكر ولاة الأندلس- الحميدي: محمد بن فتوح بن عبد الله الأزدي (ت 488 هـ) . ط مصر 1372 هـ/ 1952 م. - جمهرة أشعار العرب- أبو زيد القرشي: محمد بن الخطاب (ت أواخر القرن الرابع هـ) . تحقيق محمد علي الهاشمي، ط الرياض 1981 م. - حلية المحاضرة- الحاتمي: محمد بن الحسن (ت 388 هـ) .

تحقيق جعفر كتاني، ط بغداد 1979 م. - الحوادث الجامعة والتجارب النافعة في المئة السابعة- ابن الفوطي: عبد الرزاق بن أحمد (ت 723 هـ) . طبع قسم منه في بغداد 1351 هـ. - خريدة القصر- العماد الأصبهاني: محمد بن محمد (ت 597 هـ) . قسم شعراء مصر طبع في مصر 1951 م، وقسم شعراء الشام طبع في دمشق 1995 م، وقسم شعراء العراق طبع في بغداد 1955 م. - خزانة الأدب- البغدادي: عبد القادر بن عمر (ت 1093 هـ) . ط السلفية مصر 1347 هـ، وتحقيق عبد السلام هارون، ط القاهرة 1968 م. - الخط والكتابة في الحضارة العربية- الجبوري: يحيى وهيب. ط دار الغرب الإسلامي، بيروت 1994 م. - الدر الفريد وبيت القصيد- محمد بن أيدمر (ت النصف الثاني من القرن السابع هـ) . مخطوط، تصوير معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية، فرانكفورت 88- 1989 م. - الدر المنثور في طبقات ربات الخدور- زينب فواز. ط مصر 1312 هـ. - دول الإسلام (تاريخ دول الإسلام) - رزق الله منقريوس. ط مصر 1907 م.

- دول الإسلام- الذهبي: محمد بن أحمد بن عثمان (ت 748 هـ) . جزآن طبع حيدر أباد، الهند 1337 هـ. - الديارات- الشابشتي: علي بن محمد (ت 388 هـ) . تحقيق كوركيس عواد، ط بغداد 1951 م. - ديوان أبي تمام- ط دار الكتاب العربي، بيروت 1994 م. - ديوان الأحوص الأنصاري- تحقيق عادل سليمان ط 2 القاهرة 1990، وط دار الكتاب العربي، بيروت 1994 م. - ديوان إسحاق الموصلي- جمع وتحقيق ماجد العزي، ط بغداد 1970 م. - ديوان الأعشى ميمون بن قيس- نشر أدولف هلز هوسن، ط بيانة 1927 م تصوير بيروت 1993 م. وتحيق محمد محمد حسين، ط مصورة بيروت 1983 م. - ديوان امرئ القيس- تحقيق محمد أبو الفصل إبراهيم، ط دار المعارف، القاهرة 1984 م. - ديوان أمية بن أبي الصلت- تحقيق بهجة عبد الغفور الحديثي، ط وزارة الثقافة، بغداد 1991 م. - ديوان الباخرزي- تحقيق محمد ألتونجي، ط صادر بيروت 1994 م. - ديوان البحتري- ط دار الكتب العلمية، بيروت 1987 م. - ديوان بشار بن برد- تحقيق محمد بدر الدين العلوي، ط دار الثقافة، بيروت 1963 م، وتحقيق محمد الطاهر بن عاشور، ط تونس 1976 م.

- ديوان البهاء زهير- تحقيق محمد طاهر الجيلاوي ومحمد أبو الفضل ابراهيم، ط 2 دار المعارف، مصر. - ديوان تميم بن أبي بن مقبل- تحقيق عزة حسن، ط وزارة الثقافة، دمشق 1962 م. - ديوان أبي تمام- شرح التبريزي، تحقيق محمد عبده عزام ط دار المعارف، مصر، وط دار الكتاب العربي، بيروت 1994 م. - ديوان توبة بن الحميّر الخفاجي- جمع وتحقيق خليل العطية، ط بغداد 1968 م. - ديوان التهامي- ط المكتب الإسلامي دمشق 1964 م. - ديوان جرير بن عطية بن الخطفى- ط 2 دار الكتاب العربي، بيروت 1994 م. - ديوان جميل بثينة (جميل بن معمر العذري) - ط عالم الكتب بيروت 1996 م. - ديوان حاتم الطائي- ط دار الكتاب العربي، بيروت 1997 م. - ديوان حسان بن ثابت- تحقيق وليد عرفات، ط صادر بيروت 1974 م. - ديوان الحماسة (حماسة أبي تمام الطائي) - تحقيق عبد الله عسيلان، ط الرياض 1981 م. - ديوان الخالديين- تحقيق سامي الدهان، ط مجمع اللغة العربية، دمشق 1969 م. - ديوان الخوارج- جمع وتحقيق إحسان عباس، ط دار الشروق بيروت 1982 م. - ديوان دعبل الخزاعي- تحقيق عبد الكريم الأشتر، ط دمشق 1983 م. - ديوان ابن الدمينة- صنعة أبي العباس ثعلب، تحقيق أحمد راتب النفاخ، ط

مكتبة دار العروبة، القاهرة 1959 م. - ديوان أبي دهبل الجمحي- تحقيق عبد العظيم عبد المحسن، ط النجف 1972 م. - ديوان ذي الرمة- تحقيق عبد القدوس أبي صالح، ط بيروت 1993 م، وط المكتب الإسلامي دمشق. - ديوان ابن الرومي- ط دار الكتب العلمية، بيروت 1994 م. - ديوان زهير بن أبي سلمى- صنعة أبي العباس ثعلب، ط دار الكتب المصرية، ط القاهرة 1944 م. صورتها الدار القومية، القاهرة 1964 م. - ديوان السري الرفاء- ط مكتبة القدسي، القاهرة 1355 هـ، وط دار الجيل بيروت 1991 م. ديوان الشريف المرتضى- تحقيق رشيد الصفار، ط المؤسسة الإسلامية، بيروت 1987 م. - ديوان الصنوبري- تحقيق إحسان عباس، ط دار الثقافة بيروت 1970 م. - ديوان الطرماح- تحقيق عزة حسن، ط دار الشروق، بيروت 1994 م. - ديوان الطغرائي- تحقيق يحيى الجبوري وعلي جواد الطاهر، ط دار الحرية، بغداد 1976، ودار القلم الكويت 1983 م. - ديوان العباس بن الأحنف- ط دار الكتاب العربي، بيروت 1997 م. - ديوان عبد الله بن المعتز- صنعة الصولي، تحقيق يونس السامرائي، ط عالم الكتب، بيروت 1997 م.

- ديوان عبيد الله بن قيس الرقيات- تحقيق محمد يوسف نجم، ط صادر، بيروت د. ت. - ديوان أبي العتاهية- ط 2 دار الكتاب العربي، بيروت 1997 م. - ديوان العرجي- جمع الجبيلي، ط صادر، بيروت 1998 م. - ديوان عروة بن حزام- ط دار الجيل، بيروت 1995 م. - ديوان علي بن الجهم- تحقيق خليل مردم، ط بيروت 1980 م. - ديوان عمر بن أبي ربيعة- شرح محمد محيي الدين عبد الحميد، ط دار السعادة، مصر 1965 م. - ديوان عنترة- ط دار الكتب العلمية، بيروت 1995 م. - ديوان أبي فراس الحمداني- تحقيق محمد ألتونجي، دمشق 1987 م. - ديوان القطامي- تحقيق السامرائي ومطلوب، ط دار الثقافة بيروت 1960 م. - ديوان قيس بن الخطيم- تحقيق ناصر الدين الأسد، ط 3 صادر، بيروت 1991 م. - ديوان قيس بن ذريح- تحقيق عفيف حاطوم، ط صادر، بيروت 1998 م. - ديوان كثير عزة- تحقيق إحسان عباس، ط دار الثقافة، بيروت 1998 م. وط دار الجيل بيروت 1995 م. - ديوان كشاجم- تحقيق خيرية محفوظ، ط وزارة الإعلام، بغداد 1970 م. - ديوان الكميت بن زيد- تحقيق داود سلوم، ط عالم الكتب، بيروت 1997 م. - ديوان المتنبي- شرح أبي البقاء العكبري، تحقيق السقا والأبياري وشلبي ط مصورة طبعة القاهرة، دار المعرفة بيروت، وشرح البرقوقي، القاهرة 1930 م.

- ديوان مجنون ليلى (قيس بن الملوح) - تحقيق عبد الستار فراج، ط مصر د. ت.، وط عالم الكتب، بيروت 1996 م. - ديوان مروان بن أبي حفصة- ط دار الكتاب العربي، بيروت 1993 م. - ديوان مسلم بن الوليد- تحقيق سامي الدهان، ط دار المعارف، مصر 1970 م. - ديوان المعتمد بن عباد ملك أشبيلية- جمع وتحقيق رضا السويسي، ط الدار التونسية للنشر 1975 م. - ديوان النابغة الذبياني- تحقيق ابن عاشور، ط الشركة التونسية 1976 م. - ديوان ابن هرمة- تحقيق محمد نفاع وحسين عطوان، ط مجمع اللغة العربية، دمشق 1969 م. - ديوان الوأواء الدمشقي- تحقيق سامي الدهان، ط صادر، بيروت 1997. - الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة- ابن بسام: علي بن بسام الشنتريني الأندلسي (ت 542 هـ) . أقسام منه في ثلاثة أجزاء طبعت بمصر سنة 58- 1364 هـ. - ذيل تاريخ بغداد- ابن النجار: محيي الدين محمد بن محمود (ت 643 هـ) . مخطوطة الظاهرية دمشق، التاريخ 42، ومخطوطة المكتبة الوطنية، باريس 2131. - زبدة الحلب من تاريخ حلب- ابن العديم: عمر بن أحمد العقيلي (ت 660 هـ) . تحقيق سامي الدهان، طبع المعهد الفرنسي للدراسات العربية 51- 1985 م.

- الرسالة الفتحية في النسب التأليفية- الأرموي: صفي الدين عبد المؤمن البغدادي (ت 693 هـ) . تحقيق هاشم محمد الرجب، ط وزارة الثقافة، بغداد. - الرسالة الفتحية في الموسيقا- محمد بن عبد الحميد اللاذقي (ت 888 هـ) . تحقيق وشرح هاشم محمد الرجب، ط الكويت 1986 م. - رسوم دار الخلافة- الصابي: أبو الحسن هلال بن المحسن (ت 448 هـ) . تحقيق ميخائيل عواد، ط بغداد 1964 م. - رغبة الآمل من كتاب الكامل- سيد بن علي المرصفي (ت 1349 هـ) . ط مصر 46- 48، وط 2 صوّرتها مكتبة البيان، بغداد 1969 م. - زهر الآداب- الحصري: إبراهيم بن علي القيرواني (ت 453 هـ) . تحقيق علي محمد البجاوي، ط القاهرة 1362 هـ/ 1953 م. - سمط الآلي- أبو عبيد عبد الله بن عبد العزيز البكري (ت 478 هـ) . تحقيق عبد العزيز اليمني، ط لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة 1936 م. - السلوك لمعرفة دول الملوك- المقريزي: أحمد بن علي (ت 845 هـ) . طبع الجزء الأول في مصر 34- 1939 م، والقسم الأول من الجزء الثاني ط مصر 1941 م. - الشجرة ذات الأكمام الحاوية لأصول الأنغام- مجهول المؤلف. تحقيق وشرح غطاس عبد الملك خشبة وإيزيس فتح الله، ط الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1983 م.

- شذرات الذهب- ابن العماد الحنبلي: عبد الحي بن أحمد (ت 1089 هـ) . ط القاهرة 1350 هـ. وط دمشق- بيروت 1992 م. - شرح المعلقات العشر- الشنقيطي: أحمد بن الأمين (ت 1331 هـ) . ط دار الكتاب العربي، بيروت 1985 م. - شعر أعشى همدان- ضمن شعر الأعشى والأعشين. نشر أدولف هلزهوسن، ط بيانة 1928 م، تصوير بيروت 1993 م. - شعر الحارث المخزومي- جمع وتحقيق يحيى الجبوري، ط دار القلم الكويت 1983 م. - شعر أبي حية النميري- جمع وتحقيق يحيى الجبوري، ط وزارة الثقافة، دمشق 1975 م. - شعر (أشعار) الخليع الحسين بن الضحاك- جمع وتحقيق عبد الستار أحمد فراج، ط دار الثقافة، بيروت 1960 م. - شعر سلم الخاسر- ضمن (شعراء عباسيون) . جمع وتحقيق جرونباوم، ط بيروت 1959 م. - شعر السليك بن سلكة (أخباره وأشعاره) - جمع وتحقيق حميد ثويني وكامل عواد، ط بغداد 1984 م. - شعر أبي الشيص الخزاعي- (أشعار أبي الشيص الخزاعي وأخباره) . جمع وتحقيق عبد الله الجبوري، ط النجف 1967 م. - شعر عبد الصمد بن المعذل- جمع وتحقيق زهير غازي زاهد، ط النجف 1970 م.

- شعر عبد الله بن الزبعري- جمع وتحقيق يحيى الجبوري، ط دار الرسالة، بيروت 1981 م. - شعر علي بن جبلة العكوك- جمع وتحقيق حسين عطوان، ط مصر 1972 م. - شعر عمرو بن شأس- جمع وتحقيق يحيى الجبوري، ط دار القلم، الكويت 1983 م. - شعر المسبب بن علس- جمع وتحقيق أنور سويلم، ط جامعة مؤتة، الأردن 1994 م. - شعر نصيب بن رباح- جمع وتحقيق داود سلوم، ط بغداد 1968 م. - شعر النمر بن تولب- ضمن (شعراء إسلاميون) ط بيروت 1984 م. - شعر هدبة بن الخشرم- جمع وتحقيق يحيى الجبوري، ط دار القلم، الكويت 1986 م. - شعر الوليد بن يزيد- جمع وتحقيق حسين عطوان، ط عمان 1979 م. طبقات ابن سعد (الطبقات الكبير) - محمد بن سعد (ت 230 هـ) . تحقيق سخاو، ط ليدن 1904 م، صور في بيروت 1957 م. - طبقات الشعراء- ابن المعتز: أبو العباس عبد الله بن المعتز العباسي (ت 296 هـ) . تحقيق عبد الستار فراج، ط دار المعارف، مصر 1956 م. - عيون الأخبار- ابن قتيبة: عبد الله بن مسلم الدينوري (ت 276 هـ) . ط دار الكتب المصرية، القاهرة 1967 م.

- الغناء والموسيقا عند العرب قبل الإسلام- السامرائي: عبد الجبار محمود. - مجلة التراث الشعبي، العدد الخامس السنة الخامسة، ط دار الحرية، بغداد 1974 م. - الغيث المسجم في شرح لامية العجم- الصفدي: صلاح الدين خليل بن أيبك (ت 764 هـ) ، ط مصر 1290 هـ. - الفهرست- ابن النديم: محمد بن إسحاق (ت 380 هـ) . ط فلوجل، ليبسك 1871 م، وط رضا تجدد، طهران 1971 م. - فوات الوفيات- ابن شاكر الكتبي: محمد بن شاكر الحلبي (ت 764 هـ) . تحقيق إحسان عباس، ط بيروت 73- 1974 م. - الكامل في التاريخ- ابن الأثير: عز الدين علي بن محمد الشيباني (ت 630 هـ) . ط صادر، بيروت 1965 م. - كتاب بغداد- طيفور: أحمد بن أبي طاهر (ت 280 هـ) . ط مصر 1368 هـ/ 1949 م. - اللباب في تهذيب الأنساب- ابن الأثير (السابق) . ط مصر 56- 1369 هـ. - لسان العرب- ابن منظور: جمال الدين محمد بن مكرم بن علي الأنصاري (ت 711 هـ) . ط صادر، بيروت.

- لسان الميزان- ابن حجر: أحمد بن علي العسقلاني (ت 852 هـ) . ط حيدرأباد، الهند 1331 هـ. - المحبر- ابن حبيب: محمد بن حبيب بن أمية الهاشمي (ت 245 هـ) . ط دائرة المعارف العثمانية، حيدر أباد، الهند 1361 هـ/ 1942 م. - مرآة الجنان- اليافعي: عبد الله بن أسعد (ت 678 هـ) . ط بيروت 1970 م. - مرآة الزمان في تاريخ الأعيان- سبط ابن الجوزي: يوسف بن قزا أوغلي (ت 654 هـ) . طبع المجلد الثامن وهو الأخير في حيدر أباد، الهند 1370 هـ/ 1951 م. - مروج الذهب ومعادن الجوهر- المسعودي: أبو الحسن علي بن أبي الحسن (ت 346 هـ) . ط باريس 1930 م، وط محمد محيي الدين عبد الحميد، القاهرة 1958 م. - المستطرف من كل فن مستظرف- الأبشيهي: محمد بن أحمد (ت 852 هـ) . ط إحياء التراث العربي، بيروت. - المستظرف في أخبار الجواري- السيوطي: جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر (ت 911 هـ) . تحقيق صلاح الدين المنجد، ط بيروت 1963 م، وتحقيق أحمد عبد الفتاح تمام، ط مكتبة التراث الإسلامي القاهرة د. ت. - المصباح المنير- الفيومي: أحمد بن محمد بن علي المقري (ت 707 هـ) .

- مطمح الأنفس ومسرح التأنس في ملح أهل الأندلس- الفتح بن خاقان: الفتح ابن محمد بن عبيد الله القيسي (ت 535 هـ) ، ط الجوائب 1302 هـ. - المعجب في تلخيص أخبار المغرب- المراكشي: عبد الواحد بن علي التميمي (ت 647 هـ) . ط مصر 1368 هـ/ 1949 م. - معجم الأدباء- ياقوت الرومي الحموي (ت 626 هـ) . ط دار المأمون، مصر 1936 م، وتحقيق إحسان عباس، ط دار الغرب الإسلامي، بيروت 1993 م. - معجم الشعراء- المرزباني: أبو عبيد محمد بن عمران (ت 384 هـ) . تحقيق عبد الستار فرج، ط الحلبي القاهرة 1960 م. - المعجم الوسيط- إعداد مجمع اللغة العربية، القاهرة. - المعرب من الكلام الأعجمي- الجواليقي: أبو منصور موهوب بن أحمد (ت 540 هـ) . تحقيق أحمد شاكر، ط القاهرة 1361 هـ. - المفضليات- الضبي: المفضل بن محمد (ت 178 هـ) . تحقيق محمود شاكر وعبد السلام هارون، ط دار المعارف، مصر 1976 م. - مقامات الموسيقا العربية- صالح مهدي، نشر المعهد الرشيدي لموسيقى التونسية، تونس د. ت. - المنتخل (كتاب المنتخل) - الميكالي: أبو الفضل عبيد الله بن أحمد بن علي

(ت 436 هـ) . تحقيق يحيى الجبوري، ط دار الغرب الإسلامي، بيروت 2000 م. - المنتظم من تاريخ الملوك والأمم- ابن الجوزي: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد (ت 597 هـ) . ط دائرة المعارف العثمانية، حيدر أباد، الهند 1357 هـ. - الموسوعة العربية الميسرة- بإشراف محمد شفيق غربال، ط دار الشعب 1965 م. - الموسيقا العراقية في عهد المغول والتركمان- عباس العزاوي. ط بغداد. - النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة- ابن تغري بردي: أبو المحاسن يوسف بن تغري بردي (ت 847 هـ) . ط دار الكتب المصرية 1930 م. - نزهة الجليس ومنية الأديب الانيس- الموسوي: العباس بن علي بن نور الدين (1148 هـ) ط مصر 1293 هـ. - نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب- المقري: أحمد بن محمد التلمساني (ت 1041 هـ) . ط دوزي وآخرين، ليدن 1861 م، وط مصر 1302 هـ. - نكت الهميان في نكت العميان- الصفدي: صلاح الدين خليل بن أيبك (ت 764 هـ) . تحقيق أحمد زكي، ط مصر 1329 هـ/ 1911 م. - نهاية الأرب في فنون الأدب- النويري: شهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب (ت 732 هـ) .

ط دار الكتب المصرية 29- 1955 م، وطبعة مصورة عنها، القاهرة 1975 م. - الواضح المبين فيمن استشهد من المحبين- مغلطاي بن فليح بن عبد الله البكرجي المصري (ت 762 هـ) . تحقيق أوتو سبيز، ط دلهي 1936 م. - الوافي بالوفيات- الصفدي: صلاح الدين خليل بن أيبك (ت 764 هـ) . باعتناء هلموت ريتر، ط صادر، بيروت 1971 م، وط شتوتكارت 1993 م. - الوزراء والكتاب- الجهشياري: أبو عبد الله محمد بن عبدوس (ت 331 هـ) . تحقيق السقا والأبياري وشلبي، ط مصر 1357 هـ/ 1938 م. - الوسائل إلى مسامرة الأوائل- السيوطي: جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر (ت 911 هـ) . ط بغداد 1369 هـ/ 1950 م. - وفيات الأعيان- ابن خلكان: شمس الدين أحمد بن محمد (ت 681 هـ) . تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، ط مصر 1948 م، وتحقيق إحسان عباس، ط دار الثقافة، بيروت 1973 م. - يتيمة الدهر- الثعالبي: أبو منصور عبد الملك بن محمد النيسابوري (ت 429 هـ) . ط محمد محمد محيي الدين عبد الحميد، القاهرة 1956 م، وط دار الكتب العلمية، بيروت 1983 م.

فهرس الموضوعات

فهرس الموضوعات صور من الأصل المخطوط/ 5 مقدمة/ 13 وصف مخطوطة الكتاب/ 13 الكتاب ومنهج مؤلفه/ 16 منهج التحقيق/ 19 مقدمة المؤلف/ 23 ترتيب الأوائل للألحان/ 24 اختيار المؤلف من كتاب (الأغاني والإماء المغنون) : 1- ابن محرز/ 29 2- ابن عائشة/ 32 3- حنين الحيري/ 41 4- الغريض/ 45 5- طويس/ 66 6- يزيد حوراء/ 71 7- عبد الرحمن الدفاف/ 73 8- ابن مسجح/ 74

9- عطرد/ 77 10- الأبجر/ 79 11- فريدة/ 82 12- الدلال/ 86 13- أبو سعيد مولى فائد/ 93 14- فليح بن أبي العوراء/ 99 15- الهذلي سعيد بن مسعود/ 102 16- مالك بن أبي السمح/ 103 17- دحمان الأشقر/ 107 18- سياط/ 109 19- ابن جامع/ 110 20- جميلة/ 119 21- معبد/ 121 22- ابن سريج/ 129 23- أبو كامل/ 145 24- إسماعيل الهربذ/ 147 25- أبو دلف (القاسم بن عيسى العجلي) / 149 26- البردان/ 164

27- سائب خاثر/ 165 28- عبد الله بن جدعان/ 168 29- متيم الهشامية/ 171 30- سلامة القس/ 173 31- عبيد الله بن عبد الله بن طاهر/ 176 32- محمد بن الحارث بن بسخنر/ 178 33- عبد الله بن طاهر/ 184 34- معبد اليقطيني/ 188 35- محمد الزف/ 193 36- عثعث/ 195 37- بصبص جارية ابن نفيس/ 197 38- الزرقاء جارية بان رامين/ 201 39- حبابة جارية يزيد بن عبد الملك/ 203 40- بديح مولى عبد الله بن جعفر/ 208 41- هاشم بن سليمان/ 209 42- عمرو بانة/ 210 43- وجه القرعة/ 214 44- شارية/ 215

45- خليدة المكيّة/ 219 46- عمرو الميداني/ 220 47- أشعب الطامع/ 222 48- يونس الكاتب/ 232 49- أحمد النصبي/ 234 50- سليم الكوفي/ 236 51- ابن عبّاد الكاتب/ 237 52- يحيى المكي/ 239 53- حكم الوادي/ 246 54- عمر الوادي/ 247 55- أحمد بن يحيى المكي/ 250 56- بذل/ 251 57- عزّة الميلاء/ 254 58- فند مولى عائشة/ 257 59- دنانير البرمكية/ 258 60- الزبير بن دحمان/ 261 61- عبد الله بن العباس/ 263 62- أبو صدقة/ 274

63- عمرو بن أبي الكنّات/ 278 64- خليلان المعلم/ 280 65- عبيدة الطنبورية/ 281 66- أبو حشيشة/ 283 67- إسحاق الموصلي/ 285 68- إبراهيم بن المهدي/ 326 69- عليّة بنت المهدي/ 335 70- أبو عيسى/ 344 71- علّويه/ 347 72- مخارق/ 353 73- عريب جارية المأمون/ 361 74- إبراهيم الموصلي/ 369 75- أبو زكار/ 402 إضافة مغنّين آخرين في العصور المتأخرة 76- دليل الطنبوري/ 404 77- علي بن يحيى المنجم/ 405 78- زرفل بن إخليج/ 408 79- إسرائيل العوّاد/ 409

80- طريف بن المعلى الهاشمي/ 411 81- تحفة جارية المعتز/ 413 82- إسحاق المنجم/ 414 83- ابن العلاف نديم المعتضد/ 418 84- مؤدب الراضي/ 421 85- أبو سعد بن بشر/ 422 86- مسكين بن صدقة/ 423 87- بديع بن محسن/ 424 88- غضوب جارية المتقي/ 425 89- معمر بن قطامي/ 427 90- تحفة جارية أبي محمد/ 428 91- تحية جارية أبي يعقوب/ 429 92- أبو العز العواد/ 430 93- عين الزمان أبو القاسم/ 431 94- أبو العبيس بن حمدون/ 432 95- جيداء جارية سيف الدولة/ 433 96- القاسم بن زرزر/ 436 97- علي بن منصور الهاشمي/ 438

98- كردم بن معبد/ 439 99- أحمد بن أسامة النصبي/ 439 100- وشيحة/ 441 101- إسرائيل اليهودي/ 442 102- يحيى جارية أبي محمد المهلبي/ 442 103- عنان جارية النطافي/ 443 104- دنانير جارية محمد بن كناسة/ 448 105- فضل اليمامة/ 449 106- تيماء جارية خزيمة بن خازم/ 455 107- سكون جارية طاهر بن الحسين/ 457 108- فنون جارية يحيى بن معاذ/ 458 109- صرف جارية أم حصين/ 458 110- نسيم جارية أحمد بن يوسف الكاتب/ 459 111- عارم جارية وليهيدة النخاس/ 460 112- سلمى اليمامية/ 461 113- مراد جارية علي بن هشام/ 461 114- متيّم الهشامية/ 462 115- سمراء وهيلانة/ 463

116- ظلوم جارية محمد بن سالم/ 465 117- عاذل جارية زينب بنت إبراهيم الهاشمية/ 465 118- ريّا وظمياء/ 467 119- بنان جارية المتوكل/ 468 120- ريا جارية إسحاق الموصلي/ 469 121- محبوبة جارية المتوكل/ 470 122- أمل جارية قرين النخاس/ 474 123- رابعة جارية إسحاق بن إبراهيم الموصلي/ 475 124- قاسم جارية ابن طرخان/ 476 125- مها جارية عريب/ 477 126- بدعة الكبرى جارية عريب/ 478 127- مثل جارية إبراهيم بن المدبر/ 480 128- نبت جارية مخفرانة/ 481 129- صاحب جارية ابن طرخان النخاس/ 483 130- جلنار جارية أخت راشد بن إسحاق الكاتب/ 484 131- خنساء البرمكية/ 486 132- خزامى جارية الضبط المغني/ 490 133- صدقة بن محمد/ 492

134- الحسين بن الحسن/ 492 135- ياقوت المستعصمي/ 494 136- عبد المؤمن بن يوسف/ 496 137- ألحاظ المغنية/ 504 138- الثوني (صاحب الأرمال) / 505 139- الخروف (من ندماء المنصور) / 506 140- محمد بن غرّة/ 514 141- القاضي محمد العواد/ 517 142- الدهمان محمد بن علي بن عمر المازني/ 519 143- الكمال التوريزي/ 522 144- محمد بن الكسب/ 526 145- الكتيلة (بدر الدين الجنكي المارديني) / 527 146- خالد/ 538 147- السهروردي شمس الدين/ 548 148- الشمس الكرمي/ 553 149- يحيى الغريب الواسطي المشيب/ 554 150- حسن التاي/ 564 151- السيلكو/ 564

152- البدر الأربلي/ 565 153- التاج بن الكندي/ 565 154- خواجا أبو بكر النوروزي/ 565 155- علاء الدين دهن الحصا/ 565 156- نظام الدين يحيى بن الحكيم/ 567 157- كمال الدين محمد البرهان الوفي/ 569 158- حسين بن علي المطرب العزاوي/ 570 159- عزيز جارية الحكم بن هشام/ 574 160- عزيز جارية الحكم بن هشام (ترجمة أخرى) / 578 161- بهجة جارية الحكم/ 580 162- مهجة جارية الحكم/ 585 163- فاتن جارية الحكم/ 591 164- فاتك جارية الحكم بن هشام/ 593 165- أفلح الرباني/ 596 166- رغد جارية المغيرة بن الحكم/ 697 167- سليم مولى المغيرة بن الحكم/ 601 168- وضيح بن عبد الأعلى/ 604 169- ابن سعيد كامل/ 606

170- حصن بن عبد بن زياد/ 608 171- ساعدة بن بريم/ 608 172- سعد المجدّع/ 610 173- رداح جارية عبد الرحمن المستظهر/ 612 174- خليد مولى الأدارسة/ 615 175- سعدى جارية المعتمد بن عبّاد/ 616 176- ميمون الجوهري/ 619 177- طريف بن عبد الله السميع القابسي/ 620 178- زيد الغنا بن المعلّى/ 622 179- جارية تميم (جد المعز بن باديس) / 624 180- الكينو أحمد بن محمد/ 627 181- أبو عبد الله اللالجي/ 628 182- ناطقة جارية الزاعوني/ 629 183- بديع جارية المحلّمي/ 630 184- صافية جارية بدر أمير الجيوش/ 631 185- عيناء جارية بدر أمير الجيوش/ 633 186- مغني الصالح بن رزيك/ 633 187- سرور جارية العزيز/ 635

188- فنون العادلية/ 636 189- عجيبة مغنية الكامل/ 639 190- الكركية مغنية الظاهر بيبرس/ 643 191- الزركشي أبو عبد الله/ 647 192- ابن كرّ أبو عبد الله/ 648 - ملحق بالمصطلحات الموسيقية/ 653 - مصادر التحقيق/ 675

الجزء الثانى عشر

[الجزء الثانى عشر] مقدمة التحقيق بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أنار مسالك الأبصار، والصلاة والسلام على نبينا محمد سيد الممالك والأمصار، وعلى آله السادة الأطهار، وصحبه المنتجبين الأخيار. وبعد: فهذا هو الجزء الثاني عشر من معلمة ابن فضل الله العمري، وقد قصره على كتّاب الدواوين من المشارقة، ممن كان في خدمة الملوك والأمراء. وطريقته أن يورد تعريفا بالكاتب بأسلوبه المسجّع، ثم يختار له من نثره مجموعة رسائل، تقل أو تكثر، حسب شهرة الكاتب ومكانته؛ فقد اختار لبديع الزمان الهمذاني والقاضي الفاضل- شعرا ونثرا- ما يستحق أن يفرد بكتاب مستقل؛ ثم يختار له من نظمه شيئا، قل أو كثر. وكثيرا ما نقف في مختاراته- الشعرية والنثرية- على الجديد الذي لا نعرفه في مصادرنا التراثية؛ فترجمة الببغاء- مثلا- كلّه جديد، وكله مما يستدرك على مجموع شعره ونثره. وكان الاعتماد في إخراج هذا الجزء، على النسخة الوحيدة التي أصدرها الدكتور فؤاد سزكين- جزاه الله خيرا- عن أصلها المحفوظ في أياصوفيا- المكتبة السّليمانية بإستانبول، تحت رقم 3425. وهي نسخة تامة، لا خرم فيها، تقع في 396 صفحة، مكتوبة بقلم واحد، وبخط مقروء واضح، قليل الإعجام، نادر الضبط؛ وكثيرا ما يرسم الناسخ بعض الكلمات رسما دون أن يدرك معناها؛ وهنا لابد من أن يلجأ المحقق إلى تقاليب

الكلمة ليقف على المعنى الذي يتناسب مع السجع ودقة المعنى؛ وفي هذا من الصعوبة ما لا يدركه إلا من دفع إلى مضايقه. وإذا كان الناسخ جاهلا، لا يفرق بين المذكر والمؤنث، فالأمر يزداد صعوبة. وكان من الممكن أن يكون العمل أكثر دقة، لو توفرت لدينا نسخة دار الكتب المصرية، رقم 2568. فالحمد لله الذي أعان في تحقيق هذا الجزء ويسّره، والشكر للقائمين على المجمّع الثقافي في دولة الإمارات العربية المتحدة، الذين أحسنوا الظن بنا. ورحم الله امرءا ستر عيوب أخيه، فالكمال لمن له الكمال سبحانه. والحمد لله في البدء والختام. إبراهيم صالح دمشق/ الشام 13 ذو القعدة 1421 هـ 6 شباط (فبراير) 2001 م

بسم الله الرحمن الرحيم على الله توكلت* ثم كانت وزراء وكتاب، مع من سمّينا وبعدهم في خدمة الخلفاء والملوك، ممن لم يرض البرق شرارة من زياده، ولا العنبر الهندي مدة لمداده؛ طالما عد الهلال لقلمه قلامة، وكان الأفق لزهره كمامة، ومد الصباح له صحيفة، وألقى بالرماح لقضيّته في كفه نحيفة؛ وحصل لهم من النعم ما فاض فضله، ومن النقم ما أعيت عضله؛ وسنأتي منهم على الغرض: فمنهم من نذكره لاشتهار اسمه، ومنهم من نذكره باستحقاقه؛ ثم هؤلاء على قسمين: قسم اشتهر للإكثار ولا يتعدى طبقة المقبول، وقسم منهم أصحاب الغوص؛ وأكثر ما تجد ذلك للمتأخرين، فقد أبدعوا في استخراج المعاني وتوليدها؛ وقبل ذكرهم نقول: إن كتابة الإنشاء كانت في المشرق في خلافة بني العباس منوطة بالوزراء، وربما انفرد بها رجل؛ وذكر ابن عبدوس «1» في مواضع من كتابه من [ولي] ديوان السّرّ وديوان التّرسّل؛ ثم كانت آخر وقت قد أفردت، واستقل بها كتاب لم يبلغوا مبلغ الوزارة، وكان في المشرق يسمى كاتب الإنشاء، ثم لما كثر عددهم سمي رئيسهم رئيس ديوان الإنشاء، ثم بقي يطلق عليه تارة صاحب ديوان الإنشاء، وتارة كاتب السر؛ وهي إلي أحبّ، وعندي أنبه، وعند الناس أدل؛ وكان في دول السلاجقة وملوك الشرق يسمى ديوان الطغراوية، وبه سمي مؤيد الدين الطغرائي «2» ،- والطغراء هي الطرة، وهي التي تكتب فوق البسملة بالقلم

الغليظ، يتضمن ألقاب الملك، وهي لفظة أعجمية، وكانت تقوم مقام خط السلطان بيده على المناشير والكتب، ويستغنى بذلك عن أن يكون للسلطان علامة بخطه، لكثرة الوثوق بصاحب هذه الرتبة- و [عند] أهل المغرب يسمى رئيس ديوان الإنشاء صاحب القلم الأعلى. وأهل هذه الرتبة لم يزل لهم الاختصاص والقرب أكثر من كل عام وخاص، يحتاج الأمراء إلى مداراتهم، وتقصر الوزراء مع علو رتبة الوزارة عن مناراتهم؛ يجتمعون بالملك إذا أرادوا على عدد الأنفاس، وهم معنى الدولة وعليهم عولة كل الناس. وآخر ما كانت الملوك لا تكاتب الخلفاء ببغداد إلا إلى هذا الديوان، أعني ديوان الإنشاء، وكانت تسميه الديوان العزيز، ولهذا كانت كتبهم تستفتح: أدام الله أيام الديوان العزيز؛ إشارة إلى ديوان الإنشاء، لأن الكتب كانت إليه، والمخاطبة له، وهو المراد بقولهم فيما يوجد في التواريخ وكتب الإنشاء والترسّل: الديوان العزيز؛ وعليه كان يطلق هذا الاسم، وله بهذا من الشرف ما له، ومن الفخر ما يجر على السماء أذياله؛ وقد آن أن نذكر من القسمين من يذكر: فأما القسم الأول: فمنهم عبد الحميد وابن العميد والصاحب بن عباد، وهم وإن كانوا من مشاهير الكتاب فإنهم بعداء من الغوص وحسن التوكيد والاختراع، وقد قدمنا في تراجمهم مع الوزراء عنوان قولهم ومبلغ طولهم.

1 - وأما أبو إسحاق فهو الصابي

1- وأما أبو إسحاق فهو الصابي «1» * وإن كان منهم وفي طبقته غير بعيد عنهم، ولكنه جوال الذكر في الكتاب، مشهور شهرة [الشمس] في يوم الصحو، تكلم وما تكلف، وتقدم ومن قبله تخلف؛ جرى على سجيته في الطباع ودعا عاصي البيان فأطاع، ولم يقف مع السجع يرسف في قيوده، ويكلف فكره فوق قدرته، فجاء بالعاطل الحالي، وتقدم على أهل العصر الخالي، وكان حلو الجنى عذب المشارع لا يرنق مورده، ولا يطفأ موقده؛ وهو في الكتاب بمنزلة امرئ القيس في الشعراء، إمام القوم وحامل لوائهم، وكان يحفظ القرآن الكريم وينتزع منه الآيات ويستشهد بها، وكانت بينه وبين الشريف الرضي «2» صداقة مؤكدة، ورثاه لما مات برثاء أسمع الخافقين، وطلع في المغربين والمشرقين؛ وأوله «3» : [الكامل] أرأيت من حملوا على الأعواد ... أرأيت كيف خبا ضياء النادي فاسمع بهذا الرثاء ما أعظمه وأفخمه!، ولا سيما من مثل هذا الشريف القائل،

واستدل به على ما لهذا الرجل من الفضائل؛ عود عبق أرجه وهو حطب، وذمي «1» رقا المنبر فضله وخطب، عقد ندّه سماء من دخان، وأدار مداما من دنان، وكتب دنّه عن الملوك البويهية قرار بأولئك القساور، وزار النجوم وسلب الأهلة الأساور، فضرب النحر بالأسداد، وكايل البحر بالأمداد، وأبدع عجبا وأبعد، فساكن عجما وجاور عربا؛ وتوفي سنة أربع وثمانين وثلاثمئة. * ومما له قوله: له يد برعت في الجود بنانها، ونظم الدر بيانها، فحاتم كامن في بطن راحتها، وسحبان مستتر بنمارق فصاحتها؛ فلها يد في كل يد، ومنة في كل عنق، وقرط في كل أذن، وسمط في كل مهرق «2» ؛ لها كل يوم مزيد، وعبد الحميد عبد الحميد. وقوله من عهد لقاض «3» : وأمره إن ورد عليه أمر يعييه فصله، ويشتبه عليه وجه الحكم فيه «4» ، أن يرده إلى كتاب الله عز وجل ويطلب فيه سبيل المخلص منه؛ فإن وجده وإلا في الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن أدركه وإلا استفتى فيه من يليه من ذوي الفقه والفهم، وأهل الدراية والعلم، فما زال الأئمة والحكام والسلف الصالح وطراق

السنن الواضح يستفتي واحد منهم واحدا، ويسترشد بعضهم بعضا لزوما للاجتهاد، وطلبا للصواب، وتحرزا من الغلط، وتوقيا من الشطط؛ قال الله تعالى: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ «1» . * [وأمره] «2» أن لا ينقض حكما حكم به من كان قبله، ولا يفسخ من تقدمه، وأن يعمل عليه ولا يعدل عنه، ما كان داخلا في إجماع المسلمين، وسائغا في أوضاع الدين؛ فإن خرج عن الإجماع أوضح الحال فيه لمن بحضرته من الفقهاء والعلماء، حتى يصيروا مثله في إنكاره، ويجمعوا معه على رده، وحينئذ ينقضه نقضا يشيع ويذيع، ويصير به الأمر [إلى] «3» واجبه، ويعود معه الحق إلى نصابه؛ قال الله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ «4» . * [وقوله في رحلة صيد] : «5» واعتمدت في الصيد «6» على من يحضرني من أوليائه، على قوة أبدانهم ونشاطها، ورياضة خيلهم وانبساطها، والزمان ساقطة جماره «7» ، مفعمة أنهاره، ونحن غبّ سحاب أقلع بعد الارتواء، وأقشع بعد الاستغناء، والرياض زاهية بحمرائها وصفرائها، تائهة بعوانها وعذرائها، وما نرد منها حديقة إلا استوقفتنا نضارتها واستنزلتنا غضارتها، وخيلنا تشتاق

الصيد وهي لا تطعمه، وتحن إليه كأنها تقضمه، وعلى أيدينا جوارح مؤللة المخالب والمناسر، مدربة النصال والخناجر، سابغة الأذناب، كريمة الانتساب؛ إذ وردنا ماء زرقا جمامه، طامية أرجاؤه، يبوح بأسراره صفاؤه، ويلوح في قراره حصباؤه، وأفانين الطير به محدقة، وغرائبه عليه محلقة، متغايرة الألوان والصفات، مختلفة اللغات والأصوات؛ فلما أقبلنا عليها، أرسلنا الجوارح كأنها رسل المنايا أو سهام القضايا، فلم نسمع إلا مسمّيا، ولم نر إلا مذكّيا؛ وانطلقنا بعد ذلك نعتام في الطير ونتخير ونقترح ونتحكم؛ فاختطفنا ببراثننا ما طار منه وانتشر، وأخذنا بجوارحنا ما لاح منه واستتر؛ فاهتدت إليها تستدل عليها بالشميم، وتهتدي إليها بالنسيم؛ فلم يفتنا ما برز، ولا سلم منا ما احترز، ثم عدلنا من مطائر الحمام إلى مسارح الآرام، وأمامنا أدلة فرهة يهتدون، ورواد «1» مهرة يرشدون، حتى أفضينا إلى أسراب كثيرة العدد، متصلة المدد، لاهية بأطلائها، راتعة في أكلائها؛ ومعنا فهود أخطف من البروق، وألقف من الليوث، وأجدى من الغيوث، وأمكن من الثعالب، وأدبّ من العقارب، وأنزى من الجنادب، خمص البطون، رقش المتون، خزر الأحداق، هرت الأشداق، غلب الرقاب، كاشرة عن أنياب كالحراب، تلحظ الظباء من أبعد غاياتها، وتعرف حسها من أقصى نهاياتها، فأقبلنا من تجاه الريح عليها، وأغذذنا المسير نحوها وإليها، ثم وثبنا لها الضّراء، وشننا عليها الغارة الشعواء، وأرسلنا فهودنا، وجرت خيلنا في آثارها كاسعة لأذنابها، فألفينا كلا منها على ظبي قد افترشه، وصرعه فعجعجه «2» ؛ وأوغلنا من بعد في اللحاق، وقص آثار ما ند وبعد؛ وقد انتهت النوبة إلى الكلاب والصقور، ومعنا منها كل عريق المناسب نجيح المكاسب، حلو

الشمائل، نجيب المخايل، أغضف الأذنين «1» ، أسيل الخدين، أبي النفس، ملتهب الشد، لا يمس الأرض إلا تحليلا وإيماء، ولا يطالها إلا إشارة وإيحاء؛ وكل صقر ماض كالحسام، قاض كالحمام، مشتط في مطالبه، خفيف النهضة في مآربه، سريع الوثبة فيما يريد، ثقيل الوطأة على ما يصيد؛ فما لبثنا أن أشرفنا على يعافير «2» متطرفة، ويحامير «3» متعرفة، فخرطنا القلائد والشناقات «4» ، فمرت متوافقات مترافقات، قد تباينت في الصور والأجناس، وتآلفت في الإرشاد والالتماس؛ فسبقت الصقور إليها ضاربة وجوهها، عاكسة رؤوسها، ولحقت الكلاب بها منشبة فيها، مدمية لها؛ فبادرناها مجهزين، وغنمناها ما يزين، ثم أخذنا في صيد ما يقرب ويخفّ، وتحصيل ما يلوح ويستدفّ «5» ؛ فلاح لنا قنبر، فأطلقنا عليه يؤيؤا «6» ، فغاب عن الأبصار، واحتجب «7» عن الأنصار، وصار كالغيب المرجم والظن المتوهم، ثم خطفه «8» ووقع به، وهما كهيئة الطائر الواحد؛ وعدنا وفي حبائلنا الصيد والصائد، ورجعنا والشمس مصبوبة للغروب، مؤذنة بالمغيب، والجو في أطمار مبهجة في أصائله، وشفوف مورسة من غلائله؛ فالله ينصر مولانا في دقيق الأغراض وجليلها، ويقضي له بالظفر في جسيم المطالب وضئيلها.

[وقوله من أخرى] : «1» مآرب الناس منزلة بحسب قربها، وأولاها بأن يعتده الخاصة ملعبا والعامة مكسبا: الصيد الذي هو رائض الأبدان، وجامع لشمل الإخوان؛ ولما كانت الجوارح المثمنة، ليست لكل الناس ممكنة، بل لمن عظم شأنه وحاله، وجمّ نسبه وماله، جعلت القول مقصورا على قسي البندق، التي لا تتعذر على مكثر ولا مملق؛ وأنا أكتفي في ترغيب من كان عنه منحرفا، وتثبيت من كان إليه متشوفا، بوصف موقف منه شهدته في بعض ظواهر مدينة السلام، وهناك غيضة ذات ماء أزرق، وشجر مرجحنّ «2» مورق؛ فبينا أنا قائل فيها، ومنتزه في نواحيها، وقد تأودت في حلل الورد شجراؤها، وتفاوحت بروائح المسك أنوارها، إذ أقبلت رفقة قبل الدرور والشروق، وشمرت عن الأذرع والسوق، مقلدين خرائط تحمل من البندق الموزون الملوم، ما هو في الصحة والاستدارة كاللؤلؤ المنظوم، كأنما خرط بالجمر، فجاء كبنان الفهر؛ وقد اختبر طينه، وملك عجينه، كافل مطاعم حامليه، محقق لآمال آمليه، ضامن لحمام الحمام، متناول لها من أبعد مرام؛ يعرج إليها وهو سمّ ناقع؛ ويهبط إليهم وهو رزق نافع؛ وبأيديهم قسي مكسوة «3» بأغشية السندس، مشتملة منها بأفخر ملبس، مثل الكماة في جواشنها «4» ودروعها، والجياد في جلالها وقطوعها؛ حتى إذا جردت من تلك المطارف، وانتضيت من تلك الملاحف، رأيت منها قدودا مخطفة رشيقة، وألوانا معجبة أنيقة، صلبة المكاسر والمعاجم، نجيبة المنابت والمناجم، خطية الانتماء والمناسب، سمهرية الاعتزاء والمناصب؛ تركبت من شظايا الرماح الراعبية، وقرون

الأوعال الجبلية؛ قد تحنت تحني النساك، وصالت صيال الفتاك؛ ظواهرها صفر وارسة، ودواخلها سود دامسة، كأن شمس أصيل طلعت [في] متونها، أو جنح ليل اعتكر في بطونها، أو زعفران جرى فوق مناكبها، أو غالية جمدت على ترائبها، أو ثني قضبان فضة أذهب بعضها واحترق شطر، أو حيات رمل اعتنقت السود منها والصفر؛ فلما توسطوا تلك الروضة، وانتشروا على أكناف تلك الغيضة، وثبتت للرمي أقدامهم، وشخصت إلى الطير أبصارهم، وتروها بكل وتر فوّق سهمه، وأفق انقض نجمه، مضاعف عليها من وترين كأنه بروح ذو جسدين، في وسط تسريحه كيس مختوم، أو سرة بطن مهضوم، كأنها متخازر ينظر شزرا، أو مصغ يتسمع نزرا، تصيب قلوب الطير بالأنباض، وتصيب منها مواقع الأعراض؛ فلم يزل القوم يرمون ويصيبون، وينجحون ولا يخيبون، حتى خلت من البندق خرائطهم، وامتلأت بالصيد حقائبهم، فكم عارضت الطير فكسرت أجنحتها وجآجئها، واستطارت في الجو قوادمها وخوافيها، تعاجل قبل فناء ذمائها «1» ، ويصير ريشها كالمجاسد من دمائها محمولة على حكم الكفار، إذ يقتلون ومصيرهم إلى النار؛ تحنط بتوابلها وأبازيرها، وتوارى في قدورها وتنانيرها، ثم تبعث إلى إخوان متوافقين، وخلان مترافقين، قد تمالحوا في الطعام، وتراضعوا في المدام، لا يشوب صفوهم شائب، ولا يعيب فضلهم عائب؛ فالحمد لله الذي أباحنا لذيذ المطاعم، ونهج لنا سبيل المغانم.

ومن كلام أبي إسحاق الصّابئ قوله في عهد كتبه لطفيلي «1» : هذا ما عهد علي بن أحمد المعروف بعليكا إلى علي بن عرس الموصلي حين استخلفه على إحياء سنته، واستنابه في حفظ رسومه، من التطفيل على مدينة السلام وما يتصل بها من أكنافها، ويجري معها من سوادها وأطرافها؛ لما توسمه فيه من قلة الحياء، وشدة اللقاء، وكثرة اللقم، وجودة الهضم، ورآه أهلا له من شدة مكانه «2» في هذه الرفاهية المهملة التي فطن لها، والرفاغية «3» المطرحة التي امتد إليها، والنعم العائدة على لابسها بملاذ الطعوم ومناعم الجسوم؛ متوردا على من اتسعت مواد ماله، وتفرعت شعب حاله، وأقدره الله على غرائب المأكولات، وأظفره ببدائع الطيبات، آخذا من كل ذلك بنصيب الشريك المناصف، وضاربا منه بسهم الخليط المفاوض، ومستعملا للمدخل اللطيف عليه، والمتولج العجيب إليه، والأسباب التي ستشرح في مواضعها من هذا الكتاب، وتستوفى الدلالة على ما فيها من رشاد وصواب؛ وبالله التوفيق، وعليه التعويل، وهو حسبنا ونعم الوكيل. أمره بتقوى الله التي هي الجانب العزيز، والحرز الحريز، والركن المنيع، والطود الرفيع، والعصمة الكالئة، والجنة الواقية، والزاد النافع يوم المعاد، يوم لا ينفع

إلا مثله من الأزواد؛ وأن يستشعر خيفته في سره وجهره، ومراقبته في قوله وفعله، ويجعل رضاه وثوابه ملبسه، والقربة منه أربه، والزلفى لديه غرضه، ولا يخالفه في مسعاه قدم، ولا يتعرض عنده لعاقبة ندم. وأمره أن يتأمل اسم التطفيل ومعناه، ويعرف مغزاه ومنحاه، يتفحصه تفحص «1» الباحث عن حظه بمجهوده، غير القائل منه بتسليمه وتقليده، فإن كثيرا من الناس قد استقبحه ممن فعله، وكرهه لمن استعمله، ونسبه فيه إلى الشره والنهم؛ فمنهم من غلط في استدلاله، فأساء في مقاله، ومنهم من شح على ماله، فدافع عنه باحتياله؛ وكلا الفريقين مذموم [وجميعهما ملوم؛ لا يتعلقان بعذور واضح، و] «2» ، لا يتعريان من لباس فاضح؛ ومنهم الطائفة التي لا ترى شركة العنان، فهي تبذله إذا كان لها، وتتدلى عليه إذا كان لغيرها، وترى أن المنة في الطعم للهاجم الآكل، وفي المشرب «3» للوارد والواغل، هي أحق بالحرّيّة، وأخلق بالخيرية، وأحرى بالمروءة، وأولى بالفتوة، وقد عرفت بالتطفيل، ولا عار فيه عند ذوي التحصيل، لأنه مشتق من الطّفل، وهو وقت المساء وأوان العشاء، فلما كثر استعمل في صدر النهار وعجزه، وأوله [وآخره] «4» ، كما قيل للشمس والقمر: [القمران] وأحدهما القمر، ولأبي بكر وعمر: العمران وأحدهما عمر. وأمره أن يتعهد موائد الكبراء والعظماء بغزاياه، وسمط الأمراء والوزراء بسراياه؛ فإنه يظفر منها بالغنيمة الوافرة، ويصل منها إلى الغريبة النادرة؛ وإذا

استقرأها وجد فيها من طرائف الألوان، الملذة للسان، وبدائع الطعوم، السائغة في الحلقوم، ما لا يجد عند غيرهم، ولا يناله إلا لديهم. وأمره أن يتتبع ما يعرض لموسري التجار، ومجهزي الأمصار من وكيرة [الدار، والعرس] والإعذار «1» فإنهم يوسعون على أنفسهم في النوائب بحسب تضييعهم «2» عليها في الراتب. وأمره أن يصادق قهارمة الدور ومدبريها، ويرافق وكلاء المطابخ وحماليها؛ فإنهم يملكون من أصحابهم أزمة مطاعمهم ومشاربهم، ويضعونها بحيث يحبون من أهل موداتهم ومعارفهم؛ وإذا عدّت هذه الطائفة أحدا من الناس من خلانها، واتخذته أخا من إخوانها، سعد بمرافقتها، وحظي بمصادقتها، ووصل إلى محابه من جهاتها، وسار به إلى جنباتها «3» . وأمره أن يتعهد أسواق المتسوقين، ومواسم المتبايعين؛ فإذا رأى وظيفة قد زيد فيها «4» ، وأطعمة قد استحشد مشتريها، اتبعها إلى المقصد بها، وشيعها إلى المنازل الحاوية لها، واستعلم ميقات الدعوة ومن يحضرها من أهل اليسار والمروءة؛ فإنه لا يخلو فيهم من عارف به يراعي وقت مصيره إليها ليتبعه، ويكمن له ليصحبه ويدخل معه وإن خلا من ذلك اختلط بزمر الداخلين، فما هو إلا أن يتجاوز عتب الأبواب، ويخرج من سلطان البوابين والحجاب، حتى يحصل محصلا قل ما حصله أحد قبله، فما انصرف عنه «5» إلا ضلعا من الطعام، نزيفا من المدام.

وأمره أن ينصب الأرصاد على منازل المغنيات والمغنين، ومواطن الإناث والمخنثين؛ فإذا أتاه خبر بمجمع تضمهم، أو مأدبة تعمهم، ضرب إليها أعقاب إبله، وأنضى حولها مطايا خيله، وحمل عليها حملة الحوت الملتقم، والثعبان الملتهم، والليث الهاصر «1» والعقاب الكاسر. وأمره أن يتجنب مجامع العوام المقلين، ومحافل الرعاع المقترين، وأن لا ينقل إليها قدما ولا يفغر لمآكلها فما، ولا يلفى في عتب دورها كيسانا، ولا يعد الرجل منها إنسانا؛ فإنها عصابة يجتمع لها ضيق النفوس والأحوال، وقلة الأحلام والأموال، وفي التطفيل عليها إجحاف بها يوثم، وإزراء بمروءة المتطفل [يوصم] ، والتجنب لها أجدى «2» ، والازورار عنها أرجا. وأمره أن يحرز الخوان إذا وضع، والطعام إذا نقل، حتى يعرف بالحدس والتقريب، والبحث والتنقيب، عدد الألوان في الكثرة والقلة، وافتنانها في الطيب واللذة، فيقدر لنفسه أن يشبع مع آخرها، وينتهي عند انتهائها، ولا يفوته النصيب من كثيرها وقليلها، ولا يخطئه الحظ من دقيقها وجليلها؛ ومتى أحس بقلة الطعام، وعجزه عن الأقوام، أمعن في أوله إمعان الكيّس في سعيه، الرشيد في أمره، المالئ لبطنه من كل حار وبارد؛ فإنه إذا فعل ذلك سلم من عواقب الأغمار الذين يكفون تظرفا، ويقلون تأدبا، ويظنون أن المادة تبلغهم إلى آخر أمرهم، وتنتهي إلى غاية شبعهم، فلا يلبثون أن يخجلوا خجلة الواثق، وينقلبوا بحسرة الخائب؛ أعاذنا الله من مثل مقامهم، وعصمنا من شقاء جدودهم.

وأمره أن يروض نفسه ويغالط حسه، ويضرب عن كثير مما يلحقه صفحا، ويطوي دونه كشحا، ويستحسن الصمم عن الفحشاء، ويغمض عن اللفظة الخشناء، وإن أتته اللكزة في حلقه، صبر عليها في الوصول إلى حقه؛ وإن وقعت به الصفعة في رأسه، أغضى عنها لمراتع أضراسه؛ فإن لقيه لاق بالجفاء، قابلة باللطف والصفاء، إذ كان إذا ولج الأبواب، وخالط الأسباب، وجلس مع الحضور، وامتزج بالجمهور، ولا بد أن يلقاه المنكر لأمره، ويمر به المستغرب بوجهه؛ فإن كان حرا حييا أمسك وتذمم، وإن كان فظا غليظا همهم وتكلم؛ وأن يجتنب عند ذلك المخاشنة، ويستعمل مع المخاطب الملاينة، ليرد غيظه، ويفلّ حده، ويكف غربه؛ ثم إذا طال المدى تكررت الألحاظ عليه فعرف، وأنست النفوس به فألف، ونال من الحال المجتمع عليها، منال من حشم وسئل العناء إليها. ولقد بلغنا أن رجلا من هذه العصابة، كان ذا فهم ودراية، وعقل وحصافة، طفل على وليمة رجل ذي حال عظيمة فرمقته فيها من القوم العيون، وتصرف بهم فيه الظنون، فقال له قائل منهم: من تكون أعزك الله؟، فقال: أنا أول من دعي إلى هذا الحق؛ قيل له: وكيف ذلك ونحن لا نعرفك؟ فقال: إذا رأيت صاحب الدار عرفني وعرفته نفسي؛ فجيء به إليه، فلما رآه بدأه بأن قال له: هل قلت لطباخك «1» أن يصنع طعامك زائدا على عدد الحاضرين، ومقدار حاجة المدعوين؟ فقال: نعم؛ فقال: فإنما تلك الزيادة لي ولأمثالي، وبها تستظهر لمن جرى مجراي، وهو رزق أنزله الله على يدك، وسببه من جهتك؛ فقال: مرحبا بك وأهلا وقربا، والله لا جلست إلا مع علية الناس، ووجوه الجلساء والأناس، إذ قد طرفت في قولك، وتفننت في فعلك؛ فليكن ذلك الرجل لنا إماما نقتدي به، وحاديا نحدو على مثاله، إن شاء الله.

وأمره أن يكثر من تعاهد الجوارشنات «1» المنفذة للسّدد، المقوية للمعد، المشهية للطعام، المسهلة لسبيل الانهضام؛ فإنها عماد أمره وقوامه، وبها انتظامه والتآمه؛ لأنها تعين عمل الدعوتين، وتنهض في اليوم الواحد بالأكلتين، وهو في تناولها كالكاتب الذي يقط أقلامه، والجندي الذي يصقل حسامه، والصانع الذي يجدد آلاته، والماهر الذي يصلح أدواته. هذا عهد علي بن أحمد المعروف بعليكا إليك وحجته عليك، لم يألك في ذلك إرشادا وتوقيفا، وتهذيبا وتثقيفا، وتمعنا وتبصيرا، وحثا وتذكيرا؛ فكن بأوامره مؤتمرا، وبزواجره مزدجرا، ولرسومه متبعا، ولحفظها مضطلعا؛ إن شاء الله تعالى؛ والسلام عليك ورحمة الله وبركاته. قلت: وسئلت في تقليد لطفيلي، فعملت: الحمد لله الذي نعّم في طيبات رزقه، ورزق بعض خلقه من خلقه، وأجاز للمرء في بعض المذاهب التوصل بما قدر عليه إلى أخذ حقه، نحمده على نعمه التي وسعت الولائم، ومتعت بأكل كل ملائم، ونشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، شهادة أول ما يبدأ منها باسم الله الآكل، ويهنأ بها ما يهيأ من المآكل، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، الذي ما عاب قط طعاما، ولا دعي إلى طعام إلا أكل مالم يكن نوى صياما؛ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، صلاة تتلقمها المسامع التقاما، وسلم تسليما كثيرا؛ وبعد: فلما كان الغداء هو قوام الأبدان، ونظام عمارة البلدان، وموائد الطعام هي التي يجتمع عليها الإخوان، وتزهى به صدور الإيوان، وتفتح وتختم بالحمد، وتمنح من أطايب المطاعم ما يتجاوز الحد، ويكون فيها ما يسر العين من بدائع

الألوان، وتسري نجوم زباديها «1» في سماء الخوان، وقد تحويه دور بعض البخلا، ومن لا يدعو الناس إلى طعامه دعوة الجفلى «2» ، ويكون في ماله الممنوع حق للسائل والمحروم، ومن لا يتوصل إلى الحق منه إلا بالتطفيل المعلوم، ممن تعيّن الأكل من ماله بأنواع الحيل، والهجوم على موائده المحجوبة وراء الحلل، واستعمال الإقدام على هذا وأمثاله لأكل طعامه، وإخلاء المائدة من قدامه؛ ولم يوجد لهذه العظيمة، ولا يلام صاحب كل وليمة، إلا من كان إذا أكل اضطلع، وإذا مد يده إلى السماط اقتلع، أو صعد إلى السماء ذبح سعد الذابح وبلع سعد بلع؛ ولم يزل يزلزل الموائد، ويملأ وعاء بطنه بزائد، ولا يعرف ما تكون البطنة، ولا ما تكفي منه اللقمة وتعني منه اللهنة، ولا يقابله صدور الأطباق إلا وهي غير مطمئنة. وكان فلان هو الذي طالما كشف وجه السماط، وحل من سفر المخالي الرباط، وجال في جنبات الموائد حتى أخلاها، وركض فيها ركض الجواد حتى ألحق أخراها بأولاها، وعرف في الولائم التي لم يزل فيها مشهور الحملة، آتيا على التفصيل والجملة، معروفا بكبر اللقم التي تكاد تخنق، وترك التشهي وأكل ما يتفق، وقوة النهمة التي لو نقمت [على] الصخر لسحنته، أو كلفت خوض البحر إلى أكل لقمة واحدة لاستهونته؛ واشتهر بطبع طبع، عنّى كل من يجيء بعده وأتعب، وفرط طمع أطفأ كل طفيلي وأمات أشعب وأم أشعب، ولم يعصم منه باب مغلق، ولا ستر مطبق ولا طعام جالس على الطريق، ولا محبوس من وراء مضيق، بل لو قيل له: إنّ اللقمة خلف جبل قاف لقام إليها يسعى، أو في فم الأفعى لمد يده إليها ولم يخف لسعا، قد تبلط وجهه الوقاح، وأفنى لحوم ذوات الأربع والجناح، ولم يدع في القدور شيئا عليه يدور، ولا في المخافي ما هو عليه خافي، ولا نوعا من الأنواع، ولا ما يصلح للأكل مما يشترى ويباع؛ ولو واكل ابن أبي

سفيان «1» لأشغله عن العيان أو سليمان بن عبد الملك «2» لهلك، أو الملك العادل «3» ، لأفقره في العاجل، أو عاصر ميسرة التّراس «4» ، لما اشتال له معه راس، أو عاشر القائد المغربي مولى فارح «5» ، لأراه في الأكل كل قارح، لا يعجبه لأجل السعي للأكل إلا كلّ يوم أغر يبدو نوره، وكل ملك إذا تغدى رفعت ستوره «6» ، لا يعد فردا، إلا من قدم إليه قصعة مكللة لحما مدفقة ثردا، ولا يكون منازلا، إلا لمن قال: وإني لعبد الضيف ما دام نازلا «7» ؛ يتغدى بجمل، ويتعشى بوسقه «8» ما حمل، يصرف الأكل بغزارة، ويحمل معدته فوق السبع كارة، ولا يكفيه قدر الرغيف إلا كلما أرهن عليه قوسه حاجب بن زرارة، ولا يقنعه طبخة القدر، إلا بجميع ما في الكوراة؛ يتنقل بإردبّ «9» ، ويأكل كل ما سعى أو دبّ، يتملح بمدّ ملح «10» وقوصرة بصل، ويتحلى بعديلة تمر ووطب

عسل؛ يشرب من اللبن وطبا، ويتنقل بحمل الحديقة رطبا، القنطار عنده أوقية، والرطل توابل التغذية، لا يحب إلا اسم بلعام «1» وطعمه، ولا يأكل ملء الطبق إلا في لقمة، يأكل باليدين، ويشبع بالعين؛ لم يعرف في طول عمره التخم، ولا خاف الوخم، ولا وقع على جيف المآكل إلا وقوع الرخم، ولم يأكل- حاشاه- في سبعة أمعاء، وإنما يدخر معه في وعاء، ما قرأ من الفقه إلا كتاب الأطعمة، ولا سئل: كيف الطريق؟ إلا قال: أنا ما أحب إلا الأشياء الحلوة الدسمة؛ لا نعرف أعرف منه بتلفيق الأسباب، وتخريب عرائش النقانق وقباب الكباب، فما حط يده في طعام إلا محقه، ولا في مأكول إلّا وعاد في الحال كأن الله ما خلقه، فاقتضى له تقدمه في هذه الطائفة الطائفة «2» ، أن يكتب له هذا التقليد، ويزاد به طول يده وباعه المديد، ويميز على أبناء جنسه من طائفة الشيخ ساسان «3» ، ومن يأخذ أموال الناس باليد ويأكلهم باللسان، ويفعل الفعائل التي ما يظن بها إلا أن زمان أبي الأكاسرة عاد، وينصب النصبات «4» التي لو كان أبو زيد السروجي «5» حاضرها لما زاد، فرسم أن يقلد أمر طائفة الطفيلية، ويعاد إليه أمورهم بالكلّيّة؛ وأن يكونوا جميعهم تحت أمره المطاع وأعوانه، إذا أكل كل ما على السماط وخلى الناس وهم جياع، وهو ما يحتاج إلى الوصايا التي تشغله عن الابتلاع، وتلهيه عن النهم الذي هو من خلق السباع؛ وإنما نقول له على سبيل

التذكرة، ونكتفي بالقليل لما عنده من المخبرة؛ فأول ما نوصيه أنه لا يقف عند منهل، ولا يتوقف في أي شيء تسهل، ولا يتخير ليتحير، ولا يذكر إذا تقدم إلى الطعام؛ بحقد من حقد ولا لوم من لام، ولا يحسب حساب تقية من حضر، بل يأكل الكل ولا يذر، ولا ينتظر من غاب، ولو كان أسد الغاب، ومهما جاء قدامه رماه بالمحاق، وعاجله خوف اللحاق؛ وإذا قدمت المائدة، يذكر اسم الله لتهرب الشياطين، وتغنّى لئلا تحضر الملائكة، ويتحيّل بكل طريق في عدم المشاركة، ويعجل مهما أمكنه فإنه ما يأمن المداركة وليلف الخبز والإدام، ولا يعفّ عن لحس الزبادي وقرقشة العظام، ولا يتلافى خاطر من حرد ولا يترضى، ولا يدع شيئا مما يطلق عليه اسم الأكل حتى النار التي تأكل بعضها بعضا، وليباكر الغداء فإنه مكرمة، ويلازم العشاء فقد قال صلى الله عليه وسلم «1» : «تعشّوا ولو بكف من حشف فإنّ ترك العشاء مهرمة» ، وليداوم على ما هو عليه من هذا الأمر، ولا يلتفت لقول زيد ولا عمرو، وليأكل ما حضر ويحرص على الطيبات، فقد كان صلى الله عليه وسلم يأكل القثاء بالرطب، ويحب الحلو والعسل، ويحب الزّبد والتمر، ولا أقل أن يكون فيه هذا من السنة؛ ومن تتبع مآكل السلف، وإن كان لا يريد، لأن هذا كله لا مصور على خاطره، وممثل في ناظره؛ ثم ليتعهد المهضمات وما يقوي المعدة، ويزيد لهيب نيرانها المتقدة، ولا يدع استعمال المسهلات، ليهيئ المعدة لمواقع الغداء والعشاء، ومواضع الأكل في مطاوي الأحشاء؛ وليستعلم أخبار الآكلين، وطرائف الطفيلية المحتالين، لما يحصل بذلك من التأسي، وينهض الشهوة للأكل والتحسي؛ وإياه والمضغ، فإنه يطيل المدى ويقلل معه مقدار ما يؤخذ من الغدا؛ ومهما استطاع فليحسن المآكل، ويحزن صاحب الضيافة الحزين الثاكل،

وليصرف شهوته إلى ما لا ينصرف، وما يقف على المعدة ويتوقف، ويلازم مغلظات الغداء ولا يسمع ممن قال: إنه المذموم، وليستكثر من لحوم الجمال والجواميس والبقر وما أشبه هذه اللحوم، وكذلك مارزن من الحبوب ووزن، فجاء أضعاف مثله في القدر المحسوب؛ ودأبك أن تعرف موسم كل مجتمع، ومكان يرجى فيه ملء البطن والشبع، وصرف أعوانك لتعرف أخبار الأعراس التي يولم فيها الولائم، وبقية المواضع التي ينصرف عنها بشبعه الطاعم، وأسمطة الأمراء وآدر الوزراء، ومواضع مناصفات الفقراء، والأوقات التي تعمل لها جلاسات الفقهاء والقراء، ومظان الرهان التي تؤخذ فيها الدراهم، وتصرف غالبا في أنواع المطاعم، ودعوات الإخوان وأهل القصف، ومن يكون على ميعاد استعد له ومالا يبعد عن هذا الوصف، ودور أهل اليسار وكبار العامة والتجار، والجندي إذا جاء من الريف وحط هديته عن الحمار، وأرباب الصنائع الذين منهم من أوتى رزقه، ومن لا يبلغ أجرة عمله في اليوم درهمين وينفق بعض الأيام أكثر من دينار؛ ومواضع النزه، فكثيرا ما يستخرج بها مال البخيل، والبيوت التي تطلب إليها المواشط والدايات، فإن النفقة فيها غير قليل؛ وأقم لك ربيئة «1» على كل رابية [و] كل مكان يدقّ عليه بالطبول، ويتبع من يقوم منهم لتهنئة من تجددت له نعمة أو دفعت عنه نقمة أو غير هذا مما يقتضيه الفضول، ثم اقصد هذه المواضع وابسط يدك كل البسط، وتذكر ما كتب ساسان على عصاه «2» ولا تنس الشرط، ولف الإوز والدجاج والبط، واشرب بالزبادي المرق ولو أنه ماء الشّطّ، واحرق كل ما قدامك ولو كان النار والكبريت والنفط؛ وصل صولة الفحل، وكل

الشهد وإبر النحل، ولا تخل جنى النحل، ولا ما غرست فيه من الوحل «1» ، واهجم واسأل ولا تسل، ولا تفرق في سد الجوعة بين الصبر والعسل، وإذا رأيت جماعة فاحدس أنهم إنما اجتمعوا لطعام، أو أفرادا فاجزم بأنهم تفرقوا حيلة للالتئام، فاعمل بالحزم، واقصدهم وصمم العزم، وانضم إليهم واهجم هجوم الأسد المفترس، وكل كلّ ما بين أيديهم، وتنوع في الشهوات واقترح، ولا تخف من غضبهم فلابد أنك وإياهم تصطلح، وكل أكلة تكفي سنين، واستكثر بالآلاف المئين، وقل: [الكامل] يا أكلة من عاش أخبر أهله ... أو مات يلقى الله وهو بطين «2» فإن ضاقت منك عين بخيل، وإن عجلك عن الطعام قبل امتلاء الخرطبيل، وبسط إليك أحد يده ليقتلك، أو صفعك بالخفاف ونطلك «3» ، فاحتسب مصابك، وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ «4» ، ولا تهتم لما نزل عليك، ولو نزل الماء الأسود في عينيك، وورم وجهك وخلف أذنيك، فلا تنظر هذا الخطب الجليل إلا حقيرا، ولا هذا التعزير البليغ إلا على ما سمي به في الأصل توقيرا، ولا يردك هذا عن فعلك في المستقبل، واسمع من هذه الوصية واقبل، ولا تستكثر حمل ألف بعير، ولا تستقل حبة خردل، واجمع جنودك على هذه الطاعة، وإن كانوا ما يجمعهم مندل، وبصرهم بشرق البشرة، وعودهم أن لا يأكلوا بالخمسة والكف دون العشرة، وافتح فمك والتهم، وأوسع بطنك واضطرب في السماط واضطرم، وانتقد على البخيل وانتقم، وافعل في هذا فعل من لا يحتشم، ولا يخاف أنه ينبشم، وابرك في المائة وارتطم، واضرب للعجلة وجهك بيدك والتطم، وحافظ على هذا

واستدم، واستمك ظهور الموائد واستنم؛ ولو رفسك بخفه البعير، نزّله منزلة القرص الكبير، واهجم على الرغيف، ولو أنه الغريف «1» ، وهاجم على الفريسة كالأسد، وأدخل الطّعام على الطّعام ولو فسد، وغالب البخلاء على أموالهم ولا تفكر في أحد، وطالب من لا لك عنده شيء ولا يضرك من جحد، واضرب الحيس بالحيس، وكل السخلة والكبش والجدي والتيس، وكبّ جموع ربيعة على مضر ويمن على قيس، ولا يلج في مسامعك عذل عاذل، ولا يرد يدك منع بخيل ولا بذل باذل، ولا يغب عنك الماء لتسويغ الغصص، وإرفاد الطعام به بالقفص، وعليك بالعزائم وإياك والرخص، والحذر كل الحذر من الكسل والتواني، والقعود عن المواضع التي تطلب إليها القراء والمغاني؛ فإن كل هذه المظان، والمظانّ التي تسلط فيه السكين على الضان، فما كل وقت تصبح وليمة، ولا كل حين تمضي عزيمة، والإنسان الشاطر من أكل أكل البهيمة، وما كل أوان يتبوأ الآكل دار مضيف يحلّها، وينعم في جنات جفان أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها «2» ، فلا يؤخّر يوم سرور ينتظر له غدا، ولا يشيل لعشاء من غدا، ولا يفوت دعوة كريم يضيف يديه في داره ويقول: وَكُلا مِنْها رَغَداً «3» ؛ ومر أعوانك فليحمدوا الله الذي أطعمهم من أموال خلقه، وجعل أيديهم تعاجل يد صاحب الطعام في سبقه، وأوصهم بالشكر وقل لهم: فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ «4» ؛ والله تعالى يمتعه بما وهبه من بطن لا يشبع، ونفس أدنى من نفس أشعب الطماع وأطمع، وسبيل كل واقف عليه الانتهاء إلى ما يتقدم به من الأمر، وسلوك مسلك أصحاب أبي نعامة معه حتى يأكلوا معه الجمر، ومن خالفهم منهم يسقط من جريدة هذا الحساب، ويوقف وراء الحجاب، وأدّب بين الطفيلية أدبا

يبقى به أعجوبة، ويترك في مكان يبصر الناس فيه يأكلون، ولا يصل إليهم، وكفاه هذا عقوبة؛ والاعتماد على الخط الكريم أعلاه. * وعنوان قوله في النظم «1» : [الكامل] إن كنت خنتك في المودة ساعة ... فذممت سيف الدولة المحمودا وزعمت أن له شريكا في العلى ... وجحدته في فضله التوحيدا قسما لو اني قد حلفت غموسها ... لغريم دين ما أراد مزيدا وقوله: [الكامل] قلم يفل الجيش وهو عرمرم ... والبيض ما سلت من الأغماد وهبت له الآجام حين نشابها ... كرم السّيول وهيبة الآساد وقوله: [الكامل] حملوا قلوب الأسد بين ضلوعهم ... ولووا عمائمهم على الأقمار وتقلدوا يوم الوغى هندية ... أمضى إذا انتضيت من الأقدار قوم إذا لبسوا الدورع حسبتهم ... كسحاب غيث ممطر بنهار إن خوّفوك لقيت كل كريهة ... أو أمّنوك لقيت دار قرار وقوله وقد شكا وجع المفاصل «2» : [مجزوء الكامل] وجع المفاصل وهو آ ... خر ما لقيت من الأذى ترك الذي استحسنته ... والناس من حظّي كذا والعمر مثل الكأس ير ... سب في أواخره القذى

وقوله «1» : [مخلع البسيط] والنّقل من فستق حديث ... رطب تبدّى به الجفاف زمرّد صانه حرير ... في حقّ عاج له غلاف وقوله «2» : [الطويل] وللسر فيما بين جنبيّ مكمن ... خفيّ قصيّ عن مدارج أنفاسي كأني من فرط احتفاظي أضعته ... فبعضي له واع وبعضي له ناسي وقوله: [الوافر] لقد فاوضته وسددت أنفي ... فما نفع احتراسي واحتياطي عجبت لأمّه إذ قمّطته ... لقد وضعت خراها في القماط وقوله «3» : [الطويل] إذا لم يكن بدّ من الموت للفتى ... فأروحه الأوحى الذي هو أسرع فكن غرضا بالعيش لا تغتبط به ... فمحصوله خوف وعقباه مصرع وقوله «4» : [الكامل] حتى إذا داع دعاه إلى الهوى ... أصغى إليه سامعا ومطيعا كذبالة أخمدتها فكما دنا ... منها الضرام تعلقته سريعا

وقوله «1» : [الكامل] قد كنت طلقت الوزارة عندما ... زلت بها قدم وساء صنيعها فغدت بغيرك تستحل ضرورة ... كيما يحلّ إلى ذراك رجوعها فالآن عادت ثم آلت حلفة ... ألّا يبيت سواك وهو ضجيعها وقوله في مبخرة: [الرجز] وقبّة ذات حدود أربعه ... مبنيّة بناء رأس الصومعه في ذرعها ضيق وفي الطيب سعه ... حالية كالغادة المصنعه مزفوفة لفتية مجتمعه ... من شاء أن يخلو بها خلت معه صبّت عليها خلع مرتجعه ... تلبث فيها ثم تعرى مسرعه وقوله: [الخفيف] أقبلت ثم قبّلت ظهر كفّي ... قبلة تنقع الغليل وتشفي فعضضت اليد التي قبلتها ... بفم حاسد يريد التشفّي «2» وقوله: [الطويل] فلا تتخذ لحمي غداء تسيغه ... وتحسب جهلا أن سيمريك أكله فقد يلسب الفيل المعظّم عقرب ... فتقتلها من بعد ذلك نعله وقوله: [مجزوء الكامل] ما زلت آمل فتح آمل ... مذ سيرت تلك الجحافل «3»

لله ما نطق اللسا ... ن به وأومأت الأنامل واستكتمت أسيافنا ... تلك العواتق والكواهل فطعاننا يفري الكلى ... وضرابنا يبري المفاصل يا برد حرّ حروبنا ... في كلّ صدر ذي بلابل أبدا ترينا في الأوا ... خر ما اقترحنا في الأوائل فامدد يديك لمادنا ... ولما نأى فالكلّ حاصل وقوله- وكان شيخنا أبو الثناء يستحسنه- «1» : [الطويل] أقول وقد جردتها من ثيابها ... وعانقت منها البدر في ليلة التّمّ وقد آلمت صدري بشدة ضمّها: ... لقد جبرت قلبي وإن أوهنت عظمي وقوله: [مجزوء الكامل] قل لابن نصر قول من ... سمع الأذى منه وشمّه: يا ليت من حفر الكني ... ف بوسط وجهك منه ضمّه وقوله يصف الجوزاء بين الشعريين: [البسيط] وقد تجدلت الجوزاء بينهما ... كأنه جثّة مضروبة العنق ورام أخذ الثّريا وهو يحسبها ... خريطة سقطت ملأى من الورق وقوله في الخمر «2» : [المنسرح] صفراء كالورس جامها يقق ... شعاعها كالذّبال يأتلق كأنها في كفّ من أتاك بها ... ضحى نهار في وسطه شفق وقوله: [الخفيف]

بين فكيك يا ابن نصر مضيق ... فيه بالشمّ للمنايا طريق فاتق الله في الورى وتلثم ... أي نفس لبعض هذا تطيق وقوله: [الطويل] إذا كنت قد أيقنت أنك هالك ... فما لك مما دون ذلك تشفق ومما يشين المرء ذا الحلم أنه ... يرى الأمر حتما واقعا وهو يقلق وقوله: [البسيط] بكى المظفّر من إفراط فروته ... فكلّ من أبصرته عينه ضحكا «1» كأنها إذ بدت والأير راكبها ... زق يصيد عليها سابح سمكا وقوله «2» : [الخفيف] أيها النابح الذي يتصدّى ... بقبيح يقوله لجوابي لا تؤمّل أني أقول لك أخسأ ... لست أسخو بها لكلّ الكلاب وقوله: [الخفيف] عظمت فروة المظفّر حتّى ... أعجزت كلّ ناظر يشتهيها غيبت أيره فلم يبق إلّا ... فيشة منه ربما تبديها كالسحلفاة حين تطلع رأسا ... فإذا أوحشت تراجع فيها وقوله: [الوافر] أبا الخطّاب لو أنّي رهين ... ببطن القاع ينعاني نعاتي لألزمك الوفاء وصال رمسي ... فكيف تجيز هجري في حياتي

وقوله «1» : [مجزوء الكامل] قل للشريف المنتمي ... للغرّ من سرواته شاد الألى لك منصبا ... قوّضت من شرفاته والعود ليس بأصله ... لكنّه بنباته والماء يفسد إن خلط ... ت أجاجه بفراته وأحقّ من نكّسته ... بالصّغر من درجاته من مجده من غيره ... وسفاله من ذاته وقوله في إمام أبخر: [مخلّع البسيط] يا من يصلّي صلاة شكّ ... يطول في إثرها قنوته إن كنت تبغي الثّواب فاسكت ... ربّ فم أجره سكوته وقوله: [مخلّع البسيط] انحر أعادي بني بويه ... بالسّيف في جملة الأضاحي فالكلّ منهم ذوو قرون ... تصلح للذّبح والنّطاح وقوله في مدخنة «2» : [الطويل] ومحرورة الأحشاء تحسب أنها ... متيمة تشكو من الحبّ تبريحا يخرّق فيها العود عودا وبدأة ... فتأخذه جسما وتبعثه روحا وقوله «3» : [المسرح] قبّلت منه فما مجاجته ... تجمع مغنى المدام والشّهد

كأنّ مجرى سواكه برد ... وريقه ذوب ذلك البرد وقوله: [الطويل] وقالوا: اتّخذ أخرى سواها لعلّها ... تنسيك ذكراها التي تتردّد فقلت لهم: بعدا وسحقا لرأيكم ... أأقلع عيني حين تذوى وترمد وقوله في وردة: [البسيط] حمراء مصفرة الأحشاء ناعتة ... طيبا تخال به في الطّيب عطّارا كأنّ في وسطها تبرا يخلّطه ... قين يضرّم من أوراقها نارا وقوله: [الطويل] وهبت له عمر الشبيبة صحبة ... وأكرم بذي جود إذا وهب العمرا فلّما ألمت للزمان ملمة ... فزعت إليه والتمست به النّصرا فصمّ ولم يسمع نداء ولم يجب ... دعاء كأني به مستنطق صخرا ورقّت صروف الدّهر لي من صنيعه ... فأصبحت أشكوه وأستصرخ الدهرا وقوله «1» : [الكامل] ما زلت في سكري ألمّع كفّها ... وذراعها بالقرص والآثار حتى تركت أديمها [وكأنّما] ... غرس البنفسج منه في الجمّار وقوله: [السريع] ومن طوى الخمسين من عمره ... لاقى أمورا فيه مستنكره وإن تخطاها رأى بعدها ... من حادثات النقص ما لم يره

وقوله «1» : [البسيط] إن نحن قسناك بالغصن الرطيب فقد ... خفنا عليك له ظلما وعدوانا لأنّ أحسن ما نلقاه مكتسيا ... وأنت أحسن ما نلقاك عريانا وقوله «2» : [مجزوء الكامل] يا من بدت عريانة ... فرأيت كلّ الحسن منها كانت ثيابك عورة ... فسترت بالتّجريد عنها وقوله: [الطويل] خضاب تقاسمناه بيني وبينها ... ولكنّ شأني فيه خالف شانها فيا قبحه إذ حلّ منّي مفرقي ... ويا حسنه إذ حلّ منها بنانها وقوله في اصطرلاب أهداه «3» : [البسيط] أهدى إليك بنو الآمال واحتفلوا ... في مهرجان جديد أنت مبليه لكنّ عبدك إبراهيم حين رأى ... علوّ قدرك عن شيء يدانيه لم يرض بالأرض مهداة إليك فقد ... أهدى لك الفلك الأعلى بما فيه وقوله: [الخفيف] يشتهي النّذل أن يكون كريما ... فإذا سيم ما اشتهاه أباه

فهو مثل العنّين يشتهي النّي ... ك ولا يستطيعه إن أتاه وقوله «1» : [الكامل] ومن العجائب أنّني هنّأته ... وأنا المهنّا فيه بالنّعماء وقوله «2» : [الكامل] يا ذا الذي جعل القطيعة دأبه ... إنّ القطيعة موضع للرّيب إن كان ودّك في الطّويّة كامنا ... فاطلب صديقا عالما بالغيب وقوله: [الخفيف] صدّ عنّي مستعذبا لعذابي ... وجفاني كعادة الأحباب كل يوم يروع قلبي بفنّ ... من تجنيه لم يكن في حسابي وقوله: [الطويل] لئن صرت حلس البيت حلف جداره ... فبالأمس منّي تستعيذ النجائب كذاك أبو الأشبال يربض مرصدا ... ولابدّ من أن يعتدي وهو آئب وقوله «3» : [الطويل] تورّد دمعي فاستوى ومدامتي ... فمن مثل ما في الكأس عيني تسكب فو الله ما أدري أبا الخمر أسبلت ... جفوني أم من دمعتي كنت أشرب وقوله: [السريع]

2 - وأما أبو محمد عبد الله بن عمر بن محمد الفياض، كاتب سيف الدولة:

سألت عنه مجلسا قامه ... قد كان مأكولا له معجبا فقال: ما قولك في مدخل ... وجدت منه مخرجي أطيبا 2- وأما أبو محمّد عبد الله بن عمر بن محمّد الفيّاض «1» ، كاتب «2» سيف الدولة: فكان يكتب في ماله، بل كان الممول له، والمخول في كل ما ملك؛ وكان يعجن مداده بالمسك، ولا يليق دواته إلا بماء الورد؛ وكان شعلة لا تطفى، وبارقة لا تخفى، بذهن متقد، وفكر منتقد؛ إلا أن مادته مقصورة، وجادته محصورة، وبدائعه كثيرة، على قلتها يسيرة، إذا قيست إليها النجوم بجملتها، أرضى سيف الدولة بن حمدان، وأمضى عزائم رأيه وقد نعس الفرقدان، فتقدم أمام الكتاب ولواؤه منصور، وعدوّه ببيانه كالليل بالكوكب الدري منحور. وله نثر، منه قوله: وقد علم الدمستق مواقع سيوفنا منه، وأيامنا الماضية معه، وأنه ما تحامل إلينا إلا على ظلع، ولا أقبل حتى رجع، وها نحن ننشده إمّا القطيعة، وإما الوقيعة، والسلام. ومنه قوله: وأنتم أحوج إلى طلب الفداء لأساراكم منا إليه، وأجدر إذا استهمت رماح الجبلين عليه؛ لأنكم تربعون به تكثرا من قلة، وتعززا من ذلة؛ ولسنا كذلك، إنا لا نأسف على من نقص من عدد، ولا نبالي بمن أمسك من مدد، ثقة بما عوّد الله من النصر، وأتى من الأجر بالصبر. ومنه قوله:

3 - وأما الحريري: أبو محمد القاسم بن علي بن محمد بن عثمان، صاحب المقامات

وردنا والأرض كأذناب الطواويس، والطير زجلة كأصوات النواقيس، وقد اهتز الشجر، وكلل النبات المطر، والطّرف قد رنح كالطّرف في تلك الميادين، والنسيم قد ضمخ من شذا تلك البساتين، فلم تكن لنا أمنية إلا أن نراك، ونثري بلقائك سقي ثراك. ومنه قوله: وقد أجّلتنا يومين وهذا ثالث، وأعطيتني عهدين وكنت الناكث؛ فهل ابتدعت ما أتيت، أو كان لك عليه باعث؟ فيا قسيم روحي، ويا نسيم صبوحي، ها قد آن الغبوق، إلّا أنه يقرقف مرشفيك وكأس عينيك؛ وو الله لا شربت إلا على آس عذارك وورد خديك؛ فابرر قسمي، ورد الجواب من فمك إلى فمي. * وسيأتي ذكر أبيه في الشعراء، وبه كانت لابنه هذه المكانة من سيف الدولة، وكلاهما- أعني هذا وأباه- ذو تيه وصلف، وكلاهما من صاحبه خلف. 3- وأما الحريري: أبو محمد القاسم بن علي بن محمد بن عثمان «1» ، صاحب المقامات * فإنه فيما سواها، ما قاربها ولا داناها؛ حتى عجز عند الامتحان، عن كتابة كتاب أمر به على ما وشّع من تلك المقامات، ووسع من تلك المقالات؛ وبرع في ذلك المذهب، وعرف له من الحريري المذهب؛ هذا والدهر من دواته، والناس سواء

في عدم مساواته؛ وهو مادة أهل الأدب، والذي ينسلون إليه من كل حدب، إلا أنه لم يقدر أن يكون مكلّفا، ولا استطاع أن يكون لغير أمالي خاطره متلقفا؛ وهذا مذهب غير مذهب كتاب الإنشاء المكلفين اتباع غرض غيرهم، حتى يقسروا خواطرهم على ذلك؛ على أن الرجل فضله عظيم، ومثاله الدهر به عقيم، وقدره جليل، ونظيره قليل؛ منبع الفضائل ونبعتها، وصيت الفواضل وسمعتها؛ توقته الأعداء سماما، وألقته الأولياء سهاما؛ وكان معدن [كلّ] نائل، وموطن كل طائل؛ باري غرب يريش ويبري، ويجيش قليب خاطره ويجري، أبرز مالم يستطعه الأوائل، وأحرز قصبات السبق على كل قائل. وكان «1» سبب وضعه لمقاماته، ما حكاه ولده أبو القاسم عبد الله، قال: كان أبي جالسا في مسجده ببني حرام، فدخل عليه شيخ ذو طمرين، عليه أهبة السفر، رثّ الحال، فصيح الكلام، حسن العبارة؛ فسألته الجماعة من أين الشيخ؟ فقال: من سروج «2» ؛ فاستخبروه عن كنيته، فقال: أبو زيد؛ فعمل أبي المقامة المعروفة بالحرامية وهي الثّامنة والأربعون، وعزاها إلى أبي زيد المذكور واشتهرت، فبلغ خبرها الوزير شرف الدين أبا نصر أنو شروان بن خالد القاشاني «3» وزير المسترشد [بالله] «4» ؛ فلما وقف عليها أعجبته، وأشار إليه أن يضم إليها غيرها، فأتمها خمسين مقامة؛ وإلى الوزير المذكور أشار الحريريّ في الخطبة: فأشار من إشارته حكم، وطاعته غنم، إلى أن أنشئ مقامات أتلو فيها تلو البديع «5» .

قال ابن خلكان: ورأيت في سنة ستّ وسبعين وستّمئة بالقاهرة، نسخة مقامات بخطّ الحريريّ، وقد كتب أيضا بخطّه على ظهرها، أنه صنّفها للوزير جلال الدين عميد الدّولة [أبي علي، الحسن بن أبي العز علي بن صدقة] وزير المسترشد أيضا. قال ابن خلكان: ولا شك أن هذا أصح من الرواية الأولى، لكونه بخطّ المصنّف، والله أعلم. وأما تسمية الراوي بالحارث بن همام، فإنما عني [به] نفسه، وهو مأخوذ من قوله صلى الله عليه وسلم: «كلّكم حارث، وكلّكم همّام» «1» ، فالحارث: الكاسب؛ والهمام: الكثير الاهتمام، وما من شخص إلا وهو حارث وهمام، لأن كل أحد كاسب ومهتم بأموره. وكان الحريريّ قد عمل من المقامات أربعين مقامة، وحملها إلى بغداد وادّعاها، فقال جماعة من أدباء بغداد: ليست من تصنيفه، بل هي لرجل مغربي مات بالبصرة، ووقعت أوراقه إليه فادعاها؛ فاستدعاه الوزير إلى الديوان، وسأله عن صناعته، فقال: أنا رجل منشئ؛ فاقترح عليه إنشاء رسالة في واقعة عيّنها، فانفرد في ناحية من الديوان، وأخذ الدواة والورقة، ومكث زمانا، فلم يفتح الله عليه بشيء من ذلك، فقام وهو خجلان؛ وكان من جملة من أنكر دعواه أبو القاسم عليّ بن أفلح «2» ، فأنشد «3» : [المنسرح]

شيخ لنا من ربيعة الفرس ... ينتف عثنونه من الهوس أنطقه الله بالمشان كما ... رماه وسط الدّيوان بالخرس وكان الحريريّ يزعم أنه من ربيعة الفرس، وكان مولعا بنتف لحيته عند الفكر، وكان يسكن في مشان البصرة «1» ؛ فلما رجع إلى البصرة عمل عشر مقامات أخر وسيرهنّ، واعتذر من عيّه وحصره بالدّيوان، مما لحقه من المهابة «2» . وللحريريّ عدة تصانيف طريفة لطيفة، كدرة الغواص، وملحة الإعراب؛ ويقال: إنه عملها لجواري الخليفة، فكن يحفظنها ويقمن ألسنتهنّ بها. قلت: وهي بما حوت من العلم سهلة المأخذ، كأن شعرها غزل؛ ولو لم يكن منه إلا قوله: [الرجز] ولن يطيب الوصل حتّى تسعدي ... يا هند بالوصل الذي يروي الصّدى * وله نظم ونثر في غير المقامات، ومنها قوله نثرا: «3» ولما استخدم الخادم فيما أهّل له آنفا، اعتمد في الخدمة ما يتهيب قلمه الإفصاح عنه، ويعرف بأن سعادة الديوان العزيز هي التي سنّت ما تسنّى منه، وتقدّم له الوعد بأنه عند تصفح مساعيه، يمنح من المساعفة بما يرتجيه، ولم يقدم قلمه على التذكير بالوعد الشريف، إلا بعد ما أنطقه لسان التوفيق للخدمة، وكفل له بمزيد الحظوة من النعمة؛ فإن اقتضت الآراء العلية إنجاز

موعده، كان ذلك إنعاما يقع عند معترف بوقعه، مستنفذ في الطاعة غاية وسعه. ومنه قوله «1» : لولا خبرتي بفضله السائر، وإنعامه المنجد الغائر، لاستربت فيما يحكي، وامتريت فيما يروي؛ ولكن ما خلا عصر من جواد وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ «2» فإنه- أبقاه الله- وإن تصرفت الأحوال، وتشعبت الأقوال، كالغمام لا يقطع سقياه، ولا يستطيع أحد برد حياه؛ وللرأي الشريف مزيد علوه في الإنعام، بتأوّل ما أوضحته، والتّطوّل بما اقترحته. ومنه قوله: رزء تساهم فيه الأنام، وأظلمت ليومه الأيام، واستغرب عنده الحمام، وعزّي فيه الدهر بكافل أبنائه، وندب فيه شقيق السحاب، فاستعبر بدموع أنوائه. ومنه قوله «3» : وصل من المجلس- أكمل الله سعوده وأكمد حسوده- كتاب اتسم بالمكرمة الغرّاء، وابتسم عن النعمة العذراء؛ ووجدت بما ألحف من الجميل، وأتحف من التجميل، ما كانت أطماعي تهفو إليه، وآمالي تحوم حواليه؛ إذ ما زلت مذ استميلت وصف المناقب الشريفة، أبعث قلمي على أن يفاتح، وأن يكون الرائد لي والماتح، وهو ينكص نكوص الهيوبة، وينكل نكول الكهام عن الضريبة، إلى أن بديت وهديت، ورأيت كيف يحيي الله ويميت، فلم يبق بعد أن أنشط

العقال، واستدعي المقال، إلا أن أنقل التمر إلى هجر، والهشيم إلى الشجر، فأصدرتها متشحة بالخجل، مرتعشة من الوجل، وأنا معترف بالتقصير، معتذر باللّسان القصير، «ولكلّ امرئ ما نوى» «1» ، وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى «2» . ومنه قوله: ولعلّ الأيام تسمح بمتعة الملاقاة، فاجعلها غرّة الأوقات، وأعظمها كتعظيم حرمة الميقات؛ وهو إذا أتحفني بسطرين في كل شهرين، يكون قد أمطاني رتبة تضاهي النسرين، وأولى نعمة تبقى على العصرين. ومنه قوله يهنئ بشهر رمضان: [الخفيف] أنت في النّاس مثل ذا الشّهر في الأش ... هر بل مثل ليلة القدر فيه أسعد الله المجلس بمقدم هذا الشهر، ومطلع هلاله المنيف؛ وهذا دعاء- لو سكتّ- كفيته، وسؤال- ولله الحمد- أوتيته. ومنه قوله: إذا كانت المودات- حرس الله عز سيدنا- أنفس المرام المخطوب، وأنفع ما اقتني لدفع الخطوب، فلا لوم على من استسعى قدمه لخطبتها، واستعلق قلمه لطلبتها، لا سيما إذا كانت تعجب المتأمل، وتسعف المؤمّل؛ هذا وأنا مع المغالاة في الموالاة، وعلى هذه الصّفات من المصافاة، أعترف بوجوب معاتبتي، لقصور مكاتبتي، وأعتذر من عظيم هفوتي لتمادي جفوتي، ولولا أن لمفاتحة حضرته

وقفة المتهيب، وخجلة القطر من الصّيّب، لما استهدف قلمي لمرام الملام، ولاستنكف أن يكون سكّيتا في حلبة الأقلام؛ وها هو الآن قد أقدم إقدام الوقاح، وتعرض للافتضاح؛ فإن رزق بالقبول تحسينا، أو بمصافحة يده تزيينا، فقد فاز فوزا عظيما، وحلّ محلا كريما، وأنى له؟ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ «1» فما قيل إلا بما هو له أهل: [الكامل] ولربما استيأست ثم أقول: لا ... إنّ الذي استشفعت منه كريم ومنه قوله: ولم يزل الخادم يستملي من أنباء الكرام الطاهرة، والفضائل المتظاهرة، ما يودّ لو سعد برؤيته، وقرب إسعاده في روايته، ويوقن معه أن الله أعلم حيث يجعل رسالاته، ويخص بكراماته؛ وقد أقدم الآن بعد إحجامه في استخدام أقلامه، فإن رزق من الإيجاب الشريف ما يحقق التأميل، فهو المظنون في كرمه البديع وطوله الوسيع؛ والآن فللخادم حرمة من أحرم وقصر، وطلب النّصرة فلم ينصر؛ والله تعالى لا يخلي المجلس من تناديه، واسترقاق الأحرار بأياديه. ومنه قوله: سطرها الخادم وهو منتسك بالولاء الذي يتمسك بحبله، والدعاء الذي هو جهد مثله، والثناء على صنائعه، التي طالما أبكى بها وأضحك الأجيال؛ وقصده أن يتعمد بعواطفه التي تحقق الأمل، ومجازاته على حسب النية لا العمل. ومنه قوله: أصدرت هذه الخدمة، واليد تنكل عن مطاوعة القلم، لهذه النازلة التي أصم

نعيها المسامع، وهون وقعها الفجائع: [الطويل] فلا قلب إلا قد تباين صدعه ... ولا عين إلّا وهي تذرف بالدّم ومنه قوله: وهنأ بالنجاح كل من غشينا إلى ضوء ناره، وانتجع صوب أمطاره، وسمع أخبار كرمه فاهتدى إلى قصد الكريم بأخباره. ومنه قوله: «1» وحبس عليه المدائح التي حازها بالاستحقاق، واستخلصها بكلمة الاتفاق. ومنه قوله: «2» وما زال متصفا من الكمال بما لا يقبل معه مزيدا، ولا يستطيع خلق لملابسه تجديدا، خلقا دان الخلق لمعجزاته، وقصرت الأفعال عن تحقيق صفاته، والله أعلم حيث يجعل رسالاته. ومنه قوله: «3» واشتاق إلى تلك الألفاظ المعسولة، والمعاني المشمولة، التي تميل بأعطافها نشوة الفصاحة، وتفتر عن محاسنه شفاه الرجاحة، فلا جرم أنها قد شغلتني أن أنطق بمنثور ملقّح، أو منظوم منقّح.

ومنه قوله «1» : وكتب الخادم هذه الخدمة أواخر شعبان، عظم الله لدى مولانا ميامن تقضّيه، وبركات ما يليه؛ جعل الأيام كلها مواسم مسارّه، وصحائف مبارّه، ومعالم مآثره الحسان وآثاره. ومنه قوله: من شيم السادات، حفظ العادات، فما بال سيدنا أغلق باب الوصال بعد فتحه، وأصلد زند الإيناس عقيب قدحه، وأوردني أولا شريعة بره، ثم أجلاني عن شاطئ بحره، بما كان لملل فأنا أنزهه منه، أو لزلل فأستغفر الله منه؛ ولعل سيدنا يعود إلى عطفه الكريم، ويروح قلبي بمؤانساته الأرجة النسيم؛ وإذا تكرم عند عرض ما كتبته بما تحسن به الجلوة، وتجلب به الحظوة، شكرت العارفة الحلوة. ومنه قوله «2» : جعل الله الدولة القاهرة مونقة النضارة، مشرقة الإنارة، ممنوحة الإطالة، مهروجة الإبالة «3» ؛ ولا أخلاها من مأثرة تروى عنها وتؤثر، ومنقبة تذكر على تعاقب الأزمنة وتشكر؛ ولا زالت ممطرة الأزمنة، حالية بالمناقب البينة، متلوة الأوصاف بجميع الألسنة، مبثوثة المدائح بكلّ الأمكنة؛ وأسبغ على أقطار البلاد من عواطفها ما أضحك مباسم الظنون، وحل كالغيث الهتون؛ ولا برحت أيامها

ممتدة المدة، محتفة بالتهاني المستجدة، وأورف ظلّها على الخلق، وأعلى كلمتها القائمة بنصر الحقّ، ما دارت الشهب، ودرت السّحب، وشهرت القضب، ونشرت الكتب، واستهلّت الأهلّة، واستهلّت الأنواء المنهلّة. ومنه قوله «1» : وصل إلى العبد ما أهّل له، من مدارع التشريف الذي أحيا رمّته، وجلّى غمتّه، واتخذه فخرا لأعقابه، وذخرا لمآبه؛ وهو يرجو أن يقابل مواقع النعمة، بما يجب من الشكر بلسان الخدمة، وسيتضح من مساعي الخادم ونصائحه، تأثير شكر جوارحه. ومنه قوله «2» : [الطويل] ولو أن أنفاسي أصبن بحرّها ... [حديدا] إذا كاد الحديد يذوب ولو أن عيني أطلقت من بكائها ... لما كان في عام الجذوب جذوب بي من الاشتياق إلى خدمة ما يصدع الأطواد، فكيف الفؤاد؟ ويهوي بالجبال فكيف البال؟ ولولا التعلّل بترجّي الالتقاء لقيل عنه: لك يا مولانا طول البقاء، إلا أنه يستدفع الخوف بسوف، ويزجر الأسى بعسى وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ «3» . ومنه قوله: المراتب تتفاضل مراقيها بتفاضل راقيها، وتتفاوت معاليها بتفاوت من يليها، ولولا ما يعلمه سيدي من وظائف الخادم في التوفير على الدّعاء، لما سبقه إلى

الخدمة قدم، ولا ترجم عن تهنئته قلم، فمتعه الله بما وهبه من المعالي، وأحله من مقاماتها في المكان العالي، وبارك له في وصل عقيلتها التي تغتبط بوصله، وتقول: الحمد لله الذي أحلنا دار المقامة من فضله؛ وهو أعزّه الله يجلّ قدره أن يهنأ برتبة وإن علت، ويرخص عنده قيمة كل خطوة وإن غلت؛ فليهن الأنام ما تجدد له من المرتبة المنيفة الذرى، والمهابة التي خضعت [لها] أعناق الورى؛ والله لا يخليه من زيادة يستمدها، وتهنئة يستجدّها. ومنه قوله: وشكري لما أولى من مكارمه، توفي على شكر الروض الذابل، لصنيع الوابل، بل شكر من أطلق من أسره، وجبر بعد كسره؛ ولو نهض بالعبد القدمان، أو أسعده الزمان، لقصد الباب العالي ولو على الأجفان، وقام في زمرة المداح يتلو صحف الشكر باللّسان؛ ولما قصّرت به الخطوة عن هذه الحظوة، أقدم على أن يهدي الورق إلى الشجر، وبيض من مدائحه شعرا كبياض الشعر، هذا على أن ذنب المعترف مغفور، والمجتهد وإن أخطأ معذور. ومنه قوله: طالما شجع الخادم قلمه على إيضاح ولائه، فنكص إلى ورائه، وأحجم للتهيّب عن إنهائه، وقد أقدم الآن على أن أبان؛ فإن أسعد بجواب يبهج بتأمّله، فقد حصل على مؤمله؛ وإن رجع بصفقة الخائب، وطرد طرد الغرائب: [من الكامل] [الكامل] فلربما منع الكريم وما به ... بخل ولكن سوء حظّ الطالب «1»

ولعله يرفع الطرف، ويشرف في الجواب ولو بحرف، وعليه سلام الله ما حطت أقدام، وخطت أقلام. * ومن شعره «1» : [البسيط] قال العواذل: ما هذا الغرام به ... أما ترى الشعر في خديه قد نبتا فقلت: والله لو أن المفنّد لي ... تأمل السّحر في عينيه ما ثبتا ومن أقام بأرض وهي مجدبة ... فكيف يرحل عنها والربيع أتى وقال، وقد أتاه رجل «2» لسمعته، فلما رآه استزراه «1» : [البسيط] ما أنت أول سار غره قمر ... ورائد أعجبته خضرة الدّمن فاختر لنفسك غيري إنني رجل ... مثل المعيديّ فاسمع بي ولا تزني وأورد له عماد الدين الكاتب في «الخريدة» «1» : [مجزوء الخفيف] كم ظباء بحاجر ... فتنت بالمحاجر ونفوس نفائس ... خدرت بالمخادر ورثين لخاطر ... هاج وجدا لخاطر وعذار لأجله ... عاذلي فيه عاذري وشجون تضافرت ... عند كشف الضفائر «3» فهذا مقدار كاف في القسم الأول، من مشاهير الكتاب الذين عظم صيتهم ولا غوص لهم. فأما هذا الرجل- أعني أبا محمّد الحريري- فإنه- على ما رأيت أنموذج

كلامه هنا- قليل الغوص بخلف مقاماته، فإنه فيها كمن طلب الروض فجنى زهرها، وصعد السماء فاقتطف زهرها؛ وإنما تركت اختيار شيء له منها لشهرتها، ولأنها صارت كتابا بذاته، لا تعدّ في سلك ترسّلاته؛ وبينهما في حسن الكون، ما رأيت من هذا البون، على أن ما أوردت له من هذه الرسائل هي الفرائد التي لا تقوّم، والفوائد التي تعني من يتعلم، متماثلة في توفيه الأغراض، مغازلة كالجفون المراض، سهلة على فهم المتناول، قرمة «1» لا تنالها يد المتطاول. **** وأما القسم الثاني من أصحاب الغوص، فسنذكرهم على أن حكم أكثر الكتّاب القدماء حكم العرب، كلاهما له فضيلة السبق، وفتح الطريق؛ وحكم المتأخرين منهم حكم المولدين من الشعراء، في توليد المعاني والمجيء باللّطائف؛ وقد وشحوا صناعتهم بالاستعارات الصحيحة والتشبيه والاستخدام والتورية وأنواع البديع، وتناهوا في الدقيق والتنميق، وتباهوا في التخيّل والتخيير، وقيدوها بالأسجاع، ولزموها كالقوافي، فلم يعوزها «2» من الشعر إلا الوزن فأخملوا الأوائل، وأخمدوا كل قائل، وأتّموا الفن وكمّلوه، وزينوا الفضل وجملوه؛ وهذا مكان للمغرب فيه مع المشرق مجال، وميدان له في فرسانه رجال، وهو في هذا غير ممنوع ولا مدفوع، لكنه فيما تقدم المئة الرابعة لا يذكر له في هذه الفتية فيئة «3» ، ولا تظهر له هيئة؛ ثم ما عدم في هذا الشأن ما أوهن زجاج حاسده، وأشرق بغصص الدمع شأن معانده؛ ولا نقول هذا على أن للغرب بهذا المزية على الشرق، ولا أنه سلّم إليه في هذا الحق، وإنما نحن بصدد إنصاف، وما يبعد فيما بين الغرب والشرق في هذه الفضيلة، ولا نجحد أن له بمن نعده هنا

وسيلة، وإلا فالمشرق من كتابه المتأخرين من اقتطف الزّهر والزّهر، وجر ردنه على المجرة والنهر، وأتى بما هو أضوع من العبير، وأضوأ من جبهة القمر المنير؛ وردوا غدر البلاغة فشربوا زرق نطافها، وساموا رياض البراعة وشرعوا في قطافها، فولدوا المعاني واخترعوها، وابتدؤوا أحسن الطرق وابتدعوها؛ وفتن الألباب كلامهم الدّرّ، ولفظهم الرقيق الحرّ؛ وأدعى قول نقوله للحقّ: إنّ من لدن المئة الرابعة وهلم جرا أهل المغرب في هذه الصناعة أكثر رجالا وأهل المشرق أبرع رجلا، وإنما أردنا بتقديم من قدمنا ذكره من الوزراء والكتّاب، وإن لم يكن ما يؤثر عنهم ممّا يناسب درّه كله نظم هذا السّحاب، لإثبات الفضل للشرق على الغرب في تلك المدد الطوال والسنين الخوال، فإن الشرق كان معمورا بمثل هؤلاء، والغرب قفر يباب أكتب من فيه نقول له: ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ «1» على أن هؤلاء القدماء وإن لم يدخلوا في الغوص من هذا الباب، ولا أتوا باللّب اللّباب، فما فاتهم سابقة فضل في فضل، ولا قصّر بهم راية عن غاية، وفي أثناء ما ذكرناه دليل، لولا الاكتفاء به لبيناه مع سعة هذه المقدرة والتقدم في دول الخلفاء، والتقرب في خواطرهم إلى محل الاصطفاء، وما أجري لهم من الارزاق، أو جرى بهم من الأموال، وأقلها خزائن والإقطاعات، وأصغرها مدائن والنّفقات، وأهولها قناطير مقنطرة، والعطايا وبعضها جمل مستكثرة، والدولة الزاهرة وكانوا أطوادها، والصولة القاهرة وكانوا إذا رؤوا آسادها، والخلافة وكانوا عمادها، والإمامة وكانت أقلامهم سيوفها والسيوف أغمادها، والمفاخر وقد جمعوا شتيتها، والمآثر وقد استطابت على مطارف السّحاب مبيتها، واغتنام الأيام وصنائع ملكوا بها رقّ الأحرار، وأطافوا بها على الأكباد الحرار؛ فيا أيّها المباهي للمشرق بالمغرب، والمباهل في هذا الفضل المغرب، ها قد قلنا لك بعض

4 - أبو الفرج، عبد الواحد بن نصر بن محمد، القرشي المخزومي، المعروف بالببغاء

ما عندنا، فقل لنا كل ما عندك، وأرنا نارك إن كنت تحرق، وأقداح زندك. * فأما ما نذكره لأصحاب الغوص قديما، ونصل جناحه بالمفاخرين، فسنغصّ به حلوق المفاخرين، ونقذي عيونهم في الآخرين، ونخرّهم للأذقان على وجوههم داخرين. وها أنا ذاكر القسم الثاني؛ فمنهم: 4- أبو الفرج، عبد الواحد بن نصر بن محمد، القرشيّ المخزومي، المعروف بالببغاء «1» * هو رأس الجماعة، ورئيس القوم في البضاعة، ما قصر في متن تشبيهه عن ابن المعتز، ولا في ديباجة لفظه عن البختري، ولا في إحكام معانيه عن أبي تمام، ولا في كثرة تنويعه عن أبي نواس؛ علم لا يخفى، وقلم لا يحفى، عرش آداب مخضل النبات، مخضر الجنات، رأي المجد هضبة فأناف رأسها، وحلبة فأجرى أفراسها، فطرّف بطارفه التّالد، وشرّف بمطارفه الوالد، وأحيا شرف مخزوم، وقد فرع عمر عمر وفات خالد؛ توفّي الببغاء سنة ثمان وتسعين وثلاثمئة. ومن كلامه يصف حمارة «2» : مخططة يستطيل بياضها، فيما يستطيل من أعضائها، ويستدير فيما يستدير؛ وهذه الأتان بما خرجت عن العادات، وخالفت الموصوفات، ناطقة في

كمال الصنعة بأفصح لسان، مشتملة على غرائب الإحسان؛ أنفس مدخر، وأغرب موشى، وأفخر مركوب، وأطرف محبوب، وأعجز موجود، وأبهر محدود؛ كأنما وسمها الكمال بنهايته، أو لحظها الفلك بعنايته، فصاغها من ليله ونهاره، وحلّاها بنجومه وأقماره، ونقشها ببدائع آثاره، ووشّى روضها بيانع أزهاره، ورمقها بنواظر سعوده، وجعلها بالكمال أحد حدوده؛ جامعة شتيتها بالقسمة والترتيب، بين زمني الشبيبة والمشيب؛ قيد الأبصار، وأمد الأفكار، ونهاية الاعتبار، بستان بسرج، وروضة بمرج، منزه على الحليّ عطلها، مزريّة بالزهر حللها؛ حدّ جنسها وعالم نفسها؛ صنعة المنشئ الحكيم، وتقدير العزيز العليم، فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ «1» . ومن قوله قرين أسطرلاب أهداه: أجلّ الهدايا- يا سيدي أطال الله بقاءك- موضعا، وألطفها من الملاطف موقعا، ما لاءم الاختيار، ووافق الإيثار، وكان العقل أخص بفائدته، والفهم أحظى بيمن عائدته؛ ولما كنت- أيدك الله- ممن لا يتوصل المتوصل إليه إلا بما تنصف «2» العادة الحكمة عليه؛ آثرتك- وفقك الله- ببرهان الحكمة ونسبها، ومدار الفلسفة وقطبها، ومرشد الفكر ومناره، وميزان الحسن ومعياره، ونافي الشك ومزيله، وشاهد العالم ودليله، ومصور الهندسة وممثلها، ومقسم البروج ومعدّلها، وموقف النّجوم ومثيرها، وجامع الأقاليم ومديرها؛ مرآة الحبك، وصورة الفلك، وأمين الكواكب، وحدّ المشارق والمغارب؛ مما اخترعت العقول تسطيحه، وأتقن الحساب تصحيحه، وتمارت الفطن في ترتيبه، واصطلحت الحكماء على تركيبه، فأوضحت باليقين تقسيمه، وأبانت بالكتابة قلمه ورسومه، إلى أن

شافهنا بالارتفاع على بعد مسافته، وحصر متفرق الأنوار في مجرى عضادته، واحتوى على قطري الشمال والجنوب، وأطلع باللّطف على خفيات الغيوب؛ متّعك الله باستخدامه، وأسعدك بمواقع أحكامه، وأغناك بالتوفيق عمّا يستمده منه، وبالخيرة عن الاختبارات الصادرة عنه، وقد آنست وحشته من فهمك بسكنه، ورددته من ذكائك إلى وطنه، فإن رأيت أن تديله من الأفهام الصدئة بصفاء بصيرتك، وتقرّه في أمنع قرار من كنف فطنتك، فعلت إن شاء الله تعالى. ومنه قوله يستهدى دواة من الأبنوس بآلاتها: ولعل المولى ينعم بدواة تكون للكتابة عتادا، وللخواطر زنادا؛ جدولية العطفين، هلالية الطرفين، مسكية الجلدة، كافورية الحلية، فسيحة الأحشاء، مهفهفة الأعضاء، فهي من لون جلدتها، ووشائع حليتها: [الخفيف] كشباب مجاور لمشيب ... أو ظلام موضّح بنهار أضمرت آلة النّهى فهي كالقل ... ب وما تحتويه كالأفكار يقارنها قضبان «1» من ذخائر السحاب، وودائع التّراب؛ كلّ معدل الكعوب، قويم الأنبوب، باسق الفروع، رويّ الينبوع، نقي الجسد، نازح العقد، مختلف الشيات، متفق الصفات، مما اعتنت الطبيعة بتربيته، وتبارت الدّيم في تغذيته، كالجوهر المصون، واللّؤلؤ المكنون؛ ملتحف الأجساد بمثل خوافي أجنحة الجراد، أولى باليد من البنان، وآنس بخفي السر من اللسان، مقترن ذلك بمدية لا تفتقر إلى جلب «2» ، ذات غرار ماض، وذباب قاض، ومنسر ناويّ، وحديد سمائي، وجوهر هوائي، ونصاب زنجي، وحد لجي، معه مقطّ، يرتفع عليه تقديرها وينحطّ، ذو جسد بجراحها مكلوم، وجلد بآثارها موسوم: [البسيط]

في كلّ عضو له من وقعها ألم ... وليس ينجع فيه ذلك الألم كأنّه وامتهان القطّ يزعمه ... أنف الحسود إذا أرغمنه النّعم حتى إذا جببت غاربه، وأطلقت مضاربه، انصاع من أصون جفير، وكرع في أعذب غدير، لا ترده غير الأفهام، ولا يمتح بغير أرشية الأقلام، تفيض ينابيع الحكمة من أقطاره، وتنشأ سحب البلاغة من قراره، منير مظلم، مشمس معتم: [البسيط] يجري وأجزاؤه في الوصف جامدة ... ويستهلّ وما تجري له مقل إذا الخواطر حامت حول مورده ... لم يظمها من قراه العلّ والنّهل كأنّ أقلامنا فيما تحمّله ... إلى القراطيس عن أسرارنا رسل ومنه قوله لرجل في تزويج أمه «1» : واتصل بي ما كان من أمر الواجبة الحقّ عليك، المنسوبة- بعد نسبتك إليها- إليك، واختيارها من الصيانة التي تحفظ جلالتها، وتحسن إيالتها، وتنمي مالها، وتشدّ أخوالها، وتعين طباعها على كرمها، وتقيم مهابتها على خدمها، ما لولا أن النفس تناكره بغير طريق شرعي ولا دليل قطعي، لكنت في مثله بالرضى أولى، وبالاعتداد بما جدّده الله من صيانتها أحرى؛ وقد آثر الصّلة بها من تقوى بصلته، قوّة اليد بالسّاعد، وتعتده عمّا بحكم المجاز، والعمّ صنو الوالد «2» ؛ وتزوجت أمّ زيد بن عليّ فلم يمنعه عمّا جاء به الشّرع حميّة النخوة، وسئل: لم تزوجت أمّك بعد أبيك؟ فقال: لتبشّر بآخر مثلي من الإخوة؛ وفي هذا لها

- أصانها الله- مزيد للعفة، ومزيل للكلفة، والزواج يستحبّ للرجال والنساء سواء، في طلب تجديده شهوات الأمّهات والآباء، وقد جدع الإسلام أنف الغيرة «1» ، وجعل فيما اختاره الخيرة؛ ولا يسخطك- أعزك الله- ما رضيه موجب الشرع، وحبّب أدب الديانة، وحكم به حاكم العقل في الصيانة، فمباح الله أحقّ أن يتبع، وهوى النفس في الحمية أولى أن يمتنع؛ فإياك أن تكون ممن إذا عدم اختياره، تسخط اختيار القدرة. ومنه قوله في فتوح: أصدرت هذا الكتاب بمواقع نعم الله الشاملة، وآثار نعمه المتواصلة؛ وهو أنّا لمّا رأينا السّيوف متوثبة في الأيدي للضرب، وحاذرنا هجوم الشتاء على مضيق الدرب، جعلنا آخر الأمر أوله، وركبنا من الصعب أهوله، وأرسلناها تتبارى في الركض، وتتلاعب بالأرض، وتتواثب كالظلمان، وتتهافت كالعقبان؛ أسرع من النجوم السائرة، وأنفذ من السهام العائرة؛ إلى أن نزلنا بطن هنزيط «2» ، فكنا أسبق إلى عيون أهلها من النظر، وأدخل في نفوسهم من تسقط الحذر، ولم يمض صدر اليوم إلّا وقد حصل جميع من فيه من المقاتلة والحامية، والشّبي والماشية، والغلام والجارية، تحت رقّ الصّفاح، وفي ملك الخيل والرّماح؛ ثم يمّمنا بلد قالي قلا «3» ، فوردناها وقد سبقنا الإنذار، وتقدمّنا إليهم الحذار، فرجعنا إليهم بالعزائم الثاقبة، والكتائب العالية، فما كان بأسرع من أن زلزلت بهم الأقدام، وتحصّنوا بالهرب من الحمام، ودخلوا البلد؛ فكاد السور يقذف بمقاتلتهم،

والأرض تنخسف زلزالا بكافتهم؛ ثم دخلنا البلد والسيف يأخذ من أدركه، والطّعن ينحر من استملكه، ثم رجعنا على من استعصى بالكنيسة، فخاطبونا بلسان الإذعان، وراسلونا في التماس الأمان، فأجبناهم إلى ذلك مشترطين ما منعهم حظّ الإسلام من قبوله، فاقتطعهم الطّمع عن تحصيله، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ «1» وبرقت لهم مكائد النشاب، ودخلت عليهم رسل الموت على أجنحة النّسور من كل باب، فاستنزلناهم بحكم السيف وهم مهطعون وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كارِهُونَ «2» وأقمنا على أعلى جدرانه الأذان، ورتبنا المصلّبين مواضع الصّلبان، ثم انقلبنا بأسعد منقلب، وأربح مكتسب؛ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ «3» . ومنه قوله يصف تشريفا وفرسا وصلا إلي أبي تغلب بن حمدان من الخليفة: وصل كتاب أمير المؤمنين مطلقا إلى الرّشد بالتوقيف، مقترنا بخصائص التّكرمة والتشريف؛ فقبّلت من الملبس الشريف مواقع أفضاله، واعتلقت من السعد بأذياله، وبرزت في الخلع الموسومة بإنعامه، والمناطق الناطقة بإكرامه، متدرّعا منها ثياب السكينة والهدى، مختالا من حللها فيما يروق الأولياء ويروع العدى، متقلّدا عضبه الذي هزّ النصر غراره، وأحسن آثاره، عاليا على عنق الزمان، بامتطاء ما حباني به من الجواد الذي تزلّ الأبصار عن صهواته «4» ،

وتتبلج غرّة الفجر في ظلماته، وهو مع كونه تحلّى بحلية الكافر، يروع كلّ كافر مشرك، ويحقق بركضه أن الليل الذي هو مدرك «1» ؛ والحمد لله الذي جعل صنائع أمير المؤمنين عند من يرتبطها بعلائق شكره، ويحرسها بالتوفّر على جميل ذكرها في ذكره. ومنه قوله: فلان يطرق الدّهر إذا نظر، وينظر المجد إذا افتخر، سعى إلى العلياء فأدركها، وعاقد عليها الآراء فملكها، وهي ما تدرك بغير السماح، ولا تملك إلّا بأطراف الرّماح. ومنه قوله: والبلاغة ميدان لا يدرك إلا بسوابق الأذهان، ولا يسلك إلا ببصائر البيان؛ وقل من يركب طريقها على التغرير، أو أمل قطعها بالتقصير، إلا فضحته المطاولة، وكشفت خلله المساجلة، فسقط من حيث أمل الرّفعة، وذلّ من حيث حاول المنعة. ومنه قوله: وأما هذا الفتح، فأوصافه لا تدرك بالعبارات، ولا تدخل تحت العرف والعادات: [البسيط] فتح أنار الهدى بعد الظلام له ... واسترجع الدّين من بعد الرّهان به

تاهت بأيامه الأيام واعتذر الد ... دهر الخؤون إليه من نوائبه تباشرت بورود أخباره المنابر، وشهدت بفضله البواتر، ووفت فيه الخيل بعقد الضمان، وناب الخوف له عن ملاقاة الأقران، وآذن بالعاجل، على ما ادّخره الله في الآجل. ومنه قوله: وقد شرفني سيدنا بأعز الحملان، الحامل لي على عنق الزّمان، فجاء موفيا على التأميل فيه، مناسبا لصنائع مهديه، متفاوت العدو، متقارب الخطو، حديد النظر، محمود الخبر، عريق النسب، مخبور الحسب، أخفّ من الوهم، وأمرق من السهم، وأسرع من البارق، وأشهر من لاحق «1» ؛ شخص إقبال، وجملة كمال «2» : [الكامل] إن لاح قلت: أدمية أم هيكل؟ ... أو عنّ قلت: أسابح أم أجدل؟ تتخاذل الألحاظ في إدراكه ... ويحار فيه النّاظر المتأمّل فكأنّه في اللّطف سهم ثاقب ... وكأنّه في الحسن حظّ مقبل ومنه قوله: وإذا كان الشكر ترجمان النّية، ولسان الطّويّة، وسببا إلى الرّفادة، وطريقا إلى السعادة، فألسن آثارها على الشاكر مع الصّمت، أفصح من لسانه، وبيانها عند الجحود أبلغ من بيانه. ومنه قوله:

فلان يسع العالم إحسانه، ويستغرق الشكر امتنانه، ويستخدم الدهر عزمه، ويؤدب الأيام حزمه، كعبة فضل، وغمامة وبل، الليالي بأفعاله مشرقة، والأقدار من خوفه مطرقة، تحمده أولياؤه، وتشهد له بالفضل أعداؤه، ولا يصل الشك إلى سريرته، ولا ترمد عن الحق عين بصيرته، كالقمر السعد، والأسد الورد «1» : [البسيط] إن سار سار لواء النصر يقدمه ... أو حلّ حلّ به الإقبال والكرم يلقى العدى بجيوش لا يقاومها ... كثر العشائر إلّا أنّها همم ومنه قوله: والحمد لله على ما وهب مولانا من عافية يقتضي بها شكره، وعارض مرض يختبر بها صبره، ليوجب له الزيادة من نعماه بالشكر، ويدخر له أرفع درج الجزاء بجميل الصّبر: [الطويل] فبالمجد فقر أن يصحّ له أمر ... بقاء العلى والمكرمات بقاؤه يداوي من الوعك الأطباء جسمه ... ويعدم من وقع الرماح اتقاؤه فياذا الذي في رأيه وحسامه ... إذا اعتزما برء الزّمان وداؤه رويدا فبالآمال أعظم فاقة ... إلى غيث جود في يديك سماؤه فرفقا بجسم إن أردت بقاءه ... فصفحك للتّرفيه عنه شفاؤه فما حمّ حتّى حمّت الخيل قبله ... [وحتى ترى] الصّمصام يبدو اشتكاؤه «2» ولا تنكرن من ذا الدّؤوب اعتلاله ... بحال فقد يصدي الحسام انتضاؤه ومنه قوله:

وقد ذهب رمضان عن سيدنا يشهد له عند الله بأفعاله، ويثني عليه عند الله بأعماله، تحسد لياليه على صيامه أيامه، وينافس صباحه على تهجّده ظلامه، موصوله بالطاعات ساعاته، مقرونة بالخيرات أوقاته: [الكامل] ولّى ولو ملك اختيارا أنزلت ... شوّال عن أيّامه أيّامه واسعد بعيد لم يزل يهدي له ... بل قبل مقدمه البشارة عامه ومنه قوله: كتبت إليك بيد أطلق الثّقة بيانها من اعتقال اليأس، وعن رغبة انصرفت إلى تأميله عن جميع النّاس؛ مستظهرا على الدّهر بالصّبر، إلى أن عدل بي الحزم عن طريق نوائبه، واجتنيت بيد التّوفيق ثمر السّلامة من مصائبه، وأنا من المولى متوسّط رغبتي وعلاه، وبين شكري ونداه، مع أنني كما قلت: [الطويل] تطول على الأيام أن يسترقّني ... مع الدّهر إلّا للكرام المواهب وما كلّ حال يكسب المال مرتضى ... ولكن على قدر النّفوس المكاسب ومنه قوله يشكر منعما سلك به مسلك والده: لو ارتفع برّ عن شكر، أو جلّ إنصاف عن اعتراف، لارتفع قدر تفضلك الذي توالت عليّ أنواؤه، وسابق رجائي ابتداؤه، ولم يجسر حمدي على مطاولة إحسانك، ولا أقدم بناني على وصف امتنانك، ولكن «1» حقّ لمن انتهى «2» إليك أن يفوت الأكفاء، ويبذّ النّظراء، لا سيّما من قصدك مقصد أبيك، فغدا يرتجيك: [المتقارب]

فقد كان شكري ملكا له ... وأنت أحقّ بميراثه غمام أنت ماؤه، وبدر أنت ضياؤه، وعضب أنت غراره، وحقّ أنت مناره؛ سعى فجئت على أثره، وصمت فنطقت عن مفخره، فكرمك فرع كرمه، وهممك نتائج هممه. ومنه قوله في التّهاني بعام: أسعد الأعوام- أطال الله بقاء الأمير- ما ألقى عليه سيدنا أيده الله بالمجاورة شعاع سعادته، التي هي حلي الدّهور، وغرر الأيام والشّهور، وقد أطلّ هذا الحول السعيد، مبشرا بأكمل مزيد، وأحسن تجديد: [الوافر] فلا برح الزّمان بكلّ سعد ... سفيرا بين ملكك والدّوام إذا أفنيت عاما منه أضحى ... ضمينا للبقاء بألف عام فما عرف التّمام الخلق حتّى ... ظهرت فصرت حدّا للتّمام ومنه قوله: غرّة الدّهر، وقبلة الشكر؛ إن رفع الجيش حماه، أو هز الحسام أمضاه، أو أورد السنان أرضاه؛ تتعزز بخدمته الأيام، وتضيء بمناجاته ظلم الأفهام؛ خصم النّوب، وشخص الحسب: [المتقارب] يجلّ عن الهزّ عند الجلاد ... ويضحك في حالة المغضب شجاعته عدّة المرهفات ... وهيبته موكب الموكب لا تطمع الأفهام بلوغ حقه في مطاولته، ولا تسمو همم الخواطر إلى مساجلته؛ غاية المادح أن يرجع عن الإطالة إلى الاختصار، ويقتنع بالقليل من الإكثار: [الكامل]

يا من سطوت على الزّمان تهاونا ... بالحادثات مذ اعتمدت عليه لا غرو إن أخّرت عنك مدائحي ... مدح الحسام العضب في حدّيه ومتى تشابهت الشّيات فإنّما ... يجري الجواد إلى مدى أبويه ذلك المقام مخاطبا على البعد بألفاظك، مرموقا بالمراعاة من ألحاظك، غير نازح عمّا ألفه من عواطف الولادة، وانبساط الأنسة المعتادة؛ وإنّ سببا أوثق حسم دواعي الخلاف، وأدّى إلى دوام الائتلاف، لحقيق بالمبالغة في تأكيده بالحرمة، وتخويله في النّعمة. ومنه قوله في هذا المعنى «1» : وأما أبو النجم «2» فقد أدى الأمانة إلى متحملها، وسلم الذّخيرة الجليلة إلى متقبّلها، فحلّت من محل العز في وطنها، وآوت من حمى التودد إلى سكنها، صادرة من أنبل ولادة ونسب، إلى أشرف اتصال [وأنبه سبب] ، وكيف يتوصّى الناظر بنوره؟ أم كيف يحضّ القلب على حفظ سروره؟ ولو لم يمتّ أبو النجم بغير الخدمة في هذا الأمر العظيم محلا، السعيد عقدا وحلّا، لكان للحظوة أهلا، ولرفع المنزلة أولى أن يملى «3» ؛ فكيف وآثار نصحه في جمع الشمل لائحة، ودلائل وفائه بهذه الألفة واضحة؟ ومن نثره أيضا: وأما فلان، فقد أمنت الأعداء فتكات حسامه، وبعد عهد الخيل بأسراجه وألجامه. ومنه قوله:

رئاسة تزهر المناقب في أفق علائها، وتتنافس الأشراف في التعلق بولائها؛ أسبق إلى الطعن من الأسنّة، وأحذق من زيد الخيل بتصريف الأعنة؛ إن قال فصل، أو حكم عدل، أو نطق صدق، أو سوبق سبق؛ البيان أصغر صفاته، والبلاغة عفو خطراته، مبرقع الطّلعة بالخفر، مسفر الوجه عن دارة القمر، ما ينفكّ من الكمد حاسده، ولا يسلم من الدّهر معانده: [المتقارب] أقام حقوق النّدى والقنا ... ليوم السّماح ويوم الطّعان يجود بسابق نجح السّؤال ... وبأس يطاعن قبل السنان الحسام خدينه، والرّمح قرينه، والسرج وطنه، والتيقظ رسنه؛ سائره قلب، وجملته لبّ، من الدوحة التغلبية، والنبعة الحمدانية: [الكامل] نسب لو ان الليل ألبسه انثنى ... بضيائه لسنا الصّباح يضاهي وخلائق لو صوّرت لظننتها ... زهرا أو انبجست جرت بمياه قوم بلوت مديحهم فوجدته ... أحلى من الرشفات في الأفواه وطلبت مجتهدا نهاية وصفهم ... فوجدته ما ليس بالمتناهي ومنه قوله: «1» حقّ لمن انتمى إليك أن يفوت الأكفاء، ويبذّ النّظراء، لا سيما من قصد بك مقصد أبيك، وغدا يرتجيك، فقد توالت عليّ أنواؤه، وسابق رجائي ابتداؤه: [المتقارب] وقد كان شكري ملكا له ... وأنت أحقّ بميراثه غمام أنت ماؤه، وبدر أنت ضياؤه، وعضب أنت غراره، وحقّ أنت مناره؛ سعى فجئت على أثره، وصمت فنطقت عن مفخره، فكرمك فرع لكرمه،

وهممك نتائج هممه، ذهب وأبقاك، ونام مطمئنا وقد استرعاك، فلقد خلقت عندي أياديه خلقا جديدا، واستصحبت لي من نعمه كرما موجودا. * ومن شعره «1» : [البسيط] أحبابنا هذه نفسي تودّعكم ... إذ كان لا الصّبر يسليها ولا الجزع قد كنت أطمع في روح الحياة لها ... فالآن إذ بنتم لم يبق لي طمع لا عذّب الله روحي بالبقاء فما ... ظننتني بعدكم بالعيش أنتفع ومنه قوله «2» : [البسيط] يا مسقمي بجفون سقمها سبب ... إلى مواصلة الأسقام في جسدي عذرت من ظلّ في حبّيك يحسدني ... لأنّه فيك معذور على حسدي ومنه قوله «3» : [البسيط] يسعى به البرق إلّا أنه فرس ... من فوقه الموت إلّا أنه رجل يلقى الرّماح بصدر منه ليس له ... ظهر وهادي جواد ماله كفل ومنه قوله «4» : [الكامل] وكأنّما نقشت حوافر خيله ... للنّاظرين أهلّة في الجلمد وكأن طرف الشّمس مطروف وقد ... جعل الغبار له مكان الإثمد ومنه قوله «5» : [البسيط]

5 - ومنهم: بديع الزمان الهمذاني

يا غازيا آبت الأحزان غازية ... إلى فؤادي والأشجان حين غزا إن بارزتك كماة الرّوم فارمهم ... بسهم عينيك يقتل كلّ من برزا ومنه قوله يصف كأسا وأجاد في وصفه، وتقدم السابقين وخلاهم خلفه «1» : [المنسرح] من كلّ جسم كأنه عرض ... يكاد لطفا باللّحظ ينتهب لا عيب فيه سوى إذاعته الس ... سرّ الذي في حشاه يحتجب كأنّما صاغه النفاق فما ... يخلص صدق منه ولا كذب فهو إلى لون ما يجاوره ... على اختلاف الطّباع ينتسب إذا ادّعاه اللّجين أكذبه ... بالرّاح في صبغ جسمه الذّهب ومنه قوله في خلعة وفرس «2» : [البسيط] لمّا تحصّنت من دهري بخلعته ... سمت بحملانه ألحاظ إقبالي وواصلتني صلات منه رحت بها ... أختال ما بين عزّ الجاه والمال 5- ومنهم: بديع الزّمان الهمذاني «3» * وهو نادرة الدّهر وبادرة الزهر؛ قلّ أن ولد الزّمان مثله، أو ولّد شكله؛ إن الزمان بمثله لعقيم «4» ، ولا عصبية للعظم الرميم؛ بل هو والله البديع حقا،

المعتكر «1» طرقا؛ كاد يلتهب فكره ذكاءا، وينتهب ذكره ذكاءا «2» ، كأنما كلمه حبر أو لفظه زبر؛ سجعه قصير، ونفعه كبير، من سمع حسّانه تبع إحسانه، ومن فهم بيانه، علم أن فوق السّحاب بنانه؛ وربما كاد يحكيه لو وهب، لو كان- كما قال- طلق المحيا يمطر الذّهب «3» ؛ نافح الرّياض فأخذ أنفاسها، وسافح السحائب فنثر أكياسها، بزّ الكواكب ولبس لباسها، وبذّ المدام وسلب الحميّا كأسها، فجاء بسحر عظيم إلّا أنه حلال، وخمر لا لغو فيها ولا تأثيم وفيها الخلال؛ ووراءه جرى الحريريّ لكنّه نقّح، على أنه مما ترك البديع ولقح. وذكر البديع أبو منصور الثعالبي، فقال: هو أبو الفضل، أحمد بن الحسين الهمذاني مفخر همذان «4» ، ونادرة الفلك وبكر عطارد، وفرد الدّهر، وغرة العصر، ومن لم يلف «5» نظيره في ذكاء القريحة، وسرعة الخاطر، وشرف الطّبع، وصفاء الذهن، وقوة النفس، ولم يدرك قرينه في ظرف النّثر وملحه، وغرر النظم ونكته، ولم يرو أن أحدا بلغ مبلغه من لب الأدب وسرّه، وجاء بمثل إعجازه وسحره؛ فإنه كان صاحب عجائب وبدائع؛ فمنها: أنه كان ينشد القصيدة لم يسمعها قطّ، وهي أكثر من خمسين بيتا، فيحفظها كلّها، ويوردها إلى آخرها، لا يخرم حرفا منها [ولا يخلّ بمعنى] ، وينظر في الأربع والخمس الأوراق، من كتاب لم يعرفه ولم يره إلا نظرة واحدة خفيفة، ثم يهذّها عن ظهر قلبه هذا، ويسردها سردا.

وكان يقترح عليه عمل قصيدة أو إنشاء رسالة في معنى غريب وباب بديع، فيفرغ منها في الوقت والساعة، والجواب عمّا فيها. وكان ربما يكتب الكتاب المقترح عليه، فيبتدئ بآخر سطوره ثم هلم جرا إلى الأول، ويخرجه كأحسن شيء وأملحه. ويوشح القصيدة الفريدة من قبله بالرسالة الشريفة من إنشائه، فيقرأ من النظم ومن النثر؛ ويعطى القوافي الكثيرة، فيصل بها الأبيات الرشيقة. ويقترح عليه كلّ عروض «1» ، فيرتجله في أسرع من الطرف على ريق لا يبلعه، ونفس لا يقطعه. وكلامه كله عفو الساعة، وفيض البديهة «2» ، ومسارقة القلم، ومجاراة الخاطر [للنّاظر] . وكان مع هذا مقبول الصورة، خفيف الرّوح، حسن العشرة، ناصع الظرف، عظيم الخلق، شريف النفس، كريم العهد، خالص الودّ، حلو الصداقة، مرّ العداوة. فارق همذان [سنة ثمانين وثلاثمائة] وهو مقتبل الشبية، غضّ الحداثة، ووافى «3» نيسابور فنشربها بزه، وأظهر طرزه، وأملى مقاماته وغيرها، وضمنها ما تشتهي الأنفس من لفظ أنيق قريب المأخذ، بعيد المرام، وسجع رشيق المطلع «4» والمقطع كسجع الحمام، ثم ألقى عصاه بهراة، فعاش بها عيشة راضية. وحين بلغ أشده وأربى على أربعين سنة، ناداه الله فلبّاه، وفارق دنياه في سنة ثمان وتسعين وثلاثمئة؛ فقامت نوادب الأدب، وانثلم حدّ القلم أنه على ما

مات من لم يمت ذكره، ولقد خلّد من بقي نظمه ونثره. وسئل بعض علماء الأدب عن الحريريّ والبديع في مقاماتهما، فقال: لم يبلغ الحريريّ أن يسمّى بديع يوم، فكيف يقارب بديع زمان!. * ومن نثره قوله «1» : وقد نظرت في المرآة فوجدت الشيب يتلّهب وينهب، والشّباب يتأهّب ويذهب، وما أسرج هذا الأشهب إلّا لسير، وأسأل الله خاتمة خير. ومنه قوله «2» : أبرزت «3» باطنه، وحركت ساكنه، وأخرجت دفائن صدره، ورفعت أذيال ستره؛ فملأ فكيه وعيدا، ولحييه تهديدا «3» ، وكان جوابنا أن قلنا: بعض الوعيد يذهب في البيد «4» : [السريع] جاء شقيق عارضا رمحه ... إنّ بني عمّك فيهم رماح إنّا نقتحم الخطب، ونتوسط الحرب «5» : [المتقارب] فأرضك أرضك إن تأتنا ... تنم نومة ليس فيها حلم ومتى شئت لقيت خصما ضخما، ينهشك قضما، ويأكلك خضما؛ فجعل الشيطان يثقّل بذلك أجفان طرفه، ويقيم به شعرات أنفه «6» : [الوافر] وحتّى ظنّ أنّ الغشّ نصحي ... وخالفني كأنّي قلت هجرا

ومنه قوله: وبيننا عذراء، زجاجها خدرها، وحبابها ثغرها، بل شقيقة حوتها كمامة، أو شمس حجبتها غمامة؛ إذا طاف بها الساقي فورد على غصنها، أو شربها مقهقهة فحمامة على فننها. ومنه قوله «1» : انظر إلى الكلام وقائله فإن كان وليّا فهو الولاء وإن خشن، وإن كان عدوّا فهو البلاء وإن حسن؛ ألا ترى العرب تقول: قاتله الله، ولا يريدون الذمّ؛ ولا أبا له، في الأمر إذا تمّ. ومنه قوله: وفائدة الاعتقاد أفضل في الانتقاد، والسماح يكسر الرّماح، والصفح يفلّ الصّفاح، والجود أنصر من الجنود؛ فإن كشف الضرّ عن الحرّ، أجمل من كشف الصدف عن الدرّ؛ ومن عرف بالمنح، قصد بالمدح، وقد ظلم من يلوم غير ملوم، فالتغاضي يصحب المراضي، واللبيب يعيد البعيد قريبا، والعدوّ حبيبا، وحضرة السّلطان مفزع الراجين، ومنزع اللاجين، إليها يعودون وبها يعوذون، وهي المقرّ، وإليها المفرّ، وإذا عدل الملك أقصر الحائف، وأمن الخائف، وخير الإخوان من ليس بخوان؛ وده ميمون، وغيبه مأمون، فهو يحالفك ولا يخالفك، ويرافقك ولا يفارقك، ويوافقك ولا ينافقك، ويعاشرك ولا يكاشرك، وإذا حضرت حنا عليك، وإذا غبت حن إليك. ومنه قوله «2» وقد كتب إليه بعض من عزل عن ولاية حسنة، وذوى يانع

غصنه؛ يستمد منه ودادا طالما تركه، ويستميل فؤادا كان يظنّ أنه قد ملكه؛ وإذا بحوادث الأيام قد غيرت ما عهد، وحسنت له بذل ما كان يضنّ به فلم يفد: أما بعد: فقد وردت رقعتك فلم تند على كبدي، ولم تحظ بناظري ويدي؛ وخطبت من مودتي ما لم أجدك له أهلا، وقلت: هذا الذي تاه بحسن قده، وزها بورد خدّه، فالآن إذ نسخ الدّهر آية حسنه، وأقام مائل غصنه، وانتصر لنا منه شعرات كسفت هلاله، وأكسفت باله، ومسحت جماله، وغيرت حاله؛ فمهلا مهلا؛ وتناسيت أيامك إذ تكلّمنا نزرا، وتلحظنا شزرا: [الطويل] ومن لك بالعين التي كنت مرة ... إليك بها في سالف الدهر أنظر أيام كنت تتلفت والأكباد تتفتت، وتقبل فتمني وتعرض فتضني «1» : [الطويل] وتبسم عن ألمى كأنّ منوّرا ... تخلّل حرّ الرّمل دعص له ندي فأقصر الآن فإنه سوق كسد، ومتاع فسد، ودولة أعرضت، وأيام انقضت، ويوم صار أمس، وحسرة بقيت في النفس، فحتام تدلّ وإلام؟ ولم تحتمل وعلام؟ وقد بلغني ما أنت متعاطيه من تمويه يجوز بعد العشاء في الغسق، وينفق على السّوق؛ وإفناؤك لتلك الشعرات جزا وحصا، ونتفا وقصا؛ فأنا برحلك وجانبك، وحبلك ملقى على غاربك، ولو أحببت أن أوجعك لقلت: [من مخلّع البسيط] ما يفعل الله باليهود ... ولا بعاد ولا ثمود ولا بفرعون إذ عصاه ... ما يفعل الشعر بالخدود ومنه قوله «2» : كتابي إلى البحر وإن لم أره، فقد سمعت خبره، والليث وإن لم ألقه فقد

تصورت خلقه، والملك العادل وإن لم أكن لقيته، فقد بلغني صيته، ومن رأى من السيف أثره، فقد رأى أكثره؛ وهذه الحضرة وإن احتاج إليها المأمون، ولم يستغن عنها قارون، فإن الأحب إليّ أن أقصدها قصد موال، [لا قصد سؤال] ؛ والرّجوع عنها بجمال أحبّ إلي من الرجوع عنها بمال؛ قدّمت التعريف، وأنا أنتظر الجواب الشريف. ومنه قوله «1» : عافاك الله، مثل الإنسان في الإحسان، كمثل الأشجار في الثمار، سبيله إذا أتى بالحسنة، أن يرفّه من السّنة إلى السنة، وأنا كما ذكرت لا أملك عضويّ من جسدي، وهما فؤادي ويدي؛ أما الفؤاد فيعلق بالفود، وأما اليد فتولع بالجود؛ لكن هذا الخلق النفيس، ليس يساعده الكيس؛ وهذا الطّبع الكريم ليس يحتمله الغريم، ولا قرابة بين [الأدب و] الذهب؛ والأدب لا يمكن ثرده في قصعة، ولا صرفه في ثمن سلعة. ولي مع الأدب نادرة: جهدت في هذه الأيام بالطّباخ أن يطبخ من جيمية الشماخ لونا، فلم يفعل، وبالقصاب أن يسمع من «أدب الكتاب» فلم يقبل، واحتيج في البيت إلى شيء من الزيت، فأنشدت من شعر الكميت ألفا ومئتي بيت فلم يغن فيما به اعتنيت؛ ولو وقعت أرجوزة العجاج في توابل السّكباج ما عدّ منها عندي لون، ولا استقرّ صون، بل ليست تقع، فما أصنع؟ فإن كنت تحسب اختلافك إليّ، أفضل «2» عليّ، فراحتك راحتي، وراحتي أن لا تطرق ساحتي. ومنه قوله «3» :

أنا لقرب دار مولاي: [من الطويل] ... كما طرب النشوان مالت به الخمر ومن الارتياح إلى لقائه: [من الطويل] ... كما انتفض العصفور بلّله القطر «1» ومن الامتزاج بولائه: [من الطويل] ... كما التقت الصّهباء والبارد العذب ومن الابتهاج بمزاره: [من الطويل] ... كما اهتزّ تحت البارح الغصن الرّطب «2» * ومن شعره قوله «3» : [البسيط] عليّ ألّا أريح العيس والقتبا ... وألبس السّيل والظّلماء واليلبا وأترك الخود معسولا مقبّلها ... وأهجر الكاس يغدو شربها طربا وطفلة كقضيب البان منعطفا ... إذا مشت وهلال الشهر منتقبا قالت وقد علقت ذيلي تودعني ... والوجد يخنقها بالدّمع منسكبا: كنت الشّبيبة أبهى ما دجت درجت ... وكنت كالورد أذكى ما أتى ذهبا أبى المقام بدار الذّلّ لي كرم ... وهمة تصل التّقريب والخببا وعزمة لا تزال الدّهر ضاربة ... دون الأمير وفوق المشتري طنبا يا سيد الأمراء افخر فما ملك ... إلا تمناك مولى واشتهاك أبا «4» إذا دعتك المعالي عرف هامتها ... لم ترض كسرى ولا من فوقه ذنبا أين الذين أعدّو المال من ملك ... يرى الذّخيرة ما أعطى وما وهبا ما الليث محتطما والسّيل مرتطما ... والبحر ملتطما واللّيل مقتربا أمضى شبا منك أدهى منك صاعقة ... أجدى يمينا وأدنى منك مطّلبا

وكاد يحكيك صوب الغيث منسكبا ... لو كان طلق المحيّا يمطر الذهبا والدّهر لو لم يخن والشّمس لو نطقت ... واللّيث لو لم يصد والبحر لو عذبا يا من تراه ملوك الأرض فوقهم ... كما يرون على أبراجها الشّهبا ومنه قوله «1» : [الطويل] أيا ملكا أدنى مناقبه العلى ... وأيسر ما فيه السّماحة والبذل هو البدر إلّا أنه البحر زاخرا ... سوى أنّه الضّرغام لكنه الوبل محاسن يبديها العيان كما بدا ... وإن نحن حدّثنا بها صدّق العقل وجاراك أفراد الملوك إلى العلى ... وحقا لقد أعجزتهم ولك الخصل سما بك من عمرو ويعقوب محتد ... كذا الأصل مفخور به وكذا النّسل * وحكى ابن ظافر قال «2» : حكى بديع الزّمان الهمذاني، قال: قال الصّاحب يوما لجلسائه وأنا فيهم، وقد جرى ذكر أبي فراس بن حمدان: لا يقدر أحد أن يزوّر على أبي فراس شعرا؛ فقلت: ومن يقدر أن يزوّر على شعره، وهو الذي يقول- وقلت ارتجالا-: «3» [الوافر] رويدك لا تصل يدها بباعك ... ولا تغز السّباع إلى رباعك ولا تعن العدوّ عليّ إني ... يمينك إن قطعت، فمن ذراعك فقال الصاحب: صدقت؛ فقلت أيد الله مولانا، قد فعلت وزوّرت على أبي فراس، وهذا شعري! فعجب منه. * وحكي أنّه جرى ذكره في مجلس شيخه أبي الحسين بن فارس، فقال ما

معناه «1» : إنّ بديع الزّمان قد نسي حق تعليمنا إيّاه، وعقّنا، وطمح بأنفه عنّا؛ فالحمد لله على فساد الزّمان، وتغيّر نوع الإنسان. فكتب إليه بديع الزمان: نعم، أطال بقاء الشيخ الإمام؛ إنّه الحمأ المسنون، وإن ظنّت به الظّنون، والنّاس لآدم، وإن كان العهد قد تقادم، وتركبت الأضداد، واختلاف الميلاد؛ والشيخ يقول: قد فسد الزّمان؛ أفلا يقول: متى كان صالحا؟ في الدولة العبّاسيّة، فقد رأينا آخرها، وسمعنا أولها؟ أم الملّة المروانية، وفي أخبارها: لا تكسع الشّول بأغبارها «2» ؟ أم السنين الحربية «3» : [مجزوء الكامل] والسّيف يعقد في الطّلى ... والرّمح يركز في الكلى ومبيت حجر في الفلا ... وحرّتان وكربلا؟ أم البيعة الهاشمية [، وعلي يقول: ليت العشرة منكم] براس، من بني فراس؟ أم الأيّام الأموية، والنّفير إلى الحجاز، والعيون تنظر إلى الأعجاز؟ أم الإمارة العدوّية «4» ، وصاحبها يقول: هلمّ بعد البزول إلى النّزول؟ أم الخلافة التيميّة «5» ، وهو يقول: طوبى لمن مات في نأنأة الإسلام؟ أم على عهد الرسالة، ويوم الفتح قيل: اسكتي يا فلانة، فقد ذهبت الأمانة؟ أم في الجاهليّة، ولبيد يقول «6» : [الكامل] ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقيت في خلف كجلد الأجرب

أم قبل ذلك، وأخو عاد يقول: إذ النّاس ناس والبلاد بلاد «1» ؟ أم قبل ذلك، وآدم- فيما قيل- يقول «2» : [الكامل] تغيرت البلاد ومن عليها ... [ووجه الأرض مغبرّ قبيح] أم قبل ذلك، والملائكة تقول: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ «3» . ما فسد النّاس، إنما اطرد القياس، ولا أظلمت الأيام، إنما امتد الظلام؛ وهل يفسد الشيء إلّا عن صلاح، ويمسي المرء إلّا عن صباح؟ وإنّي على توبيخ شيخنا، لفقير إلى لقائه، شفيق على بقائه، منتسب إلى ولائه، شاكر لآلائه، لا أحلّ حريدا «4» عن أمره، ولا أفلّ «5» بعيدا عن قلبه؛ وما نسيته، ولا أنساه؛ إن له على [كل] نعمة خوّلنيها الله نارا، وعلى كلّ كلمة علّمنيها منارا؛ ولو عرفت لكتابي موقعا من قلبه، لاغتنمت خدمته به، ولرددت إليه سؤر كاسه، وفضل أنفاسه؛ ولكنني خشيت أن يقول: هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا «6» وله- أيده الله- العتبى، والمودّة في القربى، والمرباع، وما ناله الباع، وما ضمّه الجلد، وضمنه السمط؛ ليست رضى، ولكنها جلّ ما أملك.

اثنتان- أيد الله الشيخ الإمام-[قلّما تجتمعان] الخراسانية والإنسانية؛ وإن لم أكن «1» خراسانيّ الطّينة، فإنّي خراسانيّ المدينة؛ والمرء من حيث يوجد، لا من حيث يولد؛ فإذا أضاف إلى خراسان ولاء همذان، ارتفع القلم، وسقط التكليف؛ فالجرح جبار، والجاني حمار، ولا جنّة ولا نار، فليلمّني «2» على هناتي، أليس صاحبها يقول: [الخفيف] لا تلمني على ركاكة عقلي ... إن تيقّنت أنني همذاني والسلام. قوله: والعيون تنظر إلى الأعجاز: إشارة إلى قول أحد الذين قتلوا عثمان لمّا دخلوا عليه، فنظروا إلى نائلة بنت الفرافصة زوجة عثمان، وهي تصيح، فقالوا: إن عجزها لكبير. * واجتمع بديع الزّمان والأستاذ أبو بكر الخوارزميّ في دار السيد أبي القاسم المستوفي، بمشهد من القضاة والفقهاء والأشراف، وغيرهم من سائر النّاس، فجرى بينهما من المناظرة ما نذكره إن شاء الله تعالى «3» . قال الأستاذ أبو الفضل بديع الزمان: سأل السيد- أمتع الله ببقائه إخوانه- أن أملي جميع ما جرى بيننا وبين أبي بكر الخوارزمي أعزه الله من مناظرة مرّة ومنافرة أخرى، موادعة أولا ومنازعة ثانيا، إملاء يجعل السماع له عيانا، فما تلقيته إلا بالطاعة، على حسب الاستطاعة، لكن للقصّة تشبيبا لا تطيب إلّا به، ومقدمات

لا تحسن إلّا معها؛ وسأسوق بعون الله صدر حديثنا إلى العجز، كما يساق الماء إلى الأرض الجرز؛ فنبدأ فيها باسم الله عزّ وجلّ، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم [ذهابا بالقصّة عن أن تكون بتراء، وصيانة لها عن أن تدعى جذماء؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «1» :] «كلّ خطبة لا يبدأ فيها باسم الله عزّ وجلّ فهي بتراء» . وخطب زياد خطبته البتراء «2» . لأنه لم يحمد الله عزّ وجل ولم يصلّ على رسوله صلى الله عليه وسلم؛ وهذا مقام نعوذ بالله منه، ونسأله التوفيق للصّواب، بورده وبصدره. نعم، أطال الله بقاء السيد، وأمتع ببقائه إخوانه؛ إن قعدنا نعدّ آثاركم ونؤدي مآثركم، نفد الحصر قبل نفودها، وفنيت الخواطر قبل أن تفنى المآثر؛ وكيف لا، وإن ذكر الشرف فأنتم بنو بجدته، أو العلم فأنتم عاقدوا بردته، أو الدين فأنتم ساكنو بلدته، أو الجود فأنتم لابسو جلدته، أو التّواضع صبرتم لشدته، أو الرأي صلتم بنجدته، وإن بيتا تولى الله بناءه ولزم الرسول صلى الله عليه وسلم فناءه، وأقام الوصيّ عليه السلام عماده، وخدم جبريل عليه السلام أهله، لحقيق أن يصان عن مدح لسان قصير؛ ونحن نعود للقصة نسوقها. فأولها: أنا وطئنا خراسان، فما اخترنا إلا نيسابور دارا، وإلا جوار السادة جوارا، لا جرم أنا حططنا بها الرّحل، ومددنا عليها الطنب، وقديما كنا نسمع بحديث هذا الفاضل فنتشوقه، ونخبره على الغيب فنتعشقه، ونقدر أنا إذا وطئنا أرضه، ووردنا بلده، يخرج لنا في العشرة عن القشرة، فقد كانت لحمة الأدب جمعتنا، وكلمة الغربة نظمتنا؛ وقد قال شاعر العرب غير مدافع «3» : [الطويل] أجارتنا إنا غريبان هاهنا ... وكلّ غريب للغريب نسيب

فأخلف ذلك الظنّ كلّ الإخلاف، واختلف ذلك التقدير كل الاختلاف؛ وكان قد اتفق لنا في الطريق اتفاق، لم يوجبه استحقاق، من بزّة بزّوها، وفضة فضوها، وذهب «1» ذهبوا به؛ ووردنا نيسابور براحة أنفى من الراحة، وكيس أخلى من جوف حمار «2» ، وزيّ أوحش من طلعة المعلّم، بل اطّلاعة الرقيب، فما حللنا إلا قصبة جواره، ولا وطئنا إلا عتبة داره؛ وهذا بعد رقعة كتبناها، وأحوال أنس نظمناها؛ فلما أخذتنا عينه سقانا الدّرديّ «3» من أول دنّه، وأجنانا سوء العشرة من باكورة فنّه؛ من طرف نظر بشطره، وقيام دفع في صدره، وصديق استهان بقدره، وضيف استخف بأمره؛ لكن أقطعناه جانب أخلاقه، ووليناه خطة رأيه، وقاربناه إذ جانب، وواصلناه إذ جاوب، وشربناه على كدرته، ولبسناه على «4» خشونته، ورددنا الأمر في ذلك إلى زي استغثّه، ولباس استرثه، وكاتبناه نستمدّ وداده، ونستلين قياده، ونستميل فؤاده، ونقيم منآده، بما هذه نسخته بعد البسملة: الأستاذ أبو بكر، والله يطيل بقاءه، أزرى بضيفه إن وجده يضرب آباط القلة في أطمار الغربة، فأعمل في مرتبته أنواع المصارفة، وفي الاهتزاز له أصناف المضايفة، من إيماء بنصف الطرف وإشارة بشطر الكف، ودفع في صدر القيام عن التمام، ومضغ للكلام، وتكلف لردّ السلام؛ وقد قبلت تربيته صعرا، واحتملته وزرا، واحتضنته نكرا، وتأبطته شرا، ولم آله عذرا؛ فإن المرء بالمال وثياب الجمال، ولست مع هذه الحال، وفي هذه الأسمال أتقزز صف النعال؛ فلو صدقته العتاب، وناقشته الحساب، لقلت إن نوادينا ثاغية صباح، وراغية رواح، وناسا

يجرّون المطارف، ولا يمنعون المعارف «1» : [الطويل] وفيهم مقامات حسان وجوههم ... وأندية ينتابها القول والفعل فلو طرحت بأبي بكر أيده الله طوارح الغربة، لوجد منال البشر قريبا، ومحطّ الرّحل رحيبا، ووجه المضيف خصيبا؛ ورأي الأستاذ أبي بكر أيّده الله تعالى في الوقوف على هذا العتاب الذي معناه ودّ، والمرّ الذي يتلوه شهد، موفق إن شاء الله. فأجاب بما هذه نسخته: وصلت رقعة سيدي ورئيسي، أطال الله بقاءه [إلى آخر] السّكباج «2» ، وعرفت ما تضمنته من خشن خطابه، ومؤلم عتبه وعتابه، وحملت ذلك منه على الضجرة التي لا يخلو منها من مسه عسر، ونبا به دهر؛ والحمد لله الذي جعلني موضع أنسه، ومظنة مشتكى ما في نفسه. أما ما شكاه سيدي ورئيسي من مضايقتي إياه- زعم- في القيام عن التّمام، فقد وفيته حقه- أيده الله- سلاما وقياما على قدر ما استطعت عليه، ووصلت إليه، ولم أرفع عليه إلّا السيد أبا البركات العلويّ أدام الله عزه، وما كنت لأرفع أحدا على من أبوه الرسول، وأمه البتول، وشاهداه التّوراة والإنجيل، وناصره التّأويل والتنزيل، والبشير به جبريل وميكائيل؛ فأمّا القوم وما وصف سيدي عنهم فكما وصف حسن عشرة، وسداد طريقة، وكمال تفصيل وجملة. ولقد جاورتهم فأحمدت المراد، ونلت المراد «3» : [الطويل] فإن أك قد فارقت نجدا وأهله ... فما عهد نجد عندنا بذميم

والله يعلم نيتي للأحرار كافة، ولسيدي أدام الله عزه من بينهم خاصة؛ فإن أعانني على ما في نفسي بلغت له بعض ما في النية، وجاوزت به مسافة القدرة؛ وإن قطع عليّ طريق عزمي بالمعارضة، وسوء المؤاخذة، صرفت عناني عن طريق الاختيار، [بيد الاضطرار] : [الطويل] فما النفس إلّا نطفة في قرارة ... إذا لم تكدر كان صفوا غديرها «1» وبعد: فحبذا عتاب سيدي إذا استوجبنا عتبا، واقترفنا ذنبا؛ فأما أن يسلفنا العربدة، فنحن نصونه عن ذلك، ونصون أنفسنا عن احتماله عليه؛ ولست أسومه أن يقول: اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ «2» ، ولكنّي أسأله أن يقول: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ «3» . فحين ورد الجواب، وغير العذر رائده، تركناه بعرّه، وطويناه على غرّه، وعمدنا لذكره، فسحوناه، عن صحيفتنا ومحوناه، وصرنا إلى اسمه فأخذناه ونبذناه؛ وتنكبنا خطته، وتجنبنا خلطته، فلا طرنا به، ولا طرنا إليه؛ ومضى على ذلك الأسبوع، ودرجت اللّيالي، وتطاولت المدّة، وتصرم الشهر وصرنا لا نعير الأسماع ذكره، ولا نودع الصدر حديثه، وجعل هذا الفاضل يستزيد ويستعيد، بألفاظ تقطفها الأسماع من لسانه وتردّها إليّ، وكلمات تحفظها الألسنة من فمه وتعيدها عليّ؛ فكاتبناه بما هذه نسخته: أنا أرد من الأستاذ سيدي- أطال الله بقاءه- شرعة وده، وإن لم تصف؛ وألبس خلعة وده «4» وإن لم تضف؛ وقصاراي أن أكيله صاعا عن مدّ؛ فإني

وإن كنت في الأدب دعيّ النسب، ضعيف السبب، ضيق المضطرب، سيّء المنقلب، أمتّ إلى عشرة أهله بنيقة، وأنزع إلى خدمة أصحابه بطريقة، ولكن بقي أن يكون الخليط منصفا في الوداد، إذا زرت زار، وإن عدت عاد؛ وسيدي- أيده الله- ناقشني في القبول أولا، وصارفني في الإقبال ثانيا؛ فأما حديث الاستقبال، وأمر الإنزال والأنزال، فنطاق الطّمع ضيق عنه، غير متّسع لتوقّعه منه. وبعد: فكلفة الفضل هينة، وفروض الودّ متعينة، وأرض العشرة لينة، وطرقها بينة، فلم اختار قعود التّعالي مركبا، وصعود التّغالي مذهبا؟ وهلّا ذاد الطّير عن شجر العشرة، وذاق الحلو من ثمرها؟ فقد علم الله أن شوقي إليه قد كدّ الفؤاد برحا على برح، ونكأه قرحا على قرح، ولكنّها مرّة مرّة، ونفس حرّة، لم تعد إلّا بالإعظام، ولم تلق إلّا بالإجلال، وإذا استعفاني من معاتبتي، وأعفى نفسه من كلف الفضل بتجشمها، فليس إلا غصص الشوق أتجرّعها، وحلل الصبر أتدرعها، ولم أغره من نفسي، وأنا لو أعرت جناحي طائر لما طرت إلّا إليه، ولا وقعت إلّا عليه «1» : [الطويل] أحبّك يا شمس الزمان وبدره ... وإن لا مني فيك السّها والفراقد «2» وذاك لأنّ الفضل عندك باهر ... وليس لأنّ العيش عندك بارد فلمّا وردت عليه الرّقعة، حشر تلامذته وخدمه، وزمّ عن الجواب قلمه، وجشّم للإيجاب قدمه، وطلع مع الفجر علينا طلوعه، ونظمتنا حاشيتا دار الإمام أبي الطيّب أدام الله عزّه؛ فقلت: الآن حين تشرق الحشمة وتنوّر، وننجد في

العشرة ونغوّر، وقصدناه شاكرين لما أتاه، وانتظرنا عادة بره، وتوقعنا مادة فضله، فكان خلّبا شمناه، وآلا وردناه، وصرفنا الأمر في تأخرنا عنه إلى ما قاله عبد الله بن المعتزّ «1» : [الرجز] إنّا على البعاد والتّفرّق ... لنلتقي بالذّكر إن لم نلتقي وأنشدناه قول ابن عصرنا: [الوافر] أحبّك في البتول وفي أبيها ... ولكنّي أحبّك من بعيد «2» وبقينا نلتقي خيالا، ونقنع بالذكر وصالا، حتّى جعلت عواصفه تهبّ، وعقاربه تدبّ، وهو لا يرضى بالتعريض حتى يصرح، ولا يقنع بالنفاق حتى يعلن؛ وشكا إلي بعض إخواننا أني خاطبته مخاطبة مجحفة، ونزلته منزلة متحيفة؛ فقال: إني أؤثر العربدة، وأسلف الموجدة؛ ويرميني في ذلك بدائه وينسلّ «3» ، فكتبنا إليه «4» : [المتقارب] جعلت فداءك من فاضل ... بلغت التراقي من جوره وفي الغيب أكثر مما رأيت ... وأين البلوغ إلى غوره أتتني الرّواة بما قلته ... بهيئته وعلى كوره وقولك إني طوع الشّجار ... أضمّ ضلوعي على سوره فقلت حياء لمن قد [أتاني] ... تجاوز منّا مدى طوره «5»

فيا من بذلت ودادي له ... فما لأت حورا على كوره بودّ تبلّج عن نوره ... وقصد تفرّخ عن نوره فهشّ كما ليس يخفى عليك ... بشطر القيام إلى زوره وبايعته بيمين الرّضا ... وغضّ الجفون على هوره وقلت لحنظل أخلاقه: ... ألا حبذا الأري في شوره ولو كان ذلك من غيره ... طممت بنجدي على غوره ولا عبته بكعاب الرّجوع ... فقامرني بيدي على غوره وكان حديثي لمّا رجعت ... حديث الفتى مع سنّوره فلم أدر فيما جفا ضيفه ... ولم سكن البرّ من فوره أللزّمن النّي في حكمه ... أم الفلك الغثّ في دوره وكاتبته أستمدّ الوداد ... كملتمس الدّرّ في ثوره فقابل صرفي بممزوجه ... وواجه درّي ببللوره وجشّم أقدام إقدامه ... يلوح التّكلّف في موره وزار وزرناه عن قصده ... بما ليس يخجل في زوره هلمّ إلى منبت المكرمات ... اواينا منتحى سوره «1» وأما الخطاب فأنت ابتدأت ... ودونك زند المنى أوره فلمّا وردت عليه الأبيات، أبرزت باطنه، وحرّكت ساكنه، وأخرجت دفائن صدره، ورفعت أذيال ستره، وملأ قلبه ولحيته تهديدا؛ فكتبنا إليه «2» : [الهزج] أعنّي يا أبا بكر ... على نفثة مصدور على ودّك مطويّ ... وعن عتبك منشور

إلى سلمك مشتاق ... على حربك مقهور ولا تعدل إلى الظّلم ... ة عن ناحية النّور ولا تهو إلى الوهد ... ة من عالية السّور ولا تنهج إلى الأضيا ... ف إلّا سبل الخير ولا تحفر لهم بيرا ... تقع في ذلك البير ولا تنقل إلى الفتنة ... أسباب المقادير «1» فما أكثر ما عند ... ك من سرّ العقاقير ولا تغرف على الإخوا ... ن من هذي الأبازير فكم أطوي لك السّمع ... على سود المناكير وكم ألقي عليها طر ... في في حلمي وتذكيري وإن تمدد إلى ماء ال ... تّصافي يد تكدير تعد عن جهتي واللّ ... هـ محذوف الشّوابير ولا مروان بالكوفة ... في غدوة عاشور ولا الكلب أتى الجام ... ع في فروة ممطور وإن أحببت أن تعل ... م فانشطّ غير مأمور فلا تبطل فدتك النّف ... س في بردك تدبيري ولا تخلف بأخلاق ... ك في العشرة تقديري فلما وردت عليه الأبيات قال: لو أنّ بهذا البلد رجلا تأخذه أريحيّة الكرم» ، وتملكه هزّة الهمم، يجمع بيني وبين فلان- يعنيني-: [الرجز] ثم رأى إذا انجلى الغبار ... أفرس تحتي أم حمار

وعلم أيّنا يبرز خلابه عفوا، أو أيّنا يغادر في المكر، ولودّ فلان بوسطاه؛ بل بيمناه، لو دخلنا وقلنا في المناخ له: نم، إلى كلمات تحذو هذا الحذو، وتنحو هذا المنحى، وألفاظ أتتنا من عل؛ وكان جوابنا أن قلنا: بعض الوعيد يذهب في البيد، والصّدق ينبئ عنك لا الوعيد «1» ؛ وقلنا: إنّ أجرأ النّاس على الأسد، أكثرهم رؤية له؛ «2» وقد قال بعض أصحابنا. قلت لفلان: ألا تناظر فلانا، فإنّه يغلبك؟ فقال: أمثلي يغلب وعندي دفتر مجلد! ووجدنا عندنا دفاتر مجلدة، وأجزاء مجرّدة؛ وأنشدناه قول جحل بن نضلة «3» : [السريع] جاء شقيق عارضا رمحه ... إنّ بني عمّك فيهم رماح هل أحدث الدّهر بنا نكبة ... أم هل رقت أمّ شقيق سلاح وقلنا: إنا نقتحم الخطب، ونتوسّط الحرب، فنردّها مفحمين، ونصدر بلغاء: [الطويل] وألسننا قبل النّزال قصيرة ... ولكنّها بعد النّزال طوال [المتقارب] فأرضك أرضك إن تأتنا ... تنم نومة ليس فيها حلم [المتقارب] «4» فمن ظنّ ممّن يلاقي الحروب ... بأن لا يصاب فقد ظنّ عجزا فإنك متى شئت لقيت منّا خصما ضخما، ينهشك قضما، ويأكلك

خضما، وحثثناه على الأخذ بكتاب الله تعالى من قوله: وَالصُّلْحُ خَيْرٌ «1» وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها «2» وأنشدناه قول الأول: [البسيط] السّلم تأخذ منها ما رضيت به ... والحرب يكفيك من أنفاسها جرع وقلنا له «3» : [الوافر] نصحتك فالتمس يا ويك غيري ... طعاما إنّ لحمي كان مرّا ألم يبلغك ما فعلت ظباه ... بكا ظمة غداة لقيت عمرا وجعل الشّيطان يثقل بذلك أجفان طرفه، ويقيم به شعرات أنفه «3» : [الوافر] وحتّى ظنّ أنّ الغشّ نصحي ... وخالفني كأنّي قلت هجرا واتّفق أنّ السيد أبا علي- أدام الله عزه- نشط للجمع بيني وبينه، فدعاني فأجبت، ثم عرض عليّ حضور أبي بكر، فطلبت ذلك، وقلت: هذه عدة لم أزل أستنجزها، وفرصة لا أزال أنتهزها؛ فتجشم السيد أبو الحسين، فكاتبه يستدعيه؛ واعتذر أبو بكر بعذر في التأخر، فقلت: لا ولا كرامة للدّهر أن نقعد تحت ضيمه، أو نقبل خسف ظلمه، ولا عزازة للعوائق أن تضيعنا ولا نضيعها، أو تعنينا ولا ندفعها؛ وكاتبته أنا أشحذ عزيمته على البدار، وألوي رأيه عن الاعتذار، وأعرّفه ما فيّ من ظنون تشتبه، وتهم تتجه، وتقادير تختلف، واعتقادات تخلف، وقدنا إليه مركوبا، لنكون قد ألزمنا الحج وأعطينا الرّاحلة، فجاءنا في طبقة أفّ وعدد تفّ: [السريع]

كلّ بغيض قدّه إصبع ... وأنفه خمسة أشبار مع أرباب عانات وأصحاب جربّانات، لا تنال العين منهم إلّا خسيسا، وسرحنا الطّرف منه ومنهم، في أحمى من است النّمر «1» ، وأعطس من أنف النغر «2» ، فظننا أنه يريد أن يلقى كتيبة، أو يهزم دوسرا، أو يفلّ الأنكدين، أو يردّ الوافدين؛ ثم رأينا رجالا جوفا، قد خلّقوا صوفا، فأمنّا المعرة، ولم نخش المضرة، وقمنا له وإليه، وجلس يحرق أرمه، وتمثل ببيت لا يقتضيه الحال: من أنا في الحبالة نستبق «3» . فتركناه على غلوائه، حتّى إذا نفض ما في رأسه، وفرغ جعبته وسواسه، عطفنا عليه، فقلنا: عافاك الله، دعوناك وغرضنا غير المهارشة، واستزرناك وقصدنا غير المناوشة؛ فلتهدأ ضلوعك، وليفرخ روعك: يا مارسر جس لا نريد قتالا «4» ، وما اجتمعنا إلا لخير، فلتسكن سورتك، ولتلن فورتك، ولا ترقص لغير طرب، ولا تحمّ لغير سبب، وإنّما دعوناك لتملأ المجلس فرائد وتذكر أبياتا شوارد، وأمثالا فوارد، ونباحثك فنسعد بما عندك، وتسألنا فتسرّ بما عندنا، ويقف كلّ منّا موقفه من صاحبه، وقديما كنت أسمع بحديثك، فيعجبني الالتقاء بك والاجتماع معك، والآن إذ سهل الله ذلك، فهلم إلى الأدب ننفق يومنا عليه، وإلى الجدل نتجاذب طرفيه؛ فاسمع خبرا وأسمعنا مثله؛ ونبدأ بالفنّ الذي ملكت به زمانك، وفتّ فيه أقرانك، وملكت منه عنانك، وأخذت منه

مكانك، وطار به اسمك بعد وقوعه، وارتفع له ذكرك عقب خضوعه، وأفحمت به الرّجال، حتى أذعن العالم وقلّد الجاهل، وقالوا قول الصّوفيّة: يا دهشا كلّه؛ فجارنا بفرسك، وطاولنا بنفسك؛ فقال: وما هو؟ قلت: الحفظ إن شئت، والنّظم إن أردت، والنّثر إن اخترت، والبديهة إن نشطت؛ فهذه أبوابك التي أنت فيها ابن دعواك، تملأ منها فاك. فأحجم عن الحفظ رأسا، ولم يجل فيه قدحا، وقال: أبادهك؛ فقلت: أنت وذاك؛ فمال إلى السيد أبي الحسين فسأله بيتا ليجيز، فقلت: يا هذا، أنا أكفيك؛ ثم تناولت جزءا فيه أشعاره، وقلت لمن حضر: هذا شعر أبي بكر الذي كدّ به طبعه، وأسهر له جفنه، وأجال فيه فكره، وأنفق فيه عمره، واستنزف فيه يومه، ودوّنه صحيفة مآثره، وجعله ترجمان محاسنه، وعبر به عن باطنه، وأخذ مكانه به، وهو ثلاثون بيتا؛ وسأقرن كلّ بيت بوفقه، وأنظم كل معنى إلى لفقه، بحيث أصيب أغراضه، ولا أعيد ألفاظه، وشريطتي ألا أقطع النفس؛ فإن تهيأ لواحد، أو أمكن لناقد ممن قد حضر، يريد النظر، أن يميز قوله من قولي، ويحكم على البيت أنه له أو لي، أو يرجّح ما أنضجه بنار الرويّة، على ما أمليته على لسان النّفس، فله يد السبق، أو يكون غيرها، فأعفى عن هذه المعارضة، وتتنحّى لنا عن أرض المماثلة، ويخلى لنا الطّريق لمن يبني المناربه؛ فقال أبو بكر: ما الذي يؤمننا من أن تكون نظمت من قبل ما تريد إنشاده الآن؟ فقلت: اقترح لكلّ بيت قافية، لا أسوقه إلّا إليها، ولا أقف به إلا عليها؛ ومثال ذلك أن تقول: حشر؛ فأقول بيتا آخره حشر، ثم عشر فأنظم بيتا قافيته عشر، ثم هلمّ جرا إلى حيث يتضح الحقّ، وينتضح الزّرق، وتستقر الحجة وتطرد، وتستقلّ الشّبهة وتنطرد، فيعرف الحالي من العاطل، ويفرق بين الحقّ والباطل؛ فأبى أبو بكر أن يشاركنا هذا العنان، ومال إلى السيد أبي الحسين يسأله بيتا ليجيز، فتبعنا رأيه

بما رآه، ولم نرض إلّا رضاه، ولم نعدل عن هواه ومبتغاه؛ وأعمل كلّ منّا لسانه وفمه، وأخذ دواته وقلمه، وأجزنا البيت الذي قاله، وكلّما أجزناه إجازة، جارى القلم فيها الطّبع، وبارى اللّسان بها السمع، وسارق الخاطر بها النّاظر، وسابق الجنان فيها البنان؛ إلى أن قلنا «1» : [الكامل] هذا الأديب على تعسّف فتكه ... وبروكه عند القريض ببركه متسرّع في كلّ ما يعتاده ... من نظمه، متباطئ عن تركه والشعر أبعد مذهبا ومصاعدا ... من أن يكون مطيعه في فكّه والنّظم بحر والخواطر معبر ... فانظر إلى بحر القريض وفلكه فمتى توانى في القريض مقصر ... عرضت أذن الامتحان لعركه هذا الشّريف على تقدّم بيته ... في المكرمات ورفعه في سمكه قد رام منّي أن أقارن مثله ... وأنا القرين السّوء إن لم أنكه وإذا نظرت وجدت ما قد قلته ... برد اليقين على حرارة شكّه عارضت بيتا قلته متعسّفا ... وحطمت جانحة القرين بدكّه ودبغت منه أديمه فتركته ... نهج الأديم بدبغه وبدلكه اصغوا إلى الشّعر الذي نظّمته ... كالدّرّ رصّع في مجرّة سلكه فمتى عجزت عن القرين بديهة ... فدمي الحرام له إراقة سفكه فقال أبو بكر أبياتا جهدنا به أن يخرجها عن اللّحاف، ويبرزها من الغلاف، فلم يفعل دون أن طواها، وجعل يفركها ويعركها، فقلت: يا هذا، إنّ البيت لقائله كالولد لناجله، فما لك تعقّ ابنك وتضيمه؟ أبرزها للعيون، وخلّصها من الظّنون؛ فكره أبو بكر أيده الله أن تكون الهرّة أعقل منه، لأنها تحدث وتغطي،

فلم يستجز أن يظهر، ثم بسط «1» جبينه، وبسط يمينه للبديهة، نفسا دون أن كتب، فقال: أنت وذاك؛ واقترح علينا أن نقول على وزن قول أبي الطّيّب المتنبّي، حيث يقول «2» : [الكامل] أرق على أرق ومثلي يأرق ... وجوى يزيد وعبرة تترقرق وابتدر أبو بكر أيده الله إلى الإجازة، ولم يزل إلى الغايات سباقا، فقال «3» : [الكامل] وإذا ابتدهت بديهة يا سيدي ... فأراك عند بديهتي تتقلق وإذا قرضت الشعر في ميدانه ... لا شك أنّك يا أخي تتشقق إني إذا قلت البديهة قلتها ... عجلا وطبعك عند طبعي يرفق مالي أراك ولست مثلي عندها ... متموّها بالتّرهات تمخرق إني أجيز على البديهة مثل ما ... تريانه وإذا نطقت أصدّق لو كنت من صخر أصمّ لها له ... [منّي] البديهة واغتدى يتفلّق أو كنت ليثا في البديهة قادرا ... لرئيت يا مسكين دوني تبرق «4» وبديهة قد قلتها متنفسا ... فقل الذي قد قلت يا ذا الأخرق ثم وقف يعتذر، ويقول: إن هذا كما يجيء لا كما يجب؛ فقلت: قبل الله عذرك، لكنّي أراك بين قواف مكروهة، وقافات خشنة؛ كلّ قاف كجبل قاف، منها: تتقلق وتتشقّق وتفلّق وتمخرق وتبرق وتسرق وأحمق وأخرق، إلى أشياء لا

أكثر بها العدد؛ فخذ الآن جزاء عن قرضك، وأداء لفرضك؛ وقلت «1» : [الكامل] مهلا أبا بكر فزندك أضيق ... واخرس فإنّ أخاك حيّ يرزق دعني أعرك إذا سكتّ سلامة ... فالقول ينجد في ذويك ويعرق ولفاتك فتكات سوء فيكم ... فدع السّتور وراءها لا تخرق وانظر لأشنع ما أقول وأدّعي ... أله إلى أعراضكم متسلّق؟ يا أحمقا وكفاك ذلك خزية ... جرّبت نار معرّتي هل تحرق؟ فلمّا أصابه حرّ الكلام، ومسه لفح هذا النظام، قطع علينا، فقال: يا أحمقا، لا يجوز؛ فإنّ أحمق لا ينصرف؛ فقلنا: يا هذا لا تقطع، فإن شعرك إن لم يكن عيبة عيب، فليس بطرف ظرف، ولو شئنا لقطعنا عليك، ولوجد الطّاعن سبيلا إليك؛ وأما أحمق فلا يزال يصفعك وتصفعه، حتى ينصرف وتنصرف معه. وعرّفناه أن للشاعر أن يردّ ما لا ينصرف إلى الصرف، كما أن له رأيه في القصر والحذف؛ وأنشدناه حاضر الوقت من أشعار العرب، فقال: يجوز للعرب ما لا يجوز لك؛ فلم يدر كيف يجيب عن هذا الموقف وهذه المواقعة، وكيف يسلم من هذه المناصفة، لكنّا قلنا له: أخبرنا عن بيتك الأول، أمدحت أم قدحت؟ وزكيت أم جرحت؟ ففيه شيئان متفاوتان، ومعنيان متباينان؛ منها أنّك بدأت فخاطبت بيا سيدي، والثّانية: أنّك عطفت فقلت: تتقلّق، وهما لا يركضان في حلبة، ولا يحطّان في خطّة. ثم قلت له: خذ وزنا من الشعر، حتى أسكت عليك فتستوفي من القول حظّك، واسكت علينا حتّى نستوفي حظنا؛ ثم إني أحفظ عليك أنفاسك

وأواقفك عليها، واحفظ عليّ أنفاسي وواقفني عليها؛ فإن عجزت عن اعتلاقها حفظتها لك، فسلني عنها بعد ذلك؛ وأخذنا بيت أبي الطيّب المتنبي «1» : [المنسرح] أهلا بدار سباك أغيدها ... أبعد ما بان عنك خرّدها فقلت «2» : [المنسرح] يا نعمة لا تزال تجحدها ... ومنة لا تزال تكندها فأخذ بمخنّق البيت قبل تمامه، ومضيق الشّعر قبل نظامه، فقال: [ما] معنى تكندها؟ فقلت: يا هذا، كند النعمة: كفرها؛ فرفع يديه ورأسه، وقال: معاذ الله أن يكون كند بمعنى جحد، وإنما الكنود: القليل الخير؛ فأقبلت الجماعة عليه يوسعونه بريا وفريا، ويتلون له قول الله تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ «3» . فقلت: أليس الشّرط أملك؟ والعهد بيننا أن تسكت ونسكت حتّى نتم وتتمّ؟ ثم نبحث ونفحص؟ فنبذ الأدب وراء ظهره، وصار إلى السّخف يكيلنا بصاعه ومدّه، وينفض فيه حمة جهده، وأفضى إلى السفه يغرف علينا غرفا، ويستقي من جرفه جرفا؛ فقلت له: يا هذا، إنّ الأدب غير سوء الأدب، وللمناظرة حضرنا لا للمنافرة؛ فإن نقضت عن هذا السّخف يدك، وثنيت عن هذا السّفه قصدك، وإلّا تركت مكالمتك؛ ولو كان في باب الاستخفاف شيء أبلغ من ترك الإنكار لبلغته منك؛ فأخذ يمضي على غلوائه، ويمعن في هرائه وهذائه؛ فاستندت إلى المسند، ووضعت اليد على اليد، وقلت: أستغفر الله من مكالمتك، ونفضتها قائمة معه، وسكتّ حتّى عرف الناس، وأيقن الجلّاس أني أملك من نفسي مالا

يملكه، وأسلك من طريق الحلم ما لا يسلكه؛ ثم عطفت عليه، فقلت: يا أبا بكر، إنّ الحاضرين قد أعجبوا من حلمي بأضعاف ما أعجبوا من علمي، وتعجّبوا من عقلي، أكثر ممّا تعجبوا من فضلي؛ وبقي الآن أن يعلموا أنّ هذا السّكوت ليس عن عيّ، وأنّ تكلّفي للسّفه أشدّ استمرارا من طبعك، وغربي في السّخف أمتن عودا من نبعك؛ وسنقرع باب السّخف معك، ونفترع من ظهر السّفه مفترعك، فتكلّم الآن. فقال: أنا قد كسبت بهذا [العقل] دية أهل همذان مع قلّته، فما الذي أفدت أنت بعقلك مع غزارته؟ فقلت: أما قولك: دية أهل همذان، فما أولاني بأن لا أجيب عنه، لكن هذا الذي به تتمدّح وتتبّجج، وتتشرّف وتتصلّف، من أنك شحذت فأخذت، وسألت فحصلت، وكديت فاقتنيت، فهذا عندنا صفة ذمّ، عافاك الله، ولأن يقال للرّجل: يا فاعل، يا صانع، أحبّ إليه من أن يقال: يا شحّاذ، يا مكدي؛ وقد صدقت، أنت في هذه الحلبة أسبق، و [في] هذه الحرفة أعرق؛ ولعمرك إنّك أشحذ، وأنت في الكدية أنفذ، وأنا قريب العهد بهذه الصّنعة، حديث الورد لهذه الشّرعة، مرمل اليد في هذه الرّقعة. فأما مالك، فعندنا يهوديّ يماثلك في مذهبه، ويزنك بذهبه، وهو مع ذلك لا يطرقني إلّا بعين الرّهبة، ولا يمدّ إليّ إلّا يد الرّغبة؛ ولو كان الغنى حظا كريما لأخطأه مثل هذا العقل، ولو كان المال غنما لما أدرك بهذا السعي، ولكن عرّفني هل كنت فيما سلف من زمانك، ونبت من أسنانك، إلا هاربا بذمائك، مضرجا بدمائك، مرتهنا بقولك، بين وجنة موشومة، وجوارح مهشومة، ودار مهدومة، وخدود ملطومة؟ ومتى صفت مشارعك، أو أخصبت مراتعك، إلّا في هذه الأيّام القذرة؟ وستعرف غدك من بعد وتنكر أمسك، وتعلم قدرك في غد وتعرف نفسك، وما أضيع وقتا قطعته بذكرك، ولسانا دنسته باسمك.

وملت إلى القوّال وهو أبو بكر أحمد بن عبد الله الشّاذياخيّ، فقلت: أسمعنا خيرا؛ فدفع القوّال وغنّى أبياتا، فيها «1» : [الوافر] وشبهنا بنفسج عارضيه ... بقايا اللّطم في الخدّ الرّقيق فقال أبو بكر: يا قوم، أحسن ما في هذا الأمر، أنّي أحفظ هذه القصيدة وهو لا يعرفها؛ فقلت: يا عافاك [الله] ، أعرفها، وإن أنشدتكها ساءك مسموعها، ولم يسرك مصنوعها؛ فقال: أنشد؛ فقلت: أنشد، لكنّ روايتي تخالف هذه الرّواية؛ وأنشدت: [الوافر] وشبّهنا بنفسج عارضيه ... بقايا الوشم في الوجه الصّفيق فأتته السّكتة، وأضجرته النّكتة، وانطفأت تلك الوقدة، وانحلت تلك العقدة، وأطرق مليا، وقال: والله لأضربنك وإن ضربت، ولأشتمنّك وإن شتمت، وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ «2» ولتعلمنّ أيّنا الضارب وأيّنا المضروب. وقلت: يا أبا بكر مهلا، فإنّك بين ثلاثة فصول لم تتخطّها من عمرك، وثلاث أحوال لم تتعدّها «3» في أمرك؛ وأنت في جميع الثلاثة ظالم في وعيدك، متعدّ في تهديدك؛ لأنك كهل وأنت شاعر، وكنت شابا وأنت مقامر، وكنت صبيا وأنت مؤاجر؛ فنطاق القدرة في الثلاثة الفصول ضيق عن هذا الوعيد؛ لكنّا نصفعك الآن، وتضربنا فيما بعد، فقد قيل: اليوم قصف، وغدا خسف؛ وقيل: اليوم خمر، وغدا أمر «4» ؛ فقال أبو بكر: والله لو أنّك دخلت الجنة، واتخذت السندس والإستبرق جنّة، لصفعت؛ فقلت: والله لو أن قفاك غدا في درج في

خرج في برج، لأخذك من النعال ما قدم وما حدث، وشملك من الصّفع ما طاب وخبث؛ وأنشدت قول ابن الرّومي «1» : [المجتث] إن كان شيخا سفيها ... يفوق كلّ سفيه فقد أصاب شبيها ... له وفوق الشّبيه ثم لما أبت نفس العقل، وزال سكر الغيظ، تمثّلت بقول القائل «2» : [الطويل] وأنزلني طول النّوى دار غربة ... إذا شئت لاقيت امرأ لا أشاكله أجامعه حتّى يقال سجيّة ... ولو كان ذا عقل لكنت أعاقله ودفع القوال فبدأ بأبيات، ولحّن بأصوات، وجعل النّعاس يثني الرءوس، ويمنع الجلوس؛ فقمنا عن اللّيل وهو يجرّ بعاع الذّقن، إلى ما وطّئ من مضجع، ومهّد من مهجع؛ ولم يكن النوم ملأ الجفون، ولا شغل العيون، حتى أقبل وفد الصّباح، وحيعل المؤذّن بالفلاح، وندب بالنّهوض إلى المفروض، وأجبنا؛ فلمّا قضينا الفرض، فارقنا الأرض، فآوى إلى مثواه، وأويت إلى الحجرة، وظني أنّ هذا الفاضل يأكل يده ندما، ويبكي على ما جرى دمعا ودما؛ فإنّه إذا سمع بحديث همذان، قال: الهاء همّ، والميم موت، والذّال ذل، والألف آفة، والنّون ندامة؛ وإنّه إذا نام هاله منّا طيف، وإذا انتبه راعه منّا سيف؛ وأخذ النّاس يترامزون بما جرى ويتغامزون، وراب هذا الفاضل غمزاتهم، مثلما راب المريض تغامز العوّاد؛ فجعل يحلف للنّاس بالعتق، وتحرير الرّقّ، والمكتوب في الرّقّ، أنه أخذ قصب السبق، وأنه ينطق عن الحقّ؛ والناس أكياس، لا يقنعهم عن المدّعي يمين دون شاهدين

وسعوا بيننا بالصّلح، يحكمون قواعده ومعاقده، وعرفنا له فضل السّنّ، فقصدناه معتذرين إليه، فأومى إيماءة مهيضة، واهتزّ اهتزازة مغيضة، وأشار إشارة مريضة، بكفّ سحبها على الهواء، ويد بسطها في الجو بسطا؛ وعلمنا أن للمقمور أن يستخفّ ويستهين، وللقامر أن يحتمل ويلين؛ فقلنا: إنّ بعد الكدر صفوا، كما إنّ عقب المطر صحوا، فهل لك في خلق في العشرة نستأنفها، وطرق في الخلطة نسلكها؛ فإنّ ثمرة الخلاف ما قد بلوتها؟ فقال: ظهر الوفاق أوطأ كما ذكرت، والجميل أجمل كما علمت، وسنشترك في هذا العنان؛ وعرض علينا الإقامة عنده سحابة ذلك اليوم، فاعتللنا بالصّوم، فلم يقبل العذر، وألحّ؛ فقلت: أنت وذاك؛ فطعمنا عنده، وأخذنا ديدان مرده «1» ، وخرجنا والنّية على الجميل موفورة، وتبعة الودّ معمورة، وصرنا لا نتعلل إلا بمدحه، ولا نتنقل إلا بذكره، ولا نعتدّ إلا بودّه، لا بل ملأنا البلد شكرا، والأسماع نشرا، وبتنا نحن من الحال في أعذبها شرعة، ومن الثقة في أطيبها جرعة، ومن الظّنون في أفلجها قرعة، ومن المودة في أعمرها بقعة، وأوسعها رقعة؛ حتى طرأ علينا رسولان متحمّلان لمقالته، مؤديان لرسالته، ذاكران بأنّ أبا بكر يقول: قد تواترت الأخبار، وتظاهرت الآثار في أنك قهرت وأني قهرت، ولا شك أنّ ذاك التّواتر عنك صدرت أوائله، والخبر إذا تواتر به النّقل، قبله العقل؛ ولابدّ أن نجتمع في مجلس بعض الرؤساء، فنتناظر بمشهد الخاصة والعامة، فإنك متى لم تفعل ذلك لم آمن عليك تلامذتي، أو تقرّ بعجزك وقصورك عن بلوغ أمدي ومنال يدي؛ فعجبت كل العجب مما سمعت، وأجبت فقلت: أما قولك: قد تواتر الخبر بأنك قهرت، وأنّ ذلك عن جهتي صدر، ومن لساني سمع؛ فبالله ما أتمدح بقهرك، ولا أتبجج بقسرك؛ وإنّ لنفسك عندنا لشأنا إن ظننتني أقف هذا الموقف، أنا إن شاء الله أبعد من ذلك

مرتقى همّة ومصعد نفس، أسأل الله سترا يمتدّ، ووجها لا يسودّ؛ فأما التّواتر من الناس، والتّظاهر على أني قهرتك، فلو قدرت على الناس لخطت أفواههم، ولقبضت شفاههم، فما الحيلة؟ وهل إلى ذلك سبيل فأتوسل، أم ذريعة فأتوصل؟ ثم هذا التواتر ثمرة ذلك التناظر، مع ذلك التساتر، فإن كان ساءك فأحرى أن يسوءك عند مجتمع الناس ومحتفل أولي الفضل، ولأن يترك الأمر مختلفا فيه خير لك من أن يتفق عليه، فإن أحببت أن تطير هذا الواقع، وتهيج هذا الساكن، فرأيك موفقا؛ فأما هذا الوعيد فقد عرضته على جوانحي وجوارحي كلّها، فلم تنشدار لا قول القائل: [الوافر] وعيد تخدج الآرام منه ... وتكره نبّه الغنم الذّئاب فكم يتكوكب تلامذتك ويتعسكرون، ويتفحش أصحابك ويتباجعفرون «1» ، ولست أراك إلا بين ميمين «2» ، أحدهما «3» : يروح إلى أنثى ويغدو إلى طفل؛ والآخر: يجيب دعوة المضطر إذا دعاه بمسلّفات؛ فإن كان الله قد قضى أن أقتل بأخسّ سلاح، فلا مفر من القدر المتاح؛ رزقنا الله عقلا به نعيش، ونعوذ بالله من رأي بنا يطيش؛ وقلنا من بعد: إنّ رسالتك هذه وردت موردا لم نحتسبه، ووصلت موقفا لم نرتقبه، فلذلك خرج الجواب عن البصل ثوما وعن البخل لوما. فلما ورد الجواب عليه، وسع من الغيظ فوق ملئه، وحمل من الحقد فوق عبئه، وقال: قد بلغ السيل الزّبى، وعلت الوهاد الرّبى في أمرك، وسترى يومك، وتعرف قومك. ثمّ مضت على ذلك أيام ونحن مضطرّون لفاضل ينشط لهذا الفصل، وينظر

بيننا بالعدل؛ فاتفقت الآراء على أن يعقد هذا المجلس في دار الشيخ السيد أبي القاسم الوزير، واستدعيت فسرحت الطرف من ذلك السيد في عالم أفرغ في عالم، وملك في درع ملك، ورجل نظم إلى التنبّل تبذّلا، وإلى التّرفّع تواضعا، ونطق فودّت الأعضاء لو أنها أسماع مصغية، واستمع فتمنت الجوارح لو أنها ألسنة ناطقة؛ فقلت: الحمد لله الذي عقد هذا المجلس في دار من يفرّق، بين من يحقّ وبين من يزرّق، وكنت أول من حضر وانتظر مليا حضور من ينظر وقدوم من يناظر؛ وطلع الإمام أبو الطيب، وأخذ من المجلس موضعه؛ والإمام بنفسه أمة، ووحده عالم؛ ثم حضر السيد أبو الحسين أدام الله عزه، وهو ابن الرّسالة والإمامة، وعامر أرض الوحي، والمحتبي بفناء النبوة، والضارب في الأدب بعرقه، وفي النطق بحذقه، وفي الإنصاف بحسن خلقه؛ فجشم إلى المجلس قدم سبقه، وجعل يضرب عن هذا الفاضل بسيفين، لأمر كان قد موّه عليه، وحديث كان شبّه لديه؛ وفطنت لذلك، فقلت: أيّها السيد، أنا [إذا] سار غيري في التشيّع برجلين، طرت بجناحين، وإذا متّ سواي في موالاة أهل البيت بلمحة دالة، توسلت بغرة لائحة، فإن كنت أبلغت غير الواجب، فلا يحملنّك على ترك الواجب؛ ثم إنّ لي في آل الرسول صلى الله عليه وسلم قصائد قد نظمت حاشيتي البرّ والبحر، وركبت الأفواه، ووردت المياه، وسارت في البلاد ولم تسر بزاد، وطارت في الآفاق ولم تطر على ساق؛ ولكنّي لا أتسوّق بها لديكم، ولا أتنفق بها عليكم، وللآخرة قلتها لا للحاضرة، وللدّين ادّخرتها لا للدّنيا، وللمعاد نظمتها لا للمعاش؛ فقال: أنشدني منها؛ فقلت «1» : [مجزوء الكامل] يالمة ضرب الزّما ... ن على معرّسها خيامه لله درّك من خزا ... مى روضة عادت ثغامه

لرزيّة قامت بها ... للدّين أشراط القيامه لمضرّج بدم النّبو ... وة ضارب بيد الإمامه متقسّم بظبى السّيو ... ف مجرّع منها حمامه «1» منع الورود وماؤّه ... منه على طرف الثّمامه نصب ابن هند رأسه ... فوق الورى نصب العلامه ومقبّل كان النّبي ... ي بلثمه يشفي غرامه قرع ابن هند بالقضي ... ب عذابه فرط استضامه وشدا بنغمته علي ... هـ وصبّ بالفضلات جامه والدّين أبلج ساطع ... والعدل ذو خال وشامه يا ويح من ولّى الكتا ... ب قفاه والدّنيا أمامه ليضرّسنّ يد النّدا ... مة حيث لا تغني النّدامه وليدركنّ على الغرا ... مة سوء عاقبة الغرامه وحمى أباح بنو أمي ... ية عن طوائلهم حرامه حتى اشتفوا من يوم بد ... ر واستبدّوا بالزّعامه لعنوا أمير المؤمني ... ن بمثل إعلان الإقامه لم لم تخرّي يا سما ... ء ولم تصبّي يا غمامه لم لم تزولي يا جبا ... ل ولم تشو لي يا نعامه يا لعنة صارت على ... أعناقهم طوق الحمامه إنّ الإمامة لم تكن ... للئيم ما تحت العمامه من سبط هند وابنها ... دون البتول ولا كرامه يا عين جودي للبقي ... ع فدرّعي بدم رغامه جودي بمذخور الدّمو ... ع وأرسلي بددا نظامه

جودي لمشهد كربلا ... ء فوفّري منّي ذمامه جودي بمكنون الجما ... ن أجد بما جاد ابن مامه فلما أنشدت ما أنشدت، وسردت ما سردت، وكشفت له الحال فيما اعتقدت، انحلّت تلك العقدة، وصار سلما، يوسعنا حلما. وحضر بعد ذلك الشيخ أبو عمر البسطاميّ، وناهيك من حاكم يفصل، وناظر يعدل، يسمع فيفهم، ويقول فيعلم. ثم حضر بعد ذلك القاضي أبو نصر، والأدب أدنى فضائله، وأيسر فواضله، والعدل شيمة من شيمه، والصدق مقتضى هممه. وحضر بعده الشيخ أبو سعيد محمد بن أرمك أيده الله، وهو الرجل الذي تحميه لألاؤه أو لوذعّيته، من أن يدال بمن؟ أو ممن الرجل؟؛ وهو الفاضل الذي يحطب في حبل الكتابة ما شاء، ويركض في حلبة العلم ما أراد. وحضر بعده أبو القاسم بن حبيب، وله في الأدب عينه وفراره، وفي العلم شعلته وناره. وحضر بعده الفقيه أبو الهيثم، ورائد الفضل يقدمه، وقائد العقل يخدمه. وحضر بعده الشيخ أبو نصر بن المرزبان، والفضل منه بدأ وإليه يعود. وحضر بعده [أصحاب] الشيخ أبي الطّيّب رحمه الله؛ وما منهم إلّا أغرّ نجيب. وحضر بعدهم أصحاب الشيخ الفاضل أبي الحسن الماسرجسيّ؛ وكلّ [إذا] عدّ الرّجال مقدّم. وحضر بعدهم أصحاب أبي عمر البسطاميّ؛ وهم في الفضل كأسنان المشط، ومنه بأعلى مناط العقد. وحضر بعدهم الشيخ أبو سعد الهمذانيّ، وله في الفضل قدحه المعلّى، وفي الأدب حظّه الأعلى. وحضر بعد الجماعة أصحاب الأسبلة [المرسلة] ، والأسوكة المرسلة، رجال

يلعن بعضهم بعضا، فصاروا إلى قلب المجلس وصدره، حتّى ردّ كيدهم في نحرهم، وأقيموا بالنّعال إلى صفّ النّعال؛ فقلت لمن حضر: من هؤلاء؟ فقالوا: أصحاب الخوارزميّ. فلمّا أخذ المجلس زخرفه ممّن حضر، وانتظر أبو بكر فتأخّر، اقترحوا عليّ قواف أثبتوها، واقتراحات كانوا بيّتوها «1» : [الهزج] فما ظنّك بالحلفا ... ء أدنيت لها النّارا من لفظ إلى المعنى نسقته، وبيت إلى القافية سقته، على ريق لم أبلعه، ونفس لم أقطعه؛ وصار الحاضرون بين إعجاب بما أوردت، وتعجّب مما أنشدت، وقال أحدهم، بل واحدهم، وهو الإمام أبو الطيب: لن نؤمن لك حتى نقترح القوافي، ونعيّن المعاني، وننصّ على بحر؛ فإن قلت حينئذ على الرّويّ الذي أسومه، وذكرت المعنى الذي أرومه، وأنت حيّ القلب كما عهدناك، منشرح الصّدر كما شاهدناك، شجاع الطّبع كما وجدناك؛ شهدنا أنّك قد أحسنت، وأن لا فتى إلّا أنت. فما خرجت من عهدة هذا التكليف حتّى ارتفعت الأصوات بالهيللة من جانب، والحوقلة من آخر، وتعجّبوا إذ أرتهم الأيام ما لم ترهم الأحلام، وجادلهم العيان بما بخل به السماع، وأنجزهم الفهم ما أخلفهم الوهم؛ ثم التفتّ فوجدت الأعناق تلتفت، وما شعرت إلا بهذا الفاضل وقد طلع في شملته، وهبّ بجملته، بأوداج ما يسعها الزرّان، وعينين في رأسه تزرّان، ومشى إلى فوق رقاب النّاس، وجعل يدسّ نفسه بين الصّدور يريد الصّدر، وقد أخذ المجلس أهله؛ فقلت: يا أبا بكر، تزحزح عن الصّدر قليلا إلى مقابلة أخيك؛ فقال: لست بربّ الدار، فتأمر على الزّوار؛ فقلت: يا عافاك الله، حضرت لتناظرني، والمناظرة

اشتقّت إما من النّظر، وإما من النّظير؛ فإن كان اشتقاقها من النظر، فمن حسن النظر أن يكون مقعدنا واحدا، حتى يتبين الفاضل من المفضول، ثم يتطاول السّابق ويتقاصر المسبوق؛ وإن كان من النظير، فأنا نظيرك وأنت نظيري، فلم تتصدر أنت وأنا أجلس بين يديك؟ فقضت الجماعة بما قضيت، وعضّ هذا الفاضل من تلك الحكمة، وانحطّ عن تلك العظمة، وقابلني بوجهه؛ فقلت: أراك- أيّها الفاضل- حريصا على اللقاء، سريعا إلى الهيجاء، ولو زبنتك الحرب لم تزمزم؛ ففي أيّ علم تريد أن تناظر؟ فأومأ إلى النحو، فقلت: يا هذا، إنّ النّهار قد متع والوقت، قد ارتفع، والظّهر قد أزف؛ وإن قرعنا باب النحو، أضعنا اليوم فيه، فإذا خرج القوم، وعلا هتاف الناس: أيهما ردّ الجواب؟ هناك ما يدري المجيب، فإن شئت أن أناظرك في النحو، فسلّم الآن لي ما كنت تدعيه من سرعة في البديهة، وجودة في الروية، وقدرة على الحفظ، ونفاذ في الترسّل، ثم أنا أجاريك في هذا؛ فقال: لا أسلّم ذلك، ولا أناظر في غير هذا. وارتفعت المضاجّة، واستمرت الملاجّة، حتى أتلع الأستاذ الفاضل أبو عمر إليه، وقال: أيّها الأستاذ، أنت أديب خراسان، وشيخ هذه الدّيار، وبهذه الأبواب التي قد عدّها هذا الشّابّ كنّا نعتقد لك السبق والحذق؛ وتثاقلك عن مجاراته فيها مما يتّهم ويوهم؛ واضطره إلى منازلة فيها أو نزول عنها، ومقارة فيها أو فرار بها؛ فقال: قد سلمّت الحفظ؛ فأنشدت قول القائل «1» : [الطويل] ومستلئم كشّفت بالرّمح ذيله ... أقمت بعضب ذي سفاسق ميله فجعت به في ملتقى الحيّ خيله ... تركت عتاق الطّير تحجل حوله

وقلت: يا أبا بكر خفف الله عنك، كما خففت عنّا في الحفظ؛ فقد كفيتنا مؤونة الامتحان، ولم تضغ وقتنا من الزّمان، فلو تفضّلت وسلّمت البديهة أيضا مع الترسّل حتى نفرغ للنّحو الذي أنت فيه أكبر، واللغة التي أنت بها أعرف، والعروض الذي أنت عليه أجرأ، والأمثال التي لك فيها السّبق والقدم، والأشعار التي أنت فيها مقدم؛ فقال: ما كنت لأسلم الترسل، ولا سلمت الحفظ؛ فقلت: الراجع في شيئه، كالراجع في قيئه؛ لكنّا نقيلك عن ذلك سماحا؛ فهات أنشدنا خمسين بيتا من قبلك مرتين، حتى أنشدك عشرين بيتا من قبلي خمسين مرة؛ فعلم أن دون ذلك خرط القتاد، تهاب شوكته اليد؛ فسلمّه ثانيا كما سلمه باديا، وصرنا إلى البديهة، فقال أحد الحاضرين: هاتوا على شعر أبي الشيص في قوله «1» : [الكامل] أبقى الزّمان به ندوب عضاض ... ورمى سواد قرونه ببياض فأخذ أبو بكر يخضد ويحصد، مقدرا أنا نغفل عن أنفاسه، أو نوليه جانب وسواسه؛ ولم يعلم أنا نحفظ عليه الكلم، ثم نواقفه عليها؛ فقال «2» : [الكامل] يا قاضيا ما مثله من قاض ... أنا بالذي تقضي علينا راض فلقد لبست ضفيّة ملمومة ... من نسج ذاك البارق الفضفاض لا تغضبنّ إذا نظمت تنفّسا ... إن الغضى في مثل ذاك تغاض فلقد بليت بشاعر متقادر ... لا بل بليت بناب ذيب غاض ولقد قرضت الشعر فاسمع واستمع ... لنشيد شعري طائعا وقراضي فلأغلبن بديهه ببديهتي ... ولأرمين سواده ببياضي فقلت: يا أبا بكر ما معنى «ضفية مملومة» وما الذي أردت بالبارق الفضفاض؟ فأنكر أن يكون قاله قافية؛ فواقفه على ذلك أهل المجلس، فقالوا: قد

قلت: ثم قلت: ما معنى قولك: «ذيب غاض؟» فقال: هو الذي يأكل الغضا؛ فقلت: استنوق الجمل «1» ، يا أبا بكر، فانقلبت القوس ركوة، وصار الذئب جملا يأكل الغضا؟ فما معنى قولك: «إنّ الغضى في مثل ذاك تغاض» فإنّ الغضى لا أعرفه بمعنى الإغضاء؟ فقال: لم أقل الغضى فقلت: فما قلت؟ فأنكر البيت جملة؛ فقلت: يا ويحك، ما أغناك عن بيت تهرب منه وهو يتبعك، وتتبرأ منه وهو يلحق بك؛ فقل لي: ما معنى «قراض» فلم أسمعه مصدرا من قرضت الشعر، ولكن هلّا قلت كما قلت، وسقت الحشو إلى القافية كما سقته؟ فقال: هذه طريقة لم يسلكها العرب، فلا أسلكها. ثم دخل الرّئيس أبو جعفر، والقاضي أبو بكر الحربي، والشيخ أبو زكريا الحيريّ، وطبقة من الأفاضل، مع عدة من الأرذال، منهم أبو رشيد؛ فقلت: ما أحوج هذه الجماعة إلى واحد يصرف عنهم عين الكمال. وأخذ الرئيس مكانه من الصّدر والدست، وله في الفضل قدم وقدم، وفي الأدب همّ وهمم، وفي العلم قديم وحديث؛ فتمّ المجلس، وظهر الحقّ بنظره، وقال: قد ادّعيت عليه أبيات أنكرها، فدعوني من البديهة على النّفس، واكتبوا ما يقولون، وقولوا على هذا الرّويّ: [الكامل] برز الربيع [لنا] برونق مائه ... فانظر لروعة أرضه وسمائه فالتّرب بين ممسّك ومعنبر ... من نوره بل مائه وروائه فقلت «2» : [الكامل] والماء بين مصندل ومكفّر ... في حسن كدرته ولون صفائه

والطير مثل المحصنات صوادح ... مثل المغنّي شاديا بغنائه والورد ليس بممسك رياه بل ... يهدي لنا نفحاته من مائه زمن الرّبيع جلبت أزكى متجر ... وجلوت للرائين خير جلائه فكأنّه هذا الرئيس إذا بدا ... في خلقه وصفائه وعطائه بحمى أغرّ محجب، وندى أغر ... رمحجّل، في خلقه ووفائه يعشو إليه المجتلي والمجتدي ... والمجتوي هو هارب بذمائه ما البحر في تزخاره، والغيث في ... أمطاره، والجوّ في أنوائه بأجلّ منه مواهبا ورغائبا ... لا زال هذا المجد خلف فنائه والسّادة الباقون سادة عصرهم ... متمدّحون بمدحه وثنائه فقال أبو بكر تسعة أبيات، قد غابت عن حفظنا، لكنّه جمع فيها بين إقواء وإكفاء وأخطاء وإيطاء؛ ورددنا عليه بعد ذلك عشرين ردا، ونقدنا عليه فيها كذا نقدا؛ ثم قلت لمن حضر من وزير ورئيس وفقيه وأديب: أرأيتم لو أن رجلا حلف بالطلاق الثّلاث لا أنشد شعرا قطّ، ثم أنشد هذه الأبيات فقط، هل كنتم تطلقون امرأته عليه؟ فقالت الجماعة: لا يقع بهذا طلاق؛ ثم قلت: انقد عليّ فيما نظمت، واحكم عليه كما حكمت؛ فأخذ الأبيات وقال: لا يقال: نظرت لكذا، وإنّما يقال: نظرت إليه؛ فكفتني الجماعة إجابته؛ ثم قال: لم شبّهت الطير بالمحصنات؟ وأيّ شبه بينهما؟ فقلت: يا رقيع، إذا جاء الربيع كانت شوادي الأطيار تحت ورق الأشجار، فيكن كالمخدرات تحت الأستار؛ ثم قال: لم قلت: مثل المحصنات، مثل المغني؟ فقلت: هنّ في الخدر كالمحصنات، وكالمغني في ترجيع الأصوات؛ ثم قال: لم قلت: زمن الربيع جلبت أزكى متجر؟ وهلّا قلت: أربح متجر؟ فقلت: ليس الربيع بتاجر يجلب البضائع المربحة؛ ثم قال: ما معنى قولك: الغيث في أمطاره؟ والغيث هو المطر نفسه، فكيف يكون له مطر؟

فقلت: لا سقى الغيث الله أديبا لا يعرف الغيث؛ وقلت له: إنّ الغيث هو المطر، وهو السحاب، كما أنّ السماء هو المطر وهو السحاب؛ وقالت الجماعة: قد علمنا أيّ الرجلين أشعر، وأيّ الخصمين أقدر، وأيّ البديهتين أسرع، وأيّ الرويّتين أصنع؛ فقال أبو بكر: فاسقوني على الظّفر؛ فقالوا: كفاك ما سقاك. ثم ملنا إلى الترسل، وقلت: اقترح عليّ غاية ما في طوقك، ونهاية ما في وسعك، وآخر ما تبلغه بذرعك، حتّى أقترح عليك أربعمائة صنف من الترسّل؛ فإن سرت فيها برجلين، ولم أطر بجناحين، بل إن أحسنت القيام بواحد من هذه الأصناف، ولم تخلف كل الإخلاف، فلك يد السبق وقصبته؛ ومثال ذلك أن أقول لك: اكتب كتابا نقرأ منه جوابه، هل يمكنك أن تكتب؟ أو أقول لك: اكتب كتابا على المعنى الذي أقترح لك، وانظم شعرا في المعنى الذي أفترع، وافرغ منهما فراغا واحدا؛ هل كنت تمدّ لهذا ساعدا؟ أو أقول لك: اكتب كتابا في المعنى الذي أقوله وأنصّ عليه، وأنشد من القصائد ما أريده من غير تثاقل ولا تغافل، حتّى إذا كتبت ذلك قرئ من آخره إلى أوله، وانتظمت معانيه إذا قرئ من أسفله، هل كنت تفوّق لهذا الغرض سهما، أو تجيل قدحا، أو تصيب نجحا؟ أو قلت لك: اكتب كتابا في المعنى الذي أقترح، لا يوجد فيه حرف منفصل من واو تتقدّم الكلمة، أو دال تنفصل عن الكلمة، بديهة ولا تجمّ فيه قلمك، هل كنت تفعل؟ أو قلت لك: اكتب كتابا خاليا من الألف واللّام، لا تصبّ معانيه على قالب ألفاظه، ولا تخرجه عن جهة أغراضه، هل كنت تقف من ذلك موقفا ممدوحا، أو يبعثك ربّك مقاما محمودا؟

أو قلت لك: اكتب كتابا يخلو من الحروف العواطل، هل كنت تحظى منه بطائل؟ أو كنت تبلّ لهاتك بناطل؟ أو قلت لك: اكتب كتابا أوائل صدوره كلّها ميم، وآخره جيم، على المعنى الذي يقترح، هل كنت تغلو في قوسه غلوة، أو تخطو في أرضه خطوة؟ أو قلت لك: اكتب كتابا إذا قرئ معرّجا، وسرد معوّجا، كان شعرا، هل كنت تقطع في ذلك شعرا؟ بلى والله، تصيب، ولكن من بدنك، وتقطع ولكن من ذقنك. وأقول لك: اكتب كتابا إذا فسّر على وجه كان مدحا، وإذا فسّر على وجه آخر كان قدحا، هل كنت تخرج من هذه العهدة؟ أو قلت لك: اكتب كتابا إذا كتبته تكون قد حفظته من دون أن لحظته، هل كنت تثق من نفسك به إلى مالا أطاولك بعده؟ بل است البائن أعلم. فقال أبو بكر: هذه الأبواب شعبذة. فقلت: وهذا القول طرمذة؛ فما الذي تحسن أنت من الكتابة وفنونها، حتّى أباحثك على مكنونها، وأكاثرك بمخزونها، وأشبر فيها قلمك، وأسبر فيها لسانك وفمك؟ فقال: الكتابة التي يتعاطاها أهل زماننا هذا المتعارفة بين النّاس؛ فقلت: أليس لا تحسن من الكتابة إلّا هذه الطريقة الساذجة، وهذا النوع الواحد المتداول بكلّ قلم، والمتناول بكل يد وفم، ولا تحسن هذه الشّعبذة؟ فقال: نعم، فقلت: هات الآن حتى أطاولك بهذا الحبل، وأناضلك بهذا النبل، ثم تقاس ألفاظي بألفاظك، ويعارض إنشائي بإنشائك. واقترح كتاب يكتب في النّقود وفسادها، والتجارات ووقوفها، والبضاعات وانقطاعها، والأسعار وغلائها؛ فكتب أبو بكر: الدرهم والدينار ثمن الدّنيا

والآخرة، بهما يتوصّل إلى جنّات النعيم، ويخلد في نار الجحيم؛ قال الله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها «1» الآية، وقد بلغنا من فساد النّقود ما أكبرناه أشدّ الإكبار، وأنكرناه أعظم الإنكار، لما نراه من الصّلاح للعباد، وننويه من الخير للبلاد، وتعرّفنا في ذلك بما يربح النّاس في الزرع والضّرع، يقدّم من إليه «2» أمر النفع والضّرّ؛ إلى كلمات لم تعلق بحفظنا؛ فقلت: إنّ الإكبار والإنكار، والعباد والبلاد، وجنّات النّعيم ونار الجحيم، والزرع والضّرع، أسجاع قد نبتت في المعد، ولم تزل في اليد، وقد كتبت وكتبت، ولا أطالبك بما أنشأت، فاقرأ ولك اليد؛ وناولته الرّقعة فبقي وبقيت الجماعة، وبهت وبهتت الكافّة، وقالوا لي: اقرأ؛ فجعلت أقرؤه منكوسا، وأسرده معكوسا، والعيون تبرق وتحار؛ وكان نسخة ما أنشأناه: الله شاء إن، المحاضر صدور بها وتملأ المنابر ظهور لها وتفرع، الدّفاتر وجوه بها وتمشق، المحابر بطون لها ترشق، آثارا كانت، فيه آمالنا مقتضى على، أياديه في تأييده الله أدام، الأمير جرى وإذا، المسلمين ظهور عن الثّقل هذا ويرفع، الدين أهل عن الكلّ هذا يحط أن فيه إليه نتضرع ونحن، واقفة والتجارات، زائفة والنقود، صيارفة أجمع الناس صار فقد، كريما نظرا لينظر، شيمه مصاب فانتجعنا، كرمه بارقة وشمنا، هممه على آمالنا أرقاب وعلّقنا، أحوالنا وجوه له وكشفنا، آمالنا وفود إليه بعثنا فقد نظره بجميل يتداركنا أن، نعماه تأييده وأدام، بقاه الله أطال، الجليل الأمير رأى إن، وصلّى الله على محمد وآله الأخيار. فلما فرغت من قراءتها انقطع ظهر أحد الخصمين، وقال الناس: قد فرغنا التّرسل أيضا، فملنا إلى اللغة، فقلت: يا أبا بكر، هذه اللغة التي هددتنا بها،

وحدّثتنا عنها، وهذي كتبها، وتلك مؤلفاتها، وهي مولّفة فخذ «غريب المصنف» إن شئت، و «إصلاح المنطق» إن أردت، و «ألفاظ ابن السّكيت» إن نشطت، و «مجمل اللّغة» إن اشتهيت وهو ألف ورقة، و «أدب الكتاب» إن اخترت، واقترح عليّ أيّ باب شئت من هذه الكتب حتّى أجعله لك نقدا، وأسرده عليك سردا؛ فقال: اقرأ من «غريب المصنّف» : رجل ماس خفيف، على مثال مال، وما أمساه. فدفعت في الباب حتّى قرأته، فلم أتردد فيه، وأتيت على الباب الذي يليه، ثم قلت: اقترح غيره؛ فقال: كفى ذلك؛ فقلت له: اقرأ الآن باب المصادر من «اختيار فصيح الكلام» لا أطالبك بسواه، وأسألك عمّا عداه؛ فوقف حماره، وخمدت ناره؛ وقال الناس: اللّغة مسلّمة إليك أيضا، فهاتوا غيره. فقلت: يا أبا بكر، هات العروض، فهو أحد أبواب الأدب، وسردت منه خمسة أبحر بألقابها وأبياتها وعللها وزحافها، فقلت: هات الآن فاسرده كما سردته. فلمّا برد، ضجر النّاس، وقاموا عن المجلس يفدّونني بالآباء والأمهات «1» ويشيّعونه باللعن والسّبّ، وقام أبو بكر فغشي عليه، وقمت إليه، فقلت «2» : [الوافر] يعزّ عليّ يا للنّاس أنّي ... قتلت مناسبي جلدا وقهرا ولكن رمت شيئا لم يرمه ... سواك فلم أطق يا ليث صبرا وقبلت عينه، ومسحت وجهه، وقلت: اشهدوا أنّ الغلبة له، فهلّا- يا أبا بكر- جئتنا من «3» باب الخلطة، وفي باب العشرة؟! وتفرق الناس، وحبسنا للطعام مع أفاضل ذلك المقام؛ فلما عكفنا على

الخوان، كرعت في الجفان، وأسرعت إلى الرّغفان، وأمعنت في الألوان؛ وجعل هذا الفاضل يتناول الطعام بأطراف الأظفار، فلا يأكل إلا قضما، ولا ينال إلا شما، وهو مع ذلك ينطق عن كبد حرّى، ويغيض عن نفس ملآى؛ فقلت: يا أبا بكر، بقيت لك منّة وفيك مسكة: [البسيط] يا قوم إني أرى الأموات قد نشروا ... والأرض تلفظ موتاكم إذا قبروا فأخبرني يا أبا بكر: لم غشي عليك؟ فقال: لحمّى الطّبع وحمّى الفرو؛ فقلت: أين أنت عن السجع؟ هلا قلت: حمّى الطبع، وحمّى الصّفع. وقال السيد أبو القاسم: أيها الأستاذ، مع الحديث فاعزل، يعنيه «1» ، فقلت: لا تظلموه، ولا تطعموه طعاما يصير في بطنه مغصا، وفي عينه رمصا، وفي جلده برصا، وفي حلقه غصصا؛ فقال أبو بكر: هذه أسجاع كنت حفظتها، فقل كما أقوله: يصير في عينك قذى، وفي حلقك أذى، وفي صدرك شجى؛ فقلت: يا أبا بكر، على الألف تريد؟ خذ الآن؛ بفيك البرى، وعلى هامتك الثّرى، ولا أطعمك الخرا إلّا من ورا، كما ترى؛ فقالوا: أيها الأستاذ، السّكوت أولى؛ ومالوا إليّ وقالوا: ملكت فأسجح؛ فأبى أبو بكر أن يبقي لنفسه حمة لم يفضها، أو يدخر عنّا كلمة لم يعرضها؛ فقال: والله لا تركتك من الميمات، فقلت: ما معنى الميمات؟ فقال: ما بين مهزوم ومهذوم ومهشوم ومغموم ومحموم ومرجوم؛ فقلت: وأتركك بين الميمات أيضا؛ بين الهيام والصّدام والجذام والحمام والزّكام والسّام والبرسام والهام والسّقام، وبين السّينات فقد علّمتنا طريقة؛ بين منحوس منخوس منكوس معكوس متعوس محسوس مغروس؛ وبين الخاءات، فقد فتحت علينا بابا؛ بين مطبوخ مشدوخ منسوخ ممسوخ مفسوخ؛ وبين

الباءات، فقد علّمتني الطّعن وكنت ناسيا؛ بين مغلوب مسلوب مرعوب مصلوب مكروب منكوب منهوب مغصوب؛ وإن شئنا كلناك بهذا الصاع، وطاولناك بهذا الذّراع. ثم خرجت واحتجر، وقد كان اجتمع الناس، وغلت الكروش «1» ؛ فلما خرجت لم يلقوني إلّا بالشفاه تقبيلا، وبالأفواه تبجيلا؛ وانتظروا خروجه إلى أن غابت الشمس، ولم يخرج أبو بكر حتى خفره الليل بجنوده، وخلع الظّلام عليه فروته فهذا ما علّقناه عن المجلس وأدّيناه؛ والسيّد أطال الله بقاءه يقف عليه إن شاء الله، وله المنّة. * وكتب إلى أبي العبّاس الفضل بن أحمد الإسفراييني: «2» ما أظنّ- أطال الله بقاء الشيخ السيد- آل سامان إلّا مدّعين على الله مقاطعة، أرضه، ومساقاة ثمارها؛ يا هؤلاء، لا تكابروا الله في بلاده، ولا ترادوا الله عن مراده؛ إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ «3» وما أرى آل سيمجور إلّا معتقدين أنّهم يأخذون خراسان قهرا، لأنها كانت لأمهم مهرا؛ فلهم من حولها نحيط «4» ، وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ «5» ، وبلغني أنّ صاحبهم أسر، فإن كان ما بلغني صحيحا، فمرحبا بالأسر، ولا لعا للعاثر؛ حتّام كفر الكافر، وغدر الغادر؛ وأبو الحسين بن كثير خذله الله، لا يكاد يرى الخير من ابن واحد، أفنرجوه من ابن كثير؟ وهو التّرياق المجرّب، لوشمه الملك المقرب،

لقذف من كلّ جانب دحورا؛ هذا المؤيّد من السماء بيمن تدبيره، نكس في بيره؛ وهذا سنان الدولة ببركة ضميره، وقع في تخسيره، ولا يزال هذا البائس حتى يسأل الله العافية في بدنه. وحديث ما حديث هذا الحمّال، كان إبليس يقسم كلّ صبيحة اللّحى ألفا، فصار يقسم ألوفا؛ سلطان أتاه الله واسطة البرّ، وحاشية البحر، وأمكنه من طاغية الهند، وسخر له ملوك الأرض يريد حمال مراغمته يا للرجال لنازل الحدثان؛ إنّي لأعجب من رأس يودع تلك الفضول فلا ينشقّ، ومن عنق يحمل ذلك الرأس فلا يندقّ، وما أجد لابن محمود مثلا إلّا ابن الريونديّ «1» ، إذ ذهب إلى ابن الأعرابيّ «2» يسأله عن قول الله تعالى: فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ «3» أتقول العرب: ذقت اللّباس؟ فقال: لا بأس ولا بأس؛ وإذا حيّا الله النّاس فلا حيّا ذلك الرّاس؛ هبك تتّهم محمدا بأن لم يكن نبيّا، أتتهمه بأن لم يكن فصيحا عربيّا، وجئت تسأل ابن الأعرابي؟ أليس الأعرابيّ نفسه جاء بهذا الكلام؟ كذلك ابن محمود ينفض استه، ويضرب مذرويه، لينال الملك، لا لوافر عدّة، ولا لكثرة عدة؛ إنما يطمع في الملك لأنه ابن محمود؛ أفليس محمود نفسه بالملك أحقّ؟ فالحمد لله الذي نصركم وأخزاهم، وثبتكم ونفاهم، وأركب آخرهم أولاهم «4» ، ولا رحم الله قتلاهم، ولا جبر جرحاهم، ولا فكّ أسراهم، ولا أراكم إلا قفاهم، وإن أقبلوا ففضّ الله فاهم:

ويرحم الله عبدا قال آمينا «1» . * وله إليه أيضا في هزيمة السّامانية بباب مرو «2» : وردت رقعة الشيخ الجليل، أدام الله بسطته، منّي على صدر انتظرها، وقلب استشعرها؛ وإنّي لا أغلط في قوم أميرهم صبيّ، ولا في دولة عميدها خصيّ، وسنانها حلقيّ، ونصيرها شقيّ، وعدوّها قويّ، إني إذا لغويّ. يا قوم، بماذا ينصرون؟ أبمال عليه اعتمادهم؟ أم بجمع هو مدادهم؟ أم لعدل به اعتضادهم؟ أم لرأي هو عمادهم؟ هل هم إلا شطور في فطور؟ إنّ الله تعالى علم أنّهم إن ملكوا لم يصلحوا، وأمرتهم أنا أن لا يفلحوا، فسمعوا وأطاعوا؛ طائفة من المدابير، وقوعهم بين النّار والنير، إن أقاموا فالسّيوف الهندوانيّة، وإن أيمنوا فالأتراك والخانيّة، وإن أيسروا فجرجان والجرجانيّة، وإن استأخروا فالعطش والبريّة؛ هو الموت إن شاء الله آخذا بالحلاقيم، محيطا بالظاعن منهم والمقيم؛ جرجان يا مدابير جرجان؛ إنّ بها شمة من التّين، وموتا في الحين، ونظرة إلى الثّمار، والأخرى إلى التابوت والحفّار؛ ونجّارا إذا رأى الخراسانيّ نجّر التّابوت على قدره، وأسلف الحفّار على لحده، وعطّارا يعدّ الحنوط [برسمه] ، وبها للغريب ثلاث فتحات للكيس؛ أوّلها لكراء البيوت، والثّانية لابتياع القوت، والثّالثة لثمن التّابوت؛ أغلى [الله] بهم أسواق النّجارين والحفّارين والمكّارين؛ آمين ربّ العالمين.

* وله أيضا إليه في فتح بهاطية «1» : إنّ الله وهو العليّ العظيم، المعطي من شاء ما شاء، منّ على الإنسان بهذا اللسان؛ خلق ابن آدم وأودع فكّيه مضغة لحم، يصرفها في القرون الماضية، ويخبر بها عن الأمم الآتية؛ يخبر بها عمّا كان بعد ما خلق، وعمّا يكون قبل أن يخلق؛ ينطق بالتّواريخ عمّا وقع من خطب، وجرى من حرب، وكان من يابس ورطب؛ وينطق بالوحي عمّا سيكون من بعد، وصدق عن الله به الوعيد، ثم لم ينطق التّاريخ بما كان، ولا الوحي بما يكون، أنّ الله تعالى خصّ أحدا من عباده- ليس النّبيّين- بما خصّ به الأمير السّيّد يمين الدّولة وأمين الملّة، ودون الجاحد إن جحد أخبار الدّولة العباسية، والمدّة المروانية، والسّنين الحربية، والبيعة الهاشمية، والأيّام الأمويّة، والإمارة العدوية، والخلافة التيمية، وعهد الرسالة، وزمان الفترة؛ ولولا الإطالة لعدّدنا إلى عاد وثمود بطنا بطنا، وإلى نوح وآدم قرنا قرنا، ثم لم يجد قائل مقالا إلا أنّ ملكا وإن علا أمره، وعظم قدره، وكبر سلطانه، وهبّت ريحه، طرق الهند فأسر طاغيتها بسطة ملك، ثم خلّاه، وعرض الأرض قوة قلب، وصبّح سجستان، وهي المدينة العذراء، والخطّة العوراء، والطيّة العسراء، فأخذ ملكها أخذة عزّ وعنف، ثم خلاه تخلية فضل ولطف، ثم لم يلبث أن خاض في البحر إلى بهاطية؛ والسيل واللّيل جنودها، والشّوك والشجر سلاحها، والضّحّ «2» والريح طريقها، والبرّ والبحر حصارها، والجنّ والإنس أنصارها؛ فقتل رجالها، وغنم أموالها، وساق أقيالها، وكسر أصنامها، وهدم أعلامها، كلّ ذلك في

فسحة شتوة، قبل أن يتطرّقها الصيف توسطها السّيف؛ وهو الله ملك الملوك، يؤتي الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء. ثم حكمت علماء الأمة، واتفق قول الأئمة، أنّ سيوف الحق أربعة، وسائرها للنّار؛ سيف رسول الله للمشركين، وسيف أبي بكر في المرتدين، وسيف عليّ في الباغين، وسيف القصاص بين المسلمين؛ وسيوف الأمير- أيده الله في مواقفه- لا تخرج عن هذه الأقسام، فسيفه بظاهر هراة فيمن عطّل الحدّ، واتّهم بأنه ارتدّ، وسيفه بظاهر غزنة في وجه العقوق، نوعا من الكفر [والفسوق] ، وسيفه بظاهر مرو فيمن نقض بعد تغليظه، ونبذ اليمين بعد تأكيده، وسيفه بظاهر سجستان فيمن نبّه الحرب بعد رقودها، وخلع الطّاعة بعد قبولها، وسيفه الآن في ديار الهند سيف قرنت به الفتوح، وأثنت عليه الملائكة والرّوح، وذلّت به الأصنام، وعزّ به الإسلام، والنّبيّ عليه السلام، واختصّ بفضله الإمام، واشترك في خيره الأنام، وأرخت بذكره الأيّام، وأحفيت لشرحه الأقلام. وسنذكر من حديث الهند وبلادها، وغلظ أكبادها، وشدة أحقادها، وقوّة اعتقادها، وصدق جلادها، وكثرة أجنادها، نبذا ليعلم السّامع أيّ غزوة غزاها الأمير السّيد أدام الله علوه؛ إنّها بلاد لو لم تحيها السّحاب بدرّها، لأهلكتها الشمس بحرّها؛ فهي دولة بين الماء والنّار، ونوبة بين الشمس والأمطار، تقدّمها صعاب الجبال، وتحجبها رحاب القفار، ويعصمها ملتفّ الغياض، ويحصّنها طواغي الأنهار، حتى إذا خرقت هذه الحجب، خلص إلى عدد الرّمل والحصا رجالا، وشبه الجبال أفيالا، وإيزاغ المخاض جلادا، وتشهاق الحمار طعانا، وأركان الجبال ثباتا؛ ثم لا يعرفون غدرا ولا بياتا، ولا يخافون موتا ولا حياة، ولا يبالون على أيّ جنبيه وقع الأمر، وينامون وتحتهم الجمر؛ وربّما عمد أحدهم لغير ضرورة داعية، ولا حميّة باعثة، فاتّخذ لرأسه [من الطين] إكليلا، ثم قور قحفه

فحشاه فتيلا، ثم أضرم في الفتيل نارا، ولم يتأوه، والنّار تحطمه عضوا عضوا، وتأكله جزءا جزءا؛ فأما محرق نفسه ومغرقها، وآكل لحمه ومفصّل عظمه، والرّامي بها من شاهق، فأكثر من أن يعد؛ وأقلهم من يموت حتف أنفه، فإذا مات هذه الميتة أحدهم «1» سبّ بها أعقابه، وعظم عندهم عقابه. بلاد هذه حالها، وفيلة تلك أهوالها، وجبال في السّماء قلالها، وفلاة يلمع آلها، وغياض ضيق مجالها، وأنهار كثيرة أو حالها، وطريق طويل [مطالها] ، ثم الهند ورجالها، والهندوانيّة واستعمالها. زحم الأمير- أدام الله سلطانه- بمنكبه هذه الأهوال محتسبا نفسه، معتمدا نصر الله وعونه، فركض إليهم بعون من الله لا يخذل، ومدد من التوفيق لا يفتر، وقلب عن الأهوال لا يجبن، وجدّ على المطلوب لا يقصر، وسيف عن الضّريبة لا ينكل؛ فسهّل الله له الصّعب، وكشف به الخطب، ورجع ثانيا من عنانه بالأسارى، تنظمهم الأغلال، والسّبايا تنقلهم الجمال، والفيلة كأنّها الجبال، والأموال ولا الرّمال. فتح الله ذخره عن الملوك السالفة الخالية، الكفرة الطّاغية، الجبابرة العاتية، حتّى وسمه الله بناره، وجعله بعض آثاره؛ فالحمد لله معزّ الدين وأهله، ومذلّ الشّرك وحزبه. * وله إليه أيضا «2» : رقعتي هذه- أطال الله بقاء الشيخ الجليل- من بعض الفلوات، ولو جهلت أن الحذق لا يزيد في الرزق، وأنّ الدّعة لا تحجب السّعة، لعذرت نفسي في الرّحل أشدّه، والحبل أمدّه؛ ولكنّي أعلم هذا وأعمل ضدّه، وأصل سراي

6 - ومنهم: أبو نصر العتبي

بسيري، ليعلم أنّ الأمر لغيري؛ وإلّا فمن أخذني بالمطارفي هذه الأقطار، والمصار في هذه الأمصار، لولا الشقاء؛ ألم يأتني العمر بهيجا، والرزق نهيجا نضيجا، حتّى آتيه قصدا، وأتكلّف له زرعا وحصدا، وأعارضه شيّا وطبخا، وأعرض له الشّعاب، والجبال الصّعاب، وأنزل بمناخ السّوء؛ لكنّ المرء يساق إلى ما يراد به، لا إلى ما يريد. أما آن لهذه الأشقاص، أن يتيسر منها الخلاص؟ بعد ما سافرت وسفرت، وناظرت [ونظرت] ، وحفرت وحرثت، ونذرت وبذرت، وزرعت وعمرت؛ حمدت الله كثيرا، ورأيته مغنما كبيرا؛ وإن لم يكن من إتمام القصة بدّ، فلا غنى عن نظر كريم ومهلة، فيها مجال وتسويغ يصلح به فاسد، وقرض يتألف به شارد «1» : [الطويل] وما كلّ يوم لي بأرضك حاجة ... ولا كل يوم لي إليك رسول 6- ومنهم: أبو نصر العتبيّ «2» : وهو من أصحاب الغوص البعيد، والمعاني البديعة، واللفظ السّهل، والخاطر الوقاد، والفكر الجوال، والصّوغ اللائق، والورد السائغ؛ لا يماثل بإنسان، ولا يشاكل في خراسان؛ دون كلمه سحر بابل، ونشر كابل؛ لو شاء أوهم الغواني في عقودها، والأغصان في برودها؛ وكان حفظه مع سعة مخيلته، وصفاء مصوّرته وممثّلته؛ وحفظه أحوى من بقاع الرّمل، وأحلى من اجتماع الشمل؛ وفهمه أدقّ من مدارج النّمل تمثيلا، وأرقّ من طبع صافي الماء تخييلا؛ كلمات محكمة بقوة

الأسباب، محكّمة كنشوة الرّاح للألباب؛ فآها له من خبر طواه أمسه، ومن بحر حواه رمسه، ومن حرّ أضاء ليوم «1» ، ما طلع حتى غابت شمسه. وله كتاب «اليميني في تاريخ السّلطان محمود بن سبكتكين» «2» كأنّه روضة غناء وعقد منظوم، وأفق مكوكب، بديع الجملة، حسن المجموع. * ومن نثره قوله قرين نصل أهداه «3» : خير ما تقرب به الأصاغر إلى الأكابر، ما وافق شكل الحال، وقام مقام المقال؛ وقد بعثت بنصل هندي، إن لم يكن له في قيم الأشياء خطر فله في قمم الأعداء أثر؛ والنّصل والنّصر أخوان، والإقبال والقبول قرينان؛ والشيخ أجلّ من أن يرى إبطال حلية الأبطال، ويردّ إقبال مستجلب الإقبال. ومنه قوله من كتاب كتبه عن السّلطان محمود: ووصلنا إلى السومنات «4» ، فوجدناها تخفي الرياح في مساربها، وتزلّ الأبصار بين ذوائبها، بين غياض تشكو الأراقم فيها ضيق المضطرب، وصعوبة المنسرب، متكاثفة كأعراف الجياد، متداخلة كأشعار الحداد، لا تستجيب فيها الأفاعي للرّقاة، ولا يستنير البدر عندها للسّراة، في أذيال جبال تناغي كواكب الجوزاء، وخلال آجام تواري وجه الأرض عن عين السّماء، فوافينا وقد أثقل العيون كراها، وأتعب النّجوم سراها، في مدّة اتصلت كعوب أيامها، وتناسقت

فرائد نظامها؛ فأحطنا بها إحاطة القلائد بالجيد، والشذرة بالفريد، ثم اشتدّ الوغى، فخيلت المعركة سماء غمامها مثار القساطل، وبروقها بريق المناصل، ورعودها صرير السّلاح، ورشاشها صبيب الجراح؛ واستقبل المعمة من الجنود رجال، يرون الملاحم ولائم، والوقائع نقائع؛ وحطّت الرّماة أيديها في جعاب كخراطيم الفيول، مملوءة بنبال كأنياب الغول؛ وظلّت السهام تتهاوى كما تتهاوى لوامع الشّهب، وتترامى ترامي نوازع السّحب؛ والطعن يهتك ودائع الصّدور، ويرد مشارع الغموم والسّرور؛ ولم تزل الملحمة حتّى استقلّت الشمس إكليلا على الجبل، ونفّضت ورسا على الأصل، فافترق الجمعان، وضرب اللّيل بينهما بجران، إلى أن صافح الليل صباحه، ونثر النجم على الغرب وشاحه، فعادوا إلى أمسهم، وتداعوا من آثاره القيام إلى رمسهم، وصارت الأرواح تسقى بأرشية الأرماح، إلى تولّي عسكر البلد هزيما يقفوه الصّباح، وهشيما تذروه الرياح؛ يتقاسمون الهرب جماما، ولا يردون الماء إلّا لماما؛ وعسكر السّلطان في آثارهم يرميهم بالصّواعق من ظبى السّيوف البوارق، ويقذفهم بالشّهب اللّوامع من شبا الرّماح الشوارع، حتّى صار من سلم منهم إلى الأطراف ضرورة، إذ كانت جيوب الآفاق عليه مزرورة. وما برح السّلطان يتطلّب ملكهم حتّى حصل في معتقله، وحصّله في مكمن أجله، فهدأ من الخوف سره، وختم بطابع الشقاء عمره، ثم صعد السّلطان المدينة، ودخل بيت البدّ وظفر منه ومنها بأموال طالما حفظتها صدور الخزائن مكتومة، وخنقتها خيوط الأكياس مختومة، مما أوهت في تعدادها أنامل الحساب، وأحفت بل أفنت أقلام الكتّاب، فمن ذهب وفضة، ما منهما إلّا ما يكاثر الأحجار، ويستقلّ الأمطار؛ ومن لآل كأنّما صورت من الشّمس ضياء، وخلقت لمضاهاة حبّ الغمام عدّا وصفاء؛ ومن يواقيت كالجمر قبل الخمود، والخمر بعد الجمود، ومن زبرجد كأطراف الآس نضاره، أو ورق الأقحوان غضاره؛

ومن ماس كأنّما أعارت بعضه السّنانير أحداقها، أو وهبت باقيه حوّ الشّقائق أوراقها؛ ومن ولدان كاللّؤلؤ المنثور، ونساء خلقن أنموذجا للحور، ومن أفيال كالأسود، محطومة بالأساور السّود، حكت أطوادا فارعة، وأمواجا متدافعة، تئنّ الأرض من وطء أطرافها، وتخفّ «1» من ثقل أخفافها؛ تقف كأشخاص القصور، وتتدفق كأمواج البحور، وكأنّها بيوت والخراطيم رواشنها المعلقة، وكأنها ليال افترست النّهار، فلم يبق منه إلّا ما على أنيابها من جلوده الممزقة، يراها الرّاءون هضابا ثابتة، وجبالا نابتة، في ثقل أجسام، وخفّة أقدام؛ كأنّها صدع الجبال عند طارقة الزّلزال، تناجي بصور التهويل والتفخيم، وتفتك بالأيدي والخراطيم؛ إن استدري بها في الوغى، ضربت بين النفوس والآجال بسور، وإن خفّت إلى الحروب، رأيت قلوب اللّيوث تحت أجنحة النّسور؛ فلندع هذه النّعمة التي عقدت بالنّجوم ضفائرها، وأفاضت على الشّرق بعضها وعلى الغرب سائرها، وإنّا لنرجو أمثالها، ما دامت العيون حافظة سوادها، والعواتق حاملة نجادها. ومنه قوله: المؤمن البشر لا من ورق الشجر، إذا مات فقد فات، وليس ممّا يعود، كما يورق ما عري العود. ومنه قوله: وهم مرابيع الكرم، وينابيع الحكم، ومصابيح الظّلم، ومجاديح الأمم، وليوث البهم، وغيوث القحم؛ سادة النّاس، وقادة الملوك يوم النّدى ويوم الباس. ومنه قوله: وبلغ إلى حيث لم يبلغه في الإسلام راية، لم ينل به قطّ سورة ولا آية، في

فياف تضلّ في أرجائها أسراب اليعافير، وتحار في دهنائها أفواج العصافير؛ فثار عدوّ الله يستنهض من يحمل حجرا، فضلا عمن يلقم القوس وترا، أو يحسن بالسّيف أثرا؛ فلمّا قاربه في المكان، ودخل بالرّعب على قلبه العيان، كرّ راجعا على آثاره، لفت المشير موهنا بناره؛ لا زال السّلطان منصورا، ما طلع يوم من حجاب أمس، وظهرت نفس من قرارة نفس. ومنه قوله: وأما بنو فلان، فكوتهم الأيّام بمياسمها، وداستهم اللّيالي بمناسمها؛ فإنّ في قرع باب الغيّ تعرّضا للبلاء، واستئذانا على سواء القضاء، لولا أن تداركهم فلان بلطف كالأري مشارا، ودهاء يسلخ من الليل البهيم نهارا. ومنه قوله معزّيا: هذه مصيبة سفحت الدّموع غروبا، ونثرت قنا الأصلاب أنبوبا فأنبوبا، ونعي بها فتى الجود، ومصّ بعده الثّرى بقية الماء من العود. ومنه قوله: ولم تكن إلّا صدمة واحدة حتّى زلّت الأقدام عن مقارّها، وتهاوت الرّقاب عن مزارّها، وجعلت تتساقط أشخاص الألوية والمطارد، وتردّ النّفوس عن ضرب السّيوف البوارد؛ وكرّت عنها للسّلطان فيول كرعن الجبال، أو كركن السّحب الثّقال، مغشّاة بتجافيف «1» لم يعوّر منها غير حدق النّواظر، وحدائد الأنياب القوافر؛ يهوّل سائسها عليها بمرهفات كالبروق الخواطر، وصفّارات كالرّعود القواصف؛ وقد نشرت عليها التّماثيل في العيان المشهود، كأنّها الأساود

7 - ومنهم الحسين بن علي بن محمد عبد الصمد، أبو إسماعيل، مؤيد الدين، فخر الكتاب الأصبهاني، المنشئ المعروف بالطغرائي.

السّود؛ تخيل اضطراب الرّياح فيها أنّها ترجف للإلهام، أو تنقضّ لاختطاف الهام؛ وتعالت عليها أطراف العوامل؛ في مبان كالمعاقل، كأنها آجام السّواحل، تأويها شياطين الإنس فرسانا، وعفاريت التّرك والهند مردا وشبانا، تبصّ عليهم سابغات داود كصفائح الماء، تجلوها الشّمس في وسط السّماء، فحثّ العدوّ الخيل، تحت اللّيل، حتى كاد لا تتنفّس الأرض معه بمواطئ أقدامها، ولا تشعر النّجوم بأشخاص ألويتها وأعلامها، ودنا الفريقان بعضهم من بعض، وظلّت رحى الحرب تعركهم بثفالها، وتدور عليهم بأثقالها؛ وحمل سيف الدّولة بنفسه، فتداعت الزّحوف، وتخالطت الصّفوف، وخطبت على منابر الرّقاب السّيوف، وثارت عجاجة أخذت العيون عن الأشباح، وأذهلت النّفوس عن الأرواح، ونثرت الأعناق ثم نظمتها في سلوك الرّماح، وطفقت الخيل تتردّى بجثث النفوس، وتلعب بأكر الرّءوس؛ وأما البقية فإنهم ولّوا وما ألووا، وقد دبّ الفشل في تضاعيف أحشائهم، وسرى الوهل في تفاريق أعضائهم، واستطار الخوف في مزاج دمائهم؛ فجيوب الأقطار عليهم مزرورة، وذيول الخذلان عليهم مجرورة. 7- ومنهم الحسين بن علّي بن محمّد عبد الصّمد، أبو إسماعيل «1» ، مؤيد الدّين، فخر الكتّاب الأصبهاني، المنشئ المعروف بالطغرائّي. الكاتب الشّاعر، الناظم النّاثر، البديع الصّنعة، الباهر الأدب، الزاهر الفضل، الطّاهر المحاسن، الدقيق المعاني، الوثيق المباني، المشهور شهرة الشّمس، الواضح

وضوح البدر، كاثر ببدائعه النّجوم الثّواقب، وبنتائج قرائحه سجوم السّحائب، فجاءت عربا أبكارا، وشهبا لا تلجّ أفكارا. وولع بصنعة الكيميا، فشب لهبا، وصبّ أدبا لا ذهبا، وأذهب زمانا بها في العناء، وطلب الغنى من غير الغناء، فلم يجد بغيته، ولم يزد على أن صفّر وجهه، وبيض لحيته، فردّ خائبا، واشتعل رأسه شائبا؛ وطالما شمر طلب الصّنعة دروعه، وصعّد أنفاسه وقطّر دموعه، وكان من فيض السّلطان في غير البشير، وفي حبر من الإكسير، إلّا أنه تعلّق بعلم أحابر، وعلق حكم الصّنعة عن أكابر، وشدّ الأوصال، وامتدّ لأن تسمح له بالوصال، فكان لو شعر به ابن أميل، لمال إليه كلّ الميل، أو تشبه به ابن يزيد، لما كان عليه مزيد، ومع طول معاناته، وبعده تارة ومداناته، لم يحصل على غير ارتقابها، ولا ظفر من ليلى بحطّ نقابها، فكم ضيّع حاصلا، وكدّ ولم يكن واصلا. وشعره أسير من نثره، وأيسر في حجم قدره، لأنّه إنما عانى النّثر وقد قارب أجله الانتهاء وقارب الرّحيل، ودنت شمسه من الأفول. وهو صاحب «لاميّة العجم» التي فصّلت عرى «لاميّة العرب» وحلّت لامها، ونكّبت من شفار الشّنفرى سهامها، فلقد قوّت الشّعوبيّة، واحتمت لعصابتهم، حميّة العصبيّة، وأخذت قسرا شجر البيان، وحكمة ألسنة العرب وأدمغة اليونان، وكادت تبتزّ من دولة العرب مدينة السّلام، ولا تبقي لهم إلّا عائدة الملام، وعنوان قوله منها «1» : [البسيط] أريد بسطة كفّ أستعين بها ... على قضاء حقوق للعلى قبلي

والدّهر يعكس آمالي ويقنعني ... من الغنيمة بعد الكدّ بالقفل إنّ العلى حدّثتني وهي صادقة ... فيما تحدّث أنّ العزّ في النّقل لو أنّ في شرف المأوى بلوغ منى ... لم تبلغ الشمس يوما دارة الحمل تقدّمتني رجال كان شوطهم ... وراء وطئي إذا أمشي على مهل أعدى عدوّك أدنى من وثقت به ... فحاذر النّاس واصحبهم على وجل وإن علاني من دوني فلا عجب ... لي أسوة في انحطاط الشّمس عن زحل وإنّما رجل الدّنيا وواحدها ... من لا يعوّل في الدّنيا على رجل وقد قال لمّا ولي ديوان الطّغراء، وكان قد كبر وأفن: من فتح دكّانه بعد العصر، أي شيء يتعيش؟. * ومن نثره قوله: وما كان إلّا أن تداعوا بالرّحيل، وقدّمت لهم النّياق للتّحويل، وإذا بقلبي قد ودّعني وسار، وهزّ جناحه الخافق وطار، فعدت- علم الله- لا أستطيع منعه، ولا أعقل فأجري لي دمعة، إلى أن بكّرت عليّ العاذلات، وهبت إليّ باللّوم قائلات: أمالك أسوة بالمحبّين الألى؟ فقلت: لا؛ فمازلن يرقعن جلدي، ويمسكن تجلّدي، وأنا لا أسكن إلى حول، ولا أطمئنّ إلى قول، حتّى غلبتني صرعة كرى، فتخيلت [أنّي] أرى خيالا عاد مخبرا، وخيالا من الحبيب زار مزوّرا؛ فإذا بتمثال الأحباب بين يديّ مصورا، فقال لي ذلك الطّيف الطّارق، تحت ستور الليل الغاسق: مالك ولهذه الحالة الشنيعة؟ أما كنت ترضى بأن يكون قلبك عندنا وديعة؟ فها خذها إليك، والسّلام عليك؛ فقلت: ناشدتك الله أيّها الخيال الزّائر، والمثال السّائر، إلّا ما تريثت، ووقفت فتلبثت؛ فما زاد على أن زال، ولا حام حتّى حال؛ ثم ولّى وما ودّع، وأشبه مشبهه في الجفاء وما أبدع.

ومنه قوله: وقد زار الغيث، وزار اللّيث، وأضاء البدر الزّاهر، ودنا الصّباح السّافر، وقدم العميد يهمي متدفقا هو والغمام، ويجري مستبقا هو والسّهام، فأيّ صدر ما تزحزح لحلوله؟ وأيّ قدر ما يصال لوصوله؟ وأي بدر ما غاب؟ وأيّ شمس ما توارى ضياؤها بحجاب؟ ولولا وقار العميد، كادت الأرض تميد، ويا لله العجب، قدم وما نزفت البحار، وإلّا ضاقت البيد!. ومنه قوله: وكتابي هذا إليك، وعندي عليك لوث عتاب، لأمر لا يحمله كتاب، فإن آب بك المتاب، وقوّم أود ودّك الإعتاب، استرسلت معك في ذكره، وأرسلت إليك رائد سرّه؛ وإلّا طويت الدّهر على مضض ألمه، وأخليت الصّدر للممه، وتحاملت على ما بي، وصرفت عنك ودّي وعتابي. ومنه قوله: سحابة ترسل الأمطار أمواجا، والأمواج أفواجا، سحبت على الأرض أذيالها، وعلمت افتقارها إلى نفسها، فجادت بها لها، والجود بالنّفس أقصى غاية الجود «1» ، لا سيما عوارف كرم ملأت الوجود. * ومن شعره قوله «2» : [الطويل] وأبيض طاغي المتن يرعد حدّه ... مخافة عزم منك أمضى من النّصل

عليم بأسرار المنون كأنّما ... على مضربيه أنزلت آية القتل ومنه قوله «1» : [الطويل] أجيراننا بالغور كيف خلصتم ... نجيّا وأخفيتم مسيركم عنّي لقد سمعت أذناي نجوى فراقكم ... فلا نظرت عيناي ما سمعت أذني أحذركم طوفان دمعي فبدّلوا ... إذا أزف السير الرّكائب بالسفن ففي الحيّ مرهوم الإزارين بالبكا ... وآخر مرقوم العذارين بالحسن ومنه قوله «2» : [الطويل] إذا ما دجى ليل العجاجة لم يزل ... بأيديهم جمر إلى الهند مشبوب عليها سطور الضّرب يعجمها القنا ... صحائف يغشاها من النّقع تتريب وقوله في النّهر والرّوض «3» : [السريع] يشقّها في وسطها جدول ... [مياهه] العذبة مثلوجه «4» له سواق طفحت والتوت ... تلوّي الحيّات مشجوجه فهي رماح أشرعت نحوها ... تطعنها سلكى ومخلوجه «5» ومنه قوله «6» : [الكامل] إنّي لأذكركم وقد بلغ الظّما ... منّي فأشرق بالزّلال البارد

وأري العدى أنّ الإساءة منكم ... خطأ وتلك سجية من عامد ويصحّ لي قول الوشاة عليكم ... فأردّه عنكم بظنّ فاسد وإذا طويت هواك عنهم نمّ بي ... وجد يدلّ على لسان جاحد وأقول: ليت أحبتي لاقيتهم ... قبل الممات ولو بيوم واحد «1» وإذا سئلت عن السّلوّ أجبتهم ... بلسان معترف ونية جاحد: إن لم يكن سحرا هواك فإنّه ... والسّحر قدّامن أديم زائد «2» ما زلت أجهد في مودّة راغب ... حتّى ابتليت برغبة في زاهد «3» ولربما نال المراد مرفّه ... لم يسع فيه وخاب سعي الجاهد هذا هو الرّأي الذي ضاقت به ... حيل الطّبيب وطال يأس العائد ولعمري ما أعرف ما أصف به هذا الشّعر، وهو الذي قلّ أن يماثل، وجلّ أن يقاس به، وهو السحر الطّاهر، والرحيق المشعشع، والرّوض الباسم، والصّباح المتألّق، وهكذا فليكن؛ ومن يقدر على هذا أو يدانيه؟ وكذلك قوله «4» : [البسيط] بالله يا ريح إن مكنت ثانية ... من صدغه فأقيمي فيه واستتري وباكري ورد عذب من مقبّله ... مقابل الطّعم بين الطّيب والخصر وإن قدرت على تشويش طرّته ... فشوّشيها ولا تبقي ولا تذري ثم اسلكي بين برديه على عجل ... واستبضعي الطيب وأتيني على قدر

ونبهيني دوين القوم وانتفضي ... عليّ واللّيل في شك من السّحر لعلّ نفحة طيب منك ثانية ... تقضي لبانة قلب عاقر الوطر وقوله «1» : [الطويل] وحان على الشّحناء عوج ضلوعه ... يسدّد نحوي صائبات المشاقص يكاثر فضلي بالثّراء توقّحا ... وفي المال للجهّال جبر النّقائص أقول له لمّا اشرأبّ لغايتي ... ومدّ إليها نظرة المتخاوص وأيقظ منّي ساهرا غير نائم ... وحرّض منّي هاجما غير حائص: لقد فات قرن الشّمس راحة لامس ... وأعيا مناط النّسر كفة قانص فإن حدّثتك النفس أنّك مدرك ... لشأوي فطالبها بمثل خصائصي وعلمي بما لم يحو خاطر عالم ... وخوضي على مالم ينل فهم غائص «2» فما عهد أحبابي على البعد ضائع ... لديّ ولا ظلّ الوفاء بقالص ولا أنا عمّا استودعوني بذاهل ... ولا أنا عمّا كاتموني بفاحص وإنّ الألى رامو اللّحاق بغايتي ... سعوا بين مبهور وآخر شاخص وراموا بأطراف الأنامل غاية ... وطئت وقد أعيتهم بالأخامص وقوله «3» : [الطويل] صحا عن فؤادي ظلّ كلّ علاقة ... وظلّ الهوى النجديّ لا يتقلّص هوى ليس يسلي القرب عنه ولا النّوى ... ولا هو في الحالين يصفو ويخلص ففي البعد قلب بالفراق معذّب ... وفي القرب عيش بالوشاة منغص

وإنّ خلاصا كنت أرجوه برهة ... وكان يزيد الأمر فيه وينقص قطعت رجائي منه مذ قال صاحبي: ... رميّ العيون النّجل لا يتخلّص وقوله «1» : [البسيط] يا صاحبيّ أعيناني على سكن ... إذا شكوت إليه زادني مرضا ظبيّ غرير إذا حاولت غرّته ... أرسلت طرفي سهما وانثنى عرضا «2» مالي وللبرق مجتازا على إضم ... يسري ويمري جفوني كلّما ومضا برق يلوح بنجد والحمى وطني ... هفا بقلبي ولبّي كلّه ومضى من مبلغ الحيّ شطّت دارهم ورضوا ... بالجار جارا وما أرضى بهم عوضا ما طاب عنكم فؤاد طاب قبلكم ... عن الرّضاع تقضّى والشّباب مضى إنّ الزّمان الذي كانت بشاشته ... للقلب والعين ملهى بان وانقرضا فإن نسيت فيأسا لم يدع طمعا ... وإن ذكرت فعرق ساكن نبضا حكّمت في مهجتي من ليس ينصفني ... ولست أبلغ من تحكيمه غرضا سيّان عندي وأمري صار في يده ... قضى لغيري بجور أم عليّ قضى حتّام أنهض جدّي وهو يعثر بي ... أخاف أن لا يراني الجدّ إن نهضا وقوله «3» : [الكامل] ومليحة الحركات إن رفلت ... في الحيّ ساعف عقدها القرط نمّ المروط بحسنها فبدا ... والشمس ليس يكنّها مرط فتح الصّبا في صحن وجنتها ... وردا يضاعف حسنه اللّقط

قالت وقد ولّت حمولهم ... والعيس فوق جفوننا تخطو: كان الشّباب الغضّ يجمعنا ... فمضى وشتّت شملنا الوخط غدر الأحبّة والشّباب معا ... فكأنّنا لم نصطحب قطّ وقوله «1» : [الكامل] في القلب من حرّ الفراق شواظ ... والدّمع قد شرقت به الألحاظ ولقد حفظت عهودكم وغدرتم ... شتان غدر في الهوى وحفاظ لله أيّ مواقف رقّت لنا ... فيها الرّسائل والقلوب غلاظ ومرى العتاب جفوننا فتناسبت ... تلك المدامع فيه والألفاظ يا دار ما للرّكب حين وقوفنا ... ما إن سقاك من الدّموع لماظ ترك الغرام عقولهم مشدوهة ... فظننتهم رقدوا وهم أيقاظ عهدي بظلّك والشّباب يزينه ... أيّام ربعك للحسان عكاظ فيا لله ما أسرى هذه البدائع، وما أسرع تدفّق هذه البداءة، ويا لله هذا الشّاعر، لقد ركب هذه القافية الصعبة فذللها، وسلك هذه الطريقة الوعرة فسهّلها؛ ولقد حيّر الأفهام إلى أيّ هذه المعاني تسارع؟ ولأيّها تفضل؟ ومن أيّها تعجّب؟ هذا مع هذا التركيب الشّديد الأسر، واللفظ الذي اقتاد إلى هذه القافية، وسلسل نطف هذه الأبيات الصّافية، وجاء بأبياتها المشيّدة كأنها العافية، وهذا الذي تتفاوت فيه أقدار القرائح، ويظهر فيها مبلغ العلم، ويعلن به باسم قائله، وينفق سوق منشده، وأين من يقدر على مثل هذا الكلام؟ أو يتعاطى مثل هذا المدام؟ أو يصحّ معه هذا السحر، وما أظنّه إلّا الحرام؟!

ومن لطائف شعره قوله أيضا «1» : [الكامل] يا قلب مالك والهوى من بعدما ... طاب السّلوّ وأقصر العشاق أو ما بدا لك في الإفاقة والألى ... نازعتهم كأس الغرام أفاقوا مرض النّسيم وصحّ [و] الدّاء الذي ... يشكوه لا يرجى له إفراق وهدا خفوق البرق والقلب الذي ... تطوى عليه أضالعي خفّاق وقوله «2» : [الطويل] أجمّا البكا يا مقلتي فإنّنا ... على موعد للبين لا شكّ واقع إذا جمع العشاق موعدهم غدا ... فوا خجلتا إن لم تعنّي المدامع وجاءه مولود وقد بلغ سبعا وخمسين سنة، فقال «3» : [البسيط] هذا الصّغير الذي وافى على كبري ... أقرّ عيني ولكن زاد في فكري سبع وخمسون لو مرّت على حجر ... لبان تأثيرها في صفحة الحجر وقوله «4» : [الطويل] أزيد إذا أيسرت فضل تواضع ... ويزهو إذا أعسرت بعضي على بعضي أرى الغصن يعرى ثم يسمو بنفسه ... ويوقر حملا حين يدنو إلى الأرض وقوله «5» : [الطويل] وكنت أراني مفلتا شرك الهوى ... فقد صادني سحر العيون النّوافث

فلا تعذلوني في غرامي بعدما ... تولّى الصّبا فالعذل أوّل باعث ولا تبحثوا عن سرّ قلبي فإنّه ... صفا ليس يمضي فيه معول باحث أرى صبوات الحبّ قد جدّ جدّها ... وقد كان بدو الحبّ مزحة عابث وقوله «1» : [الطويل] هي العيس قودا في الأزمة تنفخ ... تمطّى بها من حقوة الرّمل برزخ فلين الدّجى عن غرّة الصّبح فاغتدت ... بحيث التقى منها وقوف ونوّخ عليها قطاف المشي أطول خطوها ... مدى الفتر إذ أدنى خطاهنّ فرسخ بدور أكنّتها خدور يجنّها ... جناح خداريّ من الليل أفتخ فوشي خدود بالجمال منمنم ... ومسك شعور بالشباب مضمخ فيا صادحات الورق في الأيك أقصري ... فمالي إذ أشكو ولا لك مصرخ وقوله «2» : [البسيط] تالله ما استحسنت من بعد فرقتكم ... عيني سواكم ولا استمتعت بالنّظر إن كان في الأرض شيء غيركم حسنا ... فإنّ حبّكم غطّى على بصري وقوله «3» : [الخفيف] خبرّوها أنّي مرضت فقالت: ... أضنى طارفا شكا أم تليدا وأشاروا بأن يعودوا سادتي ... فأبت وهي تشتهي أن تعودا وأتت في خفية وهي تشكو ... ألم الوجد والمزار البعيدا ورأتني كذا فلم تتمالك ... أن أمالت [عليّ] عطفا وجيدا «4»

8 - ومنهم: أبو علي، الحسن بن عبد الصمد بن أبي الشخباء العسقلاني:

وقوله يصف النّجم «1» : [المتقارب] وليل ترى الشّهب منقضة ... بها نحو مسترق سمعه كما مدّ من ذهب مدّة ... على لازوردية الرّقعه 8- ومنهم: أبو عليّ، الحسن بن عبد الصمد بن أبي الشّخباء العسقلاني «2» : * صاحب الخطب المشهورة، والرّسائل المحبرة؛ لسان لا يكفّ له غرب، ولا يكلّ له ضرب، بحسّ ذكيّ كأنه زجاجة فيها نار، وحدس زكي لا يطمس له نار؛ وبينه وبين ابن الجميد مكاتبات، ينشر منها الحلل، وينظر منها ما تحوي الكلل؛ وقفت عليها، وصرّفت النظر فلم أجده ينصرف إلّا إليها؛ وكانت عندي بالخطّ الفاضليّ، وإنّما أذهبته من يديّ النّقل، وأطلقته من حاصلي العقل؛ وكانت بينهما من لطائف الشّتام، ما كان لسالف النّقائض كالختام، بألفاظ عذاب كأنّها نطف الغوادي، وطعم السلامة من يد الأعادي؛ وكان لا يحسن منها إلا عقير مدامة يحسوها، وعاقد راحة على شعاع راحة يكسوها؛ وكانا عجبا، ونيّرين ظهرا، والشمس والقمر قد حجبا. ومن نثره قوله: أمّا ما افتتحت به من ذكر استحكام الثقة، فقد عجبت من تعاطيه وصف

ذلك، مع العلم بوضوح دليله، والمعرفة بكثيره وقليله، وأنى يتجاوز تلك الصّفة وهو ينبوع الوفاء ومنبته، وممكن أسّه ومثبته: [الرجز] تسكن أحشائي إلى حفاظكم ... سكون أجفاني إلى رقادها وأما تخلّفه عن الزيارة للعذر الذي نصّه، فقد رأيت ليلتي بغيبته، فكأنّها قرنت بيوم الحساب الأطول، أو علّقت نحومها السيارة بأمراس كتّان إلى صمّ جندل «1» . ومنه قوله: فارقني مولاي، وخلّفني خلف السهاد، مفترشا شوك القتاد، أتذكر أخلاقه تذكّر الفقير غناه، وابن ذريح لبناه، وامتدّ عليّ رواق الليلة المذكورة، حتّى كأنّ نجومها شدّت بمناكب أبان، وقمرها يسير في فلك كيوان: [من البسيط] يئست من صبحها حتّى التفتّ إلى ... وجه الظّلام أعزّيه بفقدان ولم تزل هذه حالي في الوحشة، إلى حين وصول الرّقعة الأثيرية؛ فإنها رقعت هلهلا من الجدل مخلقا، وتركت داويا من المسّرة قصرا مونقا؛ ووقفت عليها، فقلت: أجرى الطّرس سطورا؟ أم زهري منثورا؟ أو نظمت البراعة ألفاظا أدبية؟ أم سلوكا ذهبية؟ وأنا أجيب عنها، ولكن كما يجيب قسّا باقل، وتفاخر السّحب المثقلة جداول؛ لمّا علمت أنّه قد عبث عليّ من وجه صحيح، لقيته مخفوض الجناح، وقابلته بالاستغفار والاستفصاح؛ إذ أنا بحمد الله تعالى ليّن الكنف تحت ظلال المودّة، شديد في هواجر الشّدة: [الطويل]

جليد على عتب الخطوب إذا التوت ... وليس على عتب الأخلّاء بالجلد وأما الفصل المختصّ بالحضرة السامية، ووقوع الأمر بحسب ما كان مولاي ذكره، فلم تزل ألمعيته تمده بالرأي الثاقب، وتكشف له ستور العواقب، والله المحمود على ما منح مولاي من صحة النظر الذي يتساوى فيه حاضر من الأمر وغائب، ومستقبل من الخطب وذاهب، وحسن الألمعية التي عناها الأوّل بقوله: [الكامل] وتصيب مرتجلا بأوّل فكرة ... أعراض كلّ مخمّر ومبيّت وأمّا الفلانيّان، وما تجدد بينهما في هذا الوقت من الصحبة، وانتسج من المودة، فللمشابهة قضية دائمة الوجوب، وللمشاكلة حوادث تملك حبات القلوب؛ وكلّ نفس بعادتها صبّة، وإلى ما يلائم طباعها منصبة؛ النملة تفرح بالبرّة، أكثر من فرحها بالدّرة؛ والضّيون يرى القذاريّة، خيرا من اللّطيمة الدارية؛ ومولاي يخالفهما بصحّة ميثاقه، وكرم أخلاقه، ودماثة طبعه، وصلابة نبعه، وطيب أصله وفرعه؛ فلا غرو أن يجهدا في نقض دمرته «1» ، ويرغبا عن الاختلاط بحضرته: [السريع] لا تنظري صدّي ولا مقتي ... ما أنت من حربي ولا سلمي وأما سؤاله عن قائل البيتين المنظومين، وهما «2» : [مجزوء الكامل] ويقودني لوصاله ... خرس الهوى قلق الوشاح ينآد كالغصن النّضي ... ر بمثله عبث الرّياح فقد فتح لي هذا السؤال بابا عرفت أنّ مولاي قد أعطى فلانا مقوده، ومدّ إلى

مغازلته يده، ولزم مضجعه، وتوفّر على الخلوات معه؛ فقلت: خبر يحتمل الصّدق والمين، ووقفت حائرا بين هذين، حتى عرفت اشتهار ذلك؛ وأنّ الأخ غضب منذ أيام قليلة، وبات في القرافة «1» بأسوإ ليلة، فلم أدر كيف أعتب مولاي وألوم، ولا كيف أقعد في التّأنيب له وأقوم؛ وهو الحياء الذي إذا انثلم فقد انهدم، وإذا تصدّع فقد ذهب أجمع، والمعيشة التي من المروءة حفظ موادّها، وصلاح فسادها، ومع ذلك فالبيتان المذكوران لعبد الصمد [بن] المعذّل، في كلمة يقول فيها «2» : [مجزوء الكامل] هتفت به نذر المشي ... ب فغضّ من غرب الجماح هيهات ملت إلى النّهى ... وأجبت داعية الفلاح وجعلت من ورد التّقى ... كأس اغتباقي واصطباحي وقد كان مولاي باستحسان هذه الأبيات أليق، وهي بصفته أعبق؛ وكأني به إذا بلغ إلى هذا الفصل من الرّقعة، أنشد قول الخطيم بن محرز «3» : [الطويل] وما لا مني في حبّ عزّة لائم ... من النّاس إلّا كان عندي من العدى ولا قال لي: أحسنت إلّا حمدته ... بما قال لي ثمّ اتّخذت له يدا ولا أتعدّى هذا الحد حرفا «4» ، أن أجني ذنبا عظيما، وأولم قلبا بشهادة لله عليّ كريما. ومنه قوله:

وأما الفصل الأخير، فأعلم والله أنّه صدر عمن احتسى من كأس المساهمة، وجلّيت لي بودّه وجوه الدّهر السّاهمة؛ وأنا أؤمل بفضل الله تعالى أن يقع من غير إرهاب، وتتواصل لديّ بغير حساب، حفظا للعادة التي حكم بها كرمه، وتمت معها عندي آلاؤه ونعمه. ومن شعره قوله: [الكامل] ألقى بكفّي جذوة في درّة ... واللّيل يخطر في هلاهل أزره «1» أخت النّجوم تشعشعا وولادة ... سرقت محاسن وصفه في سكره فضرامها من خدّه، وحياتها ... من ثغره، ونسيمها من نشره وممّا أورد له ابن بسّام قوله «2» : [الكامل] ما زال يختار الزّمان ملوكه ... حتّى أصاب المصطفى المتخيّرا «3» قل للألى ساسوا الورى وتقدّموا ... قدما: هلمّوا شاهدوا المتأخّرا إن كان رأي شاوره أحنفا ... أو كان بأس نازلوه عنترا ولقد تخوّفك العدوّ بجهده ... لو كان يقدر أن يردّ مقدّرا إن أنت لم تبعث إليه ضمّرا ... جردا بعثت إليه كيدا مضمرا تسري وما حملت رجال أبيضا ... فيه ولا ادّرعت كماة أسمرا خطروا إليك فخاطروا بنفوسهم ... وأمرت سيفك فيهم أن يخطرا عجبوا لحلمك أن تحوّل سطوة ... وزلال خلقك كيف عاد مكدّرا لا تعجبوا من رقّة وقساوة ... فالنّار تقدح في قضيب أخضرا ومنه قوله:

9 - ومنهم: القاضي الفاضل: [السريع]

ولمّا كان الثناء أحسن ما تدار عليه الكؤوس، وتنقش له الأقلام في الطّروس، وجب أن يطلق في هذه الحلبة الأرسان، ويستخدم في أداء فرضها اللّسان. 9- ومنهم: القاضي الفاضل: [السريع] وليس لله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد «1» هو منهم، لا بل هم منه؛ وكلّ ما قيل في محاسن من تقدّم، فإنّما هو عنه «2» : [الطويل] وإن جرت الألفاظ يوما بمدحة ... لغيرك إنسانا فأنت الذي نعني وهو: الفاضل محيي الدّين، أبو عليّ، عبد الرّحيم بن الأشرف أبي الحسن عليّ ابن الحسن [بن الحسن] بن أحمد بن الفرج «3» ، اللّخميّ، العسقلاني المولد، عرف بالبيساني «4» * كان سلفه من بيسان «5» ، وولي أبوه قضاء القضاة والخطابة بعسقلان،

واستخدم شاور «1» القاضي الفاضل في ديوان المكاتبات مع الموفق ابن الخلال «2» . ومولده يوم الاثنين، خامس عشر جمادى الآخرة سنة تسع وعشرين وخمسمئة. هو والله البحر الزّاخر، والبرّ الذي ما سلك طريقه أول ولا آخر، وما مثله هو ومن تقدمه إلّا مثل النّجوم طلع عليها الصّباح، والكروم أوّلها زرجون وآخرها راح؛ بل الحدائد قبل تطبيق الصّفاح، والموارد قبل تصفيق الرّياح، تقدّموا قدّامه وغرقوا في سيله، وخلقوا قبله وجاؤوا في ذيله؛ وكلّ وصف قلت في غيره، فإنّه تجربة الخاطر، هو أكثر من كل قول، وأكبر من مقدار كل طول. لقد صادف هذا الاسم منه الاستحقاق، لفضائله التي تبلجت تبلّج الصّباح في الآفاق؛ لقد وطّد ملك الدّولة بآرائه، جمع السّيوف والأقلام تحت لوائه؛ وكان يناضل بجلادة عن حماها؛ يرتشف الزّلال من رتق قلمه، وتلتحف الظّلال بسحب نعمه؛ وله في الإنشاء تفنّن، منه ما يروع الخيل صهيلا، ومنه ما يروق عذبا سلسبيلا؛ يفتّ العنبر على سطوره، ويفوت الجوهر طلّ منثوره؛ تعقد رسائله راحا براح، وجنى جنّاته بجنى تفّاح، وتلتقط في مهارقه بنفسج من أقاح؛ أطرب من مناجاة النّدام، وأطيب من معاطاة المدام؛ طالما كتب جمانا، وكبت أغصانا، ولان فاجتنى عسلا، وقسي فانبرى أسلا، يسجع كالحمام، ويصرع كالحمام، وقد سطّرت بحسناته الصّحف، وصوّرت من حسانه ذوات القلائد والشّنف؛ وطرق النّجد والوادي، ونطق به المدّاح والحادي، وحاضر به الحاضر والبادي، وسامر به السّامر وترنم الشّادي؛ وغادر له الأرض مذهبا مذهبا، وغادى الغوادي مصوّبا مصوّبا، وسار مقرّبا، مقرّبا وصار للمشرق مشرّقا

وللمغرب مغرّبا. فأما ما يؤثر عن أقلامه، فهو النّافث للسّحر في عقدها، والمنوّر للأبصار بكحل إثمدها؛ فضح الزهر بكلمه، وفتح الأقاليم بقلمه، وكتب فيما لا يعقبه ندم، وبارى قلمه السّيوف، ففعل أكثر منها ولم يتلطخ بدم؛ كم نكّس رماح الكفر فقصم أصلابها، وفصم أسبابها، وغزاها بأسطره ففلّ جيوشها، وثلّ عروشها، وحطّ صلبانها، وحطّم فرسانها، وأعاد بيعها مساجد، وصوامعها معابد، وبدّل الكفر بالإيمان، وأسكت النّاقوس للأذان، وعزّل مكان الإنجيل للقرآن، وقسى على القساقسة «1» وأرهب الرّهبان؛ وكاتب الخلافة، فكانت سطوره حلية شعارها، وسواد مداده سؤدد فخارها، وتأخّر السّهم وتقدّم، وخرس مجاوبه فلمّا كلّمه تكلّم؛ وحضر مواقف الحرب، فكان فارسها البطل، ورأيه سيفه الضّارب، ومواضع الحصار، وكان منجنيقه الرّامي، ويراعه سهمه الصّائب، وكان هو المحرك للعزائم النّوريّة «2» على تطهير مصر من دنس أولئك الضّلّال «3» ، ودرن تلك الأيام اللّيال، بل كانت أشد من اللّيالي، لتراكم ظلام تلك البدع، وتفاقم ضلال ذلك الدّين المبتدع. ولقد كان وهو في ديوان تلك الدّولة يتحرّق على كشف بدعها، وكف شنعها، وكرّ جنود الله على شيعها؛ ووقفت على قصيدة كتبها إلى الشّهيد نور الدّين ابن زنكي رحمه الله، يقول فيها «4» : [الطويل] وما بعد مصر للغنى متطلّب ... وما بعد هذا المال مال فيكتسب

ولو أنّه في البأس يمضي أو النّدى ... لهان ولكن في المغاني وفي الطّرب وكانت الأجوبة النوريّة ترد عليها، فيرى بها في تلك الظّلمات نورا، ويرتّب على مقتضاها أمورا؛ ثم كانت دخول العساكر الأسدية «1» إلى مصر، باستدعاء شاور في المرّتين وفي الثّانية استقرّت قدمها، واستمرت والأيام خدمها، وهنالك علا النّجم الفاضليّ وسعد جدّه، وصال والسيوف جنده؛ وعلى ذكره ذكرت شعرا كنت قلته، جاء «2» فيه ذكره استطرادا، وهو: [السريع] أتى بها السّاقي فيا مرحبا ... إذ جاء بالمحمول والحامل «3» ببابليّ اللّحظ قد زارنا ... بقهوة صفراء من بابل «4» مدامة ما عتّقت حقبة ... إلّا من العام إلى قابل صاغ من الدّير لإبريقها ... قلائدا من ذهب سائل وطوّقت في المرج تيجانها ... بلؤلؤ في كأسها جائل كأنّها ممزوجة لونه ... مغيّرا من خيفة العاذل تأخذ منّا كلّنا ثأرها ... ومالها إلّا على القاتل رقّت فقلنا: إنّها ريقه ... في الكأس أو من خصره النّاحل دقيقة المعنى على [ ... ] ... ألحاظه أو صنعة الفاضل «5» ولمّا آثر العاضد إقامة أسد الدّين شيركوه عنده، وهو إذ ذاك مقدّم الجيوش النّورية المجهزة إليه، كتب الفاضل عنه إلى نور الدين كتابا، وقفت عليه بخطّه ومنه نقلت، ومضمونه:

من عبد الله ووليّه عبد الله الإمام العاضد لدين الله أمير المؤمنين، إلى الملك العادل، المعظم، الزّاهد المجاهد، المؤيّد، المنصور، المظفّر، نور الدّين، ركن الإسلام والمسلمين، عمدة الموحّدين، قسيم الدولة، مجير الأمة، عضد الملّة، حافظ الثّغور، غياث الجمهور، قامع الملحدين، قاهر المشركين، خالصة أمير المؤمنين؛ رفع الله به منار الدين، وأعلى بعزائمه رايات الموحدين، وأحسن توفيقه في خدمة أمير المؤمنين: سلام عليك؛ فإنّ أمير المؤمنين يحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، ويسأله أن يصلّي على جدّه محمد صلّى الله عليه وعلى آله الطّاهرين، الأئمة المهديين، وسلّم تسليما؛ أما بعد: فإنّه عرضت بحضرة أمير المومنين مكاتبتك التي أديت بها واجب حقه، وقمت بمفترضه، وصدرت عن قلب شفاه الدّين بهديه، من داء الضّلال ومرضه، وتؤمّلت بمقرّ جلاله ومحلّ أمانته، التي منح الله بها الدين مزية إكماله؛ فصرف إليها أمير المؤمنين سمع الإصغاء وطرفه، وعرف منها أرج الولاء الصادق وعرفه، ووقف عليك من لطيف ملاحظاته ما يديم النعم، وأهدى إليك من شريف دعواته ما إذا حصل لك جمع المسلمين عمّ. فأما تلقيك أوامره بالامتثال، وإنابتك عن العزم الذي ضربت به الأمثال، وأضربت عنه الأمثال، وتجريدك العساكر التي شدّت من الموحّدين، وشادت مباني الدين، ونكص العدو بخبرها قبل نظرها، وانصرف عن بلاد الإسلام بأخزى خجله وأظهرها، وتقديمك عليها من ارتضاه أمير المؤمنين لارتضائك، وانتضاه في يد الحقّ تيمنا بانتضائك، وأمضى عزمه في تقليد ملكه إذ علم أن عزمه مشتق من مضائك، فقد شكر الله وأمير المؤمنين لك- أيّها الملك العادل-

هذا الأثر، وذخر لك منه حسنة لم تبسم عن مثلها ثغور الصّحائف والسّير، وميزك على ملوك الشّرق والغرب بفضل هذا النظر؛ ونصرت الدين الحنيف، والبيت الشّريف، وعند مآثرك الحسنى نشهد بها فتغني عن الإيضاح والتعريف، وهدمت الباطل حين أرست خيامه، وثبّتّ الحقّ حين هفت أعلامه، واخترت لخدمة أمير المؤمنين من هو مكان الاختيار وفوقه، وحمّلت العبء الثقيل من يستقلّ به ويحمل أوقه، وقلدت الأمر الجليل من لا يعجز قدرته وطوقه؛ ووردوا إلى الفناء النّبويّ بيض الوجوه بنصر واضح، شمّ الأنوف بتفريج غمّة «1» الخطب الكالح، جذلى القلوب بصفقة العمل الرّابح الصّالح، ظاهرة عليهم آثار آدابك الحسنى، بادية فيهم أنوار صوابك الذي ليس فيه مستثنى لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ، وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ، وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ «2» وقد كانت جنايات من تقدم نظره «3» ، عظمت عن الاحتمال، وتجاوزت إلى الدّين بعد أن تجاوزت المال، وظهرت أمارات استنصاره بمن استنصر به بالأمس، وتعويله على ما نزّه الله أمير المؤمنين أن يكون به راضي اللّسان والنفس، لأن الله استخلفه لاستقامة كلمة جدّه، واكتفى بهديه وهدي آله عن أن يقفّى برسول من بعده، وحينئذ بدت للمشار إليه سوءاته، وأحاطت به خطيئاته، وقصّرت في مجال الحياة خطواته، ولقي عن كثب حتفه، وأصبح نكالا لما بين يديه وما خلفه؛ فهنالك أجمع أمير المؤمنين والمؤمنون على تقليد السّيّد الأجلّ، الملك المنصور وليّ الأئمة محيي الأمة، سلطان الجيوش، أسد الدّين، كافل قضاة المسلمين، وهادي دعاة المؤمنين، أبي الحارث شيركوه العاضدي، عضد الله به الدّين، وأمتع

بطول بقائه أمير المؤمنين، وأدام قدرته، وأعلى كلمته، أمر وزارته، وناط به أمانة سفارته، وأطلق يده بسيف الجهاد، وقلم الاجتهاد، وتدبير ما تحويه المملكة الفاطميّة من البلاد، وكفّله أمر خدمته التي استحقها بارتياد الرشاد، ورأى أن يكبت عدوّ الدين باصطفائه، ويكف عادية الشرك باستكفائه؛ واختار لتقدّمه عساكره، من اخترته أيّها الملك العادل لتقدّمه عساكرك، واستهدى منك هذه الجوهرة المعدومة من جواهرك، واستنزلك عن هذه الذّخيرة المصونة من ذخائرك، وآثر أن تؤثر به دولته التي تعدّ نصرتها من مآثرك؛ ولثقة أمير المؤمنين أنك تسمح له بكرائم لا يجود بها إلا من كان كريما، وتقسم بينك وبينه النجدة التي دعي بها والدك الشهيد رحمة الله عليه للدولة قسيما «1» ، أمضى هذا الرأي لمّا وضح صوابه، وانتهز فرصة هذا التوفيق لما فتح بابه، ورآه القويّ الأمين فاستأجره للإسلام وأهله، ومدّ عليهم ما كانت أعينهم ممدودة إليه من ظل عدله؛ ولما تمسك به المسلمون، لم يغلّ منه أيديهم المشدودة عليه؛ ولما اغتبط به أهل الدين، لم يصرفهم عمّا هداهم الحظّ إليه، وأمره أن يعدّ لحرب الفرنج عدّته، ويأخذ لغزوهم أهبته، ويطلبهم برا وبحرا، ويوسع لقتالهم درعا وصدرا، ويديل الإسلام من هدنة تظلّم منها إلى الله سرا وجهرا؛ وحرت «2» وأمير المؤمنين يراها مصابا يحتسب فيه عند الله جزاء، وعهد إليه أن يعمّر الأساطيل التي تقطع عن العدّ والإمداد، ويعمر سجون الدولة بالكافرين مقرّنين في الأصفاد، وأن يسكن المدن التي جنى عليها التدبير العاجز، ويثقل المعاقل التي كانت خالية المراكز؛ لتكون أيّها الملك العادل من وراء هذا العدو الكافر مستأصلا، ويكون وزير أمير المؤمنين للغارات عليه والغزوات إليه مواصلا، فيقطع في الشرك سيف الله

بحديه، ويميس الإسلام في نضرة برديه، ويبطش الحقّ في أعدائه بكلتا يديه، وغير بعيد من معونة الله أن تخفق على البيت المقدس رايات الدّولة الفاطمية، وراياتك التي تعدّ من راياتها، وتوجف عليها خيولها وخيولك التي النّصر أحد غرورها وشياتها، ونأخذ للملّة الحنيفية بطوائلها من طغاة الكفر وبغاتها، ويجري الله الدولة العلوية في النّصرة العلوية على ميراتها وعاداتها؛ فمن الآن قيل للونيّة: اذهبي، ونادى الإسلام: يا خيل الله اركبي، وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ «1» وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ «2» . وأمير المؤمنين يؤثر أن تؤثر دولته بهذا السّيد الأجل لتكون أيها الملك قد نصرته نصرا دائما، وقضيت من طاعته فرضا لازما، وسررته غائبا بحاضر، ووكلت بخدمته من ينوب عنك في النّصر المتظاهر، وأن تكاتبه بإلزامه بمقامه، وتهديه إلى دولته التي اغتبطت باستخدامه، وتهوّن عليه روعة فراقك؛ فإنّها ملفتة وجهه إلى شامه، وتسليه بثواب طاعة أمير المؤمنين التي فرضها الله بصريح كلامه، وتبعثه على ارتباط عدة من عسكرك المسير معه؛ يعاضد عساكر الدولة العاضديّة، وتزداد بها القوّة، وتتضاعف الحمية. ولولا ما منيت به البلاد من تعاقب جوائح الجدب، وتناوب قوادح الحرب، وارتفاع الأسعار وعلوه، او عزة الأقوات وغلوها، لاستزدنا قوّة إلى هذه القوّة من عساكرك المؤيدة، ولما رأينا إعادة أحد منهم، بل بذلنا لهم الإقامة المؤبدة، ولكن إقامة من تحمله البلاد وتتسع له الموادّ، ويؤدى به ما فرضه الله سبحانه من الجهاد، مما تنتظم به بمشيئة الله الميامن والمناجح، وتقرّ أعين المسلمين بما يقضيه ويقتضيه من المنافع والمصالح، ويؤدى به ما يجب لله ولرسوله في خلقه من

الحقوق والنصائح، ويستكمل به ما ابتذلته من العمل الصالح. والله سبحانه يمدّك أيّها الملك العادل، المعظم، الزّاهد، المجاهد، المؤيد، المنصور، المظفّر، نور الدين، ركن الإسلام والمسلمين، بمزيد نصره، ويحوطك بمعقّبات من أمره، ويجعلك ممن أخلص له في سره وجهره، ويحسن عن أمير المؤمنين مجازاتك، ويديم لدولته ذبّك عن حوزتها ومحاماتك. فاعلم هذا واعمل به إن شاء الله تعالى، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته. وكتب لثلاث بقين من شهر ربيع الآخر سنة أربع وستين وخمسمئة. والعلامة بين سطريه الأولين بالخطّ العاضديّ «الله ربّي» . فعاد الجواب النّوريّ على العاضد بامتثال ما أمر، وتكفل أسد أسد الدّين بحماية غيله واستمر، وكان ابن أخيه صلاح الدّين قد قتل شاور، وقال الفاضل: قتل شاور وما شاور؛ قلت: وشاور وما شاور؟ وكتب بالخطّ الفاضلي عهد أسد الدين شيركوه بالوزارة، ولقّب الملك المنصور، وكتب عليه العاضد بخطّه «1» : هذا عهد لا عهد لوزير بمثله، وتقليد طوق أمانة رآك الله وأمير المؤمنين أهلا لحمله، والحجّة عليك عند الله تعالى بما أوضحه لك من مراشد سبله؛ فخذ كتاب أمير المؤمنين بقوة، واسحب ذيل الفخار بأن خدمتك اعتزّت بأن اعتزت إلى بنوة النبوّة، واتخذ أمير المؤمنين للفوز سبيلا، وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا «2» . ثم واتت أسد الدين منيته، وعاجله أجله، وولي ابن أخيه صلاح الدّين.

وكتب عهده بالخطّ الفاضليّ، ولقب الملك النّاصر، وكتب عليه العاضد بخطّه «1» : هذا عهد أمير المؤمنين إليك، وحجته عند الله عليك، فأوف بعهدك ويمينك، وخذ كتاب أمير المؤمنين ناهضا بيمينك، ولمن قضى بجدّنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن أسوة، ولمن بقي بتقلبنا أعظم سلوة، تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ «2» . ثم كان الفاضل رحمه الله، هو الدولة الصّلاحية؛ كان كاتبها، ووزيرها، وصاحبها، ومشيرها، والحامل لكلّها، والحاكم في كلّها، والمجمرّ لبعوثها، والمتزر عند إقعاء ليوثها، والدائرة به مناطق بنيها، والسّائرة به شموس أيامها وبدور لياليها؛ فلهذا أذعنت لقلمه الرّماح، وطلبت صلح كلمه الصّفاح، وانقضت تلك الأيام وما فيها إلا بكر عشايا أو غرر صباح، ومع هذا كله كان لا يزال منكدا مبتلى، بضنى «3» قلبه وجسمه، ومرض همه وسقمه؛ يذكر هذا في كتبه وترسّلاته، وشكواه إلى إخوانه وأخدانه، ومما كتب في ذلك: ولا يسأل سيدنا عن خاطر تزدحم فيه الأخطار، وعن ضلوع تسرح على النّار، وقلت: قد عدم الصّفاء في دار الأكدار، وجسم قد قارب أن يخلع المعار من الأعمار؛ ولقد دبّ الفناء فيّ عضوا عضوا، وأخذني الزمان جزءا جزءا، فكلّ يوم يذهب مني شيىء بعد شيء، ويكثر شبهي بالميت فيبعد عن الحي، ونعوذ بالله من نار غضبه، فإن آخر المخالط الكيّ.

قلت: ولهذا كان لا يتكلف مع السلطان سفرا في كل مرة، وإنّما كان العماد ينوب عنه؛ فإذا سافر كان هو المساير للسلطان إذا ركب، والمسامر إذا جلس، وكان إذا تأخر عن السلطان في بلد ناب عنه فيه، أو كان ردءا لمن ينوب من إخوة السّلطان وبنيه، ويكون هو القائم بالملك، القائل بالحياة والهلك. ومما بلغ من سلطانه، ما حدّثني به أبو المحاسن بن عبد الله الكاتب المصريّ، قال: سمعت محيي الدين بن عبد الظّاهر، يحكي عن ابن قريش: أن الفاضل صحب السّلطان مرة في سفر، فنزلوا منزلا رخو الأرض كثير الطّين، وتوالى به المطر، وتعذّر السّلوك بين خيمة السّلطان وخيمة الفاضل، إلّا على من يسلكه بمشقة، فأمر السّلطان بنقل خيمته، وأن تضرب إلى جنب خيمة الفاضل، ويفتح بينهما باب حتى لا يقطع بينهما الوحل، ولا ينزعج الفاضل عن مستقره؛ وكان إذا غاب عن السّلطان تكاتبا، وبينهما مترجم بقلم توافقا على المصطلح عليه، فكانا يتكاتبان به ويتخاطبان على بعد الدّار بلسانه. وكان القاضي الفاضل يكتب إلى سلطانه، ويشفع فيما يريد، كما يشفع الصّاحب إلى صاحبه، والصّديق إلى صديقه؛ وكان يسلّم في كتبه التي يكتبها إلى السّلطان على من أراد من أولاد السّلطان أو إخوته. ووقفت له من ذلك على كتب كثيرة، منها ما هو بخطّ يده، ورأيت في بعضها أجوبة السلطان، وفي بعضها حروف المترجم بخطّ الفاضل، وخطّ السّلطان بإزائه. ورأيت كتابا كتبه إلى السّلطان، وسلّم فيه على ولده الملك العزيز عثمان، وقال فيه: والملك العزيز- أعز الله الدّين بجهاده- بين يدي المولى، مخصوص بتحية

يفضّ لديه ختامها، ويخصّ وفور الشوق غرامها «1» : [الكامل] بتحيّة قد جئت فيها أوّلا ... ومن اقتفاها كان بعدي الثّاني تهدى لذي النّورين لا تخطي الضّحى ... تسري ركائبها إلى عثمان ورسولي السّلطان في إبلاغها ... والنّاس رسلهم إلى السّلطان * وأما ما يدلّ على شيء من حال أوله: فوقفت بخطه على ما صورته: كانت بين والدي رحمه الله وبين المرتضى الطرابلسي متولي الدّيوان بعسقلان، هنات ارتضعا أفاويقها، ولزما مواثيقها، فصحبا بها الأعمار، وحكّما فيها الأغمار، فكانت حربها سجالا، وأيامها أحوالا، إلى أن قضى الله سبحانه أن سبقه والدي إلى الحمام، وفرغت منه قبله الأيام؛ فقال لي رحمه الله وقد انقطع الحبل من يده، وعلم أنّ يومه لا يدفعه إلى غده: ما أرى فلانا إلّا سيوفيك ما أسلفته، ويقضيك الوعد الذي أخلفته؛ فقلت: أرى أن يكاتب بكتاب، تثبت فيه بخطك أسطرا، وتحلب فيه من الوعظ أشطرا، وتجعله كالوصية؛ فإن الذي بينكما من العداوة، قد أشبه المودّة لطول المدّة؛ فقال: هيهات، عناء ما وراءه غناء، ورقّة لا تحلّ بها ربقة، ولو أفردت الله تعالى بقصدك لكفاك، وأنت وذاك؛ فمثّل لي هذه المعاني والأقفال، وكان الحال في عدم النفع على ما قال. والرسالة «2» : [الطويل] ونم بعد أخذ الثّأر عنّي فطالما ... قطعت بي الدّنيا وأنت مسهّد كتب العبد هذه الجملة- جعل الله لحضرة سيدنا البقاء الذي لا يحلّ الغير

ساحته، والأمد الذي لا يحصر العدد مساحته- وقد تقدّمها إلى محلّ المحاكمة، وجثا قبلها في موقف المخاصمة، ورفع الظّلامة إلى من لا يجوز عليه ولا منه الأحكام الظالمة، وأسمع داعي الرّحيل شفاها، ونأت به الدّار وشطّت نواها، ووضعت الآمال من يده عصا سراها، واستردّت الأيّام ما فرقته في جملة، وأشرفت به على مورد يطول بوارده النّهلة؛ وحسن الظن بالله تعالى قد وطّأ تحت جنبه مهادا، وآنسه عند النزول بلحده فرادى، وما سوى ذلك فمتى أخذ ضيف الكريم زادا؛ والحمد لله الذي نقل عبده من دار فناء إلى دار بقاء، ومن محلّ حجبه إلى محلّ لقاء، ومن الإقامة مع مسيء يخاف جوانبه، إلى القدوم على محسن ترجى مواهبه؛ وقد كان حكم القضاء سبق، وسهم القدر مرق، بتلك الهنات التي نال فيها ونيل منه، والأغراض التي حامت عنها وحميت عنه، والدّهر فيها يومان، والحرب بها طعمان، فيوم يكون له متحمل فيكون ظفره مشبها بالهزيمة، ويوم يكون عليه متحمل فيكون هزيمته مشبهة بالغنيمة؛ هذا وقد كانت هذه الحضرة- وطاعتها تعصيها- تكثر الجراح، وتناول يدها عنان الجماح، ويبقى لإيلامها فيه آثار الصّفاح، فما مات حتّى ماتت حقوقها، واعتلّ من طول الضراب حديدها، وقد بقي بعد أن رأت بعده، وتجاوزت في الحياة حدّه، أمران هما آخر رتبة اللّوم، وأقصى غاية الملوم، وهي الشماتة، وتلك خديعة الطبع العاجز، وطبيعة الخرق الخانز «1» ، وبديعة لا يركبها من مركبه الجنائز؛ وما لجرح بميت إيلام «2» ، وتلك سبيل لست فيها بأوحد «3» ؛ والأخرى

تتبّع الخلف بجناية السلف، وأخذ الوارث بجزيرة المورّث، وهذه محافظة في العداوة، ومطاوعة على القساوة، فيها لحكم الله ردّ ظاهر، وجرأة عليه تعجل عقبى الجائر، وسوء مقدرة لا تبعد أن يغضب لها القادر، واستئناف حرب خاسرها الرابح ومخذولها الظّافر؛ وقد أكثر الناس المدح لحفظ موات الأموات، ومصافاة أهل العظام والرّفات؛ فإمّا المكافاة وهم في كفاة اللّحود، أو المظاهرة بالعداوة لهم وهم في ضمائر القبور رقود؛ فما عهد مهده البدعة قائم، ولا على هذه الشرعة حائم، وحوشيت من أن تحشر من بين الأمة أمة وحدها، وتطيع العصبية فتجاوز سمت المروءة وتتعدّى حدّها. هذا وقد استفتحت الخطاب ببيت، إن ألمّ بما ألمّ به في معناه، فإنه لا يريد أن يتبعه بما يشيد مبناه، وهو أنها رأت في صحائف التجارب وتواريخ الأعاجيب، أنه قل ما تقاول فحلان، وتصاول بطلان، إلا استويا في الدنيا النصيبين، وكانا إلى منهال من وردهما قريبين، وكان سابقهما طليعة التالي، وأولهما مقدّمة الثّاني؛ وإذا كان الله قد أفردها بمدّ طلق البقاء، وخلّفها لينظر كيف تعمل فيما أمتعها به من النّعماء، فالأولى أن تحفظ عبدها في أيتامه، وتخلف عليهم ما غرمه في أيامه، وتصون مخلّفيه من هتك الأستار، وحطّ الأقدار، وتشفي من لا خلاق له من الأشرار، وتعطيهم بما أطال الله من ذيول أنوائها، وتحتسب بالحسنة فيهم مع ما كثر الله من ذخائر ثوابها، ولا يزعج مخلّفوهم بالشكوى إليه في الدّار التي ثوى بها، فإنّها بحيث ترفع الظّلامة إلى قريب، من مكان قريب، وإن سمع الميت ولم يجب فإن الله يسمع ويجيب: [الطويل] تقصّى الذي قد كان بالأمس بيننا ... وأسكتني دهري فهل يسكت الدهر وهو يحلّها من كل ما ارتكبت فيه، وأطاعته من موارد الأوهام إن حفظت

وصية الله تعالى السابقة لوصيته في هؤلاء الأيتام؛ فأما إن أتبعت القادحة بالقادحة، وأشبهت اللّيلة بالبارحة، فالحساب يبقى عليها مدة بقائها بعده، ويفضل به عندها ما لا تجد فضله عنده، لانقطاع عمله واتصال عملها، وإغضاء طوله وامتداد طولها، وعند الله تجتمع الخصوم «1» ، ويضرب على يد الظلوم قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ «2» . * وأما نثره فمنه قوله: وقد كان يقال: إن الذهب الإبريز لا تدخل عليه آفة، وأن يد الدهر البخيلة عنه كافة، وأنتم- يا بني أيوب- أيديكم آفة لا تقايس الأموال، كما أن سيوفكم آفة تقوس الأبطال، فلو ملكتم الدّهر لأمطيتم لياليه أداهم، وقلدتم أيامه صوارم، ووهبتم شموسه وبدوره دنانير ودراهم؛ وأوقاتكم أعراس، وكان بما تم فيها على الأموال مآتم؛ والجود خاتم في أيديكم، ونقش حاتم في نقش ذلك الخاتم. ومنه قوله: أدام الله أيام الديوان العزيز ممهدة لمن رضيت «3» عنه درجات الجنة، منتثرة على من سخطت عليه كواكب الأسنة، مغرقة لمن يغرق في طاعتها بحار الأعنة، مبشرة النفس المتطامنة لولائها بأنها النفس المطمئنة، وأسبغ نعمه فإنّ النعم في ضمنها، وملأ الآمال بمنّها، وأفاض أنوارها التي قد علم قرن الشمس أنه غير قرنها، وأمضى سيوفها التي تعرب فيغرق ضمير النصر في لحنها، وأعلى آراءها التي تلتقي العداة بدرع يقينها، وتلقى الغيوب بسهم ظنها، ولا برحت راياتها

سويداوات قلوب العساكر، وأجنحة الدّعاء المحلّق إلى السماء من أفق المنابر. ومنه قوله: سرنا وروضة السماء فيها من الزهر زهر، ومن المجرة نهر، والليل كالبنفسج تخلله من النجوم أقاح، أو كالريح شمله من الرّمح جراح، والكواكب سائرات المواكب لا معرّس لها دون الصبّاح، وسهيل كالظمآن تدلّى إلى الأرض ليشرب، أو الكريم أنف من المقام بدار الذّلّ فتغرب، فكأنه قبس تتلاعب به الرياح، أو زينة قدمها بين يدي الصباح، أو ناظر يغمضه الغيظ ويفتحه، أو مغنى يغمصه «1» الحسن ثم يشرحه، أو صديق لجماعة الكواكب مغاضب، أو رقيب على المواكب مواظب، أو فارس يحمل على الأعقاب، أو داع به إليه وقد شردت عن الأصحاب؛ والجوزاء كالسّرادق المضروب أو الهودج المنصوب، أو الشجرة المنورة، أو الحبر المصورة؛ والثّريا قد همّ عنقودها أن يتدلّى، وجيش الليل قد همّ أن يتولّى. ومنه قوله: وأما النيل فقد ملأ البقاع، وانتقل من الإصبع إلى الذراع، فكأنما غار على الأرض فغطّاها، وأغار عليها فاستقعدها وما تخطّاها، فما يوجد بمصر قاطع طريق سواه، ولا مرغوب مرهوب إلّا إياه. ومنه قوله في جواب كتاب بعثه العماد الكاتب «2» في ورق أحمر، فقطعت العرب الطريق على حامله وأخذوه، ثم أعادوه: ووصل منها كتاب بآخر جرابه، لأن العرب قطعوا طريقه، وعقّوا عقيقه، ثم أعادوه وما استطاعت أيديهم أن تقبض جمره، ولا ألبابهم أن تسيغ خمره، ولا

سيوفهم أن تكنس يتيمته، ولا عراضهم أن تأخذ لطيمته؛ فقطف ورده من شوك أيديهم، وحيا حياه الذي جلّ عن واديهم، وحضر منه حاضر الفضل الذي ما كان الله ليعذبهم بالغربة في بواديهم، وتشرف منه بعقيلة الأنس التي ما كان الله ليمتحنها بقتل واديهم، وسألته: بأي ذنب قتلت؟ وأيّ شفاعة فيك قبلت؟ فقال: عرفت الأعراب بضاعتها من الفصاحة، وتناجدت أهل نجد فكلّ صاح: يا صباحه، وقالوا هذه حقائقنا السحرية، وهذه حقائبنا الشّحريّة، وهذه عقائدنا السّرية محمولة، وهذه مواريث قيسنا وقسّنا المأمولة، فقيل لهم: إنّ الفصاحة تنتقل عن الأنساب، وإنّ العلم يناله فرسان فارس ولو كان في السحاب «1» ، فدعوا عنكم ثمرا علق بشجراته، واتركوا نهبا صيح في حجراته، وأنّ الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم؛ ثم لممته على الشعث، وأحللت به بعد الإحرام، فاستباح الطّيب وحاشاه من الرّفث. ومنه قوله: والأسر ذلّ ما بعده عزة، وأثر السلسلة يمنع معاطف الهزّة، والملسوع يفزع من الحبل، والجريح يعلم أن الجرح باب القتل. ومنه قوله: وقد طيّب لمماليكه الحياة في إنعامه، وهوّن عليهم الممات لثقة كل منهم باهتمامه بأيتامه؛ فالوارث يرث من أبيه النّسب، ومن كرم مولانا النشب. ومنه قوله:

وبوّرت رماح نصلها الطّعن، فكأنها غصون قطعت أزهارها؛ ويغادر غدران الدماء فكأنها رياض عطفت أنهارها. وقوله من رسالة يصف آمد «1» : وآمد ذكرها من العالم متعالم، وطالما صادم جانبها من تقادم، فرجع عنها مقروعا أنفه وإن كان فحلا، وفرّ عنها فريدا بهمه وإن استصحب خيلا ورجلا؛ ورأى حجرها فقدّر أنه لا يفك له حجر، وسوادها فظن أنه لا يفسخه فجر، وحميّة أنف أنفتها فاعتقد أنه لا يستجيب لزجر من ملوك كلهم قد طوى صدره على الغليل إلى موردها، ووقف وقفة المحب السائل فلم يفز بما أملّ من سؤال معهدها. وله من أخرى يصفها: وهي العقيلة التي صدر الصّدر الأول محلأ عن ورودها، والخريدة التي حصل منها على راحة يأسه وتعب طردها؛ والمحجّبة التي كشفت ستورها، ودار لعصمتها كسوار معصمها سورها، وغلت على أنها السوداء على خطابها لأن المهج مهورها؛ ولربما نأى بجانبها الإعراض، ونبا جوهرها عن الأعراض، وطاشت دون أوصافها سهام الأغراض؛ ودرجت الملوك على حسرتها، فلم تحسر لها لثاما، ولا استطاعت لثغرها ثلما ولا له التثاما. وله من أخرى يصف قلعة نجم «2» ، وهي من عيون الرسائل، منها: هي نجم في سحاب، وعقاب في عقاب «3» ، وهامة لها الغمامة عمامة، وأنملة

إذا خضبها الأصيل كان الهلال لها قلامة، عاقدة حبوة صالحها الدهر أن لا يحلها بفزعة، نادبة عصمة صافحها الزمن على أن لا يروعها بخلعة، فاكتنفت به عقارب منجنيقات لم تطبع بطبع حمص في العقارب، وضربتها بحجارة أظهرت فيها العداوة المعلومة في الأقارب، فلم يكن غير ثلاثة إلّا وقد أثرت فيها الحجارة جدريّا بضربها، ولم تصل إلى السابعة إلّا والنّجران مؤذن بنقبها، فاتسع الخرق على الراقع، وسقط سعده عن الطالع، إلى مولد من هو إليها طالع، وفتحت الأبراج فَكانَتْ أَبْواباً، وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً «1» . ومنه قوله: ومن اعتقل خصما فقد ملك قياده، وأمن شراده، وصار تحت ختمه، وحبس جسمه في حصنه، وقلبه في جسمه؛ وإذا كان الله قد أعطانا البلاد وهي آلة المقيم وأعطاهم المراكب، هي آلة الظّاعن الهارب، فقد علمنا لمن عقبى الدار؛ وقد نقلهم الله نقل قوم نوح من الماء إلى النّار، وقد وريت بمولانا للإسلام زناد، وذاك الزّناد هو السيف القاضب، [و] المستطير من شرره هو دفع الدّم السّاكب. ومنه قوله: وعرف المملوك ما يكا بده مولانا، وكلّ يعين الله، وما تغلو الجنّة بثمن؛ ومن عرف ما يطلب هان عليه ما يبذل، وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ «2» الغمرات ثم ينجلينه «3» ؛ فإنّك نصل والشّدائد للنّصل، وكلّما اشتدّ

الخناق قوي اليقين؛ إنّ الله يريد يعظم موضع الفرح: [الكامل] والحادثات وإن أصابك بؤسها ... فهو الذي أدراك كيف نعيمها «1» لا زعزعتك الخطوب يا جبل؛ كل ما يمرّ بمولانا من المغائظ ومن تثاقل الأولياء يتحمله ويحمله الله، ويعلم أن الطباع البشرية يستولي عليها الضجر، ويعلم أن الذي يطلبه من الناس أعظم من الذي يدفعه إليهم؛ فإنه يعطيهم الأموال ويطلب منهم الأرواح، ولا بدّ من تلطّف الترفيه فيمن يستنزل عن نفسه، وأين من يجود بها؟ ألا قليل ما هم: [من الوافر] وقد كانوا إذا عدّوا قليلا ... فقد صاروا أقلّ من القليل «2» ومنه قوله: فسبحان من جعل آراءه في الظّلمات مصابيح، وفي المشكلات مفاتيح، ويده إذا امتطت الأقلام بارت الغمام، وإذا اتّشحت بالأعنّة بارت الريح؛ وباب مولانا ميدان العلى، ومجلسه معرض الحلى، وترابه غرر وجوه السادة الألى. ومن أخرى في فتح بيت المقدس، شرفه الله تعالى، ومنها «3» : وأتينا المدينة من جانب، فإذا هو أودية عميقة، ولجج وعر غميقة «4» ، وسور قد انعطف عطفة السّوار، وأبرجة قد نزلت مكان الواسطة من عقر الدار، وقدّم المنجنيقات التي تتولّى عقاب الحصون، عصيّها وحبالها، وأوتر لهم قسيّها التي تضرب ولا تفارقها سهامها ولا نصالها، فصافحت السّور، فإذا سهامها في ثنايا

شرفاتها سواك، وقد قدم النّصر نسرا من المنجنيق يخلد إخلاده إلى الأرض، ويعلو علوّه إلى السّماك، فشجّ مرابع أبراجها، وأسمع صوت عجيجها، ورفع مثار عجاجها، وأسفر النّقّاب عن الخراب النّقاب، وأعاد الحجر إلى خلقته الأولى من التّراب، ومضغ سرد حجارته بأنياب معوله، وأظهر في صناعته الكثيفة ما يدلّ على لطافة أنمله، وأسمع الصّخرة الشّريفة أنينه، إلى أن كادت ترقّ لمقتله. وله أيضا من أخرى: فنصبنا عليها المنجنيقات تمطر سماءها نبال الوبال، وتملأ أرضها بالنكاية والنّكال، وتهدّ بساريات حجارتها راسيات الجبال، وتنزل نوازل الأسواء بالأسوار، وتوسع مجال الدّوائر في الدّيار، وتخطف بخطّافاتها أعمار الأغمار؛ وتطير حمامها بكتب الحمام، وتديم إغراء سهامها في أهلها بتوفير سهام؛ وكشف النّقّابون السّور المحجوب فتهدم بنيانه، وتداعت أركانه، بتظاهر المنجنيقات عليها والنّقوب. ومنه قوله: في ليل كموج البحر «1» ، له أنجم كحبب النّهر، قد حشر الهموم وحشدها، وهدى ضوالّها للقلوب وأنشدها، فأقول له لمّا تمطّى بصلبه «1» : قطع الله صلبك؛ ومتى أرى عمود الصّباح: قد عجّل الله عليه صلبك. ومنه قوله: ولنا من الجيران من يجوز، ويظنّ أنه إلى الله لن يحور، ويصدّق وعد

الشيطان، وما يعده الشيطان إلا الغرور، ويصدر عنه كلّ عظيمة المورد، ويجهل أن الله عليم بذات الصدور، ويظن أنه يرث الأرض، وينسى ما كتب الله في الزّبور، وينشد ضالة الولاية بجيشه وبيته وما يقبل بيت مكسور، ولا يضمن النصر جيش مكسور. ومنه قوله: والمسؤول أخذ دستور لمملوكه للحجّ في هذه السنة، فقد جفا بيت الله جفوة طويلة، واشتاق إلى زورة، وتمامها أن يكون المولى فيها الوسيلة، وقد تحقق المملوك أنّ المولى يلبيه ولا يحرمه، فكاد يلبّي ويحرم، ولولا أن ذكره وذكر والده كمسّ المسك، لكان على هذا العزم يتمم ويحزم، وما ينقطع مرافق خدمه ولا منافع لسانه وقلمه عن الدولة الناصرية، فقد كان حج فحشد جيوش الليل، وفوقوا سهام الأسحار، وأعانوا في تلك السنة سلطان الدّنيا وجنود النهار، وما يدّعي المملوك في الدعاء رتبة المجاب، ولكن في الحشد رتبة السمسار. ومنه قوله: فوضعت يدا فيه وقدما على النجم، ورشفته على حر الوجد بارد الظّلم، وصرفت به عن الخاطر كل همّ، فما بشاره بعده ولا هم. ومنه قوله: وأما خلعه الكرى على العشاق «1» ، فهي عوائد سماحة، ومن أشرق كإشراقه، فما يكون أبدا في ليله، إنما يكون في صباحه، فما ضرّه أن يهب ما لا

تدعو إليه حاجة، وأن يخلع ديباجة كراه كما يخلع ديباجه. ومنه قوله: وهمّ بأن يأخذ من كلام سيدنا في كتابه، فيعيد إليه حلاله؛ فإنه ما وجد لفضله أوصف من وصفه، ولا أكشف لبراعته من كشفه، ثم استحيا من ريبة يسوّد لها وجوه الأقلام، وأشفق أن يأكل أموال الناس بالباطل ويدلي بها إلى الحكام «1» . ووصف أيضا المنجنيق من رسالة، فقال: فسلّمت كأنها بنان، ونضنضت كأنها لسان، وأضاءت كأنها مارج من نار، واهتزت كأنها جان، وتقومت كأنها سنان، وانعطفت كأنها عنان، وأقدمت كأنها شجاع، وأحجمت كأنها جبان، ورمت رؤوسهم الموفّرة من أحجارها بأمثال الرءوس المحلّقة، فأعادتهم إلى الخلقة الأولى مخلقة وغير مخلقة. ومنه قوله: وكأن الثّريا لجام مفضّض في أدهم الليل، أو غثاء حمله داهم السيل، أو جيب جود زره اللباس، أو كفّ تفصّل الأفق على الليل بقياس. ومنه قوله: أطال الله بقاء المجلس إلى أن يقضي للكفر أعمارا، ويملك منهم رقابا وديارا، ولا يذر على الأرض منهم ديارا، ولا يصلوا أن يضلّوا العباد ولا يبلغوا أن يلدوا فاجرا كفارا؛ «2» وإلى أن يغرقهم من دمائهم في طوفان، وإلى أن يعرضهم على الجذوع فيكونوا عنده صلبان كالصلبان.

ومنه قوله: خدمة المملوك واصلة من يد الشريف فلان، وهذا الشريف قد زكى نسبه بأعمال صالحة، وعمله بسيرة ناصحة، وله عائلة هي وإن كانت غلا، فقد فسحت خطاه في الانتجاع، وبه فاقة هو وإن كان في ضائقتها فقد بعثته في الأرض على الاتساع، ولمّا قلب طرفه في سماء القصد، هدي إلى قبله مولانا التي يرضاها كل متوجه، وإلى هدف المدائح الذي تسدّد إليه سهام كل ألكن ومفوه، فإن رأى مولانا أن يشفع فيه جدّه شافع البشر، ويلين حظّه فإن حظّه كالحجارة أو أشدّ قسوة من الحجر. ومنه قوله: «1» ورد كتاب المجلس، ومرحبا بمقدمه وأهلا بمنجمه، والسّوق تختلف نقود صروفه، وتتنوع صنوف ضيوفه، فلابد أن تنبعض إذا انبعضت المسافات، ولو أنه إلا بمقدار ما يدنو اللقاء على الرسول السّائر، بالكتاب الصّادر، والخيال الزائر، بالحبيب الغادر، والنّسيم الخاطر، من رسائل الخواطر، ويقرّ به طرف الناظر من الصديق الحاضر؛ ووقفت على هذا الكتاب المشار إليه، وما وقفت عنه لسانا شاكرا، ولا صرفت عنه طرفا ناظرا، وبلغت من ذلك جهدي وإن كان قاصرا، واستفرغت له خاطري وما أعدّه اليوم حاضرا؛ ومما أسرّ به أن يكون في الخدمة السلطانية، أعلاها الله ورفعها، ووصلها ولا قطعها، وألّف عليها القلوب وجمعها، واستجاب فيها الأدعية وسمعها، من يكثر «2» قليلي، ويشفي في تقبيل الأرض غليلي، فإن تقبيل سيدنا كتقبيلي؛ فلو شرب صديق وأنا عطشان

لأرواني، ولو استضاء بلمعة في الشرق وأنا في الغرب لأراني، كما أنّ الصديق إذا مسته نعمة وجب عنها شكري، وإذا وصلت إليه يد منعم وصلتني، وتغلغلت إليّ ولو كنت في قبري. ومنها «1» : وأعود إلى جواب الكتاب: الأخبار لا تزال غامضة إلى أن نشرحها، ومقفلة إلى أن نفتحها، بخلاف حال خادمها مع الناس؛ فإنّ القلوب لا تزال سالمة إلى أن تجرحها، والهموم خفيفة إلى أن ترجحها؛ وفي الخواطر في هذا الوقت أمور موجودة نجعلها في العدم، ونخرجها من الألم إلى اللّمم، ونعادي بين الأسماع والألسنة، وبين العيون والقلم؛ والقلوب بيد الله سبحانه، وعليها بالاستجارة والاستخارة، فتلك تجارة رابحة، وكلّ تجارة لا تخلو من خسارة؛ والله تعالى يجمع كلمة المسلمين على يد سلطاننا، ولا يخلينا منه ومن بنيه حلى زماننا وسيوف أيماننا، ويسعدنا من أكابرهم بتيجان رؤسنا، ومن أصاغرهم بخواتم أيماننا؛ ولقد تفرغت العزمة الفلانية لهذا الكتاب «2» ، ولو ذكرت السلطان بالعدو فيرجم كلبه، ويكفّ غربه، ويذيقه وبال أمره، ويطفئ شرار شره، ويعجل له عاقبة خسره، فقد غاظ المسلمين وعضّهم، وقتل جموعهم وفضّهم؛ ولو جعل السلطان عزّ نصره غزو هذا الطاغية مغزاه، وبلاده مستقر عسكره ومثواه، لأخذ الله الكافر بطغواه، كما أخذ ثمود بطغواه، ولأبقى ذكرا. وقوله «3» : وللمودّة عين لا يكحلها إذا رمدت إلّا إثمد مداد الصّديق، وما في الصبر

سعة لصحبة أيام العقوق، بعد صحبة أيام العقيق؛ وقد بلغني أن ولد المذكور خدم في المجلس السلطاني، وسررت بأن يجتمع في خدمته الأعقاب والذّراري، وتطلع في أفقه الأقمار والدّراري؛ والله تعالى يحفظ علينا تلك الخدمة جميعا، ولا يعدمنا من يده سحابا ومن جنابه ربيعا، وللمودات مقرّ ما هو إلّا الألسنة، والقلوب قضاة لا تحتاج إلى بينة. ومنه قوله يذكر كتابا جاءه في ورق أخضر: ولمّا تناولته في الحلة الخضراء، مخطرا بسريرة السراء، قلت: الله أكبر، من كان خاطره غيثا روّض، وفاض فأعشب فذهّب ففضّض، وما شككت أنّي دخلت الجنة لما فاض من أنهارها، وأفيض من سندسها، أو طلعت إلى سماء الدّنيا لما ملأ سمعي وعيني من شهبها وحرسها، ولا أنني قد جاءتني رسالة الرّوض الأرج لما فغمني من نفيس نفسها؛ فقلت لصحيفته: ما هذه اللّبسة الغريبة، والحلية الحبيبة والورقة، التي هزّت عطفيّ في ورق الشبيبة بعد رداء المشيب، والريحانة التي لا يدعيها عذار حبيب؟ فقالت «1» : [المتقارب] شققنا مرائر قوم [به] ... فنحن نسمّيه شقّ المراره ومنه قوله: وكيف ما حل أهل هذا البيت، فهم في كل بيت صدوره، وفي كل مطلع نجومه وبدوره، لا تذلل أنوارهم بإشارة الأصابع، ولا تبتذل أقدارهم في مصونات المجامع؛ كأنّ الأرض بهم سماء فإنهم طوالعها، وكأن الدّنيا بهم رياض فإن أوجههم دهرها، وأيديهم مشارعها.

ومنه قوله: وقد أثمر هذا القلم أكرم الثمر وهو يابس، وأبرّ جودا على أخضر المغارس، وأتى أكله كلّ حين وكلّ وقت، وطال وإن كان القصير يقصّر عنه كل نعت؛ ووصل كتابه فأكرم به من ساق وحبيب، وخلوت به وليس علينا ولا بيننا من الأنام رقيب، وقبلت منه خدّا بل يدا، وأجلّه عن أن يكون نسيبا للنّسيب، وهزرت منه قضيب بان للعلى يجتنيها بفتكة القضيب. ومنه قوله: والفترة مسطّرة أن ينفخ الرّوح في صريعها، ويرشّ نور الشمس على وجه صديعها، وإلّا فإنه مغشى عليه، مغشيّ بليل تحته فقد قريب بنات نعش إليه. ومنه قوله: ومن مستهلّ ذي الحجّة ما استهل من يده كتاب، ولا استقل من تلقاء جهته سحاب، ولعل قلمه في الميقات قد أحرم، فلم يمسّ الطيب من أنفاسه، ومسح المداد عنه لتمام الإحرام بكشف رأسه، والآن فقد انقضت الأيام المعلومة، فهلّا قضى عنا الأيام التي تمادت فيها شقوة العيون المحرومة. ومنه: وعليه السلام الطيب الذي لو مرّ بالبهيم لأشرق، أو بالهشيم لأورق، وكتبها الكريمة إن تأخرت فمأمولة، وإن وصلت فمقبولة، وإن أنبأت بسارّ فمشهورة، وإن أنبأت بسرّ فمشورة. ومنه قوله:

وأما ما ذكره من القرض، فلم يزل القرض للذّرّية الأيوبية- أعاذها الله من الانقراض- ميسم كرمها، وعنوان علوّ هممها؛ فبيوت أموالهم في بيوت رجالهم، وعقد أيامهم في قلوب خدّامهم، والكنوز التي جعلها الماضون سبائك في التّراب، جعلها ملوكنا قلائد في الرقاب؛ فهم يتحملون بالقرض ويفتخرون؛ وإذا ادّخرت الملوك في أيدي أنفسهم مالا، فهؤلاء في أيدينا يدخرون. ومنه قوله: «1» وصل كتاب الحضرة، وصل الله أيامها بحميد العواقب وبلوغ المآرب، وصحبت الدّهر على خير ما صحبه صاحب، وأنهضنا بواجب طاعته فإنّه بالحقيقة الواجب، وكلّ واجب غيره ليس بواجب، من يد فلان، ورجوت أن يكون طليعة إلى الاقتراب، ومبشّرا بالإياب، ومخبرا بعودها الذي هو كعود الشّباب لو كان يعود الشباب؛ وعرفت الأحوال جملة من كتابها، وكلها تشهد بتوفيق سلطانها، وبأيامها التي تعود بمشيئته بإصلاح شأنه وشأنها، والذي مدّه ظلا يمدّه فضلا؛ فالفضل الذي في يديه في يد خلق الله، والذي أحالهم بالرزق عليه، فكيف ما دعونا له [دعونا] لأنفسنا، وكيف ما كانت أسنّة رماحه فهي نجوم حرسنا، فلا عدمت أيامه التي هي أيام أعيادنا، ولا لياليه التي هي ليالي أعراسنا «2» . ومنه قوله: وهذا أفق لا مطار فيه إلّا للعقاب وابنه، وبحر لا مسبح فيه إلّا لمن يخرج الدّرّ من فيه ويدخل البحر في ردنه؛ وما عنيت بالبحر هنا إلّا يده الكريمة، فأمّا البحر فلم أعنه؛ وأغرقتني في البحار وأنجيتني منها، وعرّفتني وزن خواطر البلغاء،

ولولا عروض خطره لم أزنها؛ زاد الله في هذه الأنفاس، وفديت هذه العقائل التي أيامي بها أعياد ولياليّ أعراس. ومنه قوله: وما يأتيني من المجلس من ذكر محدث يسرّ به المحدّث، وخبر يتأثّل به الآنس ويتأثث، إلّا استمعته؛ ولسمعي على قلبي المنّة، وفتحته كأنما فتحت لي أبواب الجنة، وتناولته كأنما تناولت كتابي بيميني، ورفعته فكأنما رفع التّاج فوق جبيني، وقابلته بالحمد فكأنه عرض كاتبه، وقرنته باللّثم فكأنّي ظفرت بيد صاحبه. ومنه قوله: وأصدرت هذا الكتاب مقصورا على أجوبة كتبه التي كتبت لي عهدة الشكر، وأباحت في شهر الصّيام كؤوسها السّكر. ومنه قوله: وكتبته وشعبان قد وصل إلى أعقابه، وقمره الممحوق قد بعثه رمضان بكتابه؛ فجمع الله لسيدنا منهما كلّ خير يستحقّ جمعه، وأعلى يده التي سألها الكرم لم تر منعه. ومن أجوبته «1» : ورد على الخادم- زاد الله أيام المجلس وأصفاها من الأكدار، وأبقى بها من تأثيراته أحسن الآثار، وأسمع منه وعنه أطيب الأخبار، وجعل التوفيق مقيما حيث أقام، وسائرا أينما سار- كتابه الكريم، الصّادر عن القلب السليم، والطبع الكريم، والباطن الذي هو كالظّاهر، كلاهما المستقيم، ولا تزال الأخبار عندنا

محجمة، والأحاديث مستعجمة، والظّنون مترجحة، والأقوال مسقمة ومصحّحة، إلى أن يرد كتابه فيحقّ الحق ويبطل الباطل، ويتضح الحالي ويفتضح العاطل، ويعرف الفرق ما بين تحرير قائل، وتحوير فائل، فتدعو له الألسنة والقلوب، وتستغفر بحسناته الأيام من الذنوب، والشجاعة شجاعتان، شجاعة في القلب، وشجاعة في اللّسان، وكلاهما لديه مجموع، ومنه وعنه مرويّ ومسموع، وذخائر الملوك هم الرّجال، وآراء الحزماء هي النّصال، ومودات قلوبهم هي الأموال، ومجالس آرائهم هي المعركة الأولى التي ربّما أغنت عن معارك القتال؛ والله تعالى يجدّد للمسلمين به حالا يجمعهم على جهاد الكفار، ويلهمهم أن يبذلوا في سبيله النفس والسيف والدرهم والدّينار، ويزيل ما في طريق المصالح من الموانع، ويفطم السّيوف عن الدماء الإسلامية ويحرّم عليها المراضع، ويجعل للمجلس في ذلك اليد العلى والطريقة المثلى، ويجمع له بين خير الأخرى والأولى؛ والأحوال هاهنا بمصر مع بعد سلطانها، وتمادي غيبته عن سائر شأنها، على ما لم يشهد مثله في أوقات السّكون، فكيف في أوقات القلق، وعلى ما يحفظ الله به من في البلاد من الجموع، ومن في الطّرقات من الرّفق. ومنه قوله: ومن اللّطف في كون الحضرة كتبتها عجلة، وروّجتها مرتجلة، وأصدرتها في حالة المتبذل، ولم تعرها ناظر المتأمّل، وإلّا فلو [تأنيت] «1» لأرسلت البوارق والصواعق؛ وما أصنع؟ وما كلّ من جاشت بحاره، وقذف درّة بحاره، أغرق الإخوان في لججه، وأخرس اللهجان بحججه. ومنه قوله:

وصل كتاب الحضرة لا زالت رياض ثنائها متفاوحة، وخطرات الردى دونها متسارحة، والليالي بأنوار سعودها متلألئة، والأيام الجافية عن بقية الفضل منها متجافية؛ باركة للمجد منها فيه، يتخير إليها المكرمات إذا لم يكن لها فيه، فأنشده ضالة هدى كان لنشدانها مرصدا، ورفع له نارا موسويّة، سمع عندها الخطاب، وآنس الخبر، ووجد الهدى؛ وكانت نار الغليل بخلاف نار الخليل، فإنّها لا تقبل ندى الأجفان بأن يكون بردا وسلاما، ولا يزايدها نداها إلّا كانت أضرى ما كان ضراما. ونعود إلى ذكر الكتاب الكريم: وسجد لمحرابه وسلّم، وحسب سطوره مباسم تبسّم، ووقف عليه وقوف المحبّ على الربع يكلمه ولا يتكلّم، ويبطل جفنه وكأنّ جمادى بدمعه وكأنّ على خدّه المحرّم؛ فالله المسؤول لها في عاقبة حميدة، وبقية من العمر مديدة؛ فإنها الآن نوح أهل الأدب، وطوفانها العلم الذي في صدرها، ولا غرو أن يبلغ عمره كعمرها، على أنها طالما أقامت الحدّ على الدّنيا حتى بلغت في حدها الثمانين، وأدبت الأيام بسلاح الحرب من سيفها وسلاح السّلم من قلمها تأديب المجانين، وما حملت العصا بعد السيف إلا وقد وضعت الحرب أوزارها، ولا استقلت بأنه موسى إلا لتفجّر الخواطر وتضرب أحجارها، وما هي إلّا رمح، وكفى بيدها لها سنانا؛ وما هي إلّا جواد يحتثّ السّنين خلفها، فتكون أناملها لها عنانا. ومنه قوله «1» : ورد كتاب الحضرة السامية، أحسن الله لها المعونة، ويسّر لها العواقب المأمونة، وأنجدها على حرب الفئة الكافرة الملعونة، يخبر بخروج الخارج من قلعة

كذا، وما صرّح به من الخوف الذي ملأ الصّدور، والاستحثاث في مسير العسكر المنصور؛ وكلّ قضية وردت على القلوب، ففزعت فيها إلى ربّها فرجت فرجه، وأذكى لها اليقين سرجه، ولم تشرك معه غيره مستعانا، أو لم تدع معه من خلقه إنسانا؛ فما القضية وإن كانت منذرة إلّا مبشّرة، والخطّة وإن كانت وعرة إلا مبشرة؛ لا جرم أنّ هذا الكتاب أعقبه وصول خبر نهضة فلان نصر الله نهضاته، وأدّى عنه مفترضاته، واستنهض العساكر، وقوبل العدوّ الكافر، فنفس ذلك الخناق، وتماسكت الأرماق؛ وما أحسب أنّ الأمر يتمادى مع القوم؛ بل أقول: لا كرب على الإسلام بعد اليوم؛ يتوافى بمشيئة الله ولاة الأطراف، ويرقل من نفس العدوّ وسمعه ما استشعره من المسلمين من الخلاف، ويجتمعون إن شاء الله على عدوّهم، ويذهب الله بأهل دينه ما كان من فساد أعدائه في أرضه وعلوّهم؛ وقد شممنا رائحة طلب الهدنة بطلب الرسول، وبخبر هلاك ملك الألمان الذي هو بسيف الله مقتول، والموت سيف الله على الرقاب مسلول. ومنها: فأما ما أشار إليه من القلاع التي شحنها، والحصون التي حصّنها، والأسلحة التي نقلها إليها، والأقوات التي ملأ بها عيون مقاتليها ويديها، فإن الله يمنّ عليه بأن يسره لهذه الطاعة، ورزقه لها الاستطاعة، فكم رزق الله عبدا رزقا حرمه منه، وفتح بابا من الخير وصرفه عنه؛ الآن والله ملك الملك العادل ماله الذي أنفقه، وأودعه لخير مستودع من الذي رزقه؛ وشتان بين الهمم همّة ملك ذخر ماله في رؤوس القلاع لتحصين الأموال، وهمة ملك أودع ماله في أيدي المقاتلة لتحصين القلاع «1» : [الكامل]

بيني الرّجال [وغيره] يبني القرى ... شتّان بين مزارع ورجال والحمد لله الذي جعل ماله «1» له مسرة، يوم يرى الذين يكنزون الذّهب والفضة المال عليهم حسرة؛ ما أحسب أحدا من هذه الأمة إن كان عند الله من أهل الشهادات بين يديه، وإن كان كريم الوفادة لديه، إلا تلقاه شاكرا لهذا السّلطان، شاهدا بما يولي هذه الأمة من الإحسان وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ «2» . سيحصد الزارعون ما زرعوا، والله يزيده توفيقا إلى توفيقه، ويلهم كلّ مسلم القيام بمفترض بره، ويعيذه من محذور عقوقه؛ وأنا أعلم أن الحضرة تفرد لي شطرا من زمانها المبهم، بكتاب لله تكتبه إليّ، وخبر سار تورده عليّ؛ وأنا أفرد شطرا من زماني لشكرها، وأسرّ والله لها بتوفيق الله في جميع أمرها، فإنّ الذاكر لها بالخير كثير، فزاد الله طيب ذكرها. ومنه قوله: والمشكوّ في هذا الوقت وجع المفاصل وآلامها وأورامها، فيديّ منها في جامعة، ورجليّ منها في واقعة، وأعضائي كلّها قد رابتني بعد صحة، وصارت لما تمّ عليها من أيديّ الرّاقين والذّاكرين كأنها خرزات سبحة، ولقد سئمت تكاليف الحياة، وسهلت عليّ تخاويف الوفاة، وحملت الأيّام على ظهري حمل الحطب، فما يسوى أن تشتعل فيها نار أجل يكون من الأنفاس المزعجة ذات لهب، وما أغربت على الأيام في تهجّمها، ولا جاءتني آيات الكبر في غير موسمها؛ ومن استضاء بسراج المشيب مسته اللّيالي في ظلمها، فقد صرعتني الأمراض،

وصدعت عظمي المنهاض. اللهم لا أشكو إلّا إليك، ولا أسأل إلّا أنت، ولا أبثّ عبادك ما بي من بلائك، إلا لأستلزم إليك الشفعاء، وأستدعي منهم الدّعاء؛ فإن دعوتك من حقّها أن ينظّف لها الوعاء؛ فأما طاحونة مدينة الجسد وهي الأسنان، فبعض السّنّ ظعن مع السّنّ، وبعضه بقي منه جذم غير مرجحنّ، وما كنت أدري ما معنى قيد الحياة إلى أن قيدتني المفاصل بوجعها، وعلّة النقرس بتسفّلها وبرفعها؛ وأنا الآن بالحقيقة في ضدّ الحياة إحساسا، ولابس جسم قد كرهته النفس لباسا. ومنه قوله «1» : ورد كتاب المجلس السّامي، نصر الله عزائمه، وأمضى في رؤوس الأعداء صوارمه، وشدّ به بنيان الإسلام ودعائمه، واسترد به حقوق الإسلام من الكفر ومظالمه، وأخلف نفقاته في سبيل الله ومغارمه، وجعلها مغانمه؛ وكان العهد به قد تطاول، والقلب في المطالبة ما تساهل، ولمحت اشتغاله بالطاعة التي هو فيها وما كلّ من تشاغل تشاغل، فهنّأه الله بما رزقه، وتقبّل في سبيل الله ما أنفقه، وعافى الجسم الذي أنضاه في جهاد عدوّه وأخلقه، وقد وفق من أتعب نفسا في طاعة من خلقها، وجسما في طاعة من خلقه؛ فهذه الأوقات التي أنتم فيها أعراس الأعمار، وهذه النّفقات التي تجري على أيديكم مهور الحور في دار القرار؛ قال الله سبحانه في كتابه الكريم: وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ «2» . وأما فلان وما يسره الله له وهوّنه عليه من بذل نفسه وماله، وصبره على المشقات واحتماله، وإقدامه في مواقف الحقائق قبل رجاله، فتلك نعمة الله عليه،

وتوفيقه الذي ما كلّ من طلبه وصل إليه؛ وسواد «1» العجاج في تلك المواقف بياض ما سوّدته الذّنوب من الصحائف يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً «2» . فما أسعد تلك الوقفات، وما أعود بالطّمأنينة تلك الرّجفات، وقد علم الله سبحانه منّي ما علم من غيري من المسلمين من الدّعاء الصّالح لكم في الليل إذا يغشى، ومن الذّكر الجميل لكم في النهار إذا تجلّى، والله تعالى يزيد لكم إيمانكم، وينصركم وينصر سلطانكم، ويصلحكم ويصلح بكم زمانكم، ويشكر هجرتكم التي لم تؤثروا عليها أهليكم ولا أموالكم ولا أوطانكم، ويعيدكم إلينا سالمين سالبين، غانمين غالبين؛ إنّه على كلّ شيء قدير. ومنه قوله: ولا حول ولا قوة إلا بالله، قول من قعد وراء الأحباب يودّع في كل يوم حبيبا، ويعيش في الدّنيا بعدهم غريبا، كأنه النجم طلع عليه الصّباح فغابوا، وبقي منتظرا للمغيب، وصبّحه ما قد علاه من المشيب. ومنه قوله: هذا وما تمّ بحمد الله متجدد، إلا ما تقدم ذكري له من أمراض الكبر، وأعراض الغير، وتداعي هذه البنيّة لرحيل ساكنها، وانزعاج هذه النفس إلى ما يختاره لطف الله من مواطنها، فإنّ التّسعين قد جزت عينها، وقطعت عقبها؛ وأسأل الله الخيرة في القدوم عليه، واللّطف عند الوقوف بين يديه.

ومنه قوله: وأشكو بعد قلبي جسمي، فقد ضعفت قوته، وقوي ضعفه، ونسجت عليه همومي ثوابا دون الثياب، وشعارا دون الشّعار، من الحرب الذي عادى بيني وبيني، وانتقم ببيني من جسمي، واستخدمها بحرث أرضه؛ فإن لم يكن لأرضه عجاج فلي عجيج، وإن لم يكن فيه بذار فلي من الحبّ ثمار، وإن لم يكن لي سنبلة فلي أنملة، وإن لم يكن في كل سنبلة مئة حبّة آكلها، ففي كلّ أنملة مئة حبة تأكلني؛ وقد كنت مسالما لأعضائي إلا سنّا أقرعها، فما يخلو زمن من مندماتي، أو إصبعا أعضّها فما أكثر ما على الظّالم الذي يعضّ يديه؛ فأنا أقرع أعضائي كلّها ثنيّات، وأعضّ على جوارحي كلّها أنامل وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ «1» والحرب همّ للأجسام، والهمّ حرب للقلوب، والفكر للقلب حكّ، والحكّ للّحم فكر، وبالله ندفع ما لا نطيق «2» ؛ يا واهب العمر خلّصه من الكدر «3» . ومنه قوله «4» : وصل الكتاب الحضرة مبشرا بالحركة الميمونة السّلطانية إلى العدو خذله الله، ومسير المسلمين نصرهم الله، تحت أعلامه أعلاها الله، ومباشرة العدوّ واستبشار المسلمين بما أسعدهم الله من الجراءة عليه، ومن إضمار العود إليه، وهذه مقدمة لها ما بعدها، وهي وإن كانت نصرة من الله، فما نقنع بها وحدها، فالهمّة العالية

السّلطانية للحرب التي تسلب الأجسام رؤوسها، والسّيوف حدّها، فإن الجنة غالية الثمن، والخطاب بالجهاد متوجه إلى الملك العادل دون ملوك الأرض وإلّا فمن؟ فهذه تشترى بالمشقّات، كما أنّ الأخرى- أعاذنا الله منها- رخيصة الثّمن وتشترى بالشهوات. ومنه قوله: وقف الخادم على ما شرّف به طبعه، وشنّف به سمعه، وضيّق بسعته ذرعه، من الخطاب بالعتاب، الذي خفض له الجناح، واستعذب به الجراح، وأسر قلبه في قيد أسى مستطار لا يراد منه السّراح، وقذف به في لهوات ليل لم يود أن يبسم فيه ثغر الصباح، وقد علم الله أنه بريء من كل ما يوجب المذامّ، ويطلق ألسنة الذّام، وأنه لمستيقظ في حقوق الخدمة، إلا أن حظّه من أهل الكهف بطول المنام. ومنه قوله: وأما البرد وكلبه، والهواء وغلبه، فما كتبتها إلا واليد ترتعد، والخواطر لا تتعد، والغلام يذهب شبح الفحم بما يلهب، والشرار يبقى منطفئه في خدود الثياب خيلانا، ويمنعني كما يمنعها أن تطرد في قول القلم من الطّرس خيلانا. ومنه قوله: وأنا الآن إذا دعوت الله سبحانه، بأن يمتعني بسمعي وبصري عنيته، وإذا قلت: واجعلهما الوارث منّي، فهو الذي اخترته لذلك وارتضيته؛ وبالجملة إنّي مستحسن قول جميل، وأنقله إلى أهل الجميل «1» : [الطويل] وما أحدث النّأي المفرّق بيننا ... سلوّا، ولا طول اجتماع تقاليا

كذلك صحبة المجلس قد تطاولت، وكلّما ألحّ عليها الصّقال لاح جوهرها، وكلّما تكررت عليها الفصول فصّلت آياتها وسيرت سورها. ومن كتاب كتب به إلى القاضي محيي الدين بن الزّكي «1» : بعد أن أصدرت هذه الخدمة إلى المجلس- لا عدمت عواطفه وعوارفه، ولطائفه ومعارفه، وأمتع الله الأمة عموما بفضائله وفواضله، ونفعهم بحاضره كما نفعهم بسلفه الصّالح وأوائله، وعادى الله عدوّه، ودلّ سهامه على مقاتله- ورد كتاب منه، وما بقيت أذكر الإغباب، فإن سيدنا يقابله بمثله، ولا العتاب فإنّ سيدنا يساجله بما فيض من سجله، ولا ألقي عليه من قولي قولا ثقيلا، ولا أقابل به من قوله قولا جليا جليلا، فقد شبّ عمرو عن الطوق «2» ، وشرف البراق عن السّوق، وذلك العمرو ما برح محتنكا غير أجنبي، والطوق للصبي، وذلك البراق حمى لا يقدّم إلا للنبي، ومع هذا فلا تقلّص عني هذه الوظيفة، وأعتقدها من قرب الصّحيفة، فإنّك تسكن بها قلبا أنت ساكنه، وتسرّبها وجها أنت على النوى معاينه. ومنه قوله: يا سيدنا العماد، صبّحك الله بأيمن من فعلك، ولا أعرف فعلا منه أيمن وأحسن من وجهك، ولا أعرف وجها منه أحسن، وأحسن وجه في الورى وجه منعم «3» .

كيف أنت في هذه الرحمة التي تركتنا رحمة؟ وكيف الخركاه «1» وكيف الخيمة؟ أمّا نحن ففي خيمة من عنصرنا وهو الطين، وفي خركاه كأنّا من ضائقتها في عقد التسعين، قد حاصرتنا الأمطار، وقلّ احتفالها بالخنادق المحتفرة، وفعلت بنا ونحن المسلمون ما فعلنا بمن حاصرناه من الكفرة، فليت لنا ولو كمفحص القطاة في السعة والحفوف، وليت لنا جبلا يعصمنا من أنواع السّيول إذا جاءت ممرودة السّيوف، وقد حال الجريض دون القريض «2» ، وشغل توقّع اللّئيم عن توقيع القلم. ومنه قوله: وقد كانت ليلة الخميس بدمشق ليلة مباركة، ما غسل ظلامها إلا السّيول لولا الصباح، ولا ابتسم صباحها إلا وقد كادت تبتسم الجبال والبطاح. ومنه قوله: وقد جار كرم يده على أموالها، وعلم الخلائق الاشتطاط في آمالها، فما يأخذ أحدهم البدرة إلّا بكسر الخاتم منها، ولا يقبل الخلعة إلّا وقد عصبت المنشور بعصبها، ولا يركب الجواد إلّا وهو بالتبر مثقل، وبالحليّ في وجهه ورجليه أغرّ محجل، ولا يقنع بالإقطاع إلّا وباطنه قلعة وظاهره رستاق، ولا بالمنشور إلا وحاصله ثمرات واسمه أوراق؛ فقد فرّ الناس من الصنائع إلا إلى اصطناعه، ومن المعايش إلا إلى انتجاعه، وهان عليهم أن يكتبوا في قرطاس ويجاوبوا بأكياس، ووقفوا على التّراب فلحقوا بالسحاب، وغمر الجود كل دينار، حتى توارى دينار

الشمس بالحجاب. ومنه قوله إلى العماد الأصفهاني «1» : كانت كتب المجلس- لا غيّر الله ما به من نعمه، ولا قطع منه موادّ فضله وكرمه، ولا عدمت الدّنيا خطّ قلمه وخطو قدمه، وأعاذها الله بنعمه وجوده من شقوة عدمه- تأخرت، وشق عليّ تأخرّها، وتغيرت عليّ عوائدها، والله يعيذ مما يغيرها، ثم جاءت كما جاء بيت ابن حجاج «2» : [مجزوء الرمل] غاب ساعات ووافا ... ني على ما كنت أعهد وأجبته ببيت الرضيّ «3» : [الرمل] ومتى يدن النّوى بهم ... يجدوا قلبي كما عهدوا كتابة لا ينبغي ملكها إلا لخاطره السّليماني، وفيضا لا يصدر إلا عن نوح قلمه الطّوفاني، أوجبت على كلّ بليغ أن يتلو وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَ «4» . وبالجملة فالواجب على كلّ عاقل أن لا يتعاطى مالم يعطه، وأن يدخل باب مجلس سيدنا ويقول: حطّة؛ فأما ما أفاض فيه من سكون الأحوال بتلك البلاغة، فقد كدت أسكر «5» بها بما استخرجته، من المحاسن التي لو أن الزّمان الأصم

يسمع لأسمعته، ولو أنّ الحظّ الأشمّ يخضع لأخضعته؛ وبالجملة فإنّه لا يسبّ زمن أبقى من سيّدنا نعمة البقّية، التي مهما وجدت فالخير كلّه موجود، والمجد بحفيظته مشهود؛ وكما تيسرت راحة جسمه، فينبغي أن يقتدي به قلبه في راحته من همه؛ وأعراض الدّنيا متاع المتاعب، وقد رفع الله قدره، وإلّا فهذه الدّنيا وهدة إليها مصاب المصائب، والحال التي هو الآن عليها عاكف، من علم يدرسه، وأدب يقبسه، وحريم عقائل يذبّ عنه ويحرسه، هي خير الأحوال؛ فالواجب الشّكر لواهبها، والمسرّة بالإفضاء إلى عواقبها، وما ينقص شيء من المقسوم، وإن زاد عند المجلس فليس من حظّه، ولكن من حظّ السائل والمحروم؛ ولا يسمح المجلس بكتاب من كتبه على يد من الأيدي التي لا تؤدّي، فلا يؤمن أن تكون أناملها حروف التعدي. ومنه قوله: وقد تأملت ما تفننت في وصفه حين دعيت إلى قتل الأسير، وأن القدرة المحيطة بعنقه، والأسر السادّ لسبل القتل وطرقه، أبى لها أن تشغل به بالها، ونصّ لها أن لا تنجس بدمه نصالها، فإنّ قتل الأسير ويداه مغلولة، وحبال أذرعه محبولة، قدرة ما زالت النّفوس على استقباحها مجبولة، وما كان يؤمنها أن تشخص الأبصار نحوها، وكما نظر في الطّروس كأنها تنتظر في الطروس «1» محوها، فيكون غيظ الحسام من قلمها حاملا له على أن لا يحدّ مضاء، ولا يمضي حدا، وباعثا له على أن ينثني عن عنق الكافر مرتدا، فيورثنا معشر الكتّاب عارا يعدي عرّه، وينهي العلم ما يسوءه والسيف ما يسرّه، وينفتح باب القيل والقال، ويحتاج إلى العذر الصدئ في نبوة السيف الصقيل.

ومنه قوله: وكان ينتحي لقافية الثاء المثلثة التي خضعت لأمره، وسخرت لفكره، وخفضت جناحها، وتركت جماحها، ورقت رقة الراء، وأعطته القياد الذي منعت من الكتّاب والشّعراء، وهذا ملك البلاغة السّليمانيّ؛ وهذا القلم سيد النصر اليماني، وهذا المعجز وأنا أول المؤمنين، وهذا السحر البياني وإن لم يكن السحر المبين؛ وما تصورت أن الثاء تهون هذا الهوان، ولا تنقاد في الكلم إلا أن يكون قلمه العنان، فقد صارت عروسا ونقّطها نقوط العرائس، ووجبت جنوبها، فلا جرم أنه مثل قوله: فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ «1» وقد صرنا نبدل السين بها بغير لثغة، ونقدر على استعمالها بلاغة، وما كنا نقدر على استعمالها إلا بلغة. ومنه قوله: وذكر الله ذلك العهد بخير ما ذكرت به العهود، ولعن الله الفرنج المخندقين، وقتل أصحاب الأخدود، فقد قطعوا طرقات المسار، وأطالوا عمر البيكار «2» ، وسكبت نار مقاساتهم الدّينار، فعجل الله إعلام الكافر لمن عقبى الدار «3» . ومنه قوله، وكتب [إلى] ابن الزّكي «4» : كان كتابي تقدم إلى المجلس السامي- أدام الله نفاذ أمره، وعلو قدره، وراحة سرّه؛ ونعّمه ويسّره، وأجراه على أفضل ما عوّده، وأسعد جده وأصعده،

وأحضره أمثال العام المستقبل وأشهده، ولا زال يلبس الأيام ويخلعها، ويستقبل الأهلة ويودعها، وهو محروس في دنياه ودينه، مستلئم من نوب الدّهر بدرع يقينه؛ وأعماله مقبولة، ودعواته على ظهر الغمام محمولة، والدّنيا ترعاه وهو يأبى رعيها، والآخرة تدّخر له وهو يسعى لها سعيها- من أيدي عدة من المسافرين، ولثقتي بهم ما قيدت أسماءهم ولضيق صدري بتأخير كتب المجلس ما حفظت ما جاء منه. وما كأنّا إلا دعونا الله سبحانه دعوة الأولين أن يباعد بين أسفارنا «1» ، وأردنا أن يقطع بيننا وبين أخبارنا، فأجيبت الدعوة، ولا أقول لسابق الشقوة، بل للاحق الحظوة، فبان بأن مكابدة الأشواق إلى الأبرار، تسوق إلى الجنة ولا تسوق إلى النّار؛ وأقسم أنني بالاجتماع به في تلك الدار أبهج منّي بالاجتماع به لو أتيح في هذه الدار؛ فعليه وعليّ من العمل ما يجمع هنالك سلك الشمل ويصل جديد الحبل، فثم لا يلقي العصا «2» إلا من ألقى ها هنا العصيان، وهنالك لا تقر العين إلا لمن سهرت منه ها هنا العينان، ولا وجه يجمع اسمي مع اسمه في هذه الوصية، مع علمي بسوء تقصيري، وخوفي من سوء مصيري، ولكن ليزيد سيدنا في وظائفه وعوارفه، فلعل فعله تفضل من فضله، مما يخلصني بقربه؛ فإنني أستحقّ شفاعته لشفعة جوار قلبي لقلبه، والخواطر في هذا الوقت منقبضة، والشواغل لها معترضة، وأيام العمر في غير ما يقرض من الدنيا والآخرة «3» منقرضة؛ ومتجدد نوبة بيروت قد عمت كلّ قلب، وهاجت

للمسلمين أشواقا إلى الملك الناصر، وذكرى بما ينفعه الله به من كل ذاكر، وأخذ الناس في الترحّم على أول هذا البيت، والدعاء للحاضر والآخر، وليس إن شاء الله بآخر. ومنه: وسيدنا يتوصى بالدار بدمشق، فقد خلت، وإنما الناس نفوس الديار، وسيدنا يحسن في كل قضية من بعد، كما أحسن من قبل، فهو الذي جعل بيني وبين الشام نسبا، وأنشبني فيه إلى أن ادخرت عقارا ونشبا، فعليه أن يرعاه ما أقناه، وينفي الشوك عن طريق اليد إلى جناه، والجار إلى هذا التاريخ ما اندفع جوره، ولا أدرك غوره، يعد لسانه ما تخلف يده، ويدّعي يومه بما يكذبه فيه غده، وأنا على انتظار عواقب الجائرين، وقد عرف الغيظ منّي، وألفاظ مجهولة ما كنت أشتهي أن أعرفها، وكشف مستور من أسباب الحرج ما يسوى أن أكشفها، لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ «1» وأسوأ خلقا من السّيّء الخلق من أحوجه إلى سوء الخلق، وما ذكرت هذا ليذكر، ولا طويت عليه الكتاب لينشر، والسّرّ عند سيدنا ميت، وهو يقضي حقّه بأن يقبر. ومنه قوله: ولما تأملت الكتاب الأزرق، طاعنت به الخواطر التي كنت صريع طعانها، وعقير أقرانها، ومما دلّني على الصحة نشاط الخاطر العماديّ لقافية العين، التي اطردت له متونها، وتفتحت لقلمه عيونها، واقتضى الدّعاء بأن يقرّ الله العين في يده، كما أجراها على لسانه، فتجتمع له البلاغة والغنى، وتتوفر الأولى عليه وتكون الثانية قسمة ما بيننا.

ومنه قوله: والكتب من جهتها مرتقبة لذاتها، لا لما فيها من طارئات الأحوال ومتجدداتها، ويكفي خبر صحته من الأخبار، فلينعم الماء بإطفاء النّار. ومنه قوله: ووافى الأسطول الميمون في خمسين غرابا «1» ، طائرا من القلوع بأجنحته، كاسرا بمخالب أسلحته، فما وافى شملا إلا دعاه إلى الحين، وحقق ما يعزى إلى الغراب من البين. ومنه قوله: وكتبت هذه الخدمة ليلا، والخاطر كالناظر كلاهما مشتمل بالظلام شعارا ودثارا، والخطرات كالأنّجم في ليلة الأسى، إن رامت الطريق فحيارى، أو رامت المسير فأسارى. ومنه قوله: إلى أن طوى اللّيل ملاءته، ومدّ عليهم كلاءته، فإنه دعيّ مأمنه، وبينهم من مناسبة صحائفهم لسواده، ولأن الليل يدعى كافرا فقد خبّأهم في فؤاده، وخاف العدوّ تصريف العنان، فكأنما في يده منه صلّ لادغ، ورأى السيف وماء الموت يترقرق منه، فروي دلاء من إناء فارغ. ومنه قوله: فأمّا هذه الدّنيا فإنها دار الأكدار، ومثار العثار، لا تسمح بمودّة صاحب إلا

لتعرف قدر فراقه، ولا تفسح في حبل لقاء خليل إلا لتجعله عدّة لخناقه. ومنه قوله: فقلت لصاحبي نجواي: خذا في عرض محاسنه عليّ، لعلّي آخذ منها؛ فقالا: وما الفائدة إذا عجزت في الصلة عن أن تعيد عليه ألفاظه العائدة؟ فقلت: ليعلم أن كل خير عندي من عنده، وأسأله الصفح عن تقصير بلاغتي عن بلوغ حدّه، وأسره بتقصيري عن مداه وإن كان هذا عهدي بودّه؛ فقالا: أرسل نفسك على سجيتها، وتعرض لنفحات صديقك، فما يبخل عليك بيلنجوجيّتها؛ فقلت: نعم على تفيهقكما في النّسبة إلى اليلنجوج «1» ، وعلى كون حروف هجائها أطول من عوج «2» . ومنه قوله «3» : الخادم يخدم وينهي وصول كتاب كريم، تفجرت فيه ينابيع البلاغة، وتبرعت بالحكم أيدي البراعة، وجاد منه بسماء مزينة بزينة الكواكب، وهطل منها لأوليائه كلّ صوب، ولأعدائه كلّ شهاب واصب، وتجلّى فما الغيد الكواعب، وما العقود في التّرائب، وتفرق عنه جيش الهمّ، فانظر ما تفعل الكتب في الكتائب؛ وما ورد إلا والقلب إلى مورده شديد الظّما، وما كحّل به إلّا ناظره الذي عشي عن الهدى وقرب من العمى؛ وما نار إبراهيم بأعظم من نوره، ولا سروره صلى الله عليه حين نجا بأعظم في يوم وصوله من سروره؛ فحيّا الله هذه اليد الكريمة التي تنهلّ بالأنواء، وتحرك سوابغ النعماء، وتعطى أفضل

عطاء، يسرّها في القيامة، وتحوز به أفضل أنواع الكرامة؛ فأما شوقه لعبده، فالمولى أبقاه الله قد أوتي فصاحة لسان، وسحب ذيل العيّ على سحبان، ولو أنّ للخادم لسان موات، وقلبا «1» يقال له: هيهات؛ لقال ما عنده، وادّكر عهده ووده، وباح بأشواقه، وأذاع الرمز عند اعتناقه. وأما تفضّله بكذا، فالخادم لا يقوم بشكره، ولا يبطله حقّ قدره، وقد أحال مكافأة المجلس على مليّ قادر، ومسرّة خاطره عليه يوم تبلى السرائر؛ والله تعالى يصله برزق سنيّ يملأ إناه، ويوضح له هداه، ولا يخلي المجلس من جميل عوائده، ويمنحه أفضل وأجزل فوائده، إن شاء الله تعالى. ومنه قوله «2» : وفي الحال أطافت المقاتلة من جميع أقطاره، ولبّوا تلبية الحجيج، وكلّ من جمرة سهمه كرامي جماره، وعبرت الآجال المسماة سهاما على قناطر القسيّ المحنية، وقدحت زنودها البيض شرار جمر المنية، فصارت الأبرجة مستلئمة بسلاحها، أو كأنها بكثرة ريش السهام طائرة بجناحها، أو كأنها صدور أظهرت حسك الضغائن، أو كأنها لازدحام السّهام بها كنائن؛ إلى أن سرى داء النّقوب إلى المقاتل، ودبّ سكرها بين المفاصل، ورتب الجدران قائمة، والبلاء سائر في أعقابها، متجلدة والنار تحت بنائها، غرّارة بألحاظها، والقبح حشو نقابها؛ فلمّا كان وقت الظّهر ظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كارِهُونَ «3» ، ووقعت القلعة، فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ «4» ، وتحصّنوا من نيران القضب بنيران الحطب، وقطعوا

بين المسلمين وبينهم بطوفان نار كانت القلعة سفينة إلا أنها لا سفينة نجاة بل سفينة عطب، والفرنج الملاعين من وردها عاجلا وإن منهم إلا واردها، وأقحم نفسه فيها فأحاطت بعنقه مقاودها، وبات الناس مطيفين بالحصن والنّار بهم مطيفة وعليه مشتملة، وعذبات ألسنتها «1» على وجهه منسدلة، ومن خلفه مسبلة، ولفحاتها جهنمية وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ «2» ؛ والبلاء؛ ينادي طبرية بلسان مصابها: إيّاك أعني واسمعي يا جارة» ؛ فولجت النّار موالج تضيق عنها الفكر، وتعجز عنها الإبر، وقال الكفر: إنها لإحدى الكبر، وخولف المثل في أنّ السعادة لتلحظ الحجر «4» ، وأغنى ضوء نهاره أن يسأل معه هذا وذا ما الخبر، إلى أن بدا الصّباح وكأنه امتار منها الأنوار، وانشق الشرق وكأنه من عصفرها صبغ الإزار، فيحنئذ تقدم الخادم فأقلع بيده الأحجار من أسها، ومحا حروف البنيان من طرسها، وأدار فيها كأس المنون دهاقا، وحلّ الرءوس ضربا، وشدّ الأعناق وثاقا. ومنه قوله: حوشي مجلس سيدنا، ولا زال من كل مكروه محاشى، ودامت الصحة تنشر له علما وتطوي فراشا، وجعل الله ليل الدّنيا بأمنه لباسا ونهارها معاشا، من مرض يمسّه، ومن ألم يحسّه ومن أن يتكدّر من العافية أنسه، وحرس الله نفسه على الإسلام، فإنه نفسه.

ومنه قوله: فلو رأيت أطناب الخيم في أعناق الأسارى يساقون بها مقرنين، لحمدت الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ «1» ولقد شابت خضاب العجاج ما أرسلته رايات الأبرجة من ذوائب مفرقها، وأسلمت وجهها لله وقطعت ذمار خندقها. ومن مكاتباته يتشوق إلى إخوانه وأودّائه ومحبيه وأوليائه: ومنه قوله: فأنجدوا المسلمين يا حملة سلاح الصّلاح، وابعثوا سرايا دعواتكم فإنّا ننتظر غبّ سراها الصباح؛ فأنتم في وكر قبلتنا، فلتهن أدعيتكم خفة الجناح. ومنه قوله: فلولا سدّ سدّته الكريمة لا نفتح على الإسلام ما انفتح من سدّ مأرب، ولولا سيفه لما وجد بعد العصا الكليمية سيف مثلها فيه مأرب، وانتظر فرصة انتهزها في بابه، فما ازدادت الأحوال إلّا ضائقة، ولا العذر إلا اتّساعا؛ والله المستعان. ومنه قوله: وقد علم الله خدمتي للبيتين الشّريفين- بيت الله بما يعود عليه بالعمارة، وبيت النّبوّة صلوات الله على أهله بما يبقي في عقبه كلمة الإمارة- بمنى نفسه ما دونه جزّ النواصي بل حزّ الغلاصم؛ يروم أن يرتضع أخلاف الخلاف، والله له عن آل الفواطم فاطم؛ فنهض لآل رسول الله كلّ بعيد وقريب، ونصر لواء حمده حتى

الصليب، وقوبل عدوه بعدو وحسم داء ومستغيث عجيب، وحينئذ اندفع شير كوه ميمما صعيدا طيبا، وكيف لا يتيمم من عدم الماء قاصدا للقبلة ولن يدار إليها إلا من فارق الدماء. ومنه قوله: ووقف المملوك على الأبيات النونية التي فتنته فتونا، وزخرت بحرا فصادف منه قافية النون نونا، وأشرقت عليه أبياتها أقمارا، صار القمر لحسدها عرجونا. ومنه قوله: وحين وقف عليها وقف لها، وحين فتحها ارتج أبواب الهموم وأقفلها وتأملها، ونظر من غرائب الحسنات ما تم بها وما تم لها، فإذا فصل كنعيم أهل الجنة كلما نفد جدد، وكنفس أهل الحياة يلذّ كلما ردد؛ وسيدنا كان لسانه يده في جماح السماح، وكان لسانه في إيراد قرائح الاقتراح، كل عذب قراح. كتب إلى بعضهم «1» «2» : [الطويل] أأحبابنا هل تسمعون على النوى ... تحية عان أو شكية عاتب ولو حملت ريح الشمال إليكم ... كلاما طلبنا مثله في الجنائب أصدر العبد هذه الخدمة، وعنده شوق يغور به وينجد [ويستغيث] من ناره بماء الدمع فيجيب وينجد، ويتعلل بالنسيم فيغري ناره بالإحراق، ويرفع النواظر إلى السلوان فيعيدها الوجد في قبضة الإطراق، أسفا على زمن تصرم، ولم يبق

إلا وجدا تضرم، وقلبا من يد البين المشتّ تظلّم «1» : [الوافر] ليالي نحن في غفلات عين ... كأن الدهر عنا في وثاق وما تنفس خادمه نفسا إلا وصله بذكره، ولا أجرى كلاما إلا قيده بشكره، ولا سار بقفر إلا شبهه برحيب صدره، ولا أطل على جبل إلا احتقره بعلي قدره، ولا مرّ بروضة إلا خالها تفتحت أزهارها عن كريم خلقه ونسيم عطره، ولا أوقد المصطلون نارا إلا ظنهم اقتبسوها من جمره، ولا نزل على نهر إلا كاثر دمعه ببحره «2» : [الطويل] سقى الله تلك الدار عودة أهلها ... فذلك أجرى من سحاب وقطره «3» لئن جمع الدهر المشتت شمله ... فما بعدها ذنب يعد لدهره فكيف ترى أشواقه بعد عامه ... إذا كان هذا شوقه بعد شهره بعيد قريب منكم بضميره ... يراكم إذا مالم يزركم بفكره ترحل عنكم جسمه دون قلبه ... وفارقكم في جهره دون سرّه إذا ما خلت منكم مجالس وده ... فقد عمرت منكم مجالس شكره فيا ليل لا تجلب عليه بظلمة ... وطلعة بدر الدين طلعة بدره ونسأل الله تعالى أن يمن بقربه، ورحاب الآمال فسائح، وركاب الهموم طلائح، والزمن المناظر بالقرب مسامح، هنالك تطلق أعنة الآمال الحوابس، ويهتز مخضرا من الشعور عود يابس «4» : [الطويل]

وما أنا من أن يجمع الله شملنا ... بأحسن ما كنا عليه بآيس وقد كان الواجب تقديم عتبه، على تأخير كتبه، ولكنه خاف أن يجني ذنبا عظيما، ويؤلم قلبا عليه كريما «1» : [الطويل] ولست براض من خليل بنائل ... قليل ولا راض له بقليل وحاشى خلاله من الإخلال بعهود الوفاء، ومن انحلال عقود الصفاء، وما عهدت عزمة الهوى في حلبة «2» الشوق إلا من الضعفاء، وحاشية خلقه، إلا أرق من مدامع غرماء الجفاء «3» : [الكامل] من لم يبت والبين يصدع قلبه ... لم يدر كيف تقلقل الأحشاء ومنه قوله في مثل ذلك «4» : كتب مملوك المولى عن شوق قدح الدمع من الجفون شرارا، وأجرى من سيل الماء نارا، واستطال واستطار فما توارى أوارا، ووجد على تذكر الأيام التي ذهبت قصارا، والليالي التي طابت فكأنما خلقت جميعا أسحارا «5» : [الطويل] وبي غمرة للشوق من بعد غمرة ... أخوض بها ماء الجفون غمارا وما هي إلا سكرة بعد سكرة ... إذا هي زالت لا تزول خمارا رحلتم وصبري والشباب وموطني ... لقد رحلت أحبابنا تتبارى ومن لم تصافح عينه نور شمسه ... فليس يرى حتى يراه نهارا

سقى الله أرض الغوطتين مدامعي ... وحسبك سحبا قد بعثت غزارا وما خدعتني مصر عن طيب دارها ... ولا عوضتني بعد جاري جارا أدار الصبا لا مثل ربعك مربع ... أرى غيرك الربع الأنيس قفارا فما اعتضت أهلا بعد أهلك جيرة ... ولا خلت دار الملك بعدك دارا وما ضرّ اليد الكريمة التي أياديها بيض في ظلمات الأيام، وأفعالها لا تقوم بمدحها إلا ألسنة الأسنة والأقلام، لو قامت للمودة بشرطها، وأمضت خط الأسى بخطها، وكتبت ولو شطر سطر ففرغت قلبا من الهم مشحونا، وأطلقت طرفا في فضاء الاقتضاء مسجونا، ونزهت ناظر المملوك في رياض مشهورة الحلى، وجلت غمومه بمكارم مأثورة العلى «1» : [الطويل] وما كنت أرضى من علاك بذا الجفا ... ولكنه من غاب غاب نصيبه ولو غيركم يرمي الفؤاد بسهمه ... لما كان ممن قد أصاب يصيبه ولمملوكه مذ حطت بمصر أثقاله، وجهز الشام رحاله، وألقت النوى عصاها، وحلت الأوبة عراها، يكتب فلا يجاب، ويستكشف الهم بالجواب فلا ينجاب «2» : [الكامل] يا غائبا بلقائه وكتابه ... هل يرتجى من غيبتيك إياب وما يصفي الله ورد الحياة من التكدير، ويحقق بلقائه أحسن التقدير وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ «3» «4» : [الخفيف]

وزمان مضى فما عرف الأو ... ول إلا بما جناه الأخير أين أيامنا بظلك والشم ... ل جميع والعيش غض نضير وحوشي المولى أن يكون عونا على قلبه، وأن يرحل إثره الذي مذ سار سرّ به، وأن ينسيه بأغباب الكتب ساعات قربه، وأن يحوجه إلى إطلاق لسانه بما يصون السمع الكريم عنه من عتبه؛ الأخ فلان مخصوص بسلام كما تفتحت عن الورد كمائمه، وكما توضحت عن الفكر غمائمه: [الطويل] إذا سار في ترب تعرّف [تر] بها ... برياه والتفت عليه لطائمه وقد تبع الخلق الكريم في الإغباب والجفوة، وأعدت عزائمه قلبا فاستويا في الغلظة والقسوة «1» : [من مجزوء الكامل] إن كنت أنت مفارقي ... من أين لي في الناس أسوه وهب أن المولى اشتغل- لا زال شغله بمساره، وزمنه مقصور على أوطاره- فما الذي شغله عن خليله، وأغفله عن تدارك غليله؟ هذا وعلائقه قد تقطعت، وعوائقه قد ارتفعت، وروضة هواه قد صارت بعد الغضارة هشيما، وعهوده عادت بعد الغضاضة رميما «2» : [الخفيف] إن عهدا لو تعلمان ذميما ... أن تناما عن مقلتي أو تنيما وما أولى المولى أن يواصل بكتبه عبده، ويجعل ذكره عقده، ولا يقصيه ويألف بعده، ويستبدل غيره بعده.

ومنه قوله [في] ذلك أيضا «1» «2» : [مجزوء الخفيف] أكذا كلّ غائب ... غاب عمّن يحبّه غاب عنه بشخصه ... وسلا عنه قلبه لو أن لي يدا تكتب، أو لسانا يسهب، أو خاطرا يستملّ، أو فؤادا يستدلّ، لو صفت إليه شوقا إن استمسك بالجفون نثر عقدها، أو نزل بالجوانح أسعر وقدها؛ أو تنفس مشتاق أعان على نفسه، وظنّه استعارة من قبسه، أو ذكر محبّ حبيبا خطر في خلده، وتفادى أن يخطر به ذكر جلده «3» : [البسيط] حتّى كأنّ حبيبا قبل فرقته ... لا عن أحبّته ينأى ولا بلده بالله لا ترحموا قلبي وإن بلغت ... به الهموم فهذا ما جنى بيده ولولا رجاؤه أن أوقات الفراق سحابة صيف تقشعها الرّياح «4» ، وزيارة طيف يخلعها الصّباح، لاستطار فؤاده كمدا، ولم يجد ليوم موعده غدا، ولكنّه يتعلّل بميعاد لقياه، ويدافع ما أعلّه بلعلّه وعساه «5» : [الطويل] غنى في يد الأحلام لا أستفيده ... ودين على الأيّام لا أتقاضاه ومن غرائب هذه الفرقة، وعوارض هذه الشّقة، أن مولانا قد بخل بكتابه، وهو الذي يداوي به أخوه غليل اكتئابه، ويستعدي به على طارق الهمّ إذ لجّ في انتيابه «6» : [المنسرح]

كمثل يعقوب ضلّ يوسفه ... فاعتاض عنه بشمّ أثوابه وهب أن فلانا عاقه عن الكتب عائق، واختدع ناظره كمن هو كناظره عيش رائق، فما الذي عرض لمولاي حتّى صار جوهر ودّه عرضا، وجعل قلبي لسهام إعراضه غرضا؟ «1» : [البسيط] بي منه ما لو بدا بالشّمس ما طلعت ... من الكآبة أو بالبرق ما ومضا وما عهدته أدام الله سعادته إلّا وقد استراحت عواذله، وعرّي به أفراس الصّبا ورواحله «2» ، إلا أن يكون قد عاد إلى ذلك اللّجج، ومرض قلبه وما على المريض من حرج؛ وأيّ ما كان ففي فؤادي إليه سريرة شوق لا أذيعها ولا أضيعها، ونفسي أسيرة غلّة لا أطيقها بل أطيعها «3» : [الطويل] وإنّي لمشتاق إليك وعاتب ... عليك ولكن عتبة لا أذيعها الأخ النّظام- أدام الله انتظام السّعد ببقائه، وأعداني على الوجد بلقائه- مخصوص بالتحية الأريحية؛ ووالهفا على تلك السجية السخية، وردت منها البابلي معتقا، [وظلت من أسر الهموم بلقائها معتقا] «4» : [الطويل] خلائق إمّا ماء مزن بشهده ... أغادى بها أو ماء كرم مصفّقا ومنه قوله: لو كاتبت سيّدنا بمقدار شوقي لأضجرته، ولو أغببته بمقدار ثقتي به لهجرته.

ومنه قوله: ووصف في كتابه شوقا أعانه على وصفه منه ما خذلني منّي، وأخبرني عنه وإنّما أخبرني عنّي. ومنه قوله: كتب الحضرة لو تتابعت وطالت، عندي بمنزلة المقتنص البهجة، المبتكر اللّذة، فكيف وهي لا تصل إلّا وترا، ولا تزور إلا غبّا، ولا ترخص للهائم إلّا في النّهلة، ولا تنفّس خناق المشتاق إلا بعد المهلة، وهي في أوسع العذر لأشغالها، وفي أضيقه لأشواقي، وقد نالت بأوّل كتبها كلّ المودة، فهي لا تتعب نفسها في طلب الباقي، وأين ذلك الباقي؟ وما أشبه هذه القصّة بقول جميل «1» : [الطويل] إذا نظرت قالت: ظفرت بودّه ... وما ضرّني بخلي فكيف أجود وما المراد ما يحمل فيه على الخاطر، فقد عرفت محاسنه الغرر، ولا أن يتأتّى بقدر الرّقي إلى الدراري والغوص على الدّرر؛ وعلى ذكر جميل فأحسن قوله «2» : [الطويل] وإنّي لراض منك يا بثن بالذي ... لو ايقنه الواشي لقرّت بلابله ومنه قوله في ذلك أيضا «3» : إن أخذ العبد- أطال الله بقاء المجلس وثبّت رفعته- في وصف أشواقه إلى الأيّام التي كانت قصارا، وأعادت الأيام بعدها طوالا، واللّيالي التي جمعت من

أنوار وجهه شموسا، ومن رغد العيش في داره ظلالا «1» : [الطويل] وجدت اصطباري بعدهنّ سفاهة ... وأبصرت رشدي بعدهنّ ضلالا وإن أخذ في ذكر ما ينطلق به لسانه من ولاء صريح، ويعتقل جنانه من ثناء فصيح «2» : [الطويل] تعاطى منالا لا ينال بعزمة ... وكلّ اعتزام عن مداه طليح ولكنّه يعدل عن هذين إلى الدّعاء، بأن يبقيه الله للإسلام صدرا، وفي سماء الملّة بدرا، وفي ظلمات الحوادث فجرا، وأن يجمع الشمل بمجلسه وعراص الآمال مطلولة، وسهام القرب على نحور البعد مدلولة، وعقود النّدى بيد اللقاء محلوله، وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ «3» «4» : [الطويل] فقد يجمع الله الشّتيتين بعدما ... يظنان كلّ الظّنّ أن لا تلاقيا وما رمت به النّوى مراميها، ولا سلكت به الغربة مهاويها، ولا استجد شوقه من الجفون ما فيها «5» : [الكامل] أغلت على السلوان شوقكم فما ... باعت كما أمر الغرام من اشترى ومذ فارقت تلك الغرّة البدريّة، والطلعة العزيزة، ما ظفرت بشخصه نوما، ولا بكتابه يوما، فيا عجبا حتّى ولا الطّيف طارق «6» : [من الطويل]

وأعجب له في الحرب نثر كتائب ... بكفّ أبت في السّلم نظم كتاب يحاسبني في لفظة بعد لفظة ... ومعروفه يأتي بغير حساب «1» ولو رضيت- وكلّا بأن أحمل من هذا الجفاء كلّا- لما رضي به لخلقه الرّضي، ولأخذ بقول الرضي «2» : [الطويل] هبوني أرضى في الإياس بهجركم ... أيرضى لمن يرجوه ما دون وصله ومنه قوله يتشوّق «3» : [من الطويل] فيا ربّ إنّ البين أضحت صروفه ... عليّ ومالي من معين فكن معي على قرب عذّالي وبعد أحبّتي ... وأمواه أجفاني ونيران أضلعي هذه تحيّة القلب المعذب، وسريرة الصّبر المذبذب، وظلامة عزم السّكون المكذّب، أصدرتها إلى المجلس وقد وقد في الحشا نارها، والزّفير أوارها، والدّموع شرارها، والشّوق آثارها «4» : [الكامل] لو زارني منكم خيال هاجر ... لهدته في ظلمائه أنوارها وإلى «5» الله يرغب أن يجعله بالسّلامة مكنوفا، وصرف الحدثان عن ساحته مكفوفا، ووفود الرّجاء على أرجائه عكوفا، وأن يمتع الوجود بوصفه الذي هو أشرف من كلّ وحيد موصوفا «6» : [الكامل]

من كان يشرك في علاك فإننّي ... وجّهت وجهي نحوهنّ حنيفا وقد كان ينتظر كتابا يشرّفه ويشنّفه، ويستخدمه على الأوامر ويصرّفه، ويجتني به ثمر السّرور غضّ المكاسر ويقتطفه؛ فتأخر ولم يحدث له التأخير ظنا، ولا صرفه أن يعتقد أنّ مولاه لا تحدث له الأيام بخلا بفضله ولا ضنّا «1» : [الطويل] ولو تصرف السّحب الغزار عن الثّرى ... لما انصرفت عن طبعك الشّيم الحسنى وهو ينتظر من الأمر والنّهي ما يكون عمله بحسبه، وما يثبت له عهد الخدّام بنسبه. ومنه قوله في ذلك «2» : [الطويل] ومن عجب أنّي أحنّ إليهم ... وأسأل عنهم من أرى وهم معي وتطلبهم عيني وهم في سوادها ... ويشتاقهم قلبي وهم بين أضلعي كتبت والعبرات تمحو السّطور، ويوقد ماؤها نار الصّدور، وتهتك وجدا كان تحت السّتور، وترسل من بين أضلعي نفس الموتور «3» : [الخفيف] قد ذكرنا عهودكم بعد ما طا ... لت ليال من بعدها وشهور عجبا للقلوب كيف أطاقت ... بعدكم! ما القلوب إلّا صخور وما وردت الماء إلّا وجدت له على كبدي وقدا لا بردا، ولا تعرضت لنفحات النسيم إلّا أهدى إليّ جهدا، ولا زارني طيف الخيال إلّا وجدني قطعت طريقه

سهدا، ولا خطف البارق الشّاميّ فأراه قلبي خفوقا ووقدا «1» : [المتقارب] وأيسر ما نال منّي الغلي ... ل أن لا أحسّ من الماء بردا فسقى الله داره ما شربت من الغمام؛ وأيامنا بها وبدور ليالي تلك الأيام تمام «2» : [الكامل] ذمّ المنازل بعد منزلة اللّوى ... والعيش بعد أولئك الأقوام وكان قد وصل منه كتاب كالطّيف أو أقصر زورا، وكالحبّ أو أظهر جورا، والرّبيع أو أبهر نورا، أو النّجم أو أعلى طورا، أو الماء الزّلال أو أبعد غورا؛ فنثرت عليه قبلي، وجعلت [سطوره قبلي] «3» بل قبلي، ووردت منه موردا «4» : [البسيط] أهلا به وعلى الإظماء أنشده ... لو بلّ من غللي أبللت [من] عللي «5» إلّا أنّه أبقاه الله ما عزّزه بثان، ولا آنس غربته، وإني وإياه غريبان «6» : [الطويل] وكم ظلّ أو كم بات عندي كتابه ... سمير ضميري أو جنان جناني وأرغب إليه، لا زالت الرّغبات إليه، وأسأله لا جثم السّؤال إلا لديه، أن يلاطف بكتابه قلبي، ويمثل بمثاله أيام قربي «7» : [مجزوء الكامل]

والله لولا أنني ... أرجو اللّقا لقضيت نحبي هذا وما فارقتكم ... لكنني فارقت قلبي ومنه قوله جواب كتاب ورد عليه «1» : [الطويل] شكرت لدهري جمعه الدّار مرّة ... وتلك يد عندي له لا أضيعها ورد «2» على الخادم كتاب المجلس- أعلى الله سلطانه وثبّته، وأرغم أنف عدوّه وكبته، وأصماه بسهام انتقامه وأصمته، ولا أخلى الدّنيا من وجوده، كما لم يخل أهلها من جوده، ولا عطّل سماء المجد من صعوده، كما لم يعطّل أرضها من سعوده- فقام له قائما على قدمه، وسجد في الطرس مماثلا سجود قلمه، واسترعى الله العهد على أنه تعالى قد رعى ما أودعه في ذمة كرمه، وصارت له نجران علاقة خير صرف إليها وجهه فكأنها قبلة، ودعا بني الآمال إلى اعتقاد فضل مالكها، فكأنما يدعوهم إلى ملّة؛ والله يوزعه شكر هذا الافتقاد على البعاد، ولا يخليه من هذا الرأي الجميل الذي هو عقد الاعتقاد. ومنه قوله «3» : ورد كتاب [المجلس] ووقفت منه على ما لا يجد الشّكر عنه محيدا، وآنست به القلب الذي كان وحيدا، وعددت يوم وصوله السعيد عيدا، ووردت منه بئرا معطلة، وحللت قصرا مشيدا، ولا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها ، وتلك الغاية ليست في وسعي، ولا تعلم نفس إلّا ما طرق سمعها، وتلك المحاسن ما طرق مثلها سمعي، وهذه الأوابد الأباعد ما طالها ذراعي، ولا استقلّ بها ذرعي.

ومنه قوله «1» : المملوك يقبّل التّراب الذي يوما يستفزّ بحوافز سيله، ويوما يستقرّ بحوافر خيله؛ فلا زال في يوم السيل «2» جوده سحابا صائبا، وفي يوم الحرب شهابا ثاقبا، وينهي أنّه وردت عليه المكاتبة، التي استيقظت بها آماله من وسنها، وأفادته معنى من الجنة، فإنّه أذهبت ما بالنفس من حزنها؛ وتلقّى المملوك قبلتها بالسّجود والتّقبيل، وتحلّى بعقود سطورها فهيهات بعد هذا شكوى التّعطيل، واكتحل من داء السّهد بإثمدها، وأدار على الأيام كأس مرقدها، وأسمعته نغم النّعم التي هي أعجب إلى النفس من نغمات معبدها «3» ، وأطالت الوقوف عليها بركاب طرفه، فما وقوف ركاب طرفة ببرقة ثهمدها «4» ، وضرع إلى من يشفغ وسائل المتضرعين، ويملأ مواقع آمال المتوقعين، أن يغلّ عنه كل يد للخطوب بسيطة، ويفكّ به كل رقبة للأيام بأعناق منها محيطة «5» . ومنه قوله: وصل كتاب الحضرة السامية- لا زالت رياض نباتها متفاوحة، وخطرات الرّدى دونها متنازحة، والبركات إلى جنابها متوالية، واللّيالي بإبراز سعادتها متلالية، والأيّام الجافية عن بقية الفصل منها متجافية، تنحر إليها المكرمات إذا لم

تكن لها فئة- فأنشده ضالة هوى كانت سدى، ورفع له نارا موسوية، سمع عندها الخطاب، وأنس الخير، ووجد الهدى، وكانت نار العليل في فؤاده بخلاف نار الخليل، فإنّها لا تقبل ندى الأجفان بأن يكون بردا وسلاما، ولا يرى إلّا أضرى ما يكون ضراما؛ وشهد الله لقد كان العبد حصر القول نشوزا، منذ فارقها على تلك الصفة، فلا هو قضى من حقها فرائض لزمت، والله وتعينت، ولا الضرورة في مقامها بحيث تبلغه الشّهادة أذنت، ولا الأيام بالبعد ما أساءت، فإنّها بالقرب ما أحسنت «1» : [الطويل] وإنّ امرءا يبقى على ذا فؤاده ... ويخبر عنه إنّه لصبور ونعود إلى ذكر الكتاب الكريم، فإنه سجد لمحرابه وسلّم، وحسنت سطوره فحسبها مباسم تتبسّم، ووقف عليه ووقف المحبّ على الطلل وكلمه ولا يتكلم، وهطل جفنه وقد كان جمادى، وتصفحه وقد كان على تصفّحه المحرم، وجدد له صبابة لا يصحبها أمل، وخاف أن لا يدرك الهيجا حمل «2» ، وقال الكتاب «3» : [البسيط] إنّا محيّوك فاسلم أيّها الطّلل ... [وإن بليت، وإن طالت بك الطّيل] وأنشد نيابة عنها «4» : [الطويل] وإنّ بلادا ما احتلت بي لعاطل ... وإنّ زمانا ما وفى لي لخوّان

والله المسؤول لها في عاقبة حميدة، وبقية من العمر مديدة، فإنّها الآن نوح أهل الأدب، وطوفانها العلم الذي في صدرها؛ ولا غرو إن بلغ عمره مدّة عمرها، على أنّه يتحقق خلودها في الجنة بعملها، وفي الدنيا بذكرها، وإن الدارين تتغايران على عقائل فخرها، ولا يتأخران عن إجرائها على عادتها في رفع قدرها، وعلى أنها طالما أقامت على الدّنيا السّكرى، حين أقامت في حدّها من العمر الثّمانين، وأدّبت الأيام بسلاح الحرب من سيفها وسلاح السّلم من قلمها تأديب الخائنين، وما حملت العصا بعد السيف حتّى ألقت إليها السلم، فوضعت الحرب أوزارها، وما استقلت بآية موسى إلّا لتعجز بها أنهار الخواطر وتضرب بحارها، وما هي إلّا رمح وكفى بيدها سنانا، وما هي إلّا جواد تجنب السّنين خلفها فتكون أناملها لها عنانا. وقوله: ولعله الآن قد عوفي من الأمرين، وقرّت بوجهه العين، وجدّد عهده بنظره، وقرّب عليه لسانه إسناد خبره، وبلّت منه غلة الحائم، ورأت منه هلال الصائم، وطالعها وجه الزمان المغضب بصفحة الباسم، ووفى مواعيد الأنس منه الضّامن الغارم؛ وهو يسلم عليه تسليم الندى على ورق الورد، ويستمدّ الوفاء من غرس ذلك العهد، ولكتاب الحضرة العالية من الخادم، موضع الطوق من الحمام، يتقلده فلا يخلع، ويعجبه فلا يكاد يسجع، ويحكيه طوقا على الأسى، إلا أنه بدرّ الدّمع يرصع؛ وإذا أنعم به فليكن مع ثقة، ويخشى أن يكون هذا الشرط له قاطعا، بل مع من اتفق فإنه كالمسك، لا يدعه العرف الضّائع أن يكون ضائعا «1» : [الكامل] أكتبه يكتب لي أمانا ماضيا ... وابعثه يبعث لي زمانا راجيا

إن أشتريه بمهجتي فقليلة ... فاسمح به فمتى عرفتك مانعا ومنه قوله: وقف الخادم على ما شرف به طبعه، وشنف به سمعه، وضيق سعة ذرعه، من العتاب الذي خفض له الجناح، واستعذب به الجراح، وأسر فيه بقيد أسى مستطاب لا يراد منه السراح، وقذف به في لهوات ليل لم يودّ أن يبتسم فيه الصباح؛ وقد علم الله أنه بريء من كل ما يوجب المذامّ، ويطلق ألسنة الملام، ومليء من الخدمة بما لا يغضي فيه عن حق سبقه لأحد من الخدام، وأنه لجواد يبذل جهده وما عليه أن يحلب الأيام، وأنه لمستيقظ من حقوق الخدمة إلا أن حظه من أهل الكهف لطول المنام، وما كان تأخره عن المكاتبات التي يخدم بها مجلسها، ويقتدح بها من الإجابة قبسها، إلّا الرغبة أن يكون مقترنا بحصول أمر، فما أسعفته الأقدار بمراده، ولا نجح رائد اجتهاده؛ وكتب هذه الخدمة حين أحصر على ما استيسر من الهدي، قد ركب من قديم الإخلال حدّ النهي، متبرئا من التقصير الذي ما هو منه ولا إليه، ومعوّلا في العذر الذي ما كان مخلوقا قبل خلق يديه؛ ووصل الأمير أن معظم الأنس بمقدميها الكريم، وقدما إلى بلاد صارت كظلّ رامة لا يريم، ولا يؤدّي يومه الجديد ما كان يؤدّيه أمسه القديم، وكيف ما حل أهل هذا البيت، فهم في كل بيت صدوره، وفي كل مطلع نجومه وبدوره، لا تذال أنوارهم بإشارة الأصابع، ولا تتبدل أقدارهم في مصونات المجامع: [البسيط] يحميه لألاؤه ولو ذعيّته ... عن أن يذال بمن أو ممّن الرّجل كأن الأرض بهم سماء، فإنهم طوالعها، وكأن الدّنيا بهم رياض، فإن أوجههم زهرها، وأيديهم مشارعها؛ وما يدع العبد غاية من الخدمة لهما إلّا

بلغها واعتذر، واجتهد ورأى أنه قد قصّر، لا زالت الأيام ناظمة لعقد المجد ببقاء الواسطة، ولا برحت الجنّة العلياء مصرفة بأيديهم الباسطة. ومنه قوله: سطّر هذه الخدمة- ثبّت الله قواعد مجده وأرساها، ولا ابتزّ أفنيته حلالها من السّعود وكساها، وقرن بالسّكون والأنوار مصبحها وممساها- في ساعة رحيل قد غرّد حاديه، وسال شطّ واديه، وكان يؤمل اجتماعا يغنيه عن تحمّل منن الأقلام وصنائعها، ويدينه من مشافهة الأنوار التي إلى اليوم ما تناست العيون فضل ودائعها، فأحصرته الأنوار دون منسكه، وعثرته الأيام بذيل العجز في مسلكه، وعزّت جناحه بما لم يستقلّ مجاذبته من شركه، فسارت الراية النّاصرية نصرها الله «1» : [الكامل] وأقمت بعد، وللزّمان عجائب ... منها ترحّل مهجتي ومقامي ويعزّ عليه أن لا يتطوّف بربعه، ولا يرى الدّيار إلّا بسمعه، ورضي بما يرضى الرضى من ساكني سلعه. ومنه قوله: وصل إلى خادم المجلس- لا زال جفن الدّهر عنه كليلا، ولا برح مجده فوق مفرقه إكليلا، ورأيه في غياهب الأمور فجرا ساطعا، وفي مفاصل الخطوب سيفا قاطعا، وشعاع صوابه في ظلام المشكلات شائعا- كتاب منه فكّ منه قفل النفس من أسرها، وحاز لها الأماني بأسرها، وتغلغل لطفا في القلوب إلى حيث مستقرّ المستودع من سرها، وجدد له لهفا لولا التماسك لهفا قلبه بأدنى أنفاسه، وتدرّع

من سهام الدهر به ولا غرو أن يدّخر لباسه لبأسه. وأما الكتب المنعم بها على يد فلان فلم يصل شيء منها، والطرف بها معقود، والقلب إلى حيث ورودها مورود؛ ولا شبهة في أنّ الطريق كالخواطر- وما يعني إلا خواطر نفسه- مربوطة لا تنفد مسالكها، وكم طالع فكرة مظلمة لا تنجلي حوالكها، وهو من كتب المجلس- أدام الله نعمته- بين روضة قد تلاحقت غرر محاسنها، وتناسقت درر معادنها، فمن نورة في كمام، وزهرة في نظام، وثمرة في تمام، ونضرة في ضحى وعبقة في ظلام، فهو من واصلة ومتواصلة، وواقعة ومتواقعة، وطالعة ومتطلّعة، ويانعة ومتنوعة، لا خلت من صوب سحاب خاطره الرّوى يروضها ويروّضها، ويرفع مياسم الجدوب ويقضّها ويقوّضها، وما يحسب الخادم أن هذا الكتاب إلّا مساوقا لوصول الرّكاب الناصريّ إلى الشّام، فهنيئا له أن زاره السحاب الطبق والربيع الطلق، وأن أضاء بمحضره فجّ وأظلمت بمغيبه فجاج، وأن خمدت للمخافة نار واتقد للأمنة سراج وهاج، ومصر وإن كانت دارا، ما خرج عنها من الشام إلّا إلى دهليزها، فإنه عزيز عليها- والله- وعلى أهلها فراق عزيزها. وأما حال الخادم بعد فرقة الرّكاب المشكور، فوالله لقد عرد قلبه من أمره ووعده، بما لم يف به لا من سلوه بل من صبره، وسار بعد ذلك القلب فما وجد منه عزيمة فيطالبه بموعد نصره، وما خالف عادة تسرعه، وأخلف عدة تبرّعه، إلا أنه كان في غير سفرة ما كان نفض غبارها، وفي إعلال فرقة ما كانت كفأت إسارها، ولا سيما بعد أن أطلعته الأربعون شرفها، ونصبته الخمسون هدفها، فأنكر تلك التي كان عرفها، وفارق عصر شبيبته وما وجد في المشيب خلفها، ولحق أمله ببدنه وكلاهما قد أنهج، وقربته الخمسون مع معترك «1» الستين، وكلاهما

قد أزعج؛ والله المسؤول في يقظة قلب وعين، وصحبة تبيين قبل صيحة بين؛ والله المشكور إذا عشي عن المجلس عيون الأيام ولواحظها، وأفهمه إشارات الدّنيا ومواعظها، فقد أبطل بعصاه سحرها، وفضح بقلمه سرّها، وانتضاها فقطع بها ولم تقطعه، ولبسها فخلعها ولم تخلعه، وانتظم أيامها في سلك أعوامه، وغصب أهلها حتى أنوارها، وألقى الجنا على قوامها لا على قوامه، فلا زالت في عمر وريق الأفنان، وثيق الأركان، تتزوّد كلّ يوم فيما يتزود، ويشتدّ ركنها ويتأيد ولا يتأوّد. ومنه قوله رحمه الله: أدام الله أيام المجلس، وأيده في كلّ مقام ومقال، ووسع له كل مجال ومنال، وأنفذ له كل رسم ومثال، وحرس عهود سعوده من الانتقال والملال، ولا زال مفيد الفوائد، معروف العوارف، منصور الأنصار، ظليل الظّلال، ورفع علمه، وثبت قدمه، ونصر سيفه وقلمه، وكرم شيمه وهممه، وعزز موارد جوده وديمه، وأعدى بها كلّ وليّ على الدّهر إذا ظلمه. ورد كتاب مولانا الذي هو مولى الكتب وسيدّها وأوحدها، ومورده على القلوب منهلها العذب وموردها، وفيه من الإنعام مالا سبيل إلى شكره، بل إلى شكره، بلسان ذكره، وما لا يقوم الخادم بواجب حقّ بشره إلى يوم نشره؛ وكان وصول الكتاب الكريم، والخادم على قلق لتأخّر الكتب وإبطائها، وشذوذ التّرسّل وتواني خواطر استدعائها، وقد قابل تأخّر الكتب المظفرية تأخّر الكتب الناصرية، وتعاونت الشّواغل على الخواطر، وتواحى طيف خيال السّكون من جانبيهما لجفوة ناظر المشفق الساهر، ولا جرم أن وصولهما صبّحت به بكرة يوم لا يومين، فكأنما كانا على ميعاد، وطرقت الليلة بتوأمين بكتابيهما، فسقيا لليلة هذا الميلاد.

ووقف المملوك على ما في الكتاب المظفريّ، ولائح الأمر أنّ المولى قد قلا مصر وجفاها، وأنه خلّى الدّيار تستوحش ممن بناها: [الوافر] فإن ترك العراق وساكنيه ... فقد تمنى المليحة بالطّلاق والمولى إذا حلّ في مكان، نهضت عواثر جدوده، وطلعت طوالع سعوده، وكان بنفسه عسكرا، وبذكره عديدا مستكثرا، وجدّد من عزمه حديثا مذكّرا، ولم يحتج معه إلى جيوش في ديوان، ولا إلى سيوف في أجفان، وقام بنفسه النّفيسة مقام الفئة، وأقلق العدوّ في موطنه وحرّم عليه موطئه، والخادم خادم أغراض الخلق في هذه الدّلالة، ولسانه نائب ألسنتهم في هذه المقالة «1» : [الطويل] [فعاجوا فأثنوا بالذي أنت أهله] ... ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب ومنه قوله رحمه الله: ورد على المملوك- أدام الله ورد السّعود على الجناب الملكيّ المظفريّ، ولا زالت السّعود تصحبه، والنّوب تخدمه، والشّفاه تلثم ترابه، والسعادة تستمطر سحابه، والوفود تلتزم أبوابه، والأيام تتهيب حجابه، وتيجان الملوك تحفّ ركابه، والأقدار تقرب آرابه، والنّصر يغلب أحزابه- مواهب مولانا المسماة كتبا، وآثار سحبه التي أنبتت من الأسطر عشبا، ولحظت حظّه الحجريّ فأعجب وأعشب، وإن السعادة لتلحظ الحجر فيدعى ربّا؛ لا برحت نعمة مولانا فوق شكر الشاكرين، وكتبه راحة قلوب المنتظرين، وعقلة عيون النّاظرين، ووصل ما سيّر من الحمل إلى الخزانة على يد جامع ورفقته، في وقت الحاجة الدّاعية، والخلّة البادية، والضّرورة المتمادية، وأنفق في الحاشية والتّعدية، وفرّق في أرباب المطالب والمطامع القريبة والمتعدية، وتضاعف الشّكر لمن جمع هذا المال ووفّره، ويسّره

وسيّره، واستخدم فيه ناظره ونظره؛ وما يعدّ المملوك ما وصل إلّا موهبة صرفها إليه، ونعمة أسبغها عليه، ومنّة تقلّدها وقلد بها المنن، وصنيعة استرقّته وإن كان قد سلف استرقاقه بأوّل ثمن، فإنّه وفي بذقّة، لسانه، وبيّض وجه ضمانه، وكلّ من وصل إليه شيء من هذا البرّ شكر المولى فأكثر، وفرح بأنّ غرس الرّجاء قد أثمر، ورأى من وجوه رسله أهلة، وظنّ الإحسان عيد صيام الانتظار، فقال: الله أكبر، وتشيع سيبهم عند فيض سنيّ عطائه فتوالى فغفر؛ وبالمعروف، فلولاه لكان قد درست أعلامه، بل لولاه [لم] يعرفه، [و] لكان قد سلبت ألفه ولامه؛ وإنّ غيثا يصبح من مصر بحمص لقد أبعد مرماه، وكرم منتماه، وسما مسمّاه، وسرى طيف الخيال، ولكن إلى من لم ينم، وجرى مجرى النسيم إلا أنه ينفخ الأرواح في النسم؛ وللمملوك سبح طويل في الحمد، ولا بد أن يدخر منه ما يستأنفه عند تكملة الإنعام، على أن يشرع في الشكر عند كل مسألة، ثقة بما وراءه من الاهتمام؛ فأما العافية الشاملة لأهل الإقليم، فكيف لا تشملهم وسيف المولى الطبيب، ومهابته دون محبوب الأعداء منهم والرقيب؟ وكيف لا يأمن الغاب وهو مسبع؟ وكيف لا يتوقّى وهو مشرع؟ لا عدموا هذا الظل فإنه كثيف، وهذا الطبع فإنه شريف، وتلك الحماية فإنها الأمان، وتلك الولاية فإنها زمان لا يرجى مثله من الزمان. ومنه قوله من كتاب إلى الملك المظفّر تقيّ الدّين «1» : أصدر المملوك هذا الخدمة من ظاهر حماة، وهو ينظر إليها نظر المحبّ إلى الحبيب، ويتذكر منها أيام الخدمة التي هي وطنه، ولو نأى عنها- وهي في

فطنه- لكان كالغريب، ولولا حياء المملوك من مصر لكان بشّرها وأهلها من قربه منهما بفرجهما القريب، ولكن لا بد من عصبية لمصر، فلا نفجؤها بمشيئة الله من ذكر يوم فراقه باليوم العصيب، وآثار المولى على قلعة بلدها بمكان التيجان من الرّءوس، وذكره بين أهلها من ناسك وخليع، يفتح المصاحف ويدير الكؤوس. وكان ورود الركاب العالي الناصري نصره الله إليها في يوم كذا، أحسن الله تقضيه، والمرض قد أحسن الله في تقصيه، والشفاء قد أنعم الله به على سلطاننا وعلى من يليه، فيالها من نعمة لا عذر فيها للشكر إذا اعتذر، ويا لها موهبة منّة منّ الله بها، آمن الذي أمن بها وبهت الذي كفر، وياله صفو لا كدر فيه، وكلّ صافية لم تخل من كدر. ومنه قوله: لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ «1» فسبحانه جلّت قدرته جلّاها، وقد بلغت القلوب الحناجر، وفرّجها وقد بلغت الدّموع المحاجر، ومنّ بالسلطان على الخلق، وأقامه ليعتمّ به إن شاء الله دين الحقّ، فالمملوك يبشر مولانا- أدام الله له البشرى- بالعافية النّاصرية، وقد سار المبشّر عنّي بكتبه كما يقول المقلّل والمكثر، وقد سيّر المملوك كتابه الكريم لما فيه من زيادات، ولما تضمنه من متجددات، وعند مولانا له كتب كثيرة قد قضى منها الوطر، وقد نزه فيها النّظر، وقد وجب أن يردّ طيرها إلى وكرها، وعرائسها إلى خدرها؛ وأصدر المملوك هذه الخدمة ساعة سير السائر، كما أن المكاتبة بما قبلها قد كانت أم الكبائر؛ وغير ذلك فهو ينهي وصول كتاب مولانا، ومطالعة مولانا النّاصرية بخطّه، التي أنعم بتسييرها مفتوحة، وأفاد المملوك كلّ فائدة، بالوقوف عليها، وقد سيرّها فكان وصولها من حسن الاتّفاق، وكتابتها من سعادة

كاتبها تأتي عند العشيّ بالإشراق، لأنّ مولانا هنّأ بها عن العافية الأولى المكتوب بها، لينقطع الإرجاف، فصارت الآن هناء بعافية لا خلاف في أنها ما فيها خلاف. ومنه قوله: أدام الله سلطان الديوان العزيز، ولا زالت كتائب أعلامه تكتب أقلامه مرفهة، وأحلام وفاقه مرشدة، وأحلام أهل خلافه مسفّهة، وسيوف عزائمه تستوعب كلّ حديث حسن، فلا تبقي إلّا أحاديث عن السّيوف مموهة، والقول بتوحيد فضل خلافته لازما، فلا يقبل شبه المعطّلة ولا تعطيل المشبهة؛ وأفعالها التي يبتغى بها وجه الله باسمه الشّريف في الملكوت الأعلى منوهة، ولا زال قوله بلغا، وأمره بالغا، وفضله سائغا، وفضل الله به سابغا، والحالي بعده للعاطل فاضحا، والحقّ للباطل دامغا، وإخلاص فطرة لا يدع للكفر شيئا غابطا، ولا للنّفاق شأنا نابغا. الخادم يذكر أنه ورده، بل أورده من سدى الديوان، بل من أفق الإحسان، كتاب مرقوم، بل سحاب مركوم، أثبت في الأسماع، بل أنبت في الطباع، العقد النّقيّ، وأهدى إلى البصائر الصّادقة، بل أبدى للأبصار الرامقة، أي سابقة أنس، بل أي شارقة شمس، فأضاء الفضاء بنوره، وضرب بينه وبين الظلماء بسوره، فاستقلّت ملوك المعاني على سريره، ودخل الفهم حينه، ورفلت اللّيالي في حريره، ونقلته عينه في الحال إلى ضميره، فأنست معانيه بما هناك من عقائد اختصاص، وموارد إخلاص، مستقرّة في حيث لا تجري كلّ الأسرار، ولا تسري كلّ الأنوار، ولا تستودع إلا عقود التكليف، وخواطر التعريف، فألقت عصاها، ولقيت من أطاعها وما عصاها، وحلّت حيث حلّت، وجلّيت حيث جلّت، وانتدبت العزمات بمراجعتها، فهي المرآة إلّا أنّ الصّدأ مصدود على صفحتها،

وهي العينان، إلّا أن الليل والنهار سواء في وصف صحتها، وهي القلق، إلّا أنّ العيون دائمة الاستمتاع بلمحتها، وهي الرّوض، إلا أن أنفاس النسيم منافسة في العبارة عن غير نفحتها، وهي المذكرات الأنفس بالله، إلا أن أسطرها سلوكها، وحروفها درر صفحتها «1» ؛ ولا زال الخادم إلى مثل هذه الفقر فقيرا، وبها على نفسه بصيرا، وإذا أنعم بتسييرها إليه عدّها نعيما مقيما، وإذا ملكها رآها ملكا كبيرا، وما تردّ واردة من الدار العزيزة، وذلك أنّ المواصلة ما فرغوا إلى دار الخلافة إلى أن فرغوا، وإلا فطالما طمع أولهم كما طمعوا، وقديما دعوا إلى طاعتها فما سمعوا، وسمعوا فما انتجعوا؛ ولا يربّى الصغير إلا بما ربّي «2» عليه الكبير، ولا سبّ على جناية الأول إلا بما جناه الأخير، وقد كانت دولة العجم بالعراق استعلت ثم استفلت، وهبّت ثم وهنت، فتعبت رجال الليالي والأيام، وأولو تدبيرات السّيوف والأقلام بدار الخلافة، إلى أن صرفوا العدى عن موردها، وأبعدوا الأذى عن معهدها، واستقلّت الخلافة وحدها، ولزمت الأمور حدها؛ وإذا كانت المواصلة قد تقطعت بهم الأسباب، وأوصلهم حساب الحرب إلى العقاب، وتبرّأ الذين اتّبعوا من الذين اتّبعوا، وتفرّق الذين اجتمعوا بعد ما جمعوا، ففريق فرّ نازحا، وفريق قرّ مصالحا، وفريق على البعد راسل مستصلحا ومتطارحا، وفريق فتح بلده الذي كان التقليد له فاتحا، فلم يبق للمواصلة إلا أن يأووا إلى جبل يعصم من الماء، ويتعللوا بسراب بقيعة لا متعلل فيه للظمأ، ومعلوم أنهم إذا اختلبوا تلك الجهة، عادوا عود طائر نقّاق إلى عشه، واسترجعوا خاتم ملك، فربما رجع الأمر جاريا على نفسه، وما أولى ولاة المناصب، وكفاة المراتب وحملة الأمانات، وخدم سدّة السادات، إلى أن يفيقوا لهذه العمرة حق

الإفاقة، ويلحظوا طليعة هذه العواقب، ولا يهملوها إلى أن تجيء في السّاقة، فهذا في مصالح الدولة الجزئية. فأما المصالح الكلية؛ فإن عواقبها منهم عظيمة، وبوائقها بأيديهم وأيدي قديمهم قديمة، فشدّ ما أخذوه بالأمس برا بلئيم وبرءا بسقيم، وهرب من لا حيلة فيه، فاستبيحت منه حرمة وحريم، فكم عين أزعجوا عنها إنسانها، وكم يد بانوا منها بنانها، ومنهم أولاد ابن زين الدين علي كوجك «1» ، التابع للخادم الآن، فإنّهم كشفوا منهم وجوها مصونة، وهتكوا منهم عورات أمينة، وحكّموا فيهم نظرات ظنينة، وطافوا بهم البلاد نهارا، ولم يخافوا لله غضبا، ولم يرجوا له وقارا، كذلك وجدوا آباءهم على أمة فاقتدوا بآثارهم، وعلى إيقاد نار حقد يستجمعون بهم في نارهم. فأما الجبايات التي يأخذونها من الرعايا ظلما، وتضمين الشريعة لمن لا يمضي الله له على لسانه ولا يده حكما، واستباحة ملك الأوقاف والأيتام، والتفرقة في الحكم بين الخاص والعام، فكلّ ذلك ممام لا يسع خليفة الله إقرارهم على حيفه، ولا يعذره الله سبحانه في ترك مجاهدتهم بكتابه إلى عبده الذي جاهدهم بسيفه، ولا خفاء أنهم غابوا عن الجهاد للكفار، وحالوا بين الفرض وبين أولي القوة عليه والاقتدار، فلا يقنعون بأنهم لا يجاهدون إلى أن يمنعوا من يجاهد عنهم، وبأنهم لا يساعدون المسلمين إلى أن يساعدوا عليهم عدوّهم الكافر، فقد تولّوا الشيطان تليدا وطريفا، ووطئوا الإسلام وأهله وطئا عنيفا، فإذا جاء وعد الآخرة جاء الله بهم في زمرة الشياطين لفيفا، فإن لم يرجع إلى الخادم

فليرجع إلى قول الله تعالى: فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً «1» . والقوم فما أبقوا للصّلح موضعا، ولا تركوا في رجعة مطمعا، ولا تخلّفوا عن سوء بلغوه ناظرا ومسمعا؛ فالمسلم القريب استزلّوا يمينه، والمسلم البعيد استخفّوا سكينه، والكافر استنصروا سيفه، والحشيشيّ «2» استصرخوا سكّينه، والأموال التي في بلاد تقليده أكلوها وأضاعوها، وأمانات الله ابتغوا بها ثمنا قليلا فباعوها، والذّخيرة التي كانت بقلعة حلب لو أنّ لها لسانا يتكلم تظلّم، ولو أن لذهبها الذي تصرم فؤاد تضرّم، وحملت إلى الكفار فضربت بها أسنّة يطاعن بها صدور المسلمين، أو بقيت في أيديهم فضيّعت لتنتهك بما فيها حرمة الدين، ومتى استشفّ النّظر العالي حال الخادم معهم لمح أنه من مبدأ وصوله إلى الشام الذي نوى به في الكفار إقامة الجهاد، وفي الإسماعيلية إماتة الإلحاد، وفي المسلمين إزالة الفساد، شغلوه ثلاث سنين عن هذه الفرائض، وجاءته قوارص لا تحتقر وقوارض، وقد استولوا على حلب بلا حجة، وأخذوا ما فيها من الأموال بلا شبهة، وخرجوا عن اليمن المعقودة بلا معذرة، واستفزّوا من وافقهم من أمراء المسلمين بلا جريمة؛ والخادم على أن أجاب رسلهم بأنّي قد رضيت الدّيوان العزيز حكما، واخترت من اختاره الله للمسلمين قيّما، فكان هذا الجواب [سببا] أن يفرّوا إلى الفرنج، فحالفوا كفرتهم عليه، وإلى الإسماعيلية فأنهضوا مجرمهم إليه، ونازلوا طرف بلاده، وهو متوسط بلاد الكفار، فهدموا قلعة من قلاعها كانت زينة سلم ومفزع حذار، وراسلهم واستنزلهم، وقال لهم قولا لينا، أنه

يحملهم به عنه، فحملهم، ثم ما برح كلما طوى بلادهم، وجاز مدنهم، يمحضهم المناصحة، ويدعوهم إلى المصالحة؛ وممن عرضها عليهم على يده فامتنعوا، وشافههم على لسانه فما سمعوا، شيخ الشّيوخ، وإن سئل عن الشّهادة أداها، وإلى مسطوره في الدّيوان أبداها، وبعد مصدر فلان عنه حشد عليه ملوك الأقطار، وخرجوا من دمنة القرية المحصّنة والجدار، وتحرّك إليهم فتحركوا لكن قدامه لا إليه، وراح إليهم فراحوا عنه، وكان ينتظر رواحهم عليه، وقتلهم السّيف وهو في غمده، وكفى ما كان متوقعا من قبل جدّهم وقبل جدّه، وقد أخرجوه إلى أن أقطع البلاد الحلبية والجزيرية والموصلية لمن يخدم عليها، وسبقوه بين يديه إليها؛ والله سبحانه فقد أخذهم بما علم وعلموا، وتمكن منهم بما ظلموا، وما استبقاهم إلا ليكرر عليهم الرقّة، فقد رقّت لتقتل الشفار، ولا لألين القول فقد سمّى ليذبح الجزّار؛ فإن كان التعلّق بالدار العزيزة وهم يحاصرون دار السلام بأحزابهم، ويرامون التّاج الشريف بنشابهم، ويصافّون الخلفاء مصافّة المواقف، ويكاشفونهم مكاشفة المخالف، ولو تحرك اليوم متحرك كانوا له كنانة، ولكانت دارهم له خزانة، ويعلم أن الخادم ما ذهبت عنه؛ ويرجو الخادم بالموصل أن يكون الموصل إلى القدس وسواحله، ومستقرّ الكفر من القسطنطينية على بعد مراحله، وبلاد الكرج؛ فلو أن لهم من الإسلام جار لاستباح الدار، وبلاد أولاد عبد المؤمن؛ فلو أن لها ماء سيف لأطفأ ما فيها من النّار، إلى أن تعلوا كلمة الله العباسية الدّنيا، وتعود الكنائس مساجد، والمذابح المستعبدة معابد، والصّليب المرفوع حطبا طريحا في المواقد، والنّاقوس الصّهل أخرس اللهجة في المشاهد، هذا كله يجري بمشيئة الله في السيرة الناصرية، فتحلّى بها السير، ويجلّى بها الغير، ولا يكلّف الخادم مالا ولا مددا، ولا يتخلّف عن نصرة ولي الله إذ كاد أعداء الله يكونون عليه لبدا، ولا يقول أنه ينقص ما في الديوان بل يزيده، ولا يستفيده بل

يفيده، وإن استعظم هذا المأمول، واستقصر دون هذا المبذول، فالذي وقع أعظم من الذي يتوقع، والذي طلع أكثر من الذي يتطلع، والذي رأى أمس أكثر من الذي يسمع، وقد علم الله سبحانه أنه لا يريد دنيا يريدها لدنيا يتزيدها، ولكن ليقوى بها على تقوى يتزودها، فإن أعين على النّية، وإلا فقد حصل أجرها، وإن نجح جهد الإرادة في الدّنيا، وإلا فقد سرّ في الآخرة سرّها. ومنه قوله: كلّ ما يرد على عبد المجلس- لا زلت المسارّ على جانبه واردة، والأيام بامتداد عمره واعدة- من أنفاسه العطرة، وكتبه البهجة النّضرة، ولاء رأيه التي تمطر من صدرت إليه صوب الصّواب، وتجعل لمن صدرت عنه ثوب الثواب، وتشهد له بالفضل الذي ليس له جاحد، وتذكرت بيت أبي عبادة «1» : [الطويل] ولم أر أمثال الرّجال تفاوتوا ... إلى الفضل حتّى عدّ ألف بواحد ثم سلك عبده غير هذا الجدد، ولا يقف عند هذا العدد، وينشد قول الآخر: [الطويل] وما النّاس إلا قدحة أنت زندها ... وقطرة غيث أنت منشي سحابها فلا عدمت دول الإسلام، وصدور الأيام، منه البقية الصالحة، والحسنة الراجحة، والسيف الذي يبلي الأيام فهي غمده، وينظم الساعات محاسن فهي عقده، وإن تأخرت خدم عبده عن مجلسه، وأمسك عن أن يقابل بدجاه نور قبسه، فقد علم أدام الله نعمته أن الطريق ليس بقاصد، والعدو ليس بواحد، وأن

الكتب لها أقوام سوء في الطرقات، يقصدونها ويرصدونها، وأن فلجات الشام قد حال دونها؛ إلّا أن الأمور بمشيئة الله، قد سفر وجه صلاحها، والليلة قد دنت من صباحها؛ والله تعالى يتم ما تعد به المخايل المتوسمة، ويحمد الإسلام وأهله عواقب هذه المخايل المتنجمة. ومنها: وقضايا كلها توجب أن ينعكف المجلس على فرض يؤديه، ونصح يهديه ودعاء لمولى النعمة يحفيه، والله مظهر أثره ومخفيه، مع أنه لا يدفع عن منزلته العليا ودرجته الكبرى من القلب الأصمع، والروع الأروع، والعزمات التي هي كألطاف الله التي منها الواقع ومنها المتوقع، فما حصر قط في مأزق إلا سفر عن نصر تبين فيه الأرواح من ثيابها، أو عن سلم يأتي فيها البيوت من أبوابها؛ وأما القرية المسؤولة فهي من البغاث الذي لا يصيده ذلك الجارح، وإن هذا ميدان يضيق عن شأو ذلك القارح. ومنه قوله: وصل- وصل الله المجلس السامي بأفضل وصائل نعمه، ولا أخلى الدّين من الفخر بأمس سيفه ويوم قلمه، وحمل مواقف الجهاد بثبوت قدمه وخفوق علمه، وأدام تذكار خواطر الإسلام لأيام ذي سلمه، وأمتع المجد بأيام حياته التي هي تواريخ فخره وأيام حكمه- كتاب منه كريم، وكلّ ما يصل منه ما يعدّ إلا كريما، وكلام شريف شفّ يدا كلميّة وشفى فؤادا كليما، وخطاب عذب فاض على الأعين روضا، وجرى على الأكباد نسيما، وأبان منه على الحفاظ المحفوظ في شيمته، ولا نحسبها ينساه يوم لا يسأل حميم حميما؛ أكرم كتابا نقع الغلّة فطرأ وطرا، وفرج العلة فجرى مخرا، وأوضح محجة النّور لسالكها فبدا بدرا،

وسقى ماء الفضل فزها زهرا، وسبح الله قارئه وأجرى أجرا، ومن الناس بسخط يكون للدّنيا زينا وللآخرة ذخرا؛ وقد علم الله أن العبد ليمتاح من بحرها، ويرتاح إلى ذكرها، ويستقصر سعيه، وإن كان يستوعب الأشواط ولا يرى علمه كفء نيته في الخدمة، وإن كان مستوفي الأشراط فإنه حسنة في الدهر، بالإضافة إلى أهل بيته وكلهم حسنات، وغرسة في الدهر كأنما كان آباؤهم رحمة الله عليهم من جناة الجنّات، ولقد أعجبوا وأنجبوا، فهم المعنيّون بقوله: ألكم البنون ولهم البنات «1» . ومنه قوله: وصل- أدام الله أيام المجلس، ولا زال سيبه مسئولا، وسيفه في الحقّ مسلولا، وأمره مقتبلا ومقبولا، وعدوّه بالإحسان- أو بإساءته إلى نفسه- مقتولا، ووليّه على النّجاة في الدارين مدلولا، وبشر وجهه بجود يده رسولا، والغمام لا يطمع بأن يكون لتلك اليد في مضمار الكرم رسيلا- كتاب كريم يحمل على يد فلان، وثان «2» على يد القاضي الواصل إلى مصر، ولم تزل أيادي المجلس تتصل إلى أوليائه قربوا أو بعدوا، وقصروا في الخدمة أو اجتهدوا؛ ووقف على الكتابين الكريمين اللّذين قبلهما على أنهما يدان، واهتدى بهما على أنهما فرقدان، وإن لم يكونا يدين يقبّل ظهرهما، فإنّهما يدا نعم يجب شكرهما، وإن لم يكونا فرقدا ليل أنارا في سواد، فإنّهما فرقدا نهار أنارا في مداد؛ وما يخرج عن تلك اليد، ولا يصدر عن ذلك الصدر إلّا كلّ ما تكشف به الأنوار، وتروّح به الأسرار، ويجلب به المسار، وتجدد به المبارّ، ويبقى به شرف لا يخلق جديده جديد اللّيل والنّهار.

وأورد نجم الدين من الأحوال هناك، والضّرورات إلى الكثير والقليل، وحسن السيرة المشتملة على الجميل، وأنه بمصر أدام الله ظلّه على مشقات العفاف، ويسلك لنفسه القصد ويعطي منها الأشراف، وأن كرمه لا مادّة له ولا حاصل، ورواتب نفقاته لا أصل لها ولا واصل، وكلف خرجه لا محمول لها ولا حامل، وذكر ذلك في كلّ مشهد حضره، وفي كلّ موقف وقفه، وبين يدي كلّ كبير عرفه، ورقاه إلى العلم النّاصري فأثبته فيه ومكّنه وكشفه، وتبع هذا الفقيه نجم الدين رأي أبيه رحمه الله في خدمة هذا البيت الذي كان يتعبّد به، ولولا الغلوّ لقلت: وكان يعبده، ومضى شهيدا في جنة رحمته مستشهده، ووجب أن يلحظه المجلس بعين صاحب سابق، ومحب صادق، وذوي سريرة لا يخجل بها الواثق، وذي كفاية ينفذ في الأمور نفاذ السهم المارق؛ فما كلّ صاحب له وجاهة في كل مكان، وإن كانت له وجاهة فقد لا يكون له جنان، وإن كان له جنان فقد لا يكون له لسان، وإن كان له لسان فقد لا يكون له بيان؛ وهذا يجمع هذه الشرائط، ويحضر في عقود المجالس فيكون فيها مكان الوسائط، ويفي لسانه وقلبه بإدراك الفوائد واستدراك الفوارط؛ فهو أحقّ عبد تضمّ اليد على رقّه، وأولى وليّ يجازى بتصديقه وسبقه، على أن الآمال العظيمة، والمطالبة الكريمة تبلغ به الهمّة الفخرية بأيسر العزمات وأدنى الحرمات؛ ولم يذكر في هذه الإجابة ما ذكر من أمره، إلّا أن كثيرا من الرسل الواردين والأصحاب الوافدين، يسعى في قصد مرسله ومقصده، وهذا سعى لمرسله بمفرده، وما جعل حظّ نفسه وغاية قصده إلّا الخدمة وبلوغ غرضها، وشكر النّعمة والقيام بمفترضها؛ وإذا وردت الكتب الفخرية جددت بورودها فخرا، وفرضت على لساني مع شكره الذاتي شكرا، وعلى القلب مولاة إلى مولاة أخرى «1» ؛ وردت على المملوك مكاتبة كريمة،

رفعها حيث ترفع العمائم، ومدّ إليها كما يمدّ إلى الغمائم، وفضها بعد أن قضى باللّثم فرضها، واستمطرت نفسه سماءها فأرضت أرضها، وكاد المملوك يتأملها، لولا أن دمع الناظر إلى العين سبقه، على أنه دمع قد تكون بتلوّن الأيام في فراقه، فلو فاض لعصفر الكتاب وخلّقه، فلا أعدمه الله المولى حاضر وغائبا، ومشافها ومكاتبا، وأحله في جانب السعادة، ويعزّ على المملوك أن يحلّ من مولانا جانبا. ومنه قوله «1» : ودر كتابه، ووقفت على ما أودعه من فضل خط وفصل خطاب، وعقائل عقول ما كنّا لها من الأكفاء، وإن كانت من الخطّاب، وآثار أقلام تناضل عن الملة نضال النّصال، وكأنها فضل سبق لما يحوزه له من حق السبق وخصل الخصال، فأعيذ الإسلام من عدمه، ولا عدم بسط قلمه وثبوت قدمه، فإنه الآن عين الآثار وأثر الأعيان، وخاطر الحفظ إلا أن الخطوب تصحب فيه خواطر النسيان، ولئن انتصر الدهر سطوا، واختصر خطوا، فإنه سيف يمان، إن قدم عهدا فقد حسن فرندا وخشن حدّا، وأجرى نهرا وأورى شررا، واخضر خميلة، وقطع للأيام جميلة، وضارب [الأيام فأجفلت عن مضاربه ضرائبها، وشردت عن عزمه غرائبها،] ، ولبسها حتى انهجت بوالي، ثم اختار منها أياما وأبى أن يلبسها ليالي. ومنه قوله «2» : وصل كتاب الحضرة، فجعل مستقره مستقر النعمة في الصّدور، وأخرجتني ظلمات خطه إلى نور السرور، ووقفت وكأني واقف على طلل من الأحبة قد بكى عليه السحاب بطله، وابتسم له الروض عن أخبار أهله، فلم أزل

أرشف مسك سطوره ولماها، وأنزه العين والقلب بين جنيها وجناها، وأطلق عنان شوق جعلت الأقلام له أنجما «1» ، وحسبت النّقس ليلا، والكتاب طيفا «1» ، والوقوف عليه حلما، إلى أن قضت النّفوس وطرا، وحملت الخواطر خطرا، وقرنته بما ظنه سحابا ما ظنه مطرا؛ هذا على أنه قريب العهد بيد النّعماء، فإن هرب فمن ماء إلى ماء. ومنه قوله «2» : وقف على الكتاب [و] ، جدد العهد بلثمه، لما لم يصل إلى اليد التي بعثته، وشفى القلب بضمه، عوضا عن الجوانح التي نفثته «3» : [المتقارب] وأين المطامع من وصله ... ولكن أعلل قلبا عليلا ومنه قوله رحمه الله «4» : وصل كتابه، فكان من لقائه طيفا، إلا [أنه] أنس بالضّحى، وأثار «5» حرب الشوق وكان قطب الرّحى «6» : [الطويل] تخطّى إلى الهول والقفر دونه ... وأخطاره لا أصغر الله ممشاه ومنه قوله يصف بلاغة كتاب «7» : كتاب إلى نحري ضممته، وذكرت به الزمن الذي ما ذممته، وأكبرت قدره، فحين تسلمته استلمته، والتقطت زهره فحين لمحته استملحته، وامتزج بأجزاء

نفسي فحين لحظته حفظته، وجمعت بينه وبين مستقره من صدري، واستطلت به مع قصره على حادثة دهري، وجعلت سحره بين سحري ونحري، واستضأت به ورشفته فهو نهاري وهو نهري؛ فإن أردت العطر بلا أثر أمسكت مسكه بيدي، وإن أردت السّكر بلا لثم «1» أدرت كأسه في خلدي؛ فلله أنامل رقمته ما أشرف آثارها، وخواطر أملته ما أشرق أنوارها! ولم أزل متنقلا منه بين روضة فيها غدير، وليلة فيها سمير، وإمارة لها سرير، ومسرة أنا لها طليق أسير، ونعمة أنا لها عبد بل بها أمير، حتّى أدبرت عنّي جيوش الأسى مفلولة، وقصرت عني يد الهم مغلولة، وملئت مني مسامع المكارم حمدا، وخواطر الصنائع ودا، وحطّ الأمل بربعي رحله، وأنبت الربيع بفنائى بقله، ولبست من الإقبال أشرف خلعة، ووردت من القبول أغزر شرعة، وانتعجت من رياض الرجاء أرجى نجعة. ومنه قوله «2» : هذا مع عفو الخاطر، فكيف إذا استدعى المجلس خطيّة خطه فجاءت تعسل، وحشد حشود بلاغته، فأتت من كلّ حدب تنسل. ومنه قوله «3» : ورتع في رياض بلاغته التي لم يقتطفهنّ من قبله غارس ولا جان، واجتلى الحور المقصورات في الطّروس التي لم يطمثهنّ إنس قبله ولا جانّ، وغني بتلك المحاسن غنى خير من المال، واعتقد فيها كؤوسا إذا شاء أنفق منها الجمل، وإذا شاء أمسك منها الجمال.

ومنه قوله أيضا: كتاب اشتمل على بديع المعاني وباهرها، وزخرت بحار الفضل إلا أنني ما تعبت في استخراج جواهرها، بل سبحت حتى تناولتها، وجنحت إليّ فما حاولتها، واقتبست من محاسن أوصافه، وبدائع أصنافه، نكتا استقلت أجسامها بالأرواح، وزهت جيادها بما فيها من الغرر والأوضاح، فيالله من بدائع وروائع ولطائف وطرائف! فيها ما تشتهي الأنفس وتلذّ الأعين، وما يقرّط الأسماع وتقرظ الألسن، كأنه طرف طرف صوبه مدرار، وعلم علم منصوب في رأسه نار؛ صحّح السحر وإن كان ظنا، وفضح الدّرّ وإن كان أبرع معنى وأسنى حسنا، وأدنى مجنى وأغنى مغنى، فما ضرّت أخير زمانه مع تقدم بيانه، ولا من سبقه في عصره مع أنه قد سبق في مصره. ومنه قوله «1» : ولله هو من كتاب لما وقفت عليه الغلّة شفاها، وحدثها الودّ شفاها، ورأت وردها كل ماء غيره شفاها «2» ، ووطئ مضاجع أنسها بعد أن كان الشوق يقلب الجنوب على شفاها «3» ؛ فلا عدم ودها الذي به عن كل مودة سلوة، ولا برحت كفاية الله تحلّها في الذّرى وتعلي قدرها في الذّروة، ولا فقد مما ينعم به أي نعمة، وما ينشيه أيّ نشوة. ومنه قوله: كتاب كريم تبسّم إليّ ضاحكا، وظن مداه أنه قد جلا سطره علي حالكا، فما

هو إلا سواد الحدقة منه انبعثت الأنوار، وما هو إلا سويداء ليلة الوصل اشتمل على دجى تحته نهار، فلله هو من كتاب استغفر الدهر ذنب المشيب بسواده، واستدرك الزمان غلطه بسداده. ومنه قوله «1» : كتاب تقارعت الجوارح عليه فما كادت تتساهم، فقالت اليد: أنا أولى به؛ شددت على مولاه ومولاي عقد خنصري، ورفعت اسمه فوق منبري، وقبضت عليه قبضتي، وبسطت في بسط راحته وقت الدّعاء راحتي؛ وقالت العين: أنا أولى به؛ أنا وعاء شخصه، وإليّ يرجع القلب في تمثيله ونصّه، وأنا سهرت بعد رحيله وعندي وحشة، وأنا أذكر ذكر هجير القلب عليه رشة بعد رشّة؛ فقال القلب: طمعتما في حقّي لأني غائب، وهل أنت لي يا يد إلّا خادم؟ وهل أنت لي يا عين إلّا حاجب؟ أنا مستقرّه ومستودعه، ومرتعه ومشرعه، وأنا أذكّره وبه أذكركما، وأحضره وبخدمته أحضر كما؛ فاليد استخدمتها مرة في الكتاب إليه، ومرة في ملاحظة وجهه غائبا وفي توقّع لقائه آئبا، وفي السّهد شوقا إلى قربه، والمطالعة لما يخرج أمري بكتبه من كتبه؛ فهناك سلّمنا واستخرنا، واكتفينا واستأخرنا، وكدت أرشف نقسه إلى أن أنقله إلى سويداه، لولا أنّ سواد العين قال: أنا أحوج إلى الاستهداء بهداه. ومنه قوله: ورد كتاباه الكريمان فسرّا وبرّا، وتصرّفا في القدر فنصبا، وفي الطّرف فرفعا، وفي الأنس فجرّا، وما وقف على صدر منهما إلا شهد القلب بأنه أولى الصّدور بأن يكون صدرا، ولا أهديا إليه يدا كبرى إلا أفضيا به إلى بحر، وما دار في

خلده أن البحر يكون كلّه درّا، وتحقق ما له منه من مناب يصرفه كلّما ناب، ويؤنسه في كلّ ما راب، ويلبيه إذا دعا، ويزيده بصيرة إذا أجاب، ويصله إذا غبّ «1» ، ويحضره إذا غاب، ويبعث عزمه إذا ألبّ «2» ، ويورد أمله إذا لاب «3» ، فعلى هذا المقدمات تنتج، ومتى عرضت عوارض من الشك تزدحم، سنحت سوانح من الثقة تفرج، وقد علم ما رامت عليه هذه الأحوال التي يظنّ أنها في أعقابها وهي في مباديها، وما أسفرت عنه هذه الليالي التي تحسب أنها في بلجة غررها وهي في دهمة دآديها، وليس للمعضل من الدّاء إلا كيّه، وليس للغازي إلا الشهاب الذي يدخر به استراقه ويحسم به غيّة؛ وقد طالع الدّيوان العزيز بما يرغب في الوقوف عليه، والمشورة بما وقعت الإشارة إليه، فلم يكلّف المجلس ذلك إلا لأنّ الملتمس من التقليد لصلاح الجملة وصلاح الدّولة باد قبله، ولمحل الخلافة شرفها الله رافع قبل أن يرفع محلّه، وما شام من ذلك أمرا يصعب مثله، ولا ذخرا يتعذر بذله، ولا جيشا يخلو فناء الخلافة بأن ينقص عنها جعله، ولا عزل وال يجلّ على الإسلام عزله، ولا تجريد سيف من يد الخلافة العالية يتوقى أن لا يمضي نصله، ولم يسم إلّا إلى ما أفاده إليه ولاؤه واعتقاده، ووفقه عبده نظره واعتقاده، من أن يكون نظره شرعيا، وتصرّفه بعين الخلافة مرعيّا، وتقلّده سنيّا، وجمعه إجماعيّا، فتكون الأمور أمرا واحدا، والمناهج المختلفة القصد نهجا قاصدا، والرّايات القاعدة عن الكفار راية مستقلة، يؤنسها الانفراد، وينهضها الجهاد، ويبيّض عواقبها السّواد، لا تختلف تحتها الآراء، ولا يتشتت عندها الأهواء، ولا يعوزها النّصر في الأرض إلّا أن ينزل من السماء، ولا يحوجها التأييد إلّا أن تصحر إلى الفضاء؛ هذا إلى ما ينضاف إلى يد الخلافة وكلمتها من

بلاد بها تخصّ، ومنابر ومنائر تعلو سماؤها عليها وتنصّ، فالسعادات سمحة إن تسمحوا، والدّنيا مستفتحة إن تستفتحوا، والممتنعات ما دونها حجاب، والدين لا يصلب دون فطرته صخر، ولا يبعد دون تناوله سحاب؛ والمجلس السامي يتأمل المراد بعين الولاء، والخادمة بعين المحبة، ويعلم أن مثل الحروف المثبتة في هذا التقليد كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ، فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ «1» وما أحراه في ذلك بتحرّيه، وما أولاه في هذا المهمّ بما يوليه، فإنّه إذا أنجز ما وعد به حسن الظّنّ، وأهدى إليه وإلى الإسلام ما يكسبه القوّة، وإلى الأمة ما يحميها الوهن، فليذهب أدام الله نعمته من ذلك بواجده ما ذهب بمثلها من الدّنيا واجد، وليقرّر المجد بعظمته ما جدّ في مثلها ما جد، وليكن أدام الله دولته مع الحق فإن الذي يدعى إليه هو الحق، والرجل الذي يعرف ما بين الرجال من الفرق. ومنه قوله: وما برح قلمه يقوم خطيبا في محافلها، ونائبا عن مناصلها، ومعظما لشعائرها بشعارها، ومعلنا لمآثرها بآثارها، ومناضلا لأعدائها بكل قطّاعة العرى، طلّاعة الذّرى، إلى غير ذلك من توشيحة مدارس التدريس، بالدّعاء. بخلود أيامها، ونفوذ أحكامها، والرواية عن سلف الأئمة الصالح من آباء أمير المؤمنين وأجداده، والتنبيه على مناقب الدولة التي تجدع بها أنوف أعدائه وأضداده، هذا إلى أنه ربّي في ظلال الدولة العزيزة الممدودة، وتصرف في خدمها المحمودة، وأدرك الصّدور من خدامها، وأدى أمانتي اللّسان واليد في استخدامها، وهذّبته تلك الآداب إلى أن أمن العثار، واعتد الخادم به من إنعام الدولة التي حصّلت له قبل الحاجة الأقدار، وقد أضاف إلى تلك الحقوق التالدة حقا طارفا، واستأنف

إلى تلك الأسباب القديمة سببا آنفا، وهو صحبة الخادم، وكتابه عن يده، وترجمته عن معتقده، وثقته بمغيبه ومشهده، ومجادلة أعداء الدولة بلسانه ويراعه، وإبهاته أبصار أوليائها بالقول المحكوم على كل ذي لب باتّباعه؛ وله مما أقناه الإنعام الشريف، ملك بواسط في شركة أقاربه، ما برحت العناية متوفرة بعقوده، حامية لحقوقه وحدوده، مثمرة لمستغله، مزجية لدخله، مانعة الأيدي من أن تتطرق إليه، أو تتسلط عليه، وقد تجدد الآن من مفظعي المجاورين لملكه دخول في الحدود، وخروج عن المعهود، ودعوى معوزة البراهين والشّهود، والمسؤول فيه خروج الأمر بما يزيل صادق الشكوى، ويبطل كاذب الدعوى، ويردّ الحقّ ويحمي الحدود، وبيده توقيعات إمامية أجرته على ما يلتمس الآن الإجراء عليه، ولو لم يكن هذا الحدّ بيده لما استكثر الإنعام أن يصفح له عنه، ويعاد إليه، فكيف والحجج الشرعية والتواقيع الإمامية مثبتة لحقه، شاهدة بقدم ملكه وسبقه؛ والمتوقع إجابة سؤاله فقد جرده، وإن تأخرت الإجابة بالإيجاب جدّده. ومنه قوله: أسعد الله المجلس، ولا برحت الأيام شاكرة لأيامه، والصوارم معدودة من حساد أقلامه؛ الهمّة العالية مذخورة عند المهمّات، مستضاء بأنوارها في ليالي القصد المدلهمّات، والآراء المجدية مستمدة بحمد الله من المكرمات، تسلّ بها ولا سيما إلى أهلها، ويأتيها على علم إذا أتى على الناس من جهلها، ويبتكرها بخاطر خطار، ويبتدرها بضمير فضل لا يجارى في مضمار؛ وإذا عرضت اللّبانة أنزلت بكرمه الفسيح اللبان، وحدت ركابها إلى أفناء إحسانه الذي ينتهي إليه غاية سرى الركبان؛ وقد قصد هذه الخدمة على حال تفصيل فلان في ملك له بواسط، قد استولى عليه من حادده وجادّه من المقطعين، وأضرّ به من حاز عليه

من المجاورين، ومعه من التّوقيعات الإمامية ما يوضح الإشكال، ويرشد من الضّلال، ولو لم يكن الحدّ له مستحقا، والملك بيده مسترقا، لوسعه من الإنعام ما يسع من ليس له من الخدمة المرعية، والأذمة المرئية، كما لهذا المذكور، فله في ولاء الدولة الشريفة السبب الوثيق، والعرق العريق، والسابقة التي لا تمارى، واللاحقة التي لا تجارى، والنشأة في ظلال الدار العزيزة، والتربية في أكنافها الحريزة، واستمداد العلم من بحرها، واستمطار الأدب من قطرها، واستلماح الأنوار من فجرها، والتقلّب في آلائها، والثّبوت على ولائها، والمناضلة بلسانه وقلمه الذين يلحدون في أسمائها، إلى غير ذلك من المكاتبات التي تجاهد فيها عن الدولة الناصرية حق الجهاد، ويرهف بها الأولياء ويفلّ الأضداد، ويستعطف بها القلوب النافرة، ويجمع بها الأهواء المتنافرة، ويجادل فيها بالتي هي أحسن، وبالتي هي أخشن، ويوضح حقها بالتي تثبت من أخلص، وتستخلص من أدهن؛ والمجلس السّامي عارف بقديمه وحديثه، ومكتسبه وموروثه، معرفة توجب الذّمام، وتنجح المرام، وتدخر الأيام، وتتوقع ظهور ثمرتها في أوقات القدرة؛ لا عطّل المجلس من حليها، ولا خلا من اقتطاف ما حلا من جنيها، فإنه جانب من الدولة العالية، لا ينفصل عنها ولا يخرج منها، ولا يعدّ إلا من أقطارها، ولا ينتظم القائم به إلا في أنصارها؛ وقد شرع في الشّكر ثقة بالنجح، وألقيت عصا السرى علما أنها مسبوقة الحمل بطلوع الصّبح، وتركت محاربة خواطر الشك علما أن المطالب به مذعنة إلى الصلح؛ والمجلس السامي سريعة ورده، وفلك القصد والمهمة المجدية طليعة سعده؛ ومن ورد عنايته فقد استكره الموارد، ومن جعله قبلة القصد فقد استنجح المقاصد؛ والمتوقع وصول كتاب أخيه الشاكر لإنعامه، الداعي لأيامه، بأن هذا الحد قد رفعت عنه اليد، ولئن تكاثفت الأشغال عليها، وتزاحمت المهمات لديها، فما هي لخواطرها إلا بمثابة

الصقال للسّيوف المرهفة، ومرور النسيم بالرياض المفوفة؛ فالصقل للأولى يفيدها قطعا ولمعا، والنسيم للأخرى يفيدها نفحا ونفعا، ولا شبهة في أنها مدفوعة إلى بحر أشغال متدافع، ومقذوف بها في بحر هول يرجع عنه كلّ طمع متراجع، وهي بحمد الله سابقة، للطبع فاتقة؛ فالعقبة الكؤود لا تؤود، وعزمها فيما ترقّ له الصّخور لا يجوز؛ والله تعالى يحسن إليها كما أحسن بها، ويجعل لها راحة عنده في تعبها، وخواطر المحبين لخواطر الشّعراء في كل واد تهيم، وكلما أمّل القرب يوم مسفر قد دفعه الدهر بليل بهيم، وكتابها الكريم، فينعم بها مضمنا ما يسنح من خبرها، ويعزّ من وطرها؛ والله لا يعدمني خبرها إلا بوجهها، وكتابها إلا بنظرها. ومنه قوله: ما أصدرت هذه الخدمة إلى مجلس الحضرة العالية، لا زالت الأيام خدّامها لخواطرها، والأسماع نطاقا لجواهرها، والطّروس ساحلا لزواجرها، والمسارّ سارية إلى سرائرها، والأيام قاضية بكلّ قاضية عليهم، تخفض من محلهم وترفع من محلّها، وتعقد لها عقدة عز تعجز أيديهم عن حلّها، من ثغر الإسكندرية حماه الله، عند الوصول إليه لخدمة الضريح المعظمي، الذي حل فيه ملك الكرماء، ولزيارة القبر الحافظي، الذي حلّ فيه ملك العلماء؛ والله تعالى يؤجر الكافة في الفجيعة بالعلم والكرم، على أن الحضرة العمادية أولى ألي الكرم، والعلم فلا تشتكي العدم، ولابد أن أخرج إلى مراد هذه الخدمة وثبا كخروج البحتري في مدائحه، وأن أهزّ عزمها لأمر مهم تثاب في تسبيب مناجحه، ولا أطيل بذكره فإنه في الخدمة الناصرية الصادرة عني في معنى الفقيه ابن سلامة، وهي تفعل ما يقوم الله عزّ وجلّ بأجره، وأقوم أنا بشكره، وما بعده مما يبيّض الصحيفة على أنها نظيفة، ومما يتوصل إلى المراد الجليل منه بفكرتها الدقيقة اللطيفة، وقد ضاق وقتي عن مكاتبة أعزيه بمقتضاها، فأسألها إن كان الرّكاب العزّيّ أدام الله أيامه،

ونصر أعلامه، بالعسكر المنصور، فتعرض عليه الفضل من المطالعة، ولا أقول: ويهزّ عزمه، فإنه سيف قاطع لذّاته، يستحيل أن يرى إلّا قاطعا، ومولى يرى الثواب من لذاته، فلا يمكن أن يرى إلى داعيه إلّا مسارعا؛ ومن عوّل على خطابه في الأسفار التي تملأ الغرائر، ولا تستقلّ بها الأباعر، فإني أعوّل في خطابها على اللفظة المعرضة، ومن استدعيت عزائمه بالمماشاة والمصافحة؛ فإنني أستدعي عزمها باللحظة الممرضة، لا زالت مساعيها مقرونة بالمساعد، وهممها موفية لما كلفته عنها الظنون الحسنة المواعد * ومن شعره قوله «1» : [الكامل] إنّ البنان الخمس أكفاء معا ... والحلي دون جميعها للخنصر وإذا الفتى فقد الشّباب نشاله ... حبّ البنين ولا كحبّ الأصغر واخصص بوسم تحيّتي من لم أبح ... لك باسمه ولعله لم يذكر ممن أودّ لها الرّدى لا عن قلى ... وتودّ لو أبقى بقاء الأدهر ومنه قوله «2» : [الكامل] ذكرت وجوهكم والبدر يسري ... كلا البدرين مسكنه السحاب سقاني الله قربك عن قريب ... دعاء طال واختصر الخطاب ومنه قوله «3» : [البسيط] تفدي اللّيالي التي بالسّعد تسخطني ... تلك اللّيالي التي بالقرب ترضيني كانت بكم فرعاها الله تضحكني ... فأصبحت لارعاها الله تبكيني يا بعدها غاية للشوق غائلة ... من غور مصر إلى علياء جيرون

أودعتم مسمعي مكنون درّكم ... فهاكم درّ دمعي غير مكنون ومنه قوله «1» : [البسيط] من أين أنت ومن- يا ريح- أين أنا ... الجدّ خلقي ومن أخلاقك العبث ما جئت مبعوثة بل جئت باعثة ... همّي ولا خاطر في الهمّ منبعث لبثت في الحب عمرا لا أحصّله ... كفتية الكهف لا يدرون ما لبثوا كرّوا اللّواحظ بحثا عن محاسنه ... وما دروا أنّهم عن حتفهم بحثوا ومنه قوله «2» : [الكامل] زار الصّباح فكيف حالك يا دجى ... قم فاستدمّ بفرعه أو فالنّجا رأت الغصون قوامه فتأوّدت ... [و] الرّوض أنشر نشره فتأرّجا يا زائري من بعد يأس ربما ... تمنى المنى من بعد إرجاء الرّجا أترى الهلال ركبت منه زورقا ... أو لا فكيف قطعت بحرا من دجى أم زرتني ومن النّجوم ركائب ... فأرى ثرياها تريني هودجا لعبت جفونك بالقلوب وحبّها ... والخدّ ميدان وصدغك صولجا منها: لا أرتجي إلّا الكرامة وحدها ... فالمال قد أعجلته أن يرتجى تتلو اللّيالي سورة من فضلكم ... فتقيمها شعراؤكم أنموذجا منها: ناران: نار قرى ونار وقائع ... لله درّك مطفئا ومؤجّجا باشرت بشرك لا بمنّة شافع ... فغنيت يا شمس الضّحى أن أسرجا

ومنه قوله «1» : [البسيط] قاتل بغير سلاح الهجر إن له ... ضربا تسيل دموعي منه وهي دم كتمت ما بي في وجهي دلائله ... والهمّ نار فقل لي كيف ينكتم؟ وقوله «2» : [الوافر] وميدن خدّه لخيول لثمي ... وصولج صدغه والخال أكره تلفت بشعره وسمعت غيري ... يقول: سلمت من تلفي بشعره بكيت عليك ملء العين حتّى ... بقيت بأدمعي في الشّمس عصره «3» وقوله «4» : [الرجز] ممسحة نهارها ... يجنّ ليل الظّلم كأنّها مذ خلقت ... منديل كمّ القلم ومنه أخذ شافع «5» قوله «6» : [الوافر] وممسحة تناهى الحسن فيها ... فأضحت في الملاحة لا تبارى

ولا نكر على القلم الموافي ... إذا في وصلها خلع العذارا والأصل قول ذي الرّئاستين «1» : [المنسرح] ممسحة تكتم الظّلام فما ... تبديه إلا سوافر الظّلم تؤدع فيها الأقلام فضلة ما ... تنفقه في مصالح الأمم عدنا إلى الفاضل: ومنه قوله «2» : [الكامل] منعت دموع العين من أطلالي ... لأرى صنيع الدّهر بالأطلال ومن المساءة ما يكون مسرّة ... ما الدّمع إن حجب المكاره غال ومنه قوله «3» : [البسيط] أيا بدر قد أسهرت عيني فارقد ... وشاهدت ما جاهدت يا نجم فاجهد إذا لم تعاين في الصباح مسرّة ... فلا تحسبنّ الليل ليس بسرمد ويا عاذلي رفقا كفاني صدوده ... فإن شئت فانقص من ملامك أوزد تمازج في خديه ماء وجمرة ... تمازج دمعي في الهوى وتوقّدي وقوله «4» : [الطويل] وفوا غير أنّ السّمهريّ وأنّه ... يجار بأيديهم شكا للمهنّد

لهم في الوغى أغصان سمر كأنّما ... تحفّ إذا أجروا الدّماء بمورد وقوله منها «1» : [الطويل] جمعت الذي فيهم وزدت عليهم ... فأنت كمعنى ناظم متولد وما فوق ما قد نلته من زيادة ... بل الله أولى بالزّيادة فازدد وقوله «2» : [الخفيف] لاح وفي خدّيه ديباجة ... طرّزها الشّعر بلبلاب باب سلوّي دونه مغلق ... وصدغه الزّرفين للباب يا مانعي حتّى مواعيده ... من لي بوعد منك كذّاب وقوله من مرثيّة في أخيه «3» : [الطويل] خليليّ قد أبصرت عيشي بعده ... كأنّي قد أبصرت عيشي من بعدي وقد كنت أشكو البعد والقرب يرتجى ... فكيف أكون اليوم في اليأس والبعد وكان أجلّ الخطب عندي صدّه ... فمن لي وطوبى لو رجعت إلى الصّدّ إذا ما فقدت الأنس ممّن تحبّه ... فنفسك لا المحبوب أفجع بالفقد وقوله منها: فنيت أسى لمّا بقيت مكارما ... فأصبحت في دار وأصبحت في لحد ليهنك من بعد الرّدى باقي الثّنا ... وإن كنت من تحت الثّرى بالي البرد وقوله «4» : [البسيط]

أشكو إليك جفونا عينها أبدا ... عين تترجم عن نيران أحشائي كأنّ إنسانها وافى بمعجزة ... فكان من أدمعي يمشي على الماء وقوله من قصيدة «1» : [الكامل] إنّ الشّجاعة وهي من أوصافه ... غلبت عليه وهي من أسمائه «2» يقري الطّيور طعانه فضيوفه ... تنتابه من أرضه وسمائه وقوله من قصيدة «3» : [الخفيف] لا تحدّث سواك نفس بفضل ... ذاك رجع عن الأماني بعيد وقوله منها: وانجلت مصر إذ تجلّى عروسا ... وكأن الأهرام فيها نهود وقوله: أنا من قائم الحسام نذير ... فهو إن قام فالرّؤوس حصيد هو كأس وسكرة الموت قالت: ... ذلك منّي ما كنت منه تحيد «4» ومتى يلفظ العدوّ بقول ... فعليه منه رقيب عتيد «5» وقوله: وإذا رشت بالأيادي جناحي ... فمعاني العلاء ممّا أصيد

وقوله من أبيات «1» : [الطويل] سأشكر عن شكري نداه لعلّه ... يقوم لها ذنبي بأحسن عذره إذا أنا بعد الجهد قصّرت شاكرا ... فقد صار للتّقصير ذنبي كشكره وقوله «2» : [الطويل] إذا أنت أعطيت اللهى بذريعة ... فلا تشكرن إلّا لتلك الذّرائع وقوله من مرثية في أخيه «3» : [مجزوء الكامل] أأخيّ هوّنت الحما ... م فكان يضعف عنه عزمي لم لا أهونه وقد ... قدّمت روحي قبل جسمي وقوله «4» : [من الكامل] وإذا اجتليت عقود أسطره ... ظفر الهوى بمراشف لعس وقوله «5» : [البسيط] ما حلّ هذا الهوى إلّا لأرتحلا ... ولا سرى الدّمع إلا عن هوى نزلا ولا بعثت خيول الدّمع خلفكم ... إلّا لتلحق قلبا فيكم رحلا يا ربع ما أنت إذ زمّت رحالهم ... للبين أوّل صبّ ألبسوه بلى لقد تمثّلت في ترك الجواب بهم ... فما تجيب كما كانوا لمن سألا وقفت فيه فقال النّاس من سقمي: ... أما ترى طللا يستخبر الطّللا

وقوله «1» : [الكامل] أسديّ أفكار إذا ليل الأسى ... أرخى دجاه فرأيه السّرحان هذا وكم لك في الوغى من عزمة ... بكّرن من ثقة بها العقبان تغدو خماصا [مثل] ما قد مثّلوا ... في حربه وتروح وهي بطان «2» وعلمت أنّ حديث كسرى بعده ... زور فلم يتشامخ الإيوان لو عاش شاهنشاه أيقن أنّه ... ملك الدّسوت وأنّه الفرزان تلك التواقيع التي هي جنّة ... أقلامه في دوحها أغصان أمنصّل الرّمح الطّويل بكوكب ... من ذا يطاعن والسّماك سنان وقوله: والشّمع فوق البحر تحسب أنّه ... من لجه قد أطلع المرجان والماء درع والشّموع أسنّة ... ولها إذا خفق النّسيم طعان وقوله: يا مالكي أنبتّ ريشي بالندى ... لكنّني ما قصدي الطّيران وقوله: ضاقت معاذرهم إلى ضيفانهم ... لكن رحبن منازل وجفان يغدون عندهم بأعلى أعين ... ودّت تكون جفانها الأجفان وقوله من أبيات «3» : [الطويل]

ركبنا رياحا من كرائم خيله ... نؤمّ سحابا من سماء سماحه فقل لليالي الخطب: طولي أو اقصري ... فإنّا على وعد السّرى من صباحه ولمّا نضا الأستار عن نور وجهه ... تغطيت من دهري بظلّ جناحه وقوله من قصيدة «1» : [البسيط] أستودع الله في أظعانهم قمرا ... إليه لو ضلّت الأقمار يحتكم عندي سهاد وعند الهاجرين كرى ... فالليل مشترك بيني وبينهم وقوله منها يرثي بني رزّيك: بأيّ وجه يراني النّاس بعدهم ... حيّا ويا أسفا إن قلت بعدهم أبكي الذي زال عند التّاج دولته ... إذا بكى الناس من زلّت به القدم أعزز عليّ بأن ظلّت ديارهم ... تسدى الهموم بها أو تندب الهمم وما لبست دموع العين عاطلة ... إلّا وفيض دمي في ردنها علم إن ينهدم بكم للدّهر بيت علا ... فإنّ بيت رثائي ليس ينهدم معنى من الكرم المهجور فزت به ... وفي الرّثاء لمن لا يرتجى كرم وكان حقكم لو كان لي قبل ... أن ينصر السيف لا أن ينصر القلم وقوله «2» : [الطويل] نفينا سواد اللّيل عن دولة الهدى ... فلا راية سودا ولا أمّة سودا وبين مجازاة ضربنا وجزية ... فمن طائع أدّى ومن خالع أودى وقوله من قصيدة «3» : [الكامل]

تلك الرياض إذا تهجّر حادث ... لم تلق إلّا ظلّها وجناها لمع النّضار بها فقلنا: شمسها ... وجرى اللّجين فخلته أمواها وقوله منها: نظروا الخيول فأثبتت نظراتهم ... غررا عليها وقد وسمن جباها ولربّ هاتفة دعتهم للوغى ... جعلوا صليل المرهفات صداها هي كالموارد في العيون وطالما ... نقعوا بهامات الكماة صداها هي في بحار يديه أمواج ترى ... ونفوس من قتلته من غرقاها لا بل زناد جهنّم في كفّه ... منها فكلّ مكذّب يصلاها لو أنّ أرضا مرة فدت السّما ... كانت عداها في الخطوب فداها ومن المحدث نفسه بلحاقها ... فدع الحديث عن الذي ساواها وقوله من أبيات «1» : [الطويل] حمائم قد حثّت زجاجات أدمعي ... فما خلت إلّا أنّهنّ حوائم وما درج الكثبان مرّ نسيمها ... بلى درج الكثبان ما أنا لاثم ولمّا مررنا بالرّسوم تنفّذت ... بها للهوى في العاشقين المراسم بكينا فغطّى الدّمع أنوار أعين ... ومن عجب أنّ الدّموع كواتم وقوله من أبيات «2» : [من الكامل] يا من إذا ما المال جاز بأرضه ... يصفرّ خوف فراقه أن ينهبا يلقى إليه فلا يليق بكفّه ... فكأنّما يلقى عليه ليحسبا

وقوله «1» : [الطويل] برأيكم أمسى الزّمان مدارا ... وكان مخوفا قبلكم ومدارى وربّ طليق قد أسرتم بكفّكم ... كذا طلقاء المكرمات أسارى وقوله منها: سأنصف أصناف القوافي بمدحه ... فإنّ القوافي في علاه غيارى فإن أبصروا في الطرس أثر مداده ... فذلك سبق قد أثار غبارا يفيض لنا كفّا ولله مقلة ... فتجتمع الأنواء منه غزارا وتقدح نار الحرب من أزند الظّبا ... فترسل من فيض الدّماء شرارا وقوله من أبيات «2» : [البسيط] ليهنئ الملك ما أظهرت من همم ... للجدّ والجود من نار وجنّات تحمي وتهمي بعين أو بجود يد ... فالنّاس ما بين رعي أو مراعات مواصل المجد لا ينفكّ من شغف ... والوصل ينقص من بعض الصّبابات هذي البدايات قد نلت السّماء [بها] ... فما يظنّ العدى هذي النّهايات عطاء من لا يظنّ الجود يفقره ... وحرب من لا يظنّ الحرب تارات الله جارك والآجال كاشرة ... من القواضب في عصل الثّنيات وقد تداعت بها الأبطال واعترفت ... والطّعن بينهم مثل التّحيات وقد تهادت سيوف الهند إذ خضبت ... كالشّرب حين تهادى بالزّجاجات فكم بردت بماء السّيف غلّتها ... والسّيف ماء لنيران الحزازات وقوله من أبيات «3» : [الطويل]

أمستصحبا قلبي وكان محلّه ... وإن كان من جور الفراق محيلا إذا ما جرى جفني دما بمدامعي ... علمت بأنّ القلب راح قتيلا وقوله «1» : [الطويل] لئن نالت الأملاك ملكا بحظّها ... فقد نلتم ما نلتم بمساع وهذا عيان المجد فيكم فما الذي ... يزيدكم مدّاحكم بسماع دفعت الأذى عنّا ومتّعت بالمنى ... وما كانت الدّنيا لنا بمتاع وو الله ما كلّفت في المدح كلفة ... وهل هو إلّا الصّدق وهو طباعي وقوله من أبيات في الشّيب «2» : [الوافر] أرى شيبي معاري فيه بعضي ... لبعض إنّ ذاك لشرّ سرّ فلا تنكر له تعبيس وجهي ... فقد أعطى تبسّمه لشعري وقوله من أبيات «3» : [مجزوء الكامل] بالله يا قمر التّمام ... أما لهجرك من محاق أنسيت في نور الكما ... ل وبتّ في نار احتراقي وقوله من أبيات في ذكر الرّماح «4» : [الكامل] تمشي بها سرجا ويومك مظلم ... فترى الذّوابل نصّلت بذبال مثل الصّلال تحوف نفث طعانها ... يستلئم الغازي ثياب صلال ويجرّها طورا ويصلى حرّها ... فيكون محتطبا وطورا صال

وقوله من أبيات «1» : [الطويل] فإن تكتسي يا دار ثوبا من الصّبا ... فلا تلبسي من أدمعي غير معلم من تكتم الأشواق ما بين نائم ... نموم ودمع بالدّماء منمنم وقوله من أبيات «2» : [الكامل] وإذا أفاض الصّبّ صبّ دموعه ... أغنى الدّيار عن الحيا المتهلّل ما دام وجه ينجلي عن روضة ... فعليّ عين تنجلي [عن] منهل وقوله «3» : [الكامل] من ثغره وحليّه ونسيمه ... ما لا تقوم بكتمه الظّلماء ومتى يفوز بما تمنّى عاشق ... وجميع ما يهوى له أعداء لك من نسيبي فيك روض يانع ... تجري عليه من دموعي الماء رتعت جفوني من سناك بجنّة ... وتبوّأت منه بحيث تشاء وقوله «4» : [الطويل] بروحي من روحي إليه مسوقة ... وقلبي من قلبي عليه مقطّع وأهل الهوى في القلب عيني وعينه ... وكلّ بلاء عنهما يتفرّع وقوله في عمارة سور عكّا «5» : [السريع] ميزان أعمالك لا شكّ في ... رجحانه والحقّ لا يشتبه

بالحجر الأسود إذ صنته ... والحجر الأبيض إذ صنت به وقوله من قصيدة «1» : [البسيط] أأنت في الأرض أم فوق السماء ففي ... يمينك البحر أم في وجهك القمر يقبّل البدر تربا أنت واطئه ... فللتّراب عليه ذلك الأثر نأى به الملك حتّى قيل: ذا ملك ... دنا به الجود حتّى قيل: ذا بشر في كلّ يوم لنا من مجده عجب ... وكلّ ليل لنا من ذكره سمر نظرت في نجمه فالسعد طالعه ... لا ينقضي وعلى أمواله سفر أبا الفوارس والآباء مشفقة ... وهم بنوك وما تبقي ولا تذر تلقى عروس المنايا وهي حاسرة ... وخدّها فيه من فيض الدّما خفر والضّرب بالبيض من آثاره عكن ... والطعن بالسّمر من آثاره سرر وربّ ليلة خطب قد سريت بها ... وما سرى كوكب فيها ولا قمر سمت العويص بعزم ماله ضجر ... أو بالبعيد يباع ما به قصر وأنت في جيش رأي لا غبار له ... ترمي العداة بقوس ما لها وتر هي الحروب التي لا السيف منثلم ... فيها ولا الذّابل الخطّيّ منأطر سرنا وسار شجاع وهو يقدمنا ... وعزمنا آمر والدّهر مؤتمر وكان زجر اسمه فيه الحياة لنا ... والذّكر إنّ الشّجاع الحيّة الذّكر كان الحسام يمانيّ الهوى معنا ... فما أضرّ بنا إن أصفقت مضر وبت والموت طيف قد ألمّ بنا ... فما ثنى الطّيف إلّا ذلك السّهر سقى بك الله دنيانا فأخصبها ... والعدل يفعل ما لا يفعل المطر لمّا استقلت ستور الملك لاح لنا ... ملك به الجود عين والثّنا أثر

في كعبة للنّدى لو حلّها ملك ... تهيب النّطق حتّى قيل: ذا حجر وسائل لي ما العلياء؟ قلت له ... في فعله الخير [أ] وفي قوله الخبر ما أنصفت مجده نظّام سيرته ... إنّ الذي ستروا فوق الذي سطروا نال السّماء بأطراف القنا فبدت ... من النّصول عليها أنجم زهر لا يحدث النّصر في أعطافهم مرحا ... حتّى كأنّهم بالنصر ما شعروا أجروا دماء العدى بين الرّماح فما ... يقال: عندهم ماء ولا شجر ترى غرائب من أفعال مجدهم ... يردّها الفكر لو لم يشهد النّظر خلائق في السماوات العلى زهر ... منها تنير وفي روض النّهى زهر النّاس أضيافكم والأرض داركم ... فهو المقام فلم قالوا: هو السّفر ما أنصف الشّكر لولا أن يسامحنا ... فأنت تطنب جودا وهو يختصر وقوله من أبيات «1» : [الكامل] سأل اللّوى وسؤاله تعليل ... ومن المحال بأن يجيب محيل يا دار جهد جفوننا وضلوعنا ... لك بالبكاء وبالأسى مبذول زرّت عليه من الرّياض ملابس ... خيط الغمام لوشيها محلول رقّ العذول لما رأى من حالتي ... فاليوم عاد إليه وهو رسول أو ما تراني حاملا من بعده ... ثقل الأسى فكأنني محمول من لي بحظّ بالفضائل عارف ... فيحقّ حينئذ لي التفضيل أغمد لسانك أن يقول فإنه ... عضب أحاط بجانبيه فلول وامنعه من نفثاته وكفى بها ... فمن الكلام أسنّة ونصول كفّل زمانك أن يغيّر كلّ ما ... أنكرته فكفاك منه كفيل

وقوله «1» : [الطويل] أمنّا على الملك اللّيالي بعد ما ... أمدّ بسعد النّاصر المتناصر إمام أقرّوا جوهر الملك عنده ... ولا عجب للبحر صون الجواهر ديار العدى من نقعه ودمائهم ... كربع الهوى ما بين ساف وماطر يلاقيهم بالسيف والطّير طاعما ... فهم منهما بين الرّدى والمقابر يقول لنا درّا ويندى سماحة ... فما البحر إلّا بين كفّ وخاطر ولما انثنت منّا عليه خناصر ... جعلنا حلى تختيمنا للخناصر لأفنت ظباكم في الوغى وصفاتها ... دماء الأعادي أو دماء المحابر فيا عجبا للملك قرّ قراره ... بمختلفات من قناك الشّواجر طواعن أسرار القلوب نواظر ... كأنك قد نصّلتها بنواظر تمدّ إلى الأعداء منها معاصما ... فترجع من ماء الكلى بأساور وقوله منها في الخيل: لها غرر يستضحك النّصر وجهها ... وتفهم منها العين معنى البشائر وقوله منها في ذكر القصيدة: إذا ما أتت تختال بين سطورها ... فهنّيتها عذراء ذات ضفائر هي السائرات الخالدات بمجده ... وسائر ما يؤتى به غير سائر وقوله من قصيدة «2» : [الطويل] ورثت المعالي عن أبيك شريعة ... وقمت بها في فترة البخل مذهبا إذا ما كسوت الوفد للجود ملبسا ... فقد لبسوه بالبشاشة مذهبا

لو انّ زيادا كان أدرك عصره ... لكان يرى أيّ الرّجال المهذّبا «1» يقطّع عمر اللّيل عمر سجوده ... فلله محراب حوى منه محربا وفي فقر عافية إليه وسيلة ... كفى باعثا للسّيل أن يتصوّبا وقوله «2» : [الطويل] يقول ولو أنّ الليالي خصومه ... ويمضي ولو أنّ النّجوم مطالبه محاربه تثني على صلواته ... ولكن على الأعقاب يثني محاربه ومنها: جنائب في بحر العجاج سفائن ... فإن حرّكت للرّكض فهي جنائبه وقد خفقت راياته فكأنها ... أنامل في عمر العدوّ تحاسبه وقوله «3» : [الكامل] لو كنت جاوبت الحمائم نائحا ... قال الوشاة: أضاع سرّك بائحا «4» سل طائرا صدع الفؤاد بسحرة ... أتراه غرّد صادعا أم صادحا يا ضعف من أمسى الفريسة في الهوى ... وغدا الحمام له هنالك جارحا وقوله «5» : [البسيط] يا ليلة بات فيها البدر معتنقي ... والنّاس بالبدر والظّلماء في شغل

بتنا نفضّ عقودا للحبيب فإن ... فصّلتها فبتشذير من القبل قل في الزّلال إذا وافى على عطش ... فقد دللت على التفضيل بالجمل وقوله من أبيات «1» : [الوافر] وبالأشعار نعرف قائليها ... كما حدّثت عن نجر بنجل سبقت بها فقد صارت لقوم ... محارب والذي بعدي مصل وقوله «2» : [مجزوء الرمل] سقّني يا بدر شمسا ... كلّلوها بالثّريا واجعل الظّلماء شمسا ... كلّما دارت وفيّا إنّما الكاسات تيجا ... ن لها العيش محيّا وهي نار جعلوها ... حين يعيي الهمّ كيّا قد طوينا إذ أديرت ... بردة الظّلماء طيّا كانطواء الخوف عنّا ... حين ولّى الله طيّا «3» وقوله من قصيدة «4» : [الخفيف] يا غزالا له السّيوف حجاب ... في فؤادي أضعاف تلك الحجب ما عهدنا والنّائبات كثير ... أنّ ضيفا يضام بين العرب أغليلا والماء فوق الثنايا ... وهوانا بين القنا والقضب أين تلك الرّسوم أين تراها ... تبعت في الرحيل إثر الرّكب

أترى يا زمان أنت معنّى ... برباها كمثل قلب الصّبّ زفرت بالصّبا صدور اللّيالي ... وبكت بالحيا جفون الشّهب وقوله من قصيدة «1» : [الكامل] لو لم يعطّل خاطري من سلوة ... ما كان خدّي بالمدامع حال أودعته قلبي فخان وديعتي ... فسواده في خدّه بالخال فعل السّقام بمهجتي وجوارحي ... أفعال حصن الدّين بالأموال لم يبق في أيّامه من فتنة ... للنّاس إلّا فتنة بجمال «2» تسمى الرّماح قنا فأمّا بعدما ... صارت بكفّك فالرّماح عوالي وقوله «3» : [الطويل] أساكن أكناف المقطّم دعوة ... تداعت بها الألفاظ وهي دموع يقولون: درياق الهوى الدّمع إن جرى ... فذا الدّمع يجري واللّسيع لسيع أبى الحزن لي من أن أماكس في الهوى ... فحزنك يشدي والدّموع تبيع وقوله «4» : [مجزوء الكامل] دع عينه لعنائها ... فشفاؤه في دائها العين من أعدائه ... والقلب من أعدائها هذا ونيران الهوى ... مشبوبة من مائها قمريّة قمريّة ... في حسنها وغنائها

القلب كاره نأيها ... والسّمع عاشق نايها ولقد رضيت بقتلتي ... إن كان ذاك برأيها «1» وقوله من قصيدة «2» : [مجزوء الكامل] يا مالك الحسنين وال ... حسنين من خلق وخلق لو لم يكن من فضل مد ... حي فيك إلّا فضل صدقي ما ضرّ جهل الجاهلي ... ن ولا انتفعت أنا بحذقي وزيادتي في الحذق فه ... ي زيادة في نقص رزقي وقوله من مرثية «3» : [البسيط] تبكي عليك عيون أنت قرّتها ... وما قضى الحقّ باكي البحر بالخلج في كلّ شدة دهر لم تزل فرجا ... [فأ] عظم الله أجر النّاس بالفرج وقوله «4» : [البسيط] قالوا: جرى قلمي في مدح غيركم ... لا والّذي علّم الإنسان بالقلم وما خلوت بذكراكم وكان معي ... ثان يثلّث ذكراكم سوى الكرم وقوله من أبيات «5» : [الطويل] إذا هزّ فيها صارم البرق خلته ... يروّع من تلك الجداول أرقشا يمدّ عليها المدّ سورا مفضّضا ... ويرجعه طورا سوارا منقّشا «6»

ويرجعه سهما إلى مقتل الثرى ... فيسري بأوراق الغصون مريّشا هوى كسماح الصّالح الملك الذي ... نكتّمه والشّمس ليس لها غشا يقتّل حيات الحقود من العدى ... بحيّات سمر بالأسنّة نهّشا وينصبها إن يرتقوا السّحب سلّما ... [ويرسلها] إن ينزلوا القلب الرّشا «1» فأوسطها أولى من العين بالهدى ... وأطرافها أولى من الهمّ بالحشا غنينا عن التّشبيب قدّام مدحه ... فأذهل وصف اللّيث من وصف الرّشا وقوله «2» : [البسيط] وكيف أحسب ما يعطي العفاة وما ... حسبت بعض الذي ما زال يعطيني الكتب تشكره عنّا ولا عجب ... ما تشكر السّحب إلّا بالبساتين «3» وقوله «4» : [المتقارب] وأغيد لمّا دجا عتبنا ... تبدّى على الخدّ منه الشّفق صفا فوق خدّيه جمر الصّبا ... فكان الحباب عليه العرق وقوله «5» : [الكامل] أمّا المشيب فإنّه قد أبرقا ... وكأنّني بسحابه قد أغدقا فابرز إليه أبيضا في أبيض ... لا تذكرن زمن النّفار من النّقا كان الهوى خلّ الصّبا وصديقه ... حتّى تلا شيبي وآن تفرّقا

وقوله «1» : [المديد] أيّ شأن لا يباح به ... بعد ما قد باح لي شأن وكلام الصّبّ أدمعه ... لك والأفواه أجفان أدمعي والحبّ إن حكموا ... فهو دعوى وهي برهان ما زها من قبل معطفه ... فوق غصن البان بستان جلّنار الوجنتين له ... من ثمار الصّدر رمّان كيف أرجوهم وعندهم ... حرمات الحبّ أضغان ومنها: وله سيف كناظره ... حارس للخلق يقظان عاد كفر الكافرين إذا ... ما رأوه وهو إيمان يتداعى إذ دعوت به ... [حين] يلقى الشّرك أوثان للظّبا الأجفان نعرفها ... ولهذا السّيف آذان وهو مرآة يبين بها ... من ضمير الضّدّ أضغان ومنها: قم لتملا من نفوسهم ... ورماح الخطّ أشطان وخدود الأرض مشرقة ... من دم والخيل خيلان

10 - ومنهم: محمد بن محمد، عماد الدين، أبو حامد القرشي، الأصبهاني، الكاتب.

10- ومنهم: محمّد بن محمّد، عماد الدّين، أبو حامد القرشيّ، الأصبهانّي، الكاتب «1» . * ركن الدّول وعمادها، ومزن الممالك وعهادها، علم يهتدي به الساري، وكرم ينتدي بسيبه الجاري، رسا كالطّود المرجحنّ وسرى كالجود فأوى إليه المستكنّ، وتحلّت به ترائب الأيام، وحلت بحجبه ربائب الخيام، فعلا مقدارا، وأبى أن يتخذ دارة البدر دارا، فقصّت دونه أجنحة النّعامى، وطرقت أفنية المعالي الأبكار والأيامى، وعزّ في تلك الدول فغالت في قيمته، وغالبت في نشر لطيمته، وكان ذا أيد تنهض بكلّ عظيمة، وتأبى كل هضيمة، بعزم يزاحم أبان «2» ، وتقدّم إذا نكل كلّ جبان، بأقدار لسان، وابتدار بديهة الإحسان؛ وكانت قصبات السبق لا تحرز إلّا لأدهمه، ولا تحزر دارات البدور إلا لدرهمه. نشأ في حجر عمّه المستوفي «3» ، وتأدّب بأدبه، وعرف في ديوان الخلافة

باسمه، وخدم الأبواب الإماميّة، فقدّم على الأولياء، وتمسّك بالأسباب العلمية ومواريث الأنبياء، وكتب للدّولة النّورية فازدادت به نورا على نور، وازدانت منه بفرائد بحور على نحور، واتصل بالمقام الصّلاحي، فأصلح الفاسد، وأربح الكاسد، وكان بالخدمة النّاصرية كاتب الإنشاء بها حقيقة، وساحب ذيل كلّ حديقة؛ وأمّا الفاضل فكان قد رفّع عنها وكبّرها ثم كان أكبر منها، وكان العماد بحرا يتلاطم موجا، وأفقا يتلألأ أوجا، وكان ملازما للسّلطان سفرا وحضرا، ووردا وصدرا، ومحصّلا بصحبته آلافا وبدرا. وكان فقيها جدليّا، عالما فاضلا، أديبا، أريبا، كاتبا، شاعرا، ناظما، ناثرا، ذا تصرّف في البيان، وتفنّن في الكلام، لو ازدحم عليه ألف بريد لجهزة، أو نظم كلّ فريد لما أعجزه؛ وله الجيّد النّادر، والغضّ النّاضر، والبعيد المرام عمل الوقت الحاضر، وله التأليفات الكثيرة، والمصنّفات المفيدة، والرسائل البديعة، والقصائد الصنيعة، إلا أنه كان متطبّعا متصنّعا، يظهر عليه أثر الكلفة وثقل التصنّع، مغرى بالتجنيس مع ما فيه من الكلّ على المسامع، لقرب مخارج الحروف، مما تنفر منه الطباع. وسئل الفاضل عنه، فقال: سيّدنا العماد، مثل الزناد، ظاهره بارد، وباطنه واقد. وكان محلّ الثقة من الفاضل، آمنا من توثبه عليه، وتغلبه على ما جعله السّلطان إليه، وبهذا كان يطمئنّ إذا غاب مع ما ينويه من قلب السّلطان. وكان «1» العماد شديد الحرص على تحصيل الدّنيا، وكان الفاضل يلومه ويعتبه، ويعذله ويؤنبه؛ فبعث مرة يشكو إليه ضرورة، فكتب إليه الفاضل:

يا سيد أخيه، لا تسمع الدّهر هذه الشكوى، فيستعذبها فتستمر على العدوى؛ ولو اشتغلنا بالله لكان يغنينا، ولو قعدنا عن الرزق لأتانا لا يعنينا؛ وفي الحديث «1» : «اتّقوا الله وأجملوا في الطّلب» ولا ندري كيف يكون المنقلب؛ فبالله إلّا ما سمعت وأخذت هذا الأدب. وله في هذا حكايات، منها «2» : أن رجلا من أهل حمص جاءه بطبق كيزان، وتفصيلة كتّان، قيمة ذلك كله نحو خمسين درهما، وسأل حاجة، فأخذ قصته وقرأها على السّلطان، وكان قد بلغه الخبر، فلم يجبه، فأعاد العماد عرض القصة وقراءتها مرات في مجالس عدة، والسّلطان لا يأمر فيها ولا ينهي؛ ففطن العماد وعلم أن الخبر قد اتصل بالسّلطان، فأعاد عرض القصة، فلما لم يجبه عنها، قال: يا مولانا، الطّبق الذي أحضره صاحب هذه القصة باق إلى الآن، لم أتصرف فيه، فإن كان ما ينقضي شغله أعدت إليه طبقه؛ فضحك السّلطان، وعجب من دناءة نفسه، وأمر بقضاء شغل الرجل. وحكي «3» أنه كان شديد التّهافت على أخذ الختوم الذّهب الذي يجئ على كتب الفرنج، فوصل منهم كتاب بغير حضوره، ففتحه السلطان بيده وأخذ بعض الحاشية الختم، فلما جاء العماد قيل له: اكتب جواب هذا الكتاب، فقال: يكتب جوابه من أخذ الختم؛ فعزّ قوله على السّلطان، وقال له: ثم اخرج الوقت، ما هو محتاج إليك؛ فأتى العماد الفاضل، وعرّفه بما كان، فقال له: رح إلى الخانقاه، واقعد بها مع الفقراء، والبس زيّهم؛ فإذا طلبك السّلطان قل: أنا قد دخلت في أمر لا أخرج منه؛ ثم لا تخرج حتّى يأتيك السّلطان بنفسه مرضيا؛ ثم لم يلبث

الفاضل حتّى أتته رسل السّلطان في طلبه، فلمّا أتاه شكا إليه العماد، وقال له: اكتب جواب هذا الكتاب؛ فقال: والله ما أعرف ما أكتب فيه، لأن العماد كان يصدر هذه الكتب، ولا يعرفه سواه؛ ولم يزل يلطف الأمر حتّى قال: اطلبه؛ فبعث في طلبه، فلم يحضر، واعتذر، فعظّم الفاضل الأمر، وكرر الرّسل في طلبه وهو لا يحضر، فقال الفاضل: أنا أروح خلفه، وأتلطّف به، فو الله هذا باب ما يسدّه سواه؛ ثم ذهب إليه، فأطال المكث، ثم عاد إلى السلطان وقال: لقد حرصت به فلم يجب، ورأيته مقبلا على ما دخل فيه إقبالا ما أظنه بقي يخرج عنه، وما ضر السلطان لو زار الفقراء، وترضى عبده؛ ولم يزل به حتّى أتاه وترضّاه. * ومن نثره قوله جوابا عن السّلطان في تفضيل دمشق «1» : عرفنا طيب الدّيار المصريّة ورقّة هوائها، ونحن نسلّم إليها المسألة في طيبها وتوفير نصيبها، ورقة نسيمها ورائق نسيبها، لكن هلّا رأت أن الشام أفضل، وأنّ أجر ساكنه أجزل، وأنّ القلوب إلى قبله أميل، وأن الزّلال البارد أعلّ وأنهل، وأن الهواء في صيفه وشتائه أعدل، وأن الزّهر به أشبّ، والنبت به أكهل، وأن الجمال فيه أكمل، وأن القلب به أروح، والرّوح به أقبل؛ ودمشق عقليته الممشوطة وعقلته المنشوطة، وحديقته الناضرة، وحدقته الناظرة، وهي عين إنسانه، بل إنسان عينه، وصيرفيّ نقوده، وعين نضاره ولجينه، فمستامها مستهام، وما على محبّها ملام، وما في رؤيتها ريبة، وفي كلّ جيرة منها حبيبة، ولكل شائب من نورها شبيبة، ومع كلّ ورقة ورقاء، وعلى كلّ معانقة من قدود البانات عنقاء، وشادي بانها على الأعواد يطري ويطرب، وساجعاتها بالأوراق تعجم وتعرب،

وكم فيها من جوار ساقيات، وسواق جاريات، وأثمار بلا أثمان، وروح وريحان، وفاكهة ورمّان، وخيرات حسان، وقد تمسّكنا بالآية والسّنة والإجماع، وغنينا بهذه الأدلة عن الاختراع والابتداع. أما أقسم الله تعالى بدمشق في قوله: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ «1» والقسم من الله بها دليل على فضلها المصون؛ أما قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) «2» : «الشّام خيرة الله من أرضه، يسوق إليها خيرة الله من عباده» ؟. وهذا أوضح برهان قاطع على أنّه خير بلاده؛ أما الصّحابة رضوان الله عليهم، أجمعوا على اختيار السّكنى بالشام؟ أما فتح دمشق بكر الإسلام؟ وما ينكر أن الله ذكر مصر وسمّاها أرضا، فما الذّكر والتّسمية في فضيلة القسم، [ولا الإخبار عنها دليلا على الكرم، وإنّما اكتسبت الفضيلة] من الشّام، بنقل يوسف الصّديق إليها عليه أفضل الصّلاة والسلام، ثم المقام بالشّام أقرب على الرّباط، وأوجب للنشاط، وأجمع للعساكر السائرة من سائر الجهات؛ وأين قطوب المقطّم «3» من سنا سنير «4» ؟ وأين ذرى منف «5» من ذروة الشّرف المنيف «6» المنير؟ وأين الهرم الهرم من الحرم المحترم؟ وبينهما فرق، ما بين القدم والفرق؛ وهل للنّيل مع طول نيله وطول ذيله،

واستطالة سيله برد بردى في نقع الغليل؟ وما لذاك الكثير طلاوة هذا القليل، وسيل هذا السلسبيل؛ وإذا فاخرنا بالجامع وقبّة النسر «1» ، ظهر عند ذلك قصر القصر، على أن باب الفراديس «2» بالحقيقة باب النّصر، وما رأس الطابية كباب الجابية «3» ، ولو كان لناسها باناس «4» لم يحتاجوا إلى قياس المقياس؛ ونحن لا نجفو الوطن كما جفاه، ولا نأبى فضله كما أباه، وحبّ الوطن من الإيمان، ومع هذا فلا ننكر أن مصر إقليم عظيم الشّأن، وأن مغلّها كثير، وماؤها غزير، وأنّ عدّها نمير، وأن ساكنها ملك أو أمير، وأن الذهب فيها لا يوزن بالمثاقيل ولكن بالقناطير؛ ولكن نقول كما قال المجلس السّامي الفاضلي، أسماه الله: إن دمشق تصلح أن تكون بستانا لمصر، ولا شكّ أن أحسن ما في البلاد البستان؛ وهل دمشق إلّا مثل الجنان؟ وزين الدين «5» وفقه الله تعرض للشّام فلم يرض أن يكون المساوي حتّى شرع وعدّ المساوي! ولعلّه يرجع إلى الحقّ، ويعيد سعد إسعاد وفاقه إلى الأحق. ومنه: ولو واصل خدمه بمقتضى مخالصته، لما وفى في جميع عمره، ببعض ما يجب عليه من حقّ المجلس وشكره، لكنّه يهاب الفضل العزيز فيتجنّب، ويستصغر قدره عند قدرة المعظم فيتأدب، ومن يقدم على مقابلة الشمس بسراجه؟ والعذب بأجاجه؟ والدّرّ بزجاجه؟ وأيّ قدر للقطرة عند البحر الخضم؟

وأيّ فخر للسّهى عند إنارة البدر التّم؟ وكلّما شرع في خدمة، فنصب يده المهابة وبسطتها الصّبابة، وجلى له جلاله وجه الهيبة، فرجع ممّا رجاه من سماحة خاطره بالظّنّة والخيبة، وقال لقريحته: دعي الاقتراح، ولا تستدعي الافتضاح، وليس إلّا الاعتراف بالقصور، لا الافتراق للمحظور. ومنه قوله: على أنّه لم يبلغ مع استفراغ جهد البلاغة في الدّعاء والثّناء أمد المقصرين، وإن بذّ القرين وزاحم الأسود وولج العرين، فالعجز عن الإدراك إدراك، والمعجب في التّوحيد بادّعاء الحول والقوة إشراك. ومما كتبه في فتح القدس «1» : وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً «2» . الحمد لله الذي أنجز لعباده الصالحين وعد الاستخلاف، وقهر بأهل التوحيد أهل الشرك والخلاف، وله الحمد الذي حقق بفتحه ما كان في النفس، وبدّل وحشة الكفر فيه من الإسلام بالأنس، وجعل عزّ يومه ما حيا ذلّ أمس، وأسكنه العالم والفقيه بعد البطرك والقسّ، وعبّاد الصّليب والشّمس، وأخرج أهل الجمعة منه أهل الأحد، وقمع من كان يقول بالتثليث أهل قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ «3» وقد

فتح الخادم بحمد الله من الدّاروم «1» إلى طرابلس، وجمع ما حوت مملكة الفرنج إلى نابلس، ورجع الإسلام الغريب منه إلى داره، وقرّ سيل السير في قراره، وطلع قمر الهدى، وملأ بألسنة عزّها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ «2» قريب المدى، وعاد الإسلام بإسلام البيت المقدس إلى تقديسه، ورجع بنيانه من التقوى إلى تقديسة تأسيسه. ومنه قوله: جوده جود، وطوله طود، وكرمه كرم يعتصر صفو سلافه، ونعمه نعم تنحر وتنهر لأضيافه، ولا يحبّ الدّينار إلا مبذولا لعافيه، ولا يدّخر كثيرا إلا لجنى راجيه. ومنه قوله: ما ظفر مدلج الإضلام بالسّنا، ومحوج الإعدام بالغنى، كظفر الخادم وفوزه بشرفه وعزّه، وسعادة جدّه وجدّة سعده، وحياة روحه وروح حياته، وحسنى حاله وحلية حسناته، وسنا سنائه المشرق عند إسفار إصباح أمله، وسفور وجه جذله، بورود المثال الممتمثل، المقبل المقبّل، المفضل المفضّل، عن المجلس العالي الفاضلي، لأفتئ حكم الشرع في شرع حكم فتياه فتيّا، وروض الولي بوليّ رضاه وجوده مجوّدا موليّا، ولا برح كاشحه يطوي على الشّح برح هوى، جوّه بالغيم مغيم، ومناصحه يحوي المنى، صحّة عقيدته وعقد صحته مبرم قويم. ومنه قوله: وكتبها المملوك في منزلة عيونها سخينة، ونطافها ثخينة، وفوّارها فوّار،

وأنجادها أغوار، وساكنها غير ساكن، وقاطنها غير آمن، وجدا جداولها علاقم، وجنى جنادلها أراقم، وحيّاتها موحيات، تسعى متلوّيات، وتلتوي ساعيات، كأنّما صاغت الجن من سنابكها الخلاخل، أو أراغت لنا من لواذعها الغوائل، ثقال الرءوس، كأنّها نصب الفؤوس، فهي حطب العطب، وخشب الأشب؛ فمن طوال كحراب الزّنج، وقصار كبنادق الشّطرنج، وأوساط كأسواط العذاب، سراع كأنامل الحسّاب، وقصار كبارقات السّحاب، ومارقات النّشّاب؛ ومنها ما هو كدباسق الأتراك، أو كألوية الأملاك، ومنها بتر كأيدي السّارقين، وخفاف كدين المارقين؛ ومنها ما هو كمزمار الزّطّ أو كزنّار القبط؛ ومنها ما هو كأنه أصهب الفهود، أو تكك ذوات النّهود، أو أنياب النّمور، أو كمخالب الصّقور، أو أعصاب الخيول، أو نياب الفيول، أو طوامير الكتّاب، أو مسامير الأبواب؛ ومنها كلّ برقاء إذا انسلخت من جلدها ألقت كمّ درع، ونقبت حديد ذرع، وسوداء كصحيفة المجرم، وصفراء كصفحة المتألم، قصيرة مقتصرة الأعمار، دقيقة جليلة الأخطار؛ الحيات أمها، والممات سمّها، عنبرة لا يحملها حامل ولا يشمها. * وبهذه الرسالة ذكرت شعرا كنت وصفت فيه منزلة كثيرة الأفاعي؛ ومنه: [الطويل] وأرض ترى الحيات فيها سواريا ... كأنّ مساريها ضروب من الرّقم أساود رقط كالنّمال دبيبها ... ولكن تراها في القساوة كالدّهم وتختلف الألوان منها كأنّها ... أزاهير روض وشّعتها يد الوسمي إذا نشرت كانت حزاما وإنها ... كعروة إذ تطوى المساحب للضمّ ومطرقة فوق الكثيب كأنها ... ضفائر ضمّتها مبدّنة الجسم وآخر من دون الطّريق محملق ... شجاع على متن الطريق له يحمي ينضنض في فيه لسان مخصّر ... كأنّ عليه طائر القطن والشحم

يشمّ دخان الموت من ليس دانيا ... إليه ويلقى الموت من عاجل السّمّ يذوب به قلب الحديد مخافة ... ويفعل فعل النّار في موقد الفحم تقنّع شبها بالكميّ وإنّه ... لأفتك منه إذ يطاعن أو يرمي بمرهفة دلق يقصّر دونها ... مدى القاطع الهنديّ والرّمح والسهم يساور أوهام اللّبيب أدّكاره ... ويقتله قبل الغوائل بالوهم إذا ما ترقّى الطّود خلت بأنّه ... يجاوز كثبان السّحاب إلى النّجم «1» وذوحنق ما البرق إلّا شرارة ... لأنفاسه أورشق ألحاظه المصمي ويحدث ما لا كان في شهب الدّجى ... خسوفا عقيب الشمس بالقمر التممّ وأقسم لو ألقى على الصّمّ سمّه ... لأثّر ذاك السّمّ في شاهق الصّمّ ثم نعود إلى تتمة كلام الأصفهاني، فمنه قوله: صدرت هذه البشرى ودماء الفرنج على الأرض وقيل لها: ابلعي، وعجاجها في السّماء وقيل: أقلعي، وفاض ماء النّصال، وغاض ماء الضّلال، وهي بشارة اشترك فيها أولياء النّعمة، ونبئهم أنّ الماء بينهم قسمة «2» . ومنه قوله: ووجدناها قلعة أرضها في السماء، وتلعة في حوزها حواز الجوزاء، وعلى كلابها عواء العوّاء، ما تمرّ السّحب إلّا على سفوحها، ولا تسرق شياطين الكفر إلّا من سطوحها؛ إنا جعلنا نجوم النصال لها رجوما، وأدمنا لوبل الوبال عليها سجوما.

ومنه قوله: وأسلم البلد، وقطع زنّار خندقه، وأبيح حمى حماته، واستولى الفرق على فرقه، وتطايرت الصّخور في نصرة الصّخرة المباركة، وحجرت على حكم السّور بسفه أحجارها المتداركة، وطهرت الصّخرة بمياه العيون التي ببعدها قذيت، وصقلت بالشفاه وطالما كانت بأيدي المشركين قد صدئت. * ومن شعره قوله من قصيدة أوّلها «1» : [الطويل] وأسأل عنكم عافيات دوارسا ... غدت بلسان الحال ناطقة خرسا ومنها: مضى أمس منّي في انتظار غد لكم ... وكلّ غد لا شكّ منقلب أمسا وقيل لنا: في الأرض سبعة أبحر ... ولسنا نرى إلّا أنا ملك الخمسا ومنه قوله «2» : [البسيط] ما طبت نفسا ولا استحسنت بعدكم ... شيئا نفيسا ولا استعذبت لي نفسا وكيف يصبح أو يمسي محبّكم ... وشوقكم يتولّاه صباح مسا نادمته وأخوه النّجم يحسدني ... فإنّني كنت أرعاه إذا خنسا ومنها قوله يصف مقتولا: ما زال يعطس مزكوما بغدرته ... والقتل تشميت من بالغدر قد عطسا

ومنه قوله «1» : [مجزوء الرمل] حيرتي طالت بذي حور ... طال في النّجوى محاوره حلّ ما شدّت مناطقه ... ثقل ما شدّت مآزره ومنه قوله «2» : [الطويل] ثوى همّه لمّا ثوى الصّبر عنده ... مقيما وشطّ الصّبر في جيرة شطّوا وأرّقه طيف فرى نحوه الدّجى ... وقد كان جيب الليل بالصبح ينعطّ تشاغلتم عنه وثوقا بودّه ... كأنّ رضاكم عن محبّكم سخط ملكتم فأنكرتم قديم مودّتي ... كأن لم يكن في الحبّ معرفة قط ومنه قوله وقد اعتقل ببغداد «3» : [الكامل] قل للإمام: علام حبس وليّكم ... أولو جميلكم جميل ولائه أو ليس إذ حبس الغمام وليّه ... خلّى أبوك سبيله بدعائه ومنه قوله «4» : [الكامل] في بردك الأسد الهصور محرّشا ... وبجود كفّك تسكب الأمطار تهب الألوف ولا تهاب ألوفهم ... هان العدوّ عليك والدّينار ومنه قوله وقد جاء قفل من أصفهان لم يعرفه أحد منهم، وعرفهم كلّهم بآبائهم «5» : [مجزوء الخفيف]

أنا ضيف وإنّما ... أين أين المضيّف أنكرتني معارفي ... مات من كنت أعرف ومنه قوله «1» : [الطويل] وما هذه الأيام إلّا صحائف ... نسطّر فيها ثمّ نمحى ونمحق ولم أر في عمري كدائرة المنى ... توسّعها الآمال والعمر ضيّق ومنه قوله «2» : [الخفيف] هي كتبي فليس تصلح من بع ... دي لغير العطّار والإسكافي هي إمّا مزاود للعقاقي ... ر وإمّا بطائن للخفاف ومنه قوله «3» : [الرمل] وهضيم الكشح في حبّي له ... لم يزدني كاشحي إلّا اهتضاما كرم العاشق فيه مثلما ... لؤم العاذل فيه حين لاما «4» بقوام علّم الهزّ القنا ... ولحاظ تودع السّكر المداما خدّه يجرحه لحظ الورى ... فلذا عارضه يلبس لاما ومنه قوله «5» : [الطويل] هلمّوا إلينا نحو مشمس جلّق ... وثم بمن نهوى على الأكل نلتقي

كأنّ مذاب الشّهد فيه مجسّد ... أجدّ له عهد الرّحيق المعتّق حكى جمرات بالغضا قد تعلّقت ... فيا عجبا من جمره المتعلق كأن نجوم الأرض فوق غصونه ... كرات نضار بالزّمرّد محدق قلت: وقد ذكر الفاضل صلاح الدّين أبو الصّفا خليل الصّفدي، أن العماد كان قالها: كرات نضار في اللّجين مطرّق فلما أنشدت السّلطان صلاح الدّين قال: تشبيه الورق باللّجين غير موافق؛ فغيّرها العماد كما ذكرنا. وقوله «1» : [الكامل] قد كان يسمح بالوصال خيالها ... لو لم تضنّ العين بالإغفاء ودنت تودع للفراق وإنّما ... إقصاء سهم القوس في الإدناء وقوله «2» : [الكامل] بدر فؤادي في محبّة وجهه ... بدريّه المعدود من شهدائه رمق المحبّ فلم يدع رمقا له ... هلّا أخذت ذمامه لدمائه وقوله «3» : [الكامل] ماء الصّبا في وجنتيه وناره ... ضدّان [بين] تموّج وتلهّب وكأنّ وجنته وخطّ عذاره ... فيها طراز مفضّض في مذهب وقوله «4» : [الرمل]

هات يا بدر الدّجى شمس الضّحى ... قهوة تهدي إلينا الفرحا واملأ الكأس إذا فرّغتها ... إنّ روح الرّاح يبغي شبحا واقتدح زند سروري طربا ... واسقنيها كلّ دور قدحا لا تلم يا صاح- أفديك- على ... سكر قلب فيك لو صحّ صحا وقوله «1» : [الكامل] وعلى السوالف منه فود مرسل ... فيه فؤاد المستهام مقيّد متقلّد بدمي وظنّي أنه ... بمدامعي أو مثلها متقلّد ما عاينت عيناي صدغا فاحما ... إلّا وسواده لقلبي أسود أيخاف عارضه عقارب صدغه ... وعليه رعف للعذار مزرّد وقوله «2» : [الطويل] مشعشعة لاحت كأنّ مزاجها ... كسا كأسها بالورس ثوبا مصبّغا يطوف بها ساق من السّكر خلته ... وقد عرفت منه الفصاحة ألثغا إلى ريقه المعسول يظما محبّه ... وروّى به عود الأراك الممضغا وما فتّر العينين إلا ليقتلا ... وما عقرب الصدغين إلا ليلدغا وقوله «3» : [المنسرح] يروقني في المها مهفهفها ... ومن قدود الحسان أهيفها يا ضعف قلبي من أعين نجل ... أفتكها بالقلوب أضعفها يا منكرا من هوى بليت به ... علاقة ما يكاد يعرفها

دع سرّ وجدي فما أبوح به ... وخلّ حالي فلست أكشفها وقوله «1» : [الطويل] نهيت فؤادي عن هواكم فما انتهى ... ونهنهت دمعي في الغرام فمارقا ومن فرط وجدي خلتم بي جنّة ... إذا لم ترقّوا لي فما تنفع الرّقى وقوله «2» : [الكامل] هب أنّ قلبي للنّصيحة قابل ... ما نافعي والدّمع ليس بقابل مالوا إلى وصلي فحين وصلتهم ... ملّوا وليس يملّ غير الواصل وقوله «3» : [الكامل] سل سيف ناظره لماذا سلّه ... وعلى دمي لم دلّه قدّ له واحذر سهام اللّحظ منه فإنّما ... عن قوس حاجبه يفوّق نبله واقبل وإن حسدوك عذر عذاره ... واحسد على عسل بفيه تملّه يا منجدا ناديته مستنجدا ... في خلّتي والمرء ينجد خلّه سر حاملا سرّي فأنت لحمله ... أهل وخفّف عن فؤادي ثقله فإذا وصلت فغضّ عن وادي الغضا ... طرف المريب وحيّ عنّي أهله وقوله «4» : [الوافر] ألا يا عاذلي دعني وشأني ... وما تجري المدامع من شؤوني بكلّ خدينة للحسن مالي ... سوى بلوى هواها من خدين

11 - ومنهم: نصر الله بن محمد بن محمد، ضياء الدين، أبو الفتح، ابن الأثير الجزري، الكاتب.

كريم أو كغصن أو كبدر ... بلحظ أو بقد أو جبين تبسّم درّها عن أقحوان ... وأزهر وردها في ياسمين وقوله «1» : [الطويل] قفوا وسلوا عن حال قلبي وضعفه ... فقد زاده الشّوق الأسى فوق ضعفه أرقت فجفني ما يريق سوى دمي ... كأنّ الهوى أوصى جفوني بنزفه 11- ومنهم: نصر الله بن محمّد بن محمّد، ضياء الدّين، أبو الفتح، ابن الأثير الجزريّ، الكاتب «2» . * متكبر، نفخ في غير ضرم، وبذخ «3» بالسّمن وشحمه ورم، ولم يلتفت الدّهر إليه بعطفه، ولا أقبل عليه ببعض عطفه، حتى شمخ شمما، ونطق خرسا، وأصغى صمّا، وكانت له مخيلة ظهرت بارقتها، وبهرت سارقتها، شرب بودقها الهيام، وضرب ببرقها الغمام الخيام؛ وقد كان بالموصل، وشبابه مسودّ اللّمم، محتدّ الهمم، في درس يباكره ويغاديه، ويسقيه ماطره بروائحه وغواديه، فملأ الحفظ خاطره حتّى اندفق، وكلأ الحظّ سائره حتى توقّد الشفق، فقالب الأسود، وقارب أن يسود، لولا عجب ردّاه، وردّ وجهه عن الطريق فما أداه، فوقع إذ أسفّ، وتكدّر إذ شفّ، واتصل بالخدمة الأفضليّة فغمط به فضلها، وقبض بسببه

ظلّها، فلم يحمد أحد له ولا لسلطانه فعلا، ولا عدّ له ولا للأفضل «1» فضلا، وجلس للنّاس وقد لبس رداء الكبرياء، وسلب بحمقه وقار الكبراء، فأحرج الصّدور عليه وعلى ملكه، وأحوج المقدور بما لديه إلى مهلكه، فتميّزت الخواطر عليه غيظا، وأبرزت الضّمائر له برد القلوب قيظا، فأودع النّفوس ودائع الحنق، وأترع له الدهر العبوس مشارع الرنق، وخرج من دمشق في صناديق المطبخ مختبئا حين أخرج الأفضل منها، وكان ينتقص الفاضل والعماد وسائر الكتّاب، ويحط قدر الأفاضل، ويسخر بالنّاس، ويتوقف في قضاء الحوائج، ويحمل ملكه على جفاء أهله وقطع ذوي رحمه، ويبعد بينه وبين أقاربه، فلهذا مقت، وغضّ طرفه وبهت؛ وفيه يقول الشّهاب فتيان «2» : [مجزوء الرجز] متى أرى وزيركم ... وما له من وزر يقلعه الله فدا ... أوان قلع الجزر وفيه يقول ابن عنين «3» : [الوافر] كأن قفا الوزير عروض سوء ... يقطع بالبسيط وبالمديد قذال لا يزال النّعل فيه ... كمنزل أحمد بن أبي الحديد وكان كاتبا مطّلعا، مترويا بالعلوم مضطلعا، إلّا أنه كان متكلفا متطبعا، ومتعجرفا متصنّعا، وكان يتعاطى أكثر مما يستحقّ.

وله تصانيف، منها «المثل السّائر» و «الوشي المرقوم» و «المعاني المبتدعة» وأمثلها «المثل السّائر» وقد عمل عليه موفّق الدين [ابن] أبي الحديد «1» كتابا سمّاه «الفلك الدّائر على المثل السّائر» وعمل آخر كتابا على كتاب [ابن] أبي الحديد سمّاه «القطع الدّابر على الفلك الدّائر» «2» وكلام هذا الرجل- أعني الضّياء- وإن كان محكم الصنعة، ناظرا إلى دقائق المعاني، فإنّه في غاية التكلّف، لاعتماده على معاني النّاس، وإكثاره من الحلّ والاقتباس، وقد بنى كتابه المسمى «بالوشي المرقوم» على هذا؛ وعليه كانت طريقته، في كلامه ومنحاه في قوله، لا يكاد يسمع له من النظم إلّا ما قلّ. مولده يوم الخميس، العشرين من شعبان، سنة ثمان وخمسين وخمسمئة بالجزيرة «3» . * ومن نثره قوله في وصف كريم: فلان يغار من جود غيره إذا جاد، ويرى الأفضلية في المكارم إلّا في وحدة الانفراد، فصديقك الذي يحب محبة الله في ودّه، ولا يتعدّى الخجل إلى الثقة بعهده؛ ولو أعطينا الرّشد كما كنا نأسى على ما يختلف على تغييره المساء والصّباح، وكان كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ «4» .

ومنه قوله في وصف البلاغة: إذا نزل من سماء فكري ماء، سالت أودية بقدرها، واهتزت رياض بزهرها، وليست الأودية إلّا خواطر الأفهام، ولا الرّياض إلّا وشائع الأقلام. ومنه قوله: وفي الآباء عوض عن الأبناء، وفي الأسّ خلف لما يستهدم من شرفات البناء، وقد قيل: إنّ في سلامة الجلّة هدر للنيب «1» ، وإذا سلمت طلعه البدر، فأهون بالأنجم إذا انكدرت للمغيب؛ وما دام ذلك المعدن باق، فالقضب كثيرة وإن أودى منها قضيب. قلت «2» : لو قال: الدّوح، أو الأصل، أو ما شابه ذلك، كان أنسب من قوله: المعدن، وأكثر ملاءمة مع قوله قضيب. ومنه قوله: وفلان قد خبر الدّهر في حلب أفاويقه، ونقض مواثيقه، فهو لا يرد الماء إلّا بماء، ولا يهتدي في مسرى أرض إلّا بنجوم سماء؛ ومن شأنه أن يرد الأمور برأيه ولا يبعث فيها رائدا، وإذا قيل: إنّ فلانا ذو كيد، قال: من الكيد أن لا يدعى كائدا. ومنه قوله: لقونا وقد أشرعوا الأسنّة التي شاركتهم في الأسماء، وإذا أوردت أروتهم من غليل الحقد كما يتروى من شرب الدماء، لكن ذادها عن الورد ما هو أصلب منها عودا، في يد من هو أمضى منهم جدا وأسعد جدودا، وإذا لاقت الرّيح

إعصارا، زالت عن طريقه، وضاق ذرعها بمضيقه. ومنه قوله: رأيت أجمة ولا ليث يحمي تلك الأجمة، بل رأيت بيض عقاب تحضنه رخمة، وليس المشار إليه إلّا نائما في صورة يقظان، وهو كزيد وعمرو إذ تجري عليهم الأفعال وهما لا يشعران. ومنه قوله: وفلان قد جعل الرّأي دبر أذنه، ووضع جفير «1» السّيف تلقاء جفنه، ولم يعرّج على لهو فيقول «2» : اليوم خمر وغدا أمر، ولا يصغي إلى مسير فيأخذ بقول زيد ولا عمرو، فهو مطلّ على مغيبات الأمور، غير غافل بتمام الأعقاب إذا تمت له الصّدور. ومنه قوله: الغناء يخفّ بكثير من الأوزان، والنّظر في هذا إلى الأثر لا إلى العيان، ولا عجب أن يوزن الواحد بجميع الورى، ولهذا قيل: كلّ الصيد في جوف الفرا «3» . ومنه قوله: كم في الأرض من شمس تخجل لها شمس السّماء، وتتضاءل إليها تضاؤل الإماء، وتعلم أن ليس لها من محاسنها إلّا المشاركة في الأسماء؛ فلربما طلعت في الليل فقال النّاس: هل يستوي بياض النّهار وسواد الظّلمات، ولا عجب للعيون إذا رأتها أن تظنّ ذلك في أحلام النوم، أو يخيل لها أن

يوشع «1» في القوم. ومنه قوله: ولقد رأيته فرأيت العالم في واحد، وعلمت أنّ الدهر للنّاس ناقد، وما أقول إلّا أنّ الله ردّ به الأفاضل إلى معاد، ثم وضعه موضعه «2» ، فذلك من جملة الأعداد في الاعتداد، لكن [إن] كان ذنبي خطأ، فقد جاءت معذرتي عمدا، ولا عقوبة مع الاعتذار، ولو كان الذّنب شيئا إدّا، والمقدرة لا تسيغ للكريم أن يمضي غيظا أو يطيع حقدا. ومنه قوله: الأحوال شبيهة بالأبدان في عوارض سقمها، وكلّ داء من أدوائها له علاج إلّا ما كان من سأمها وهرمها، وقد قيل: إنّ الطّب هو معالجة الأضداد بالأضداد، ولهذا لا يطبّ مرض الآمال إلّا بجود الأجواد، وفي شهود الجناية من الأشراف ظلم للسّادات لا تعدّه النّفوس من ظلمها، ولربّما كلم السّوار يدا فذهب فخر زينتها بألم كلمها، ولهذا هانت جناية بني عبد المدان، وضرب بها المثل في شرف المكان، والنّاس في المنازل أطوار، فمنهم أنجاد ومنهم أغوار. ومنه قوله: بازيّ «3» أشهب، تفخر السوابق بأنها له سميّة، وترتمي الطير في جو السّماء وهي له رميّة، كأنّما يجلو القذى عن عقيقتين، ويظلّ من توحشه

وإيناسه من خليقتين، ومن أدنى صفاته أن يقال: هذا خلق من الرّياح، في صورة ذي منسر وجناح، وقد لقب بالبازي لكثرة وثوبه، وما غدا لمطلب صيد ففاته شيئ من مطلوبه، ولقد تكاثرت قلوب الطير لديه في كلّ حال، حتّى شبّه رطبها ويابسها بالعناب والحشف البال» . ومنه قوله في المطر: وانحلّ بها خيط السماء، حتى استوى ريّ بطونها للظّماء، ولكنّه للريح التي حبته بما حبا، ولم يكن مسك طلّه معتصرا إلّا من كافور الصّبا. ومنه قوله: ولقد سنّوا دروع الحديد على مثلها، ولولا اتقاء البغي لرأوا حمل العار في حملها، فإذا صافحتها أسنّة الحرضان «2» ، رأيت أشخاص الكواكب في غدران. ومنه قوله في لئام: أصلح الإفساد، وردّ البلاد؛ وقد استذأبت نقادها «3» ، واستجبلت وهادها «4» ، ووردت وعولها بحيث ترد آسادها!. ومنه قوله: فعلم ذلك جهل لا يرعّ «5» منه عنف الملامة، وداء لا يكفي في تقليل دمه

الفصد للحجامة، بل اليد لمن وضع السّيف فيه موضع العصا، ومن عمى الضلالة ما لا يبصر إلّا بسفك الدّم، ومنه ما يبصر بتسبيح الحصا. ومنه قوله: وكم لطيف الخال من يد يبذلها، وصاحبة يمنعها، ولطالما سمح برؤية عين لا يراها، ونجوى حديث لا يسمعها، فياله من باطل أشبه في مراره حقا، وأوهم القلب أنه داواه وما داوى، والغليل أنه شفاه وما أشفى. ومنه قوله: قليل الاحتفال بالخطوب المختلفة، وإذا انتقلت أحوال الزّمان، كانت حاله غير منتقلة؛ فعلمه يطلّ على أفكاره، ويرى الأمر الخفيّ من خلف أستاره، ولا تبلغ الأنجاد والأغوار مدى أنجاده وأغواره، فهو اليقظ الذي هجع النجم وهو لا يهجع، والماضي الذي يجزع السيف ولا يجزع، والمعافى المضروب له المثل بأنّه لا يخدع. ومنه قوله: ريعان العمر تشترك فيه نهضة الأجسام والهمم، ولهذا كان شباب العلى في الشّباب، وهرمها في الهرم، وما تشابها في اللفظ إلّا لتشابههما في المعنى، وكلاهما ذو رونق في حسنه، إذا اجتمعا زادا حسنا؛ وما أقول إلّا أن بين سواد الشّعر والسّؤدد غراسا، كما أن بينهما في التسمية جناسا. ومنه قوله: من كل بطل يزحم غوارب الأهوال بغاربه، ويلقى وجوهها الكريهة بجانبه، ولطالما كافحها في الحرب، حتى نفضت وقائعها غبارا على ذوائبه، فهو يقدم فيها إقدام من ليس له أجل، ولا يرى للخدّ الأسيل حسنا، لا يخدّ من الأسل.

ومنه قوله: تماثلت فرائد عقودها وثغرها، فلا يدرى أنظمت حلية نحرها في تبسّمها، أم حلية مبسمها في نحرها؛ فلو انتثرت تلك الفرائد في اللّيل البهيم، لا لتقطت حبّات العقد النّثير في ضوء العقد النّظيم. ومنه قوله: إذا نظر الخادم إلى حبسه المقتنى من خدمة الديوان العزيز لم يحتج إلى أوّلية مجد قديم، ولا إلى فضيلة سعي كريم، فالحظوظ مقتسمة في تلك الأبواب بلثم التراب؛ ولو عقلت النّجوم، كما يزعم قوم، لنزلت إليها خاضعة الرقاب، وقالت لها: أنت أولى بمكان السّماء الذي منه مطلع الأنوار ونشوء السّحاب. ومنه قوله في رؤوس علّقت على قلعة: ولم يكن بناؤها إلا بعد أن هدّمت نفس الأعناق، كأنّما أصيبت بجنون فعلقت عليها القتلى مكان التّمائم، أو شينت بعطل فعلقت مكان الأطواق. ومنه قوله: لم تكسه المعركة نسج غبارها، حتّى كسته الجنّة نسج شعارها، فبدّل ثوب أحمره بأخضره، وكأس حمامه بكأس كوثره. ومنه قوله في وصف الحياء: الحياء لباس يتّقى وجه الكرم بوقائه، وهو له كاللّحاء الذي يبقى العود ببقائه. ومنه قوله: لو أردت دوام الدّهر على حال واحدة ما دام، والبأساء والضّراء خيالات

أحلام، فما ينبغي لك أن توليه حمدا ولا ذما، فإنّك تتقلّد منه يدا ولا يدا، ولا تشكو منه ظلما ولا ظلما. ومنه قوله: ولئن صبرت فلأن الجزع لا يفيد ردّ الفائت، ولقد علمت أنّ للمصائب أجرا، ولكنه لا يفي بشماتة الشامت. ومنه قوله: مررنا عليهم مرور الأمحال، وأمّيناهم وهم رجال بلا أرض، وتركناهم وهم أرض بلا رجال، ولقد مشت المنايا في دمائهم حتى ظلت حسرى، وشبع السيف منهم حتّى تفزر بطنه، وشرب الرّمح حتى تأوّد سكرا، ولم يبق للإسلام في عقده غلّ إلّا شفاه، ولا عنده دين إلّا استوفاه. ومنه قوله: في الحرب إذا أيتم «1» السّيوف من الأغماد، فقد أيتم الأولاد من الآباء وأثكل الآباء الأولاد، فلا يرى أدهم نقع إلّا وهو ببياضها أبلق، ولا أحمر دم إلّا بحدّها مهرق، فهو مصارع النّفوس، ومطالع السّعود والنّحوس، والنّار التي عبدت من قبل المجوس. ومنه قوله: لا يكون الكريم كريما، حتى يكون لنفسه غريما، فإنّ العطايا حقوق واجبة على أقوام، وإذا لم يجد الغمام بمائه فأيّ فائدة في كثرة ماء الغمام؟.

ومنه قوله: توانى عنه رسل النّجاح، ووكلت به عزمة أوقفته على رجل وأنهضته بجناح، وتمنعه من الإتيان على عجل، إنّ القضاء على مهل. ومنه قوله: هوّنت نفسي حتّى صرت أصرّفها كما أشتهي، وأنهاها وآمرها فتأتمر وتنتهي، ومن صفاتها أنّها لا تمنى من غيرها بزاجر، وقد استوت حالتها في باطن من الأمر وظاهر. ومنه قوله: جمع المال فقر لا غنى، وهو كشجرة لا ظلّ لها ولا جنى، وصاحبه لا يستفيد به إلّا ذمّا، ولا يستزيد بالسعي له إلا همّا، واليسار على هذه الحال هو عين الإملاق «1» ، والذّهب والحجر سواء إذا لم تتصرف فيه يد الإنفاق، وفضيلة المال داء الأعراض، كما أن فضيلة الزاد داء الأجساد؛ وعلاجهما شيء واحد، في الوقوف على درجة الاقتصاد. ومنه قوله: وصنائع المعروف تورث من الثّناء خلودا، وتكون لغير ذوي الجدود جدودا، تبتنى العلياء بما يفنى ولا يبقى، وترقى بصاحبها إلى منال النجم وهو لا يرقى؛ والسّعيد من جعل ماله نهبا للمعالي لا للّيالي، وعرضة للمآثر لا للذّخائر، ومن نال الدّنيا فاشترى آخرته ببعضها، وأقرض الله من مواهبه التي دعاه إلى قرضها، فذلك الذي فاز بالدّارين، وحظي فيها برفع المنارين.

ومنه قوله: سارية تمشي لثقلها مشي الرّداح، ويكاد يلمسها من قام بالراح «1» ، وما نتجت نتاجا إلّا أسرّت في ضمنه حمل أقاح، ولا أظلمت إلّا أضاء البرق في جوانبها، فتمثّلت ليلا في صباح، فهي مسودّة مبيضّة الأياد، مقيمة وهي من الغواد، نوامة على طول سهرها بالوهاد، فكم في قطرها من ديباجة لم تصنع أفوافها، ولؤلؤة لم تشق عنها أصدافها، ومسكة لم تخالط سرر الغزلان أعرافها؛ فما مرت بأرض إلّا أحيتها بعد مماتها، ووسمتها بأحسن سماتها، وغادرت غدرانها فائضة من جهاتها، ومثلها والنّبت مطيف بها بالأقمار المتعلقة بأردية ظلماتها. ومنه قوله: فلان قد كشف عن مقاتله، وعرض بجهة الأدلّة نفسه على قاتله. ومنه قوله: وقلمه هو يراع نفث الفصاحة في روعه، وكمنت الشجاعة بين ضلوعه، فإذا قال أراك نسق الفرند في الأجياد، وإذا صال أراك كيف اختلاف الرّماح بين الآساد؛ طورا ترى نحلة تجني عسلا، أو شفة تملي قبلا، وطورا ترى إماما يلقي دروسا، وآونة تنقلب ماشطة تجلو عروسا، ومرة ترى ورقاء تصدح في الأوراق، وأخرى ترى جودا مخلّقا بخلوق السّباق؛ وربما تكون أفعوانا مطرقا، والعجب أنّه لا يزهى إلا عند الإطراق؛ ولطالما نفث سحرا، أو جلب عطرا، وأدار في القرطاس خمرا؛ وتصرف في وجوه الغناء، فكان في الفتح عمر وفي الهدى

عمّارا وفي الكيد عمرا «1» ، فلا تحظى به دولة إلا فخرت على الدول وقالت: أعلى الممالك ما يبنى على الأقلام لا على الأسل، والقلم مزمار المعاني، كما أن أخاه في النّسب مزمار الأغاني؛ وكلاهما شيء واحد في الإطراب غير أن أحدهما يلعب بالأسماع، والآخر يلعب بالألباب. ومنه قوله: وقلمه هو الذي إذا قذف بشهب بنانه رأيت نجوما، وإذا ضرب بشبا حدّه رأيت كلوما، وإذا صور المعاني في ألفاظها رأيت أرواحا وجسوما، ولطالما قال فاستخفّ موقّرا وكسا وقارا، وأطال فوجدت إطالته بحلاوته إقصارا، فهو دقّ المعاني المخترعة، يستخرجها من قليبها، ويبرزها في ثوبها القشيب، وليس خلق الأثواب كقشيبها، يجتني معانيه من ثمرات مختلفة طعمها، وينسج ألفاظه من ديابيج مؤتلفة رقمها. ومنه قوله في ذم كاتب: لا يمشي قلمه في قرطاس له إلّا ضلّ عن النّهج، ولا يصوغ لفظا إلّا قيل: ربّ حدث من الغم كحدث من الفرج، ولكن ما كل من تناول قلما كتب، ولا كل من رقا منبرا خطب، والدّعاوى في هذا المقام كثيرة، ولكن ليس القنا كغيرها من القصب. ومنه قوله «2» : وكان بين يدي شمعة تعمّ مجلسي بالإيناس، وتغنيني بوحدتها عن كثرة الجلاس، وينطق لسان حالها أنّها أحمد عاقبة من مجالسة النّاس؛ فلا الأسرار

عندها بملفوظة، ولا السّقطات لديها بمحفوظة؛ وكانت الريح تتلعّب بلهبها، وتختلف على شعبه بشعبها، وطورا تقيمه فيصير أنملة، وطورا تميله فيصير سلسلة، وتارة تجوفه فيصير مدهنة، وتارة تجعله ذا ورقات فيتمثل سوسنة، ومرة تنشره فينبسط منديلا، ومرة تلفّه على رأسها فيستدير إكليلا؛ ولقد تأملتها فوجدت نسبتها إلى العنصر العسليّ وقدّها قدّ العسّال، وبها يضرب المثل للحليم، غير أن لسانها لسان الجهال ومذهبها مذهب الهنود في إحراق نفسها بالنّار، وهي شبيهة العاشق في انهمال الدّمع، واستمرار السّهر، وشدّة الاصفرار. ومنه قوله: ولقد عدا السّحاب طوره إذا هطل في بلدة هو بها مقيم، لكن عذره أنّه أتى متعلّما، وقد جرت العادة بإفادة التعليم، وما أقول: إنّه يقابل ذاك الوجه النّدي إلّا بوجه قل ماؤه، ولو استحيا منه حقّ الحياء لما هطلت سماؤه، وأنّى يقاس فيض كرم السّحاب بفيض كرمه، أو ديمه الدائمة بإقلاع ديمه. ومنه قوله: إذا رفعت الخطوب أعناقها، لقيها من رأيه بسعد الذّابح، وإن بقي ليلها غشيه من عزمه بالسّماك الرامح، فهو يسفك دماءها، ويجلو ظلماءها، ولهذا ترى وقد أجفلت عن طريقه، فرجعت عن حرب عدوّه إلى سلم صديقه. ومنه قوله في اليأس والطّمع: إن نظر إلى اليأس والطمع، وجدا سواء في جدوى الإعطاء، ولا فرق بينهما إلا في روح التعجيل وكرب الإبطاء، ومن هاهنا عجّل اليأس غنى والطّمع فقرا، وأوسع صاحب هذا ذما، وصاحب هذا شكرا.

ومنه قوله: إذا فاز المرء من اليقين بحظه، ولحظ الدنيا بقلبه لا بلحظه، علم أن عطاياها عارية مردودة، وأنّها وإن طالت مدّة وجودها فإنّها مفقودة، وما ينبغي له حينئذ أن يسر بالشيء المعار، وينقل له من دار المتاع إلى دار القرار. ومنه قوله: وكانت الدّنيا به مسرورة، فطوى عنها لباس السّرور؛ وكانت الزّلفى له بحياته، فانتقلت الزّلفى إلى أهل القبور؛ وما أقول إنّه كان للأرض إلّا بمنزلة الأرواح من الأجساد، ولا شك أن السّماء حسدتها على الاختصاص به مما اعتادت من حسد الحساد، فبماذا يمدحه المادح وقد أسلمه العيان إلى الخبر؟ وإن قيل: لولا النّبي لم تخلق شمس ولا قمر، قلت: ولولا موته لم تخسف شمس ولا قمر. ومنه قوله: وكيف يظلم ذاك اللّحد وبه من أعمال ساكنه أنوار؟ أم كيف يجدب وبه من كف فيضه سحاب مدرار؟ أم كيف يوحش والملائكة داخلة عليه ببشرى عاقبة الدار؟ أم كيف يخفيه طول العهد على زواره وطيب ترابه هاد للزّوار؟ وا أسفي كيف أطأ على الأرض وهو في بطنها ملحود؟ أم كيف ترعى «1» نجوم السّماء وما هو بينها موجود؟. أم كيف أعدّ أسماء البحار وليس في جملتها معدود؟ أم كيف أحمد من بعده عيشا ولم يكن العيش إلا به محمودا؟ ومنه قوله:

العفو عن المذنب عقوبة لعرضه، وإن نجا بسلامة نفسه، وخيانته هي التي تلبسه من غضاضتها ما لم يبلغه العقاب بلبسه؛ وقد قيل: إنّ الرّفق بالجاني عقاب، والإحسان إليه متاب؛ ولا شكّ أنّ بسطة القدرة تذهب بالحفيظة، وتزيل وجد الصّدور المغيظة، وشيم المولى تحبّ أن يكون رضاها شفيعا إلى غضبها، وإن نبضت منه بادرة سهم، ردتها شيمة التغمد على عقبها، فلا شافع إليها إلا وسيلة كرمها، ولا ذمة عندها إلا الاستذمام بحرمها. ومنه قوله: إذا ادعت له الأوصاف رتبة فضل، شهد شاهد من أهلها، وكفته وراثتها عن آبائه أن يشارك البعداء في فضلها، وأحق الناس بالمعالي من كان فيها عريقا، ولا يكون المرء خليقا بها إلا إذا كان أبوه بها خليقا، وإذا زكت أصول الشجر زكت فروعه، ولا يعذب مذاق الماء إلا إذا طاب ينبوعه. ومنه قوله: وأكرم بيديه التي تسمح بدية القتيل، ويرى الكثير من عطائها بعين القليل، وما كل من شاء استمرت يده بالسماح، وقد تحجم عنه من تقدم على مكروه الصفاح، على أنه قد قيل: إن بين التسميتين إخاء، فالسخاء يكون نجدة، والنجدة تكون سخاء؛ ومصداق هذا القول اجتماعهما لليد الكريمة التي ألفت إنجاح الوعد وإنجاح الوعيد، وضمنت أرزاق الناس وأرزاق الحديد، وقالت في الندى: هل من صاد في الوغى: هل من مزيد؛ فالساري إلى أبوابها لا يصل إليه في نهج السرى، وهو مهتد منها على قبس القراع أو قبس القرى.

ومنه قوله في وصف هملاج «1» : له في العربية حسب أصلها، وفي العجمية نسب جهلها، فهو من بينهما مستنتج، لا ينسب إلى الضبيب «2» ولا إلى أعوج «3» ، سديد الحملة، شديد الجملة، لا يشان بالغلو، ولا يتعب راكبه بفرط العلو، أثبت من الصافنات صبرا، وأوطأ ظهرا، وأطوع للتصريف، وأسلم في الهيكل والوظيف، رحب اللبان، عريض البطان، سلس العنان، طوع الكرة والصولجان؛ قد استوت حالتاه بادنا ومضطمرا؛ فإذا أقبل خلته مرتفعا، وإذا أدبر خلته منحدرا، كأنه دمية محراب، أو درة هضاب، فهو مخلّق بخلوق المضمار، وبدم السّرب والصوار «4» ، بناصية شائلة، وغرة سائلة، كنوارة في شقيق، ولؤلؤة في عقيق، يثنى عليه بأفعاله، لا بعمه وخاله؛ وإذا كان الكريم في كل جنس، فهو كريم جنسه؛ وإذا كانت العراب بأنسابها، أبناء أمهاتها، فهو ابن يومه لا ابن أمسه، كأنما ألقى لجامه على سالفة عقاب، أو شد حزامه على بارقة سحاب. ومنه قوله في الخيل والسير: ولما دهم نزلنا للاستراحة، والهجير قد أخذ في الاستعار، وقذف بالدرك الأسفل من النار؛ والحرباء قد لجأ إلى ظل المقيل، وسمح بمفارقة عين الشمس وهو بها عين البخيل؛ فلم يكن إلا مقدار وضع الرجل من الركاب، ومصافحة الجنب لصفحة التراب، حتى قيل: قد فجأتكم عصابة من أهل العبث، تشد في

ضرائها، وتجنب نقعها من ورائها، وقد فرطت أجيادها بأعنّتها، وطاولت هواديها بأسنتها، فغدت حينئذ نجزة من الخيل، تدرك ما كانت له طالبة، وتفوت ما كانت منه هاربة، لا تمل من موالاة الدروب، وهي عند النزول كمثلها عند الركوب؛ فلما استويت على ظهرها، عقدت مع الريح عقد الرهان، وعرضت عليها حكم الشقراء والميدان، ثم قلت: إن استشعرت مسابقتي، فقد جئت شيئا فريا؛ وتلوت قوله تعالى: وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا «1» وما كان إلا هنيهة حتى حال الركب للرواح عند الإظهار، واستسلفت المدى بالتقريب قبل الإحضار، وجئت القران فلقيته منها بصدر يطارد الأمواج مطاردة الفجاج، وعين لا يروعها هبوات الماء كما لا يروعها هبوات العجاج؛ فتلك فرسي التي أعدّها لكل مخوفة، وهي حوت في كل معبر، وظليم في كل تنوفة. ومنه قوله في الناقة والفرس: سرت وتحتي بنت قفرة، لا تذهب السرى بجماحها، ولا تستزيد الحادي من مراحها، فهي طموح بإثناء الزمام، وإذا سارت بين الآكام قيل: هذه أكمة من الآكام، ولم تسم جسرة إلا أنها تقطع عرض الفلا كما يقطع الجسر عرض الماء، ولا سميت حرفا إلا أنها جاءت لمعنى في العزائم لا لمعنى في الأفعال والأسماء، وخلفها جنيب من الخيل، يقبل بجذع، ويدبر بصخرة، وينظر من عين جحظة، ويسمع بأذن جسرة، ويجري مع الريح الزعزع، فيذرها وقد ظهر فيها أثر الفترة، وما قيد خلفها إلا وهو يهتدي بها في المسالك المضلة، ويطأ على آثارها فيرقم وجوه البدور بأشكال الأهلة؛ هذا والليل قد ألقى جوانبه فلم يبرح، والكواكب

قد ركدت فيه فلم تسبح، وإنما أود لو زاد طوله، ولم تظهر غرة أدهمه ولا حجوله، فقد قيل: إنه أدنى المبعد، وأكتم الأنوار، ودل عليه القول النبوي «1» «بأن الأرض تطوى فيه ما لا تطوى في النهار» ، وما زلت أسير مرتديا بثوبه حتى يكاد أن ينضو لون السواد، وظهر ذنب السرحان فأغار على سرح السماء كما يغير السرحان على النقاد، فعند ذلك نهلت العين من الكرى نهلة الطائر، ولم يكن ذلك على ظهر الأرض المطمئنة، وإنما كان على ظهر السائر. ومنه قوله في الخاطر: الخاطر كالضرع، إن حلبته طف، وإن تركته جفّ. ومنه قوله: لا ريب في أن لحاظ النواظر كمتون البواتر، وإنما اشتركت جفونهما في الأسماء، لاشتراكهما في سفك الدماء. ومنه قوله في الحكمة: عقل المرء من حول ماله، وماله من حول صبره؛ فإذا افتقرت يده ذهبت بعقله، وإذا صبرت نفسه ذهبت بفقره. ومنه قوله: فروا وقد علموا أن العار مقرون بالفرار، لكنهم رأوا كلمه الأعراض أهون من كلمه الأعمار، وتلك نفس خدعت بالحياة الذليلة التي الموت ألذ منها طعما، وليس الموت إلا في أن تلاقي النفس ذلا، أو تفارق جسما؛ ولربما يسلا المهزوم

بقول القائل: إن الأسد يغلبه «1» الأسود، وإن الحرب ليست بمضاء العزائم، وإنما هي بمضاء الحدود؛ وهذا القول مسلاة كاذبة لهم مكذوبة، ولولا العزم لم تر حصون مفتتحة، ولا جموع محزوبة، وبالجد يدرك الجد، ولولا القدح لم ينفث الزند، ولمّا جيء بأسرى القوم مننّا عليهم بإطلاق السراح، وقاتلت عنهم شيمة الصفح إذ لم تقاتل عنهم شيمة الصفاح، وحمية الآباء لا تقتل من لم يحوه مكر الطراد، ولا حمية صهوات الجياد؛ وأي فرق بين الأسير في عدم الدفاع، وبين أشباهه من ذوات القناع؟ ومنه قوله: وما زال يزعج ديار الكفر بغزواته، حتى لم تهن حاملة بإتمامها، ولا متعت عينها بلذة منامها؛ فاسم القرور من نسائهم منسوخ بغارة المقربات الجياد، ولذيذ النوم بأرضهم مسلوب بإيقاظ جفون البيض الحداد. ومنه قوله في بليغ: إذا ارتجل أتته المعاني غير مكرهة ولا محرجة، وأبرزها كوامل الصور غير مخدجة، وإن تروى تهافتت على توقد خاطره تهافت الفراش، وجاءته سوانح وبوارح حتى تقول «2» : تكاثرت الظباء على خراش. ومنه قوله في تكذيب أهل النجوم: ولقد أوهم أهل التنجيم بالتسيير والتقويم، والحكم على أفعال العليم

الحكيم، فأخبروا عن النجوم في سعودها ونحوسها، بما لم تخبره من نفوسها، وقضوا في ترتيب أبراجها، واختلاف مزاجها، وحكموا على حوادث العمر من حال وجوده إلى عدمه، في سعادته وشقائه وصحته وسقمه، وأشباه ذلك من الزخارف، التي نصبوها حبائل للاكتساب على غير ذوي الألباب، وكلها أضغاث أحلام، وأوضاع لا تخرج عن خط الأقلام. ومنه قوله: ولم أبك إلا عصر الشباب الذي هو في الأعمار بمنزلة الربيع من الأعوام، وما كنت أعرف كنه أمره حتى مضى، فرحلت معه الحياة بسلام «1» ، فالأيام فيه غوافل، والسنون لقرب عهدها مراحل، ولم أقض وطرا إلا خلفت أندى منه مرتعا، وأحسن مرأى ومسمعا؛ أيام لا أعاقر خمرة إلا لمى، ولا وردة إلا خدا، ولا نقلا إلا فما، ولكأني ما كنت «2» قمرا حلف إلا بالقدود وهيفها، والجفون ووطفها، وليالي الذوائب وسدفها، ووجوه الأقمار التي لا تشاب بكلفها، ولا يرى في غرر الشهور ولا منتصفها؛ فأصبحت قد بدلت غريب الأحوال بأليفها، وعوضت من نضرة الأوراق بيبس خريفها، فولى الصبا الآن بسلام، ولوعة ينبي بها الدمع السجام. ومنه قوله فيمن قصر: ولتقر تفاح الخدود، فلست من تقبيله غرا، ولا من عضه، اللهم غفرا، وقد ينطق المرء بما يكون فيه لسانه آثما وفعاله برا، ولولا حكم الفصاحة لما ذكرت بانة ولا علم، ولا وقف المتغزل بأقواله موقف التهم.

ومنه قوله: كما عود الطير من جزر أعدائه تتبعه أسرابا، واستسقى سحابها ما تحته من سحاب خيله، فاستسقى سحاب سحابا، ولقد مرت عليه الشمس فضعفت أن تحرق جناحا، أو تحمي بحرّها سلاحا، فلم يلق بين الريش فرجة ينثر فيها دراهمها، ولربما خالسها النظر إذا هزت قوادمها. ومنه قوله في الاستعطاف: المولى إذا لين له غلب على أمره، وأزيلت مغيظة صدره، وهذه خليقتان من البعيد الذي يمسه بلحمة، ولا يمت إليه بحرمة، فما للظن بالقريب الذي فاز بمزية الشركة في عرفة؛ وفضل الجوار لاحق أوجب من حقه، فكيف نسي المولى عادة كرمه، ووضع وجوه قومه تحت قدمه، وجعلهم حصائد سيفه وقلمه؛ وحاشاه أن يقطع رحما أوصاه الله بوصلها، ويعضد شجرة أصله الكريم من أصلها، ويزعم بأنهم أخرجوه عن معهود خلائقه، وبدلوا أنواء غيوثه بمخيلة صواعقه؛ ولكنهم شفعوا للذنب بالاعتذار، وعلموا أن خيط أرشيتهم لا يؤثر في كدر البحار؛ وقد قدر المولى، والمقدرة تصغر كبار الذنوب، وتذهب ترات القلوب، فإن نقم منهم أنهم جمعوا قلة الآداب إلى إدلال ذوي الانتساب، فتلك سنة سنها حكمه، وجبلهم عليها حلمه، وما يتحدث الناس أن الكريم عاد عن عادة إغضائه، ورجع في حكم قضائه؛ وأول راض سيرة من يسيرها «1» ؛ فليسبل المولى عليهم ستر فضله، وينجز إساءة فعلهم بإحسان فعله، وليأخذ بأدب الله وأدب رسله في الإعراض عن الجاهل وجهله؛ ويعلم أن قوم المرء كنانته التي بها

يناضل، وذروته التي بها يطاول، وإذا لم يحمل ما يريب من أدانيه رمته أقاصيه، ولابد للإنسان من طاعة ومعصية، ومن أجل طاعته تغفر معاصيه إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ «1» وبعد، فإذا شاء المولى أن يقتل حرّا فليعف عن زلله، فإن إصابة عرضه أشد من إصابة مقتله. ومنه قوله: سليب المدائح أبهج حسنا من الغصون المسكوة بأوراقها، والحمائم المتحلية بأطواقها، فهو عار من اللباس، مكسو من المحامد التي صاحبها هو الكاسي. ومنه قوله في ذم الود المتكلف: خير الود ما عطف عليك اختيارا، لا ما أعدته بالعتاب اقتسارا؛ فإن شيمة التبرع كحسن التأدب غير مجلوب، والإنجاح في الطلب إتعاب لوجه المطلوب، إلا أن خير الود ودّ تطوعت به النفس لا ود أتى وهو متعب. ومنه قوله: والشيب يعيد جدة الشباب وهي أخلاق، وهو على كراهة لقائه مكروه الفراق، فواها لنزوله، وآها لرحيله، وسحقا له بديلا من الشباب، وسحقا لبديله. ومنه قوله في الهجو: لم أر له في حظوظ المساعي من قسم، كأنه فيها واو عمرو أو ألف بسم «2» ،

فهو لا يزال منكرا غير معروف، فإما زائد لا حاجة إليه وإما محذوف. ومنه قوله: السر أمانة لا تباع، ووديعة لا تضاع؛ فالعين تكاتم القلب فيها ما تبصره، والقلب يكاتم اللسان ما يضمره، وإذا حوفظ على السر هذه المحافظة، فقد ألقي في مهولة لا يرام اطلاعها، ونيط بصخرة أعيا الرجال على كثرة المحاولة انصداعها. ومنه قوله في قتال قوم كانوا بجبل، ثم نزلوا فهزموا: وبعد، فإن العساكر ركبت لارتياد موقف الحرب، واختيار المصعد السهل في الجبل الصعب، لتكون على بصيرة من أمورها، ولتأتي البيوت من أبوابها لا من ظهورها، فانبسطت كتائبها في كل منخفض ومنحدر، ومزلزل ومستقر، فحينئذ نفخ الشيطان في أنفه وساقه إلى حتفه، فبرز بمن قبله من الجنود، ونزل عن قلل الأوعال إلى مصطحر الأسود، وكان حزن الخطب في أحزانه، وتباعد مناله في تباعد مكانه، فلما أسهل أسهل النصر في طلبه، وأمكن يده من سلبه؛ لا جرم أنهم ردوا على الأعقاب، ونسفوا نسف الريح السحاب، فلم يكن لهم سلاح أوقى من الفرار، ولا عاصم إلا الجبل الذي عصم من طوفان السيف وما عصم من طوفان العار. ومنه قوله: وثار بين أيدينا سرب ظباء مدرب على القنص ومقانصه، عارف بغوائله ومخالصه، وقد طرق مكانه حتى لم يهن بمرتعه ومشرعه، ولا أمن نبوة مصرعه، وكبس منه ما تمتع برؤية أشباهه من الفرقدين، ولم ينس الفجيعة بإلفه الذي خر

لفمه واليدين، فلما أحس بنا طار خيفة حتفه، وكاد أن يخلف ظله من خلفه، فأرسلنا عليه سلس الضريبة، ميمون النقيبة، منتسبا إلى نجيب من الفهود ونجيبة، كأنما ينظر من جمرة، ويسمع من صخرة، ويطأ من كل برثن على شفرة، وله إهاب قد حيك من ضدين بياض وسواد، وصور على أشكال العيون، فتطلعت إلى انتزاع الأرواح من الأجساد، وهو يبلغ المدى الأقصى في أدنى وثباته، ويسبق الفريسة فلا يقنصها إلا عند التفاته، وقد علمت الظباء أن حبائلها في حبل ذراعه، وأن نفوسها مخبوءة بين أضلاعه، فلم يكن إلا نبضة عرق، أو ومضة برق، حتى أدرك عقيلة من تلك العقائل، فأناخ عليها بكلكله، ووقف بإزائها ينتظر وصول مرسله. ومنه قوله: والتاريخ معاد معنويّ يعيد الأعصار وقد سلفت، وينشر أهلها وقد ذهبت آثارهم وعفت، ويستفيد به «1» عقول التجارب من كان غرا، ويلقى آدم ومن بعده من الأمم وهلم جرا، فهم لديه أحياء وقد تضمنتهم بطون القبور، وعنه غيب وقد جعلتهم الأخبار في عدة الحضور؛ ولولا التاريخ لجهلت الأنساب، ولم يعلم الإنسان أن أصله من تراب، وكذلك لولا [التاريخ] لماتت الدول بموت زعمائها، وعمي عن الأواخر حال قدمائها، ولم تخطّ علما بما تداولته في الأرض من حوادث سمائها؛ ولمكان العناية إليه لم يخل منه كتاب من كتب الله المنزلة، فمنها ما أتى بأخباره المجملة، ومنها ما أتى بأخباره المفصلة، وقد ورد في التوراة في سفر من أسفارها، وتضمن تفصيل أحوال الأمم السالفة ومدد أعمارها.

وقد كان العرب على جهلها بالقلم وخطه، والكتاب وضبطه، تصرف إلى التواريخ جل دواعيها، وتجعل له أوفر حظ من مساعيها، فتستغني بحفظ قلوبها عن حفظ مكتوبها، وتعتاض برقم صدورها عن رقم مسطورها، كل ذلك عناية منهم بأخبار أوائلها، وإبانة فضائلها؛ وهل الإنسان إلا ما أسسه ذكره وبناه؟ وهل البقاء بصورة لحمه ودمه لولا بقاء معناه؟. ومنه قوله: الخادم يعود المولى من شكاة جسمه، والناس يعودون الخادم من شكاة همه؛ وإذا مرض المولى المنعم سرى مرضه إلى عبيده وخدمه، فهم مشاركوه في اسم مرضه، وإن خالفوه في صورة ألمه؛ وقد تمرض أرواح المرض أجساد، ويشتركان في كل شيء حتى في عيادة العواد. ومنه قوله في السير: ولقد سرت مسير الأخبار، وأخذت بمطالع الليل والنهار، حتى عدمت رفقة ورفقا، وصيرت للغرب غربا وللشرق شرقا. ومنه قوله: إذا وقفت بالدار تسائل أحجارها، وتبكي آثارها، فإنك لا تبكي التراب، بل الأتراب، ولا تندب الآثار الحائلة، بل الأحباب الزائلة، ولا فائدة في سلامك على الطلل الذي لا يعي خطابا، ولا يرد جوابا، فإنما تخاطب أصداء لا تملك إعادة ولا إبداء؛ وإذا شغلت نفسك بسؤال التراب والجندل، فلا فرق بين سؤال من لا يجيب، وجواب من لا يسأل. ومنه قوله قريب منه:

ولقد قصد منه كريما لم تزل معاهد أكنافه معهودة، ومن مواهبه أن تكون قاصدة قبل أن تكون مقصودة؛ من يسأله غير درجات المعالي فقد قدح في مواهبه، وحط من مراتبه؛ أمسك المال وجعل حادث هلاكه في ضمن إمساكه، فلو حلف سائله أن يصافح السحاب لبر في يمينه بمصافحة يمينه، وليس هذا من المجاز الذي يتوسع في مقاله، بل هو من حقيقة القياس الذي يحمل على أشباهه وأمثاله. ومنه قوله: وبأيديهم كل لدن شدته في لينه، وتمكن النصر منوط بتمكينه، فما منهم إلا من اعتقل ما يماثله قدا، ويناسبه جدا، فإذا مثلت شكولها وشكولهم قيل: صعاد، في أيدي صعاد وإذا مثل غناؤها وغناؤهم قيل: أساود في أيدي آساد؛ ومن صفاتها أنها لا تنشد [إلا] إذا كانت قصائد، ولا تجور إلا إذا كانت قواصد، قد أدبها الثقاف من عهد فطامها، وكانت منابت التراب من شرابها، فأصبحت منابت الترائب من طعامها، فهذه هي الرماح التي تعلقها أيدي الأبطال، وتأوي منها إلى معاقل بذلك الاعتقال. ومنه قوله: مننّا عليهم من الأسلاب بالبيض القواطع، ليجعلوا حليها أساور في أيدي البيض ذوات البراقع «1» ، وحلية السيف لا تحسن إلا بكف يكون به ضاربا لا له حاملا، وإذا عطل في موقف الجهاد، فالأولى له أن يجعل عاطلا، فخفنا أن ينشدهم قول أبي العتاهية «2» : [الهزج]

فصغ ما كنت حليت ... به سيفك خلخالا فما تصنع بالسيف ... إذا لم تك قتالا ومنه قوله: ولقد تعقبت الأيام نقصها بإتمامها، ونقضها بإبرامها، ونسي نعي ميتها ببشرى حيها، ونشرت المكارم التي كانت طويت، فوفى أنس نشرها بوحشة طيها، وأصبح عزاء الناس مستدركا بالهناء، وعوضوا عن كنز الغنى بكنز الغناء، حتى استرجعت العبرات ما جادت به من سحاب مزنها، واستبدلت ببرد مسرتها من حرارة حزنها. ومنه قوله في الحلم: إذا حكمت قدرته في الذنوب كان العفو لها عاتقا، وإذا أحب الشفعاء أن يشفعوا إليه كان كرمه لهم سابقا، فلا بارقة في بوارقه إلا وهي مغشية بغمامة حلمه، ولا بادرة من بوادره إلا وهي محبوسة في قبضة كظمه؛ وعلى هذا فإن الجاني غير مقتصر لديه إلى إقامة الأعذار، ولا إلى التوبة التي تستر عورة الإصرار، فيوشك أنه تخلق بخلق الله سبحانه في عموم المغفرة، ورأى أن لا أثر يبقى في صدر المغيظ إذا تولت إذهابه يد المقدرة. ومنه قوله في الخمر: سقيت مغارسها بالسرور بدلا من الماء، وجمع لها بين وصفين من تذكير الأفعال وتأنيث الأسماء، وما سجنت في دنها إلا لما عندها من النفار، وكانت حمراء اللون فألبسها السجن ثوب الاصفرار، وقد شبهت بالنار الموسوية في تألق ضرامها، وبالنار الخليلية في بردها وسلامها، وإذا نظر إليها وإلى زجاجها أشكل الأمر بينها وبين الزجاج، وقيل: هذا سراج في كأس أم كأس في سراج؟

ومنه قوله: النفوس تؤثر الخير تكلفا والشر طبعا، وهي مجبولة على حب الشهوات قلبا ولسانا وبصرا وسمعا، لكن للتدريج أثر في تقويم الاعوجاج، واصطناع الياقوت من أحجار الزجاج، ولهذا استخرج من أوراق الشجر وشائع الديباج. ومنه قوله في المدح: إذا أفضت في الثناء عليه، تنافس النظم والنثر في الاستقلال بأوصافه، وما منهما إلا من فض ختام طيبه ونشر مطاوي أفوافه، فما ترى في مديحي لمولانا من حسن فليس لها مخلوقا، بل من أوصاف سيدنا مسروقا: [البسيط] إذا القصائد كانت من مدائحهم ... يوما فأنت لعمري من مدائحها ومنه قوله: المال يكون في خزائن أربابه صامتا، وإذا خرج في العطايا صار ناطقا، فيا قبحه في أيديهم حبيسا، ويا حسنه عنهم آبقا، ولم يسمع قبله بآبق أفاد صاحبه حمدا، وبنى له مجدا. ومنه قوله في قريب منه: جود مولانا قد هون على الناس مشقة الاغتراب، وأراهم من نعيم الإنعام ما حبب إليهم فراق الأحباب، فما منهم إلا من يحمد خطوب الأيام التي أخرجته من دياره، ونقلته عما لم يؤثر الانتقال منه إلى ما لقيه من إيثاره؛ فمثال بابه الكريم بقتلى الأيام، كمثل الجنة بقتلى الحمام؛ فلو علم داخل الجنة أنها تكون له مصيرا، لاستعذب كأس الحمام وإن كان مريرا؛ وذلك كما قال ابن الخياط «1» :

[البسيط] لأشكرن زمانا كان حادثه ... وصرفه بي إلي معروفكم سببا ومنه قوله: إذا حكمت سيوفنا في أموال العدى، حكمت فيها وسائل الندى، فهى طالبة ومطلوبة، وسالبة ومسلوبة، إلا أنها تأخذ ما تأخذه اقتسارا، وتعطي ما تعطيه اختيارا، فلها بسطة الغالب ومنّة الواهب. ومنه قوله في شكر منعم: إذا تقابلت مدائحي وسجاياه، رأيت مرآة صقيلة، تقابل صورة جميلة، فلولا هذه ورونق صقالها لما تمثلت تلك على هيئة جمالها؛ وأنا أول من طبع مرآة من الكلام، وصور الأخلاق فيها بصور الأجسام. ومنه قوله: وردت إشارة سيدنا أن أنظم في فلان قصيدا، يكون في نظمه فريدا، وقد علم أن أحرار الكلام وردت أن لها عزة الأحرار، وهي كالنفوس الأبية في الاستعلاء والاستكبار، فإذا كلفت مدح لئيم صدت مجانبة، وذهبت مغاضبة، ولهذا أبى كلامي وهو الحر في نسبه، الكريم في حسبه، أن يمدح من عرضه حرّاق قادح، وفريسة جارح، وطعمة هاج لا مادح؛ ولطيمة الطيب لا تلتئم بالكنيف، وصورة الشوهاء لا يزين منها التسوير والتشنيف. ومنه قوله في قلم: أخرس وهو فصيح الإيراد، وأصم وهو يسمع مناجاة الفؤاد، لا ينطق إلا إذا قطع لسانه، ولا يضحك إلا إذا بكت أجفانه.

ومنه قوله في تفضيل الإحسان على الثناء: الشكر أخف من الإحسان وزنا، وصاحبه يستبدل الذي هو خير بالذي هو أدنى، ولقد ربحت صفقته إذا باع أقوالا وحاز أموالا، وأعطى كلمات خفافا وأخذ عروضا ثقالا؛ ومن زعم أن شكر الشاكر أفضل من موهبة الواهب فقد أغلى القول فيما ليس بغال، وأتى ويده السفلى من مكان عال؛ وأيّ فضل لمن غايته أن يكون مجازيا لا موازيا، ومعاملا لا معادلا؟ وإذا أنصف علم أنه جاء أخيرا، ولا فرق بينه وبين من أعطي أجره فصار أجيرا، وما أرى الشكر إلا حديثا يذهب في الرياح لو لم تقيده مكارم السماح، فلا حاجة مع لسانها إلى الشاكر، وإذا نطقت الحقائب فقد أغنت بنطقها عن مديح الشاعر «1» . ومنه قوله: الخادم لا يشكو الأقوام، ولكن يشكو الأيام؛ فإن المعدى على قدر العدوى، والمشكو إليه على قدر الشكوى؛ وممّا يشكوه منها أنها تبادهه ولا تواجهه، وتسارره ولا تجاهره، ولو كان لها شخص للقيه بعزم مولانا فقارعه، أو أرهبه باسمه الكريم فوادعه؛ وهي عبيده، تجني وهو المطلوب بجنايتها، وإذا رأت بأحد عناية من جاهه قرنتها بعنايتها؛ والمملوك يطالب مولانا بأرش «2» جراحها، ويسأله عناية تكف من غرب جماحها. ومنه قوله في سرى النياق: كم للركاب من يد لو علمتها لجعلت تراب أخفافها للعيون إثمدا، وخطط

منازلها للجباه مسجدا؛ فهي الحاملة أعباء الهمم، والممكّنة من نواصي النعم. ومنه قوله: جوده بعيد على الأمل، غير مفتقر إلى العذل، وإذا احتفل فهو نهر طالوت الذي حلل للغرفة لا للنهل. ومنه قوله في كريم: لا يضرب بين ماله حجابا وبين السائلين، وإذا عذل على الجود أجاب بقوله تعالى: وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ «1» . ومنه قوله في الاقتصاد في طلب الرزق: الإنسان في كفالة الله يرزقه غير واثق، وهو في كل طريق إليه سالك ولكل باب فيه طارق، وكثيرا من يأتيه الرزق وهو عن طلبه نائم، ويقعد عن ابتغائه وهو إليه قائم، ولا يصرف الأقدار إلا القادر على خلقها، وكم من دابة مرزوقة وهي ضعيفة عن حمل رزقها. * قلت: ذكرت بهذه الكلمة دعاء كتاب كتبه ابن عبد الظاهر عن الملك الظاهر إلي وزيره بأن يربع «2» دواب الحرس، وكان قد أمر بإخصائها، لإزعاجها له بالنهيق، ثم رآها فرحمها، فأمر بذلك؛ والدعاء: ولا زال يشكره غرب البلاد وشرقها، وحمامها وورقها، وما من دابة في الأرض إلا على الله- وعلى حسن تدبيره- رزقها «3» .

عدنا إلى ابن الأثير: ومنه قوله في ذكر الخدمة: لو ساغ لوليّ من أولياء الديوان العزيز أن يمت بولائه، أو يدل بما أبلاه في الخدمة من حسن بلائه، لكان لسان الخادم في هذا المقام أكرم صدقا، أو مكانه منه أشرف حقا، لكن ليس لقائم بخدمتها أن يمن بقيامه، كمن ليس لمسلم أن يمن بإسلامه؛ والخادم وإن أمسك عن ذكر خدمه، فقد نطقت بها شهرة سماتها، وأصبحت مواقفها في المواقف أبكارا، ونطق البكر في صماتها، ولم تزل معروضة بالديوان العزيز، وكل وقت إبان وقتها، وهي كالآيات التي لا تأتي منها إلا كانت أكبر من أختها. ومنه قوله: ولطالما أورى الاغتراب عزا، وأثار من السعادة كنزا، حتى إن الله جعله سنة في أنبيائه ورسله، ونهج لهم سبيل العز بسلوك سبله، كسنة الغربة اليثربية، في الهجرة النبوية، وما أوجسه من القوة بعد الفرار، والكثرة بعد ثاني اثنين إذ هما في الغار؛ والتقليل سبب للسكون، والشهادة داعية لهدوء العيون، ولو لزم السيف غمده لم يبن أثر مضاربه، ولا خدمه لسان في نظم شاعره ولا نثر خاطبه، وبالاغتراب عذب ماء البحر لما فارق السحاب. ومنه قوله: له القلم الذي يصرع الخطب الجليل بضعفه، ويسبق الحرف الأمون «1» بحرفه، وإذا نكس رأسه رأيت أبهة الخيلاء في عطفه، فهو يجل بأسا ويدق

جسما، ويمج من لسانه شهدا وسمّا، فإذا ارتقى أنامله قيل: خطيب رقا منبرا، وإذا اهتز في يده كأنّه جانّ ولى الخطب مدبرا. ومنه قوله: لو ذهب الحزن بالدمع وانهماله، لكان الصبر بصاحبه أحرى، ولو لم ينل به أجرا، فكيف وصلوات الله ورحمته من ثوابه، وما اعتاض المرء صبرا عن المصاب، إلا كان فيه عوض عن مصابه. ومنه قوله: المكر ضراب من تحت الثياب، وسيفه لا يقطع إلا وهو في القراب، وصاحبه يلقى بوجه الأحباب، وهو كالجبل الذي تحسبه جامدا وهو يمر مرّ السحاب، يفرق الجموع وقد كادت تكون عليه لبدا، ويجعل قوتها أضعف ناصرا وكثرتها أقل عددا، ويستغني بلين كيده عن شدة أيده، وكثيرا ما يطعن أقرانه قبل الطعان، ويفاجئهم بالذعر وهم من الأمن في صوان. ومنه قوله في التضرع إلى قريب مضايق: أنا أسأله بالرحم التي أمر الله باتقائه واتقائها، وتكفل بالإسقاء يوم القيامة لمن تكفل بإسقائها، واشتق لها لكرامتها عليه اسما من اسمه، وقسم لواصلها ببسط العمر والرزق اللذين هما من أفضل قسمه، فلا تتركني أتأوه بقلب المتألم، وأجهر بلسان المتظلم، وأن أصله بسهام الدعاء القاصدة، وأحاكمه إلى صراعة البغي التي ليست عن الباغي براقدة، وأتمثل بقوله تعالى: إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ «1» ويعز عليّ أن ألقاه بهذا القول

الذي أنا فيه غير مختار، ولئن كان من المحظور النهي عنها، فالمحظور يباح لمرتكبه عند الاضطرار. ومنه قوله في تذكير بعض الطغاة: تذكير الطاغي من سنة الله التي خلت في عباده، وإن عسر نقله عما جبلت عليه فطرة ميلاده، وقد أمر موسى بتذكير فرعون مع أنه لم يستفد ذكرى، بل زاد إلى طغيانه طغيانا وإلى كفره كفرا. ومنه قوله: ونصبت المجانيق فألقت عصيها وحبالها، وصبت على أقطار البلد نكالها، فسجدت لها الأسوار سجود السحرة لفعل العصا، وبادرت بالإيمان لها مبادرة من أطاع وما عصى، فلم يكن إيمانها إلا بعد إذن الأحجار، التي ما أذنت لمشيد إلا أخذ في البوار، وخر من الأقطار، وأصبح كشجرة اجتثت فوق الأرض مالها من قرار. ومنه قوله في كتاب: ورد كتابه فطلع طلوع الصباح السافر، على المدلج الحائر، لا بل أقبل إقبال الحياة على الأجساد، والحيا على السنة الجماد، فعظم موقعه أن يزال باليد أو ينال بالنظر، أو يوصف بأنه ثاني المطر، أو ثالث الشمس والقمر. ومنه قوله، رسالة في البندق: من المآرب ما يفعل طالبه، ويرتاح ناصبه، ويشترك فيه الناس، فكل منهم صاحبه كالقنص الذي هو للخاصة نهزة مراح، وللعامة صفقة أرباح، وهو جامع لرياضة أجسام ومسرة أرواح؛ وسأذكر موقفا وقفته وموسما عرفته، تخلسه الدهر إذا عرفته؛ وذلك أني في زمن الربيع، والأرض ديباجة، والسماء زجاجة، والجوّ

قد أصبح بأنفاس الرياض معطرا، والشمس قد ضربت في أرجائها عمودا، فاخضر اخضرارا معصفرا، ولقد أصاب من مثل العام شخصا، وجعل الربيع بمنزلة ثغره النسيم، أو عمرا وجعله بمنزلة شبابه الوسيم، وقد زاد عندي حسنا أني أصبحت في هذا اليوم أصحب أخاه الذي شابهه في اعتدال زمانه، لا في تلون ألوانه، وناسبه في طيب شيمه، لكنه أسخى منه في فيض كرمه، وهو مولانا الملك الذي سعيه مشتقّ من لقبه، وسبقه إلى المعالي كسبق المنتمي إليه من نسبه، والمسمون بالملك كثير، غير أن هذا الاسم لا يختص إلا به «1» : [الكامل] ملك زهت بمكانه أيامه ... حتى افتخرن به على الأيّام وكان المنتظم بخدمته في هذا اليوم غلمان كأنهم لؤلؤ منظوم، وهو أشرف خادم لأشرف مخدوم، ومقامهم في الحسن سواء، فلا يقال فيهم: وما منا إلا له مقام معلوم، وكلهم قد تأهب للطرد تأهبه للطراد، وهم متقلدون قسي البندق مكان النجاد، فإذا تناولوها في أيديهم قيل: أهلة طالعة من أكفّ أقمار، وإذا مثل غناؤها وغناؤهم قيل: منايا مشوقة بأيدي أقطار؛ وتلك قسيّ وضعت للعب لا للنضال، ولردى الأطيار لا لردى الرجال، وإذا نعتها ناعت قال: إنها جمعت بين وصفي اللين والصلابة، وصيغت من نوعين غريبين، فحازت معنى الغرابة، فهي مركبة من حياة ونبات، ومؤلفة منهما على بعد الشتات، فهذا من سكان البحر وسواحله، وهذا من سكان البر ومجاهله، ومن صفاتها أنها لا تتمكن من البطش إلا حين تشدّ، ولا تنطلق في شأنها إلا حين تعطف وترد؛ لها بنات أحكم تصويرها، وصحح تدويرها، فهي في لونها صندلية الإهاب، وكأنما صنعت لقوتها من حجر لا من تراب، فإذا قذفتها الأطيار قيل: ويصعد من الأرض من

جبال فيها من برد، ولا ترى حينئذ إلا قتيلا، ولكن بالمثقل الذي لا يجب في مثله قود، فهي كافلة من تلك الأطيار بقبض نفوسها، منزلة لها من جو السماء على أم رؤوسها، فما كان إلا أن ابتدر أولئك الغلمان طلقا من الرمي، يأتي على اختيار المختار المنايا ذات أسماع وأبصار، وإذا عرض له السّرب لم يخش فوت خطأ ولا فوت قرار، فمن بين دراجة أدرجت في ثوب دمائها، وحمامة حمّ عليها نزع دمائها، ومن كروان فجع بينهم فراخه، وإوزة ودّت لو لجأت إلى الصائد ومكيد فخاخه، فلم يضرنا مع ذلك فقد المنتخب من الجوارح، وكان اليوم كيوم المحصب «1» من كثرة الذبائح، وشهدت في خلال هذا المنتزه من لطائف اللذات ما يغلو على مستامه، ولا يجيله خاطر المنى في أوهامه، وإذا تذكرته النفس أعاد آخر طعمه أوله، وقالت: ترى الدهر نام عنه أو أغفله، على أنه لا يستغرب مواتاة مثله لمثل هذا السلطان، الذي الأيام له عبيد، ولا تمضي إلا ما يريد، ومن أكرم نعم الله عليّ أن أصبحت من خدمه معدودا، وعلى خدمته محسودا فلهذه النعمة أن أمسكها إمساك الشكور، وأصاحبها مصاحبة الغيور، وقد كنت بالأمس أنذر لها نذورا، وأنا الآن واف بتلك النذور، والسلام. ومنه قوله من كتاب كتبه في معنى كتاب فاضلي، كتبه إلى الظاهر يعزيه بوالده؛ وكان جرى حديث هذا الكتاب في بعض المجالس فاستحسن، وطلب الجماعة الحاضرون أن يعارض بمثله، فأملى هذا الكتاب عليهم، وكان المتوفى قد مات وقت الصباح: كتب المملوك كتابه هذا في ساعة أفلت الشمس فيها عند الصباح، وذهبت بروح الدنيا التي ذهبت بذهابها كثير من الأرواح، وتلك ساعة ظلت بها

الألباب حائرة، وتمثلت فيها الأرض مائرة، والجبال سائرة، وأغمد سيف الله الذي كان على أعدائه دائم التجريد، وخفت الأرض من جبلها الذي كان يمنعها أن تميد، وأصبح الإسلام وقد فقد ناصره، فهو أعظم فاقد لأعظم فقيد، وليس أحد من الناس إلا وقد أصم سمعه الخبر، وأصيب في سواد القلب والبصر، وقال وقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول عمر، ولما غلبت على الدفاع عنه ألقيت بيدي إلقاء مكسور الجناح، واستنجدت الدموع والدموع من شر السلاح، ونظرت إلى العساكر حوله ولا غناء لها عن كثرة السيوف والرماح، وقد ودعته وداع من لا مطمع له في إيابه، وحال الترب بيني وبينه فصار بعيدا مني على اقترابه، وبرغمي أن يمشي لي قلم بعزائه، وأن أكاتب به أعز أعزائه، وليس عندي صبر حتى أحثّ على مثله، ولو كنت من رجاله لغلبني الأسى بخيله ورجله، والذي يستنطقه المولى من رأي فإن هذه الرزية أخرسته عن الكلام، وتوفته مع مخدومه الذاهب فاستويا جميعا في الحمام، ولكن في وصية عبد الملك لأولاده ما يغني عن الآراء واستنطاقها، وقد ضرب لهم مثلا في الاجتماع والافتراق باجتماع القداح وافتراقها؛ والسلام. ومنه قوله ما كتبه إلى الأفضل عليّ عند عوده إلى الديار المصرية المحروسة: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ «1» يقبل الأرض بالمقام الشريف العالي المولوي السلطاني الملكي الأفضليّ النوريّ، جعل الله الليالي والأيام من جنده، وأظهر آيته في اعتلاء أمره وتجديد جده، ووهبه ملكا لا ينبغي لأحد من بعده، وعقد له لواء نصر لا شركة للناس في عقده؛ ويهنئ مولانا بأثر نعم الله المؤذنة له باجتبائه، حتى بلغ أشده واستخرج كنز آبائه، ولو أنصف لهنأ الأرض منه بوائلها والأمة بكافلها، خصوصا أرض

مصر لأنها قد حظيت بسكناه، وغدت في بحرين من فيض البحر وفيض يمناه، فأصبحت تشمخ بأنفها، وتسمو بطرفها، وتجير من الأيام وصدفها، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها، أو سيقت إليه الجنة بنضارتها وسرورها «1» : [الكامل] ما زلت تدنو وهي تعلو عزة ... حتى توارى في ثراها الفرقد وقد كان منتهى أمل الأولياء أن تعود الضالة إلى ربها، وتفك الطريدة المغصوبة من يد عضبها، فأتى فضل الله بما لم يؤمله أمل الآمل، وعوض عن القطرة الواحدة بسحاب هاطل، وهذه نعمة يضيق عنها مجال القول المعاد، ويسرع بياضها في سواد الحساد؛ فلو غدت الجباه ساجدة، والقلوب حامدة، والأيدي ترفع الدعاء بادئة وعائدة، لما وفى ذلك بحقها، ولا أخرج الأعناق من عهدة رقها؛ وأحسن ما فيها أنها زارت على غير ميعاد، وحثت ركابها من غير سائق ولا حاد، وتخطت وقد ضرب دونها بسور من صدور الظبا ورؤوس الصعاد، فلم يكن لأحد فيها منة سوى الله الذي قرب بعيد أسبابها، وفتح مستغلق أبوابها، وأبرزها على حين غفلة من حجابها، فيجب على مولانا أن يختزنها بالإنفاق، وأن يقيدها بالإطلاق، وأن يقص أجنحتها لتظل طائرة في الآفاق؛ والمملوك في هذه الوصية كصيقل نصل له من جوهره صقال، وعاصر سحاب له من نفسه انهمال. ومنه قوله في المجانيق: ونصب المجانيق فأنشأت سحابا يخشى محلها، ولا يرجى وبلها، فما سيقت إلى بلد حي إلا أماتته، ولم تأته إلا أتاه أمر الله إذ أتته، فلم تزل تقذف

السور بصوبها المدرار، وتنزل عليه جبالا من برد غير أنها من أحجار. ومنه قوله في التوكل: وألطاف الله لا يعرفها إلا من عرف الله فوفاه حقه، ولم يكن ممن ضرب له مثلا ونسي خلقه. ومنه قوله: وأفتى قوم بوقار المشيب بغير علم فضلوا وأضلوا، وما أراه إلا محراثا للعمر، ولم تدخل آلة الحرث دار قوم إلا ذلوا. ومنه قوله في الحث على الصدقة: إنما الصدقة لمن قمصه الفقر لباسا، فستر ذلك اللباس، وكان لا يفطن به فيتصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس، والنار تتقى بشق تمرة، وما سد رمقا لا يطلق عليه اسم قلة، وإن لم يكن موصوفا بكثرة. ومنه قوله في عيادة مريض: ولما بلغ المملوك خبر شكاته، هيض منه ما ليس بمهيض، وأصبح وهو الصحيح أشد شكوى من المولى وهو المريض، وقد ودّ لو وقاه، وتلك أقصى درجات الوداد، ولم يق إلا نفسه بنفسه، وقد تجتمع النفسان في جسد من الأجساد، ولقد ناجى المملوك نفسه: إن هذه الشكاة لا تلبث إلا تلبث الزائر عند المزور، وإنها لم تأت إلا لتظهر ما عند الناس من مودات الصدور، فكم من أيد بالدعاء ممدودة، ونذور عند الله ليست بمعدودة، ولقد أخذ المملوك بالخبر النبويّ، فجعل الصدقة طبيبا، وتقالّ بأحاديث منام لم يحدث بها إلا لبيبا أو حبيبا.

ومنه قوله: وهم سيوف الله التي إذا جردت زالت الهام عن مناكبها، واستوى في القتل نفس مضروبها وضاربها، فما عليها جاهدت صابرة محتسبة ما كان من موارد هلكها، ولا ألم عندها للكلوم إذا جاءت يوم القيامة، ولونها لون دمها وريحها ريح مسكها. ومنه قوله في عدم قبول توبة باغ: التوبة وإن جبت ما قبلها، فإنها معتبرة ممن ندم على ما فات، وأخلص فيما هو آت، وأما من يظهر أمرا ويبطن خلافه فإنه لا يلج بابها، ولا يرجو ثوابها. ومنه قوله: الفراسة تقرب عيونها، وتصدق ظنونها، والإنسان شر مكنون، يظهره الاختيار، ويخفيه الاختبار، وقد عولنا في ولاية فلانة على فلان، وما أهلناه لها حتى توسمنا منه ما نتوسم من الصالحين، وعضدنا رأينا فيه برأي من عندنا من الناصحين. ومنه قوله: فلان يومه في الصحبة كغده، ولسانه في العفاف كيده، لا يحفر لأخيه قليبا، ولا يكون على عوراته رقيبا. ومنه قوله: مواقيت الحمد مقسومة على مواقيت النعم، ولكلّ منهما قسمة منه وإن تفاوتت في أقدار القسم، ولا نعمة أعظم من سعادة المثول بالديوان العزيز الذي يرغب إليه ويرهب، ويقرأ فضله في السماء ويكتب، ويحجب لمهابته عن

الأبصار، ويداه عنها لا تحجب؛ والعبد يحمد الله على هذه النعمة حمدا لا يزال جديدا، وليس فوقها غاية في الزيادة حتى يسأل مزيدا، ولو أمن إنكار أمير المؤمنين لخرّ بهذا المقام ساجدا، وهو يسجد له طائعا كما يسجد لله عابدا: [المتقارب] طلبنا رضاه بترك الذي ... رضينا له فتركنا السّجودا ولو بصر مخدوم العبد بمكانه لحسده على مواضع رجله، ورأى العلياء وهي شراك لنعله، وقال: يا ليتني فزت بمثل هذا الحظ الذي ليس شيء كمثله، وكيف لا يحسد وقد وقف بموقف يقرب من الجنة ويباعد من النار، ويقمص الواقف به رداء فخر لا يخلق على تطاول الأعمار، ويعطيه أمانا من زمنه حتى يصبح وله على الزمن الخيار، ولا جناح عليه أن ملكته مخيلة الإعجاب، وأن رأى السماء فوقه وهي منال يد في الاقتراب، ولولا أنه بصدد أداء الرسالة التي يحملها لبسط من عنانه، وانتهى إلى غاية ميدانه. الآن ينهي خدمة مخدومه الذي له في الأولياء نسب كريم، وعرق قديم، يقول الاستحقاق: وأنا به زعيم، ومن أحسن أوصافه أنه لا يمتّ بما عنده من عقيدة في الطاعة ناصعة من الأكدار، راقية كل يوم إلى درجة تحتاج في التي قبلها إلى الاستغفار، ولئن حصل بذلك على مراضي أمير المؤمنين فإنه لا يني فتورا، ولكنه يأخذ بالقول النبوي فيقول: «ألا أكون عبدا شكورا. وله شعر ذكره ابن العطار «1» ، منه قوله «2» : [الطويل]

رضيت بما ترضى به لي محبة ... وقدت إليك النفس قود المسلم ومثلك من كان الفؤاد شفيعه ... يكلمني عنه ولم يتكلم وقوله: [المنسرح] لا طرق الداء من بصحبته ... يصح منا الرجاء والأمل «1» لا عجبا أن نقيكم حذرا ... نحن جفون وأنتم مقل وقوله: [الطويل] وساءلتموه بعدكم كيف حاله ... [و] ذلك أمر بين ليس يشكل فعن قلبه لا تسألوا فهو عندكم ... وأما عن الجسم المخلف فاسألوا وقوله «2» : [مجزوء الرجز] ثلاثة تجلو الفرح ... كيس وكوب وقدح ما ذبح الدنّ بها ... لكن للهمّ ذبح وقوله: [الطويل] وأهيف تحكيه الغزالة مقلة ... وجيدا ويحكيها لنا في شماسه أعار قضيب البان لين انعطافه ... فأهدى إليه حلة من لباسه وقوله: [البسيط] لولا الكرام وما سنّوه من كرم ... لم يدر قائل شعر كيف يمتدح وهذا البيت عكس قول أبي تمام «3» : [من الطويل]

12 - ومنهم: ابن زبادة، قوام الدين، أبو طالب، يحيى بن سعيد بن هبة الله ابن علي بن زبادة الشيباني

ولولا خلال سنّها الشّعر مادرت ... بغاة الندى من أين تؤتى المكارم 12- ومنهم: ابن زبادة، قوام الدين، أبو طالب، يحيى بن سعيد بن هبة الله ابن علي بن زبادة الشيباني «1» باني علا لا تفرع ذروتها، ورامي صفا لا تقرع مروتها؛ أطل على السماء والسماك، وأقل الانهمال في سحب المسرة والانهماك، وأنشأ البدائع وأنشأ الوشائع، وقلد من صنائع الخلفاء أشرف الصنائع، وولي أجل الوظائف بحضرة الخلافة، وكان بالديوان العزيز كاتب الإنشاء، وأستاذ الدار، وحاجب الباب، وبيده كثير من هذه الأسباب، ثم نقم عليه لأمر ما جناه بيديه، فعزل وبقي معزولا، ثم تولّى ومات سمينا وكان مهزولا. * ومن نثره قوله: لا تنال مناقب الفتوح إلا بمقانب الحتوف؛ وخليق بالأمير أنه ينجد ويمير، والديوان العزيز منتظر لأنجاده، وتعليق سيف المضاء بنجاده. ومنه قوله: وكم لك من تدبير غدت به سماء الخطوب مصحية، وشموسها بيمن

سعيك مضحية، يتشعب الخلل إذا تفاقم وطرا، وتقرع أنف الحوادث إذا طم أو طغى؛ ولا مضيق إلا وبك انفراجه، ولا طريق للثناء إلا عليك انعراجه، فقد تكلفت بمصالح الدولة حتى صرت لها أبا، وكفيت من المهم ما سلم لك الحاسد الفضيلة فيه شاء أم أبى، فلذلك نادى منك أمير المؤمنين يقظا أجاب، ورفع بينه وبينك الحجاب، فانهض بما ناطه بك نهوض من لا يتعاظمه أمر وإن ثقل عبؤه ومحمله، واكفه المهم فيما تستقبله وتتقبله، وسارع إلى كل ما يرسمه لك وتمثله، واسحب على ثرى التفويض إليك أذيال الحلّ والعقد، واقدر قدر هذه النعمة التي أحلتك ذرى فلك المجد. * ومن شعره قوله: [السريع] من كانت البغضاء في طبعه ... لم يكفف الإحسان عدوانه فالماء تطفي النار طبعا وإن ... أطال حرّ النار إسخانه ومنه قوله: [الكامل] مشمولة جاء النديم بها ... كالنار يقدحها من القدح نحيا من الهم المميت بها ... فتميتنا من شدة الفرح ومنه قوله «1» [الخفيف] باضطراب الزمان يرتفع الأن ... ذال فيه حتى يعمّ البلاء وكذا الماء ساكنا فإذا خر ... رك ثارت من قعره الأقذاء ومنه قوله «2» : [البسيط] إني لأعظم ما تلقوني جلدا ... إذا توسطت هول الحادث النكد

13 - ومنهم: شهاب الدين النسائي، أبو المؤيد، محمد بن أحمد بن علي بن عثمان بن المؤيد الخرندزي

كذلك الشمس لا تزداد قوتها ... إلا إذا حصلت في زبرة الأسد ومنه قوله «1» : [البسيط] لا تغبطن وزيرا للملوك وإن ... أناله الدهر منهم فوق رتبته واعلم بأن له يوما تمور به ال ... أرض الوقور كما مارت بهيبته هارون وهو أخو موسى الشقيق له ... لولا الوزارة لم يأخذ بلحيته ومنه قوله مما كتب إلى المستنجد «2» : [من البسيط] يا ماجدا جلّ قدرا أن نهنّئه ... لنا الهناء بظل منك ممدود الدهر أنت فيوم العيد منك وما ... في العرف أنا نهني العيد بالعيد 13- ومنهم: شهاب الدين النسائي، أبو المؤيد، محمد بن أحمد بن علي بن عثمان بن المؤيد الخرندزي «3»

* كتب الإنشاء للدولة الخوارزمية، وكبت الأعداء بالصولة العجمية، وكان ذا فصاحة بلّغته شغاف الأرب، وسوّغته نطاف الأدب كالضرب، وفرغته لاقتطاف بدائع العرب؛ وصنف سيرة سنيّة «1» تسمع وقائع سيوفها المشرفية في الرقاب، وتبصر صنائع معروفها وقد مضت عليها الأحقاب، وفاء بعهده لتلك الدولة التي والاها وخدمها، وأولاها ما شرّف بغرره خدمها، فلم يدع مما يبهج حرفا ولا يدع للسان الطيب اللهج عرفا، بعبارة صاغها بلطافة، أعجب من الفريد، وأعجل في القلوب تأثيرا من لواحظ الغيد. * ومن نثره قوله من كتاب كتبه إلى الديوان العزيز مع رأس طغرل «2» ، وصل بغداد في الرابع والعشرين من ربيع الأول، سنة تسعين وخمسمئة، افتتحه بقوله تعالى هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ «3» قال فيه: وردت المراسم الشريفة بردع ذلك المارق الخائن، والمنافق الحائن، الذي استمرأ مرعى بغيه، واستعذب آجن غيّه، وأدلج في ليل ضلالته، وخبط في عشواء جهالته، شاربا من آسن الطغيان نهلا وعلّا، غير مراقب في الله ذمة ولا إلّا، مستسهلا للخطر الجسيم، مغترا بحلم الحليم غير مبال بانسلاخه من الدين، وخروجه عن زمرة المسلمين؛ نبذ أمر الله وراء ظهره، ولم يخش أليم عذابه، ولا راقب وبيل عقابه، فراسله الخادم داعيا له إلى الطريق اللاحب، ومشيرا عليه

باعتماد الواجب، مهيبا به إلى طاعة الإمام، وعارضا عليه تجديد الإسلام، أو الاستعداد للمصافّ، والرجوع إلى حكم الأسياف، فخيره بين هذين الأمرين، وحكّمه في أحد القسمين، وكلاهما عنده خطة خسف، ومورد حتف؛ فلما أبى إلا إصرارا على خطيئته، وإمرارا لحبل منيته وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ «1» دلف إليه الخادم في كتيبة شهباء من جنود الإمام، مقنعة بالزرد المحبوك، محتفّة بالملائكة، محفوفة بالملوك، يتألق حديدها، وتتذامر أسودها، وتئن كالجبل العظيم، والليل البهيم، ضاربة رواقات العجاج، ممتدة الأطناب في الفجاج، وكأن ظللها ليل ولهاذم الرماح نجوم، ودخان الأسنة نار، والصوارم جحيم؛ وكأن رماحها آجال إلا أن الممنايا في أوائلها، وحديدها نار إلا أن المنايا تجول في مناصلها؛ ولم تزل ترجف وفوقها جيش من النسور والعقبان، ويدأب بين أيديها جيش من السباع والذؤبان، وأرثها شخص المنون وهو عريان، إلى أن وافى ذلك المخذول وقد جمع للّقاء، واستعد في جيش جم تضيق بهم قذف البيداء، قد استلأموا للقتال، واستلموا كعبة الضلال، إلا أن الله صب عليهم الخذلان، لما تراءى الجمعان، وبرز الكفر إلى الإيمان، فتلا الخادم عليهم: قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ «2» ولم يكن إلا كنغبة خائف أو لمعة خاطف، حتى انجلت جند الله عنهم وهم كأعجاز نخل خاوية، وأصول ذاوية، لا يعرف لهم قتيل من دبير، ولا يفرق بين مأمور وأمير، وأنفذ الله حكمه في الطاغية، وعجل بروحه إلى الهاوية، وملك الخادم بلادهم، وحاز طريفهم وتلادهم، ونساءهم وأولادهم، وبادر بإنفاذ رسول مبشرا، وأنفذ معه رأسه وطبله وعلمه،

ليلعم أن قد كسر وطل دمه، والخادم ينهي أن وراءه بلادا شاسعة، ومدنا واسعة، وهو بعيد الأيام، ولا يمكنه طول المقام. قلت: وسلك هذا النّسائي مع سلطانه مهمها يعزف الجن في بيدائه، وتضيع الريح في أرجائه، في يوم تتململ أفاعيه في رمضائه، وتسجن وحشه في فضائه، يذوب به حصا الآكام، ويلفح الوجوه أشواظ الضرام، وقد صرّ الجندب، وصكّ وجه الغدير الطحلب، وصح أن الصدى قد قام يبلغ والحرباء تخطب، ولا ورد إلا راكد الشراب، أو مورد كأنه هجر الأحباب، كأنما صب على وجهه الزيت الذائب، أو ذرّ الكبريت للشارب، لا يهنأ برده، ولا يسوغ ورده، فقال له سلطانه: صف ما نحن فيه، فقال على البديهة: [الرجز] قذفت بالعبّس وجه المهمه ... رميت منه مشبها بمشبه والشمس قد أذكت ضرام نارها ... لكنه في موقد من أوجه والقفر خاف لا يبين طرفه ... واضحها للعين كالمشتبه وجندب الأرض بها مبلغ ... وخاطب الحرباء كالمبتده والورد لو يشرب عصفور به ... على فسيح غدره لم يروه مقتّر مقدر مكدر ... تقصر عنه صفة المشبه فاستحسن أبياته، وأجازه عليها بلدا بعمله. وسايره وقد لمع برق فائتلق، كأنه غرة في أدهم أو أبلق، أو سلاسل من ذهب وما لها حلق، لا يني غمامه ينهمر انهمارا، ويلد إثر القطار قطارا، وهو يجلو الظلماء بضوء جبينه الشرق، ويمتد من أرجائه ذهب ثم يتحدر من حافاته ورق؛ فأمره أن يقول فيه، فقال: [الرجز] أنعت برقا في الدجى يأتلق ... كأنه في جلدتيه بلق

14 - ومنهم: ابن أبي الحديد، عز الدين، عبد الحميد بن هبة الله بن محمد بن محمد الحسين بن أبي الحديد، المدائني، أبو حامد

يجلو الدجى له صباح شرق ... يرفضّ منه وابل مغدودق كأنه جود المليك المغدق ... أو أنه من كفه متدفق طورا بدى حما وطورا علق* ومن شعره قوله: [المتقارب] وإني لفي قيد هذا الزمان ... لكالدّرّ إذ بات حشو الصدف وإني على الرغم من حسّدي ... لأسلافي الصّيد نعم الخلف فإن كان أنكر قدري الزمان ... فداهرة صدرت عن خرف فعن أمم تنجلي عمّتي ... كبدر الدجى بعدما قد خسف وتأتي المقادير منقادة ... تقول: عفا الله عمّا سلف 14- ومنهم: ابن أبي الحديد، عز الدين، عبد الحميد بن هبة الله بن محمد بن محمد الحسين بن أبي الحديد، المدائني، أبو حامد «1» .* كتب في ديوان الخلافة، وكبت من برع في المقال خلافه، وكان ذا لسن وبراعة، ورسن ممتد في البراعة؛ وكان من غلاة الشيعة، وولاة مقالات الرفض الشنيعة؛ رأس في الاعتزال، وكيس جدل يتفقأ سمنا بالهزال، على أنه كان

يظهر التمذهب للشافعي، وكان أصوليا لا يحبس لسانه بالعي، مع أنه كان بالبيان يسحر، وبالجمان يسخر. وهو الذي عاب على ابن الأثير الجزري في «المثل السائر» ووضع عليه «الفلك الدائر» كما قدمناه في ترجمة المذكور، وما قصر في المناقشة، ولا عذر في المعاجلة له والمباطشة. * ومن نثره قوله: وبعد، فقد عرض بالديوان العزيز كتابك أيها الزعيم، وخطابك وأمير المؤمنين عليم، وشرحت ولاءك وذلك حبلك الوثيق، وكذلك إخلاصك القديم، وانتماؤك إلى الباب الأشرف، وهذه عقيدة أخذتها عن سلفك وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ «1» نعم، ولا يلقنها إلا ذو فعل كريم، من ذي سلف كريم،؛ وبرز الأمر الأشرف عن الديوان العزيز بتلقي واردك بالكرامة التي عدّيت بها رتبة كل نظير، وأصبحت وعلى رأسك شربوش وتاج، وأنت صاحب تخت وسرير، وستجاب من ديوان الوزارة المشرفة مفصلا عن فصول كتابك، وحسبك حسبك شرفا تتشرف به من الديوان العزيز، إذ كان هذا من خطابك. ومنه قوله: وانتهى أمر الجزري إلى أنه قلع قلع الجزر، وما أغناه ما تكهن أو حزر، وهذا معجل كل مائق، وله مؤجل يأتيه يوم تقوم الخلائق. ومن نثره قوله في تقليد قاض: وأرفع المناصب وأعلاها، منصب الحكم العزيز، الذي يجتبي الشرع في

ندبه، ويجتني السمع ثمرات كل شيء من جنبه، ويعرف به الحلال والحرام، ويتصرف في أوامر ذي الجلال والإكرام، وإن أحق من ألقي زمام أحكامه إليه، من تفرد بما لديه، وفاز بسهم معلى من العلوم، وأخذ من فنونها بنصيب معلوم، دأب نفسه في تحصيل نفائسها، واجتلاء غرائسها؛ فكم من أحاديث نبوية يعرف السقيم فيها من الصحيح، والعدل من رجالها من الجريح، وعلم الرواية على تشعبها، والأسانيد وطرقها، في حالتي تسهلها وتصعبها؛ وكم تفاسير كشف حقائقها، ومشكلات تأويل أظهر تحسين إيضاحه طرائقها، وكم فروع مسائل أصّلها، وأصول فقه حواها وحصّلها. وكنت أيها القاضي فلان، لك فخر بعلم علمها لا يباهى، وورع لا تماثل فيه ولا تضاهى، وإفادة ينصب الطلبة لاستفادتها، وتشره الأسماع لحسن إيرادها واستعادتها؛ فلذلك أعهد عليك في القضاء بمدينة كذا، وألق من علومك ما يلاقي من أجله ذوو الطلبة للاستفادة، واعلم أنك حصلت على السعادة الدنيوية، فاعمل على الأخروية، فإنها أعلى السعادة، واجر على عادتك [في] التحرز في الأحكام، وامض على سننك في الاحتياط في كل نقض وإبرام، وأرع يراعك كل ما يفتقر أن يرعى، وكل ما يجب أن يمعن فيه النظر عقلا وشرعا؛ ثم والعدول فلتعتبر أحوالهم، وألزمهم بكل ما هو أجمع وأحوى لهم، فبهم تؤخذ الحقوق وتقام الحدود، وهم أمناء الله في أرضه، حيث هم على خلقه شهود، ومن وصايا العلم في تحقيق مسائل الخلاف لك عناية، فها عادة لا تقطع، وعدة لا تستدفع، وهي للمكمل الأدوات، المبرز بجميل الصفات، تذكرة تبدؤك نصائحها، وتتضح لديك مصالحها، فخذها نصب عينيك وتجاه أمرك، وأدم إحضارها في قضاياك ومرورها على فكرك. * ومن شعره قوله: [الكامل]

بالله ضع قدميك فوق محاجري ... فلقد قنعت من الوصال بذاكا وأطل معاتبتي فإن مسامعي ... تهوى حديثك مثل ما أهواكا لا عانقتك من البرية كلها ... إلا يدي اليمنى وبند قباكا كلا ولا رشفت رضابك بعدما ... قد ذقته إلا التي تهواكا ومنه قوله في مليح جعل عارض الجيش، وخلع عليه خلعة خضراء «1» : [مخلع البسيط] وأهيف كالقضيب قدا ... في خضر أثوابه يميد قبلته باعتبار معنى ... لأنه عارض جديد * واتفق له سرى ليلة برقها قد سرى، موهنا كوجيب الفؤاد، وموهما بأن طرفه لم يكتحل برقاد، كأنه فرس معار أشقر، أو نار تشب ضرمة وما خفي منه أكثر، والرباب دون السحاب كخليع من الفتيان يسحب مئزرا، وأمّ رؤوم على الأرض تدهن لمم الثرى، فقال: [الطويل] أسري وومض البرق يخفق قلبه ... ويذكي له في الليل قدح زناد ويوهمني أن ليس يكحل عينه ... رقاد، بلى قد كحلت برقاد ودون الغوادي للرباب جلاجل ... تزور وهادا من عليّ نجاد تزور بمبتل الحيا هامد الثرى ... وترشف ثغر النور ريق غواد ثم لما أبهم عليه الأمر وأشكل، ولم ينخ راحلته فيعقلها ويتوكل، وقد سرى في ليل يخفي ظلامه قصد السبيل، ويملأ هوله صدر الذليل، ويفترس غوله خلب الغرير فكيف الدليل، تململ وتضجر، وقال لم يتصبر: [السريع]

ما لي ولليل وظلمائه ... ومهمه يحار فيه الدليل كأنني في لجة غارق ... يا قوم قولوا لي كيف السبيل؟ ومن شعره أيضا مما أنشدنيه شيخنا أبو الثناء الحلبي «1» ، قوله: [البسيط] أفدى الذي زارني والخوف يقلقه ... يمشي ويكمن في العطفات والطرق قبلت أطراف كفيه على ثقة ... بالأمن منه وخديه على فرق فكان في أخريات السكر مضطربا ... إذا أراد انتظام اللفظ لم يطق لله ما أحسن الصهباء منعمة ... علي إذ علمته طيبة الخلق أهدت إليه سرورا نلت معظمه ... كالفعل ينصب مفعولين في نسق وقوله: [الكامل] أعدى البياض إلى مجاوره ... ما ذاك إلا أنه مرض هلا تيسر للسواد كذا ... وكلاهما في حكمنا عرض وقوله: [الكامل] يا من يدلس بالخضاب مشيبه ... إن المدلس لا يزال مريبا هب ياسمين الشعر عاد بنفسجا ... أيعود عرجون القوام قضيبا وقوله على الجادة في تفضيل السيف على القلم: [الطويل] وما تدرك الأقلام شأو مهند ... يضيء إذا ما قام بين الكواكب وأنّى لها وهي التي في طروسها ... تخر على الأذقان سود الذوائب وكم بين من يبكي إذا ما انتدبته ... لأمر وبين الضاحك المتلاعب

15 - موفق الدين، القاسم بن هبة الله، أبي المعالي

وقوله في عكسه على طريقة ابن الرومي في المغايرة: [الطويل] وما تطرق الأقلام في الطرس ذلة ... ولكنها حيات رمل قواتل ومن أين يلقى السيف بعض فعالها ... وآثارها من غير جرح عوامل إذا كان بين المرء والسيف حائل ... فليس عن الأقلام والمرء حائل وقوله مما كتب به إلى بعض أصحابه وقد فصد: [البسيط] يد تسيل المعاني بين أسطرها ... ما عودت غر مس الطرس والكاس تجري دماء الأعادي وهي سالمة ... أنّى جرى دمها من مبضع الآسي سهّلت يا وارث العليا المقام له ... أم كان فاصدها من أشجع الناس كأنما شق منها رأس مبضعه ... بحرا من الجود أو طودا من الباس وإذ ذكرناه فلننبه على ذكر أخيه: 15- موفق الدين، القاسم بن هبة الله، أبي المعالي «1» * وكان باقعة في الاعتزال «2» ، ومعقلا للاختزال، دويهيّة تصفرّ منها

الأنامل «1» ، وتزور مقل السيوف والعوامل. وقفت من نثره على قوله: ولي بيان في وصف مجده لا يكلّ، ولسان في ذكر مناقبه لا يذل، وسهمي لا يخطئ غرضه، وفعلى لا يردي إلا معترضه، إلا أنني لو واصلت الأمداد، وزاحمت الأطواد، وأرسلت السحب، وراسلت الشهب، لما وفيت حقه المتعين، ولا قلت إلا الحق البين. ومن شعره قوله «2» : [البسيط] يصحّني حبّه [طورا] وينكسني ... فكم أصح من البلوى وانتكس وقوله «3» : [الكامل] يا هاجري لما رأي شغفي به ... ما كان حق متيم أن يهجرا إن الذي خلق الغرام هو الذي ... خلق السلو فلا يغرك ما ترى وقوله «4» : [البسيط] أبدت من الشّعر في تشبيه وجنتها ... لما أحاط بها سطر من الشّعر كالظل في النور أو كالشمس عارضها ... خط من الغيم أو كالمحو في القمر

16 - ومنهم: ابن بصاقة، فخر القضاة، أبو الفتح، نصر الله بن هبة الله بن عبد الباقي بن الحسين بن يحيي الغفاري، الكناني

وقوله فيما أنشدنيه شيخنا أبو الحسن الكندي «1» «2» : [الخفيف] قد بدا ما تسر فيما تقول ... إنما أنت عاشق لا عذول رابني منك في ملامك تكثي ... ر لصبري ببعضه تقليل وحديث ملجلج فيه للقل ... ب على السّر آية ودليل يا رعى الله شادنا أمست الأض ... داد فيه للحين وهي شكول قسم البدر بيننا فله النو ... ر وعندي محاقه والذّبول إنما أنت مهجتي واتخاذي ... بدلا عن حشاشتي مستحيل ومنها: ثروتي فوق همتي ومرامي ... فوق طولي وساعدي مغلول «3» وقد رواها شيخنا أبو الثناء الحلبي لأخيه الموفق «4» ، وكلاهما ثبت، ولعل الكندي أدرى بطرق الرواية. 16- ومنهم: ابن بصاقة، فخر القضاة، أبو الفتح، نصر الله بن هبة الله بن عبد الباقي بن الحسين بن يحيي الغفاري، الكناني «5» .

كتب للناصر داود بن عيسى «1» ، ووزر وجلس معه في صدر الإيوان والطرد، ونشأ وتأدب بالشام، وأومضت له بارقة كانت تشام، ثم صرف عن وزارة الناصر عنانه، ونفض منها بنانه، لأمور نقمها، وشرور خاف نقمها، وكان يحذر سوء خلائق مالكه، وتوعر طرائق مسالكه، فطالما أظلم جوّه، وأعتم دوّه، فتسلل منه بمخيلة ذبت في السراء، ودلت على الضراء، فخاف مساورة ذلك الأرقم، وترك مساقاة الشهد به خوفا من العلقم، وكان طود حجا وحجاج، وطوق جيد وحجاج، زينة إلى فصاحة شب على إرضاعها، وسماحة تولّى حفظ مضاعها، وبلاغة كانت حلية لنظامه، وحلة لإحلاله في الصدور وإعظامه؛ ووزر جدي رحمه الله بعده، ثم عاف تلك الدولة ففارقها في ليلة قمراء مسودة، لأمور ما هذا ميقات شرحها، ولا مرقاة صرحها؛ فأما ما لابن بصاقة: * فمن نثره قوله: وأما الأبيات الجيمية، الجمة المعاني، المحكمة المباني، المعوذة بالسبع المثاني، فإنها والله حسنة النظام، بعيدة المرام، مقدمة على شعر من تقدمها في الجاهلية وعاصرها في الإسلام، قد أخذت بمجامع القلوب في الإبداع، واستولت على المحاسن فهي نزهة الأبصار والأسماع، ولعبت بالعقول لعب الشمول، إلا أن تلك خرقاء وهذه صناع، فإذا اعتبرت ألفاظها كانت درّا منظوما، وإذا اختبرت معانيها كانت رحيقا مختوما، جلّت بعلوها عن المغاني المطروقة، والمعاني المسروقة، ودلت بعلوها على أنها من نظم الملوك لا السوقة، فلو وجدها ابن المعتز

لأجرى زورقه الفضة في نهرها، وألقى حمولته العنبر في بحرها «1» ، وألقى تشبيهاته «2» بأسرها في أسرها، ولو لقيها ابن حمدان لاغتم فرمى قوس الغمام، وانبرى زي السهام، وتغطى من أذيال الغلائل المصبغة بذيل الظلام «3» ، ولو سمعها امرؤ القيس لعلم أن فكرته قاصرة، وكرته خاسرة، وأيقن أن وحوشه غير مكسورة، وعقبانه غير كاسرة؛ فأين الجزع الذي لم يثقب من الدرّ الذي قد ينظم ويهذب «4» ؟ وأين ذلك الحشف البالي من هذا الشرف العالي؟ فالله يكفي الخاطر الذي سمح بها عين الكمال الشحيحة، وتشفي القلوب العليلة بأدوية هذه الأنفاس الصحيحة. وأما الأبيات فهي هذه «5» : [الكامل] يا ليلة قطّعت عمر ظلامها ... بمدامة صفراء ذات تأجج بالساحل الباقي روائح نشره ... عن روضه المتضوع المتأرج واليم زاه قد هدا تياره ... من بعد طول تقلّق وتموج

طورا يدغدغه الشمال وتارة ... يكرى فتوقظه بنات الخزرج «1» والبدر قد ألقى سنا أنواره ... في لجه المتجعد المتدبج فكأنه إذ قدّ صفحة متنه ... بشعاعه المتوقّد المتوهّج نهر تكون من نضار مائع ... يجري على أرض من الفيروزج قالها الملك الناصر داود، وبعث بها إليه يعرضها عليه؛ وهي أبيات يحق لها أن توصف بجودتها وشرف قائلها، وإن لم تحل الذروة، ولا أو شكت؛ ثم نعود إلى تتمة ما نذكره: فمن قوله: يقبل الأرض، وينهي أنه فارق مالك رقه مرارا، وما وجد لفراقه من الألم ما وجده هذه المرة، وبعد عن جالب رزقه، فانضرّ ولا مثل هذه المضرة، حتى لقد توهم أنها فرقة الأبد، وداخله من الأسف ما لم يبق معه صبر ولا جلد، وكلما شرع في الصبر أبى الذكر أن يحدث له صبرا، وكلما سهل عليه الأمر لم يزده تسهيله إلا عسرا؛ والله تعالى يسهل من اللقاء كل صعب عسير، ويجمع شمل المملوك بمالكه وهو على جمعهم إذا يشاء قدير. ومنه قوله: المملوك يشافه أرض مالكه بقبول خضوعه، ويبل ترابها بوابل دموعه، ويستقل فيضها ولو أنه من سيل نجيعه، لما ناله من الحادث المؤلم الملم، والخطب المظلم المدلهم، بانتقال الولد العزيز، الملك العزيز؛ فلقد ورد المملوك من الكتاب الوارد بنعيه مشرعا كدر الموارد، عسر المصادر «2» ، وحضر منه مجمعا كثير

البوادي والحواضر، فياله ناعيا أصم الأسماع وأصماها، وأقذى العيون بل أعماها، وجرح القلوب فأدماها، وما أهمل سحب الجفون لكن أهملها وأهماها، وتبّا له من نغيص نغص الدنيا على أربابها، وإن كانت معشوقة محبوبة، وكره الحياة عند أصحابها مع أنها شهية مطلوبة، وكان الأولى بالمملوك أن يصرف عن ذكر الحادثة صفحا، ولا ينكأ بتجديده بالقرح قرحا، ولا يقصد لباب الجزع بعد انغلاقه فتحا، ولا يطلع التعزية ليلا وقد طلعت التسلية صبحا. ومنه قوله: وينهي ورود المثال الكريم، فوقف منه على اللفظ البليغ والمعنى البديع، وعلم عند تدبره أنه فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ «1» ، وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ «2» وتصور أن كاتبه قد جاوز البحر فأتحفه بجواهره، بل جاور الملك فأسعفه بعساكره؛ وصدق تصوره كون ألفاظه جواهر وكنانة كتائب، وعجبت لخروج الدر من العذب حتى تذكرت أن عادة البحر العجائب؛ وأما ما أمر به من النيابة عنه في خدمة مولانا الوزير، فقد ناب عنها لكن مناب تراب التيمم عن الماء الطهور، وأنهى مشافهاته، وأدى من جملها في الساعة الواحدة ما لا يفصل في عدة من الشهور؛ وأما أحوال المملوك، فإنه من صدقات الديوان ما يعدم سوى النظر إلى طلعة مولانا التي هي عديمة النظير، ولا يشتهي غير الفوز بخدمته، وذلك هو الفوز الكبير؛ وكل هذا برفع محل مولانا لمحلي، ولأجله لا لأجلي: [الطويل] أضمّ قضيب البان من أجل قدها ... والثم ثغر الكاس أحسبه فاها

إلا أن المملوك قد أطال الإقامة في دار المقامة، ونال الكرامة حتى يكاد يسأم الكرامة، وله أسوة بالقائل وقد طالت حياته: سئمت تكاليف الحياة «1» ؛ وإذا أغرقت المياه وإن كانت عذبة شكيت المياه. ومنه قوله: وينهي ورود المثال الكريم، بالنبإ العظيم الذي أصمى القلوب، وأصم المسامع، وأوقف الخواطر، وأجرى المدامع، وضيق على النفوس مجرى الصبر الواسع، وفزعت الآمال فيه إلى الكذب، فما أجدى جزع الجازع من نعي الإمام الطاهر النقي، العلم الزاهر الزكي، خليفة الله المستنصر بالله، بوأه الله جنان عدنه، وأسكنه غرفات أمنه، وانتقاله عن الغمة الضيقة إلى الرحمة الواسعة، ومصيره من الدار المفرقة إلى الدار الجامعة؛ فأظلم بها الأفق لكسوف شمس الضياء، ودجا ليل الجو لخسوف قمر العلياء، وضحيت وجوه المكارم لتقلص تلك الأفياء، وكادت تنفطر لفقده السماء ذات البروج بقضاء نحبها، وبكته بدموع قطرها من جفون سحبها، حتى خدت خدود المروج، وشقت للأرض جيوب تربها فألبسها حدادا من بياض الثلوج، فياله خطبا عم الوجود باسره بأسره، وحص جناح الإيمان بحصه بل بكسره، وعرف كل عارف بفظاعة نكره، وقضى لكل قلب بتجمع همه وتقسم فكره، وأعاد الإسلام غريبا كما بدأ أول عمره؛ لكن أقرن به الخبر الذي سر السرائر وجلّى الدياجر، وثبت القلوب بعد أن بلغت الحناجر، بولاية مولانا الإمام المحتوم الطاعة، خليفة الله في أرضه، والقائم بسنة الإيمان وفرضه، أمير المؤمنين المستعصم بالله ابن خليفته ووليه، وابن عم رسوله ونبيه، فأجلت بوائق الحادث الجلل، وقضت بانقباض الوجل، وانبساط الأجل،

وحصل العطف والتوكيد بهذا النعت وهذا البدل، فالحمد لله الذي تدارك بالجبر كسر الإسلام، وحسم بالبرء موادّ الآلام، وأزال باليقين عوارض الأوهام، وعاجل بالرتق فتق الأيام؛ فيالها دعوة أجاب داعيها كل مبصر وسامع، وأمّن عليها كل ساجد وراكع، وتليت آياتها في كل مصر جامع، وتلقّى العبد هذه النعمة بالشكر الذي استغرق غاية جهده ونهاية وسعه، وأكثر الحمد لله على ما أولى من جزيل منّه وجميل صنعه، وسارع إلى تلقي المثال الكريم باتباعه وامتثاله، وأخذ البيعة على نفسه وشيعته ورعيته، وأعلن بالدعاء لإمامه، على منابر بلاده، التي هي من إنعامه، ولولا أنه في مقابلة عدو الدين لما قنع في تأدية فرض العين بسنة النيابة، وكان يسعى إلى الباب الكريم بعزيمة وارية غير وانية، ويشفع هجرته الأولى إلى الحرم الشريف بهجرة ثانية. ومنه قوله في توقيع لقاضي القضاة محيي الدين أبي الفضل يحيى بن الزكي العثماني «1» : ونحا سيرة أجداده فما عدل عنها ولا حاد، وفضل بالفضائل فما عد غيره في الجم الغفير إلا كان معدودا في الأفراد والآحاد، فإذا تولى أمرا بلغ فيه أقصى الأمل والإرادة، وإذا باشر مهما استقصى الغرض فلم يبق موضعا للزيادة؛ فرأينا أن ننوله من رتب السعادة ما رأيناه له أهلا، وأن نؤتيه منا فضلا، وأن ننصبه بين أهل بلده حاكما، وننضيه لحسم مواد المخاصمات صارما، ونحمله من أعباء المناصب ما يكون بحقوقه قائما، ويرتضى منه لتدبير عوالي المراتب طبا خبيرا، وإماما عالما.

ومن قوله في خطبة صداق المراجعة: رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً «1» الحمد لله جامع الشمل بعد الشتات، وواصل الحبل بعد البتات، ومحيي الأرض بعد الممات، ومنزل الماء الثجاج من المعصرات لإخراج الحب والنبات، والعالم بما كان وما يكون وما مضى وما هو آت؛ وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، شهادة تضاعف الحسنات، وتمحو السيئات؛ وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المبعوث بالآيات البينات، صلى الله عليه وعلى آله الأبرار وأزواجه الطاهرات، صلاة باقية بعد نفاد الأزمنة وفناء الأوقات؛ وبعد: فالنكاح من السنن التي أمر الله بها، وندب إليها، ورغّب رسوله صلى الله عليه وسلم فيها، وحض عليها، فقال تعالى في كتابه العزيز المنزل على أفضل أنبيائه ورسله، الذي لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله لا يأتون بمثله: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ «2» . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو المخصوص بالشفاعة والكرامة «3» : «تناكحوا تناسلوا أباهي بكم الأمم يوم القيامة» وقد جعل الله تعالى للزوجين أن يتواصلا وأن يتقاطعا، وأن يتباينا وأن يتخالعا، ورخص لهما في المراجعة بقوله تعالى: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا «4» وكان من قضاء الله السابق علمه، وقدره المارق سهمه، ما ذكر في هذا الكتاب المقرون

بالبركة رقمه، المعجون بالسعادة ختمه، كذا وكذا. ومنه قوله، وهو حل بيت المتنبي، وهو «1» : [الكامل] إن القتيل مضرجا بدموعه ... مثل القتيل مضرجا بدمائه قتيل «2» الجفون الفواتر في سبيل حبه، كقتيل السيوف البواتر في سبيل ربه، إلا أن هذا يغسل بدموعه، وهذا يزمل بنجيعه، وهذا في حال حياته ميت يرمق، وهذا في حال مماته حي يرزق. ومنه قوله في حل» أبيات ابن الرومي «4» : [الكامل] وحديثها السحر الحلال لوانه ... لم يجن قتل المسلم المتحرز إن طال لم يملل وإن هي أوجزت ... ودّ المحدث أنها لم توجز شرك العقول وفتنة ما مثلها ... للمطمئن وعقلة المستوفز لا جناح على من شغف بفاترة الجفون، فاتكة العيون، عليل لحظها، صحيح لفظها، تعد السقام الشفاء من قربها، وتوقع الأنام في شرك من هدبها؛ وإن أثبتت طعنت من ناضر غصن رطيب بعامل ذابل، وإن رمقت رشقت عن قوس حاجب بنبل نابل، وإن نطقت فاستمع لما أنزل على الملكين ببابل، فهو السحر الحلال، مع قتله النفوس عمدا؛ والعذب الزلال؛ إلا أنه أن يزيد المرتشف له وقدا، والعاقل للعقول فلا تجد من وقوعها في عقاله بدّا، يؤمن على طويلة الملك، وكل طويل سواه مملوك، ويود سامع قليله لو أنه بالكثرة متصف، وبالزيادة

مشمول، يلهي المشتغل عن قضاء أشغاله، ويعوق عن مضي استعجاله بنزه النواظر في رياض حسنها الناظرة، وتغرق الخواطر في بحار ذهنها الزاخرة، تقيد الألباب ولو أساءت، وعهدنا الإنسان بالإحسان يتقيد، وتصيد القلوب طوعا وكرها، فاعجبوا من غزالة تتصيد. * ومن شعره قوله «1» : [مخلع البسيط] يقول لي ما دحوه لما ... فازوا وما فزت بالرغائب مالك فينا بغير عين؟ ... قلت: لأني بغير حاجب فإن تعجبتم لكوني ... وردت بحرا عذب المشارب ولم أنل من نداه ريّي ... فالبحر من شأنه العجائب ومنه قوله «2» : [السريع] غبت عن القدس فأوحشته ... لما غدا باسمك مأنوسا وكيف لا يلحقه وحشة ... وأنت روح القدس يا عيسى ومنه قوله في الصّوم: [الطويل] وما خاتم طول النهار لباسه ... وعند دخول الليل ينضى ويخلع وأعجب شيء أن يسموه خاتما ... وما دخلت فيه مدى الدهر إصبع ومنه قوله في قصب السكر: [الكامل] جعلت فداك هل لك في حبيب ... مجيب في الوصال بلا محال نقي الثغر معسول الثنايا ... له ريق ألذ من الزلازل

يقام عليه حد القطع ظلما ... ولم يسرق ولم يتهم بمال ويعصر كعبه من غير ذنب ... فيبدي الشكر من كرم الخلال ومنه قوله في السيف «1» : [الطويل] وأبيض وضاح الجبين صحبته ... فأحسن حتى ما أقوم بشكره شددت يدي منه على قائم بما ... أكلفه يلقى الأعادي بصدره إذا نابني خطب شديد ندبته ... فيهتز منه مستقلّ بأمره صبور على الشكوى فلو دست خده ... على حدة فيه وثقت بصبره «2» ومنه قوله في الرمح «3» : [الطويل] عصيّ ثقيل إن أطيل عنانه ... مطيع خفيف الكلّ حين يقصّر ترى منه أمّيّا إلى الخط ينتمي ... ومغرى بغزو الروم وهو مزنّر عجبت له من صامت وهو أجوف ... ومن مستطيل الشكل وهو مدور ومن طاعن في السن ليس بمنحن ... ومن أرعن مذعاش وهو موقر ومنه قوله في الإبرة: [الطويل] ومسمومة بالضد من أخواتها ... إذا زال عنها سمها ليس تنفع إذا لدغت لم يدخل القلب إبرة ... لخوف وإن كانت تمض وتوجع ترى خلفها مهما تمشت ذؤابة ... تجر وإن الرأس منها لأقرع تحلت بضيق العين وهي سخية ... لها خلع بين الأنام توزع وإن أجل الناس قدرا وقدرة ... ليلبس ما تنضوه عنها وتخلع

ومنه قوله في صاغرة الإراقة: [المنسرح] يا سيدا لم تزل أوامره ... فرضا على العبد فهو ممتثل هل لك عند الماء في أمة ... بيضاء حمراء ما بها خجل إن تدنها تأت وهي صاغرة ... أو تقصها لا يغيظها الملل تنكحها كلما أردت ولا ... يضجرها منك ذلك العمل تحبل في ليلها فإن تركت ... إلى غد زال ذلك الحبل وهي إذا فتّشت فلا دبر ... يولج فيه لها ولا قبل ومنه قوله «1» : [المتقارب] وعلق تعلقته بعد ما ... غدا وهو من سقطات المتاع فغرقني منه نوء البطين ... ورواه مني نوء الذراع ومنه قوله في المحفة «2» : [الطويل] وحاملة محمولة غير أنها ... إذا حملت ألقت سريعا جنينها منعمة لم ترض خدمة نفسها ... فغلمانها من حولها يخدمونها لها جسد ما بين روحين يغتدي ... ولولاهما كان الترهب دينها فقد شبهت بالعرش في أن تحتها ... ثمانية من فوقها يحملونها ومنه قوله في الإبرة «3» : [الطويل] وعارية لا تشتكي البرد في الشتا ... على أنها منهوكة الجسم بالبرد

17 - ومنهم ولده، وهو محمد بن نصر الله بن محمد بن محمد بن عبد الكريم الشيباني، أبو عبد الله

إذا زال عنها سمها زال نفعها ... وكان دواء السم في ذاك بالضد ومنه قوله في الميل: [الطويل] ومعتدل في شكله وقوامه ... وليس له مثل وإن كان كالغصن يسن وإن لم يرهف السن حده ... على أنه كالسيف سل من الجفن ومنه قوله في المشط «1» : [الطويل] بعض بأسنان وليس له فم ... ويثغر أحيانا وليس بذي ثغر رأى الزهد رأيا فاغتدى متجللا ... على جسمه العاري بمسح من الشعر 17- ومنهم ولده «2» ، وهو محمد بن نصر الله بن محمد بن محمد بن عبد الكريم الشيباني، أبو عبد الله «3» * فطرة ذكاء غذي بلبانها، وغدا في ورق الشباب يهتز اهتزاز قضبان بانها؛ طلب العلياء والشبيبة ممدودة الطراف، والحبيبة غضة الأطراف، وكان دأبه في أدب يوشيه، لطرب ينشيه، بفكر ينديه، لبكر يهديه، فأهداها خفرات، وأبداها مسفرات، من غرز وسام ودرر لا تسام، نثرها نثر الجمان، ونظمها قلائد في جيد

الزمان، فقدحت الأنوار، وفتحت بين نرجس المجرة أعين النوار، فطابت بها الأيام بكر وأصائل، وطالت بسحبها الأيام غدر وخمائل، وكان مخالفا لمذهب أبيه في التيه الذي مقت لأجله، ووقت ميقات الحب لنجله. ذكره أبو العباس ابن العطار، وقال: ولد بالموصل في رمضان، سنة خمس وثمانين وخمسمئة. وله كتاب «غرة الصباح في أوصاف الاصطباح» وكتاب «الأنوار في نعت الفواكه والثمار» «1» وله نثر رائق، ونظم فائق. * ومن نثره قوله: بين المشوق وبين الحمام مناسبة في شجو تعبيره لا في شجو ضميره، فهو يعلن نحيبه تألما، وهي تعلن بعتابها ترنما، وفرق بين الأشجان الملهبة الأضالع، والألحان المطربة للمسامع، وقد زعم قوم أنها تذكر عهدا، وتجدد وجدا، وهذا شأن من كانت عهوده منسية الأيام، ومن لم يكن له من وجده حمامة لم يهتج لتغريد الحمام، ولست براض أن أرعى للإخوان عهدا يفتقر إلى تذكار، وأضمر لهم وجدا يحتاج إلى تجديد آثار، وأشواقي إليهم على النوى بين الأشواق التي تذهب بجلد الجلد، وتوري زناد الصبابة تحت الحشا الصلد، وإذا صافحت برد الموارد، وجدت حر الغليل في ذلك البرد، وإن زاد غيرها بحديث سعد، وكذلك هي في ارتياحها إليه والتياحها عليه. ومنه قوله يصف سحابة: خفقت بها بنود الرعود، وأطردت فيها خيول السيول؛ فالسحاب بها بين سائر ونازل، وواضع وحامل.

ومنه قوله: ولقد وافيتها في زمن المشمش الذي له المثل السائر والذكر الدائر، فرأيت منظر أبهاء، ومخبر اشتهاء، ذا لون ذهبي وشكل كوكبي، وعرف مندلي، وطعم عسلي، فهو يتمزق للطافة جلده، ويزهي بلذة طعمه، وعظم قدّه. ومنه قوله: وصل الورد على يد مشبهه عرفا، ومخجله وصفا؛ وما أقول إلا أني جرت في التشبيه، فعدت على خاطري بالتنبيه، وقلت: أين الورد الذي تناله الأيدي بتناولها، وتبذله بتداولها، من ورد لا يجنى إلا بالعيون، ولا ينال إلا بالظنون؟. ومنه قوله: كأنما خلقت أغصانها منابر لخطباء الغرام، وصوّرت أوراقها محاجر لدموع الغمام، وخرطت أزهارها مجامر للمندل الرطب، وقدر أقحوانها فما لمؤشر الثغر العذب، والطير «1» ما بين متطلع من وكنه، وقائم على غصنه، من كل مفوّف الطيلسان، ذا طوق يزهى به على طوق العقبان، يترنم خلال أوراق الغصون، فيلتقي شأن المتيم بين الشؤون: [الطويل] يصلن بنوحي نوحهن وإنما ... بكيت بشجوي لا بشجو الحمائم ومنه قوله في البنفسج والورد: أنا حبيب النفوس، وتاج الرءوس، والعطر الموضوع في الجيوب، واللون الذي يشبه عذار المحبوب، ولئن ذممت بأن لباسي لباس السواد، فإن هذا من شيم أهل

الوداد؛ فأقبل الورد في عسكره وجنوده، خافقة ألسنة عذباته وبنوده، محمر الوجنات من الغضب، منكرا على البنفسج ما جناه من سوء الأدب، فجال في ميدان المفاخرة وصال، وهتف بالبنفسج وقال: [الكامل] أعلي يفتخر البنفسج جاهلا ... وإلي يعزى كل فضل ينهر وأنا المحبب في القلوب زمانه ... وبمقدمي أهل المسرة تفخر كيف أطعت هوى نفسك الأمارة، حتى افتخرت بحضرة الأمارة؟ ألست صاحب الاسم المعجم، والرداء الذي ليس يعلم؟ بينا ترى ناضرا، ويرى الطرف عنك نافرا، تهلك من الفخر، إلا أن تشبه بالعذار إذا بقل، والكبريت إذا اشتعل، ولم تحظ من هذين الوصفين إلا بالصيت المذموم، لأن هذا إحراق النار، وهذا تسويد الخد الملثوم، على أن بعض البلغاء قد أنكر تشبيهك بالعذار، ونزع عنك ضعة هذا الثوب المعار، فقال: [الكامل] ومهفهف لما بدا في خده ... شبه البنفسج وانطفا توريده غم البنفسج حين شوه خلقه ... وغدا على مبيضه تسويده لكن أنا مرتقب الأيام، ومنتظر الأعوام، وأيامي أيام الأفراح، ومراوح الأرواح، لا يشرق الربيع إلا بورودي، ولا تشبه خدود الغيد إلا بخدودي. ومنه قوله: وبينما الغمامة تطلق لسانها، وتذكر إحسانها، إذ عارضتها الشمس، فخرجت من أثوابها، وقالت هذه منة على الأرض، أنا أولى بها، وأنا معجزة الجبار، وعروس الفلك الدوار، ومربية الأزهار والثمار، ومصلحة ما أفسده تابع الأمطار؛ على أن للمطر يدا لا تنسى، وطبّا به جراح الرق يوسى؛ فإنه مخرج الأرض من موتها إلى نشورها، وموقد فيها مصابيح نورها، تزف إلى عرائس

الرياض وافي مهورها، ويظهر ما في بطون الأرض من الكنوز إلى ظهورها، قام بنسج أبرادها، ورد أرواحها إلى أجسادها، فهي المقدمة تهيج، وتهتز وتنبت من كل زوج بهيج. * وأما نظمه، فلم أقف له منه على قصيدة مطولة فأذكرها متما ولا مختارا، إلا بائية مختصرة ستأتي؛ ومن مقطعاته قوله: [الرمل] لمع البرق فهاجت لوعة ... لفؤاد بالتجني متعب فتخال الجو من لمعته ... حبشيا في رداء مذهب وهذا معنى مطروق، يشبه الليل بالحبشي، ولكن حسنته هذه التتمة التي جاءبها، ولا شيء أحسن من ردائه المذهب هنا؛ وإن نظر قول المعري، حسب الليل زنجيا جريحا. وله: [الكامل] في روضة سلت بها أنهارها ... من كل ماضي الشفرتين مهند قد صيغ فيها فضة بيد الضحى ... وأتى الأصيل فصاغه من عسجد وله: [الطويل] ولم يطلع البدر السماء لأنه ... رأى بيننا بدرا له يخجل البدر تغنى وأسباب السرور تمده ... وفي لفظه درّ وألحاظه سحر وله: [الرجز] أما ترى الليمون يب ... دو في خلال الورق بظاهر من ذهب ... وباطن من ورق تحوطه غلائل ... من أخضر إستبرق

إذا دنا الليل لنا ... جلا ظلام الغسق وله في المشمش: [السريع] والمشمش الغض الجني بدا ... بين الغصون كأنجم السحر إن رمت أن أجنيه يشغلني ... طيب المشمّ ورونق النظر «1» سبحان خالقه وجاعله ... نزه العيون وعسجد الثمر وهذه الكلمة حسنة لولا كاف التشبيه في «أنجم» فإنها قذى في عين هذه العروس، ودعامة ملحقة في هذا البيت. وأما قوله: وعسجد الثمر، فمطرب؛ وكذلك كلمة العماد «2» نثرا، وهي قوله: كأنما خرط من الصندل، أو خلط بالمندل. عدنا إلى ابن الضياء الجزري. وله: [الوافر] وكمثرى حبوت به الندامى ... تزيل تقطب الوجه العبوس كأكواب صغار من زجاج ... وقد ملئت بصفرة خندريس وله: [السريع] قد أسفر الصبح لنا عن نقاب ... ورقت الكأس وراق الشراب فقم بنا نشرب من قهوة ... يلمع للشرب كلمع السراب «3» من قبل أن تلقط شمس الضحى ... من أعين النرجس ورد السحاب

أما ترى الخمر وإيماضها ... كالسيف والكأس لها كالقراب فهزّها في كأسها هزة ... تجن بها أثمار شرخ الشباب وقوله: [الرجز] وروضة طليقة حباء ... غناءة مخضرة جنابا «1» ينجاب عن نورها كمام ... ينحط عن وجهه نقابا بات بها مبسم الأقاحي ... يرشف من طلها رضابا وله: [السريع] السحب تبكي والثرى ضاحك ... بكاء صب ملّ من جفوته والزهر قد فتح أزراره ... كأنه استيقظ من رقدته وله: [الكامل] هب النسيم على الغصون فخلتها ... مثل الأحبة ساعة التوديع وبكيت من وجدي وفرط صبابتي ... حتى سقيت أصولها بدموعي وله: [الرجز] والشمس خلف الغيم كال ... حسناء خلف المعجر تبكي إذا ما احتجبت ... من شدة التحسر لها النعامى نفس ... والدمع ماء المطر تسفر أحيانا لكي ... تحظى ببعض النظر كأنما تنثر في ال ... أرض نجوم السحر أو ذهب منتثر ... على بساط أخضر

وله: [الكامل] نثر النسيم الطل من أغصانه ... والروض بين مذهب ومفضض فتخاله فوق الغدير وقد طفا ... حببا يدور على شراب أبيض وله: [الكامل] والروض ساه باسم مستعبر ... خضل بطلّ سمائه مطلول والفصل معتدل فيا عجبا له ... كيف النسيم يمرّ وهو عليل وله: [السريع] في روضة تطرب أغصانها ... سجع طيور في ذراها فصاح قد فتح الزّخّر أحداقه ... [و] قبل الطل ثغور الأقاح وتحسب الأنهار في جريها ... قد حمت الزهر ببيض الصفاح ودغدغ الغيث بطون الثرى ... فابتسمت فيه ثغور الأقاح وكلما غنت هزاراتها ... شقت جيوب النور هوج الرياح وله: [الرجز] إني رأيت بالأراك هتّفا ... تزعم أن عندها ما عندي تبكي بلا دمع وأبكي بدم ... شتان بين وجدها ووجدي وله: [الوافر] تغني يا حمامة فوق غصن ... ثنت أعطافه ريح الشمال فإنك كلما غردت صوتا ... أميل من اليمين إلى الشمال وله: [مجزوء الكامل] زهر البهار بلونه ... يزهو على شمس النهار

بهر العيون بحسنه ... فلذاك سمي بالبهار وله: [السريع] أما ترى نرجسنا قائما ... وهو لنا في ليلنا حارسا قد فتح الأحداق مستيقظا ... فظل يخشى أن يرى ناعسا حتى إذا قبّلت من اشتهي ... تراه من فطنته ناكسا وله: [المنسرح] والماء بين الرياض تحسبه ... قد جرد البيض وهو يحميها وكلما غنت الطيور بها ... تراقص الزهر في نواحيها وله «1» : [مخلج البسيط] للروض عند الصباح طيب ... نمت إلينا به الجنوب واستمتع الطرف من كراه ... فملّت المضجع الجنوب والطير فوق الغصون يدعو ... طاب لكم وقتكم فطيبوا والكأس في كف ذي قوام ... يخجل من لينه القضيب لولا لباس يقيه طرفي ... لكاد من لحظه يذوب ما سعد الوالدان فيه ... إلا لتشقى به القلوب راح إذا الراح أبرزتها ... صبا إلى شربها اللبيب لها إذا الماء جال فيها ... في قعر كاساتها وثوب إذا سرت في عروق شخص ... هانت على قلبه الخطوب وقائل: تب، فقلت: كلا ... هيهات عن شربها أتوب

18 - ومنهم: ابن قرناص، محيي الدين.

إذا استقام الأنام طرا ... قل لي: لمن تغفر الذنوب «1» وله «2» : [الخفيف] فهي شمس لكن بغير مغيب ... ولهيب لكن بغير انطفاء 18- ومنهم: ابن قرناص، محيي الدين «3» . وهو من أهل حماة؛ ووقفت له على بديع رقم بغرائب النوار حماه، بيانا كالجوهر المعدود، وإحسانا كلّ سمع به معقود؛ كأنه شخص الحبيب بدا لعين محبه، أو طيف الخيال وأدني في قربه؛ وسمعت له كلما كلّما قرأتها استجدتها، وفقرا لقرى المسامع، مهما قدمت لك استزدتها. * فمن نثره قوله: وسار في فرسان كالأسود، إلا أن براثنها السلاح، وجنود كالطيور، إلا أنها تسبق الرياح، حتى أتى فلانة، ورتب عليها نوب اليزك «4» ، للمخايلة لا للمخاتلة، وانتظر أن يخرج إليه صاحبها متضرعا، أو يقصد إليه متخضعا، لأنه إنما قصده غضبا لله، لما انتهكه من محارمه، وأقامه لما رأى العدل الذي شرع في هدم معالمه؛ وشفقة على خلق الله الذين بسط عليهم منذ وليهم أيدي مظالمه؛ فلما أبى إلا الطغيان، والتمادي في مهالك العصيان، واغتر بأصحابه الذين هم معه بأجسامهم وعليه بقلوبهم، ووثق برعاياه الذين كانوا أوقعوا معه بذنوبهم،

فلصق الجيش المنصور بالسور المقهور، فدنا وتدلى، ورأى الخصم عين القصم، فعبس وتولى، فكشفت الستور، وهتكت حجابه، وتبرج كل برج فحسر الزراقون لثامه، وأماطت النقابون نقابه، وطلعت على الأسوار المنيفة من الأعلام الشريفة كل راية صفراء فاقع لونها تسر الناظرين، وأيد الله الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين. ومنه قوله: فلم تر إلا شجرة قائمة على أصولها، وكروما خاوية العروش، وسقيط البلح المبثوث، وجبالا كالعهن المنفوش. * ومن شعره قوله: [الرجز] خذه إليك أدهما محجلا ... من يعل يوما متنه فقد نجا يريك من تحجيله ولونه ... «طرة صبح تحت أذيال الدجى» «1» ومنه قوله: [الخفيف] من لقلبي من جور ظبي هواه ... لي شغل عن حاجر والعقيق خصره تحت أحمر البند يحكي ... خنصرا فيه خاتم من عقيق ومنه قوله: [الكامل] جرح الفؤاد غداة جاء مجرحا ... ظبي من الأتراك معسول اللمى أيلام عاشقه لفرط بكائه ... وعليه أعين درعه تبكي دما ومنه قوله: [الكامل]

19 - ومنهم: ابن العجمي، كمال الدين، أحمد بن عبد العزيز الحلبي، أبو العباس

وكأن مسطولا غريرا قد غدا ... يرعى الحشيشة من جآذر جاسم «وسنان أقصده النعاس فرنقت ... في عينه سنة وليس بنائم» «1» ومنه قوله: [الطويل] إلى الله أشكو داحسا قد أضرّ بي ... بوخز حكى وخز الرماح المداعس «2» وإني لفي حرب إذا بات ضاربا ... عليّ ومن يقوى على حرب داحس 19- ومنهم: ابن العجمي، كمال الدين، أحمد بن عبد العزيز الحلبي، أبو العباس «3» * كتب الدرج في أيام الناصر بن العزيز «4» ، فرقم ديباجها بالتطريز، وفضل فرادها وأزواجها بالتبريز، وكان صدر رئاسة وبدر عرفان وسياسة، لاقت العلياء بمعاطفه، وراقت الفضائل في كؤوس معارفه، من قوم وهبتهم الثريا سيادتها، وحبتهم جارة الشمس سعادتها، فثنت الجوزاء إليه عنانها، وأنقدته النجوم أعيانها، فجعلته الدول حلية للبّتها، وشية لأيامها، وقد نفضت عليها الليالي صبغ لمتها. وقدم دمشق في أوائل دولة الظاهر بيبرس وكتب بها، ثم طلب إلى مصر

واستكتب، واستعتب لحظه الناقص فأعتب؛ وله الآن يقتنى بقية العبق في المشام، والشهب في آخر الظلام. ومن نثره قوله: ولم يكن إلا كلمح البارق الخاطف، أو شرف الطائر الخائف، حتى علونا جدارها، وتسورنا أسوارها، وهذه قيسارية «1» كان ريد أفرنس «2» قد أحكم عمرانها فألحق بالسماء أرضها، وأبرم أسباب تحصينها إبراما منعه نقضها، وجعلناها أمام ما نقصده من الثغور الساحلية، لتعلم الفرنج المخذولين أن قصدنا بحصونهم أمام ما نقصده من الثغور الساحلية شامل، وعزمنا إليهم من كل جهة واصل، وأننا لا بد أن نغرق ببحر عساكرنا ما بأيديهم من الساحل، لتتفرق عزائمهم فلا ينصب إلى جهة واحدة، وتذهل خواطرهم، فتتوهم كل فرقة من الجيوش إليها قاصدة. ومنه قوله: وكنا لما شمخت بأنفها إباء، ورفعت رأسها منعة واستعصاء، وكلّنا «3» باستلانة جانبها، ورياضة مصاعبها، كل طويل الباع، رحب الذراع، مضطلع بأمر الحصر أي اطلاع، فقذفها بشهب نجومه، وواصلها بتوالي رجومه، حتى عرف منها موقعه، واستبان من أبراجها موضعه، وألان من شامخها جامحه وممتنعه، فلم يزل يقبل ثغرها حتى أثغر «4» ، ويصادم ركبها حتى خرّ، وجاء

ما لاصقه على الأكثر، وفي ضمن محاذاتها بالمجانيق، تخللنا حولها الأرض طرقا وأسرابا، وصيرناها إلى الخنادق أنفاقا وأبوابا، وصبر جنود الله حتى وصلوا بالحجارة إلى جدارها، فجاذبوا أذيال بنائها الشامخ، وحلوا عقد أساسها الراسخ، فتعلقوا بأبراجهم تعلق قرار لا لانتصار، ولاذوا بمعاقلهم لياذ رعب لا توهم اقتدار، وأذعنوا بلسان الاستعطاف فأجبناهم على أن يبقوا تحت أيدينا أسارى، وأغمدنا عنهم السيوف إلا من سبق في قتله السيف العذل، وأتاه الموت قبل تحقيق الأمان على عجل، وقد فتح الله على المسلمين حصنا كان عليهم وبالا، وحل عنهم من معقله عقالا، وخفف عن أعناق محاذيه من سوء جيرته أعباء ثقالا، ثم أمرنا بهدمها حتى عاد ما كان يرى منها شاهقا للعيان لا يكاد يدرك باللمس، وأصبحت خاوية على عروشها كأن لم تغن بالأمس. ومنه قوله: فنصبنا عليها من المجانيق كل صائب سهمه، ثاقب نجمه، محرق لشياطين الكفر رجمه، يهد ويهدم، ويردي ويردم، ويوهي ويوهن، ويسر بإردائه ويعلن، لم تنصب عوامله على سور متصل إلا هدمته، ولا مدت أسبابه على مبنى رفع واستغلق بابه إلا كسرته، ولم يزل يرمي غاديتها بالقارعة، ويصمي أسماعها بأحجاره الطائرة الواقعة، وأقبلنا بالمجاهدين إليها، فأحاطوا بها إحاطة الخاتم بخنصره، والسوار بمعصمه، وأمطرنا عليها بسحب القسي وبلا غرقهم بدافق أسهمه، فتجلد أعداء الله وجلدوا، وتعاقدوا على الموت وتعاهدوا، وأرسلوا من جروخهم سهاما لا يردها رادّ عن الأجسام، ولا يكسر عينها ما تصم، الأعضاء من تظاهر الآلام، وإذا شوهدت راعت الناظر، فلم يدر أعمد هي أم سهام؟ وشفعوها بضمّ أحجار صمّت لها أسماع الدرق، وكسرت بها رؤوس البيض،

20 -[ومنهم] : ابن الأثير الحلبي، تاج الدين، أبو جعفر، أحمد بن سعيد

وفقئت أعين الحلق؛ وصبر أولياء الله، ولم يزالوا حتى ألحقوا النقابين بجدارها؛ وبوؤوهم المقاعد تحت أسوارها، وأضرموا نارا طاف بأهل السعير سعيرها، ونطقت عما أكنه ضميرها، فانحل من عقود بنيانها ما كان متسق النظام، ونبذ من شمل بروجها ما كان حسن الالتئام، وكانت لا تلوي جيدا صعرا، فألصق خدّها وهي راغمة بالرّغام. 20-[ومنهم] : ابن الأثير الحلبي، تاج الدين، أبو جعفر، أحمد بن سعيد «1» * رأس المعالي وتاجها، ولقاح المعاني ونتاجها، كان معدن الجلالة، وموطن الرقة والجزالة، ولم يزل بدر الفضائل وكمالها، وصدر المحافل وجمالها، ونفس المآثر وعنصرها، وخاتم المفاخر وخنصرها؛ صحب الأيام مسالما، وقاسم الليالي على النجوم الزهر مساهما، واكتنف البلاغة فقلدته تقليد العموم، وقدمته تقديم الإمام على المأموم، وخدم الدول فأولته إنعاما، وخولته مواهب طالما أخدمته للزمان عاما؛ وكان نداه موارد ملكها، ونهاه عطارد فلكها، فأرته وجوها وساما، وأرضته مصرا وشاما، فأهدى من فرائده ما «2» ابن العزيز، فاستخدم في ديوان الإنشاء واستكتب، واستعتب له الحظ لو يعتب، ثم نقل إلى الباب الظاهري، فكان هناك أحد المتخذين الأعيان، والمتحدين بسحر البيان، وولي في الأيام الأشرفية كتابة السر بالحضرة السلطانية، فلم يتم الشهر حتى مات، ودفن بغزة، فأغمدت المنايا منه عضبا، ووهبت منه إلى جانب البحر الملح بحرا عذبا،

وكان هلالا للشهر، وروضا يلقط من أفنائه الزهر. * قال شيخنا أبو الثناء: كان يبطئ ولا يخطئ. وقال: كان اعتناؤه بالألفاظ أكثر من المعاني. قلت: ويدل على هذا ما يرى، وقد وقفنا على كثير منه وأكثره متزن، لو تجسد لاختزن؛ كأنه في تساويه سجع الحمامة، أو وقع الغمامة. وحكي «1» أنه لما أناخ هولاكو على شاطئ الفرات، وفرش خوفه الخدود لمواطئ العبرات، وقطعت من تلك الدولة الأواصر، وأصبحت ومالها قوة ولا ناصر، كان الناصر بن العزيز قد جهز ولده إلى أردو هولاكو بطرف بعثها، وكتاب حل في سطوره عقد السحر ونفثها، كتبه له هذا الكاتب المذكور، واستشهد فيه بالبيت المشهور «2» : [البسيط] يجود بالنفس إن ضن البخيل بها ... والجود بالنفس أقصى غاية الجود فلما عرضه على الملك الناصر قال له: هذا كتاب لا يلام دونه القاصر، وكان الأنسب في هذا المكان لو استشهدت فيه بقول ابن حمدان «3» : [الطويل] فدى نفسه بابن عليه كنفسه ... وفي الشدة الصماء تفنى الذخائر وقد يقطع العضو النفيس لغيره ... ويدخر للأمر الكبير الكبائر «4» فأقر له بالصواب وعلى نفسه بالخطإ، وبدل الاستشهاد بما قال، ثم ما أنقذ ذلك الكتاب من عثرة ولا أقال.

* ومن نثره قوله: كتابنا هذا والمرقب «1» في قبضة ملكنا، وربوعه قد عادت أطلالا، والأسياف التي كانت في أيدي أهلها قد جعلناها في أعناقهم أغلالا، وقد علم المجلس ما كانوا يحدثون به نفوسهم ويشبعون «2» به رؤوسهم؛ واستفزهم من يحسن لهم في الطمع أمورا، ويعدهم الأباطيل وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً «3» وكان المانع أولا، ما كان من اضطراب الأمور، والتقاء الجيوش، واختلاف الآراء، وتغير النيات، إلى أن أمكن الله عز وجل من كل مناوئ منافر، وظفرنا من الأعداء بكل كافر، وكل من هو للنعمة كافر، ونحن مع ذلك نحيط بما يمكرونه علما، ونملي لهم ليزدادوا إثما، فلما تلمحنا مخايل النصر، سرنا إليها سرى الخيال الطارق، وأسرعنا نحوهم كما تسرع لمحة البارق، ولم نزل نوقد لهم البواتر، وندير عليهم الدوائر، ونشتت لآرائهم شملا، ونقطع من مكائدهم حبلا، ونفض لعزائمهم جمعا، وتكون جنودنا واقفة بإزائهم، فيخيل إليهم من خوفهم أنها تسعى، إلى أن أدركنا فيهم الثأر، وأطفأنا بهم النار، وضربنا عليهم الذلة، وجمعناهم جمع القلة، وأصبح ما كان يحميهم، يتحاماهم، وقلنا: يا سيوف، دونك وإياهم؛ وكانت هذه القلعة مكانها في جوار النجم، وفناء اليم، يقدمها الجبال، ويعصمها البحر، وتحجبها الأودية، ويحصنها الوعر، وتحف بها سيوف لا تكلّ، وآمال لا تمل، وآجال يحفظونهم ولا يضيعونهم، وقوم يعصون الله ويطيعونهم؛ وسطرناها وبلادهم مهدومة، وجموعهم مهزومة، ويد الله فوق أيديهم، والخذلان من كل ناحية يناديهم.

ومنه قوله: وبعد فإن الرتب شرفها بمتوليها ومتوقلها يزيد، والعقد ما امتاز على السلوك إلا بواسطة حسبها نظام كل فريد، والمملكة جمالها وزيرها، وقوامها مشيرها، وأمورها تكون ضياعا، وحزمها يكون مضاعا، مالم تؤازرها يد وازر شديد، ورأي سعيد، وقلم يقلم ظفر الملم ويقوم بعبء المهم، ويجري بالأرزاق ويدخرها، ويقتني الأموال العظيمة لمن يستصغرها؛ ولولاه لما افتخرت الدول، ولكانت مضطربة لولا ابتناؤها على الأقلام والأسل؛ وكان أولى من عول على تدبيره، واهتدى في الأمور بنوره، أهل العلم، فإنهم المذكورون لمن ملك، والمستفتون في الأرواح والأموال ليحيا من حي عن بينة ويهلك من هلك، ويسترشد بهم من إذا ضلت الآراء، وأظلت الأهواء، وطلّت الأنواء، وتحكمت الأدواء، وتقسمت الأضواء، وكان فلان هو المعني بهذه المدح، والجدير بأن تجلى عليه هذه الملح، وتجمل بإلقاء دروسه صدر كل إيوان، وبتصريفه مكان كل ديوان، وتحاسدت الوزارة والأحكام عليه، إلى أن نالت الوزارة منه نحتها، منشدة: [الطويل] هو الجد حتى تفضل العين أختها. ومنه قوله: يقبل اليد، لا زالت أقلامها محسنة في سفارتها، وكتبها لا تسلك إلا بخفارتها، والخدمة إذا لم يكن معها ذمام لا يؤمن عليها شنّ غارتها، وينهي ورود مشرفته التي أبهجته بما أسمعته، وأدت الأمانة فيما استودعته وحملت إليه الرياض زواهر، وأغنته بما أهدى إليه ذلك البحر من الجواهر، وقبل الرسالة والرسول، وقبل الحامل والمحمول، وأعاد الجواب وهو من خوف التقييد على

وجل، وكتبه والقلم من حياء المماثلة لا يكاد يرفع رأسه من الخجل، فيعرضه مولانا على فكره النقاد، ويتصفحه بنظره الذي زمام الفضل به منقاد، ويسبل عليه ستر معروفه الذي [ ... ] «1» ، ويعيره نفحة أنفاسه التي يكاد يفوح المسك من عرفها الشذي، والله يشكر له الإحسان الذي لا يبلغ الوصف مداه، ويحرس عليه من الفضل ما ملكت يداه، ويفديه بكل مقصر عن شأوه، فلا أحد إذا إلا فداه. ومنه قوله «2» : يقبل اليد الشريفة المحيوية المحبوبة إلى كل قبلة، المحتوية على الكرم الذي هو للكرماء قبلة، لا زالت مخصوصة بفضائل الإعجاز، والبلاغة التي كل حقيقة عندها مجاز، والإحسان الذي يظن الإطناب في وصفه من الإيجاز، وينهي ورود مشرفته التي أخذت البلاغة فيها زخرفها، وأشبهت الرياض منها أحرفها، وأبانت عن معجزات البراعة، ومثلت له السحر كيف ينفث في عقد تلك اليراعة، وأبانت مجاري فضله على مثل الجمر وأفردته بالرتبة التي لا يدعيها زيد ولا عمرو، وعلمته كيف يكون الإنشاء، وأعلمته أن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء؛ فوقف المملوك عليها وقوف من أفحمه الحصر، وتطاول لمباراته فيها، وكم يطول من في باعه قصر؟ واستقدم القلم في جوابها فأحجم، واستنطق لسانه ليعرب عن وصفها فأعجم، وقال لحسنها الذي استرق القلوب: قد ملكت فأسجح «3» ؛ وبلغ الغاية في نفسه التي قصرت عن شأوها، ومبلغ نفس عذرها

مثل منجح «1» ، ومن أين لأحد تلك البديهة المتسرعة، والروية التي هي عن كل ما ينتحى وينتحل متورعة، والمعاني التي قطف نوارها أبكارا، والغرائب التي بحرها لا يهدي الدر إلا كبارا، والخاطر الذي «2» يستجدي الفضلاء من سماحته، واللسان الذي يخرس البلغاء عند فصاحته، والقلم الذي هو مفتاح الأقاليم، والطريق الذي كلّ فيه ضل ولو أنه عبد الحميد أو عبد الرحيم «3» ، والكتابة التي تشرق بأنوار المعاني، فكأنها الليلة المقمرة، واليد التي إن لم تكن الأقلام فيها مورقة فإنها مثمرة؛ ومولانا أوتي ملك البيان، واجتمع له طاعة القلم واللسان، وخطبت الأقلام بحمده على منابر الأنامل، وأخذت له البيعة بالتقدم على كل فاضل ولو كان الفاضل «4» ، وأصبح محله الأسنى، وأسماؤه فيها الحسنى، وجاء من المحاسن بكل ما تزهى به الدول، وأصبحت طريقته في هذا الفن كأنها ملة الإسلام في الملل، وعرف الإشارة إلى حلب وما صنعت بها الأيام، وما أشجى من ربعها الذي لم تبق فيه بشاشة تستام، ووقوف مولانا على أطلالها، وملاحظته الآثار التي أعرضت السعادة عنها بعد إقبالها، وتفجعه في دمنها، وتوجعه لتلك المحاسن التي أخذتها الأيام من مأمنها، وإنه وجدها وقد حلت عراصها، وزمت للنوى قلاصها، وغربانها في رسومها ناعبة، وأيدي البلاء والبلى بها لاعبة «5» : [الطويل] فلم يدر رسم الدار كيف يجيبنا ... ولا نحن من فرط الأسى كيف نسأل

فشكر الله موقفه في تلك الدمن، ورقته التي قابل بها جفوة الزمن، ورأى هذا العهد الذي تمسكت منه الآن بحسب، ورعى له حق الدمع الذي جرى فقضى في الربع ما وجب، ومن للملوك بوقفة في رسومها، واسترواحة بنسيمها، وسقياها بدمعه، وتجديد العهد بمغناها الذي كان يراه بقلبه فأصبح وهو يراه بسمعه، ولقد علم الله أن الأحلام ما مثلتها لعينه إلا تأرقت، ولا ذكرتها النفس إلا تمزقت، ولا تخيلتها فكرة فاستقرت على حال من القلق، ولا جردتها الأماني لخياله إلا وراحت مطايا الدمع في السبق «1» : [الطويل] ولا قلت إيه بعدها لمسامر ... من الناس إلا قال قلبي: آها على أنه قد أصبح من ظل مولانا في وطن، وأنساه أنسه من خف ومن قطن، وشرف بخدمته التي تعلي لمن أخدمها منارا، واستفاد من الأيام التي أخذت منه درهما فأخذ عوضه دينارا، وأصبح لي عن كل شغل بها شغل، فاسأل فؤادي عني، وما ذكرت حبيبا إلا كنت الذي أعني: [الطويل] وإن نظرت عيني سواك تلثمت ... حياء بأردان الدماء مع الدمع ولو أني استطعت خفضت طرفي، ولو وصفت ما عسى أن أصفه من الشوق لكان الأمر فوق وصفي: [الطويل] وإني في داري وأهلي كأنني ... لبعدك لا دار لدي ولا أهل وعرف المملوك الإشارة إلى هذه السفرة ومتاعبها، والطرق ومصاعبها، والثلوج التي «2» شابت منها مفارق الجبال، والمفاوز التي يتهيب السرى فيها طيف الخيال، والمرجو من الله تعالى أن تكون العقبى مأمونة، والسلامة فيها

مضمونة، وكأن مولانا بالديار وقد دنت، والراحة وقد أذنت، والتهاني وقد أشرقت بوفودها تلك الرحاب، والرياض وقد أبدت من ملحها ما يكفر به ذنب السحاب، والأنس وقد أمسى وهو مجتمع القوى، والرحلة وقد ألقت عصاها واستقرت بها النوى «1» . ومنه قوله في كتاب كتبه عن الملك المنصور «2» إلى ابنه الملك الأشرف «3» بفتح المرقب: أعز الله نصرة الجناب العالي الولدي، الملكي الأشرفي الصلاحي، عضد أمير المؤمنين، ولا زالت جيوشه تفتح من الممالك حصونها، وتبتذل مصونها، وتستنشر من السعادة غصونها، وتطوى لهم الأرض، ولا يبعد عليهم مرمى يعملون إليه العزائم وينضونها، ويقصون أجنحتها بالشكر ويفضّونها، تهدى إليه كل ساعة خبر جنوده وما ملكت، وخيوله وما سلكت، وسيوفه وما فتكت، ومهابته وما أخذت، ومواهبه وما تركت؛ وتبدي لعلمه الكريم أن الهمم بها تنال الممالك، وترتقى المسالك؛ وقل ما ظفر بالمراد وادع، وكل أنف لا يأنف المساءة فهو أحق الأعضاء بالمجادع، ولم نزل نمثل في أفكارنا الصورة التي أقدم عليها أهل حصن المرقب في مبدأ الأمر، عند اضطراب النيات، وضعف البينات، وغرور الأيمان الكاذبة، واستمالات الخيالات الجاذبة، ونأخذ في أمرهم الظاهر

بالرخصة دون العزيمة، ونعمل على ما لو تمثل لهم صورة لجرّوا منه ذيل الهزيمة، ونستر ما تسدده إلى نحورهم من سهم، ونريهم أنا ندفع في صدور الحقيقة بالوهم، ونعرض عن مناقشتهم في الحساب وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ «1» ومتى لم يؤاخذ المسيء بفعله، ويعرف مقدار جهله، استدام طمعه، واستقام طلعه، وحركته دواعي الشره والشرة، وتخيل السلامة في كل مرة؛ فلم نزل نتربص بهم ريب المنون، ونترك منهم ما كان في جنب ما يكون، إلى أن آن إمكان الفرصة، وجمعنا لهم بين الشرقة والغصة، فأنفذنا إليهم المرمى، وأعددنا مسعانا في طاعة الله غنما، إذ كانت مساعي الملوك غرما، ووصلنا السير بالسرى، وطرقناهم كما يطرق الكرى، وأوطأناهم حوافر الخيل، وجئناهم مجيء السيل، وظللنا عليهم ظلل الغم، وغشيهم منا ما غشي فرعون وجنوده من اليم، مع كون مكانهم قد جمع لهم منعة البر والبحر، وحل منهم بين السحر والنحر، تصدّ الرياح الهوج عنه مخافة، ويرجع عنه الطرف حسيرا لبعد المسافة، فلم يكن بأسرع من أن فاجأناه، وحللنا بعرصته وهاجمناه، وأحاطت به رجال الحرب، وشافهته بخطاب الخطب، وعسكرنا بحمد الله قد ملأ الفجاج، واستعذب الأجاج، وقاسمهم الرماح، وأعطاهم الأسنة وأبقى الزجاج، يتعرض أبطاله المنايا وإن كانت عرضا، ويقول كل منهم: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى «2» . فلم يزل القتال ينوبهم وسهام المنون تصيبهم، وسحابها يصوبهم، والمجانيق تذلل سورتهم، وتسكن فورتهم، وترميهم بنجومها، وتصمهم برجومها، وتقذفهم من كل جانب دحورا، وتعيد كلا منهم مذموما مدحورا، وتشير إليهم أصابعها بالتسليم لا بالسلم، وفتنتابهم

ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ «1» إلى أن فتحناها ولله الحمد عنوة، وحللنا مكائدهم فيها عقدة عقدة، ونقضناها عروة، وسطرنا هذه البشرى، وأعلام النصر قد خفقت عليها بنودها، وذلت لها علوج الكفرة وكنودها، والسيف من دمائهم يقطر، والصليب خزيان ينظر، والآذان مكان الناقوس، والقراء موضع القسوس، والكنيسة قد عادت محرابا، والجنة قد فتحت للمجاهدين فكانت أبوابا، وكنا نود أن يكون الولد معنا في هذه المشاهد، وأن ينظرها بعين المشاهد، وإنا لنرجو أن لا يكون ممن يستلين المرقد، وإن لم نحضره هذه الغزوة فيتأهب للأخرى فكأن قد. ومنه قوله من كتاب كتبه إلى صاحب اليمن بفتوح طرابلس: هذه الخدمة بما تسنى من فتوح طرابلس الشام، وانتقالها بعد الكفر إلى الإسلام، وهو فتح طال عهد الإسلام بمثله، وقدح فتّ في عضد الشرك وأهله، لم يجل أمره في خلد ولا فكر، ولا رقت إليه همة عوان من النوائب ولا بكر، مرت عليها الأيام والليالي، وعجز عنها من كان في العصر الخوالي، ولم تزل الملوك تتحاماها، وإذا خطرتها الظنون في بال تخشى أن تحل حماها، ولما أفضى الله إلينا أمر الملك، وأنجى بنا من الهلك، عاهدنا على أن نغزو أعداءه برا وبحرا، ونوسع من كفر به قتلا وأسرا، ونورد المشركين موارد الحرب المفضية بهم إلى الهرب، ونجليهم عن البلاد جلاء طوائف المشركين عن جزيرة العرب، فجئناهم وزلزلنا أقدامهم، وأزلنا إقدامهم، وبرزنا لشقائهم بشقاقهم، وسددنا عليهم أنفاق نفاقهم، وقصدناهم في وقت تجمعت فيه أشتات الشتاء، وطرق خفية المدارج، أبية المعارج، صيفها شتاء، وصباحها مساء، شائبة المفارق بالثلوج،

منهلة المدامع من عيون الجبال على خدود المروج، مزررة الجيوب على أكمام الغيوم التي ما للابسها من فروج، ولم تزل أقران الزحف، في غدران الزعف «1» ، ترميهم بالقوارص، وتأتيهم من البأس بما ترعد منه الفرائص، وتقلب لهم ظهر المجن، وتطرق أفئدتهم من الحرب بكل فن، وتقرب الأسواء من الأسوار، وتمزج لهم الأدواء في الأدوار، إلى أن وهى سلكها، ودنا هلكها، وسفل منها ما علا، ورخص ما غلا، وفتحناها وأنخناها، وخليناها وقد أخليناها، فأمست كالذي يتخبطه الشيطان من المسّ، وأصبحت حصيدا كأن لم تغن بالأمس. وهذه المدينة لها سمعة في البلاد، ومنعة ضربت دون العزم بالأسداد؛ فتحت في صدر الإسلام في ولاية معاوية بن أبي سفيان، وتنقلت في أيدي الملوك، وعظمت في زمن بني عمّار، وبنوا بها دار العلم المشهورة في التواريخ، فلما كان في آخر المئة الخامسة وقدّر ما قدّر من ظهور طوائف الفرنج بالشام، إذ استولوا على البلاد، امتنعت هذه المدينة عليهم مدة، ثم ملكوها في سنة ثلاث وخمسمئة، واستمرت إلى الآن، وكان الملوك في ذلك الوقت ما منهم إلا من هو مشغول بنفسه، مكب على مجالس أنسه، يصطبح في لهوه ويغتبق، ويجري في مضمار لعبه ويستبق، يرى السلامة غنيمة، وإذا عن له وصف الحرب «2» ، لم يسأل إلا عن طريق الهزيمة؛ أموال تنهب، وممالك تذهب، ونفوس قد تجاوزت حد إسرافها، وبلاد تأتيها الأعداء فتنقصها من أطرافها، إلى أن أوجد الله من أوجده لنصرة دينه، وإذلال الشرك وشياطينه، فأحيا فريضة الجهاد بعد موتها، ورد ضالة الملك بعد فوتها؛ ونرجو بقدرة الله أن نجلي ديارهم من ناسهم، ونطهر الأرض من أدناسهم، ونجدد للأمة قوة سلطانها، ونعيد كلمة الإيمان إلى أوطانها؛

21 -[ومنهم] : شهاب الدين، أبو محمد [يوسف] بن كمال الدين أبي العباس أحمد بن عبد العزيز بن العجمي

والله تعالى يثبت في صحائفه أجر السرور بهذه المتجددات، التي يعظم بها أجر الحامد الشاكر، ويجعل له أوفى نصيب من نومن «1» الغزوات، التي أنجد فيها بهممه؛ والإنجاد بالهمم مثل الإنجاد بالعساكر. * ومن شعره يداعب ابن البصري الكاتب، وكان رديء الخط: [البسيط] للمجد خط حكى في القبح صورته ... ناهيك من خطأ باد ومن خطل لم يلقه أحد إلا وينشده ... رميت يا دهر كف المجد بالشلل وقوله: [المجتث] أنبئت أن كتابا ... بعثته مع رسولي ملأته منك طيبا ... فضاع قبل الوصول 21-[ومنهم] : شهاب الدين، أبو محمد [يوسف] بن كمال الدين أبي العباس أحمد بن عبد العزيز بن العجمي «2» ، المتقدم ذكر أبيه. * قائل كلم حسان، وقائد كرم وإحسان، سليل صدور كرام، ورسيل سحب مغدقة وبدور تمام، من بيت في حلب الشهباء رفع على صهواتها، ولزت به

الخضراء وسائر أخواتها، أعاد الصبح العشاء، وكتب الإنشاء، وصرف أوامر الوزارة، وقاسم الوزير حسناته لا أوزاره، وكلامه عذب المساغ، للقلوب به شغل وفراغ، كأنما نشر به حلى أو صاغ، وكان بريئا من ظلمة التعقيد، كأنه الزهر الضاحك في رونق الربيع الجديد. * ومن نثره قوله في توقيع كتبه لقاض اسمه يوسف «1» : لأنه المستوجب بهجرته إلينا تحقيق ما نواه، وإنه يوسف الفضل الذي لما قدم مصر قيل لشيمنا الشريفة: أكرمي مثواه، وأرته أحلامه من الأماني ما جعلناه صدقا، وأنجز الله تعالى له منها ما قال معه: هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا «2» . فليعتصم من طاعة الله بأقوى حبل، ويقف عند مراضيه ليجتبيه ويتم نعمته عليه كما أتمها على أبويه من قبل، وليتمسك من أسباب التقوى بما يكون له جنة، ويحرص على أن يكون الرجل الذي عرف الحق فقضى به، وكان المخصوص من القضاة الثلاثة بالجنة، ويجعل داء الهوى عنه محسوما، ولحظه ولفظه بين الخصوم مقسوما، ولا يأل ما يجب من الاجتهاد إذا اشتبه عليه الأمر، أن يعلم أنه إن اجتهد وأخطأ فله أجر، وإن أصاب فله أجران، وصوب الصواب واضح لمن استشف بنور الله برهانه، وليتوكل على الله في قصده، ويثق، فإن الله سيهدي قلبه ويثبت لسانه، وليجعل الاعتصام بحبل الله تعالى في كل ما تراود عليه النفوس من دواعي الهوى معاذا، ويتبصر من برهان ربه ما يتلو عليه عند كل داعية: يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا «3» .

ومنه قوله: وينهي أنه وردت عليه مشرفة شريفة، وتحفة ثمنها على الأعناق ثقيلة، وبمواقعها من القلوب خفيفة، فقبلها المملوك ولثمها، ونثر عليها درر قبله ونظمها، ونقل معناها إلى قلبه فشف، ونقد ذهبها الخالص وأعاذه من الصرف، وانتهى إلي ما تضمنه من صدقات مولى ملك رقه، وأتاه من الفضل فوق ما استحقه، وأنزل له الكواكب فتناولها بلا مشقة، وآوى إلى حمى حرمه، وتغطى عن عين الخطب بستور نعمه، ورأى فيه الأزاهر وشم شذاها، والجواهر وضم إلى العقود حلاها، وشكر هذه المنن ومن والاها، وسبح لمن وهب من يحبه هذه البدائع وأتاها، وعمل بما أمره به مولاه في أمر تلك الورقة، وسدد سهمها إلى الغرض وفوقه، وتحجب لها فأخلى الطريق وطرقه، وعرضها في مجلس الوزارة الشريفة ونشر إستبرقه، وبرز المرسوم بالكشف، ويرجو أن يتكمل بالتوقيع، ويكمل بالتأصيل والتفريع، ثم يجهزه المملوك إلى خدمته الكريمة كما أمر، وما أخر الجواب هذه المدة إلا ليجهزه معه، فتعذر وما قدر. ومنه قوله: أول من عاودته عوائد فضلنا بمحابها، وتلقته صدور عوارفنا برحابها، ونقلت مكارمنا أطماعه من لامع سرابها إلى نافع شرابها، من هاجر ولاءه إلى حرم دولتنا القاهرة، وكان من أنصارها، وبادر في هيجاء أعدائها، فأغرقهم وأحرقهم بتيارها وبنارها، وتشوقت المسامع إلى ما تشتهيه، فكان ذكره الجميل من أعظم أسباب مسارها؛ والفارع ذروة هذه الصفات، القارع مروة هذه الصفاة، المجلس الفلاني، لأنه جامع محاسنها بمفرده، والحامي لسرحها ببطش يده، ورامي غرضها بصفاة مقصده؛ حمى الأطراف وحاطها، ورفع بهمة فعلق بالثريا مناطها،

22 - ومنهم: أحمد بن أبي الفتح محمود الشيباني كمال الدين، أبو العباس

وكان واحد أولياء الدولة بأسا لا يكل شباه، وعزما لا يوفر كاهل الريح يقتاد جنائبه ويركب صباه، وفضلا جاملا جامعا فاق فيه كل شبيه إلا أباه. ومنه قوله: ولا زال بابه الكريم للآمال ملاذا، وجنابه المحروس من حوادث الأيام معاذا، وثوابه وعقابه لوليه وعدوه هذا لهذا، وهذا لهذا، وينهي أن مولانا- ولله الحمد- قد جبله الله على فعل الخير وجعله من أهله، وحبب إليه الإحسان ومكن من فعله، خصوصا من ينتمي إلى خدمته الشريفة ويلجأ إلى ظله، ومملوكه فلان ممن يعد نفسه من الأرقاء، ويرتمي إلى موالاته التي هي درجات السعادة والارتقاء، وما تهجم المملوك بهذه الخدمة إلا لما كان عند نفسه المثابة، ولا ثقل على خاطره الشريف إلا لوقوع ذلك من مكارم مولانا بموقع الإصابة، وقد جعل المملوك السؤال مفتتح عبوديته لمولانا وموالاته، بحسنة قد أهداها إلى صحائف حسناته. 22- ومنهم: أحمد بن أبي الفتح محمود الشيباني كمال الدين، أبو العباس «1»

* بحر يقذف الدر، وأفق يطلع النجوم الغرّ، وكان للدنيا جمالا، وللدين كمالا، جعل للبيان سحرا، وللطيب شحرا، وقدمته الدولة على الرؤساء، وعظمته على الخلطاء والجلساء، وكانت الملوك تنزله منزلة لسانها ويمينها، وتحله محلة ترجمانها وأمينها، وظلت تصرف به البأس والندى، ويتصرف في الأولياء والعدى آونة تحسب نسيبه سؤالا، ويجود بسيبه نوالا، وآونة تحز بقصبه الغلاصم، ويجر بكتبه لجذّ الأيدي والمعاصم، وطالما فتحت به المعاقل الأشبة، وساقت سرجها السوام في رياض النجوم المعشبة، ثم قفلت الممالك بأقاليده، وقفلت المسالك بتقاليده واصطفته الرئاسة لقربها، وأصفت له السياسة موارد شربها، وكتب كتب السر أكثر عمره، وصرف ديوان الإنشاء مدة بأمره وكان بدمشق عينا لأعيانها، وزينا وحلية لبيانها، راقيا للإيوان، رائسا للديوان، وكان عمّي ثم أبي لا يعتمد كل منهما إلا على أمانته، ولا يرنح فكره إلا بإيضاحه وإبانته، وخطه أبهج من الروض الأريض، وأزين من النقش المخضر على معاصم الغواني البيض، وله من كثرة الاطلاع ما حقق له المآرب، وصدق أنه الشمس ضوؤها يغشى المشارق والمغارب، ولم يكن أكثر منه اتّضاعا في ارتفاع، وتنازلا وهو في اليفاع، لا يجد في نفسه حرجا لأحد، ولا مضضا ممن أنكر حقه وجحد، لا يضره أي مكان حله، ولا يضره لبس عباءة أم حلة، وكان يتعرف إلى الله عساه ولعله، ويتعرض لقضاء حوائج الناس لله لا لعلة، هذا بلا تكلف يشق عليه في عرضه مطلوب، أو يشق به لعرضه أردية أو جيوب، مع ملازمته تلاوة يؤنس بها جانب الجامع المعمور، ومرآة يشرق بها وجه النهار ويعمر قلب الديجور، وعمل زاك صحب به الأحياء، وجاور سكان القبور. ومن نثره قوله:

طالما حل الرتب العالية بجليل مقداره، وحلى المناصب العالية بجلي أنواره، وما شب على معاطف مناقبه ذوائب فخاره، وهامت الأفكار في أودية محامده وما بلغت وصف محله ومقداره، وافتخر قلم الفتيا براحته، فتباعد السيف عن قربه خوفا من مهابته، وسدد إلى الحق سهام أحكامه، فأصابت الأغراض وعالج الأفهام بإفهام كلامه، فشفى صحيحه الأمراض، وكان فلان ثمرة هذه الدوحة النضرة، ونشر هذه الروضة الخضرة، فرسم بالأمر العالي أن يفوض إليه تدريس المدرسة الأمينية بدمشق، فليكتب بها دروس فضله التي لا تدرس الأيام آثارها، ويغرس في قلوب طلبتها حب فوائده ليجتني ساعة غرسها ثمرها، لتصبح هذه المدرسة كنيفا ملئ علما، وقليبا حشي فهما، وفلكا تبدي شمسا وتخفي نجما، وكنانة تخرج من طلبتها في كل حين سهما. قلت: هذا من توقيع كتبه في الأيام الكاملية حين خرج سنقر الأشقر على الملك المنصور لقاضي القضاة شمس الدين بن خلكان، وقد أخذت الأمينية «1» له من نجم الدين بن سني الدولة. «2» عدنا إلى ابن العطار: ومن إنشائه رسالته التي سماها «رصف الفريد في وصف البريد» : أما بعد حمد الله البر، المسير في البحر والبر، والصلاة على من علا البراق،

واخترق السبع الطباق، وعلى آله وصحبه الذين سبقونا بالإيمان، وعلى التابعين لهم بإحسان: فإنه لما كانت النفوس مولعة بحب العاجل، متطلعة إلى الاطلاع على المستقبل من الأمور والآجل، لم تزل أنفس الخلفاء والملوك وأنفس الأكابر من الأمراء والعظماء به كلفة صبّة، وإلى استعلام أحوال ممالكها وعساكرها ورعاياها منصبة، وعلم مثل ذلك من خلق الأنبياء والمرسلين صلوات الله عليهم أجمعين، فبردهم في الآفاق ضاربة، وطلائعهم تارة بالمشارق طالعة وآونة في المغارب غاربة، كرة في أبحار السراب تعوم، وأخرى بالآفاق كأنها نجوم: [الطويل] تروح فتغدو في الصباح طريدة ... وتغدو فتبدو في الظلام خيالا تستطلع لهم خبرا، وتطوي وتنشر بساط الأرض وردا وصدرا، وتعوض أسماعهم بما تنقله إليهم أثرا، عما فات أعينهم مشاهدة ونظرا: [الكامل] فلهم وإن غدت البلاد بعيدة ... طرف بأطراف البلاد موكل «1» من كل فتى قد هجر الكرى، وأشبه البدر فلا يمل من طول السرى: [البسيط] وخلّف الريح حسرى وهي جاهدة ... ومرّ يختطف الأبصار والنظرا قد أعدّ للسفر في ليله ونهاره من الخيل كل أشقر صباح، وأشهب مساء، وأصفر أصيل، وأدهم ليل: [مخلع البسيط] وألجم الصبح بالثريا ... وأسرج البرق بالهلال وسابق الضلال فهي تزور عنه ذات اليمين وذات الشمال، فلا تزال من ورائه

مشرقا قبل الزوال، ومغربا بعد الزوال، موكل بفضاء الأرض يذرعه «5» متوقع أن كل بلد يقطعه: [الكامل] وكأنما اتخذ البروق أعنة ... وكأنما اتخذ الرياح جناحا فمما أنبأ الكتاب العزيز من تطلع المرسلين والأنبياء، إلى سرعة الاطلاع من الأمور والأنباء، ما ورد في قصة سليمان عليه السلام من طلبه سرعة إتيان عرش بلقيس، ووصوله قبل ارتداد طرفه إليه، وقد نقل عن نوح عليه السلام استبطاؤه الغراب وإردافه له بالحمام «1» ؛ هذا وقد ضرب المثل ببكور الغراب «2» ، وخروجه في الظلام؛ ولولا اعتقاد موسى الكليم عليه السلام أنه للباري جل جلاله أرضى، لما قال: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى «3» وفي سيره، بأهله ومسراه، ناداه ربه بالوادي المقدس: إني أنا الله؛ وما انعقد على رهن السباق والإجماع، إلا لما فيه من فضيلة الإسراع؛ ولم يكن الشيطان الرجيم بمطرود، لو جرى على سجيته في العجلة، وبادر في السجود، ولا سيما وقد خلق الإنسان من عجل؛ وما يعلو المدرك المسرع من أنوار الجذل، وما يغشى المبطئ من فتور الخجل، ومن كمال فضيلتي الحج والعمرة، ما هو واجب أو مستحبّ من الرمل وشتان ما بين المبطئة والسريعة، ويا بعد ما بين الساقة والطليعة: «4» [البسيط]

وربما فات قوما جل أمرهم ... من التأني وكان الحزم لو عجلوا وكثيرا ما قيل في القوم: وعداك ذمّ، وتخطاك لوم، وتحرك تعش، وسر في البلاد تنتعش؛ وقال سبحانه وتعالى لخلقه: فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ «1» هذا وأشرف الدراري الكواكب السواري، وما الجواري في البحر كالسواري، وهل أجن إلا الماء الواقف؟ وهل طاب إلا الماء الجاري؟: [الوافر] وإن لزوم عقر البيت موت ... وإن السيرفي الأرض النشور والقعود مع العيال قبيح، ومن يمن النجاح سرعة التسريح: [مخلع البسيط] والمهد أسكن للصبي ... بحيث جاء به ومرّا وبفضيلة السير في البلاد والانتقال، بلغ البدر درجة الكمال، وأمنت الشمس المنيرة من الملال: [الكامل] والصقر ليس بصائد في وكنه ... والسيف ليس بضارب في جفنه ولولا ضرب إخوة يوسف في الأرض، لما نجا أبوهم من حزنه، وقد جعل الله رحلتي الشتاء والصيف للإيلاف، وركني الحج والعمرة للسعي والطواف، وفي استخلاف من لا يستطيع التحيّز للضرورة خلاف: [البسيط] والمرء ما لم يفد نفعا إقامته ... غيم حمى الشمس لم يمطر ولم يسر وسعة الخطوة دليل الإقبال، وسبيل إلى بلوغ الآمال، ولا ريب أن العز في النقل «2» ، وفي بلاد من أختها بدل «3» : [البسيط]

لو كان في شرف المثوى بلوغ منى ... لم تبرح الشمس يوما دارة الحمل والحركة ولود، والسكون عاقر، وقد ورد أن الله رحيم بالمسافر، وأنه للخضر عليه السلام خليفة «1» ، وناهيك شرفا بهذه الرتبة المنيفة، ولا إنافة على رتبة الخلافة؛ والسيف إن قرّ في الغمد صدي، والليث لولا الوثوب ردي، ولو يستوي بالقيام القعود لما ذكر الله فضل الجهاد، ولولا انتقال الدّرر عن البحور، لما عوضت من الحور بالنحور، وكثيرا ما ورد في الكتاب العزيز النهي عن التباطؤ، والحث على الإسراع: [الوافر] وليست فرحة الإيّاب إلا ... لموقوف على ترح الوداع [من الخفيف] إن فيه اعتناقة لوداع ... وانتظار اعتناقة لقدوم وهذا وكم بين رتبة الاتباع ورتبة الاختراع والابتداع، وبين جمود الروية وتوقد الابتداء وكلالة الرقاد وحدة الانتباه، وشتان ما بين عقلة المشيب ونشطة الشباب، وحسبك بأنك تَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ «2» ، وقد علمت فائدة الإسراع بمن لا علم عنده ومن عنده علم الكتاب، وبحركة النبض يستدل على حال القلب، ولولا إدامة الترويح عليه لغم من الكرب، ولا يقاس موقف المأموم بمقام الإمام، وإذا كانت الشجاعة في الإقدام، كذلك السلامة في الانهزام، وقد جعل الله سبحانه وتعالى الأفلاك دائمة الحركات، وأرسل الرياح مبشرات، وللسحائب مسيرات، وبأرزاق العباد جاريات، وأقسم سبحانه وتعالى بالعاديات وبالمرسلات، وللإسراع سخر لمحب

الخير عليه السلام الريح والطير، هذه غدوها شهر ورواحها شهر، وهذه تستطلع له أنباء الملوك فتستنزلهم على حكم الذل والقهر، ولذلك درجت الملوك الحمام ورتبت البريد، فبلغت بهما في الوقت القريب ما تريد من غاية المرام البعيد، وقربت لهم مستبعدات المطالب، وأطلعتهم بسرعة الإعلام على نهايات العواقب، فبلغت هذه بسرعة إيصال البطائق، ما لم يكن أحد من البشر بطائق، وارتفعت محلقة في الهواء، وحلقت مسخرة في جو السماء، وما خفقت بأجنحتها إلا وقد وافت بالبشرى مخلقة وما أخفقت، وما خضبت كفها وتطوقت إلا للسرور وصفقت، وما حفظت العهود من الأسرار، وما ردها الحنين إلى الأوكار، وما قطعت مسافة في ساعة من نهار، وما وما وما، ولا عرجت طائرة نحو السماء إلا وقد ذكرت عهودا بالحمى، إلا أن بطائقها ربما نقلت من جناح إلى جناح، وحصل بنقلها أعظم خطر وأوفر جناح، وكشف خدرها، وأذيع سرها، فغدت مذاعة السرائر، وكانت محجوبة عن مقلة كل طائر، وذاك حافظ لما استودع من الأمانة المؤداة، أمين على ما حمل من النفقات والمشافهات، إلى الأجانب وأهل المودات، حريص على إيصال كتبها، صائن لها في حربها، صيانة الصوارم في قربها، والعيون بهدبها، يوصلها بطيها مختومة بخاتم ربّها، فهو السهم الخارج عن كبد القوس، لا يزيغ عن الغرض، وتلك ربما جرحها الجوارح، وعرض لها بالبنادق من اعترض؛ وصدها عن بلوغ المرام، غموم الغمام، وعموم الظلام، وقطع «1» طريقها، وحتم تعويقها، وقضى وحكم عليها بالتأخير، لأنها فيهما لا تطير، وذاك في الليل والنهار، والصحو والغيم يسري ويسير، ولذلك لا تسرح الحمام في المهام، إلا ويرسل تحتها البريد، مؤرخ بتاريخها فهو لها وعليها سائق وشهيد، وهي وإن شهد لها المترنم المنتدم، بالفضل والتقدم، والفضل

للمتقدم، فربما تقدمها البريد وسبق، وكثيرا ما توافيا فكأنما كانا على ميعاد فجاءا معا، في طلق كفرسي رهان، وشريكي عنان، وافتن فيه الناظرون وهو يحضر، فإصبع يومئ إليه بها وعين تنظر، هذا وكم شابت لقعقعة لجامه النواصي، وزينت لمقدمه البلاد والصياصي، وسرى وجفن البرق خوفا وطمعا يغامز ويختلج، فلذلك تارة ترد بما النفوس به تبتهج، وتارة بما الصدور به تنحرج، وتشاهد بما ينزل من السماء وما في الأرض يلج، وسرى وعيون القطر دامعة، وسيوف البرق لامعة، وسيول العيون للطرف قاطعة، ونبال الوبل في أكباد الأرض صادعة، ووافى المنازل والخيول بها طالعة، وبعد أن أصبحت طائرة أمست تحته واقعة، وكم حال دون «1» مرامه من أوجال أو حال، وعلق لثق ووهق زلق، يمنعه في سوقه من استرسال، بأوثق شبحة وشكال، وعام في أملاق إلى الذقن لا إلى الوسط، وتقطر فوافى ويده مغلولة إلى عنقه وكانت مبسوطة كل البسط، أو بات بعد أن كان راكبا نازلا، وبعد أن كان محمولا لسرجه وجرابه على كتفه حاملا، وسرى وطرفه بالسماء موكل، ونزل بمنزل ليس له بمنزل، وليس به ما يشرب ولا به ما يؤكل: [الرجز] بمهمه فيه السراب يلمح ... وليله بجوه مطرّح يدأب فيه القوم حتى يطلحوا ... ثم يظلون كما لم يبرحوا كأنما أمسوا بحيث أصبحوا [الكامل] يمشي زميلا للظلام وتارة ... ردفا على كفل الصباح الأشهب ويعدو كالحبال يمشي إلى ورا، ويغدو فلا يسأل عن السّليك ولا عن

الشنفرى، أو جاءت به عنس من الشام تلق، بعد أن كان يطوي الأرض بسوقه ويخترق، وقد فلى الفلا، وقيل له: هكذا هكذا وإلا فلا «1» : [البسيط] يوما بحزوى ويوما بالعيق ويو ... ما بالعذيب ويوما قصر تيماء وتارة ينتحي نجدا وآونة ... شعب الغوير وأخرى بالخليصاء فكم قطع أرضا وركب ظهرا ووجد رفقا، ولم يكن كالمنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى، وقلما جهز إلا في مصلحة من مصالح المسلمين العامة، الشاملة للأمة المحمدية من الخاصة والعامة؛ ما آب من سفر إلا إلى سفر وما سفر في مهم إلى بلد فقيل: إنه سفر ولكنه ظفر: [الطويل] كأنّ به ضغنا على كلّ جانب ... من الأرض أو شوقا إلى كل جانب ورد مبشرا وللمسار في الوجود مسيرا، فأزال العناء، وأنال المنى، وأفاد الغنى، وانثالت عليه الجوائز والتشاريف من ههنا ومن ههنا: [البسيط] ما درت الشمس إلا جاء يقدمها ... وفي المغارب منه قبلها أثر وكاد لشدة إحضاره، يسبق أذني جواده في مضماره، فتراه لسرعة سيره، لا يرتد طرفه عن أمد حتى يتعداه إلى غيره، فهو أبدا يسبق طرفه إلى ما يرمق، وما يستولي طرفه على أمد إلا ويتجاوزه ويسبق، فيكاد يأخذ مغربا من مشرق، فيبلغ غاية الأقطار، ويخترق من الآفاق حجب الأستار، حتى يقال: إنه ما سار ولكنه طار، وفي الأرض طار: [السريع] قال له البرق وقالت له الر ... يح جميعا وهما ما هما أأنت تجري معنا؟ قال: إن ... نشطت أضحكتكما منكما

أنا ارتداد الطرف قد فتّه ... إلى المدى سبقا فمن أنتما ولم يزل البريد مرتبا فيما تقدم وسلف من الأيام؛ ومعاوية أول من أحدثه في الإسلام، وأحكم أمره الذي حكم البلاد شرقا وغربا، ونظر إلى السحابة فقال: أمطري أنى شئت، فخراجك إليّ يجيء «1» ؛ وعلم أنه من أعظم مهمات الملك العظام، فقال: ربما فسد بحبسه ساعة تدبير عام: [الطويل] فدانت له الدنيا فأصبح جالسا ... وأيامه فيما يريد قيام لا سيما في هذا العصر، وعدو الدين قد أمر أمره، واستشرى شره، وامتدت أطماعه في البلاد، وسرى فيها منه الفساد، مسرى السم في الأجساد، وهو أولى الأمور التي لا يستأذن عليه، وقد وافى مسرعا، والذي يقال له: لعا، إذا قيل لسواه لا لعا: [البسيط] وجاء منه بقرطاس يخب به ... فأوحش القلب من قرطاسه فزعا وقد أقام الله بهم للإسلام، بالديار المصرية والشام، كل شهم أمضى من سهم، وأبعد غاية من نجم: [الوافر] إذا جارته شهب الأفق قالت: ... أعان الله أبعدنا مرادا محمود الطرائق، مقبول الخلائق عند الخلائق، خفيف الحركات، مسارع إلى الحركات، قصيف يرجح به ظله، خفيف على ظهر المطية حمله، وإذا كان الناس أرواحا وأجساما، فهو روح كله، عارف بالآداب، والسلوك، للمثول بين يدي الأمراء والسلاطين والملوك، عذب العبارة، خفي الإشارة، منجح السفارة، كتوم الأسرار، موفق الإيراد والإصدار، صادق اللهجة، ثابت العدالة، مليّ بأداء

السلام وإبلاغ الرسالة، ليست معرفته على آداب السفر مقصورة، جامع بين أدب النفس وأدب الدرس، حسن الاسم، وضي الرسم «1» ، سوي الوسم، سريع إلى الداعي، مبادر إلى امتثال الأوامر والدواعي، ما يفوه بالجواب إلا ورجله في الركاب، فهم، متى رسم لهم بالسفر يسارعون، وإلى الإجابة يهرعون، وعلى الخدمة أنفسهم يعرضون كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ «2» وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ «3» [البسيط] لا يستقر بهم ربع ولا سكن ... كأنهم فوق متن الريح نزّال ما ندب منهم ندب لهم إلا وبادر مطيعا، وما غاب إلا ثاب سريعا، فما ماثله في السير ذكوان، ولا ضاهاه حذيفة بن بدر وقد ساق هجان النعمان «4» : [الكامل] ألف النوى حتى كأن رحيله ... للبين رحلته إلى الأوطان والله سبحانه وتعالى يطوي البعيد لمن يشاء من خلقه، ويسهل العسير، وهو حسبنا ونعم الوكيل، نعم المولى ونعم النصير. إلا أن حضور النيات التي بها انعقاد الأمور الدينيات، لا يحصل إلا بالثبات والأناة، والطمأنينة في الركوع والسجود كمال الفرض فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ «5» وكما ورد في التنزيل النهي عن

التباطي، ورد النهي عن التسرع وسببه، فقال عز من قائل: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ «1» ونهى عن العجلة تارة في الخير وتارة في الشر، قولا جزما، فقال سبحانه وتعالى: فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا «2» وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً «3» ، ولا ريب أن الثبات من الله تعالى، والعجلة من الشيطان الرجيم، وأن الله عز وجل امتنّ بالتثبت على النبي الكريم، فقال سبحانه وتعالى: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا «4» : وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا «5» كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا «6» وإن ورد عن سليمان عليه السلام طلب الإسراع في الكتاب المبين، فكذلك ورد عنه التثبت في قوله تعالى: سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ «7» وبماذا يصف الواصف، أو ينعت الناعت، فرق ما بين العجلة والتأني؟ وبين البروج المتقلبة والبروج الثوابت؟ وبالتأني يحصل التأتي، ويكون المرء من أمره على بصيرة، ويشاهد في مرأى مرآة فكره صورة الخيرة، ويأمن من تردد الحيرة، وقد قيل: أصاب متأن أو كاد، وأخطأ مستعجل أو كاد، وحصل على أنكاد وأي أنكاد، ولولا التأني قبل إرسال السهم لم تحصل به النكاية، ولولا التثبت قبل إطلاقه ما وصل إلى الغرض ولا بلغ الغاية، فالعجلة والندامة فرسا رهان وشريكا عنان، وإن حمد المجلي يوم الرهان؛ وما

زالت ثمرة العجلة الندامة، وربما كانت الهلكة في العجلة، وفي التؤدة السلامة، وفي الثبات والأناة ما لا يحصر من أمر العواقب في سائر الحالات؛ وأسرع السحب في الجهام، وما الإقدام في كل أمر من الشجاعة، ولا الثبات من الإحجام: [البسيط] والحرب ترهب لكن الأناة لها ... عند التأيّد أضعاف من الرهب لا يا من الدهر بأس الجمر لامسه ... وقد يروح سليما لامس اللهب والتسرع خرق، والأناة حلم ووقار، والتثبت دليل القدرة من الله عز وجل مثبت القلوب والأبصار، وفرق سبحانه وتعالى بين الشجرة الثابتة والشجرة التي ما لها من قرار. وما كان الثبات في شيء إلا زانه، ولا التسرع في أمر إلا شانه؛ ومع العجل الزلل، ومع الزلل الخجل، ومع الخجل الوجل، ومع الوجل الخلل الجلل. وللثبات وثبات وأي وثبات، وقليلا ما حصل النصر والظفر إلا بالكمين والبيات؛ وقد حكم الصادر والوارد، والمداني والشارد، وأقر المعترف والجاحد، واعترف الصديق والعدو والحاسد، وسار في الأقطار والآفاق، وبلغ من بمصر والشام والروم والعراق «1» : [الطويل] وسار به من لا يسير مشمرا ... وغنى به من لا يغني مغردا ما حصل للإسلام والمسلمين من الانتفاع، ولعدو الدنيا والدين من الوهن والضعف والاندفاع، بثبات المقر العالي الجمالي، كافل الممالك الشريفة الشامية، أعز الله أنصاره، ومقامه على المرج، مع قوة الهرج وكثرة المرج، وأنه قام بذلك للدين نصيرا، وللملك ظهيرا، وأخذ هو ومن أقام بخدمته من العساكر

الشامية بقوله سبحانه وتعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً «1» : [الوافر] سديد الرأي لا فوت التأني ... يلم به ولا زلل العجول يعيب مضاءه وقفات حلم ... كعيب المشرفية بالفلول وقد كان العدو المخذول يظن أنه يركن إلى الإحجام، ويتربص الدوائر والعرصات من سهام الأيام، فأخلف الله ظنه، وعجل هلاكه، وضعفه ووهنه، وتحقق أنه الطود الذي لا يلتقى، والسور الذي أحاط بالشام فما إن يتسوّر ولا يرتقى، فأجفل إجفال الظليم، وطلب النجاة لنفسه ولم يلو على مال ولا حريم، وحفظ الله تعالى بثباته الإسلام، ورفه خواطر أهل الديار المصرية، وصان أهل الشام، وعادت العساكر المصرية إلى بلادها، عود الصوارم إلى أغمادها، والأجفان إلى رقادها، والجنوب إلى مهادها، وافتدى بالسلطان الشهيد قدس الله روحه كما مضى وسبق، وجاءت النصرة بحمد الله تعالى كما أراد لا كما اتفق، وأصبح وأمسى يثني عليه عدوه، فيقول حاسده: صدق؛ وبدل الله المسلمين بالأمن بعد الأوجال وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ «2» . وكان من خبر كذا وكذا. قلت: ولشهاب الدين محمود في معنى ذلك: أما بعد حمد الله، ميسر أسباب النجاح، وجاعل قوائم العاديات في مصالح الإسلام كقوادم ذات الجناح، فهذه تطوى لها الأرض كما تطوى لذي الصلاح، وتلك يتسع لها مجال الفضاء كما يتسع لمرسلات الرياح، وربما تساويا في سرعة

القدوم، وامتازت الخيل في سرى الليل بمشابهة الفلك ومشاركة النجوم، إلا أن الخيل يعينها قوة راكبها وثباته، ويغريها بالسبق حدة عزم راكضها وثباته، ويطوي لها شقة الأرض حسن صبره على مواصلة السرى، ويقرب لها النازح طول هجره لطيف الكرى، حتى إن بعض راكبي بريدها يكاد يعثر طوق ليله بذيل صاحبه، ويلتبس على ناظره ومنتظره غدوه في المهمات برواحه، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي كان الرعب يتقدمه مسيرة شهر إلى العدى، والوحي يأتيه من السماء بخبر من راح لحربه أو اغتدى. فإنه لما كان البريد جناح الممالك، ورائد المهمات الإسلامية فيما قرب أو نأى من المسالك، وبه تنفذ المهمات في أوقاتها، وتتوافق الحركات فيما يتعين من ميقاتها، وتعرف أحوال الثغور على اتساع أطرافها واختلاف جهاتها، كان المبرز في ذلك من عرف منه السبق وألف، وسلم له التقدم في السرعة من نظرائه فما ارتيب في ترجحه ولا اختلف، فكأنه شهاب يتوقد في سمائه، أو برق تألق في أذيال الغمام بسرعة وميضه وانطوائه. ولما كان فلان ممن جلى في هذه الحلبة، وبرز في ارتقاء هذه الرتبة، فبلغ إليها غاية لا يشق غبارها المثار، ونشر منها راية لا يتعلق منها الريح الخوافق بسوى مشاهدة الآثار، فسار على البريد في قوة الهواجر المثبطة وشدتها، وقصر الليالي المعينة على السوق وتقارب مدتها، من دمشق المحروسة إلى الديار المصرية في يومين ونصف، فكان له بذلك مزية على أقرانه، ودرجة لا يرتقي إليها إلا من جاراه إلى مثلها في ميدانه؛ وسأل من علم ذلك أن يكتب له خطه بما علمه، وأن يشهد له بما تحققه من هذه الحركة التي رفعت بين الأكفاء علمه.

عدنا إلى ابن العطار: ومنه رسالته في البندق أولها: أما بعد حمد الله على ما أسبغ من نعمائه، ووالى من آلائه، وأباح الإنسان من شرائه، وفسح له فيما يتدرب به ليوم هيجائه، ويعده من قوة لدفع الصائل عليه من أعدائه، وصلى الله على سيدنا محمد خاتم أنبيائه وعلى آله وصحبه وخلفائه وحلفائه، ما مدّ الكف الخضيب وتر البرق لقوس الغمام، وحلق طائر الفجر نحو الغرب من وكر الظلام، فإن الصيد مما اتفقت الشرائع المختلفة على تحليله، ولهجت النفوس الأبية، بتقديمه على سائر الملاذ الرياضية، وتفضيله مع أنه الراحة التي لا تنال إلا بتجشم التعب، والمسرة التي لا تدرك إلا بعد النصب واللغب، وألذه من القلوب موقعا، وأمكنه من النفوس موضعا، ما أدركه المرء بنفسه واكتسابه، لا بمشاركة بزاته وفهوده وكلابه؛ ولذلك أجهد نفوسهم فيه كثير من الملوك والخلفاء، ولم يرضوا بالصيد من وجه الأرض، فعمدوا إلى الصيد من كبد السماء، ولم يجدوا ذلك إلا في صرع الطائر الجليل، الذي لا يشترك فيه صغير مع كبير، ولا حقير مع جليل، ولو لم يكن فيه مع حصول المراد، إلا السلامة من التقطر عن الجياد، لكان أولاها بالاختيار، وأحقها عند الاختبار، وأنفوا من بقايا كسائر، كأشلاء الذئاب، وفضلات ما أكلته الفهود، وولعت به الصقور، وولغت فيه الكلاب، فعمد كل منهم إلى الانفراد في رمائه، وصرع كل طائر يتخبط في ذمائه، مخلّق بدمائه، مراصد بارتقائه لعيون الأوتار في التفافه وتحليقه، حذر في حالتي اجتماعه وتفريقه، وتغريبه وتشريقه، وإذا فكر اللبيب فيما أودعه الباري جلّ جلاله من القوى فيها، ظهر له أسرار ما أخفاه من بدائع صنعه بين قوادمها وخوافيها.

فمنها التّم «1» ، الذي هو أتمها صورة، وأعظمها سورة، قد علا على الغيوم لرمي بنادق النجوم، وخاض بحر الظلام، وعبّ فيه، وأخذ منه قطعة بساقيه وقطعة بفيه، حتى ورد على جبال من برد، فاكتسب منها رياشه، واكتسب من بياضها أرياشه. ثم الكيّ «2» ، الذي هو في طيرانه، واعتنانه في مضماره واستنانه، كالفارس في ميدانه، كأنه النجم في حالة الرجم، لو عارضه السماك لاقتلعه، أو الحوت لابتلعه. ثم الإوز «3» ، الذي يمشي متبخترا، وينقر متحذرا، كأنما يدوس على مثل حد السيف ويمتاز على أبناء جنسه برحلة الشتاء والصيف، يبيت على فرد رجل واحدة، ويرمق موهما أن عينه راقدة، وليست براقدة. ثم اللغلغ «4» ، الذي يوافي من بلاد الخزر، ولا يتقي من البندق سهام القدر، ولا يخشى أن تصيبه عين من الوتر، لا يحارب إلا بسحر الجفون من خزر العيون، ولا يستجن إلا من تدبيج الصدر بزرد موصون. ثم الأنيسة «5» ، تتهادى تهادي الطاووس، وتختال اختيال العروس، حتى تلتقط حبات القلوب، وتصيد سوافر النفوس؛ كم قطعوا في طلبها من أنهار نهار، وسمحوا بإنفاق أكياس النجوم من خزائن الليل وما فيها من درهم ودينار، فما فازوا بوصالها، ولا ظفروا إلا من على وجه الماء بطيف خيالها.

ثم الحبرج «1» ، الذي تهادى في مشيته غير مروع، وكأنما على كتفيه بقايا من صدأ الدروع، لم يتدرع بمقاصة الأنهار، ولا أوى إلى ظل الأشجار، بل برز كأنه مناجز، يشير ألا هل من مبارز. ثم النّسر «2» ، الذي علا عليها شأنا، وغدا لها سلطانا، وسار فيها بالعفاف عن دمائها أجمل السير، وتحصن من قنة الجبل بقبة السماء، فأصبح صاحب القبة والطير، حتى لقد ضج الأبد من عمر لبد، «3» لما طالت صحبته له على رغمه واستعان به النمروذ في الصعود إلى السماء على زعمه، فما ظنك بفتية تقصد صرع من هذه قواه، ومن جملة أنجم السماء أخواه، لو صارعه عقاب الجو لصرعه، أو عارضه أحد النسرين لما قدر أن يطير معه. ثم العقاب «4» ، التي اشتهر منها الشهامة والضراوة، حتى اشتهر ما بينها وبين الحية من العداوة، فإنها توسد فرخها لحوم الأرانب، وما عنقاء مغرب عندها إلا كبعض الجنادب، وطالما حلق وراء كل جيش عصائب منها تهتدي بعصائب «5» ، من كل لقوة ذي دكنة وقوة، تخال الغواني ضمختها بالغوالي، أو درعتها الغوادي مدرعة الليالي «6» : [الطويل]

كأن قلوب الطير رطبا ويابسا ... لدى وكرها العناب والحشف البالي وأما التي تجهل بأسباقها، ولا تجهل بأعناقها، فنقول: ثم الكركي «1» ، الذي فاق العقاب في قوة طيرانه والنسر، وأم مصر من الدربندات «2» ، ولم يبعد على عاشق مصر، نجعت من أقصى البلاد وآفاقها، خوارج في طلب أقواتها وأرزاقها. ثم الغرانيق «3» ، التي لا تبرز إلا محمرة الحدق، لقوة الغيظ وشدة الحنق، حذرة من قوس الرامي وبندقه، مدرع كل طائر منها محبوك الزرد من مغرزه إلى مفرقه. ثم الضّوع «4» الذي زاد على الطيور طولا وعرضا، وأعد للدفاع من مغرزه ما هو أنكى من السيف والسنان وأمضى، وطالما رام الرامي إلحاقه بإرسال البنادق وراءه، فأتعب جياد القسي وأنضى، كأنه قطعة من الغيم تصرفها الرياح، أو بقية الغلس من الليل على وجه الصباح، وكأنما ورد مرة نهر المجرة، ورعى نرجس نجومه كرة، وخاف أن يكون له إليها كرة. ثم المرزم «5» ، الذي يبارز بجوشن مورد وجؤجؤ مزرد، كأنه صرح ممرد، كأنما خرج من الهيجاء في طلب النجاء، وبه رشاش من الدماء، فتبصر فإذا الطير مسخرات في جو السماء.

ثم السّبيطر «1» ، الذي يبارز مبارزة الشجاع، ويلتقم الأفعوان والشجاع، قد تبدأ الرماة بصدره وبنحره، وليس جوشنه من جناحيه إلا قدامه ووراء ظهره. ثم العناد «2» ، الذي اشتد بأسا، واختار شعار الخلفاء لباسا، وما سمح بإظهار ذوائبه وأشرافها، إلا ليعلم أنها من عظماء الطير أشرفها، قد تحلى من الحدق المراض، بالضدين من السواد والبياض، وما منها إلا ما يزاحم النجوم بالمناكب، كأنه يحاول ثأرا عند بعض الكواكب، لا يبرز إليها رام إلا راجلا وهو مشمر للذيل، غارق إلى وسطه في وحل وسيل، يصرع فارسا من السماء على أشهب الصبح وأشقر البرق، وأدهم الليل. ومنه قوله: وأعلى في الخافقين خوافق أعلامه، وبسط على البسيطة قوادم عدله وخوافي إنعامه، حتى لا تشرق شمس إلا على ما ملكت يمينه، ولا تلقاه ملك إلا خضع له بالسجود جبينه. المملوك يقبل الأرض، ويجمع بين الطهورين، صعيدها الطيب، وسحابها الصيب، وينهي ورود المثال الشريف، فتناول منه كتاب أمانه باليمين، وأعطي بمبايعته اليمين، ولثمه وهو موضع رغبات اللاثمين، وورده فرأى العجب، إنه البحر العذب، ولا يقذف من الدر إلا الثمين. ومنه قوله: وكانت المملكة الحلبية من ممالكنا بمنزلة السور على البلد، والروح من

الجسد، وقد علم تعلق الروح بالجسد، واتفق لها الانتقال إلينا، ولنا بها إلى ربه الانتقال، وأصبحت من يميننا في اليمين، وكانت وهي من الشمال في الشمال، ولم نر لها إلا من غذي بلبانها، وعني بشأنها، وعد فارس حلبتها يوم رهانها، فطالما طمحت إليه بنظرها، واحتمت به من غير الأيام وغررها، فكفاها الأمور الجسام، وحمى حماها وكيف لا تحمى وهي ذات جوشن بالحسام، ولم يزل طامح نظره حولها يدندن، ولهجة أمله بها تلجلج، وعنها لا لا ترن «1» ، رأينا إنالته هذا المطلوب، وقضينا له منها حاجة كانت في نفس يعقوب، وحكمناه من ذلك فيما طلب، ومثله من حلب الدهر أشطره، ونال الزبدة من حلب. وكان الجناب الحسامي هو الجناب المخصب لرائده، العالي عن مسامتة مستاميه ويده، فخرج أمرنا العالي أن يفوض إليه نيابة السلطنة المعظمة بالمملكة الحلبية، وقلدناه أمورها، ومن أحق من الحسام بالتقليد؟ وجردناه للانتصار به، ويظهر أثر الحسام عند التجريد، وليتفقد الجيوش ولا يفسح لهم في الركون إلى الأعذار والميل، وليتل عليهم وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ «2» ولا يستخدم إلا كل شهم شهد الوقيعة، إذا قفل الجيش كان ساقة، وإذا توجه كان طليعة، والبريد والحمام، هما رسل المهام وأعلام الإعلام، وأرسلهما في كل مهم معا، وليجمع بين تجهزهما وإن لم يجتمعا، وليرتب أمورهما على أجمل الأوضاع، ليتوافيا على انفراد واجتماع، فكثيرا ما سبق البريد السائر، وجاء قبل الطير الطائر، فبلغ المرام، وعاق الحمام الحمام. ومنه قوله:

أعز الله أنصار المقام، ولا زالت مكارمه كالبحر تقذف لمن جاز به بدرّه، والروض يسابق من مر عليه بنشره، والمسك يبادر من دنا منه بعطره، والغيث الذي لا يقتصر على سائله بفيض قطره. المملوك يقبل الأرض التي من حل بها نال الغنى، ومن خيم بدارها نال المنى، وما اجتاز بها إلا من وافاه إسعافه وإسعاده، وما سار أحد في الآفاق إلا ومن إنعامها راحلته وزاده، وينهي ورود كتاب فلان، يصف إحسان مولانا إليه وإنعامه، وما تعجل في مقامه الأمين من دار الكرامة، وإقامته به وبعسكره في حالتي توجهه وعوده، وشكر سحابه العميم وجود جوده، وشكر المملوك عنه صدقات ملل لا يخلو نازل من إكرامه، ولا راحل من إنعامه، ولا يزال في الإقامة والظعن، إما يؤويهم إلى كنفه أو يرسل عليهم ظلة من غمامه، وتلك سجية مولانا التي جبلت على الإحسان إلى كل إنسان، واصطناع المعروف إلى المعروف وغير المعروف، والله تعالى يوزع الدهر شكر مولانا الذي شمل بره الأنام، وسطرته أنامل الحمد في صحائف الأيام. ومنه قوله: ووصلنا معه طرابلس، فنزل بساحتها، وجعلها للعساكر المنصورة موطن راحتها، وموطن إباحتها، وقد تكفل البحر لها بالامتناع، وضمن لها ما يزيد على حصانة القلاع، وأمدها من بلاد الفرنج كل يوم بمدد، وواصلها بالمراكب الكثيرة العدد، بما يزيد على أمواجه في العدد، فوصل رسل أهلها وتوسلوا بالذرائع، وبذل الأموال والقطائع، وعمارة المئذنة والجامع، فلم يقنع منهم بغير الإسلام، أو تسليم البلد بجملته، وإعادة القبلة من شرق بيعته إلى قبلته، فاعتصموا بالأسوار، وركنوا للقتال من وراء الجدار، وأطلقوا نحو كل سهم من

المنجنيق يشير عليهم بنانه بالإيمان، ويميل تارة إليهم وتارة إلينا ويميد كالنشوان، فنصبنا مجانيقنا قبالة مجانيقهم التي نصبوها من وراء أسوارها، ولم تزل ترميهم حتى عاد السور رميما، والحجر الذي كان بأعلى الأبراج في أسفل الخندق هشيما، وكثيرا ما كانت تتبر مجانيقهم فتقضي عليهم ببوارهم، وتبشرهم من أول أمرهم بإدبارهم، وتصيبهم قارعة بما صنعوا أو تحل قريبا من دارهم، فرجعت عليها العساكر المنصورة، وفي عاجل الوقت ملكوا الباشورة، فعلموا أنه لم يبق سوى الإسار، أو القتل أو الفرار، فالتبست على كل منهم مذاهبه «1» : [الطويل] فراحوا فريقا في الإسار وبعضهم ... قتيل وبعض لاذ بالبحر هاربه فهجمت العساكر المنصورة عليها هجوم الليوث الضواري، وعاجلت أكثرهم عن الالتجاء إلى المركب أو الاعتصام بالصواري، وتصرفت فيمن بقي منهم يد القهر، وتنوعت فيهم من القتل والنهب والسبي والأسر. ومنه قوله مما كتبه إلى أبي الفضل بن عبد الظاهر «2» : [السريع] سقى وحيّا الله طيفا أتى ... فقمت إجلالا وقبّلته لشدة الشوق الذي بيننا ... قد زارني حقا وقد زرته وافى من الجناب العالي المحيوي، آنس الله المملوك بقربه، وحفظ عليه منزلته من قلبه، وهداه إلى الطريق الذي كان قد ظفر فيها بمطلب البلاغة من كتبه، ولا شغله بسواه حتى لا يسمع غير كلامه، ولا يرى غير شخصه ولا ينطق إلا بذكره لغلبة حبه، ولا رآه في المنام، ولا رآه في خفية واكتتام، ولا شاهده بدعوى

الأحلام، بلى فإن المنى أحلام المستيقظ، وهو به طول المدى حالم والناس نيام، ولا ينكر الإخلال بالمكاتبة على نائم، والقلم مرفوع عن النائم، غير أن المملوك الظاهري أماته الشوق فانتبه، بعد ما زاره بعينه، وهو لا يتأول ولا سيما في أمر ما اشتبه، وما كانت زيارته له إلا منافسة له بظنه أن المملوك علقت به سنة الكرى، ومناقشة لطلبه زور الخيال حقيقة لما سرى، لينفي الوسن عن نظره، ثم ينصرف على أثره، ولما سجدت له الأجفان ظن بها سنة فزارها منبها، وما كان إلا ساهيا بمزاره عن خدمته، فلا ينكر على جفنه السجود لما سها، ولكم غلة للشوق أطفأ حرها بمزاره، وأغلق به أشراك الأجفان خيفة من نفاره، وعقله بحبائل جفنيه خشية أن تنزع يد اليقظة حبيبه من جنبيه، وضمها على خياله ضم المحب للعناق يمينه على شماله، ولكن ما فاز بالعناق إلا يد ويدان، وعناق المملوك للطيف من فرط الوجد بأربعة أيد من الأجفان، وإن لم تؤخذ هذه الدعوى منه بالتسليم وقيل: ما زاره بل استزاره فكر له في كل واد يهيم، فبلى وحقه لقد صدق مرارا؛ إن الكريم إذا لم يستزر زارا «1» ؛ وتالله لقد وافاه ووسده على حشاه ويمناه، متشبثا بأذيال دجاه، وفجأه فوجده على أبرح الوجد الذي عهده، إلا أن ضيف الطيف ما اهتدى إلا بنار أشواقه، وما سرى بل سار في ضياء من بارق دمعه، وما يوري قدحا من سنابك براقه، وتسور أسوار الجفون، وخاض السيول من العيون، كيف لا وهو يتحقق أن لقاءه المراد، وإذا هو نام زاره طيف كرى في الرقاد. * فأجابه ابن عبد الظاهر «2» : [السريع] في النوم واليقظة لي راتب ... عليك في الحالين قررته

تفضل المولى إذا زاره ... طيفي خيالي منه أن زرته ورد على المملوك، أدام الله نعمة الجناب العالي الكمالي، ولا أسهر جفنه إلا في سبيل المكارم، ولا سهدها إلا في تأويل رؤيا مغارم الفضل التي يراها من جملة المغانم، وجعله يتغمر بحلمه هفوة الطيف، وكيف لا يحلم الحالم- كتاب شريف حبب إليه التشبيه بنصب حبائل الهدب من الجفون، والاستغشاء بالنعاس، لعل خيالا في المنام يكون «1» ، وليغنم اجتماعه ولو في الكرى، وتصبح عينه مدنية وإن مضى عليها زمن وهي من القرى، وينعم طرفه من التلاقي بأحسن الطرف، ويقول: هذا من تلك السجايا، أظرف الهدايا، ومن تلك المزايا ألطف التحف، ويرفع محل الطيف فيرقيه من الهدب في سلالم، بل يمطيه طرف طرفه ويجعلها له شكائم، لا بل يرخيها لصونه أستارا، ولا يصفها بأنها دخان إذ كان يجل موطن الطيف الكريم أن يؤجج نارا، ويعظمه عن أنه إذا أرسل خياله رائدا، أن تتعبه المناظر، وأن يكلفه مشقة بسلوك مدارج الدموع، إذ هي محاجر، ثم يخشى أنه يحصل نفور من التغالي في وصف الدموع بأنها سيول، فيهوّل من أمرها ما يهول، ويقول: هل الدمع إلا ما يرش به بين يدي الطيف؟ وهل الهدب على تقدير أنها دخان إلا ما لعله يرتفع لما يقرى به الضيف؟ وعن إبراد الأجفان بهذا، وإسخان العيون بهذه، وهل هما لإيلاف الخيال إلا ما يقصده من رحلة الشتاء ورحلة الصيف؟ ثم يحتقر المملوك إنسان عينه عن أنه يلزمه هذا الأمر تكليفا، ويتدبر قوله تعالى: وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً «2» ويقول له: لا تطيق القيام بما لهذه الزورة للزوم من الوظيفة، لأن

النوم سلطان وخليفة، وأنى بذلك مع خليفة الحبيب، ويد الخلافة لا تطاولها يد؟ والعيون في الصبا زورتها حقيقة، ويمكن ألا توصف إلا بأنها ضعيفة، فنقول: كم مثلي إنسان تطاول لاستزارة الطيف حتى طرق؟ وكم خيال أتى على أعين الناس فجاء محمولا على الحدق؟ وكم محب درأ عن النوم بشبهة تغميض الأجفان عن غير غمض حد القطع على السرق؟ ثم يأخذ في طريقة غير هذه الطريقة، ويرى الاكتفاء بالمجاز عن الحقيقة، وإذا أقامت العين الحجة في تصويب استزارة الخيال يقول: ما هذه من الحجج التي تسمى وثيقة، ويرى أن تمثل الشخص الشريف في الخاطر قد أغناه عن أنه يتقلد منه الكرى، وكفاه أنه ينشد: [الكامل] سر الخيال بطيفه لما سرى ولم يحوجه حاشاه إلى أنه يزور له محضرا، ولا أنه ينشد: أترى درى ذاك الرقيب بما جرى «1» اللهم إلا أن يورد مورد العين أنفع ما يدخر، والعين الصافية ما برح عندها من الخيال الخبر، وإذا كان القلب متولي الحرب مع الأشواق، فكيف يشاحح الخيال على أنه متولي النظر؟ فحينئذ يشتاق إلى الوسن، ويمد له من الهدب الرسن، ويزور ويستزير، ويقصر ويتلو وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ «2» ويذهب لأجل ذلك مذهب من يرى أنه يقدم على الأيام الليالي، ويعظمها لأنه مظنة هجمة الخيال، ويجعل جفونه أرض تلك النجمة التي تغلب عليها، وما برحت تغلّب لها أرض الجبال؛ وأما النيل فكم احتقره المملوك بالنسبة إلى كرم مولانا ونواله، وتكرّه

مذاقه بالإضافة إلى زلاله، وتحقق أن مقياس راحته هو الذي يستسعد به الأمم، وأن الأصابع من الأصابع الكريمة، والعمود القلم، وأن طالب ورد ذاك تعب، وطالب جود سيدنا مستريح، ويكفي واصف نواله له وهو غاية المديح. * وأمّا ما لابن العطار من شعر فكتب أبو الفضل عبد الله بن عبد الظاهر إليه «1» : [البسيط] لا تنكرن على الأقلام إن قصرت ... له مساع إذا أبصرتها وخطا فعارض الطرس في خدّ الطّروس بدا ... من أبيض الرمل شيب فيه قد وخطا فقال ابن العطار يجيبه «1» : [البسيط] أقلام فضلك ما شابت ولا قصرت ... له مساع إذا أنصفتها وخطا بل عارض الطرس لما شاب غيّره ... بعشبة قبل شيب فيه قد وخطا ومنه قوله في رثاء الظاهر بيبرس البندقداري «2» : [الكامل] بكت القسي لفقده حتى انثنت ... ولها عليه من الرنين تحسر ولحزنها بيض الصفاح قد انحنت ... وتبيت في أغمادها تتستر أرخت ذوابله ذوائبها أسى ... ولرنكه وجه عليه أصفر ولواؤه لبس الحداد فهل ترى ... كان الشعار لفقده يستشعر ملك بكته أرائك وترائك ... وملائك وممالك لا تحصر ولكم بكته حصنه وحصونه ... ونزيله ونزاله والعسكر من للمالك بعده من كافل ... كم حاطها بالرأي منه مسور قد حرك الثقلين هول مصابه ... فالظاهر المودي أو الإسكندر

23 - ومنهم: محمد بن عبد الله، شرف الدين، أبو محمد بن فتح الدين أبي الفصل، ابن القيسراني، القرشي، المخزومي

23- ومنهم: محمد بن عبد الله، شرف الدين، أبو محمد بن فتح الدين أبي الفصل، ابن القيسراني، القرشي، المخزومي «1» * صدر إيمان وعلا، وبدر زمان أضاء الظلم وجلا، مجيل قداح من الأقلام، ومجيد اقتداح يشقق عن البرق جيوب الظلام، حلف زهد وورع، وجدّ طال به الأنام وفرع، وكان قريع علم لم يدعه إذ رأس، وفقه طالما ارتبط عليه ودرس، من بيت يتمسح بأركانه، ويتمسح من إمكانه، ولم يزل أهله أهلة كتاب، وأهل سنة وكتاب، وخدموا الدول، وختموا بالأمانة الأيام الأول، وكانوا كتاب إنشاء وحسّاب، وأصحاب إرث واكتساب، وأرباب فخار بنفوس وانتساب، ومنهم جماعة حلوا الممالك فوشوا حبراتها، ووشعوا بذائب النضار أصلها وبكراتها، وكانوا أهل مدائح علقت كالسحاب، وعقت البحر وتعلقت بالسحاب، مع نسب في آل المغيرة، لا تطمع في سرح كواكبه مواكب الصباح المغيرة، وكان يتروى ثم يأتي بنثر يفوق كثيرا، ويضحي على ورقه سقيط الطل منثورا، مع قضاء باء بيمن نقيبتها، ويجيء بدارين في حقيقتها، مع مروءة ما غبنه فيها شريك، ولا فتنه عنها سطا سلطان ولا مليك، وكان يجلس بين يدي كافل الممالك لقراءة قصص المظالم، وهو يقرأ القرآن الكريم، فإذا مر بآية سجدة استقبل القبلة وسجد، وربما استدبر كافل الممالك لأجل اتباع القبلة، فوجد عليه لهذا، وقال لعمّي في الاستفال به، فكان يدرأ عنه حده، ثم يوصيه فلا تفيد الوصايا عنده، بل يقرأ فإذا مرت به آية سجود سجد، وما عليه أن لا يجد في نفسه عليه أو وجد، مع ما كان هذا الرجل في إنابة الأدنين من كبراء شمخت بهم المناصب، وشدخت هامة المناصب.

* ومن نثره قوله: وبعد، فإن أولى ما عظم في النفوس، وازدانت به المحافل والطروس، الشرع الشريف، وبه زجر أهل الاجتراء والاجتراح، وتحقن الدماء وتستباح، ولهذا تعين أن لا يحل ذروته السنية، ورتبته العلية، إلا من انعقد الإجماع على أنه للولاية متعين، وأن موجب استخلاصه واختصاصه للمباشرة بين؛ ولما كان فلان هو العالم الذي ليس لفضله جاحد، والفقيه الواحد الذي هو أشد على الشيطان من ألف عابد، والذي عادل دم الشهداء مداده، وماثل البحر الزاخر مدده في الفضائل واستمداده، وباشر قضاء القضاة وقضاء العساكر المنصورة بالشام المحروس مدة متطاولة، وشكرت مباشرته المنصبين، وحكم بأهليته لما قامت البينة من خبره وخبره بشاهدين، وبرأت من عيون الأعيان إحكام الأحكام ولا أثرة بعد عين، وأبدع في تقريبه المسائل وتقريره وتحويره، وتحيّل حتى قيل: هو في العلو والعلوم شريك القاضي شريك، وبأنباء الشريعة المطهرة هو الخبير الذي ينبيك؛ وبلغنا أنه في هذه المدة حصل له في أثناء البحث ما أزعجه وأحرجه، وعن خلقه الرضي أخرجه، وامتنع من الحكم أياما، ولم يجر له في الأمور الشرعية لسانا ولا أقلاما، فاقتضى اعتناؤنا بالشريعة المطهرة، إشخاصه إلى بين أيدينا «1» ، واستعلام سبب ذلك يقينا، وأن نصرح له بتجديد توليه تولية مناصبه، وتأكيد رفعة يكف بها مناصبه. ومنه قوله: وينهي أن المشرف العالي ورد إليه فتنسم أرواح قربه، وأوجد مسرات قلبه، وأعدم مضرات كربه، وأبهجه الكتاب بعبير رياه، وألهجه الخطاب بتعبير رقياه،

فرأى خطه وشيا مرقوما، ولفظه رحيقا مختوما، ووجده مختوما على درر كلامية، وبشر منامية، وحديث نفس عصامية، نرجو من الله أن نشاهد ذلك أيقاظا، ونكون لأنبائه حفاظا ومنه قوله يصف يادة النيل: وأقبل يعب عبايه، ويكاثر البحر المحيط انسكابه، ويطاوله وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ «1» وأمر زيادته يعظم عن الشرح ويكبر، ومشاهده لقدرة الله فيه يتلو وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ . «2» وقد تلقته البلاد تلقي المحب لحبيبه، والعليل المرتقب لطبيبه، وهو كلما حل بقعة صد صدا، وأجدى جدا، وكلما حباها بأصبع شكرت له يدا، وكان قد وصل في أثناء ذلك المفرد من الأعمال القوصية مخبرا بوفائه، واقتضى مذهبنا الشريف الحكم بخبر المفرد، والعمل بما عنه يروى وإليه يستند، ومع ذلك حصل التثبت إلى أن نقل هذا الأمر من الخبر إلى العيان، واستحق خليج مصر أن يفك عنه الحجر، ويجري مطلق العنان، ومن غرائب هذا البحر وإن كثرت فيه الغرائب ومنه الغرائب، أنّه كلما تكدر تتبسم له الثغور وتفتر، وأنه نيل أزرق وبصبغه تروق البلاد وتخضر، وسطرناها والخواطر الشريفة واثقة بسقيا أمنت من فوتها، والعيون ناظرة إلى أثر رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها، والديار المصرية قد غدت للري في أكمل زي، وأبدت تموج الحلل وتبرج الحلي، وزهت حسنا بالزيادة في الحسنى، وتلا على ساكنها لسان الرحمة وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً «3» فالمجلس يحمد الله لما أعاده على الوجود من إشراقه وأنسه،

ويستديم النعمة بالشكر وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ «1» والله تعالى يجعل هذه الرحمة إلى جهاته حسنة التفريج، مناظره بها ناضرة الرياض في التدبيج، مظهرة فيها معنى قوله تعالى: وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ «2» ومنه قوله: وينهي ورود المشرف العالي، فاطلع من جواهر الألفاظ ما لو شاهده البدر لما أسفر، أو سمع به عبد الحميد لأحب أن لا يذكر، فتنزه في رياض كتابته التي أينعت أغصانها؛ وأبهجت بفنونها أفنانها، فلولا حلها وحرمة السحر لقلنا سحرا، ولولا أنه شغل الأعناق بمننه لقلدناها- إذ هي الدر- نحرا. ومن قوله يذكر النيل: وأمست التّراع من تراع، وأصبح الجدب مع ما كان فيه من القوة وقد أخذ في النزاع، وحققت به عروس مصر أن يزيد كقطرة في بحرها إذ يزيد «3» وأن باناس «3» لا ترفع به خلجانها من رأس «4» وأن ثورا «3» لو حف به شرب لما كمل دورا، وأن كل رابية منها تربي على الربوة والنيرب «4» وكل برق ما عدا برق سحابها الهاملة خلب، وأنها تخلب القلوب بالملق، وتسلب الألباب بالحدائق لا الحدق، وأن البسطة في البسطة «5» ، والنزهة في ربيعها إذا نسج بسطه، وأنها

24 - ومنهم: محمود بن سلمان بن فهد، الحلبي، الكاتب، شيخنا العلامة، حجة الكتاب، فرد الزمان، شهاب الدين، أبو الثناء

عما قليل تتجلى في حللها النضرة، وتتبين أنها لا ما عداها الدنيا إذ هي الخضرة. 24- ومنهم: محمود بن سلمان بن فهد، الحلبي، الكاتب، شيخنا العلامة، حجة الكتاب، فرد الزمان، شهاب الدين، أبو الثناء «1» * جبل أدب لا مطمع في ارتقائه، وبحر علم لا مطمح إلا إلى ما يؤخذ من تلقائه؛ رقى السماء وتلقى من ربه كلمات علم بها الكتّاب الأسماء؛ ناضلت الدول بأقلامه، وكلمت ملوك العدى بكلامه، فحظي ببرها، وخطب لحفظ سرها، وتقدم باستحقاقه، واستعبد الكلام الحر باسترقاقه، وأقام بالشام ثم بمصر فطاب به الواديان كلاهما، وأغدق نوؤهما وكلؤهما، وكان كاتبا لا يعرف له نظير، ولا يعرف مثله في الزمن الأخير، تعين بدمشق فكان للكتاب والدا، وتفرد بمصر فبقي سهما في الكتابة واحدا، وكان بابل سحر، وعنبر شحر، وعانة مدام، وغاية إقدام، وغابة أسد ذي ظفر دام، لم يزل نجي ملك همام، ورسيل بحر وغمام، بكتب طالما أينعت روضة زهر وأفق سماء، نرجسه الثريا ومجرته النهر؛ وكان لا يرضى بدارات الأقمار لزهره كمامة، ولا بالهلال لظفر قلمه قلامة، بأدب دق على الأدباء، ورق فنسب الجفاء إلى الصهباء، فأشفق الشفق أن يكون لكؤوس كلمه مدامة، ودخان الند أن يكون على عنبر سطوره غمامة، وكان في الديوانين يتصدى لمهمات الإنشاء، فكم أطال لوجوه الأيام غررا، وقلد أعناق

الممالك دررا، من تقاليد لو شيدت العماد لماماد، أو حبا بفضلها الفاضل لأنطق الجماد، أو أثرت ابن الأثير لاستغنى مما يثير، أو بنى على أبكارها ابن بنان لما ضم له على قلم بنان، أو خلّت شيئا لابن الخلال، لتاه بكرم الخلال، أو خصت ابن أبي الخصال بخصلة لطال بها وصال، وكسر على النصال النصال، إلى نظم وطئ بأخمصه الطائيين، وأفنى بخلود الذكر مدة الخالديين، بما أهدي إليه وترك الكندي مضللا، وخلى العزيز في قومه ابن أبي سلمى مذللا، حتى لو وسم عبيد بولائه في القريض لما قال: حال الجريض «1» ، فأما في توليد المعاني ففات ابني هاني «2» ، ونهض جده وسقط صريع الغواني؛ فمن نسيب نسي به القديم، وغزل ذكر به كل غزال ورئم كل ريم، ورثاء أسكت النائحتين الديلمي وذا النسب الصميم «3» ، وتشبيه ثلّث الملكين ابن المعتز [و] تميم «4» ، إلى تباس «5» أرهب العسكري في «الصناعتين» ، وفلك جرض «6» الراغب والجاحظ في البراعتين، وكان في كل منهما إماما، وسح في كل منهما غماما، بسجع كم غازل على أيكه حماما، وأعطى الغواني على حلي ذماما، وشق على لبة النهر أطواقا، وأرخى على أنامل الغصون أكماما؛ ثم ولي بدمشق صحابة ديوان الإنشاء، وأطلع في الصباح نجوم العشاء. وهو شيخي في الأدب، وإن لم يكن لي أبا مثل أب، لزمته منذ قدم دمشق حتى مات، أقرأ عليه وأقرئ مما لديه، ومن حواصله أنفقت وجمعت وفرقت،

وسددت إلى الغرض وفوقت؛ وأقول ولا أخشى: فمهما وصفته به من المحاسن صدقت، لأن الرجل أشهر من الشمس، وذكره أسير من «قفانبك» ، قد أنجد ذكره وأتهم، وأعرق وأشأم، وغنى به الملاح والحادي، وغني به سكان الجبل والوادي، هذا إلى ما له من المشاركة في علم الحديث، وحفظ المتون والرجال، والاطلاع على آراء الناس ومذاهب الأمم في الملل والنحل، وفرق الخلاف ومواضع الاختلاف، وضبط التاريخ، واستحضار الوقائع، وذكر نوب الدهر، وتصاريف الزمان، وأيام العرب والعجم، ومعرفة النسب ودول الخلفاء والملوك وأحوال الوزراء والكتاب والشعراء، ومشاهير الأمة والأعيان من أهل كل علم، والمقدمين في كل فن والمبرزين في كل صنعة، وأسماء الكتب المصنفة والمجاميع المؤلفة، وإجادة النظر في معرفة الخطوط، والإلمام بكتابة المكاتيب الحكمية والشروط، إلى معرفة الأمثال الجاهلي منها والمولد، والملوكي والسوقي، وأمثال الخواص والعوام، والعربي منها والعجمي، والأصل في ضرب كل مثل، مع إتقان قوانين الديوان مما لم يجمعه سواه، ولو تفرد بواحد منه كفاه، وبه انتفع كتاب زمانه وتخرجوا عليه، وتدربوا بين يديه. أخذ الفقه عن ابن المنجّا، والنحو عن ابن مالك، والأدب عن ابن الظهير؛ وتنقل في الوظائف، وطلبه عمي إلى الديار المصرية بعد محيي الدين بن عبد الظاهر على معلومه، وكتب بين يدي الوزير ابن السلعوس، وقل أن كتب مدة مقامه بالحضرة مهم جليل إلا من إنشائه؛ وعين لقضاء الحنابلة بمصر فامتنع، حتى بعث إلى دمشق صاحبا لديوان الإنشاء، وأقام بها حتى مات. ومن تصنيفه كتاب «حسن التوسل إلى صناعة الترسل» و «منازل الأحباب» و «أهنى المنائح في أسنى المدائح» من نظمه في المديح الشريف النبوي، زاده الله

شرفا، ولم يكن مثله في إعطاء كل مقام حقه موفّى، من غير زيادة ولا نقص؛ وذكر ملاحم الحروب على إفراط التهويل، في رقة الغزل، للطف تخيله، ودقة تحيله، واستعاراته، وغرائب تشبيهاته. ومن نثره قوله في توقيع لابن جماعة، بتدريس المدرسة المجاورة للشافعي: وهو يعلم أن ذكر هذه البقعة سار في الآفاق، جار على ألسنة الرفاق، قدر شامية الشام ونظامية العراق، وأنها جمعت من العلماء أعلاما، ومن الأمة أئمة، لولا شرف البقعة لتفرقوا في الأرض هداة وحكاما، فلا يقف في العلم عند غاية، وليجد في طلب النهاية، وإن لم يكن للعلم نهاية، وليمثل نفسه ماثلا بين يدي من نسبت إليه، ويقيم روحه مقام من جلس للقراءة عليه، وليبث ما استودعه من أسرار مذهبه ليسبر عنه من معدنه، وينقل الفضل إلى الأوطان من مظنته وموطنه، وليلق بها عصا السرى، فإنها منزلة لا ينوي من بلغها سيرا، وليحمد الله على ما وهبه من بضاعته، فإنه من يرد الله به خيرا. «1» ومنه قوله في تقليد وزير: وليبدأ بالعدل، فإن الله قدمه على الإحسان، وحلى بهما أيامنا، ويجانب الظلم وأهله، فإن الله أرهف بمحوه من الوجود سيوفنا وأقلامنا، ويقرنه بالإحسان، فإن الله رفع بهذا منار ملكنا وأعلى بذا أعلامنا، ويمد خزائن الأموال بمكنون تدبيره، ويعد لمهمات الدولة القاهرة ذخائر تصرفه الجميل وحسن تأثيره، وليزن ذلك بالرفق، فإنه مع الخبرة أجدى من العنف وأجدر، وإذا رام المنبتّ بلوع الغاية، فإن المتثبت أقوى منه على ذلك وأقدر، فإن النماء مع العدل كفرسي رهان، وليس الخبير من حصل الأموال بالظلم بل من حصلها والحق عزيز

والباطل مهان، وليتحر الحق المحض فيما أمر بأخذه رفقا ويناقش على حقوق بيت المال، فإنهما سواء من أخذ لغيره باطلا أو ترك له حقا، وليجتهد في عمارة البلاد، فإنها على الحقيقة معادن الأرزاق، وكنوز الأموال التي لا ينفدها الإنفاق. ومنه قوله: وقلدته مهابتنا سيفا يلمع مخايل النصر من غمده، وتشرق جواهر الفتح في فرنده، وإذا سابق الأجل إلى قبض النفوس، عرف الأجل قدره فوقف عند حده؛ ومتى جرده على ملك من ملوك العدى، وهنت عزائمه، وعجز جناح جيشه أن تنهض به قوادمه، وعلم أن سيفنا على عاتق الملك الأغر نجاده، وفي يد جبار السماوات قائمه. ومنه قوله: وسرنا بالجيش الذي لا يدرك الطرف حده، ولا الوهم عده، وكأن ذوائب السحاب عذب بنوده، وكأن شوامخ الآكام مناكب أبطاله ومواكب جنوده، وما قصد عدوا إلا ونازلهم قبل خيلهم خياله، وقضى عليهم وعده ووعيده، قبل أن ترهف أسنته أو ترعف نصاله؛ وإذا لمع حديده وخفقت عذبه وبنوده، قيل هذا غمام تلهبت بوارقه، ودمدمت صواعقه؛ أو بحر تلاطمت أمواجه، أو سيل غصت به فجاجه، وعكس أشعة الشمس اضطرابه وارتجاجه، وما علا جبلا إلا وألحق صعوده إليه جريه بالصعيد، وما منع الريح مواجهته إلا لتسمع صهيل خيله بأقصى الروم من أقصى الصعيد. ومن قوله: وما رهج العدو المخذول بالحركة ورمي الصيت؟ فإن عدة العاجز الصياح،

وقوة الجبان في القول، والقول يذهب في الرياح؛ وقد علموا أنهم ما قدموا إلينا إلا وكان أحد سلاحهم الهرب، ولا طمعوا في النجاح وكان لهم في غير الحياة أرب، يبالغون في الاحتشاد، والجازر لا يهوله كثرة الغنم، ويستكثرون من السواد، ووجود من لا ينفع أشبه شيء بالعدم، فقوتهم ضعيفة، ووطأتهم خفيفة، وثباتهم أقصر من حل العقال، وصبرهم أسرع من الظل في الانتقال، وخيولهم لا تطيع أمر أعنتها إلا في الفرار، ورماحهم لا تحمل كل أسنتها إلا للخور والانكسار، وسهامهم لا عهد لها بالمقاتل، وصفاحهم كل شيء من القصب غيرها يمكن وصفه بأنه قاتل؛ فإن دلاهم الشيطان بغروره، فسيبرأ منهم سريعا، وإن أطمعهم في اللقاء فستردهم كلام سيوفنا كأقسام الكلام الثلاثة: هزيما أو أسيرا أو صريعا. ومنه قوله رسالة طردية: لا زال يمنه يستنزل العصم من معاقلها، ويسمع السهام الصم ما تحدث به حركات الطير عن مقاتلها، ويلجئ ضواري الوحش إلى سيوف أوليائه لترقرق ماء الفرند فيها بمناهلها، وينهي أنه سار إلى ما واجه وجه إقباله، متيمنا بسعده الذي ما برح يعتلق بحباله، ومعه: من الجوارح كل بازي شديد الأسر، صحيح على ما اتصف به من الكسر، ينظر من بهار، ويخطر في ليل رقم به أديم نهار، ذي صدر مدبّج، ورأس متوج، ومخلب خطوف، ومنسر كصدغ معطوف، أسرع من هوج الرياح، وأقتل من عوج الصفاح، ينحط على الطير من عل، ويسبق إلى مقاتل الوحش كل رام من بني ثعل. ومن الضواري كل حام أسبق من السهم، وأخف في الوثبة من الوهم، ذي

صدر مجدول وساعد مفتول، وأنياب عصل، وظفر أقطع من نصل. ومن الفهود كل أهرت الشدق، ظاهر الحدق، بادي العبوس، مديّر الملبوس، شثن البراثن بأنياب كالمدى، ومخالب كالمحاجن، قد أخذ من الفلق الغسق إهابا، وتقمص من السماح والبخل جلبابا، يضرب المثل في سرعة وثوب الأجل به وبشبهه، وتكاد الشمس مذ لقبوها بالغزالة لا تطّلع على وجهه، يسبق إلى الصيد مرامى طرفه، ويفوت لحظ مرسله إليه، فلا يستعمل النظر إلا وهو في كفه، وتتقدمه الضواري إلى الوحش، فإذا وثب له تعثرت من خلفه. ومعنا غلمة نحن بسهامهم منها أوثق، وهم بإصابة شواكل المراد من كل ما ذكر أحذق؛ إذا أخذ كل منهم حنيته أرانا القمر في القوس، وإن نظم رميته قيل: هذا حبيب وإن لم يكن ابن أوس «1» ، فما لاح طائر إلا وله من السهام أجل، ووراءه من رجل الجوارح زجل؛ إن أخطأ هذا أصاب هذاك، وربما كان لهما «2» استهام في تحصيله واشتراك؛ وإن سنح وحش، فالسهام أدنى إلى وريده من قلادة جيده، فإن فات فالكلب أعرف باختلاسه منه بكناسه، وأسرع إلى احتباسه من رجع أنفاسه، وإلا فالفهد أسرع إلى لحاقه من أجله، وألزم لعنقه لو كان يعقل من عمله، وظللنا بين قدير معجل، وقديد مؤجل، نمش بأعراف الجياد كفوفنا «3» ، ونقري من صواف الطير وأصناف الوحش ضيوفنا، وكنا بين صيد تحصل وآخر يترقب، وغدونا «4» : [الطويل]

كأن عيون الوحش حول خبائنا ... وأرحلنا الجزع الذي لم يثقب وقد أرسلنا إليه من ذلك ما يتحقق به إن نمته أمارنا وأوري نارنا، ويستدل به على حسن ظفرنا في سفرنا، وإنارة توفيقنا في طريقنا؛ والله تعالى لا يخلي منه مكان تأييد، ويبلغه من السعادة فوق ما يريد. ومنه قوله: وإن المخذولين أقبلوا كالرمال، واصطفوا كالجبال، وتدفقوا كالبحار الزواخر، وتوالوا كالأمواج التي لا يعرف لها الأول من الآخر، فصدمتهم جيوشنا المنصورة صدمة بددت شملهم، وعلمت الطير أكلهم، وحصرتهم في الفضاء، وطالبت أرواحهم الكافرة بدين دينها فأسرفت في القضاء، وحصدت سيوفنا المنصورة ما يخرج عن وصف الواصف، وكانوا كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف، وأحاطت بهم كتائبنا المنصورة فلم ينج منهم إلا من لا يؤبه لهم من فريقهم، وقسمتهم جيوشنا المؤيدة من الفلوات إلى الفرات، بين القتل والأسر، فلم يخرج عن تلك القسمة غير غريقهم، وأعقبتهم تلك الكسرة أن هلك طاغيتهم أسفا وحسرة وحزنا على من قتل من تلك المقاتلة، وأسر من تلك الآسرة، وأماته الرعب من جيوشنا المنصورة فجاءة، واستولى عليه الوجل، فجاءه من أمر الله ما جاءه. ومنه قوله مما كتب بمآل ملك سيس «1» : وتبادر إلى الطاعة قبل أن يبذلها فلا تقبل، ويتمسك بأذيال العفو قبل أن يرتفع دونه فلا تسبل، وتعجل بحمل أموال القطيعة، وإلا كان أهله وأولاده في

جملة ما يحمل إلينا، ويسلم ما عدا عليه من فتوحنا، وإلا فهو يعلم أنها وجميع ما تأخر من بلاده بين أيدينا. ومنه قوله: هذه المكاتبة إلى فلان، لا زال مأمون الغرة، مأمول الكرة، مجتنيا حلو الظفر من كمام تلك المرّة المرّة، راجيا من عواقب الصبر ما يسفر له مساء تلك المساءة عن صبح المسرة، واثقا من عوائد نصر الله بإعادته ومن معه في القوة والاستظهار كما بدأهم أول مرة، أصدرها وقد اتصل به بناء ذلك المقام الذي أوضحت فيه السيوف عذرها، وأبدت به الكماة صبرها، وأظهرت فيه الحماة من الوثبات والثبات ما يجب عليها، وبذلت فيه الأبطال من الجلاد جهدها، ولكن لم يكن الظفر إليها، وكان عليهم الإقدام على غمرات الحرب الزبون، والاصطلاء بجمرات المنون، ولم يكن عليهم إتمام ما قدّر أنه لا يكون، فكابرت رقاب الأعداء في ذلك الموقف السيوف، وكاثرت أعدادهم الحتوف، وتدفقت بحارهم على جداول من معه، ولولا حكم القدر لانتصفت تلك الآحاد من تلك الألوف، فضاق بازدحام الصفوف على رجاله المجال، وزاد العدد على الجلد، فلم يفد الإقدام على الأوجال مع قدوم الآجال، وأملى للكافرين بما قدّر لهم من الإنظار، وحصل لهم من الاستظهار، وعوضوا بما لم يعرفوه من الإقدام على ما ألفوه من الفرار وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ «1» وقد ورد أنهم ينصرون كما ننصر، وإذا كانت الحروب سجالا، فلا ينسب إلى من كانت عليه، إذا اجتهد ولم يساعده القدر، أنه قصر، مع أنه قد أشهر ما فعله في مجاله من الذب عن رجاله، وما أبداه في قتاله من الضرب الذي ما تروّى فيه خصمه إلا

بدره بارتحاله، وأن الرماح التي امتدت إليه أخرس سفه ألسنة اسنتها، والجياد التي قدمت عليه جعل طعنه أكفالها مكان أعنتها، فأثبت في مستنقع الموت رجله «1» ووقف وما في الموت شك لواقف «2» ، ليحمي خيله ورجله، حتى يجيز أصحابه إلى فئة مأمنهم، وأقام نفسه دونهم دريئة لمن بدر من سرعان القوم أو ظهر من مكمنهم، وهذا هو الموقف الذي قام له مقام النصر إذ فاته النصر «3» ، والمقام الذي أصيب فيه من أصحابه آحاد يدركهم أدنى العدد، فقد فيه من أعدائه مع ظهورهم ألوف لا يدركهم الحصر؛ وكذا فليكن قلب الجيش كالقلب، يقوى بقوته الجسد، وإذا حقق اللقاء فلا يفرعن كناسه إلا الظبي، ولا يحمي عرينه إلا الأسد، وما بقي إلا أن تعفو الكلوم وتثوب الحلوم، وتندمل الجراح، وتبرأ من قلوب المضارب صدور الصفاح، وتنهض لاقتضاء دين الدّنى من غرمائه المعتدين، وتبادر إلى استنجاز وعد الله، فإن الله يمحّص المؤمنين ويمحق الكافرين؛ والليث إذا جرح كان أشد لثباته، وأمد لوثباته؛ والموتور لا يصطلى بناره، والثائر لا يرهب الإقدام على المنون في طلب ثأره، والدهر ذو دول، والزمان متلون، إن دجت عليكم منه بالقهر ليلة واحدة، فقد أشرق لكم منه بالنصر ليال أول؛ فالمولى لا يلتفت إلى ما فات، ويقبل بفكره على تدبير ما هو آت، ويعد للحرب عدته، ويعجل أمد الاستظهار ومدته، ولا يؤخر فرصة الإمكان، ولا يعد ذكر ما مضى فإنه دخل في خبر كان، ولا يظهر بما جرى عجزا،

فإن العاجز من ظن أنه يصيب ولا يصاب، ولا يتخذ غير ظهر حصانه حصنا، فلا حرز أمنع من صهوة الجواد، ولا سلم أسلم من الركاب؛ وليعلم أن العاقبة للمتقين، ويدرع جنة الصبر ليكون من النصر على ثقة، ومن الظفر على يقين؛ فإن الله مع الصابرين، ومن كان الله معه كانت يده الطولى، وإذا لاقى عدو الله وعدوه فليصبر لحملته، فإن الصبر عند الصدمة الأولى؛ والله تعالى يكلؤه بعينه، ويمده بعونه، ويجعل الظفر على عدوه موقوفا على مطالبته له بدينه. ومن قوله في مثله على الطريق المعتاد في ذم المهزوم: هذه المكاتبة إلى فلان، أقاله الله عثرة زلته، وأقامه من حفرة ذلته، وتجاوز له عن كبير فراره من جمع عدوه على قلته؛ بلغنا أمر الواقعة التي لقي فيها العدو بجمع قليل غناؤه، ضعيف بناؤه، كثيف في رأي العين جمعه، خفيف في المعنى وقعه ونفعه، أسرع في مفارقة المحال من الطل في الانتقال، وأشبه في مماثلة الوجود بالعدم من طيف الخيال؛ يحفّون منه بقلب واجب، ويهتدون من تجريبه وتهذيبه برأي بينه وبين الصواب حاجب، ويأتمون منه بمقدم يرى الواحد ممن عدوه كألف، ويتسرعون منه وراء مقدم يمشي إلى الزحف ولكن إلى خلف، جناح جيشه مهيض، وطرف سنانه غضيض، وساقة عسكره ظالعة، وطلائعه كالنجوم ولكن في حال كونها راجعة، تأسف السيوف بيمينه على ضارب، وتأسى الجنائب حوله إذ تعد لمحارب فتغدو لهارب، وإنه حين وقعت العين على العين، وأيقن عدوه لما رآه من عدده وعدده بمعاجلة الحين، أعجل نصول العدى عن وصولها، وترك غنيمة الظفر لعداه بعد أن أشرف على حصولها، تناديه ألسنة الأسنّة الكرة الكرة، ولا يلتفت إلى ندائها، وتشكو له سيوفه الظمأ وقد رأت موارد الوريد فيعيدها إلي الغمود بدائها؛ فمنح عدوه مقاتل رجاله، وأباحهم كرائم مال جنده وماله، وخلى لهم خزائن سلاحه التي أعدها لقتالهم،

فأصبحت معدة لقتاله، فنجا منجى الحارث بن هشام «1» ، وآب بسلامة أعذب منها- لو عقل- شرب كأس الحمام، واتسم بين أوليائه وأعدائه بسيمة الفرار، وكان يقال: النار ولا العار، فجمع له فراره من الزحف بين النار والعار، وعاد بجمع موفور من الجراح، موقر من الإثم والاجتراح، لا علم بما جرى عند أسيافهم، ولا شاهد بمشاهدتهم الوغى غير مواقع الظبا في أكتافهم، فبأي جنان يطمع في معاودة عدوه، وهذا قلبه وهؤلاء حزبه؟ وذلك القتال قتاله، وذلك الحرب حبه؟ وبعد، كان له حمية يتطهر آثارها، أو أريحية فيشب نارها، أو أنفة فستحمله على غسل هذه الدنية، وتبعثه على طلب غايتين، إما شهادة مريحة أو [عيشة] هنية؛ والله تعالى يوقظ عزمه من سنته، ويعجل له الانتصاف من عدوه قبل إكمال سنته. ومنه قوله: فكم مل ضوء الصبح مما يغيره، وظلام النقع مما يثيره، وحديد الهند مما يلاطمه، والأجل منا يسابقه إلى قبض الأرواح ويزاحمه. ومنه قوله: وكفى السيوف فخرا أنها للجنة ظلال، وإلى النصر مآل، وإذا كان من بيان الحديث سحر، فإن بيان حديثها عمن كلمته هو السحر الحلال. ومن قوله في قريب من معناه: حسب ألسنته الأسنة شرفا، أن كشف خبايا القلوب يذم إلا منها، وأن بث

أسرار الضمائر تكره روايته إلا عنها، فمكرر حديثها في ذلك لا يفضي إلى الملال، وإن لم يكن حسن حديثها الذي يسحر الألباب مما يحل، فليس في الحيث سحر حلال. ومنه قول في قريب من معناه إلا أنه جعله في البلاغة: البلاغة تسحر الألباب حتى تحيل العرض جوهرا، وتخيل الهواء المدرك بالسمع لانسجامه وعذوبته في الذوق نهرا، لكنه سحر لم يجن قتل المسلم المتحرز «1» ، فنتأول في حله؛ وإذا كان من الحديث ما هو عقلة المستوفز «1» ، فهذه أنشوطة نشاطه البليغ، وحل عقال عقله. ومنه قوله: خطه شكر للعقول، وفتنة تشغل المطمئن بملاحة المرأى المكتوب عن فصاحة المسموع المقول، ولو لم يكن البيان سحرا لما تجسدت منه في طرسها هذه الدرر، ولو لم يكن بعض السحر حلالا، لما انجلى ظلام النقس عما يهدي به من هذه الأوضاح والعذر. ومنه قوله مما كتب به إلى أمير سرية: ولا زال أخف في مقاصده من وطأة ضيف، وأخفى في المطالبه من زورة طيف، وأسرع في تنقله من سحابة صيف، وأروع للعدي في تطلعه من سلة سيف، حتى تعجب عدو الدين في الاطلاع على عوراته، من أين دهي وكيف؟ وتعلم أن أول قسمة اللقاء حصل عليه في مقاصده الحيف، أصدرناها إليه نحثه

على الركوب بطائفة أعجل من السيل، وأهول من الليل، وأيمن من نواصي الخيل، وأقدم من النمر، وأوقع على المقاصد من الغيث المنهمر، وأروع في مخاتلة العدى من الذئب الحذر، على خيل تجري ما وجدت فلاة وتطيع راكبها مهما أراد منها سرعة أو أناة، تتسنم الجبال الصم كالوعل، وإذا جارتها البروق غدت وراءها تمشي الهويني كما يمشي الوجي الوحل «1» ، وليكن كالنجوم في سراه، وبعده ذراه؛ إن جرى فكالسهم، وإن خطر فكالوهم، وإن طلب فكالليل الذي هو مدرك، وإن طلب فكالجنة التي لا يجد ريحها مشرك؛ حتى يأتي على عدو الدين من كل شرف، ويرى جمعه من كل طرف، ولا يسرف في الإقامة عليه، إلا إذا علم أن الخير في السرف؛ وليحرز جمعهم، ويسبق إلى التحرز منهم بصرهم وسمعهم، وينظرهم بعين منعها الحزم أن ترى العدد الكثير قليلا، وصدها العزم أن ترى العدو الحقير جليلا، بل ترى الأمر على قصه، وتروي الخبر على نصه، وإن وجد مغرورا فليأخذ خبره، وإن قدر على الإتيان بعينه، وإلا فليذهب أثره، ولا يهج فيما لديه نار حرب إلا بعد الثقة بإطفائها، ولا يوقظ عليه عين عدو، مهما ظهر له أن المصلحة في إغفائها، وليكشف من أمورهم ما يبدي عند الملتقى عورتهم، ويخمد في حالة الزحف فورتهم، وليجعل قلبه في ذلك ربيئة طرفه، وطليعة طرفه، وسرية كشفه؛ والله تعالى يمده بلطفه، ويحفظه بمعقبات من بين يديه ومن خلفه. ومما كتبه إلى بعض نواب الثغور: أصدرناها ومنادي النفير قد أعلن بيا خيل الله اركبي، ويا ملائكة الرحمن اصحبي، ويا وفود الظفر والتأييد اقربي؛ والعزائم قد ركضت على سوابق الرعب

إلى العدى، والهمم قد نهضت إلى عدو الإسلام فلو كان في مطلع الشمس لاستقربت ما بينها وبينه من المدى، والسيوف قد أنفت من الغمود فكادت تنفر من قربها، والأسنة قد ظمئت إلى موارد القلوب، فتشوقت إلى الارتواء من قلبها، والكماة وقد زأرت كالليوث إذا دنت فرائسها، والجياد قد مرحت لما عودتها من الاشتغال بجماجم الأبطال فوارسها، والجيوش وقد كاثرت النجوم أعدادها، وسايرتها للهجوم على أعداء الله من ملائكته الكرام أمدادها، والنفوس قد أضرمت الحمية للدين نار غضبها، وعداها حر الإشفاق على ثغور المسلمين عن برد الثغور وطيب شنبها، والنصر قد أشرقت في الوجود دلائله، والتأييد قد ظهرت على الوجوه مخايله، وحسن اليقين بالله في إعزاز دينه قد أنبأت بحسن المآل أوائله، والألسن باستنزال نصر الله لهجة، والأرجاء بأرواح القبول أرجة، والقلوب بعوائد لطف الله بهذه الأمة مبتهجة، والحماة وما منهم إلا من استظهر بإمكان قوته وقوة إمكانه، والأبطال وليس فيهم من يسأل عن عدد عدوه بل عن مكانه، والنيات على طلب عدو الله حيث كان مجتمعة، والخواطر مطمئنة بكونها مع الله بصدقها، ومن كان مع الله كان الله معه، وما بقي إلا طي المراحل، والنزول على أطراف الثغور نزول الغيث على البلد الماحل، والإحاطة بعدو الله من كل جانب، وإنزال نفوسهم على حكم الأمرين الأمرّين، من عذاب واصل وهم ناصب، وإحالة وجودهم إلى العدم، وإحالة السيوف التي إن أنكرتها أعناقهم فما بالعهد من قدم، واصطلامهم على أيدي العصابة المؤيدة بنصر الله في حربها، وابتلاؤهم من حملاتها بريح عاد التي تدمر كل شيء بأمر ربها. فليكن مترقبا لطلوع طلائعها عليه، متيقنا من كرم الله تعالى استئصال عدوه الذي إن فر أدركته من ورائه، وإن ثبت أخذته من بين يديه، وليجتهد في

حفظ ما قبله من الأطراف وضمها، وجمع سوام الرعايا من الأماكن المخوفة ولمها، وإصلاح ما يحتاج إلى إصلاحه من مسالك الأرباض المتطرفة ورمها؛ فإن الاحتياط على كل حال من آكد المصالح الإسلامية وأهمها، فكأنه بالعدو وقد زال طمعه، وزاد ظلعه، وذم عقبى مسيره، وتحقق سوء منقلبه وضميره، وتبرأ من الشيطان الذي دلاه بغروره، وأصبح لحمه موزعا بين ذئاب الفلاة وضباعها، وبين عقبان الجو ونسوره، ثقة من وعد الله الذي تمسكنا منه باليقين، وتحققنا أن الله ينصر من نصره، وأن العاقبة للتقين. ومنه قوله: هذه المكاتبة إلى فلان- أتبع الله ما ساءه من أمرنا مع العدو بما يسره، وبلغه عنا من الانتصاف والانتصار ما يظهر من صدق الصفاح وألسنة الرماح سره وأراه من عواقب صنعه الجميل ما يتحقق به أن كسوف الشمس لا ينال طلعتها، وأن سرار القمر لا يضره- توضح لعلمه أنه ربما اتصل به خبر تلك الوقعة التي صدقنا فيها اللقاء، وصدمنا العدو صدمة من لا يحب البقاء، وأريناه حربا لو أعانها التأييد فللت جموعه، وأذقناه ضربا لو أن حكم النصر فيه إلى النصل أوجده مصارعه وأعدمه رجوعه، وحين شرعت رياح النصر تهب، وسحاب الدماء من مقاتلهم تصوب وتصب، وكرعت الصفاح في موارد نحورهم، وكشفت الرماح خبايا صدورهم، ولم يبق إلا أن تستكمل سيوفنا الريّ من دمائهم، وتقف صفوفنا على ربوات أشلائهم، وتقبض بالكف من صفحت الصفاح عن دمه، وتكف بالقبض يد من ألبسته الجراح حلة عندمه، أظهروا الجزع في عزائمهم، وحكموا الطمع في غنائمهم، فحصل لجندنا إعجاب أعجل سيوفنا أن تتم هدم بنيانهم، وطمع منع فوارسنا أن تكف عن النهب إلى

أن نصير من ورائهم، فاغتنم العدو تلك الغفلة التي ساقها المهلكان العجب والطمع، وانتهز فرصة الكرة التي أعانه عليها المطمعان إبداء الهلع وتخلية ما جمع، فانتثر من جمعنا بعض ذلك العقد المنتظم، وانتقض من حزبنا ركن ذلك الصف الذي أخذ فيه الزحام بالكظم، وثبت الخادم في طائفة من ذوي القوة في يقينهم، وأرباب البصائر في دينهم، فكسرنا جفون السيوف، وحطمنا صدور الرماح في صدور الصفوف، وأرينا تلك الألوف كيف تعد الآحاد بالألوف، وحلنا بين العدو وبين أصحابنا بضرب يكف أطماعهم، ويرد سراعهم، ويعمي ويصم عن الآثار والأخبار أبصارهم وأسماعهم، إلى أن نفسنا للمنهزم عن خناقه، وأيأسنا طالبه من لحاقه، ورددناه عنه خائبا بعد أن كانت يده متعلقة بأطواقه، وأحجم العدو مع ما يرى من قلتنا عن الإقدام علينا، ورأى منّا جدّا كاد لولا كثرة جمعه يستسلم به إلينا، وعادوا ولنا في قلوبهم رعب يبيتهم وهم الغالبون، ويدركهم وهم الطالبون، ويسلبهم رداء الأمن وهم السالبون؛ وقد لمّ الخادم شعث رجاله، وضم فرقهم بذخائر ماله، وأمدهم بنفقات حلت أحوالهم، وأطلقت في طلب عدوهم أقوالهم، وسلاح جدد استطاعتهم، وأعان شجاعتهم، وخيول تكاد تسابقهم إلى طلب عدوهم، وتحضهم على أخذ حظهم من اللقاء، كأنها تساهمهم في أجر رواحهم وغدوهم، وقد نضوا رداء الإعجاب عن أكتافهم، واعتصموا بعون الله وتأييده لا بقوة جلدهم، ولا بحدة أسيافهم، وسيعجلون العدو إن شاء الله عن اندمال جراحه، ويتعجلون إليه بجيوش تسوؤه طلائعها في مسائه، وتصبحه كتائبها في صباحه، والله تعالى لا يكلنا إلى جلدنا، ولا ينزع أعنة نصره من يدنا. ومنه قوله مما كتبه على لسان مولود إلى أبيه، ولم يكتب به: يقبل الأرض ابتداء بالخدمة من حين ظهر إلى الوجود، وتشوقا إلى امتطاء

صهوات الجياد بين يدي سيده قبل المهود، وتمنيا أن يكون أول شيء يقع عليه نظره من الدنيا وجه مولانا الذي تعلو بنظره الجدود، وتتيمن برؤيته كواكب السعود، وينهي أنه يعجل السوق على صغره، وكأن كمال المسرة به أن يقع نظر مولانا الشريف عليه قبل البشرى بخبره، لتلقى عليه أشعة سعادة مولانا في ساعة ظهوره، ويكسى قبل أن تلقى عليه الملابس من إشراق محيّاه حلل نوره، ويكون أول ما يلج مسامعه صوت مولانا يحمد ربه على الزيادة في خدمه، وتكثير من يضرب بين يديه في الحرب بسيفه، ويقف في السلم أمامه على قدمه؛ فإن من يكون نجل مولانا تنطق بالنجابة مخايله، وتدل على الشجاعة سماته قبل أن تدل عليها شمائله؛ والهلال سيصير في أفقه بدرا منيرا، والشبل سيعود كأبيه أسدا هصورا؛ والله تعالى يهب العبد عمرا يبلغ به من طاعة مولانا ما يجب عليه، ويرزقه عملا صالحا يتقرب به إلى ربه وإليه. ومنه قوله رسالة كتبها في البندق «1» : الرياضة- أطال الله بقاء الجناب الفلاني، وجعل حبه كقلب عدوه واجبا، وسعده كوصف عبده للمسار جالبا، وللمضار حاجبا- تبعث النفس على مجانبه الدعة والسكون، وتصونها عن مشابهة الحمائم في الركون إلى الوكون، وتحضها على أخذ حظها من كل فن حسن، وتحثها على إضافة الأدوات الكاملة إلى فصاحة اللسن، وتأخذ بها طورا في الجد وطورا في اللعب، وتصرفها في ملاذ السمو في المشاق التي يستروح إليها التعب، فتارة تحمل الأكابر والعظماء

في طلب الصيد على مواصلة السرى، ومقاطعة الكرى، ومهاجرة الأوطار، ومهاجمة الأخطار، ومكابدة الهواجر، ومبادرة الأوابد التي لا تدرك حتى تبلغ القلوب الحناجر، وذلك من محاسن أوصافهم التي يذم المعرض عنها؛ وإذا كان المقصود من مثلهم جدّ الحرب، فهذه صورة لعب يخرج إليه منها، وتارة تدعوهم إلى البروز إلى الملق، وتحدوهم في سلوك طريقهم مع من هو دونهم على ملازمة الصدق ومجانبة الملق، فيعتسفون إليها الدجى إذا سجى، ويقتحمون جرف النهار إذا انهار، ويتنعمون بوعثاء السفر في بلوغ الظفر، ويستصغرون ركوب الخطر في إدراك الوطر، ويؤثرون السهر على النوم، والليلة على اليوم، والبندق على السهام، والوحدة على الالتئام. ولما عدنا من الصيد الذي اتصل بعلمه حديثه، وشرح له قديم أمره وحديثه، تقنا إلى أن نشفع صيد السوانح برمي الصوادح، وأن نفعل في الطير الجوانح بأهلة القسي ما تفعل الجوارح، تفضيلا لملازمة الارتحال، على الإقامة في الرحال، وأخذا بقولهم: [البسيط] لا يصلح النفس إذ كانت مدبّرة ... إلا التنقل من حال إلى حال فبرزنا وشمس الأصيل تجود بنفسها، وتشير من الأفق الغربي إلى جانب رمسها، وتغازل عيون النور بمقلة أرمد، وتنظر إلى صفحات الورد نظر المريض إلى وجوه العوّد «1» ، فكأنها كئيب أضحى من الفراق على فرق، أو عليل يقضي بين أصحابه بقايا مدة الرمق، وقد اخضلت عيون النّور لوداعها، وهم الروض بخلع حلّته المموهة بذهب شعاعها: [البسيط]

والطل في أعين النوار تحسبه ... دمعا تحير لم يرقأ ولم يكف كلؤلؤ ظل عطف الغصن متشحا ... بعقده وتبدى منه في شنف يضم من سندس الأوراق في صرر ... خضر ويجني من الأزهار في صدف والشمس في طفل الإمساء تنظر من ... طرف غدا وهو من خوف الفراق خفي كعاشق سار عن أحبابه وهفا ... به الهوى فتراءاهم على شرف إلى أن نضى المغرب عن الأفق ذهب قلائدها، وعوضه عنها من النجوم بخدمها وولائدها، فلبثنا بعد أداء الفرض لبث الأهلة، ومنعنا جفوننا أن ترد النوم إلا تحلة. ونهضنا وبرد الليل موشع، وعقدة مرصع، وإكليله مجوهر، وأديمه معنبر، وبدره في خدر سراره مستكن، وفجره في حشا مطالعه مستجن، كأن امتزاج لونه بشفق الكواكب خليطا مسك وصندل وكأن ثرياه لامتداده معلقة بأمراس كتان إلى صم جندل «1» : [الطويل] ولاحت نجوم الليل زهرا كأنها ... عقود على خود من الزنج تنظم محلقة في الجو تحسب أنها ... طيور على نهر المجرة حوّم إذا لاح بازي الصبح ولت يؤمها ... إلى الغرب خوفا منه نسر ومرزم «2» إلى حدائق ملتفة، وجداول محتفة، إذا حس النسيم غصونها اعتنقت عناق الأحباب، وإذا فزّك من المياه متونها انسابت في الجداول انسياب الحباب، ورقصت في المناهل رقص الحباب، وإن لثم ثغور نورها حيته بأنفاس المعشوق،

وإن أيقظ نواعس ورقها غنته بألحان المشوق؛ فنسيمها وان، وشميمها لعرف الجنان عنوان، ووردها من سهر نرجسها غيران، وطلها في خدود الورد منبعث، وفي طرر الريحان حيران، وطائرها غرد، وماؤها مطرد، وغصنها تارة يعطفه النسيم إليه فينعطف، وتارة يعتدل تحت ورقائه فتحسب أنها همزة على ألف، مع ما في تلك الرياض من توافق المحاسن، وتباين الترتيب؛ إذ كلما اعتل النسيم صح نشر الروض، وكلما خر الماء شمخ القضيب: [الكامل] وكأنما تلك الغصون إذا انثنت ... أعطافها رسل الصبا أحباب فلها إذا افترقت من استعطافها ... صلح ومن سجع الحمام عتاب وكأنها حول العيون موائسا ... شرب وهاتيك المياه شراب فغديرها كأس وعذب نطافها ... راح وأضواء النجوم حباب تحيط بملق «1» نطافها صاف، وظلال دوحها ضاف، وحصاها لصفاء مائها في نفس الأمر راكد، وفي رأي العين طاف؛ إذا دغدغها النسيم حسبت ماءها بتمايل الظلال فيه يتبرج ويميل، وإذا اطردت عليه أنفاس الصبا، ظننت أفياء تلك الغصون فيه تارة تتموج وتارة تسيل، فكأنه محب هام بالغصون هوى، فمثّلها في قلبه، وكأن النسيم كلف غار من دنوها إليه فميّلها عن قربه «2» : [مجزوء الكامل] والسرو مثل عرائس ... لفت عليهن الملاء شمرن فضل الأزر عن ... سوق خلا خلهن ماء والنهر كالمرآة تب ... صر وجهها فيه السماء

وكأن صواف الطير المبيضة بتلك الملق، خيام أو ظباء بأعلى الرقمتين قيام، أو أباريق فضة رؤوسها لها فدام، ومناقيرها المحمرة أوائل ما انسكب من المدام، وكأن رقابها رماح أسنتها من ذهب، أو شموع أسود رؤوسها ما انطفأ، وأحمره ما التهب، وكنا كالطير الجليل عده، وكطراز العمر الأول جده: [الكامل] من كل أبلج كالنسيم لطافة ... عف الضمير مهذب الأخلاق مثل البدور ملاحة وكعمرها ... عددا ومثل الشمس في الإشراق ومعهم قسي كالغصون في لطافتها ولينها، والأهلة في نحافتها وتكوينها، والأزاهر في ترافتها وتلوينها؛ بطونها مدبجة، ومتونها مدرجة، كأنها الشولة «1» في انعطافها، أو أرواق الظباء «2» في التفافها، لأوتارها عند القوادم أوتار، ولبنادقها في الحواصل أوكار، إذا انتصبت لطير ذهب من الحياة نصيبه، وإن ينصب لرمي بدت لها أنه أحق بها من نصيبه، ولعل ذاك الصوت زجر لبندقها أن يبطئ في سيره، أو يتخطى الغرض إلى غيره، أو وحشة لمفارقة أفلاذ كبدها، أو أسفا لخروج بنيها عن يدها، على أنها طالما نبذت بنيها بالعراء، وشفعت لخصمها التحذير بالإغراء: [البسيط] مثل العقارب أذنابا معقدة ... لمن تأملها أو حقق النظرا إن مدها قمر منهم وعاينه ... مسافر الطير فيها وانبرى سفرا فهو المسيء اختيارا إذ نوى سفرا ... وقد رأى طالعا في العقرب القمرا ومن البنادق كرات متفقة السرد، متحدة العكس والطرد، كأنها خلطت من المندل الرطب، أو عجنت من العنبر الورد، تسري كالشهب في الظلام، وتسبق

إلى مقاتل الطير مسددات السهام: [البسيط] مثل النجوم إذا ما سرن في أفق ... عن الأهلة لكن نورها راء ما فاتها من نجوم الليل إذ رمقت ... إلا ثبات يرى فيها وأضواء تسري فلا يشعر الليل البهيم بها ... كأنها في جفون الليل إغفاء وتسمع الطير إذ تهفو قوادمه ... خوافقا في الدياجي وهي صماء تصونها جراوة «1» كأنها درج درر، أو درج غرر، أو كمامة ثمر، أو كنانة نبل، أو غمامة وبل، حالكة الأديم، كأنما رقمت بالشفق حلة ليلها البهيم: [السريع] كأنها في وصفها مشرق ... تنبت منه في الدجى الأنجم أو ديمة قد أطلعت قوسها ... ملونا وانبعثت تسجم فاتخذ كل لها مركزا، وتقاضى من الإصابة وعدا منجزا، وضمن له السعد أن يصبح لمراده محرزا: [السريع] كأنهم في يمن أفعالهم ... في نظر المنصف والجاحد قد ولدوا في طالع واحد ... وأشرقوا من مطلع واحد فسرت لها من الليل علينا من الطير عصابة، أظلتنا من أجنحتها سحابة، من كل طائر أقلع يرتاد مرتعا، فوجد ولكن مصرعا، وأسفّ يبغي ماء جماما، فورد ولكن سما منقعا، وحلق في السماء يبغي ملعبا، فبات هو وأشياعه سجدا للقسي وركعا، فتباركنا بذلك الوجه الجميل، وتداركنا أوائل ذلك القبيل.

فاستقبل أولنا تمّا «1» تمّ بدره، وعظم في نوعه قدره، كأنه برق كرع في غسق، أو صبح عطف على بقية الدجى عطف النسق، تحسبه في ائتلاف المنى غرّة نجح، وتخاله تحت أذيال الدجى طرّة صبح «2» ، وعليه من البياض حلة وقار، وله كرة من عنبر فوق منقار من قار، له عنق ظليم، والتفاتة ريم، وسرى غيم يصرفه نسيم: [المتقارب] كلون المشيب وعصر الشبا ... ب ووقت الوصال ويوم الظفر كأن الدجى غار من لونه ... فأمسك منقاره ثم فر فأرسل عن الهلال نجما، فسقط منه ما كبر بما صغر حجما، فاستبشر بنجاحه، وكبر عند صياحه، وحصله من وسط الماء بجناحه. وتلاه كيّ «3» نقي اللباس، مشتعل شيب الراس، كأنه في عرانين شيبه لا وبله كبير أناس «4» ، إذا سفّ في طيرانه فغمام، وإن خفق بجناحه فقلع له بيد النسيم زمام، ذو غببة «5» كالجراب، ومنقار كالحراب، ولون يغر في الدجى كالنجم، ويخدع في الضحى كالسراب، ظاهر الهرم، كأنما يخبر عن عاد، ويحدث عن إرم: [الكامل] إن عام في زرق الغدير حسبته ... مبيض غيم في أديم سماء

أو طار في أفق السماء ظننته ... في الجو شيخا عائما في ماء متناقض الأوصاف فيه خفة ال ... جهّال تحت رزانة العلماء فثنى إليه الثاني عنان بندقه، وتوخاه فيما بين أصل رأسه وعنقه، فخر كمارد انقض عليه نجم من أفقه، فتلقاه الكبير بالتكبير، واختطفه قبل مصافحة الماء من وجه الغدير. وقارنته إوزة، حلتها دكناء، وحليتها حسناء، لها في الفضاء مجال، وعلى طيرانها خفة ذات التبرج، وخفر ربات الحجال، كأنما غبت في ذهب، أو خاضت في لهب، تختال في مشيها كالكاعب، وتنأى في خطوها كاللاعب، وتعطو بجيدها كالظبي الغرير، وتتدافع في سيرها مشي القطاة إلى الغدير «1» : [الطويل] إذا أقبلت تمشي بخطرة كاعب ... رداح وإن صاحت فصولة خادم وإن أقلعت قالت لها الريح ليت لي ... خفا ذي الخوافي أو قوى ذي القوادم فأنعم بها في البعد زاد مسافر ... وأحسن بها في القرب تحفة قادم فلوى الثالث جيده إليها، وعطف بوجه قوسه عليها، فلجت في ترفعها ممعنة، ثم نزلت على حكمه مذعنة، فأعجلها عن استكمال الهبوط، واستولى عليها بعد استمرار القنوط. وحاذتها لغلغة «2» تحكي لون وشيها، وتصف حسن مشيها، وتربي عليها بغرتها، وتنافسها في المحاسن كضرتها؛ كأنها مدامة قطبت بمائها، أو غمامة شفت عن بعض نجوم سمائها: [السريع]

بغرة بيضاء ميمونة ... تشرق في الليل كبدر التمام وإن تبدت في الضحى خلتها ... في الحلة الدكناء برق الغمام فنهض الرابع لاستقبالها، ورماها عن فلك سعده بنجم وبالها، فجدت في العلو مغذة، وتطاردت أمام بندقه، ولولا طراد الصيد لم تك لذة «1» ؛ وانقض عليها من يده شهاب حتفها، وأدركها الأجل لخفة طيرانها من خلفها، فوقعت من الأفق في كفه، ونفر من في بقايا صفها عن صفه. وأتت في إثرها أنيسة «2» آنسة، كأنها العذراء العانسة، أو الأدماء الكانسة، عليها خفر الأبكار، وخفة ذوات الأوكار، وحلاوة المعاني التي تجلى على الأفكار، ولها أنس الربيب، وإذلال الحبيب، وتلفت الزائر المريب من خوف الرقيب، ذات عنق كالإبريق، أو الغصن الوريق، قد جمع صفرة البهار إلى حمرة الشقيق، وصدر بهي الملبوس، شهيّ إلى النفوس، كأنما رقم فيه النهار بالليل أو نقش فيه العاج بالآبنوس؛ وجناح ينجيها من العطب، يحكي لونه المندل الرطب، لولا أنه حطب: [المتقارب] مدبجة الصدر تفويفه ... أضاف إلى الليل ضوء النهار لها عنق خاله من رآه ... شقائق قد سيجت بالبهار فوثب الخامس منها إلى الغنيمة، ونظم في سلك رميه تلك الدرة اليتيمة، وحصل بتحصيلها بين الرماة على الرتبة الجسيمة. وأتى على صوتها حبرج «3» يسبق همته جناحه، ويغلب خفق قوادمه

صياحه، مدبّج المطا، كأنما خلع حلة منكبيه على القطا، ينظر من لهب ويخطو على رجلين من ذهب: [المتقارب] يزور الرياض ويجفو الحياض ... ويشبه في اللون كدر القطا ويهوى الزروع ويلهو بها ... ولا يرد الماء إلا خطا فبدره السادس قبل ارتفاعه، وأعان قوسه بامتداد باعه، فخر على الألاءة كبسطام بن قيس «1» ، وانقض عليه راميه، فحصله بحذق، وحمله بكيس. وتعذر على السابع مرامه، ونبا به عن بلوغ الأرب مقامه، فصعد هو وترب له إلى جبل، وثبت في موقفه من لم يكن له بمرافقتهما قبل، فعن له نسر ذو قوائم شداد، ومناقير حداد، كأنه من نسور لقمان بن عاد «2» ، تحسبه في السماء ثالث أخويه، وتظنه في الفضاء قبته المنسوبة إليه، قد حلق كالفقراء رأسه، وجعل مما قصر من الدلوق الدكن «3» لباسه، واشتمل من الرياش العسلي إزارا، واختار العزلة فلا تجد له إلا في قنن الجبال الشواهق مزارا، قد شابت نواصي الليالي وهو لم يشب «4» ، ومضت الدهور وهو من الحوادث في معقل أشب: [الطويل] مليك طيور الأرض شرقا ومغربا ... وفي الأفق الأعلى له أخوان له حال فتاك وحلية ناسك ... وإسراع مقدام وفترة وان فدنا من مطاره، وتوخى ببندقه عنقه، فوقع في منقاره، فكأنما هدّ منه

صخرا، أو هدم به بناء مشمخرا «1» . ونظر إلى رفيقه مبشرا له بما امتاز به عن فريقه؛ وإذا به قد أظلته عقاب كاسر، فكأنما أضلت صيدا أفلت من المناسر، أو حطت فسحاب انكشف، وإن أقامت فكأن قلوب الطير رطبا ويابسا، لدى وكرها العناب والحشف، «2» بعيدة ما بين المناكب، إذا أقلعت لجت في علو، كأنما تحاول ثأرا عند بعض الكواكب «3» : [المتقارب] ترى الطير والوحش في كفها ... ومنقارها ذا عظام مزاله فلو أمكن الشمس من خوفها ... إذا طلعت ما تسمت غزاله فوثب إليها وثبة ليث قد وثق من حركاته بنجاحها، ورماها بأول بندقة فما أخطأ قادمة جناحها، فأهوت كعود «4» صرع، أو طود صدع، قد ذهب بأسها، وتذهب بدمها لباسها، وكذلك القدر يخادع الجو عن عقابه، ويستنزل الأعصم من عقابه، فحملها بجناحها المهيض، ورفعها بعد الترفع في أوج جوها من الحضيض، ونزلا إلى الرفقة، جذلين بربح الصفقة. فوجد التاسع قد مر به كركي طويل السفار، سريع النقار، شهي العراق،

كثير الاغتراب، يشتو بمصر ويصيف بالعراق، لقوادمه في الجو هفيف، وأديمه لون السماء طرأ عليها غيم خفيف، تحنّ إلى صوته الجوارح، وتعجب من قوته الرياح البوارح، له أثر حمرة في رأسه كوميض جمر تحت رماد، أو بقية جرح تحت ضماد، أو فص عقيق شقت عنه بقاء ثماد، ذو منقار كسنان، وعنق كعنان، كأنما ينوس على عودين من آبنوس: [السريع] إذا بدا في أفق مقلعا ... والجو كالماء تفاويفه حسبته في لجة مركبا ... رجلاه في الأفق مجاذيفه فصبر له حتى جازه مجليا، وعطف عليه مصليا، فخر مضرجا بدمه، وسقط مشرفا على عدمه؛ وطالما أفلت لدى الكواسر من أظفار المنون، وأصابه القدر بحبة من حمأ مسنون، فكثر التكبير من أجله، وحمله راميه على وجه الأرض برجله. وحاذاه غرنوق «1» حكاه في زيه وقدره، وامتاز عنه بسواد صدره، له ريشتان ممدودتان من رأسه إلى خلفه، معقودتان من أذنه مكان شنفه «2» : [السريع] له من الكركي أوصافه ... سوى سواد الصدر والراس إن شال رجلا وانبرى قائما ... ألفيته هيئة برجاس «3» فأصغى العاشر له منصتا، ورماه ملتفتا، فخر كأنه صريح الألحان، أو نزيف بنت الحان، فأهوى إلى رجله بيده وأيده، وانقض عليه انقضاض الكاسر على صيده. وتبعه من المطار صوغ «4» كأنه من النضار مصوغ، تحسبه عاشقا قد مدّ

صفحته، أو بارقا قد بث لفحته: [السريع] طويلة رجلاه مسودة ... كأن منقاره خنجر مثل عجوز رأسها أشمط ... جاءت وفي رقبتها معجر «1» فاستقبله الحادي عشر ووثب، ورماه حين حاذاه من كثب، فسقط كفارس تقطر عن جواده، أو وامق أصيبت حبة فؤاده، فحمله بساقه، وعدل به إلى رفاقه. وأقرن به مرزم «2» له في السماء سمي معروف، ذو منقار كصدغ معطوف، كأن رياشه فلق اتصل به شفق، أو ماء صاف علق بأطرافه علق: [الهزج] له جسم من الثلج ... على رجلين من نار إذا أقلع ليلا قل ... ت برق في الدجى سار فانتحاه الثاني عشر متمما، ورماه مصمما، فأصابه في زوره، وحصله من فوره، وحصل له من السرور ما خرج به عن طوره. والتحق به شبيطر «3» كأنه مدية مبيطر، ينحط كالسيل، ويكر على الكواسر كالخيل، ويجمع من لونه بين ضدين، يقبل منهما بالنهار ويدبر بالليل، يتلوى في منقاره الأيم تلوي التنين في الغيم: [البسيط] تراه في الجو ممتدا وفي فمه ... من الأفاعي شجاع أرقم ذكر كأنه قوس رام عنقه يدها ... ورأسه رأسها والحية الوتر

فصوب الثالث عشر إليه بندقه، فقطع لحيه وعنقه، فوقع كالصرح الممرد أو الطراف الممدد. وأتبعه عناز «1» أصبح في اللون ضده، وفي الشكل نده، كأنه ليل ضم الصبح إلى صدره، أو انطوى على هالة بدره: [البسيط] تراه في الجو عند الصبح حين بدا ... مسود أجنحة مبيض حيزوم كأسود حبشي عام في نهر ... وضم في صدره طفلا من الروم فنهض تمام القوم إلى التتمة، وأسفرت عن نجاح الجماعة تلك الليلة المدلهمة، وغدا ذلك الطير الواجب واجبا، وكمل به العدد قبل أن تطلع الشمس عينا أو تبرز حاجبا، فيالها ليلة حصرنا بها الصوادح في الفضاء المتسع، ولقيت فيها الطير ما طارت به من قبل على كل شمل مجتمع، وأصبحت أشلاؤها على وجه الأرض كفرائد خانها النظام، أو شرب كأن رقابهم من اللين لم يخلق لهن عظام، وأصبحنا مثنين على مقامنا، منثنين بالظفر إلى مستقرنا ومقامنا، داعين المولى جهدنا، مدّعين له قبلنا أوردّنا، حاملين ما صرعنا إلى بين يديه، عاملين على الشرف بخدمه والانتماء إليه: [الطويل] فأنت الذي لم يلف من لا يودّه ... ويدعو له في السر أو ندّعي له فإن كان رمي أنت توضح طرقه ... وإن كان جيش أنت تحمي رعيله والله تعالى يجعل الآمال منوطة به وقد فعل، ويجعله كهفا للأولياء وقد جعل. ومنه قوله مما كتبه جوابا عمن قيل من ادعى إليه في البندق: ولا زالت قدمة فضله مذهبة الفواتح بالفتوح، منبضة بالنجوم عن قوس عزم،

مذ تشبه به هلال الأفق لم يجسر نسر السماء الطائر أن يلوح، منبئة عن فتكات اهتمام، لا ذو الجناح أمامه بناج، ولا يسلم منه مثار الوحش الجموح، مطرزة حلة الظلام برداء شفق، نشره في الأفق من صوب صابية دم الطير المسفوح، صدرت هذه المكاتبة تتلقى بالقبول وجه قصده الجميل، وتقابل سعد طائره الميمون بواجب الود الجليل، ويثني على عزمه الذي ما برح يسري في بردة اليمن إلى رواتبه كل فخار، ويثني أعنة الثناء إلى هممه التي استخارت التوفيق في الادعاء إلى قديم مجدنا الذي تتشرف به الأقدار، فجاد وتشكر سداد مقصده الذي لا يخفي مواقع إصابته الليل، واشتداد ساعده الذي أسبل الجناح على رجل حامله في الأفق إسبال الذيل، معلمة أن مكاتبته الكريمة وردت منبئة عن طروقه مظان الاسترواح، وسراه إلى مواطن النجح التي يحمد فيها عند الصباح، في رفقة من أولياء دولتنا، ما فيهم إلا من حسبه في الولاء صميم، وحديث مجده في إصابة مواقع الصواب في الخدمة قديم، مرهفا عزمة ما رأى نجوم أهلتها النسر الطائر إلا أصبح كأخيه واقعا، ولا نهضت إلى باسط جناح تهينه في أفق السماء إلا خرّ بين يديه متواضعا، وأن السعد هيأ له مقاما يستنزل فيه عظيم الطير من عواصم الأفق، وتسلك فيه رسل قوسه إلى أرواح ذوات الجناح المحلقة في الفضاء أقرب الطرق، وأنه حين مرّ به من اللغالغ صفّ قد أوثق بعضه القدر، وأوثق أوله بدرة عزمه، والبدر لمن بدر، أرسل أعزه الله عن كبد القوس ابنها فأنت، وخطب إلى نفس تلك العصبة من الطير نفسها فما ضنت، وصرع لغلغة مليحة مليحة، فأصابها في أقوى قوادمها إصابة صحيحة صريحة، فأهوت إلى بين يديه من مكامن مكانها، وحملها القديم الذي أشار إليه رافعا بالقسم بعلي لشأنها فتمنى كل تم «1» لو حصل كما حصلت، وود كل صوغ «1» لو صيغت عيونه في جملة

حليها التي فصلت، وأنه ادعى لنا بهذه النسبة التي تثنت بالقبول أحكامها، وتقضى بانتساج الأواصر حكامها، وقد علم بذلك جميعه، وأفضنا في شكره، وأفضينا إلى غاية الثناء الجميل عند ذكره، وسررنا ببلوغ الوطر وحصول الظفر، وتفاءلنا أنه كذلك ينزل على حكم سيوفنا كل من كفر، وقابلنا ذلك بوجه القبول المبتهج، وأمضينا حكم هذا الانتماء الملتحم والانتساب الممتزج، ومن أولى منه بهذا الفخر الذي انتضمت عقوده، وتقابلت في أفق مجده سعوده؛ فليأخذ حظه من بشرى هذا القبول وبشره، حبرة خبره الذي يتضوع الوجود بنشره، والله تعالى يجعل مطالبه مقرونة بالنجاح، قادمة إليه بأنباء السعود على أوثق قوادم وأثبت جناح. ومنه قوله في النيل: وأجرى الخلق على عوائد كرمه، وأجرى لهم بقدرته من حجب الغيب مواد نعمه، وأعلى لديهم موارد نيلهم، حتى ما كان يشرب معروق ساقه من نيلهم بتناول الماء بفمه، وأمر البحر فأقبل بالفرج القريب من الأمد البعيد، وأذن له في الرفع عن محله، فسجد على الترب شكرا وتيمم الصعيد، وإن لم يبق به الآن على وجه الأرض صعيد، وأقبل بعد تقصير عامه الماضي بوجه عليه حمرة الخجل، وعزم سبق سيفه إلى المحل العذل بالأجل، وحزم أدرك الجدب موجه قبل أن يقول سآوي إلى جبل، واستظهار على كل ما علا من الأرض حتى إن الهرمين باتا منه على وجل، ومهد الأرض التي كانت ترقبه فهوّلها المنظر على الحقيقة، ووطئ بطن الثرى فنتج الخصب بينهما، وذبح المحل في العقيقة، وتجعد على الآكام فخيل للعيون أنها تسيل، وشيب مفارق الثرى ببياض زبده، وعادة بياض الشيب أن يخضب بورق النيل، فيستقبل نعم الله التي سيسم الأرض وسمها،

ويولي النعم وليها، ويأتي بالركاب أتيّها، حتى تغص بالنعم تلك الرحاب، ويظن لعموم ذي البلاد الشامية أن نيل مصر ركب إليها على السحاب. ومنه قوله في مثله: صدرت، ونعم الله قد عمت، وآلاؤه مع تحقق المزيد قد تمت، والسيل قد بلغ في تتبع بقايا القحط الربى، والنيل قد عمّ بنيله حتى كلل مفارق الآكام، وعمم رؤوس الربى، وحمى الأرض من تطرق المحول إليها فأصبحت منه في حرم، وظهرت به عجائب القدرة، ومنها أن ابن ستة عشر بلغ إلى الهرم، وبث جوده في الوجود، فلو صور نفسه لم يزدها على ما فيه من كرم «1» ، وتلقت منه النفوس أبهج محبوب طرد ممقوتا، ووثقت من حمرته بالغنى والمنى، إذ لم يدر أياقوتا يشاهد أم قوتا، وجرى في الوفاء على أكمل ما ألف من عادته، وظهر بإشراقه وعموم نفعه، ظهور الشمس، فألقى على الأرض أشعة سعادته، وبلغ الله به المنافع فزعزع الجبال الشم ولم يتجاسر على الجسور، وأقطع الخصب الأرض كلها، فله كل بقعة مثال مرأى ومنشور منشور، وبعث إلى كل عمل من سراياه جنوده عارضا مغضبا على المحل، ما يخطر إلا وسيفه مشهور، وجرى الأمر في التحليق على عوائد السرور، وعلقت ستارة المقياس لا للإخفاء على عادة الأستار بل للإشاعة والظهور، واستقر حلم المسرة على السنن المعهود، وعاذ الناس به عند مرورهم إذ ذاك برحمة الله يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ «2» وها هو الآن يرفع إلى كل تلعة على جناح النجاح، ويخيف السبل وما عليه حرج، ويقطع الطرق وليس عليه جناح.

ومنه قوله يبشر بركوب السلطان بعد تقطر كان حصل له عن جواده: ولا زال مبشرا من النصر بما يقر عين الهدى، ويكمد قلوب العدى، وينذر أهل الكفر من ركوبنا اليوم بطلائع ركابنا عليهم غدا، ويسر حزب الإيمان من أخبار موكبنا الشريف بيوم كفر الدهر ذنب إساءته بالأمس وافتدى. صدرت تخصه ببشرى عمت بشائرها، وسرت بالمسرات الكاملة بوادرها، وتأرجت الأرجاء، فلولا أمانة الكتب لقيل: تمت بأسرار السرور ضمائرها، وطارت بها محلقات التهاني في الوجود، ووجب بسببها وجوب سجود الشكر على كل مؤمن يتعبد عند تجدد النعمة بفرض السجود، وذلك أنه قد علم ما كان حصل من تأخر ركوبنا هذه الأيام، بسبب ما كان حصل من التقطر الذي كانت عاقبته بحمد الله مأمونة، وكبوة الجواد بحسن المآل فيه ميمونة «1» ، بما ألفنا من عوائد تأييد الله وعونه مضمونة، وكان تأخر الركوب في تلك المدة اللطيفة لموافقة آراء الحكماء في خدمة المزاج، وملاطفة العلاج، وقد منّ الله سبحانه وتعالى في كمال الصحة، وشمول العافية، وزوال البأس وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها «2» ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس، وسطرناها مبشرة بركوبنا الذي خضعت له أعناق الكفر والشقاق، وسارت به ركائب البشائر ونجائب التهاني في الآفاق، وضاقت به فجاج الأرض بأولياء الطاعة، فلولا سلوكهم آداب الخدمة في الترجل بين أيدينا زلزل ركض خيلهم بمصر أطراف العراق، فكان ركوبنا في موكبنا المنصور يوم كذا، وكان يوما مشهودا، ووقتا من مواسم الزمن معدودا، ربت فيه النعم على الحصر، ورفل به الدين في حلل التأييد والنصر، وسرى إلى أرواح العدى رعبه، وعزّ به في كل أفق دين الإسلام وحزبه، وتحقق به

العدو الذي أملى له أن حركته حركة الذبيح، وجمعه الذي ألفه الشيطان بغروره للتكسير لا للتصحيح، وتضاعف شوقه إلى الجناب العالي في ذلك الموكب الذي أخذ فيه الأولياء من المسرة بأوفى القسم وأوفر النعم، ورفلوا فيه في مطارف الحبور، واتخذوه بينهم عيدا سموه عيد السرور، وقد عجلنا بإعلامه بذلك لعلمنا بمحبته الصادقة، وموالاته التي هي بمحض الصفاء ناطقة، ولأنّا نعلم مضاعفة سروره بها، وأدائه نذور الشكر بسببها، فليسر الأولياء بإشاعتها، وتتقدم بضرب البشائر في وقتها وساعتها؛ والله تعالى يضاعف إقباله، ويبلغه من النعم أمنيته وآماله. ومنه قوله في تقليد لنائب البيرة «1» بالاستمرار: وعلم العدو أنه الندب الذي كثرت في سبيل الله أيامه، وما قصده العدو إلا وتمنى الذهاب، وحث للهرب الركاب، وقنع من الغنيمة بالإياب، وولى جمعهم الأدبار، ولم يعد إلى أهلهم سوى الأخبار، وما أقدموا عليه إلا وقد جعل الرعب من بين أيديهم سدا، ومن خلفهم سدا، فهم لا يبصرون، وما قاتلوه بعد ما قابلوه إلا أن الله طمس على قلوبهم، وإخوانهم يمدونهم في الغيّ ثم لا يقصرون، وكم أرسلوا في أيامه إلى الثغر السوابق، فضرب بينهم بسور، وطارت إليهم من كنانة بأسه حمام الحمام بأجنحة النسور، وسرت سراياه في بلاد العدو فسبقها الرعب إليهم، وأحاط النهب بما لديهم، واستولى عليهم الذعر حتى صاروا يحسبون كل صيحة عليهم، واطلع على خفايا أحوالهم، فما أجمعوا أمرا إلا وعلموا به إذ يأتمرون، ولا مكروا مكرا إلا أظهره الله عليهم، والله أعلم بما يمكرون. وكان فلان هو الذي ما شام معه العدو بارقة ثغر إلا وأمطرتهم «2» من الوبال

بوابل، وأوقعهم من النكال في كفة حابل، فاقتضت الآراء الشريفة أن يزداد أمره تمكنا، وقدره تحليا بالنعمة وتزينا، وسره استقرارا بعلو رتبته وتوطنا، وثغره تحسبا، بما افترّ من النعمة وتحصنا، ولذلك رسم بالأمر الشريف، لا زالت الثغور بمهابته تبتسم، والجنود تتحكم بسطواته في ذخائر العدى وتقتسم، أن نجدد له هذا التقليد الشريف باستمراره في النيابة بالبيرة على أجمل عوائده، وأكمل قواعده، لنهوضه في مصالح الإسلام والمسلمين بما أحصى الله ونسوه، وإجراء عليه بما ألفه سلفنا الطاهر من رشد كفايته وأنسوه، ولأنهم غرسوه في هذا الثغر لتنتمي به المصالح، ويتعين أن يتعاهد بالإحسان سقيا ما غرسوه؛ فليتلق هذه النعمة بباع الشكر المديد، ويبرق بعلو الهمة إلى المزيد من فضل الله عليه، فإن لديه المزيد، ويجرد على من جاوره من العدى سيف عزمه، فإن نصر الله بأسيافنا أقرب إليه من حبل الوريد، ويجعل سراياه طلائع جيوشنا المنصورة، فإنها قد تكون بأقصى الممالك، وما هي من الظالمين ببعيد، ويكون متيقظا للعدو في حال سكونه، فإنه قد يتحامل الجريح ويتحرك الذبيح، والحازم من تراه في الأمن في درعه «1» ، فلا تبدو ليلة إلا وهو لها متيقظ في العدو وإن غفل، مشمّرا له عن ساق العزم وإن أسبل ملابس غروره ورفل، فإنه إذا فعل ذلك لم يلحقه ندم ولا لوم، والخاسر من جلبت عليه تعب سنة راحة يوم، وليكن وله من الكثافة في كل فريق فرقة ناجية، ومن القصاد بكل طريق عصبة بأسرار القلوب مناجية، ليعلم ما يأتي وما يذر، وإذا لم يأت بعدوه حراك فما يضر مع الأمين مبيته على حذر، وليضم الأطراف التي يطمع العدو بها في فرصة يختلسها أو دنية يفترسها، وليتعاهد منه رجال الثغر بالإحسان الذي يؤكد طاعتهم، ويجرد قوتهم في

الجهاد واستطاعتهم، فإنهم رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وتقربوا بالجهاد في سبيله إليه، ولا يدع بالثغر مملوكا نصرانيا، فإنه يطلع على الأسرار، ويتطلع إلى الكفار، ولعبد مؤمن خير من مشرك، أولئك يدعون إلى النار. ومنه قوله: وينهي أنه أرسل طيها قصيدة تنوب عن حضوره، وتعتذر لقصوره، وتنبئ عن مساهمة خاطره لخاطره الكريم في مساءته وسروره: [الطويل] ومن سر أهل الأرض ثم بكى أسى ... بكى بعيون سرّها وقلوب ولما سام المملوك قلمه السعي في ذلك، مال إلى النفور، وجنح وقال: ما عادتي أن أسعى إلى هذا الجناب الشريف إلا في التهاني والمدح؛ فقال له المملوك: إن مساء تلك المساءة أوجب أجرا، واستقبل من المساء فجرا؛ فكتب ما يقف الخاطر الشريف على مضمونه، ويتحقق به أن لمضمار حقه مدى تقف جياد القرائح من دونه. ومن قوله: يقبل الأرض رافعا مجاب الدعاء، فاسحا مجال الولاء، ناشرا على أعطاف الطروس حلل الثناء، مبشرا نفسه والمسلمين، بما منّ الله به من قدوم مولانا تحت ألوية الظفر والنصر، محبوا بيمن العزمات التي قسمت أعداء الله وبلادهم بين الحصد والحصر، متوسلا إلى الله تعالى أن يجعل عزماته المرهفة في سبيل الله، حيث سلكت ملكت، وسيوفه المجردة على أعداء الله، أين سفرت من الغمود سفكت. ومنه قوله من توقيع حسبة: وبعد، فإن أولى ما أنعم فيه نظر الاختيار، وأمعن فيه تدبر الارتياد

والاعتبار، أمر تعم الأمة منافعه، وتتم به بركات الرزق الذي تدر بالتقوى منابعه، ويزال به الغش عن الأمة في الملابس والمطاعم، ويذاد به البخس في المكيال والميزان اللذين هما من أظهر المضار وأخفى المظالم، وتراعى به الهيئات الدالة على إتمام المروءة وإكمالها، وتدحض به النقائص التي تنتقد على أرباب المكانات في أقوالها وأعمالها؛ ولما كانت الحسبة هي الأمر الذي اشترك عموم نفعه، والمعنى الذي نبه على حصول الاضطرار إليه في إباحة الشيء ومنعه، والسبب الذي يحسم به مواد الأذى في التعرض إلى البيوع الفاسدة، والإقدام على مزج الأقوات النافقة بالكاسدة، والتحرز من الغش في الأشياء التي لا يترك صانعها هو وأمانته، ولا يقنع منها بسوى اليقين، وإن غلبت على واضعها عفته وصيانته، فإن البلوى بها قد تعم، والحزم بها في ترك التقليد؛ وإذا كانت الأفراد لا تظهر مع الهيئة الاجتماعية، فبين من يتحراها بالمباشرة، وبين من يتلقاها بالقبول، بون بعيد؛ فلذلك يتعين أن يكون مباشرها ممن هدته العلوم الدينية إلى ما يعتمد من مصالح لا يخرج فيها عن حكمها، وحدته القواعد الشرعية إلى ما يستند إليه فيها من عوائد لا يعدل بها عن وسمها الشريف ورسمها. وكان فلان هو معنى هذه الألفاظ المجملة، وسرّ هذه المقاصد التي كان يحتاج إيضاحها من ذكره إلى التكملة، وبتجاربه للفضائل قوة في الحق لا تستفزها الرقى، واستقامة في الإنصاف لا تميلها الأهواء عن سنن التقى؛ ورسم بالأمر الشريف أن يفوض إليه نظر الحسبة الشريفة، تفويضا يمضي حكمه في مصالحها، ويجمل نظره في داني الأمور ونازحها؛ فليفعل في ذلك ما تقتضيه هذه الرتبة من منع احتكار، وقطع أسعار، وتفقد ما يصنع من منسوج ومرقوم ومشروب ومطعوم ومجلوب ومخزون ومكيل وموزون ومعدود ومذروع وباق على هيئته ومصنوع، ويجعل لذلك حدا في الجودة معلوما، وقدرا في القيمة

مفهوما، ووصفا في العلو والدنو والتوسط بينهما مرسوما. ومنه قوله توقيع خطابة: وبعد، فإن صهوات المنابر لا تستقل بكل راكب، ولا تستقر إلا تحت كل فارس يزاحم شرف علمه الكواكب بالمناكب، ولا تذعن إلا لمن إذا امتطى أعوادها أطال في المعنى وأطاب، وإذا قال: أما بعد لم تختلف الآراء في أنه دل على الحكمة بفصل الخطاب، وإذا ذكر بأمر الله أصحب كل قلب جامح، وغض كل طرف طامح، ورد كل عبد عن طاعة ربه نازح، وأصغى من صغى منه إلى قول مشفق في الله صالح، وخرجت الموعظة منه على لسان صادق فلم تعد حبات القلوب، وتتبع كلامه أدواء الضمائر فشفاها، ولا داء أوجع من الذنوب، ووثقت النفوس في أنه قول إمام عصره فتلقته بالتسليم، وجلست العلماء تحته للاقتداء بفوائده، فكان على الحقيقة فوق كل ذي علم عليم؛ وأحق المنابر بارتياد من يصلح لاقتعاد غاربها، وأولاها بالصدود عمن برز في صورة خاطبها، ما كان من أعظمها رفعة، وأكرمها بقعة، وأفخمها جماعة وجمعة، وأقدمها شهرة في الآفاق وسمعة، وأعجبها بناء وأنباء، وأحملها عن أئمة الأمة أثقالا وأعباء، وأكثرها زجلا بالتلاوة والأذكار، وأعمرها بالقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار؛ ولما كان المسجد الجامع بدمشق المحروسة هو الذي زاحم الأرض المقدسة بمنكبيه، فلو كان للمساجد الثلاثة رابع لشدت إليه الرحال، وتحقق بالرفعة التي لا تسامى أن نور المشكاة تشرق من أرجائه فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ* رِجالٌ «1» تعين أن نختار لها من هو رجل المنابر، وبطل المحابر، وهو فلان الذي شفت مواعظه القلوب وأثمرت بالتقى، واستلت سخائم الصدور، واستقرت من المصلي على النقا،

ورسم بالأمر الشريف أن يفوض إليه الإمامة بالمسجد الجامع بدمشق المحروسة، والخطابة بمنبره الكريم، عملا بالأولى في التقديم، واحتياطا للإمامة التي هي أثبت دعائم الدين القويم، فليحل هذه الرتبة التي لم تقرب لغيره جيادها، وليحل هذه العقيلة التي لا تزان بسوى العلم والعمل أجيادها، ويرق هذه الهضبة التي يطول إلا على مثله صعودها، ويلق تلك العصبة التي تجتمع للاقتداء به حشودها؛ ويعلم أنه في موقف الإبلاغ عن الله تعالى لعباده، والإنذار بما ورد عن الله ورسوله على مراد الله ورسوله لا مراده؛ وتحت منبره من الأعيان من إن تلقّ غيره القول بتقليده تلقاه بانتقائه وانتقاده؛ فيعتصم بالله في قوله وفعله، ويتيقن أن الكلمة إذا خرجت من القلب لا تقع إلا في مثله، وليجعل خطبة كل وقت مناسبة لأحوال مستمعيها، متناسبة في وضوح المقاصد بين إدراك من يعي غوامض الكلام ومن لا يعيها، وليوشح خطبته بالدعاء لإمام عصره، ومالك أمصار الإسلام مع مصره، وللأمة بعموم تخصيصه وحصره، وهو يعلم أنه يكون في المحراب مناجيا لربه، واقفا بين يدي من يحول بين المرء وقلبه، فليلجأ إلى الله تعالى في الإعانة بالإخلاص على هول مقامه، ويسأله التثبيت بالعصمة في مستقره ومقامه، وليراع من وراءه من أهل التكليف، وتكثّر جماعتهم بتجنب ما نهى النبي صلى الله عليه وسلم معاذا من ترك التخفيف، ولينظر في عموم استطاعتهم دون خصوصها؛ فإن فيهم العاجز وذا الحاجة والضعيف، وليحافظ على فروض الكفايات الوازعة، والسنن التي ينادى لها: الصلاة جامعة، وليغرس في كل قلب حبه، ليقوموا إلى الائتمام به وهم فارهون، وليعمل في البداة في ذلك بصلاح نفسه، فقد جعل صلى الله عليه وسلم ممن لا تجاوز صلاتهم آذانهم من أم قوما وهم له كارهون. وله مما كتبه على قصيدة:

فليس فيها بيت دخل في شفاعة أخيه، ولا معنى يثبت على غير قواعد الصحة أواخيه، ولا كلمة يصلح في مكانها سواها، ولا قافية أوهى السناد ركنها أو أضعف الإقواء قواها، وكل بيت منها بيت قصيد يعقد بالخناصر عليه، أو سلك فريد يشار ببنان البيان إليه، أو مقر معنى رئيس تجلس نفائس المعاني بين يديه. * وأما نظمه، فمنه: [البسيط] هذا ولم يبق لي في لذة أرب ... إلا اجتماعي بأصحابي وألزامي وأين هم خلفوني مفردا ونأوا ... فبت أسهر أجفاني لنوّام وأين نيل مرامي من لقائهم ... ضاق الزمان وهيّا سهمه الرامي ومنه قوله: [الكامل] ملك يوطد ركنه من ملحد ... أو معند بجداله وجلاده ألف الوقائع والسرى دون الكرى ... فقصور لذته ظهور جياده يروي لسان سنانه في حربه ... خبر المدرّع عن صميم فؤاده متيقظ العزمات يعجل بأسه ... جيش العدو بها عن استعداده ومنه قوله: [البسيط] بانوا بقلبي وقلبي سار يتبعه ... فلست أطمع منهم في خيال كرى ويح المحب الذي سارت أحبته ... عنه ولم يقض من توديعهم وطرا وخلفوه يناجي الركب بعدهم ... فلا يبلّغه عن ركبهم خبرا بانوا فصوّح نبت الروض بعدهم ... هذا وقد غادروا دمعي به غدرا ومنه قوله يعزي ببنت: [الطويل]

وكم أوجه قد غبن في ظلمة الثرى ... ولم يرها في ظلمة الليل كوكب ولا كالتي في المجد خالات أمها ... رقية بنت الهاشمي وزينب ومنه قوله «1» : [المتقارب] رأتني وقد نال مني النحول ... وفاضت دموعي على الخد فيضا وقالت: بعينيّ هذا السقام ... فقلت: صدقت وبالخصر أيضا ومن قوله: [الكامل] ورأيته في الماء يسبح مرة ... والشعر قد رفت عليه ظلاله فظننت أن البدر قابل وجهه ... وجه الغدير فلاح فيه خياله ومنه قوله «2» : [السريع] وسرت به في البحر جارية ... سوداء يسبق سيرها الشهبا لو أن حكم البحر طوع يدي ... لأخذت كل سفينة غصبا ومنه قوله: [الطويل] أقول له والغصن يشبه قده ... أداعبه والظبي يحسب إياه: أفيك سوى ذا الوجه تسبي به الورى؟ ... فقال: وهل في البدر إلا محياه ومنه قوله «3» : [الطويل] مضوا فاسترد الدهر أنسي الذي مضى ... كأن له عندي بقربهم قرضا وبانوا فآلى البان لا مال بعدهم ... ولا عانقت أغصانه بعضه بعضا

ومنه قوله: [السريع] هنّئت بالطفل الذي استرجعت ... به العلى ما ضاع من دينها تكاد تخفى الشمس إن قابلت ... طلعته خوفا على عينها ومنه قوله: [الرمل] دع فؤادي والصبا إن الصبا ... عالجت سكر فؤادي فصحا وأعد لي ذكر من حل الحمى ... فعسى يرجع قلب نزحا يا أخلائي ومن حسّن لي ... كلفي فهو الذي قد نصحا أرشدوني هل قضى حق الهوى ... من ببذل الروح فيه سمحا ومنه قوله يرثى شيخه مجد الدين بن الظهير: [الطويل] بكته معاليه ولم ير قبله ... كريم مضى والمهلكات نوادبه ولا غرو أن تبكي المعالي بشجوها ... على المجد إذ أودى وهن صواحبه أما والذي أرسى ثبيرا وحلمه ... لقد طاش حلمي يوم زمّت ركائبه وقفنا وقد جد الوداع عشية ... فممسك دمع يوم ذاك وساكبه أنودع نفس المجد بيتا مصرعا ... طويلا على زواره متقاربه ظننت بأني مخلص في وداده ... وأخطأ وهمي، أسوأ الظن كاذبه رجعت وأمسى الجود يصحب نفسه ... إلى رمسه فالجود- لا أنا- صاحبه ومنه قوله «1» : [الكامل] قل لي عن الحمّام كيف دخلتها ... يا صاحبي لتسر خلا مشفقا أدخلتها وأولئك الأقوام قد ... شدوا المآزر فوق كثبان النقا؟

ومنه قوله يصف قناة احتفرت وأنبط ماؤها لقرية المعيصرة: [البسيط] أعرتها نظرة غراء لو لمحت ... سحائب الصيف لانهلت غواديها فأصبحت مثل ظهر الأرض باطنها ... نورا كأن الثريا ركبت فيها يكاد يقطعها الساري على فرس ... ركضا وليس تدانيه أعاليها تبدو على الترب من بطن الثرى فترى ... تقبل الأرض إجلالا لمنشيها ومنه قوله: [المتقارب] إذا دغدغتني أيدي النسيم ... فملت وعندي بعض الكسل فسل كيف حال قدود الملاح ... وعن حال سمر القنا لا تسل ومنه قوله يمدح المنصور لاجين أيام نيابته بالشام، ويذكر إحراقه نصرانيا تعرض إلى مسلمة في رمضان: [الكامل] يا من به وبرأيه وروائه ... بلغ المراد الدين من أعدائه يا كافل الإسلام قبلك لم يقم ... هذا المقام سواك من كفلائه أرسلتها بالعدل أحسن سيرة ... بك يقتدي من كان من أكفائه وغضبت للإسلام غضبة ثائر ... لله غير مشارك في رأيه وحميت سرح الدين من متخلس ... رجس يسن الغدر في استخفافه أخفى سراه للحريم ومادرى ... أن الإله وأنت من رقبائه جمع الخيانة والخنا في الأرض وال ... إشراك بالرحمن فوق سمائه فأمرت أمرا جازما بحريقه ... ورأيت أن القتل دون جزائه طهرت من دمه الثرى وقذفته ... في النار إذ هي منتهى نظرائه ورفعت قدر السيف عنه وإنه ... ليجل عن تنجيسه بدمائه أرعبت أهل الشرك منه فكلهم ... يلقى خيالك واقفا بإزائه

وسلبتهم طيب الحياة فمن غفا ... ألفى دبيب النار في أعضائه أو لو تخيل في المقام بحرمة ... خشي الحريق ومات في أعقابه يا داعي الإسلام صنت السرب أن ... تدنو كلاب الشرك من ضعفائه ما غرت إلا للإله وخلقه ... من فتك شر عبيده بإمائه واستشهد الشهر الشريف فإنه ... يثني بما أبديت في أثنائه عظمت حرمته وأهلكت الذي ... لم يرع حق الله في آنائه فاسلم لهذا الدين تحرس سربه ... وتغص جفن الشرك منك بمائه فاشكر إلهك بالذي ألهمته ... فيما فعلت يزدك من نعمائه ومنه قوله يهنئ بإبلال من مرض: [مجزوء الكامل] صحت بصحتك الأماني ... وضفت بها حلل التهاني وجرى شفاؤك والسرو ... ر كما جرى فرسا رهان برء أتى وضنى مضى ... فهما علينا نعمتان ولكل يوم سجدة ... للشكر لا بل سجدتان ومنه قوله في وداع الحجرة الشريفة، على ساكنها أفضل الصلاة والسلام: [الكامل] يا سيد الثقلين دعوة من أتى ... يسعى إليك ولو على الأجفان فارقت ربعك أولا لأداء ما ... كتب الإله علي في القرآن ورجعت أضحك للتواصل مرة ... أخرى وأبكي للفراق الثاني ومنه قوله وقد أشرف على مكة المعظمة: [الطويل] أقول لصحبي والفيافي كأنها ... صحائف خطت بالمطي سطورها دعوا طيّ عرض البيد بالسير والسرى ... فهذا حمى ليلى وهاتيك دورها

ومنه قوله: [الرمل] قاتل الله رفيقا بالحمى ... أنفد الأدمع واستبقى الغراما غار من برق الثنايا فسقى ... وجنة الصب ولم يسق البشاما وكئيب في الحمى تحسبه ... ظله الناحل وجدا وسقاما يرقب الأرواح إن هبت صبا ... علّها أن تبلغ الحيّ السلاما ومنه قوله: [الطويل] كأني بكم والبيد تطوى لديكم ... وقد فزتم دون المتيم باللقا وقد عبرت عن وجدكم عبراتكم ... إذ الدمع منك ثم أفصح منطقا ومنه قوله: [الطويل] سلوا الركب هل مروا بجرعاء مالك ... وهل عاينوا قلبا تركت هنالك وأحسبه ما بين سلع إلى قبا ... أقام وإلا فهو ما بين ذلك ومنه قوله: [الطويل] إذا البرق من تلقاء كاظمة عنا ... أذاب الحشا منّا وذاد الكرى عنا حسبناه إيماض الثغور على النقا ... وليس به لكنه قارب المعنى متى قال حادينا رويدا فبينكم ... وبين الحمى مقدار يومين أو أدنى وهبنا له شطر الحياة فإن أبى ... ولم يرضه ما قد وهبنا له زدنا ومنه قوله: [الخفيف] هل لحي إلى اللقاء سبيل ... وجيوش الفناء فينا تجول أو يلذ المقام ثاو بدار ... ليس يدري متى يكون الرحيل مزمع للمسير عنها ولا زا ... د وإن كان فهو نزر قليل

شغّلته وفرّغت من لهاها ... يده فهو فارغ مشغول ومنه قوله: [مجزوء الكامل] ولي الدجى وكأنكم ... بسنا الصباح وقد تنفس وغدا رداء دجى تدث ... ر بالكواكب وهو أطلس علق الظلام بذيله ... فكأنه ثوب مقندس والشمس تبدو في المور ... رد أولا ثم المورّس كالخود تجلى في الثيا ... ب تظل تخلعها وتلبس ومنه قوله: [البسيط] تبدي السماء لنا معنى الحمى بسنا ... ناء قريب سفور الوجه محتجب إذا ظمئنا توهمنا مجرتها ... نهرا طفت فيه أكواب من الشهب كأنها روضة حفت أزاهرها ... بجدول من نمير الماء ذي شعب أو حلة من بديع الوشي معلمة ... بالنور معقودة الأزرار من ذهب ومنه قوله: [الطويل] عسى وقفة بالركب يا حادي الركب ... لأسأل ما بين المحامل عن قلبي فعهدي به لما استقلت ركابكم ... وقد قال للساري إلى طيبة سربي «1» وقد تقعد الأقدار من قل حظه ... على أنه وافي الهوى واقر الحب ولكنني لم أتهم في تأخري ... على كثرة الأسباب شيئا سوى ذنبي ومنه قوله «2» : [الطويل]

أسرّوا إلى ليلى سراهم فما انجلا ... وبات كطرفي نجمه وهو حيران كلانا غريق في الدموع وفي الدجى ... كأن دموع العين والليل طوفان «1» ومنه قوله «2» : [الطويل] كأن الدراري والنجوم ودارة ... حوته وقد زان الثريا التئامها حباب طفا من حول زورق فضة ... بكف فتاة طاف بالراح جامها كأن سهيلا والنجوم وراءه ... صفوف صلاة قام فيها إمامها ومنه قوله في الرثاء: [الطويل] أبحر الندى طود المعالي وإنه ... ليغني عن التصريح باسمك من يكني حللت برغمي في الرغام وإنه ... لمن تحته يبلي ومن فوقه يضني أمر على مغناه كي يذهب الأسى ... كعادته الأولى فيغري ولا يغني وأقسم أن الفضل مات لموته ... ويخطر في ذهني أخوه فأستثني ومنه قوله: [الطويل] شربت بكأس ما رآها أخو أسى ... ولا ذاقها قبلي محب ولا بعدي فكرر بسمعي ذكر سفح طويلع ... وبان المصلى منعما واحد لي وحدي ومنه قوله: [الكامل] بانوا وخلفني الأسى في ربعهم ... أبكي الطلول مصرحا ومعرضا ولو استطعت فراقها لتبعتهم ... فزمامها بيدي وما ضاق الفضا ومنه قوله وهو من باب المغايرة: [الكامل]

ولقد ذكرتك والفوارس نحونا ... تترى فمدرع وآخر حاسر فنسيت حبك عند ذاك مخافة ... ووددت أني في الهزيمة طائر ومنه قوله: [البسيط] من حاتم عنده واطرح [به] فبه ... في الجود لا بسواه يضرب المثل «1» أين الذي بره الآلاف يتبعها ... كرائم الخيل ممن بره الإبل لو مثّل الجود سرحا قال حاتمه: ... لا ناقة لي في هذا ولا جمل ومنه قوله: [البسيط] يا راكب الناقة الوجناء مشتملا ... ثوب الظلام كنجم لاح في أفق يؤم قبل ازدحام الركب طيبة كي ... يطفي الجوى أو يروي غلة الحرق كن لي رفيقا لأسعى نحوها عجلا ... إما على صحن خدي أو على حدقي عساك تحيي بما توليه من كرم ... روحي وتدرك ما تلقاه من رمقي وإن أتيت فقل: خلفت مرتهنا ... بالشوق يأتيك إن طال المدى وبقي ومنه قوله: [المتقارب] بلغت مرادي ونلت المنى ... وزاد سروري وزال العنا فماذا الذي أرتجي بعد ذا ... وهذا الرسول وهذا أنا فبشراك بشراك يا ناظري ... تملّى وإياك أن تغبنا فحيث التفت رأيت الرسول ... وآثاره من هنا أو هنا تملّى فهذا مكان الحبيب ... وهذا التواصل قد أمكنا وخل الدموع إلى وقتها ... وإن حسن الدمع عند الهنا

25 - ومنهم: علي بن محمد بن سلمان بن حمائل، الشيخ الإمام، جمال الدول، علاء الدين، أبو الحسن

وختمت ذكر شيخي رحمه الله بهذه الأبيات، المتضمنة للمديح الشريف، لنختم بالصالحات عمله؛ وإني لأؤمل أن يحسن به في دار الكرامة نزله، وأن لا يخيب في الله وفي رسوله صلى الله عليه وسلم أمله خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ «1» 25- ومنهم: عليّ بن محمد بن سلمان بن حمائل، الشيخ الإمام، جمال الدول، علاء الدين، أبو الحسن «2» * أهل هذا البيت بجدّتهم للأم «3» ، من بيت صلاح ما فيه شبهة لمن يذم، وكتب الإنشاء منهم جماعة، وتلقوا بالفطرة سر هذه الصناعة، فنفذوا لسلطان البراعة، ونفثوا سحر البيان في عقد اليراعة، وكان هذا الرجل نسيج وحده في العوارف الحسان، ونسيب جده- أعني غانما- غانما للإحسان، مع ملابسته للدول في أمورها، وممارسته لها في أحوال حزنها وسرورها، إلا أنه كان يحجزه دينه، ويحجبه يقينه، وكان أقوم أهل بيته برئاسة لاكبر فيها، ورياضة لا كدر لصافيها، ومروءة كانت تلذ له ولو أدت إلى الخطر، وأبدت الأهوال دون الوطر،

ووقع على القصص فأولى مننا، وأجرى الله به الخيرات زمنا، ولم يقصد إلا وجه الله بفعله، ولا أسدى المعروف إلا لأهله، ثم مات غالب من جرى لهم به ذلك المعروف، وبقي في بقاياهم، وحصل به الملوك الذين كتب عنهم الآخرة ببعض دنياهم؛ ولم يكن أسرع منه إلى أداء حق واجب، ولا أدعى لصحبة صاحب، ولا أسبق إلى عيادة مريض، وتشييع جنازة، وتنويع كرامة وغزارة، مع ملازمة الصلاة في الجماعة، وتعهد للمسجد لو قدر لما غاب عنه ساعة، ومداومة تلاوة لا يفتر من تردادها، وصلوات لا يخل بأورادها؛ هذا وبابه مفتوح، وسحابه ممنوع، وتجشّمه مع جلسائه مطروح وتجهّمه بالنّسبة إلى غيره خفّة روح، لبشاشة وجه تروي غلة الصادي، وسعة صدر تفيض على رحاب النادي، وسرعة إجابة تعاجل صوت المنادي، مع يد في هذا الشأن لا يخونها بنانها، بل يزينها بيانها. * ومن نثره ما تتعب القرائح في أثره، قوله يصف قلعة «1» : ذات أودية ومحاجر، لا تراها العيون لبعد مرماها إلا شزرا، ولا ينظر ساكنها العدد الكثير إلا نزرا، ولا يظن ناظرها إلا أنها طالعة بين النجوم بما لها من الأبراج، ولها من الفرات خندق يحفها كالبحر المحيط، إلا أن هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج، ولها واد لا يقي لفحة الرمضاء «2» ولا حرّ الهواجر، وقد توعرت مسالكه، ولا يداس فيه إلا على المحاجر، يتفاوت ما بين مرآه العلي وقراره العميق، ويقتحم راكبه الهول في هبوطه، وكأنما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ » ومنه قوله، ولقد أحسن في وصف القلم، فقال:

القلم الذي كم أعان من هو قارئ للحروف، ومن هو لصنوف الضيوف قاري، وهو الراكع الساجد في ملازمة الخمس طاعة للباري، شق لسانه فنطق، وأنار صباحه وعليه جلابيب الغسق، ثم خضع له السيف، وزاره معنى تخيله لما مد، وهكذا في الظلام زور الطيف، ولم يزل يعظم ويتسوّد، ويحكي الرمح فيتخطر، والغصن فيتأود، ويقيم فلا يقتات، ويسافر فيتزود. ومنه قوله: فسارعوا إلى إنجاد من نازله العدو من إخوانكم المسلمين وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ «1» وامضوا عليهم بقدمكم وإقدامكم، وانصروا الله بجهادكم واجتهادكم، فإنكم إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ «2» وكتاب الله أولى ما عمل به العاملون، قال الله تعالى: انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ «3» . ومنه قوله: قد تجردوا عن العلائق، واشتغلوا بخدمة المخلوق «4» عن الخلائق، وبرئوا من التكلف، وزهدوا في عرض الدنيا، فهم من الذين تعرفهم بسيماهم ويَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ «5»

ومنه قوله يصف الكرة: وانتهى إلى حديث الرغبة في تلك اللعبة، وهي الجارية التي لم تزل بالضرب دانية شاسعة، مبتذلة من الطراد والإبعاد، دائرة في أرض الله الواسعة، فلم تزل أيدي الأيّدين، وحملات المؤيدين، خافضة لها رافعة، تالية في مجال القتال إلى النجم، فإذا وقعت الأرض تلا لها: إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ «1» ، من الشجر الأخضر كونها، وإذا سأل عنها سائل، قيل صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها «2» ، لا تزال الفوارس إليها كالجهاد بالجياد تتعادى، وعليها مع المرافقة والمصادقة بالتنافس تتعادى، تشبه الهامة الملقاة بين أرجل الجياد في الحرب، ولا تزال هاربة من طالبيها لكثرة ما يقع فيها من الضرب، تنفر من الأبطال نفور حمر مستنفرة فرت من قسورة «3» ، وتتواثب عليها الرجال تواثب الليوث الضاربة الضارية، فكم لهم من الكرّة على تلك الكرة. ومنه قوله في توقيع رجل يعرف بالجمال إبراهيم: فليعمل بتقوى الله في هذه الأعمال، آتيا فيها من حسن التأني كل ما يليق أن تشاهده العيون من الجمال، وهو أدرى بما يعتمده، إذ هو الصدر الذي كل أحد بعلمه عليم، والرئيس الذي لا يخفى بين الرؤساء، وهل يخفى مقام إبراهيم؟ ومنه قوله من كتاب كتبه: يقبل اليد، لا زالت بمننها مواسية، ولكلوم القلوب بطب كلامها آسية،

ولعهود محبيها على ممر الأيام، وإن نسيها من نسيها،: غير ناسية، وينهي ورود الكتاب الكريم، فتسلى عن كل من حجبه النوى، وتملى بنضارته ومحاسنه عن وجه بالجفاء قد جف، وعصر بالذم قد ذوى، وعلم الإشارة العالية إلى أمر الحبيب النازح، والذي جد في الصد وكان غير مازح، وإنه استدل من كلام المملوك على شدة موجدته لبعده، وعدم صبره عن استجلاء وجهه، واعتناق قده، ودعا بعودة ذلك الغائب قبل أن يذوي عوده، ورجوعه قبل أن تنطفئ بطلوع الذقن سعوده، وقد تحقق تفضله، وهو نعم من أمّه الشاكى وأمّله «1» : [الطويل] ولا بد من شكوى إلى ذي مروءة ... يواسيك أو يسليك أو يتوجع ومنه قوله في كتاب إلى قاضي القضاة إمام الدين القزويني «2» : أدام الله الأنس بقرب الجناب العالي القضائي الإمامي، وجعله للمتقين إماما، ورأيه للصواب زماما، ولقّاه بمنّه حيث يحل تحية وسلاما؛ ورد المشرف الكريم الذي تلقاه بقلبه قبل يده، وحل منه بمحل روحه من جسده، وناظره من أسوده، وسر بما تضمنه من أخبار قربه، وبما دل عليه من فنون فضله الذي المملوك منه على بينه من ربه، ويحقق الإشارة الكريمة في تعويض قضاء القضاة إلى نظره الكريم، وحصول التعويل في ذلك على مقامه الذي يتشرف به كل عظيم، ولقد نال هذا المنصب من جلالة قدره ما سر به واغتبط، وتحقق بمصيره إليه أنه على الخبير به سقط، ووصل التقليد الشريف، وقبل وقوبل بالامتثال، وحصل السرور به وعم، وكمل به هناء القلوب وتم، وعرض له من الارتياح إلى لقائه، ما سلبه القرار، وعظم به الشوق عنده أعظم ما يكون، إذا دنت الديار من

الديار «1» ، ولولا ما يعلمه من التصدي لمهمات الإسلام، لما نابت في قصد لقائه الأقلام؛ والله تعالى يقدمه قدوم البدر بروج سعوده، ويديم في المعالي سموه إلى الغاية التي لا مزيد على غايتها في صعوده. * ومن شعره قوله، [الطويل] بكيت بدمع فاق دمع الغمائم ... وناحت لنوحي ساجعات الحمائم على جيرة جار الزمان لفقدهم ... ومن بعدهم جاورت غير ملائم مضت لي بهم أيام أنس حميدة ... نعمت بها دهرا كأحلام نائم وإني بأرض الشام أشتاق أرضهم ... إذا لمع برق لاح منها لشائم فلله أيام الصبا حيث لا نرى ... وقارا لنا إلا بخلع العمائم ومنه قوله «2» : [الطويل] وكم سرحة لي في الربى زمن الصبا ... أشاهد مرأى حسنها متمليا ويسكرني عرف الشذا من نسيمها ... فأقضي هوى من طيبه حتف أنفيا وأسأل فيها مبسم الروض قبلة ... فيبرز من أكمامه لي أيديا فلله روض زرته متنزها ... فأبدى لعيني حسن مرأى بلاريا غدا الغصن فيه راقصا ونسيمه ... يكر على من زاره متعديا ترجلت الأشجار والماء خر إذ ... نسيم الصبا أضحى [به] متمشيا تغنت لديه الورق والغصن راقص ... فيعرق وجه الأرض من كثرة الحيا وهذه أبيات لله من سمع مثلها! لو حصلت لابن خاقان لجعلها واسطة

«قلائده» أو ابن بسام لاتخذها من أفضل «ذخيرته» «1» . ومنه قوله «2» : [البسيط] فعد نفسك من أهل القبور بها ... فعن قليل إليه سوف تنتقل واذكر مصارع قوم قد قضوا ومضوا ... كأنهم لم يكونوا بعد ما رحلوا يا ليت شعري ما قالوا وقيل لهم ... وما الذي قد أجابوا عند ما سئلوا ومنه قوله «3» : [مجزوء الرمل] سلب المهجة مني ... بالجفون الفاترات لو يزور البيت لم ير ... م الحشا بالجمرات * وكنت قد بعثت له درجين أحمرين من الورق، ثم لم أعد أجهز له بعدها شيئا، فكتب إلي: [البسيط] يا من مكارمه عمت فكم شملت ... ذا فاقة ما بقي منه سوى الرمق قد كنت أرسلت لي درجين لونهما ... من حمرة مثل لون الشمس في الأفق وبعد ذلك لم أفرح بمثلهما ... من سيدي لا ولا شيء من الورق فبعثت إليه درجين أحمر وأبيض، وكتبت إليه معهما: [البسيط] أمسك سحابك لا يفضي إلى الغرق ... فقد كفى منه صوب الوابل الغدق بدائع من علاء الدين بت بها ... ألذ في طيب تقبيل ومعتنق مطلوبه ورق مني ويا عجبا ... من الغصون إذا احتاجت إلى الورق

26 - ومنهم: عبد الباقي بن عبد المجيد بن أبي المعالي متى بن أحمد بن محمد ابن عيسى بن يوسف، القرشي، المخزومي أبو المحاسن، تاج الدين، المعروف باليماني، المكي مولدا.

وقد بعثت به تجلى الخدود له ... في أحمر شرق أو أبيض يقق وما علي إذا أرسلت رائده ... وعاد بالشهب مخبوءا أمن الأفق هذا عليّ وهذا جود راحته ... يا من رأى البحر والأنواء في نسق 26- ومنهم: عبد الباقي بن عبد المجيد بن أبي المعالي متّى بن أحمد بن محمد ابن عيسى بن يوسف «1» ، القرشي، المخزومي أبو المحاسن، تاج الدين، المعروف باليماني، المكي مولدا. * أحد مشاهير الأدباء، وأحد جماهير الأولياء، سرحة فضائل، ودوحة علم يتفيأ ظلالها عن الأيمان وعن الشمائل، بحر يؤخذ منه درّة «2» بلا ثمن، وروض «2» تجد منه روح الرحن من قبل اليمن، قدم مصر قديما ثم الشام، وأقام بدمشق مدة، ثم هفت به ريح يمانية، وذهب بلبه برق علانية، فسلبب قرارا، وغلب استقرارا، وعاد إلى وطنه آئبا، وعاود سكنه لا ذاما ولا عائبا، واتصل بالملك المؤيد داود، ووصل منه بثقة ودود، فعول عليه وقلده كتابة السر لديه، وبقي حتى انمحى من أديم السماء هلاله، وأضحت في تلك الأفياء ظلاله، فقربه قريبه الملك الظاهر قربا حقده الملك المجاهد ابن الملك المؤيد، فأخذ أمواله واجتاحها، ونزف أمواهه وامتاحها، وتطلبه ليردي به، ففر وسكن مصر، ثم ما

استقر فقصد دمشق، ثم أتى القدس الشريف واستوطنه، واتخذ المسجد الأقصى موطنه، ورأيته به بين علوم ينشر جناحها، وتعبدات يضيء في حندس الليل صباحها. * ومن نثره قوله من رقعة كتبها إلي، قال فيها: وكتب المملوك في يوم توقدت جمرته، وطالت في نهار القيظ حجوله وغرته، وناره على الأكباد موقدة، لو لم يكن إلا لأن المملوك فارق سيده، ونسيم المملوك سموم، وشربه يحموم، وحشاه تكاد تذوب، وجفنة كراه في نهاره وليله مسلوب، وهيهات ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ «1» . فكتب عنها إليه جوابا منه: وكتبتها واليوم قد طار في أفقه جناح الشعاع، وأوهم الصبا وغر برقه اللماع، وصر الجندب في نواحيه، وسكت الطير بعد تلاحيه، وغرق في آله الليل، وعرف بسواده في كف ماحيه، والشمس في كبد السماء ترمي بشرر كالقصر، والأصيل قد آلى أن لا يميد ولا يجنح للعصر. ومن نثره- أعني السماني- قوله: وينهي أنه بلغه وفاة الولد، وأن الله نقله إليه ولم يعلق بشيء من الذنوب، وجعله ذخيرة وفرطا لمولانا، يوم يجازى كل امرئ بما قدم من سالف العمل المحسوب، فلقد جرّع الأحشاء صابه، وجرح القلب ساعة التفريق مصابه، وقطع الأكباد فقده، وأورث الأحزان بعده، فياله من قرة عين أورثها القدر قذى الأجفان، وغصن سؤدد اقتطفه قبل الإزهار يد الأحزان، وهلال حسن اعتور نوره

الحدثان، وثمرة جود أودعدت مدارج الأكفان، وربع أنس أمسى صاحبه بالخطوب خللا، وقادح أمر أضحى بيان أمره جللا، على أن الخطوب لا تزاحم إلا ثبيرا، ولا تعاند بورودها إلا كبيرا، وفي سجاياه الكريمة خلال قل أن تكون [في] غيره من الناس، وصفات تفرد بها وهي الثبوت عند هجوم الباس، ولئن غاب من سماء علائه هذا النجم الزاهر، وذهب أثره المنير الباهر، فكم في فلك محامده من نجم سيادة بأنوار الرئاسة ساطع، وكوكب فضل ما يقال له: هذا غارب حتى لا يقال لأخيه هذا طالع. ومنه قوله من كتابق كتبه إليّ: وينهي أنه كان من خدم هذا البيت الشريف، والغني بسمة ولائه بين أوليائه عن التعريف، وقد سارت مدائحه في هذه البقية العمرية مغربة ومشرقة، ومنجدة ومعرقة، يهجم بها وجفنه لبعده عن باب سيده لا يذوق غمضا، ولا يعرف ليلا أقبل أو يقضى، وقصارى مناه أن لا يقبل فيه قول حاسد، أو جاهل، حاشا المجلس الشريف، أو عالم معاند؛ ومولانا يعذر المملوك، فإنه كتب هذه الضراعة والليل قد أسفر دجنه، والسهر قد ترسم المملوك حتى تغير ذهنه، والمملوك ما يتغير في هذا البيت المعمور العمري ظنه. فكتبت له جوابا منه: وانتهى إلى هنا، والنسيم في السحر قد هلهل ثوب الظلام، وسحب رداءه على أعقاب ذيول الغمام، والجوزاء قد انتشرت تحت مسبح السرطان، وشعاع الشمس المحمر قد غرق في مقلة الأسد الغضبان، والديك قد طلع على شرف الجدار، وصاح في الليل منه جاويش النهار، والمصابيح قد فرغ سليطها، وكثر في ضوء الصباح تخليطها، فوقف المملوك وقفة الحيران، وتململ تململ

الغيران، وأراد أن يطيل القول بقدر ما يدعوه إليه رائد الشوق، ويحمله على أن يحمل السمع الكريم فوق الطوق، ثم رجع فعاتبه فكره الطليح، وجاذبه قلمه الطريح، وأنبه أدبه، وقال له: قد آن لك أن تريح الرجل من تطويلك وتستريح. ومنه قوله- أعني اليماني- في كتاب يزعمه في معنى الكتاب يزعمه في معنى الكتاب الفاضلي بفتوح القدس: هذا وعلوم الديوان العزيزة محيطة باستيلاء أهل التثليث على البيت المقدس، والمسجد الذي هو على التقوى مؤسس، وأنهم جعلوه مفزع طريدهم، ومقر شديدهم، ومعقل رهبانهم، ومعلم أديانهم، ومقر طالبهم، ومنتجع هاربهم، ومنهج شرعتهم، وعمود بيعتهم، وعكاظ نفاقهم، وموسم شقاقهم: وبادي سمارهم، ومظهر شعارهم، ومنار منارهم، وملتقط أخبارهم، ومنزل أحبارهم، مع أن طوائف الفرنج ببيعته طائفة، وأمم النصارى على دين الصليب به عاكفة، لا يعرفون عن الإنجيل غير ما بدّلوه، ومن القرب غير ما مثلوه، فنهض إليه الخادم في جحفل من أولياء الدولة القاهرة، يرون الموت مغنما، والسلامة مغرما، والهزيمة عارا، والإدبار نارا، ما حلوا بأرض إلا وأنبتت من ساعتها قنا، ولا نازلوا حصنا إلا بلغوا من شماخه المنى، بايعوا الله على إخماد الكفر جهارا، وعاهدوه على أن لا يذر ماضي سيوفهم على وجه الأرض من الكافرين ديارا، فلما شاهدنا رفعتها، وميزنا علوها ومنعتها، رأينا معهدا أخذ الشيطان على أهله أن لا يخفر لهم عهدا، وعلما أمسى لدين النصرانية على ما ادعوه فردا، قد كملوا عدتها وعديدها، واستخدموا للمحاربة شقيها وسعيدها، وإذا رأوا على أرجائها حفيرا أضحى بجمالها سوارا، ولحمايتها من التطرق إلى منازعة نزعها أسوارا؛ بناء ولكن تقصر عن مماثلته يدان، وإتقان هو بلا شك من صنعة الجان، وعمارة ولكن من ساحر عنيد، وتدبير ولكن عن رأي شيطان مريد، وتماثيل يخيل إلينا

من سحرهم أنها تسعى، وصحراء أرض ليس لمن أقام بها ظل هناك ولا مرعى؛ فاسترقينا مكانا دلنا عليه حسن الإيمان، نصبنا على أرجائه منجنيقا هدر بازله، وهثم ثغر تلك الأبنية نازله، وتجسدت عصيه حيات تلقف ما صنعوا، وفرقت ما جمعوا، وظل لنا ولهم يوم ولا كيوم ذي قار، وحرب ولكن أين حزب أهل الجنة من حزب أهل النار، سيوف مخروطة، وأيد منا ومنهم بالدعاء مبسوطة، وعجاج انعقد مثاره، وقسطل ولكن استعر بحوافر الصوافن أواره، بذلوا أنفسهم دونها، وراموا ولو بهلاكهم صونها، وعلا شرفاتها منهم أمم لا تحصى، وجمع آلت يد المنيّة لعددهم لابد تستقصى، ولم تزل المنايا تسخن بقوة الله ذلك الحفير، وتورد سكان تلك البقاع بعون الله سوء المصير، ثم سارت رجّا فتنا، وجال النقب في أرجائها، وبلغت الأماني من النصر غاية رجائها، وصيرناها بالحديد، والطلل الدارس بعد المشيد، وحملنا عليهم بقلب رجل واحد، فانطمس محكم التثليث، واستبان طريق الواحد، وتفرق من بها بين أسير أثقلته أغلاله، وقتيل غرته بالإقدام آماله، وطريد لا يعرف له مكانا، وخائف كلما تبدّى له مرأى ظنه إنسانا، وفتحناها بكرة الجمعة، وغدت أعلام الخلافة المعظمة على بقايا شرفاتها خافقة، وأطلاب الإسلام لاستئصال شأفتهم متلاحقة، وقام خطيبنا على صهوة المنبر الأقصى مرتجلا، وصاغ أوصاف المواقف المعظمة والمواطن المكرمة لجيده حلى، وذكره الحرب وكان ناسيا، وألان له بالمواعظ قلبا كان لعدم الادّكار قاسيا، وأعدنا إليه ما كان يعهده من الجمع، وتقدمنا بهدم ما استحدث من البيع، وشيدنا ما دثر من مشهد، اعتمدوا تخريبه ومعبد، وأ تستنقذنا معالم الصخرة الشريفة من الإشراك، فعادت إلى أخوة الحجر الأسود، وهذا الفتح وإن كان المقصود منه مكانا مخصوصا، فهو فتح يشتمل على مدن عامرة، ورباع غير عامرة، وقلاع مرفوعة، وفاكهة لا مقطوعة ولا ممنوعة، وقرى ظاهرة، وركبان

واردة وصادرة، وهذا المسجد شقيق الحرمين، وثالث الرحلتين، ومعبد الأنبياء، وموطن بركة الأولياء، فلله درة فتحا أقر نور الدين في ناظره وشعار الإسلام في مشاعره. قلت: ووقفت له على رقعة ذكر فيها يوما، أصبح والثريا فيه كأنها في بروج المطالع، كف جود تختمت في رؤوس الأصابع «1» ، والصباح جام لجين ملأته أشعة الشمس خمرا، والمجرة بحر مزبد يقذف القواقع درا، والنسر قد ضجر مما حام، وسهيل قد تقدم خوفا من الزحام، وقد عارضت وسط السماء الشعرى، كأنها ياقوتة في مذرى، والجوزاء قد مالت كشارب قهوة لم تمزج، أو حسناء تنفست في المرآة إذ نظرت محاسنها ولم تتزوج. «2» . والرقعة هذه مضمونها وهو: أسعد الله مولانا بهذا اليوم الذي تمثلت ثرياه صورة كأس يطاف به على الجلاس، وأتى نسره إلى المجرة حائما على الورود، رازئا كأنه مجهود، والجوزاء مسبلة الذوائب، وسهيل لها خاطب، والشعرى شعرها وغدائرها الغياهب، ومد الله عمر مولانا ومتعه بشرف المناقب. * وبهذا ذكرت قولي من قصيدة وهو: [الكامل] شق الصباح غلالة الظلماء ... وجلا النهار غدير كل سماء

لولا كواكب في الصباح تأخرت ... كحمامة مبثوثة في ماء بصبيحة رقت حواشي هدبها ... ووشى النسيم بها إلى الأنواء حتى تجلت مثل خود ختّمت ... بالنجم تحت مظلة الجوزاء وبدا سهيل ثم والشعرى تلي ال ... ياقوتة الصفراء بالحمراء وكأنما زهر المجرة روضة ... قد كللت بجواهر الأنداء والنسر في شفق الصباح مشمّر ... كي لا يبل لباسه بدماء عدنا إلي اليمني: ومن شعره قوله يذم مدينة عدن «1» : [الكامل] عدن إذا رمت المقام بربعها ... فلقد تقيم على لهيب الهاويه بلد خلا من فاضل وصدوره ... أعجاز نخل إذ تراها خاويه وقوله: [الوافر] إذا حلت أيادي البرق رمزا ... على كنز العمام سقين حرزا وأمطرت الغيوم خيول سيل ... على وجه الثرى يجمزن جمزا أثرن بياته فكسا ربوعا ... تعرت عن ملابسهن خزا وباع المشتري لما توالى ... محبته لكف الأرض بزا وأطلعت الرياض نجوم نور ... فتغريها أيادي الشرب حزا وولى عسكر الظلماء هزما ... أخافت من سنان البرق وخزا فحينئذ ترى عقد الثريا ... على جيد الحمائل قد تجزا فما هذا التأني يا نديمي ... لقد خالفت إذ حالفت عجزا

27 - ومنهم: عبد الله بن علي بن محمد بن سلمان، عرف بابن غانم، جمال الدين، أبو الفضل، المقدسي.

وجام الشرب ينسب للثريا ... وشمس الراح نحو الكرم تعزى فواصلني بها فلعل دائي ... يزول إذا شربت الخمر مزا على نهر المجرة والدراري ... عيون حولها يبدين غمزا فجرد جيش لهوك يا خليلي ... لغزو غنيمة من قبل تغزى 27- ومنهم: عبد الله بن علي بن محمد بن سلمان، عرف بابن غانم، جمال الدين، أبو الفضل، المقدسي. «1» * شاب برع وبهر، وطلع مثل الكواكب وظهر، وما أعرف في أي وقت اشتغل، ولا متى ألهب سعفه واشتعل، كأنما لقن سحر البيان من حين ولدته أمه، وبزغ في الأفق نجمه، وأتى بلطائف الشباب، وتلاءم في الكؤوس جائل الحباب، هذا إلى حسن خط كأنما نمنمة عذاره، وقيام حسنه عند المحبين بأعذاره، وهذا كله في مدة أقصر من رجع النفس، وأسرع من قدح الزناد للقبس، في زمان أعجل من إيماء المليح، وأقل من مقام الضيف عند الشحيح، لكنه لما جاء بالألفاظ يبهر حسنها، ويرجح وزنها، ظن أنه قد انتهى، وتناول بإحدي يديه القمر وبالأخرى السها، فترك الطلب، وقد كان له انتصب، واستنزف ثمده البلى حتى نضب، وكان يشغله ما يشغل الشباب، ويصرفه عن الثبات على حال ما يصرف النسيم الهاب، فكان لا يرى مستقرا قدر دقيقة، ولا رجع طرف حقيقة، فكان يعيبه التهور ويزينه كثرة التصور؛ وما سلّم حتى ودّع، ولا تلقته القوابل حتى شيّعه من شيّع.

* ومن نثره قوله في جواب كتبه عن نائب الشام تنكز «1» إلى نائب طريق في معنى الحريق الذي حصل بدمشق في سنة أربعين وسبعمئة: أعزّ الله أنصار المقر الشريف، وحرس بره الذي يتحرى، وحبوه الذي يتسرع إلى القلوب ويتسرى، وأمره الذي يبرد بنداه كل كبد حرى، وسره الذي إذا ناجته خواطر الإشفاق والإرفاق أنشدهما: قفا نبك من ذكرى «2» . المملوك يقبل الباسطة الشريفة تقبيلا يبرد به الغليل، ويداوي بطبه الفكر العليل، وينهي ورود مشرفة تتضمن أمر الحريق الذي حصل بدمشق في هذه المدة، حتى أحرقها بناره، وحفّ جنّتها بالمكاره، وسلّ عليها سيف الضرام، وحكم عليها حكم الدهر على الكرام، وأطلع في وجه شامها لغير الحسن شاما، وكاد يأتي عليها لولا تدارك لطف الله ب يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً «3» وهجم على جيرون «4» فغير دهشتها، وعلى الخضراء «5» فرمى فرشتها، وعلى اللبادين فكسر قلبها، لأنه كان زجاجا، وعلى الوراقين فما شعرت حتى صار باللهب كلّ ورّاق سراجا، وكل طلحية وقد تفرق طلحها المنضود، وكل كراسة وقد ردّ «6» وجوهها البيض وهي سود، وأضحى فم الفوارة يصاعد جمرات أنفاس، وسوق النحاسين يرسل منه، إلى سور الجامع شواظ من نار ونحاس، وكل محبوبة

بالطرائفيين وقد رأت مكروهها، وكل براعة دهماء وقد ابيض بالنار فودها، فلذلك سودت الدوي وجوهها، وغادر كل دكان دكا، فأوسع قوائم العمد وأضلاع السقوف كسرا وفكا، وأقعد بيت الساعات إلى قيام الساعة، ودخل إلى باب الجامع لكن لغير طاعة، وكاد يصلى به من يصلي، ويقبل على صف العابدين فيولي، واهتزت المئذنة بحمى نافض، وتشعث وجه المشهد الأبي بكري، فكأنما أصابته عين الروافض، وترقرقت عيون العابدين من الألم، ورقّ صحن الجامع لمأتم هداة الساجدين من المئذنة بنار على علم، وما زالت مراءات اللهب حتى خربت المنار، وصف بعد ذلك في صحن الجامع ما فضل عن أكل النار، فيا لها داهية عمت المسلمين، ومصيبة سودت وجه الدنيا فبيض الله وجه الدين، وواقعة لها اقتربت الساعة، وقارعة لولا المعوذات لما قبلت فيها شفاعة، ويا لها عينا دخلت على هذه الأسواق فحلت، ويدا استجدت منها محاسنها فأعطتها وما تخلت؛ كانت لعمارتها رمانة فأمست جلنار، وكانت محاسنها ليس عليها غبار، فأصبحت لا تعرف من الغبار، وما سكت لهذه النار لسان، ولا خفي لها شخص ولا عيان، ولا نشفت الدموع التي أطفأتها، ولا بردت ضلوع القياسير التي دفأتها، حتى طلعت شمس الفتنة من غربها، وتعالت أصوات النائبة عن قربها، وأتى النقص من جهة الزيادة، وسعى الداء بما وسع العيادة، فصار سوق الكفت كفاتا، وسوق الخام رفاتا، وخرجت قيسارية القاس عن القياس، وتوارد الإياس والرجاء في أمر البلد بمجموعه ولكن غلب الإياس، فركب المملوك بنفسه ومن عنده من الأمراء، وبأيديهم أسلحة المعاول، وعلى عواتقهم لقطع عنق النار سيوف الجداول، فكم من رأس داسته النار دوسا، وكم من قدّ وقوس تصرفت فيهما، فصار القوس قدّا والقدّ قوسا، وكم من أوتار أخذت منها الأوتار، وكم من سهام نفذت لها في قلب الإسلام كما شاء

الكفار، وكم من حلقة انفضت، وكم من عين بيضاء اسودت، وعين سوداء ابيضت، وكم من لجام دخل فيه لسان النّار فلاكه، وكم من بحر سرج رمى عليه اللهب شبكه فأكل أسماكه، وبقي المملوك كلما دار إلى دار سبقه إليها المقدار، أو أشار إلى دكان تداعت منها الأركان، هذا والصاغة تعوذ عين ذهبها من عين لهبها، والمئذنة ترجف فرائص تختها من مصرع أختها؛ وتدارك الله الحال بلطفه، ومن بإطفاء ذلك الحريق، ولولا منّه لم نطقه ولم نطفه؛ ولم تقتصر الحال على هذين الحريقين، بل تتابع بعدهما لهما أمثال، وما يشك المملوك في صدق ما أشار إليه مولانا من تلك الحكايات، وضربه من الأمثال، فإنه ما يسعر هذه النار إلا عدوّ أزرق، ومن أحرق قلبه بحريق جانب من معبده فلا غرو إذا أحرق. ومنه قوله: [الكامل] يا سادة نزحوا دموعي عندما ... نزحوا وعهدي منذ ذلك عام أو ما وجدتم ريّ دمعي عندما ... وافاكم من ناظريّ غمام «1» كيف اعتقدتم سلوتي عن ذكركم ... أيطيب إلا بالكمال كلام ها أنتم في ناظري ما دمت يق ... ظانا وتجلوكم لي الأحلام أشجى فراقكم دمشق فغصنها ... قلق إذا ناحت عليه حمام ونزلتم الشهباء فاختالت لأن ... علمت بأن النازلين كرام طابت بكم ويطيب كلّ حمى غدا ... يعزى لإبراهيم فيه مقام وينهي ورود مثاله الكريم، بعد أن وجد عن بعد ريحه، وشام برقه العالي، قبل أن يأتي قميصه بالبشرى الصريحة، وأحسن الخاطر بسروره الزائر، وإن كان ما كل روايات الخواطر صحيحة فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ: هذا مِنْ فَضْلِ

رَبِّي «1» وصدقت ظنون حبي، ويا أيتها الأيام التي قد طال بيني وبينها عتب النوى حسبي، ثم عطف على الكتاب الكريم يغازله، ويصاعد فيه نظر اللوم وينازله، ويقول له: أين لطف الترسل إذ عدمنا لطف الكلام؟ قد احترقنا بنار إبراهيم ولا برد ولا سلام، قد أخذ بفراقه لذة أيامنا نهبا، وقد كنا ونحن بالشّعراء لا نطيق جفاءه، فكيف وقد ركب علينا الشهباء، وشرع في فنون العتب ينسقها، وفي حمول الشكوى يوسقها، إلى أن فض لطيمة الطرس، ففاح عبيره، ولاح حبيره، وباح بالبيان صغير لفظه وكبيره، فكل زهرة حرف عليها للحسن ندى، وكل غصن سطر طفا حب القلوب عليه نقطا، وبدا يود ابن هلال «2» لو استعار منه معنى الكمال، ويتطلع ياقوت «3» إلى أن يكون فضا لخاتمة الذي ختم به على هذا السحر الحلال، ويتهافت المسك على أن يكون به تحرير ذلك الحرير، ويخلع صوف ذلك الغزال، فلما رأى المملوك نسمات تلك المحاسن قد ناوحت الهبوب، وتراوحت بالشمال والجنوب، وأنشد لسان حالها، ومن أين للوجه الجميل ذنوب؛ قبل بشفاعة حسنه الأعذار، ونادى حرب العتب: ضعي الأوزار؛ وعاود وصف الشوق فيقول: ما الربيع على أنس البلاد به، وتحلّى عاطل الروض بذهبه، واستطال صاحي الطير بخيامه المضروبة، حيث حبال الشمس من طنبه؛ بأشدّ من شوق المملوك إلى تلك المحاسن، التي من رأى خط شبابها تحقق أنه ما محاه آسن، وقد آن للملوك أن يهرب من الاستهداف لهذه الأوصاف، وألا ينسبه إلى انحراف كل قليل الإنصاف، وما أكثر القليل ذكر مولانا المقام،

ومقامه فشوّق وما ذوّق، وعرض ببيتين أنشرا من لسان المملوك وقلمه ميتين، فخذا حذوهما في اللفظ، وتصرف في المعنى، وقال في معنى ما مولانا بصدده من ملازمة الاشتغال: [الوافر] أقمت مجاورا في كسر بيتي ... لأن تنقلي داء عقام إذا رزق الفتى عقلا ودينا ... ودنيا برّة طاب المقام آخر تتمة: مللت من المقام على خمول ... وحل من الهموم بي انتقام ولو أني سعيت لكسب مال ... حلال طاب لي فيه المقام وإذا وصلت المقامة تمت المقامة، وإلا فكلام المملوك خبط عشواء، في هذه الحالة نسق الملوك من كتابه عرف الأدب الوردي فتنهد، وارتاح إلى ذلك الدّين الذي عري المملوك من فضله، مع أنه ما برح حتى للرياض بالكسوة يتعهد، فيا شوقي إلى دنانيره وقد ألقاها الشرق في بناني، وإلى وجناته الوردية وقد وقفت نصب عياني، ولكن ما أفعل في سوء الحظ، غايتي أن ألومه، ومولانا يعرض عليه لهفاتي، وما يخفي عنه طريق أكرومة. ومنه قوله: وينهي ورود البشرى التي ملأت الوجود بشرا، والوجود نشرا، وأقامت بالسرائر سوقا أضحت تباع به البشائر وتشرى، بما حصل لمولانا من الإقبال الشريف الذي تعددت تشاريفه، وتحددت تكاليفه، وتزيدت على وسع الآمال مصاريفه، من تيجان عمام اعتدلت فوق مفرقه، وألوان فراج أحرق في سمّور سجفها زركش النجوم، فلاحت تلك اللمع من محرقه، ومن هالات طرحات كأنما كن لشهابه المشرق فلك تدوير، ومن أبدان سنجاب حكت ببياض البطون

وزرقة الظهور طلوع الشمس في يوم مطير؛ فقابل المملوك وسائر المماليك المحبين هذه النعمة بحقها من الشكر، وأفاق بهبوب نسيمها، وإن كان غرامه في هذه المدة بمطالعة «مسالك الأبصار» لا يدعه يفيق من السكر، فلله هذا الحبيب المشنف، والغريب المصنف، والمنوع المنور، والدهر الذي هو بأهله من لدن آدم مصور؛ حرس الله هذا الجمع الصحيح، وهذا الفصل الذي نثر من الدر في حجور التراجم كل مليح، وهذا السياق الذي سير الشموس من الطروس على نجائب، وهذا الوفاق الذي حصله بين البر والبحر، وحدث عن العجائب بعجائب، فما كان للمملوك دأب في هذه المدة إلا التقاط درره من أصداف الأوراق، واجتناء ثمره من غصون تلك السطور، وكله قد راق، فإن اعترضته عنبرة ثناء فتّها على جمر الشوق فتا، أو عارضته عرائس تصانيف الأولين أقام تلك المجلدات الخمس فتصير ستا، والمرجو من الله تعالى رؤية ذلك الوجه الكريم على ما يسر الأولياء ويسوء الأعداء، وحاشاه أن يكون له أعداء. * ومن شعره قوله في مليح نظر إلى الشمس عند غروبها مضمنا: [الرمل] وغزال غازل الشمس وقد ... وقفت فوق ثنيات الأصيل فتعوضناه منها بدلا ... «وتفارقنا على وجه جميل» ومنه قوله غير مضمن: [السريع] وذي دلال حسنه وافر ... تقصّر الأوصاف عن كنهه رنا من الشمس وقد غربت ... بفاتر اللحظ إلى شبهه ففوضت في الحسن من بعدها ... ولاية العهد إلى وجهه ومنه قوله مضمنا: [المنسرح]

ورب ظبي مخضر شاربه ... رطب حواشي اللمى موردها «1» قال وشمس الأصيل قد وقفت ... على ثنايا الأصيل تنشدها كعاشق سار عن هواه ففي ... مقلته دمعة يرددها «قفا بها قليلا علي فلا ... أقل من نظرة أزودها» ومنه قوله: [الكامل] نعس الحبيب فقيل: ماذا شأنه ... فأجابهم بالحاجب المقرون وبطرة أشرت وطرف أدعج ... كالنون فوق العين تحت السين * فهؤلاء أعيان كتاب المشارقة، ممن مات وفات، وبقي منه ما ينشر العظام الرفات، وأكثرهم قد جهل قبره وفني، وما فني ذكره ولا بره، خلا عمّي الصاحب شرف الدين أبي محمد عبد الوهاب رحمه الله، فإنني ذكرته في كتاب «فواضل السمر في فضائل آل عمر» إذ لم يكن بدّ من ذكره هناك مع أقربائه، وسلف أهل بيته وآبائه، وكذلك والدي تغمده الله برحمته، وإن كان دون أخيه قدر مقال لا مقام، ودرّ نظام لا انتظام، وسيأتي ذكر جماعة من أهل هذا البيت في الكتاب المذكور، ومنه يعرف خبر كل معروف غير منكور، على أنني بشهادة الله لآنف لي ولسلفي أن ننحاز إلى هذه الفئة، أو نلم كرى بعيونها المغفية؛ ولله المعرّي حيث يقول «2» : [البسيط] دع اليراع لقوم يفخرون به ... وبالطوال الردينيات فافتخر فهن أقلامك اللائي إذا كتبت ... يوما أتت بمداد من دم هدر

28 - ومنهم: زين الدين الصفدي، أو حفص، عمر بن داود بن هارون بن يوسف الحارثي

فأما الأحياء بالجانب الشرقي، ممن يطلق عليه هذا الاسم بالاستحقاق، فبقية: 28- ومنهم: زين الدين الصفدي، أو حفص، عمر بن داود بن هارون بن يوسف الحارثي «1» * من بيت قضاء وخطابة ببلاد صفد والساحل من زمان الفتوح، وهم أهل قرى لا يغلق بابهم المفتوح، وفيهم بنين «2» من يضيف الوارد والصادر، ويطيف كرمه بالعاجز والقادر، على قلة يسار، وخلة إعسار، وبرع هذا الرجل فيهم وتأدب، وتذهب أدبه وتهذب، وأتقن علم العربية، وتم له تمام الفضائل الأدبية، إلى فقه درّسه، وفضل نوّعه وجنّسه، وعلم معقول أدركه بمجرد التصور، ووازع إيمان منعه فيه من التهور، واطلاع أشرف من يفاعه، وأطل عليه من شرف ارتفاعه؛ كل هذا إلى ذكاء يتدفق سيله، ويعرف من بين النجوم سهيله، وتفرد بمعرفة التنفيذ للمهمات قل من يحسنها، أو يحير جوابا حيث ينطق ألسنها، هذا مع خط كأنما ألحف جناح الطاووس، أو تلألأت تحت جنحه أشعة الشموس، وحسن مصاحبة تطمئن بها النفوس، ومواظبة على علا يسود بها ويسوس؛ صحبته من قديم، وعرفه أولياء الأمر، وتنبه ذكره ثم رقد، وهب لهب صيته ثم خمد، وجرى ماء حظه يتدفق ثم جمد، ورتب في كتابة الدرج في عدة مواضع من الممالك في أقرب مدة من الزمان، واشتهر برجاحة العقل والكتمان، ووفور الفضل والأدب، ثم كتب الإنشاء بدمشق ثم بمصر، فأنشأ غر التقاليد ورقم برودها، ونظم ما استجدت منه أجياد الحسان عقودها، وحضر بين

يدي المقام الشريف؛ وكان عندي موضع الثقة، وقدمته لأهليته، ثم بعد أن رفعت ذلك الشعار، وخلعت ذاك الرداء المعار، وقلت: الموت ولا العار، لبث قليلا ثم تبعته عوادي الضراء، وروعته في وسط السراء، ثم كان في صفد بين قومه إلا أنه لا يجد قوت يومه، وبقي حيا ميتا، لا يملك بيتا، ثم انفرجت حلقة ضائقته، وعادت لوامع شارقته، وفسح له في سكنى دمشق، فعاد إلى صدور مجالسها، ثم كتب في ديوان الإنشاء بها، وحل مفاخر رتبها، فتبلل عودها بأندائه، وأشرقت سعودها باستظهاره على أعدائه، ثم طلب إلى مصر ووقع بالدست، وهو الآن جمال الأوان، وكمال الديوان، وبيده الأزمة، وإليه الأمور المهمة، وفضله يستحق التتمة. * ومن نثره قوله في ورقة كتبها إلى والدي: وينهي أن إحسان مولانا وصل إلى ذلك الفقير الصالح، الذي من قرية نين، وهي قرية المملوك التي أخرجته، وإنما خدمته للبيت العمري هي التي خرجته، وإلى طبقات الناس درجته، وقد بقي يعوزه كتاب كريم إلى مشدّ صفد، نظرا لكتاب الكريم الذي صار في يده إلى نائبها، والمملوك يسأل الصدقة عليه بالمطلوب، وأن يكون كتابا حسنا يعيره مولانا سماحة كرمه وقلمه، ويلحفه جناح جاهه وكلمه، صدقة على المملوك دونه، ويدا يقبلها ويقبّلها ممتنة غير ممنونة، والوحى الوحى، وقد ضجر المملوك وهو استحى؛ والله يرفع درجة مولانا، حتى يكون على الكواكب مستفتحا، ولنظره في حديقة المجرة منزّها، وبعرف نرجسها مترنحا. ومنه قوله في تهنئة بعود الركاب السلطاني من الحج: وجمع الحجيج في سنتهم الواحدة بين حجتين، وكتب لمناسكهم بيمنه أجر مصلي القبلتين، وتمّ لتوجههم بأنواره الهدى والنور، وحصلوا من صفقته

الرابحة على تجارة لن تبور، ووقاهم لفح الهجير تطوفهم بالكعبتين، ذات المقام وظله، وأمّنهم العقبى تمسكهم بالعروتين، من «1» البيت العتيق وفضله، وعشوا إلى ضوئين من ناره التي هي أم القرى، ومكة المسماة في الذكر القديم أم القرى، فهذه المهاجرة التي جددت السنة بمحمدها، والمثابرة التي أعلنت الألسنة بمدح سؤددها، وهو الجدير بأن يوفيها من استبشاره وشكره أكمل وظيفة، وأن يقدر موقعها حق قدره، وإن كان مما لا تطيق الأمة تكليفه. ومنه قوله وقد أهدى إليه صاحب له طبق مشمش مع غلام مليح: وصل البر الذي زاد على منتهى الطلب، وأشهد النواظر بين يدي قضيب البان كرات الذهب، وجاء بالبدر وقد اتسق، والنجوم وقد ركبت في دائرة الطبق، فبهت لدنو صور الكواكب من اللمس، وتسيير القمر في منازل الأرض، وهو الذي لا ينبغي أن تدركه الشمس، ثم تأمل وتملى، واستجلى واستحلى، وقال: شكرا للمرسل والرسول، ويا حسن الحامل ويا لذة المحمول؛ أهلا بما لم أكن أهلا لموقعه، ومرحبا بكرم جمع بين تنوعه وتسرعه، أين الأمل من هذه الغاية؟ وكيف غفل الدهر حتى تناهى في الإحسان إلى هذه النهاية؟ مولى يسعى إلى عبده، وغصن يجيء بثمرة تميس في أوراقه من برده. ومنه قوله في ذكر الدواة: وقد أرسلها مشتعلة بالشيب مفارق رأسها، مستعدية على وضعها الذي انتزع روحها باستمداد أنفاسها، واستحال عليها مع الدهر حتى عكس النقب في روعها من قرطاسها، فهي بيضاء إلا أن السواد كان أنقى لسمائها، وناجية عندها أن الغرق أسكن لروعتها من نجاتها، وأملها أن يسودها يد لك لا تسوّد إلا من النفس، وأن تديل لها من سالب صبغتها وهو الطرس، فيطيل لسان فمها،

وهو القلم يمج على حواشيه لعاب الظلماء في لهوات الشمس. ومنه قوله: أمر وفاء النيل؛ وذلك أنه عند تسطيرها ورد المثال الشريف يتضمن نبأه بسطوره التي كأنها جداوله، وأنه جاد لمؤمله بنفسه التي ليس في يده غيرها، فكأن المسؤول لا شك سائله، وما أظنه إلا حيا نزل دون تلك الديار مهابة لمن حلها من مطايا الغمام، وأحلها من أجله أن يلم بها ركبا، فمشى على وجهه إليها تناهيا في الإكرام، ولم يزل يجري لمستقر له، ويضمه شيئا فشيئا إلى أن أدرك آخره أوله، ووارده في كل ساعة يشهد بنجاح رأي الرائد على التحقيق، ومخلّقه المتواري لحجاب الماء يومئ بإصبعه إلى حسن العاقبة على أنه في حالة الغريق، ولو قدر على المقال لظهر خافيه، ونطق بتوفية عوائده، وأنى ينطق والماء ملء فيه؛ حتى إذا تكمل سمو أمواجه حالا على حال، وتنور أقاصي الأرض من ثنية المقياس، فأدناها النظر العال، لم يملك طبعه السيال أن غطى مساوئها البادية، ورأى ظمأها إليه مع القصور عنه، فنقع بانتقاله إليها غلة كبدها الصادية، وكان له الفضل على الثرى والورى في ذلك المسعى، وقالت ألطاف الله المتتابعة: هذا الماء وسيتلوه المرعى، وكان هواؤه المعتدل على اعتلاله عدلا، فحمّل قلب كل غدير ما أطاق، ولم تبق عين بقعة كانت فارغة إلا وكلها عند نظرة الدمع مآق. ومنه قوله: وينهي أنه لو أمكن دفاع القضاء، أو قبل غريم الموت المتقاضي أخذ الفداء، لحمي هذا المحترم بأنصار الرجال، لا بجواري العيون المحزونة، ولصرفت عنه المهج يد المنون ببذل نفوسها المصونة، فقد كان والله شقيق الشمس رفعة وهدى، ومباري غرة البدر في النديّ، ورسيل الغيث في الندى، وإن أمسى الزمان لتواري

شخصه آية ليل ما محيت، وظلة غيم رأيت عليها لمحة بارق لمعت ثم زويت؛ فلعهدي وهو بآية نهار حياته المبصرة أحسن «1» اجتلاء، وأبهى وأبهر بين المشاهد في المعنى والصورة رؤية ورواء؛ طوبى له حل في أمنع جوار، وحصل على سعادة في دار القرار، يفرح بها من إرث شقوة الحزن في هذه الدار، والمملوك منذ سمع نعيه يحسد صم الرماح، ويتزود من سواد مقلته ودمعها، في ظلمة باك من فقد نورها على الصباح، وما أدعو لمولانا وحده إلى سنة العزاء المشروط، ولا أقول له: مهلا ليذهب بك فرط الجزع على أخيك مذهب القنوط، وإنما أشرك نفسي معه في التعزية والتسلية، وأتجلد وإن كان لا جدل على نفوذه هذه الرمية المصمية، فأتعلل وأتمثل بقول الأول: [الطويل] ولو لم أكن منكم لعزيتكم بكم ... ولكن حظي في المصاب جليل إلا أن أخصه لاختصاص نسبه، وأفرده بجامع أدبه، فلا أجمع لأقسام الكمال من أدبه، وأستشهد بأن أنشد: [الطويل] ومن يك ذا نفس كنفسك حرة ... ففيه لها مغن وفيها له مسلي ومنه قوله «2» : وينهي ورود المشرف الكريم ووقت الصوم قد حان، وهلاله في عنان السماء مرخى العنان، يشار إليه للبيان بالبنان «3» ، كأنه الطليعة وهي الراء من أول رمضان، أو الساقة وهي النون من آخر شعبان، أو الخائف اختفى عن العيان، وترامته الأبصار فاستعان، أو طالب حاجة مع الشمس أدركه الليل فوقف وقفة الحيران، أو كوة في غار فغار، أو رقيب وقد اختبأ ليطلع عن مغيبات الأسرار، أو

الحاجب لا جرم أنه حجب عن الإفطار، أو كأنه ما انهار من جرف النهار، أو المخلب الصائل على النظار، الصائد ما جاوره من النجوم لتتكمل فيه الأنوار، وتتم باجتماعها إليه في صورة الأقمار، أو المنجل الحاصد للأعمار، القاصد حتى ما علا نهر المجرة من الأنهار، أو طوق لم ينضم، أو مبدأ عمامة لمعم، أو قرط خانته العلاقة فانقطع، أو ما انخرم معه في شحمة الأذن لما وقع، أو علامة عضة، أو قلامة مبيضة أو قطعة من سوار فضة، أو تشريف نوارة غضة، أو شفة فتاة بضة، أو حافر جواد حلّى أرضه، أو وطأة حاف خلى من أثر كعبه بعضه، أو درهم فيه ثلمة، أو دينار مخسوف الجانب لحكمة، أو تمثال، عشر في ختمة، أو نصف دائرة من خط بيكار ما أتمه، أو عرجون قديم، أو ما مال من كأس نديم، أو شطر من كرة مقسومة، أو ضاحك أسنانه مهتومة، أو هالة والت قطرا منها غير مركومة، أو لثام على حنك، أو زورق من ورق حمولته من عنبر الحلك، أو حجل نزع من ساق، أو روق راجع من الأرواق «1» ، أو ما انحل من الخصر من النطاق، أو وقف من عاج، أو صدع في زجاج، أو جدول منعطف، أو قفل في فلاة قد حذف، أو لبة فؤاد، أو غصن أثقله الثمر فانآد، وعقد سماءه بأرضه أو كاد، أو ثغرة في سور، أو فم قدح مكسور، أو نوى محفور، أو فخ منصوب على طول الدهر، أو عرق مغروس، أو بعض ما في ريش الطاووس من المنقوس، أو حلقة منقوصة، أو أذن ريم مقصوصة، أو ضفيرة معقوصة، أو خاتم زال فصه ففغر، أو ما انداح من رمية في صفحة الماء بحجر، أو طية من أعكان، أو سرة محققة في كشح ريان، أو ذؤابة مردودة، أو حزة من بطيخة مقدودة، أو خيزرانة ملتقية غير معقودة أو قوس محني القرى، أو عروة مفكوكة من العرى، أو فتر مرفوع، أو طيلسان مقور مقطوع، أو قبضة إبريق مخلوعة، أو آلة للطيب مصنوعة، أو يد

التفت على عناق حبيب، أو شعرة مشيب فضلت من خضيب، أو ما أحاط من الإكليل بالجبين، أو محراب لبعض المصلين، أو سالف تحسين، أو مشقة قاف أو سين، أو ما اندفع في جؤجؤ السفين أو أحد الجفنين، أو عذار حول الخدين، أو رأس من كتابة صاد لم يلتحم، أو عين أو دال منقلب، أو طاء منفصل الطرفين، سقط ألفه المنتصب، أو مبسم مثقوب، أو تعريقة جيم مكتوب، أو عقرب شائلة، أو شعلة نار لعبت بها الريح الجائلة، فهي مائلة، أو حية ملتوية، أو صولجان مقصوف لم يبق منه سوى الحنية، أو ترقوة بدا عظمها، أو طارة غرض خرق هيآتها سهمها، أو فلكة مغزل مشظاة، أو دفّ أمسكت كف سوداء على أعلاه، أو ما تحت تنفس [المرأة في] المرآة «1» ، أو قنطرة منكوسة الوضع في البنيان، أو طبق قائم أخذ من حافته شيء فبان، أو غرة في أدهم من الخيل، صانعت بها الشمس عن نفسها لخاطف الليل، أو رداء أسبله الشرف فكف الغرب منه الذيل، أو صعدة، أو مكان ورقة من وردة، أو قفل على تجليد، أو إحدى المطيفين بالوريد، أو لبب مركب، أو كوز مرتب، أو قتب مجرد أو سرج مؤكد، أو قربوس منه مفرد، أو واحدة من خشكنان، أو حدقة نجلاء من إنسان، أو طعنة ميّلها بسنان، أو سيف لان في يمين ضارب، أو مطرح القلادة من ترائب الكاعب، أو المملوك مما شفته الأشواق، وصنعته به عوادي الفراق، أو ما خدّه في خدّه الدفع المهراق؛ وكان للناس اشتغال باستقبال الهلال، وقلب المملوك في اشتغال مما عنده من البلبال، ومن ضنى جسده البال، وحالت الأحوال وما استحال، وبات وطرفه يتملى من المشرق الكريم حظا ماله مثال، وتأمل منه لفظا بمعاينه تضرب الأمثال، وتقلب وجهه في أفقه الدال على ودّ صح، فليس به اعتلال.

ومنه قوله: وعلمنا ما ذكره من أمر الصقر الذي وقع له، وما لحظه فيه من القبول، فأرسله وحمله إلى حيث حمله، ووصل وقد طرز رقوم المحاسن حلله، وزانته بديباجة مكملة، وحلية مكللة، خالصا كالذهب، متوقدا كشرارة لهب، موشى الصدر كما طفت على الكأس فواقع الحبب، أو كروضة منها ما لم يخرج من الآكام، ومنها ما هب مع النسيم حين هب، حسن الاستعداد للتدريب، مدركا فإذا دعي يجيب، مظفرا كجد مهدية فلا يخيب، وقد قبلناه تبركا بما يهديه، واشتغلنا به اشتغالا حقق ما لحظه من القبول فيه، ورفعناه من يدنا الشريفة إلى رتبة لا يصل معها، وإن كان بغيرها يتيه، وقدمناه على ما عندنا من الجوارح على كثرة عددها، وغزارة مددها، كتقدم المقام على الملوك الصائلة في عديدها وعددها، فلو رآه وله في حلاوة الالتفات تشوف الريم، وفي طلاوة الإنصات دل الأغيد الرخيم، وإلى أغراض مرسله تشوف الواله إذا ظل يهيم، وإصابة الباع المستفيد بالسهم المستقيم، وعلى الصيد حرص الغريم على الغريم، وفي طلبه سورة الظالم وثورة الظليم، إن أعطي الكمة فحليم، وإن كشف عنه غطاؤه فبصره حديد، ورأيه حكيم، فاقترب، فيد تطلقه وأخرى تحتطب، وسابق يحصّل ما يجتذب ويجتلب، وسائق «1» يقد ثقة بعوائده ولا يرتقب؛ يهفو بقوادم أقوى من قوائم، وعزائم على النجح علائم، كأنه كبير قوم، أو ممسك لصوم، يعفو عما كسره، ويعف عن شره، إذا افترس حرس، وإذا أحرز حرز، وإذا أدرك ترك، ولكن من مخالبه في شرك، كأنه يعرف التحليل فيبقى للتذكية، أو يحب الثناء فيعمل على التزكية، حتى إذا أدى الأمانة، وقضى إدمانه، وسطا في صيانة، تنحى جانبا، وانتحى مجانبا، واحتشم هائبا، انطوى على الطوى، وأعرض مع الخوى

على ما حوى، فإذا أباحه محصّله مما يأكله، وأطلقه عما أوثقه، وخلى ما بينه وبين ما صاد، بايته باقتصاد، كأن عليه رقيبا بمرصاد، وتناول قدر الحاجة، بشهوة مهاجة، ورجع إلى الكمة بطرف غضيض، وبطش غير مهيض، وثبات بعد وثبات كطرفي نقيض، بصره ثم تصرفه بين أيدينا في صيده، وحسن تلقفه لما يعن له بلباقة كيده، ورشاقة أيده، ولا يثنى عليه ثناء من أنهب سعيه، ورام ورمى فتم مرامه وصح رميه، ونحن نشكر مكارمه التي ملأت الحقائق والحقائب، ومدت عصائب جنود وجود يتبعها من الطير والعفاة عصائب. * ومن نظمه قوله: [الوافر] أقول وقد سألت قصاص قتلي ... فقام لها الكرى بالاعتذار كفاني من توفاكم بليل ... ويعلم ما جرحتم بالنهار ومنه قوله: [الطويل] وما مثل هذا اليوم يخلف دره ... فيخلفه بالدر بيض الغمائم وقد عكس التشبيه فيه فعهنه ... جبال لصلع الأرض مثل العمائم ومنه قوله وقد أهدي إليه حلواء: [الوافر] ولما جاءني منك افتقاد ... حلا فحكى ثناءك حين يجري حصلت بما أتى وحصلت مني ... على الحلوين من بر وشكر ومنه قوله: [الوافر] أتى زيد إلى الحمّام يثني ... معاطفه كما مال الرديني فكان الماء وهو عليه جار ... يرينا لؤلؤا فوق اللجين ومنه قوله: [الطويل]

ولما أراد الصب خطا تسابقت ... مدامع عينيه تحاول محوه كأن بعينيه من الخط غيرة ... على وجه محبوبي إذا سار نحوه ومنه قوله مما يكتب على عصابة ذهب لامرأة حسناء: [الوافر] تأمل هذه الوجنات تزهى ... وقد حلّى تحلّيها الدلال ترى شمس الضحى منها ومني ... تتوجها على الرأس الهلال ومنه قوله «1» : [السريع] أنزلت من أهواه في مقلتي ... صونا له من أعين الحسد فجاء قلبي من طريق الكرى ... يسرقها منها فلم ترقد ومنه قوله: [الكامل] تبسم ثغرها والخال يبدو ... عليه كقلب ظمآن إليه فقلت: الصبح؟ قالت: كيف يأتي ... وليل الخال بواب عليه وكتب إليّ: [البسيط] إنا لتملكنا من هيبة خرس ... في حيكم وعلينا منكم حرس وإن خلونا وخلنا وحشة عرضت ... عذنا بأسمائكم فاعتادنا الأنس فنحن منكم وفيكم لا يزال لنا ... من غيرة حرس، من هيبة خرس حالان في حبكم ما حال بينهما ... عهد الهوى وعليكم ليس تلتبس وهل علمتم وحبكم الحال واحدة ... أنا على النأي للأذكار نختلس إذا مرضنا تداوينا بذكركم ... ونترك الذكر إجلالا فننتكس ومن لنا لو لثمنا تربكم فبها ... شفاء أكبادنا والبرء يلتمس

أرض لها قبس من نوركم وكذا ... من وطء أقدامكم يندى بها اليبس تفديكم أنفس منا تحبكم ... حياتها منكم في موتها نفس فكتبت إليه: [البسيط] مرت على عجل والركب محتبس ... فما شككت بها والأمر ملتبس وبان بان الحمى واهتز إذ خطرت ... ولاح ضوء هلال أو بدا قبس وفاح من مسك دارين لنا سحرا ... نشر الخمائل إلا أنه نفس وبت والليل يرميني بأنجمه ... مثل العيون ومنها أعين نعس فقمت في غفلة النوام أشربها ... صرفا من الراح إلا أنها لعس وما توهمت أن الليل منصرم ... حتى تجرد من جلبابه الغلس وافت تذكر بالعهد القديم وما ... نسيته وهو لي في وحشتي أنس ثقي سليمى بود لا يغيره ... نأي الديار ولا يذكى له الحرس بل ما تجن جوى منه القلوب ولا ... يبدي هواه ومنه الجمر يقتبس يا جيرة القدس ما قلبي كصخرته ... وليس لي عين سلوان فتلتمس لم نعتقد بعدكم والله يعلم ذا ... إلا الوفاء لكم والحر محترس قول ابن زيدون من حر الصبابة في ... «بنتم وبنا» وسوف البين ينعكس «1» عتبا وصلحا ولا يدري بنا أحد ... والودّ يبرأ أحيانا وينتكس فسرّ عاذلنا لا كان عاذلنا ... وكان أفصح نطق العاذل الخرس

29 - ومنهم: خليل بن أيبك الصفدي، أبو الصفا، صلاح الدين

29- ومنهم: خليل بن أيبك الصفدي، أبو الصفا، صلاح الدين «1» هو خليلي الذي أنادي، وصاحبي إذا شكرت الأيادي، والذي أنادي منه خليل الصفاء، وصديق الوفاء، والذي أرضاني عن صنيع الليالي لما أتاني بنجومها قليلا، والذي لم أخالل سواه إلا قلت لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا «2» ، والذي صحبت أبا الصفاء من وده الذي لم تشبه الشوائب، والخليل إلا أنه كان- لأحمد- أكثر مما كان عنده ابنه في النوائب، والذي عاقدني منه خليل صدق فما ذممت له ذماما، وأوقد لي من حميته نارا خليلية كانت بردا وسلاما، موسوية فلهذا ما تركت ظلاما، والذي لم يزل يرشد من خاطري مضللا، ويريني في صفائه ما أردت ممثلا، ويغنيني أن أقف عند سوى تصانيفه، وأقول: خليلي هذا ربع عزة فاعقلا «3» ، وملأ مسمعي بأدبه حتى قلت يكفيكما، وأغنى ناظري بكتبه فقلت: خليلي هبّا بارك الله فيكما، وقررت له وأقررت، أنه إمام المحسنين، وبايعته واتبعته وأنا من الموقنين، وبسطت يدي فبايعت ملك البلغاء خليل أمير المؤمنين، ورتعت في مراد تصانيفه أستزيرها وقنعت بمذاكرته ولم أقل: خليلي هل من رقدة أستعيرها؛ أقسم بالله وهو آكد الأيمان، وأوثق ما يقف معه أهل الإيمان، ما إن رأيت منه آدب، ولا مع

غناه عن التحصيل أدأب، ولا أظن مثله أجمع لمدحة وآبدة، وأخبار أمم باقية وبائدة لديها واقدة، ولا مقل الفراقد عن التطلع إلى هذا، وما كسا الزمان مثله ثوبيه، ولا حمل الوجود حفيا شبهه بين جنبيه، فهو محدث يحدث بالصحيح، وتروى عنه العجائب، والمعروف وكله غرائب، كم قال وكم ألجم الحصر كل لسن، وقام بالسنة وكل سنده علي وحديثه حسن، هذا على أنه حامل فقه لا ينقل إلى أوعى منه، ومتقن علم لا يؤخذ القديم والحديث إلا عنه، نعم وأنعم به من مؤرخ ينسئ الأمم وينشر الرمم، وينشد ضوال الأنباء وقد أماتها البكم، وأقبرها الصمم، فشق أصداف اللحود عن دررهم، وكشط جلد الدهماء عن غررهم، وأوجدهم فما كتب من التاريخ وجودا ثانيا، فأقاموا به أرواحا وسئلوا فقالوا فصاحا: ساقهم في تاريخه فكأنما قاموا في صعيد واحد لديه، وأتى بهم من عهد آدم وهلم جرّا إليه، أجل، وهو أجل كاتب تخضع لطرسه مهارق السحائب، ويخشع لقلمه سيف البرق المسنون، ويسقط قلبه الواجب، وأضاء أيضا له نور حكمة، يغلب فجرها الطالع مشارق الأنوار، ويغل فكرها السابق يد القيرواني «1» إن نظمت أبكار الأفكار، ويذهب التحصيل وليس من بدره المنير درهم ولا من شمسه المشرقة دينار؛ وينبو دونه مضرب السيف ولو أن الآمدي ذا الفقر ذو الفقار، فأما ابن سناء فيخفي في طي البروق إشاراته، والرازي يرزأ كتبه، وتجف في لسان القلم عباراته، وقل أن وجد في علم أقليدس مثله من يحل إشكاله، ويجل أشكاله، ويغدو من قلّ علمه الأقلودي للأرض مقسما، ولمقادير الكواكب متوسما، بل لو وصل إلى ابن واصل علمه لقنع بما فضل، أو ابن العديم جمال الدين ما عدم ما تعنّى إليه وما وصل، وكل هذا عوله على أدبه الذي هو أغض من ورق النبات، وأحسن من تذهيب الحياء فضة خدود البنات، بقريحة

أصفى من الماء، وأورى من النجوم في الظلماء، وأغرب من عنقاء، وأطرب من ورقاء. وكتب الإنشاء مصرا وشاما فكبت، وجرت معه القرائح إلا أنها السوابق فكبت، وطاب به الواديان، وطال الناديان، وقلد الممالك ما هو أعلق بها من أطواق الحمائم، وأعبق فيها [] جنوب الغمائم. وله التصانيف الكثيرة الكبيرة بنفسها، الأبكار التي ما أوت إلا سرادق نفسها. * ومما كتب لي من نثره، وأتبعه من شعره قوله؛ من ذلك كتاب كتبه بشارة بوفاء النيل، وهو: ضاعف الله نعمة الجناب العالي، وسر نفسه بأنفس بشرى، وأسمعه من أنباء الهناء كل آية أكبر من الأخرى، وأقدم عليه من المسار ما يتحرز ناقله ويتحرى، وساق إليه كل طليعة إذا تنفس صبيحها تفرق الليل وتفرى، وأورد لديه من أخبار الخصب ما يتبرم به محل المحل ويتبرا؛ هذه المكاتبة إلى الجناب العالي، تخصه بسلام يرق كالماء انسجاما، ويروق كالزهر ابتساما، وتتحفه بثناء يجعل المسك له ختاما، ويضرب له على الرياض النافحة خياما، وتقص عليه من نبأ النيل الذي خص البلاد المصرية بوفادة وفائه، وأغنى به قطرها عن القطر فلم تحتج إلى مد كافة وفائه، ونزهه عن منة الغمام الذي إن جاد فلابد من شهقة رعده ودمعة بكائه، فهي الأرض التي لا يذم للأمطار في جوها مطار، ولا يزم للقطار في بقعتها قطار، ولا ترمد الأنواء فيها عيون النوار، ولا تشيب بالثلوج مفارق الطرق ورؤوس الجبال، ولا تبيت البروق ساهرة لمنع العيون من تعهد الخيال، ولا تفقد فيها حلى النجوم لاندراج الليلة تحت السحب بين اليوم وأمس، ولا يتمسك المساكين في شتائها كما قيل بحبال الشمس، وأين أرض يخمد عجاجها بالبحر العجاج، وتزدحم في ساحاتها أفواج الأمواج، من أرض لا تنال السقيا إلا بحرب، لأن القطر سهام، والضباب عجاج قد انعقد، ولا يعم الغيث

بقاعها، لأن السحب لا تراها إلا بسراج البرق إذا اتقد، فلو خاصم النيل مياه الأرض لقال: عندي قبالة كل عين إصبع، ولو فاخرها لقال: أنت بالجبال أثقل، وأنا بالملق أطبع، والنيل له الآيات الكبر، وفيه العجائب والعبر، منها: وجود الوفاء، عند عدم الصفاء، وبلوغ الهرم، إذا احتد واضطرم، وأمن كل فريق إذا قطع الطريق، وفرح قطان الأوطان إذا كسر، وهو كما يقال سلطان، وهو أكرم منتمى، وأشرف منتدى، وأعذب مجتنى، وأعظم مجتدى، إلى غير ذلك من خصائصه، وبراءته مع الزيادة من نقائصه، وهو أنه في هذا العام المبارك، جذب البلاد من الجدب وخلصها بذراعه، وعصمها بخنادقه التي لا تراع من يراعه، وحصنها بسواري الصواري، وما هي إلا عمد قلاعه، وراعى الأدب بين أيدينا الشريفة بمطالعتنا كل يوم بخبر قاعه في رقاعه، حتى إذا أكمل الستة عشر ذراعا، وأقبلت سوابق الخير سراعا، وفتح أبواب الرحمة بتغليقه، وجد في طلب تخليقه، تضرع بمد ذراعيه إلينا، وسلم عند الوفاء بأصابعه علينا، ونشر علم ستره، وطلب لكرم طباعه جبر العالم بكسره، فرسمنا بأن يخلّق، ويعلّم تاريخ هنائه ويغلّق، فكسر الخليج وقد كاد يعلوه فوج موجه، ويهيل كثيب سده هول هيجه، ودخل يدوس زرابي الدور المبثوثة، ويجوس خلال الحنايا كأن له فيها خبايا موروثة، ومرق كالسهم من قسي قناطره المنكوسة، وعلا زبد حركته، ولولا ظهرت في باطنه من بدور أناسه أشعتها المعكوسة، وبشّر بركة الفيل ببركة الفال، وجعل المجنونة من تياره المتحدر في السلاسل والأغلال، وملأ أكف الرجاء بأموال الأمواه، وازدحمت في عبارة شكره أفواج الأفواه، وأعلم الأقلام بعجزها عما يدخل من خراج البلاد، وهنأت طلائعه بالطوالع التي نزلت بركاتها من الله تعالى على العباد، وهذه عوائد الألطاف الإلهية بنا، التي لم نزل نجلس على موائدها، ونأخذ ما نهبه لرعايانا من فوائدها، ونخص بالشكر قوادمها، فهي

تدب حولنا وتدرج، ونخص قوادمها بالثناء والمدح، فهي تدخل إلينا وتخرج، فليأخذ الجناب العالي حظه من هذه البشرى، التي جادت بالمن والمنح، وانهلت أياديها المغدقة بالسح والسفح، وليتلقاها بشكر يضيء به في الدجى أديم الأفق، ويتخذها عقدا يحيط منه بالعنق إلى النطق، وليتقدم الجناب العالي بأن لا يحرك الميزان في هذه البشرى بالجباية لسانه، وليعط كل عامل في بلادنا بذلك أمانه، وليعمل بمقتضى هذا المرسوم حتى لا يرى في إسقاط الجباية خيانة؛ والله تعالى يديم الجناب العالي لقص الأنباء الحسنة عليه، ويمتعه بجلاء عرائس التهاني والأفراح لديه، بمنه وكرمه. ومن ذلك جواب كتبه عن النائب بالشام، إلى الملك الأفضل صاحب حماة، وقد أرسل مشمشا كافوريا: لا زال إحسانه كالعلم المشهور، وجوده المنظوم يهدي من الثمرات ما هو كاللؤلؤ المنثور، وبره يتحف بما هو كالشهد في الطعم واللون، وكالنجم في الشكل والنور، وكرمه يتضوع نشرا، وكيف لا وقد جاد بما ينسب إلى الكافور؛ وينهي ورود المشرفة العالية قرين ما أنعم به مولانا من المشمش الكافوري، فوقف عليها وقابل إحسانه بشكر يشرق نورا، وثناء يدير على الأسماع كأسا كان مزاجها كافورا، وواجه جوده بحمد يتلوه منه وجه الروض بمنثوره، وتجد الألسنة لمنظومه لذة تنسي الأسماع ما قاله أبو الطيب في كافوره، ومتع ناظره بتلك الكواكب التي اتسقت من العلب في أفلاك، وتنسّقت كالدرر وما لها غير حسن الرصف أسلاك، وتأملها وهي كرات بلور اكتنفها الأصيل والشفق، وركبت حين ملأت الصدور طبقا عن طبق، فأكرم بها هدية كانت بحلل الأشجار أزرارا، ولجنات الأوراق نارا؛ كيف مكنت فروعها يد قاطفها من السلب؟ وكيف أقبلت في حلة الروع والوجل وهي طيبة القلب؟ كأنها لم تكن لقسي الغصون بنادق، ولا في رقع الأوراق بنادق، فالله يشكر

لمولانا هذا الإحسان العلوي الذي جاد بالنجم زهرا، والجود الروضي الذي ملأ العيون حسنا وملأ الصدور درا، وأدام الله أيامه التي تسبق فيها الغرائب، وتستبق إلى مكارمها الرغائب، بمنه وكرمه. ومن ذلك جواب كتبه إليه أيضا، وقد أهدى إليه رخاما ملونا: وينهي وصول الرخام الملون الذي فتح به عين هذه الدار المكونة، وأهدى إلى روضها الذاوي أزهاره الملونة، ولا غرو فإن العيون توقظها الشموس بالأشعة من المنام، والأزهار توجد بالرياض من جود الغمام، ولو لم يكن كرم مولانا سحابا، لما جاد بألوان قوس قزح، ولو لم يكن علوه كالشمس لما انبعثت عنه أنوار تلهب شعاعها في هذه الدار وقدح، وتحاشى المملوك تشبيه ذلك بالزهر، فإن هذا أبدا يانع، وذلك يؤول إلى الذبول، أو التمثيل بالأشعة، فإن هذا أبدا مشرق، وذاك بذهاب سره يحول ويزول؛ وهذه معجزة كرم لمولانا، فإن ريش الطاووس صار له جلمدا، وقوس السحاب تجسّد له على طول المدى، فلو ناظره مباه بمحاسنه لكان له الفخر، ولو حاولت المياه أن تبليه لما بالى بما لها عليه من الزخر، ولو أجرت دموعها عليه لما لابتك، فما كل باك خنساء، ولا كل جماد صخر، ولو رأته العيون لسبحت الألسن من راح له صانعا، ولو أراد بليغ أن يقوم بحقه وصفا لوجده مانعا، والله يشكر لمولانا هذا الإحسان المديد الوافر، والفضل الأفضلي الذي أنبت في الروض أزاهر. ومن ذلك مقامة أنشأها في الحريق الذي اتفق بدمشق، سنة أربعين وسبعمئة، وسماها «رشف الرحيق في وصف الحريق» وهي: حكى شعلة بن أبي لهب عن أبي الزناد شهاب، أنه قال: لم تزل أذني متشنفة بأوصاف دمشق، متلذذة بماء الأقلام في ذكر محاسنها من التعليق

والمشق، حتى رأيت الحزم، شد الكور إليها والحزم، فأزمعت السير، ولم أزجر الطير، وقطعت أديم الأرض بالسير، وركبت إليها مطاء الشوق قبل مطايا السوق، ولم يتلفت القلب إلى الوطن، ولا حن النجيب إلى العطن، حتى بلغتها بعد مكابدة السرى، وإثارة العجاج من الثرى، فلما حللت مغناها وجدتها: [الكامل] بلدا أعارته الحمامة طوقها ... وكساه حلة ريشه الطاووس وكأنما الأنهار فيه سلافة ... وكأن ساحات الديار كؤوس فألقيت العصا في ساحتها، وألفيت زوال التعب في مصافحة راحتها، فما سرت فيها إلى روض إلا وأجلسني من النرجس على أحداقه، وقام السرو من السرور بين يدي على ساقه، وجرى الماء في خدمتي لكرم أخلاقه، وظللني الدوح لطيب أعراقه، ومد الغصن لي ستور أوراقه، وغنى لي الحمام على عوده، ولو تأنى أو تأبى جره بأطواقه. قال: فشفيت سقمي بنسيمها العليل، واستروحت إلى ما نقله عن بانه وبنفسجه لا إلى ما يتحمله من الإذخر والجليل، وخلت أنه بلطف مسه يلين له الجندل، وجننت بعرفه المندلي، وما رأى الناس من جنّ بالمندل، وبردت بأنفاسه حر الصبابة والجوى، وقلت: [الكامل] أضحى نسيم دمشق حياها الحيا ... يمشي الهوينا في ظلال حماها فكأنه من مائها وهضابها ... ما داس إلا أعينا وجباها وقطعت بها زمنا ألذ من وصال الحبيب، وأشهى إلى النفس من التشفي بأذى الرقيب، فلا أبعد الله ما في بساتينها من شجرات، ولا قدّر الكسوف على ما فيها من كواكب الثمرات، ولا دكّ هضبات أزهارها التي تضوع بطن نعمان برياها، لا بمن مشى به من الخفرات، فإنها: [الخفيف]

شوقتنا إلى الجنان فزدنا ... في اجتناب الذنوب والآثام قال: ولازمت جامعها الذي تحيرت العقول في تكوينه وكنهه، وحسنه الذي لم يكن فيه عيب سوى أنه لم تقع العين على شبهه، ولله من نظم درّا فيه حين قال فيه: [المتقارب] دمشق لها منظر رائق ... وكلّ إلى وصلها تائق وكيف تقاس بها بلدة ... أبى الله والجامع الفارق فإنه يوقظ النائم، بحسن رخامه القائم، ويجلو بهيم الدجى حصّة الفجر من حصّه، وتروي لك زخرفته حديث الحسن بفصه، كم زهرت فيه ليلة النصف من ذبالة هي نجم توقد، وكم دار به دولاب كانت قناديله تدور مثل الفرقد، وكم طلع في سماء صحنه من ثريا، وكم تمنى من القمر لو كان بين نجومه فما اتفق له ذلك ولا تهيا، وكم جليت عروسه في عقود وقود، وكم تمتعت الأبصار فيه بوجوه تخجل البدر في ليالي السعود، وكم فيه من عمود قام على قاعدة، وكم به من منجور كغضون أوجه العجائز وأزراره ناهدة، وكم من أعطاف رؤيت في صحنه مائدة، وكم من طائر لرفع نسره مخفوض، وكم حسن بناء عند بنائه يعرب أنه مرفوض، كم أظهرت الصناع فيه بدائع لا يدعيها غيرهم ولا يتعاطى، وكم أبرزوا فيه من معجز لأنهم جعلوا الحجارة أوراقا والرخام أخياطا، قد عمر الله تعالى أوقاته بالذكر، وأراح قلب من يراه من الهم، وأراح عنه الفكر. قال: فلما رأيت مجموعه المختار، وأن العيون تودّ لو نسج له من شعر جفونها أستار، قلت «1» : [الطويل] تقول دمشق إذ تفاخر غيرها ... بجامعها الزاهي البديع المشيد

جرى لتناهي حسنه كلّ جامع ... وما قصبات السبق إلا لمعبد قال: فبينا نحن ذات ليلة وقد وردنا حمى المضاجع، ودخل ضيف الطيف على مقلة الهاجع، وإذا بالأصوات تعجّ، والدعوات تلج أبواب السماء وتلجّ: [الطويل] فلو نشدت نعشا هناك بناته ... لمات ولم يسمع لها صوت منشد فسألت عن الخبر ممن عبر، فقال: إن الحريق وقع قريبا من الجامع، وانظر إلى نسج الجوّ كيف انتشرت فيه عقائق اللهب اللامع؛ فبادرت إلى صحنه والناس فيه قطعة لحم، والقلوب ذائبة بتلك النار كما يذوب الشحم، ورأيت النار وقد نشرت في حداد الظلماء معصفرات عصائبها، وصعدت إلى عنان السماء عذبات ذوائبها: [من الطويل] ذوائب لجت في علوّ كأنما ... تحاول ثأرا عند بعض الكواكب وعلت في الجو كأنها أعلام ملائكة النصر، وكان الواقف في الميدان يراها وهي ترمي بشرر كالقصر، فكم زمر أضحت لذلك الدخان جاثية، وكم نفس كانت في النازعات وهي تتلو: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ «1» ولم تزل النار تأكل ما يليها، وتفني ما يستفلها ويعتليها، إلى أن ارتقت إلى المئذنة الشرقية، ولعبت ألسنتها المسودة في أعراض أخشابها النقية، وثارت إليها من الأرض لأخذ الثأر، وأصبح صخرها كما قالت الخنساء: كأنه علم في رأسه نار «2» ؛ فنكست وكانت للتوحيد سبابة، ولمعبدها المطرب شبابة، وابتلي رأسها من الهدم والنار بشقيقة، وأدار الحريق على دائرها رحيقه: [المتقارب]

وبالأرض من حبها صفرة ... فما ينبت الروض إلا بهارا وترقى إليها أو لو العزم من النظارة، وصبروا على النار والشعث بعد النعيم والنضارة، وكادت نارها تكون كنار القيامة وقودها الناس «1» والحجارة؛ هذا وبنفسج الظلام يذوي، ولينوفر «2» النار يشب على الماء ويقوى، حتى نثرت غصون ذوائب النار شررها في النواحي، وظننا الدخان روضة سوسن تخللها نرجس وأقاحي، وعقد الدخان سماء أخرى، وأطلع الشرار فيها كواكب زهرا، وكأن أهل دمشق دعوا طارق النيل والفرات ليقرى، وخافوا ضلاله فرفعوا له من النار في الظلماء ألوية حمرا، إلى أن أتاها البحر- لا زال نصره عجاجا، ولا برحت سيوفه تكاثر البحار أمواجا- فانكشفت لما أن رأت من وجهه سراجا وهاجا، وطفئت لما أن رأت جوده عذبا فراتا، وبأسه ملحا أجاجا، وكاثرهم بهمم أمرائه فأحكم إخمادها وتلقى بصدره من خطب الزمان ما دهى؛ ولما طلع في روض السماء ياسمين النهار، وعاد إهليلجا ما رؤي بالليل من الجلنار، وقف النادبون على الرسوم، ورأوا صنع النار التي عكست نار الآخرة، فكان لكلّ مكان منها جزء مقسوم «3» : [الطويل] فلم يدر رسم الدار كيف يجيبنا ... ولا نحن من فرط الجوى كيف نسأل وأصبح باب الساعات «4» وهو من آيات الساعة، وخلت مصاطب الشهود من السنة والجماعة، وعادت الدهشة وقد آل أمرها إلى الوحشة، وحسنها البديع، وقد ثلث النار عرشه، كأن لم أر بها سميرا، ولا شاهدت من بنائها

وقماشها جنة وحريرا، قد سلط الله عليها النار التي ما لها ردة، وأحرق أزهار ثيابها الملونة بوردة؛ ونظرت إلى الوراقين وقد زال ما بها من الطرائف، وطاف عليها من الدثور والخراب طائف، فيا ضياع أوضاعها المكونة، ويا سواد وجوه أوراقها الملونة، ولمحت اللبادين وقد صارت كالعهن المنفوش، ومحيت بأيدي النار سطور كل خاتم منقوش، وأصبح أهلها كالحمائم تنوح على أقفاصها، وتود اللآلئ أنها لم تخرج إليهم من مغاصها، فما منهم إلا ربّ نعمة سلبت، أصبح بعد الجديد في خلق، أو غنيّ أمسى بعد ما ضم قفصه يكدي في الحلق، وكادت الخضراء «1» تذهب بالنار الحمراء. قال: فلما رأيت تلك الأطلال الدائرة، ونسخ هاتيك الظلال المتصلة بالهاجرة، وخطوطها وزواياها كيف أحاط بها سوء الدائرة: قلت عند مشاهدة تلك الحال في الحال: [الطويل] حريق دمشق قد بدا لعياني ... ليظهر لي عند البيان معاني غدت ناره في الجو تعلو وترتقي ... كأن لها عند النجوم أماني لقد ضوّأ الآفاق لامع برقها ... وما كلّ برق شمته بيماني وقد كاد يمحو آية الليل ضوؤها ... ويبدي نهارا بعد ذلك ثاني ونالت عنان الجو حتى رأيتها ... يصرفه من تحتها بعنان وطالت إلى نهر المجرة في السما ... لتقصد شيّ الحوت والسرطان فأبصر أهل النيل لما ترفعت ... نجوم شرار في سماء دخان كأن دخان النار غبراء مغزل ... وكل شرار فيه مثل سنان ولو لم تكن نار الأعادي لما غدت ... وحنّاؤها باد بكل بنان ولا صبغت بالزعفران قميصها ... سرورا ولا طالت بكل لسان

قال: وما نفض الناس غبار ذلك الهدم، ولا رماد ذلك الصدع الشديد الصدم، حتى وقع بالمدرسة الأمينية «1» حريق ثان، ودهمت شقراء النار دهماء الظلام، ولم يوجد لعنانها ثان، فجمعت بين عين الوداع وسين السلام، وكانت كحمى أبي الطيب، فليس تزور إلا في الظلام «2» فيا لسوق الكفت كيف باد وفتت الأكباد؛ علكت النار لجمه، وكسفت نجمه، أين بأسه الشديد، ومنافعه التي لا تبيد؟ سكت زبره، ورفع خبره. ويا لسوق الخيم، كيف ذهب، وعدم النصر على الكافرين، فتبت يدا أبي لهب، لقد تمسكت النار بأطنابه، وتجلد لها والنار تحت ثيابه، وأمسى وكل عمود غصنه مهصور، وكل خام وهو على البلى مقصور، كأن الشاعر قديما تخيل ما يحصل لها من الأوام، فقال: سقيت الغيث أيتها الخيام. ويا لسوق القسي كيف محي من الوجود ونسي، لم يبق لقوس قلبها، ولم يعطها لباريها ربها، كأنما كان للنار عند القسي أوتار، وكأن نسخها كان محققا فجاءهم بقلم الطومار، أو كأن امتهانها كان معلقا بثلث الليل بعد ما رقت حواشيها ولم يقع عليها غبار، فكم قسي توفر من النار سهمها، وعظم بوهنها وهمها، وأقامتها النار بعد ما كانت حنايا، وأفنت قرنها وما اختلط بعظم أو الحوايا، لم تبطش ولها أيد، ولم تهرب ولها أرجل ولم تئنّ وهي مرنان، ولم تدفع الأذى عن نفسها ونفثها يقتل، ولم ينبسط لها إلى الدفع قبضة، ولم تصل إلى غرض، ولم ينبض لعرق وترها نبضة؛ قد قال لها لسان النار: هل سمعت بهذه الحادثة في ملحمة ابن عقب؟ أو اتصل بناؤها بقوس السحاب فانتظره وارتقب؛ كيف غفلت عن هذه النازلة، وأنت عدة قوم قليلا من الليل ما

يهجعون؟ وكيف نمت ولا عجب لمن نعس وهو ذو قرون؟ قال: فبينما هما في المناجاة، وتكرار المحاجاة، إذ جاء النار خير مالك، وأشرف من زهيت به الدول والممالك، فجاس خلال ضرامها، ودخل لظاها فتلقته ببردها وسلامها، وتتبع أثرها الذي آثر اقتلاعه واقتحمها، فتعلقت إذ تألقت في الجو، والفرار قدام الملوك طاعة، ولم ير تلك الساعة أحد أقرب منه إليها، ولا أسلط سطا منه عليها، وثب في جهاتها مماليكه وأمراؤه، وصغار بنيه وكبراؤه، فهم قوم: [الطويل] إذا ركبوا زادوا المواكب بهجة ... وإن جلسوا كانوا صدور المجالس فلم ير أسهل من خمودها، ولا أسرع من إبطال حركتها وجمودها؛ ونصر- أعز الله أنصاره- هذه الملة المحمدية، وحاز بهذه المنقبة الكرامة الأحمدية. ولما رأيت مسك هذا الختام، وأن الجيش تعالى وانحط القتام، قلت: [السريع] جاد ليطفي النار من اسمه ... بحر فأخفى زندها الواري ومن يكن بحرا فلا غرو أن ... تطفا لظى منه بتيار وقام في الله لدفع الأذى ... مؤيدا بالقدر الجبّار وغير بدع أن يرد الردى ... بمرهف الحدين بتار لأنه سيف ولم يدخر ... إلا لخطب طارق طار واقتحم النار بوجه حكى ... بدر الدجى إذ لاح للساري فانظر إليه وهو في وسطها ... تشاهد الجنة في النار قال: ولم يزل الناس من أمر هذه النار في قلق، وحدس نفى عن قلوبهم القرار، ورمى جفونهم بالأرق، وحنق يود الصبح لو تنفس، والفجر معه لو انفلق، حتى أظهر الله تعالى أن النصارى قصدوا الجامع بذلك، وتخيلوا أن النار تلعب في

جوانب دمشق، وما الناس إلا هالك وابن هالك «1» ؛ وتوهموا أن فعلاتهم المذمومة تغطي مساوئها الليالي الحوالك، فعل من صوّر الصور بيده وعبدها، وكفر بالوحدانية وجحدها، وعكف على الخيانة والجناية، واعتمد على عقل أداه إلى أن الواحد تعالى ثلاثة، فتهيب بعض الناس رميهم بهذا الحجر وأعظم نسبة هذا الفعل إليهم، وفجر وخوف بانتصار الفرنج لأهل ملتهم، وإزاحة علّتهم، وكشف غمتهم، والأخذ بثأر رمّتهم؛ فقال من صدق في إيمانه، وكان من أنصار الإسلام وأعوانه «2» : [الوافر] أعباد المسيح يخاف صحبي ... ونحن عبيد من خلق المسيحا فما كان إلا أن صممت العزمات السيفية، وعمت بإحسانها الشامل، حتى خلصت النفوس البريئة من هذه البرية، وأيقظت عين حزمها الراقدة، واستبدت مرة واحدة؛ ورسم بإمساك من أبرم هذا الأمر وحرره، وبيت على فعله وقرره، فأقروا بما فعلوا، ووجدوا ما عملوا، فضربوا بسياط كشطت غلظ الغلظ من جلدتهم، وأوهنت قوى شجاعتهم وجلدهم، كم فيهم من أسود اللّمّة فتق جلده الشيب، وخطّ وخطه على جنبه ما كان مخبوءا له في الغيب، وأقبل بعضهم يوبخ بعضا فيما أشار، ويتبرم هذا إذ يتبرأ ذاك من هذه الآثار، ويتسابون فيما بينهم، إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ » . ولقد قلت فيهم عند التشفي، والانكفاء عن عقابهم بما يكفّ الحنق ويكفي: [الكامل] حرثت جنوبهم وشقت أرضها ... ليلا فجاد نباتها بشقيق

وأريد تأريخ الحريق فخطه ال ... والي على أضلاعهم بعقيق ولما أخذ سحت أموالهم، وصرف في إيجاد ما أعدموه بفعالهم، نظر في سوء منقلبهم ومآلهم، وتمام المقابلة على تجنيس أعماله، وورد المرسوم العشرين بتسميرهم على الجمال، وإظهار ما لهذه الملة القاهرة من العز والجمال، فقضى الله تعالى فيهم أمرهم، وجعلهم آية لأهل الصليب وعبرة، وأخرجوا وطباع الورى على عدم رحمتهم مجبولة، وقدموا في حلقة الناس، فخرج كل واحد منهم بجمل وست فحولة، وأقيموا رقباء للشمس كالحرباء، فليس لهم من دونها ستر منسبل، وتنوع الناس في شتمهم، فقال: أشبعتمونا شتما «1» ، ورحنا بالإبل: [الكامل] انظر إليهم في الجذوع كأنهم ... قد فوقوا يرمون بالنشاب أو عصبة عزموا الرحيل فنكسوا ... أعناقهم أسفا على الأحباب وطيف بهم بياض يومين، ثم أنزلوا ليجعل كل سطل منهم دلوين، فجردوا من ثيابهم، وجمع شمل السرور بتمزيق إهابهم: [السريع] ساقهم البغي إلى صرعة ... للحين لم تخطر على بالهم كم أملوا المكروه في غيرهم ... فنالهم مكروه آمالهم وسبق السيف فيهم العذل، وقال كل مسلم لمصرعهم: تركتني أصحب الدنيا بلا أمل؛ وبقيت أشلاؤهم طريحة الحفير، وألقوا في جهنم وبئس المصير. * ومن شعره قوله: [البسيط] أدعوك يا موجد الأشياء من عدم ... وصانع العالم العلوي والأرضي

إن كنت تعرض يوم الحشر لي عملا ... فلا تقدر له طولا على عرضي وقوله: [السريع] يا رب إن لم ألق منك الرضا ... عمري وحاشا فضلك الغامر فعند حفر القبر لا تنسني ... يا حسنه نقدا مع الحافر وقوله: [من الوافر] يقول الفكر لي دنست ثوب الش ... شباب في غداة الشيب تتعب وتغسله بدمعك كل وقت ... وما ينقى لأن الطبع أغلب وقوله «1» : [السريع] لا تسأل الناس فإني امرؤ ... ما طاب لي عرف من العرف واقنع ولا تجمع حطاما فكم ... في الدهر للدينار من صرف وقوله «2» : [السريع] لا تجمع الدينار واسمح به ... ولا تقل: كن في حمى كنفي ما الدهر نحويّ فينجو الهدى ... ويمنع الجمع من الصرف وقوله «3» : [السريع] يا زمنا أوقعنا شؤمه ... في محنة ليس لها كاشفه الفضل يحتاج إلى عارف ... والحال يحتاج إلى عارفه وقوله: [من السريع]

لا ترع للملاق عهدا ولا ... تصغ لما نمقه واختلق فأنت تدري ما جنته يد الر ... رامي على الطير برعي الملق وقوله مضمنا «1» : [الطويل] يقول لنا المقياس والنيل هابط ... لنقطع آمال المنى والمطامع «ومن يأمن الدنيا يكن مثل قابض ... على الماء خانته فروج الأصابع» وقوله: [السريع] لا تطغ تلق الشر كالنيل إذ ... طغى وزاد الأمر في هيجه كم جاءه بالشر شرّ إلى ... أن كسر الأضلاع من موجه وقوله «2» : [المجتث] لم لا أهيم بمصر ... وأرتضيها وأعشق وما ترى العين أحلى ... من مائها إن تملق وقوله: [البسيط] لقد رأيت بمصر مذحللت بها ... عجائبا ما رآها الناس في جيل تسود في عيني الدنيا فلم أرها ... تبيض إلا إذا ما كنت في النيل وقوله: [البسيط] قالوا: علا نيل مصر في زيادته ... حتى لقد بلغ الأهرام حين طمى فقلت: هذا عجيب في بلادكم ... أن ابن ستة عشر يبلغ الهرما

وقوله «1» : [السريع] قد زاد هذا النيل في عامنا ... فأغرق الأرض بإنعامه وكاد أن يعطف من مائه ... عرى على أزرار أهرامه وقوله: [مخلع البسيط] قد حارب الريح نيل مصر ... وعض من غيظه الأصابع فجاءت الريح بانزعاج ... كسّر من موجه الأضالع وقوله: [الهزج] وعين ماؤها صاف ... كمثل الشمس في الأوج ولم أر قبلها عينا ... حواجبها من الموج وقوله: [البسيط] ركبت في البحر [يوما] مع أخي أدب ... فقال: دعني من قال ومن قيل شرحت يا بحر صدري اليوم، قلت [له:] ... لا تنكر الشرح يا نحوي للنيل «2» وقوله: [الكامل] لك إن تغب شخص وذكر أصبحا ... ملكين في ذاتي وذلك لائق فخيام جفني فوق ذا مضروبة ... ولواء قلبي فوق هذا خافق وقوله: [السريع] كأنما الليل إذا مادجا ... وصدّ من قلبي به مغرى صحيفة سودا وشخصي به ... من انتحالي ألف صفرا

وقوله «1» : [الطويل] أتاني وقد أودى السهاد بناظري ... يمزق جنح الليل بارق فيه فقلت له: يا طيب الأصل هكذا ... أخذت الكرى مني وعيني فيه وقوله: [الكامل] لما رقدت أتى خيالك بغتة ... فغدا فؤادي خافقا يتموج «2» لو أن صحبي شاهدوني في الكرى ... والقلب يرقص في الخيال تفرجوا وقوله «3» : [المتقارب] ضممت خيالك لما أتى ... وقبلته قبلة المغرم وقمت ومن فرحتي باللقا ... حلاوة ذاك اللمى في فمي وقوله: [السريع] عجبت إذ زارت على خفية ... من أعلم الواشي بمسراها هذا فضول من نسيم الصبا ... فهو الذي ينقل رياها وقوله: [السريع] قلت له: زرني فلابد أن ... يدري بنا الواشي ويغري العذول فالريح ما تكتم سرا وما ... يبرح ريّاك يعاني الفضول وقوله: [السريع] قالوا: وشى الحلي بها إذ مشت ... إليك من قبل ابتسام الصباح

فقلت: لا خلخالها صامت ... ثم تذكرت فضول الوشاح وقوله «1» : [الكامل] علم الوشاة بأن ريق معذبي ... راح يعيد الصب بعد هلاكه أما أنا لم يبد هذا من فمي ... لكن هذا من فضول سواكه وقوله: [السريع] يقول: لما قلت هذا اللمى ... أسكرني لما ترشفت فاك سواك ما ذاق لمى مبسمي ... أستغفر الله ذكرت السواك وقوله: [المتقارب] إذا شئت حليك أن لا يشي ... وقد زرت في الحندس المظلم فردي السوار مكان الوشا ... ح وخلي سوارك في المعصم وقوله: [الخفيف] قال لي: لا تفه بميل قوامي ... إن تثنى واستره خوف العيون قلت: [إن] الصبا التي قد أشاعت ... عنك هذا الحديث بين الغصون «2» وقوله: [البسيط] أقول: يا غصن هلا ملت نحو فتى ... فؤاده طار حتى ليس يألفه فقال: من قال: قدي مثل غصن نقا؟ ... قلت: النسيم الذي ما زال يعطفه وقوله مضمنا: [الطويل]

أقول لغصن البان: إن كان لم يمس ... قوامك إلا بالصبا في التنسم فعارض حبيبي حين يثني قوامه ... وقف وقفة قدامه تتعلم وقوله: [من السريع] يوهمني من لين أعطافه ... بأنه لم يقس يوما علي ويخدع البند إلى أن غدا ... يربطه الخصر على غير شيّ وقوله: [مجزوء الكامل] لم أنسه في روضة ... والطير يصدح فوق غصن فأعلم الورق البكا ... ويعلّم الغصن التثني وقوله: [المجتث] يهتز قدك لينا ... وفي الحشا منه غصه يغيب عني حينا ... وإن أتى جاء برقصه وقوله: [الخفيف] أيها الأهيف الذي قد تثني ... عطفه والتوى من اللين غصنه لك ردف من وافر وبسيط ... لا يرى في الربا ولا الكثب وزنه وقوله: [المجتث] يقول ردف حبيبي ... وعطفه المتثني: ما أنت يا غصن قدي ... ولا كثيبك وزني وقوله: [الهزج] لقد أضعفني حزني ... وضاعف خالقي حسنك فها أنا لم أزن وجدي ... لأني لم أجد وزنك

وقوله: [البسيط] ألبستها من عناقي وهي نائمة ... ثوبا يزر بلثم غير منفصل يا خجلتا في غد منها إذا أخذت ... مرآتها ورأت ما أثرت قبلي وقوله: [المنسرح] يا برق بلغ رسالتي فمها ... إن أنكرتني فصف لها عللي لأن بيني وبين مبسمها ... ليلة زارت علامة القبل وقوله: [مخلع البسيط] قلت له: إن بعدت عني ... تفضولت بيننا العواذل أما ترانا لما اعتنقنا ... ما دخلت بيننا الغلائل وقوله: [الوافر] نظرت إلى الرياض ولي مجاز ... يؤديني إلى المعنى الحقيقي فكم أبصرت من آس تبدى ... وما اندملت جراحات الشقيق وقوله: [المتقارب] عذارك والطرف يا قاتلي ... يحاكيهما الآس والنرجس وقد صار بينهما نسبة ... فهذا يدب وذا ينعس وقوله «1» : [الخفيف] إن عيني مذ غاب شخصك عنها ... يأمر السهد في كراها وينهى بدموع كأنهن الغوادي ... لا تسل ما جرى على الخد منها

وقوله «1» : [الكامل] أملت أن تتعطفوا بوصالكم ... فرأيت من هجرانكم ما لا يرى وعلمت أن بعادكم لا بدّ أن ... يجري له دمعي دما وكذا جرى وجاءت شتوة وشّعت بروقها حاشية السحاب، ووشّت لمم الجبال الشائبة توشية الخضاب، وهدرت رعودها الصائلة، ووفت عهودها السائلة، وتوالت مدة لا يكشط فيها سماء، ولا يكشف بأيام الثلوج المصبحة ظلماء، ودامت أياما لا تفصل فصالها عن سحائب، ولا تولد بكرة يوم إلا وهي في طفولتها شائبة النواصي والذوائب، هذا ولا تصبح صبيحة ضاحك إلا ووجه الأرض عبوس، ومعطف السماء في لبوس بؤس، وقوس السحاب ترمي بقسي مالها وتر، وغدر الثلج الصافية كالبلور كلها كدر، والسقوف وقد أرقها المطر فأنهرها، والطرق قد عرفها اللثق ونكّرها، والبرد قد اشتد كلبه، ولهذا غطى جمده الماء، ولم يشتف حتى شرب العذب البارد ممزوجا بمثل الدماء. فكتبت إليه: كيف أصبح مولانا في هذا الشتاء الذي أقبل يرعب مقدمه، ويرهب تقدمه، ويريب اللبيب من برقه المومض تبسمه؟ وكيف حاله مع رعوده الصارخة، ورياحه النافخة، ووجوه أيامه الكالحة، وسرر لياليه التي لا تبيت منها بليلة صالحة وسحابه وأمواجه وجليده، والمشي فوق زجاجه، وتراكم مطره الحثيث، وتطاول فرع ليله الأثيث، ومواقده السود الممقوتة، وذائب جمره المحمر، وأهون بها ولو أن كل حمراء ياقوتة، وتحدر نؤيه المتصبب، وتحير نجمه المتصوب؟ وكيف هو مع جيشه الذي ما أطل حتى نصب مضارب غمامه،

وظلل الجو بمثل أجنحة الفواخت من أعلامه؟ هذا على أنه عرّى الأبنية، وحلل مما تلف ذمّه سالف الأشتية، فلقد جاء من البرد بما رض العظام وأنخرها، ودق فخارات الأجسام وفخرها، وجمد في الفم الريق، وعقد اللسان إلا أنه «1» لسان المنطيق، ويبس الأصابع حتى كادت أغصانها توقد حطبا، وقيد الأرجل فكانت لا تمشي إلا تتوقع عطبا، وأتى الزمهرير بجنود ما للقوي بها قبل، وحمل الأجسام من ثقل الثياب ما لا يعصمهم منه من قال: سَآوِي إِلى جَبَلٍ «2» ، ومدّ من السيل ما استبكى العيون إذا جرى، واجتحف ما أتى عليه وأول ما بدأ الدمع بالكرى، فكيف أنت يا سيدي في هذه الأحوال؟ وكيف أنت في مقاساة هذه الأهوال؟ وكيف رأيت منها ما شيب بثلجه نواصي الجبال؟ وجاء من البحر فتلقف ثعبانه ما ألقته هراوات البروق من عصي، وخيوط السحاب من حبال؛ أما نحن فبين أفواج من السحب تزدحم، وفي رأس جبل لا يعصم فيه من الماء إلا من رحم؛ وكيف سيدنا مع مجامر كانون وشرار برقها القادح، وهم ودقها الفادح، وقوس قزحها المتلون؟ رد الله عليه صوائب سهامه، وبدّلنا منه بوشائع حلل الربيع ونضارة أيامه، وجعل حظ مولانا من لوافحه ما يذكيه دهنه من ضرامه، ومن سوافحه ما يولده فكره من تؤامه، وعوضنا وإيّاه منه بالصيف إذا أقبل، وأراحنا من هذا الشتاء، ومشى غمامه المتبختر بكمه المسبل. فكتب إلي جوابا: وينهي ورود هذه الرقعة التي هي طراز في حلة الدهر، والحديقة التي تذكّر بزمن الربيع وما تهديه أيامه من أنواع الزهر، فوقف منها على الروض الذي تهدلت فروع غصونه بالأثمار، ونظر منها إلى الأفق الذي كلّ كواكبه شموس

وأقمار، فأنشأت له أطرابه، وأعلمته أن قلم مولانا يفعل بالألباب ما لا تفعله نغمات الشبّابة، وأرشفته سلافا كورسها الحروف، وكل نقطة حبابة؛ وشاهد أوصاف هذه الأيام المباركة القدوم، المتصلة الظلام فلا أوحش الله من طلعة الشمس، وحواجب الأهلة، وعيون النجوم، فما لنا ولهذه السحائب السحّابة، والرعود الصخّابة، والبروق اللهّابة، والغمائم السكابة، والثلوج التي أصبحت بحصبائها حصّابة والبرد الذي أمست إبره لغضون الجلود قطّابة، والزميتا التي لا تروي عن أبي ذر، إلا ويروي الغيث عن أبي قلابة، كلما أقبلت فحمة ظلام قدحت فيها البوارق جمرتها، وكلما جاءت سحابة كحلاء الجفون رجعت وهي مرهاء لما أسبلت من عبرتها، فما هذا طوبة «1» ، إن هذا إلا جبل ثهلان، وما هذا كانون، إن هو إلا تنور الطوفان، التي متى قطن هذه الثلوج يطرح على حباب الجبال، وإلى متى تفاض دلاص الأنهار، وترشقها قوس قزح بالنبال؟ وإلى متى تشقّق السحاب ما لها من الحلل والحبر؟، وإلى متى ترسل خيوط المزن من الجو وفي أطرافها على الغدران إبر؟ وإلى متى تجمد عيون الغمام وتلحّها البروق بالنار؟ وإلى متى نثار هذه الفضة وما يرى للنجم دينار؟ وإلى متى نحن نحنو على النار حنو المرضعات على الفطيم؟ «2» وإلى متى تبكي هذه الميازيب بكاء الأولياء بغير حزن، إذا استولوا على مال اليتيم؟ «3» وإلى متى هذا البرق تتلوى بطون حياته، وتتقلب حماليق العيون المحمرة من أسود غاباته؟ وإلى متى يزمجر عتب هذه الرياح العاصفة؟ وإلى متى يرسل الزمهرير أعوانا تصبح بها حلاوة

الوجوه تالفة؟ أترى هذه الأمطار تقلب من أزيار؟ أم ترى هذه المواليد تنتهي فيها الأعمار؟ كم من جليد يذوب له قلب الجليد، ويرى زجاجه الشفاف أصلب من الحديد! وكم من وحل لا تمشي هريرة فيه الوجى! «1» ، وكم من برد لا ينتطق فيه نوم الضحى! اللهم حوالينا ولا علينا، لقد أضجرنا تراكم الثياب، ومقاساة ما لهذه الرحمة من العذاب، وانجماع كلّ عن إلفه، وإغلاق باب القباب، وتخلل الضباب زوايا البيوت، والأطفال ضباب الضباب، كل ضبّ منهم قد لزم باطن نافقائه، وقدم بين يديه الموت بداية بدائه، قد حسد على النار من أمسى مذنبا وأصبح عاصيا، وتمنى أن يرى من فواكه الجمرات عنابا أو قراصيا، فإن كانت هذه الأمطار تكاثر فضائل مولانا، فيا طول ما تسفح، وإن كانت العواصف تتشبه ببأسه، فيا طول ما تلفح، وإن كانت البروق تحاكي ذهنه المتسرع، فيا طول ما تتألق، وإن كانت قوس قزح تتلون خجلا من طروسه، فياطول ما تتأنق، وإن كانت الرعود تحكي جوانح أعاديه، فيا طول ما تفهق وتشهق، وإن كانت السيول تجري وراء جوده، فيا طول ما تجري على طول المدى وما تلحق؛ والأولى بهذا النوء الباكي أن لا يحاكي، والأليق بهذا الفصل المبغض ألا يتعرض؛ ورحم الله من عرف قدره، وكفى الناس شره، وتحقق أن مولانا في هذا الوجود ندرة. فأجبته: وقف لمواقع القلم الشريف ووقف عليه، وتيمن بمجرد إقباله إليه، وقبّلة لقرب عهده بيديه، وعدّه لجلاء المرّة لما أمرّه على عينيه، لا برح الشهد من جني ريقه

المعلل، والطرب بكأس رحيقه المحلل، والتيه وحاشاه منه في سلوك طريقه المدلل، والجهد- ولو كلف- لا يجيء بمثل سيره المذلل، والسحاب لا يطير إلا بجناح كرمه المبلل، والروض لا يبرز إلا في ثوب زخرفه المجلل، والبرق لا يهتز إلا في مثل ردائه المشلل، والنصر يفضي لمواضيه على حد حسامه المفلل، والفجر لولا بيانه الوضاح لما أرشد دليله المضلل، والبحر لولا ما عرف من عبابه الزاخر لما ذم على غزر المادة نواله المقلل، والفخر- ولو شمخ بأنفه- لا ينافس عقده الموشح، ولا يتطاول إلى تاجه المكلل، وفهمه فهام، وعلمه فزاد صقال الأفهام، وقصر عن معرفته فما شك أنه إلهام، وانتهى في الجواب إلى وصف أنواء تلك الليلة الماطرة، وما موهت به السحب من ذهب برقها، وقتلته الأنواء من خيوط ودقها، ونفخت فيه الرياح من جمر كانونها، وأظهرت حقيقته الرعود من سرّ مكنونها، وما تبثه عارضة ذلك العارض الممطر الذي هو أقوى من شآبيبها، وأوقى مما أرقته «1» السّماء من جلابيبها، وأسرى من برقها المومض في غرابيبها، وأسرع من سرى رياحها وقد جمعت أطواق السحب وأخذت بتلابيبها؛ وسبح الملوك من عجب لهذه البلاغة التي كملت الفضائل، وفضلت عن العلم وفي الرعيل الأول علم الأوائل، وفضلت مبدعها وحق له التفضيل، وآتته جملة الفضل وفي ضمنها التفضيل، وانطقت لسان بيانه وأخرست كل لسان، وأجرت قلم كرمه وأحرزت كل إحسان، ونشرت علم علمه وأدخلت تحته كل فاضل، وأرهفت شبا حده وقطعت به كل مناظر وكل مناضل، وقالت للسحاب: إليك- وقد طبق- إليك، فإن البحر قد جاءك؛ وللنوء- وقد أغدق- تنح، فإن الطوفان قد ضيق أرجاءك؛ وللرعد وقد صرخ: اسكت، فقد آن لهذه الشقاشق أن تسكت؛ وللبرق وقد نسخ آية الليل: استدرك غلطك، لئلا تبكت؛ أما ترى هذه العلوم

الجمة وقد زخر بحرها، وأثر في الألباب سحرها، وهذه الفضائل وكيف تفننت فنونها، وفتنت عيونها، وتهدلت بالثمرات أفنانها، وتزخرفت بالمحاسن جنانها، وهذه الألمعية وكيف ذهّبت الأصائل، وهذه اللوذعية وما أبقت مقالا لقائل، وهذه البراعة التي فاضت وكلّ منها سكران طافح، وهذه الفصاحة وما غادرت بين الجوانح، وهذه البلاغة التي سالت بأعناق المطي بها الأباطح «1» ، وهذه الحكم البوالغ، وهذه النعم السوابغ، وهذه الهمم التي ترقت بتوجهها إلى السماء، فكشفت غياية عارضها، وكفت غواية البرق وقد ولع خط مشيبه بخط عارضها، حتى جلاها وأضحاها، وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها «2» وجلا صدأ تلك الليلة عن صفيحة ذلك اليوم المشمس، وبدل بذلك الصحو المطبع من ذلك الغيم المؤنس، وأترع غدير ذلك النهار خالصا من الرنق، وضوّع غير ذلك الثرى خاليا من اللثق، وأطلع شمس ذلك اليوم يوشع جانب مشرقها، ويوشي بذائب الذهب رداء أفقها. كما قلت: [السريع] كأنما اليوم وقد موهت ... مشرقه الشمس ولا جاحد ثوب من الشرب ولكنه ... طرّز منه كمّه الواحد أستغفر الله، بل ذلك بشر ذلك البشر، بل الملك الكريم وصفيحة وجهه المتهلل الوسيم، لا بل صفيحة «3» عمله وصفيحة أمله، وأنموذج راية الثناء عليه، وصنويده البيضاء وصنع يديه؛ فلله تلك اليد المقبلة، ولله تلك اليد المؤملة،

ولله تلك المواهب المجزلة، ولله تلك الراحة التي لا تقاس بأنملة، ولله ذلك البنان الساحر، ولله ذلك البيان الساخر، ولله ذلك اللسان المدرب، وذلك البحر الزاخر، ولله ذلك الإنسان الذي طال باع عمله وطار، فأوقد ضرام ذلك الصحو شعاع فهمه، وطاب جني ثمره وجناب حلمه، وطاف الأرض صيته، ونفق كاسد الفضائل باسمه؛ لقد ألبس المملوك رداء الفخار، وعرّفه العوم وكان لا يطمع أن يشق بحره الزخار، ومحى عنه صبغ دجنة تلك الليلة، وفرج عنه لباس تلك السحب وقد ضم عليه ذيله، وفرق ذلك النور المعتلج وقد جاراه جفنه، وأجرى مثله سبله، وأطلق لسانه من الاعتقال، وأنطق بيانه فقال، وحمى له هجير الذكاء فقال، ووقفه ولولا إيقافه لغبّر على آثاره في وجه من سبق. فكتب هو الجواب: [الكامل] جاء الجواب يزف منه فواضلا ... ويرف في روض البيان خمائلا أغرقت غر السحب حين وصفتها ... يا من غدا بحرا يموج فضائلا لو لم تكن يمناك بحرا زاخرا ... ما أرسلت تلك السطور جداولا ضرب من السّحر الحلال متى تشأ ... أخرجته فيعود ضربا داخلا ما إن جلا راويه بحر بيانه ... إلا وزان مشاهدا ومحافلا فمتى يروم به اللحاق مقصّر ... والنجم أقرب من مداه تناولا أبرزته أفقا فكل قرينة ... برج حوى معناه أفقا كاملا فكأنما تلك الحروف حدائق ... أمست معانيها تصيح بلابلا وكأن ذاك الطرس خد رائق ... والسطر فيه غدا عذارا سائلا مهلا أبا العباس قد أفحمتني ... وتركتني بعد التحلي عاطلا بالله قل لي عند ما سطرته ... هل كنت تحسب أن تجيب الفاضلا أقسمت لو جاراك في إنشائه ... ما كان ضم على اليراع أناملا

حركت منك حمية عدوية ... ملأت فضاء الطرس منك جحافلا كم فيه من لام كلأمة فارس ... قد هزّ من ألفات خطك ذابلا هل شئت أن تنشي الجواب سحابة ... تندى فجاءت منك سيلا سائلا يا فارس الإنشاء رفقا بالذي ... نازلته يوم الترسل راجلا لو رام أن يجري وراءك خطوة ... نصبت له تلك الحروف حبائلا فاحبس عنانك قد تجاوزت المدى ... وتركت سحبان الفصاحة باقلا والفاضل المسكين أصبح فنه ... من بعد ما قد راح فينا خاملا فاسلم لتبليغ النفوس مرامها ... فالدهر في أبواب فضلك ماثلا كم فيك لي أمل يروق لأنني ... أدري بأنك لا تخيب آملا وكتبت أنا الجواب إليه: [الكامل] وافى الكمي بها يهز مناصلا ... ويرم صبغا للشبيبة ناصلا سبق الظلام بها ونبه ليله ... ولو انه في الفجر حلى العاطلا حمراء قانية يذوب شعاعها ... وترى حصا الياقوت فيها سائلا حمراء قانية تحث كؤوسها ... وقع الصوارم والوشيج الذابلا ذهبية ما عرق عانة كرمها ... لكنها كف الكريم شمائلا كف كمنبجس النوال كأنما ... دفع السيول تمد منه نائلا كرم خليلي يمد سماطه ... ويشب نارا للقرى وفواضلا ولهيب فكر لو تطير شرارة ... منه لما بل السحاب الوابلا يذكي به في كل صبحة قرة ... فهما لنيران القرائح آكلا عجبا له من سابق متأخر ... فات الأواخر ثم فات أوائلا دانوه في شبه وما قيسوا به ... من ذا تراه للغمام مساجلا ماثل به البحر الخضم فإنه ... لا يرتضي خلقا سواه مماثلا

وافت عقيلته ولو بدأ امرؤ ... فيها استقل من البروج معاقلا جاءت شبيه الخود في حلل لها ... حمر بتذهيب الخدود لها حلى قد خضبت بدم الحسود أما ترى ... أثر السواد بها عليه دلائلا حلل على سحبان تسحب ذيلها ... وتجر من طرف الذبول الفاضلا خلت الهلال يلوح طلع نقابها ... حتى نضت فرأيت بدرا كاملا بنت القريحة ما ونت في خدرها ... حسن المليحة أن تواصل عاجلا جاءت تصوغ من العناق أساورا ... لا بل تخوض من السيول خلاخلا قبلتها وأعدت تقبيلي لها ... إن المتيم لا يخاف العاذلا وأتت وجيش النوء مرهوب السطا ... ملأ الوجود له قنا وقنابلا والبرق مشبوب الضرام لأنه ... صاد الغزالة حيث مد حبائلا وأتت ورأس الطود يشكو لمة ... قد عممت بالثلج شيبا شاملا وكأنما نثرت قراضة فضة ... أيدي البروق وقد خرقن أناملا ملأت به كل الفضاء فلا ترى ... إلا لجينا جامدا أو سائلا والأفق كالكأس المفضض ملؤه ... صهباء قد عقدت حبابا جائلا أبناء يوم قد تقهقر ضوؤه ... وبدا ذبالا في الأصائل ناحلا والجو منخرق القميص كأنه ... حنق يقد من السحاب غلائلا والسيل منحدر يسيل مهندا ... إفرنده ذهب يمد سلاسلا لله أنت أبا الصفاء فإنني ... ألقى خليلا منك لي ومخاللا أنت الذي حلقت صقرا أجدلا ... وصممت في برديك ليثا باسلا يا من ينفق سوق كل فضيلة ... إسأر فما أبقيت بعدك فاضلا «1» [فكتب هو الجواب] [الخفيف]

يا فريدا ألفاظه كالفريد ... ومجيدا قد فاق عبد المجيد «1» وإمام الأنام في كل علم ... وشريكا في الفضل للتوحيدي عرف العالمون فضلك بالعل ... - م وقال الجهال بالتقليد من تمنى بأن يرى لك شبها ... رام نقضا بالجهل حكم الوجود طال قدري على السماكين لما ... جاءني منك [عقد] در نضيد «2» شابه الدر في النظام ولما ... شابه السحر شاب رأس الوليد «3» هو لغز في ذات خدر منيع ... نزلت في العلى بقصر مشيد هي أم الأمين ذات المعالي ... من بني هاشم ذوي التأييد أنت كنت البادي لمعناه حقا ... حين لوحت لي بذكر الرشيد * وهذا آخر من ختمنا به أهل قطرنا أحياء وأمواتا، ولا حفلة بمن تخطيناه فواتا، إذ كان هؤلاء هم أعيان القوم، من أول هذه الملة وإلى اليوم، ممن اشتهر لعلو قدره أو لغلو دره، وثم بقايا ما حلوا مع أحد هذين، ولا كانوا في قسميها اللذين. وهذه جملة كافية في الكتاب المشارقة، وإنما أطلعنا من شموسهم شارقة، وهي دالة على ما بعدها من نهار يطنب في الخافقين، ويطيب ملائي النيرين الشارقين.

آخر السفر الثاني عشر من «مسالك الأبصار في ممالك الأمصار» ويتلوه إن شاء الله تعالى في السفر الثالث عشر،: فأما الكتاب المغاربة، وما لهم من نجوم غير غاربة. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه الطيبين، الطاهرين؛ حسبنا الله ونعم الوكيل. هـ «13» .

فهرس المترجمين

فهرس المترجمين 1 أبو اسحاق، الصابي 9 2 أبو محمّد، عبد الله بن عمر بن محمد الفياض 38 3 الحريري، أبو محمد، القاسم بن علي بن محمد بن عثمان 39 4 أبو الفرج، عبد الواحد بن نصر بن محمد، المخزومي، المعروف بالببغاء 53 5 بديع الزمان الهمذاني 67 6 أبو نصر العتبي 119 7 الحسين بن علي بن محمد بن عبد الصمد، أبو إسماعيل، مؤيد الدين، الطغرائي 124 8 أبو علي، الحسن بن عبد الصمد بن أبي الشخباء العسقلاني 135 9 القاضي الفاضل، محيي الدين، أبو علي، عبد الرحيم بن علي بن الحسن العسقلاني 140 10 محمد بن محمد، عماد الدين، أبو حامد القرشي الأصبهاني 253 11 نصر الله بن محمد بن محمد، ضياء الدين، أبو الفتح ابن الأثير الجزري 269 12 ابن زبادة، قوام الدين، أبو طالب، يحيى بن سعيد بن هبة الله الشيباني 312 13 شهاب الدين النسائي، أبو المؤيد، محمد بن أحمد بن علي الخرندزي 314

14 ابن أبي الحديد، عز الدين، عبد الحميد بن هبة الله بن محمد المدائني 318 15 أخوه: موفق الدين، القاسم بن هبة الله، أبو المعالي، المدائني 323 16 ابن بصاقة، أبو الفتح، نصر الله بن هبة الله بن عبد الباقي الغفاري 325 17 محمد بن نصر الله بن محمد بن محمد، أبو عبد الله، الشيباني 337 18 ابن قرناص، محيي الدين، الحموي 346 19 ابن العجمي، كمال الدين، أحمد بن عبد العزيز الحلبي، أبو العباس 348 20 ابن الأثير الحلبي، تاج الدين، أبو جعفر، أحمد بن سعيد 351 21 شهاب الدين، أبو محمد، يوسف بن أحمد بن عبد العزيز العجمي 362 22 أحمد بن محمود الشيباني، كمال الدين، أبو العباس، ابن العطار 365 23 محمد بن عبد الله، أبو محمد، ابن القيسراني، القرشي 393 24 محمود بن سلمان بن فهد الحلبي، شهاب الدين، أبو الثناء 397 25 علي بن محمد بن سلمان بن حمائل، علاء الدين، أبو الحسن 447 26 عبد الباقي بن عبد المجيد بن متى بن أحمد، القرشي، المخزومي، اليماني 454 27 عبد الله بن علي بن محمد بن سلمان، ابن غانم، أبو الفضل المقدسي 461 28 زين الدين الصفدي، أبو حفص، عمر بن داود بن هارون الحارثي 469 29 خليل بن آيبك الصفدي، أبو الصفاء، صلاح الدين 480

فهرس المصادر المعتمدة في الحواشي [المخطوطة والمطبوعة]

فهرس المصادر المعتمدة في الحواشي [المخطوطة والمطبوعة] - آداب الملوك، للثعالبي، تحقيق د. جليل العطية، ط. دار الغرب الإسلامي، بيروت 1990 م. - اتعاظ الحنفا، للمقريزي، ط. د. جمال الشيال ومحمد حلمي أحمد، المجلس الأعلى للشؤن الإسلامية، القاهرة 1967 - أحسن ما سمعت، للثعالبي، تحقيق: أحمد تمام وسيد عاصم، ط. مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت 1989 م - إخبار العلماء بأخبار الحكماء تاريخ الحكماء. - الأزمنة والأنواء، لابن الأجدابي، تحقيق د. عزة حسن، ط. وزارة الثقافة، دمشق 1964 م. - أساس البلاغة، للزمخشري، تحقيق عبد الرحيم محمود، ط. مطبعة أولاد أرفاند، القاهرة 1953 م. - أسرار الحكماء، لياقوت المستعصمي، تحقيق سميح صالح، ط. دار البشائر، دمشق 1994 م. - إشارة التعيين في تراجم النحاة واللغويين، لليماني، تحقيق د. عبد المجيد دياب، ط. مركز الملك فيصل 1986 م. - أشعار اللصوص، جمع وتحقيق عبد المعين الملوحي، ط. دار الحضارة الجديدة،

بيروت 1993 م. - الإعجاز والإيجاز، للثعالبي، تحقيق إبراهيم صالح، ط. دار البشائر، دمشق 2001 م. - أعيان العصر، للصفدي، تحقيق د. علي أبو زيد وزملائه، ط. دار الفكر، دمشق 1998 م. - الأغاني، للأصفهاني، مصورة دار الكتب المصرية، والهيئة العامة للكتاب، القاهرة. - الأمالي، للقالي، تحقيق عبد المجيد الأصمعي، مصورة دار الكتب المصرية، ط، المكتب التجاري، بيروت. - الأمثال والحكم، للرازي، تحقيق د. فيروز حريرجي، ط. المستشارية الثقافية الإيرانية بدمشق 1987 م. - إنباه الرواة، للقفطي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ط. دار الكتب المصرية 1952 م. - الأنساب، للسمعاني، تحقيق عبد الرحمن المعلمي وغيره، ط. أمين دمج، بيروت 1980 م. - أنساب الخيل، لابن الكلبي، تحقيق أحمد زكي، ط. القاهرة 1965 م. - الببغاء، حياته، ديوانه، رسائله، قصصه؛ جمع وتحقيق هلال ناجي، ط. عالم الكتب، بيروت 1998 م. - بدائع البداءة، لابن ظافر، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ط. المكتبة العصرية- صيدا 1992 م.

- البداية والنهاية، لابن كثير، تحقيق د. عبد المحسن التركي، ط. دار هجر، الرياض 1997 م. - برنامج الوادي آشي، تحقيق محمد محفوظ، ط. دار الغرب الإسلامي، بيروت 1982 م. - بغية الطلب في تاريخ حلب، لابن العديم، تحقيق د. سهيل زكار، ط. دار البعث، دمشق 1988 م- بغية الوعاة، للسيوطي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ط. الحلبي، القاهرة 1964 م - البلغة في تاريخ أئمة اللغة، للفيروز أبادي، تحقيق محمد المصري، ط. وزارة الثقافة بدمشق 1972 م. - بهجة المجالس، لابن عبد البرّ، تحقيق د. محمد مرسي الخولي، ط. القاهرة 1962 م. - البيان والتبيين، للجاحظ، تحقيق عبد السلام هارون، ط. القاهرة 1961 م. - تاريخ الإسلام، للذهبي، تحقيق د. عمر عبد السلام التدمري، ط. دار الكتاب العربي، بيروت 1986 م. - تاريخ بغداد، للخطيب البغدادي، تحقيق حامد الفقي، ط. المكتبة السلفية، المدينة المنورة. - تاريخ الحكماء، للقفطي، ط المتنبي، القاهرة (بلا تاريخ) . - تاريخ الخلفاء للسيوطي، تحقيق إبراهيم صالح، ط. دار صادر- بيروت 1997 م.

- تاريخ دمشق، لابن عساكر، تحقيق عدد من المحققين، ط. مجمع اللغة العربية بدمشق. (لم يتم) . - تاريخ الطبري، للطبري، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ط. دار المعارف، القاهرة 1967 م. - تاريخ ابن قاضي شهبة، تحقيق د. عدنان درويش، ط. المعهد الفرنسي، دمشق 1994 م - تاريخ ابن الوردي، ط. القاهرة 1285 هـ. - تالي وفيات الأعيان، للصقاعي، تحقيق جاكلين سوبليه، ط. المعهد الفرنسي، دمشق 1974 م. - التذكرة الحمدونية، لابن حمدون، تحقيق د. إحسان عباس وأخيه، ط. دار صادر، بيروت 1996 م. - تذكرة النبيه، لابن حبيب، تحقيق محمد محمد أمين، ط. دار الكتب المصرية 1976 م. - ترويح القلوب بذكر الملوك بني أيوب، للزبيدي، تحقيق د. صلاح الدين المنجد، ط. المجمع العلمي العربي، دمشق 1969 م. - التّطفيل، للخطيب البغدادي، تحقيق: د. عبد الله عسيلان، ط. دار المدني، جدة 1986 م. - التعريف بمصطلحات صبح الأعشى، محمد قنديل البقلي، ط. الهيئة المصرية العامة، القاهرة 1984 م. - تعريف ذوي العلا، للتقيّ الفاسي، تحقيق محمود الأرناؤوط وأكرم البوشي،

ط. دار صادر، بيروت 1998 م. - تكملة إكمال الإكمال، لابن الصابوني، تحقيق د. مصطفى جواد، ط. عالم الكتب، بيروت 1986 م. - التكملة في وفيات النقلة، للمنذري، تحقيق د. بشار عواد معروف، ط. الرسالة، بيروت 1981 م. - تكملة المعاجم العربية، لدوزي، ترجمة د. محمد سليم النعيمي، ط. وزارة الثقافة، بغداد 1978 م. - تلخيص مجمع الآداب، لابن الفوطي، تحقيق د. مصطفى جواد، ط. وزارة الثقافة، دمشق 1963 م. - تلخيص مجمع الآداب، لابن الفوطي، تحقيق محمد الكاظم، ط. وزارة الثقافة، طهران 1416 هـ. - تمام المتون، للصفدي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ط. القاهرة 1969 م. - التمثيل والمحاضرة، للثعالبي، تحقيق د. عبد الفتاح الحلو، ط. الحلبي، القاهرة 1961 م. - التنبيه على حدوث التصحيف، لحمزة الأصبهاني، تحقيق د. محمد أسعد طلس، ط. المجمع العلمي العربي، دمشق 1968 م. - توضيح المشتبه، لابن ناصر، تحقيق محمد نعيم العرقسوسي، ط. الرسالة، بيروت 1993 م. - ثمار القلوب، للثعالبي، تحقيق إبراهيم صالح، ط. دار البشائر، دمشق 1994 م.

- ثمرات الأوراق، للحموي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ط. مكتبة الخانجي، القاهرة 1971 م. - الجامع الكبير، للترمذي، تحقيق د. بشار عواد معروف، ط. دار الغرب الإسلامي، بيروت 1998 م. - جمهرة الإسلام، للشيزري، نسخة مجمع اللغة العربية بدمشق. - جمهرة أنساب العرب، لابن حزم، تحقيق عبد السلام هارون، ط. دار المعارف، القاهرة 1977 م. - الجواهر المضية، لابن أبي الوفا القرشي، تحقيق د. عبد الفتاح الحلو، ط. دار هجر، الرياض 1993 م. - حسن المحاضرة، للسيوطي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ط. دار الفكر العربي، القاهرة 1998 م. - حلية الأولياء، لأبي نعيم الأصبهاني، ط. دار إحياء التراث العربي، بيروت 1985 م. - الحوادث، لمؤلف مجهول، تحقيق د. بشار عواد معروف، ط. دار الغرب الإسلامي، بيروت 1997 م. - حياة الحيوان، للدميري، ط. انتشارات ناصر خسرو، طهران. - الحيوان، للجاحظ، تحقيق عبد السلام هارون، ط. الحلبي، القاهرة 1965 م. - خاص الخاص، للثعالبي، تحقيق: د. صادق النقوي، ط. دائرة المعارف العثمانية، الهند 1984 م. - خريدة القصر، للعماد الأصبهاني، (قسم مصر) تحقيق: أحمد أمين وزملائه

ط. لجنة التأليف، القاهرة. - خريدة القصر، للعماد الأصبهاني، (قسم العراق) تحقيق: محمد بهجة الأثري، ط. بغداد. - الدارس في تاريخ المدارس، للنعيمي، تحقيق جعفر الحسيني، ط. المجمع العلمي العربي، دمشق. - الدّرر الكامنة، لابن حجر، ط. دار إحياء التراث العربي، بيروت؛ مصورة الهند. - الدّرّ المنضد، للعليمي، تحقيق عبد الرحمن العثيمين، ط. مكتبة التوبة، الرياض 1992 م. - الدليل الشافي، لابن تغري بردي، تحقيق فهيم شلتوت، ط. جامعة أم القرى، مكة المكرمة 1983 م. - ديوان الأعشى الكبير، تحقيق محمد محمد حسين، ط. الرسالة، بيروت 1973 م. - ديوان امرئ القيس، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ط. دار المعارف، القاهرة، 1964 م. - ديوان أوس بن حجر، تحقيق د. محمد يوسف نجم، ط. دار صادر، بيروت 1967 م. - ديوان البحتري، تحقيق حسن كامل الصيرفي، ط. دار المعارف، القاهرة 1980 م. - ديوان بديع الزمان الهمذاني، تحقيق يسري عبد الله، ط. دار الكتب العلمية

بيروت 1987 م. - ديوان بشار بن برد، تحقيق محمد الطاهر بن عاشور، ط. الشركة التونسية، تونس 1976 م. - ديوان أبي بكر الخوارزمي، تحقيق د. حامد صدقي، ط. نشر التراث المخطوط، طهران 1997 م. - ديوان أبي تمام، بشرح التبريزي، تحقيق محمد عبده عزام، ط. دار المعارف، القاهرة 1951 م. - ديوان جرير، بشرح ابن السكيت وغيره، تحقيق محمد نعمان أمين طه، ط. الحلبي، القاهرة. - ديوان جميل بثينة، تحقيق عبد الستار فراج، ط. نهضة مصر، القاهرة 1967 م. - ديوان الحارث بن حلزة، تحقيق د. إميل يعقوب، ط. دار الكتاب العربي، بيروت 1991 م. - ديوان ابن الحجاج، نسخة دار الكتب المصرية (شعر تيمور 606) . - ديوان حسان بن ثابت، تحقيق د. وليد عرفات، ط. دار صادر، بيروت 1974 م. - ديوان الخالديين، تحقيق د. سامي الدهان، ط. مجمع اللغة العربية بدمشق 1969 م. - ديوان الخنساء، بشرح ثعلب، تحقيق د. محمد أنور أبو سويلم، ط. دار عمار، عمّان 1988 م.

- ديوان ابن الخياط الدمشقي، تحقيق خليل مردم بك. ط. دار صادر، بيروت 1994 م. - ديوان أبي دهبل الجمحي، رواية أبي عمرو الشيباني، تحقيق عبد العظيم عبد المحسن، ط. مطبعة القضاء، النجف 1972 م. - ديوان ابن الرومي، تحقيق د. حسين نصار، ط. دار الكتب المصرية، القاهرة 1977 م. - ديوان ابن زيدون، تحقيق علي عبد العظيم، ط. مكتبة نضهة مصر 1957 م. - ديوان الشريف الرضي، ط. وزارة الإرشاد الإسلامي، إيران 1406 هـ. - ديوان أبي الشيص الخزاعي، صنعة: عبد الله الجبوري، ط. المكتب الإسلامي، دمشق 1984 م. - ديوان صريع الغواني، بشرح الطبيخي، تحقيق د. سامي الدهان، ط. دار المعارف، القاهرة 1970 م. - ديوان الصنوبري، تحقيق د. إحسان عباس، ط. دار صادر، بيروت 1998 م. - ديوان طرفة بن العبد، بشرح الشنتمري، تحقيق لطفي الصقال ودريّة الخطيب، ط. مجمع اللغة العربية بدمشق 1975 م. - ديوان الطرماح بن حكيم، تحقيق د. عزة حسن، ط. وزارة الثقافة، دمشق 1968 م. - ديوان الطغرائي، تحقيق د. علي جواد ود. يحيي الجبوري، دار الحرية، بغداد 1976 م. - ديوان ظافر الحداد، تحقيق د. حسين نصار، ط. مكتبة مصر 1969 م.

- ديوان عبد الصمد بن المعذل، تحقيق د. زهير زاهد، ط. دار صادر، بيروت 1998 م. - ديوان أبي العتاهية، تحقيق د. شكري فيصل، ط. جامعة دمشق، 1965 م. - ديوان عدي بن الرقاع العاملي، بشرح ثعلب، تحقيق د. نوري القيسي ود. حاتم الضامن، ط. المجمع العلمي العراقي 1987 م. - ديوان عروة بن الورد، بشرح ابن السكيت، تحقيق محمد فؤاد نعناع، ط. دار العروبة، الكويت 1995 م. - ديوان العماد الأصبهاني، جمع وتحقيق د. ناظم رشيد، ط. جامعة الموصل 1983 م. - ديوان فتيان الشاغوري، تحقيق أحمد الجندي، ط، مجمع اللغة العربية، دمشق 1967 م. - ديوان أبي فراس الحمداني، تحقيق د. محمد ألتونجي، ط. المستشارية الثقافية الإيرانية بدمشق 1987 م. - ديوان القاضي الفاضل، تحقيق د. أحمد أحمد بدوي، ط. وزارة الثقافة، القاهرة 1961 م - ديوان القطامي، تحقيق د. إبراهيم السامرائي وأحمد مطلوب، ط. دار الثقافة، بيروت 1960 م. - ديوان كثير عزة، تحقيق د. إحسان عباس، ط. دار الثقافة، بيروت 1971 م. - ديوان كشاجم، تحقيق د. النبوي شعلان، ط. الخانجي، القاهرة 1997 م. - ديوان لبيد بن ربيعة، تحقيق د. إحسان عباس، ط. الكويت 1984 م.

- ديوان المتنبي، بشرحه المنسوب إلى العكبري، وهو لابن عدلان، تحقيق مصطفى السقا وزملائه، ط. الحلبي، القاهرة 1971 م. - ديوان مجنون ليلى، تحقيق عبد الستار فراج، ط. نهضة مصر، القاهرة. - ديوان المعاني، للعسكري، تحقيق القدسي، ط. القدسي. القاهرة. - ديوان ابن المعتز، تحقيق د. محمد بديع شريف، ط. دار المعارف، القاهرة 1977 م. - ديوان المقنع الكندي (ضمن شعراء أمويون) تحقيق د. نوري حمودي القيسي، ط. عالم الكتب، بيروت 1987 م. - ديوان منصور النمري، جمع وتحقيق الطيب العشاش، ط. مجمع اللغة العربية بدمشق 1971 م. - ديوان النابغة الذبياني، بشرح ابن السكيت، تحقيق د. شكري فيصل، ط. دار الفكر، بيروت 1980 م. - ديوان نصيب بن رباح، جمع وتحقيق د. داود سلوم، ط. مكتبة الأندلس، بغداد 1968 م. - ديوان أبي نواس، بشرح حمزة الأصبهاني، تحقيق إيفالد فاغنر، ط. فيسبادن (لم يتم) . - ديوان يزيد بن الطثرية، جمع وتحقيق د. ناصر الرشيد، ط. دار الوثبة، دمشق. - الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة، لابن بسام الشنتريني، تحقيق د. إحسان عباس، ط. دار الثقافة، بيروت 1979 م.

- ذكر أخبار أصبهان، لأبي نعيم الأصبهاني، تحقيق ديدرنغ، ط. ليدن 1934 م. - الذيل التام على دول الإسلام، للسخاوي، تحقيق حسن مروة، ط. دار العروبة، الكويت 1992 م. - الذيل على الروضتين، لأبي شامة، ط. دار الجيل، بيروت 1974 م. - الذّيل على العبر في خبر من عبر، لابن العراقي، تحقيق: صالح مهدي عباس، ط. مؤسسة الرسالة، بيروت 1989 م. - ذيل مرآة الزّمان، لليونيني، ط. دار الكتاب الإسلامي، القاهرة 1992 م. - ذيول العبر، للذهبي والحسيني، تحقيق محمد رشاد عبد المطلب، ط. مطبعة حكومة الكويت 1986 م. - ربيع الأبرار، للزمخشري، تحقيق د. محمد سليم النعيمي، ط. دار الذخائر، إيران. - الرسائل، لابن الأثير، تحقيق أنيس المقدسي، ط. دار العلم للملايين، بيروت 1959 م. - رسائل بديع الزمان الهمذاني، بشرح الأحدب، ط. دار التراث، بيروت. - رسائل الحريري، نسخة مكتبة الجامع الكبير بصنعاء، رقم 62 أدب. - رسائل الصابي والشريف الرضي، تحقيق د. محمد يوسف نجم، ط. مطبعة حكومة الكويت 1961 م. - الروضتين في أخبار الدولتين، لأبي شامة، تحقيق إبراهيم الزيبق، ط. الرسالة، بيروت 1997 م.

- زهر الآداب، للحصري، تحقيق علي محمد البجاوي، ط. دار إحياء الكتب العربية 1969 م. - سرح العيون، لابن نباتة المصري، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ط. دار الفكر العربي، القاهرة 1964 م. - سنا البرق الشامي، للبنداري، تحقيق د. رمضان ششن، ط. دار الكتاب العربي، بيروت 1971 م. - سنن الترمذي الجامع الكبير. - سنن ابن ماجه، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، ط. المكتبة الإسلامية، استانبول. - سير أعلام النبلاء، للذهبي، تحقيق مجموعة من المحققين، ط. الرسالة، بيروت 1981 م. - سيرة السلطان جلال الدين منكو برتي، للنسائي، تحقيق د. ضياء الدين موسى بونيادوف، ط. موسكو 1996 م. - شذرات الذهب، لابن العماد الحنبلي، تحقيق محمود الأرناؤوط، ط. دار ابن كثير، دمشق 1986 م. - شرح أشعار الهذليين، للسكري، تحقيق عبد الستار فراج، ط. دار العروبة، القاهرة 1965 م. - شرح ديوان زهير بن أبي سلمى، لثعلب، تحقيق أحمد زكي العدوي، ط. دار الكتب المصرية، القاهرة 1964 م. - شرح مقصورة ابن دريد، للتبريزي، تحقيق د. فخر الدين قباوة، ط. المكتبة

العربية بحلب 1978 م. - شروح سقط الزند، للتبريزي وغيره، تحقيق لجنة إحياء آثار أبي العلاء، ط. القاهرة. - شعر الخوارج، جمع وتحقيق د. إحسان عباس، ط. دار الثقافة، بيروت 1962 م. - شفاء القلوب، للحنبلي، تحقيق د. ناظم رشيد، ط. دار الحرية، بغداد 1978 م. - صبح الأعشى، للقلقشندي، ط. المؤسسة المصرية العامة، القاهرة 1963 م. - الصبح المنبي، للبديعي، تحقيق مصطفى السقا وغيره، دار المعارف، القاهرة 1977 م. - صحيح البخاري، تحقيق محمد ذهني، ط. المكتبة الإسلامية، إستانبول 1979 م. - صحيح مسلم، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، ط. دار الحديث، القاهرة 1991 م. - الصداقة والصديق، للتوحيدي، تحقيق د. إبراهيم الكيلاني، ط. دار الفكر، دمشق 1998 م - الطالع السعيد، للأدفوي، تحقيق سعد محمد حسن، ط. الدار المصرية، القاهرة 1966 م. - طبقات الشافعية، للإسنوي، تحقيق د. عبد الله الجبوري، ط. وزارة الأوقاف، بغداد 1390 هـ.

- طبقات الشافعية الكبري، للسبكي، تحقيق د. محمود الطناحي وغيره، ط. دار هجر، الرياض 1992 م. - العبر في خبر من عبر، للذهبي، تحقيق د. صلاح الدين المنجد، ط. الكويت 1984 م. - العقد الفريد، لابن عبد ربه، تحقيق أحمد أمين وغيره، ط، لجنة التأليف، القاهرة. - عقود الجمان، لابن الشعار، (نسخة السليمانية- إستانبول) نشره فؤاد سزكين، ألمانيا 1990 م. - عيون الأخبار، لابن قتيبة، تحقيق أحمد زكي العدوي، ط. المؤسسة المصرية العامة، القاهرة 1963 م. - الغيث المسجم، للصفدي، ط. دار الكتب العلمية، بيروت 1975 م. - فصل المقال، للبكري، تحقيق د. إحسان عباس وزميله، ط. الرسالة، بيروت 1971 م. - الفصوص، لصاعد الأندلسي، تحقيق د. عبد الوهاب التازي سعود، ط. المغرب 1993 م. - فضائل الشام ودمشق، للربعي، تحقيق د. صلاح الدين المنجد، ط. المجمع العلمي العربي، دمشق 1950 م. - الفوائد والأخبار، لابن دريد، تحقيق إبراهيم صالح، ط. دار البشائر، دمشق 2001 م. - فوات الوفيات، لابن شاكر الكتبي، تحقيق د. إحسان عباس، ط. دار صادر،

بيروت 1973 م. - القاموس المحيط، للفيروز أبادي، تحقيق نصر الهوريني، ط. الحلبي 1955 م. - الكامل في التاريخ، لابن الأثير الجزري، ط. دار صادر، بيروت 1979 م. - كشف الظنون، لحاجي خليفة، تحقيق الكليسي ويالتقايا، مصورة عن طبعة إستانبول. - اللباب في تهذيب الأنساب، لابن الأثير الجزري، ط. دار صادر، بيروت 1980 م. - لسان العرب، لابن منظور، تحقيق عبد الله الكبير وزملائه، ط. دار المعارف، القاهرة 1981 م. - ما يعول عليه في المضاف والمضاف إليه، للمحبي، نسخة دار الكتب الوطنية بتونس. - مجمع الأمثال، للميداني، تحقيق محمد محيى الدين عبد الحميد، ط. السّنة المحمدية، القاهرة 1955 م. - محاضرات الأدباء، للراغب الأصبهاني، ط. دار مكتبة الحياة، بيروت. - المختار من رسائل الصابي، تحقيق الأمير شكيب أرسلان، ط. دار النهضة الحديثة، بيروت. - المختار من شعر بشار، للتجيبي، تحقيق محمد بدر الدين العلوي، ط. لجنة التأليف، القاهرة 1934 م.

- مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور، تحقيق عدد من المحققين، ط. دار الفكر، دمشق 1984 م. - المختصر المحتاج إليه، للدّبيتي، ط. دار الكتب العلمية، بيروت 1985 م. - مسالك الأبصار ج 20، للعمري، تحقيق محمد نايف الدليمي، ط. عالم الكتب، بيروت 1999 م. - المستطرف، للأبشيهي، تحقيق إبراهيم صالح، ط. دار صادر، بيروت 1999 م. - المستفاد من ذيل تاريخ بغداد، للدمياطي، تحقيق محمد مولود خلف، ط. الرسالة، بيروت. - المستقصى في أمثال العرب، للزمخشري. ط. دار الكتب العلمية، بيروت- مصورة حيدر أباد، الهند. - المسند، للإمام أحمد بن حنبل، ط. دار صادر، بيروت- مصورة الطبعة الأولى بالقاهرة. - مطالع البدور في منازل السّرور، للغزولي، ط. مطبعة إدارة الوطن، القاهرة 1300 هـ. - معاهد التنصيص، للعباسي، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، ط. عالم الكتب، بيروت 1970 م. - معجم الأدباء، لياقوت الحموي، تحقيق د. إحسان عباس، ط. دار الغرب الإسلامي، بيروت 1993 م. - معجم الألفاظ الفارسية المعرّبة، لإدّي شير، ط. مكتبة لبنان، بيروت

1990 م. - معجم البلدان، لياقوت الحموي، ط. دار صادر، بيروت 1977 م. - معجم الشيوخ، للذهبي، تحقيق د. محمد الحبيب الهيلة، ط. مكتبة الصديق، الطائف 1988 م. - المعجم المختص، للذهبي، تحقيق د. محمد الحبيب الهيلة، ط، مكتبة الصديق الطائف 1988 م. - مقامات بديع الزمان الهمذاني، بشرح محمد عبده، ط. الدار المتحدة للنشر، بيروت 1983 م. - المقصد الأرشد، لابن مفلح، تحقيق عبد الرحمن العثيمين، ط. مكتبة الرشد، الرياض 1990 م. - المقفى الكبير، للمقريزي، تحقيق محمد اليعلاوي، ط. دار الغرب الإسلامي، بيروت 1991 م. - المنازل والدّيار، لأسامة بن منقذ، تحقيق مصطفى حجازي، ط. دار سعاد الصباح، القاهرة 1992 م. - المناقب والمثالب، لريحان الخوارزمي، تحقيق إبراهيم صالح، ط. دار البشائر، دمشق 1999 م. - منتخب من كتاب الشعراء، لأبي نعيم الأصبهاني، تحقيق إبراهيم صالح، ط. دار البشائر دمشق 1994 م. - المنتخل، للميكالي، تحقيق د. يحيى الجبوري، ط. دار الغرب الإسلامي، بيروت 2000 م.

- المنتظم، لابن الجوزي، تحقيق عبد القادر عطا وغيره، ط. دار الكتب العلمية، بيروت 1992 م. - المنتقى من درّة الأسلاك، لمؤلف مجهول، تحقيق عبد الجبار زكار، ط. دار الملاح، دمشق 1999 م. - منتهى الطلب من أشعار العرب، لابن ميمون، تحقيق د. محمد نبيل طريفي، ط. دار صادر، بيروت 1999 م. - من غاب عنه المطرب، للثعالبي، تحقيق يونس السامرائي، ط. عالم الكتب، بيروت 1987 م. - المنهج الأحمد، للعليمي، تحقيق عدد من المحققين، ط. دار صادر، بيروت 1997 م. - المنهل الصافي، لابن تغري بردي، تحقيق محمد محمد أمين، ط. الهيئة المصرية العامة، القاهرة 1985 م. - المؤتلف والمختلف، للآمدي، تحقيق عبد الستار فراج، ط. الحلبي، القاهرة 1961 م. - الموطأ، للإمام مالك، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، ط. دار إحياء التراث العربي، بيروت 1985 م. - نثر الدر، للآبي، تحقيق محمد علي قرنة وغيره، ط. الهيئة المصرية العامة، القاهرة 1980 م. - النجوم الزّاهرة، لابن تغري بردي، مصورة دار الكتب المصرية. - النجوم الزاهرة في حلى حضرة القاهرة، لابن سعيد، تحقيق د. حسين نصار،

ط. دار الكتب المصرية، القاهرة 1971 م. - نزهة الألبّاء، لابن الأنباري، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ط. نهضة مصر، القاهرة 1967 م. - نزهة الأنام في محاسن الشام، للبدري، ط. السلفية، القاهرة 1341 هـ. - نزهة الخاطر وبهجة الناظر، للأنصاري، تحقيق عدنان محمد، ط. وزارة الثقافة، دمشق 1991 م. - نفح الطيب، للمقري، تحقق د. إحسان عباس، ط. دار صادر، بيروت 1968 م. - نقائض جرير والفرزدق، لأبي عبيدة، تحقيق بيقان، ط. دار الكتاب العربي، بيروت. - نكت الهميان. للصفدي، تحقيق أحمد زكي. ط. الجمالية، القاهرة 1911 م. - نهاية الأرب، للنويري، مصورة دار الكتب المصرية والهيئة المصرية العامة. - الوافي بالوفيات، للصفدي، تحقيق عدد من المحققين، ط. مطابع مختلفة، بإشراف المستشرقين الألمان. - الوفيات، لابن رافع السلامي، تحقيق عبد الجبار زكار، ط. وزارة الثقافة، دمشق 1985 م. - وفيات الأعيان، لابن خلكان، تحقيق د. إحسان عباس، ط. دار صادر، بيروت 1969 م.

- يتيمة الدهر، للثعالبي، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، ط. دار الفكر بيروت 1973 م.

الجزء الخامس عشر

[الجزء الخامس عشر] [شعراء العباسيين] مقدمة التحقيق - 1- هذا هو السفر الخامس عشر من تلك الموسوعة الكبرى التي صنفّها شهاب الدين، أحمد ابن يحيى بن فضل الله العمري. ومسماها (مسالك الأبصار في ممالك الأمصار) ، وينتمي هذا الكتاب إلى تلك المرحلة التي اصطلح عليها دارسو الأدب بالمرحلة المتأخرة، وكانت لهم فيها آراء مختلفة وقفت عندها في مقدمة تحقيقي مقدّمة كتاب (الدرّ الفريد وبيت القصيد) لمحمد بن أيدمر المستعصمي، وخلاصة الأمر أنّ هذه المرحلة بحاجة إلى (إعادة قراءة) بحيث تضعها في مكانها الموضوعي الحقّ بعيدا عن النعوت المتسرّعة، والألقاب غير المنهجية. ويعجب المرء وهو يتابع حياة العمري، ومسرد مؤلفاته كيف تسنّى له أن يرفد المكتبة العربية بهذا النتاج العلمي الغزير في سنيّ حياته القصيرة التي لم تبلغ الخمسين عدّا، فقد ولد سنة 700 للهجرة، وتوفي سنة 749 للهجرة في أصحّ الأقوال، فإذا أضفنا إلى هذا انشغاله بالحياة العامة من حيث عمله مع والده في ديوان الإنشاء بدمشق، واتصاله المباشر بالملك الناصر إذ" صار يقرأ البريد له، وينفذ المهمات" «1» ، أقول إذا تأمّلنا هذا كلّه أدركنا أنّ العمري كان منصرفا بكلّيته إلى التحصيل، والدرس، والتأليف وخصوصا حين يبتعد عن الدنيا وشواغلها، فهذا هو التفسير المنطقي الذي يحلّ تلك الإشكالية: قصر العمر وغزارة التأليف. وحين نعود إلى تصانيفه نجد أنّ من يترجم له يقدّم مسردا بستة عشر كتابا عدا (مسالك الأبصار) ، وواحد من هذه الكتب يقع بمجلدات هو [فواضل السّمر في فضائل آل عمر] الذي يقع بأربعة مجلدات، وهي تشير بمجموعها إلى حقول معرفية متنوعة عالجتها تلك الكتب مثل الأدب، والتاريخ، والبلدان، وصناعة الإنشاء، وغيرها، ولم يكتف العمري بما بين يديه من تراث عربي ضخم يجول في جنباته بل رنا بعيون قوية إلى ما لدى [الآخر]

من علم، وفنّ، نجد مصداق هذا في كتابه [مسالك عبّاد الصليب] الذي" وصف فيه ملوك الإفرنج في عصره ... فوصف ممالك فرنسا وألمانيا، وأحوالهما السياسية والاجتماعية، وفعل نحو ذلك في البنادقة والإيطاليين وأهل جنوة، وبين علائقهم بالمسلمين" «1» ، يضاف إلى هذا معرفته الدقيقة بتاريخ المغول، والهند، والأتراك وأحوالهم السياسية والاجتماعية. ونعتقد أن اهتمامه بأحوال ذلك [الآخر] نابع من ظمئه العلمي الذي لا يعرف الحدود، كما أنّ هذا [الآخر] قد أصبح قريبا جدا منه وخصوصا بعد الحروب الصليبية التي استغرقت وقتا طويلا، واجتياح المغول الشرق، وتقويضهم الخلافة العباسية ببغداد، فلم يكن له وهو العالم الثبت، والأديب المتميّز القريب من السلطة، أقول لم يكن له بعد هذا أن يقف بمعزل عن تلك التيارات الفكرية التي كانت تموج بها ديار الإسلام ويشكّل ذلك [الآخر] رافدا بل روافد مهمّة فيها. - 2- ترجم العمري في هذا السفر لتسعة وأربعين شاعرا، افتتحه بأبي الطيب المتنبي وختمه بابن الهبّارية، وتطول الترجمات، أو تقصر حسب مكانة الشاعر، وتوفّر المادة الشعرية بين يدي المصنّف، وهو يتبع في كتابه منهجا واحدا لا يحيد عنه، إذ يقدّم للشعر المختار بمقدمة من إنشائه يتبعها بالشعر، فإذا كان الشاعر ذا حظّ من النثر أيضا قدّم شيئا من رسائله، أو قطعه النثرية. وقد رصدنا بعض الملاحظات التي انتظمت التراجم جميعها، ويمكن تلخيصها على الهيئة الآتية:- 1- يولي العمري اهتماما ملحوظا بالشعر لا بالشاعر بحيث تطغى المادة الشعرية على السّفر كلّه، ويمكن القول بشيء قليل من الاحتراز إنّ هذا السّفر أقرب إلى كتب [الاختيارات الشعرية] منه إلى كتب التراجم، فهو أقرب إلى المفضليات، والأصمعيات والحماسات منه إلى وفيات الأعيان، ومعجم الأدباء، وفوات الوفيات، وإن خطط له صاحبه ليكون كتاب تراجم، فهو بمحتواه العام لا يؤدي ذلك المعنى بل يقدّم جمهرة واسعة من

الشعر على حساب التراجم وشروطها. 2- إنّ هذا الأمر يقودنا إلى الإلماع إلى مصادره التي اعتمد عليها في تحرير ترجماته فمن الممكن القول إنّه اعتمد على الكثير من الدواوين والمجاميع الشعرية، والقليل من المصادر الأخرى ككتب التراجم مثلا فالمادة الشعرية الضخمة التي حواها بين دفتيه هي نتيجة الاتكاء على مكتبة شعرية كبيرة ضمت عشرات الدواوين بحيث مكنّه هذا من الانتقاء، والاختيار، بينما لا تتجاوز مصادره الأخرى ثلاثة كتب ذكرها صراحة هي يتيمة الدهر للثعالبي، وخريدة القصر للعماد الأصفهاني، ووفيات الأعيان لابن خلكان، وهو لا ينقل من تلك الكتب- على قلّتها- سوى الشذرة التي تشير، والحسوة التي لا تروي، وهذا معلوم واضح فغايته الشعر فليتخّذ له أهبته، ويهيّئ له أدواته، وقد فعل. 3- يعمد العمري إلى اصطفاء [العيون] من شعر الشاعر على وفق الذوقين الخاص، والعام فكثير ممّا هو ذائع مشهور من الشعر نجده في ثنايا التراجم ممّا يشير إلى مجاراته الذوق العام، أمّا ذوقه الخاص فيتمثّل في إكثاره من شعر الطبيعة، والغزل، والخمر، ولا ينسى الحكمة، غير أنّ أمرا آخر كان ماثلا في ذهنه، وحاضرا في تصوّره وهو يختار، ونعني به جوهر الشعر وهو [الصورة] ، فما أكثر الأبيات، والقطع التي أثبتها وهي تجمل في تضاعيفها استعارة بديعة، أو تشبيها متميزا، أو كناية ذات دلالة، بالإضافة إلى ذلك التلوين الأسلوبي الذي قدّمه بعض الشعر من التفات. أو استفهام. أو أمر، تلك التلاوين التي أغنت مبحث الإنشاء في البلاغة العربية. لقد كان العمري- في الغالب- وفيّا لمتطلبات الفنّ وهو يختار، وكأنّه قد أفاد من سابقيه وفتح الباب عريضا لمن جاء بعده، وحقّق تلك المقولة الرائدة: اختيار الرجل قطعة من عقله، وأحسب أنّه قد نال نصيبا وافرا من العقل ونجاح الاختيار على حدّ سواء. 4- ويبدو أنّ غزارة المادة الشعرية التي تعامل معها العمري في هذا السّفر قد دعته إلى أن ينسب القطعة الواحدة إلى شاعرين، وخصوصا أولئك الشعراء المتعاصرين الذين طرقوا موضوعات متقاربة مثل وصف الطبيعة، أو الغزل، أو الخمريات، فهو يغفل الإشارة أو التنبيه

إلى ذلك التنازع، وقد أشير إلى هذا في مواضعه، غير أنّ الغالب على المادة الشعرية هو التوثيق، ونسبة الشعر إلى أصحابه بشكل دقيق. 5- يقدّم العمري بين يدي الترجمة قطعة من إنشائه يكون الشاعر المترجم له محوره، وتخلو تلك القطع في الأغلب من أيّ مادة معرفية من الممكن الإفادة منها في تتّبع مراحل حياة الشاعر، أو تطورّه الفكري والروحي، ولعلّ هذا الأمر يؤكّد ما ذهبنا إليه سابقا من حيث اهتمام المصنّف بالشعر لا بالشاعر، فهو غير معنيّ بتفاصيل حياة الشاعر، وثقافته وشيوخه، وأسفاره، كما عهدنا في كتب التراجم الأخرى، فغاية وكده منصبّة على الإبداع وحده يريد أن يقدّم منه الكثير. 6- يسرف العمري بشكل لافت للنظر في إضفاء نعوت المديح على الشعراء. ويكيل لهم الأوصاف كيلا، ويبالغ كثيرا في حديثه عنهم، فهذا رأس وغيره ذيول، وهذا ذو نظم زاهر، ورقم باهر، والثالث بلغ فهمه مغار الكواكب فهو يساقطها، أمّا الرابع فهو في الصناعتين كما تماثل الوشيان، وكما تقابل في الحسن شيئان، والخامس مثله فقد جلّى فسمّي سابقا، فكان اسمه لمسماه مطابقا، وتستمرّ القطع على هذا المنوال، ولعلّه متأثر بمن سبقه من كتّاب التراجم الأدبية، وخصوصا الثعالبي في اليتمية، فقد نهج هو الأخر هذا النهج، وهو بمجمله يشير إلى ذوق العصر، ويومي إلى ما شاع من أساليب. 7- من الممكن القول من جهة أخرى أنّ تلك المقدّمات، أو القطع الإنشائية هي أشبه بالخلاصات النقدية المكثّفة التي يحاول العمري فيها جاهدا حصر أهمّ الخصائص، والسمات الموضوعية، والفنية التي تميّز بها الشاعر وشعره، ولم نصل إلى هذه النتيجة بغير القراءة المتريّثة لتلك المقدمات. وتأمّل مضامينها، فالقراءة العجلى لن تنتج سوى انطباع أنّها أمشاج من حياة الشاعر بشكل سريع خاطف أفرغ في تصنّع لفظي مقصود، بيد أنّ القراءة الواعية بإمكانها أن تزيل ذلك الغبش الذي ران على الترجمات، وتكشف عن فوائد نقدية ليست بالقليلة.

8- وتأسيسا على ما نقّدم نستطيع القول باطمئنان إنّ شخصية العمري الناقدة، وثقافته الواسعة، ونجاحه في الاختيار يظهر جليّا سواء أكان في تلك المقدّمات أم في الشعر المختار، فهو يفيد في تلك المقدمات من التراث النقدي، والأدبي الذي سبقه، وينتقي منه ما يقتنع به ويستصفي لكتابه ما هو لائق به ليصبّه أخيرا بأسلوبه الخاص، ومنهجه الذي ارتضاه لنفسه. 9- وممّا يتعلّق بالنقطة السابقة، أي موقفه النقدي من الشعراء، ما رأيناه من فصله الحاسم بين حياة الشاعر، وما ورد في شعره من خروج على التقاليد، وبين حكمه النقدي عليه، فهو يبدو غير متأثّر البتّة بالأحكام الأخلاقية التي تزن الشاعر وشعره بميزان الحرص على القيم السائدة، وترك الخروج عليها فله على سبيل المثال رأي حسن في ابن الحجّاج، وابن منير الطرابلسي مع أنّ إبداعهما مليء بما يخدش الثابت والقارّ، وكأنّه بذلك يرسخ ذلك الاتجاه القديم الجديد في النقد العربي من الدعوة إلى فصل الشعر عن الأخلاق، والنظر إليه بمعايير الفنّ وحده، وهو الاتجاه الذي نظّر له تنظيرا هامّا الناقد قدامة بن جعفر في كتابه [نقد الشعر] . وظلّت الجمهرة من النقّاد العرب وفيّة له على مرّ عصور النقد العربي، وجاء العمري بأخرة ليدعمه من خلال الرأي، والاختيار لكليهما. 10- ومن الضروري أن نشير هنا إلى ما يظهر جليّا في تلك المقدمات من اصطناع صاحبها فيها لأساليب الصنعة اللفظية، وأفانين الزخرفة اللغوية بحيث تكاد تكون هي الصوت المنفرد العالي فيها، إذ يعمد بشكل مقصود إلى توظيف الجناس، والطباق والسجع، والتضمين حتى ليكاد القارئ يشعر أنّ القطعة ترزح تحت وطأة حمل كبير وترسف بأغلال ثقيلة تمنعها من التحرك والانطلاق، ولعلّ هذا قد جاء منسجما مع أسلوب الكتابة السائد في عصره من جهة، وهو يتناغم مع ما استقرّ عليه في الكتابة الديوانية التي صار جزءا أصيلا فيها من جهة أخرى. هذه هي الصورة العامة لهذا السفر، وهو يتضافر مع أسفار الكتاب الأخرى مقدّما جهدا علميا نادرا، وصبرا على التصنيف قلّ نظيره.

- 3- كان الاعتماد في تحقيق هذا السّفر على النسخة المخطوطة المحفوظة في أيا صوفيا، مكتبة السليمانية، ورقمها [3428] ، إستانبول، ويبدو أنّها بخطّ المؤلف على حدّ قول الأستاذ فؤاد سزكين الذي قام من خلال معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية في إطار جامعة فرانكفورت بنشر [مسالك الأبصار] بأجزائه التي بلغت سبعة وعشرين جزءا «1» ، أو سفرا على حدّ التقسيم المأخوذ به فقدّم بذلك النشر خدمة كبيرة للتراث العربي، هو ما ليس غريبا على عمل ذلك المعهد، غير أنّ في نشر [مسالك الأبصار] خصوصية ما بسبب ضخامة الكتاب من جهة، وتفرّق أسفاره في مكتبات متباعدة من جهة أخرى، فجاء هذا النشر ليضع الكتاب كلّه في حيّز واحد ممّا يسهل قراءته، والانتفاع به، أو تحقيقه وهو ما اضطلع به المجمّع الثقافي. تقع هذه النسخة ب [541] صفحة، وهي مكتوبة بخطّ معتاد، وفي الصفحة سبعة عشر سطرا، وفي السطر ثلاث عشرة كلمة، وهذا كلّه على وجه التقريب، فقد تزيد الأسطر أو تنقص وكذلك الكلمات وخصوصا في الشعر. والنسخة على العموم واضحة تخلو من الطمس إلّا في مواضع قليلة أمكن تدارك بعضها، وبقي الآخر بياضا، وقد أشير إلى ذلك في مواضعه، كما يغفل الناسخ كثيرا إعجام الحروف ممّا يولّد صعوبات في قراءة الكلمات. وقد تمّ التغلّب على هذه الصعوبات بالعودة

إلى الدواوين، وبشيء من الصّبر والخبرة في قراءة المخطوط العربي. ومن الممكن تلخيص عملي في تحقيق هذا السفر بما يأتي: 1- تقديم قراءة سليمة لنصّ السّفر كما أراده صاحبه، والحفاظ على منهجه، وترتيبه فيه. وقد استغرقت القراءة، والنسخ بعدها وقتا طويلا بسبب ضخامة هذا السفر، وترك الإعجام في بعض المواضع، والطمس في مواضع أخرى، وقد أشرت إلى ذلك في وصف المخطوطة. 2- تقديم تراجم مختصرة للشعراء الذين توقّف عندهم العمري، وقد حرصت أن تكون تلك التراجم موجزة ومفيدة، تبيّن مكانة الشاعر، ومنزلته الشعرية مع إحالات إلى مصادر دراسته. 3- توثيق ما ينقله العمري من المصادر المتقدّمة كيتيمة الدهر، ووفيات الأعيان وغيرها. وكم بدا العمري أمينا وهو ينقل عن السابقين وهو ممّا يحسب له بالإضافة إلى أياديه البيضاء الأخرى. 4- تخريج الشعر والنثر، وهو عمود هذا العمل وأساسه، وخصوصا بعد ما رأيناه سابقا من التنويه إلى أنّ هذا السّفر أقرب إلى كتب الاختيارات الشعرية منه إلى كتب التراجم، ولذلك فقد حرصت على تخريج الشعر [كلّه] ذلك الذي ساقه المؤلف بعد مقدّماته النثرية، وهو كثير العدد، متباعد الجوانب، ثقيل المؤونة، ولذلك عمدت إلى دواوين الشعراء، وما جمع لهم من شعر فخرّجت منها. معتمدا على الطبقات المحقّقة تحقيقا علميا، ومن ليس له ديوان أو مجموع شعري فقد خرّجت شعره من المصادر المعتمدة، وبقي القليل من الشعر ذلك الذي أخلّت به الدواوين أو المجاميع، أو لم يرد في المصادر المعتمدة. وها هنا نقطة أرجأت الحديث عنها سابقا لأننّي رأيت أنّ موضعها المناسب مع الحديث عن تخريج الشعر. وتتلخّص هذه النقطة في أنّ كثيرا من الشعر الذي يسوقه المصنّف في ثنايا التراجم

[جديد] ، بمعنى أنّ الدواوين، والمجاميع الشعرية لم تعرفه، فهو بهذا المعنى يضيف ثروة جديدة إلى تراث الشعراء، ويجعلنا نعيد النّظر في الجمهرة من الأحكام عليهم بعد توفّر هذه المادة الشعرية الجديدة، وقد بينّت هذا الموضوع بجلاء في مقدّمه تحقيقي كتاب [الدرّ الفريد وبيت القصيد] من أنّ من حسنات هذه الكتب [المتأخرة] أنّها حفظت زادا ثمينا أخلّت به الكتب السابقة، أو فقدت تلك الكتب التي حفظت هذه المادة، وجاء هذا الكتاب [المتأخر] أو ذاك فقدّمها لنا محافظا عليها، أمينا على محتواها، وهي نقطة جديرة بالتوقّف، خليقة بالاهتمام. ويقال الشيء نفسه عن القطع النثرية التي ساقها المصنّف للشعراء الذين كانت لهم مشاركات نثرية، فقد خرّجت هذه القطع من مجموعات رسائلهم، أو من المصادر المعتمدة. والكتاب بصورته النهائية يقدّم فائدتين جليلتين تتمثّل الأولى في الحفاظ على ما هو موجود، وتتجلّى الثانية في رفد القارئ الحديث بمادّة إبداعية جديدة لم يواجهها من قبل، وحسب العمري ما أدّاه في هاتين الفائدتين. ويتقدّم المحقّق في نهاية هذه المقدمة بوافر شكره للمجمّع الثقافي في أبو ظبي لنهوضه بتحقيق ونشر هذا المشروع العلمي الضخم، وكم للمجمّع من أياد على الثقافة العربية الجادة الرصينة، قال تعالى: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ [الرعد، 16] صدق الله العظيم. وأحسب أنّ ما يقوم به المجمّع الثقافي ماكث في الأرض بحوله تعالى، ينفع الناس وينشر بينهم المعرفة، فله التقدير المخلص، والثناء الرّطب. د. وليد محمود خالص جامعة السلطان قابوس كلية الآداب والعلوم الاجتماعية

صفحة المحتويات

الصفحة الأولى من المخطوط

الصفحة الثانية من المخطوط

والحمد لله وحده وصلوته علي سيّدنا محمّد وآله وصحبه وسلامه وحسبنا الله ونعم الوكيل الصفحة الأخيرة من المخطوط

1 - أبو الطيب أحمد بن الحسين الجعفي المعروف بالمتنبي

1- أبو الطيّب أحمد بن الحسين الجعفي المعروف بالمتنبي «1» بسم الله الرحمن الرحيم وما توفيقي إلّا بالله، ومنهم: حكيم الشعراء، وشاعر الحكماء، تكلّم على ألسنة الناس، وعاصر الشعراء فكانوا الذنابى وكان الراس، وافق قول أرسطاطاليس ليس، ووافى بأمثال تلك النواميس، وأثار دفائن تلك النواويس، وثار بما لا ينهض به تلك الأباليس، وأتى بديباج كأنّه أجنحة الطواويس، وتخييل كأنّه لعب الأماني بالمفاليس، وخرّج له الحاتمي «2» حين عاد عليه بوجه الإقبال، وكفّ عن مؤاخذاته رشق النبال جملة أبيات توارد هو وأرسطو على معناها، وتبادر هو وإيّاه إلى مجناها، وأراد أن يتّخذ بيوتا إلّا أنّ أرسطو ما بناها، والمتنبي بناها، فإن كان قد وقف منها على ما قاله أرسطو فقد أخذه تربا ثم أعاده تبرا «3» يدخر منه سبائك ذهب، وقطرا ثم علّق منه قرطا للؤلؤه جائل حبب، وإن كان ما وقف عليه فهو مفتّق نوره، ومفتّح ثمره، ومدفّق نهره، ومفترع عذاراه، ومفرّع دوحه بما يتلفت إليه على خدّ المليح عذاراه فيكون له بهذا الفضل الأكبر، ويكون هو الأصل الذي جلب الجوهر، أو ما هو به أخبر، لأنّه مخرج خبيّه، ومحوج أمّة الشعراء إلى الإيمان بنبيّه، وعلى هذه السجعة أقول إنّه تنبّأ

بالبادية، ونبا بإفراط ألمعيته وميض مخايله البادية ثم تاب، وبات لا يجد مسلكا إليه العتاب، وقد كان تبعه من بني كلب أهل بادية السماوة قوم أميّون لا يعلمون ما علم الكتاب وخدعه ضلال، ثم زال بحسن المآب، ونام لا يخشى أن يدخل هذا الباطل على 3/سمعه/ من طاقة، ولا على جفنه من باب، ولا يتهافت على ناره تهافت الفراش، ولا يقع على دناياه وقوع الذباب، وكان شمس سماء، وبدر مساء، ومبسم صباح، وموسم صباح، ونبعه زلال، وطلعه هلال، ومركز عوال، ومركب أهوال، ومكتّب خدود بدم لا بغوال ومصوّب أسنّة تمدّ لقبض أرواح لا نوال، وقارع بيض ببيض، وقارن خيل بخيل لها فى كلّ شارقة وميض، وقاري كلّ ذيب ونسر في كلّ أوج وحفيض، وقارض أعمار بظباة سيوف لا قريض، وهذا هو الذي قتله، وإنّما عجّل عليه قول قاله غلامه ليته لا قبله، وهو قوله: [البسيط] والخيل والليل والبيداء تشهد لي ... والطعن والضرب والقرطاس والقلم وجال البلاد جول القداح، وجاب الآفاق جوب السحاب تقذفه الرياح، وتنقّل بين ملوكها تنقّل الظلّ وتوقّل في غاب مهالكها توقّل الأسد المدلّ حتى كان عندهم أحظى من الغنى وأحفى بالآمال من المنى، وتنافست الملوك على قربه، وعلى انتضاء سيفه المشرفيّ من قربه، واختصّ بسيف الدولة ابن حمدان، ثمّ كان يتجنّى عليه والذنب ذنبه، ويتمنى البعد عنه ولا يعجبه إلّا قربه [] «1» ، وله مع كافور الاخشيدي ما كان الأليق به غيره في حكم الموافاة، والأجدر به الجميل لو عرفه أو كافاه، ثم اتصل بخدمة عضد الدولة بن بويه ومدحه فأثابه ما أوقر إبله ذهبا، وأوقد مصباحه لهى لا لهبا، ثم كانت هي آخر سفرته، وشدّ ركائبه إلى مقيل حضرته، وكان واسع الرواية، مطّلعا على اللغة إلى غاية، وقد حكي عن أبي علي الفارسي لمّا سأله تلك الحكاية وجده لا يقارب 4/ولا يساوى، ولا يقاوم ولا يقاوى/ ولا تترشفه المسامع إلّا عادت القلوب نشاوى، ولا تغاير به الكواكب إلّا ترامت

ساقطة تتهاوى وكان كثير الولوع بديوان أبي تمام حبيب بن أوس، والنزوع منه لسهام لا ترمى بها حنيّة قوس، ثمّ كان ولع أبي العلاء المعري به مثل ولعه بأبي تمام لا يسأم طرفه الطارق له من إلمام. حكى ابن خلكان «1» أنّ المعري لما فرغ من تصنيف كتابه اللامع العزيزي في شرح شعر المتنبي، وقرئ عليه أخذ الجماعة في وصفه، فقال: كأنّما نظر المتنبي إليّ بلحظ الغيب حيث يقول: [البسيط] أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي ... وأسمعت كلماتي من به صمم وقد ذكره الثعالبي في اليتيمة «2» فقال: هو وإن كان كوفيّ المولد شامي المنشأ، وبها تخرّج، وفيها خرج. نادرة الفلك، وواسطة عقد الدهر في صناعة الشعر، ثم هو شاعر سيف الدولة المنسوب إليه المشهور به، إذ هو الذي جذب بضبعه، ورفع من قدره، ونفّق من شعره فألقى عليه شعاع سعادته حتى سار ذكره مسير الشمس والقمر، وسافر كلامه في البدو والحضر، وكادت [الليالي] «3» تنشده، والأيام تحفظه، كما قال وأحسن ما شاء: [الطويل] وما الدهر إلّا من رواة قصائدي ... إذا قلت شعرا أصبح الدهر منشدا فسار به من لا يسير مشمّرا ... وغنّى به من لا يغنّي مغرّدا وكما قال: [المتقارب] ولي فيك ما لم يقل قائل ... وما لم يسر قمر حيث سارا وعندي لك الشرّد السائرا ... ت لا يختصصن من الأرض دارا 5/إذا سرن من مقولي مرّة ... وثبن الجبال. وخضن البحارا

ثمّ قال، أعني الثعالبي «1» : وليس اليوم مجالس الدرس أعمر بشعر أبي الطيب من مجالس الأنس، ولا أقلام كتّاب الرسائل أشغل به من كتب المؤلفين والمصنفين، وقد ألّفت الكتب في تفسيره، وحلّ مشكله وعويصه، وكسرت الدفاتر على ذكر جيّده وردّيه، وتكلّم الأفاضل في الوساطة بينه وبين خصومه، والإفصاح عن أبكار كلامه وعونه «2» ، وتفرّقوا فرقا في مدحه، وذمّه، والقدح فيه والنصح عنه، والتعصّب له وعليه، وذلك أدلّ الدلائل على وفور فضله، وتقدّم قدمه، وتفرّده عن أهل زمانه بملك رقاب القوافي، ورقّ المعاني، والكامل من عدّت سقطاته، والسعيد من حسبت هفواته، وما زالت الأملاك تهجى وتمدح. وانتهى كلام الثعالبي. ولعمري لقد أوردها مشتملا، وذاد لها مرعى خضلا، واستصحب الحال في إعجاب الناس به من ذلك الزمان وهلم جرا وإلى الآن حتى بلغت شروحه أربعين شرحا، فمن بين بان له صرحا، وبين مبالغ فيه جرحا، وإنّه لمنقطع القرين، وليث في عرين، ولولا خشية مستدرك لا يدري ما ضمير الشأن «3» لأضربنا عن انتقاء شعره في هذا الديوان اكتفاء بشهرته في الأذهان، وعملا على أنّه الشمس لا تخفى بكلّ مكان، وإذا كان لا بدّ من الذّكر فمن مخترعه البكر، وأبياتها التي ليس لأحد عليها حكر، قوله في الحكم والآداب والمواعظ: [الكامل] الرأي قبل شجاعة الشجعان ... هو أوّل وهي المحلّ الثاني «4» 6/فإذا هما اجتمعا لنفس مرّة ... بلغت من العلياء كلّ مكان ولربّما طعن الفتى أقرانه ... بالرأي قبل تطاعن الأقران

لولا العقول لكان أدنى ضيغم ... أدنى إلى شرف من الإنسان ولما تفاضلت النفوس ودبّرت ... أيدي الكماة عوالي المرّان «1» وقوله: [الكامل] ذو العقل يشقى في النعيم بعقله ... وأخو الجهالة في الشّقاوة ينعم «2» والناس قد نبذوا الحفاظ فمطلق ... ينسى الذي يولي وعاف يندم لا يخد عنّك من عدوّ دمعه ... وارحم شبابك من عدوّ ترحم لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى ... حتى يراق على جوانبه الدّم والظّلم من شيم النفوس فإن تجد ... ذا عفّة فلعلّة لا يظلم ومن البليّة عذل من لا يرعوي ... عن جهله وخطاب من لا يفهم «3» ومن العداوة ما ينالك نفعه ... ومن الصّداقة ما يضرّ ويؤلم وقوله: [الطويل] يهون على مثلي إذا رام حاجة ... وقوع العوالي دونها والقواضب «4» كثير حياة المرء مثل قليلها ... يزول وباقي عيشها مثل ذاهب إليك فإنّي لست ممّن إذا اتّقى ... عضاض الأفاعي نام فوق العقارب

إذا لم تكن نفس النسيب كأصله ... فماذا الذي يغني كرام المناسب «1» وقوله: [الوافر] إذا غامرت في شرف مروم ... فلا تقنع بما دون النجوم «2» 7/فطعم الموت في أمر حقير ... كطعم الموت في أمر عظيم «3» وكلّ شجاعة في المرء تغني ... ولا مثل الشجاعة في الحكيم وكم من عائب قولا صحيحا ... وآفته من الفهم السقيم ولكن تأخذ الآذان منه ... على قدر القرائح والعلوم «4» وقوله: [الطويل] وما منزل اللّذات عندي بمنزل ... إذا لم أبجّل عنده وأكرّم «5» إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه ... وصدّق ما يعتاده من توهّم وعادى محبّيه بقول عداته ... وأصبح في ليل من الشّك مظلم أصادق نفس المرء من قبل جسمه ... وأعرفها في فعله والتكلّم وأحلم عن خلّي وأعلم أنّه ... متى أجزه حلما على الجهل يندم وما كلّ هاو للجميل بفاعل ... ولا كلّ فعّال له بمتمّم وأحسن وجه في الورى وجه محسن ... وأيمن كف فيهم كفّ منعم

وأشرفهم من كان أشرف همّة ... وأكبر إقداما على كلّ معظم لمن تطلب الدنيا إذا لم ترد بها ... سرور محب أو مسآة مجرم «1» وقوله: [الطويل] وأتعب خلق الله من زاد همّه ... وقصّر عمّا تشتهي النفس وجده «2» فلا مجد في الدنيا لمن قلّ ماله ... ولا مال في الدنيا لمن قلّ مجده وقوله: [البسيط] لا تلق دهرك إلّا غير مكترث ... ما دام يصحب فيه روحك البدن «3» فما يدوم سرور ما سررت به ... ولا يردّ عليك الفائت الحزن «4» 8/ما كلّ ما يتمنى المرء يدركه ... تجرى الرياح بما لا تشتهي السّفن وقوله: [الوافر] فلا تغررك ألسنة موال ... تقلبّهنّ أفئدة أعادي «5»

فإنّ الجرح ينخر بعد حين ... إذا كان البناء على فساد وإنّ الماء يجري من جماد ... وإنّ النار تخرج من رماد «1» وقوله: [الطويل] وإنّي لنجم يهتدي صحبتي به ... إذا حال من دون النجوم سحاب «2» غنيّ عن الأوطان لا تستخفّني ... إلى بلد سافرت عنه إياب «3» وأصدى ولا أبدي إلى الماء حاجة ... وللشمس فوق اليعملات لعاب «4» وللسّر منّي موضع لا يناله ... نديم ولا يفضي إليه شراب وما العشق إلّا غرّة وطماعة ... يعرّض قلب نفسه فتصاب وغير فؤادي للغواني رمّية ... وغير بناني للزجاج ركاب «5» تركنا لأطراف القنا كلّ شهوة ... فليس لنا إلّا بهنّ لعاب أعزّ مكان في الدّنا سرج سابح ... وخير جليس في الزمان كتاب وقوله: [المنسرح] إذا صديق نكرت جانبه ... لم تعيني في فراقه الحيل «6»

في سعة الخافقين مضطرب ... وفي بلاد من أختها بدل أبلغ ما يطلب النجاح به الطّب ... ع وعند التعمّق الزلل وقوله: [الطويل] ومن ينفق الساعات في جمع ماله ... مخافة فقر فالذي فعل الفقر «1» 9/وإنّي رأيت الضرّ أحسن منظرا ... وأهون من مرأى صغير به كبر وقوله: [البسيط] أبدو فيسجد من بالسوء يذكرني ... ولا أعاتبه صفحا وإهوانا «2» وهكذا كنت في أهلي وفي وطني ... إنّ النفيس غريب حيثما كانا محسّد الفضل مكذوب على أثري ... ألقى الكميّ ويلقاني إذا حانا لا أشرئبّ إلى ما لم يفت طمعا ... ولا أبيت على ما فات حسرانا ولا أسرّ بما غيري الحميد به ... ولو حملت إليّ الدرّ ملآنا «3»

وقوله: [الخفيف] كلّ حلم أتى بغير اقتدار ... حجّة لا جئ إليها اللئام «1» من يهن يسهل الهوان عليه ... ما لجرح بميّت إيلام واحتمال الأذى ورؤية جاني ... هـ غذاء تضوى به الأجسام وقوله: [الطويل] إذا الجود لم يرزق خلاصا من الأذى ... فلا الحمد مكسوبا ولا المال باقيا «2» وللنفس اخلاق تدلّ على الفتى ... أكان سخاء ما أتى أم تساخيا وقوله: [الطويل] وما قتل الأحرار كالعفو عنهم ... ومن لك بالحرّ الذي يحفظ اليدا «3» إذا أنت أكرمت الكريم ملكته ... وإن أنت أكرمت اللئيم تمرّدا ووضع النّدى في موضع السيف بالعلا ... مضرّ كوضع السيف في موضع الندى ومن يجعل الضرغام للصيد بازه ... تصيّده الضرغام فيما تصيّدا «4»

وقوله: [الطويل] وما الحسن في وجه الفتى شرفا له ... إذا لم يكن في فعله والخلائق «1» 10/وجائزة دعوى المحبّة والهوى ... وإن كان لا يخفى كلام المنافق وما يوجع الحرمان من كفّ حارم ... كما يوجع الحرمان من كفّ رازق وقوله: [الطويل] وما الخيل إلّا كالصديق قليلة ... وإن كثرت في عين من لا يجرّب «2» إذا لم يشاهد غير حسن شياتها ... وأعضائها فالحسن عنك مغيّب «3» وكلّ امرئ يولي الجميل محبّب ... وكلّ مكان ينبت العزّ طيّب وقوله: [الخفيف] وإذا ما خلا الجبان بأرض ... طلب الطعن وحده والنزالا «4» من أطاق التماس شئ غلابا ... واغتصابا لم يلتمسه سؤالا كلّ غاد لحاجة يتمنّى ... أن يكون الغضنفر الرئبالا «5»

وقوله: [المتقارب] وكلّ طريق أتاه الفتى ... على قدر الرجل فيه الخطا «1» ومن جهلت نفسه قدره ... يرى غيره منه ما لا يرى «2» وقوله: [الطويل] ذريني أنل ما لا ينال من العلى ... فصعب العلى للصعب والسهل للسهل «3» تريدين لقيان المعالي رخيصة ... ولا بدّ دون الشهد من إبر النّحل وقوله: [البسيط] لولا المشقّة ساد الناس كلّهم ... الجود يفقر والإقدام قتّال «4» وإنّما يبلغ الانسان طاقته ... ما كلّ ماشية بالرّجل شملال «5» إنّا لفي زمن ترك القبيح به ... من أكثر الناس إحسان وإجمال 11/ذكر الفتى عمره الثاني وحاجته ... ما قاته وفضول العيش أشغال «6»

وقوله: [الكامل] أنف الكريم من الدنيّة تارك ... في عينه العدّ الكثير قليلا «1» والعار مضّاض وليس بخائف ... من حتفه من خاف ممّا قيلا وقوله: [الوافر] وفي الأحباب مختصّ بوجد ... وآخر يدّعي معه اشتراكا «2» إذا اشتبكت دموع في خدود ... تبيّن من بكى ممّن تباكى وقوله: [المنسرح] يجني الغنى للّئام لو عقلوا ... ما ليس يجنى عليهم العدم «3» (هـ) م لأموالهم وليس لهم ... والعار يبقى والجرح ملتئم «4»

وقوله: [الخفيف] والغنى في يد اللئيم قبيح ... مثل قبح الكريم في الإملاق «1» إلف هذا الهواء أوقع في الأن ... فس أنّ الحمام مرّ المذاق والأسى قبل فرقة الروح عجز ... والأسى لا يكون قبل الفراق «2» وقوله: [الخفيف] إنّما تنجح المقالة في المر ... ء إذا وافقت هوى في الفؤاد «3» وإذا الحلم لم يكن في طباع ... لم يحلّم تقادم الميلاد «4» وإذا كان في الأنابيب خلف ... وقع الطّيش في صدور الصعاد «5» وقوله: [الكامل] إنّي لأجبن من فراق أحبّتي ... وتحسّ نفسي بالحمام فتشجع «6»

ويزيدني غضب الأعادي قسوة ... ويلمّ بي عتب الصديق فأجزع تصفو الحياة لجاهل أو غافل ... عمّا مضى فيها وما يتوقّع 12/ولمن يغالط في الحقائق نفسه ... ويسومها طلب المحال فتطمع أين الذي الهرمان من بنيانه ... ما قومه؟ ما يومه؟ ما المصرع؟ تتخلّف الآثار عن أصحابها ... حينا ويدركها الفناء فتتبع وقوله: [الكامل] نبكي على الدنيا وما من معشر ... جمعتهم الدنيا فلم يتفرّقوا «1» أين الأكاسرة الجبابرة الألى ... كنزوا الكنوز فما بقين ولا بقوا من كلّ من ضاق الفضاء بجيشه ... حتى ثوى فحواه لحد ضيّق والموت آت والنفوس نفائس ... والمستغرّ بما لديه الأحمق وقوله: أبيات مفردة منتزعة من قصائده تليق بهذا الموضع، منها: [المتقارب] تفانى الرجال على حبّها ... وما يحصلون على طائل «2» ومنها: [الخفيف] وإذا كانت النفوس كبارا ... تعبت في مرادها الأجسام «3»

ومنها: [الوافر] إذا اعتاد الفتى خوض المنايا ... فأهون ما يمرّ به الوحول «1» ومنها: [الطويل] بذا قضت الأيام ما بين أهلها ... مصائب قوم عند قوم فوائد «2» ومنها: [الوافر] وليس يصحّ في الأفهام شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليل «3» ومنها: [الطويل] وكلّ أنابيب القنا مدد له ... وما تنكت الفرسان إلّا العوامل «4» وفي شكوى الزمان وأهله والفخر، قوله: [الطويل]

كفى بك داء أن ترى الموت شافيا ... وحسب المنايا أن يكنّ أمانيا «1» تمنّيتها لما تمنّيت أن ترى ... صديقا فأعيا أو عدوّا مداجيا إذا كنت ترضى أن تعيش بذلّة ... فلا تستعدّنّ الحسام اليمانيا 13/ولا تستطيلنّ الرماح لغارة ... ولا تستجيدنّ العتاق المذاكيا «2» فما ينفع الأسد الحياء من الطّوى ... ولا تتّقى حتى تكون ضواريا حببتك قلبي قبل حبّك من نأى ... وقد كان غدّارا فكن لي موافيا «3» وأعلم أنّ البين يشكيك بعده ... فلست فؤادي إن رأيتك شاكيا أقلّ اشتياقا أيّها القلب ربّما ... رأيتك تصفي الودّ من ليس جازيا وقوله: [الطويل] أطاعن خيلا من فوارسها الدّهر ... وحيدا وما قولي كذا ومعي الصبر «4» وأشجع منّي كلّ يوم سلامتي ... وما ثبتت إلّا وفي نفسها أمر تمرّست بالآفات حتى تركتها ... تقول: أمات الموت أم ذعر الذّعر وأقدمت إقدام الأتيّ كأنّ لي ... سوى مهجتي أو كان لي عندها وتر «5» ذر النّفس تأخذ وسعها قبل بينها ... فمفترق جاران دارهما العمر «6»

ولا تحسبنّ المجد زقّا وقينة ... فما المجد إلّا السيف والفتكة البكر «1» وقوله: [الوافر] فؤاد ما تسلّيه المدام ... وعمر مثل ما تهب اللئام «2» ودهر ناسه ناس صغار ... وإن كانت لهم جثث جسام «3» وما أنا منهم بالعيش فيهم ... ولكن معدن الذّهب الرّغام أرانب غير أنّهم ملوك ... مفتّحة عيونهم نيام خليلك أنت لا من قلت خلّي ... وإن كثر التّجمّل والكلام ولو حيز الحفاظ بغير عقل ... تجنّب عنق صيقله الحسام 14/وشبه الشيء منجذب إليه ... وأشبهنا بدنيانا الطّغام ولو لم يعل إلّا ذو محلّ ... تعالى الجيش وانحطّ القتام «4» وقوله: [الكامل] كيف الرّجاء من الخطوب تخلّصا ... من بعد ما أنشبن فيّ مخالبا «5» ونصبنني غرض الرّماة تصيبني ... محن أحد من السيوف مضاربا أظمتني الدّنيا فلمّا جئتها ... مستسقيا مطرت عليّ مصائبا

وقوله: [الوافر] أرى المتشاعرين غروا بذمّي ... ومن ذا يحمد الدّاء العضالا «1» ومن يك ذا فم مرّ مريض ... يجد مرّا به الماء الزلالا وقوله: [الطويل] ومن تكن الأسد الضواري جدوده ... يكن ليله صبحا ومطعمه غصبا «2» ولست أبالي بعد إدراكي العلا ... أكان تراثا ما تناولت أم كسبا أرى كلّنا يبغي الحياة بسعيه ... حريصا عليها مستهاما بها صبّا «3» فحبّ الجبان النّفس أورده البقا ... وحبّ الشجاع الحرب أورده الحربا «4» ويختلف الرّزقان والفعل واحد ... إلى أن يرى إحسان هذا لذا ذنبا وقوله: [الوافر] أعزمي طال هذا الليل فانظر ... أفيك الصبح يفرق أن يؤوبا «5» 15/كأنّ الفجر حبّ مستزار ... يراعي من دجنّته رقيبا

كأن نجومه حلي عليه ... وقد حذيت قوائمه الجبوبا «1» كأنّ الجوّ قاسى ما أقاسي ... فصار سواده فيه شحوبا أقلّب فيه أجفاني كأنّي ... أعدّ بها على الدّهر الذنوبا وما ليل بأطول من نهار ... يظلّ بلحظ حسّادي مشوبا وما موت بأبغض من حياة ... أرى لهم معي فيها نصيبا عرفت نوائب الحدثان حتّى ... لو [انتسبت] لكنت لها نسيبا» وقوله: [الطويل] من الحلم أن تستعمل الجهل دونه ... إذا اتّسعت في الحلم طرق المظالم «3» وإن ترد الماء الذي شطره دم ... فتسقى إذا لم يسق من لم يزاحم ومن عرف الأيام معرفتي بها ... وبالناس روّى رمحه غير راحم فليس بمرحوم إذا ظفروا به ... ولا في الرّدى الجاري عليهم بآثم إذا صلت لم أترك مصالا لصائل ... وإن قلت لم أترك مقالا لعالم وقوله: [البسيط] غيري بأكثر هذا النّاس ينخدع ... إن قاتلوا جبنوا أو حدّثوا شجعوا «4» أهل الحفيظة إلّا أن تجرّبهم ... وفي التجارب بعد الغيّ ما يزع

ليس الجمال بوجه صحّ مارنه ... أنف العزيز بقطع العزّ ينجدع «1» أأطرح المجد عن كتفي وأطلبه ... وأترك الغيث في غمدي وأنتجع والمشرفيّة لا زالت مشرّفة ... دواء كلّ كريم أو هي الوجع 16/لقد أباحك غشّا في معاملة ... من كنت منه بغير الصّدق تنتفع وقوله: [الطويل] ومن نكد الدنيا على المرء أن يرى ... عدّوا له ما من صداقته بدّ «2» تلجّ دموعي بالجفون كأنّما ... جفوني لعيني كلّ باكية خدّ وإنّي لتغنيني من الماء نغبة ... وأصبر عنه مثلما تصبر الرّبد «3» وقوله: [الطويل] ألحّ عليّ السقم حتى ألفته ... وملّ طبيبي جانبي والعوائد «4» أهمّ بشيء والليالي كأنّها ... تطاردني عن كونه وأطارد وحيد من الخلّان في كلّ بلدة ... إذا عظم المطلوب قلّ المساعد وأورد نفسي والمهنّد في يدي ... موارد لا يصدرن من لا يجالد

ولكن إذا لم يحمل القلب كفّه ... على حاله لم يحمل الكفّ ساعد وقوله: [الطويل] أعادي على ما يوجب الحبّ للفتى ... وأهدأ والأفكار فيّ تجول «1» سوى وجع الحسّاد داو فإنّه ... إذا حلّ في قلب فليس يحول ولا تطمعن من حاسد في مودّة ... وإن كنت تبديها له وتنيل وإنّا لنلقى الحادثات بأنفس ... كثير الرزايا عندهنّ قليل يهون علينا أن تصاب جسومنا ... وتسلم أعراض لنا وعقول وقوله: [الطويل] وأسرع مفعول فعلت تغيّرا ... تكلّف شيء في طباعك ضدّه «2» 17/وفي النّاس من يرضى بميسور عيشه ... ومركوبه رجلاه والثوب جلده ولكنّ قلبا بين جنبيّ ماله ... مدى ينتهي بي في مراد أحدّه وإنّي إذا باشرت أمرا أريده ... تدانت أقاصيه وهان أشدّه وقوله: [الطويل] أما تغلط الأيام فيّ بأن أرى ... صديقا تنآئى أو حبيبا تقرّب «3»

لحا الله ذي الدنيا مناخا لراكب ... فكلّ بعيد الهمّ فيها معذّب ألا ليت شعري هل أقول قصيدة ... فلا أشتكي فيها ولا أتعتّب وبي ما يذود الشعر عنّي أقلّه ... ولكنّ قلبي يا ابنة القوم قلّب أحنّ إلى أهلي وأهوى لقاءهم ... وأين من المشتاق عنقاء مغرب «1» وقوله: [البسيط] بم التعلّل لا أهل ولا وطن ... ولا نديم ولا كأس ولا سكن «2» أريد من زمني ذا أن يبلّغني ... ما ليس يبلغه من نفسه الزمن ممّا أضرّ بأهل العشق أنّهم ... هووا وما عرفوا الدنيا ولا فطنوا تفنى عيونهم دمعا وأنفسهم ... في إثر كلّ قبيح وجهه حسن وقوله: [الطويل] ولو أنّ ما بي من حبيب مقنّع ... عذرت ولكن من حبيب معمّم «3» رمى واتّقى رميي ومن دون ما اتقى ... هوى كاسر كفّي وقوسي وأسهمي وقوله: [الخفيف]

صحب النّاس قبلنا ذا الزّمانا ... وعناهم من شأنه ما عنانا «1» وتوفّوا بغصّة كلّهم من ... هـ وإن سرّ بعضهم أحيانا «2» 18/ربّما تحسن الصّنيع ليالي ... هـ ولكن تكدّر الإحسانا وكأنّا لم يرض فينا بريب ال ... دّهر حتى أعانه من أعانا كلّما أنبت الزمان قناة ... ركّب المرء في القناة سنانا ومراد النفوس أصغر من أن ... تتعادى فيه وأن تتفانى غير أنّ الفتى يلاقي المنايا ... كالحات ولا يلاقي الهوانا ولو انّ الحياة تبقى لحيّ ... لعددنا أضلّنا الشجعانا وإذا لم يكن من الموت بدّ ... فمن العجز أن تكون جبانا «3» وقوله: [الوافر] ولمّا صار حبّ الناس خبّا ... جزيت عن ابتسام بابتسام «4» وصرت أشكّ فيمن أصطفيه ... لعلمي أنّه بعض الأنام وآنف من أخي لأبي وأمّي ... إذا ما لم أجده من الكرام

أرى الأجداد تغلبها كثيرا ... على الأولاد أخلاق اللئام «1» ولم أر في عيوب النّاسى شيئا ... كنقص القادرين على التمام أقمت بأرض مصر فلا ورائي ... تخبّ بي الركاب ولا أمامي «2» وملّني الفراش وكان جنبي ... يملّ لقاءه في كلّ عام قليل عائدي سقم فؤادي ... كثير حاسدي صعب مرامي منها يذكر الحمّى «3» : وزائرتي كأنّ بها حياء ... فليس تزور إلّا في الظلام بذّلت لها المطارف والحشايا ... فعافتها وباتت في عظامي 19/يضيق الجلد عن نفسي وعنها ... فتوسعه بأنواع السّقام إذا ما فارقتني غسّلتني ... كأنّا عاكفان على حرام كأنّ الصّبح يطردها فتجري ... مدامعها بأربعة سجام أراقب وقتها من غير شوق ... مراقبة المشوق المستهام ويصدق وعدها والصّدق شرّ ... إذا ألقاك في الكرب العظام أبنت الدّهر عندي كلّ بنت ... فكيف وصلت أنت من الزحام جرحت مجرّحا لم يبق فيه ... مكان للسيوف ولا السهام يقول لي الطّبيب أكلت شيئا ... وداؤك في شرابك والطعام وما في ظنّه أنّي جواد ... أضرّ بجسمه طول الجمام «4»

فإن أمرض فما مرض اصطباري ... وإن أجمم فما جمّ اعتزامي «1» وإن أسلم فما أبقى ولكن ... سلمت من الحمام إلى الحمام تمتّع من سهاد أو رقاد ... ولا تأمن كرى تحت الرّجام «2» فإنّ لثالث الحالين معنى ... سوى معنى انتباهك والمنام وقوله: [الوافر] وما أدري أذا داء حديث ... أصاب النّاس أم داء قديم «3» إذا أتت الإساءة من وضيع ... ولم ألم المسيء فمن ألوم «4» وقوله: [الوافر] إذا ما الناس جرّبهم لبيب ... فإنّي قد أكلتهم وذاقا «5» فلم أر ودّهم إلّا خداعا ... ولم أر دينهم إلّا نفاقا وقوله: [البسيط] لم يترك الدّهر من قلبي ولا كبدي ... شيئا تتيّمه عين ولا جيد «6»

20/يا ساقييّ أخمر في كؤوسكما ... أم في كؤوسكما همّ وتسهيد أصخرة أنا مالي لا تغيّرني ... هذي المدام ولا هذي الأغاريد «1» إذا أردت كميت اللّون صافية ... وجدتها وحبيب النّفس مفقود «2» ماذا لقيت من الدنيا وأعجبها ... أنّي بما أنا باك منه محسود وقوله: [البسيط] توهّم القوم أنّ العجز قرّبنا ... وفي التقرّب ما يدعو إلى التّهم «3» ولم تزل قلّة الإنصاف قاطعة ... بين الرجال ولو كانوا ذوي رحم هوّن على بصر ما شقّ منظره ... فإنّما يقظات العين كالحلم ولا تشكّ إلى خلق فتشمته ... شكوى الجريح إلى العقبان والرخم «4» وكن على حذر للناس تستره ... ولا يغرك منهم ثغر مبتسم غاض الوفاء فما تلقاه في عدة ... وأعوز الصدق في الأخبار والقسم أتى الزمان بنوه في شبيبته ... فسرّهم وأتيناه على الهرم وقوله: [الطويل]

وغيظ على الأيام كالنار في الحشا ... ولكنّه غيظ الأسير على القدّ «1» وليس حياء الوجه في الذئب شيمة ... ولكنّه من شيمة الأسد الورد إذا لم تجزهم دار قوم مودّة ... أجاز القنا والخوف خير من الودّ وقوله: [البسيط] ليس التعلّل بالآمال من إربي ... ولا القناعة بالإقلال من شيمي «2» ولا أظنّ بنات الدهر تتركني ... حتى تسدّ عليها طرقها هممي 21/لأتركنّ وجوه الخيل ساهمة ... والحرب أقوم من ساق على قدم ردي حياض الردى يا نفس واتّركي ... حياض خوف الردى للشاء والنعم إن لم أذرك على الأرماح سائلة ... فلا دعيت ابن أمّ المجد والكرم أيملك الملك والأسياف ظامئة ... والطير جائعة لحم على وضم «3» من لو رآني ماء مات من ظمأ ... ولو مثلث له في النوم لم ينم وقوله: [البسيط] أذاقني زمني بلوى شرقت بها ... لو ذاقها لبكى ما عاش وانتحبا «4»

وإن عمرت جعلت الحرب والدة ... والسمهريّ أخا والمشرفيّ أبا بكلّ أشعث يلقى الموت مبتسما ... حتى كأنّ له في قتله إربا الموت أعذر لي والصبر أجمل بي ... والبرّ أوسع والدنيا لمن غلبا وقوله: [الكامل] أنا صخرة الوادي إذا ما زوحمت ... وإذا نطقت فإنّني الجوزاء «1» وإذا خفيت عن الغبيّ فعاذر ... أن لا تراني مقلة عمياء [وقوله] «2» : [الطويل] وأتعب من ناداك من لا تجيبه ... وأغيظ من عاداك من لا تشاكل «3» وما التيه طبّي فيهم غير أنّه ... بغيض إليّ الجاهل المتعاقل «4» وقوله: [المنسرح] كن أيها السجن كيف شئت فقد ... وطنّت للموت نفس معترف «5» لو كان سكناي فيك منقصة ... لم يكن الدرّ ساكن الصدف

وقوله: [المنسرح] إنّي وإن لمت حاسديّ فما ... أنكر أنّي عقوبة لهم «1» 22/وكيف لا يحسد امرؤ علم ... له على كلّ هامة قدم كفاني الذمّ أنني رجل ... أكرم مال ملكته الكرم وقوله: [الخفيف] ما بقومي شرفت بل شرفوا بي ... وبنفسي فخرت لا بجدودي «2» أنا ترب العلى وربّ القوافي ... وسمام العدا وغيظ الحسود وقوله: [الكامل] أنكرت طارقة الليالي مرة ... ثمّ اعترفت بها فصارت ديدنا «3» وفي النسيب قوله: [الطويل] تذكّرت ما بين العذيب وبارق ... مجرّ عوالينا ومجرى السوابق «4»

وصحبة قوم يذبحون قنيصهم ... بفضلات ما قد كسّروا في المفارق «1» وليلا توسّدنا الثويّة تحته ... كأنّ ثراها عنبر في المرافق بلاد إذا زار الحسان بغيرها ... حصى تربها ثقّبنه للمخانق سقتني بها القطر بّليّ مليحة ... على كاذب من وعدها ضوء صادق «2» سهاد لأجفان وشمس لناظر ... وسقم لأبدان ومسك لناشق وقوله: [البسيط] أحيا وأيسر ما قاسيت ما قتلا ... والبين جار على ضعفي وما عدلا «3» والوجد يقوى كما يقوى النوى أبدا ... والصّبر ينحل في جسمي كما نحلا لولا مفارقة الأحباب ما وجدت ... لها المنايا إلى أرواحنا سبلا وقوله: [الكامل] إن كان أغناها السلوّ فإنّني ... أمسيت من كبدي ومنها معدما «4» غصني على نقوي فلاة نابت ... شمس النهار تقلّ ليلا مظلما 23/وقوله: [البسيط] أبلى الهوى أسفا يوم النّوى بدني ... وفرّق الهجر بين الجفن والوسن «5»

روح تردّد في مثل الخلال إذا ... أطارت الريح عنه الثوب لم يبن «1» كفى بجسمي نحولا أنّني رجل ... لولا مخاطبتي إيّاك لم ترني وقوله: [الطويل] حشاشة نفس ودّعت يوم ودّعوا ... فلم أدر أيّ الظاعنين أشيّع «2» أشاروا بتسليم فجدنا بأنفس ... تسيل من الآماق والسقم أدمع ولو حمّلت صمّ الجبال الذي بنا ... غداة افترقنا أوشكت تتصدّع حشاي على جمر ذكيّ من الهوى ... وعيناي في روض من الحسن ترتع فيا ليلة ما كان أطول بتّها ... وسمّ الأفاعي عذب ما أتجرّع «3» تذلّل لها واخضع على القرب والنوى ... فما عاشق من لا يذلّ ويخضع وقوله: [الكامل] وأنا الذي اجتلب المنية طرفه ... فمن المطالب والقتيل القاتل «4» إنعم ولذّ فللأمور أواخر ... أبدا إذا كانت لهنّ أوائل ما دمت من أرب الحسان فإنّما ... روق الشباب عليك ظلّ زائل للهو آونة تمرّ كأنّها ... قبل تزوّدها حبيب راحل وقوله: [البسيط]

حاش الرقيب فخانته ضمائره ... وغيّض الدمع فانهلّت بوادره «1» وكاتم الحبّ يوم البين منهتك ... وصاحب الدمع لا تخفى سرائره أعارني سقم جفنيه وحمّلني ... من الهوى ثقل ما تحوي مآزره «2» 24/من بعد ما كان ليلي لا صباح له ... كأنّ أول يوم الحشر آخره وقوله: [الطويل] فمن شاء فلينظر إليّ فمنظري ... نذير إلى من ظنّ أنّ الهوى سهل «3» وما هي إلّا لحظة بعد لحظة ... إذا نزلت في قلبه رحل العقل جرى حبها مجرى دمي في مفاصلي ... فأصبح لي عن كلّ شغل بها شغل ومن جسدي لم يترك السقم شعرة ... فما فوقها إلّا وفيها له فعل كأنّ رقيبا منك سدّ مسامعي ... عن العذل حتى ليس يدخلها العذل كأنّ سهاد الليل يعشق مقلتي ... فبينهما في كلّ هجر لنا وصل وقوله: [الكامل] إنّ التي سفكت دمي بجفونها ... لم تدر أنّ دمي الذي تتقلّد «4» قالت وقد رأت اصفراري: من به ... وتنهدت فاجبتها المتنهّد

فمضت وقد صبغ الحياء بياضها ... لوني كما صبغ اللجين العسجد فرأيت قرن الشمس في قمر الدجى ... متأوّدا غصن به يتأوّد أبلت مودّتها الليالي بعدنا ... ومشى عليها الدهر وهو مقيّد وقوله: [الطويل] أريقك أم ماء الغمامة أم خمر ... بفيّ برود وهو في كبدي جمر «1» رأت وجه من أهوى بليل عواذلي ... فقلن: نرى شمسا وما طلع الفجر رأين التي للسّحر في لحظاتها ... سيوف ظباها من دمي أبدا حمر تناهى سكون الحبّ في حركاتها ... فليس لراء وجهها لم يمت عذر «2» 25/وقوله: [الطويل] نرى عظما بالصدّ والبين أعظم ... ونتهم الواشين والدمع منهم «3» ومن لبّه مع غيره كيف حاله ... ومن سرّه في جفنه كيف يكتم ولمّا التقينا والنوى ورقيبنا ... غفولان عنا ظلت أبكي وتبسم فلم أرّ بدرا ضاحكا قبل وجهها ... ولم تر قبلي ميتا يتكلم بفرع يعيد الليل والصبح نيّر ... ووجه يعيد الصبح والليل مظلم وقوله: [البسيط] ما الشوق مقتنعا منّي بذا الكمد ... حتى أكون بلا قلب ولا جسد «4»

وكلّما فاض دمعي غاض مصطبري ... كأنّ ما سال من جفنيّ من جلدي وقوله: [الوافر] أيدري الربع أيّ دم أراقا ... وأيّ قلوب هذا الركب شاقا «1» لنا ولأهله أبدا قلوب ... تلاقى في جسوم ما تلاقى فليت هوى الأحبّة كان عدلا ... فحمّل كلّ قلب ما أطاقا نظرت إليهم والعين شكرى ... فصارت كلّها للدمع ماقا «2» وقد أخذ التمام البدر فيهم ... وأعطاني من السّقم المحاقا وخصر تثبت الأبصار فيه ... كأن عليه من حدق نطاقا وقوله: [الوافر] تولّوا بغتة فكأنّ بينا ... تهيبّني ففاجأني اغتيالا «3» فكان مسير عيسهم ذميلا ... وسير الدمع إثرهم انهمالا «4» كأن العيس كانت فوق جفني ... مناخات فلما ثرن سالا بدت قمرا ومالت خوط بان ... وفاحت عنبرا ورنت غزالا 26/لبسن الوشي لا متجمّلات ... ولكن كي يصنّ به الجمالا وضفّرن الغدائر لا لحسن ... ولكن خفن في الشّعر الضلالا

وقوله: [الطويل] أيا لائمي إن كنت وقت اللوائم ... علمت بما بي بين تلك المعالم «1» ولكننّي ممّا شدهت متيّم ... كسال وقلبي بائح مثل كاتم وقفنا كأنا كلّ وجد قلوبنا ... تمكن من أذوادنا في القوائم «2» ودسنا بأخفاف المطيّ ترابها ... فلا زلت أستشفي بلثم المناسم ديار اللواتي دارهنّ عزيزة ... بطول القنا.. حفّظن لا بالتمائم حسان التثني ينقش الوشي مثله ... إذا مسّ في أجسادهنّ النواعم ويبسمن عن درّ تقلّدن مثله ... كأنّ التراقي وشحّت بالمباسم وقوله: [الكامل] في الخدّ إن عزم الخليط رحيلا ... مطر تزيد به الخدود محولا «3» يا نظرة نفت الرقاد وغادرت ... في حدّ قلبي ما حييت فلولا كانت من الكحلاء سؤلي إنّما ... أحلي تمثّل في فؤادي سولا أجد الجفاء على سواك مروءة ... والصبر إلّا في نواك جميلا حدق الحسان من الغواني هجن لي ... يوم الفراق صبابة وعويلا «4» وقوله: [الكامل] القلب أعلم يا عذول بدائه ... وأحقّ منك بجفنه وبمائه «5»

فومن أحبّ لأعصينّك في الهوى ... قسما به وبحسنه وبهائه 27/أأحبّه وأحبّ فيه ملامة ... إنّ الملامة فيه من أعدائه ما الخلّ إلّا من أودّ بقلبه ... وأرى بطرف لا يرى بسوائه إنّ المعين على الصبابة بالأسى ... أولى برحمة ربّها وإخائه لا تعذل المشتاق في أشواقه ... حتى تكون حشاك في أحشائه «1» إنّ القتيل مضرّجا بدموعه ... مثل القتيل مضرّجا بدمائه والعشق كالمعشوق يعذب قربه ... للمبتلي وينال من حوبائه وقي الأمير هوى العيون فإنّه ... ما لا يزول ببأسه وسخائه يستأسر البطل الكميّ بنظرة ... ويحول بين فؤاده وعزائه وقوله: [الطويل] لياليّ بعد الظاعنين شكول ... طوال وليل العاشقين طويل «2» يبنّ لي البدر الذي لا أريده ... ويخفين بدرا ما إليه سبيل وما عشت من بعد الأحبّة سلوة ... ولكننّي للنائبات حمول وما شرقي بالماء إلّا تذكّرا ... لماء به أهل الحبيب نزول يحرّمه لمع الأسنّة فوقه ... فليس لظمآن إليه وصول أما في النجوم السائرات وغيرها ... لعيني على ضوء الصباح دليل ألم ير هذا الليل عينيك رؤيتي ... فتظهر فيه رقّة ونحول لقيت بدرب القلّة الفجر لقية ... شفت كبدي والليل فيه قتيل «3»

ويوما كأنّ الحسن فيه علامة ... بعثت بها والشمس منك رسول وما قبل سيف الدولة اثّار عاشق ... ولا طلبت عند الظلام ذحول «1» 28/ولكنه يأتي بكلّ غريبة ... تروق على استغرابها وتهول وقوله: [الطويل] لعينيك ما يلقى الفؤاد وما لقي ... وللحب ما لم يبق مني وما بقي «2» وما كنت ممّن يدخل العشق قلبه ... ولكنّ من يبصر جفونك يعشق عشيّة يعدونا عن النظر البكا ... وعن لذّة التوديع خوف التفرّق وبين الرّضا والسخط والقرب والنوى ... مجال لدمع المقلة المترقرق وأحلى الهوى ما شكّ في الوصل ربّه ... وفي الهجر فهو الدّهر يرجو ويتقي وما كلّ من يهوى يعفّ إذا خلا ... عفافي ويرضي الحبّ والخيل تلتقي وقوله: [الطويل] عدمت فؤادا لم تبت فيه فضلة ... لغير الثنايا الغرّ والحدق البخّل «3» وقوله: [الخفيف] شيب رأسي وذلّتي ونحولي ... ودموعي على هواك شهودي «4»

أيّ يوم سررتني بوصال ... لم ترعني ثلاثة بصدود وقوله: [الكامل] وعذلت أهل العشق حتى ذقته ... فعجبت كيف يموت من لا يعشق «1» وعذرتهم وعرفت ذنبي أنّني ... عيرّتهم فلقيت فيه ما لقوا وقوله: [البسيط] كتمت حبّك حتى منك تكرمة ... ثمّ استوى فيك إسراري وإعلاني «2» كأنّه زاد حتى فاض من جسدي ... فصار سقمي به في حسم كتماني وقوله: [الكامل] إن كنت ظاعنة فإنّ مدامعي ... تكفي مزادكم وتروى العيسا «3» 29/حاشا لمثلك أن تكون بخيلة ... ولمثل وجهك أن يكون عبوسا وقوله: [البسيط] بحب قاتلتي والشيب تغذيتي ... هواي طفلا وشيبي بالغ الحلم «4» فما أمرّ برسم لا أسائله ... ولا بذات خمار لا تريق دمي

تنفّست عن وفاء غير منصدع ... يوم الرحيل وشعب غير ملتئم قبّلتها ودموعي مزج أدمعها ... وقبّلتني على خوف فما لفم فذقت ماء حياة من مقبّلها ... لو صاب تربا لأحيا سالف الأمم ترنو إليّ بعين الظبي مجهشة ... وتمسح الطلّ فوق الورد بالعنم وقوله: [الكامل] يمّمت شاسع دارهم عن نيّة ... إنّ المحبّ على البعاد يزور «1» وقنعت باللقيا وأوّل نظرة ... إنّ القليل من المحبّ كثير وقوله: [الطويل] عواذل ذات الخال فيّ حواسد ... وإنّ ضجيع الخود منّي لماجد «2» يردّ يدا عن ثوبها وهو قادر ... ويعصي الهوى في طيفها وهو راقد متى يشتفي من لاعج الشوق في الحشا ... محبّ لها في قربه متباعد وقوله: [الوافر] أقول لها اكشفي ضرّي وقولي ... بأكثر من تدلّلها خضوعا «3» أخفت الله من إحياء نفس ... متى عصي الاله بأن أطيعا

غدا بك كلّ خلو مستهاما ... وأصبح كلّ مستور خليعا وقوله: [البسيط] هام الفؤاد بأعرابية سكنت ... بيتا من القلب لم تمدد له طنبا «1» 30/مظلومة القدّ في تشبيهه غصنا ... مظلومة الريق في تشبيهه ضربا «2» بيضاء تطمع فيما تحت حلّتها ... وعزّ ذلك مطلوبا إذا طلبا كأنّها الشمس يعيي كفّ قابضه ... شعاعها وبراه الطرف مقتربا وقوله: [الطويل] أردّد ويلي لو قضى الويل حاجة ... وأكثر لهفي لو شفى غلّة لهف «3» ضنى في الهوى كالسّم في الشهد كامنا ... لذذت به جهلا وفي اللّذة الحتف وقوله: [الكامل] كشفت ثلاث ذوائب من شعرها ... في ليلة فأرت ليالي أربعا «4» واستقبلت قمر السماء بوجهها ... فأرتني القمرين في وقت معا

وقوله: [الكامل] أسفي على أسفي الذي دلّهتني ... عن علمه فبه عليّ خفاء «1» وشكيّتي فقد السقام لأنّه ... قد كان لمّا كان لي أعضاء وقوله: [البسيط] أمّلت ساعة ساروا كشف معصمها ... ليلبث الحيّ دون السير حيرانا «2» ولو بدت لأتاهتهم فحجبّها ... صون عقولهم من لحظه صانا منها: أمّا الثياب فتعرى من محاسنه ... إذا نضاها ويكسى الحسن عريانا يضمّه المسك ضمّ المستهام به ... حتى يصير على الأعكان أعكانا «3» منها: قد كنت أشفق من دمعي على بصري ... فاليوم كلّ عزيز بعدكم هانا تهدي البوارق أخلاف المياه لكم ... وللمحبّ من التذكار نيرانا وقوله: [الطويل] أعيدوا صباحي فهو عند الكواعب ... وردّوا رقادي فهو لحظ الحبائب «4»

31/فإنّ نهاري ليلة مدلهمة ... على مقلة من فقدكم في غياهب بعيدة ما بين الجفون كأنّما ... عقدتم أعالي كلّ هدب بحاجب وأحسب أنّي لو هويت فراقكم ... لفارقته والدهر أخبث صاحب فياليت ما بيني وبين أحبّتي ... من البعد ما بيني وبين المصائب أراك ظننت السّلك جسمي فعفيه ... عليك بدرّ عن لقاء الترائب ولو قلم ألقيت في شقّ رأسه ... من السقم ما غيّرت من خطّ كاتب وقوله: [الطويل] قفي تغرم الأولى من اللحظ مهجتي ... بثانية والمتلف الشيء غارمه «1» سقاك وحيّانا بك الله إنّما ... على العيس نور والخدود كمائمه وما حاجة الأظعان حولك في الدجى ... إلى قمر ما واجد لك عادمه حبيب كأنّ الحسن كان يحبّه ... فآثره أو جار في الحسن قاسمه وما استغربت عيني فراقا رأيته ... ولا علّمتني غير ما القلب عالمه وما خضب الناس البياض لأنّه ... قبيح ولكن أحسن الشّعر فاحمه وقوله: [المتقارب] يراد من القلب نسيانكم ... وتأبى الطباع على الناقل «2» وإنّي لأعشق من عشقكم ... نحولي وكلّ امرئ ناحل

ولو زلتم ثم لم أبككم ... بكيت على حبّي الزائل كأنّ الجفون على مقلتي ... ثياب شققن على ثاكل وقوله: [الطويل] فديناك من ربع وإن زدتنا كربا ... فإنّك كنت الشرق للشمس والغربا «1» 32/وكيف عرفنا رسم من لم يدع لنا ... فؤادا لعرفان الديار ولا لبّا «2» وكيف التذاذي بالأصائل والضحى ... إذا لم يعد ذاك النسيم الذي هبّا ومن صحب الدنيا طويلا تقلّبت ... على عينه حتى يرى صدقها كذبا نزلنا عن الأكوار نمشي كرامة ... لمن بان عنه أن نلمّ به ركبا نذمّ السحاب الغرّ في فعلها به ... ونعرض عنها كلّما طلعت عتبا ذكرت به وصلا كأن لم أفز به ... وعيشا كأنّي كنت أقطعه وثبا لها بشر الدرّ الذي قلّدت به ... ولم أر بدرا قبلها قلّد الشهبا وقوله: [البسيط] وما صبابة مشتاق على أمل ... من اللقاء كمشتاق بلا أمل «3» متى تزر قوم من تهوى زيارتها ... لا يتحفوك بغير البيض والأسل والهجر أقتل لي ممّا أراقبه ... أنا الغريق فما خوفي من البلل قد ذقت شدّة أيامي ولذّتها ... فما حصلت على صاب ولا عسل «4»

وقد طرقت فتاة الحيّ مرتديا ... بصاحب غير عزهاة ولا غزل «1» فبات بين تراقينا ندفّعه ... وليس يعلم بالشكوى ولا القبل ثمّ انثنى وبه من طيبها أثر ... على ذوائبه والجفن والخلل «2» وقوله: [الطويل] تفرّد بالأحكام في أهله الهوى ... فأنت جميل الخلف مستحسن الكذب «3» وإنّي لممنوع المقاتل في الوغي ... وإن كنت مبذول المقاتل في الحبّ ومن خلقت عيناك بين جفونه ... أصاب الحدور السهل في المرتقى الصعب 33/وقوله: [البسيط] من الجآذر في زيّ الأعاريب ... حمر الحلى والمطايا والجلابيب «4» أزورهم وسواد الليل يشفع لي ... وأنثني وبياض الصبح يغري بي ما أوجه الحضر المستحسنات به ... كأوجه البدويات الرعابيب «5» حسن الحضارة مجلوب بتطرية ... وفي البداوة حسن غير مجلوب وقوله: [الكامل]

ذكر الصّبا ومرابع الآرام ... جلبت حمامي قبل وقت حمامي «1» دمن تكاثرت الهموم عليّ في ... عرصاتها كتكاثر اللوّام فكأن كلّ سحابة وكفت بها ... تبكي بعيني عروة بن حزام قد كنت تهزأ بالفراق مجانة ... وتجرّ ذيلي شرّة وعرام ليس القباب على الركاب وإنّما ... هنّ الحياة ترحّلت بسلام ليت الذي خلق النوى جعل الحصى ... لخفا فهنّ مفاصلي وعظامي وقوله: [الخفيف] وإذا خامر الهوى قلب صبّ ... فعليه لكلّ عين دليل «2» زوّدينا من حسن وجهك ما دا ... م فحسن الوجوه حال تحول إن تريني أدمت بعد بياض ... فحميد من القناة الذبول «3» وكثير من السؤال اشتياق ... وكثير من ردّه تعليل وقوله: [المنسرح] شاميّة طالما خلوت بها ... تبصر في ناظري محيّاها «4» فقبّلت ناظري تغالطني ... وإنّما قبّلت به فاها

34/كلّ جريح ترجى سلامته ... إلّا فؤادا دهته عيناها وقوله: [الطويل] أسرّ بتجديد الهوى ذكر ما مضى ... وإن كان لا يبقى له الحجر الصلد «1» إذا غدرت حسناء أوفت بعهدها ... ومن عهدها أن لا يدوم لها عهد وإن عشقت كانت أشدّ صبابة ... وإن فركت فاذهب فما فركها قصد «2» وإن حقدت لم يبق في قلبها رضا ... وإن رضيت لم يبق في قلبها حقد كذلك أخلاق النساء وربّما ... يضلّ بها الهادي ويخفى بها الرشد ولكنّ حبّا خامر القلب في الصّبا ... يزيد على مرّ الزمان ويشتدّ وقوله: [الكامل] الحبّ ما منع الكلام الألسنا ... وألذّ شكوى عاشق ما أعلنا «3» وقوله: [المقتضب] ما بال هذي النجوم حائرة ... كأنّها العمي ما لها قائد «4» ومن المختار له في المديح في سيف الدولة ابن حمدان: [الطويل]

على قدر أهل العزم تأتي العزائم ... وتأتي على قدر الكرام المكارم «1» وتعظم في عين الصغير صغارها ... وتصغر في عين العظيم العظائم يكلّف سيف الدولة الجيش همّه ... وقد عجزت عنه الملوك الخضارم ويطلب عند الناس ما عند نفسه ... وذلك ما لا تدّعيه الضراغم يفدّى أتمّ الطير عمرا سلاحه ... نسور الفلا أحداثها والقشاعم وما ضرّها خلق بغير مخالب ... وقد خلقت أسيافه والقوائم هل الحدث الحمراء تعرف لونها ... وتعرف أيّ الساقيين الغمائم 35/سقتها الغمام الغرّ قبل نزوله ... فلمّا دنا منها سقتها الجماجم بناها وعلّا والقنا يقرع القنا ... وموج المنايا حولها متلاطم وكان بها مثل الجنون فأصبحت ... ومن جثث القتلى عليها تمائم طريدة دهر ساقها فرددتها ... على الدين بالخطيّ والدهر راغم وكيف ترجيّ الروم والروس هدمها ... وذا الطعن آساس لها ودعائم تفيت الليالي كلّ شيء أخذته ... وهنّ لما يأخذن منك غوارم إذا كان ما تنويه فعلا مضارعا ... مضى قبل أن تأتي عليه الجوازم وقد حاكموها والمنايا حواكم ... فما مات مظلوم ولا عاش ظالم وقفت وما في الموت شكّ لواقف ... كأنّك في جفن الردى وهو نائم تمرّ بك الأبطال كلمى هزيمة ... ووجهك وضّاح وثغرك باسم ضممت جناحيهم على القلب ضمّة ... تموت الخوافي تحته والقوادم «2» بضرب أتى الهامات والنصر غائب ... وصار إلى اللبّات والنصر قادم «3»

ومن طلب الفتح الجليل فانّما ... مفاتيحه البيض الرقاق الصوارم «1» مضى يشكر الأصحاب في فوته الظبا ... لما شغلتها هامهم والمعاصم ويفهم صوت المشرفية فيهم ... على أنّ أصوات السيوف أعاجم لك الحمد في الدرّ الذي أنا ناظم ... فإنّك معطيه وإنّي ناظم «2» وقوله: [البسيط] أعلى الممالك ما يبنى على الأسل ... والطعن عند محبيهنّ كالقبل «3» وما تقرّ سيوف في ممالكها ... حتى يقلقل دهرا قبل في القلل 36/مثل الأمير بغى أمرا فقرّ به ... طول الرماح وأيدي الخيل والإبل وعزمة بعثتها همّة زحل ... من تحتها بمكان الترب من زحل «4» تتلو أسنّته الكتب التي نفذت ... وتجعل الخيل أبدالا من الرسل تلقى الملوك ولا تلقى سوى جزر ... وما أعدّوا فلا يلقى سوى نفل منها: والباعث الجيش قد غالت عجاجته ... ضوء النهار فصار الظهر كالطّفل «5» الجوّ أضيق ما لاقاه ساطعها ... ومقلة الشمس فيه أحير المقل ينال أبعد منها وهي ناظرة ... فما تقابله إلّا على وجل يعود من كلّ فتح غير مفتخر ... وقد أغذّ إليه غير محتفل

ولا يجير عليه الدهر بغيته ... ولا يحصّن درع مهجة البطل إذا خلعت على عرض له حللا ... وجدتها منه في أبهى من الحلل إنّ السعادة فيما أنت فاعله ... وفّقت مرتحلا أو غير مرتحل بذي الغباوة من إنشادها ضرر ... كما تضرّ رياح الورد بالجعل أجر الجياد على ما كنت مجريها ... وخذ بنفسك في أخلاقك الأول فلا هجمت بها إلّا على ظفر ... ولا وصلت بها إلّا إلى أمل وقوله يمدحه: [البسيط] بالجيش تمتنع السادات كلّهم ... والجيش بابن أبي الهيجاء يمتنع «1» لا تعتفي بلدا مسراه عن بلد ... كالموت ليس به ريّ ولا شبع للسبي ما نكحوا والقتل ما ولدوا ... والنهب ما جمعوا والنار ما زرعوا يطمّع الطير فيهم طول أكلهم ... حتى يكاد على أحيائهم يقع تغدو المنايا فلا تنفكّ واقفة ... حتى يقول لها عودي فتندفع 37/لا تحسبوا من أسرتم كان ذا رمق ... فليس يأكل إلّا الميّت الضبع تمشي الكرام على آثار غيرهم ... وأنت تخلق ما تأتي وتبتدع منها: من كان فوق محلّ الشمس موضعه ... فليس يرفعه شيء ولا يضع ليت الملوك على الأقدار معطية ... فلم يكن لدنيّ عندها طمع لقد أباحك غشّا في معاملة ... من كنت منه بغير الصدق تنتفع الدهر معتذر والسيف منتظر ... وأرضهم لك مصطاف ومرتبع

وقد يظنّ شجاعا من به خرق ... وقد يظنّ جبانا من به زمع «1» إنّ السلاح جميع الناس تحمله ... وليس كلّ ذوات المخلب السّبع وقوله: [الطويل] ولولاك لم تجر الدماء ولا اللهى ... ولم يك للدنيا ولا أهلها معنى «2» وما الخوف إلّا ما تخوّفه الفتى ... وما الأمن إلّا ما رآه الفتى أمنا وقوله: [الطويل] تقبّل أفواه الملوك بساطه ... ويكبر عنها كمّه وبراجمه «3» له عسكرا خيل وطير إذا رمى ... بها عسكرا لم تبق إلّا جماجمه سحاب من العقبان يزحف تحتها ... سحاب إذا استسقت سقتها صوارمه تحاربه الأعداء وهي عباده ... ويدخر الأموال وهي غنائمه ويستكبرون الدّهر والدهر دونه ... ويستعظمون الموت والموت خادمه وما كلّ سيف يقطع الهام حدّه ... ويقطع لزبات الزمان مكارمه «4»

منها: فأبصرت بدرا لا يرى البدر مثله ... وخاطبت بحرا لا يرى العبر عائمه 38/فقد ملّ ضوء الصبح ممّا تغيره ... وملّ سواد الليل ممّا تزاحمه وملّ القنا ممّا تدقّ صدوره ... وملّ حديد الهند ممّا تلاطمه وقوله: [المتقارب] خذوا ما أتاكم به واعذروا ... فإنّ الغنيمة في العاجل «1» وإن كان أعجبكم عامكم ... فعودوا إلى حمص من قابل فإن الحسام الخضيب الذي ... قتلتم به في يد القاتل تفكّ العناة وتغني العفاة ... وتغفر للمذنب الجاهل وقوله: [الطويل] إذا كان مدح فالنسيب المقدّم ... أكلّ فصيح قال شعرا متيّم «2» لحبّ ابن عبد الله أولى فإنّه ... به يبدأ الذكر الجميل ويختم أطعت الغواني قبل مطمح ناظري ... إلى منظر يصغرن عنه ويعظم تعرّض سيف الدولة الدهر كلّه ... يطبّق في أوصاله ويصمّم فجاز له حتى على الشمس حكمه ... وبان له حتى على البدر ميسم فلم يخل من نصر له من له يد ... ولم يخل من شكر له من له فم ولم يخل من أسمائه عود منبر ... ولم يخل دينار ولم يخل درهم

يقرّ له بالفضل من لا يودّه ... ويقضي له بالسعد من لا ينجّم إذا نحن سمينّاك خلنا سيوفنا ... من التّيه في أغمادها تتبسّم أخذت على الأرواح كلّ ثنيّة ... من العيش يعطي من يشاء ويحرم «1» فلا موت إلّا من سنانك يتّقى ... ولا رزق إلّا من يمينك يقسم 39/وقوله: [الطويل] خليليّ إنّي لا أرى غير شاعر ... فكم منهم الدعوى ومنّي القصائد «2» فلا تعجبا إنّ السيوف كثيرة ... ولكنّ سيف الدولة اليوم واحد ولمّا رأيت الناس دون محلّه ... تيقنّت أنّ الدهر للناس ناقد أحقّهم بالسيف من ضرب الطّلى ... وبالأمر من هانت عليه الشدائد وإنّ دما أجريته بك فاخر ... وإن فؤادا رعته لك حامد وكلّ يرى طرق الشجاعة والندى ... ولكنّ طبع النفس للنفس قائد نهبت من الأعمار ما لو حويته ... لهنّئت الدنيا بأنّك خالد وتضحى الحصون المشمخراّت في الذرى ... وخيلك في أعناقهنّ قلائد فأنت حسام الملك والله ضارب ... وأنت لواء الدين والله عاقد وقوله: [الوافر] رأيتك في الذين أرى ملوكا ... كأنّك مستقيم في محال «3»

فإن تفق الأنام وأنت منهم ... فإنّ المسك بعض دم الغزال وقوله: [الطويل] تهاب سيوف الهند وهي حدائد ... فكيف إذا كانت نزارية عربا «1» ويرهب ناب الليث والليث وحده ... فكيف إذا كان الليوث له صحبا ويخش عباب البحر وهو مكانه ... فكيف بمن يغش البلاد إذا غبّا هنيئا لأهل الثغر رأيك فيهم ... وأنّك حزب الله جرت له حزبا وأنك رعت الدهر فيها وريبه ... فإن شكّ فليحدث بساحتها خطبا فيوما بخيل تطرد الروم عنهم ... ويوما بجود تطرد الفقر والجدبا 40/كأنّ نجوم الليل خافت مغاره ... فمدّت عليها من عجاجته حجبا وقوله: [البسيط] قد زرته وسيوف الهند مغمدة ... وقد نظرت إليه والسيوف دم «2» فكان أحسن خلق الله كلّهم ... وكان أحسن ما في الأحسن الشيم فوت العدوّ الذي يممّته ظفر ... في طيّه أسف في طيّه نعم

قد ناب عنك شديد الخوف واصطنعت ... لك المهابة مالا تصنع البهم «1» ألزمت نفسك شيئا ليس يلزمها ... أن لا تواريهم أرض ولا علم عليك هزمهم في كلّ معترك ... وما عليك بهم عار إذا انهزموا وقوله: [البسيط] ضاق الزمان ووجه الأرض عن ملك ... ملء الزمان وملء السهل والجبل «2» فنحن في جذل والروم في وجل ... والبرّ في شغل والبحر في خجل إن كنت ترضى بأن يعطوا الجزى بذلوا ... منها رضاك ومن للعور بالحول والمدح لابن أبي الهيجاء ننجده ... بالجاهلية عين الغيّ والخطل ليت المدائح تستوفي مناقبه ... فما كليب وأهل الأعصر الأول خذ ما تراه ودع شيئا سمعت به ... في طلعة البدر ما يغنيك عن زحل «3» وقد وجدت مكان القول ذا سعة ... فإن وجدت لسانا قائلا فقل وما ثناك كلام الناس عن كرم ... ومن يسدّ طريق العارض الهطل لأنّ حلمك حلم لا تكلّفه ... ليس التكحّل في العينين كالكحل لا زلت تضرب من عاداك عن عرض ... بعاجل النصر في مستأخر الأجل 41/وقوله: [الطويل] لقد جدت حتى جدت في كلّ ملّة ... وحتى أتاك الحمد من كلّ منطق «4»

فيا أيّها المطلوب جاوره تمتنع ... ويا أيّها المحروم يمّمه ترزق ويا أجبن الفرسان صاحبه تجترئ ... ويا أشجع الشجعان فارقه تفرق وقوله: [الطويل] فلمّا رأوه وحده دون جيشه ... دروا أنّ كلّ العالمين فضول «1» وأنّ رماح الخطّ عنه قصيرة ... وأنّ حديد الهند عنه كليل فإن تكن الأيام أبصرن صولة ... فقد علّم الأيام كيف تصول فأوردهم صدر الحصان وسيفه ... فتى بأسه مثل العطاء جزيل شريك المنايا والنفوس غنيمة ... فكلّ ممات لم يمته غلول «2» وقوله: [الطويل] لكلّ امرئ من دهره ما تعودّا ... وعادات سيف الدولة الطعن في العدا «3» ومستكبر لم يعرف الله ساعة ... رأى سيفه في كفّه فتشهدّا هو البحر غص فيه إذا كان ساكنا ... على الدرّ واحذره إذا كان مزبدا «4»

تظلّ ملوك الأرض خاضعة له ... تفارقه هلكى وتلقاه سجدّا «1» وتحيي له المال الصوارم والقنا ... ويقتل ما يحيي التبسّم والجدّا ذكيّ تظنّيه طليعة عينه ... يرى قلبه في يومه ما يرى غدا «2» وصول إلى المستصعبات بخيله ... فلو كان قرن الشمس ماء لأوردا يدقّ على الأفكار ما أنت فاعل ... فيترك ما يخفى ويؤخذ ما بدا وقوله: [البسيط] تشبيه جودك بالأمطار غادية ... جود لكفّك ثان ناله المطر «3» 42/تكسّب الشمس منك النور طالعة ... كما تكسب منها نوره القمر وقوله: [الطويل] أرى كلّ ذي ملك إليك مصيره ... كأنّك بحر والملوك جداول «4» إذا مطرت منهم ومنك سحائب ... فوابلهم طلّ وطلّك وابل وأسعد مشتاق وأظفر طالب ... همام إلى تقبيل كفّك واصل وقد زعموا أنّ النجوم خوالد ... ولو حاربته ناح فيها الثواكل وما كان أدناها له لو أرادها ... وألطفها لو أنّها متناول «5»

يدبر شرق الأرض والغرب كفّه ... وليس لها وقتا عن الجود شاغل تتبّع هرّاب الرجال مراده ... فمن فرّ حربا عارضته الغوائل ومن فرّ من إحسانه حسدا له ... تلقّاه منه حيثما سار نائل وقوله: [الكامل] إنّ السيوف مع الذين قلوبهم ... كقلوبهنّ إذا التقى الجمعان «1» تلقى الحسام على جراءة حدّه ... مثل الجبان بكفّ كلّ جبان وقوله: [المنسرح] فاضح أعدائه كأنّهم ... له يقلّون كلّما كثروا «2» أعاذك الله من سهامهم ... ومخطئ من رميّه القمر وقوله: [الطويل] جرى معك الجارون حتى إذا انتهوا ... إلى الغاية القصوى جريت وناموا «3» فليس لشمس مذ أنرت إنارة ... وليس لبدر إذ تممت تمام «4»

وقوله: [الوافر] وأضحى بالعواصم مستقرّا ... وليس لبحر نائله قرار «1» 43/تخرّ له القبائل ساجدات ... وتحمده الأسنّة والشّفار وقوله: [الخفيف] وإذا اهتزّ للندى كان بحرا ... وإذا اهتزّ للوغى كان نصلا «2» وإذا الأرض أظلمت كان شمسا ... وإذا الأرض أمحلت كان وبلا من تعاطى تشبّها بك أعيا ... هـ ومن دلّ في طريقك ضلّا فإذا ما اشتهى خلودك داع ... قال لا زلت أو ترى لك مثلا وقوله: [الكامل] ملك زهت بمكانه أيامه ... حتى افتخرن به على الأيام «3» تالله ما علم امرؤ لولاكم ... كيف السخاء وكيف ضرب الهام وقوله: [البسيط] ألقت إليك دماء الروم طاعتها ... فلو دعوت بلا ضرب أجاب دم «4»

يسابق القتل فيهم كلّ حادثة ... فما يصيبهم موت ولا هرم وقد تمنّوا غداة الدرب في لجب ... أن يبصروك فلمّا أبصروك عموا فكان أثبت ما فيهم جسومهم ... يسقطن حولك والأرواح تنهزم والشمس يعنون إلّا أنّهم جهلوا ... والموت يدعون إلّا أنّهم وهموا لا تطلبنّ كريما بعد رؤيته ... إنّ الكريم بأسخاهم يدا ختموا ولا تبال بشعر بعد شاعره ... قد أفسد القول حتى أحمد الصمم وقوله يمدح كافورا الإخشيدي: [الطويل] قواصد كافور توارك غيره ... ومن قصد البحر استقلّ السواقيا «1» فجاءت به انسان عين زمانه ... وخلّت بياضا خلفها ومآقيا «2» 44/يبيد عداوات البغاء بلطفه ... فإن لم تبد منهم أباد الأعاديا يدلّ بمعنى واحد كلّ فاخر ... وقد جمع الرحمن فيك المعانيا إذا كسب الناس المعالي بالندى ... فإنّك تعطي في نداك المعاليا وتحتقر الدنيا احتقار مجرّب ... يرى كلّ ما فيها- وحاشاك- فانيا وما كنت ممّن أدرك الملك بالمنى ... ولكن بأيام أشبن النواصيا وقوله يمدحه: [الطويل] إذا منعت منك السياسة نفسها «3» ... فقف وقفة قدّامه تتعلّم

يضيق على من راءه العذر أن ترى ... ضعيف المساعي أو ضعيف التكرّم وقوله: [الطويل] وأخلاق كافور إذا شئت مدحه ... وإن لم أشأ تملى عليّ وأكتب «1» إذا ترك الإنسان أهلا وراءه ... ويممّ كافورا فما يتغرّب فتى يملأ الأفعال رأيا وحكمة ... ونادرة أيّان يرضى ويغضب منها: إذا طلبوا جدواك أعطوا وحكّموا ... وإن طلبوا الفضل الذي فيك خيبّوا ولو جاز أن يحووا علاك وهبتها ... ولكن من الأشياء ما ليس يوهب وأظلم أهل الظلم من بات حاسدا ... لمن بات في نعمائه يتقلّب سللت سيوفا علّمت كلّ خاطب ... على كلّ عود كيف يدعو ويخطب ويغنيك عمّا ينسب الناس أنّه ... إليك تناهى المكرمات وتنسب وقوله: [الطويل] عدوّك مذموم بكلّ لسان ... ولو كان من أعدائك القمران «2» 45/ولله سرّ في علاك وإنّما ... كلام العدى ضرب من الهذيان أيلتمس الأعداء بعد الذي رأت ... قيام دليل أو وضوح بيان

رأت كلّ من يبغي لك الغدر يبتلى ... بغدر حياة أو بغدر زمان قضى الله يا كافور أنّك أول ... وليس بقاض أن يرى لك ثان فمالك تختار القسيّ وإنّما ... عن السعد يرمي دونك الثّقلان ومالك تعنى بالأسنّة والقنا ... وجدّك طعّان بغير سنان ولم يحمل السيف الطويل نجاده ... وأنت غنيّ عنه بالحدثان وقوله: [الطويل] تجاوز قدر المدح حتى كأنّه ... بأحسن ما يثنى عليه يعاب «1» وغالبه الأعداء ثمّ عنوا له ... كما غالبت بيض السيوف رقاب وقوله في مدح فاتك: [البسيط] القاتل السيف في جسم القتيل به ... وللسيوف كما للناس آجال «2» يريك مخبره أضعاف منظره ... بين الرجال وفيها الماء والآل يروعهم منه دهر صرفه أبدا ... مجاهر وصروف الدهر تغتال وقوله: [الطويل] عفيف يروق الشمس صورة وجهه ... ولو نزلت شوقا لحاد إلى الظّل «3»

شجاع كأنّ الحرب عاشقة له ... إذا زارها فدّته بالخيل والرجل وريّان لا تصدى إلى الخمر نفسه ... وعطشان لا تروى يداه من البذل فتى لا يرجّى أن يتم طهارة ... لمن لم يطهّر راحتيه من البخل 46/وفي مثل الثاني قلت من قصيدة وزدت المعنى وأحكمت للفظه بنيانا بأن جعلت الحرب تهوى بقاه، وهو بسيفه يحمي حوبّاه، وأبو الطيب حيث أطلق الفداء يجوز أن يكون غيره أنكى الأعداء، والذي قلته هذا: [البسيط] يخفيه كالليل صونا رمح عسكره ... وضوء صارمه كالصبح يبديه تهوى البقاء له الهيجاء فهي بمن ... ترديه أسيافه فى الحرب تفديه وقوله: [الكامل] أعطى الزمان فما قبلت عطاءه ... وأراد لي فأردت أن أتخيّرا «1» أرجان أيتّها الجياد فإنّه ... عزمي الذي يذر الوشيج مكسّرا «2» أمّي أبا الفضل المبّر أليّتي ... لأيممّنّ أجلّ بحر جوهرا يتكسّب القصب الضعيف بخطّه ... شرفا على صمّ الرماح ومفخرا «3» ويبين فيما مسّ منه بنانه ... تيه المدلّ فلو مشى لتبخترا يا من إذا ورد البلاد كتابه ... قبل الجيوش ثنى الجيوش تحيّرا أنت الوحيد إذا ارتكبت طريقة ... ومن الرديف وقد ركبت غضنفرا

قطف الرجال القول وقت نباته ... وقطفت أنت القول لمّا نوّرا فهو المشيّع بالمسامع إن مضى ... وهو المضاعف حسنه إن كرّرا وإذا سكتّ فإن أبلغ خاطب ... قلم لك اتخّذ الأصابع منبرا خلفت صفاتك في العيون كلامه ... كالخطّ يملأ مسمعي من أبصرا منها في ذكر الناقة: فأتتك دامية الأظّل كأنّما ... حذيت قوائمها العقيق الأحمرا «1» 47/بدرت إليك يد الزمان كأنّما ... وجدته مشغول اليدين مفكّرا من مبلغ الأعراب أنّي بعدها ... شاهدت رسطاليس والإسكندرا ولقيت كلّ الفاضلين كأنّما ... ردّ الإله نفوسهم والأعصرا نسقوا لنا نسق الحساب مقدّما ... وأتى فذلك إذ أتيت مؤخّرا زحل على أنّ الكواكب قومه ... لو كان منك لكان أكرم معشرا وقوله: [الطويل] ومن يصحب اسم ابن العميد محمّد ... يسر بين أنياب الأساود والأسد «2» كأنّا أرادت شكرنا الأرض عنده ... فلم يخلنا جوّ هبطناه من رفد إذا الشرفاء البيض قتّوا بقتوه ... أتى نسب أعلى من الأب والجد «3» حشت كلّ أرض تربة في غباره ... فهنّ عليه كالطرائق في البرد فجد لي بقلب إن رحلت فإنّني ... مخلّف قلبي عند من فضله عندي

وقوله في عضد الدولة: [المنسرح] وقد رأيت الملوك قاطبة ... وسرت حتى رأيت مولاها «1» ومن مناياهم براحته ... يأمرها فيهم وينهاها أبا شجاع بفارس عضد ال ... دّولة فنّا خسرو وشهنشاها أساميا لم تزده معرفة ... وإنّما لذّة ذكرناها مبتسم والوجوه عابسة ... سلم العدى عنده كهيجاها لا يجد الخمر في مكارمه ... إذا انتشى خلّة تلافاها تشرق تيجانه بغرّته ... إشراق ألفاظه بمعناها 48/دان له شرقها ومغربها ... ونفسه تستقلّ دنياها تجمّعت في فؤاده همم ... ملء فؤاد الزمان إحداها لو كفر العالمون نعمته ... لما عدت نفسه سجاياها كالشمس لا تبتغي بما صنعت ... منزلة عندهم ولا جاها وقوله فيه: [الوافر] يقول بشعب بوّان حصاني ... أعن هذا يسار إلى الطعان «2» أبوكم آدم سنّ المعاصي ... وعلّمكم مفارقة الجنان فقلت إذا رأيت أبا شجاع ... سلوت عن العباد وذا المكان

فإنّ الناس والدنيا طريق ... إلى من لا له في الناس ثاني «1» ولا تحصى فضائله بظنّ ... ولا الإخبار عنه ولا العيان أروض الناس من ترب وخوف ... وأرض أبي شجاع في أمان «2» فلو طرحت قلوب العشق فيها ... لما خافت من الحدق الحسان ولم أر قبله شبلي هزبر ... كشبليه ولا فرسي رهان أشدّ تنازعا لكريم أصل ... وأشبه منظرا بأب هجان وأول لفظة فهما وقالا ... إغاثة صارخ أوفكّ عاني وكنت الشمس تبهر كلّ عين ... فكيف وقد بدت معها اثنتان فعاشا عيشة القمرين يحيا ... بضوئهما ولا يتحاسدان ولا ملكا سوى ملك الأعادي ... ولا ورثا سوى من يقتلان دعاء كالثناء بلا رياء ... يؤدّيه الجنان إلى الجنان 49/فلولا كونكم في الناس كانوا ... هذاء كالكلام بلا معاني «3» وقوله فيه: [الكامل المرفل] إن لم يكن من قبله عجزوا ... عمّا يسوس به فقد غفلوا «4» حتى أتى الدنيا ابن بجدتها ... فشكا إليه السهل والجبل شكوى العليل إلى الكفيل له ... ألّا تمرّ بجسمه العلل

لا يستحي أحد يقال له ... نضلوك آل بويه أو فضلوا «1» فوق السماء وفوق ما طلبوا ... فإذا أرادوا غاية نزلوا وقوله: [الكامل] كبّرت حول ديارهم لمّا بدت ... منها الشموس وليس فيها المشرق «2» وعجبت من أرض سحاب أكفّهم ... من فوقها وصخورها لا تورق ويفوح من طيب الثناء روائح ... لهم بكلّ مكانة تستنشق مسكّية النفحات إلّا أنّها ... وحشية بسواهم لا تعبق وقوله: [البسيط] إذا خلت منك حمص لا خلت أبدا ... فلا سقاها من الوسميّ باكره «3» دخلتها وشعاع الشمس متّقد ... ونور وجهك بين الخلق باهره في فيلق من حديد لو قذفت به ... صرف الزمان لما دارت دوائره تمضي المواكب والأبصار شاخصة ... منها إلى الملك الميمون طائره قد حرن في بشر في تاجه قمر ... في درعه أسد تدمى أظافره حلو خلائقه شوس حقائقه ... يحصى الحصا قبل أن تحصى مآثره 50/تضيق عن جيشه الدنيا ولو رحبت ... كصدره لم تبن فيها عساكره

إذا تغلغل فكر المرء في طرق ... من مجده غرقت فيه خواطره تحمي السيوف على أعدائه معه ... حتى كأنهنّ بنوه أو عشائره إذا انتضاها لحرب لم تدع جسدا ... إلّا وباطنه للعين ظاهره فقد تيقّن أنّ الحقّ في يده ... وقد وثقن بأنّ الله ناصره من قال لست بخير الناس كلّهم ... فجهله بك عند الناس عاذره لا يجبر الناس عظما أنت كاسره ... ولا يهيضون عظما أنت جابره وقوله: [الطويل] تباعدت الآمال عن كلّ مقصد ... وضاق بها إلّا إلى بابك السّبل «1» وحالت عطايا كفّه دون وعده ... فليس له إنجاز وعد ولا مطل وأقرب من تحديدها ردّ فائت ... وأيسر من إحصائها القطر والرمل إذا قيل رفقا قال للحلم موضع ... وحلم الفتى في غير موضعه جهل وما عزّه فيها مراد أراده ... وإن عز إلا أن يكون له مثل فويل لنفس حاولت منك غرّة ... وطوبى لعين ساعة منك لا تخلو فما بفقير شام برقك حاجة ... ولا في بلاد أنت صيبّها محل «2» وقوله: [الكامل] أعطى فقلت لجوده ما يقتنى ... وسطا فقلت لسيفه ما يولد «3»

وتحيّرت فيك الصفات لأنّها ... ألفت طرائقه عليها تبعد في شأنه ولسانه وبنانه ... وجنانه عجب لمن يتفقّد 51/إنّ العطايا والرزايا والقنا ... حلفاء طيّ غوّروا أو أنجدوا يفنى الكلام ولا يحيط بفضلكم ... أيحيط ما يفنى بما لا ينفد «1» وقوله: [البسيط] يفدي بنيك عبيد الله حاسدهم ... بجبهة العير يفدى حافر الفرس «2» أبا الغطارفة الحامين جارهم ... وتاركي الليث كلبا غير مفترس من كلّ أبيض وضّاح عمامته ... كأنّما اشتملت نورا على قبس لو كان فيض يديه ماء غادية ... عزّ القطا في الفيافي موضع اليبس أكارم حسد الأرض السماء بهم ... وقصرّت كلّ مصر عن طرابلس أيّ الملوك- وهم قصدي- أحاذره ... وأيّ قرن وهم سيفي وهم ترسي وقوله: [الطويل] ولو ترك الدنيا على حكم كفّه ... لأصبحت الدنيا وأكثرها نزر «3» متى ما يشر نحو السماء بوجهه ... تخرّ له الشّعرى وينكسف البدر

له منن تغني الثناء كأنّما ... به أقسمت أن لا يؤدّى لها شكر بمن تضرب الأمثال أم من أقيسه ... إليك وأهل الدهر دونك والدهر «1» وقوله: [البسيط] لمّا وزنت بك الدنيا فملت بها ... وبالورى قلّ عندي كثرة العدد «2» ماضي الجنان يريه الحزم قبل غد ... بقلبه ما ترى عيناه بعد غد ماذا البهاء ولا ذا النور من بشر ... ولا السماح الذي فيه سماح يد أيّ الأكفّ يباري الغيث ما اتّفقا ... حتى إذا افترقا عادت ولم يعد 52/لم أجر غاية فكري منك في صفة ... إلّا وجدت مداها غاية الأبد وقوله: [الطويل] فتى كالسحاب الجون يخشى ويرتجى ... يرجّى الحيا منها وتخشى الصواعق «3» ومن تقشعرّ الأرض خوفا إذا مشى ... عليها وترتجّ الجبال الشواهق كأنّك في الإعطاء للمال مبغض ... وفي كلّ حرب للمنّية عاشق وقوله: [المنسرح]

ويعرف الأمر قبل موقعه ... فما له بعد فعله ندم «1» قوم بلوغ الغلام عندهم ... طعن نحور الكماة لا الحلم كأنّما يولد الندى معهم ... لا صغر عاذر ولا هرم تظنّ من فقدك اعتدادهم ... أنّهم أنعموا وما علموا إن برقوا فالحتوف حاضرة ... أو نطقوا فالصواب والحكم تشرق أعراضهم وأوجههم ... كأنّها في نفوسهم شيم أعيذكم من صروف دهركم ... فإنّه في الكرام متّهم وقوله: [البسيط] إذا بدا حجبت عينيك بهجته ... وليس يحجبه ستر إذا احتجبا «2» عمر العدوّ إذا لاقاه في رهج ... أقلّ من عمر ما يحوي إذا وهبا «3» 53/تحلو مذاقته حتى إذا غضبا ... حالت فلو قطرت في الماء ما شربا «4» وتغبط الأرض منها حيث حلّ به ... وتحسد الخيل منها أيّها ركبا منها: مبرقعي خيلهم بالبيض متّخذي ... هام الكماة على أرماحهم عذبا

مراتب صعدت والفكر يتبعها ... فجاز وهو على آثارها الشّهب وقوله: [الوافر] تلذّ له المروءة وهي تؤذي ... ومن يعشق يلذّ له الغرام «1» قبيل يحملون من المعالي ... كما حملت من الجسد العظام «2» فلو يممّتهم في الحشر تجدو ... لأعطوك الذي صلّوا وصاموا لقد حسنت بك الأيام حتى ... كأنّك في فم الزمن ابتسام وقوله: [الطويل] يقوم مقام الجيش تقطيب وجهه ... ويستغرق الألفاظ من لفظه حرف «3» فإن نفد الإعطاء حنّت يمينه ... إليه حنين الإلف فارقه الإلف «4» وأضحى وبين الناس في كلّ سيّد ... من الناس إلّا في سيادته خلف ولم نر شيئا يحمل العبء حمله ... ويستصغر الدنيا ويحمله طرف «5» ولا حبس البحر المحيط لقاصد ... ومن تحته فرش ومن فوقه سقف «6» فواعجبا منّي أحاول نعته ... وقد فنيت فيه القراطيس والصّحف

وقوله: [الكامل] ملك سنان قناته وبنانه ... يتباريان دما وعرفا ساكبا «1» هذا الذي أفنى النّضار مواهبا ... وعداه قتلا والزمان تجاربا 54/كالبدر من حيث التفتّ رأيته ... يهدي إلى عينيك نورا ثاقبا كالبحر يقذف للقريب جواهرا ... جودا ويبعث للبعيد سحائبا كالشمس في كبد السماء وضوؤها ... يغشى البلاد مشارقا ومغاربا منها: تدبير ذي حنك يفكّر في غد ... وهجوم غرّ لا يخاف عواقبا خذ من ثناي عليك ما أسطيعه ... لا تلزمنيّ في الثناء الواجبا فلقد دهشت لما فعلت ودونه ... ما يدهش الملك الحفيظ الكاتبا وقوله: [الطويل] ألذّ من الصهباء بالماء ذكره ... وأحسن من يسر تلقّاه معدم «2» سنيّ العطايا لو رأى نوم عينه ... من اللؤم آلى أنّها لا تهّوم وقوله: [الكامل] نظمت مواهبه عليه تمائما ... فاعتادها فإذا سقطن تفزّعا «3»

نفس لها خلق الزمان لأنّه ... مفني النفوس مفرّق ما جمعّا ويد لها كرم الغمام لأنّه ... يسقي العمارة والمكان البلقعا وقوله: من نفعه في أن يهاج وضرّه ... في تركه لو يفطن الأعداء «1» ونذيمهم وبهم عرفنا فضله ... وبضدّها تتبيّن الأشياء «2» والسّلم يكسر من جناحي ماله ... بنواله ما تجبر الهيجاء متفرّق الطّعمين مجتمع القوى ... فكأنّه السّراء والضراء في خطّه من كلّ قلب شهوة ... حتى كأنّ مداده الأهواء 55/ولكلّ عين قرّة في قربه ... حتى كأنّ مغيبه الأقذاء وإذا مدحت فلا لتكسب رفعة ... للشاكرين على الإله ثناء لم تلق هذا الوجه شمس نهارنا ... إلا بوجه ليس فيه حياء لم تحك نائلك السحاب وإنّما ... حمّت به فصبيبها الرّحضاء وقوله: [المتقارب] تجلّى لنا فأضأنا به ... كأنّا نجوم لقينا سعودا «3» وهول كشفت ونصل قصفت ... ورمح تركت مبادا مبيدا

ومال وهبت بلا موعد ... وقرن سبقت إليه الوعيدا بهجر سيوفك أغمادها ... تمنى الطّلى أن يكون الغمودا قتلت نفوس العدى بالحدي ... د حتى قتلت بهنّ الحديدا وقوله: [المنسرح] تعرف في عينه حقائقه ... كأنّه بالذكاء مكتحل «1» أشفق عند اتّقاد فكرته ... عليه منها أخاف يشتعل أغرّ أعداؤه إذا سلموا ... بالهرب استكثروا الذي فعلوا إنّك من معشر إذا وهبوا ... ما دون أعمارهم فقد بخلوا وقوله: [الوافر] أغرّ مغالب كفّا وسيفا ... ومقدرة ومحمية وآلا «2» وأشرف فاخر نفسا وقوما ... وأكرم منتم عمّا وخالا لقد أمنت بك الإعدام نفس ... تعدّ رجاءها إيّاك مالا 56/سرورك أن تسرّ الناس طرّا ... تعلّمهم عليك به الدلالا إذا سألوا شكرتهم عليه ... وإن سكتوا سألتهم السؤالا

وأسعد من رأينا مستميح ... ينيل المستماح بأن ينالا يفارق سهمك الرجل الملاقي ... فراق القوس ما لاقى الرجالا فما تقف السهام على قرار ... كأنّ الريش تطّلب النصالا «1» وقوله: [الكامل] أعدى الزمان سخاؤه فسخا به ... ولقد يكون به الزمان بخيلا «2» ولقد عرفت وما عرفت حقيقة ... ولقد جهلت وما جهلت خمولا نطقت بسؤددك الحمام تغنّيا ... وبما تجشّمها الجياد صهيلا وقوله: [البسيط] قاض إذا التبس الأمران عنّ له ... رأي يفرّق بين الماء واللبن «3» أفعاله نسب لو لم يقل معها ... جدّي الخصيب عرفنا العرق بالغصن ذا جود من ليس من دهر على ثقة ... وزهد من ليس من دنياه في وطن وهذه هيئة لم يؤتها بشر ... وذا اقتدار لسان ليس في المنن «4» وقوله: [الكامل]

علّامة العلماء واللجّ الذي ... لا ينتهي ولكلّ لجّ ساحل «1» متشابهي ورع النفوس: كبيرهم ... وصغيرهم عفّ الإزار حلاحل فافخر فإنّ الناس فيك ثلاثة ... مستعظم أو حاسد أو جاهل ولقد علوت فما تبالي بعدما ... عرفوا أيحمد أم يذمّ القائل 57/ما دار في الحنك اللسان وقلّبت ... قلما بأحسن من ثناك أنامل وقوله: [البسيط] خفّ الزمان على أطراف أنمله ... حتى توهّمن للأزمان أزمانا «2» يلقى الوغى والقنا والنازلات به ... والسيف والضيف رحب الباع جذلانا تخاله من ذكاء القلب محتميا ... ومن تكرّمه والبشر نشوانا ما شيّد الله من مجد لسالفهم ... إلّا ونحن نراه فيهم الآنا إن كوتبوا أو لقوا أو حوربوا وجدوا ... في الخطّ واللفظ والهيجاء فرسانا كأنّهم يردون الموت منتظمأ ... أو ينشقون من الخطيّ ريحانا يا صائد الجحفل المرهوب جانبه ... إنّ الليوث تصيد الناس وحدانا «3» أنت الذي سبك الأموال تكرمة ... ثمّ اتخذت لها السؤال خزّانا عليك منك إذا أخليت مرتقب ... لم يأت في السر ما لم تأت إعلانا

لا أستزيدك فيما فيك من كرم ... أنا الذي نمت إن نبّهت يقظانا «1» قد شرّف الله أرضا أنت ساكنها ... وشرّف الناس إذ سوّاك إنسانا وقوله: [الكامل] عجبا له حفظ العنان بأنمل ... ما حفظها الأشياء من عاداتها «2» كرم تبيّن في كلامك ماثلا ... ويبين عتق الخيل في أصواتها أعيا زوالك عن محلّ نلته ... لا تخرج الأقمار عن هالاتها منها: ذكر الأنام لنا فكان قصيدة ... كنت البديع الفرد من أبياتها تلك النفوس الغالبات على العلى ... والمجد يغلبها على شهواتها 58/وقوله: [الطويل] وأستكبر الأخبار قبل لقائه ... فلمّا التقينا صغّر الخبر الخبر «3» ولا ينفع الإمكان لولا سخاؤه ... وهل نافع لولا الأكفّ القنا السمر أزالت بك الأيام عتبي كأنّما ... بنوها لها ذنب وأنت لها عذر وقوله: [الوافر]

أشدّ من الرماح الهوج بطشا ... وأسرع في الندى منها هبوبا «1» وقالوا ذاك أرمى من رأينا ... فقلت رأيتم الغرض القريبا وهل يهطي بأسهمه الرمايا ... وما يخطي بما ظنّ الغيوبا ألست ابن الأولى سعدوا وسادوا ... ولم يلدوا امرءا إلّا نجيبا ونالوا ما اشتهوا بالحزم هونا ... وصادوا الوحش نملهم دبيبا وما ريح الرياض لها ولكن ... كساها دفنهم في الترب طيبا فلا زالت ديارك مشرقات ... ولا دانيت يا شمس الغروبا لأصبح آمنا فيك الرزايا ... كما أنا آمن فيك العيوبا وقوله: [الطويل] وذي لجب لا ذو الجناح أمامه ... بناج ولا الوحش المثار بسالم «2» تمرّ عليه الشمس وهي ضعيفة ... تطالعه من بين ريش القشاعم إذا ضؤوها لاقى من الطير فرجة ... تدوّر فوق البيض مثل الدراهم هم المحسنون الكرّ في حومة الوغى ... وأحسن منه كرّهم في المكارم ولولا احتقار الأسد شبهّتها بهم ... ولكنّها معدودة في البهائم سرى النوم مني في سراي إلى الذي ... صنائعه تسري إلى كلّ نائم 59/إلى مطلق الأسرى ومخترم العدا ... ومشكى ذوي الشكوى ورغم المراغم

وكان سروري لا يفي بندامتي ... على تركه في عمري المتقادم «1» وقوله يمدح أبا القاسم طاهر بن حسين العلوي: [الطويل] كذا الفاطميون الندى في بنانهم ... أعزّ امّحاء من خطوط الرواجب «2» وما قربت أشباه قوم أباعد ... ولا بعدت أشباه قوم أقارب إذا علويّ لم يكن مثل طامة ... فما هو إلّا حجّة للنواصب يقولون تأثير الكواكب في الورى ... فما باله تأثيره في الكواكب وحقّ له أن يسبق الناس جالسا ... ويدرك ما لم يدركوا غير طالب ويحذى عرانين الملوك وإنّها ... لمن قدميه في أجلّ المراتب يد للزمان الجمع بيني وبينه ... لتفريقه بيني وبين النوائب ألا أيّها المال الذي قد أباده ... تعزّ فهذا فعله بالكتائب لعلّك في وقت شغلت فؤاده ... عن الجود أو أكثرت جيش محارب وقوله: [الخفيف] بعثوا الرعب في قلوب الأعادي ... فكأنّ القتال قبل التلاقي «3» وتكاد الظّبا لما عوّدوها ... تنتضي نفسها إلى الأعناق

كلّ ذمر يزيد في الموت حسنا ... كبدور تمامها في المحاق «1» كرم خشّن الجوانب منهم ... فهو كالماء في الشّفار الرقاق ومعال إذا دعاها سواهم ... لزمته جناية السّرّاق وقوله: [المنسرح] الناس ما لم يروك أشباه ... والدهر لفظ وأنت معناه «2» 60/والجود عين وفيك ناظرها ... والناس باع وفيك يمناه «3» سبحان من خار للكواكب في ... البعد ولو نلن كنّ جدواه لو كان ضوء الشموس في يده ... أضاعه جوده وأفناه وقوله: [الوافر] متى أحصيت فضلك في كلام ... فقد أحصيت حبّات الرمال «4» وقوله: [الطويل] فإن يك سيّار بن مكرم انقضى ... فإنك ماء الورد إن ذهب الورد «5» وقوله في شريف: [الخفيف]

قيل لي: لم تركت مدح ابن موسى ... والخصال التي تجمّعن فيه «1» قلت: لا أهتدي لمدح إمام ... كان جبريل خادما لأبيه وقوله: [الكامل] وشغلت مدحي بالذي أرجوهم ... لا نال منهم بالمدائح نائلا «2» وتركت مدحي للوصيّ تعمّدا ... إذ كان نورا مستطيلا شاملا وإذا استطال الشيء قام بذاته ... وكذا صفات الشمس تذهب باطلا وفي المراثي قوله يرثي أم سيف الدولة ابن حمدان: [الوافر] نعدّ المشرفية والعوالي ... وتقتلنا المنون بلا قتال «3» ونرتبط السوابق مقربات ... وما ينجين من خبب الليالي نصيبك في حياتك من حبيب ... نصيبك في منامك من خيال رماني الدهر بالارزاء حتى ... فؤادي في غشاء من نبال فصرت إذا أصابتني سهام ... تكسّرت النّصال على النّصال 61/صلاة الله خالقنا حنوط ... على الوجه المكفّن بالجمال على المدفون قبل الترب صونا ... وقبل اللّحد في كرم الخلال كأنّ الموت لم يفجع بنفس ... ولم يخطر لمخلوق ببال ولو كان النساء كمن فقدنا ... لفضّلت النساء على الرجال فما التأنيث لاسم الشمس عيب ... ولا التذكير فخر للهلال منها:

يدفّن بعضنا بعضا وتمشي ... أواخرنا على هام الأوالي وكم عين مقبّلة النّواحي ... كحيل بالجنادل والرمال وقوله يرثي أبا الهيجاء عبد الله بن سيف الدولة: [الطويل] بنا منك فوق الرمل ما بك في الرّمل ... وهذا الذي يضني كذاك الذي يبلي «1» كأنّك أبصرت الذي بي وخفته ... إذا عشت فاخترت الحمام على الثكل فان تك في قبر فإنّك في الحشا ... وإن تك طفلا فالأسى ليس بالطفل ومثلك لا يبكى على قدر سنّه ... ولكن على قدر المخيلة والأصل ألست من القوم الذي من رماحهم ... نداهم ومن قتلاهم مهجة البخل تسلّيهم علياؤهم عن مصابهم ... ويشغلهم كسب الثناء عن الشّغل وما الموت إلّا سارق دقّ شخصه ... يصول بلا كّف ويسعى بلا رجل يردّ أبو الشّبل الخميس عن ابنه ... ويسلمه عند الولادة للنمل بنفس وليد عاد من بعد حمله ... إلى بطن أمّ لا تطرّق بالحمل «2» منها: إذا ما تأملت الزمان وصرفه ... تيقنّت أنّ الموت ضرب من القتل هل الولد المحبوب إلّا تعلّة ... وهل خلوة الحسناء إلّا لذي البعل 62/وما الدهر أهل أن يؤمّل عنده ... حياة وأن يشتاق فيه إلى النّسل وما تسع الأيام علمي بأمرها ... ولا تحسن الأيام تكتب ما أملي وقوله يرثي مملوك سيف الدولة: [الطويل]

ومن سرّ أهل الأرض ثم بكى أسى ... بكى بعيون سرّها وقلوب «1» وقد فارق الناس الأحبّة قبلنا ... وأعيا دواء الموت كلّ طبيب سبقنا إلى الدنيا فلو عاش أهلها ... منعنا بها من جيئة وذهوب ولا فضل فيها للشجاعة والندى ... وصبر الفتى لولا لقاء شعوب «2» وكنت إذا أبصرته لك قائما ... نظرت إلى ذي لبدتين أديب «3» وما كلّ وجه أبيض بمبارك ... ولا كلّ جفن ضيّق بنجيب لئن ظهرت فينا عليه كآبة ... لقد ظهرت في حدّ كلّ قضيب وفي كلّ قوس يوم كلّ تناضل ... وفي كلّ طرف كلّ يوم ركوب «4» كأنّ الردى عاد على كلّ ماجد ... إذا لم يعوّد مجده بعيوب ولولا أيادي الدهر في الجمع بيننا ... غفلنا فلم نشعر له بذنوب وقوله يرثي أخت سيف الدولة: [البسيط] فإن تكن خلقت أنثى فقد خلقت ... كريمة غير أنثى العقل والحسب «5» وإن تكن تغلب الغلباء عنصرها ... فإنّ في الخمر معنى ليس في العنب

فليت طالعة الشمسين غائبة ... وليت غائبة الشمسين لم تغب وليت عين التي آب النهار بها ... فداء عين التي زالت ولم تؤب 63/فما ذكرت جميلا من صنائعها ... إلّا بكيت ولا ودّ بلا سبب قد كان كلّ حجاب دون رؤيتها ... فما قنعت لها يا أرض بالحجب ولا رأيت عيون الأنس تدركها ... فهل حسدت عليها أعين الشهب يا أحسن الصبر زر أولى القلوب بها ... وقل لصاحبه يا أنفع السحب وأكرم الناس لا مستثنيا احدا ... من الكرام سوى آبائك النجب قد كان قاسمك الشخصين دهرهما ... وعاش درّهما المفديّ بالذهب وعاد في طلب المتروك تاركه ... إنّا لنغفل والأيام في الطلب ما كان أقصر وقتا كان بينهما ... كأنّه الوقت بين الورد والقرب «1» منها: تخالف الناس حتى لا اتفاق لهم ... إلّا على شجب والخلف في الشّجب فقيل: تخلص نفس المرء سالمة ... وقيل تشرك جسم المرء في العطب ومن يفكّر في الدنيا ومهجته ... أقامه الفكر بين العجز والعجب «2» وقوله: [الطويل] لأيّ صروف الدهر فيه نعاتب ... وايّ رزاياه بوتر نطالب «3» مضى من فقدنا صبرنا عند فقده ... وقد كان يعطي الصبر والصبر عازب

يرون الأعادي في سماء عجاجه ... أسنّتها في جانبيها الكواكب «1» فتسفر عنه والسيوف كأنّما ... مضاربها ممّا انفللن ضرائب طلعن شموسا والغمود مشارق ... لهنّ وهامات الرجال مغارب مصائب شتى جمّعت في مصيبة ... ولم يكفها حتى قفتها مصائب ألا إنّما كانت وفاة محمد ... دليلا على أن ليس لله غالب 64/وقوله: [الكامل] إنّي لأعلم واللبيب خبير ... أنّ الحياة وإن حرصت غرور «2» ورأيت كلّا ما يعلّل نفسه ... بتعلّة وإلى الفناء يصير ما كنت أحسب قبل دفنك في الثرى ... أنّ الكواكب في التراب تغور ما كنت آمل قبل نفسك أن أرى ... رضوى على أيدي الرجال تسير منها: والشمس في كبد السماء مريضة ... والأرض واجفة تكاد تمور حتى ثوى جدثا كأنّ ضريحه ... في قلب كلّ موحّد محفور «3» كفل الثناء له بردّ حياته ... لما انطوى فكأنّه منشور غاضت أنامله فهنّ بحور ... وخبت مكائده فهنّ سعير نفر إذا غابت غمود سيوفهم ... عنها فآجال العباد حضور تدمي خدودهم الدموع وتنقضي ... ساعات ليلهم وهنّ دهور أبناء عّم كلّ ذنب لا مرئ ... إلّا السعاية بينهم مغفور

وقوله يرثي جدّته لأمّه وقد ماتت فرحا حين وصل كتابه إليها: [الطويل] إلى مثل ما كان الفتى مرجع الفتى ... يعود كما أبدى ويكري كما أرمى «1» عرفت الليالي قبل ما صنعت بنا ... فلمّا دهتنا لم تزدني بها علما وما الجمع بين الماء والنار في يدي ... بأصعب من أن أجمع الجدّ والفهما أحنّ إلى الكأس التي شربت بها ... وأهوى لمثواها التراب وما ضمّا بكيت عليها خيفة في حياتها ... وذاق كلانا فقد صاحبه قدما ولم يسلها إلّا المنايا وإنّما ... أشدّ من السّقم الذي أذهب السّقما وكنت قبيل الموت استعظم النوى ... فقد صارت الصغرى التي كانت العظمى 65/وما انسدّت الدنيا عليّ لضيقها ... ولكنّ طرفا لا أراك به أعمى ولو لم تكوني بنت أكرم والد ... لكان أباك الضخم كونك لي أمّا لئن لذّ يوم الشامتين بيومها ... لقد ولدت منّي لأنفهم رغما «2» هبيني أخذت الثأر فيك من العدا ... فكيف بأخذ الثأر فيك من الحمّى وقوله: [الطويل] فإن يك انسانا مضى لسبيله ... فإنّ المنايا غاية الحيوان «3»

ولو سلكت طرق السلاح لردّها ... بطول يمين واتساع جنان وهل ينفع الجيش الكثير التفافه ... على غير منصور وغير معان وقوله في رثاء فاتك: [الكامل] الحزن يقلق والتجمّل يردع ... والدمع بينهما عصيّ طيّع «1» يتنازعون دموع عين مسّهد ... هذا يجيء بها وهذا يرجع «2» النوم بعد أبي شجاع نافر ... والليل معي والكواكب ظلّع المجد أخسر والمكارم صفقة ... من أن يعيش لها الهمام الأروع برّد حشاي إن استطعت بلفظة ... فلقد تضرّ إذا تشاء وتنفع ما زلت تدفع كلّ أمر فادح ... حتى أتى الأمر الذي لا يدفع فظللت تنظر لا رماحك شرّع ... فيما عراك ولا سيوفك قطّع بأبي الوحيد وجيشه متكاثر ... يبكي ومن شرّ السلاح الأدمع واذا حصلت من السلاح على البكا ... فحشاك رعت به وخدّك تقرع من للمحافل والجحافل والسّرى ... فقدت بفقدك نيّرا لا يطلع 66/ومن اتّخذت على الضيوف خليفة ... ضاعوا ومثلك لا يكاد يضيّع قد كان أسرع فارس في طعنة ... فرسا ولكنّ المنية أسرع لا قلّبت أيدي الفوارس بعده ... رمحا ولا حملت جوادا أربع وقوله يرثي عمّه عضد الدولة: [السريع] لا بدّ للإنسان من ضجعة ... لا تقلب المضجع عن جنبه «3»

ينسى بها ما كان من عجبه ... وما أذاق الموت من كربه نحن بنو الدنيا فما بالنا ... نعاف ما لابدّ من شربه «1» تبخل أيدينا بأرواحنا ... على زمان هي من كسبه فهذه الأرواح من جوّه ... وهذه الأجسام من تربه لو فكّر العاشق في منتهى ... عشق الذي يسبيه لم يسبه «2» لم ير قرن الشمس في شرقه ... فشّكت الأنفس في غربه يموت راعي الضأن في جهله ... موتة جالينوس في طبّه وربّما زاد على عمره ... وزاد في الأمن على سربه وغاية المفرط في سلمه ... كغاية المفرط في حربه فلا قضى حاجته طالب ... فؤاده يخفق من رعبه أستغفر الله لشخص مضى ... كان نداه منتهى ذنبه وكان من حدّد إحسانه ... كأنّه أسرف في سبّه «3» يريد من حبّ العلى عيشة ... ولا يزيد العيش من حبّه 67/يحسبه دافنه وحده ... ومجده في القبر من صحبه وقوله: وليست من المراثي ولكنها تناسبها: [الطويل] وقد صارت الأجفان قرحى من البكا ... وصار بهارا في الخدود الشقائق «4»

على ذا مضى الناس اجتماع وفرقة ... وميت ومولود وقال ووامق «1» منها: تخلّى من الدنيا لينسى فما خلت ... مغاربها من ذكره والمشارق وفي العتاب قوله: [البسيط] واحرّ قلباه ممّن قلبه شبم ... ومن بجسمي وحالي عنده سقم «2» مالي أكتّم حبّا قد برى جسدي ... ويدّعي حبّ سيف الدولة الأمم إن كان يجمعنا حبّ لغرّته ... فليت أنّا بقدر الحبّ نقتسم يا أعدل الناس إلّا في معاملتي ... فيك الخصام وأنت الخصم والحكم أعيذها نظرات منك صادقة ... أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم وما انتفاع أخي الدنيا بناظره ... إذا استوت عنده الأنوار والظّلم أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي ... وأسمعت كلماتي من به صمم وجاهل مدّه في جهله ضحكي ... حتى أتته يد فرّاسة وفم إذا رأيت نيوب الليث بارزة ... فلا تظنّن أنّ الليث مبتسم «3» فالخيل والليل والبيداء تشهد لي ... والحرب والضرب [والقرطاس والقلم] «4» يا من يعزّ علينا أن نفارقهم ... وجداننا كلّ شيء بعدكم عدم ما كان أخلقنا منكم بتكرمة ... لو انّ أمركم من أمرنا أمم

إن كان سرّكم ما قال حاسدنا ... فما بجرح إذا ارضاكم ألم 68/وبيننا لو رعيتم ذاك معرفة ... إنّ المعارف في أهل النّهى ذمم كم تطلبون لنا عيبا فيعجزكم ... ويكره الله ما تأتون والكرم ما أبعد العيب والنقصان من شرفي ... أنا الثريا وذان الشيب والهرم ليت الغمام الذي عندي صواعقه ... يزيلهنّ إلى من عنده الدّيم إذا ترحّلت عن قوم وقد قدروا ... أن لا تفارقهم فالراحلون هم شرّ البلاد مكان لا صديق به ... وشرّ ما يكسب الانسان ما يصم «1» وشرّ ما قنصته راحتي قنص ... شهب البزاة سواء فيه والرّخم هذا عتابك إلّا أنّه مقة ... قد ضمّن الدر إلّا أنّه كلم وقوله يعاتبه: [البسيط] فارقتكم فإذا ما كان عندكم ... قبل الفراق اذى بعد الفراق يد «2» إذا تذكّرت ما بيني وبينكم ... أعان قلبي على الشوق الذي أجد وقوله يعاتب أصحاب سيف الدولة: [البسيط] يا من نعيت على بعد بمجلسه ... كلّ بما زعم الناعون مرتهن «3» ما في هوادجكم من مهجتي عوض ... إن متّ شوقا ولا فيها لها ثمن رأيتكم لا يصون العرض جاركم ... ولا يدرّ على مرعاكم اللبن جزاء كلّ قريب منكم ملل ... وحظّ كلّ محبّ منكم ضغن

وتغضبون على من نال رفدكم ... حتى يعاقبه التنغيص والمنن سهرت بعد رحيلي وحشة لكم ... ثم استمرّ مريدي وارعوى الوسن وإن بليت بودّ مثل ودّكم ... فإنّني بفراق مثله قمن 69/وقوله يخاطب كافورا: [الوافر] إذا سرنا عن الفسطاط يوما ... فلقّني الفوارس والرجالا «1» لتعلم قدر ما فارقت منّي ... وأنّك رمت من ضيمي محالا وقوله حين وضع عليه غلمان أبي العشائر النشاب فلمّا كرّ عليهم انتسبوا إليه: [الطويل] ومنتسب عندي إلى من أحبّه ... وللنّبل حولي من يديه حفيف «2» فهيّج من شوقي وما من مذلّة ... حننت ولكنّ الكريم ألوف وكلّ وداد لا يدوم على الأذى ... دوام ودادي للحسين ضعيف فإن يكن الفعل الذي ساء واحدا ... فأفعاله اللائي سررن ألوف ونفسي له نفس الفداء لنفسه ... ولكنّ بعض المالكين عنيف وقوله: [الكامل] يخفي العداوة وهي غير خفيّة ... نظر العدوّ بما يسرّ يبوح «3» وفي الاعتذار قوله يخاطب سيف الدولة: [الطويل]

وقد كان يدني مجلسي في سمائه ... أحادث فيها بدرها والكواكبا «1» حنانيك مسئولا ولبّيك داعيا ... وحسبي موهوبا وحسبك واهبا وإن كان ذنبي كلّ ذنب فإنّه ... محا الذنب كلّ الذنب من جاء تائبا وقوله: [البسيط] يا أيها المحسن المشكور من جهتي ... والشكر من قبل الإحسان لا قبلي «2» ما كان يومي إلّا فوق معرفتي ... بأنّ رأيك لا يؤتى من الزلل لعلّ عتبك محمود عواقبه ... وربّما صحّت الأجسام بالعلل 70/ولا سمعت ولا غيري بمقتدر ... أذبّ منك لقول الزور عن رجل «3» وقوله يخاطبه: [المتقارب] أرى ذلك القرب صار ازورارا ... وصار طويل الكلام اختصارا «4» تركتني اليوم في خجلة ... أموت مرارا وأحيا مرارا أسارقك اللّحظ مستحييا ... وأزجر في الخيل مهري سرارا وأعلم أنّي إذا ما اعتذرت ... أراد اعتذاري إليك اعتذارا

كفرت مكارمك الباهرا ... ت إن كان ذلك منّي اختيارا فلا تلزمنّي ذنوب الزمان ... إليّ أساء وإيايّ ضارا وعندي لك الشرّد السائرا ... ت لا يختصصن من الأرض دارا «1» فإنّي إذا سرن من مقولي ... وثبن الجبال وخضن البحارا «2» ولي فيك ما لم يقل قائل ... وما لم يسر قمر حيث سارا فلو خلق الناس من دهرهم ... لكانوا الظلام وكنت النهارا سما بك همّي فوق الهموم ... فلست أعدّ يسارا يسارا ومن كنت بحرا له يا عليّ ... لم يقبل الدّرّ إلّا كبارا وقوله يخاطبه: [الطويل] بأدنى ابتسام منك تحيا القرائح ... وتقوى من الجسم الضعيف الجوارح «3» ومن ذا الذي يقضي حقوقك كلّها ... ومن ذا الذي يرضى سوى من تسامح وقد تقبل العذر الخفيّ تكرّما ... فما بال عذري واقفا وهو واضح وما كان ترك الشعر إلّا لأنّه ... تقصّر عن وصف الأمير المدائح «4» 71/وقوله يخاطب ابن العميد: [الخفيف] ربّ ما لا يعبّر اللفظ عنه ... والذي يضمر الفؤاد اعتقاده «5» إنّ في الموج للغريق لعذرا ... واضحا أن يفوته تعداده

ما سمعنا بمن أحبّ العطايا ... فاشتهى أن يكون فيها فؤاده وهجي الحسين بن اسحاق التنوخي على لسانه فكتب إليه يعاتبه فأجابه أبو الطيب بقوله من أبيات: [الوافر] أتنكر يا ابن اسحاق إخائي ... وتحسب ماء غيري من إنائي «1» أأنطق فيك هجرا بعد علمي ... بأنّك خير من تحت السماء وهبني قلت هذا الصبح ليل ... أيعمى العالمون عن الضياء وأنّ من العجائب أن تراني ... فتعدل بي أقلّ من الهباء وتنكر موتهم وأنا سهيل ... طلعت بموت أولاد الزناء وقوله يخاطب بدر بن عمّار حين تخلّف عنه: [الكامل] فاغفر فديتك واحبني من بعدها ... لتخّصني بعطيّة منها أنا «2» وانه المشير عليك فيّ بضلّة ... فالحرّ ممتحن بأولاد الزنا ومكائد السفهاء واقعة بهم ... وعداوة الشعراء بئس المقتنى غضب الحسود إذا لقيتك راضيا ... رزء أخفّ عليّ من أن يوزنا في الاستعطاف قوله يخاطب سيف الدولة في بني كلاب: [الوافر] بغيرك راعيا عبث الذئاب ... وغيرك صارما ثلم الضّراب «3»

ترفّق أيّها المولى عليهم ... فإنّ الرفق بالجاني عتاب 72/وأنّهم عبيدك حيث كانوا ... إذا تدعو لحادثة أجابوا وكيف يتمّ بأسك في أناس ... تصيبهم فيؤلمك المصاب وعين المخطئين هم وليسوا ... بأوّل معشر خطئوا فتابوا وأنت حياتهم غضبت عليهم ... وهجر حياتهم لهم عقاب وما جهلت أياديك البوادي ... ولكن ربّما خفي الصواب وكم ذنب مولّده دلال ... وكم بعد مولّده اقتراب وجرم جرّه سفهاء قوم ... فحلّ بغير جانيه العقاب وما تركوك معصية ولكن ... يعاف الورد والموت الشراب فإن هابوا بجرمهم عليّا ... فقد يرجو عليّا من يهاب ولو غير الأمير غزا كلابا ... ثناه عن شموسهم الضباب «1» ولكن ربّهم أسرى إليهم ... فما نفع الوقوف ولا الذهاب ولا ليل أجنّ ولا نهار ... ولا خيل حملن ولا ركاب فمسّاهم وبسطهم حرير ... وصبّحهم وبسطهم تراب ومن في كفهّ منهم قناة ... كمن في كفّه منهم خضاب إذا ما سرت في آثار قوم ... تخاذلت الجماجم والرقاب طلبتهم على الأمواه حتى ... تخوّف أن تفتّشه السحاب بنو قتلى أبيك بأرض نجد ... ومن أبقى وأبقته الحراب عفا عنهم وأعتقهم صغارا ... وفي أعناق أكثرهم سخاب «2»

وكلّكم أتى مأتى أبيه ... وكلّ فعال كلكّم عجاب 73/كذا فليسر من طلب الأعادي ... ومثل سراك فليكن الطلاب وقوله يخاطبه: [الطويل] ودانت له الدنيا فأصبح جالسا ... وأيّامها فيما يريد قيام «1» فتى يتبع الأزمان في الناس خطوه ... لكلّ زمان في يديه زمام وما تنفع الخيل الكرام ولا القنا ... إذا لم يكن فوق الكرام كرام فإن كنت لا تعطي الزمان طواعة ... فعوذ الأعادي بالكريم ذمام «2» وإنّ نفوسا يممّتك منيعة ... وإنّ دماء يممّتك حرام «3» إذا خاف ملك من مليك أجرته ... وسيفك خافوا والجوار تسام فلو كان صلحا لم يكن بشفاعة ... ولكنّه ذلّ لهم وغرام على وجهك الميمون في كلّ غارة ... صلاة توالي منهم وسلام وقوله يخاطبه: [الوافر] طوال قنا تطاعنها قصار ... وقطرك في ندى ووغى بحار «4» وفيك إذا جنى الجاني أناة ... تظنّ كرامة وهي احتقار وما انقادت لغيرك في زمان ... فتدري ما المقادة والصّغار فلزّهم القتال إلى طراد ... أحدّ سلاحهم فيه الفرار «5»

مضوا متسابقي الأعضاء فيهم ... لأرؤسهم بأرجلهم عثار إذا صرف النهار الضوء عنهم ... دجا ليلان: ليل والغبار وإن جنح الظلام انجاب عنهم ... أضاء المشرفية والنهار يرون الموت قدّاما وخلفا ... فيختارون والموت اضطرار 74/فلو لم تبق لم تعش البقايا ... وفي الماضي لمن بقي اعتبار لعلّ بنيهم لبنيك جندّ ... فأول قرّح الخيل المهار «1» وما في سطوة الأرباب عيب ... ولا في ذلّة العبدان عار في الاستجداء، والتقاضي قوله: [البسيط] شكر العفاة لما أوليت أوجدني ... إلى نداك طريق العرف مسلوكا «2» ما زلت تتبع ما تولي يدا بيد ... حتى ظننت حياتي من حياتيكا «3» وقوله: [الكامل] يا ذا الذي يهب الكثير وعنده ... أنّي عليه بأخذه أتصدّق «4» أمطر عليّ سحاب جودك ثرّة ... وانظر إليّ برحمة لا أغرق «5»

وقوله: [البسيط] أنصر بجودك ألفاظا تركت بها ... في الشرق والغرب من عاداك مبهوتا «1» فقد نظرتك حتى عاد مرتحل ... وذا الوداع فكن أهلا لما شيتا «2» وقوله: [الطويل] لك الخير غيري رام من غيرك الغنى ... وغيري بغير اللاذقية لا حق «3» هي الغرض الأقصى ورؤيتك المنى ... ومنزلك الدنيا وأنت الخلائق وقوله: [الطويل] وثقنا بأن تعطي فلو لم تجد لنا ... لخلناك قد أعطيت من شدّة الوهم «4» وأطمعتني في نيل ما لا أناله ... فما زلت حتى صرت أطمع في النجم وقوله: [الخفيف] ومن البرّ بطء سيبك عنّي ... أسرع السحب في المسير الجهام «5»

75/وقوله: [البسيط] وربّما فارق الانسان مهجته ... يوم الوغى غير قال خشية العار «1» وقد منيت بحسّاد أحاربهم ... فاجعل نداك عليهم بعض أنصاري وقوله: [البسيط] وجدت أنفع مال كنت أذخره ... ما في السوابق من جري وتقريب «2» وكيف أكفر يا كافور نعمتها ... وقد بلغنك بي يا خير مطلوب يا أيها الملك الغاني بتسمية ... في الشرق والغرب عن وصف وتلقيب أنت الحبيب ولكنّي ألوذ به ... من أن أكون محبّا غير محبوب «3» وقوله: [الطويل] أزل حسد الحسّاد عنّي بكبتهم ... فأنت الذي صيّرتهم لي حسّدا «4» إذا شدّ أزري حسن رأيك في يدي ... ضربت بنصل يقطع الهام مغمدا» وما أنا إلّا سمهريّ حملته ... فزيّن معروضا وراع مسدّدا «6»

وما الدهر إلّا من رواة قصائدي ... إذا قلت شعرا أصبح الدهر منشدا «1» فسار به من لا يسير مشمّرا ... وغنّى به من لا يغنّي مغرّدا أجزني إذا أنشدت شعرا فإنّما ... بشعري أتاك المادحون مردّدا ودع كلّ صوت بعد صوتي فإنّني ... أنا الصائح المحكيّ والآخر الصدى «2» تركت السّرى خلفي لمن قلّ ماله ... وأنعلت أفراسي بنعماك عسجدا وقيّدت نفسي في ذراك محبّة ... ومن وجد الإحسان قيدا تقيّدا إذا سأل الإنسان أيّامه الغنى ... وأنت على بعد جعلتك موعدا «3» وقوله: [الطويل] وأمضى سلاح قلّد المرء نفسه ... رجاء أبي المسك الكريم وقصده «4» 76/هما ناصرا من خانه كلّ ناصر ... وأسرة من لم يكثر النّسل جدّه أنا اليوم من غلمانه في عشيرة ... لنا والد منه يفدّيه ولده فمن ماله مال الكبير ونفسه ... ومن ماله درّ الصغير ومهده «5» تولّى الصّبا عني فأخلفت طيبه ... وما ضرّني لمّا رأيتك فقده لقد شبّ في هذا الزمان كهوله ... لديك وشابت عند غيرك مرده

فكن في اصطناعي محسنا كمجرّب ... يبن لك تقريب الجواد وشدّه إذا كنت في شك من السيف فابله ... فاما تنفّيه وإما يقدّه وما الصارم الهنديّ إلّا كغيره ... إذا لم يفارقه النّجاد وغمده وكلّ نوال كان أو هو كائن ... فلحظة طرف منك عندي ندّه وإنّي لفي بحر من الخير أصله ... عطاياك أرجو مدّها وهي مدّه وما رغبتي في عسجد أستفيده ... ولكنّها في مفخر استجدّه فإنّك ما مرّ النحوس بكوكب ... وقابلته إلّا ووجهك سعده وقوله: [الطويل] رضيت بما ترضى به لي محبّة ... وقدت إليك النّفس قود المسلّم «1» ومثلك من كان الوسيط فؤاده ... فكلّمه عنّي ولم أتكلّم وقوله: [الطويل] أبا المسك هل في الكأس فضل أنا له ... فإنّي أغنّي منذ حين وتشرب «2» وهبت على مقدار كفّي زماننا ... ونفسي على مقدار كفّيك تطلب إذا لم تنط بي ضيعة أو ولاية ... فجودك يكسوني وشغلك يسلب 77/منها: ولكنّه طال الطريق ولم أزل ... أفتش عن هذا الكلام وينهب فشرّق حتى ليس للشرق مشرق ... وغرّب حتى ليس للغرب مغرب

إذا قلته لم يمتنع من وصوله ... جدار معلّى أو خباء مطنّب وقوله: [الخفيف] يا رجاء العيون في كلّ أرض ... لم يكن غير أن أراك رجائي «1» فارم بي ما أردت منّي فإنّي ... أسد القلب آدمي الرّواء وفؤادي من الملوك وإن كان ... لساني يرى من الشعراء وقوله: [الطويل] أرد لي جميلا جدت أو لم تجد به ... فإنّك ما أحببت فيّ أتاني «2» لو الفلك الدوّار أبغضت سعيه ... لعوّقه شيء عن الدوران وقوله: [الطويل] أيا أسدا في جسمه روح ضيغم ... وكم أسد أرواحهنّ كلاب «3» ويا آخذا من دهره حقّ نفسه ... ومثلك يعطى حقّه ويهاب لنا عند هذا الدهر حقّ يلطّه ... وقد قلّ إعتاب وطال عتاب

وقد تحدث الأيام عندك شيمة ... وتنعمر الأوقات وهي يباب أرى لي بقربي منك عينا قريرة ... وإن كان قربا بالبعاد يشاب وهل نافعي أن ترفع الحجب بيننا ... ودون الذي أمّلت منك حجاب أقلّ سلامي حبّ ما خفّ عنكم ... وأسكت كيما لا يكون جواب وفي النّفس حاجات وفيك فطانة ... سكوتي بيان عندها وخطاب وما أنا بالباغي على الحبّ رشوة ... ضعيف هوى يبغى عليه ثواب 78/وما شئت إلّا أن أذلّ عواذلي ... على أنّ رأيي في هواك صواب وأعلم قوما خالفوني فشّرقوا ... وغرّبت أنّي قد ظفرت وخابوا إذا نلت منك الودّ فالمال هيّن ... وكلّ الذي فوق التراب تراب وما كنت لولا أنت إلّا مهاجرا ... له كلّ يوم بلدة وصحاب ولكنّك الدنيا إليّ حبيبة ... فما عنك لي إلّا إليك ذهاب وقوله: [المنسرح] فعد بها لا عدمتها أبدا ... خير صلات الكريم أعودها «1» وقوله: [الطويل] وأكثر تيهي أنّني بك واثق ... وأكثر مالي أنّني لك آمل «2» وفي الشكر قوله يخاطب فاتكا: [البسيط]

لا خيل عندك تهديها ولا مال ... فليسعد النطق إن لم يسعد الحال «1» وإن تكن محكمات الشّكل تمنعني ... ظهور جري فلي فيهنّ تصهال وما شكرت لأنّ المال فرّحني ... سيّان عندي إكثار وإقلال «2» لكن رأيت قبيحا أن يجادلنا ... وأنّنا بقضاء الحقّ بخّال فكنت منبت روض الحزن باكره ... غيث بغير سباخ الأرض هطّال غيث يبيّن للنّظار موقعه ... إنّ الغيوث بما تأتيه جهّال لا يدرك المجد إلّا سيّد فطن ... لما يشقّ على السادات فعّال كفاتك ودخول الكاف منقصة ... كالشمس قلت وما للشمس أمثال لطّفت رأيك في وصلي وتكرمتي ... إنّ الكريم على العلياء يحتال وقوله: [المنسرح] له أياد إليّ سابغة ... أعدّ منها ولا أعدّدها «3» 79/يعطي فلا مطله يكدّرها ... بها ولا منّه ينكدّها وقوله: [المنسرح] تمثّلوا حاتما ولو عقلوا ... لكنت في الجود غاية المثل «4» كيف أكافئ على أجلّ يد ... من لا يرى أنّها يد قبلي

وقوله: [الوافر] وإنّي عنك بعد غد لغاد ... وقلبي عن فنائك غير غاد «1» محبّك حيثما اتجهت ركابي ... وضيفك حيث كنت من البلاد وقوله: [الوافر] ومن إحدى فوائده العطايا ... ومن إحدى عطاياه الدوام «2» فقد خفي الزمان بها علينا ... كسلك الدرّ يخفيه النّظام «3» أقامت في الرّقاب له أياد ... هي الأطواق والناس الحمام وقوله: [الطويل] مدحت أباه قبله فشفى يدي ... من العدم من تشفى به الأعين الرمد «4» حباني بأثمان السوابق دونها ... مخافة سيري أنّها للنّوى جند وأصبح شعري منهم في مكانه ... وفي عنق الحسناء يستحسن العقد «5»

وقوله: [المنسرح] تنشد أثوابنا مدائحه ... بألسن ما لهن أفواه «1» إن كان فيما نراه من كرم ... فيك فريد فزادك الله وقوله: [الطويل] أحبّك يا شمس الزمان وبدره ... وإن لا مني فيك السّها والفراقد «2» فإنّ قليل الحبّ بالعقل صالح ... وإنّ كثير الحبّ بالجهل فاسد 80/وقوله: [الكامل] يا من يقتّل من أراد بسيفه ... أصبحت من قتلاك بالإحسان «3» فإذا رأيتك حار دونك ناظري ... وإذا مدحتك حار فيك لساني في التهاني والعيادات قوله: [البسيط] المجد عوفي إذ عوفيت والكرم ... وزال عنك إلى أعدائك الألم «4» وراجع الشّمس نور كان فارقها ... كأنّما فقده في جسمها سقم

وما أخصّك في برى بتهنئة ... إذا سلمت فكلّ الناس قد سلموا وقوله يهنئ بعيد الفطر: [البسيط] الصوم والفطر والأعياد والعصر ... منيرة بك حتى الشمس والقمر «1» ما الدهر عندك إلّا روضة أنف ... يا من شمائله في دهره زهر ما ينتهي لك في أيّامه كرم ... فلا انتهى لك في أعوامه عمر وقوله يهنئ بعيد الأضحى: [الطويل] هنيئا لك العيد الذي أنت عيده ... وعيد لمن سمّى وضحّى وعيّدا» ولا زالت الأيام لبسك بعده ... تسلّم مخروقا وتعطى مجدّدا فذا اليوم في الأيام مثلك في الورى ... كما كنت فيهم أوحدا كان أوحدا هو الجدّ حتى تفضل العين أختها ... وحتى يكون اليوم لليوم سيّدا «3» وقوله: [الطويل] تحاسدت البلدان حتى لو أنّها ... نفوس لسار الشرق والغرب نحوكا «4» وأصبح مصر لا تكون أميره ... ولو أنّه ذو مقلة وفم بكى وقوله: [البسيط]

غاب الأمير فغاب الخير عن بلد ... كادت لفقد اسمه تبكي منابره «1» 81/حتى إذا عقدت فيه القباب له ... أهلّ لله باديه وحاضره وجدّدت فرحا لا الغمّ يطرده ... ولا الصبابة في قلب تجاوره وقوله: [الكامل] ما منبج مذ غبت إلّا مقلة ... سهرت ووجهك نومها والإثمد «2» فالليل حين قدمت فيه أبيض ... والصبح منذ رحلت عنها أسود ما زلت تدنو وهي تعلو همّة ... حتى توارى في ثراها الفرقد «3» أبدى العداة بك السرور كأنّهم ... فرحوا وعندهم المقيم المقعد حتى انثنوا ولو أنّ حدّ قلوبهم ... في قلب هاجرة لذاب الجلمد وقوله: [البسيط] إذا حللت مكانا بعد صاحبه ... جعلت فيه على ما قبله تيها «4» لا ينكر الحسن من دار تكون بها ... فإنّ ريحك روح في مغانيها «5»

وقوله في الحمّى: [الكامل] ومنازل الحمّى الجسوم فقل لها ... ما عذرها في تركها خيراتها «1» أعجبتها شرقا فطال وقوفها ... لتأمّل الأعضاء لا لأذاتها وبذلت ما عشقته نفسك كلّه ... حتى بذلت لهذه صحّاتها وقوله: [الوافر] أيدري ما أرابك من يريب ... وهل ترقى إلى الفلك الخطوب «2» وجسمك فوق همّة كلّ داء ... فقرب أقلّها منه عجيب يجمّشك الزمان هوى وحبّا ... وقد يؤذي من المقة الحبيب «3» 82/وكيف تعلّك الدنيا بشيء ... وأنت بعلّة الدنيا طبيب وفي التعازي قوله: [الطويل] عزاؤك سيف الدولة المقتدى به ... فانّك نصل والشدائد للنّصل «4» ومن كان ذا نفس كنفسك حرّة ... ففيه لها مغن وفيها له مسلي

وقوله يعزّيه بغلامه: [الطويل] علينا لك الإسعاد إن كان نافعا ... بشقّ قلوب لا بشقّ جيوب «1» فرّب كئيب ليس تندى جفونه ... وربّ غزير الدمع غير كئيب «2» إذا استقبلت نفس الكريم مصابها ... بخبث ثنت فاستدبرته بطيب فدتك نفوس الحاسدين فإنّها ... معذّبة في حضرة ومغيب وفي تعب من يحسد الشّمس نورها ... ويجهد أن يأتي لها بضريب وقوله يعزّيه بأخته الصغرى ويسلّيه ببقاء الكبرى: [الخفيف] أنت يا فوق أن تعزّى عن الأح ... باب فوق الذي يعزّيك عقلا «3» وبألفاظك اهتدى فإذا عز ... زاك قال الذي له قلت قبلا قد بلوت الخطوب مرّا وحلوا ... وملكت الزمان حزنا وسهلا «4» وقتلت الزمان علما فما يعر ... رف قولا ولا يجدّد فعلا فإذا قست ما أخذن بما أغ ... درن سرّى عن الفواد وسلّى وتيقنّت أنّ حظّك أوفى ... وتبيّنت أنّ جدّك أعلى «5» وإذا لم تجد من الناس كفؤا ... ذات خدر أرادت الموت بعلا

وقوله يعزّي عضد الدولة بعمّته: [السريع] 83/ما كان عندي أنّ بدر الدجى ... يوحشه المفقود من شهبه «1» يدخل صبر المرء في مدحه ... ويدخل الإشفاق في قلبه مثلك يثني الحزن عن صوبه ... ويستردّ الدّمع عن غربه ولم أقل مثلك أعني به ... سواك يا فردا بلا مشبه وقوله: [الكامل] صبرا بني اسحاق عنه تكرّما ... إنّ العظيم على العظيم صبور «2» فلكلّ مفجوع سواكم مشبه ... ولكلّ مفقود سواه نظير فأعيذ إخوته بربّ محمّد ... أن يحزنوا ومحمّد مسرور وفي الإخوانيات قوله: [الكامل] شوقي إليك نفى لذيذ هجوعي ... فارقتني فأقام بين ضلوعي «3» أو ما وجدتم في الصّراة ملوحة ... ممّا أرقرق فيه ماء دموعي «4» ما زلت أحذر من وداعك جاهدا ... حتى اغتدى أسفي على التوديع

رحل العزاء برحلتي فكأنّما ... أتبعته الأنفاس للتّشييع وقوله: [الخفيف] كلّما رحّبت بنا الأرض قلنا ... حلب قصدنا وأنت السبيل «1» والمسمّون بالأمير كثير ... والأمير الذي بها المأمول الذي زلت عنه شرقا وغربا ... ونداه مقابلي ما يزول وإذا صحّ فالزمان صحيح ... وإذا اعتلّ فالزمان عليل وإذا غاب وجهه عن مكان ... فبه من ثناه وجه جميل ما الذي عنده تدار المنايا ... كالذي عنده تدار الشمول «2» 84/نغّص البعد عنك قرب العطايا ... مرتعي مخصب وجسمي نحيل إن تبّوأت غير داري أرضا ... وأتاني نيل فأنت المنيل «3» من عبيدي إن عشت لي ألف كا ... فور ولي من نداك ريف ونيل ما أبالي إذا اتّقتك المنايا ... من دهته خبولها والحبول «4» وقوله: [الكامل المرفل] إنّ الذين أممت وارتحلوا ... أيّامهم كديارهم دول «5»

الحسن يرحل كلّما رحلوا ... معهم وينزل حيثما نزلوا وقوله: [الطويل] رجونا الذي يرجون في كلّ جنّة ... بأرجان حتى ما يئسنا من الخلد «1» تفضّلت الأيام بالجمع بيننا ... فلمّا حمدنا لم تدمنا على الحمد وقد كنت أدركت المنى غير أنّني ... يعيّرني قومي بإدراكها وحدي ولو فارقت جسمي إليك حياته ... لقلت أصابت غير مذمومة العهد «2» وقوله: [الوافر] تسايرك السواري والغوادي ... مسايرة الأحبّاء الطراب «3» تفيد الجود منك فتحتذيه ... وتعجز عن خلائقك العذاب وقوله: [الكامل] يجد الحمام ولو كوجدي لا نبرى ... شجر الأراك مع الحمام ينوح «4»

وقوله: [الخفيف] وافترقنا حولا فلمّا التقينا ... كان تسليمه عليّ وداعا «1» وفي الهجاء قوله في هجاء كافور: [الطويل] أريك الرّضا لو أخفت العين خافيا ... وما أنا عن نفسي ولا عنك راضيا «2» 85/أمينا وإخلافا وغدرا وخسّة ... وخبثا أشخصا لحت لي أم مخازيا تظنّ ابتساماتي رجاء وغبطة ... وما أنا إلّا ضاحك من رجائيا «3» ولولا فضول الناس جئتك مادحا ... بما كنت في سّري به لك هاجيا وأصبحت مسرورا بما أنا منشد ... وإن كان بالانشاد هجوك غاليا ومثلك يؤتى من بلاد بعيدة ... ليضحك ربّات الحداد البواكيا وقوله يهجوه: [البسيط] إنّي نزلت بكذّابين ضيفهم ... عن القرى وعن الترحال محدود «4» جود الرجال من الأيدي وجودهم ... من اللسان فلا كانوا ولا الجود ما يقبض الموت نفسا من نفوسهم ... إلّا وفي يده من نتنها عود من كلّ رخو وكاء البطن منتفخ ... لا في الرجال ولا النسوان معدود «5»

العبد ليس لحرّ صالح بأخ ... لو أنّه في ثياب الحرّ مولود لا تشتر العبد إلّا والعصا معه ... إنّ العبيد لأنجاس مناكيد ما كنت أحسبني أحيا إلى زمن ... يسىء بي فيه كلب وهو محمود من علّم الأسود المخصيّ مكرمة ... أقومه البيض أم آباؤه السود «1» أم أذنه في يد النخّاس دامية ... أم قدره وهو بالفلسين مردود وذاك أنّ الفحول البيض عاجزة ... عن الجميل فكيف الخصية السود 86/وقوله يهجوه: [المتقارب] لقد كنت أحسب قبل الخصيّ ... بأنّ الرءوس مقرّ النّهى «2» فلمّا نظرت إلى عقله ... رأيت النّهى كلّها في الخصى وقوله يهجوه: [السريع] العبد لا تفضل أخلاقه ... عن فرجه المنتن أو ضرسه «3» فلا ترجّ الخير عند امرئ ... مرّت يد النخاس في رأسه وإن عراك الشكّ في أمره ... بحاله فانظر إلى جنسه فقلّ ما يلؤم في ثوبه ... إلّا الذي يلؤم في غرسه وقوله يهجو إسحاق بن إبراهيم بن كيغلغ: [الكامل]

وارفق بنفسك إنّ خلقك ناقص ... وارفق بنفسك إنّ أصلك مظلم «1» واحذر مناواة الرجال فإنّما ... تقوى على كمر العبيد وتقدم وغناك مسألة وطيشك نفخة ... ورضاك فيشلة وربّك درهم يمشي باربعة على أعقابه ... تحت العلوج ومن وراء تلجم وجفونه ما تستقرّ كأنّها ... مطروقة أوفتّ فيها حصرم وإذا أشار محدّثا فكأنّه ... قرد يقهقه أو عجوز تلطم يقلي مفارقة الأكفّ قذاله ... حتى يكاد على يد يتعمّم وتراه أصغر ما تراه ناطقا ... وتراه أكذب ما يكون ويقسم «2» أرسلت تسألني المديح سفاهة ... صفراء أضيق منك ماذا أزعم «3» وأشدّ ما جاوزت قدرك صاعدا ... وأشدّ ما قربت عليك الأنجم 87/وقوله يهجو الأعور بن كروس: [الوافر] تعادينا لأنّا غير لكن ... وتبغضنا لأنّا غير عور «4» فلو كنت امرءا تهجى هجونا ... ولكن ضاق فتر عن مسير وقوله: [البسيط]

كريشة بمهبّ الريح ساقطة ... لا تستقرّ على حال من القلق «1» وقوله: [المجتث] إن آنستك المخازي ... فإنّها لك نسبه «2» أو أوحشتك المعالي ... فإنّها دار غربه ومن المختار له في أشياء متفرّقة قوله: [الكامل] سر حيث شئت يحلّه النّوار ... وأراد فيك مرادك المقدار «3» وإذا ارتحلت فشيعّتك سلامة ... حيث اتّجهت وديمة مدرار وأراك دهرك ما تحاول في العدا ... حتى كأنّ صروفه انصار وصدرت أغنم صادر عن مورد ... مرفوعة لقدومك الأبصار أنت الذي بجح الزمان بذكره ... وتزيّنت بحديثه الأسمار «4» وإذا تنكّر فالفناء عقابه ... وإذا عفا فعطاؤه الأعمار لله قلبك لا يخاف من الردى ... ويخاف أن يدنو إليك العار يا من يعزّ على الأعزّة جاره ... ويذلّ في سطواته الجبّار إنّ الذي خلّفت خلفي ضائع ... مالي على قلقي عليه خيار

وإذا صحبت فكلّ ماء مشرب ... لولا العيال وكلّ أرض دار إذن الأمير بأن أعود إليهم ... صلة تسير بذكرها الأشعار «1» وقوله: [الوافر] وصار أحبّ ما تهدي إلينا ... لغير قلى وداعك والسّلاما «2» 88/ولكنّ الغيوث إذا توالت ... بأرض مسافر كره المقاما وقوله: [الطويل] وكم لظلام الليل عندك من يد ... تخبّر أنّ المانوية تكذب «3» ويوم كليل العاشقين كمنته ... أراقب فيه الشمس أيّان تغرب وقوله وقد سقطت خيمة سيف الدولة: [المتقارب] فلا تنكرنّ لها صرعة ... فمن فرح النفس ما يقتل «4» فلو بلّغ الناس ما بلّغت ... لخانتهم حولك الأرجل ولمّا أمرت بتطنيبها ... أشيع بأنّك لا ترحل فما اعتمد الله تقويضها ... ولكن اشار بما تفعل وقوله: [الوافر]

أعن إذني تهبّ الريح رهوا ... ويسري كلّما سقت الغمام «1» ولكنّ الغمام له طباع ... تبجّسه بها وكذا الكرام «2» وقوله: [الطويل] نجوت بإحدى مهجتيك جريحة ... وخلّفت إحدى مهجتيك تسيل «3» أتسلم للخطّية ابنك هاربا ... ويسكن في الدنيا إليك خليل وقوله: [الكامل] لمّا تحكّمت الأسنّة فيهم ... جارت وهنّ يجرن في الأحكام «4» فتركتهم خلل البيوت كأنّما ... غضبت رؤوسهم على الأجسام وقوله: [الطويل] إذا شاء أن يلهو بلحية أحمق ... أراه غباري ثم قال له الحق «5» وما كمد الحسّاد شيئا قصدته ... ولكنّه من يزحم البحر يغرق 89/ويمتحن الناس الأمير برأيه ... ويغضي على علم بكلّ ممخرق

وإطراق طرف العين ليس بنافع ... إذا كان طرف القلب ليس بمطرق وقوله: [الوافر] وللحسّاد عذر أن يشحّوا ... على نظري إليه وأن يذوبوا «1» فإنّي قد وصلت إلى مكان ... عليه تحسد الحدق القلوب وقوله: [الطويل] أسير إلى إقطاعه في ثيابه ... على طرفه من داره بخيامه «2» فلا زالت الشمس التي في سمائه ... مطالعة الشمس الذي في لثامه ولا زال تجتاز البدور لوجهه ... تعجّب من نقصانها وتمامه «3» وقوله: [الخفيف] إنّما أحفظ المديح بعيني ... لا بقلبي لما رأت في الأمير «4» من خصال إذا نظرت إليها ... نظمت لي غرائب المنثور وقوله وقد استدعاه سيف الدولة إلى حضرته: [الطويل] ولكنّ لي كفّا أعيش بفضلها ... ولا أشتري إلّا بها وأبيع «5»

أأطرحها تحت الرّجا ثمّ أبتغي ... لها مخلصا إنّي إذا لرقيع وقوله: [الطويل] فليس الذي يتّبّع الوبل رائدا ... كمن جاءه في داره رائد الوبل «1» وما أنا ممّن يدّعي الشوق قلبه ... ويعتلّ في ترك الزيارة بالشغل «2» وقوله: [الطويل] رحلت فكم باك بأجفان شادن ... عليّ وكم باك بأجفان ضيغم «3» ومارّبة القرط المليح مكانه ... بأجزع من ربّ الحسام المصمّم 90/وقوله: [الوافر] أروح وقد ختمت على فؤادي ... بحبّك أن يحلّ به سواكا «4» لعلّ الله يجعله رحيلا ... يعين على الإقامة في ذراكا فلو أنّي استطعت خفضت طرفي ... فلم أنظر به حتى أراكا إذا التوديع أعرض قال قلبي ... عليك الصمت لا صاحبت فاكا

ولولا أنّ أكثر ما تمنّى ... معاودة لقلت ولا مناكا قد استشفيت من داء بداء ... وأقتل ما أعلّك ما شفاكا وما أعتاض منك إذا افترقنا ... وكلّ الناس زور ما خلاكا وقوله: [الخفيف] حسم الصلح ما اشتهته الأعادي ... وأذاعته ألسن الحسّاد «1» إنّما أنت والد والأب القا ... طع أحنّ من واصل الأولاد أنتما- ما اتّفقتما- الجسم والرو ... ح فلا احتجتما إلى العوّاد هذه دولة المكارم والرأ ... فة والمجد والنّدى والأيادي كسفت ساعة كما تكسف الشم ... س وعادت ونورها في ازدياد كيف لا تترك الطريق لسيل ... ضيّق عن أتّيه كلّ واد وقوله وقد نام أبو بكر الطائي: [الكامل] إنّ القوافي لم تنمك وإنّما ... محقتك حتى صرت ما لا يوجد «2» فكأنّ أذنك فوك حين سمعتها ... وكأنّها ممّا سكرت المرقد وقوله: [الطويل] أتاني وعيد الأدعياء وأنّهم ... أعدّوا لي السودان في كفر عاقب «3» ولو صدقوا في جدّهم لحذرتهم ... فهل فيّ وحدي قولهم غير كاذب

91/وقوله: [البسيط] عقبى اليمين على عقبى الوغى ندم ... ماذا يزيدك في إقدامك القسم «1» وقي اليمين على ما أنت واعده ... ما دلّ أنّك في الميعاد متّهم وقوله: [الوافر] وما ماضي الشباب بمستردّ ... ولا يوم يمرّ بمستعاد «2» متى لحظت بياض الشيب عيني ... فقد وجدته منها في السواد «3» متى ما ازددت من بعد التناهي ... فقد وقع انتقاصي في ازدياد «4» وقوله: [البسيط] تسوّد الشمس منّا بيض أوجهنا ... ولا تسوّد بيض العذر واللّمم «5» وكان حالهما في الحكم واحدة ... لو احتكمنا من الدنيا إلى حكم وقوله: [الخفيف] وإذا الشيخ قال أفّ فما م ... لّ حياة وإنّما الضعف ملّا «6»

آلة العيش صحة وشباب ... فإذا ولّيا عن المرء ولّى أبدا تستردّ ما تهب الدّن ... يا فياليت جودها كان بخلا وهي معشوقة على الغدر لا تح ... فظ عهدا ولا تتممّ وصلا كلّ دمع يسيل منها عليها ... وبفكّ اليدين منها تحلّى وقوله: [البسيط] ليت الحوادث باعتني الذي أخذت ... منّي بحلمي الذي أعطت وتجريبي «1» فما الحداثة من حلم بمانعة ... قد يوجد الحلم في الشبّان والشّيب وقوله يصف فرسا: [الرجز] لو سابق الشمس من المشارق ... جاء إلى الغرب مجيء السابق «2» وقوله يصف شعره: [الطويل] 92/وما قلت من شعر تكاد بيوته ... إذا كتبت يبيّض من نورها الحبر «3» كأنّ المعاني في فصاحة لفظها ... نجوم الثريا أو خلائقك الزّهر وماذا الذي فيه من الحسن رونقا ... ولكن بدا في وجهه نحوك البشر

وقوله يصف القلم: [الطويل] نحيف الشوى يعدو على أمّ رأسه ... ويخفى فيقوى عدوه حين يقطع «1» يمجّ ظلاما في نهار لسانه ... ويفهم عمّن قال ما ليس يسمع ذباب حسام منه أنجى ضريبة ... وأعصى لمولاه وذا منه أطوع بكفّ جواد لو حكتها سحابة ... لما فاتها في الشرق والغرب موضع وقوله: [المقتضب] أبلج لو عاذت الحمام به ... ما خشيت راميا ولا صائد «2» وقوله: [البسيط] أما ترى ما أراه أيّها الملك ... كأنّنا في سماء مالها حبك «3» الفرقد ابنك والمصباح صاحبه ... وأنت بدر الدجى والمجلس الفلك وقوله يصف قلعة: [الطويل] فأضحت كأنّ السور من فوق بدئه ... إلى الأرض قد شقّ الكواكب والتّربا «4»

تصدّ الرياح الهوج عنها مخافة ... ويفزع فيها الطير أن يلقظ الحبّا وقوله: [الوافر] ولو سرنا إليه في طريق ... من النيران لم نخف احتراقا «1» فابلغ حاسديّ عليه إنّي ... كبا برق يحاول بي لحاقا وهل تغني الرسائل في عدوّ ... إذا ما لم يكنّ ظبا رقاقا 93/وقوله: [المجتث] إذا امرؤ راعني بغدرته ... أوردته الغاية التي خافا «2» وقوله: [الكامل] وتوهّموا اللّعب الوغى والطعن في ال ... هيجاء غير الطعن في الميدان وقوله: [المتقارب] وجدت المدامة غلّابة ... تهيجّ للقلب أشواقه «3» وأنفس ما للفتى لبّه ... وذو اللّبّ يكره إنفاقه وقوله: [المقتضب]

ويظهر الجهل بي وأعرفه ... والدرّ درّ برغم من جهله «1» وصرت كالسيف حامدا يده ... ما يحمد السّيف كلّ من حمله وقوله: [الوافر] أبا الغمرات توعدنا النّصارى ... ونحن نجومها وهي البروج «2» وقوله: [الوافر] رضوا بك كالرضى بالشّيب قسرا ... وقد وخط النّواصي والفروعا «3» وقوله: [الخفيف] إنّ بعضا من القريض هذاء ... ليس شيئا وبعضه أحكام «4» وقوله: [البسيط] كلام أكثر من تلقى ومنظره ... ممّا يشقّ على الآذان والحدق «5»

وقوله: [الطويل] رأيت الحميّا في الزجاج بكفّه ... فشبّهتها بالشمس في البدر في البحر «1» وقوله: [الوافر] كأنّ بنات نعش في دجاها ... خرائد سافرات في حداد «2» وقوله: [الخفيف] خير أعضائنا الرءوس ولكن ... فضّلتها بقصدك الأقدام «3» وقوله: [الوافر] فلا حطّت لك العلياء سرجا ... ولا ذاقت لك الدّنيا فراقا «4» وقوله: [الطويل] وهذا دعاء لو سكتّ كفيته ... لأنّي سألت الله فيك وقد فعل «5»

وقوله: [الطويل] بقيت بقاء الدهر يا كهف أهله ... وهذا دعاء للبريّة شامل «1»

2 - السري بن أحمد الكندي المعروف بالرفاء الموصلي.

ومنهم: 2- السريّ بن أحمد الكندي المعروف بالرّفاء الموصلي «1» . توفي سنة ستين وثلثمائة. كان معيديا تسمع به لا أن تراه، 94/جريريا أدبه لا مرآه. وكان فى أول/ صباه يرفو ويطرّز فى دكان بالموصل وهو يجتهد فى مواد الأدب ويحصّل، ثمّ ما زال يطرّز حتى ظهر بهذا الطّرز، وأسلم أجيرا للخياط فجاء تاجرا بمثل هذا البزّ، واتّخذ نسخ ديوان كشاجم ديدنه، ونسف ترابه وأدبه حتى استثار معدنه بحدّة ذهن حلّ به مرموزه، وشدّة تتبّع أخرج به مكنوزه، ثم كانت بينه وبين الخالديّين هنات «2» أراد بها التغطية على محاسنهم، والتعمية على ما لا يصطاد شوارده إلّا من مكامنهم، وكان يأخذ نوادرهم البديعة (وبوادرهم) «3» ممّا لا يجي به إلّا الفكرة السريعة فيخلطه فى ديوان كشاجم لينسب إليه وينسي من لم تنتجها قريحة ولود إلّا بين جنبيه «4» . قال ابن خلكان «5» ما معناه: ولهذا اختلفت نسخ هذا الديوان، واختلّت إلى هذا

الأوان. وكان السريّ معجبا بشعر كشاجم يقفو أثره، ويغفى وطيف خياله لا يفارق نظره فحظي بالافتنان فى التشبيه، وحبي بما لا يؤمن الافتتان منه بما ليس له شبيه. ومنه قوله فى أبيات أجاب بها صديقا له كتب يسأله عن حاله: [السريع] وكانت الإبرة فيما مضى ... صائنة وجهي وأشعاري فأصبح الرّزق بها ضيّقا ... كأنّه من ثقبها جاري «1» ومنه قوله فى سيف الدولة: [الوافر] طلعت على الديار وهم نبات ... فأغمدت السيوف وهم حصيد فما أبقيت إلّا مخطّفات ... حمى الأعطاف منها والنهود «2» ومنه قوله: [الكامل] حيّيت من طلل أجاب دثوره ... يوم العقيق سؤال دمع سائل 95/نحفى وننزل وهو أعظم حرمة ... من أن يذال براكب أو نازل «3» ومنه قوله: [الطويل] عليلة أنفاس الرياح كأنّما ... يعلّ بماء الورد نرجسها النّدي «4» يشقّ جيوب الورد فى شجراتها ... نسيم متى ينظر إلى الماء يبرد ومنه قوله، وذكر الخيال: [الكامل]

وفى فحّقق لي الوفاء ولم يزل ... خدن الصبابة بالوفاء حقيقا «1» ومضى وقد منع الجفون خفوقها ... قلب لذكرك لا يقرّ خفوقا ومنه قوله: [الكامل] نضت البراقع عن محاسن روضة ... ريضت بمحتفل الحيا أنوارها «2» فمن الثغور المشرقات لجينها ... ومن الخدود المذهبات نضارها أغصان بان أغربت في حملها ... فغرائب الورد الجنيّ ثمارها ومنه قوله: [الكامل] تلك المكارم لا أرى متأخرا ... أولى بها منه ولا متقدّما «3» عفو أظلّ ذوي الجرائم كلّهم ... حتى لقد حسد المطيع المجرما ومنه قوله: [الوافر] تحنّ جمالنا هونا إليها ... فأحسبها ترى منها جمالا «4» ويسأل من معالمها محيلا ... فنطلب من إجابتها محالا ومنه قوله يتشوّق بني فهد: [الطويل] فشرّق منهم سيد ذو حفيظة ... وغرّب منهم سيد فتشأما «5» كأنّ نواحي الجو تنثر منهم ... على كلّ فّج قاتم اللون أنجما

96/ومنه قوله: [الطويل] وأغيد مهتزّ على صحن خدّه ... غلائل من صبغ الحياء رقاق «1» أحاطت عيون العاشقين بخصره ... فهنّ له دون النّطاق نطاق ومنه قوله: [مجزوء البسيط] ترتع حولي الظّبا آنسة ... نظائرا فى الجمال أشباها «2» رقّت عن الوشي نعمة فإذا ... صافح منها الجسوم وشّاها ومنه قوله من أبيات كتبها إلى صديق أهدى إليه ماء ورد فى قارورة بيضاء مذهبة مزينة كالروضة المعشبة: [الطويل] بعثت بها عذراء حالية النّحر ... مشهّرة الجلباب حوريّة النّشر «3» مضمّنة ماء صفا مثل صفوها ... فجاءت كذوب الدرّ في جامد الدرّ «4» ينوب بكفّي عن أبيه وقد مضى ... كما نبت عن آبائك السادة الغرّ ومنه قوله: لمّا تراءى لك الجمع الذي نزحت ... أقطاره ونأت بعدا جوانبه «5» تركتهم بين مصبوغ ترائبه ... من الدماء ومخضوب ذوائبه فحائد وشهاب الرمح لاحقه ... وهارب وذباب السيف طالبه يهوي إليه بمثل النجم طاعنه ... وينتحيه بمثل البرق ضاربه

يكسوه من دمه ثوبا ويلبسه ... ثيابه فهو كاسيه وسالبه ومنه قوله: [الكامل] يلقى الندى برقيق وجه مسفر ... فإذا التقى الجمعان عاد صفيقا «1» 97/رحب المنازل ما أقام فإن سرى ... في جحفل ترك الفضاء مضيقا ومنه قوله: [الكامل] ألبستني نعما رأيت بها الدجى ... صبحا وكنت أرى الصباح بهيما «2» فغدوت يحسدني الصديق وقبلها ... قد كان يلقاني العدوّ رحيما وقوله: [الوافر] بنفسي من أجود له بنفسي ... ويبخل بالتحيّة والسلام «3» وحتفي كامن فى مقلتيه ... كمون الموت فى حدّ الحسام ومنه قوله فى سيف الدولة وذكر العدوّ: [البسيط] تروع أحشاءه بالكتب وهو لها ... خوف الدّوى ورجاء السّلم مستلم «4» لا يشرب الماء إلّا غصّ من حذر ... ولا يهوّم إلّا راعه الحلم وقوله: [الوافر] وقفنا نحمد العبرات لمّا ... رأينا البين مذموم السجايا «5»

كأنّ خدودهنّ إذا استقلّت ... شقيق فيه من طلّ بقايا ومنه قوله فى رثاء امرأة: [الطويل] تذال مصونات الدموع إزاءها ... وتمشي حفاة حولها الرّجل والركب «1» تساوت قلوب الناس فى الحزن إذ ثوت ... كأنّ قلوب الناس في موتها قلب ومنه قوله وكتب به إلى صديق له اتّهمه بغلام بعثه إليه فى حاجة: [الوافر] وخفت عليه فى الخلوات منّى ... ولم يك بيننا حال يخاف «2» فلو أنّي هممت بقبح فعل ... لدى الإغفاء أيقظني العفاف وقوله: [البسيط] أيام لي فى الهوى العذريّ مأربة ... وليس لي فى هوى العذّال من أرب «3» سقى الغمام رباها دمع مبتسم ... فكم سقاها التصابي دمع مكتئب 98/ومنه قوله: [الطويل] ولمّا اعتنقنا خلت أنّ قلوبنا ... تناجي بأفعال الهوى وهي تخفق «4» هي الدار لم يخل الغمام ولا الهوى ... معالمها من عبرة تترقرق منها: وطوّقت قوما فى الرقاب صنائعا ... كأنّهم منها الحمام المطّوق «5»

ومنه قوله فى سيف الدولة: [الطويل] تبسّم برق الغيم فاختال لامعا ... وحلّ عقود الغيث فارفضّ هاملا «1» فقلت: عليّ منك أعلى صنائعا ... إذا ما رجوناه وأرجى مخايلا ومنه قوله: [الكامل] قامت تميّل للعناق مقوّما ... كالخوط أبدع في الثمار وأغربا «2» حملت ذراه الأقحوان مفضضّا ... يسقي المدامة والشقيق مذهّبا وأبت وقد أخذ النقاب جمالها ... حركات غصن البان أن تتنقّبا وقوله يذكر جراحا نالته فى بعض أسفاره: [الخفيف] نوب لو علت شماريخ رضوى ... أو شكت أن تخرّ منهنّ هدّا «3» عرضتني على الحسام فأضحى ... كلّ عضو منّي لحدّيه غمدا وكست مفرقي عمامة ضرب ... أرجوانية الذوائب تندى ومنه قوله: [الكامل] وأرى العدوّ نقيصة في عمره ... وأرى الصديق زيادة في ماله «4» بوقائع للبأس فى أعدائه ... ووقائع للجود في أمواله عذلوه في الجدوى ومن يثني الحيا ... أم من يسدّ عليه طرق سجاله 99/وقوله في وصف طير الماء: [الطويل]

وآمنة لا الوحش يذعر سربها ... ولا الطير منها داميات المخالب «1» هي الروض لم تنش الخمائل زهره ... ولا اخضلّ عن دمع من المزن ساكب «2» إذا انبعثت بين الملاعب خلتها ... زرابيّ كسرى بثّها في الملاعب وإن آنست شخصا من الناس صرصرت ... كما صرصرت فى الطرس أقلام كاتب ومنه قوله: [الكامل] وأنا الفداء لمرغم فيّ العدى ... إذ زارني وهنا على عدوائه «3» قمر إذا ما الوشي حين أذاله ... كيما يصون بهاءه ببهائه ضعفت معاقد خصره وعقوده ... فكأنّ عقد الخصر عقد وفائه ومنه قوله: [البسيط] حليّه وثناياه وعنبره ... كلّ ينمّ عليه أو يراقبه «4» فلست أدرى إذا ما سار في أفق ... شمائل الأفق أذكى أم جنائبه ومنه قوله فى القلم يخاطب الصابي «5» : [الكامل] وفتى إذا هزّ اليراع حسبته ... لمضاء عزمته يهزّ مناصلا «6»

من كلّ ضافي البرد ينطق راكبا ... بلسان حامله ويصمت راجلا وقوله: [المنسرح] والغيث والليث والهلال إذا ... أقمر بأسا وبهجة وندى «1» ناس عن الجود ما يجود به ... وذاكر منه كلّ ما وعدا ومنه قوله فى وصف أشعاره: [الخفيف] خلع غضّة النسيم غذاها ... صفو ماء العلوم والآداب «2» 100/فهى كالخرّد العرائس يخلط ... ن شماس الصّبا بأنس التصابي «3» رقّة فوق رقّة الخصر تبدي ... فطنة فوق فطنة الأعراب ومنه قوله: [الطويل] ألست ترى ركب الغمام يساق ... فأدمعه بين الرياض تراق «4» ورقّت جلابيب النسيم على الثرى ... ولكن جلابيب الغيوم صفاق «5» ومنه قوله: [الكامل] فلتشكرنّك دولة جددتها ... فتجددّت أعلامها ومنارها «6» حلّيتها وحميت بيضة ملكها ... فغرار سيفك سورها وسوارها

وقوله: [الكامل] نشر الثناء فكان من أعلامه ... وطوى الوداد فكان من إضماره «1» كالنخل يبدي الطّلع من إثماره ... حسنا ويخفي الغضّ من جمّاره «2» وقوله فى الشمع: [الرجز] 1- أعددت للّيل إذا الليل غسق «3» ... 2- وقيّد الألحاظ من دون الطرق 3- قضبان تبر عريت من الورق «4» ... 4- شفاؤها إن مرضت ضرب العنق ومنه قوله: [المنسرح] وانظر إلى الليل كيف تصدعه ... راية صبح مبيضّة العذب «5» كراهب خرّ للهوى طربا ... فشقّ جلبابه من الطّرب «6» وقوله: [البسيط] وفتية زهر الآداب بينهم ... أبهى وأنضر من زهر الرياحين «7» مشوا إلى الراح مشي الرّخ وانصرفوا ... والراح تمشي بهم مشي الفرازين 101/وقوله يصف الشطرنج: [الكامل] يبدي لعينيك كلّما عاينته ... قرنين جالا: مقدما ومخاتلا «8»

فكأن ذا صاح يسير مقوّما ... وكأنّ ذا نشوان يخطر مائلا وقوله يصف كانون نار: [المتقارب] وذي أربع لا يطيق النهوض ... ولا يألف السير فيمن سرى نحمّله سبجا أسودا ... فيجعله ذهبا أحمرا» وقوله: [الوافر] وكم خرق الحجاب إلى مقام ... توارى الشمس فيه بالحجاب «2» كأنّ سيوفه بين العوالي ... جداول يطّردن خلال غاب وقوله يصف شعره: [الوافر] إليك رفعتها عذراء تأوي ... حجاب القلب لا حجب القباب «3» أذبت لصوغها ذهب القوافي ... فأدّت رونق الذّهب المذاب وقوله: [الوافر] وما زالت رياح الشعر شتّى ... فمن ريّا الهبوب ومن سموم «4» منحتك من محاسنها بديعا ... مقيم الزهر سيّار النسيم «5» وقوله: [البسيط] والشعر كالرّوض ذا ظام وذا خضل ... أو كالصوارم ذا ناب وذا خذم «6» أو كالعرانين هذا حظّه خنس ... مزر عليه وهذا حظّه شمم

وقوله: [المنسرح] وخلعة للثّناء دبّجها ال ... فكر ففاقت بحسنها البدعا «1» وقرّب الحذق لفظها فغدا ... من قربه مطمعا وممتنعا وقوله: [البسيط] إنّ المدائح لا تهدى لناقدها ... إلّا وألفاظها أصفى من الذّهب «2» 102/كم رضت بالفكر منها روضة أنفا ... تفتّح الزهر فيها عن جنى الأدب لفظ يروح له الريحان مطرّحا ... إذا جعلناه ريحانا على النّخب وقوله: [الوافر] أتتك يجول ماء الطّبع فيها ... مجال الماء في السيف الصقيل «3» قواف إن ثنت للمرء عطفا ... ثنى الأعطاف فى برد جميل وقوله: [الكامل] شرقت بماء الطّبع حتى خلتها ... شرقت لرونقها بتبر ذائب «4» ويقول سامعها إذا ما أنشدت ... أعقود حمد أم عقود كواكب وقوله: [الكامل] والبس غرائب مدحة دبجّتها ... فكأنّما دبّجت منها مطرفا «5»

من كل بيت لو تجسّم لفظه ... لرأيته وشيا عليك مفوّفا وقوله: [الكامل] ألفاظه كالدّر في أصدافه ... لا بل يزيد عليه في لألآئه «1» من كلّ ريّقة الجمال كأنّما ... جاد الشباب لها بريّق مائه والشعر بحر نلت أنفس درّه ... وتنافس الشعراء في حصبائه وقوله: [الكامل] وغرائب مثل السيوف إضاءة ... وجدت من الفكر الدّقاق صياقلا «2» فلو استعار الشيب بعض جمالها ... أضحى إلى البيض الحسان وسائلا جاءتك بين رصينة ورقيقة ... تهدي إليك مطارفا وغلائلا وقوله يتظلّم من الخالديين «3» إلى ابن فهد: [الطويل] تحيّف شعري يا ابن فهد مصالت ... عليه فقد أعدمت منه وقد أثرى «4» 103/وفي كلّ يوم للغبييّن غارة ... تروّع ألفاظي المحجّلة الغرّا إذا عنّ لي معنى تضاحك لفظه ... كما ضاحك النّوار في روضه الغدرا غريب كسطر البرق لمّا تبسّمت ... مخائله للفكر أودعته سطرا فوجه من الفتيان يمسح وجهه ... وصدر من الأقوام يسكنه صدرا تناوله مثر من الجهل معدم ... من الحلم معذور متى خلع العذرا

فبعّد ما قرّبت منه غباوة ... وأورد ما سهلّت من لفظه وعرا لأطفأتما تلك النجوم بأسرها ... ودنّستما تلك المطارف والأزرا فويحكما هلّا بشطر قنعتما ... وأبقيتما لي من محاسنها شطرا وقوله يتظلّم منهما إلى ابن ناصر الدولة: [البسيط] يا أكرم الناس إلّا أن يعدّ أبا ... فات الكرام بآباء وآثار «1» أشكو إليك حليفي غارة شهرا ... سيف الشّقاق على ديباج أشعاري ذئبين لو ظفرا بالشّعر في حرم ... لمزّقاه بأنياب وأظفار وكلّ مسفرة الألفاظ تحسبها ... صفيحة بين إشراق وإسفار أرقت ماء شبابي في محاسنها ... حتى ترقرق فيها ماؤها الجاري كأنّها أنفس الريحان تمزجه ... صبا الأصائل من أنفاس نوّار «2» إن قلّداك بدرّ فهو من لججي ... أو ختّماك بياقوت فأحجاري «3» منها: هذا وعندي من لفظ أشعشعه ... سلافة ذات أضواء وأنوار ينشا خلال شغاف القلب إن نشأت ... ذات الحباب خلال الطين والقار «4» لم يبق لي من قريض كان لي وزرا ... على الشدائد إلّا ثقل أوزاري 104/وقوله في مثله: [الطويل]

ولا بّد أن أشكو إليك ظلامة ... وغارة مغوار سجيّته الغصب «1» تخيّل شعري أنّه قوم صالح ... هلاكا وأنّ الخالديّ له سقب «2» وكان رياضا غضّة فتكدّرت ... مواردها وأصفّر في تربها العشب غصبت على ديباجه وعقوده ... فديباجه غصب وجوهره نهب وأبكاره شتّى أذيل مصونها ... وريعت عذاراها كما روّع السّرب وقوله يخاطب أبا الخطّاب في أمر الخالديين عند رجوعهما إلى العراق: [الكامل] بكرت عليك مغيرة الأعراب ... فاحفظ ثيابك يا أبا الخطّاب «3» ورد العراق ربيعة بن مكدّم ... وعيينة بن الحارث بن شهاب أفعندنا شكّ بأنّهما هما ... في الفتك لا في صحّة الأنساب وبدائع الشعراء فيما جهّزا ... مقرونة بغرائب الكتّاب شنّا على الآداب أقبح غارة ... جرحت قلوب محاسن الآداب فحذار من حركات صلّي قفرة ... وحذار من حركات ليثي غاب لا يسلبان أخا الثراء وإنما ... يتناهبان نتائج الألباب كم حاولا أمدي فطال عليهما ... أن يدركا إلّا مثار ترابي ولقد حميت الشعر وهو لمعشر ... رمم سوى الأسماء والألقاب وضربت عنه المدّعين وإنّما ... عن حوزة الآداب كان ضرابي «4» فغدت نبيط الخالديّة تدّعي ... شعري وترفل في حبير ثيابي

قوم إذا قصدوا الملوك لمطلب ... نفضت عمائمهم على الأبواب 105/من كلّ كهل يستطيل سباله ... لونين بين أنامل البوّاب «1» مغض على ذلّ الحجاب بردّه ... دامي الجبين، تجهّم الحجّاب نظرا إلى شعري يروق فترّبا ... منه خدود كواعب أتراب شرباه فاعترفا له بعذوبة ... ولربّ عذب عاد سوط عذاب فى غارة لم تنثلم فيها الظّبا ... ضربا، ولم تند القنا بخضاب تركت غرائب منطقي في غربة ... مسبيّة لا تهتدي لإياب جرحى وما ضربت بحدّ مهنّد ... أسرى وما حملت على الأقتاب لفظ صقلت متونه فكأنّه ... في مشرقات النظم درّ سخاب «2» وإذا ترقوق في الصحيفة ماؤه ... عبق النسيم فذاك ماء شبابي جدّ يطير شراره وفكاهة ... تستعطف الأحباب للأحباب وقوله في أبي إسحاق الصابي وقد ورد عليه كتابهما بانحدار هما إلى بغداد: [الخفيف] قد أظلّتك يا أبا اسحاق ... غارة اللفظ والمعاني الدّقاق «3» فاتّخذ معقلا لشعرك يحمي ... هـ مروق الخوارج المرّاق قبل رقراقة الحديد يريق الس ... م في صفو مائه الرقراق كان شرّ الغارات في البلد ال ... قفر فأضحى على سرير العراق «4» غارة لم تكن بسمر العوالي ... حيث شنّت ولا السيوف الرقاق

بدع كالسيوف أرهفن حسنا ... وسقاهنّ رونق الطّبع ساقي مشرقات تريك لفظا ومعنى ... حمرة الحلي في بياض التراقي يالها غارة تفرّق في الحو ... مة بين الحمام والأطواق 106/والوجوه الرّقاق دامية الأب ... شار في معرك الوجوه الصّفاق منها: لتنفّست رحمة للخدود ال ... حمر منهنّ والخدود الرّشاق والرياض التى ألحّ عليها ... كاذب الوبل صادق الإحراق والنجوم التى تظلّ نجوم ال ... أرض حسّادها على الإشراق «1» بعد ما لحن في سماء المعالي ... طلّعا أو نثرن في الآفاق «2» وتخيّرت حليهنّ فلم تع ... د خيار النحور والأعناق فهو مثل المدام بين صفاء ... وبهاء ونفحة ومذاق «3» منطق يخجل الرّبيع إذا حل ... ل عليه السحاب عقد النطاق يا هلال الآداب يا ابن هلال ... صرف الله عنك صرف المحاق سوف أهدي إليك من خدم المج ... د إماء تعاف قبح الإباق كلّ مطبوعة على اسمك باد ... وسمها في الجباه والآفاق وقوله يهجو النامي «4» وكان جزارا: [الوافر]

ورقّع شعره بعيون شعري ... فشاب الشهد بالسمّ الزعاف «1» لقد شقيت بمديتك الأضاحي ... كما شقيت بغارتك القوافي لها أرج السوالف حين تجلى ... على الأسماع أو أرج السّلاف جمعن الحسنيين فمن رياح ... معنبرة وأرواح خفاف وما عدمت مغيرا منك يرمي ... رقيق طباعها بطباع جافي معان تستعار من الدّياجي ... وألفاظ تعدّ من الأثافي كأنّك قاطف منها ثمارا ... سبقت إليه إبّان القطاف 107/وشرّ الشعر ما أدّاه فكر ... تعثّر بين كدّ واعتساف سأشفي الشعر منك بنظم شعر ... تبيت له على مثل الأثافي وأبعد بالمودّة عنك عهدى ... فقف لي بالمودّة خلف قاف» وقوله يعرض بالتلعفري المؤدب: [الطويل] وكلّ غبيّ لو يباشر برده ... لظى النار أضحى حرّها وهو بارد «3» أفيقوا فلن يعطى القريض معلّم ... وهل يتولى الأغبياء عطارد ولا تمنحوا منه الكرام قلائدا ... فليس من الحصباء تهدى القلائد وقوله في مثله: [الكامل] وعلمت إذ كلّفت نفسك غايتي ... أنّ الرياح بعيدة الأشواط «4» أترومني وعلى السّماك محلّتي ... شرفا وبين الفرقدين صراطي

وقوله في رجل «1» يتعصّب للخالديين ورماه بالقيادة: [الطويل] وعندي له لو كان كفؤ قوارضي ... قوارض ينثرن الدّلاص المسرّدا «2» ومغموسة في الشّري والأري هذه ... ليردى بها باغ وتلك لترتدى «3» لك الويل إن أطلقت بيض سيوفها ... وأطلقتها خرز النواظر شرّدا ولست لجدّ القول أهلا فإنما ... أطير سهام الهزل مثنى وموحدا نصبت لفتيان البطالة قبّة ... لتدخلها الفتيان كهلا وأمردا وكم لذّة لا منّ فيها ولا أذى ... هديت لها خدن الضلالة فاهتدى منها في ذكر المائدة وسمكة مشوية: نثرت عليها البقل غضّا كأنما ... نثرت على حرّ اللجين الزبرجدا 108/ومصبوغة بالزعفران عريضة ... كأنّ على أعطافها منه مجسدا «4» تريك وقد غطّت بياضا بصفرة ... مثالا عن الكافور ألبس عسجدا «5» تحفّ بها منهم كهول وفتية ... كأنّهم عقد يحفّ مقلّدا وملت بهم من غير فضل عليهم ... إلى الورد غضّا والشراب مورّدا إذا وصلوا أضحى الخوان مدبّجا ... وإن هجروا أضحى سليبا مجرّدا «6» لك القبّة البيضاء أوضحت نهجها ... فأطلعت فيها للفتّوة فرقدا «7»

يصادف منها الزّور جيبا مزرّرا ... وباطية ملأى وظبيا مغرّدا ومنه قوله فيه وكان يعرف بالملحي: [الطويل] دعاني فغدّاني بإنشاد شعره ... فلولا انصرافي عنه متّ من الطّوى «1» وناولني مسودّة لو قرنتها ... إلى القار كانا فى سوادهما سوا وقال: أرى هذا الشراب لصفوه ... ورقته كالنجم قلت: إذا هوى وفضّل في الشعر امرأ غير فاضل ... فقلت له أمسك نطقت عن الهوى ومنه قوله فيه: [الوافر] وشيخ طاب أخلاقا فأضحى ... أحبّ إلى الشباب من الشباب «2» له قفص إذا استخفيت فيه ... أمنت فلم تنلك يد الطّلاب «3» طرقناه وقنديل الثريا ... يحطّ وفارس الظلماء كابي فرحبّ واستمال وقال: حطّت ... رحالكم بأفنية رحاب وحضّ على المناهدة الندامى ... بألفاظ مهذّبة عذاب وقال: تيمّموا الأبواب منها ... فكلّ جاء من تلقاء باب 109/فهذا قال: قدر من طعام ... وهذا قال: دنّ من شراب وهذا قال: ريحان ونقل ... وثلج مثل رقرقة السّراب وسمح القوم من سمحت يداه ... بخدّ غريرة بكر كعاب فتمّ لهم بذلك يوم لهو ... غريب الحسن عذب مستطاب

إذا العبء الثقيل توزّعته ... أكفّ القوم خفّ على الرقاب «1» ومنه قوله فيه: [مجزوء الرمل] مجلس فيه لأربا ... ب الخنا قال وقيل «2» وضراط مثلما انشق ... ق الدّبيقي الصقيل «3» فإذا اختالت خلال الش ... شرب عذراء شمول لعبت أيد لها أق ... فية القوم طبول ومنه قوله فيه: [المنسرح] تطنّ تحت الأكفّ هامته ... إذا علتها طنين فولاذ «4» وخير ما فيه أنّه رجل ... يخدمني الدّهر وهو أستاذي إذا انتشى أقبلت أنامله ... تنشر ميتا خلال أفخاذي «5» وقوله فيه وقد دعاه في يوم حار وأطعمه هريسة وسقاه نبيذ الدّبس: [الطويل] دعانا ليستوفي الثناء فأظلمت ... خلائق تستوفي لصاحبها السّبا «6» وأحضرنا محبوسة طول ليلها ... معذّبة بالنار مسعرة كربا تخيّر من رطب الذؤابة لحمها ... ومن يابس الحبّ الثقيل لها حبّا «7»

وساهرها ليلا يضيّق سجنها ... فلما أضاء الصبح أوسعها ضربا إذا مسحتها الريح راحت كأنّها ... تمسّح موتى كشّفت عنهم التّربا وداذيّة تنهى الصباح إذا بدا ... وتفسد أنفاس النسيم إذا هبّا 110/شراب يفضّ الطين عنه وعمره ... ثلاثة أيام وقد شبّ لا شبّا يمدّ بأطراف النهار وما افترى ... ولا كان خدنا للزناة ولا تربا فلمّا ترايت الجميع إزاءنا ... عجبت لمضروبين ما جنيا ذنبا «1» ومنه قوله: [الخفيف] فاغد سرّا بنا إلى قفص المل ... حيّ فالعيش فيه نضير «2» نتوارى من الحوادث والده ... ر خبير بمن توارى بصير مجلس في فناء دجلة ير ... تاح إليه الخليع والمستور «3» طائر فى الهواء فالبرق يسري ... دون أعلاه والحمام يطير وإذا الغيم سار أسبل منه ... كلل دون جدره وستور وإذا غارت الكواكب صبحا ... فهو الكواكب الذي لا يغور ليس فيه إلّا خمار وخمر ... وممات من سكره ونشور وحديث كأنّه زهر المنث ... ور حسنا ولؤلؤ منثور «4» وجريح من الدّنان يسيل الر ... راح من جرحه وقدر تفور ولك الظّبية الغريرة إن شئ ... ت وإن عفتها فظبي غرير

فتمتّع بما تشاء نهارا ... ثم بت معرسا وأنت أمير «1» كلّ هذا بدر همين فإن زد ... دت فأنت المبجّل الموفور ومنه قوله في الغزل وهو ممّا غنّي به: [البسيط] ورحت في الحسن أشكالا مقسّمة ... بين الهلال وبين الغصن والعقد «2» 111/أريتني مطرا ينهلّ ساكبه ... من الجفون وبرقا لاح من برد ووجنة لا يروّي ماؤها ظمأ ... نجلّا وقد لذعت نيرانها كبدي فكيف أبقي على ماء الشؤون وما ... أبقى الغرام على صبري ولا جلدي ومنه قوله: [الوافر] أبيت الليل مرتفقا أنادي ... بصدق الوجد كاذبة الأماني «3» فتشهد لي على الأرض الثريا ... ويعلم ما أجنّ الفرقدان «4» إذا دنت الخيام بهم فأهلا ... بذاك الخيم والخيم الدواني فبين سجوفها أقمار تمّ ... وبين عمادها أغصان بان ومذهبة الخدود بجلنار ... مفضضة الثغور بأقحوان سقانا الله من ريّاك ريّا ... وحيّانا بأوجهك الحسان ستصرف طاعتي عمن نهاني ... دموع فيك تلحي من لحاني ولم أجهل نصيحته ولكن ... جنون الحبّ أحلى من جناني فياولع العواذل خلّ عنيّ ... ويا إلف الغرام خذي عناني «5»

وقوله: [البسيط] ومن وراء سجوف الرّقم شمس ضحى ... تجول في جنح ليل مظلم داجي «1» مقدودة خطرت أيدي الشباب لها ... حقّين دون مجال العقد من عاج وقوله: [الخفيف] لطمت خدّها بحمر لطاف ... نال منها عذاب بيض عذاب «2» فتشكّى العنّاب نور الأقاحي ... واشتكى الورد ناضر العنّاب وقوله: [مجزوء الكامل] قامت وخوط البانة ال ... ميّاس في أثوابها «3» 112/ويهزّها سكران: سك ... ر شرابها وشبابها تسعى بصهباوين ... من ألحاظها وشرابها فكأنّ كأس مدامها ... لما ارتدت بحبابها توريد وجنتها إذا ما ... لاح تحت نقابها وقوله: [الكامل] لبست مصندلة الثياب فمن رأى ... صنما تسربل قبلها أثوابا» وحكت عن الظبي الغرير ثلاثة ... جيدا وطرفا فاتنا وإهابا «5» وقوله: [الكامل]

أسلاسل البرق الذي لحظ الثرى ... وهنا فوشّح روضه بسلاسل «1» أذكرتنا النشوات في عهد الصّبا ... والعيش في سنة الزمان الغافل «2» أيام أستر صبوتي من كاشح ... عمدا وأسرق لذّتي من عاذل وقوله: [الوافر] تثنّى البرق يذكرني الثنايا ... على أثناء دجلة والشعابا «3» وأياما عهدت بها التّصابي ... وأوطانا صحبت بها الشبابا وقوله: [الطويل] فكم ليلة شمّرت للراح رائحا ... وبتّ لغزلان الصّريم مغازلا «4» وحلّيت كأسي والسماء بحليها ... فما عطّلت حتى بدا الأفق عاطلا وقوله فى قصيدة يتشوّق بها إلى الموصل وهو بحلب: [الكامل] أم هل أرى القصر المنيف معمّما ... برداء غيم كالرداء رقيق وقلالي الدّير التي لولا النّوى ... لم أرمها بقلى ولا بعقوق «5» محمّرة الجدران ينفح طيبها ... فكأنها مبنيّة بخلوق 113/منها: يتنازعون على الرحيق غرائبا ... يحسبن زاهرة كؤوس رحيق صدرت عن الأفكار وهي كأنها ... رقراق صادرة عن الراووق

منها: دهر ترفّق بي فوافى صرفه ... وسطا عليّ فكان غير رفيق «1» فمتى أزور قباب مشرفة الذّرى ... فأرود بين النّسر والعيّوق وأرى الصوامع في غوارب أكمها ... مثل الهوادج في غوارب نوق حمرا يلوح خلالها بيض كما ... فصّلت بالكافور سمط عقيق وقوله فى حسن التخلّص «2» : [الكامل] عصر مزجت شمائلي بشموله ... وظلاله ممزوجة بشماله «3» حتى حسبت الورد من أشجاره ... يجنى أو الريحان من آصاله «4» وكأنّني لمّا ارتديت ظلاله ... جار الوزير المرتدي بظلاله وقوله: [الكامل] أكني عن البلد البعيد بغيره ... وأردّ عنه عنان قلب مائل «5» وأودّ لو فعل الحيا بسهوله ... وحزونه فعل الأمير بآمل وقوله: [الكامل] وركائب يخرجن من غلس الدّجى ... مثل السهام مرقن منه مروقا «6» والفجر مصقول الرداء كأنّه ... جلباب خود أشربته خلوقا «7»

أغمامة بالشام شمن بروقها ... أم شمن من شيم الأمير بروقا «1» وقوله: [المتقارب] ترى البرق يبسم سرّا بها ... إذا انتحب الرّعد فيها جهارا «2» إذا ما تنمّر وسمّيها ... تعصفر بارقها فاستطارا 114/يعارضها في الهواء النّسيم ... فينثر في الأرض درّا صغارا فطورا يشقّ جيوب الحياء ... وطورا يسحّ الدموع الغزارا كأنّ الأمير أعار الرّبا ... شمائله فاشتملن المعارا وقوله: [البسيط] أقول للمبتغي إدراك سؤدده ... خفّض عليك فليس النّجم مطلوبا «3» كم من جبين أزار السيف صفحته ... فعاد طرسا بحدّ السيف مكتوبا «4» وكم له في الوغي من طعنة نظمت ... عداه أو نثرت رمحا أنابيبا وقوله: [الكامل] كالغيث يحيي إن همى والسّيل ير ... وي إن طمى والدهر يصمي إن رمى «5» شتّى الخلال يروح إمّا سالبا ... نقم العدى قسرا وإما منعما مثل الشهاب أصاب فجّا معشبا ... بحريقه وأصاب فجّا مظلما

أو كالغمام الجود إن بعث الحيا ... أحيا وإن بعث الصواعق ضرّما «1» أو كالحسام إذا تبسّم متنه ... عبس الرّدى في حدّه فتجّهما ويلمّ من شعث العلى بشمائل ... أحلى من اللّعس الممنّع واللّمى «2» وقوله: [الكامل] نسب أضاء عموده في رفعة ... كالصّبح فيه ترفّع وضياء «3» وشمائل شهد العداة بفضلها ... والفضل ما شهدت به الأعداء وقوله: [البسيط] والبيض ظلّ عليك الدّهر منتشر ... والنقع جيب عليك الدّهر مزرور «4» 115/والشرك قد هتكت أستار بيضته ... بحدّ سيفك والإسلام منشور كم وقعة لك شبّت في ديارهم ... نارا وأشرق منها في الهدى نور وقوله: [البسيط] وعاشق خيلاء الخيل مبتذل ... نفسا تصان المعالي حين تبتذل «5» أشمّ تبدي الحصون الشمّ طاعته ... خوفا فيسلم من فيها ويرتحل تشوقه ورماح الخطّ مشرعة ... نجل الجراح بها لا الأعين النجل كأنّه وهجير الروع يلفحه ... نشوان مدّ عليه ظلّه الأسل «6»

فالصافنات حشاياه وإن قلقت ... والسابغات وإن أوهت له حلل لمّا تمزّقت الأغماد عن شغل ... تمزّقت عن سنا أقمارها الكلل أكرم بسيفك فيها صائلا غزلا ... يفري الشؤون ويثني غربه المقل «1» وقوله: [الكامل] ولربّ يوم لا تزال جياده ... تطأ الوشيج مخضّبا ومحطّما «2» معقودة غرر الجياد بنقعه ... وحجولها ممّا تخوض من الدّما يلقاك من وضح الحديد موضّحا ... طورا ومن رهج السنابك أدهما أقدمت تفترس الفوارس جرأة ... فيه وقد هاب الردّى أن يقدما والنّدب من لقي الأسنّة سافرا ... وثنى الأعنّة بالعجاج معمّما «3» وقوله: [الوافر] وأغلب عامه في السّلم يوم ... ولكن يومه في الحرب عام «4» يهجّر والرماح عليه ظل ... ويسفر والعجاج له لثام 116/وقوله: [الكامل] جيش إذا لاقى العدوّ صدوره ... لم يلق للأعجاز منه لحوقا «5» حجبت له شمس النهار وأشرقت ... شمس الحديد بجانبيه شروقا وقوله: [الكامل]

كم معرك عرك القنا أبطاله ... فسقاهم في النّقع سمّا ناقعا «1» هبّت رياحك في ذراه سمائما ... وغدت سماؤك تستهلّ فجائعا فتركت من حرّ الحديد مصائغا ... فيه ومن فيض الدّماء مراتعا وقوله: [الرمل] والضّحى أدهم بالنّقع فإن ... ضحكت فيه الظّبا كان أغر «2» موقف لو لم يكن نارا إذا ... لم يكن زرق عواليه شرر وقوله في العتاب: [المتقارب] أتسلمني بعد أن رحت لي ... على نوب الدّهر جارا مجيرا» وأسفر حظّي لما رآ ... ك بيني وبين الليالي سفيرا سأهدي إليك نسيم العتاب ... وأضمر من حرّ عتب سعيرا وقوله يعاتب صديقا أفشى له سرّا: [الطويل] رأيتك تبري للصدّيق نوافذا ... عدوّك من أمثالها الدّهر آمن «4» وتكشف أسرار الأخلّاء مازحا ... ويا ربّ مزح راح وهو ضغائن «5» سأحفظ ما بيني وبينك صائنا ... عهودك إنّ الحرّ للعهد صائن وألقاك بالبشر الجميل مداهنا ... فلي منك خلّ ما علمت مداهن أنمّ بما استودعته من زجاجة ... ترى الشيء فيها ظاهرا وهو باطن

117/وقوله في مثله: [الوافر] ثنتني عنك فاستشعرت هجرا ... خلال فيك لست لها براضي «1» وأنّك كلّما استودعت سرّا ... أنمّ من النسيم على الرياض وقوله: [البسيط] أمانك السيف لا يبقى له أثر ... وأنت كالصّلّ لا تبقي ولا تذر «2» سرّي إليك كأسرار الزجاجة لا ... يخفى على العين منها الصّفو والكدر فاحذر من الشّعر كسرا لا انجبار له ... فللزجاجة كسر ليس ينجبر وقوله: [البسيط] أستودع الله خلّا منك أوسعه ... ودّا فيوسعني غشّا وتمويها «3» كأنّ سرّي في أحشائه لهب ... فما تطيق له طيّا حواشيها قد كان صدرك للأسرار جندلة ... ضنينة بالذي تخفي نواحيها فعاد من بثّ ما استودعت جوهرة ... رقيقة تستشفّ العين ما فيها «4» وقوله: [الكامل] لا تأنفنّ من العتاب وقرصه ... فالمسك يسحق كي يزيد فضائلا «5» ما أحرق العود الذي أشبهته ... خطأ ولا غمّ البنفسج باطلا وقوله في الربيع وآثاره ونواّره وأزهاره: [البسيط]

أما ترى الجوّ يجلى في ممسّكة ... والأرض تختال في أبرادها القشب «1» إذا ألحّ حسام البرق مؤتلقا ... في الومض جدّ خطيب الرّعد في الخطب «2» والريح وسنى خلال الروض وانية ... فما يراع لها مستيقظ التّرب «3» وقوله: [الرمل] شاقني مستشرف الدّير وقد ... راح صوب المزن فيه وبكر «4» 118/أهواء رقّ في جانبه ... أم هوى راق فما فيه كدر «5» وخدود سفرت عن وردها ... أم ربيع عن جنى الورد سفر مجلس ينصرف الشّرب وما ... طويت من بسطة تلك الحبر وكأنّ الشمس فيه نثرت ... ورقا ما بين أوراق الشجر «6» بين غدر يقع الطير بها ... فتراهنّ رياضا في غدر ونسيم وكره الروّض فإن ... طار في الصّبح ارتديناه عطر «7» وثرى يشهد بالطيب له ... عبق حالف أطراف الأزر وغيوم نشرت أعلامها ... فلها ظلّ علينا منتشر وقوله: [الكامل]

وحدائق يسبيك وشي برودها ... حتى تشبّهها سبائب عبقر «1» يجري النسيم خلالها وكأنّما ... غمست فضول ردائه في العنبر باتت قلوب المحل تخفق بينها ... بخفوق رايات السحاب الممطر «2» من كلّ نائي الحجرتين مولّع ... بالبرق داني الظلّتين مشهّر «3» تحدى بألسنة الرّعود عشاره ... فتسير بين مغرّد ومزمجر طارت عقيقة برقه فكأنّما ... صدعت ممسّك غيمه بمعصفر وقوله من أرجوزة في روض وغدير وطير الماء: [الرجز] وضاحك الروض محلّى المنزل «4» ... سبط هبوب الريح جعد المنهل موشّح بالنور أو مكلّل ... مفروجة حلّته عن جدول أقبل قد غصّ بمدّ مقبل ... والطير تنقضّ عليه من عل 119/تساقط الوشي على المصندل وقوله: [السريع] لو رحّبت كأس بذي زورة ... لرحّبت بالورد إذ زارها «5» جاء فخلناه خدودا بدت ... مضرمة من خجل نارها وعطّر الدنيا فطابت به ... لا عدمت دنياك عطّارها وقوله: [الرجز]

وصاحب يقدح لي ... نار السرور في القدح «1» في روضة قد لبست ... من لؤلؤ الطلّ سبح والجوّ في ممسّك ... طرازه قوس قزح يبكي بلا حزن كما ... يضحك من غير فرح وقوله: [المتقارب] غيوم تمسّك أفق السّما ... وبرق يكتّبها بالذّهب «2» وخضراء ننثر فيها الندى ... فريد ندى ماله من ثقب وأنوارها مثل نظم الحلي ... وأنهارها مثل بيض القضب حللت بها في ندامى سلوا ... عن الجدّ واشتهروا باللّعب «3» وأغنتهم عن بديع السّماع ... بدائع ما ضمنّته الكتب «4» وأحسن شيء ربيع الحيا ... أضيف إليه ربيع الأدب وقوله في البرد: [مجزوء الوافر] يوم خلعت به عذاري ... فعريت من حلل الوقار «5» وضحكت فيه إلى الصبّا ... والشيب يضحك في عذاري «6» 120/متلوّنا يبدي لنا ... طرفا بأطراف النهار فهواؤه سكب الرّدا ... ء وغيمه صافي الإزار

يبكي فيجمد دمعه ... والبرق يكحله بنار «1» وقوله في الخمر: [الطويل] إذا ما مضى يوم من العيش صالح ... فصله بيوم صالح العيش مرغد «2» وحالية من حسنها وجمالها ... وإن برزت عطل الشّوى والمقلّد تعاطيك كأسا غير ملأى كأنّما ... فواقعها أحداق درع مزرّد كأنّ أعاليها بياض سوالف ... تلوح على توريد خدّ مورّد «3» وقوله في مثله: [الطويل] وصفراء من ماء الكروم شربتها ... على وجه صفراء الغلائل غضّة «4» تبدّت وفضل الكأس يلمع فوقها ... كأترجة زينت بإكليل فضّة وقوله في مثله: [المتقارب] دعانا إلى اللهو داعي السّرور ... فبتنا نبوح بما في الصدور «5» وطافت علينا بشمس الدّنا ... ن في غسق الليل شمس الخدور «6» كأنّ الكؤوس وقد كلّلت ... بفضلاتهنّ أكاليل نور جيوب من الوشي مزرورة ... يلوح عليها بياض النّحور وقوله: [المنسرح]

وفتية دارت السّعود بهم ... فدار للراح بينهم فلك» بتنا وضوء الكؤوس يهتك بال ... إشراق ستر الدّجي فينهتك 121/يدني الثريا والبدر في قرن ... كما يحيّا بنرجس ملك «2» وقوله: [المنسرح] قم فاسقني والخليج مضطرب ... والريح تثني ذوائب القضب «3» كأنّها والرياح تعطفها ... صفّ قنى سندسيّة العذب والجوّ في حلّة ممسّكة ... قد طرّزتها البروق بالذّهب وقوله: [البسيط] أما ترى الليل قد ولّت عساكره ... وأقبل الصبح في جيش له لجب «4» وجدّ في أثر الجوزاء يطلبها ... في الجوّ ركض هلال دائم الطّلب كصولجان لجين في يدي ملك ... أدناه من كرة صيغت من الذّهب فقم بنا نصطبح صفراء صافية ... كالنار لكنّها نار بلا لهب عروس كرم أتت تختال في حلل ... صفر على رأسها تاج من الحبب وقوله: [الخفيف] وسحاب إذ همى الماء فيه ... ألهب الرعد في حشاه البروقا «5» مثل ماء العيون لم يجر إلّا ... ظلّ يذكي على القلوب حريقا

وقوله: [الخفيف] جوهريّ الأوصاف يقصر عنه ... كلّ وصف لكلّ ذهن رقيق «1» شارب من زبرجد وثنايا ... لؤلؤ فوقها فم من عقيق وقوله: [السريع] صوّره خالقه جامعا ... لكلّ شيء حسن جامع «2» فكلّ حسن في جميع الورى ... مختصر من ذلك الجامع 122/وقوله: [المنسرح] عشقت من لا ألام فيه ولا ... يخلو من اللّوم كلّ من عشقا «3» رأي الورى في سواه مختلف ... وأنت تلقاه فيه متّفقا فكلّ قلب إليه منصرف ... كأنّه من جميعها خلقا وقوله: [الخفيف] زارني في دجى الظلام البهيم ... قمر بات مؤنسي ونديمي «4» بحديث كأنّه عودة الصحّة ... في الجسم بعد يأس السقيم يتلّقى القلوب منه قبول ... كتلقّي المخمور برد النسيم وقوله: [مجزوء الكامل] لا تلفينّ مقارنا ... من لا يزين من الصّحاب «5»

فالثوب ينفض صبغه ... فيما يليه من الثياب وقوله: [السريع] ريق إذا ما ازددت من شربه ... ريّا ثناني الريّ ظمآنا «1» كالخمر أروى ما يكون الفتى ... من شربها أعطش ما كانا وقوله: [الخفيف] حملت كفّه إلى شفتيه ... كأسه والظلام مرخيّ الإزار «2» فالتقى لؤلؤا حباب وثغر ... وعقيقان من فم وعقار وفيه: [الطويل] وصفراء من ماء الكروم كأنّها ... فراق عدوّ أو لقاء صديق «3» كأنّ الحباب المستدير بطوقها ... كواكب درّ في سماء عقيق صببت عليها الماء حتى تعوضّت ... قميص بهار في قميص شقيق وقوله وقد شرب ليلة في زورق: [الطويل] ومعتدل يسعى إليّ بكأسه ... وقد كاد ضوء الصّبح بالليل يفتك «4» 123/وقد حجب الغيم السماء كأنّما ... يزرّ عليها منه ثوب ممسّك ظللنا نبثّ الوجد والكأس دائر ... ونهتك أستار الهوى فتهتّك ومجلسنا في الماء يهوي ويرتقي ... وإبريقنا في الكأس يبكي ويضحك

وقوله: [المتقارب] وساق يقابل إبريقه ... كما قابل الظبي ظبيا ربيبا «1» يطوف علينا بشمسّية ... يروع لها الشمس حتى تغيبا وقوله: [المتقارب] وملآن من عبرات الكروم ... كأنّ على فمه عصفرا «2» إذا قرّبته أكفّ السّقاة ... من الكأس قهقه واستعبرا تروّحه عذبات الغرام ... بريّا النسيم إذا ما جرى وريم إذا رام حثّ الكؤو ... س قطّب للتيه واستكبرا وجرّد من طرفه خنجرا ... ومن نون طرّته خنجرا ترى ورد وجنته أحمرا ... وريحان شاربه أخضرا وقوله يذكر ليلة قطعها، وبالشمع لمّعها، وهى قطعة اطّردت كعوبها، وخلت من حشو يعيبها، فأثبتناها لا تّساقها وتناسب مساقها: [المتقارب] كستك الشبية ريعانها ... وأهدت لك الراح ريحانها «3» فدم للنّديم على عهده ... وغاد المدام وندمانها فقد خلع الأفق ثوب الدّجى ... كما نضت البيض أجفانها 124/وساق يواجهني وجهه ... فتجعله العين إنسانها «4» يتّوج بالكأس كفّ النديم ... إذا نظم الماء تيجانها

فطورا يوشّح ياقوتها ... وطورا يرصّع عقيانها رميت بأفراسيها حلبة ... من اللهو ترهج ميدانها ودير شغفت بغزلانه ... فكدت أقبّل صلبانها ولمّا دجا الليل فرّجته ... بروح تحيّف جثمانها بشمع أعير قدود الرّماح ... وسرج ذراها وألوانها غصون من التّبر قد أزهرت ... لهيبا يزيّن أفنانها فيا حسن أرواحها في الدّجى ... وقد أكلت فيه أبدانها سكرت بقطربّل ليلة ... لهوت فغازلت غزلانها «1» وأيّ ليالي الهوى أحسنت ... إليّ فأنكرت إحسانها وقوله: [البسيط] أما ترى الصّبح قد قامت عساكره ... في الشرق تنشر أعلاما من الذّهب «2» والجوّ يختال في حجب ممسّكة ... كأنّما البرق فيها قلب ذي رعب تجنّبتك صروف الدهر فانصرفت ... وقابلتك سعود العيش عن كثب فاخلع عذارك واشرب قهوة مزجت ... بقهوة الفلج المعشوق والشنب «3» فالعيش في ظلّ أيام الصّبا فإذا ... ودّعت طيب الشباب الغضّ لم يطب جريت في حلبة الأهواء مجتهدا ... وكيف أقصر والأيام في طلبي توّج بكأسك قبل النائبات يدي ... فالكأس تاج يد المثري من الأدب 125/وقوله: [البسيط]

في حامل الكأس من بدر الدّجى خلف ... وفى المدامة من شمس الضّحى عوض «1» كأن نجم الثريّا كفّ ذي كرم ... مبسوطة للعطايا ليس تنقبض دارت علينا كؤوس الراح مترعة ... وللدّجى عارض في الجوّ معترض «2» حتى رأيت نجوم الليل غائرة ... كأنهنّ عيون حشوها مرض «3» وقوله يصف ظلّ كرم: [الطويل] فلا عيش إلّا في اعتصام بقهوة ... يروح الفتى منها خضيب المعاصم «4» ولا ظلّ إلا ظلّ كرم معرش ... تغنّيك من قطريه ورق الحمائم سماء غصون تحجب الشمس أن ترى ... على الأرض إلّا مثل نثر الدراهم وقوله: [البسيط] حثّا المدام فذا يوم به قصر ... وما به عن تمام الحسن تقصير «5» صحو وغيم يروق العين حسنهما ... فالصحّو فيروزج والغيم سمّور وقوله: [الطويل] وبكر شربناها على الورد بكرة ... فكانت لنا وردا إلى ضحوة الغد «6» إذا قام مبيض اللباس يديرها ... توهّمته يسعى بكمّ مورّد وقوله: [الطويل] وشعث دنان خاويات كأنّها ... صدور رجال فارقتها قلوبها «7»

فسقياك لا سقيا السحاب فإنّما ... هي العلّة الكبرى وأنت طبيبها «1» وقوله: [مجزوء الوافر] أرقت دمي وأعوزني ... سليل الكرم والكرم «2» ولست أسيغها إلّا ... كلون الورد والعنم فشيئا من دم العنقو ... د أجعله مكان دمي 126/وقوله إلى صديق له في يوم شديد الثلج والبرد: [الطويل] طرقتك ممتاحا وليس لطارق ... يرومك من وقع الضّريب طريق «3» جنوب تحث المزن حثّا وشمال ... يعبّس منها الوجه وهو طليق وضدّ حريق ألبس الأرض ثوبه ... يخاف على الأقدام منه حريق «4» تثير الصّبا في الجوّ منه عجاجة ... كما انتثر الكافور وهو سحيق وما انفكّ حرّ القرّ إلّا بقهوة ... ترقرق فى كاساتها فتروق» إذا ألبست أثوابها فعقيقة ... وإن نشرت أنفاسها فخلوق تدور علينا كأسها في غلائل ... تردّ صفيق العيش وهو رقيق «6» فألبس منها جبّة حين أنتشي ... وأخلعها بالكره حين أفيق «7»

وإنّي خليق من نداك بمثلها ... وأنت بما أمّلت منك خليق «1» وقوله في الاستزارة يدعو صديقا ويصف غرفة والنهر والقدر والكانون والخمر: [المتقارب] لنا غرفة حسنت منظرا ... وطابت لساكنها مخبرا «2» ترى العين قدّامها روضة ... ومن فوقها عارضا ممطرا «3» وينساب ما بينها جدول ... كما ذعر الأيم أو نفّرا «4» وراح كأنّ نسيم الصّبا ... تحمّل من نشرها العنبرا وعندي ريم قليل المكاس ... وندمان صدق قليل المرا «5» ودهماء تهدر هدر الفنيق ... إذا ما امتطت لهبا مسعرا «6» تجيش بأوصال وحشيّة ... رعت زهرات الرّبا أشهرا 127/كأنّ على النار زنجيّة ... تفرّج بردا لها أصفرا وذو أربع لا يطيق النهوض ... ولا يألف السّير فيمن سرى نحمّله سبجا أسودا ... فيجعله ذهبا أحمرا فشمّر إلى لذّة ترتضى ... فإنّ أخا الجدّ من شمّرا وقوله: [المنسرح] لم ألق ريحانة ولا راحا ... إلّا ثنتني إليك مرتاحا «7»

وعندنا ظبية مهفهفة ... ترأم ريما يحنّ صدّاحا «1» وفتية إن تذاكروا ذكروا ... من الكلام المليح أرواحا وقد أضاءت نجوم مجلسنا ... حتى اكتس غرّة وأوضاحا إن خمدت راحنا غدت ذهبا ... أو ذاب تفاحنا غدا راحا «2» عصابة إن حضرت مجلسهم ... كنت شهابا له ومصباحا «3» أغلق باب السرور دونهم ... فكن لباب السرور مفتاحا وقوله يدعو صديقا ويصف كانون نار: [المنسرح] يوم رذاذ ممسّك الحجب ... يضحك فيه السرور عن كثب «4» ومجلس أسبلت ستائره ... على شموس البهاء والحسب وقد جرت خيل راحنا خببا ... في حلبة أو هممن بالخبب «5» والتهبت نارنا فمنظرها ... يغنيك عن كلّ منظر عجب إذا ارتمت بالشّرار واطّردت ... على ذراها مطارد اللهب رأيت ياقوتة ممسّكة ... يطير عنها قراضة الذّهب «6» 128/فصر إلى المجلس الذي ابتسمت ... فيه رياض الجمال والأدب وقوله: [الكامل]

نفسي فداؤك كيف تصبر طائعا ... عن فتية مثل البدور صباح «1» حنّت نفوسهم إليك فأعلنوا ... نفسا يعلّ مسالك الأرواح «2» وغدوا لراحهم وذكرك بينهم ... أذكى وأطيب من نسيم الراح فإذا جرت حببا على أيديهم ... جعلوه ريحانا على الأقداح وقوله: [الوافر] ألا عدلي بباطية وكاس ... وزع همّي بإبريق وطاس «3» وذاكرني بشعر أبي فراس ... على روض كشعر أبي نواس وغيم مرهفات البرق فيه ... عوار والرياض به كواس وقد سلّت جيوش الفطر فيه ... على شهر الصيام سيوف باس فلاح لنا الهلال كشطر طوق ... على لبّات زرقاء اللّباس وقوله: [المنسرح] أما ترى الهلال ترمقه ... قوم لهم إن رأوه إهلال «4» كأنّه قيد فضّة حرج ... فضّ عن الصائمين فاختالوا وقوله: [الكامل] وبساط ريحان كماء زبرجد ... عبثت بصفحته الجنوب فأرعدا «5» يشتاقه الشّرب الكرام فكلّما ... مرض النسيم سروا إليه عوّدا

وقوله في طبل العزف: [مجزوء الكامل] 129/ومقيد الطّرفين يط ... رب عند تضييق القيود «1» ولقد يلطّم خدّه ... في حال ترفيه الخدود وكأنّما زأراته ... يحسبن زأرات الأسود انظر إليه مع المدا ... م ترى بروقا في رعود وقوله يصف المنثور: [الكامل] ومجرّد كالسّيف أسلم نفسه ... لمجرّد يكسوه مالا ينسج «2» ثوب تمزّقه الأنامل رقّة ... ويذيبه الماء القراح فيبهج فكأنّه لمّا استوى في خصره ... نصفان ذا عاج وذا فيروزج «3» وقوله في وصف الديك: [الكامل] كشف الصّياح قناعه فتألّقا ... وسطا على [الليل] البهيم فأطرقا «4» «5» وعلا فلاح على الجدار موشّح ... بالوشي توّج بالعقيق وطوّقا مرخ فضول التاج في لبّاته ... ومشمّر وشيا عليه منمّقا وقوله يصف كلاب الصيد: [الطويل] غدوت بها مجنوبة في اغتدائها ... تلاقي الوحوش الحين عند لقائها «6»

لهنّ شيات كالدواويج أصبحت ... مولّعة ظلماؤها بضيائها «1» وأيد إذا سلّت صوالج فضة ... على الوحش يوما ذهّبت بدمائها وقوله في مثله: [الطويل] كأنّ جلود الوحش بين كلابها ... وقد دميت أجيادها والمعاطس «2» مصندلة القمصان شقّت جيوبها ... ورقرق فيهنّ العبير العرائس «3» 130/وقوله في وصف قدر: [مخلع البسيط] يلعب في جسمها لهيب ... لعب سنا البرق في الظلام «4» لها كلام إذا تناهت ... غير فصيح من الكلام وهي وإن لم تذق طعاما ... مملوءة الجسم من طعام «5» كأنّما الجنّ ركّبتها ... على ثلاث من الإكام ولم يزل مالنا مباحا ... من غير ذلّ ولا اهتضام نأخذ للقوت منه سهما ... وللنّدى سائر السّهام وقوله في حمل مشوي: [الرّجز] أنعته معصفر البردين» ... أبيض صافي حمرة الجنبين «7»

فجسمه شبران في شبرين ... يا حسنه وهو صريع الحين بين ذراعين مفصّلين ... كسارق حدّ من اليدين وطرف مستوقف الطّرفين ... كمثل مرآة من اللجين «1» مذهبة المقبض والوجهين ... بكف شاو عطر اليدين «2» شقّ حشاه عن شقيقتين ... أختين في القدّ شبيهتين كما قرنت بين كمأتين ... أو كرتي مسك لطيفتين وقوله في وصف جام فالوذج: [الطويل] بأحمر مبيّض الزّجاج كأنه ... رداء عروس مشرب بخلوق «3» 131/له في الحشا برد الوصال وطيبه ... وإن كان يلقاه بلون حريق كأنّ بياض اللّوز في جنباته ... كواكب لاحت في سماء عقيق وقوله في وصف الفقاع: [المنسرح] يطير عن رأسه القناع إذا ... نفّست عنه خناق مقرور «4» رام بسهم كأنّه خصر ... وطيب نشر نسيم كافور يميل أعلاه وهو مهتضب ... كأنّه صولجان بلّور وقوله في وصف طبيب: [السريع] أوضح نهج الطبّ في حذقه ... فراح يدعى وراث العلم «5»

كأنّه في لطف أفكاره ... يحول بين الدّم واللحم وقوله في مثله: [الكامل] أحيا لنا رسم الفلاسفة الذي ... أودى وأوضح رسم طبّ عاف «1» مثلت له قارورتي فرأى بها ... ما اكتنّ بين جوانحي وشغافي يبدو له الداء الخفيّ كما بدا ... للعين رضراض الغدير الصافي وقوله فى وصف مزيّن: [المتقارب] إذا لمع البرق في كفّه ... أفاض على الوجه ماء النّعيم «2» جهول الحسام ولكنّه ... يروح ويغدو بكفّي حليم له راحة سرّها راحة ... تمرّ على الرأس مرّ النسيم «3» نعمنا بخدمته مذ نشا ... فنحن به في نعيم مقيم وقوله: [الطويل] بنفسي من ردّ التحية ضاحكا ... فجدّد بعد البأس في الوصل مطمعي «4» 132/وحالت دموع العين بيني وبينه ... كأن دموع العين تعشقه معي وقوله: [المنسرح] حيّا بك الله عاشقيك فقد ... أصبحت ريحانة لمن عشقا «5»

وقوله: [الطويل] يلوح على الكاسات فاضلها كما ... تلوح على حمر الخدود السوالف «1» وقوله: [الرجز] قد أغتدي نشوان من خمر الكرى «2» ... أجرّ برديّ على برد الثرى والصبح حمل بين أحشاء الدّجى

3 - أبو الفتح، ولقب كشاجم

ومنهم: 3- أبو الفتح، ولقّب كشاجم «1» لخمسة فنون كان يحسنها، ويأخذ منها بطرف جيّد وإن كان لا يتقنها، فكان كاتبا بذّ، وشاعرا من ذاق شعره استلذّ، وأديبا أدبه مثل قطع السّحاب إذا رذّ، وجدليّا ما أخذ بطرف مباحث إلّا جذّ، ومنجّما أتقن أحكام النجوم إلّا ما شذّ، هذا على أنّه إنّما يتقن نكته الأدبية فإنّها النجوم الزاهرة، ويتكلّم بالعلوم الباطنة على أحكامها الظاهرة، وكان طبّاخا مجيدا لا تعدّ ألوانه «2» ، ولا يمدّ الّا بين سماطي الملوك خوانه، وله بدائع في وصف المواقد والنيران وألوان الطعام، ولم يحضرني في هذا الوقت ولا ديوانه، وإنّما غلب عليه الشعر حتى عرف به دون بقية ما يعرفه، واشتهر بنقده ممّا كان مثل الذهب الإبريز يصرفه بلطف لو دبّ ماؤه في الخدود لصبغها، أو جال في مراشف الكؤوس لسوّغها، وكتب فأراش السهام وبراها، وطيّب الأفهام فأبراها، وصبّ الأقلام في نحور الرماح فدراها، وأصدر الأعلام إلى مواقف النّصرة كأنّه على معاقد البنود قراها ببصيرة درّية، وبديهية على اختلاف المعاني جرّية، ومسدّدات من الآراء يزيل بها الظنون شبهها/ 133 وتستحلب النّعم سبهها لإدارة تجلو عن مقل الأسنّة مرمها، وسعادة كانت تأتيه من قبل أمور كثيرة ولو كرهها، فهو لجّ والبحر شاطئه، وكواكب وما النجم إلّا ما هو يواطئه وكثيرا ما نحل إليه السريّ الرّفاء ممّا ينسب إلى الخالديّين بنات أفكاره. ومن جيّد ما وقع لي من صالح أشعاره قوله: [المجتث] بي منك ما لو وزنت أيسره ... بما على الأرض كلّها وزنا «3»

لو قيل من أحسن الأنام ومن ... أعشقهم قلت: هذه وأنا وقوله: [المديد] خوّفوني من فضيحته ... ليته واتى وأفتضح «1» ذهبّي الخدّ تحسب من ... وجنتيه النار تقتدح صدّ إذا مازحته غضبا ... ما على الأحباب إذ مزحوا وهو لا يدري لنخوته ... أنّنا في النوم نصطلح وقوله: [الوافر] غدا وغدا تورّد وجنتيه ... لعين محبّه يصف الرّياضا «2» كتمت هواه حتى فاض دمعي ... فصيّره حديثا مستفاضا وقوله: [الخفيف] أقبلت في غلالة زرقاء ... زرقة لقّبت بجري الماء «3» فتأملت في الغلالة منها ... جسد النّور في قميص الهواء هي بدر فإنّ أحسن لون ... ظهر البدر فيه لون السماء وقوله: [الكامل المرفل] ومهذّب الأخلاق منطقه ... ما فيه من خطل ولا مين «4» ما كان أحوج ذا الكمال إلى ... عيب يوقّيه من العين

134/وقوله يدعو صديقا له فى يوم شكّ من قصيدة: [مجزوء الكامل] والجوّ حلّته ممسّ ... سكة ومطرفه معنبر «1» والماء فضيّ ال ... قميص وطيلسان الأرض أخضر نبت يصعّد زهره ... في الأرض قطر ندى تحدّر وأخو الحجى لو كان هـ ... ذا اليوم من رمضان أفطر وقوله في عود: [المنسرح] جاءت بعود كأنّ نغمته ... صوت فتاة تشكو فراق فتى «2» مخفّف خفّت النفوس به ... كأنّما الزهر حوله نبتا «3» دارت ملاويه فيه واختلفت ... مثل اختلاف اليدين شبّكتا «4» لو حرّكته وراء منهزم ... على بريد لعاج والتفتا يا حسن صوتيهما كأنّهما ... أختان في صنعة تراسلتا وهو على ذا ينوب إن سكتت ... عنها وعنه تنوب إن سكتا وقوله من قصيدة: [الخفيف] طلعت في مصبّغ جلّنار ... طلعة الشمس في ابتداء النهار «5» طاف من حولها الحواري فقلت: ال ... بدر حفّت به النجوم الدراري وقوله في جمر الفحم: [الكامل المرفّل]

فحم أنارت ناره ... فتضرّمت منه حريقا «1» فكأنّه وكأنّها ... سبج قرنت به عقيقا وقوله من قصيدة: [الرمل] من عذيري من عذاري رشأ ... عرّض القلب لأسباب التّلف «2» 135/زيد حسنا وضياء بهما ... فهو الآن كبدر في سدف وقوله: [الوافر] ألست ترى الظلام وقد تولّى ... وعنقود الثريا قد تدلّى «3» فدونك قهوة لم يبق منها ... تقادم عهدها إلّا الأقلّا بزلنا دنّها والليل داج ... فصيرت الدجى شمسا وظلّا وقوله: [مجزوء الكامل] أهلا وسهلا بالهلا ... ل بدا لعين المبصر «4» أو ما تراه يلوح في ... جوّ السماء الأخضر كشعرة من فضّة ... قد ركبّت في خنجر وقوله من قصيدة يهجو قوما من أهل حلب: [البسيط] أرداك قوم أبا حوا لؤمهم شرفي ... وقد ينال من الأشراف أوضاع «5» وحلّ قدري واستحلوا مساجلتي ... إنّ الذباب على الماذيّ وقّاع

وقوله من قصيدة: [مجزوء الرمل] فكأنّ الكأس لمّا ... ضحكت تحت الحباب «1» وجنة حمراء لاحت ... لك من تحت النقّاب وقوله من قصيدة: [المنسرح] كانت شفائي من خدّه قبّل ... لو جاد أو من رضابه جرع» فبات بيني وبينه أمل ... دون الذي رمت منقطع يدني للثم رياض وجنته ... طورا ويبدو له فيمتنع كأنّه وجنة مخيلة ... تسفّ للقطر ثمّ تنقشع «3» 136/وقوله من قصيدة: [الطويل] ومسمعة تحنو على مترنّم ... له رجل غال وليس له سحر «4» إذا ما تأملت الحشا منه خلته ... تضمن شبعا وهو منحرف صفر له نغم يغضين من كلّ سامع ... إلى حيث لا يفضي إلى مثله الخمر إذا طوّقته بالأنامل والتقى ... على جنبه من جسمها الصّدر والحجر «5» بكى طربا فاستضحك اللهو نحوه ... وفضّت عرى الألباب واستلب الصّبر وتمنحه اليمنى حسابا مفصّلا ... نتحمل منه الخمس والستّ والعشر فبتّ صريع الكأس أطيب بيتة ... وما الحلم إلّا ما يسفّهك السكر

وقوله: [الكامل] حور شغلن قلوبنا بفراغ ... لرسائل قصرت عن الإبلاغ «1» ومنعن ورد خدودهنّ فلم نطق ... قطفا له بعقارب الأصداغ وقوله: [الطويل] صليه فقد قطّعته مذ قطعته ... وأقرحت جفنيه وأسهرت ناظره «2» إذا كنت تحييه وأنت قتلته ... فأنت على محو الخطيئة قادره وقوله من قصيدة: [المديد] عاذلي دع عنك عذل فتى ... لجّ في عصيان من عذله «3» أنا مشغول بها دنف ... وهي بالهجران مشتغله «4» وقوله يفتخر: [مجزوء الكامل] ولئن شعرت لما تعم ... مدت الهجاء ولا المديحه «5» لكن وجدت الشعر للآ ... داب ترجمة فصيحه «6» وقوله: [المتقارب] لقد لام طرفك عن ساهر ... غريق المدامع من دمعته «7»

137/صدودك أقرب من همّه ... ووصلك أبعد من همّته وقوله من قصيدة يصف فرسا: [الكامل] قد راح تحت الصّبح ليل مظلم ... إذ راح في السرج المحلّى الأدهم «1» ضحك اللّجين على سواد أديمه ... وكذا الظلام تبين فيه الأنجم فكأنّه ببنات نعش ملبب ... وكأنّما هو بالثريا ملجم «2» وقوله يرثي قدحا له انكسر: [المتقارب] عرانى الزمان بأحداثه ... فبعضا أطقت وبعضا فدح «3» وعندي فجائع للنائبا ... ت ولا كفجيعتها بالقدح وعاء المدام وتاج البنان ... ومدني السرور ومفضي الفرح «4» ومعرض راح متى تكسه ... ومستودع السّر فيه يبح «5» وجسم هواء فإن لم يكن ... يرى للهواء بجسم سبح يردّ على الشخص تمثاله ... وإن تتّخذه مراة صلح ويعبق من نكهات المدام ... فتحسب منه عبيرا يفح «6» ورقّ فلو حلّ في كفّه ... فلا شيء في أختها ما رجح يكاد مع الماء إن مسّه ... لما فيه من شكله ينفسح سيفقد بعدك رسم السرور ... ويوحش منك معاني الصبح «7»

وقوله: [البسيط] إنّي فزعت إلى صبري فأنقذني ... من سوء فعلك بي إذ قصّرت حيلي «1» والصّبر مثل اسمه في كلّ نائبة ... لكن له فرحة أحلى من العسل «2» 138/وقوله يرثي عودا انكسر لمغنية: [الكامل] بأبي أقيك من الحوادث والرّدى ... بالعود لا بل طارق الحدثان «3» فجعت به غرد الأنين كأنّه ... صبّان مهجوران يشتكيان «4» وقوله: [المنسرح] ادن من الدنّ بي فداك أبي ... واشرب وهات الكأس وانتخب «5» أما ترى الطلّ كيف يلمع في ... عيون نور تدعو إلى الطّرب في كلّ عين للطّل لؤلؤة ... كدمعة من جفون منتحب والصّبح قد جرّدت صوارمه ... والليل قد همّ منه بالهرب والجوّ في حلّة ممسّكة ... قد كتبتها البروق بالذّهب فهاتها كالعروس محمرّة ال ... خدّين في معجر من الحبب «6» كادت تكون الهواء في أرج ال ... عنبر لو لم تكن من العنب من كفّ راض عن الصدود وقد ... غضبت في حبّه على الغضب فلو ترى الكأس حين تمزجها ... رأيت شيئا من أعجب العجب

نار حوتها الزجاج يلهبها ال ... ددنّ بغير ما ثقب «1» وقوله: [الطويل] فما أنسها لا أنس منها إشارة ... بسبّابة اليمنى على خاتم الفم «2» وأعلنت بالشكوى إليها فأومأت ... حذارا من الواشين أى لا تكلّم فلم أر شكلا واقعا قبل شكله ... كعنّابة توقي بها فوق عندم وقوله في وصف سحابة أتت إثر ليلة لم يزل بها [] «3» البرق تغلي لمم الظلام: [الرجز] 139/غادية والشمس من طرادها «4» ... مكنونة كالسرّ في فؤادها مريضة تشكو إلى عوّادها ... بياضها قد ضاع في سوادها تكاد لولا الماء في مزادها ... تحرقها البروق في إيقادها «5» لها على الروضة في بعادها ... تعطّف الأمّ على أولادها كأنّها فى سرعة ارتدادها ... وحثها للفرع من أدرادها «6» غريبة حنّت إلى بلادها ... فالأرض للزينة في أعيادها وقوله: [المنسرح] كأنّما الجمر والرّماد وقد ... كاد يواري من نورها نورا «7»

ورد جنى القطاف أحمر قد ... ذّرت عليه الأكفّ كافورا وقوله: [الكامل] ما زال حرّ الشوق يغلب صبرها ... حتى تحدّر دمعها المتعلّق «1» وجرى من الكحل السحيق بخدّها ... خطّ تورّده الدموع السّبق فكأنّ مجرى الدمع حلية فضة ... في بعضه ذهب وبعض محرق وقوله من قصيدة يصف مذّبة أهداها: [السريع] مذبّة تهدى إلى سيّد ... ما زال عن كلّ وليّ يذب» طريفة لم تخل من مثلها ... مجلس ذي سرّ ولا ذي أدب ناصية الأدهم في عودها ... لم تك من عرف ولا من ذنب «3» وذاك فأل إن تأمّلته ... لما ترجى من نواصي الرّ [تب] «4» لطيفة تجمعها حلية ... من ذهب في قائم منتخب 140/كأنّها في ظهر مجدولة ... ذؤابة أنبوبها من ذهب وقوله: [السريع] ما لذّة أكمل في طيبها ... من قبلة في إثرها عضّة «5» كأنّما تأثيرها لمعة ... من ذهب أجري في الفضّة

خلسته بالكره من شادن ... يعشق منه بعضه بعضه وقوله يصف الأترج: [المنسرح] يا حّبذا يومنا ونحن على ... رؤوسنا نعقد الأكاليلا «1» في جنّة ذلّلت لقاطفها ... قطوفها الدانيات تذليلا كأنّ أترجّها تميل به ... أغصانه حاملا ومحمولا سلاسلا من زبرجد حملت ... من ذهب أصفر قناديلا وقوله: [البسيط] فديت زائرة في العيد واصلة ... والهجر في غفلة عن ذلك الخبر «2» فلم يزل خدّها ركنا أطوف به ... والخال في صحنه يغني عن الحجر وقوله: [الوافر] دموعي فيك أنواء غزار ... وحبّي لا يقرّ له قرار «3» وكلّ فتى عليه ثوب سقم ... فذاك الثوب منّي مستعار «4» وقوله: [الخفيف] هتف الصبح بالدجى فاسقنيها ... قهوة تترك الحليم سفيها «5» لست تدري من رقّة وصفاء ... هي في كأسها أم الكأس فيها «6»

وقوله: [الطويل] لقد بخلت عنّي بطيف خيالها ... عليّ وقالت: رحمة لنحيبي «1» 141/أخاف على طيفي إذا جاء زائرا ... وسادك أن يلقاه طيف رقيبي وقوله: [الكامل] الثلج يسقط أم لجين يسبك ... أم ذا حصى الكافور ظلّ يفرّك «2» راحت به الأرض الفضاء كأنّها ... من كلّ ناحية بثغرك تضحك «3» شابت مفارقها فبيّن ضحكها ... طربا وعهدي بالمشيب ينسّك وتزيّت الأشجار فيه ملاءة ... عمّا قليل بالرياح تهتّك «4» فالجّو من أرج الهواء كأنّه ... ثوب يعنبر تارة ويمسّك وقوله: [المنسرح] باكر فهذه صبحة قرّه ... واليوم يوم سماؤه ثرّه «5» ثلج وشمس وصوب غادية ... فالأرض من كلّ جانب غرّه باتت وقيعانها زبرجدة ... وأصبحت قد تحوّلت درّه كأنّها والثلوج تضحكها ... تعار من أحبّه ثغره كأنّ في الجوّ أيديا نثرت ... وردا علينا فأسرعت نثره فاشرب على الثلج من مشعشعة ... كأنّها في إنائها جمره

قد جليت في البياض بلدتنا ... فاجل علينا الكؤوس بالخمره وقوله: [مجزوء الرمل] حان أن تستحيي الأس ... قام من جسمي وتخزى «1» لم تدع لي منه ما في ... مثله لي متعزّى حزّت الأعضاء منه ... كلّها بالصّبر حزّا فأنا الجزء الذي من ... لطفه ما يتجزّا 142/وقوله: [مجزوء الكامل] مزجت دموع العين م ... ني يوم بانوا بالدّماء «2» فكأنّما مزجت بخد ... دي مقلتي خمرا بماء ذهب البكاء بعبرتي ... حتى بكيت على البكاء وقوله: [السريع] قالت وقالوا بأنّ أحبابه ... وأبدلوه البعد [ب] القرب «3» «4» والله ما شطّت نوى عاشق ... سلّ من العين إلى القلب وقوله يرثي طاووسا كان له من قصيدة: [المنسرح] رزئته روضة ترفّ ولم ... أسمع بروض [يسعى] على قدم «5» «6»

جثل الدّبابي كلّ سندسه ... زرّت عليه موشية العلم «1» متوّجا حلّة حباه بها ... ذو الفطن المعجزات في الحكم «2» كأنّه يزدجرد منتصبا ... يثني فيعلي مآثر العجم يطبق أجفانه ويحسن عن ... فصيّن يستصحبان في الظّلم أدلّ بالحسن فاستدال له ... ذيلا من الكبر غير محتشم وقوله يصف فصّا: [الكامل] ساجل بفصّك من أردت وباهه ... فكفى به كمدا لقلب الحاسد «3» متألّق فيه الفرند كأنّه ... وجهي غداة قرى بضيف قاصد لو أنّ ظمأى منه علّت لارتوت ... من ماء جوهره المعين البارد بهر العيون إضاءة في رقة ... فكأنّني متختّم بعطارد «4» وقوله يهجو غلاما من الكتّاب: [الوافر] تغيّر حسن صورته البهيّة ... وكان خروج لحيته بليّه «5» 143/وأصبح ليس يمنع نائكيه ... بنقد طالبوه ولا نسيّه لو انّ قفاه مرآة لكانت ... من الأنفاس مرآة صدّيه وقوله: [المتقارب] عدمت رياسة قوم شقوا ... شبابا ونالوا الغنى حين شابوا «6»

حديث بنعمتهم عهدهم ... فليس لهم في المعالي نصاب وإن كاتبوا صارفوا في الدعاء ... كأنّ دعائهم مستجاب «1» وقوله: [البسيط] أنباك شاهد أمري في مغيّبه ... وجدّ وجد الهوى بي في تلعّبه «2» يا نازحا نزحت دمعي قطيعته ... هب لي من الدّمع ما أبكي عليك به وقوله: [الطويل] لعمرك إنّي للثريا لحاسد ... وإنّي على ريب الزمان لواجد «3» جميعا شملها وهي سبعة ... [] وأفقد من أحببته وهو واحد «4» وقوله: [الطويل] ألا ربّ ليل بتّ أرعى نجومه ... فلم أغتمض فيه ولا الليل غمضّا «5» كأنّ الثريا راحة تستر الدّجى ... لتعلم طال الليل بي أم تعرّضا فأعجب بليل بين شرق ومغرب ... يقاس بشبر كيف يرجى له انقضا وقوله: [البسيط] جاءت بعود كأنّ الحبّ أنحله ... فما ترى فيه إلّا الوهم والشبح»

كلّ اللباس عليها معرض حسن ... وكلّ ما تتغنّى فهو مقترح وقوله: [المنسرح] شيخ لنا من مشايخ الكوفه ... نسبته للعليل موصوفه «1» لو بدّل الله قمله غنما ... ما طمع الجار منه في صوفه 144/وقوله: [الكامل] عندي معتّقة كودك صافيه ... ونديمك الدّمث الرقيق الحاشية «2» فإذا طربت إلى السماع ترنّمت ... بيضاء داهية تسمّى داهيه «3» فصل العناء يمينها بشمالها ... كمثلّث أضلاعه متساويه وتجيبها سوداء تصلح عودها ... فتريك كافورا يقادم غاليه فاحضر فقد حضر السرور ولا تدع ... يوما يفوتك فهي دنيا فانيه وقوله يهجو رجلا كبيرا أنفه: [الطويل] لقد مرّ عبد الله في السوق راكبا ... له حاجب من أنفه ومطرّق «4» وعنّت له من جانب السوق مخطة ... توهمّت أنّ السوق منها تغرّق «5» فأقذر به أنفا وأقبح بربّه ... على وجهه منه كنيف معلّق وقوله: [مجزوء الخفيف]

داو جسمي فإنّه ... فيك بالصدّ قد شقي «1» إن ترد الذي مضى ... منه فارفق بما بقي وقوله: [السريع] مملوكة تملك أربابها ... ما شانها ذاك ولا عابها «2» قد سمّيت بالضدّ مظلومة ... وهى التي تظلم أحبابها وقوله: [المتقارب] حسن مثاني يمزجنها ... بنقر الدّفوف فأطر بنني «3» عمدن لإصلاح أوتارهنّ ... فأصلحتهنّ فأفسدنني وقوله من قصيدة: [الرجز] يا ليت شعري ما الذي ... ألقيت لي في خلدك «4» تريد أن تقتلني ... بالهجر هذا في يدك «5» وقوله: [الهزج] تنام الليل أسهره ... وأشكوه وتشكره «6» 145/وليل الصبّ أطوله ... على المعشوق أقصره

كثير الذّنب إلّا أن ... ن فرط الحبّ يغفره أكاتم حبّه الواشي ... ن والعبرات تظهره وأذكر خاليا حججي ... وأنسى حين أبصره وقوله: [المنسرح] طاف خيال المحبّ في الغلس ... وبتّ منه ناعم الأنس «1» طيف خيال حفظت خلّته ... وأذكرته ملالة فنسي «2» قصّر ليلي بطيب زورته ... فكان ليلي أمدّ من نفس وقوله: [الطويل] يقولون: تب والكأس في كفّ أغيد ... وصوت المثاني والمثالث عالي «3» فقلت لهم: لو كنت أضمرت توبة ... وأبصرت هذا كله لبدالي وقوله من قصيدة: [المنسرح] تبسّمت وانجلى الظلام ولم ... تخف وقد كان قبل أخفاها «4» فانصرفت خيفة الوشاة بها ... مالي عذر سوى ثناياها وقوله من قصيدة في وصف الشقائق: [البسيط] فانظر بعينك أغصان الشقائق في ... فروعها زهر في الحسن أمثال «5»

كأنّها وجنات أربع جمعت ... وكلّ واحدة في صحنها خال وقوله: [السريع] لا عبت في الخاتم انسانة ... كالبدر في داجى الدّجى الفاحم «1» ألقته في فيها فقلت انظروا ... قد خبّت الخاتم في الخاتم «2» وقوله من قصيدة في ضرب الصوالجة: [الرجز] 146/وملعب للخيل في قرواح «3» ... منفسح الأرجاء والنواحي «4» كأنّه كفّ فتى جحجاح ... مبسوطة للبذل والسماح عمرته بفتية صحاح ... بيض بأعراضهم شحاح من كلّ طرف سابح طمّاح ... مناسب للبرق والرياح وقان مثل دم الجراح ... سبط كخطّيّ من الرماح فخلتهم من شدّة المراح ... ونزوات الأكر الملاح سكرى انتشوا من حمّيا الراح ... تواصلوا التجميش بالتفاح فياله لهو بلا جناح ... شبّه فيه الجدّ بالمزاح وقوله من قصيدة: [الوافر] وروض عن صنيع الغيث راض ... كما رضي الصديق عن الصديق «5»

كأنّ غصونه سقيت رحيقا ... فمالت مثل شرّاب الرحيق «1» كأنّ الطلّ منتثرا عليه ... بقايا الدّمع في خدّ المشوق كأنّ شقائق النعمان فيه ... مخصّرة كؤوس من عقيق كأنّ النرجس البريّ فيه ... مداهن من لجين للخلوق يذكّرني بنفسجه بقايا ... صنيع الغصن في الخدّ الرقيق «2» وقوله: [مجزوء الرجز] ما الناس إلّا اثنان ... إن فكّر فيهم مجتهد «3» فواحد لا يكتفي ... وطالب ليس يجد وقوله من قصيدة: [مجزوء الخفيف] ثم جاءت بمأتم ... آه من ذلك المجي «4» في حداد كأنّها ... وردة في بنفسج 147/وقوله يذم مغنيا: [مجزوء الرمل] ومغنّ بارد النغ ... مة مختلّ اليدين «5» ما رآه أحد في ... دار قوم مرّتين قربه أقطع للّذا ... ت في صبحة بين

وقوله يرثي برذونا له: [الكامل المرفل] وأرى العزاء جفاك حين جفا ... ك الدّهر بالمكروه في الأبلق «1» يمشي وتجري الخيل في سنن ... فيجي سوابقها ولا يسبق كالموج يسمو إن علوت به ... شرفا وفي الوهدات كالزّئبق وقوله في وصف الديك: [المنسرح] مطرب الصّبح هيّج الطّربا ... لمّا قضى الليل نحبه انتحبا «2» مغرّد يانع الصباح فما ... يدري رضا كان ذاك أم غضبا مدّ ليمتدّ صوته عنفا ... منه وهزّ الجناح والذّنبا ما ينكر الطّير أنّه ملك ... لها فبالتاج ظلّ مغتصبا فباكر الخمرة التى تركت ... بنان كفّ المدير مختضبا كأنّما صبّ في الزجا ... جة من لطف ومن رقّة النسيم صبا يظلّ رقّ المدام ممتهنا ... سحبا وذيل المجون منسحبا وساحر الطّرف لا يعاب له ... إذ كان بالجلّنار منتقبا [] من ثغره ووجنته «3» ... أنامل الطّرف زهره عجبا شقائقا مذهبا تري خجلا ... وأقحوانا منصّصا شبا 148/وقوله يهجو رجلا أسود: [السريع] يا مشبها في فعله لونه ... لم تعد ما أوجبت القسمه «4»

ظلمك من خلقك مستخرج ... والظلم مشتقّ من الظّلمه وقوله: [مجزوء الكامل] الآن أشبه خدّه ... ورد الشقيق علانيه «1» لمّا بدا في خدّه ... خال كنقطة غاليه» وقوله من أرجوزة في وصف الباقلاء الرطب: [الرجز] وباقلّا حسن المجرّد ... مسك الثرى شهد الجنى غضّ ندي «3» ذي ورق يكحل عين الأرمد ... ورقة تشفي أوار الكبد وقوله: [الوافر] ألذّ العيش اتيان القبيح ... وعصيان النصيحة والنّصيح «4» وإصغاء إلى وتر وناي ... إذا ناحا على دنّ جريح غداة دجنّة وطفاء تبكي ... إلى ضحك من الزهر المليح وقد جذبت قلائصها الحيارى ... بحاد من رواعدها فصيح وبرق مثل حاشيتي رداء ... جديد مذهب في يوم ريح وقوله: [الخفيف] رقّ ثوب الدّجى فطاب الهواء ... وتدلّت للمغرب الجوزاء «5»

والصباح المنير نثرت من ... هـ على الأرض ريطة بيضاء فاسقنيها حتى أرى الأرض في ال ... أرض عليها غلالة حمراء «1» فهي في خدّ كأسها صفرة الور ... س وفي الخدّ وردة حمراء «2» 149/عجبا ما رأيت من أعجب الأشي ... اء تقدير من له الأشياء سيج يستحيل منه عقيق ... وظلام ينسلّ منه ضياء وقوله من أرجوزة ذكر فيها يوما أظلّته سحابة حتى انكسف ضوؤها اليقق، وأقبل المساء توقّد في ثوب الدجى الشفوف [] «3» لعين الفجر أن ينفجر ولمفرق الشرق بإكليل الشمس أن يعتجر: [الرجز] أما ترى طلائع الصّباح ... كالدّهم قد طوّقن بالأوضاح «4» فعاطيا صديقة الأرواح وقوله من أرجوزة يصف فيها النّخل وقد رأى منه قدودا تتأوّد بذهب القنوان تتقلّد [] «5» : [الرجز] لنا على دجلة نخل منتخل ... نسلفه ماء ويقضينا عسل «6» مسطّر على قوام معتدل ... لم ينحرف عن سطره ولم يمل يسقي بماء وهو مثنى في الأكل ... كأنّما أعذاقه إذا حمل «7»

غدائر من شعر وحف رجل ... في لون داء العشق لا داء العلل «1» كالذّهب الابريز لونا ومحل ... يخمّص الخود به الصبّ الغزل «2» كأن في أعرافه مثل السّعل ... ويكتسي من صبغة البدر حلل كأنّها في الخدّ تلوين الخجلّ ... وعظم الأزاذ فيه ونبل مثل أنابيب قنا الخطّ الذبل وقوله: [مجزوء الكامل] يا من يؤمّل جعفرا ... من بين أهل زمانه «3» لو أنّ في استك درهما ... لاستلّه بلسانه وقوله في وصف كانون: [المتقارب] هلمّا بكانوننا جاحما ... وقولوا لموقده أجّج «4» إلى أن يرى لهبا كالرياض ... فناهيك من منظر مبهج ومن عذّب في اخضرار الحرير ... ومن صفرة التبر لم ينسج 150/وتحسبها مسخبا مذهبا ... حواليه قضبان فيروزج وقوله يصف السفينة: [الكامل] وإلى نداك ركبتها زنجيّة ... كرمت مناسب ساجها والعرعر «5»

سحماء منشؤها ببحر مخصب ... أبدا ومولدها ببرّ مقفر إن جانبت قصدي الهدى بمقدّم ... عطفته كفّ دليلها بمؤخّر «1» فكأنها والفجر قد خلع الدّجى ... للعين قطعة ظلّة لم يسفر «2» طارت أمام تطاير بقوادم ... منشورة وقوائم لم تنشر وقوله يستهدي بركارا: [المنسرح] جد لي ببركارك الذي صنعت ... فيه يدا قينه الأعاجيبا «3» ملتئم الشفرتين معتدل ... ماشين من جانب ولا عيبا أشبه شيء في اشتباكهما ... بصاحب لا يملّ مصحوبا «4» أوثق مسماره وغيّب عن ... نواظر الناقدين تغييبا فعين من يجتليه تحسبه ... في قالب الاعتدال مصبوبا لولاه ما صّح شكل دائرة ... ولا وجدنا الحساب محسوبا وقوله من قصيدة: [المنسرح] الليل يا صاحبي منطلق ... يقاد زحفا وما به رمق «5» غمّض دون الغروب كوكبه ... أن شفّه طول ليله الأرق ورقّ جدا برد ظلّته ... فهو على منكب الرّبى خلق «6»

تأمّل الغرب كيف ذهّبه ... شرق بتوريد خدّه شرق «1» 151/وقوله يصف راووق الشراب: [الرجز] كأنّما الراووق وانتصابه ... خرطوم فيل قطّعت أنيابه «2» مخضّب وحبّذا خضا به ... كأنّ عطرا فتّقت عيابه غيث مدام غدق سحابه ... كالضرع يكفي حلبه انحلابه «3» سال براح قرقف لعابه ... رضاب من أعشقه رضابه وقوله من قصيدة يستهدي باشقا: [الكامل] نبئّت عندك باشقا متجرّدا ... للصّيد لم ير مثله من باشق «4» وكأنّما سكن الهوى أعضاؤه ... فأعارهنّ نحول جسم العاشق وإذا انبرى نحو الطرّيدة خلته ... كالريح في الإسراع أو كالبارق ما خام عن طلب الحمام ولم يفق ... مذ كان من صيد الأوزّ الفائق «5» وقوله يصف سحابا: [الرجز] سارية من الدّياجي السّود ... مكحولة الأجفان بالسّهود «6» منهلّة بمائها البرود ... مثل الهلال مقلة العميد كأنّها إذ أقلعت لتودي ... يرمي به مذ كان يوم عيد

سرب النّعام نافرا في البيد ... فالنّبت قد قام من اللحود غاديتها قبل غدوّ السّيد ... وقبل أن يجهر بالتوحيد «1» بطائر يعدّ في الأسود ... منتصب كالبطل النجيد عيناه للمشبّه المجيد ... كالحبتّين السود في العنقود فغنّ لي بالطالع السعيد ... سرب ظباء كالعذارى الغيد 152/تجذب جيد الخائف المردود «2» ... حتى سرقت الريح من بعيد وصرت بعد الهبط في الصّعود ... وانحطّ مثل الحجر الصيخود ينشب من نافوخه والجيد ... مخالبا أمضى من الحديد من القديد ومن القديد ... وعامر الطاجن والسّفود وقوله من قصيدة يمدح الحسين بن علي التنوخي: [الكامل] وتعجّبت لمّا بكى بدم ولو ... تركت له دمعا إذا لبكى به «3» ما أنصفته يكون من أعدائها ... في زعمها وتكون من أحبابه وقوله: [السريع] ومستزيد في طلاب العلى ... يجمع لحما ماله طابخ «4» ضيّع ما نال بما يرتجي ... والنار قد يطفؤها النافخ وقوله في وصف السحاب: [الرجز]

غيث أتانا مؤذن بخفض ... متّصل الوبل حثيث الركض «1» يقضي بحكم الله فيما يقضي ... كالجيش يتلو بعضه ببعض يضحك عن برق خفيّ الومض ... كالكفّ في انبساطها والقبض دنا فخلناه فويق الأرض ... متصلا بطولها والعرض فالأرض تجلى في النبات الغضّ ... في حليها المحمرّ والمبيضّ «2» من سوسن أحوى وورد غضّ ... مثل الخدود نقشّت بالعضّ وأقحوان كاللجين المحض ... ونرجس ذاك النسيم فضّي «3» مثل العيون رنّقت للغمض ... ترنو فيغشاها الكرى فتغضي وقوله من قصيدة يهجو خادما يسمّى كافورا: [المتقارب] 153/أكافور قبّحت من خادم ... ولا فيك مسرعة جائحه «4» حكيت سميّك في برده ... وأخطأك اللّون والرائحه وقوله من قصيدة: [المجتث] والنّهر في اعتدال ... في سيره وتأوّد «5» كأفعوان تلوّى ... ثمّ استوى وتمدّد كأنّ فيه سيوفا ... مهنّدات تجرّد فتارة وهى تنضى ... وتارة وهى تغمّد

كأنّ نيلوفر الزّه ... ر فيه سرج توقّد كأنّ أوراقه الخض ... ر بين مثنى وموحد وقوله: [الوافر] بليت ولجّ بي وجدي بظبي ... يصدّ وما به إلّا لجاج «1» أغار إذا دنت من فيه كأسي ... على درّ يقبّله زجاج وقوله: [البسيط] يا مسدي العرف إسرارا وإعلانا ... ومتبع البرّ والإحسان إحسانا «2» أقلع سحابك قد غرّقتني مننا ... ما أدمن الغيث الّا صار طوفانا وقوله من قصيدة: [الخفيف] ضمّ أجزاءه وألّف أجسا ... ما حوت كلّ مطعم موفوق «3» ثمّ صفّوه كالأهلّة لاحت ... لمواقيتها خلال الشروق «4» وقوله يصف نبتا «5» أسود: [الرجز] أمزجي المزجيّ أيّ مزج ... في تينه البالغ غير الفجّ «6» يشبه في اللون وطعم الأرج ... نوافج المسك وبرد الثلج «7»

154/مثل رؤوس العلق سود النسج ... أو كثدايا ناهدات الزنج وقوله يصف الرمان: [المنسرح] فلاح رمّاننا بزينته ... بين صحيح وبين مفتوت «1» من كلّ مصفرة مزعفرة ... تفوت في الحسن كلّ منعوت كأنّها حقّة وإن فتحت ... فصرّة من فصوص ياقوت وقوله يصف كيزان الفقّاع «2» : [الرجز] دواء داء الثّمل المخمور ... رشف شراب شبم مقرور «3» رقّ كدمع العاشق المهجور ... في قصر كيزان من الصخور يدفع قضبانا من البلّور ... في نفس مثل جنى الكافور

4 - أبو الفرج محمد أحمد الغساني المعروف بالوأواء الدمشقي

ومنهم: 4- أبو الفرج محمد أحمد الغساني المعروف بالوأواء الدمشقي «1» ذكره صاحب اليتيمة، وعرض جوهره الغالي القيمة. قال «2» : وكان مناديا بدمشق بدار البطيخ ينادي على الفواكه، وقال: وما زال يشعر حتى جاد كلامه، وساد شعره، ووقع منه ما يروق ويشرق ويفوق حتى بلغ العيّوق. انتهى كلامه، والتهى عن بدره، وما تمّ تمامه. كان نظمه زهرا ورقمه باهرا يحوي صدره زاخرا ويهدي شعره طيف الحبيب زائرا. وله الاستعارات اللائقة في مواضعها الفائقة بما لا تطلع معه النجوم في مطالعها. المتماثلة في أماكنها المتقابلة حسنا في مواطنها المتناسبة في معادنها المناسبة جواهر وبيوتها بيوت خزائنها. 155/وقد يوجد في ديوانه/ زيادات كالشغا نقص بها ونقد أهل التمييز شعره بسببها، حصلت من جهة الرواة آفاتها وما آفة الأخبار إلّا رواتها «3» ، على أنّ ما صحّت للوأواء روايته ووضحت في الأدباء آيته أجلى من النهار غبّ السحاب وأحلى من العقار في مراشف الأحباب، عجبا له كان ينادي على الفاكهة وتعقل أفنانه وقد تهدّلت ثمراتها

وتهلّلت سافرة مبرّاتها اللهم إلّا أن احتال له عذرا، وقال تلك درر لا ثمر يباع ويشرى، فإنّه لا يجد إلّا من يسلّم إليه ويدع الإنكار ويعترف بأنّه بحر يقذف اللؤلؤ ومن جداوله دوح تخرج الثمار، وممّا له من المختار قوله: [الكامل] حاز الجمال بأسره فكأنّما ... قسمت محاسنه على الأشياء «1» متبسّم عن لؤلؤ رطب حكى ... بردا تساقط من عقود سماء تغني عن التفاح حمرة خدّه ... وتنوب ريقته عن الصّهباء ويدير عينا في حديقة نرجس ... كسواد يأس في بياض رجاء فامزج بمائك راح كأسك واسقني ... فلقد مزجت مدامعي بدمائي وكأن مخنقة عليها جوهر ... ما بين نار ركّبت وهواء ويظلّ صّباغ الحياء محكما ... في نقض حمرتها بأيدي الماء «2» وكأنّها وكأنّ حامل كأسها ... إذ قام يجلوها على النّدماء شمس الضحى رقصت فنقّط وجهها ... بدر الدجى بكواكب الجوزاء ومنه قوله: [الطويل] أمغنى الهوى غالتك أيدي النوائب ... فأصبحت مغنى للصّبا والجنائب «3» 156/أثاف كنقط الثاء في وسط دمنة ... ونؤي كدور النّون من خطّ كاتب «4» وليل كلبس الثاكلات لبسته ... مشارقه لا تهتدي لمغارب «5» بركب سقوا كأس الكرى فرؤوسهم ... موسّدة أعناقها بالمناكب

كأنّ اخضرار الجوّ صرح زبرجد ... تناثر فيه الدرّ من كفّ حاصب «1» كأنّ نجوم اللّيل سرب روائع ... لها البدر راع في رياض السحائب كأنّ موشّى السحب في جنباتها ... صدور بزاة أو ظهور الجنادب «2» كأنّ بياض الفجر في ظلمة الدّجى ... بياض ولاء حار في قلب ناصبي «3» صبحت به والصّبح في خلع الدجى ... على منكبيه طيلسان الغياهب تكاد تظنّ العيس أن ليس فوقها ... إذا سكتوا إلّا ظهور الحقائب «4» على ناحلات كالأهلّة إن بدت ... أتّم انقواسا من قسيّ الحواجب طواهنّ طيّ السّير حتى كأنّها ... قناطر تسعى مخطفات الجوانب وقد طويت أذنابها فكأنّها ... رؤوس نخيل مسدلات الذوائب «5» خفاف طوين الشّرق تحت خفافها ... بنا ونشرن الغرب فوق الغوارب ضربن الدّجى صفحا على أم رأسه ... وقد ثملت من خمر رعي الكواكب «6» فلمّا أجزناها بساحات طاهر ... ذهبن بنا في مذهبات المذاهب إلى من يرى أنّ الدروع غلائل ... وأنّ ركوب الموت خير المراكب لئن أقعدت أسيافه كلّ قائم ... لقد أرحلت أرماحه كلّ راكب على سافرات للطعان نحورها ... أقل حياء من صروف النوائب ركوب لأعناق الأمور إذا سطا ... عفا باقتدار حين يسطو بواجب

157/بما انهلّ من كفّيك من ذلك النّدى ... وما حملته من قنا وقواضب أرحها قليلا كي تقرّ كأنّها ... من الضرب أضحت ناحلات المضارب «1» وقوله: [المنسرح] عذّبتها بالمزاج فابتسمت ... عن برد نابت على لهب «2» كأنّ أيدي المزاج قد سكبت ... في كأسها فضّة على ذهب وقوله: [الطويل] كأنّ دمي يوم الفراق سروا به ... وقد سفكوه باحتثاث الركائب «3» أظنهّم لو فتّشوا في رحالهم ... إذا وجدوا آثاره في الحقائب إذا أنا دافعت الخطوب بذكرهم ... نسيت الذي بيني وبين النوائب وقوله: [مجزوء الرمل] فتأملّت الثريا ... في طلوع ومغيب «4» فهي كأس في شروق ... وهي قرط في غروب وقوله: [المنسرح] قوام غصن كأنّه القصب ... يهدي لنا من ضيائه لهب «5» باطنها مكتس وظاهرها ... للعين فيه مستنزه عجب قد يئست من بقائها فترى ... دموعها باللهب تنسكب

تكابد اللّيل وهي جاهلة ... وعمرها في الكباد ينقضب وقوله: [الكامل المرفل] وإذا نظرت إلى محاسنه ... أخرجته عطلا من الذنب «1» ورميت باللحظات مقلته ... فاقتصّ ناظره من القلب «2» وقوله: [المنسرح] وزعفرانية إذا برزت ... تقطر حزنا على الدّجى ذهبا «3» 158/كأنّما رأسها إذا طغيت ... طرف محبّ يراقب الرّقبا وقوله: [الكامل] ومصلوب قوم في الجذيع كأنّه ... شبه المحبّ إذا رأى أحبابه «4» أو كالطّروب بمجلس غنىّ له ... صوتا فمزقّ باليدين ثيابه وقوله: [البسيط] كأنّها ولسان الماء يقرعها ... دمع ترقرق في أجفان منتحب «5» إذا علاها حباب خلته شبكا ... من اللّجين على أرض من الذّهب تسورّت من أديم الكأس سورتها ... فأنبتت لهبا منها على لهب «6»

تخال منها بجيد الكأس إذ مزجت ... عقدا من الدرّ أو طوقا من الحبب «1» وقوله: [الطويل] وليل بأعلاه وليلين أسدلا ... بخدّيه إلّا أنّها ليس تغرب «2» ولما حوى نصف الدجى نصف خدّه ... تحيّر حتى ما درى كيف يذهب «3» وقوله: [البسيط] ما خانك الطّرف مني قطّ في نظر ... ولا سلا عنك قلبي في تقلّبه «4» بل أنت والله يا من كلّه فتن ... أعزّ في مهجتي ممّا أراك به «5» وقوله: [المنسرح] دمع غريب جرى بغربته ... أفرده البين عن أحبّته «6» إنسان عيني لولا سباحته ... كان غريقا في ماء دمعته «7» وقوله: [البسيط] ومن بزرقة سيف اللّحظ طلّ دمي ... والسيف ما فخره إلّا بزرقته علّمت انسان عيني أن يعوم فقد ... جاءت سباحته في ماء دمعته وقوله: [البسيط]

تقنّعت بالدّجى خوف الضحى وثنت ... في عاج عارضها لاما من السّبج «1» 159/كأنّما ألبست في لون مبسمها ... غلالة طرّزتها من دم المهج لها من الماء كف في تأمّله ... إذ صافحتني به نار بلا وهج «2» تكاد من لمعان الحسن تستره ... كأنّما طرّفته من دم المهج وقوله: [مخلع البسيط] أطال ليلي الصدود حتى ... أيست من غرّة الصّباح «3» كأنّه إذ دجا غراب ... قد حضن الأرض بالجناح «4» وقوله: [الوافر] وليل مثل يوم البين طولا ... كواكبه إذا أفلت تعود «5» بدائع نومها فيه انتباه ... فأعينها مفتّحة رقود وقوله: [الوافر] وليل مثل يوم الحشر طولا ... كأنّ ظلامه لون الصّدود «6» بياض هلاله فيه سواد ... كأثر اللّطم في يقق الخدود وقوله: [الخفيف]

ربّ ليل ما زلت ألثم فيه ... قمرا لابسا غلالة ورد «1» والثريا كأنّها كفّ خود ... داخلتها للبين رعدة وجد وقوله: [البسيط] قالت وقد قتلت منّا لواحظها ... عمدا أما لقتيل اللّحظ من قود «2» وأمطرت لؤلؤا من نرجس وسقت ... وردا وعضّت على العنّاب بالبّرد وقوله: [الكامل المرفل] وكأنّ كافور الدّموع وقد جرى ... بخلوقه منها على الخدّ «3» در وياقوت تساقط بينه ... في نثره كحل من الندّ فكأنّما نظمت دموع جفونها ... في نحرها بدلا من العقد 160/وقوله: [المنسرح] قد سترت وجهها عن النّظر ... بساعد حلّ عقد مصطبري «4» كأنّه والعيون ترمقه ... عمود نور في دارة القمر وقوله: [المنسرح] كأنّما النوم حين يطرقني ... يريد وصلي فالعين تهجره «5» صديق صدق أطال غيبته ... أعرفه تارة وأنكره «6»

وقوله: [السريع] مرّ بنا في قرطق أخضر ... مزرفن الأصداغ بالعنبر «1» قد كتب الحسن على خدّه ... يا أعين النّاس قفي وانظري وقوله: [الكامل] والبدر أوّل ما بدا متلثّما ... يبدي الضياء لنا بخدّ مسفر «2» فكأنّما هو خوذة من فضّة ... قد ركّبت في هامة من عنبر وقوله: [البسيط] يا ذا الذي تخجل الأغصان قامته ... ومن له البدر وجه والدّجى شعر «3» ومن إذا قيل إنّ البدر يشبهه ... عمدا أتى البدر ممّا قيل يعتذر «4» وقوله: [البسيط] أما ترى النّرجس الميّاس يلحظنا ... لحاظ ذي جذل بالغيث مسرور «5» كأنّ أوراقه في حسن صورتها ... مداهن التبر في أوراق كافور «6» كأنّ طلّ النّدى فيه لمبصره ... دمع تحدّر في أجفان مهجور [وقوله] «7» : [الخفيف]

جعلت تشتكي الفراق وفي أج ... فانها عقد لؤلؤ منثور «1» فكأنّ الكحل السّحيق مع الدّم ... ع على خدّها بقايا سطور وقوله: [الكامل المرفل] لي من تمرضّ طرفه وكلامه ... سكران من لفظ ومن سحر «2» 161/خلقت محاسنه عليه كما اشتهى ... وخلقت مالي عنه من صبر وقوله: [السريع] زار فنلت السّؤل إذ زارني ... وكان قدما غير زوّار «3» وفوقنا البدر على نصفه ... كأنّه شقّة دينار وقوله: [السريع] ظبي من الإنس ولكنّه ... قد تاه بالحسن على البدر «4» فعاله أسمح من صدّه ... ووجهه أحسن من عذري وقوله: [السريع] مضى الذي أودع قلبي الجفا ... فدمعتي من حسرتي قاطره «5» واصلني ثّم بدا هجره ... تلك لعمري كرّة خاسره وقوله: [الكامل]

وكأنّها تهوى إذاعة ضوئها ... للناظرين بسعدهم لنحوسها «1» فإذا تقرّب عمرها لنفاده ... ردوّا لها عمرا بقطع رؤوسها وقوله: [المنسرح] يا بدر بادر إليّ بالكاس ... فربّ نجح أتى على ياس «2» ولا تقبّل يدي فإنّ فمي ... أولى بها من يدي ومن راس وقوله: [البسيط] سقيا ليوم غدا قوس الغمام به ... والشمس مسفرة والبرق خلّاس «3» كأنّه قوس رام والبروق له ... رشق السهام وعين الشمس برجاس وقوله: [المتقارب] شربنا على النّيل لمّا بدا ... بمدّ يزيد ولا ينقص «4» فخلنا تقلّب أمواجه ... معاطف جارية ترقص «5» وقوله: [مجزوء الرّمل] لي حبيب خدّه كال ... ورد حسنا في بياض «6» وهو بين النّاس غضبا ... ن وفي الخلوة راضي

162/وقوله: [المنسرح] نرجسة لم تزل محدقّة ... لم تكتمل قطّ لذّة الغمض «1» أمالها القطر فهي باهتة ... تنظر فعل السماء في الأرض وقوله: [الطويل] تقول وقد بانت حياتي ببينها ... أتطمع أن تشكو إليّ فأسمعك «2» فلو كان حقّا ما تقول لما انثنت ... يداك وقد عانقتني بهما معك «3» وقوله: [الكامل] وإذا ذكرتك يوم سرت مودّعا ... وقف الأسى في الصّدر غير مودّع «4» ورأيت شخصك في سواد جوانحي ... متمثلا وكأننا في موضع فيا أسفي زدني جوى كلّ ليلة ... ويا كبدي وجدا عليه تقطّعي «5» وإنّي لمشتاق إلى من أحبّه ... فلا معه شوقي ولا صبره معي رعى الله ليلا ضلّ عنه صباحه ... وطيفك فيه ما يفارق مضجعي ولم أر مثلي غار من طول ليله ... عليه كأنّ الليل يعشقه معي وما زلت أبكي ما دجا الليل صبوة ... من الوجد حتى ابيضّ من فيض أدمعي «6» وقوله: [المنسرح]

عانقت مولاي عند رؤيته ... ونلت سؤلي بحسن ما صنعا «1» في قمر صار في تنصّفه ... كأنّه نصف درهم قطعا «2» وقوله: [مجزوء الرّمل] ما ترى النّيل عليه ... حبكا مثل الدروع «3» إنّما زاد لأنّي ... فيه أجريت دموعي وقوله «4» : [المتقارب] وهيفاء من ندماء الملو ... ك صفراء كالعاشق المدنف «5» تكيد الظلام كما كادها ... فتفنى وتفنيه في موقف 163/وقوله: [الكامل المرفل] يا ليت جسمي كلّه حدق ... حتى أراك وليتها تكفي «6» ما دار ذكر نواك في خلدي ... إلّا طرقت بدمعتي طرفي «7» وقوله: [مخلع البسيط] ابيضّ واصفرّ لاعتلال ... فكان كالنّرجس المضعّف «8»

كأنّ نسرين وجنتيه ... بشعر أصداغه مغلّف يرشح منه الجبين ماء ... كأنّه لؤلؤ منصّف كأنّما كان مذ بدا لي ... على تلافي به مؤلّف وقوله: [البسيط] راح إذا استعطفتها بالمزاج يد ... تكاد تخرس عنها ألسن الحدق «1» كأنّها خجل في كأس شاربها ... فاجاه عند مزاج صفرة الفرق أو مثل وجنة معشوق إذا نثرت ... يد الدّلال عليها لؤلؤ العرق كأنّ ما ابيضّ فيها في تورّده ... كواكب نثرت في حمرة الشّفق «2» وقوله: [الكامل] أجرت من الكحل السّحيق بخدّها ... سطرا تؤثره الدموع السّبق «3» فكأنّ مجرى الدّمع حلية فضة ... في بعضها ذهب وبعض محرق و [قوله] «4» : [الرجز] ربّ نجوم في ظلام أزرق ... راعيتها في مغرب ومشرق «5»

كأنّها من خجل لم تطرق ... أو نرجس في روضة مفرّق وقوله: [المتقارب] إذا ضاحك النّور زهر الرياض ... فكيف الخلاص وأين الطريق «1» بهار بهير به غيرة ... على نرجس وشقيق شفيق مداهن يحملن طلّ النّدى ... فهاتيك تبر وهذا عقيق 164/ويوم ستارته غيمة ... قد طرّزت رفرفيها البروق جعلن من الندّ دخّانه ... ومن شرر الراح فيه حريق «2» تظلّ به الشمس محجوبة ... كأنّ اصطباحك فيها غبوق على شجر رافعات الذيول ... لماء الجداول فيها شهيق «3» كأنّ طيالس غدرانه ... على هيكل الماء فيها خروق «4» سجدنا لصلبان منثورها ... وقد نصرتنا عليها الرحيق وقلنا لها ولضوء الصّباح ... على عنبر الفجر منه خلوق «5» أدر يا غلام كؤوس المدام ... وإلّا فيكفيك لحظ وريق وقوله: [الطويل] سقى الله ليلا طال إذ زار طيفه ... فأفنيته حتى الصّباح عناقا «6»

بطيب نسيم منه يستجلب الكرى ... فلو رقد المخمور فيه أفاقا وقوله: [المنسرح] ونرجس للنسيم معتنق ... يسهر طبعا وما به أرق «1» كأنّه والقوام معتدل ... وفي المآقي تزعفر عبق «2» أجفان درّ على ذرى قصب ... تقطّر سبكا وما بها عرق وقوله: [البسيط] يا ممرض الجسم منّي بعد صحّته ... هب لي على طول هجراني عليك بقا «3» أغريت بالسّقم جسمي إذ غريت به ... كأنّ جسمي من جفنيك قد خلقا وقوله «4» : [مجزوء الرجز] مقدودة في قدّها ... تحكي لنا قّدّ الأسل «5» كأنّها عمر الفتى ... والنار فيها كالأجل وقوله: [الخفيف] 165/وإذا افتضّها المزاج كساها ... حلّة الشمس عند وقت الزّوال «6» وترى الكأس دائرا كهلال ... سار فيه المحاق بعد الكمال

وقوله: [الخفيف] ما اعتنقنا حتى افترقنا وخفتا ... ن الدجى عن قميصه محلول «1» وكأنّ الهلال فوق الثريا ... ملك فوق رأسه إكليل وقوله: [الوافر] وما أبقى الهوى والشّوق منّي ... سوى نفس تردّد في خيال «2» خفيت عن المنيّة أن تراني ... كأنّ الجسم مني في محال وقوله: [المنسرح] ملّ فأبدى الصّدود والمللا ... واعتلّ في صحّة من العلل «3» وكنت إن غبت عنه راسلني ... فنحن في فترة من الرّسل وقوله: [البسيط] لا أجلّ الله آجال الدموع إذا ... ما لم يكنّ لأخلّاء الهوى خدما «4» يا هذه هذه روحي متى ألمت ... من الملام بكم قطّعتها ألما يا معلما بطراز الفخر نسبته ... ومن غدا بين أبناء العلا علما «5» ومن هو الشمس في ليل بلا فلك ... ومن هو البدر في أرض بغير سما «6» هذي يمينك في الآجال صائلة ... فاقتل بسيف نداك الخوف والعدما

وقوله: [الكامل] يا نازحا لعب القلى بعهوده ... الصّبر عنك أقلّ ممّا تعلم «1» لي والهوى ما بين أجنحة الكرى ... ليلان نومهما عليّ محرّم جهد الشكاية أنّ ألسننا [بها] «2» ... خرست وأنّ جفوننا تتكلّم 166/لو كنت أكتم سرّ من كتم الهوى ... يوم النّوى لكتمت قلبا يكتم وقوله: [مجزوء الكامل] قم فاجل همّي يا غلام ... بالرّاح إذ ضحك الظلام «3» وجلا الثريّا في ملا ... ءة نورها البدر التمام فكأنّها كأس يد ... ير بها الدّجى والليل جام وكأنّ زرق نجومها ... حدق مفتّحة نيام وأظنّها من صحّة ... مرضت وليس بها سقام وكأنّها وكأنّه ... إذ حان بينهما انصرام والفجر في غسق الدّجى ... كالماء خالطه ظلام «4» خود هوى من أذنها ... قرط فقبلّه غلام وقوله «5» : [مجزوء الكامل]

قم يا غلام إلى المدام ... قم داوني منها بجام «1» والفجر ينتهب الدّجى ... والصّبح يضحك بالظلام «2» وقوله: [الطويل] فقلت لأصحاب عليّ أعزّة ... عزيز علينا ما بكم من تألّم «3» خذوا بدمي ذات الوشاح فإنّني ... رأيت بعيني في أناملها دمي وقوله: [الطويل] كأنّ نجوم الليل من خوف فجرها ... وقد جدّ منها للغروب عزائم «4» عيون حماها الشّوق أن تطعم الكرى ... فأعينها مستيقظات نوائم «5» وقوله: [مجزوء الكامل] سقيا لأيام المدام ... لو ساعدتنا بالدّوام «6» أيام أيامي بها ... مثل الكواكب في الظّلام

5 - الأخوان أبو بكر محمد، وأبو عثمان سعيد ابنا هاشم الخالديان

167/ومنهم: 5- الأخوان أبو بكر محمد، وأبو عثمان سعيد ابنا هاشم الخالديان «1» كانا رضيعي ندى، وصديقي صباح تبلجّ عن هدى. وفرقدي سماء، وموقدي ذكاء يقدح ضوؤه للفهماء. وعلمي ملّة من الأدب كادت تذهب، وعلمي حلّة هي الديباج الخسرواني وهي الطراز المذهّب. وشقيقين تشاطرا الألفاظ والمعاني، وتشارطا أن يطبعا الجواهر ويرفعا بها المباني، وصقرين حطّا إلى وكر، وقلبين اتّحدا في فكر. 168/وكانا كاليدين في المقاصد تعاضدا، وكالنّجدين في الرضاع/ ترادفا وكالسيف ذي الحدّين لا يعرف أيّهما أمضى مضربا، وأشدّ ساعدا، وكالمبتدأ والخبر يترافعان «2» ، وكالمسمعين يوديان إلى خاطر ما يسمعان، وكالمصراعين على باب وراء كلّ ذخيرة يجتمعان، وكالعينين في روضة يسرحان ويسخان، وكالقمرين «3» في فلك واحد يسبحان

ويسبّحان يتباريان إلى الغاية غربا وشرقا، ويتعاوران ملاءة الحضر «1» قوة وسبقا كالدائرة تلاقى طرفاها، وكالقوس صحّ عنقاها في يمين من براها. وقد ذكرهما صاحب اليتيمة فقال «2» : إن هذان لساحران يغربان بما يجلبان، ويبدعان فيما يصنعان. وكان ما يجمعهما من أخوّة الأدب مثل ما ينظمهما من أخوّة النسب، فهما في الموافقة والمساعدة يحييان بروح واحدة، ويشتركان في قرض الشعر، وينفردان، ولا يكادان في الحضر والسفر يفترقان، وكانا في التساوى كما قال أبو تمام: [المتقارب] رضيعي لبان شريكي عنان ... عتيقي رهان حليفي صفاء بل كما قال البحتري: [الكامل] كالفر قدين إذا تأمّل ناظر ... لم يعد موضع فرقد عن فرقد بل كما قال أبو اسحاق الصابي فيهما: [الطويل] أرى الشاعرين الخالديّين سيّرا ... قصائد يفنى الدّهر وهي تخلّد جواهر من أبكار لفظ وعونه ... يقصّر عنها راجز ومقصّد تنازع قوم فيهما وتناقضوا ... ومرّ جدال بينهم يتردّد فطائفة قالت: سعيد مقدّم ... وطائفة قالت لهم: بل محمّد وصاروا إلى حكمي فأصلحت بينهم ... وما قلت إلّا بالتي هي أرشد 169/هما في اجتماع الفضل زوج مؤلّف ... ومعناهما من حيث يثبت مفرد

كذا فرقدا الظلماء لمّا تشاكلا ... على أشكلا هذاك أم ذاك أمجد فزوجهما ما مثله في اتّفاقه ... وفردهما بين الكواكب أوحد فقاموا على صلح وقال جميعهم ... رضينا وساوى فرقد الأرض فرقد وما أعدل هذه الحكومة من أبي اسحاق، فما منهما إلّا محسن يخطب في حبل الإبداع ما أراد، ويكاثر محاسنه وبدائعه الأفراد، وقد ذكرت ما شجر بينهما وبين السريّ من دسّ أشعارهما في شعر كشاجم. وكان أفاضل أهل الشام والعراق إذ ذاك فرقتين إحداهما في شقّ الرجحان تتعصّب عليه لهما ما رزقاه من قلوب الأكابر والملوك. والأخرى تتعصّب له عليهما. انتهى كلام الثعالبي. وهذا وقت الإثبات لما نختار لهما من الأبيات، ونبدأ بأبي بكر كما بدأ به الثعالبي، لأنّه الأكبر، فمن شعره، وقوله: [الطويل] دم المجد أجراه الطبيب وعصّبت ... على ساعد العلياء تلك العصائب «1» لئن لاح في عضد الأمير نجيعه ... غداة جرت في الطست منه سبائب «2» فلا غرو للصمصام أن مسّ حدّه ... دم وهو مصقول الغرارين قاضب وليث الشّرى لا تنكر العين أن ترى ... براثنه مخضوبة والمخالب وقوله يصف دارا: [الوافر] غدت دار الأمير كما روينا ... من الأخبار عن حسن الجنان «3» علت جدرانها حتى لقلنا ... سيقصر عن مداها الفرقدان وجال الطّرف في ميدان صحن ... يردّ الطّرف دون مداه وان

170/منها يذكر البستان: ترى فيه حدائق ناضرات ... تشبههنّ أحداق الغواني «1» تشير إلى الصّبوح بغير طرف ... وتستدعي الغبوق بلا لسان كأنّ تفتّح الخشخاش فيه ... على أوراقه الخضر اللدان سوالف غانيات فاتنات ... علت قمص الفريد الخسرواني وصبغ شقائق النعمان تحكي ... يواقيتا نظمن على اقتران وأحيانا تشبهّها خدودا ... كستها الراح ثوبا أرجواني على أنّا سننعت ذا وهذا ... بنسبتهنّ ما يتغيران هما في صحّة وبديع لفظ ... كما قرن الجمان مع الجمان شقائق مثل أقداح ملاء ... وخشخاش كفارغة القناني ولمّا غازلتها الريح خلنا ... بها جيشي وغى يتقابلان غدت راياتهم بيضا وحمرا ... تميّلها الفوارس للطعان وللمنثور أنوار تراها ... كما أبصرت أثواب القيان تخال به ثغورا باسمات ... إذا ما افترّ نور الأقحوان وآذريونه قد شبّهوه ... بتشبيه صحيح في المعاني ككأس من عقيق فيه مسك ... وهذا الحقّ أيّد بالبيان وقوله: [الطويل] كأنّي بهم إذ خالفوا بعض أمره ... وقد جمعت أعناقهم والسلاسل «2» وصيغت خلاخيل لهم وأساور ... على أنّ حاليها مدى الدّهر عاطل فلا نزعت تلك الأساور عنهم ... ولا فارقتهم في الحياة الخلاخل

171/وقوله: [الطويل] ومعذورة في هجرها لجمالها ... كبدر على خوط من البان مائد «1» أروم هواها والمشيب مخالفي ... وقد هجرتني والشباب مساعدي ومن عرف الدنيا استقلّ سرورها ... ولو برزت من حسنها في مجاسد منها: صقيل حسام الفكر يلقاك رأيه ... لما غاب عن ألحاظه كالمشاهد «2» وما شهد الهيجاء إلّا تباعدت ... مسافة ما بين الطّلى والسواعد «3» يؤازره في الرّوع قلب مشيّع ... ومبتسم يبكي عيون العوائد سهرت لها والنجم في الأفق نائم ... فهاهي كالإبريز في كفّ ناقد بقيت كما تبقى معاليك في الورى ... فهنّ على الأيام غير بوائد وقوله: [الطويل] ويكشف بالآراء ما كان مشكلا ... ولو كان في طيّ الضمير مكتّما «4» يرى العار أن يثني العنان عن الرّدى ... إذا ما ثنى الطعن الوشيج المعوّقا يردّ غرار المشرفيّ مثلّما ... ضرابا وصدر الراعبيّ محطمّا ومنتقم حتى إذا ما تمكنّت ... يميناه من أعدائه ظلّ منعما وقوله: [الطويل] وما خلق الانسان إلّا لينطوي ... عليه من الأيام بؤس وأنعم «5»

ولولا اختباري حاسدي صلت صولة ... تروح وماء البحر من هولها دم ويا أيّها المستام حربي بجهله ... وذو الجهل يعلو ساعة ثم يندم إذا وصلتنا بالأمير ركابنا ... فليس لنا عتب على الدهر يعلم وإن نحن أعصمنا الرجال بحبله ... فإنا بأمراس الكواكب نعصم 172/ومن أيّ وجه واجهته عيوننا ... تبدّى لها بدر وبحر وضيغم سماح بتيّار الغمام مسربل ... وفخر بلألاء النجوم معمّم وشانيك يدري أنّه غير بالغ ... مداك ولكن يرتجي ويرجّم طما بحرك السامي عليه فلو لجا ... إلى الفلك الدّوار ما كان يسلم إذا انأدّت الأرماح في هبوة الوغى ... غدت بك في عوج الضّلوع تقوّم سرى قاسمتنا الأين فيها ركابنا ... تحشّم منها مثلما تتجشّم تجوب جبالا تبلغ الأفق رفعة ... ومن دونها العقبان في الجوّ حوّم إذا ما علونا فالصخور لوطئنا ... مراق إلى الجوزاء والطّود سلّم وقوله: [الوافر] بقاع أشرقت فكأنّ فيها ... وميض البرق من فرط البريق «1» وأودية كأنّ الزّهر فيها ... يواقيت تفصّل بالعقيق لها حصباء كالكافور بثّت ... على ترب خلقن من الخلوق وقوله: [الطويل] دع العود محزونا يطيل بكاءه ... على الزقّ مذبوحا يسيل نجيعه «2» ويوم نأى إصباحه من مسائه ... غداة تدانت للضراب جموعه

إذا كان ليلا رهجه وقتامه ... ثنتها نهارا بيضه ودروعه جعلت لقلبي الصّبر فيه شريعة ... حفاظا وأطراف الرماح شروعه سلمت لمجد دارة الشمس داره ... وبين رباع الفرقدين ربوعه وقوله: [الكامل] ولقد تلقّيت الصّباح بمثله ... لا بل بأشرق منه في لألائه «1» 173/ورضيت من وصل الحبيب وبعده ... بدنوّ منزله وطول جفائه وسمعت عذل عواذلي لمّا مشى ... إصباح هذا الشيب في إمسائه سأعود في غيّ الشباب وإن غدا ... رشد المشيب مقنّعي بردائه وقوله: [الطويل] بدا فأراك الشمس في الغصن النّضر ... وعيني مهاة الرّمل في القمر البدر «2» هلال دجى لولا الخلاخل في الشوّى ... وظبي نقى لولا المناطق في الخصر «3» وينظم عقد الشوق تيها ونخوة ... بياقوت خدّ فوق درّ من الثّغر ومسوّد صدغ فوق محمّر وجنة ... ترى ذاك من مسك وهاتيك من خمر فكم يا غراما جائرا ترشق الحشا ... بأسهم وجد من فراق ومن هجر وقفت فؤادي بين همّ وحسرة ... بذكر له يجري وطيف له يسري ويا طيف أنّى بتّ بتّ مضاجعي ... كأنّك ما قد سار في الأرض من ذكري عدمتك يا من رام شعري سفاهة ... متى كنت من أقران هاروت في السّحر ودادي لهم دان وأمّا ودادهم ... ففي عنق العنقاء أو منسر النسر وأمسك سهم العتب بين أناملي ... وأغمد صمصام الملامة في صدري

وما يحسن الخلخال في الساق يدّعي ... بأنّ له حسن القلادة في النّحر كأنّ القنا تلقاه من أنسه بها ... بتفاحتي خدّ ورمّانتي صدر وقوله: [مجزوء الكامل] لفظ كخدّ يجتلي ... معنى كثغر يرشف «1» وقوله: [الخفيف] لا ترى رأيه يضلّ عن الرّش ... د ونجم الصباح كيف يضلّ «2» وهياج له من البيض والرّايا ... ت تحت العجاج شمس وظلّ 174/وقوله: [الطويل] وأنحلني حتى لو أنّي بكفّة ... وظلّي بأخرى ما رجحت على ظلّي «3» إذا طلعت قلت الغزالة في الضّحى ... وإن نظرت قلت الغزالة في الرّمل خلال يراها الطّرف حتى كأنّها ... مبادي نعاس ذرّ في أعين نجل وقد هذّبته الحادثات وإنّما ... يبيّن إفرند الحسام على الصّقل كذا البدر شبه للهلال ولم يزل ... يرى في هزبر الليث شبه من الشبل تبارك من أبداك بدرا بلا دجى ... وشبلا بلا غيل وغيثا بلا وحل وقوله: [مجزوء الرّمل] صاح غمّضت وما غم ... مض جفنيّ الهجود «4» لبريق هبّ تحدو ... هـ بروق ورعود

مقبل يقصد أحيا ... نا وأحيانا يحيد زجل يحسب في قط ... ريه غيل وأسود علوه في النّجم لكن ... سفله حيث الصّعيد فيه للأزمة والرو ... ضة وعد ووعيد وقوله: [الهزج] وليل مثل يوم البع ... ث في العرض وفي الطول «1» ترى نجمه كالنّا ... ر في زهر القناديل فعاينت به الأنج ... م مثل الأعين الحول أتى الدّن بمبزال ... وإبريق ومنديل منها: فأجراها كخلخال ... من الياقوت مفتول 175/مداما لا يرى طرف ... ك منها غير تخييل كشخص الآل لا يدر ... ك معناه بتحصيل يريك الصّبح في ستر ... من الظلماء مسدول وقوله: [الطويل] وتأتي بك الحاجات عفوا كأنّما ... مغالقها في راحتيك مفاتح «2» ودونكها أبيات شعر كأنّها ... خدود الغواني فوقها المسك فائح وقوله: [البسيط] قبر تودّ العلى ضنّا بساكنه ... على الثرى أنّه فيهنّ محفور «3»

فإن يضق فله من صدره سعة ... وإن دجا فله من وجهه نور «1» وقوله: [البسيط] ترى البرّية في حالي ندى وردى ... يريشها وبحدّ السيف يبريها «2» ففرقة بمناياها مصبّحة ... وفرقة صدقت فيها أمانيها كأنّه الدهر في الآمال ينشرها ... بين العباد وفي الأعمار يطويها إذا الصوارم عرّتهنّ غضبته ... فإنّه بنفوس الأسد كاسيها يظلّ بالهزّ يوم الروع يضحكها ... وبالدماء من الهامات يبكيها حتى كأنّ جفون المشركين حكت ... طيّاتها وأعارتها مآقيها «3» وقوله: [الطويل] يرى فيه إيماض السيوف كأنّه ... خدود الغواني والعجاج لها خمر «4» يهدّى إليه الذئب من أبعد المدى ... وكيف يضلّ الذئب والرائد النّسر وقوله: [الطويل] وتطمح فوّاراتها فكأنّها ... دموع المحبّين استهلّ همولها «5» 176/تمدّ إلى الجوزاء أرماح مائها ... فتذعرها في أفقها وتهولها «6»

وقوله: [الوافر] وإن بدت الستّور لنا رأينا ... بزاة قد قرنّ بطير ماء «1» وأسدا في مرابضها ظباء ... تقابلها على حال استواء فلا هذا يراع لذا ولا ذا ... يروّع ذا بجور واعتداء كأنّ الدار مكة فهي أمن ... لتلك الوحش من سفك الدّماء وقوله: [الكامل] وكذا أنابيب القناة كثيرة ... والموت مقصور على أنبوب «2» وقوله: [السريع] دعا فؤادي للأسى وحده ... وفرّقا للّوم عن سائري «3» وقوله: [المجتث] تتيه كبرا ولكن ... جمالها يتودّد «4» جفت فعالا وأمست ... تحلّ لينا وتعقد وقوله: [المنسرح] وجاهل بالغرام قلت له ... إذ قال لي ما الهوى وما فتنه «5» إن كنت تهوى الممات فاصب هوى ... فالصبّ ميت قميصه كفنه

وقوله: [الخفيف] ربّ يوم بوصلها ساعد الدّه ... ر تساوى صباحه والمساء «1» ساعدتنا ساعاته بحديث ... رقّ حتى جفا إليه الهواء وتخبّى وجه الغزالة عنّا ... وعلينا من الغمام خباء منها: ويك إنّ الحصا مقيم وما يض ... عنّ وهو الحياة إلّا الماء «2» وقوله في القلم: [الكامل] إن قيدته يد مشى ومتى خلا ... من قيده ظلّ الحسير المثقلا «3» 177/يمشي بمفرقه ويعلم ما انطوى ... في قلب صاحبه إذا ما أعملا وقوله: [الخفيف] واستمعها أرقّ من ورق الور ... د وأندى من ياسمين مندّى «4» بمعان لو أنهنّ خدود ... كنّ في الحسن جلّنارا ووردا لو هجونا بها المنون لذلّت ... أو مدحنا بها الزمان لأجدى وقوله: [مجزوء الرمل] قام مثل الغصن المي ... ياد في لين الشباب «5»

يمزج الخمر لنا بالص ... صفو من ماء الرضاب فكأنّ الكأس لمّا ... ضحكت تحت الحباب وجنة حمراء لاحت ... لك من تحت النّقاب وقوله: [الطويل] ألا فاسقني والليل قد غاب نوره ... لغيبة بدر في السماء غريق «1» وقد فضح الظلماء برق كأنّه ... فؤاد مشوق مولع بخفوق مداما كأنّ الكفّ من طيب نشرها ... وصفرتها قد خلّقت بخلوق نعاينها نورا جلاه تجسّد ... ونشربها نارا بغير حريق كأنّ حباب الكأس في جنباتها ... كواكب درّ في سماء عقيق وقوله: [المنسرح] مطرّب الصّبح هيّج الطّربا ... كما قضى الليل نحبه انتحبا «2» مغرّد تابع الصّياح فما ... يدري رضى كان ذاك أم غضبا ما تنكر الطّير أنّه ملك ... لها فبالتاج راح معتصبا 178/طوى الظلام البنود منصرفا ... حين رأى الفجر ينشر العذبا والليل من فتكة الصّباح به ... كراهب شقّ جيبه طربا فباكر الخمرة التي تركت ... بنان كفّ المدير مختضبا كأنّما صبّ في الزجاجة من ... لطف ومن رقّة نسيم صبا وليس نار الهموم خامدة ... إلّا بنور الكؤوس ملتهبا يظلّ زقّ المدام ممتهنا ... سحبا وذيل المجون منسحبا

منها في الكانون: ومقعد لا حراك ينهضه ... وهو على أربع قد انتصبا «1» مصفر محرق تنفّسه ... تخاله العين عاشقا وصبا إذا نظمنا في جيده سبجا ... صيّره بعد ساعة ذهبا فما خبت نارنا ولا وقفت ... خيول لهو جرت بنا خببا وساحر الطّرف لا نقاب له ... إذ كان بالجلنار منتقبا جنيت من ثغره ووجنته ... بلحظ عينيّ زهرة عجبا شقائقا مذهبا يرى خجلا ... وأقحوانا مفضّضا شنبا حتى إذا ما انثنى ونشوته ... قد سهّلت منه كلّ ما صعبا غلبت صحبي عليه منفردا ... وهل به فاز غير من غلبا أرشف ريقا عذب اللّمى خصرا ... كأنّ فيه الضّريب والضّربا «2» وقوله: [المنسرح] قد ضربت خيمة الغمام لنا ... ورشّ جيش النّسيم بالمطر «3» 179/وعندنا عاتقان حمراء كالشم ... س وأخرى صفراء كالقمر مدامة كأنّ من تقادمها ... عاصرها آدم أبو البشر وبنت خدر تريك صورتها ... بدر الدجى جمرة بلا شرر «4»

تسعى علينا بها الوصائف قل ... لدن مجونا قلائد الزّهر يا تاركا طيب يومه لغد ... يبيع عين السرور بالأثر وقوله: [الخفيف] رقّ ثوب الدّجى وطاب الهواء ... وتدلّت للمغرب الجوزاء «1» والصباح المنير قد نشرت من ... هـ على الأرض ريطة بيضاء فاسقنيها حتى ترى الشمس في ال ... غرب عليها غلالة صفراء قد كستها الدّهور أردية الرق ... قة حتى جفا لديها الهواء فهي في خدّ كأسها صفرة التبر ... وفي الخدّ وردة حمراء سبج يستحيل منه عقيق ... وظلام ينسلّ منه ضياء وقوله يذكر ديرا ورهابنة: [البسيط] منادما في قلاليه رهابنة ... راحت خلائقهم أصفى من الراح «2» قد عدّلوا ثقل أديان ومعرفة ... فيهم بخفّة أبدان وأرواح «3» ووشّحوا غرر الآداب فلسفة ... وحكمة بعلوم ذات أوضاح «4» في طبّ بقراط لحن الموصليّ وفي ... نحو المبرّد أشعار الطرماح وكم حننت إلى حاناته وغدا ... شوقي يكاثر أصواتا بأقداح حتى تخمّر خمّاري بمعرفتي ... وحيّرت ملحي في السكر ملّاحي «5»

180/إن تغن كأسك أكياسي فإنّ بها ... يفلّ جيش همومي جيش أفراحي وان أقم سوق إطرائي فلا عجب ... هذا نداك إذا ما قام نوّاحي وقوله: [البسيط] بكى لي غداة البين حين رأى ... دمعي يفيض وحالي حال مبهوت «1» فدمعتي ذوب ياقوت على ذهب ... ودمعه ذوب درّ فوق ياقوت وقوله: [البسيط] أنباك شاهد أمري عن مغيّبه ... وجدّ جدّ الهوى بي في تلعّبه «2» يا نازحا نزحت دمعي قطيعته ... هب لي من الدّمع ما أبكي عليك به وقوله: [البسيط] ما زاره الطّيف بعد اليوم معتمدا ... إلّا ليدني له الشوق الذي بعدا «3» كأنّما من ثناياها ومبسمها ... أيدي الغمام سرقن البرق والبردا وقوله: [البسيط] حمراء حين جلتها الكأس نقّطها ... مزاجها بدنانير من الذّهب «4» كانت لها أرجل الأعلاج واترة ... بالدّوس فانتصفت من أرؤس العرب يسقيكها من بني الكفّار بدر دجى ... ألحاظه للمعاصي أوكد السّبب يومي إليك بأطراف مطرّفة ... بها خضابان للعنّاب والعنب

وقوله: [الكامل] أرعى النجوم كأنّها في أفقها ... زهر الأقاحي في رياض بنفسج «1» والمشتري وسط السماء تخاله ... وسناه مثل الزئبق المتدحرج 181/مسمار تبر أصفر ركبّته ... في فصّ خاتم فضّة فيروزج وتمايل الجوزاء يحكي في الدجى ... ميلان شارب قهوة لم تمزج وتنقّبت بخفيف غيم أبيض ... هي فيه بين تخفّر وتبرّج كتنفّس الحسناء في المرآة إذ ... كملت محاسنها ولم تتزوّج وقوله: [الخفيف] وسحاب يجرّ في الأرض ذيلي ... مطرف زرّه على الجوّ زرّا «2» برقه لمحة ولكن له رع ... د بطيء يكسو المسامع وقرا كخليّ منافق يهوا ... هـ فهو يبكى جهرا ويضحك سرّا وقوله: [الوافر] ألست ترى الظلام وقد تولّى ... وعنقود الثريّا قد تدلّى «3» فدونك قهوة لم يبق منها ... تقادم عهدها إلّا الأقلّا بزلنا دنّها والليل داج ... فصّيرت الدّجى شمسا وظلّا وقوله: [الخفيف] يا معيري بالصدّ ثوب السقام ... أنت همّي في يقظتي والمنام «4»

أنت أمنيتّي فإن رمت غمضا ... سلّمتك المنى إلى الأحلام «1» وقوله: [الكامل] روحي الفداء لظاعنين رحيلهم ... أنكى وأفسد في القلوب وعاثا «2» فليقض عدّته السرور فإنّني ... طلّقت بعدهم النّعيم ثلاثا وقوله: [المنسرح] في كنف الله ظاعن ظعنا ... أودع قلبي وداعه حزنا «3» لا أبصرت مقلتي محاسنه ... إن كنت أبصرت بعده حسنا 182/وقوله: [البسيط] كأنّ خمرته إذ قام يمزجها ... من خدّه اعتصرت أو من ثناياه «4» إذا سقتك من الممزوج راحته ... كأسا سقتك كؤوس الصرف عيناه في وجهه كلّ ريحان تراح له ... منّا قلوب وأبصار وتهواه النرجس الغضّ عيناه وطرّته ... بنفسجّ وجنيّ الورد خدّاه وقوله: [الخفيف] قلت لمّا بدا الهلال لعين ... منعتها من الكرى عيناكا» يا هلال السماء لولا هلال ال ... أرض ما بتّ ساهرا أرعاكا

وقوله: [الطويل] وبدر دجى يمشي به غصن رطب ... دنا نوره لكن تناوله صعب «1» إذا ما بدا أغرى به كلّ ناظر ... كأنّ قلوب الناس في حبّه قلب وقوله: [البسيط] لا تحسبوا أنّني باغ بكم بدلا ... ولو تمكنّت من صبري ومن جلدي «2» قلبي رقيب على قلبي لكم أبدا ... والعين عين عليه آخر الآبد وقوله: [البسيط] فديت من زرعت في القلب لحظته ... صبابة وسقى بالدّمع ما زرعا «3» لو أنّ قلبي وفّاه محبّته ... أحبّه بقلوب العالمين معا وقوله: [المنسرح] كأنّما أنجم السّماء لمن ... يرمقها والظلام منطبق «4» مال بخيل يجمّعه ... من كلّ وجه وليس يفترق وقوله: [الخفيف] يا خليلي من عذيري من الدن ... يا ومن جورها عليّ وصبري «5» عجبا أنّني أنافس في عم ... ران أيامها وتخرب عمري

181/وقوله: [السريع] إن خانك الدّهر فكن عائذا ... بالبيض والظّلماء والعيس «1» ولا تكن عبد المنى فالمنى ... رؤوس أموال المفاليس وقوله: [الكامل] حور جعلن وقد رحلن وداعنا ... بمدامع نطقت وهنّ سكوت «2» فعيونها سبج ونثر دموعها ... درّ وحمر خدودها ياقوت وقوله: [الكامل] ما عذرنا في حبسنا الأكوابا ... سقط النّدى وصفا الهواء وطابا «3» وكأنّما الصبح المنير وقد بدا ... باز أطار من الظلام غرابا فأدم لذاذة عيشنا بمدامة ... زادت على هرم الزمان شبابا سفرت فغار حبابها من لحظنا ... فعلا محاسنها فصار نقابا وقوله: [الكامل] والجوّ يسحب من عليل هوائه ... ثوبا يرشّ بطلّه المترقرق «4» حتى رأينا الليل قوّس ظهره ... هرما وأثّر فيه شيب المفرق وكأنّ ضوء البدر في باقي الدجي ... سيف محلّى باللجين المحرق وقوله: [مجزوء الرمل]

يا شبيه البدر حسنا ... وضياء ومنالا «1» ونظير الغصن لينا ... وقواما واعتدالا أنت مثل الورد لونا ... ونسيما وملالا زارنا حتى إذا ما ... سرّنا بالقرب زالا وقوله: [الخفيف] ربّ ليل فضحته بضياء ال ... راح حتى تركته كالنّهار «2» ذي سماء كخرّم ونجوم ... مشرقات كنرجس وبهار «3» 184/وهلال يلوح في ساعد الغر ... ب كدلموج فضّة أو سوار بتّ أجلو به شموس وجوه ... حملت في الدجى شموس عقار وقوله: [الطويل] وأغيد روّته المدامة فانثنى ... كما ينثني من ريّه الغصن الغضّ «4» دعوت إليها وهي في دعوة الكرى ... وقد أخذت في خلع أسودها الأرض فقام وفي أعطافه فضل سكرة ... وفي عينه من ورد وجنته نفض وقوله: [الكامل] ومدامة صفراء في قارورة ... زرقاء تحملها يد بيضاء «5» فالراح شمس والحباب كواكب ... والكفّ قطب والإناء سماء

وقوله: [المجتث] راح كضوء الشهاب ... سلافة الأعناب «1» والمزج ماء غدير ... صاف كماء الشباب لو لم يكن ماء مزن ... لكان لمع سراب كأنّه جسم درّ ... عليه درع حباب يجري خلال حصيّ ... بيض كقطر السحاب كأنّه الرّيق يجري ... على الثنايا العذاب وقوله: [الكامل المرفل] بأبي التي كتمت محاسنها ... خوف العيون وليس تنكتم «2» لبست سوادا كي تعاب به ... والبدر ليس يعيبه الظّلم وقوله: [الكامل] ما صحّ علم الكيمياء لغيرهم ... فيمن عرفنا من جميع الناس «3» 185/تعطيهم الأموال في بدر إذا ... حملوا الكلام إليك في قرطاس وقوله: [المتقارب] وكبرّ حين رآك الهلال ... كفعلك حين رأيت الهلالا «4» رأى منك ما منه أبصرته ... هلالا تعالى ووجهها تلالا وقوله: [الطويل]

وكم من عدوّ صار بعد عداوة ... صديقا مجلّا في المجالس معظما «1» ولا غرو فالعنقود من عود كرمة ... يري عنبا من بعد ما كان حصرما وقوله: [الكامل] وأخ رخصت عليه حتى ملّني ... والشيء مملول إذا ما يرخص «2» ما في زمانك ما يعزّ وجوده ... إن رمته إلّا صديق مخلص وقوله يصف السيف: [الكامل] متوقّد مترقرق عجبا له ... نار وماء كيف يجتمعان «3» تجري مضاربه دما يوم الوغى ... فكأنّما حدّاه مفتصدان وقوله: [المنسرح] لمّا تبدّى الكوفيّ ينشدنا ... قلنا له طعنة وطاعونا «4» تجمّع يا أحمق العباد لنا ... شعرك في برده وكانونا وقوله في مثله: [المنسرح] لو أنّ فيه جمرا ثمّ أنشدنا ... شعرا لما ضّره من برد انشاده «5» وأمّا شعر أبي عثمان بن سعيد فمنه قوله: [المنسرح] أما ترى الطلّ كيف يلمع في ... عيون نور يدعو إلى الطّرب «6»

في كلّ عين للطلّ لؤلؤة ... كدمعة في جفون منتحب والصّبح قد جرّدت صوارمه ... والليل قد هّم منه بالهرب 186/والجوّ في حلّة ممسّكة ... قد كتبتها البروق بالذهب فهاتها كالعروس محمّرة ال ... خدّين في معجر من الحبب «1» كادت تكون الهواء في أرج ال ... عنبر لو لم تكن من العنب من كفّ راض عن الصدود وقد ... غضبت في حبّه على الغضب فلو ترى الكأس حين يمزجها ... رأيت شيئا من أعجب العجب نار حواها الزّجاج يلهبها ال ... ماء ودر يدور في لهب وقوله: [مجزوء الكامل] والجوّ حلّته ممس ... سكة وطرفه معنبر «2» والماء عوديّ القمي ... ص وطيلسان الأرض أخضر «3» وقوله: [المتقارب] فديتك ما شبت عن كبرة ... وهذي سنيّ وهذا الحساب «4» ولكن هجرت فحلّ المشي ... ب ولو قد وصلت لعاد الشباب وقوله: [مجزوء الوافر] يسوّفني بنائله ... وقد أهدى لي الأسفا «5»

وآخذ وصله عدة ... ويأخذ مهجتي سلفا وقوله: [الوافر] دموعي فيك أنواء غزار ... وقلبي ما يقرّ له قرار «1» وكلّ فتى علاه ثوب سقم ... فذاك الثوب منّي مستعار وقوله: [الخفيف] وقفتني ما بين همّ وبؤس ... وثنّت بعد ضحكة بعبوس «2» إذا رأتني مشّطت عاجا بعاج ... وهي الأبنوس بالأبنوس 187/وقوله: [المتقارب] كأنّ الرّعود خلال البرو ... ق والريح تكثر تحريضها» رتوج إذا خفقت بينها ... دبادبها جردّت بيضها «4» وقوله: [مجزوء الكامل] يا هذه إن رحت في ... خلق فما في ذاك عار «5» هذي المدام هي الحيا ... ة قميصها خزف وقار وقوله: [الخفيف]

شعر عبد السلام فيه رديّ ... ومحال وساقط وبديع «1» فهو مثل الزمان فيه مصيف ... وخريف وشتوة وربيع وقوله: [البسيط] أما ترى الغيم يا من قلبه قاس ... كأنّه أنا مقياسا بمقياس «2» قطر كدمعي وبرق مثل نار هوى ... في القلب منّي مديح مثل أنفاس «3» وقوله: [مجزوء الرّمل] يا نديمي اطلق الفج ... ر فما للكأس حبس «4» قهوة طلعتها قب ... ل طلوع الشمس شمس «5» وهي كالمريخ لكن ... هي سعد وهو نحس وقوله: [الخفيف] يا قضيبا يميس تحت هلال ... وهلالا يرنو بعيني غزال «6» منك يا شمسنا تعلمت الشم ... س دنوّ السنّا وبعد المنال وقوله: [مجزوء الكامل] وكساه ثوب مشيبه ... في عنفوان شبابه «7» فتراه يؤذن في أوا ... ن مجيئه بذهابه

وقوله: [الخفيف] هتف الصّبح بالدّجى فاسقنيها ... قهوة تترك الحليم سفيها «1» لست أدري لرقّة وصفاء ... هي في الكأس أم الكأس فيها «2» 188/وقوله: [مجزوء الخفيف] ظالم لي وليته ال ... دّهر يبقى ويظلم «3» وصله جنّة ول ... كن جفاه جهّنم ورضاه وسخطه ل ... ي عرس ومأتم وقوله: [الخفيف] إنّ شهر الصّيام إذ جاء في فص ... ل ربيع أودى بحسن وطيب «4» وكأنّ الورد المضعّف في الصّو ... م حبيب يمشي بجنب رقيب وقوله: [مجزوء الرجز] كأنّما نجومها ... في مغرب ومشرق «5» دراهم منثورة ... على بساط أزرق وقوله: [الطويل] بنفسي حبيب بان صبري ببينه ... وأودعني الأحزان ساعة ودّعا «6»

وأنحلني بالهجر حتى لو انّني ... قذى بين جفني أرمد ما توجّعا وقوله: [السريع] حتى إذا ما انحلّ جيب الدّجى ... فينا وجيب الصّبح مزرور «1» جرت هنات لي أجملتها ... فهل لها عندك تفسير وقوله: [مجزوء الرجز] معصفر التّفاح في ... خدّ مليح الضّرج «2» جمّشه الشعر وما ... ذاك لطول الحجج وإنما عارضه ... شنّفه بالسّبج وقوله: [البسيط] وللنسيم على الغدران رفرفة ... يزورها فتلقّاه بأمواج «3» وكلّها من أزاهير النّهار على ... رؤوسنا كأنو شروان في التاج «4» ونحن في فلك اللهو المحيط بنا ... كأننا في سماء ذات أبراج وقوله: [البسيط] في شمّك المسك شغل عن مذاقته ... وفي سنا الشمس ما يغني عن القمر «5» 189/لو لم أكن مشبها للناس في خلقي ... لقلت إنّي من جيل سوى البشر أو لم يكن ماء علمي قاهرا فكري ... لأحرقتني في نيرانها فكري

تزيدني قسوة الأيام طيب ثنا ... كأننّي المسك بين الفهر والحجر أرى ثيابا وفي أثنائها بقر ... بلا قرون وذا عيب على البقر إنّي لأسير في الآفاق من مثل ... سار وأملأ للأبصار من قمر إذا تشكّكت فيما أنت مبصره ... فلا تقل إنني في الناس ذو بصر وكيف يفرح إنسان بغرّته ... إذا نصاها فلم تصدقه في النّظر لقد فرحت بما عانيت من عدم ... خوف القبيحين من كبر ومن بطر وربّما ابتهج الأعمى بحالته ... لأنّه قد نجا من طيرة العور ولست أبكي لشيب قد منيت به ... يبكي على الشيّب من يأس على العمر كن من صديقك لا من غيره حذرا ... إن كان ينجيك منه شدّة الحذر وقد نظرت إلى الدنيا بمقلتها ... فاستصغرتها جفوني غاية الصّغر وما شكرت زماني وهو يصعد بي ... فكيف أشكره في حال منحدري لا عار يلحقني أنّي بلا نشب ... وأيّ عار على عين بلا حور وإن بلغت الذي أهوى فعن قدر ... وإن حرمت الذي أهوى فعن عذر وقوله: [الكامل] وإذا تطلّع في مرائي فكره ... لم تخف خافية على تنقيبه «1» فتراه يبلغ ما أراد برفقة ... كالفجر يبلغ ما ابتغى بدبيبه وقوله: [الكامل] والحبّ لولا جوره في حكمه ... ما سلّم الأقوى لأمر الأضعف «2» 190/لم يبق لي جسما ولا دمعا فقل ... في مدنف يبكي بدمع مدنف

6 - أبو العباس أحمد بن إبراهيم الضبي

ومنهم: 6- أبو العبّاس أحمد بن إبراهيم الضّبي «1» شاعر يعقد الثريا إكليلا، ويبسط النّشرة منديلا، ويدني منه القمر نزيلا، ويأوي منازل الأسد غيلا، يسلك المجرّة سبيلا، ويسكن الزهر قبيلا، ويقيم الصّباح دليلا، ويأتي بالشمس أو مثلها تمثيلا، ويبذل الدرّ في لفظه فيطلب الزّهر عليه تطفيلا. جمع به شلو ضبّة بعد أن مزّقه المتنبي كلّ ممزّق «2» ، وضمّ شملها بعد أن بدّده بالهجاء فتفرّق، وتدارك آخرها بعد أن هلهل نسجها بقوارضه، وجلّل سماءها بكسف عوارضه حتى كأنّ أبا برزة في حيّها لم يمت، وفيء ما جنح بعد العصر ولم يفت، وشعره ممّا لا ينكر مجيد إحسانه ولا يغضّ منه وقد ماثل آس السوالف من قلم سوسانه، ولا يلوم من قال بقوله: إنّ البنفسج لمّا زعم أنّه كعذاره سلّوا من قفاه لسانه. ومن المختار له: قوله: [الكامل] زعم البنفسج أنّه كعذاره ... حسنا فسلّوا من قفاه لسانه لم يظلموا في الحكم إذ مثلوا به ... بأشدّ ما رفع البنفسج شانه وقوله: [المنسرح]

يا مهديا لي بنفسجا نضرا ... يرتاح قلبي له وينشرح بشّر بي عاجلا مصحّفه ... بأنّ ضيق الأمور تنفسح وقوله: [الوافر] ترفّق أيّها المولى بعبد ... فقد أفنت لواحظك النفوسا «1» وأسكرت العقول فلست تدري ... أسحرا ما تسقّي أم كؤوسا 191/وقوله: ألا يا ليت شعري ما مرادك ... فقلبي قد أضرّ به بعادك «2» وأيّ محاسن لك قد سبتني ... جمالك أم كمالك أم ودادك وأيّ ثلاثة أو فى سوادا ... أخالك أم عذارك أم فؤادك وقوله: [مجزوء الكامل] لا تركننّ إلى الفراق ... فإنّه مرّ المذاق «3» فالشمس عند غروبها ... تصفّر من فرق الفراق وقوله: [مجزوء الرجز] خلت الثريا إذ بدت ... طالعة في الحندس «4» مرسلة من لؤلؤ ... أو باقة من نرجس

7 - أبو الحسن محمد بن عبيد الله بن محمد القرشي المخزومي المعروف بالسلامي

ومنهم: 7- أبو الحسن محمد بن عبيد الله بن محمد القرشي المخزومي المعروف بالسلامي «1» من ولد الوليد بن الوليد بن المغيرة. عطارد فهم وطارد وهم وراشق بكلّ معنى كأنّه سهم، وطارق باب قبله لم يفتح وطارح رشاء في قليب لولاه لم يمتح، ومادح ملوك وهو أحقّ لحسبه أن يمدح إذ كان من مخزوم في ولد المغيرة وعدد تلك السوابق المغيرة، جدولا من تلك البحار وكوكبا من أولئك الأقمار، وفي النّسب القرشي قطعة من ذلك الغرار وشعبة من سيل ذلك القرار. والسّلامي بفتح السين المهملة نسبة له إلى دار السّلام بغداد، لا إلى الآباء والأجداد كأنّه سمّي بهذا لسلامة شعره من العيوب، وسلاسة لفظه كأنّه الماء الشّروب. قال الثعالبي «2» : هو من أشعر أهل العراق قولا بالإطلاق، وشهادة بالاستحقاق، وعلى ما أجريته من ذكره شاهد عدل من شعره والذي كتبت من محاسنه نزه العيون،/ 192/

ورقى القلوب، ومنى النفوس. ذكر «1» هذا في تقريظه ونسي أمثاله ممّا تملى حسناته على حفيظه. نشأ «2» ببغداد وخرج إلى الموصل وهو صبيّ ما خرج لزهره من كمامه جنيّ، فوجد بالموصل جماعة من مشايخ الشعراء منهم أبو عثمان الخالدي، وأبو الفرج الببغاء، وأبو الحسن التلعفري، فلمّا رأوه عجبوا منه لبراعته مع حداثة سنّه، ودماثة ما لم يشتد من يانع غصنه فاتّهموا في الشعر دعواه، وما شكّوا أنّما ينشدهم لسواه، فقال الخالدي: أنا أكفيكم أمره وأستبين لكم فجره، واتخذ دعوة جمع عليها الآراء، وجمع عليها الشعراء، وأحضر السلامي ليزيل المراءة، فلمّا توسّطوا الشراب أخذوا في التنبيش على بضاعته، والتفتيش على صناعته، فجاء مطر شديد أفاض تلك الغدر، وأضاف إليه بردا شابت به النّواصي العذر حتى كأنّما مرّ السحاب بتلك الرّبى مسبل الجلباب، أو آبت به غربة النّوى فتضاحكت من جميع نواحيه ثغور الأحباب، فألقى الخالديّ نارنجا كان بين يديه في ذلك البرد، وأوقد منه نارا في ماء جمد كأنّما أهدى به الخدود إلى الثغور، أوصفّ به الياقوت على اللؤلؤ المنثور ثم قال: يا أصحابنا هل لكم أن نصف هذا؟ فقال السلامي شعرا منه: [مجزوء الكامل] أهدي لماء المز ... ن عند جموده نار السّعير لا تعذلوه فإنّما ... أهدى الخدود إلى الثغور فعرفوا حينئذ حقّه، وشهدوا له من الفضل بما استحقّه، ثمّ كانوا يذعنون لإجادته ويمعنون في وصف ما يرونه من ريادته إلّا التلعفري فإنّه أقام على قوله الأول، وهل تصحّ دعوى من يتقوّل؟! 193/واتصل بعضد الدولة/ فاشتمل عليه بجناح القبول، ودفع إليه مفتاح المأمول. وكان عضد الدولة يقول: إذا رأيت السّلامي في مجلس ظننت أنّ عطارد قد نزل من

الفلك إليّ، ووقف بين يدي، ثمّ تراجع بعده طبع السلامي، ورقّت حاله، ثمّ قّرت به الجدث رحاله. ومن شعره المطبوع، ودّره المبذول الممنوع، قوله: [الوافر] وميدان تجول به خيول ... تقود الدّار عين ولا تقاد «1» ركبت به إلى اللّذات طرفا ... له جسم وليس له فؤاد جرى فظننت أنّ الأرض وجه ... ودجلة ناظر وهو السواد وقوله، وقد رأى المرآة في يد غلام كان يهواه: [المنسرح] رأيته والمرآة في يده ... كأنّها شمسة على ملك «2» فقلت للصورة التي احتجبت ... من غير زهد فينا ولا نسك يا أشبه الناس بالحبيب ألا ... تخبرنا عنك غير مؤتفك قال: أنا البدر زرت بدركم ... وهذه قطعة من الفلك فقلت: إنّي أرى بها صدأ ... فقال: هذا بقية الحبك وقوله في التلعفري: [الوافر] فصنعتي النفيسة في لساني ... وصنعته الخسيسة في قذاله «3» فإن أشعر فما هو من رجالي ... وإن يصفع فما أنا من رجاله ودخل على أبي ثعلب وبين يديه درع محبوكة كأنّها من عيون الجراد مسبوكة، فقال: صفها وانصفها، فارتجل من غير وجل ولا خجل: [الكامل]

194/يا ربّ سابغة حبتني نعمة ... كافأتها بالسوء غير مفنّد «1» أضحت تصون عن المنايا مهجتي ... فظللت أبذلها لكلّ مهنّد ومن شعره قوله في الصاحب بن عباد: [الوافر] رقي العذّال أم خدع الرّقيب ... سقت ورد الخدود من القلوب «2» وآباء الصبّابة أم بنوها ... يروضون الشبيبة للمشيب وقفنا موقف التوديع نوطي ... نجوم الدّمع آفاق الغروب تعجّب من عناق جرّ دمعا ... وتقبيل يشيع بالنحيب وقد ضاق العنان فلو فطنّا ... دخلنا في المخانق والجيوب تبسّطنا على الأيام لمّا ... رأينا العفو من ثمر الذنوب «3» ولولا الصاحب اخترع القوافي ... لما سهل الخلاص من النسيب ومن يثني إلى ليث هصور ... لواحظه عن الرشأ الربيب وكيف يمسّ حدّ السيف طوعا ... قريب الكفّ من غصن رطيب يشقّ الفكر عن لفظ بديع ... فيقدم بي على معنى غريب وقوله: [الكامل] وأتى الخيال فلا يزرني في الكرى ... حاشا لحسنك أن يكون خيالا «4» وقوله من أرجوزة في الصاحب: [الرجز]

وشم يروق سيفه إذا وقد ... وانساب ماء الحسن فيه واطّرد «1» كالروح لا تكمن إلّا في جسد منها في ذكر الفرس: خاض الدّماء وتحلّى بالزّبد ... كأنّه إنسان عين في رمد 195/وقوله في عضد الدولة: [الطويل] إليك طوى عرض البسيطة جاعل ... قصارى المطايا أن يلوح لها القصر «2» وكنت وعزمي والظلام وصارمي ... ثلاثة أشباه كما اجتمع النّسر وبشّرت آمالي بملك هو الورى ... ودار هي الدنيا ويوم هو الدّهر وقوله: [الوافر] منيت بمن إذا منّيت أفضت ... مناي إلى بنفسج عارضيه «3» وفاضت رحمة لي حين ولّى ... مدامع كاتبيّ وكاتبيه وقوله: [المتقارب] فما زلت أعصر من خمره ... وأقطف من مجتنى ورده «4» أشمّ بنفسج أصداغه ... وزهرا تعصفر في خدّه وأظمأ فأرشف من ريقه ... فيا حرّ صدري إلى برده وما للّحاظ سوى وجهه ... ولا للعناق سوى قدّه

وقوله فى أعرابي اسمه سعيد بعمامة حمراء: [المتقارب] أعناق من قدّه صعدة ... ترى اللّحظ منها مكان السّنان «1» أدار اللّثام على ثغره ... فأهدى الشقيق إلى الأقحوان ومسك ذوائبه سائل ... على آس ديباجه الخسرواني أحيّيه بالورد والياسمين ... فيصبو إلى الشيّح والأيهقان فيا بدويّ سهام الجفون ... صرعن ضيوفك حول الجفان فإن كان دينك رعي الذّمام ... فقل أنت من مقلتي في أمان «2» 196/وقوله في غلام التحى: [المنسرح] في كلّ يوم تراه مؤتزرا ... بالرّوض بين الحياض والبرك «3» وما علمنا بأنّه قمر ... حتى اكتسى قطعة من الفلك وقوله من أرجوزة: [الرجز] وليلة كأنّها على حذر ... فمرّها أسرع من لمح البصر «4» من قبلها لم أر ليلا مختصر ... ولا زمانا لم يبن منه القصر والليل لا يركب إلّا في غرر ... إذا وفى أحبابنا فيه غدر زار وما ازورّ الدّجى ولا اعتكر ... أبيض إلّا المقلتين والشّعر أغرّ أوقاتي إذا زار غرر ... فلم يكن إلّا السلّام والنّظر أو قبلة خالستها على خطر ... حتى انتضى الفجر حساما مشتهر وانفلّ من أهواه في جيش البكر ... فبتّ محزونا كأنّي لم أزر

يا حسرتا لليلنا كيف انحسر وقوله: [المتقارب] عذارك جادت عليه الرّيا ... ض بأجفانها وبآماقها «1» وطال غرام الغواني به ... فقد طرزّته بأحداقها وقوله: [الخفيف] فاض ماء الجمال في الأقطار ... كلّ بدر مطرّز بعذار «2» قد أرانا عقارب الصّدغ من خد ... ديه تأوي مكان الجلّنار وقوله: [المتقارب] يغضّ الغزال جفون الغزل ... وقد فضح الكحل فيها الكحل «3» ولولا جنى الورد من وجنتيه ... ما أوجب اللثم ذاك الخجل 197/وقوله: [الكامل] ما تسرع الألحاظ تخطو خطوة ... في خدّه إلّا عثرن بخاله «4» قد نقّبوه وزرفنوا أصداغه ... ختموا بغالية على أقفاله وقوله في معذر: [الرجز] تعرّض الشّعر بعارضيه ... فأطلق العشاق من يديه «5»

حتى إذا أبصر وجنتيه ... جاد عذاريه بعبرتيه كأنّما يغسل من خدّيه ... صحيفة قد كتبت عليه وقوله في غلام تركي: [الكامل] علّقت مفترس الضّراغم فارسا ... رحب المدى والصّدر والميدان «1» قمر من الأتراك يشهد أنّه ... الخود الحصان على أقبّ حصان ورمى بلحظته القلوب وسهمه ... فعجبت كيف تشابه السّهمان بطل حمائله كعارضه وحا ... جبه الأزجّ كقوسه المرنان حييّته ولعا فأمطر راحتي ... قبلا فليت فمي مكان بناني وخدعته بالكأس حتى ارتاض لي ... ودرأت عنيّ الحدّ بالكتمان وقوله: [البسيط] وللصّبابة قوم لا يسرّهم ... أن يلبسوا الوشي إلّا تحته سقم «2» أشتاق أهلي لظبي بين أرحلهم ... والحب يوصل مالا يوصل الرّحم وقوله: [البسيط] ما ضنّ عنك بموجود ولا بخلا ... أعزّ ما عنده النّفس التي بذلا «3» تحكي المطايا حنينا والهجير جوى ... والمزن دمعا وأطلال الديار بلى 198/وقوله: [البسيط] صحبته والصّبا تغري الصّبابة بي ... والوصل طفل غرير والهوى يفع «4»

أيام لا النّوم في أجفاننا خلس ... ولا الزيادة من أحبابنا لمع إذ الشبيبة سيفي والهوى فرسي ... ورايتي اللهو واللّذات لي شيع وليلة لا ينال الفكر آخرها ... كأنّما طرفاها الصّبر والجزع أحببتها ونديمي في الدجي أمل ... رحب الذّرى وسميري خاطر صنع حتى تبسّم إعجابا بزينته ... لفظ بديع ومعنى فيك مخترع وقوله: [الوافر] ويذكرني بذكر الرّبع غيد ... به صيد وحور فيه عين «1» سللن من العيون السود بيضا ... فما أدري قيان أم قيون «2» وقوله: [الوافر] أتنشط للصّبوح أبا عليّ ... على حكم المنى ورضى الصّديق «3» بنهر للرياح عليه درع ... يذهّب بالغروب وبالشروق إذا اصفرّت عليه الشمس صبّت ... على أمواجه ماء الخلوق وقفت به وكم خّد رقيق ... يغازلني على قدّ رشيق وخمر صبّ في الأغصان حتّى ... أضاع الماء في وهج الحريق «4» كدهم الخيل في ميدان تبر ... تصاغ لها كرات من عقيق فهل لك في ختام المسك فضّت ... نوافجه ومختوم الرّحيق وقوله: [الوافر]

ونهر تمرح الأمواج فيه ... مراح الخيل في رهج الغبار «1» 199/إذا اصفرّت عليه الشمس خلنا ... نمير الماء يمزج بالعقار كأنّ الماء أرض من لجين ... مغشّاة صفائح من نضار وأشجار محمّلة كؤوسا ... تضاحك في احمرار واخضرار إذا أبصرت في نهر سماء ... وهبن لها نجوم الجلّنار وقوله: [البسيط] وقد كتبت إلى ان خانني قلمي ... وقد ترددّت حتى ملّني الطّرق «2» فابعث إليّ بصفو الراح يشبهه ... منيّ قريضي ومنك العرف والخلق وقوله: [الكامل] والطير قد طربت لحسن غنائنا ... لو أنّها فطنت لشرب الكاس «3» والشمس من حسد تغيّر لونها ... ألّا تكون كغرّة العباس أنا لا أبالي من فقدت من الورى ... إمّا حضرت فأنت كلّ الناس وقوله: [البسيط] والكأس للسكّر التبريّ صائغة ... والماء للحبب الدّري نظّام «4» بتنا نكفكف للكاسات أدمعنا ... كأنّنا في جحور الروّض أيتام «5» وقوله: [المتقارب]

نفرّغ أكياسنا في الكؤوس ... نبيع العقار ونشري العقارا «1» حمدنا الهوى ونسينا الفراق ... ومن يشرب الخمر ينس الخمارا وقوله: [الطويل] غزال صريم في رجوم صوارم ... وبدر تمام في نجوم تمائم «2» وكان رقادي بين كأس وروضة ... فصار سهادي بين طرف وصارم ولولا نسيب مطرب من قصائدي ... لما احتال طيف في زيارة نائم 200/وقوله: [الكامل] أو ما ترى طرز البروق توسّطت ... أفقا كأنّ المزن فيه شفوف «3» واليوم من خدّ الشقيق مضرّج ... خجل ومن مرض النسيم ضعيف «4» والأرض طرس والرياض سطوره ... والزهر شكل بينها وحروف وكأنّما الدولاب ضلّ طريقه ... فتراه ليس يزول وهو يطوف وقوله: [الطويل] وقد خالط الفجر الظلام كما التقى ... على روضة خضراء ورد وأدهم «5» وعهدي بها والليل ساق ووصلنا ... عقار وفوها الكأس أو كأسها فم إلى أن بدرنا والنجوم وغربها ... يفضّ عقود الدرّ والشرق ينظم ونبّهت فتيان الصّبوح للذّة ... تلوح كدينار يغطّيه درهم

وقوله ارتجالا في ذكر شعب بوّان، وقد نزله عضد الدولة: [البسيط] إذا لبس الهيف من أغصانه حللا ... ولقّن العجم من أطياره نتفا «1» وثمرت حسنه الأغصان مثمرة ... من نازع قرطا أو لابس شنفا والماء يثني على أعطافه أزرا ... والريح تعقد من أطرافها طرفا من قائل نسجت درعا مضاعفة ... وقائل ذهّبت أو فضّضت صحفا ظلّت تزفّ إلى الدنيا محاسنها ... وتستعدّ لها الألطاف والتّحفا ولست أحصي حصى الياقوت فيه ولا ... درّا أصادفه في مائه صدفا وقوله في النار: [البسيط] يعلو الدخان بسود من ذوائبها ... قد عطّ عنها قناع التبر واستلبا «2» 201/قد كلّلت عنبرا بالمسك ممتزجا ... وطوّقت جلّنارا واكتست ذهبا فالنور يلعب في أطرافها مرحا ... والخمر يرعد في أكنافها رهبا وطار عنها شرار لو جرى معه ... برق دنا أو تلقّى كوكبا لكبا لو كان وقت نثار خلته دررا ... أو كان وقت انتصار خلته شهبا والليل عريان فيها من ملابسه ... نشوان قد شقّ أثواب الدجى طربا أقسمت بالطرف لو أشرفت حين خبت ... جعلت أنفس أعضائي لها حطبا وقوله: [الخفيف] فسمونا والفجر يضحك في الشر ... ق إليها مبشّرا بالصباح «3» والثريا كراية أو كجام ... أو بنان أو طائر أو وشاح

وكأنّ النجوم من كفّ ساق ... يتهادى بهادي الأقداح «1» وجمعنا بين اللواحظ والرّا ... ح وبين الخدود والتفّاح وشممنا بنفسج الصّدغ حتى ... طالعتنا من الثغور الأقاحي زمن فات بين لهو وشرب ... وغناء وراحة وارتياح وقوله وقد خرج من دار الشريف الرضي في المطر فأعطاه كساء تلفّع به: [الكامل] أشكو إليك عشيّة لم نفترق ... فيها على ملل ولا استعتاب «2» ما كنت إلّا جنّة فارقتها ... كرها فصبّ عليّ سوط عذاب ودّعت دارك والسماء تحدّني ... بيد الغمام فلا يكن بك ما بي «3» ما زلت أركض في الوحول مباريا ... فيها الخيول لواحق الأقراب وحمى كساؤك- لا عدمت معيره- ... درّاعتي وعمامتي وجبابي 202/فوليت يا بحر السماحة كسوتي ... وولي أخوك الغيث بلّ ثيابي غيثان هذا ابن الذي من أجله ... خلق السحاب وذا سليل سحاب فوصلت أشكو ذا وأشكر ذا وما ... يغنين ما بهما عن التسكاب «4» وقوله: [المتقارب] ولم نر بحرا جرى كالعقار ... ولا ذهبا صيغ منه جبل «5» إلى أن جرت دجلة في الشعاع ... وطنّب بالنور أعلى القلل

سحاب الدخان وبرق الشرار ... ورعد الملاهي وغيث الجذل وما زال يعلو عجاج الدخان ... حتى تلوّن منه زحل وكنّا نرى الموج من فضّة ... فذهّبه النور حتى اشتعل وقوله يستهدي مهرا: [الطويل] فمر لي به لا الدّهم فازت بلونه ... ولا البرش حازت بردتيه ولا الصّقر «1» كميت تذال الشهب والبلق إن بدا ... وتسمو بما نالته من شبهه الشّقر يخوض إذا لاقى دما مثل لونه ... ولا ماء إلّا ماء رونقه الغمر فغرّته مبيضّة وخجولة ... ولكن أريقت فوق سائره الخمر وأسبق من عاف إليك وشاعر ... قوافيه أفراد محجّلة غرّ وقوله في وصف زنبور: [الطويل] ولابس لون واحد وهو طائر ... ملوّنة أبراده وهو واقع «2» أغرّ محشّ الطيلسان مدبّج ... وسود المنايا في حشاه ودائع إذا حكّ أعلى رأسه فكأنّما ... بسالفتيه من يديه جوامع 203/يخاف إذا ولّى ويؤمن مقبلا ... ويخفي على الأقران ما هو صانع بدا فارسيّ الزيّ يعقد خصره ... عليه قباء زينّته الوشائع فمعجزه الورديّ أحمر ناصع ... ومئزره التبريّ أصفر فاقع يرجّع ألحان الغريض ومعبد ... ويسقي كؤوسا ملؤها السّم ناقع وقوله يصف الحرب: [الكامل] فالروض من زهر النجوم مضرّج ... والماء من ماء الترائب أشكل «3»

والنّقع ثوب بالنسور مطيّر ... والأرض فرش بالجياد مخيّل يهفو العقاب على العقاب ويلتقي ... بين الفوارس أجدل ومجدّل وسطور خيلك إنّما ألفاتها ... سمر تنقّط بالدّماء وتشكل وقوله: [الكامل] خلنا على الكرسيّ ليثا غابه ... سمر القنا نبتت بغيض بحاره «1» وغداة ظلت مساير الإقبال في ... خلع الإمام وطوقه وسواره متسوّرا بأهلّة متطوّقا ... بالشمس أو بالبدر أو أظّاره «2» في خلعة صيغ الشباب بلونها ... فالخلق قد جبلوا على إيثاره وقوله في عبد العزيز بن يوسف وقد ورد رسولا على الخليفة من قبل عضد الدولة: [المتقارب] دنوت إلى تاجه والسرير ... فهذا تعالى وذاك اتّسع «3» وضاحك برد النبيّ القضي ... ب أنسا بخوضك فيما شرع وأثنت فضائلك الباهرات ... على ملك الدهر فيما اصطنع 204/طلعت فكنت كنجم الصّبا ... ح دلّ على الشمس لمّا طلع ومن كلّف الدّهر أمثالكم ... فقد كلّف الدّهر ما لم يسع وقوله: [الوافر] كرمت وسدت فالجدوى انتهاب ... إذا زرناك والمدح اقتضاب «4»

أخزّان وما أبقيت مالا ... وأبواب وقد رفع الحجاب وقوله: [الكامل] إن كان بالكرم الخلود فما أرى ... في العالمين سوى سعيد يسلم «1» وله من الحسن البديع براقع ... وعليه من بشر السّماحة ميسم عبق به مسك الثناء تكاد في ... النادي نوافج مسكه تتكلّم وقوله: [الكامل] قد قلت حين أفاض أحمد سيبه ... يا شقوة المتشبّهين بأحمد «2» يشرون مثل جياده وعبيده ... أفيقدرون على ابتياع السؤدد وقوله: [الكامل] أفلا أجار ولي ثلاثة أشهر ... لا تعلمون بما أقيم تجمّلي «3» قد بعت حتى بعت طرفا قائما ... تحت القدور على ثلاثة أرجل وقوله: [الوافر] وكيف أزوركم والمزن تبكي ... على داري بأربعة سجام «4» وكانت منزلا طلق المحيّا ... فصارت واديا صعب المرام وبحرا من عجائبه خلوصي ... إليكم ظامئا والبحر طام بناتي كالضفادع في ثراها ... وأهلي في الروازن كالحمام

تهافت ركّع الجدران فيها ... سجودا للرعود بلا إمام 205/كأنّ مصون ما أحرزت فيها ... على أبواب مشرعة الخيام وقوله يذكر سقطته في سكره: [الطويل] وكانت لنا في جبهة الدّهر ليلة ... كهمّك لان العيش فيها وأخصبا «1» عفا الدهر عنها بعد ما كان ساخطا ... وأحسن فيها بعد ما كان مذنبا فيا فرحتا لو كنت أصبحت سالما ... ويا شقوتي إن مركبي زلّ أو كبا «2» أروح وصبغ الراح يخضب راحتي ... وأغدو بعضو من دمي قد تخضّبا يقولون [لي] تب لا تعاود لمثلها «3» ... وهيهات ضاع الوعظ فيّ وخيّبا وكم قبلها قدمتّ بالسكر مرّة ... وعدت فكان العود أحلى وأطيبا وقوله: [مجزوء الكامل] نبهّت ندماني وقد ... عبرت بنا الشّعري العبور «4» والبدر في أفق السّما ... ء كروضة فيها غدير

8 - أبو سعيد محمد بن محمد بن الحسن الرستمي

ومنهم: 8- أبو سعيد محمد بن محمد بن الحسن الرستمي «1» رقيق الحاشية، دقيق الناشية، كأنّما أمدّته عانة بسلافها، وحبته الرياض جنى ألفافها بعبارات ألعب بالألباب من نبت الزرجون، وإشارات أقتل للعشاق من إيماء الجفون، أبرزها في معان كانت له مخبوءة في مدارج الكلام، وألفاظ كانت له معدّة على ألسنة الأقلام فجاء من الكلام بما حلى العاطل، وطلع في الظلام فجره الصادق لا المماطل، وكان الصاحب بن عباد يمازحه، ويداعبه فيما يطارحه ميلا إلى خلقه الدمث، ولطفه المنبعث، وممّا استجيد له انتقاؤه، 206/واستعيد به إذ فات لقاؤه،/ قوله: [الطويل] وكادت تناجينا الديار صبابة ... وتبكي كما نبكي عليها المنازل «2» فمن واقف في جفنه الدمع واقف ... ومن سائل في خدّه الدّمع سائل كأنّ عيون النّرجس الغضّ بينها ... نشاوى كرى أعناقهنّ موائل «3» وقوله: [الطويل] وأهيف معشوق الدلّال منعّم ... معقرب صدغ كالهلال مداره إذا ما استعار الجلّنار بخدّه ... أعار الحشا من خدّه جلّ ناره وقوله في الصاحب بن عبّاد: [الكامل]

ورث الوزارة كابرا عن كابر ... موصولة الإسناد بالإسناد «1» يروي عن العبّاس عبّاد وزا ... رته وإسماعيل عن عبّاد شرف كعقد الدّر واصل بعضه ... بعضا كأنبوب القنا المنّاد وعلى كأيام السنين ترادفت ... أيّامها بمكرّر ومعاد بين المدينة واديان تجاريا ... وكأنّما كانا على ميعاد «2» مدّان هذا ليس ينفد فضله ... أبدا وهذا فيضه لنفاد وقوله: [الطويل] إذا نزلوا اخضرّ الندى من نزولها ... وإن نازلوا احمرّ الثرى من نزالها «3» ببيض كأنّ الملح فوق متونها ... ودهم كأنّ الزنج تحت جلالها [وقوله] «4» : [الطويل] أفي الحقّ أن يعطى ثلاثون شاعرا ... ويحرم ما بين الورى شاعر مثلي «5» كما سامحوا عمرا بواو زيادة ... وضويق باسم الله في ألف الوصل «6» 207/وهل بارق يشتام إلّا من الحيا ... وهل عسل يشتار إلّا من النّحل وقاك بنو الدّنيا جميعا صروفها ... جميعا فإنّ الجفن من خدم النّصل

9 - أبو محمد، الحسن بن علي بن مطران

ومنهم: 9- أبو محمد، الحسن بن علي بن مطران «1» إذا شعر فالدّرر لولا صدفها، والدراري لولا سدفها، والنور لولا أفوله، والنّور لولا ذبوله والعين لولا تخالف أعجازها وصدورها، والقلائد وهذه تفضل بأنّها شذور كلّها، وتلك تفصّل بشذورها. كلامه عذب، ومعانيه تحسن الذبّ، ومقاطعه تقتطع على القصائد طرق الأسماع. ويقول خير القول ما قلّ ودلّ، وإنّما الطول فضول في الطباع. ولم يحضرني من شعره عند هذا الإيراد إلّا ما أسوقه لك لمعة في هذا السواد، منه قوله: [الطويل] ظباء أعارتها المها حسن مشيها ... كما قد أعارتها العيون الجآذر «2» فمن حسن ذاك المشي جاءت فقبلّت ... مواطئ من أقدامهنّ الضفائر وقوله: [البسيط] أخو الهوى يستطيل الليل من سهره ... والليل من طوله جار على قدره «3» ليل الهوى سنة في الهجر مدّته ... لكنّه سنة في الوصل من قصره وقوله: [مجزوء الخفيف] والمودات ما خلت ... من هدايا مكرّره «4»

10 - أبو الفتح البكتمري، يعرف بابن الشامي الكاتب

كطبيخ خلا من ال ... لحم يدعى مزوّره وقوله: [المنسرح] قل للفلاني إنّ مدحك عن ... هجوك ما إن يقوم معتذرا «1» وهل يعفى يوما إساءته ... تبصبص الكلب بعد ما عقرا وقوله: [الوافر] أبا نصر سمحت لنا بثوب ... حكى من فرط ضيق العرض باعك «2» سخافة نسجه تحكيك عقلا ... وغلظة غزله تحكي طباعك «3» ومنهم: 10- أبو الفتح البكتمري، يعرف بابن الشامي الكاتب «4» له في اليتيمة ذكر مترجم، وطالع منجّم، واسم ثابت في ذلك المعجم، وعود بين تلك السّهام لا يرمى ولا يعجم. قال فيه الثعالبي «5» : له شعر يتغنّى بأكثره ملاحة ولطافة، ولو قال امتزاجا بالأهواء لم تتطرّق إلى شهادته آفة. ولقد رأيت منازعه تنبئ عن حذقه، وتنبي ألفاظه على رقّة

يستحليها المترنّم في نطقه، لا تتعسّف طريقا، ولا يكلف السامع استخراجا سحيقا، وهذه عبقة من مسكه، وتعليقة من سبكه، ومعيار يأتيك بصّحة محكه، وخطفة تلوح لك ببرقه، وقطعة تبوح إليك بما أبقينا من حقّه، من ذلك قوله: [الرجز] وروضة راضية عن الدّيم ... وطأتها بناظري دون القدم «1» وصنتها صوني بالشكر النّعم وقوله: [مجزوء الكامل] قالوا: بكيت دما فقل ... ت: مسحت من خدّي خلوقا «2» أبصرت لؤلؤ ثغره ... فنثرت من جفني عقيقا لولا التمسّك بالهوى ... لظللت في دمعي غريقا «3» وقوله: [مجزوء الكامل] قمر كأنّ قوامه ... من قدّ غصن مسترقّ «4» وكأنّما اصطبح ال ... ربيع بوجنتيه واغتبق وكأنّما قلم الزمر ... رد فوق عارضه مشق وقوله: [المتقارب] سقاني بعينيه كأس الهوى ... وثنىّ وثلّث بالحاجب «5» كأنّ العذار على خدّه ... فذلك من مشقة الكاتب

11 - أبو محمد عبد الله بن محمد الفياض كاتب سيف الدولة، ونديمه

209/وقوله: [الكامل] ردّوا الهدوّ كما عهدت إلى الحشا ... والمقلتين إلى الكرى ثمّ اهجروا «1» من بعد ملكي رمتم أن تغدروا ... ما بعد فرقة بيّعين تخيّر «2» وقوله في بيت الخلا «3» . ومنهم: 11- أبو محمد عبد الله بن محمد الفيّاض كاتب سيف الدولة، ونديمه «4» حسبنا إذا وصفناه ولو نقشنا بالأحداق في الخدود لما أنصفناه. أن نقول كاتب سيف الدولة بن حمدان، ونديم ذلك الفضل الذي ما ذهب بذهاب الزمان، والخصيص به بين أقران يكبر كلّ منهم أن يتكنّى على كيوان سيف الدولة لا يختار إلّا الأليق بيانا، والألبق بنانا والأتمّ أخلاقا، والأعمّ وفاقا، والأغزر مادة، والأقوم جادّة. وقد أثنى عليه الثعالبي ثناء لو رزقه البدر لما تكلّف، أو لاقى الشمس لما فارقت الدّنيا في كلّ ليلة بحالة مدنف، حيث قال فيه، ومن جاء بالمليح كيف يخفيه «5» : معروف ببعد المدى في مضمار الأدب، وحلبة الكتابة، وأخذ بطرفي النظم والنثر، وكان سيف الدولة لا يؤثر عليه في السفارة إلى الحضرة [أحدا] «6» لحسن عبارته، وقوة بيانه، ونفاذه في استغراق

الأغراض، وتحصيل المراد، وأنّه كان يعجن مداده بالمسك، ولا تلاق دواته إلّا بماء الورد تفاديا من قول القائل: [الوافر] دعيّ في الكتابة لا رويّ ... له فيها يعدّ ولا بديه كأنّ دواته من ريق فيه ... تلاق فريحها أبدا كريه وإيثارا لما قال الآخر: [الرجز] في كفّه مثل سنان الصعده ... أرقش بزّ الأفعوان جلده 210/كأنّما النّقش إذا استمدّه ... غالية مدوفة بندّه وإذ قد فرغنا من الثعالبي في قصصه، وأتينا من خبر هذا التقريظ بملخّصه، فها أنا أدير على سمعك من نطفه ما يندّي قلبك بترشّفه، وأروقك بما يشوقك من نتفه الشفّافة فما قدر السلافة وعفوه الذي حصل على صفوه ما يعول لو أخذ الليل مدادا حتى لا يجد القمر سوادا يجوب فيه الفلك تردادا، وأخلى العيون من كحلها الباصر، والأفئدة من حبّها المرعي بالخواطر، واستقطر ماء الآفاق لدواة تلاق وأخذ لها الشعور من الجور، وانتزع رمح السماك من مقلّده فبراه قلما يكتب به في يده لكان باستحقاقه ولما أنفت هذه المواد من استرقاقه، وإليك ما وعدتك به آنفا، وهجتك لاستشرافه واصفا، منه قوله: [البسيط] قم فاسقني بين خفق الناي والعود ... ولا تبع طيب موجود بمفقود «1» كأسا إذا أبصرت في القوم محتشما ... قال السرور له قم غير مطرود نحن الشهود وخفق العود خاطبنا ... نزوّج ابن سحاب بنت عنقود «2» وقوله في غلام كان يحبّه استوحش لميله إلى غلام آخر اسمه إقبال: [الكامل]

12 - أبو طاهر سيدوك بن حبيب الواسطي

أنكرت إقبالي على إقبال ... وخشيت أن تتساويا في الحال «1» هيهات لا تجزع فكلّ طريفة ... ريح تمرّ وأنت رأس المال «2» وقوله في مثله: [الكامل] الآن تهجرني وأنت المذنب ... وظننت أنّك عاتب لا تعتب «3» وأمنت من قلبي التقلّب واثقا ... بوفائه لك والقلوب تقلّب 211/وقوله: [الوافر] وما بقيت من اللّذات إلّا ... محادثة الرجال على الشراب «4» ولثمك وجنتي قمر منير ... يجول بوجهه ماء الشباب ومنهم: 12- أبو طاهر سيدوك بن حبيب الواسطي «5» تتعلّق العقول بما يقول، ويسقط طير القلب على لؤلؤه المحبوب لا الحبّ. خرج من واسط أمة وسطا، وقام في الأدب موهوب العطا مرهوب السّطا، غذاء الأرواح مرويّه، وداعي الأفراح روّيه، غض الثمر على الأبد طريّه، سهل المرمى على بعد الغوص سريه. ألفاظ مصفّاة ومعان من العناء معفاة، وإن أنشدت قالت الأسماع: لنا المنّة على الألباب، وإن رمقت قالت العيون عندنا اللباب وهذا اللسان وراء الباب، ولم يقع لنا منه إلّا

كقبلة المختلس، أو شعلة المقتبس، أو نظرة العجل أو فكرة المرتجل، أو تحية الوداع، أو إشارة من وراء قناع، أو ضمّة حبيب فاجأه الصباح فارتاع منه، قوله: [البسيط] عهدي بنا ورداء الوصل يجمعنا ... والليل أطوله كاللّمح بالبصر «1» فالآن ليلي مذ غابوا- فديتهم- ... ليل الضرير فصبحي غير منتظر وقوله: [الوافر] أراح الله نفسي من فؤاد ... أقام على اللجاجة والخلاف «2» ومن مملوكة ملكت رقاها ... ذوي الألباب بالخدع اللّطاف كأنّ جوانحي شوقا إليها ... بنات الماء ترقص في حقاف وقوله: [مخلع البسيط] أنت من القلب في السواد ... وموضع السرّ من فؤادي «3» يا ساكنا في سواد عيني ... وبين جفنيّ والرقاد 212/لم تنأ لمّا نأيت عنّي ... ولا تباعدت بالبعاد وقوله: [مجزوء الكامل] حذري عليك أشدّ من ... حذري على بصري وسمعي «4» إن كنت تنكر ما أقو ... ل فهاك سل سهري ودمعي

13 - أبو الحسن علي بن الحسن اللحام

ومنهم: 13- أبو الحسن علي بن الحسن اللحام «1» هجّاء يرمي الأعراض كالأغراض ويقصّ من فكّيه بمقراض، ويعبث بالأشلاء الصحيحة دون الألحاظ المراض. أكل لحوم الأحياء بلسانه وهو لحمة وسدى، وألحم في سبّ الناس فبئس السّدى وبئست اللّحمة. وقسا قلبه على الأبرياء فلم تثنه رقّة، ولا أخذته رحمة كأنّ في فؤاده إحنة حرّى، أو في فمه مرّة صفراء فما تخرج له كلمة إلّا مرّة، ولا تدخل له حسنة إلّا على سبيئة لها ضرّة، ولا تقع من يده تمرة إلّا معها جمرة مضرّة. من ذلك قوله: [الكامل] يا سائلي عن جعفر عهدي به ... رطب العجان وكفّه كالجلمد «2» كالأقحوان غداة غبّ سمائه ... جفّت أعاليه وأسفله ندي «3» وقوله: [مجزوء الرمل] تكذب الكذبة جهلا ... ثمّ تنساها قريبا «4» كن ذكورا يا أبا يحيى ... إذا كنت كذوبا وقوله: [المتقارب]

14 - أبو العلاء السروي

على عدد القوم رغفانه ... فلست ترى لقمة زائده «1» أرى الصوم في أرضه للفتى ... إذا حلّها أعظم الفائده وقوله: [البسيط] وقائل لي دنّست الهجاء بمن ... يدنّس الكلب إن أقعى وإن شردا «2» فقلت: أنصفت لكن هل سمعت بمن ... إن هرّ كلب عليه بارز الأسدا وقوله: [المجتث] هذا زمانك فاخت ... م بالطين والطين رطب 213/فإن سقيا اللي ... الي فيها أجاج وعذب ومنهم: 14- أبو العلاء «3» السروي «4» وراء الحسن طوره، وبعيد على الغوص غوره، وغالب على الإحسان فوره. كأنّ فهمه مغار الكواكب فهو يساقطها، أو مغاص اللآلي فعنده يطلبها لا قطها، وكأنّ في شعره دمى أو عليه ما على اللّمى، أو كأنّ مبذوله على القرائح حمى. يهزّ السامع ويهزأ بالطامع، له ما للشبيبة من الإمتاع بالمؤانسة، وما للمشيب من الرياضة لتدليل الظبية الكانسة، فأقبل

على ما يقابلك من شعره، واقبل ما لا حيلة لك في ردّه من سحره، كقوله: [الطويل] مررنا على الروض الندي تبسّمت ... رباه وأرواح الأباريق تسفك «1» فلم أر شيئا كان أحسن منظرا ... من الروض يجري دمعه وهو يضحك وقوله: [البسيط] حيّ الربيع فقد حيّا بباكور ... من نرجس ببهاء الحسن مذكور «2» كأنّما جفنه بالغنج منفتحا ... كأس من التبر في منديل كافور وقوله: [الكامل] ومعشّق الحركات تحسب نصفه ... لولا التمنطق بائنا عن نصفه «3» يسعى إليّ بكأسه فكأنّما ... يسعى إليّ بخده في كفّه قد قلت لما أن بدا متبخترا ... والردف يجذب خصره من خلفه يا من يخلّص خصره من ردفه ... سلّم فؤاد محبّه من طرفه «4» وقوله: [الطويل] ثنى قلبه عن شغل قلبي بغيره ... فقلت: رويدا إنّما أنت أوّل «5» 214/فقال: دع العذر الضعيف فليس من ... يولّى على أمر كمن هو يعزل «6»

15 - أبو بكر محمد بن أحمد بن حمدان المعروف الخباز البلدي

وقوله: [المنسرح] بالورد في وجنتيك من لطمك ... ومن سقاك المدام لم ظلمك «1» خلّاك ما تستفيق من سكر ... توسع شتما وجفوة خدمك مسوّس الصدغ قد ثملت فما ... تمنع من لثم عاشقيك فمك تجرّ فضل الإزار منخلع النع ... لين قد لوّث الثرى قدمك أظلّ من حيرة ومن دهش ... أقول لمّا رأيت مبتسمك بالله يا أقحوان مبسمه ... على قضيب العقيق من نظمك ومنهم: 15- أبو بكر محمد بن أحمد بن حمدان المعروف الخبّاز البلدي «2» له كلّ بيت معمور الجوانب بالغيد الكواعب، من كلّ ذات دلال يزين خدّها حسنة خال وتزيدها ملاحة لفتة غزال، وفلتة سالف لا يزال جاور في صنعته نارا لها وقود فاشتعل فؤاده ذكاء بطيء الخمود، وهو مع ذلك عذب برود سلسبيل مورود. وقال فيه الثعالبي وقد ذكره «3» : ومن عجيب شأنه أنّه كان أميّا، وشعره كلّه ملح وتحف، وغرر وطرف، ولا تخلو مقطوعة له من معنى حسن، أو مثل سائر، وكان حافظا

للقرآن مقتبسا منه في شعره منه كقوله: [الطويل] ألا إنّ اخواني الذين عهدتهم ... أفاعي رمال لا تقصّر في لسعي «1» ظننت بهم خيرا فلمّا بلوتهم ... نزلت بواد منهم غير ذي زرع وقوله: [الطويل] كأنّ يميني حين حاولت بسطها ... لتوديع إلفي والهوى يذرف الدّمعا «2» 215/يمين ابن عمران وقد حاول العصا ... وقد جعلت تلك العصا حيّة تسعى وقوله: [الخفيف] أترى الجيرة الذين تداعوا ... بكرة للزّيال قبل الزوال «3» علموا أنّني مقيم وقلبي ... راحل فيهم أمام الجمال «4» مثل صاع العزيز في أرحل القو ... م ولا يعلمون ما في الرّحال وقوله: [الكامل المرفل] قد قلت إذ سار السّفين بهم ... والشوق ينهب مهجتي نهبا «5» لو أنّ لي عزّا أصول به ... لأخذت كلّ سفينة غصبا ومن شعره قوله: [السريع] بالغت في شتمي وفي ذمّي ... وما خشيت الشاعر الأمّي «6»

جرّبت في نفسك سمّا فما ... أحمدت تجريبك للسّم وقوله: [الوافر] إذا استثقلت أو أبغضت خلقا ... وسرّك بعده حتى التنادي «1» فشرّده بقرض دريهمات ... فإنّ القرض داعية الفساد «2» وقوله: [الطويل] ذرى شجر للطير فيه تشاجر ... كأنّ صنوف النّور فيه جواهر «3» كأنّ القمارى والبلابل حولها ... قيان وأوراق الغصون ستائر وقوله: [البسيط] أقول فيها لساقينا وفي يده ... كأس كشعلة نار إذ يؤججّها «4» لا تمزجنها بغير الريق منك فإن ... تبخل بذاك فدمعي سوف يمزجها وقوله: [مجزوء الرمل] قلت والليل مقيم ... ود جاه غير سار «5» أعظم الخالق أجر ال ... خلق في شمس النهار 216/فلقد ماتت كما ما ... ت عزائي واصطباري وقوله: [الخفيف]

صدّني عن حلاوة التشييع ... اجتنابي مرارة التوديع «1» لم يقم أنس ذا بوحشة هذا ... فرأيت الصواب ترك الجميع وقوله: [السريع] يا ذا الذي أصبح لا والد ... له على الأرض ولا والده «2» إن جئت أرضا أهلها كلّهم ... عور فغمّض عينك الواحده وقوله: [السريع] نكبت في شعري وثغري وما ... نفسي في صبري بمنكوبه «3» إذا دنت بيضاء مكروهة ... منّي نأت بيضاء محبوبه وقوله: [البسيط] ليل المحبّين مطويّ جوانبه ... مشمّر الذيل منسوب إلى القصر «4» ما ذاك إلّا لأنّ الصبح نمّ بنا ... فأطلع الشمس من غيظ على القمر وقوله في أمرد التحى: [السريع] انظر إلى ميت ولكنّه ... خلو من الأكفان والغاسل «5» قد كتب الدهر على خدّه ... بالشعر هذا آخر الباطل وقوله: [الطويل]

16 - أبو القاسم عبد الصمد بن بابك:

أهزّك لا أنّي وجدتك ناسيا ... لوعد ولا أني أردت التقاضيا «1» ولكن رأيت السيف من بعد سلّه ... إلى الهزّ محتاجا وإن كان ماضيا ومنهم: 16- أبو القاسم عبد الصّمد بن بابك: «2» شاعر لم يخل شعره من مسمع، ولا ذكره من مجمع، ولا عذره في جوب البلاد من مطمع، ولا سّره العذري مما يذوب له مدمع، ولا علاقة وجده العراقي من هوى يتجرّع مريره، وجوى قطع مريده، وجال البلاد 217/طولا وعرضا/ وقلب العباد سماء وأرضا فورد البحار والثماد واستمرأ السماح والجماد، وامتطى العير والجواد وقطع الرّبى والوهاد، وصحب الملاح والحاد، وخاض السراب واللجج، وراض الصّهوة والثبج، وركب الأمن والغرر، وتبلّل بالصفو والكدر، وأقلع مع كلّ ريح فعلا وانحدر، ومدح ملوكا وسوقة، ومنح جوائز مرقوقة وغير مرقوقة، وصار لتقاذف النّوى به يأنس بكلّ غريب ليس من داره، ويخضع لكلّ رقيب ليس هو من أوطاره، ويكلف بكلّ ظبي لا يألم لنفاره، ويتسّم بكل بدر لا يكمد لسراره، ويستميله كلّ قضيب لا يطعم من ثماره، ويستهويه كلّ حبيب لا يطمع في ازدياره، وهو ذو الرائية «3» المرائية في كلّ أفق المرمية هوى لا هوانا على الطرق، الفاتنة رآتها كأنّ كلّ راء منها وقفة عذار أو ليّة سوار، أو عطفة صدغ ما مكنّت راس

[] «1» مع تغريقتها فما استدار، وهي التي أوّلها علّقته أسود العينين والشعره هبّت في الأرض هبوب النسيم، واستطارت في الآفاق استطارة البرق في الليل البهيم، ورواها من شعر ومن لم يشعر، وطواها في مدارج حفظه من نشر ومن لم ينشر. وله ديوان كبير حجمه، كثير في القيمة نظمه، قصائد ماله فيها عذير، وموارد كأنّما شهر جدولها سيفه فليس جوشنه الغدير، منها «2» قوله: [البسيط] هبّت عليّ صبا بالعرف لو عصفت ... يوما على الغصن الرّيان ما اضطربا ذنبي إلى الدهر أنّي ما استكنت له ... ولا اتخذت إلى نيل العلى سببا وعزمة كذباب النّصل رعت بها ... تيها كأنّ على أعلامه عذبا وقوله: [الوافر] وربّة ليلة صدعت دجاها ... عزيمة صادق الأطماع صاب 218/خلعت سوادها والشمس وسنى ... وعين النجم سافرة النّقاب وأطراف الرماح نجوم ليل ... وصبحي كلّ مصقول الذّباب منها: يجاذب خطوها كسل التثنّي ... ويكسر لفظها مرض العتاب فأدنتني على فرق ومجّت ... مباسمها جنى الضّرب المذاب «3» فقالت لي النّجاء فإنّ صبحا ... وراءك قد علا حدب الروابي فقلت: ثقي فبين يدي وسادي ... مسافة بين جيدك والسّحاب

وأيّة ليلة لم أعش فيها ... إليك مواطي الخطط الصّعاب ويوم أشكل البردين رطب ال ... حواشي أربد الصفحات كابي أذاع نسيمه سرّ الخزامى ... وحلتّ شمسه زرّ الضّباب يبلّ مطامعي وشل الأماني ... ويسحر مقلتي ملق السراب وقوله: [الطويل] وإنّي إذا اهتزّت ذؤابة فاخر ... ضربت قباب العزّ فوق الكواكب خلقت سفيه السيف لا أعرف الرضّا ... كأنّ عليّ الموت ضربة لازب تطاول أطراف الرماح ذؤابتي ... إذا ما انحنى النّبع انحناء الحواجب وحمرة طرف كالذّبال عقدتها ... بأعجاز ليل أشمط الأفق شاحب كأنّ انشقاق الصبح في أخرياته ... تكشّف روض عن شريعة شارب وقوله: [الطويل] أيا ملك الأملاك اطرق إلى الحيا ... فأنت سماء للغيوث السواكب تقاعس عنك الفاخرون فأحجموا ... وخيل المعالي غير خيل المواكب 219/وقوله: [الوافر] ففتّرن العيون لها خداعا ... لتسمح بالدنو لمن تقرّب وقلن لها صلي دنفا تخطّى ... رماحك والمغرّر لا يخيّب فجرّدن اللحاظ ومرّضتها ... ولا يرضيك إلّا من تغضّب لحاظ يتّركن أخا التصابي ... وما فيه لحدّ السيف مضرب وقوله: [الوافر] فقصرك لا تطل عتب الليالي ... ولا تقرع على الحدثان بابا

ورض بالصّبر نفسك ما أطاعت ... فإن عاصتك فاتّهم الشبابا وقوله: [المتقارب] ففي وجه كلّ ثرى بهجة ... وفي وجه كلّ سماء سحوب وقد شقّت الشمس جيب السحا ... ب وعند الفراق تشقّ الجيوب إذا قلت قد نظرت أطرقت ... ووصل الحبيب بعيد قريب وهذي الحمامة تشكو الجوى ... إليّ ولي من هواها نصيب أجبت ولم تدعني صبوة ... وكلّ أخي صبوة يستجيب رياض تشتّت فيها المياه ... وغيم تؤلف منه الجنوب وواد كما ارتمضت حيّة ... تلوّى بها يوم قيظ كثيب كأنّ الغياض عليه رجال ... يصلّون والطّير فيهم خطيب وقوله: [البسيط] فما صبا ونبا إلّا وفى وعفا ... ولا ارتدى وانتدى إلّا احتبى وحبا جذلان يقتل بالنّعماء حاسده ... قتلا شهيا كحكّ الراحة الجربا وقوله يهجو عوّادة: [السريع] 220/كأنّها والعود في حجرها ... ثاكلة قد أسندت ميتا تقعقعت أطرافها فوقه ... فليت ماتت بعده ليّتا شبّهتها من فوق أوتاره ... بعنكبوت نسجت بيّتا وقوله: [الطويل] ألا يا سميّ الحرص إن خفت ضلّة ... بأرض فطوّح بالغنى ما تطوّحا ولا تفترش ظلّ النسيم فإنّني ... رأيت ظلال الناس أندى وأروحا

وسل عامل الرمح الطويل عن الغنى ... فما امتدّ باع الرمح إلّا ليسمحا وقوله: [الوافر] أنا السكران من نخب الأماني ... وسكران المطامع غير صاح ولست بطارد حظي ولكن ... سل الحسناء عن بخت القباح وقوله: [البسيط] يجري وليدهم في شوط يافعهم ... فخر إذا الكهل عن خوض العلى ذادا كذا الكواكب أشتات وأصغرها ... في العين أبعدها في الجوّ إصعادا وقوله: [الطويل] ومطّرد أغرى من الشوق بالحشا ... وأهدى إلى طيّ الضلوع من الحقد إذا اعترضته الكفّ ريع كأنّما ... تحرّق من أطرافه لوعة الوجد وليل كأنّ الشهب في أخرياته ... فصيص حميم زلّ عن وارد جعد «1» عقدت بأطواق الحمام ذيوله ... وقد نفضت دمع الندى قصب الرّند «2» وقوله: [المتقارب] وجاريت فرسان هذا الكلام ... فشفّ الغبار وقلّ العدد وأدركت غاية ميدانهم ... ولم يدن من ذيل نقعي أحد 221/فأحرزت في الشرط خصل السبا ... ق وخلّيت للقوم مضغ الحسد ولمّا تجنّوا تحاميتهم ... وما اجتمع الفضل إلّا انفرد وقوله: [مخلع البسيط]

مقرنص الأنف وهو علج ... على سبال منازكرد «1» كأنّ تشمير منخريه ... بقية الجعس في است قرد وقوله: [الكامل] شفق تحيّفه الظلام فشمسه ... كالخدّ سال عليه خطّ عذار والليل في بدد الردّاد كأنّه ... كحل يكاثر صوب دمع جاري حتى تجاذبت الصبّا هدّابه ... وذكا ذبال الكوكب الغرّار وافترّ عن فجر كأنّ نجومه ... شرر يطيش على لسان النار وقوله: [البسيط] فلو رأيت كؤوس الراح دائرة ... في كفّ كلّ طليق البشر مسرور صهباء يرعشها طورا وترعشه ... كأنّها قبس في كفّ مقرور وقوله: [الوافر] كأنّ الطلّ أقراط تهاوت ... من الآذان لؤلؤها صغار فتلك غضارة الدّنيا فنلها ... فإنّ العمر ثوب مستعار وقوله: [المتقارب] ألا ربّ ليل تبطّنته ... بنقب الثنيّة من ظهر مر كأنّ دخانا على أرضه ... تطير عليها نجوم الشّرر كأنّ بآفاقه روضة ... توقد فيها ذبال الزّهر وقوله: [الطويل]

فقالت هو الغيران فانج فقلمّا ... نجوت فإن الأمر يرهقه الأمر 222/وولّت تعال المشي يعسف خطوها ... فيقعدها ردف وينهضها خصر وقوله: [البسيط] أحببته أسود العينين والشّعره ... في عينه عدة للوصل منتظره «1» لدن المقلّد مخطوف الحشا ثملا ... رخص العظام أشمّ الأنف والقصره للظبيّ لفتته والغصن فتلته ... والروض ما بثّه والرمل ما ستره تكاد عيني إذا خاضت محاسنه ... إليه تشربه من رقّة البشره حتى إذا قلت قد أمللتها شرهت ... شوقا إليه وفي عين المحبّ شره أدنى إليّ فما أعطاه ريقته ... طير يفيض على أعطافه حبره مزنّد لم تنصّره مشمّسة ... ولا ارحجنّت على أنصابه الكفره نبهّته وسنان الفجر معترض ... والليل كالبحر يخفي لجّه درره فقام يكسر من أجفانه وسنا ... ودمعة الدلّ في عينيه معتصره نشوان تسرق ليّ البان خطرته ... مبلبل الخطو والأعطاف والشّعره في كفه خمرة تنزو فواقعها ... كما تدوّم فوق الجمرة الشرّره ما زال يسحرني لحظا وأسحره ... لفظا فيسبق سيلي في الهوى مطره ثمّ اكتحلنا بأوشال الدموع كما ... تقطّرت برذاذ المزنة السّحره يجني ويغضب والإقرار من شيمي ... وللمحبّ ذنوب غير مغتفره وقوله في وصف بطيخة: [السريع] تجمعّت تكتم أسرارها ... ففرّقتها مدية كالقبس فصّلها القطع فمن حزّة ... كحاجب الشمس بعيد الغلس

223/وحزّة كالنون ممشوقة ... كأنّها موطئ نعل الفرس وقوله: [الوافر] وجاثمة من الانصاف ورق ... كأنّ ثلاثهنّ حمام عشّ ونؤي كالقلادة أو كممشى ... سجاع الرّمل ساور ضبّ حرشي «1» وقوله: [البسيط] جفن كأنّ به من كسره مرضا ... أصبحت للنبل من ألحاظه غرضا ذنبي إلى من سلاني أنّني رجل ... متى أردت سلّوا لم أجد عوضا مالي أدافع عن حلمي مراغمة ... إنّي لأحبب دين الحبّ مفترضا لله هاجرة عفت الرّقاد لها ... حتى كأنّ على جنبيّ جمر غضا تحارزت عينها سخطا فقلت لها ... فإنّ وراء السخط منك رضى أنسيت ليلتنا والصّبح في شغل ... عنّا وقد سار حادي النّجم فاعترضا وبيننا وقد عتب في نسيم رضى ... لو أنّ ميتا جرى في سمعه نهضا وقوله: [المتقارب] فلن للخطوب إذا استصعبت ... وصاب الزمان إذا استشمطا «2» وخض وشل الماء إن لم تقم ... وأسهل إذا لم تعف مهبطا ودار تعش طاعما كاسيا ... وثير الدّثار مهيد الوطا هو الذلّ إن كنت ذا ونية ... وكلّ ذلول القرى ممتطى فأمّا قنعت وأمّا قنطت ... ومن آية العجز أن تقنطا

فعدّ عن الحرص أو فارضه ... وإن كان ترك الرضا أحوطا وقوله: [الكامل] شجر يشفّ على ذوائب نوره ... طلّ كما تتعلّق الأقراط نور إذا نثر السحاب رذاذه ... نظمته أوراق عليه سباط 224/أرض عليها من زخاريف الندى ... ونمارق الذهب الستيت بساط وقوله: [البسيط] ثمّ استقلّ كأنّ المشي يقعده ... إذا تفتّل في أبراده وخطا ورفّ مشمولة شابت مسائحها ... عذراء تكس عقود الدرّ والسّمطا وقد نهضنا إلى الكاسات ننهبها ... كأنّنا في غدير الراح سرب قطا وقوله: [الطويل] عقار عليها من دم الصّب نفضة ... ومن عبرات المستهام فواقع «1» معوّدة غصب العقول كأنّما ... لها عند ألباب الرجال ودائع تحيّر دمع المزن في كأسها كما ... تحيّر في ورد الخدود المدامع تدير إذا سحّت عيونا كأنّها ... عيون العذارى شقّ عنها البراقع فبتنا وظلّ الوصل دان وسرّنا ... مصون ومكتوم الصبابة ذائع إلى أن سلا عن ورده فارط القطا ... ولاذت بأطراف الغصون السواجع وقوله: [الطويل] فبي صبوة لولا الضّنا لم أبح بها ... بأحور نائي مسقط القرط أتلعا «2»

برى الله بدرا في محط عذاره ... وشقّ له من مغرب الشمس مطلعا أسائل روّاع الكرى عن خياله ... وإن شطّ عنيّ طيفه والكرى معا منها: إذا استروحت عيني إلى الناس لم تجد ... عزاء سوى أن تستهلّ فتدمعا ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلة ... أنازع فيها البابليّ المشعشعا يطوف بها في نهضة الليل شادن ... تجنّس فيه الحسن ثمّ تنوعّا 225/وقوله: [الهزج] أردّ البيض نابية ... وكعب الرّمح منصدعا ويعطفني النسيم إذا ... حمام الأيكتين دعا وقوله: [الوافر] وهات الكأس أرعشها مزاجا ... إذا دارت وترعشني خمارا إذا انعطفت يد الساقي عليها ... حسبت عليه من ورس صدارا «1» يشبّ الماء نارا في حشاها ... تزيد على تفجّره استعارا إذا ابتسمت أرتك هلال فطر ... رضاؤك طوقه ثمّ استنارا له في حمرة الشّفق التواء ... كما ألقيت في النار السوارا كأنّ سقاتها أبناء وبر ... أصابوا من عقول الشّرب نارا وقوله: [المنسرح] ما أرج البان ضحى إنّما ... علّمه ذكرك أن يضوعا

فهاتها تضحك عن درّ الندى ... خرطك خيط اللؤلؤ المقطوعا تشدخ في وجه الظلام غزّة ... كما سللت الصارم القطوعا وقوله: [المتقارب] إذا بخل الإلف فاسمح به ... فمن كذّبته السماء انتجع ولا تغلونّ إذا لم تنل ... ولا تأمرنّ إذا لم تطع هو الرزق لا في استلاب القنا ... فخذه عزيزا وإلّا فدع ألا هل إلى العزّ أكرومة ... تنفّس عنّي خناق الطّمع وقوله: [المنسرح] في ليلة نجمها بها كلف ... صبّ وفي وجه بدرها كلف 226/حتى كسا البرق شهبها رقدا ... واستنهضتها البواكر النّطف هذا وكم خضت نار هاجرة ... كأن حرباء شمسها ألف وقوله: [الوافر] وما انتجع الرعاة الشّيح إلّا ... رعوا بقل الجزائر والطّفاف «1» يحدّث لكنة الأنباط عنهم ... ويسحق من جفال التّرب ساف وتنبو رقّة الأعراب عنهم ... نبّو الطّبع عن ذوق الزحاف فعدّ النّفس عن قلق المداجي ... ونزّهها عن الضدّ المنافي وإن عاديت فاخبر من تعادي ... وإن صافيت فانظر من تصافي وقوله: [الكامل] وإذا مدحت أبا العلاء فإنّما ... سقت النّسيم إلى القضيب الأهيف

ثمل الخلائق والأنامل والظبى ... أرج المسارح طيّب المتعرّف وإذا انتمى فإلى فروع أرومة ... ريّا المنابت رخصة المتعطّف وقوله: [الخفيف] قد شربنا المدام من كفّ ساق ... فاتر الطّرف ناعم الأطراف بين ليلي ذوائب وظلام ... وصباحي سوالف وسلاف وقوله: [مجزوء الكامل] يا سالب الالف القوا ... م وملبسي سقم الألف ومسلّم القدّ الرشي ... ق إلى القضيب المنعطف أجل الشّمول فقد صفا ... نجم السمّاك المنحرف وحكى سواد الليل ... أطناب الخباء المنكشف 227/صهباء يشرق صبغها ... من خجلة البشر التّرف وتكاد رشفة كأسها ... في خدّ شاربها تكف وإذا مررت بروضة ... عثر النسيم بها فصف ينهض بنفحتها إليك ... تحنّث الأرج الصّلف نشر كعرف محاسن ال ... شيخ الجليل إذا وصف وقوله: [الطويل] من الخرّد اللاتي إذا رمن نهضة ... تغنّت على أوساطهنّ المناطق رواجح يحرسن الأساور والبرى ... وتصدح في لبّاتهنّ المخانق تلفّ عليهنّ الذوائب فضلها ... وتنفر عن أعجازهنّ القراطق فما زلت أعطي اللهو أرسان طاعتي ... وعود الصّبا ريّان والحلم آبق

وقوله: [الخفيف] ربّ ليل مرقت من فحمتيه ... أنا والعيس والقنا والبروق «1» ملئت لي مساحب الريح خيلا ... فتخطّيت والرماح طريق ورقاد كخفقة النبض يغشى ... مقلة راعها الخيال الطّروق في ظلام كمسحة الغمض عمرا ... يتجارى أصيله والبروق سرقته الجفون ختلا فلمّا ... هزّ من عطفه القضيب الغريق وكأنّ الرّبى هوادج ظعن ... وكأنّ النجوم ركب خفوق واستهلّت لمصرع الليل ورق ... ثاكلات حدادها التّطويق فتضاحكت شامتا وكأنّ ال ... صبح جيب على الدّجى مشقوق 228/سبك الشرق منه تبرا مذابا ... لفرند الشعاع فيه بريق «2» وكأنّ المهاة ربّة خدر ... وكأنّ الحرباء صبّ مشوق وتمشّت على الرياض النّعامى ... وثنى قدّه القضيب الوريق «3» كلّما هزّه غناء القوافي ... وتهادى كما انتشى المغبوق منها: قال أحسنت واستطار مراحا ... وبأحسنت ما يباع الدقيق وقوله: [الطويل] خلعت سراب القاع واليوم ناصل ... سحيق حواشي البرد والجوّ أورق وكفّ سواد الليل إطرار وجهتي ... كما أحرز الظلّ الجناء المورّق فسامرت فيه النّجم حتى أنمته ... وقد كاد سربال الدّجى يتمزّق

منها: فأسهلت منها والثريّا كأنّها ... على أذن الجوزاء قرط معلّق وسلّت يمين الشرق فجرا كأنّه ... إذا ما التقى في هامة الليل مفرق فأصحر طرفي والصباح كأنّه ... لواء على قرن الغزالة يخفق وقوله: [الطويل] ألا ربّ ليل قد نثرت نجومه ... على الغرب نثر السلك درّ المخانق أودّع فيه كلّ نجم كأنّما ... يقلّب تحت الليل أجفان عاشق إلى أن بدت أعراف صبح كأنّها ... عصائب أعلام البنود الخوافق فقمت أمسّ الفرقدين ذؤابتي ... وأطعم مرو الأبرقين بنائقي وقوله: [الكامل] يخفى ويظهر والحسام دليله ... وسنا البصيرة والحسام الصّادق 229/فإن استطار فبرق دخن واقد ... وإن استطال فطود عزّ شاهق فذبالتان عقيقة وعزيمة ... وسلافتان زجاجة وخلائق وقوله: [السريع] ودون مجرى شهبها مزنة ... كأنّ فيها راية تخفق للبرق فيها لهب طائش ... كما تعرى الفرس الأبلق لا ضوء إلّا الصبح أو وجنة ... ينفذ عنها الشفق المشرق أو وجه حمد وتباشيره ... إذا اعتراه المجدب المملق وقوله: [مجزوء الرجز] وليلة جوزاؤها ... مثل الخباء المنهتك

قطعتها والبدر عن ... سمت الثريا منفرك كأنّها في عرضه ... باز على كفّ ملك وقوله: [الكامل] من آل كسرى لم يطنّب بيته ... بيفاع توضح أو بدارة جلجل بل معقد التاج الطموح وملتقى ... شرف المناسب والبناء الأطول وقوله: [الطويل] ولكنّه بخل الدلال وحبّذا ... سريعة بخل سنّها لك باذل أغرّك أنّي كلمّا دنت للأسى ... تعرّض لي ضيف من الشوق نازل إذا غالك السلوان والرّمل بيننا ... وشى بك ممطور من الرند ناحل يجاذبه والصّبح في حجر أمّه ... نسيم بفرع الأقحوانة هازل مغان إذا ما شئت والروض بلسم ... شربت بها دمعي وغنّى العواذل وعهدي بسلمى والظلام قناعها ... ورائدها حسّ من الوطء خامل تفتّل في أعطاف ريط يهزّه ... قضيب كعود الخيزرانة مائل 230/وقوله: [الطويل] نشاوى يرون الزّغفّ خودان رملة ... أناف على حبل من الرمل مبقل «1» يحيّون بالأرماح حتى كأنّما ... يشمّون بالخرصان نور القرنفل منها: بلى قد صدعت السّجف عن كلّ باسم ... يعلّمه ليّ البرود تعزّلي تنصّب أعناق الملوك تحيّتي ... إذا رضت أطراف الكلام المذلّل

وقوله: [البسيط] وأنشد النّجم والحرباء يكتمه ... حتى إذا اليوم من صبغ الدّجى نصلا وشمّر الشفق الورديّ بردته ... وصاح راهب دين الله: حيّ على وقوله: [الوافر] يقصّر خطوه دلّ التجنّي ... ويخفض جفنه كسل الدّلال ألفّ الخصر ريّان الحواشي ... وقور الردف مذعور الأعالي له سطران من شعر جديل ... كما درجت نمال في رمال كأنّ مواقع الخيلان منها ... نثار المسك أو رشّ الغوالي وقوله: [البسيط] النّفس نفسي إذا العزّ استقرّ لها ... فإن رأيت مكان الذلّ لم تك لي أأبى الدناءة بل تأبى الدناءة لي ... أنف أشمّ وعرض غير مبتذل بيني وبين زماني إن ظفرت به ... عتب يقدّ قميص الدارع البطل هي المطامع غرّتني برونقها ... فما نظرت ولا أطرقت عن خجل لكن جنحت جنوح المستريب بها ... ومن تهيّب لم ينسب إلى الملل نهى عن الحجّ منع البرّ جانبه ... فالذنب للبّر ليس الذنب للجمل 231/زعمت أنّي من الأطماع يوسفها ... فهل رأيت قميصي قدّ من قبل ما استطرد الماء إلّا فتّه عطشا ... وربّما غمرتني نطفة الوشل يقول هل لك في ذلّ يؤول إلى ... عزّ وجرم الليالي غير محتمل فصرت أرسخ في النّعماء من حيل ... وكنت أسرد في اللأواء من مثل منها:

وافى الصّقيع فبزّ النور بهجته ... فعل المشيب بشعر اللّمّة الرّجل «1» ورد تفتّح ثمّ ارتدّ مجتمعا ... كما تجمعّت الأفواه للقبل وقوله: [البسيط] يا من حروف اسمه عين وحاجبها ... ومبسم في رضاب غير سلسال ومشقة كهلال الفطر قد نقطت ... من فوقها نقط نون الصدغ بالخال وقوله: [الخفيف] أنا صبّ متيّم مستهام ... بغزال إبريقه كالغزال بجديل العذار عذب الثنايا ... خنث العين والخطا والدلال ساحر اللّفظ والجفون غرير ... وجهه حجّتي على العذّال فاسقني خمرة كرقّة ديني ... أو كعقلي ولا أقول كحالي خيفة من توهّم الناس أنّي ... قلت هذا تعرّضا للنوال وقوله: [الكامل] ثمل القوام كأنّ خطّ عذاره ... فيء القضيب اهتزّ يوم شمال رام يصيبك لحظه وكأنّما ... ريشت سهام جفونه بنصال ذي ملثم عاص ولحظ طائع ... ومزنّر صبّ وردف سال «2» يسقيكها كأسا كأنّ زجاجها ... في الكفّ نحر والحباب لآلي 232/وقوله: [المتقارب] إذا حجب الليل ندمانها ... أضاءت وكانت عليه دليلا

كأنّ انحدار حباب النّدى ... عليها دموع أصابت مسيلا كأنّ بها شفقا عاريا ... رأيت عليه هلالا نحيلا وقوله: [الطويل] أودّع لا عن سلوة أستفيدها ... ولكن لأيام الهوى والنّوى دول ولولا اهتزاز الصارم العضب ما نبا ... ولولا اضطراب المارن اللدن ما اعتدل وقوله: [المتقارب] وخشف تعرّض لي معلما ... بحدّ السيوف وقدّ الأسل يرجّع في أذني نغمة ... تموت لها النّفس قبل الأجل وقوله: [الوافر] تبادرت الصّبوح بمترعات ... تصوّب بين جلدي والعظام على شجر كأنّ النّور فيه ... تصوّر من صفاتك أو كلامي وقوله: [الطويل] عرفت فلم أبسط إلى منعم يدا ... وفهت فلم أفغر بقارصة فما فما أسأل الآمال عن وجهه ولا ... أمرّ على الأطماع إلّا مسلّما خلقت عليّا لا تنال مكانتي ... ولا أرتقي من خشية الضّيم سلّما ولست بليلى العامرية مغرما ... ولا بالثريّا والرّباب متيمّا وقوله: [الوافر] وداجية كأنّ النّجم فيها ... يبيت على شماريخ الرّعان نثرت نجومها في الغرب لمّا ... سللت الشمس من شفق الأواني

233/كأنّ الشمس والظلماء تحدو ... به جلّ تكشّف عن حصان «1» وقوله: [الوافر] توضّح والنسيم الرّطب وان ... مخايل من سنا برق يماني تألّق يستطير كما تمشّى ... لسان النار في طرر الدخان كأنّ وميضه يد مستقيل ... ألاحت بالمعاصم والبنان أضاء حصى العقيق ورمل حزوى ... ومهوى الشّعب من سفحي أبان سحا بالطلّ يركله صباحا ... نسيم مثل رجع الغيث وان تنفّس في مساقطه صباح ... أشقّ كسلّة السيف اليماني وقوله: [الطويل] فيادهر لا تغرر بلين معاطفي ... فإنّ القنا يشتدّ حين يلين ويا جمرة الحرب العوان توقدّي ... فإنّي بعودات الطعان أدين وقوله: [الكامل] يا حبّذا ضعف النسيم إذا ونى ... وتحرّش الأغصان بالأغصان أرج تحنّث حين جمّشه النّدى ... واختال في عذب من الريحان أيام يذكرني القدود وفتلها ... ريّ تردّد في غصون البان في شاطئي ماء تطرف رملة ... خضراء يفحصها الرّباب الداني فالريح تعثر في برود رياضها ... والماء يمشي مشبه السكران منها: واشرب مشعشعة كأنّ زجاجها ... خمر وأطراف البنان أواني

حتّى ترى سرج السماء دوانيا ... يسبحن تحت أسنّة الخرصان «1» وقوله: [البسيط] يا ساقييّ قضيب الرّند ريّان ... والبدر ملتثم والصبح عريان «2» 234/والنرجس الغضّ ساه والنسيم ند ... والطلّ في طرر الريحان حيران والظلّ أورف والظلماء جانحة ... والنجم في منحنى الأجداع وسنان وللصّبا عثرات لا تقال وفي ... سجع الحمامة ترجيع وإرنان فغالبا نفثتي بالراح واختلسا ... عقلي فقد نفح النسرين والبان واسترقصا لمّتي واستغرقا طربي ... قبل الشروق فللأطراب أوطان وعرّضا بهوى لبنى فلي ولها ... وللزجاجة إن عرّضتما شان حوراء تكسر جفنيها على عدة ... ودون تسويفها مطل وليّان تنهال في دفع الخطو البهير كما ... ينوء بالأبرق المنهال ثعبان غضبى تعاطيك شطر النظرتين كما ... يزور في أخريات اللّحظ غضبان وقوله: [البسيط] ما زلت أسحب أبرادي على المنن ... حتى رجعت إلى وعد من الظنن «3» ذنبي إلى الدّهر أنّي ما خضعت له ... ولا طويت له عرضي على درن وقوله: [الكامل] في جنّة تصغي عيون رياضها ... فكأنّما يسمعن بالأجفان شخصت إلى صوب الحيا ريّا كما ... نصب الأراك سوالف الغزلان

17 - القاضي التنوخي، أبو القاسم علي بن محمد بن داود بن فهم

وتخلّلت فتل الجداول ظلّها ... زحف الأراقم في نقا الصّمّان «1» فالماء إن سمحت به أوراقها ... كالنار تنظر من فروج دخان وقوله: [الكامل] عاطيتهنّ من الحديث زجاجة ... بسمت فأطربت الحمام المعلنا حتى إذا سقط النّدى عنّينني ... لولا مراقبة العيون أريننا حدق المها وسوالف الآرام من ... خلل الأسنّة والأعنّة والقنا ومنهم: 17- القاضي التنوخي، أبو القاسم علي بن محمد بن داود بن فهم «2» جبل بعيد الرقّى، وأمل بعيد اللقّى، 235/حجّة في العلم لا تقطع، وباب من الحلم لا يقرع، وسابق في الأدب لا يتبع، وشارق كسلّة السيف لا يطبع. ولي قضاء البصرة والأهواز ثمّ عزل، فقصد سيف الدولة ابن حمدان مستشفعا به

فأكرمه، وشفع له فأعيد إلى عمله وتسلّمه. وكان ناسك نهار، وفاتك ليل، يزرّر جيوبه شموس العقار، وكان هو وابن قريعة، وابن معروف، والقاضي [الا يذجي] «1» من ندماء الوزير المهلبي يغضّون النهار وقارا، والليل عقارا، ويأخذون بنصيب من كلّ، وحظّ إثمه ألزم لأعناقهم من غلّ. وحكي أنّهم كانوا يحضرون مجلسه لسماع الطّرب حتى إذا استفزّهم فزّة الثّمل بالراح، وهزّهم هزّة الغصن بالرياح أقبلوا على الشراب بجملتهم، وقابلوا راياته المنشورة بحملتهم، وكانوا كلّهم شيوخا لم يبق من سواد لمّمهم إلّا ما سوّد الصحائف، ولا من هممهم إلّا التهتّك في وردة خدّ وريحانة سالف، وكانوا إذا حميت بالخمر رؤوسهم، وحجبت بالخمر من العقل ما يسوسهم قدّم لكلّ واحد منهم طاس ذهب من ألف دينار يقدح بمدامه نارا بنار فيغمسون فيه لحاهم ويدعونها حتى تتشرّب المدام، ويطير في قزع رؤوسهم سحابها الجهام، ثم يرسلون على الندماء مطرها دفاقا، ويفعلون هذا قصدا لا اتفاقا «2» . وبهذا ذكرت شناعة أقيمت في زماننا بمثل هذا على رجل أعلم براءته من حديثها المفترى، وكذبها الشائع في الورى، وإذا كان قد رمي بهذا الافتراء رجل من أهل عصرنا، ومن أهلّة مصرنا كيف لا يكون قد رمي به هؤلاء مع بعد زمانهم، وموت من له علم بشانهم، وإنّما ذكرنا ما قيل، ولو أنكرنا هذا دفعا عنهم لما كان إلى الإنكار سبيل «3» . ومن شعره المرهف لحدّ الأفهام، المسعف بأفخر من الدّرر التوام ... قوله: [الخفيف]

236/ربّ ليل قطعته كصدود ... أو فراق ما كان فيه وداع «1» موحش كالثقيل تقذى به ال ... عين وتأبى حديثه الأسماع وكأنّ النجوم بين دجاه ... سنن لاح بينهنّ ابتداع مشرقات كأنهنّ حجاج ... تقطع الخصم والظلام انقطاع وكأنّ السماء خيمة وشي ... وكأنّ الجوزاء فيها شراع وقوله: [السريع] كأنّما المرّيخ والمشتري ... قدّامه في شامخ الرّفعه «2» منصرف بالليل عن دعوة ... قد أسرجوا قدّامه شمعه وقوله: [الطويل] كأنّ نجوم الليل في غسق الدّجى ... سنا أوجه العافين في ظلمة الردّ «3» وقد أبطأت خيل الصباح كأنّها ... بخيل تباطأ حين سيل عن الردّ وقوله: [الطويل] وليلة مشتاق كأنّ نجومها ... قد اغتصبت عيني الكرى فهي نوّم «4» كأنّ عيون الساهرين لطولها ... وقد أشخصت للأنجم الزّهر أنجم «5» كأنّ سواد الليل والفجر ضاحك ... يلوح ويخفى أسود يتبسّم وقوله في الكواكب وهي تغور والصباح عليها يغور: [البسيط]

عهدي بها وضياء الصّبح يطفؤها ... كالسّرج تطفأ أو كالأعين العور «1» أعجب به حين وافى وهي نيّرة ... فظلّ يطمس منها النّور بالنّور وقوله: [مجزوء الرمل] ربّ ليل كتجنّي ... ك مقيم ليس يذهب «2» قد قطعناه بعزم ... كالحريق المتلهّب 237/وكأنّ البرق لمّا ... لاح فيه يتنصّب كاتب من فوق جزع ال ... غيم بالعقيان يكتب «3» وكأنّ الرّعد حاد ... أو مناد أو مثوّب ونجوم الليل وقف ... كلآل لم تثقّب وبدا البدر كسيف ... في يد الجوزاء مذهب وقوله: [المتقارب] وراح من الشمس مخلوقة ... بدت لك في قدح من نضار «4» هواء ولكنّه جامد ... وماء ولكنّه غير جار «5» إذا ما تأمّلتها وهي فيه ... تأمّلت نورا محيطا بنار «6» كأنّ المدير لها باليمين ... إذا قام للسقي أو باليسار تدرّع ثوبا من الياسمين ... له فرد كمّ من الجلّنار

وقوله في دجلة والقمر: [الكامل] لم أنس دجلة والدّجى متصوّب ... والبدر في أفق السّماء مغرّب «1» فكأنّها فيه بساط أزرق ... وكأنّها فيه طراز مذهب وقوله: [الخفيف] ورياض حاكت لهنّ الثريّا ... حللا كان غزلها للرّعود «2» نثر الغيث درّ دمعي عليها ... فتحلّت بمثل درّ العقود أقحوان معانق لشقيق ... كثغور تعضّ ورد الخدود وعيون من نرجس تتراءى ... كعيون موصولة التّسهيد وكأنّ النّدى عليها دموع ... في جفون مفجوعة بفقيد وكأنّ الشقيق حين تبدّى ... ظلمة الصّدغ في خدود الغيد 238/وقوله من قصيدة يصف نهرا: [الكامل] متسلسل فكأنّه لصفائه ... دمع بخدّي كاعب يتسلسل «3» وإذا الرياح جرين فوق متونه ... فكأنّه درع جلاه صيقل وكأنّ دجلة إذ يغطمط موجها ... ملك يعظّم خيفة ويبجّل وكأنّها ياقوتة أو أعين ... زرق تلائم بينها وتوصل عذبت فما تدري أماء ماؤها ... عند المذاقة أو رحيق سلسل ولها بمدّ بعد جزر ذاهب ... جيشان يدبر ذا وهذا يقبل وإذا نظرت إلى الأبلّة خلتها ... من جنّة الفردوس حين تخيّل

وكأنّما تلك القصور عرائس ... والروض حلي فهي فيه ترفل «1» غنّت قيان الطّير في أرجائها ... هزجا يخفّ له الثّقيل الأوّل «2» وتعانقت تلك الغصون فأذكرت ... يوم الوداع وعيرهم يترحّل ربع الربيع بها فحاكت كفّه ... حللا بها عقد الهموم تحلّل فمدبّج وموشّح ومدثّر ... ومعمّد ومحبّر ومهلّل فتخال ذا عينا وذا خدّا وذا ... ثغرا يعضّض مرّة ويقبّل وقوله: [البسيط] أما ترى البرد قد ولّت عساكره ... وعسكر الحرّ كيف انصاع منطلقا «3» والأرض تحت ضريب الثلج تحسبها ... قد ألبست حبكا أو غشيّت ورقا فانهض بنار إلى فحم كأنّهما ... في العين ظلم وإنصاف قد اتّفقا جاءت ونحن كقلب الصبّ حين سلا ... بردا فصرنا كقلب الصبّ إذ عشقا 239/وقوله من أبيات كتب بها إلى الوزير المهلّبي وقد منعه المطر عن خدمته: [الطويل] سحاب أتى كالأمن بعد تخوّف ... له في الثرى فعل الشفاء بمدنف «4» أكبّ على الآفاق إكباب مطرق ... يفكّر أو كالنادم المتلهّف «5» ومدّ جناحيه على الأرض جانحا ... فراح عليها كالغراب المرفرف غدا البرّ بحرا زاخرا وانثنى الضحى ... بظلمته في ثوب ليل مسجّف

يعبّس عن برق به متبسّم ... عبوس بخيل في تبسّم معتف تحاول منه الشمس في الجوّ مخرجا ... كما حاول المغلوب تجريد مرهف فأفرغ ماء قال وارد حوضه ... أسلسال ماء أم سلافة قرقف «1» أتى رحمة للناس غيري فإنّه ... عليّ عذاب ماله من تكشّف «2» سحاب عداني عن سحاب وعارض ... منعت به من عارض متكفكف وقوله من أبيات كتب بها إلى بعض أصدقائه: [الطويل] ولي أدمع غزر تفيض كأنّها ... سحائب فاضت من يديك غزار «3» ولم أر مثل الدّمع ماء إذا جرى ... تلهّب منه في الجوانح نار رحلت وزادي لوعة ومطيّتي ... جوانح من حرّ الفراق حرار مسير دعاه الناس سيرا توسّعا ... ومعنى اسمه إن حققّوه إسار إذا رمت أن أنسى الأسى ذكّرت به ... ديار لها بين الضلوع ديار وقوله: [الطويل] رضاك شباب لا يليه مشيب ... وسخطك داء ليس منه طبيب «4» كأنّك من كلّ النفوس مركّب ... فأنت إلى كلّ النفوس حبيب

18 - 240/ ابنه أبو علي، المحسن

18- 240/ابنه أبو علي، المحسّن «1» قال فيه الثعالبي «2» : هلال ذلك القمر، وغصن تلك الشجر، والشاهد العدل لمجد أبيه وفضله، والفرع المشيد لأصله، والنائب عنه في حياته، والقائم مقامه بعد وفاته، وفيه يقول عبد الله بن الحجّاج: [الوافر] إذا ذكر القضاة وهم شيوخ ... تخيّرت الشباب على الشيوخ ومن لم يرض لم أصفعه إلّا ... بحضرة سيدي القاضي التنوخي وله كتاب (الفرج بعد الشدّة) «3» ، وناهيك بحسنه وإمتاع فنّه، وما جرى من التفاؤل بيمنه. أسير من الأمثال، وأسرى من الجبال. وديوان شعره أكبر حجما من ديوان شعر أبيه. هذا ملخّص ما ذكره. ولم يقع لنا ديوانه «4» عند هذا الإملاء لنختار منه شرط المفاخرة بالانتقاء، وقد أتينا منه بما اتّفق، وهو حريرة من سرق «5» ، وغرّة من يقق، ونسمة من عبق، وجدول من سيل وكلمة طيبة من دعاء مجاب تحت الليل، وموضع علامة من أسجال، أو تاريخ يضبط به إخراج الحال.

19 - القاضي أبو الحسن، علي بن عبد العزيز الجرجاني

منه قوله: [الطويل] خرجنا لنستسقي بيمن دعائه ... وقد كاد هدب الغيم أن يبلغ الأرضا «1» فلمّا بدا يدعو تقشّعت السما ... فما تمّ إلّا والغمام قد انفضّا وقوله: [الطويل] أقول لها والحيّ قد فطنوا بنا ... ومالي عن أيدي المنون براح «2» لما ساءني أن وشحّتني سيوفهم ... وأنك من دون الوشاح وشاح «3» وقوله: [الطويل] لئن أشمت الأعداء صرفي ورحلتي ... فما صرفوا فضلي ولا ارتحل المجد «4» 241/مقام وترحال وقبض وبسطة ... كذا عادة الدنيا وأخلاقها النكد وقوله: [الخفيف] نلت في ذا الصيام ما ترتجيه ... ووقاك الإله ما تتّقيه «5» أنت في الناس مثل شهرك في ال ... أشهر بل مثل ليلة القدر فيه ومنهم: 19- القاضي أبو الحسن، علي بن عبد العزيز الجرجاني «6» علم منصوب يهتدي به السارون، وعلم مصبوب يجتدي منه الممتارون، ومتقدّم تمسح

هواديها من غباره المجارون. الأدب ذيل على فنون تجمّل بتيجانها، وتكمّل شانه بما تحمّل من شانها، وعلوم وزن المعارف بميزانها، واستودعها من خاطره وأحفظ خزّانها، وفصّل منها حللا خلع على الناس ما فضل من أردانها، وفضائل فضّت سحبها فملأ الفجاج بما فاض من غدرانها. البلاغة ما صاغه، والفصاحة ما أبان إيضاحه، وأطال غرره وأوضاحه، وسائر الفنون في ذهنه عجنت طينتها فاختمرت، وعن نظره أخذت بآفاق السّماء زينتها فأزهرت. إليه يرجع إذا تشعبّت بالأقوال طرقها المبثوثة، وعليه تجتمع الآراء وكلّ قوّة مفكّرة قد مستها لوثة. وقد أثنى عليه الثعالبي فقال «1» : فرد الزمان، ونادرة الفلك، وإنسان حدقه العلم، وقبّة تاج الأدب، وفارس عسكر الشعر، ويجمع خطّ ابن مقلة إلى نثر الجاحظ، ونظم البحتري، وينظم عقده الإحسان والإتقان في كلّ ما يتعاطاه، وله يقول الصاحب: [الطويل] إذا نحن سلّمنا لك العلم كلّه ... فدع هذه الألفاظ ننظم شذورها وقد كان في صباه خلف الخضر «2» في قطع الأرض، وتدويخ البلاد 242/من العراق/ والشام وغيرها، واقتبس من أنواع العلوم والآداب ما صار في العلوم علما وفي الكمال عالما انتهى ثناؤه المنصوص، وتقريظه الذي كأنّه نقش الفصوص.

وأنا ذاكر من شعره ملحا «1» ، أجيء بها على منطقة البروج مستفتحا، تحلّق بجناحي باز مطلّ وتخلّف الصّبا وراءها ذات نفس منقطع وأثر مضمحلّ. حكم تلقّفها ثّم ثقّفها ومعان اخترفها ثمّ لطّفها فيما عرّفها. رقّت مزاجا وراقت كالراح فامتزجت بالأرواح امتزاجا، بقية أسفار صقلتها صقل العيون، ونجيّة أفكار شفّت عنها مخيلات الظنون، ولولا أنّ الأدب كالدرهم والدينار لا يلتذّ به صاحبه إلّا إذا طار لكانت هذه النفائس ممّا يضنّ به فلا تذال، وتغار عليه يدحوته فما تبذله ولو مثقالا بألف مثقال. من ذلك قوله: [السريع] أفدي الذي قال وفي كفّه ... مثل الذي أشرب من فيه «2» الورد قد أينع في وجنتي ... قلت: فمي باللّثم يجنيه وقوله: [المنسرح] بالله فضّ العقيق عن برد ... برق أقاحيه من مدام فمه «3» وامسح غوالي العذار عن قمر ... يعضّ بالورد خدّ ملتثمه «4» قل للسقام الذي بناظره ... دعه وأشرك حشاي في سقمه كلّ غرام تخاف فتنته ... فبين ألحاظه ومبتسمه وقوله: [السريع] قد برّح الشوق بمشتاقك ... فأوله أحسن أخلاقك «5»

لا تجفه وارع له حقّه ... فإنّه خاتم عشّاقك 243/وقوله: [المنسرح] ياليت عيني تحملّت ألمك ... بل ليت نفسي تقسّمت سقمك «1» وليت كفّ الطبيب إذ فصدت ... عرقك أجرت من ناظريّ دمك أعرته صبغ وجنتيك كما ... تعيره إن لثمت من لثمك طرفك أمضى من حدّ مبضعه ... فالحظ به العرق وارتجز ألمك وقوله: [الكامل] هذا الهلال شبيهه في حسنه ... كيف احتيالك من تأوّد غصنه «2» لولا حظتك جفونها بفتورها ... أقسمت أنّك ما رأيت كحسنه وقوله: [السريع] ما بال عينيه وألحاظه ... دائبة تعمل في حتفي «3» واها لذاك الورد في خدّه ... لو لم يكن ممتنع القطف أشكو إلى قلبك يا سيدّي ... ما يشتكي قلبي من طرفي وقوله: [السريع] انثر على خدّي من وردك ... ودع فمي يقطف من خدّك «4» وارحم قضيب البان وارفق به ... قد خفت أن ينقدّ من قدّك

وقل لعينيك بروحي هما ... يخفّفان السقم عن عبدك «1» وقوله: [الطويل] فقد جعلت نفسي تقول لمقلتي ... وقد قرّبوا- خوف التباعد- جودي «2» فليس قريبا من يخاف بعاده ... ولا من يرجّى قربه ببعيد وقوله: [السريع] وغنج عينيك وما أودعت ... أجفانها قلب شج وامق «3» ما خلق الرحمن تفاحتي ... خدّك إلّا لفم العاشق لكنّني أمنع منها فما ... حظّي إلّا خلسة السارق 244/وقوله يمدح دائر بن يشكرور «4» : [البسيط] وقد كفاني انتجاع الغيث معرفتي ... بأنّ دائر لي من سيبه بدل «5» تجنّبت نشوات الخمر همّته ... فأعلمتنا العطايا أنّه ثمل وقوله في الصاحب بن عبّاد: [الطويل] ولا ذنب للأفكار أنت تركتها ... إذا احتشدت لم ينتفع باحتشادها «6» سبقت بأفراد المعاني وألّفت ... خواطرك الألفاظ بعد شرادها

فإن نحن حاولنا اختراع بديعة ... حصلنا على معروفها ومعادها «1» وقوله: [المنسرح] لو قد تراني وقد ظفرت به ... ليلا وستر الظلام منسدل «2» وخوّصت أعين الوشاة كما ... جمّش معشوقه الفتى الغزل فذاك مغف وذاك مختلط ... يهذي وهذا كأنّه ثمل وقلت يا سيدي بدا علم ال ... صبح وكاد الظلام يرتحل فبات يشكو وبتّ أعذره ... وليس إلّا العتاب والعلل لخلتنا ثمّ شعبتي غصن ... يوم صبا نلتوي ونعتدل وقوله: [الخفيف] في ليال كأنهنّ أمان ... من زمان كأنّه أحلام «3» زمن مسعد وإلف وصول ... ومنى يستلذّها الأوهام وقوله يذكر بغداد: [الطويل] يحنّ إليها كلّ قلب كأنّما ... تشاد بحبات القلوب ربوعها «4» 245/وكلّ ليالي عيشها زمن الصّبا ... وكلّ فصول الدّهر فيها ربيعها منها: كأنّ خرير الماء في جنباتها ... رعود عليها مزنة تستريعها «5»

إذا ضربتها الريح وانبسطت لها ... ملاءة زهر فصّلتها وشيعها «1» رأيت سيوفا بين أثناء أدرع ... مذهّبة تخشى العيون لموعها «2» فمن صبغة البدر المنير نصولها ... ومن نسج أنفاس الرياح دروعها «3» صفا عيشنا فيها وكادت لطيبها ... تمازجها الأرواح لو تستطيعها وقوله: [البسيط] في كلّ يوم لعيني ما يؤرّقها ... من ذكره ولقلبي ما يعذّبه «4» ما زال يبعدني عنه وأتبعه ... ويستمر على ظلمي وأعتبه حتى أوت لي النّوى من طول جفوته ... وسهّلت لي سبيلا كنت أرهبه وما البعاد دهاني بل خلائقه ... ولا الفراق شجاني بل تجنّبه وقوله في حسن التخلّص «5» : [الطويل] أقول وما في الأرض غير قرارة ... تصافح روضا حولها متقاربا «6» أباتت يد الأستاذ بين رياضها ... تدفّق أم أهدت إليك سحائبا أألبسها أخلاقه الغرّ فاغتدت ... كواكبها تجلو عليك كواعبا أوشّت حواشيها خواطر فكره ... فأبدت من الزّهر الأنيق غرائبا أهزّ الصّبا قضبانه كاهتزازه ... إذا لمست كفّيه كفّك طالبا

أخالته يصبو نحوها فتزيّنت ... تؤمّل أن يختار منها ملاعبا وقوله: [الطويل] ولمّا تداعت للغروب شموسهم ... وقمنا لتوديع الفريق المغرّب «1» 246/تلقّين أطراف السجوف بمشرق ... لهنّ وأعطاف الخدور بمغرب فما سرن إلّا بين دمع مضيّع ... ولا قمن إلّا فوق قلب معذّب كأنّ فؤادي قرن قابوس راعه ... تلاعبه بالفيلق المتأشّب وقوله: [الخفيف] ليلة للعيون فيها وللأس ... ماع ما للقلوب والآمال «2» نظمت لي المدام فيها الأماني ... مثل نظم الأمير شمس المعالي وقوله فى العيادة: [الطويل] بعيني ما يخفي الوزير وما يبدي ... فنورهما من فضل نعمائه عندي «3» لأعدي تشكّيك البلاد وأهلها ... وما خلت أنّ الشكو يعدي على البعد ولم أدر بالشكوى التي عرضت له ... ونعماه حتى أقبل المجد يستعدي وما هي إلّا من تلهّب ذهنه ... توقّد حتى فاض من شدّة الوقد وقوله من أخرى يهنؤه بالبرء: [الطويل] تقسّمت العلياء جسمك كلّه ... فمن أين فيه للسقام نصيب «4»

إذا ألمت نفس الوزير تألّمت ... لها أنفس تحيا بها وقلوب وليس شحوبا ما أراه بوجهه ... ولكنّه في المكرمات ندوب وقوله: [الطويل] وما الشعر إلّا ما استفزّ ممدّحا ... وأطرب مشتاقا وأرضى مغاضبا «1» أطاع فلم توجد قوافيه نفّرا ... ولم تأته الألفاظ حسرى لواغبا وفي الناس أتباع القوافي تراهم ... يبثّون في آثارهنّ المقانبا 247/إذا لحظوا حرف الرويّ تبادروا ... وقد تركوا المعنى مع اللفظ جانبا وإن منعوا حرّ الكلام تطرقّوا ... حواشيه فاحتالوا الضعيف المقاربا ولكنّني أرمي بكلّ بديعة ... تظلّ بألباب الرجال لواعبا تسير ولم ترحل وتدنو وقد نأت ... وتكسب حفّاظ الرجال المراتبا ترى الناس إمّا مستهاما بذكرها ... ولوعا وإمّا مستعيرا وغاصبا أذود لئام الناس عنها وأتّقي ... على حسبي إذ لم أصنها المعايبا وأعضلها حتى إذا جاء كفؤها ... سمحت بها مستشرفات كواعبا وأيّ غيور لا يجيب وقد رأى ... مكارمك اللاتي أتين خواطبا وقوله: [الطويل] ترى كلّ بيت مستقلّا بنفسه ... تباهي معانيه بألفاظه الغرّ «2» كأنّك إذ مرّت على فيك أفرغت ... ثناياك في ألفاظها بهجة البشر كفتنا حميّا الحمر رقّة لفظها ... وأمّننا تهذيبها هفوة السّكر وقوله من جواب: [الطويل]

تنازعها قلبي مليّا وناظري ... فأعطيت كلّا من محاسنها شطرا «1» تضاحكنا فيها المعاني فكلّما ... تأملت منها لفظة خلتها ثغرا «2» فمن ثيّب لم تفترع غير خلسة ... وبكر من الألفاظ قد زوجّت بكرا فلا تشك أحداث الزمان فإنّني ... أراه بمن يشكو حوادثه مغرى وهل نصرت من قبل شكواك فاضلا ... فتأمل منهنّ المعونة والنّصرا وما غلب الأيّام إلّا مجرّب ... إذا غلبته غاية ألف الصبرا «3» 248/وقوله: [الطويل] يقولون لي فيك انقباض وإنّما ... رأوا رجلا عن موقف الذلّ أحجما «4» وما زلت منحازا بعرضي جانبا ... من الذمّ أعتدّ الصيانة مغنما إذا قيل هذا مشرب قلت قد أرى ... ولكنّ نفس الحرّ تحتمل الظما ولم أقض حقّ العلم إن كان كلّما ... بدا طمع صيّرته لي سلّما ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي ... لأخدم من لاقيت لكن لأخدما ولو أنّ أهل العلم صانوه صانهم ... ولو عظّموه في النفوس لعظّما «5» ولكن أهانوه فهان ودنسّوا ... محيّاه بالأطماع حتى تجهّما وقوله: [الطويل] كأنّي ألاقي كلّ يوم ينوبني ... بذنب وما ذنبي سوى أنّني حرّ «6»

20 - أبو طالب، عبد السلام بن الحسين المأموني من أولاد المأمون

إذا لم يكن عند الزمان سوى الذي ... أضيق به ذرعا فعندي له الصّبر وقالوا توصّل بالخضوع إلى الغنى ... وما علموا أنّ الخضوع هو الفقر وبيني وبين المال بابان حرمّا ... عليّ الغنى: نفسي الأبيّة والدهر إذا قيل: هذا اليسر أبصرت دونه ... مواقف خير من وقوفي بها العسر إذا أقدموا بالوفر أقدمت قبلهم ... بنفس فقير كلّ أخلاقه وفر وماذا على مثلي إذا خضعت له ... مطامعه في كفّ من حظّه التبر ومنهم: 20- أبو طالب، عبد السلام بن الحسين المأموني من أولاد المأمون «1» بقية تلك السلالة، وشعلة تلك الذبالة، وآخر ذلك البحر الذي لم يبق منه إلّا ملالة، والبدر الذي ذهب وبقي أثره في الهالة، والذكاء الذي لا يذكر معه 249/سواه إلّا علالة، والكرم الذي لا يفضي إلى ملالة، والشرف الذي غني بنفسه فلا يحتاج إلى دلالة. أتى في هذا البيت ندره، وطلع شاعرا مدره، يذكر من سلفه الكريم منائح الآباء وقرائح الألبّاء، فطفق ينثر درّه، ويثير خواطر له عليها قدره، ومواطر له وقعت على النّهر لوشّح بجوهرها صدره، أو سقطت إلى غيور حيّي أسكن عربها الأبكار خدره، وزاد فخار العقب المأموني، وزان أقمار النسب الهاروني، وانتهى إليه ميراث فضل المأمون وحطّت لديه ركائب حموله، وشاد بذكره هو لا دعبل بعد طول خموله.

وأثنى عليه صاحب اليتيمة «1» ثناء لو أنّه على الروض لما خاف أن يمشي بالنميمة. ومن كلمه التي نقطف نوّارها، ونتحف بمجاج النّحل ثمارها، ويصرف دجى الليل ضوء مدامها المتوقّد إلّا أنّه نورها لا نارها، قوله يذكر دارا بناها بعض الرؤوساء من قصيدة: [الخفيف] ضاقت الأرض عنك فارتدت ربعا ... يسع البحر والحيا والسماحا «2» فهنيئا منها بدار حوت من ... ك جبالا من الحلوم رجاحا ذات صحن كرحب صدرك قد ... زاد على ظنّ آمليك انفساحا «3» يغرس الصّيد في ذراها من ال ... تقبيل غرسا فتجتنيه نجاحا ما بكاء الرياض بالطلّ إلّا ... خجلا من رياضها وافتضاحا وكأنّ الأبواب صحب تلاقي ... ن انغلاقا ثمّ افترقن انفتاحا وكأنّ الستور قد نقش الطاوو ... س فيها من كلّ باب جناحا وكأنّ الجامات فيها شموس ... أطلعتها ذرى العباب صباحا وبيوت كأنهنّ قلاع ... مزمعات للنّيرين نطاحا 250/وقوله في المنارة: [الطويل] وقائمة بين الجلوس على شوى ... ثلاث فما تخطو بهنّ مكانا «4» على رأسها نجل لها لم تجنّه ... حشاها ولا علّته قطّ لبانا يشدّد في أعلاه كلّ دجنّة ... يشقّ جلابيب الظلام سنانا

وقوله في الحمّام: [الطويل] وبيت كأحشاء المحبّ دخلته ... ومالي ثياب فيه غير إهابي «1» أرى محرما فيه وليس بكعبة ... فما ساغ إلّا فيه نزع ثيابي «2» بماء كدمع الصبّ في حرّ قلبه ... إذا آذنت أحبابه بذهاب توهّمت فيه قطعة من جهنّم ... ولكنّها من غير مسّ عقاب يثير ضبابا بالبخار مجلّلا ... بدور زجاج في سماء قباب وقوله في ماء بجليد: [الرجز] ورائق مثل الهواء صاف ... أسرع في الجسم من العوافي «3» فيه الجليد راسب وطافي ... كأنّه ودائع الأصداف وقوله في المنشفة: [المنسرح] منشفة خملها تخال به ... قد فتّ كافورة على طبق «4» كأنّما أنبتت خمائلها ... ما ارتشفت من لآلئ العرق وقوله في الباقلاء الأخضر: [مجزوء الرجز] وباقلاء أخضر ... مثل سموط الجوهر «5» أوساطه مخطفة ... مثل خصور ضمّر أطرافه مذروبة ... مسروقة من أنسر

وطرف كمخلب ... وطرف كمنسر 251/وقوله في العجّة: [المنسرح] عندي للضيف عجّة شرقت ... بدهنها فهي أعجب العجب «1» قد عضّت النار وجهها وغدت ... كياسمين بالورد منتقب وقوله فى سمكة مشوية: [السريع] ماوية في النار مصلوبة ... يصبغ من فضّتها عسجد «2» كأنّما جلدتها جوشن ... مزرفن الصّفة أو مبرد وقوله في اللوزينج الرطب: [الطويل] ولوزينج يعزى إلى الفرس خلته ... بنان عروس في رقاق الغلائل «3» فإن حملت إحداه خمس حسبتها ... زيادة كفّ بين خمس أنامل وقوله فى التدرج: [الخفيف] قد بعثنا بكلّ لون بديع ... كنبات الربيع أو هي أحسن «4» في قناع من جلّنار وآس ... وقميصين ياسمين وسوسن وقوله في الجمر خبا بعد اشتعاله لهبا: [الخفيف] أما ترى النّار كيف أسقمها القر ... ر فأضحت تخبو وحينا تسعّر «5»

وغدا الجمر والرماد عليه ... في قميصين مذهب ومعصفر وقوله في البرد: [الطويل] وبيضاء كالبّلور جاد بها الحيا ... فأهوت تهادى بين أجنحة القطر «1» تذوب كقلب الصبّ لكنّه جو ... بنار هواه وهي مثلجة الصدر وقوله في الأسطرلاب: [الخفيف] 252/وشبيه بالشمس يسترق ال ... أخبار من بين لحظها في خفاء «2» فتراه أدرى وأعلم منها ... وهي في الأرض بالذي في السماء وقوله فيه: [السريع] وعالم بالغيب من غير ما ... سمع ولا قلب ولا ناظر «3» يقابل الشمس فيأتي بما ... في ضمنها من خبر حاضر كأنّها ناجته لّما بدا ... بعينها بالفكر والخاطر فألهمته علم ما يحتوي ... عليه صدر الفلك الدائر

21 - الأمير شمس المعالي قابوس بن وشمكير

ومنهم: 21- الأمير شمس المعالي قابوس بن وشمكير «1» [توفي سنة ثلاث وأربعمائة] «2» . أمير لا يمارى، وملك بارى السحاب مدرارا، وسلطان تحضر يده ندى ويتلهّب فكره نارا، وجواد مطلق العنان أمن عثارا، وبطل يأتي بنجوم الظلام نثرا وهام الأبطال نثارا، وقائد جنود لا يطلب للمكاثرة أنصارا، ورائد وغى يرسل النّبل صمائم والرماح أغصانا والسيوف أنهارا، ومبيد عدى لا يدع منهم على الأرض ديّارا، وقاري ضيفان يوقد الدجنّة جل نار والأسنّة جلّنار. ذو خطّ ماذوى ولا انحطّ. كان يقول فيه الصاحب بن عباد: خطّ قابوس أم جناح طاووس. وقد وصفه العتبي ووصله بما اهتزّ له روضه الأدبيّ، كأنّ في كلّ قلب من خطّه شهوة، وفي كلّ ذوق من كلمه قهوة، لمعان تعب من يعانيها، ولعب من طلب بها اللّحاق وما قدر يدانيها، غضّة الأطراف، بضّة الأعطاف، رضّية الأوصاف، فضيّة الكؤوس بذهبيّ السلاف، وضيئة المخيلات الشراف. أجرى في الأفهام من الماء في المهنّدة الصقال، 253/وأسرى/ في الكلام من البرق في السّحب الثقال. منية أديب وغنية لبيب، وحلية نهار يوشّع طرفاه بالتهذيب، ورمية طرف يجرح القلب وهو لا يتنحّى عن طريق سهمه المصيب. طائر في البلاد كأنّما نصب له الهلال

22 - الأمير أبو الفضل عبد الله بن أحمد الميكالي

مصائد فخّه، سائر في الآفاق كأنّما لاق له الظلام دواته، وبرى البرق قلمه لنسخه ببدائع لو ولجت على الليل ستره لم يرخه، أو أشعلت حمر الشقيق ما قدر لافح الريح على نفخه. ومن قوله الممتّع بشرخه وطوله الذي لا تقدر خيلاء الروض على بذخه: [البسيط] قل للذي بصروف الدّهر عيرّنا ... هل عاند الدهر إلّا من له خطر «1» أما ترى البحر تعلو فوقه جيف ... وتستقرّ بأقصى قعره الدّرر وإن تكن عبثت أيدي الزمان بنا ... ونالنا من تمادي بؤسه الضّرر ففي السماء نجوم مالها عدد ... وليس يخسف إلّا الشمس والقمر وقوله: [البسيط] بالله لا تنهضي يا دولة السّفل ... وقصّري فضل ما أرخيت من طول «2» أسرفت فاقتصدي جاوزت فانصرفي ... عن التهوّر ثمّ امشي على مهل مخدّمون ولم تخدم أوائلهم ... مخوّلون وكانوا أرذل الخول وقوله: [الكامل] خطرات ذكرك تستميل مودّتي ... فأحسّ منها في الفؤاد دبيبا «3» لا عضو لي إلّا وفيه صبابة ... فكأنّ أعضائي خلقن قلوبا ومنهم: 22- الأمير أبو الفضل عبد الله بن أحمد الميكالي «4»

254/فارع إمارة، وفارس إغارة، وفاره ميدان يردي جاره، ويردي مجاريه عاره، وقابس جذوة ترمي في كلّ خطفة بشرارة، وقابض درّ يوالي نثاره، وطويل باع يهجم على الأسد داره، وينتزع البدر من الدارة، وذكيّ قلب يصيب في كلّ إشارة، وحاضر خاطر لا تغيب له شارة، وحاضن لفظ لا يعيب ناقد الكلام له عبارة، ونديّ كفّ يمطر ديما، ويخضّر قلمه بلاغة وكرما. إن كتب فالورق وريق والخطّ كالخطّ «1» تثقيفا يعلوه بريق، والكرم جمّ لا يقع المزن في بحره بلّة ريق، والخطاب فصل لا يشتبه، والكتاب روضة من أعين زهرها منتبه وغير منتبه، وإن انتضى سيفه راع الجيش لمعه، وفضّ ما في الصدور وقعه وقصّ غريبا من قائل يرفضّ بالدم دمعه. له نظم يسحر، ونثر يعجب من يتبحّر، وما كلّ من تأمّر على الأنام أمّر في أصناف الكلام ولكنّها مواهب توجد في الندرة بعد الندرة، وفضل من الله لا تتأهّل له كلّ فطرة، ولا تسري في كلّ فكرة، وهذا أبو الفضل من أولئك الأفراد، وواحد كالألوف في رئاسة العلم، وسياسة العباد. وهو يعاني من التجنيس ما يخفّ ويصوب ماؤه ولا يجفّ. ومن أنموذج نسجه، وزهر مرجه، قوله: [الطويل]

لقد راعني بدر الدّجي بصدوده ... ووكّل أجفاني برعي كواكبه «1» فيا جزعي مهلا عساه يعود لي ... ويا كبدي صبرا على ما كواك به وقوله: [الطويل] عذيري من ريم رماني بسهمه ... فلم يخط ما بين الحشى والترائب «2» فأصداغه يلسعنني كالعقارب ... وألحاظه يفعلن فعل العقاربي 255/وقوله: [الخفيف] إنّ لي في الهوى لسانا كتوما ... وفؤادا يخفي حريق جواه «3» غير أنّي أخاف دمعي عليه ... ستراه يبدي الذي ستراه وقوله: [مجزوء الكامل] ومهفهف يلهو بلب ... ب المرء منه شمائل «4» فالردف دعص هائل ... والقدّ غصن مائل والخدّ نور شقائق ... تنشقّ عنه خمائل والطرف سيف ماله ... إلّا العذار حمائل وقوله: [الكامل] هبه تغيّر حائلا عن عهده ... ورمى فؤادي بالصدود فأزعجا «5»

ما بال نرجسه تحوّل وردة ... في خدّه والورد عاد بنفسجا وقوله: [مجزوء الكامل] فصد الطبيب ذراعه ... فجرى له دمعي ذريعا «1» وأمسّني وقع الحديد ... بعرقه ألما وجيعا فأريته من عبرتي ... ما سال من دمّه نجيعا وقوله: [الخفيف] لم ألمه أن اتّقى بحجاب ... ردّني واله الفؤاد لمابي «2» هو روحي وليس ينكر للرو ... ح توار عن الورى بحجاب وقوله: [الرجز] ظبي يحار البرق في بريقه ... غنيت عن إبريقه بريقه «3» ولم أزل أرشف من رحيقه ... حتى شفيت القلب من حريقه وقوله: [السريع] كم والد يحرم أولاده ... وخيره يحظى به الأبعد «4» كالعين لا تدرك ما حولها ... ولحظها يدرك ما يبعد وقوله: [الطويل] بنفسي غزال صار للحسن كعبة ... تحجّ من الفجّ البعيد وتقصد «5»

256/دعاني الهوى فيه فلبيّت طائعا ... وأحرمت بالإخلاص والسعي يشهد فجفني للتسهيد والدّمع قارن ... وقلبي فيه للصّبابة مفرد وقوله: [الطويل] يصوغ لنا كفّ الربيع حدائقا ... كعقد عقيق بين سمط لآلي «1» وفيهنّ نوّار الشقائق قد حكى ... خدود عذارى نقّطت بغوالي وقوله: [الطويل] وما ضمّ شمل الأنس يوما كنرجس ... يقوم بعذر اللهو عن خالع العذر «2» فأحداقه أقداح تبر وساقه ... كأسوق ساق في غلائله الخضر «3» وقوله: [الرجز] أما ترى الزهرة قد لاحت لنا ... تحت هلال نوره نور اللهب «4» ككرة من فضّة مجلوّة ... أوفى عليها صولجان من ذهب وقوله: [الخفيف] عيّرتني ترك المدام وقالت ... هل جفاها من الكرام لبيب «5» هي تحت الظلام نور وفي الأكباد ... برد وفي الخدود لهيب قلت: يا هذه عدلت عن النصّح ... وما للرشاد فيك نصيب

إنّها للستّور هتك وبالألبا ... ب فتك وفي المعاد ذنوب وقوله: [الخفيف] خير ما استعصمت به الكفّ يوما ... في سواد الخطوب عضب صقيل «1» عن سؤال اللئام مغن وفي العظم ... مغن وفي المنايا رسول «2» وقوله: [الخفيف] خير ما استطرف الفوارس طرف ... كلّ طرف لحسنه مبهوت «3» هو فوق الجبال وعل وفي السه ... ل ظليم وفي المعابر حوت 257/وقوله: [الطويل] أخلي أمّا الودّ منه فزائد ... وألفاظه بين الحديث فرائد «4» إذا غاب يوما لم يغب عنه شاهد ... وإن شهد ارتاحت إليه المشاهد وقوله: [الكامل] تمّت محاسنه فما يزري بها ... مع فضله وسخائه وكماله «5» إلّا قصور وجوده عن جوده ... لا عون للرّجل الكريم كماله وقوله: [الكامل المرفل] يا دهر دع ظلم الكرام فهم ... عقد لنحرك لو درى النّحر «6»

سالمهم واستبق ودّهم ... فهم نجوم ظلامك الزّهر وقوله: [الطويل] دع الحرص واقنع بالكفاف من الغنى ... فرزق الفتى ما عاش عند معيشه «1» فقد تهلك الانسان كثرة ماله ... كما يذبح الطاووس من أجل ريشه وقوله: [البسيط] متّع شبابك من لهو ومن طرب ... ولا تصخ لملام سمع مكترث «2» فخير عيش الفتى ريعان جدّته ... فالعمر من فضّة والشيب من خبث «3» وقوله: [الرجز] ربّ جنين من حمى نمير ... مهتّك الأستار والضمير «4» سللته من رحم الغدير ... كأنّه صحائف البلّور أو أكر تجسّمت من نور ... أو قطع من خالص الكافور لو بقيت سلكا على الدهور ... لعطلت قلائد النحور أو أخجلت جواهر البحور ... وسميّت ضرائر الثغور يا حسنه في زمن الحرور ... إذ قيظه مثل حشى المهجور يهدي إلى الأكباد والصّدور ... روحا تحاكي نفثة المصدور

23 - أبو محمد، الحسن بن علي بن وكيع التنيسي

258/ومنهم: 23- أبو محمد، الحسن بن علي بن وكيع التنيسي «1» صاحب لسان نضناض، وساحب ذيل فضفاض، وموشع برود كقطع الرياض، وموشي رقوم كالبرق في تطريز الإيماض، أو كورد خدّ استدار به آس عذار فاض، وأطلّ عليه نرجس الحدق المراض، وفدّته العيون بمثله من السواد والبياض. فضل يوجّه ما شاء من الحجّة، وينّبه من تاه على اتّباع المحجّة، وعلم لا يعيا بقطع منازع، وفهم عنده بصحّة الدليل لكلّ مجادل وازع. عارف بالأدب علما وعملا، وطائف في طرق الصناعة يسلك سبلها ذللا. إذا ركب كلاما كان قيودا لكنّها لا تألف التعقيد، وقلائد إلّا أنها كلّها فريد، ونجوما سعيدة وما كلّ نجم في السماء بسعيد، ودررا ما رأى الناس مثلها في بيوت قصيد، ولملكته في فنون الأدب، ونسلها إليه من كلّ حدب، واطلاعه على الأشعار وقالتها، وإحاطته منها بمعان عمه الناس في جهالتها. صنّف على شعر المتنبي كتابا سمّاه [المنصف] «2» تكلّم فيه على سرقاته الفاضحة، ومآخذه الواضحة، ورماه بالأوابد، وأتى بنيانه من القواعد. أنبأ عن غزارة مدد، وكثرة حفظ لا يحصر بعدد. ومن وقف عليه علم بأنّ محلّ ابن وكيع كقدر البدر

في فلكه الرفيع، وأمّا نظمه فكلّه بديع، منه قوله: [الرمل] غرّد الطيّر فنبّه من نفس ... وأدر كأسك فالعيش خلس «1» سلّ سيف الفجر من غمد الدجى ... وتعرّى الصبح عن ثوب الغلس «2» وانجلى عن حلل فضيّة ... نالها من ظلم الليل دنس «3» وقوله من مزدوجة: [الرجز] ما العذر في السّلوة عن غزال ... منقطع الأقران والأشكال «4» 259/تستخلف الشمس لدى الزوال ... ضياء خدّيه على الليالي والشكل والخفّة في الأرواح ... أملح ما يعشق في الملاح من كان يهوى منظرا بلا خبر ... فما له أوفق من عشق القمر وقوله من أخرى يذكر فصل الربيع: [الرجز] نهاره من أحسن النهار ... في غاية الإشراق والإسفار «5» تضحك فيه الشمس من غير عجب ... كأنّها في الأفق جام من ذهب وليله مستلطف النّسيم ... مقوّم في أحسن التّقويم لبدره فضل على البدور ... في حسن إشراق وفرط نور كجامة البلّور في صفائها ... أذابت الجراد في نقائها

كأنّه إذا دنت من نحره ... جوزاؤه قبل طلوع فجره «1» رومّية حلّتها زرقاء ... في الجيد منها درّة بيضاء فيه يظلّ الطير في ترنّم ... حاذقة باللحن لم تعلّم غناؤها ذو عجمة لا يفهمه ... سامعه وهو على ذا مغرمه «2» من كلّ دبسيّ له رنين ... وكلّ قمريّ له حنين في قرطق أعجل أن يورّدا ... خاط له الخياط طوقا أسودا هذا وفيه للرياض منظر ... يفشي الثرى من سرّها ما يضمر سرّ نبات حسنه إعلانه ... إذا سواه زانه كتمانه فيه ضروب للنبات الغضّ ... يحكي لباس الجند يوم العرض من نرجس أبيض كالثغور ... كأنّه مخانق الكافور 260/وروضة تزهر من بنفسج ... كأنّها أرض من الفيروزج قد لبست غلالة زرقاء ... قد كايدت بلبسها السّماء تبصرها كثاكل أولادها ... قد لبست من حزن حدادها يضحك فيها زهر الشقيق ... كأنّه مداهن العقيق مضمّنات قطعا من السّبج ... فأشرقت بين احمرار ودعج كأنّما المحمرّ في المسوّد ... منه إذا لاح عيون الرّمد وارم بعينيك إلى البهار ... فإنّه من أحسن الأنوار كأنّه مداهن من عسجد ... قد سمّرت في قضب الزبرجد واشرب عقارا طال فينا كونها ... يصفرّ من لون المزاج لونها «3» من كفّ ظبي من بني النصارى ... ألبابنا في حسنه حيارى

يبدي جمالا جلّ عن أن يوصفا ... لو أنّه رزق حريص لاكتفى وقوله: [الرجز] وانظر إلى النارنج في بهجته ... يلوح في أفنان هاتيك الشّجر «1» مثل دبابيس نضار أحمر ... أو كعقيق خرطت منه أكر «2» كأنّ زهر الباقلاء إذ بدا ... لناظريه أعين فيها حور «3» كمثل ألحاظ اليعافير إذا ... روّعها من قانص فرط الحذر كأنّه مداهن من فضّة ... أوساطها بها من المسك أثر كأنّه سوالف من خردّ ... قد زينّت بياضها سود الطّرر وقوله في الخمر: 261/خيالها جسمه لجين ... وجسمها شخصه نضار «4» كأنّها تحته كميت ... عليه من فضّة عذار منها في الساقي: [مخلع البسيط] كأنّ صدغا له تراه ... وهو على خدّه مدار ميدان آس بدا جنيّا ... ألهب في جانبيه نار وقوله: [الطويل] فمن نرجس لّما رأى حسن نفسه ... تداخله عجب بها فتبسّما «5»

وأبدى على الورد الجنيّ تطاولا ... فأظهر غيظ الورد في خدّه دما وقوله: [الوافر] سلا عن حبّك القلب المشوق ... فما يصبو إليك ولا يتوق «1» جفاؤك كان عنك لنا عزاء ... وقد يسلي عن الولد العقوق وقوله: [المنسرح] أبصره عاذلي عليه ... ولم يكن قبل ذا رآه «2» فقال لي: لو هويت هذا ... ما لامك الناس في هواه قل لي إلى من عدلت عنه ... فليس أهل الهوى سواه فظلّ من حيث ليس يدري ... يأمر بالحبّ من نهاه وقوله: [الكامل] إن كان قد بعد اللقاء فودّنا ... باق ونحن على النّوى أحباب «3» كم قاطع للوصل يؤمن ودّه ... ومواصل بوداده يرتاب وقوله: [الكامل] يا من إذا لاحت محاسن وجهه ... غفرت بدائعها جميع ذنوبه «4» والنّجم يعلم أنّ عيني في الدّجى ... معقودة بطلوعه وغروبه وقوله: [المجتث]

24 - أبو عبد الله، الحسين بن أحمد بن الحجاج

وجلّنار بهيّ ... ضرامه يتوقّد «1» 262/بدا لنا في غصون ... خضر من الريّ ميّد يحكي فصوص عقيق ... في قبّة من زبرجد وقوله: [الكامل] ازهد إذا الدنيا أنالتك المنى ... فهناك زهدك من فروض الدين «2» والزهد في الدّنيا إذا مارمتها ... فأبت عليك كعفّة العنّين وقوله: [الخفيف] فحم شبّه الغلام وأدنى ... في كوانينه حياة النفوس «3» كان كالأبنوس غير مجلّى ... فغدا وهو مذهب الأبنوس لقّي النار في ثياب حداد ... فكسته مصبّغات عروس «4» ومنهم: 24- أبو عبد الله، الحسين بن أحمد بن الحجّاج «5» فاتح باب، ومانح لباب، وماتح بحر لا غدير ولا سحاب، ونازح فكر يجيء بكلّ معنى

قريب، وبمنى أجنبيّ وما هو بغريب. فتح باب المجون ومنح منه اللّباب المصون، وجاء بغرائب ما سبق إليها ولا لحق فيها، وقد زوحم عليها، وكان في هذا الباب نظير امرئ القيس فى ذلك الباب كلّ منهما افترع بكرا عذراء مالها أتراب «1» ، وأطلع حقيقة لا تتوارى بحجاب، ولا تصل إليها الأيدي وهي مطمعة أطماع السراب. جعل الهزل كالجّد الصريح، وكسا الباطل زخرفا حتى كأنّه الحقّ الصحيح، وأجاد في السّخف حتى استخفّ الوقور وهزّ المعاطف بنشأة المخمور، واخترع ملحا بها الإعجاب وما زاد على كلام الناس المتداول بينهم وفيه العجب العجاب. وحكي أنّه كانت له في حارة الزطّ دار تجاورهم/ 236/ويتأدّى بها إلى سمعه تحاورهم، وكان يسمع من لغاتهم السخيفة ونزغاتهم الظريفة ما نظمه شعرا، وعلمه في بابل سحرا، وأعانه على هذا إقبال منه على الخلاعة وإقبال عليه نفّق له هذه البضاعة فكانت ملوك بني بويه وبني حمدان «2» فمن دونهم لا تقبل منه مديحا حتى يكون السّخف غزله

ولا يعجبها منه الجدّ إلّا إذا كان الهزل أوّله، ولقد مدح بعضهم بقصيدة لطيفة يذوب غزلها وينوب عن لمى الشّفاه قبلها وعن ثغور الغيد المنظّمة مقبّلها. فلم يهشّ له الممدوح ولا جرى للبشاشة في قبولها روح، واستدعى المدح منه على طريقته المعهودة منه سلوكها المنضود به في ترائب اللهو سلوكها، فلمّا أتى بها على منهجه قبلت وكثّرت وما قلّلت، فكان بعد هذا مقبلا على شأنه في هذا الأسلوب قائلا منه ما يأخذ بمجامع القلوب، على أنّ المجمع عليه أنّه كان على طريق حميدة من العفاف وسبيل ما طار به قزعة مع الخفاف، وإنّما كان يقول هذا تظرّفا يهصر جنّاته الألفاف وتلطّفا لا يطرأ على ورقاته الجفاف «1» . وقد قال عند موته لابنته، وقد هبب الهواء ثوبه عن سوءته: يا بنيّة غطّي سوءة ما عصت الله قط. وكان مقبوضا حتى غطّته فانبسط لكنّه كان رافضيا لا يسلم منه مذهبه، ولا يعلم منه في طرز الشعر ما ساء به مذهبه، وقد قيل إنّه رئي في النوم بعد موته فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: [من الرجز] أفسد حسن مذهبي ... في الشعر سوء مذهبي وحملي الجدّ على ... ظهر حصان اللّعب لم يرض مولاي على ... سبيّ لأصحاب النّبي فلم ينكر أديب من أهل عصره أنّها شعره، وشبيهة بشعره «2» . 264 وقد نقل أنّه أوصى أن/ يدفن عند رجلي موسى بن جعفر عليهما السلام،

ويكتب على قبره: [وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد] «1» . وقال الثعالبي «2» ، وقد أرخى العنان فيما اختار له على اختلاف الأوزان ممّا زان وخفّ على الأذهان، وقد ثقل في الميزان: ومحاسن ابن الحجاج لا تنتهي حتى ينتهى عنها. ونحن الآن نذكر جوهره، ومن أبدع ما أثبته من سطره. قوله: [الخفيف] جبل كنت في ذراه فزلّت ... من ذراه برجلي الصّفراء معرض كيف دار درت بوجهي ... فهو شمس وعبده حرباء وقوله: [الخفيف] لا تسلني عن شرح حالي فإنّي ... كالخرا الرّطب فوق رأس الماء «3» رجل فارغ المعا فارع الجوف ... من الجوع ضامر الأحشاء فأنا اليوم من ملائكة الدو ... لة أحيا وحدي بغير غذاء منها: تشتكي خيله الوجى من سرى ال ... ليل إلى كلّ غارة شعواء فإذا ما أراحها ركض الخوف ... بها في خواطر الأعداء وقوله: [الخفيف] ربّ ريح يوم الدواء دبور ... وسوست في عصاعص الأغبياء «4» قدّروها فسا وقد كمن ال ... جعس في مهبّ ذاك الفساء

فإذا الفرش في خليج سلاح ... ذائب في قوام جسم الماء فاتّق الله أن يغرّك ريح ... عصفت في جوانب الأحشاء وقوله: [البسيط] فديت من أبصرتني شبت مكتهلا ... فأمعنت باستها من لحيتي هربا 265/يصبو خراها إلى عثنون عاشقها ... كأنّ بين خراها واللّحى نسبا كأنّ مبعرها في أصل شعرتها ... بثق أعدّوا عليه الشوك والحطبا تصمّ إن ضرطت أذن الرقيب فلا ... عدمت فرقعة است تطرش الرقبا ومدمج ذي خصى كالضرع محتقبا ... ما مصّ مذ نحو شهرين ولا حلبا كأنّه ثعلب في الكرم يطفر ما ... بين العناقيد حتى يخرط العنبا تشكّكت باستها فيه أمن خشب ... قد صار أم هو شيء يشبه الخشبا كأنّه ساجة لو شرّحت جعلت ... لبعض أبواب أحجار النسا عتبا وأنشدت بعد ما جسّته فقحتها ... فما رأت ثمّ لا لحما ولا عصبا أمسى يواثبني فى استي فأدّبني ... أبعد خمسين منّي تبتغي الأدبا منها فى الخمر: حمراء يمسي بناني وهي فوق يدي ... منها بمثل شعاع الشمس مختضبا «1» وأربح الناس عندي في تجارته ... محصّل يشتري بالفضة الذّهبا وقوله: [الطويل] فمن غادة ملتفّة الخصر شحمها ... نديف على أردافها والحوالب ومن أمرد تنزو الفياش على استه ... إذا كظّها الإنعاظ نزو الجنادب

وقوله: [المنسرح] كأنّ شفريه عندما هدلا ... شدق بعير مهنأ جرب كأنّ ناسور باب مبعرها ... عنقود كرم مزّيت العنب كأنّما الأير فوق عصعصها ... راكب جمّارة على قتب 266/ومنه قوله: [الخفيف] خضبت رأسها ووجّهت ... بسوء فها فكانت جوابي وعلى رأسها ولا تصب الخصّ ... ردا حائل بلون التراب فتوهّمت رأسها من بعيد ... قفصا فيه طائر عنّابي وقوله: [الطويل] وكان ولائي قبله مثل قبضة ... من الريح في منقار عنقاء مغرب وقوله: [مخلع البسيط] وصيد زبّي لكسّ ستّي ... ليس بناب ولا بمخلب بخصية جلدها مدلّى ... وفيشة رأسها مدبّب أحسن من صيد ألف كلب ... في كلّ يوم لألف أرنب صبيّة بظرها بجنبي ... يبيت مثل الصبي المحصّب مفعول باب استها يأير ال ... فاعل فوق الفراش ينصب ومنه قوله: [المتقارب] وأيّة دار تيمّمتها ... تيمّم بوابها حجبتي «1» فإن أنا زاحمت حتى أموت ... دخلت وقد خرجت مهجتي

فيدفعني الناس بعد الوصو ... ل إليهم وقد فترت همّتي وإن قدّموا خيلهم للركو ... ب خرجت فقدّمت لي ركبتي ولا لي غلام فأدعو به ... سوى من أبوه أخو عمتي وكنت برأس كظهر الغداف ... فقد صرت أقرع من فيشتي ومنه قوله: [الخفيف] 267/نطق الموت بك يدعو ... ك وأنصارك الحضور سكوت ليس ملك يزيله الموت ملكا ... إنّما الملك ملك من لا يموت ومنه قوله: [السريع] رأيتها وهي على سطحها ... قاعدة في جانب السطح فقلت بالمزح وفي طبعها ... فديتها صبر على المزح أشعرة في السطح أم هذه ... لحية فرعون على الصّرح فتى له يوم الوغى راية ... قد قسّت الأعداء بالقرح قد كتب الإقبال في رأسها ... أبشر بنصر الله والفتح يجلو دجى الخطب بوجه له ... يشرق فيه كوكب الصّبح يا من إذا أجرى إلى غاية ... فات إليها سرعة اللّمح ومنه قوله: [المتقارب] أتتك الوزارة تسعى إليك ... بوجه عليه دليل النجاح وقد زاحموك فما زعزعت ... مناكب رضوى بمرّ الرياح فكم ثمّ من رأس ذي لوثة ... قد اعتدل اليوم بعد الطماح وشعري لا بدّ من سخفه ... ولا بدّ للدار من مستراح

وقوله: [السريع] خدّك نسرين وتفاح ... والآس في صدغك قدّاح وشعرك الليل ولكن لنا ... في الليل من وجهك مصباح يا ظالما قلبي إلى جوره ... يحنّ مشتاقا ويرتاح 268/منها: أفسدتني بعد صلاحي فهل ... يرجى لإفسادك إصلاح فتى له جود عميم الندى ... حواله في الأرض سيّاح نمسي كما تصبح في خيره ... ما دام إمساء وإصباح يحيى وينتاش بإحسانه ... وبأسه يردي ويجتاح إن وعد الوعد فإنجازه ... لقفل باب الوعد مفتاح إنّ المواعيد شخوص لها ... مكارم الأفعال أرواح وقوله في نخاس اشترى له جارية ووعده بالربح فيها وكتب عهدتها باسم طلحة غلام النّحاس: [السريع] قل لأبي الفتح الذي لم تزل ... أخلاقه طيّبة سمحه ابتعت لي جارية ما اسمها ... فرحة لكنّ اسمها قرحه وقلت لي تربح في بيعها ... غدا فقد أربحتني سلحه وكيف يرجى الربح في عهدة ... تكتب هذا ما اشترى طلحه هيهات أن تخرج فروّجة ... من بيضة فاسدة المحّه فقل لمن يبتاعها إنّها ... فارهة جيدة الفقحه فسيحة السّرم ففي نيكها ... الاست عند الفقها فسحه عرّس بها الليلة واجعل عدا ... ذقنك في باب استها صبحه

وقوله: [السريع] يا أيّها الأستاذ يا من له ... خلائق بالحسن ممدوحه است بن حجّاج على ضعفها ... بذقن من يشناك منكوحه 269/قد وقع الصّلح الذي لم يكن ... عنه لكم في الرأي مندوحه لكنّه صلح بسين على ... عنفقتي والسين مفتوحه ومنه قوله: [مخلع البسيط] مريضة المقلتين لكن ... عين استها صلبة صحيحه وذات بعل جوارح استي ... من خوف عثنونه جريحه مولاي هذي أبيات شيخ ... في مدحكم جيّد القريحه جاءتك من حضرة الأماني ... ممدودة الكفّ مستميحه فانزل على حكمها وإلّا ... صرنا جميعا بها فضيحه ومنه قوله: [المتقارب] ففي طبع أشعاره رقّة ... فخاطره أبدا يسلح وكم قد جرى في مدى مذهبي ... أناس فأكدوا وما أفلحوا رأوا غاية دونها مخرج ... على حافتي بئره يطفح فعادوا وقد جشّموا خطّة ... عنافقهم تحتها تدلح ومنه قوله: [مجزوء الكامل] جاءتك من تعب ال ... تكلّف والتعسّف مستريحه مدح إذا أنشدته ... استخففت في الإنشاد روحه حلو وبعض الشعر في ال ... إنشاد تعلوه ملوحه

وقوله: [الخفيف] ولها شعرة ولا زبد البحر بيا ... ضا وعصعص كالمداد وحر أشمط العذارين ألحى ... فيه سمت النساك والعبّاد 270/عرّفيني أمّ الدواهي متى ... كانت سيوف الخصى بلا أغماد ومنه قوله: [البسيط] ياباني المجد لّما انهدّ معظمه ... وراعي الجود لّما أهمل الجود إن يحسدوك على فضل خصصت به ... فكلّ منفرد بالفضل محسود فتحت ثغر المعالي وهو ممتنع ... صعب وباب الأيادي وهو مسدود مكارم لك قبل اليوم شيّدها ... أجدادك الغرّ أو آباؤك الصّيد فتى ينوب عن البيض الرقاق إذا ... حلّت حباها إلى الموت الصناديد رأي له محصد زرع النفوس به ... في الحرب لا بسيوف الهند محصود منها في ذكر الخمر: من بنت كرم إذا استجليتها خجلت ... فبان في وجه بنت الكرم توريد مر لي بها وبصوت من مهفهفة ... لها قوام كغصن البان مقدود رود الشباب فإنّ الشيخ يعجبه ... من الغواني الفتاة الطفلة الروّد بنت العناقيد في فيها وقد سدلت ... جعدا على رأسها منه عناقيد وقوله: [المنسرح] فرعاء من رأسها وأسفلها ... تسحب شعرا حباله مسد تجنّبت سرمها الفيّاش فما ... يدقّ في كوّة استهاوتد ومنعظ فوق سطح بيضته ... بالليل أير كأنّه جرد إذا تمطّى على الحشا انقلبت ... بثغلها فى الحناجر المعد

تحبل من أدخلته منه به ... سرّا وفي وقت سلّه تلد 271/حصنه جوف بيته عسس ... يصفع فيه الحراس من وجدوا فبات تحت اللحاف يجلدها ... من فزع الصّفع وهو يرتعد وقوله: [السريع] وقال والوردة في كفّه ... مع قدح أذكى من النّد «1» اشرب هنيئا لك يا عاشقي ... ريقي من كفّي على خدّي ومنه قوله: [المنسرح] دع عنك ذكر القتال كيف جرى ... ومنهل القتل فيه مورود والناس صرعى على رؤوسهم ... سرادق للسيوف ممدود ومنه قوله: [الخفيف] إنّ هذا الزمان كان بصيرا ... صير فّيا مهذّبا للنقود ثمّ شاخ الدهر الذي يحبو ... بين عاد وتبّع وثمود واستمرّ العمى بعينيه حتى ... أبدل الفضّة النّقا بالحديد فلهذا ساد القرود وصرنا ... نحن أذناب بعض تلك القرود وقوله يعزّي أخاه عن بنت ماتت له: [الطويل] وما الميت فافهم عن أخيك إذا مضى ... سوى غائب عن أهله نازح المدى فإن هو لم يلمم بنا اليوم قادما ... قدمنا عليه نحن في داره غدا ومنه قوله: [البسيط]

زبّاء زرع استها يسقى بدالية ... وبظرها واقف فى الزرع ناطور كأنّ مبعرها في حلق فيشلتي ... طوق على عنق كالدنّ مزرور لها حر أشمط قد شاب مفرقه ... عليه بظر طويل فيه تدوير 272/كأنّه شاغر قد جاء من حلب ... شيخ على رأسه المحلوق طرطور «1» واست لمبعرها عمق بلا سعة ... كأنّها جبل في لحفه بير تشمّ ريح استها فيش الزناة كما ... تشمّ رائحة اللحم السنانير على استها رقباء يزعقون بها ... كما يصيح على الزرع النواطير كأنّها وهم من حولها عسل ... تحميه من خارج الكور الزنابير منها: إذا انثنت وغنّت خلت قامتها ... غصن عليه قبيل الصّبح شحرور والمدح كالقدر لا تمري وإن أكلت ... إلّا إذا طرحت فيها الأبازير منها: كأنّه زند مقطوع على سرق ... في زنده الأيمن المقطوع ساجور تبارك الله فالدّنيا كما زعموا ... من استنام إليها فهو مغرور تحلو مذاقا ولكن فوق تمرتها ... لمن يقول بأكل التمر زنبور ومنه قوله: [الطويل] فتى فوق رأس المجد يسحب ذيله ... ويوم الوغى يلقاه وهو مشمّر إذا رام يوما غّرة من عدوّه ... تأمّل قبل الورد من أين يصدر بقلب له عينان: عين عن الهوى ... تغضّ وعين في العواقب تنظر

وقوله: [البسيط] ظبي الكناس الذي في طرفه حور ... أما لورد النّوى بعد النّوى صدر قلبي بكفّك فانظر في تصفّحه ... هل نال حظّك من سودائه بشر الله جاد بني حمدان ما طلعت ... شمس وما دار في أرجائها قمر قوم يغضون من نوّ السّماك إذا ... جادوا ويزرون بالشّعرى إذا افتخروا 273/بدور تمّ منيرات إذا جلسوا ... وأسد غاب هصورات إذا [نفروا] «1» لم يبق فيهم لمغترّبهم طمع ... إلّا عواطف حلم كلّما قدروا من كلّ أغلب ما في جأشه خور ... تحت العجاج ولا في باعه قصر إنّ الأمير الذي أضحت شمائله ... في الناس فاعلة ما يفعل المطر أنحى على طخية الأحداث فانكشفت ... كاللّيل جلّي دجى ظلمائه السّحر بهمّة يشمل الدنيا تيقظها ... فليس يعجزها بدو ولا حضر يا ابن الذين تقصّوا في العلى أمدا ... ما فوق غايته للنّجم مفتخر رعيت سرب حماه وهو مخترم ... واغتلت كيد عداه وهو معتكر مضّر ما نار هذا وهي خامدة ... ومطفئا نار هذي وهي تستعر ملق على فلوات الأرض كلكله ... في ظلّ أغلب ما في رأيه غرر تنير تحت عجاج النّقع غرّته ... كما ينير وراء الهالة القمر وقوله في وصف شعره: [مخلع البسيط] نسيمه منتن المعاني ... كأنّني قلته بجحري «2» شعر يفيض الكنيف فيه ... من جانبي خاطري وفكري

لوجّد شعري رأيت فيه ... كواكب الليل وهي تسري وقوله: [المنسرح] يوم رأينا الرايات قد وردت ... بالنّصر بيضا وأصدرت حمرا والخيل مثل السفين يسبح في ... الدما شهبا وتنكفي شقرا وقوله: [مجزوء الرجز] من الجنان ريقها ... وسرمها من سقر «1» 274/لها حر كأنّه ... وجه غلام خزري وشعرة أطرافها ... شبه رؤوس الإبر وهذه قصيدة ... قد سال فيها قذري تبيع في سوق الخرا ... شواربا وتشتري وقوله: [مخلع البسيط] مع قينة لا تريد غيري ... فهي تجيني بغير حذر أيري مع أنّه طويل ... أقصر من بظرها بشبر وقوله: [مجزوء الكامل] قد كنت قبل اليوم تط ... لبني وتستدعي حضوري «2» وأرى الجفا بعد الوقا ... مثل الفسا بعد البخور ومنه قوله يصف فرسه: [مخلع البسيط] يئنّ طول النهار تحتي ... أنين شيخ به زحير

ما فيه روح سوى ضراط ... تجفل من صوته الحمير وقوله: [الكامل] يا صاحبيّ استيقظا من رقدة ... ترزي على عقل اللبيب الأكيس «1» هذي المجرّة والنجوم كأنّها ... نهر تدفّق في حديقة نرجس وأرى الصّبا قد غلّست بنسيمها ... فعلام شرب الراح غير مغلّس قوما اسقياني قهوة رومية ... من عهد قيصر دنّها لم يمسس صرفا تضيف إذا تسلّط حكمها ... موت العقول إلى حياة الأنفس ومنه قوله: [السريع] باتت كأنّ الفيش في رحمها ... جماجم في قعر ناووس كأنّ أيري فوق عظم استها ... لتّ على جانب قربوس 275/وقوله: [المنسرح] من كلّ طنطكاه زوجته ... تنجر حتى تصبح بالقوس قد خرّق النيك سرمها فغدت ... مثل قميص بلا تخاريس وقوله: [البسيط] وقائل كم تنيك قلت له ... ليس بنيك الحرام من باس خصاي قوس وشعرتي وتري ... والسهم أيري والسّرم برجاسي ومنه قوله: [الوافر] أبا يعلى وأنت فتى تحبّ ال ... مديح فدونك المدح الرخيصا

براح كالعقيق صفاء لون ... فلو جمدت خرطناها فصوصا وقوله: [مخلع البسيط] فديت من في استها لعوق ... يشفي به المدنف المريض لها حر مدنف عليل ... ملكلك ما به نهوض من اختلاف السفاد صارت ... تضرط منه ولا تحيض فهو وفي ذاك خيرة لي ... تذرق مائي ولا تبيض عندي لعمر أنّ تحت سرمي ... قافية مالها مغيض كتمتها عامدا ولكن ... أظنّها سوف تستفيض ومنه قوله: [المنسرح] فيا أبا الأزهر الذي ارتعدت ... من خوف إشخاصه مضاريطي وحقّ مغساة كلّ مدخلة ... تحشر يوم المعاد مع لوطي لها شباك من شعر شعرتها ... فيها أيور مثل الشبابيط تناك في سرمها وفي حرها ... فعام عفص وعام بلّوط وقوله: [السريع] طبيبكم إن لم يصن نفسه ... خريت في لحية بقراط 276/إلى متى يبعث عثنونه ... بعارم الفقحة ضرّاط لو عصفت في الري ريح استه ... تقطع الغزل بدمياط ومنه قوله: [الخفيف] هل لما فات عهده من رجوع ... أم لعينيّ حيلة في الهجوع بأبي من أزورها كلّ يومين ... حذارا من كثرة التّشييع

إنّ لي في جماعها ألف واش ... [] في نيكها بالجميع «1» غادة وجهها بديع فموتي ... في هواها إن متّ غير بديع ذات خصر كالدّعص رّيا وشبعا ... وبردف طعامه من ضريع وبسرم كمثل حاشية البر ... د صفيق صنيع قد لبسناه بالأيور خليعا ... ولبسناه وهو غير خليع فوجدناه غير رثّ الحواشي ... مثل قبّ الغلالة المرقوع ومنه قوله: [الخفيف] جوده كالطبيب فينا يداوي ... سوء أحوالنا بحسن الصّنيع فهو كالموميا إذا انكسر العظم ... ومثل الدرياق للملسوع وقوله: [مجزوء الكامل] است يصكّ ضراطها ... تحت اللحاف مسامعي است إذا قلّبتها ... بالليل فوق مضاجعي وقعدت أجرف في الفرا ... ش خلوقها بأصابعي غلّفت لحية عاذلي ... منها بأصفر فاقع وقوله: [السريع] وفقحة في الفرش نهّافة ... واسعة الحلق لها بعبعه 277/يخاف أن يجتاز أيري بها ... إلّا إذا كان خصاه معه ومنه قوله: [المنسرح] لله درّ الأستاذ من ملك ... في دوس خدّي بنعله شرفي

فتى إذا متّ قبله فعلى ... خدمته لا على البقا أسفي ينصف في حكمه رعيّته ... وماله منه غير منتصف يبتغي بالمديح نائله ... كالرطب الغضّ بيع بالحشف ومنه قوله: [المجتث] يا حامل الدقن تسبي ... حسنا وتفتن طرفا واصل بدقنك سرمي ... ما مثل ذا الدقن تجفى وقوله: [السريع] فديت ستّا لي معشوقة ... يقصر عن وجدي بها وصفي تنام في البئر على ظهرها ... وبظرها يحتكّ بالسّقف ومنه قوله: [مخلع البسيط] وجدتها هرّة عجوزا ... معدومة الضّيق والنشافه ذات حر للسعاة فيه ... مع بعد غاياتهم مسافه ألحى على عارضيه شيب ... في غاية الحسن والكثافه لو كان مع دقنه خطيبا ... ولّيته جامع الرصافه وقوله: [المتقارب] أيا ملكا لم يزل قلبه ... على من يلوذ به ينعطف يريدون صرفي عن حسبتي ... فكيف وأحمق لا ينصرف ومنه قوله: [الوافر] فديت أبا عليّ من هلال ... أغضّ إذا نظرت إليه طرفي 278/أقول وقد سمعت الشمس يوما ... تماري فيه: يا خرقاء كفّي

أأنت تنازعين أبا عليّ ... محاسن قطّ لم تدرك بوصف فغطّت وجهها بالغيم منّي ... محاجرة ولم تنطق بحرف ومنه قوله: [مخلع البسيط] أذكرني البرق إذ تألّق ... عهد است من يذكر الموفّق مشرقة ردفها منيف ... كأنّه في العلوّ جوسق تخرا على ساقها من است ... كأنّه بربخ معلّق فليس يرقا أيري إليها ... في الليل إلّا إذا تسلّق عصعصها أسود وأيري ... أبيض مع طوله معرّق كأنّ شعر استها وأيري ... غراب بين يزقّ لقلق ومنه قوله: [مخلع البسيط] فقل لمولاي وهو بحر ... بالعين والورق قد تدفّق الملك الكسرويّ هذا ال ... متوّج السيّد المطّوق مولاي أحسن أنعم تطوّل ... امنن تعطّف ارحم تصدّق ومنه قوله: [البسيط] فارقت من لم أخلّف بعد فرقتها ... حبل الهوى عندها رثّا ولا خلقا ومن شكوت وقد ودّعتها كمدي ... فقال دمعي على خدّي لها صدقا نامي هنيئا لعينيك الرقاد فما ... أمسيت أعرف إلّا الهمّ والأرقا وإن أردت حياتي فامسكي رمقي ... إن كان بعدك شيء يمسك الرّمقا 279/ومنه قوله: [السريع] لو واصلتني نكتها في استها ... بلحيتي من شدّة العشق

أدخل رأسي وأرى سرمها ... قد دار مثل الطوق في حلقي وكلّما سال طحين استها ... دهنت في الليل به فرقي ومنه قوله: [مجزوء الكامل] وعجائز مثل الحصا ... يتدحرجون ولا البنادق أحراهم بيض الشوا ... ئب واللحى سود العنافق فكأنّ شعر استاههن ال ... بلق أعشاش العقاعق في راس سندان استها ... مثل الخسوف من المطارق مفتنّة تجري طبي ... عتها على كلّ الطرائق ومنه قوله: [مجزوء الكامل] لمّا ركبت على استها ... وحدي أحجّ بلا رفيق في شقّ محمل عصعص ... لحم عليه غشا دبيقي قلت: انزلي في ذات عرق ... فمنزلي ذات الشقوق لكنّني أشرفت من حرها ... على واد عميق ورأيت يسرة جحرها ... بالعرض في ذاك المضيق شوك أم غيلان فكد ... ت أعود من نصف الطريق وهناك جرح تحت مجمع شا ... ريانات العروق تمسي خصاي بميله ... يحشوه بالسمن العتيق ومنه قوله: [الرمل] يا بني حمدان ما جاراكم ... سابق في المجد إلّا سبقا 280/كلّ من جاد وأعطى وحبا ... كان بالعطف عليكم نسقا

ومنه قوله: [السريع] فديت من باب استها نقشة ... سوسنة في رأس عوّاقه قد خلطت طاقات شعر استها ... فليس للنّتف بها طاقه لّما اجتمعنا واستها لم تزل ... خدّاعة للزبّ ملّاقه باتت يرشّى الأير ماء الخصى ... في وجه مغساها بزرّاقه ومنه قوله: [الطويل] أرى الشيب عند الغانيات مقامه ... مقام الخرابين اللّحى والعنافق وكيف يروم الشيخ كسّ صبيّة ... تحنّ إلى زبّ الصبيّ المراهق إذا ضرطت في نهر عيس أجابها ... صدى سرمها في الحال من درب سابق إذا طرقتني باستها وهي عاتق ... حملت بأيري بظرها فوق عاتقي ومنه قوله: [الخفيف] كيف لي بالخلاص من شوك شعراس ... ت فتاة بدّدت فيه دقيقي وهي خود كما علمت بسرم ... مارئي مثله على مخلوق إنّ سلمى لا يعمل الخيط والإب ... رة في درز سرمها المفتوق إنّ سلمى تمشي وتسحب أطرا ... ف حواشي برد استها في الطريق إنّ سلمى مذنمت عنها بأيري ... بات طست استها بلا إبريق است سلمى ما دبدبت قطّ إلّا ... ضرب الأير خلفها بالبوق وقوله: [الخفيف] انتهز فرصة الصبوح بإحضا ... ر الغواني والسلسبيل الرحيق 281/قهوة لا تحلّ إلّا لشيخ ... لك مثل معطّل زنديق

لا تصفي الرهبان رطلين منها ... إلّا بلحية الجاثليق ومنه قوله: [المتقارب] عدّوك مستحلق العارضين ... في الكتف مستنتف العنفقه حبست على دقنه فقحتي ... ونعلك في صفعه مطلقه وزوجة تشتكي في الفراش ... شدّة حمّى استها المطبقه وبالزبّ يؤكل مخّ استها ... كما يؤكل الزبد بالملعقة وقوله: [السريع] وأصداغها السّود في خدّها ... كما تنقش الفضّة المحرقه بوابك الصانع عهدي به ... وعرسه مثقوبة البوتقه في سرمها طست لنفث الخصى ... مدوّر في قدر المبزقه وقوله: [الخفيف] مكّنيني من بوس يسراك ألفا ... واعرفي فضلها على يمناك إنّ يسرى يديك أقرب عهدا ... وقت غسل الخرا بمستنجاك اطرحي نفسك اطرحي واخربي ... السقف برجليك وافتحي لي فاك وخذي من أصول قنا المخاصي ... مع بروز الفقّاع والنكناك تجدي للشفاء مثل دبيب ال ... نّمل طول النهار في مفساك ومنه قوله: [السريع] أنت بخير يا أبا جعفر ... ما دمت صلب الأير نيّاكا «1» فنك ولو أمّك واصفع ولو ... أباك إن لامك في ذاكا

282/ومنه قوله: [الوافر] ألا يا سيدي قد كنت هالك ... بلغت من الحساب إلى قذالك وكنت إلى الجحيم فسرت عدوا ... فلم يفرح بقربي منه مالك وردّوني إلى رضوان لهفي ... على ما فاتني ممّا هنالك فقال وقد رأى شيبي أرقني ... تجنّبني فما أنا من رجالك فلا في جنّتي سرم لعلق ... يحنّ به اللواط إلى قذالك فعد في غير حفظ الله عنّي ... إلى ما كنت فيه من ضلالك وقوله: [مجزوء الرجز] قالت وقد فلقتها ... عن أسود الشّعر حلك دع الجدال والمرا ... وشل برجليّ ونك فقلت إعجابا بها ... أحسنت لي متّعت بك أحسنت يا أوسع من ... فتوح مولانا الملك ومنه قوله: [مخلع البسيط] العيد قد جاءنا فقدّم ... من قبل يضحي النهار أكلك ومر بفرخ القنديل حتى ... يغسل من زيته ويدلك وطفّحوه خمرا وقل لي ... خذ بيمين السرور رطلك فإنّ هذا الصواب عندي ... وليس مثلي يغرّ مثلك ومنه قوله: [السريع] لا سيّما جارية باستها ... يقعد مثل الجمل البارك هذا وإن نامت على وجهها ... بالطول في جنح الدّجى الحالك

283/حسبتها تحت الخصى شقّة ... ممدودة بين يدي حائك ومنه قوله: [المنسرح] جاءت بسرم يعين عصعصها ... درز سخيف التركيب محلول اصف في فرد عينيه حول ... والغنج يعتاد أعين الحول عين لها في جفونها مرض ... يخرج مثل [] «1» على الميل واست ولا التلّ من تسنّمها ... رأي النواطير في الغرازيل وقفت في سطحها فأشرف بي ... من نهر عيسى على فم النّيل من ذاك أنّي مضيت أمس بها ... في السوق تمشي كمشية الغول فعارضتني في ذاك دايتها ... قالت ولكن بغير تحصيل ظننت ما لا يكون يا ابن أخي ... فقلت: قومي يا عّمتي بولي ومنه قوله: [الوافر] كفاهم منك بالأهواز يوم ... تفصّل من مهابته العظام وما لأموا وكيف يقال فيهم ... وقد لا قوك أنّهم لئام أذّقتهم مراس الحرب يوما ... وفيما بعد [] «2» الكلام إلى أن أسلموها واطمأنّوا ... فقد قرّت مضاجعهم وناموا ألا يا أيّها الملك المرجّى ... ومن يرجى لدولته الدّوام سموت إلى العراق بمقربات ... تمحّص من تذكرها الشآم فلم يسطع عمود الفجر حتى ... خلت من أهلها تلك الخيام ومنه قوله: [الوافر]

284/خليليّ ازففا بنت الكروم ... إلى كفؤ لها ندب كريم ولا سيما إذا هبّت جنوب ... تؤلّف بين أشتات الغيوم ودمّعت السماء بما يندّي ... الثرى ويبلّ أذيال النسيم [كما يبكي الوصيّ بغير دمع ... إذا استولى على مال اليتيم] «1» نعيم فيه ألقاكم بسجفي ... وثمّ لنسألنّ عن النعيم ولكنّي أمتّ إلى إلهي ... إذا برى الحميم من الحميم بنبيّ أحمد والله ربّي ... وخير أئمتي عبد الكريم إمام هدى له بيت مشيد ... بمكة بين زمزم والحطيم ومنه قوله: [السريع] طرف إذا أسرج من حرصه ... يكاد يعدو قبل أن يحزما قال له البرق وقالت له ... الريح جميعا وهما ما هما أأنت تجري معنا قال إن ... بسطت أضحكتكما منكما هذا ارتداد الطرف قد فتّه ... إلى المدى سبقا فمن أنتما ومنه قوله: عملت في دارك فوّارة ... غرّقت في الأرض بها الأنجما «2» فاض إلى نحو السّما ماؤها ... فأصبحت أرضك تسقي السّما وقوله: [المنسرح] وألف شيخ إذا مررت بهم ... يستقبلوني بألف عثنون لهم لحىّ من شيبها قرع ... تمغص بطني حتى تخريني

وقوله: [الخفيف] ليس إلّا ماء الظهور أراه ... بالدّوالي ينصبّ جوف البطون بأيور كأنّها من حديد ... في فقاح كأنّها من عجين 285/وقوله: [الخفيف] افتحي فاك في الخلا وابلعيني ... وعلى شاربي أبيك اسلحيني انصبي من أصل بظرك جذعا ... مشرفا في العلوّ من شلبين ثمّ شيلي أيري عليه بشغري ... ك جميعا إلى السما فاصلبيني أنا راض ببوسة منك في الشه ... ر وفرد في الاست في كلّ حين منها: ولها است بالليل يحمل سك ... كان المخاصي في فلكها المشحون سفلها في الشّري والبيع يغلي ... كلّ يوم وليلة بالزبون كلّ يوم دخل استها بين ... سبعين [] إلى تسعين «1» ارتفاعا محصّلا بحساب ... كلّ يوم قد صار كالقانون بحساب يعلم البظر منه ... بين شغريه نسبة السبعين ومنه قوله: [مخلع البسيط] يا سادتي ما استرقّ ديني ... شيء كمثل الحر السمين «2» كلّما أراه يزول عقلي ... عنّي ويعتادني جنوني وأشتهي أن أغوص فيه ... من مشط رجلي إلى جبيني وكلّما شلت منه رأسي ... رزقت قوما يغوّصوني

أغيب شهرا فلا تراني ال ... عيون والناس يطلبوني حتى إذا كان بعد شهر ... دلّ على موضعي أنيني وقوله من أبيات: [المنسرح] كم وقعة لي مع من تحصّله ... بين شباب وبين مردان تفتح باب استها المشوم كما ... أفتح في السوق باب دكاني 286/أقربه أمس إذ قعدت لها ... بعقل صاح وزبّ سكران فأدخلت واحدا صبرت له ... حتى أتاني في عقبه ثاني فلو حضرتم عندي لهالكم ... صيال فحل كالليث غيران ما راعني أنّني وجدتهما ... وحدي وتحت اللّحاف اثنان وحقّ رأسي لقد صفعتهما ... حتى استغاثت أصول آذاني لا حاطها الله من مناقرة ... في جلدها ألف ألف شيطان وحقّ هذي اللحى الطوال لقد ... ضرّطني خوفها وخرّاني ومنه قوله: [الخفيف] حمل الله كلّ فحل فسا ... اليوم على أمّ صاحب الديوان فهو عندي والكلب لا بل ... خرا الكلب إذا كان يابسا سيان أيّ شيء أخشى وشعري مجنّي ... والقوافي نبلي وسيفى لساني ومنه قوله: قلت وافى شعبان والله يدري ... كيف عزمي يكون في رمضان «1» فيه ما لو كشفته لك يا هذا ... رمينا في الدار بالحيطان

ويحكم يا شيوخ أو يا كحول ال ... فسق أو يا معاشر الفتيان اشربوها وكلّ إثم عليكم ... إن شربتم بالرّطل في ميزاني أنا إبليس فاشربوها وغنّوا ... أنت مثل الشيطان للإنسان ومنه قوله: لي طبع كأنّما حلّ في الشعر ... يقرّص البنفسج الرّيحاني 287/اضربوا لي وجه العدوّ فإنّي ... مثل موسى الحجّام في الأذقان وانظروا الشوارب البيض وال ... سود على استي تجول في الميدان ومنه قوله: [الوافر] عجوز من وصائف قصر كسرى ... بسرم مثل جاعرة الأتانه لها في سرمها بعر صغار ... على مقدار حبّ السيسبانه به ترمي لحى متعشّقيها ... كما يرمي الفتى بالزر بطانه أحرّ المدخلات ممرّ سرم ... سلكناه وأحسنهنّ عانه خليليّ اتركاني من حديث ... رواه لنا فلان عن فلانه وهاتا فاسقياني الخمر صرفا ... وزورا حانة من بعد حانه ومنه قوله: [الوافر] ألا هبّي بنعلك فاصفعينا ... ومن قبل الغداة بها اصبحينا فإنّ غدا وإنّ اليوم رهن ... وبعد غد بما لا تعلمينا أدير بها علينا كلّ يوم ... بمقبضها شمالا أو يمينا مخصّرة إذا ذكرت عمشنا ... على بعد وإن حضرت عمينا تجوز بذي الخشونة في قفاه ... إذا ما ذاقها حتى يلينا

منها: لحىّ مثل القباطي حين هرّت ... وقد رقّت طبائعنا خرينا حبلت من الأذى فحملت في أستي ... النّتوج إلى عنافقهم جنينا وكنت إذا حبلت ولدت أمّا ... رقيقا في العنافق أو ثخينا وقوله: [السريع] إنّ بني الحجّاج فاستبقهم ... أيورهم كالسمك البنّي 288/وليس مع ذا منهم واحد ... أشفى لديدان المعي منّي يا صاحب الذقن الذي شانه ... بالجعس من شاني ومن فنّي سرمي أنا الشيعيّ يا شيخنا ... يضرط في عثنونك السنّي ومنه قوله: [المنسرح] لّما فست فسوة رأيت لها ... تغيّرا في وجوه غلماني تضوّع الجعس من روائحها ... بين سطوحي وبين حيطاني جارية بين معينين لمن ... يلوط منّا بها وللزاني ففي است معشوقتي وفي حرها ... صنوان نيك وغير صنوان بئست كأنّي من فوقها أرق ... قد نام بالطول فوق دكان وبولها من حمى مثانتها ... كأنّه الماء في حزيران يا سائلي اليوم كيف عزمي أن ... أسقى وأسقي بالرّطل ندماني لو كنت كسرى لما شربت غدا ... ما بين بصرى وقصر سلماني إلّا برطل إذا شربت به ... خريت عقلي في جوف إيواني لو رام فرعون أن يساويني ... ضرّطته في سبال هامان

ومنه قوله: [الخفيف] يا خليلي قد عطشت وفي ال ... خمرة ريّ للحائم العطشان «1» فاسقياني بين الدّنان إلى أن ... ترياني كبعض تلك الدّنان في ليال لو أنّها دفعتني ... وسط ظهري وقعت في رمضان كلّ شيء قدّمته لمعادي ... رأس مال يفضي إلى خسران 289/غير حبّي أهل الحواميم والحش ... ر وطه وسورة الرحمن فبهم قد أمنت خوف معادي ... وبهذا الوزير صرف زماني وقوله: [المجتث] كلّ تيس من التيو ... س الكبار المقرننه رقعة است أخت خا ... له باسم أيري معنونه كهلة لحية استها ... بغساها مدّخنه كسّها قبلة الغيا ... شل والبظر مئذنه وقوله: [الهزج] قضيب جمّعت فيه ... لمن يهواه ألوان فخدّ فيه تفاح ... وصدر فيه رمّان وشعر هو للعا ... شق في المجلس ريحان فمن أبصر شخصا قطّ ... يمشي وهو بستان غزال ناعس الطّرف ... ولا بقّال نعسان

ومنه قوله: [البسيط] تبول من شقّ مهزول به عجف ... وقد تفقّا عليه بظرها سمنا «1» يرغي ويزبد شفراه إذا اختلفا ... كأنّه شدق مفلوج حسى لبنا وقوله: [الوافر] أناس أصبحوا منّا وأمسوا ... بمنزلة السّواد من العيون ترابهم وحقّ أبي تراب ... أعزّ عليّ من عيني اليمين منها: وباب لي عليه كلّ يوم ... حروب بين أصحاب الديون يغيظوني فأشتمهم وأربي ... عليهم في المقال فيلعنوني وأدعوهم إلى القاضي عساهم ... إذا وقع الجحود يحلّفوني 290/وأضيع ما يكون الدّين عندي ... إذا عزم الغريم على يميني وقوله من أبيات: [المنسرح] وكلّما رمت أن أقابله ... على تماديه في تعديّه جاءت على غفلة محاسنه ... تسألني الصّفح عن مساويه وقوله: [مخلع البسيط] يا ربّي يا عالم الخفايا ... قد شفّ قلبي هوى الصبايا يعجبني أن أبوس حتى ... تخرج روحي على الثنايا وأشتهي أن أدبّ حتى ... أندسّ معهم جوف الزوايا شهوة شيخ زيف إليه ... في السّخف يسترحل المطايا

25 - القاضي أبو أحمد، منصور بن محمد الأزدي الهروي

قد نبضت رأسه الليالي ... وسوّدت وجهه الخطايا منها: يا ملكا جوده المرجّى ... بثّ يوم الندى العطايا الصوم يحتاج فيه مثلي ... إلى السكابيج والقلايا والخبز رغفانه صحاح ... تلمع بيضا مثل المرايا فأشبعوني لحما وخبزا ... وجرّعوني سمّ المنايا ومنهم: 25- القاضي أبو أحمد، منصور بن محمد الأزدي الهروي «1» هو «2» في الصناعتين كما تماثل الوشيان، وكما تقابل في الحسن شيئان، وشي البرود ووشى الخدود، والنّيران في الفلك تلاقيا وأعطيا حركة واحدة فتراقيا. نثر فطوت المجرّة ملاءتها ضنّا بما أفادها، وظنّا حقّق لها أنّه زانها بما زادها، وترك كلّ غادة لا تحبّ من العقود إلّا ما انحلّ 291/ليلتقط، وكلّ طرف يجود بدمعه طمعا أنّه يشابه منه ما فرط، وكلّ زهر

يفتح عيونه وجه النهار ثمّ يغضي حياء كلّما انبسط، ونظم فاهتزّت أنابيب الرماح تيها واستقامت السهام لما كان اطراده له شبيها. وقد أتينا من شعره بخيلان وجنات، وولدان جنّات، وخيال يردّ عليك من عصره ما فات. من ذلك قوله: [البسيط] خشف من التّرك مثل البدر طلعته ... يحوز ضدّين من ليل وإصباح «1» كأنّ عينيه والتفتير غنجهما ... آثار ظفر بدا في صحن تفّاح ومنه قوله: [المنسرح] أفدي الذي كلّما تأمّله ... طرفي يكاد الضّمير يلتهب «2» ينتهب اللحظ ورد وجنته ... ولحظه للقلوب ينتهب وقوله: [الكامل] ومهفهف لّما تمايل خلته ... غصنا يجدّ به النسيم ويلعب «3» أومى إليّ بكأسه فشربتها ... وحسبتني من وجنتيه أشرب ودنا إليّ بطاقة من نرجس ... فرأيت بدرا في يديه كوكب ومنه قوله: [الكامل] أنسيت إذ نبهّت من نبهّته ... والفجر من خلل الدّجى يتنّفس «4» يسعى إليك مع المدام بوردة ... صفراء يحكيها لمن يتفرّس

كعب من الميناء ركّب فوقه ... جام من الذهب السبيك مسدّس وقوله: [الكامل] أدر المدامة يا غلام فإنّنا ... في مجلس بيد الربيع منجّد «1» والورد أصفره يلوح كأنّه ... أقداح تبر كعّبت بزبرجد 292/ومنه قوله: [الكامل] طلع البنفسج زائرا أهلا به ... من وافد سرّ القلوب وزائر «2» فكأنّما النقّاش قطّع لي به ... من أزرق الديباج صورة طائر وقوله: [السريع] وشادن تفعل ألحاظه ... بالقلب ما لا يفعل السحر قط «3» لم أنسه يكسر أعطافه ... والورد من وجنتيه يلتقط معتدلا ضربا وصوتا معا ... كما التقى للعين خدّ وخط ومنه قوله: [مجزوء الكامل] فكأنّني بك ناظر ... في إثر صيد أفلتا «4» لا تحسبنّ جمال وج ... هك دائما لك مثبتا فالخطّ يفعل ما علم ... ت وما علمت فقد أتى

26 - أبو بكر علي بن الحسن البلخي القهستاني

وقوله: [مجزوء الرمل] ولنا راح كمثل النا ... ر في الكأس تأجّج «1» ومغّن ساحر الألحا ... ظ ساجي الطّرف أدعج فإذا شاء تغنّى ... وإذا شاء تغنّج وقوله: [المتقارب] شمائل مشرقة عذبة ... تعادل رقّتها والصفاء «2» فهنّ العتاب وهنّ الدموع ... وهنّ المدام وهنّ الهواء ومنهم: 26- أبو بكر علي بن الحسن البلخي القهستاني «3» له في الأرض سياحة، كأنّه يبغي لها مساحة، أو كأنّه الهلال يقيس الدنيا بشبره، أو كأنّه يمتحن نفسه في تجريب صبره، وكذا الدرّ يهجر البحور ليجاور النّحور، والغمام يجدّ السّير ليجد الأنام على وجهه الخير، والطير يضرب بجناحه الخفّاق يطلب في الدائرة الاسترزاق، وهذا الفاضل أدمن رحلة شرقا وغربا، ووالى تنقّله يفارق صحبا ويرافق صحبا كأنّه قذاة لا يلتقيها جفن إلّا كها، ولا تخرج من عين إلّا وكأنّها لفقده بالدموع مرّة، وله كلّ بديعة تسحر الفطن، وتسخر بمن لاقت فما يستقرّ بها دار ولا وطن. من ذلك،

قوله: [البسيط] أقمت لي قيمة مذ صرت تلحظني ... شمس الكفاة بعيني محسن النّظر «1» كذا اليواقيت فيما قد سمعت ... من لطف تأثير عين الشمس في الحجر ومنه قوله: [السريع] يا ما لهذا القلب لا يرعوي ... وقد درى أن قد هوى من هوي «2» هوى ببست وببلخ هوى ... ثان فما هذا الهوى الغزنوي ثلاثة والحقّ في واحد ... والقول بالاثنين للمانوي وإنّ تثليث النّصارى لمن ... يدين بالإسلام لا يستوي وقوله في عجّة اتّخذت بين يديه: [البسيط] جاء الغلام بمقلاة فأفرشها ... جمرا وجمر الطّوى في الجوف يلتهب «3» وجاء بالبيض مثل الدرّ يغلقه ... فيها وللدّهن صوت بينها لجب فأخرجت مثل قرص الشمس مشرقة ... كأنّها فضّة قد مسّها ذهب

27 - مهيار بن مرزويه الديلمي

293/ومنهم: 27- مهيار بن مرزويه الديلمي «1» [توفي سنة سبع وعشرين وأربعمائه] «2» ، شعره يذوب لطفا، ويذود عينا تعير سواه طرفا. ذهب مذاهب العشّاق، ونهب مذهب معانيهم الرّشاق، وولع بمنهوك الأعاريض ومتروك القريض، وأخذ من الأوزان أخفّها، وركب من البحور أشفّها، وحلّى شعره من الزحاف بما لذّ قليله وحسن وإن كان معيبا كالخور في الطرف، أو ما هذا قبيله. ومذهبه في التشيّع ماله عنه مذهب، ولا منه مهرب ولا مرهب، ويقال إنّه أسلم على يد الشريف الرضي، ثمّ كان بالرفض غير المرضي. قال له ابن برهان «3» : يا مهيار قد 294/انتقلت بإسلامك في النار من زاوية إلى/ زاوية، فقال: وكيف ذاك؟ فقال: كنت مجوسيا فصرت تسبّ أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.

قلت: ومهيار معدود من الكتّاب إلّا أنّني لم أذكره فيهم، لأنّني لم أقف له إلّا على الشعر العالي على الشّعرى مرقى بيوته، الباقي بقاء النّجم دوام ثبوته، وقد قال فيه الباخرزي «1» : هو شاعر له في مناسك الفضل مشاعب، وكاتب تتجلّى تحت كلّ كلمة من كلماته كاعب، وما في قصيدة من قصائده بيت تتحكّم عليه (لو) و (لا) و (ليت) فهي مصبوبة في قوالب القلوب، وبمثلها يعتذر الزمان المذنب من الذنوب. وقد اختار ابن الصيرفي «2» ديوانه، وأثنى عليه في ذلك ثناء أذكر عنوانه، قال يعني نفسه في اختياره واقتصاره على الجيّد من مختاره، وأدّاه سعيه الآن إلى أن يعتمد على شاعر يتخيّر من إحسانه، ويتفسّح في ميدان ديوانه، ورأى أنّ أغزر الشعراء فتونا، وأكثرهم غررا وعيونا مهيار بن مرزويه الديلمي وله ما يستدعي ضروب الافتنان والطرب، ويزيد به على أكثر من هو عريق في العرب، على أنّه قد حكى أنّ أصل الديلم من بني ضبّة، وأنّ هؤلاء الضبّيين هم الذين افتضّوا عذرة السكنى في بلادهم، ثمّ قال بعد تاريخ ذكره: فأمّا مهيار فإنّ كثيرا من الشعراء يعترفون بقصورهم عنه فيما يقرضونه، وجماعة من العلماء يبالغون فيما يصفونه به ويقرّظونه إلّا أنّ صحيح شعره لا يوجد قلّة ولا تعذّرا، والنسخ المرضيّة منه عزيزة حتى إنّها لا تكاد ترى. ثمّ قال إنّه وقف على جزء من ديوانه عليه بخطّ أبي الحسن الصقلّي. قال علي بن عبد الرحمن:/ 295/ما نعرف مقدار ما وهب لأبي الحسن مهيار من صناعة النظم إلّا من تبحّر في شعره ووقف على ما فيه من التصرّف وحسن الاختراعات، وصحة التشبيه، ولطف التخلّص، وبعد المرامي مع حلاوة لفظ، وجزالة معنى ورصف وتطرف يخلطه بأساليب عشّاق العرب وينافر به عجزفية العجم.

قلت: وقد وفّاه ابن الصيرفي حقّه بغير حيف، ونقده الصيارفة فرآه خالصا من الزيف إلّا أنّه استجود من دنانيره ما هو المشوف المعلم، واختار من ذهبه المنقود المسلّم، وأحرى عليه المعاملة إلّا أنّها لا تجوز على من لا يفهم، وقدّر بها القيم إلّا أنّ كلّ دينار منها تحسب البدر منه بدرهم، هذا في قيمة التثمين قيمة ما حدّه الصير في بيعه للثمين. ومن المختار له قوله: [السريع] لا والذي لو ساء لم أعتذر ... في حبّه من حيث لم أذنب «1» ما حدّدت ريح الصبا بعده ... لثامها عن نفس طيّب ولا حلا البذل ولا المنع لي ... مذ هو لم يرض ولم يغضب ومنه قوله: [الطويل] تبسّم عن بيض صوادع في الدّجى ... رقاق ثناياها عذاب غروبها «2» إذا غادت المسواك كان تحيّة ... كأنّ الذي مسّ المساويك طيبها وقوله: [السريع] يا راكب الأخطار تهوي به ... انزل كفيت السّير يا راكب «3» مالك والراحة قد أمكنت ... تشقى بما أنت له طالب وقوله: [الطويل] يلوم على نجد ضنين بدمعه ... إذا فارق الأحباب جفتّ غروبه «4» وهل طائل في أن يكثّر عذله ... إذا قلّ من إصغاء سمعي نصيبه

[وقوله] «1» : [البسيط] 296/لك الغرام وللواشي بك العتب ... وكلّ عذل إذا جدّ الهوى لعب «2» أما كفاه انصراف العين معرضة ... عنه وسمع بوقر الشوق محتجب وما أسفت لشيء فاتني أسفي ... من أن أعيش وجيران الغضا غيب «3» لا يبعد الله قلبا ضلّ عندكم ... لم يغنني فيه نشدان ولا طلب «4» سلبتموه ولم تفتوا برجعته ... وربّما ردّ بعد الغارة السّلّب فأين ذمّتكم قبل الفراق له ... أن لا يضام ولا تمشي به الرّيب «5» أسيرة لكم في الغدر حادثة ... تخصّ أم رجعت عن دينها العرب وقوله: [الطويل] وخلف ستور الحيّ من كان بينه ... على طول ما ستّرت حبّي فاضحي «6» وهبت له عيني وقلبي وإنّما ... لفرقته هانت عليّ جوارحي وقوله: [الوافر] وما أتبعت ظعن الحيّ طرفي ... لأغنم نظرة فتكون زادي «7» ولكنيّ بعثت بلحظ عيني ... وراء الركب يسأل عن فؤادي وقوله: [الوافر]

نغضن الحبّ أسمالا وعندي ... لهنّ على القلى حبّ جديد «1» ورمن وقد سفكن دما حراما ... تصيح به الأنامل والخدود ومنه قوله: [الكامل] وأخ رفعت له بحيّ على السّرى ... والنجم يسبح في غدير راكد «2» فوعى فهبّ يحلّ خيط جفونه ... بالكره من كفّ النّعاس العاقد حتى رجمت اللّيل منه بكوكب ... فتق الدجى وأضاء وجه مقاصدي وقوله: [الخفيف] 297/يا عقيدي على الغرام بليل ... قم وفيّا وغيرك المأمور «3» وأعرني إن كان ممّا يعار ال ... قلب لو كنت ممّن يعير ومنه قوله: [الكامل] الليل بعد اليأس أطمع ناظري ... في عطفة السالي ووصل الهاجر «4» غلط الكرى بزيارة لم أرضها ... مخلوسة جاءت بكره الزائر هاج الرّقاد بها غراما كامنا ... فذممته وحمدت ليل السّاهر هل عند ليلاتي الطوال ببابل ... ردّ لأيامي القصار بحاجر «5» قدرت على قتل النفوس ضعيفة ... يا للرجال من الضعيف القادر ومنه قوله: [الطويل]

رنا اللحظة الأولى فقلت مجرّب ... وكررّها أخرى فأحسست بالشرّ «1» فهل ظنّ ما قد حرّم الله من دمي ... مباحا له أم نام قومي عن الوتر «2» لقد كنت لا أوتى من الصبر قبلها ... فهل تعلمان اليوم أين مضى صبري فأعدى إليّ الحب صحبة أهله ... ولم يدر قلبي أنّ داء الهوى يسري ومنه قوله: [الخفيف] المغاني أخفى بقلبي من العذ ... ل وإن هجن لوعة وزفيرا «3» يا معيري أجفانه أنا أغنى ... بجفوني الغزار أن أستعيرا لي فيكم قلب أغير عليه ... يوم سلع ولا أسمّي المغيرا «4» وقتيل لكم ولا يشتكيكم ... هل رأيتم قبلي قتيلا شكورا وقوله: [الخفيف] آه والشوق ما تأوّهت منه ... لليال بالسّفح لو عدن أخرى «5» 298/صرن دهما من الدآدي وقد ... كنّ بتلك الوجوه درعا وقمرا «6» أيّ عين أصابت الدار أقذى ... الله بعدي أجفانها وأضرّا وبقايا مواقد يصف الجو ... د أباديد في يد الريح يذرى «7»

قلّبوا ذلك الرماد تصيبوا ... فيه قلبي إن لم تصيبوا الجمرا ومنه قوله: [المتقارب] عليّ لعيني اختيار الحبيب ... وإن خانني فإليّ الخيار «1» أحبّ الجفاء على عزّة ... ولا أحمل الوصل فالوصل عار «2» ومنه قوله: [المتقارب] وأنشد خرقاء بالعاشقين ... تمدّ إلى الفتك كفّا صناعا «3» إذا استبطأت من دجى ليلة ... صباحا أماطت يداها القناعا وقوله: [المتقارب] حملن نشاوى بكأس الغرا ... م وكلّ غدا لأخيه رضيعا «4» أحبّوا فرادى ولكنّهم ... على صيحة البين ماتوا جميعا وقوله: [الرجز] عدمت صبري فجزعت بعدكم ... ثمّ ذهلت فعدمت الجزّعا «5» سلبتموني كبدا صحيحة ... أمس فردّوها عليّ قطعا وقوله: [المنسرح] أكرهت عيني على الكرى طلب ال ... طيف ونومي لولاه ممتنع «6»

حتى تمنيّت لو سهرت مع ال ... ركب وودّ السارون لو هجعوا وقوله: [الكامل] إن شاء بعدهم الحيا فلينسكب ... أو شاء ظلّ غمامة فلتقلع «1» فمقيل جسمي في ذيول ربوعهم ... كاف وشربي من فواضل أدمعي 299/وقوله: [مجزوء الكامل] قالوا غدا وعد النّوى ... يا بردها لو لم يفوا «2» هل أنت يا قلبي معي ... أم معهم منصرف «3» يا زمني على الغضا ... ما أنت إلّا الأسف لهفي عليك يا ضيا ... لوردك التلهّف «4» وقوله: [الكامل] لم ترمني الأيام فيك بعائر ... هي أسهم وجوارحي أهداف «5» أأذمّ فاحش صنعها في غدره ... عندي لها أمثالها آلاف «6» ومنه قوله: [الخفيف] سنحت والعيون مطلقة تر ... عى وغابت وكلّها في وثاق «7»

لم تزل تخدع للعيون إلى أن ... علّقت دمعة على كلّ ماق «1» وقوله: [الكامل] إنّ التي علّقت قلبك ودّها ... راحت بقلب عنك غير علوق «2» عقدت ضمان وفائها من خصرها ... فوهى كلا القدين غير وثيق ومنه قوله: [الرجز] كم بالغضا يا زفرتي على الغضا ... من شافع ردّ وعهد سرقا «3» ونظرة لله فيها حكمة ... يوم تخاصم القلوب الحدقا وقوله: [السريع] من حكّم الألحاظ في قلبه ... دلّ على مقتله النائلا «4» سل نافث السّحر بنجد متى ... حوّل نجد بعدنا بابلا ومنه قوله: [المتقارب] تعجّلت يوم اللّوى نظرة ... ولم أتلفّت إلى الآجل «5» فيا ربّ قلّد دمي مقلتي ... بما نظرت واعف عن قاتلي 300/ومنه قوله: [الكامل] قم غير معتذر ولا متثاقل ... فاقصص معي أثر الخليط الراحل «6»

إن كان فاتك يوم رامة نصرتي ... فتغنّم الأخرى ببرقة عاقل «1» وقوله: [الطويل] أيا صاحبي نجواي يوم سويقة ... أناة وإن لم تسعدا فتجملّا «2» سلا ظبية الوادي وما الظبي مثلها ... وإن كان مصقول الترائب أكحلا أأنت أمرت البدر أن يصدع الدجى ... وعلّمت غصن البان أن يتميّلا وأذكر عذبا من رضابك سلسلا ... فما أشرب الصّهباء إلّا تعلّلا «3» ومنه قوله: [الرجز] ظنّ غداة البين أن قد سلما ... لمّا رأى سهما وما أجرى دما «4» فعاد يستقري حشاه فإذا ... فؤاده من بينها قد عدما لم يدر من أين أصيب قلبه ... وإنّما الرامي درى كيف رمى يا قاتل الله العيون خلقت ... جوارحا فكيف صارت أسهما ومنه قوله: [الرمل] حمّلوا ريح الصّبا نشركم ... قبل أن تحمل شيحا وخزامى «5» وابعثوا أشباحكم لي في الكرى ... إن أذنتم لجفوني أن تناما ومنه قوله: [الطويل]

هبي ذنب قلبي إنّه يوم بينكم ... شكاك لوجد أو لروعة بين «1» فما بال عيني عوقبت وهي التي ... سعت بينكم حتى عشقت وبيني 301/وقوله: [الكامل] دع بين جلدي والعظام مكانا ... يسع الغرام ويحمل الأحزانا «2» واستبق طرفي ربّما غلط الكرى ... بطروقه فسلكته وسنانا وقوله: [الكامل] عيني جنت يا ظالمين فما لكم ... جور القضاء تعاقبون جناني «3» ما هذه يا قلب أوّل نظرة ... أخذ البريء بها بذنب الجاني ومنه قوله: [مجزوء الرجز] ويوم ذي البان تبا ... يعنا فحزت الغبنا «4» كان الغرام المشتري ... وكان قلبي الثّمنا وقوله: [الرمل] ليت جسمي مع قلبي عندكم ... إنّه فارقني يوم افترقنا «5» أتّمناكم على اليأس ومن ... تركوه ومنى النّفس تمنّى وقوله: [الوافر]

أرى صورا وشارات حسانا ... مصائد للطّماعة والأماني «1» فأستذري بظلّ لم يسعني ... وأستروي غماما ما سقاني ومنه قوله: [الطويل] وفي الرّكب لي إن أنجد الركب حاجة ... أجلّ اسمها أن تقتضى وأصون «2» يماطلني عنها المليّ وقد درى ... على عذره أنّ العهود ديون وعوّذني عّراف نجد بذكرها ... فأعلمني أنّ الغرام جنون تعوّد داء ظاهرا أن يطبّه ... فكيف له بالداء وهو دفين ومنه قوله: [البسيط] عرّض بغيري ودعني من ظنونهم ... أن قيل من يك يخفي الحبّ في الظّنن «3» وجنّب العتب أمّا جئت زائرنا ... فأنت في العين أحلى منك في الأذن وقوله: [الطويل] أحبّ لظمياء العدى من قبيلها ... وأهوى تراب الأرض ما كنت أهواها «4» 302/يراها بعين الشوق قلبي على النّوى ... فيحظى ولكن من لعيني برؤياها وليل بذات الأثل قصّر طوله ... سرى طيفها آها لذكرته آها «5» تخطّت إليّ الهول مشيا على الهوى ... وأهو اله لا أصغر الله ممشاها «6»

ومنه قوله: [الرمل] قال واشيها وقد راودتها ... رشفة تبرد قلبي من لماها «1» لا تسمها فمها إنّ الذي ... حرّم الخمرة قد حرّم فاها وقوله: [الوافر] أجيران الحمى من لابن ليل ... أتى مسترشدا بكم فتاها «2» ولمّا كنتم يوم الثنايا ... منيّة نفسه كنتم مناها «3» وقوله في الطيف: [الطويل] قضى دين سعدى طيفها المتأوّب ... ونوّل إلّا ما أبى المتحوّب «4» فمثّلها لا عطفها متشمّس ... ولا مسّها تحت الكرى متعصّب تحيّي نشاوى من سرى الليل ألصقوا ... جنوبا بجنب الأرض ما تتقلّب «5» ألا ربّما أعطتك صادقة المنى ... محادثة الأحلام من حيث تكذب «6» وقوله: [الطويل] خيال على الزوراء صدّقت فرحة ... به خدعات الليل والصّبح أصدق «7» عجبت له أدنى البعيد وسمّح ال ... بخيل وأهدى النوم وهو مورّق

ونبّه من أيام جمع لبانة ... يكاد لها جمع الضلوع يفرّق «1» وقوله: [مجزوء الكامل] زارت وتحت خدودنا ... ركب المطيّ وأسؤقه «2» فتعطّرت بذيولها ... كتب الغوير وأبرقه 303/واسترجعت باقي كرى ... بتنا اختطافا نسرقه وقوله: [الرجز] لقد سرى بين الغرار والكرى ... طيف لها ردّ الظلام فلقا «3» فقمت ليس غير طرفي ويدي ... أنفض رحلي وأقصّ الطّرقا ثمّ وهمت أنّ بدرا زارني ... فبتّ لا أسأل إلّا الأفقا وقوله: [مجزوء الرجز] ضنّت عليك يقظى ... وسمحت بالحلم «4» سماحة ليس على ... باذلها من غرم ومنه قوله: [المنسرح] وزائر قرّبت زيارته ... من آنس بالظلام محتشم «5» يعرف رحلي بين الركاب برج ... عان التشكّي وأنّة النّعم

ثمّ دنا جاذبا عطافي وال ... خوف يلوّي منه فقال: قم قم لي فلولاك لم أجب خطرا ... قلت ولولا سراك لم أنم أكرومة للدّجى وهبت ذنو ... ب الصّبح فيها لشافع الظّلم «1» وقوله في المديح: [الوافر] وسيّد قومه من سوّدوه ... بلا عصبيّة وبلا تحاب «2» وإن كان الفتى لأبيه فرعا ... فإنّ الغيث فخر للسّحاب «3» وقوله: [الطويل] وفيت لآباء تكفّلت عنهم ... ببأسك ما سنّوا فخارا وستّروا «4» وجئت بمعنى زائد وكأنّهم ... وما قصّروا عن غاية المجد قصّروا وقوله: [البسيط] قد أفقرتك العطايا والثناء غنى ... وأنصبتك العلى والراحة التّعب «5» عزّي بنفسي ولكن زادني شرفا ... أنّي إليكم إذا باهلت انتسب «6» 304/ومنه قوله: [الطويل] محيط بأقطار الإصابة رأيه ... بديها ورأي الناس مختمر غبّ «7»

تصوّر من حسن وحزم ونائل ... ففي الدّست منه البدر والبحر والهضب «1» منها «2» : وأستعتب الأيام وهي مصرّة ... بهيبتهم حتى تفيء فتعتب «3» فلو قلت إنّي في مديح سواهم ... صدقت لقال الشعر في السرّ تكذب فما كلّ ما استوضحت فيه هداية ... وليس ضلالا كلّ ما تتنكّب وقوله: [الكامل المرفّل] لا توسّعني من نوا ... لك فوق ما يسع امتداحي «4» دعني أطير بشكره ... ما دام يحملني جناحي ومنه قوله: [الكامل] من حوله غرر لهم وضّاحة ... تبيضّ منهنّ الليالي السّود «5» وإذا أناخ به الوفود رأيتهم ... كرما قياما والوفود قعود ومضى يريد النجم حتى حازه ... شرفا فقال النجم: أين تريد؟ أفنى الثراء على الثناء لعلمه ... أنّ الفناء مع الثناء خلود «6» وقوله: [الوافر] فتى عقدت تمائمه فطيما ... على أكرومة ووفاء عهد «7»

ورتّبه على خلق المعالي ... غرائز من أب عال وجدّ فما مجّت له أذن سؤالا ... ولا سمحت له شفة برّد وقوله: [الرجز] 305/قد أفسدوا الدّنيا على أبنائها ... فما ترى مثلهم فيمن تلد «1» وفى بمجد قومه محمد ... فبّرهم وربّما عقّ الولد ودبّر الدنيا برأي واحد ... يأنف أن يشركه فيه أحد وقوله: [الرجز] اعترفت لك العدى إقرارنا ... بالحقّ إذ لم يغنها إقرارها «2» ولو رأت وجه الجحود جحدت ... وإنّما ضرورة امرارها وقوله: [السريع] سل بعليّ خصمه إنّنا ... نقنع فيه بشهود الخصام «3» يخبرك من يحسده أنّه ... - ضرورة- واحد هذا الأنام وقوله يصف فرسا: [الرجز] وضارب إلى الوجيه عرقه ... بأربع يشقى بها الأوابد «4» خاض الظلام واهتدى بغرّة ... كوكبها لمقلتيه قائد ينصاع كالمريخ في اتّقاده ... وأنت فوق ظهره عطارد «5»

وقوله: [المتقارب] كريم يعدّك أغنيته ... إذا [أنت] جئت لإفقاره «1» «2» كأنّك أول أحبابه ... إذا كنت آخر زوّاره وقوله: [الكامل] أنفقت كلّ مودّة أحرزتها ... سرفا ورحت بودّه متربّصا «3» وخبرت قوما قبله وخبرته ... فعرفت مولى السّيف من عبد العصا 306/ومنه قوله: [المتقارب] ولمّا برزت ترائي الهلال ... مضى آيسا منه من يطمع «4» لأنّهم أنكروا أن يروا ... هلالا على قمر يطلع وقوله: [الكامل] والبدر من أنوار وجهك خاشع ... يشكو وشكوى مثله استعطاف «5» لك دونه شرف النهار وحظّه ... من ليله الإظلام والإسداف وإذا استتم فليله من شهره ... نصف وشهرك كلّه أنصاف وقوله: [مجزوء الرجز] لا يلبث الوفر الجمي ... ع أن يشتّ شمله «6»

ولا تكون يده ... لماله مجلّه فكان كلّ درهم ... من كفّه لقبله «1» وقوله: [الطويل] لعاذله حقّ على من يزوره ... لكثرة ما يغريه باللّوم عاذله «2» وقوله: [الطويل] كأنّ النّدى دين له كلّما انقضت ... فرائضه عنه تلته نوافله «2» وقوله: [الكامل] وافى الحجا ويخال أن برأسه ... في الحرب عارض جنّة أو أخبل «4» ما قنّعت أفقا عجاجة غارة ... إلّا تخرّق عنه ثوب القسطل وقوله: [البسيط] أدراك الأفق العالي أم اعتصمت ... بها السماء يقينا أنّها حرم «5» أم الكواكب من شوق إليك هوت ... ترجو نداك فمجموع ومنفصم أم أنت يوسف موعودا وقد سجدت ... لك النجوم وهذا كلّه حلم وقوله: [البسيط] رسم من الملك كان البخل عطّله ... أنشرت فيه بني كسرى وما رسموا «6»

307/نعمى على العجم خصّتهم كرامتها ... لا بل تساهم فيها العرب والعجم قوم يرون القرى بالنار يكسبهم ... فخرا وقوم يرون النار ربّهم وقوله: [الكامل] ضربوا بمدرجة السبيل قبابهم ... يتقارعون بها على الضّيفان «1» ويكاد موقدهم يجود بنفسه ... حبّ القرى حطبا على النيران ومنه قوله: [البسيط] وعمّ جودك حتى المزن ينشده ... هذي المكارم لا قعبان من لبن «2» ظفرت منه بكنز ما نصبت له ... سعيا ولا كدّني معطيه بالمنن وما ذممت زماني في معاتبة ... وحجتّي بك إلّا وهو يخصمني ومنه قوله: [مجزوء الرجز] ذو غرّة أعدى بها ال ... بدر السنّاء والسّنا «3» أفقره سماحه ... وذلك الفقر الغنى وقوله: [الرجز] وفي فؤادي لهواك رتبة ... لا يصل العشق إلى مكانها «4» يستأذن الناس عليها فمتى ... ما حجبوا فادخل بلا استئذانها

ومنه قوله: [الطويل] كريم إذا صمّ الزمان فجوده ... سميع لأصوات العفاة أذين «1» وحلّق يبغي موطنا بعلائه ... فأصبح فوقا والكواكب دون منها: وأرجوك لي حّيا وأرجو لوارثي ... نداك وجسمي في التراب دفين «2» إذا صانك المقدار عن كلّ حادث ... فوجهي عن ذلّ السؤال مصون ومنه قوله: [السريع] 308/يا باسطا من يده مزنة ... يبسم منها البلد القاطب «3» ما زال تنكيلك بالمجرم ال ... مصرّ حتى خافك التائب وقوله: [الطويل] فداؤك من يشقى بسعدك جدّه ... ويحييك طيب الذّكر وهو دفين «4» يساميك لا كسرى أبوه ولا له ال ... مدائن دار والجبال حصون ولا صّر أعواد السرير به ولا ... تغضّن تحت التاج منه جبين وقوله: [الطويل] وللحبّ منّي ما أمنت خيانة ... محلّة قلب قلّما يتقلّب «5»

وما كلّما فارقت أسرب أدمعي ... ولا كلّما غنّى الحمام أطرّب «1» وقوله: [الوافر] وما ألقى بغير الصّبر قرنا ... لعلّي أجتني ثمرات صبري «2» وما يخشى الصديق شبا لساني ... على عرض ولا لسعات فكري «3» ومنه قوله: [الكامل] ولقد أضمّ إليّ فضل قناعتي ... وأبيت مشتملا بها متسربلا «4» وأري العدوّ على الخصاصة شارة ... تصف الغنى فتخالني متمولا «5» وإذا امرؤ أفنى الليالي حسرة ... وأمانيا أفنيتهنّ توكّلا وقوله: [الوافر] وهبتك للحريص عليك لمّا ... بلوتك في القساوة والتجنّي «6» ولمّا كان بعض النوم عارا ... ملكت على الكرى أهداب جفني «7» وقوله: [الطويل] فمّدت إليها بالرّدى يد كاسر ... وكان يقيها المجد من يد ثاقب «8»

بكت أدمعا بيضا ودمّت جباهها ... فتحسبها تبكي دما بالحواجب 309/منها: إذا كان سهم الموت لا بدّ واقعا ... فياليتني المرميّ من قبل صاحبي «1» متى دنّس الحزن السّلو غسلته ... فعاد جديدا بالدموع السواكب «2» وقوله: [الطويل] برغمي أن يسري غزيّ من الأسى ... إليك ولم تفلل بنصري كتائبه «3» إذا سلّم البدر التمام فهيّن ... على الليل أن تهوي صغارا كواكبه وقوله: [الكامل] ووراء ثأرك غلمة لسيوفهم ... من الرّوع من مهج العدى ما اختاروا «4» يتهافتون على المنون كأنّهم ... - حرصا- فراش والمنيّة نار وقوله: [الكامل] وإذا عددت سنيّ لم أك صاعدا ... عدد الأنابيب التي في صعدتي «5» وألام فيك وفيك شبت على الصّبا ... يا جور لائمتي عليك ولمّتي وقوله: [الكامل المرفل] وتقول للعذّال مرضية ... شيّبته من حيث لا يدري «6»

قبّلت شكرانا عوارضه ... عمدا فأعدى شعره ثغري «1» وقوله: [الطويل] تعيب عليّ الشيب خنساء أن رأت ... تطلّع ضوء الفجر تحت هزيع «2» وما شبت لكن ضاع ممّا بكيتكم ... سواد عذاري في بياض دموعي «3» وقوله: [الكامل] بعدت بآثار الأنيس عهودها ... فوحوشها في نجوة أن تقنصا «4» وكأنّ جاثمة النعام بعقرها ... أشياخ حيّ جالسين القرفصا «5» وقوله: [الكامل] لمن الطّلول كأنهنّ رقوم ... تضحى لعينك تارة وتغيم «6» ما كنت أعرف أنهنّ نشيدتي ... حتى تحدّث بينهنّ نسيم 310/ومنه قوله: [الكامل] يا سيف نصري والمهنّد تابع ... وربيع أرضي والسحاب مصاف «7» أخلاقك الغرّ النميرة مالها ... حملت قذى الواشين وهي سلاف «8»

والإفك في مرآة رأيك ماله ... يخفى وأنت الجوهر الشفّاف وقوله: [الكامل] عيش كلا عيش ونفس مالها ... من هذه الدنيا سوى حسراتها «1» ويزيدها جلدا وفرط تجمّل ... بين العدى الإشفاق من إشماتها «2» إن كان عندك يا زمان بقية ... ممّا يضام به الكرام فهاتها وقوله: [الكامل] ما إن ضنيت مع الظنون بصاحب ... إلّا سمحت به مع التّحقيق «3» لا يضحك الأيام كذب مطامعي ... إلّا إذا طالبتها بصديق [وقوله] «4» : [الكامل] ما موت حظّي إنّ مثلي ممكن ... لكن كثرت على الزمان فملّني «5» ممّا أبثّك أنّنا في أرضنا ... لا يعرف الإحسان غير مؤبّن «6» وقوله يصف شعره: [المنسرح] يظهر منها السرور حاسدها ... ضرورة الحقّ وهو مكتئب «7» يطربه البيت وهو يحزنه ... ومن أنين الحمامة الطّرب

وقوله: [الوافر] تبادر تلقط الأسماع منها ... عن الأفواه ما نثر النشيد «1» تسير بوصفكم وتقيم فيكم ... خوالد فهي قاطنة شرود وقوله: [الكامل] 311/في كلّ يوم بنت فكر حرّة ... تغني ببهجتها عن التنميق «2» لم يجد لي تعبي بها فكأنّني ... ممّا يخيب ولدتها لعقوقي وقوله: [مخلع البسيط] يا من رأى باللّوى بريقا ... تقدح نيرانه الجنوب «3» كأنّ ما لاح منه وهنا ... على شباب الدّجى مشيب وقوله: [الرجز] آنس برقا بالغوير لامعا ... معتليا طورا وطورا خاضعا «4» يخرق جيب الليل عن شمس الضّحى ... ثمّ يغور فيعود راقعا [وقوله] «5» : [المتقارب] أيا صاحبي أين وجه الصّباح ... وأين غدّ صف لعيني غدا «6» أسدّوا مسارح ليل العرا ... ق أم صبغوا فجره أسودا

وقوله: [البسيط] يا ليلة ما رأتها أعين الغير ... لم ينج لي قبلها صفو من الكدر «1» يئست من صبحها حتى التفتّ إلى ... وجه العشاء أعزّيه عن السّحر كم يوم سخط صفالي منه ليل رضا ... حتى وهبت ذنوب الشمس للقمر وقوله في وصف الليلة بالطّول: [مجزوء الرجز] أرقب من نجومها ... زوال أمر مستقر «2» رواكد كأنّما ... أفلاكهنّ لم تدر وكلّما قلت انطوى ... شطر من الليل انتشر أسألها أين الكرى؟ ... أين الصباح المنتظر؟ «3» وكلّ شيء عندها ... إلّا الرقاد والسّحر [وماتت الشمس نعم ... فكيف خلّد القمر] «4» 312/ومنه قوله: [الطويل] وكم حملتنا نبتغي المجد عندكم ... أو الرّفد فتلاء الذراع أمون «5» كأنّا قتلنا الصّبح من طول خوضنا ... حشى ليلها والصبح فيه جنين «6» وقوله: [الطويل]

إذا يبست أقلامه أو تصاممت ... فصارمه رطب اللسان خطيب «1» يرى كلّ يوم لابسا دم فارس ... له جسد فوق التراب صليب «2» ولم أر مثل السيف عريان كاسيا ... ولا أمرد الخدّين وهو خضيب وقوله: [الطويل] لمن طالعات في السراب أفول ... يقوّمها الحادون وهي تميل «3» هواها وراء والسّرى من أمامها ... فهنّ صحيحات النواظر حول نجائب إن ضلّ الحمام طريقه ... إلى أنفس العشاق فهو دليل وقوله في السّمك: [الطويل] تعيش بخفض ما تمنّت ونعمة ... بحيث سواها لو ثوى فارق العمرا «4» مسربلة لم يدفع النّبل درعها ... وعريانة لم تشك حرّا ولا قرّا وقوله في الخمر: [المتقارب] عقرن البدور لهم في المهو ... ر حتى جلوها علينا عقارا «5» يطوف بها عاطل المعصمي ... ن يلبسها الجام منها سوارا وقوله: [الوافر]

28 - أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان التنوخي المعري

خطبناها فقام القسّ عنها ... يخاطبنا فخلنا القسّ قسّا «1» وسام بمهرها ثمنا يغالي ... به في ظنّه فنراه بخسا 314/ومنهم: 28- أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان التنوخي المعري «2» رفض الدنيا وما سلم، وفرض غاياتها فعمل بما علم، وتداوى باليأس من مطامعها وألّم ودارى الناس بترك حظّه لهم ومع هذا ظلم. نفض يديه من الدنيا وساكنها، وخفض لديه قدر محاسنها، وانقطع في بيت كان له بالمعرّة لا يخرج منه إلّا إلى مسجده، ولا ينهج طريقا إلّا إلى تهجّده. وأخذ نفسه بالقناعة حتى صارت جنّة تقيه المطامع، ومنّة تقوّيه على مغالبة الأمل الطامع، وترك أكل لحوم الحيوان وعموم ما يجري مجراها من الأعسال والألبان

ومال في هذا إلى رأي الحكماء وقال بمذهب البراهمة في تجنّب إراقة الدماء. وكان قد طلع عليه وهو في الرابعة من عمره جدري وذهب ببصره، وأفقده نور نظره، فلمّا كبر سمّى نفسه [رهين المحبسين] يعني بهما الدنيا والعمى. وكان أبو العلاء من بيت أطلع جماعة من الفضلاء «1» ، وأقطع بنيه العلاء بأبي العلاء. وكان مطلعا على العلوم لا يخلو في علم من الأخذ بطرف، متبحّرا في اللغة، متّسع النطاق في العربية، جامع الشعوب للطرق الأدبية. ندرة في العلم، وشذرة في بني آدم. ما ولدت مثله الليالي ولا أوجدت شبيهه المعالي. وله من الكتب المصنّفة والدواوين المدّونة ما اشتهر ذكره وظهر من ذلك البحر درّه «2» . وهو عدد لا تعقد جمله ولا يحصى ما أحرزه عمله. عقمت القرائح بأمثالها، وعدمت الجوارح أن تضمّ على مثالها من كلم غريبة المعاني أنفس من العقود، وحكم قريبة الوصول تشقّ القلوب قبل الجلود، وله من بدائع النظم والنثر قمراها ومن روائع العلم والعمل سمراها ومن يانع ما تجني المسامع والأبصار ثمراها، هذا على انقطاع حتى/ 315/عن نفسه وامتناع حتى عن أنسه ونفار حتى من ظلّه، وحذار حتى ممّا يجالسه من فضله مع ما مني به من فقد حاسّة بصره، ورمي به من عدم حامّة معشره وخلّوه ممّن يماثله في بلده ويراسله فيما يأخذ في جدده واطّراحه للمذاكرة وانتزاحه عن المحاضرة، واشتغاله أكثر الأوقات بالفكر في معاده والذّكر لما يحتاج أن يستصحبه من زاده. والتأهب للسفر والتوثب مستوقرا ليكون في أول النّفر إلّا أنّه كان مع هذا مذهبه أن لا يفارق إلّا ونفسه كاملة بالمعارف عاملة على أن لا يفوتها شيء من العوارف، لترقى روحه إلى عالمها وتتلقى بروح القبول في معالمها، ولا تخرج إلّا وهي بالعلوم مرتسمة وللقلوب مبتسمة، فهذا الذي كان يثير عزمه الساكن وعلمه إلى أشرف الأماكن. وكان ممّن أوتي ذكاء تتوقّد زجاجته

وغناء تبلغ به فوق الكفاية حاجته. والناس فيه بين مكفّر ومعتقد له بالولاية وما بين بين هذه الغاية «1» . واحتجّ الصاحب كمال الدين أبو القاسم عمر بن أبي جرادة المعروف بابن العديم «2» رحمه الله له في المآخذ التي أخذت عليه ونفذت بها سهام المؤاخذة إليه، وألّف في هذا تأليفا سمّاه الإنصاف والتحري في دفع الظلم والتجرّي عن أبي العلاء المعري «3» ، قال فيه «4» : إنّني وقفت على جملة من مصنّفات عالم معرة النعمان أبي العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان المعري فوجدتها مشحونة بالفصاحة والبيان مودعة فنونا من الفوائد الحسان، محتوية على أنواع الأدب مشتملة من علوم العرب على الخالص واللّباب. لا يجد الطامح فيها سقطة ولا يدرك الكاشح فيها غلطة. ولمّا كانت مختصّة/ 316/بهذه الأوصاف متميّزة على غيرها عند أهل الإنصاف قصدوه جماعة لم يعوا عنه وعيه وحسدوه إذ لم ينالوا سعيه، فتتّبعوا كتبه على وجه الانتقاد ووجدوها خالية من الزّيغ والفساد، فحين علموا سلامتها من العيب والشين سلكوا فيها مسلك الكذب والمين. ورموه بالإلحاد والتعطيل والعدول عن سواء السبيل، فمنهم من وضع على لسانه أقوال الملحدة ومنهم من حمل كلامه على غير المعنى الذي قصده، فجعلوا محاسنه عيوبا وحسناته ذنوبا، وعقله حمقا وزهده فسقا، ورشقوه بأليم السّهام وأخرجوه عن الدين والإسلام، وحرّفوا كلمه عن

مواضعه وأوقعوه في غير مواقعه. ولو نظر الطاعن كلامه بعين الرضا وأغمد سيف الحسد من عليه انتضى لأوسع له صدرا وشرح واستحسن ما ذمّ ومدح، لكن جرى الزمان على عاداته في مطالبة أهل الفضل بترّاته وقصدهم بإساءاته، فسلّط عليهم أبناءه وجعلهم أعداءه فقصدوه بالطعن والإساءة واللبيب مقصود والأديب عن بلوغ الغرض مصدود وكلّ ذي نعمة محسود. ومن سلك في الفصاحة مسلكه وأدرك من أنواع العلوم ما أدركه، وقصد في كتبه الغريب وأودعها كلّ معنى غريب كان للطاعّن سبيل إلى عكس معانيها وقلبها وتحريفها عن وجوهها المقصودة وسلبها «1» . ألا ترى إلى كتاب الله العزيز المحتوي على المنع والتجويز الذي لا يقبل التبديل في شيء من صحفه ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه كيف أحال جماعة من أرباب الأقاويل تأويله إلى غير وجه التأويل فصرفوا تأويله إلى ما أرادوا فما أحسنوا في ذلك ولا أجادوا، فما ظنّك بكلام رجل من البشر ليس بمعصوم إن زلّ أو عثر،/ 317/وقد تعمّق في فصيح الكلام وأتي من اللغات بما لا يتيسّر لغيره ولا يرام، وأودعها في كلامه أحسن إيداع وأبرزها في النظم البديع والأسجاع، وإذا قصده بعض الحساد فحمل كلامه على غير ما أراد، وقد وضع أبو العلاء كتابا وسمه بزجر النابح «2» أبطل فيه طعن المزري عليه والقادح، وبيّن فيه عذره الصحيح وإيمانه الصريح ووجه كلامه الفصيح، ثمّ أتبع ذلك بكتاب وسمه بنجر الزّجر بيّن فيه مواضع طعنوا بها عليه بيان الفجر فلم يمنعهم زجره ولا اتّضح لهم عذره بل تحقّق عندهم كفره، وأصرّوا على ذلك

وداموا وعنّفوا من انتصر له ولاموا، وقعدوا في أمره وقاموا، فلم يرعوا له حرمه ولا أكرموا علمه ولا راقبوا فيه إلّا ولا ذمّه، حتى حكوا كفره بالأسانيد وشدّدوا في ذلك غاية التشديد وكفّره من جاء بعدهم بالتقليد فابتدرت دونه مناضلا وانتصبت عنه مجادلا وانتدبت لمحاسنه ناقلا. وذكرت في هذا الكتاب مولده ونسبه وتحصيله للعلم وطلبه ودينه الصحيح ومذهبه، وورعه الشديد وزهده واجتهاده القويّ وجدّه وطعن القادح عليه وردّه ودفع الظلم عنه وصدّه. انتهى كلام الصاحب كمال الدين ابن العديم في صدر تأليفه، ثمّ أخذ يقصّ أخباره، ويستقصي آثاره، وأنا ذاكر ما حكاه نكتا أختصرها، وأقتصر مما أورده على لطائف ألخّصها بعبارة تحصرها. أمّا بلده فمعّرة النعمان بها ولد، والصحيح أنّها تنسب إلى النعمان بن بشير الأنصاري، وكان واليا على حمص وقنسرين في ولاية معاوية، وابنه يزيد. ومات للنعمان بها ولد، وجدّد عمارتها فنسبت إليه. وكانت تسمّى ذات القصور. وأمّا نسبه فمن تنوخ، وأمّا بيته فسادة لهم/ 318/في الفضل رسوخ غير منسوخ منهم قضاة الأمة والفضلاء الأئمة، والعلماء أصحاب العلوم الجمّة، والأدباء المنطقون بالحكمة، والشعراء الذين اغتصبوا البحر درّه، والفلك نجمه والخطباء أهل الورع والأثبات الذين أحبّوا السّنة، وأماتوا البدع ممّن لا يتسّع التأليف لإحصائهم، وحصر أسمائهم، وإنّما نحن بصدد ذكر أبي العلاء على التخصيص، والإشادة من مجده بما يكاد أن يلحق بشواهد التنصيص. قرأ القرآن العظيم بالروايات على جماعة من الشيوخ، وتوسّع في اللغة والنحو، ورحل إلى بغداد في طلب العلم، وروى الحديث وخرّج من حديثه سبعة أجزاء رويت عنه، وفي بعض رسائله يقول: وأحلف ما سافرت أستكثر من النشب، ولا أتكثّر بلقاء الرجال، ولكن آثرت الإقامة بدار العلم فشاهدت أنفس ما كان لم يسعف الزمن بإقامتي فيه. وأخذ عنه خلق لا يعلمهم إلّا الله كلّهم قضاة، وأئمة، وخطباء، وأهل تبحّر وديانات، واستفادوا منه،

ولم يذكره أحد منهم بطعن، ولم ينسب حديثه إلى ضعف ولا وهن. وكان له أربعة من الكتّاب المجودين في جرايته وجاريه يكتبون عنه ما يكتبه إلى الناس، وما يمليه من النظم والنثر، والتصانيف، والإجازات، والسماع لمن يسمع منه ويستجيزه، وغير هؤلاء من الكتّاب الذين يغيبون ويحضرون منهم جماعة من بني هاشم «1» ، وله رسالة تعرف برسالة الضّبعين كتبها إلى معزّ الدولة ثمال بن صالح يشكو إليه رجلين كانا يؤلّبان عليه، وقد حرّفا بيتا من لزوم ما لا يلزم قال فيها: وفي حلب حماها الله نسخ من هذا الكتاب بخطوط قوم ثقات يعرفون ببني أبي هاشم أحرار نسكة، أيديهم/ 319/بحبل الورع متمسكة جرت عادتهم أن ينسخوا ما أمليه وإن أحضرت ظهرت الحجّة بما قلت فيه. واتّفق يوم وصوله إلى بغداد موت الشريف الطاهر يعني أبا أحمد الحسين بن موسى والد الشريفين: الرضي والمرتضى فدخل أبو العلاء إلى عزائه والناس مجتمعون، والمجلس غاص بأهله فتخطّى بعض الناس، فقال له بعضهم ولم يعرفه: إلى أين يا كلب؟ فقال: الكلب من لا يعرف للكلب كذا وكذا اسما، ثمّ جلس في أخريات المجلس إلى أن قام الشعراء، وأنشدوا فقام أبو العلاء، وأنشد قصيدته التي أوّلها: أودى فليت الحادثات كفاف ... مال المسيف وعنبر المستاف يرثي بها الشريف المذكور فلمّا سمعه ولداه الرضي والمرتضى قاما إليه، ورفعا مجلسه، وقالا له: لعلّك أبو العلاء المعري؟ قال: نعم، فأكرماه واحترماه. ثم إنّ أبا العلاء بعد ذلك طلب أن تعرض عليه الكتب التي في خزائن بغداد فأدخل إليها وجعل لا يقرأ عليه كتاب إلّا حفظ جميع ما يقرأ عليه. وقال الشعر وهو ابن إحدى عشرة أو اثنتي عشرة سنة. وقيل له: بم بلغت هذه الرتبة في العلم؟ فقال: ما سمعت شيئا إلّا حفظته، وما حفظت شيئا فأنسيته.

وحكى عنه تلميذه أبو زكريا التبريزي أنّه كان قاعدا في مسجده بمعّرة النعمان يقرأ عليه شيئا من تصانيفه قال: وكنت قد أتممت عنده سنتين ولم أر أحدا من بلدي، فدخل مغافصة «1» المسجد بعض جيراننا للصلاة، فرأيته وعرفته، وتغيّرت من الفرح فقال لي أبو العلاء: ما أصابك؟ فحكيت له أنّي رأيت جارا بعد أن لم ألق أحدا من بلدي منذ سنتين فقال لي: قم وكلّمه، فقلت: حتى أتّمم السّبق «2» . فقال: قم، أنا أنتظرك، فقمت وكلّمته بالأذربيجية شيئا كثيرا، إلى أن سألت عمّا أردت، فلمّا فرغت،/ 320/وقعدت بين يديه قال لي: أيّ لسان هذا؟ قلت لسان أهل أذربيجان، فقال: ما عرفت اللسان ولا فهمته، غير أنّي حفظت ما قلتما، ثم أعاد لفظنا بلفظ ما قلنا. فجعل جاري يتعجب غاية التعجّب، ويقول: كيف حفظ شيئا لم يفهمه! وقال هبة الله بن موسى: كنت أسمع من أخبار أبي العلاء، وما أوتيه من البسطة في علم اللسان ما يكثر تعجّبي منه، فلمّا وصلت المعرة قاصدا الديار المصرية لم أقدّم شيئا على لقائه، فحضرت إليه ومعي أخي، وكنت بصدد أشغال يحتاج إليها المسافر، فلم أسمح بمفارقته والاشتغال بها، فتحدّث معي أخي حديثا باللسان الفارسيّ، فأرشدته إلى ما يعمله فيها، ثمّ غدوت إلى مذاكرة أبي العلاء، فتجاذبنا الحديث، إلى أن ذكرت ما وصف به من سرعة الحفظ وسألته أن يريني من ذلك ما أحكيه عنه، فقال: خذ كتابا من هذه الخزانة القريبة منك فاذكر أوّله، فإنّي أورده عليك حفظا، فقلت كتابك ليس بغريب إن حفظته، قال: قد دار بينك وبين أخيك كلام بالفارسيّة، إن شئت أعدته عليك، قلت: أعده. فأعاده وما أخلّ والله منه بحرف، ولم يكن يعرف اللّغة الفارسيّة. وكان لأبي العلاء جار أعجميّ بمعرّة النعمان، فغاب في بعض حوائجه، فحضر رجل غريب أعجميّ مجتاز، قد قدم من بلاد العجم، فطلبه، ولم يمكنه المقام، وهو لا يعرف اللّسان العربيّ. فأشار إليه أبو العلاء أن يذكر حاجته إليه. فجعل يتكلّم بالفارسيّة وأبو

العلاء يصغي إليه، إلى أن فرغ من كلامه وهو لا يفهم ما يقول، ومضى الرجل، وقدم جار أبي العلاء العجميّ الغائب، وحضر عند أبي العلاء، فذكر له حال الرّجل وطلبه له، وجعل يعيد عليه ما قال بالفارسيّة، والرجل يستغيث ويلطم على رأسه، إلى أن فرغ أبو العلاء. وسئل عن حاله، فأخبرهم أنه أخبر بموت أبيه وإخوته وجماعة/ 321/من أهله. أو كما قال. ومن ذكائه وحفظه، أنّ جارا له سمّانا كان بينه وبين رجل من أهل المرّة معاملة، فجاءه ذلك الرّجل، ودفع إليه السّمّان رقاعا كتبها إليه يستدعي فيها حوائج له. وكان أبو العلاء في غرفة مشرفة عليهما، فسمع أبو العلاء محاسبة السّمّان له، وأعاد الرّجل الرّقاع إلى السّمّان. ومضى على ذلك أيام، فسمع أبو العلاء ذلك السّمّان وهو يتأوّه ويتململ، فسأله عن حاله، فقال: كنت حاسبت فلانا برقاع كانت له عندى، وقد عدمتها، ولا يحضرني حسابه. فقال: لا عليك، تعال إليّ، فأنا أحفظ حسابكما. وجعل يملي عليه معاملته جميعها وهو يكتبها، إلى أن فرغ وقام. فلم يمض إلا أيام يسيرة، فوجد السّمّان الرقاع وقد جذبتها الفأر إلى زاوية في الحانوت، فقابل بها ما أملاه أبو العلاء، فلم يخط في حرف واحد. ولمّا دخل إلى بغداد أرادوا امتحانه، فأحضروا دستور الخراج الذي في الديوان، وجعلوا يوردون ذلك عليه مياومة وهو يسمع، إلى أن فرغوا. فابتدأ أبو العلاء، وسرد عليهم كلّ ما أوردوه عليه. وسمع أهل حلب بذكائه وهو صغير، فسافر جماعة من أكابرهم إلى معرّة النعمان لمشاهدته، وسألوا عنه، فقيل لهم: هو يلعب مع الصبيان، فجاءوا إليه وسلّموا عليه، فردّ عليهم السلام، فقيل له: هؤلاء جماعة من أكابر حلب أتوا لينظروك ويمتحنوك، فقال لهم: هل لكم فى المقافاة «1» بالشّعر؟ فقالوا: نعم. فجعل كلّ واحد منهم

ينشد [بيتا] «1» وهو ينشد على قافيته، حتّى فرغ حفظهم بأجمعهم وقهرهم، فقال لهم: أعجزتم أن يعمل كلّ واحد منكم بيتا عند الحاجة إليه على القافية التى يريد؟ فقالوا له: فأفعل أنت ذلك. فجعل كلّما أنشده واحد منهم بيتا أجابه من نظمه على قافيته، حتّى قطعهم كلّهم، فعجبوا منه وانصرفوا. 322/ومرّ في طريقه إلى بغداد وهو راكب على جمل بشجرة، فقيل له: طأطئ رأسك، ففعل. وأقام ببغداد ما شاء الله، فلما عاد اجتاز بذلك الموضع وقد قطعت تلك الشجرة، فطأطأ رأسه، فسئل عن ذلك فقال: ها هنا شجرة. فقيل له: ما ها هنا شئ. فقال: بلى. فحفروا ذلك الموضع، فوجدوا أصلها. وقيل لبعض أمراء حلب: إنّ اللغة التى ينقلها أبو العلاء إنّما هى من" الجمهرة"، وعنده منها نسخة ليس في الدنيا مثلها، وأشاروا عليه بطلبها منه، قصدا لأذاه. فسيّر أمير حلب رسولا إلى أبي العلاء يطلبها منه، فأجابه بالسّمع والطاعة، وقال تقيم عندنا أيّاما حتّى تقضي شغلك. ثمّ أمر من يقرأ عليه كتاب الجمهرة، فقرئت عليه حتّى فرغوا من قراءتها، ثم دفعها إلى الرسول [وقال له] «2» : ما قصدت بتعويقك إلا أن أعيدها على خاطرى، خوفا من أن يكون قد ند منها شئ عن خاطري. فعاد الرسول وأخبر أميره بذلك، فقال: من يكون هذا حاله لا يجوز أن يؤخذ منه هذا الكتاب، وأمر بردّه إليه. وكان له محلّ عال عند الملوك، يقبلون عليه، ويقبلون شفاعته، ويعظّمون قدره. وله كرم، لو ملك الدنيا لبذلها. وفيه مناقب، نقول ولا نحاشي «3» : إنه كان أكثرها أفضلها. ومن أشعاره التى سيّر في الأرض مثلها، قوله في النسيب والغزل: [البسيط]

حسّنت نظم كلام توصفين به ... ومنزلا بك معمورا من الخفر «1» والحسن يظهر في شيئين رونقه ... بيت من الشّعر أو بيت من الشّعر وقوله: [الكامل] كم قبلة لك في الضّمائر لم أخف ... فيها الحساب لأنّها لم تكتب «2» ورسول أحلام إليك بعثته ... فأتى على يأس بنجح المطلب 323/وقوله: [البسيط] نكّست قرطيك تعذيبا وما سحرا ... أخلت قرطيك هاروتا وماروتا «3» لو قلت ما قاله فرعون مفتريا ... لخفت أن تنصبي في الأرض طاغوتا فلست أوّل إنسان أضلّ به ... إبليس من تخذ الإنسان لاهوتا منها: يا عارضا راح تحدوه بوارقه ... للكرخ سلّمت من غيث ونجّيتا لنا ببغداد من نهوى تحيّته ... فإن تحمّلتها عنّا فحييّتا بت الزمان حبالي من حبالكم ... أعزز عليّ بكون الوصل مبتوتا وقوله: [البسيط] منك الصّدود ومنّي بالصّدود رضا ... من ذا علي بهذا في هواك قضى «4» بي منك ما لو غدا بالشّمس ما طلعت ... من الكآبة أو بالبرق ما ومضا إذا الفتى ذمّ دهرا في شبيبته ... فما يقول إذا عصر الشّباب مضى

وقد تعوّضت عن كل بمشبهه ... فما وجدت لأيّام الصّبا عوضا وقوله: [الكامل] زارت عليها للظّلام رواق ... ومن النّجوم قلائد ونطاق «1» والطّوق من لبس الحمام عهدته ... وظباء وجرة مالها أطواق وقوله في المديح والفخر: [البسيط] جمال ذي الأرض كانوا في الحياة وهم ... بعد الممات جمال الكتب والسّير «2» وافقتهم في اختلاف من زمانكم ... والبدر في الوهن مثل البدر في السّحر الموقدون بنجد نار بادية ... لا يحضرون وفقد العزّ في الحضر إذا همى القطر شبّتها عبيدهم ... تحت الغمائم للسّارين بالقطر 324/وقوله: [الكامل] يتهلّلون طلاقة وكلومهم ... ينهلّ منهنّ النّجيع الأحمر «3» لا يعرفون سوى التقدّم آسيا ... فجراحهم بالسّمهريّة تسبر من كلّ من لولا تسعّر بأسه ... لا خضّر في يمنى يديه الأسمر وقوله: [الطويل] بأىّ لسان ذامني متجاهل ... علّي وخفق الرّيح فيّ ثناء «4» تكلّم بالقول المضلّل حاسد ... وكلّ كلام الحاسدين هراء أتمشي القوافي تحت غير لوائنا ... ونحن على قوّالها أمراء

ولا سار في عرض السّماوة بارق ... وليس له من قومنا خفراء وقوله: [الطويل] فإن يك أضحى القول جمّا طيوره ... فما تستوى عقبانه بحمامه «1» وإن يك وادينا من الشّعر نبته ... فغير خفيّ أثله من ثمامه منها: إذا افتخر المسك الذّكيّ فإنما ... يقول افتخارا إنّه من رغامه غمامان مبيضّان منذ براهما ... لنا الله لم نحفل ببيض غمامه «2» وقوله: [الوافر] لقد شرّفتني ورفعت قدري ... به وأنلتني الحظّ الرّبيحا «3» أجل ولو انّ علم الغيب عندي ... لقلت أفدتني أجلا فسيحا وقوله فى ذكر النّوق يتخلّص إلى المدح: [الوافر] سألن فقلت مقصدنا سعيد ... وكان اسم الامير لهنّ فالا «4» 325/وقوله: [الوافر] ولو قيل اسألوا شرفا لقلنا ... يعيش لنا الأمير ولا نزاد «5» وقوله: [الطويل]

إليك تناهى كلّ فخر وسؤدد ... فأبل اللّيالي والأنام وجدّد «1» لجدّك كان المجد ثمّ حويته ... ولابنك يبنى منه أشرف مقعد ثلاثة أيام هي الدهر كلّه ... وما هنّ غير اليوم والأمس والغد وما البدر إلا نيّر غير أنّه ... يغيب ويأتي بالضّياء المجدّد فلا تحسب الأقمار خلقا كثيرة ... فجملتها من نيّر متردّد وقوله: [الطويل] هو الشّهد مجّته الخطوب مرارة ... وقد نفرت أفواهها لالتهامه «2» تهاب الأعادي بأسه وهو ساكن ... كما هيب مسّ الجمر قبل اضطرامه وقوله: [الطويل] تعدّ ذنوبي عند قوم كثيرة ... ولا ذنب لي الّا العلا والفواضل «3» كأنّي إذا طلت الزّمان وأهله ... رجعت وعندي للأنام فواضل «4» وقد سار ذكرى فى البلاد فمن لهم ... بإخفاء شمس ضوءها متكامل يهمّ الليالي بعض ما أنا فاعل ... ويثقل رضوى دون ما أنا حامل وإنّي وإن كنت الأخير زمانه ... لآت بما لم تستطعه الأوائل وأغدو ولو أنّ الصبّاح صوارم ... وأسري ولو أنّ الظّلام جحافل وإنّي جواد لم يحلّ لجامه ... ونضويمان أغفلته الصياقل وإن كان في لبس الفتى شرف له ... فما السّيف إلّا غمده والحمائل

ولي منطق لم يرض لي كنه منزلي ... على أنّني بين السّماكين نازل 326/لدى موطن يشتاقه كلّ سيّد ... ويقصر عن إدراكه المتناول ولمّا رأيت الجهل في الناس فاشيا ... تجاهلت حتّى ظنّ أنّي جاهل فواعجبا كم يدّعي الفضل ناقص ... ووا أسفّا كم يظهر النّقص فاضل وكيف تنام الطّير في وكناتها ... وقد نصبت للفرقدين الحبائل ينافس يومي فيّ أمسي تشرّفا ... وتحسد أسحاري عليّ الأصائل فلو بان عضدي ما تأسّف منكبي ... ولو مات زندي ما بكته الأنامل إذا وصف الطّائيّ بالبخل مادر ... وعيّر قسّا بالفهاهة باقل وقال السّها يا شمس أنت خفيّة ... وقال الدّجى يا صبح لونك حائل وطاولت الأرض السّماء سفاهة ... وفاخرت الشّهب الحصى والجنادل فياموت زر إنّ الحياة كريهة ... ويا نفس جدّي إنّ دهرك هازل وقوله: [الوافر] لي الشّرف الذي يطأ الثّريا ... مع الفضل الذي بهر العبادا «1» وكم عين تؤمّل أن تراني ... وتفقد عند رؤيتي السّوادا وقوله: [الطويل] إذا ما أخفت المرء جنّ مخافة ... فأيقن أنّ الأرض كفّة حابل «2» يرى نفسه في ظلّ سيفك واقفا ... وبينكما بعد المدى المتطاول يظنّ سنيرا من تفاوت لحظه ... ولبنان سارا في القنا والقنابل وقوله: [الطويل]

تخيرّت جهدي لو وجدت خيارا ... وطرت بعزمي لو أصبت مطارا «1» جهلت فلمّا لم أر الجهل مغنيا ... حكمت فأوسعت الزّمان وقارا 327/إلى كم تشكّاني إليّ ركائبي ... وتوسع عتبي خفية وجهارا أسير بها تحت المنايا وفوقها ... فيسقط بي شخص الحمام عثارا وقوله: [الوافر] إذا سارتك شهب اللّيل قالت ... أعان الله أبعدنا مرادا «2» وإن جارتك هوج الرّيح كانت ... أكلّ ركائبا وأقلّ زادا وقوله: [الوافر] أيدفع معجزات الرّسل قوم ... وفيك وفي بديهتك اعتبار «3» كأنّ بيوته الشّهب السّواري ... وكلّ قصيدة فلك مدار وقوله يرثي أباه: [الطويل] نقمت الرّضا حتّى على ضاحك المزن ... فلا جادني إلّا عبوس من الدّجن «4» وليت فمي إن شاء سنّي تبسّمي ... فم الطّعنة النّجلاء تدمي بلا سنّ منها: فيا ليت شعري هل يخفّ وقاره ... إذا صار أحد في القيامة كالعهن حجا زاده من جرأة وسماحة ... وبعض الحجا داع إلى البخل والجبن

على أمّ دفر غضبة الله إنّها ... لأجدر أنثى أن تخون وأن تخني كعاب دجاها فرعها ونهارها ... محيّا لها قامت له الشّمس بالحسن كأنّ بنيها يولدون ومالها ... حليل فتخشى العار إن سمحت بآبن منها: وخوف الرّدى آوى إلى الكهف أهله ... وكلّف نوحا وابنه عمل السّفن وما استعذبته روح موسى وآدم ... وقد وعدا من بعده جنّتي عدن منها: أمرّ بربع كنت فيه كأنّما ... أمرّ من الإكرام بالحجر والرّكن وإجلال مغناك اجتهاد مقصّر ... إذا السّيف أودى فالعفاء على الجفن 328/منها: فليتك في جفني موارى نزاهة ... بتلك السّجايا عن حشاي وعن ضبني ولو حفروا في درّة ما رضيتها ... لجسمك إبقاء عليه من الدّفن وقوله يرثي والدته: [الوافر] فيا ركب المنون أما رسول ... يبلغ روحها أرج السّلام «1» ذكيّا يصحب الكافور منه ... بمثل المسك مفضوض الختام سألت متى اللّقاء فقيل حتّى ... يقوم الهامدون من الرّجام وقوله: [الطويل] وما مثل فقدان الشّريف محمّد ... رزيّة خطب جناية ذي جرم «2»

فيا دافنيه في الثّرى إنّ لحده ... مقرّ الثّريّا فادفنوها على علم ويا حاملي أعواده إنّ فوقها ... سماوىّ سرّ فاتّقوا كوكب الرّجم وما نعشه إلّا كنعش وجدته ... أبّا لبنات لا يخفن من اليتم منها: إذا قيل نسك فالخليل بن آزر ... وإن قيل فهم فالخليل أخو الفهم أقامت بيوت الشعر تحكم بعده ... بناء المراثي وهى صور إلى الهدم نعيناه حتّى للغزالة والسّها ... فكلّ تمنى لو فداه من الحتم وما كلفة البدر المنير قديمة ... ولكنّها في وجهه أثر اللّدم منها: ولا تنسني في الحشر والحوض حوله ... عضائب شتّى بين غرّ إلى بهم لعلّك في يوم القيامة ذاكري ... فتسأل ربّي أن يخفّف من إثمي وقوله: [الخفيف] غير مجد في ملّتي واعتقادي ... نوح باك ولا ترنّم شاد «1» 329/وشبيه صوت النّعيّ إذا قي ... س بصوت البشير في كلّ ناد صاح هذي قبورنا تملأ الرّح ... ب فأين القبور من عهد عاد خفف الوطء ما أظنّ أديم الأ ... رض إلّا من هذه الأجساد وقبيح بنا وإن قدم العه ... د هوان الآباء والأجداد ربّ لحد قد صار لحدا مرارا ... ضاحك من تزاحم الأضداد ودفين على بقايا دفين ... في طويل الأزمان والآباد

فاسأل الفرقدين عمن أحسّا ... من قبيل وآنسا من بلاد كم أقاما على زوال نهار ... وأنارا لمدلج في سواد تعب كلّها الحياة فما أع ... جب إلّا من راغب في ازدياد إن حزنا في ساعة الموت أضعا ... ف سرور في ساعة الميلاد خلق النّاس للبقاء فضلّت ... أمّة يحسبونهم للنّفاد إنّما ينقلون من دار أعما ... ل إلى دار شقوة أو رشاد ضجعة الموت رقدة يستريح ال ... جسم فيه والعيش مثل السّهاد منها: قصد الدّهر من أبي حمزة الأوّ ... اب مولى حجا وخدن اقتصاد وفقيها أفكاره شدن للنّع ... مان ما لم يشده شعر زياد والعراقيّ بعده للحجازيّ ... قليل الخلاف سهل القياد وخطيبا لو قام بين وحوش ... علّم الضّاريات برّ النّقاد روايا للحديث لم يحوج المع ... روف من صدقه إلى الإسناد ذا بنان لا تلمس الذّهب الأح ... مر زهدا في العسجد المستفاد 330/ودّعا أيّها الحفيّان ذاك الشّ ... خص إنّ الوداع أيسر زاد واغسلاه بالدّمع إن كان طهرا ... وادفناه بين الحشا والفؤاد واحبواه الأكفان من ورق المض ... حف كبرا عن أنفس الأبراد منها: كيف أصبحت فى محلّك بعدي ... يا جديرا مني بحسن افتقاد قد أقرّ الطبيب عنك بعجز ... وتقضّى تردّد العوّاد منها:

زحل أشرف الكواكب دارا ... من لقاء الرّدى على ميعاد ولنار المرّيخ من حدثان الدّ ... هر مطف وإن علت في اتّقاد والثريا رهينة بافتراق الشّ ... مل حتّى تعدّ في الأفراد منها: والذي حارت البرية فيه ... حيوان مستحدث من جماد واللبيب اللبيب من ليس يغ ... ترّ بكون مصيره للفساد وقوله: [الكامل] أودى فليت الحادثات كفاف ... مال المسيف وعنبر المستاف «1» الطّاهر الآباء والأبناء وال ... آراب والأثواب والألّاف منها: طار النّواعب يوم فاد نواعيا ... فندبنه لموافق ومناف ونعيبها كنحيبها وحدادها ... أبدا سواد قوادم وخواف لا خاب سعيك من خفاف أسحم ... كسحيم الأسديّ أو كخفاف من شاعر للبين قال قصيدة ... يرثي الشّريف على رويّ القاف بنيت على الإيطاء سالمة من ال ... إقواء والإكفاء والإصراف منها: فارقت دهرك ساخطا أفعاله ... وهو الجدير بقلّة الإنصاف 331/ولقيت ربّك فاستردّ لك الهدى ... ما نالت الأيّام بالإتلاف أنتم ذوو النّسب القصير فطولكم ... باد على الكبراء والأشراف

والرّاح إن قيل ابنة العنب اكتفت ... بأب عن الأسماء والأوصاف ما زاغ بيتكم الرّفيع وإنّما ... بالوجد أدركه خّفيّ زحاف والشّمس دائمة البقاء وإن تنل ... بالشّكو فهي سريعة الإخطاف وقوله في الحكم والأمثال: [البسيط] لو اختصرتم من الإحسان زرتكم ... والعذب يهجر للإفراط في الخصر «1» منها: والنّجم تستصغر الأبصار رؤيته ... والذّنب للطّرف لا للنّجم في الصّغر وقوله: [الوافر] وكالنّار الحياة فمن رماد ... أواخرها وأوّلها دخان «2» وقوله: [الطويل] وهل يذخر الضّرغام قوتا ليومه ... إذا ادّخر النّمل الطّعام لعامه «3» وهل يدّعي اللّيل الدّجوجيّ أنّه ... تضيء ضياء الشّمس شهب ظلامه وقوله: [الكامل] والسّمهريّة ليس يشرف قدرها ... حتى يسافر لدنهّا عن غابه «4» وقوله: [الطويل]

إذا أنت أعطيت السّعادة لم تبل ... ولو نظرت شزرا إليك القبائل «1» تقتك على أكتاف أبطالها القنا ... وهابتك في أغمادهنّ المناصل وإن سدّد الأعداء نحوك أسهما ... نكصن على أفواقهنّ المعابل تحامى الرّزايا كلّ خفّ ومنسم ... وتلقى رداهّن الذّرى والكواهل وترجع أعقاب الرّماح سليمة ... وقد حطمت في الدّارعين العوامل 332/وإن كنت تهوى العيش فابغ توسّطا ... فعند التّناهي يقصر المتطاول توقّى البدور النّقص وهى أهلّة ... ويدركها النّقصان وهى كوامل وقوله: [الطويل] ولا بدّ للإنسان من سكر ساعة ... تهون عليه غيرها السّكرات «2» ألا إنّما الأيّام أبناء واحد ... وهذي الليالي كلّها أخوات وقوله: [السريع] والشّيء لا يكثر مدّاحه ... إلّا إذا قيس إلى ضدّه «3» لولا غضى نجد وقلّامه ... لم يثن بالطّيب على رنده يشتاق أيّار نفوس الورى ... وإنّما الشّوق إلى ورده أضحى الذي أجلّ في سنّه ... مثل الذي عوجل في مهده ولا يبالي الميت في قبره ... بذمّه شيّع أو حمده والواحد المفرد في حتفه ... كالحاشد المكثر من حشده وحالة الباكي لآبائه ... كحالة الباكي على ولده

تجربة الدنيا وأفعالها ... حثّت أخا الزّهد على زهده وقوله: [الوافر] وظنّ بسائر الإخوان شرا ... ولا تأمن على سرّ فؤادا «1» فلو خبرتهم الجوزاء خبري ... لما طلعت مخافة أن تكادا منها: فأيّ الناس أجعله صديقا ... وأيّ الأرض أسلكه ارتيادا ولو أنّ النّجوم لديّ مال ... نفت كفّاي أكثرها انتقادا كأنّي في لسان الدّهر لفظ ... تضمّن منه أغراضا بعادا يكرّرني ليفهمني رجال ... كما كررت معنى مستعادا 333/وقوله: [الطويل] وما الدّهر إلّا دولة ثمّ صولة ... وما العيش إلّا صحّة وسقام «2» ولو دامت الدّولات كانوا كغيرهم ... رعايا ولكن ما لهنّ دوام وقوله: [الطويل] ولسنا وإن كان البقاء محبّبا ... بأوّل من أخنى عليه حمام وحبّ الفتى طول الحياة يذلّه ... وإن كان فيه نخوة وعرام وكلّ يريد العيش والعيش حتفه ... ويستعذب اللذّات وهى سمام وقوله: [البسيط]

لا تنس لي نفحاتي وانس لي زللي ... ولا يغرّك خلقي واتّبع خلقي «1» فربّما ضّر خلّ نافع أبدا ... كالرّيق يحدث منه عارض الشّرق فإن توافق في معنى بنو زمن ... فإنّ جلّ المعاني غير متّفق قد يبعد الشّيء من شيء يشابهه ... إن السماء نظير الماء في الزّرق وقوله: [الكامل] ومن العجائب أن يسيّر آمل ... مدحا ولم يعلم بها المأمول «2» والعيس أقتل ما يكون لها الظّما ... والماء فوق ظهورها محمول وقوله في الوصف والتّشبيه والاستعارة: [الوافر] أعن وخد القلاص كشفت حالا ... ومن عند الظّلام طلبت مالا «3» ودرّا خلت أنجمه عليه ... فهلّا خلتهنّ به ذبالا وقلت الشّمس بالبيداء تبر ... ومثلك من تخيّل ثمّ خالا ومنها في ذكر الخيل: نشأن مع النّعام بكل دوّ ... فقد ألفت نتائجها الرئّالا ولمّا لم يسابقهنّ شيء ... من الحيوان سابقن الظّلالا 334/وفي ذكر الخيل أيضا: ونمّ بطيفها السّاري جواد ... فجّنبنا الزّيارة والوصالا وأيقظ بالصّهيل الركب حتّى ... ظننت صهيله قيلا وقالا ولولا غيرة من أعوجيّ ... لبات يرى الغزالة والغزالا

يحسّ إذا الخيال سرى إلينا ... فيمنع من تعهّدنا الخيالا وقد يلفى زبرجده عقيقا ... إذا شهد الأمير به القتالا وكلّ ذؤابة في رأس خود ... تمنّى أن تكون له شكالا ومنها في ذكر السيف: يذيب الرّعب منه كلّ عضب ... فولا الغمد يمسكه لسالا ودّبت فوقه حمر المنايا ... ولكن بعد ما مسخت نمالا وقوله: [الكامل] صاغ النّهار حجوله فكأنّما ... قطعت له الظّلماء ثوب الأدهم «1» قلق السّماك لركضه ولربّما ... نفض الغبار على جبين المرزم وبنت حوافرها قتاما ساطعا ... لولا انقياد عداك لم يتهدّم باض النّسور به وخيّم مصعدا ... حتّى ترعرع فيه فرخ القشعم وقوله: [الوافر] فكاد الفجر تشربه المطايا ... وتملأ منه أسقية شنان «2» وقد دقّت هواديهنّ حتّى ... كأنّ رقابهنّ الخيزران إذا شربت رأيت الماء فيها ... أزيرق ليس يستره الجران 335/وقوله في الخيل أيضا: [البسيط] كأنّ أذنيه أعطت قلبه خبرا ... من السّماء بما يلقى من الغير «3» يحسّ وطء الرّزايا وهى نازلة ... فينهب الجري نفس الحادث المكر

يغنى عن الورد إن سلّوا صوارمهم ... أمامه لاشتباه البيض بالغدر وقوله من أخرى في السيف: [البسيط] وكلّ أبيض هنديّ به شطب ... مثل التكسّر في جار بمنحدر «1» تغايرت فيه أرواح تموت به ... من الضّراغم والفرسان والجزر روض المنايا على أنّ الدّماء به ... وإن تخالفن أبدال من الزّهر ما كنت أحسب جفنا قبل مسكنه ... في الجفن يطوى على نار ولا نهر ولا ظننت صغار النّمل يمكنها ... مشي على اللّجّ أو سعي على السّعر وقوله: [الكامل] وهجيرة كالهجر موج سرابها ... كالبحر ليس لمائه من طحلب «2» أوفى بها الحرباء عودي منبر ... للظّهر إلا أنّه لم يخطب وكأنّه رام الكلام ومسّه ... عيّ فأسعده لسان الجندب وقوله: [الوافر] ألاح وقد رأى برقا مليحا ... سرى فأتى الحمى نضوا طليحا «3» وقوله: [الوافر] إذا الحرباء أظهر دين كسرى ... فصلّي والنّهار أخو صيام «4» وأذّنت الجنادب في ضحاها ... أذانا غير منتظر الإمام

وقوله: [الوافر] وليل خاف قول النّاس لمّا ... تولّى سار منهزما فعادا «1» 336/دجا فتلهّب المرّيخ فيه ... وألبس جمرة الشّمس الرّمادا وقوله: [الطويل] حروف سرى جاءت لمعنى أردته ... برتني أسماء لهنّ وأفعال «2» يحاذرن من لدغ الأزمّة لا اهتدى ... مخبّرها أنّ الأزمة أصلال وقوله: [الوافر] إذا ما اهتاج أحمر مستطيرا ... حسبت اللّيل زنجيا جريحا «3» وقوله: [الوافر] وإصباح فلينا اللّيل عنه ... كما يفلى عن النّار الرّماد «4» أبلّ به الدّجى من كلّ سقم ... وكوكبه مريض لا يعاد ومن غلل تحيد الرّيح عنه ... مخافة أن يمزّقها القتاد لو انّ بياض عين المرء صبح ... هنالك ما أضاء به السواد وقوله: [الطويل] تبيت النّجوم الزّهر في حجراته ... شوارع مثل اللؤلؤ المتبدّد «5» فأطمعن في أشباحهن سواقطا ... على الماء حتّى كدن يلقطن باليد بخرق يطيل الجنح فيه سجوده ... وللأرض زيّ الرّاهب المتعبّد

ولو نشدت نعشا هناك بناته ... لماتت ولم تسمع له صوت منشد وتكتم فيه العاصفات نفوسها ... فلو عصفت بالنبت لم يتأوّد وقوله: [البسيط] تناعس البرق أي لا أستطيع سرّى ... فنام صحبي وأمسى يقطع البيدا «1» كأنّه غار منا أن نصاحبه ... وخاف أن نتقاضاك المواعيدا 337/وقوله: [البسيط] هذا قريض عن الأملاك محتجب ... فلا تذله بإكثار على السّوق «2» كأنّه الرّوض يبدي منظرا عجبا ... وإن غدا وهو مبذول على الطّرق لفظ كأنّ معاني السّكر تسكنه ... فمن تحفّظ بيتا منه لم يفق وقوله: [الطويل] كانّ الدّجى نوق عرقن من الونى ... وأنجمها فيها قلائد من ودع «3» وقوله: [الكامل] لا تستبين به النّجوم تنائيا ... ويلوح فيه البدر مثل الدّرهم «4» وقوله: [الطويل] كأنّ الثّريّا والصباح يروعها ... أخو سقطة أو ظالع متحامل «5»

وقوله: [الطويل] بريح أعيرت حافرا من زبرجد ... لها التّبر جسم واللّجين خلاخل إذا اشتاقت الخيل المناهل أعرضت ... عن الماء فاشتاقت إليها المناهل ومنها فى الليل: كأنّ دجاه الهجر والصبح موعد ... بوصل وضوء الصّبح حبّ مماطل وقوله: [الطويل] فتى تقصر الأبصار عن قسماته ... ولا ستر إلّا هيبة وجلال «1» فجاش عليها البحر وهو كتائب ... وخرّت إليها الشّهب وهى نصال بأيديهم السّمر العوالي كأنّما ... يشبّ على أطرافهن ذبال وقوله في وصف النهار: [الطويل] نهار كأنّ البدر قاسى هجيره ... فعاد بلون شاحب من سهامه «2» بلاد يضلّ النّجم فيها سبيله ... وتثني دجاها طيفها عن لمامه وقوله من مرثية: [الطويل] وما كلفة البدر المنير قديمة ... ولكنّها في وجهه أثر اللّطم «3» 338/وقوله يصف الخمرة: [الوافر] تطلّع من جدار الكأس كيما ... يحيّي أوجه الشّرب الكرام «4»

وقوله: [الوافر] كأنّ الليل حار بها ففيه ... هلال مثل ما انعطف اللّسان «1» ومن أمّ النّجوم عليه درع ... يحاذر أن يمزّقها الطّعان وقد بسطت إلى الغرب الثّريّا ... يدا غلقت بأنملها الرّهان كأنّ يمينها سرقتك شيئا ... ومقطوع عن السّرق البنان وقوله: [الطويل] بيوم كأنّ الشّمس فيه خريدة ... عليها من النّقع الأحمّ لثام «2» وقوله: [الطويل] ولاح هلال مثل نون أجادها ... بذوب النّضار الكاتب ابن هلال «3» وقوله: [الطويل] خفاف يباهي كلّ هجل هبطنه ... بهنّ على العلّات ربد نعامه «4» إذا أرزمت فيه المهاري ولم يجب ... حوار أجابت عنه أصداء هامه ولو وطئت في سيرها جفن نائم ... بأخفافها لم ينتبه من منامه وقوله: [الخفيف] ربّ ليل كأنّه الصّبح في الحس ... ن وإن كان أسود الطّيلسان «5» قد ركضنا فيه إلى اللهو حتّى ... وقف النّجم وقفة الحيران

وكأنّي ما قلت والبدر طفل ... وشباب الظّلام في العنفوان ليلتي هذه عروس من الزّن ... ج عليها قلائد من جمان هرب النّوم عن جفوني فيها ... هرب الأمن عن فؤاد الجبان وكأنّ الهلال يهوى الثّريا ... فهما للوداع معتنقان وسهيل كوجنة الحبّ في اللو ... ن وقلب المحبّ في الخفقان يسرع اللّمح في احمرار كما تس ... رع في اللّمح مقلة الغضبان 339/ثمّ شاب الدّجى فخاف من الهج ... ر فغطّى المشيب بالزّعفران وقوله يصف الدرع: [الخفيف] نثرة من ضمانها للقنا الخ ... طّيّ عند اللقاء نثر الكعوب «1» مثل وشي الوليد لانت وإن كا ... نت من الصّنع مثل وشي حبيب تلك ماذية وما لذباب السّ ... يف والصّيف عندها من نصيب وقوله: [الوافر] أضاة لا يزال الزّغف منها ... كفيلا بالإضاءة في الدّياجي «2» مموّهة كأنّ بها ارتعاشا ... لفرط السّنّ أو داء اختلاج وهل تعشو النّبال إلى ضياء ... ثنى السّمراء مطفأة السّراج وقوله: [الكامل] سالت على العاري وهالت وانطوت ... لينا فكالتها الفتاة بصاعها «3» آليّة ليست تغرّ سوى القنا ... والمرهفات بمكرها وخداعها

وكأنّما رعب السّيول تسرّعت ... فمضت وقرّ الصّفو من دفّاعها وقوله: [السريع] فمن لبسطام بين قيس بها ... ذخيرة أو عامر بن الطّفيل «1» فارسها يسبح في لجة ... من دجلة الزّرقاء أو من دجيل وقوله: [الوافر] كأثواب الأراقم مزّقتها ... فخاطتها بأعينها الجراد «2» وقوله: [الرجز] جرّدت الحيّات فيها لبسها ... وطرّحت للرّيح كلّ معوز «3» إن نفخت فيه الصّبا رأيته ... مثل عمود الفضّة المخرّز وقوله في الشّمعة: [الطويل] 340/وصفراء لون التّبر مثلي جليدة ... على نوب الأيّام والعيشة الضّنك «4» تريك ابتساما دائما وتجلّدا ... وصبرا على ما نالها وهى في الهلك ولو نطقت يوما لقالت أظنكّم ... تخالون أنّي من حذار الردّى أبكي فلا تحسبوا دمعي لوجد وجدته ... فقد تدمع العينان من كثرة الضّحك «5»

وحكي من ذكاء أبي العلاء أنّه لمّا سافر إلى بغداد دفع بعض أهله إلى خادمه الذي كان سافر معه لخدمته ماء من بئر بالمعرّة، يقال لها بئر القراميد، وقال له: إذا أراد العود من بغداد فاسقه من هذا الماء. فلمّا خرج من بغداد متوجّها إلى معرّة النعمان سقاه ذلك الماء، فقال أبو العلاء: ما أشبه هذا الماء بماء بئر القراميد! وحكى القاضي الرشيد بن الزبير المصريّ «1» ، في كتاب" جنان الجنان" «2» ، قال: حدّثني القاضي أبو عبد الله محمد بن سنديّ القنّسريّ، قال: حدثني أبي، قال: بينما أنا عند أبي العلاء المعرّي، في الوقت الذي يملي فيه شعره المعروف بلزوم ما لا يلزم، فأملى في ليلة واحدة ألفي بيت، كان يسكت زمانا ثمّ يملي قريبا من خمسائة بيت، ثمّ يعود إلى الفكرة والعمل، إلى ان كمّل العدّة المذكورة. ونقل أن رجلا من طلبة العلم باليمن وقع إليه كتاب في اللغة سقط أوّله، وأعجبه جمعه وترتيبه، فاتّفق أنّه حجّ فحمله معه، وكان إذا اجتمع بأديب أراه ذلك الكتاب وسأله عنه: هل يعرفه أو يعرف مصنّفه؟ فلم يجد أحدا يخبره بذلك. فأراه في بعض الأحيان لبعض الأدباء، وكان ممّن يعلم حال أبي العلاء وتبحره في العلم، فدلّه عليه. فخرج ذلك الرجل إلى الشام، ووصل إلى معرّة النعمان، فاجتمع بأبي العلاء، وعرّفه ما حمله على الرحلة إليه، وأحضر ذلك الكتاب/ 341/وهو مقطوع الأوّل. فقال له أبو العلاء: اقرأ منه شيئا. فقرأ عليه. فقال له أبو العلاء: هذا الكتاب اسمه كذا وكذا، ومصنّفه فلان بن فلان. ثم ابتدأ أبو العلاء فقرأ له أوّل الكتاب، إلى أن انتهى إلى ما هو عند ذلك الرجل.

فنقل ما نقص منه عن أبي العلاء، وأكمل النسخة. وقيل: إن الكتاب المذكور هو" ديوان الأدب" للفارابي. والله أعلم. وقال محمد بن أبي بكر الخاتمي: ارتحلت أريد المعرّة لألقى أبا العلاء، فلقيت في طريقي شابا حسنا وسيما وهو أعور، ومعه شخص وضيء الوجه، حسن الصورة، يعتبه عتابا لطيفا، فلمّا انتهى إلى آخر عتابه قال له الشابّ الأعور منشدا: [الكامل المرفّل] إن كنت خنتك في الهوى ... فحشرت أقبح من فضيحه قال الحاتمىّ: فرمت أن أزيد على هذا البيت فلم أستطع، لكثرة طربي به، إلى أن انتهيت إلى المعرّة، ودخلت على أبي العلاء، فكان أوّل حديثي معه أن تذاكرنا في أبيات من الشعر، ذكر منها بيت جهل قائله، وهو: [الرمل] إنّما تسرح آساد الشّرى ... حيث لا تنصب أشراك الحدق فقال: لقد أضاء بصيرة وإن عمي بصرا. فقلنا له: أتعرف لمن الشعر؟ فقال لا. فبحثنا عنه، فوجدناه لبشار بن برد. ثمّ خلوت معه، فسألنى: من أنت؟ فانتسبت إليه، فقال: أنشدني شيئا من شعرك، فأنشدته، ثمّ حكيت له حكاية الشّاب، وأنسيت أن أقول له أنّه أعور، وأنشدته قوله: إن كنت خنتك في الهوى ... فحشرت أقبح من فضيحة فأسرع أن قال لي: أفلا زدت عليه: وجحدت نعمة خالقي ... وفقدت مقلتي الصحيحه 342/فقلت: والله ما كان إلّا أعور، فمن أين لك هذا؟ قال: شمت «1» إحدى عينيه من بيته.

وعرض على أبي العلاء كفّ من اللّوبياء، فأخذ منها واحدة ولمسها بيده، ثم قال: ما أدري ما هي إلّا إنّي أشبّهه بالكلية. فتعجّبوا من فطنته وإصابة حدسه. وقال أبو العلاء في وقت لجماعة حضروا عنده: عدوا علّي الألوان، فقالوا: أبيض، وأخضر، وأصفر، وأسود، وأحمر. فقال: هذا هو ملكها. يعني الأحمر. وكان أبو العلاء يقول: أذكر من الألوان الحمرة، وذلك أنّني لمّا جدرت ألبست ثوبا أحمر. وهذا من فرط ذكائه، لأنّه كان عمره أربع سنين. ودخل عليه أبو محمد الخفاجيّ الحلبي، وسلّم عليه ولم يكن يعرفه، فردّ عليه السلام. وقال: هذا رجل طوال. ثم سأله عن صناعته فقال: أقرأ القرآن. فقال: اقرأ علىّ شيئا منه. فقرأ عليه عشرا. فقال له: أنت أبو محمد الخفاجي الحلبيّ؟ فقال: نعم. فسئل عن ذلك فقال: أمّا طوله فعرفته بالسّلام، وأمّا كونه أبا محمد فعرفته بصحة قراءته وأدائه بنغمة أهل حلب، فإنّني سمعت بحديثه. وممّا حكي عن أبي العلاء، أنّه كان يعجبه قصيدة التّهامي التى يرثى بها ولده، وأوّلها: [الكامل] حكم المنيّة في البريّة جاري ... ما هذه الدّنيا بدار قرار وكان لا يرد عليه أحد إلّا ويستنشده إيّاها، لإعجابه بها. فقدم التهاميّ معرّة النعمان ودخل على أبي العلاء، فآستنشده إيّاها، فأنشدها، فقال له: أنت التهامي؟ فقال: نعم. فقال: كيف عرفتني؟ فقال: لأني سمعتها منك ومن غيرك؟ فأدركت من حالك أنّك تنشدها من قلب قريح، فعلمت أنّك قائلها. ومن رسائل أبي العلاء رسالة كتب بها إلى أبي نصر صدقة بن يوسف، لمّا استدناه إلى حضرة عزيز الدولة فاتك/ 343/صاحب حلب، وهي «1» :

لو أهديت إلى حضرة سيّدي الرّبيع يزهي بأحسن زهره، والبحر يتباهى بالنّفيس من جوهره، لكان عندي أنّي قصّرت واختصرت، فكيف بي ولا أقدر على أن أهدي زهره، ولا أنتزع صدفه، فدع الجوهرة. والرّائد لا يكذب أهله. فأمّا العبد إذا كذب سيّده فبعد ولا سعد. والذّاهل من لم يذكر أمسه، والجاهل من لم يعرف نفسه. ولنفسي أقول: أعيت رياضة الهرم، واعتصار الماء من الجمر المضطرم. [إن كذبت، فعن الخير أعذبت] . ما اعتزلت، حتّى جددت وهزلت، فوجدتني لا أصلح لجدّ ولا هزل، فعندها رضيت بالأزل. ما حمامة ذات طوق، يضرب بها المثل في الشّوق، كانت في وكر مصون، بين الشّجر والغصون، تألف من أبناء جنسها ريدا، فيتراسلان تغريدا، مسكنها نعمان الأراك، تأمن به غوائل الأشراك، وتمرّ في بكرتها بالبيت الحرام، لا تفرق لمكان صائد ولا رام، فغرّها القدر، فخرجت من الأرض المحرّمة، فأصبحت وهى جدّ مغرمة، صادها وليد في الحلّ، ما حفظ لها من إلّ، فأودعها سجنا للطير، ومنعها من كلّ مير، فإذا رأت من خصاص القفص بواكر الحمام، ظلّت تمارس جرع الحمام، تسأل بطرفها أخاها، ما فعل بعدها فرخاها؟ فيقول: أصبحا ضائعين، قد سترهما الورق عن كلّ عين. فريخان ينضاعان في الفجر كلّما ... أحسّا دويّ الرّيح أو صوت ناعب «1» بأشواق إلى المعيشة النّضرة، منّي إلى تلك الحضرة. ولكن صنع الزّمان ما هو صانع، واعترض دون الخير موانع. حال الغص دون القصص، والجريض دون القريض. المورد نمير أزرق، ولكن المدنف بالشراب يشرق. لمّا رأى لبد النّسور تطايرت ... رفع القوادم كالفقير الأعزل «2» 344/انهض لبد، هيهات! صدّك الأبد.

ولمّا كان اليوم الذي ورد كتابه، المشتمل من حسن الظنّ بوليّه على ما لا يستوجبه، عكفت عليه الغربان مبشّرات، مثلّثات بالنعيب ومعشّرات. لو أنس إليّ ابن دأية لم أخله إن رغب في الحلي من حجل، في الرّجل، أو تقليد، يقع في الجيد، ولضمّخت جناحه مسكا وعنبرا، ولكسوته وشيا وحبرا، على أنه يختال من لون الشّبيبة، فى أجمل سبيبة. يا غراب، لغيرك بعدها التراب! إن قضى الله نبذت لك من الطعام، إتاوة في كلّ يوم لا في كلّ عام. كأن كتابه الشّريف قسيمة من الطيب، تضوع بالأناب القطيب، وكأنّما طرقتني منه روضة نجديّة، سقتها الأنوار الأسدية، فعمد ثراها، وأرجت رباها، وأبدى بهارها للأبصار، كدنانير ضربت قصار، وازدانت من الشّقيق، بمشبه العقيق، ولعب فيها الماء، فهي أرض وكأنّها سماء، لها من النّجم نجوم، ومن طلّ السّحر دمع مسجوم. وقد سألت من ورد إليه أن يؤنسني بتركه لديّ، كي أستمتع في ناجر، بمشاكل خبيّة الحاجر، ولأكون جليس الروضة إن لم يرها منظرا مبهجا، ساف منها عرفا متأرجا. وإنّ العامة عهدتني في صدر العمر أستصحب شيئا من أساطير الأولين فقالت عالم، والناطق بذلك هو الظالم. ورأتني مضطرا إلى القناعة فقالت زاهد، وأنا في طلب الدنيا جاهد. وزاد تقوّل القوم عليّ حتى خشيت أن أكون أحد الجهّال، الذين ورد فيهم الحديث المأثور:" إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من صدور الناس، ولكن يقبض العلم بموت العلماء، حتى إذا لم يبق عالم اتّخذ النّاس رؤوسا جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلّوا وأضلّوا". فغدوت حلس ربع، كالميّت بعد ثلاث أو سبع. وحدثت علّة كني عنها/ 345/في المستمع، وعاقت عن الحضور في الجمع. وفي الكتاب الكريم يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ . وإنّما ذكرت ذلك لينتهي إلى حضرة [السيّد] عزيز الدولة، [أعز الله نصره] ، أنّي تخلّفت عن خدمته لمرض، منع من أداء المفترض، وإنّ الذكر ليطير للرجل وغيره الخطير. كم من شجرة شاكة ظّلها ليس برحب، وثمرها غير عذب، سمها السّمرة، وكنيتها أمّ غيلان، تذكر في آفاق البلاد، وغيرها من

أشجار الثمار إن ذكر، نكر. والإرماء، لا توجبه للشيء الأسماء. ربّ أسود كريه الرائحة يسمى كافورا وعنبرا، وقبيح الصّورة [من البشر] يدعى هلالا وقمرا. وكيف يتأدّى العلم إليّ وأنا رجل ضرير! وكفى من شرّ سماعه، ونشأت في بلد لا عالم فيه، وإنّما تشبّث النامية، بالجوازع السامية. ولم أكن صاحب ثروة فكيف الحداء بغير بعير، والإنباض مع فقد التّوتير. فإن بلغ سيّدي الشّيخ أنّ ساري اللّيل، قبض على سهيل، وأن الأرض أنبتت وشيا وحريرا، والسحاب أمطر مداما وعبيرا، فهو أعلم بردّه على المبطلين. حسب الأرض، أن تعنو بخلّة وحمض. وعادة السّحاب المرتفع في السّماء، أن يأتي بريّ الظّلماء. والدّلجة، بلّغت إلى البلجة. لهفي على فوات هذه المنزلة! ومن للورقاء، بكوكب الخرقاء، والراقد عند الغرقد، أن يضحي مجاور الفرقد! من لا يصلح لمجالسة النّظراء، فكيف ينتدب للقاء السادات الكبراء! لقد أسمعت لو ناديت حيّا ... ولكن لا حياة لمن تنادي هل آمل من الله ثوابا، وإنما [أنا] «1» كقتلى بدر أسمع ولا أملك جوابا. ولمثل هذه الرتبة سهر من أهل العلم الساهرون. أعرض النّوافل وغاب العائم، وأومض البارق فأين الشائم. إنّ الحيّ خلوف، يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً / 346/وعزيز الدولة/ ليس كغيره من الملوك والسادات، لأنّه يوصف بفارس من جهات: فهو فارس الأقران، من فرس الأسد، فارس على الجواد العتد، فارس من فراسة الألمعيّ، سالم من الخطل والعيّ. والإنسان يستحي من نظيره، فكيف من سيّد العصر وأميره! يا فضحة فتاة قيل إنها بيضاء، كأنّها من النّعمة ما تضمّنته الإضاء، حليمة رزان، تزين المجلس ولا تزان، حوراء غيداء، فلما كان الهداء، وجدت على خلاف ذلك، فإذا بياضها سواد رائع، والنّعمة جفاء فى الجسد ذائع، والحور زرق مباين، والغيد وقص شائن، وإذا هى سفيهة رواد، لا يشغف بودّها الفؤاد. والمثل السائر:" أن تسمع بالمعيديّ خير من أن تراه".

ولست أرضى لحضرة [مولاي] الشيخ بتحيّة نصيب، لأنّه رضى بعشر تحيّات في الصبّاح، وعشر عند الرواح ووليّه يحمل إلى حضرته الجليلة تحيّة شاكر طروب، تصل شروق الشّمس بالغروب، وتكر من طلوع الشفق، إلى حين تمزّق ثياب الغسق، كلمّا اجتازت بالصّعيد الأعفر، جعلته كالهنديّ الأذفر. إن شاء الله تعالى. وأثبتنا هذه الرسالة بجملتها لاتّساقها، واتّفاقها. وهي كبنيان لو أخذت منه لبنة لا نقضّ، وسلك لو انحلّ منه طاق لتداعى فيه النّقض، وكعقد لو انفرطت درّة منه لا رفضّ، وكصفّ لو نقل منه واحد لتخلّى عن البعض. ومن رسالة له سماها رسالة المنيح «1» : إن كان للأدب نسيم يتضوّع، وللذّكاء نار تشرق وتلمع، فقد فعمنا على بعد الداّر أرج أدبه، ومحا اللّيل عنّا ذكاؤه بتلهّبه، وخوّل الأسماع شنوفا غير ذاهبة، وأطلع في سويداوات القلوب كواكب ليست بغاربة. وذلك أنّا، معشر أهل هذه البلدة، وصف لنا شرف عظيم، وألقي إلينا كتاب كريم،/ 347/قراءته نسك، وختامه بل سائره مسك، وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ . أجلّ عن التقبيل فظلاله المقبّلة، ونزّه أن يبذل فنسخه المبتذلة، وأنّه عندنا لكتاب عزيز. ولولا الإلاحة، على ما ضمن من الملاحة، والخشية على دجى مداده من التوزّع، ونهار معانيه من التشتّت والتقطّع، لعكفت عليه الأفواه باللّثم، والموارن بالانتشاء والشمّ، حتى تصير سطوره لمىّ في الشّفاه، وخيلانا على مواضع السّجود من الجباه. منها: موشّحا بكل شذرة أعذب من سلاف العنقود، وأحسن من الدّينار المنقود، فجاء كلوائح البروق، أو يوح عند الشّروق.

ولو أنّ شوقه إلى حضرته تمثّل فمثل، وتجسّم حتّى يتوسّم، لملأ ذات الطّول والعرض، وشغل ما بين السماء والأرض، ولم يكتف حتّى يكلّف الخطوة، أن تسع صهوة، والراحة، أن تكون مثل الساحة. وبلغ وليّه السّلام الذي لو مرّ بسلمة وارية لأغدقت، أو سلمة عارية لأورقت، فحمل فؤادي من الطّرب على روق اليعفور، بل فوق جناح العصفور، فكأنّما رفعني الفلك، أو جاءني الملك. منها: وكدت لولا اشتمال المخاوف على هذه المحلّة، واشتعال الضمائر فيها بقبس الغلّة، أحسب سلامه السّلام الذي ذكره البارئ جلّ اسمه في قوله: ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ. أفبلدتنا جنان، أم وضح لأهلها الغفران، أم نشروا بعد ما قبروا، أم جزوا الغرفة بما صبروا، فهم يلقّون فيها تحيّة وسلاما. وإن نالوا بمنهّ أوصاف الأتقياء الأبرار، فقد أنزلت بهم خلّة من خلال الأشقياء الكفّار، وذلك أنهم بأسد البلاغة افترسوا، وبأسبابها عقدت ألسنتهم عن الجواب فخرسوا، فكأنّما قيل لهم: هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ. وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ . وإنّما غرقوا في لجّ التّبانة فصمتوا، وسمعوا صواعق الإبانة فخفتوا، فقلم كاتبهم/ 348/عود الناكت، وجواب بليغهم حيرة الساكت. على أنّهم قد راموا تصريف الخطاب فصرفوا، وعرفوا مكان فضله فاعترفوا، وتراءوه من مبارك العروج، فلمحوه في مآرك البروج، واستنهضتهم الهمم إلى مداناته فعجزوا، ووعدوا هواجسهم التّبلد فأنجزوا، ولن توجد آثار النّوق، في أوكار الأنوق، فهم يتأمّلون وميضه الآلق، ويحمدون الإله الخالق، على ما منحه سيّدهم من الاقتدار، بدقيق الأفكار، على إعادة اليمّ كالغدير المسمّى بالغدر، وإلحاق السّها بالقمر ليلة البدر، ولم يزل الماشي العازم، أسرع من راكب الرّازم، فكيف بمن امتطى به عزمه كتد الرّيح، وحكم له سعده بالسّعي النجيح، وخصّه بارئه بطبع راض، صعاب الأغراض، حتّى ذللها، وأبسّ بوحوش اللّغات فأهّلها، فصار حزن كلام العرب إذا نطق به سهلا، وركيكه إن أيّده بصنعته قويا جزلا. فمثله مثل جارسة

الكحلاء، تسمح بالمسائب الملاء، تطعم الغرب، وتجود بالضّرب، وتجني مرّ الأنوار، فيعود شهدا عند الاشتيار، وكالهواء في مذهب لا أعتقده، وقول من سواي يسدّده، يجتذب أجزاء البخار، فيسقى من تحته عذب الأمطار. ومن لنا بأنّ اللفظ المشوف، يمثّل عليه التمثيل من على الحروف، فعساها تبلّ بفقرة زاهرة، أو تظفر باستخراج لؤلؤة فاخرة. على أنّه من العناء سؤال البرم، ورياضة الهرم. وهيهات! بعدت محالّ الغفر الطّالع، عن مزالّ الغفر الظالع، وأعجز البارق، يد السارق، وجلّت الشموس، عن سكنى الرّموس، وهو- رزق لامه، ما رزق كلامه- أولى النّاس، بإضاءة النبراس. وقد كان فيما مضى قوم جعلوا الرسائل، كالوسائل، وتزيّنوا بالسجع، تزيّن المحول 349/بالرّجع، ما رقوا في درجته، ولا وضعوا قدما على محجّته. لكنهم تعاينوا، فما تباينوا، وتناضلوا، فلم يتفاضلوا. ولو طمعوا فى الوصول، إلى مثل هذه الفصول، لاختاروا الرّتب، على الرّتب، ورضوا اعتساف السبيل، وارتعاء الوبيل، ليدركوا بطلبهم ما أدرك عن غير جدّ، واغترفه من بديهه العدّ. وكلّهم لو شاهده لرضي بأن يدعى السّكيت في حلبة سيّدنا فيها سابق الرهان، وتمنّى أن يكون زجا في قناة هو منها موضع السنان، ولمّا وردت مع عبده موسى تلك الغرائب المؤنسة، والقلائد المنفسة، أبطلت كيد السّحار، وعصفت بهشيم الأشعار، فوجد في وطنه أشباح أوزان تتخيّل، وانقاد أذهان تتهيّل، فألقى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون. شاهدناه فيما سمعناه المعنى الحصير، في الوزن القصير، كصورة كسرى فى كأس المشروب، وتمثال قيصر في الإبريز المضروب، لم يزر به ضيق الدّار، وقصر الجدار، إن تغزّل فحنين العود، أو تجزّل فهدير الرعود، وإن كان استصغر من ذلك ما استكثرناه، واستنزر من أدبه الذي استغمرناه. منها: وإن كان في وانية آدابنا بقيّة إرقال، ولآنية أفهامنا خفيّة صقال، فسوف تنتفع، وهو

ذريعة الانتفاع، وتضيء بما أهدى إليها من الشعاع، إضاءة الصّفر، بما قابل من النّيرات الزّهر وقد يرى خيال الجوزاء على رفعتها، في أضاة المعزاء مع ضعتها، ويورق العود، ببركة السعود، وتفيض الرّدهة، عن نوء الجبهة. ولو تفوّه بمقال جامد، وهمّ باختيال هامد، لنشرت المعّرة صحف الافتخار، وسحبت ذيل العظمة والاستكبار. عجبا أنّ فكره يلحظها لحظ الشّاهد الساهد،/ 350/إنّما هو في الرّحيل عنها كجسم ذى روح، نقل من الغرقئ إلى اللّوح، وهى بعده كقسيمة الوسيمة، ذهب عطرها، وبقي نشرها. وإنّما شرفت على سواها، وطالت عن البلاد دون ما والاها، لإقامته في تلك الأيام، وإنامته عن أهلها نواظر أزام، فعرفت عند ذلك به، ونالت خيرها من حسبه. وإنّما فضل الطّور بالكليم، والمقام بإبراهيم. ولقد سمونا بمجاورته، قبل محاورته، سموّ اليثربيّ، بجوار النّبي. ولعل المعرّة علمت أنّه عقد لا يصلح لمقلّدها، وسوار يرتفع لجلالته عن يدها، وتاج لا يطيق حمله مفرقها، وجونة يشرق بذرورها مشرقها. ومغانية الأولى كالشّجرة بعد اجتناء الثمرة، والصدفة بغير جوهرة. ولم يخف علينا أنّ القمر، لم يخلق للسمر. وليس للمستعير أن يحسب العارية هبة، ولا يظن ردّها إلى المعير مثلبة، لكن شرف للصّعلوك، العارية من الملوك. وقد أفادت هذه البقعة الصّيت البعيد، وانقادت لها أزمّة الجد السعيد. فطعن وأرجه مقيم، وارتحل وللثّناء تخييم، ولولا جفاء التّربة والأحجار، عن التخلّق بأخلاق الجار، لأصبحت ساحتها للتأدّب مختارة، والفصاحة من عند أهلها ممتارة. ولكن أبى الجلمود، قبول الطّبع المحمود. وما همّ ابن داية، بصيد الجداية! فكيف يلتقط الفار بالمنقار، ويستر القرواح بالجناح، أم كيف يمدّ الطّراف من النّسع، ويقدّ النّجاد من الشّسع! هذا ما لا يكون، ولا تسبق إليه الظّنون.

والظّلم البيّن، والخطب الذي ليس بهينّ، تكليف القطب النابت، مداناة القطب الثابت، وإلزام نسر الحافر، مرام النّسر الطائر. وإذا قيل فلان أديب، وفلان أريب، فإنّ اتفاق الأسماء، لا يمنع الفراق عند الرّماء. الذّباب، سميّ طرف القرضاب، وليس كلّ مثّوب/ 351/مبشّرا، ولا كل متثائب مؤشرا، أعرض شأو لا يتعلق بنصبه، وعنّ أمد لا يتعب في طلبه. نام والله اللاغب، وأدلج الراغب، والعجمة أسهل من البكمة، والحبسة أقلّ ضررا من الخرسة. ومن يجعل الرّبوة روبة، والسّبت عروبة! وضائع أداء الفروض قبل دخول الأوقات، والإحرام بعد مجاوزة الميقات، وارتياح اللاقطة [بساقطة] النّقد، كارتياح الماشطة بواسطة العقد. منها: فقليل العلم منهم يستطرف، ولا يكاد يعرف، كالشّنوف، على الأنوف. وإنّما يشدو بالترنّم شاديهم، ويغدو في أولى الدّعوى غاديهم، بين أناس يقظة أحدهم أقصر من لحظته، وسنته أطول من سنته، وحلية الدواة، لديه أحلى الأدوات، وحسن اليراعة، أحسن البراعة. وربّما جعل الخمار، على وجه الحمار. ليس الضّريع بالمرعى المريع. إن أغفيت فالوسن يري الحلم الحسن. هل أدبي في أدبه إلّا كالقطرة في المطرة، والنحلة عند النخلة. فليته اطّلع من وليّه على كنين الاعتقاد، وجنين السّواد، فيعلم أنّ الرّوع، وجوانح الضلوع، مفعمة له بالإعظام، مترعة بمحبّته إتراع الجام، لا لأنّه جعل حصاتي كثبير، وخلط

29 - أبو الهيثم عبد الواحد بن عبد الله بن سليمان

عثيري بالعبير. أصف وكلّ وصفي صحيح، وأحلف وحلفي تسبيح. وليس النّصر بقدم العصر. وما جحد أحد ضحاه، ولا وحي مخلوق مثل وحاه، ولكن للمهج بالفارط لهج. وقد أنكر من أعظم العزّى واللات، ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الآيات. وقد تقبل صلاة الأميّ، ويسمع دعاء الأعجميّ. وأنا على إسهابي كخابط الظلماء، وباسط اليد الجذماء. ولو جئت من الزّرق بكّر، ما كافأت على الفريدة من الدّرّ. وليس سرب القطا وإن كثر، بمقاوم للبازي ولو لطف وصغر. 352/وأين الماء، من السماء، وموقع السّيل، من مطلع سهيل! وتالله أساجل بثمدي بحره، ولن يهلك امرؤ عرف قدره. والسلام. ومنهم: 29- أبو الهيثم عبد الواحد بن عبد الله بن سليمان «1» هو لأبي العلاء أخوه، ولو عدّ معه ألف مثله لم يؤاخوه، على أنّه لم يكن عاريا من فضل يسحب مطرفه. ويصحب مشرفه. وهو وإن كان لا يطير مع أخيه إذا علّى ولا يسبق معه إذا جلّى، فإنّه لا يقصّر عن غاية من الفضلاء لا ينحطّ صفيحها ولا يشتطّ إذا أبعد مرماه فصيحها. وليس له هذا ببدع وهو شقيق ذلك الزّند القادح، ورفيق ذلك النّهد

353/ 30 - أبو الحسن، علي بن الدويدة المعري

القارح، ومن أحسن ما وقع عليه نظر اللّامح وهزّ غصنه البارح، قوله: [الكامل] متلهّب الأحشاء تحسب ليله ... أبدا دخانا والنجوم شرار وقوله يخاطب بعض الشعراء: [الكامل] زدني من الشعر الذي استنبطته ... من فكرة المتصرّف المستجنس «1» فدّنية الأشعار تصقل خاطري ... مثل الحسام جلوته بالمدوس وقوله في ربوع ديار، مرّ برجل يولع منها بقلع أحجار: [الطويل] أمتلفها شلّت يمينك خلّها ... لمعتبر أو زائر أو مسائل منازل قوم حدّثتنا حديثهم ... فلم أر أحلى من حديث المنازل ومنهم: 353/30- أبو الحسن، علي بن الدويّدة المعرّي «2» ملء الفم فخامة، ووقر الصّدر ضخامة، لا تنقضّ بيوته، ولا ينقض ثبوته، ولا يرفضّ لنظمه عقد بمعنى يفوته، غير أنّي لم أسمع شعره إلّا طائحا، ولا رأيت بدره إلّا قدر ما بدا هلاله في أوّل الشهر لائحا، ولا جالست نهره إلّا وقد جرى مدّه العجل سائحا، ولا شممت زهره إلّا في غرّة الفجر وقد هبّ فائحا. وهو ممّن ركب ثبج الأدب لا يبالي بغمراته، ولا يغالي من جوهره إلّا فيما يلتهب ياقوت جمراته. وممّا نورده ممّا سقط إلينا من شعره سقوط النّدى، ووقع علينا وقوع الماء الزّلال على شعل الصدّى، قوله: [الكامل]

31 - السابق أبو اليمن ابن أبي مهزول المعري

جنبوا الجياد إلى المطيّ فغادروا ... بالبيد سطرا من حروف المعجم فترى بها عينا بوطأة حافر ... وترى بها هاء بوطأة منسم ومنه قوله يرثي [عمّ أبيه أبي مسلم وادع] «1» من قصيدة: [المتقارب] فتى تجتليه لحاظ الرّجاء ... كما يجتلى القمر الطالع «2» 354/ومنهم: 31- السابق أبو اليمن ابن أبي مهزول المعّري «3» جلّى فسّمي سابقا، وجدّ فكان اسمه لمسّماه مطابقا، وحلّ في لفظه المسك عابقا وحلّى صنعته بما لا تنشره ملاءة الربيع، ولا تشبه منطقة البروج فيما لها من التوشّية والتّوشيع. كأنّ النعمان أفضى إليه بوصف شقيقه، أو عهد إليه من الزّهر الغضّ بما أدرجه في تنميقه، ولولا أنّ يد الزمان غالت نفائسه غيرة عليها من البذلة، وضنّة بها أن تجيء معترضة في كلّ جملة لأودعنا كتابنا هذا منها كنوزا مغنية ورموزا لحاذق النّظر معنيّة، وما عنّ فكرامته في قلّة دورانه على الألسنة وما طاب في الذوق فحسب اللبيب منه كلمة محسنة، والذي وقع إلينا من بقية ما ترك، وهدّية ما علق من تقييد الخطّ في شرك، قوله: [المتقارب] كأنّ الشقائق والأقحوان ... خدود تقبّلهنّ الثغور فهاتيك أخجلهنّ الحيا ... وهاتيك أضحكهنّ السرور ومنه قوله يهجو: [السريع]

32 - الوامق المعري

إليّ أرسلت مقال الخنا ... ستحرق النار فم النافخ «1» أقدمت يا أوقح من أيّل ... على ابتلاع الأرقم السالخ يا حلقة الخاتم يا إبرة ال ... الخياط يا محبرة الناسخ ومنه قوله في مليح ينظر في مرآة: [الوافر] وظبي قابل المرآة زهوا ... فأحرق بالصبابة كلّ نفس «2» وليس من العجائب أن تأتّى ... حريق بين مرآة وشمس ومنه قوله يهجو ابن البوين «3» الشاعر: [السريع] 355/شعر البوينيّ له روعة ... ليس لها في النقد محصول «4» مثل جبال الشمس ممدودة ... ما فاتها عرض ولا طول ومنه قوله في رثاء عمّ أبيه أبي مسلم، وادع من قصيدة: [الطويل] أبا مسلم لا زلت منّا على ذكر ... ولا درست آيات علياك في الدّهر «5» وكنّا نعدّ الصبر للخطب يعترى ... إلى ان أصبنا عند يومك بالصّبر ومنهم: 32- الوامق المعري «6»

33 - الأمير أبو الفتح، [الحسن بن عبد الله بن أحمد] ابن أبي حصينة

شعره صديق الأرواح، رقيق كما راقت الراح. للقلوب به زهو، وللعقول منه سكر ما معه لغو. يطمع سهله كالأدماء الكانسة، ويؤيس ممتنعه كالدّراري ولكنّها غير الخانسة. اخترع وولّد، وتزيّن في الأدب بما تزيّد، لو تمثّل معناه أراك الرّشأ الأغيد، وانبرى لك في هيئة الخدّ المورّد، وظفرت له ببيتين علا مبناهما على من ناواهما، وعمّرا بالشمس والقمر وما والاهما، وهما: [البسيط] انظر إلى منظر يسبيك منظره ... بحسنه في البرايا يضرب المثل نار تلوح من النارنج في شجر ... لا النار تخبو ولا الأغصان تشتعل ومنهم: 33- الأمير أبو الفتح، [الحسن بن عبد الله بن أحمد] «1» ابن أبي حصينة «2»

جمع أبو العلاء المعري ديوانه، ورفع في السماء كيوانه، وتكلّم على غريبه فتقدّم حرّا على عريبه. وقال أبو العلاء «1» : سألني أن أسمع شعره فقرئ عليّ ما أنشأه من أنواع القريض فوجدت لفظه غير مريض، ومعانيه صحاحا مخترعه، وأغراضه بعيدة مبتدعه، وهو وإن كان متأخرا في الزمان وكأنّه من فرط عهد النّعمان. ومن سمع كلامه علم أنّه لم يعر شهادة، ولا حرم في إبداع الكلم سياده. انتهى قوله فيه. 356/ولقد وقفت على هذا الديوان فوجدته قد أكره ثقل التجنيس عفوه، وكدّر رنق التكليف صفوه إلّا ما ندر له من الأبيات الآهلة المغاني بأهلّة المعاني البارعة جمالا يفتن وكمالا يؤذن بأنّ قيمة كلّ امرئ ما يحسن، فإنّها لم تخل من مثل شرود، وأمل لمن يرود أتت عليها نزعة بداوة، وجرعة زلال لم تغيّر بأداوه. ما خضخضت قليب سجله الأرشية ولا مضمضت فم منهله الأسقية، كأنّما قال أعربي في طمريه زرود، وقال عليه أوان ورود فهبّ ينمّ بالنسيم الحاجريّ ريحه، ويتبلبل ببلل الطلّ في طرّة السّحر شيحه. ومن شعره الفتّان مليحه، قوله: [البسيط] يا ساكنين بحيث الخبت من هجر ... أطلتم الهجر مذ صرتم إلى هجر «2» عودوا غضابا ولا تنأى دياركم ... فقلّة الماء ترضي الكدر بالكدر «3» ومنها قوله: [الطويل] وذبّل من رماح الخطّ حاملة ... من الأسنّة نيرانا بلا شرر «4»

إذا هووا في متون الدّارعين بها ... حسبتهم غمسوا الأسطال في الغدر ومنه قوله: [الطويل] بأيّة حال حكّموا فيك فاشتطّوا ... وما ذاك إلّا حين عممّك الوخط «1» من الآنسات اللابسات ملابسا ... من الصّون لم تدنس لها بالخنا مرط شرطت عليهنّ الوفاء فمذ بدا ... بياض عذاري للعذارى قضي الشرط كأنّ الفتى يرقى من العمر سلّما ... إلى أن يجوز الأربعين وينحطّ ومنها: فدع ذا ولكن ربّ ليل عسفته ... بركب كأنّ العيس من تحتهم مقط «2» على كلّ موّار الوضين كأنّه ... مريرة قدّ لا يبين له وسط «3» 357/وقد لاح للرّكب الصباح كأنّه ... بدا من جلابيب الربى لمم شمط «4» ونجم الثريا في السماء كأنّها ... صنوبرة من صائغ الدّر أو قرط وقوله: [مجزوء الرجز] سقى محلا قد دثر ... أوطف وسميّ البكر «5» ما دقّ من روس الإبر ... قدحك بالمرخ العشر غبّ ربيع وصفر ... ينفض أهداب الوبر فهنّ أمثال الزبر ... يرى على وجه العقر من وبله إذا انحدر ... إمّا غديرا أو نهر

أو الثماد في النّقر «1» ... أمثال أحداق البقر كأنّما ذاك المطر ... يد المعزّ المشتهر ومهمه جمّ الخطر ... ظليمه تحت الخمر «2» يخضن درما كالأكر «3» ... حتى إذا جاع ابتكر إلى هبيد في عجر ... مفوّقات كالحبر ومقفر حزت الغرر ... فيه بحدّب كالمرر «4» قد ذبن من طول السّفر ... إلى فتى ساد البشر يعطي [اللهى] بلا ضجر «5» ... كأنّما عادى البدر مناقبا ملء السّير ... فلو سكتنا لم نصر والصّبح يغنيه النظر ... عن شاهد إذا انفجر ومنه قوله: [الوافر] ومائرة الأزقّة مبريات ... كأنّ على غواربها صلالا «6» شربن الخمس بعد الخمس حتى ... ظمئن فكدن يشربن الطلالا «7» ومنه قوله: [الكامل] ماضي الجنان إذا تقلّد مخذما ... ألقى النّجاد على نظير المخدم «8»

جلد على نوب الزمان كأنّما ... ريح تهبّ على هضاب يلملم ومنها: جنبوا الجياد إلى المطيّ فسطّروا ... في البيد سطرا من حروف المعجم «1» فترى بها عينا بوطأة حافر ... وترى بها هاء بوطأة منسم ومنه قوله: [الطويل] 358/وإن كنت لم أدرك جزاك فإنّني ... أبيت بما أوليتني ولي الجهد «2» ولم أر مثل الحمد ثوبا للابس ... وأدون ثوب أنت لابسه الحمد «3» وقوله: [الكامل] وأضعت مدحي قبله في غيره ... إنّ المدائح في سواه تضيّع «4» يثني عليه بدون ما في طبعه ... كالمسك أيسره الذي يتضوع «5» ومنه قوله: [الكامل] ولقد سرى برق العراق فهاج لي ... بالشام وجدا من سنا لمعانه «6» يبدو لعينك في الظلام كأنّه ... صلّ الكثيب منضنضا بلسانه «7» فكأنّه والليل معتكر الدّجى ... نار المعزّ على متون رعانه

ومنه قوله: [الكامل] للورد حمرة خدّه والغصن هز ... زة قده والظبي مدّة جيده «1» أهوى الدجى من أجل أنّ هلاله ... كسواره ونجومه كعقوده وقوله: [البسيط] لا تحسبي شيب رأسي أنّه هرم ... فإنّما ابيضّ لمّا ابيضّت الهمم «2» وللشّبيبة بنيان تكمّله ... لك الثلاثون عاما ثمّ ينهدم ومنه قوله: [الكامل] ما ضرّ من حدت النّوى أحمالها ... لو أنّها أهدت إليك خيالها «3» يا صاحبيّ قفا عليّ بقدر ما ... أسقي بواكف عبرتي أطلالها ولقد سرت بك والركاب لواغب ... مرقالة شكت الفلا إرقالها «4» لعبت بنمرقها الشمال ومزّقت ... في البيد أنياب العضاة جلالها ومنه قوله: [الطويل] 359/وقد أغتدي والليل قد محّ برده ... ونجم الثريا في المغارب وسنان «5» بجائلة الأنساع مالت من السّرى ... كما مال من رشف الزجاجة نشوان تدوس الحصا أخفافها وهو لؤلؤ ... وترفعها من فوقه وهو مرجان تناهبني مرتا كأنّ نعامه ... تسوس أكبّت في مسوح ورهبان «6»

ومنه قوله: [البسيط] منّت عليه بك البيداء واتخّذت ... فعلا جميلا إليه العرمس الأجد «1» أسرت فغمّض طول الليل أعينها ... كأنّما كفّ من أبصارها الرّمد مجهولة البيد لم يمدد بها طنب ... من الغريب ولم يضرب لها وتد كأنّما الآل فيها حين تنظره ... يمّ ونوارها من فوقه زبد «2» ومنه قوله: [البسيط] لو شئت أقصرت من لومي ومن عذلي ... فالدّهر قسّم يوميه عليّ ولي «3» لا تحسبيني أغضّ الطرف من جزع ... فالحزن للخود ليس الحزن للرجل إنّا لقوم إذا اشتدّ الزمان بنا ... كنّا أشدّ أنابيبا من الأسل يبكى علينا ولا نبكي على أحد ... ونحن أغلظ أكبادا من الإبل ومنه قوله: [البسيط] بصحّة العزم يعلو كلّ معتزم ... وما حلا غمرات الهمّ كالهمم «4» والعزّ يوجد في شيئين موطنه ... أمّا شباة حسام أو شبا قلم «5» ومنه قوله: [الوافر] إذا شهد الطّعان به ثناه ... وقد أدمى ضليفيه العنان «6»

360/بحيث ترى الرماح محطّمات ... كأنّ حطامهنّ الأرجوان «1» إذا طعن المدجّج في قراه ... قرا ما في ضمائره السّنان كأنّ الرّمح حين يسلّ منه ... وجار سلّ منه الأفعوان ومنه قوله: [الطويل] لقد أيّدت كفّ لها منك ساعد ... وطال بناء شاده منك شائد «2» أرى الناس في الدنيا كثيرا عديدهم ... وأكثر منهم نصب عيني واحد ومنه قوله: [الكامل] لمّا طلعت على سمند سابح ... في لون حلي لجامه والمركب «3» سود قوائمه ولكن جسمه ... لولا السبائب كالقضيب المذهب «4» نهدت مراكله وأشرق متنه ... وعلت مناكبه علوّ المرقب وكأنّما خاض الدّجى فتسربلت ... منه شوامته بمثل الغيهب سلس القياد كأنّ فضل عنانه ... ممّا يلين مركّب في كوكب «5» ومنه قوله في قصيدة: [الطويل] لقد خامرتني من هواك صبابة ... تعود بها مثل الجراح الجوارح «6» ومنه قوله من قصيدة أوّلها: [البسيط]

خير الأحاديث ما يبقى على الحقب ... وخير مالك ما دارا عن الحسب «1» منها: عرض الفتى حين يغدو أبيضا يققا ... خير من الفضّة البيضاء والذّهب «2» منها في المديح: روحي فدى لأبي العلوان من ملك ... سمح اليدين بتاج الملك معتصب «3» 361/قد بيّضت ناره الظلماء أو تركت ... لون الدّجى لون رأس الأشمط الجرب وفي القباب اللواتي أبرزت ملك ... يمينه رحمة صبّت على حلب «4» تلقى الملوك كثيرا إن عددتهم ... وفي الذوابل فخر ليس في القصب ما سار نحو العدى في جحفل لجب ... إلّا وقام مقام الجحفل اللّجب في ظهر عارية الظهرين قد دربت ... بالطعن من تحت طبّ بالوغى درب تعود مبيضّة المتنين من زبد ... محمرّة الفم والرّسغين واللّبب كقهوة صفقت في الكأس فاكتسبت ... بالمزج لونين لون الراح والحبب ومنه قوله من قصيدة: [البسيط] كنتم ثلاثة آلاف وردّكم ... ثلاثة وأبى أن ينفع العدد «5» وما القليل قليلا حين تخبره ... ولا الكثير كثيرا حين ينتقد ومنه قوله: [الوافر]

سحائب كلّما رفعت شراعا ... يفرّغ درّه أرخت شراعا «1» تمدّ لريّها الجوزاء كفّا ... وتبسط نحوها الأسد الذراعا ويلمع برقها والليل داج ... كما عانيت في اليمّ الشعاعا ومنها: رماهم بالسلّاهب مقربات ... يزلزلن الأباطح والتلاعا «2» وحجّبن السّنا بالنقع حتى ... كأنّ الشمس لابسة قناعا ومنها: إذا فعل الكريم بلا قياس ... فعالا كان ما فعل ابتداعا «3» مكارم ما اقتدى فيها بخلق ... ولكن ركّبت فيه طباعا 362/علوت إلى السماء بكلّ فضل ... فكاد الجوّ يخفيك ارتفاعا وآخيت النّدى والجود حتى ... حسبنا أنّ بينكما رضاعا ومنه قوله: [البسيط] أمّا فؤادي فقد أضحى أسيركم ... يا ويحه من فؤاد ماله فادي «4» كيف الخلاص وقد أضرمت في كبدي ... زندين ضدّين من خاف ومن بادي ومنه قوله: [الكامل] لو كان ينفع في الزمان عتاب ... لعتبته في الرّبع وهو يباب «5»

عجنا عليه العيس نسأل رسمه ... لو انّ من سأل الطلول يجاب دمن لأحباب نحبّ ديارهم ... من أجلهم فكأنّها أحباب ومنه قوله: [البسيط] يا ليل ما طلت عمّا كنت أعرفه ... وإنّما طال بي فيك الذي أجد «1» ومنه قوله: [الوافر] بكلّ غريرة تهتزّ لينا ... كما يهتزّ مشمول اليراع «2» ألاحظها بطرف غير سام ... وأتبعها فؤادا غير واع ومنه قوله مديحا: [الطويل] ملكت على الأعداء شرقا ومغربا ... فليس لهم شرق يجنّ ولا غرب «3» سلوا عن ورود الماء في كلّ مصبح ... فقد يئسوا منه كما يئس الضبّ ومنه قوله من قصيدة يصف البرق: [الكامل] يحمرّ أعلاه وينصع متنه ... فسناه يلمع مذهبا ومفضّضا «4» 363/روحي الفداء لحائل عن عهده ... عرّضت بالشكوى إليه فأعرضا ولساخط يرضيه قتلي في الهوى ... فأموت بين السخط منه والرّضا ومنه قوله من قصيدة يمدح: [الوافر] إذا خفقت له أعلام جيش ... فقد خفقت قلوب الخافقين «5»

ومنه قوله: [الطويل] ولمّا وقفنا للوداع ودمعها ... ودمعي يبثّان الصبابة والوجدا «1» بكت لؤلؤا رطبا ففاضت مدامعي ... عقيقا فصار الكلّ في نحرها عقدا وقوله: [الكامل] بيض يكنّ إذا انتقبن أهلّة ... وإذا سفرن النّقب كنّ شموسا «2» أنهبننا لما برزن محاسنا ... وصددن عنّا فانتهين نفوسا وقوله: [المتقارب] إذا جذبنا برى اليعملات ... بين المخارم ظلّت تبارى «3» وأمّمن بحرا إذا ما شرعن ... إلى مائه العذب عفن البحارا أقول لصحبي نحو الغمير ... وقد ضلّ حادي المطايا وحارا تيامنتم عن بلاد المعزّ ... فعوجوا يسارا تلاقوا يسارا «4» ومنه قوله: [الكامل] قد أدمنوا لبس الدّروع كأنّما ... صارت لهم عوض الجلود جلودا «5» يتهجّمون على الحمام كأنّما ... يجدون في عدم الحياة وجودا «6»

أيمانهم مثل البحور وإنّما ... جعلوا له مدّ الأكفّ مدودا وقوله: [الكامل] ولربّ مرت قد رميت فجاجها ... تحت الدجى بحنيّة مرنان «1» تنزو براكبها إذا متع الضحى ... مرحا كما ينزو فؤاد جبان 364/وتسيل ذفراها وقلت حجاجها ... عرقا كلون عصارة الرّمان وكأنّ موضع ما يخطّ زمامها ... فوق التراب مراغة الثعبان ومنها قوله: من معشر بيض الوجوه كأنّهم ... وسط النديّ مصابح الرّهبان «2» ما دوا العلى بسنان كلّ مثقّف ... قاني الشبا وغرار كلّ يماني «3» وثنوا أنابيب الرماح كأنّما ... يقطرن من علق سلاف دنان وكأنّ معوجّ الأسنّة بعد ما ... طعنوا بهنّ مخالب الغربان وكأنّما قطع الرماح تدوسها ... أيدي الجياد سبائك العقيان قوم إذا لبسوا التّريك لحادث ... غطّوا بهنّ مواقع التيجان «4» ومنه قوله: [الكامل] ما كلّ من طلب النجاح منجّحا ... في قوله وفعاله ومرامه «5» إنّ الذي يرمي السّهام نوافذا ... يرمي وليس يصيب كلّ سهامه

[وقوله] «1» : [السريع] لا يختشي فوت العلى ضارب ... بنفسه في الهول ضرب القداح «2» إن أدرك الأمر الذي رامه ... فاز وإن ذاق الحمام استراح ومنه قوله: يكاد أن يختم من وطئه ... أهلّة فوق ظهور البطاح «3» كالغادة الحسناء أرسانه ... يلعب في هاديه لعب الوشاح له سبيب مسبل خلفه ... كأنّه قرع القناة الرّداح إذا مشى سدّ به فرجه ... مثل عثاكيل نخيل القراح 365/ويسمع الصوت بمنصوبة ... كأنّها قادمة في جناح ومنه قوله: ونصب عينيّ فتى ماجد ... سلاحه النّصر ونعم السلاح «4» ما للغوادي نفع إحسانه ... وإنّما وصف الغوادي اصطلاح تكاد أن تشرب أخلاقه ... من طيبها شرب الزلال القراح وليلة كلّفت صحبي بها ... خبط الدّجى باليعملات الطلاح ومنه قوله: [الكامل] قل للغمام إذا استهلّ مطيره ... وانهلّ أوّله وسحّ أخيره «5»

أحسبت أنّك حين صبت عديله ... وظننت أنّك يا غمام نظيره أبدا لناريفان أمّا خيره ... لا زال منتجعا وأمّا خيره ومنه قوله: [الوافر] وليل بتّ أخبط جانبيه ... بدامية الحزامة والبطان «1» تحيّف شخصها التأويب حتى ... لكادت أن تدقّ عن العيان وسال جحاجها عرقا بهيما ... كلون الوكف من خلل الدخان أقول لفتية لغبوا وليلي ... وليلهم مكبّ للجران وقد مالت رقابهم ولا نوا ... على الأكوار لين الخيزران أبو العلوان مقصدكم فهزّوا ... إليه عرائك الإبل الهجان «2» ومنه قوله يصف مقتل ذئب: [الطويل] وأطلس مدلاج إلى الرزق ساغب ... يراح إلى ضنك المعيشة أو يغدى «3» 366/غدا معرضا للجيش يقصد جبنه ... وما كان أمّا للرجال ولا قصدا فلمّا رأى خيل المنايا معدّة ... إليه تمطّى كالشراكين وامتدّا سما نحوه طرف امرئ لو سما به ... إلى جبل لانهدّ من خوفه هدّا فأوجره سمراء لو مدّ باعه ... بها طاعنا للسدّ أنفذت السّدا فخرّ مكبّا للجران ونفسه ... تسرّ لمرديه الضغينة والحقدا فقلت له يا ذئب لا تخش سبّة ... فمرديك أردى قبلك الأسد الوردا وما هي إلّا ميتة قلّ عارها ... إذا أرغم السّيدان من أرغم الأسدا

ومنه قوله: [البسيط] لو كنت في عصر قوم سار ذكرهم ... في الجاهلية لم تكتب لهم سير «1» إنّ العصور وأهليها الذين مضوا ... مذ مرّ ذكرك بالأسماع ما ذكروا انظر لتنظر شيئا جلّ خالقه ... يحار فيه وفي أمثاله النّظر «2» طوقا على الملك الميمون طائره ... كأنّه هالة في وسطها قمر وحلّة من أديم الشمس مشرقة ... لا يستطيع ثباتا فوقها البصر توقدّ التبر حتى لو دنوت به ... من عرفج لرأيت النار تستعر قد كفّها عن كثير من توقدها ... خرق ترى الماء من كفّيه ينعصر وصارما ذكرا قد ناب حامله ... عن الخليفة هذا الصّارم الذّكر كأنّما حمّلت منه حمائله ... عقيقة أو جرى في غمده نهر وراية بات معقودا بذروتها ... من فوقه العز والتأييد والظّفر تهتزّ من فرح والعزّ شاملها ... كأنّما عندها من سعدها خبر «3» 367/خفّاقة كقلوب الشانئين لها ... إذا تمكن منها الخوف والحذر هوت نحور العدى والنجب حاملة ... تلك القباب عليها الوشي والحبر خوص تهادى بأنماط مصوّرة ... تكاد تنطق في حافاتها الصّور ومنه قوله: [الرجز] وجنّة زهت بها الغروس ... أغصانها مونقة تميس «4» كأنّها حين تميس العيس ... رنّحها التهجير والتغليس

إلى فتى بعض عداه الكيس ومنه قوله: [الطويل] خليليّ مالي أصطفي بين أضلعي ... أخا ليس يخلو أن تغول غوائله «1» أعفّ ولا أجزيه جهلا بجهله ... ولا آكل اللحم الذي هو آكله سيزداد غيظا كلّما مدّ باعه ... فقصّر عن إدراك ما هو نائله «2» فيا منطقي أطلق عنانك إنّما ... يعدّ الحسام العضب للضرب حامله يغلّ بنعماه الرّقاب كأنّما ... صنائعه أغلاله وسلاسله وقد طاولته النّيرات فطالها ... فأيّ امرئ بعد النجوم يطاوله جلا كربة الاسلام والشرك حالف ... بمجر يسدّ الخافقين جحافله لهام يسدّ الجوّ بالنقع زحفه ... وتقلع أوتاد الجبال زلازله ومنه قوله: [الطويل] فإن كنت لا تشكو غناء فقد شكا ... حسام وعسّال وسهم ويعبوب «3» وهام على البيداء ملقى كأنّه ... صحاف قرى منها سويّ ومكبوب 368/ومنه قوله: [الكامل] لا شيء أعشق من حسامك للطّلى ... إلّا يداك لنائل وسخاء «4» أنت السخيّ فلم بخلت على الورى ... أن يشبهوك ولست في البخلاء ومنه قوله يصف سيفا جفنه من كيمخت أبيض: [الكامل]

وتقلّد العضب الشبيه بغمده ... فكأنّما هو مصلت لم يغمد «1» من فوقه سفن يشفّ كأنّه ... حبب يطفّ على خليج مزبد كثرت بحدّيه الفلول كأنّه ... مما تكسّر في الطّلى فم أدرد ومنها يصف الفرس: من كلّ ملفوف النّداد مقلّص ... كالسّيد سيد الردهة المتمّرد «2» مترفّق يمشي بحلية سرجه ... مشي المقيّد وهو غير مقيّد ومنها في الراية البيضاء: ووراء ظهرك راية مرفوعة ... تهدي الخميس من الضّلال فتهتدي «3» كالغادة الحسناء ذات ذوائب ... تهفو وذات تعطّف وتأوّد في لون عرضك كلّما خفقت بها ... ريح الصّبا خفقت قلوب الحسّد ومنه قوله: [الخفيف] أمرضتني مريضة اللحظ سكرى ... مرضا ما إخاله الدّهر يبرى «4» ولقد هاج لي رسيسا إلى الغو ... ر خيال من ساكن الغور أسرى صاح مالي وللهوى كلّما حا ... ولت عنه صبرا تجرّعت صبرا ذبت وجدا فلو قضيت لما احتج ... ت سوى موطئ البعوضة قبرا 369/وقوله: [الطويل]

إذا سرت أخفيت النهار بقسطل ... يلفّك في جنح من الليل معتم «1» كأنّك فيه والقنا يزحم القنا ... هلال سماء طالع بين أنجم ومنه قوله: [الكامل] أهوى وحرّ جوى بكم وفراق ... أيّ الثلاث الفادحات يطاق «2» كلّ الدّماء لأهلها مضمونة ... إلّا دم يوم الفراق يراق ومنها قوله يصف الرمح والسيف: ولقد سريت ومؤنسي متمايل ... ميل النّزيف مرّوع مقلاق «3» في لونه كلف وفي أعضائه ... قضف وفي أوصاله استيثاق عاري العظام دوين مفرق رأسه ... مثل النطاق ذؤابة ونطاق هذا وماء جامد ممّا اقتنى ... لزمانه المتجبّر العملاق «4» طال الزمان عليه حتى إنّه ... لم يبق إلّا ماؤه الرقراق ومنه قوله في البرق: [الطويل] أهاج لك التبّريح إيماض بارق ... على الجوّ منه ساطع يتوهّج «5» بدا موهنا والليل [بالنور] أسفع ... فضّواه حتى الليل أنبط أخرج «6» فألمحته صحبي وقد مدّ ضوءه ... كما امتدّ من تبر شريط مدّرج

أرقت له لمّا بدا الليل طالعا ... عليه من الظلماء ثوب مفرّج «1» ومنها قوله يصف الحنظل: ترى ثمر الخطبان فيها كأنّه ... على صفحة البيداء هام مدحرج «2» تعاديه خيطان النعام كأنّها ... إلى ميرة بزل تشدّ وتحدج 370/ومنها قوله يصف سلخ الأفعى: وتلقى بها قمص الأفاعي كأنّها ... حباب الحميّا أربدت حين تمزج «3» يخلّفها الصلّ الذي ملّ لبسها ... كما خلّف الدرع الكميّ المدجّج ومنها قوله يصف السّرى ورؤية الهلال: أقول لصحبي والرّكاب شواحب ... كأنّ رذاياها المزاد المشنّج «4» وقد لاح للساري هلال كأنّه ... من الفضة البيضاء ميل معوّج ومنه قوله: [المتقارب] وخلّ الرماح أنابيبها ... لدى كلّ أنبوبة جدول «5» كأنّ السيوف وقد خضّبت ... سنا البرق أوّل ما تشعل «6» صوارم عوّدها أن تهان ... فليست تداس ولا تصقل ومنها:

رجال ترفّ مناياهم ... عليهم كما رفرف الأجدل كأنّي بهم قوت وحش الفلا ... فهنّيت رزقك يا جيأل ومنه قوله: [الطويل] وقد كنت ذا ذخر من المال صالح ... وما تركت لي كثرة النّسل من ذخر «1» جنيت على نفسي بنفسي جناية ... فأثقلت ظهري بالذي خفّ من ظهري «2» ومنه قوله: [الطويل] جزى الله خيرا ليلة خاضت الدّجى ... إليك وسافتها الغريرية الهدل «3» وضعت يميني في يمينك للغنى ... فأوّل بؤسي زال عنّي بها البخل وقوله: [الوافر] إذا كانت منايانا طباعا ... فما تحتاج ما طبع القيون 371/فلو سلم الطعين وعاش دهرا ... لمات بغير طعنته الطّعين ومنه قوله: [البسيط] حمر الأسنّة في أطرافها سرع ... إلى الكماة وفي أعقابها مهل كأنّها وهي في الماديّ مسرعة ... غدر يغيّب في أمواجها الشّعل ومنه قوله: [الطويل] تركنا سيوف الهند خشنا متونها ... على اللمّس ممّا كسّرت في الجماجم لعمري لنعم القوم قوم تغايروا ... على العرّ حتى أيقظوا كلّ نائم

وخيل تماشى في الحديد كأنّما ... كسونا هواديها سلوخ الأراقم ركبنا بها الأهوال حتى تكشّفت ... عماية ذاك العارض المتراكم فأمست رجال من عديّ بشاهق ... يبثّ عليها فيه رغد المطاعم بأرجلهم دهم جناها ركوبهم ... لدهم جرت من تحتهم في العواصم ومنه قوله: [البسيط] طاف الخيال بناو الصبح محتجب ... كأنّه صارم في الليل معمود والشهب في جوّها مثنى وواحدة ... كأنّها الدرّ مبثوث ومنضود والليل كالأمة السوداء في يدها ... معلّق من ثريا الجوّ عنقود والنسر كالنسر مبسوط قوادمه ... ينجو وصاحبه بالغرب مصيود ومنها: نادمت صحبي بها والراح بينهم ... تضيء منها جلابيب الدّجى السود تفرّقت فهي في صدر الفتى طرب ... جمّ وفي وجنة الندمان توريد أعني مديح أبي العلوان شاربها ... أن يقرع الدفّ أو يستحضر العود 372/غنّى الحمام وغنّيت النديم به ... فلي وللطير تغريد وتغريد ومنها في السيف: وفي يمينه ماضي الحدّ ذو شطب ... كأنّ ضربته الفوهاء أخدود ما رقّ قطّ ولكن رقّ مضربه ... ممّا تداوله صون وتجريد ومنها: وفوقه ثوب ماء كان أحكمه ... لنفسه من قديم الدّهر داود مضاعف السّرد قد سدّت خصائصه ... فللمنايا طريق عنه مسدود

ومنه قوله: [الطويل] مواض فواض شبن ممّا تصعّبت ... وهانت عليهنّ الخطوب اللوازب تكسّر في الهامات حتى تظنّها ... من الضّرب لم يحل لهنّ مضارب وحطّته تشكو اللقاء وتشتكي ... أنابيبها قبل اللقاء المناكب تعاودن قبل الرّوع عوجا كأنّما ... تعلّق في أطرافهنّ العقارب ومنها قوله: وفي ولديك السالمين بقية ... تسرّ فلا ينصبك للهمّ ناصب وما النّسل بالغالي عليك التماسه ... إذا كان لا تغلو عليك الكواعب ومنه قوله: وعضب له من رونق الماء رونق ... وجسم ومن حدّ الردّى حدّ مضرب كأنّ غماما أمطرت فوق غمده ... صغارا من الدرّ الذي لم يثقّب ومنه قوله: [الوافر] أدائمة الكرى لو كان عدلا ... هواك لما نفى عنّي المناما 373/ولو أنصفتني لوصلت يوما ... وكنت مثابة وهجرت عاما [ومنه قوله] «1» : [الوافر] تعاتبني أمامة في التّصابي ... وكيف به وقد فات العتاب «2» نضا منّي الصّبا ونضوت منه ... كما ينضو من الكفّ الخضاب ومنه قوله يرثي: [الكامل]

ولد النّدى معه وعاشا برهة ... لا فرق بينهما وقد ماتا معا قطعت يد مدّت إليه فإنّها ... قطعت عن الياس الربيع الممرعا وقوله: [الوافر] وردت بهم ونسر الجوّ يحكي ... أثافي القدر في الأفق العليّ وقد حكت الثريا شنف خود ... وباقي البدر خلخال الهديّ منها يصف الرماح: لهنّ إذا اشتجرن غدّاة حرب ... قراع مثل وسواس الحليّ ومنه قوله: [البسيط] تندى يداه ويندى صدر ذائله ... من الفوارس والأرماح تشتجر ردّ الأسنّة والأوضاح واحدة ... حتى تشابهت الخرصان والغرر وقوله: [الوافر] تحنّ إلى البقيع وحبّ هند ... تكلّفك الحنين إلى البقيع وترجو أن يزورك طيف هند ... ولست لما رجوت بمستطيع ولو سمحت بمسرى الطّيف هند ... لما سمحت جفونك بالهجوع منها في وصف ذئب: ترنّم ذيبه الطاوي ثلاثا ... ترنّم شارب الكأس الخليع وقوله: [الكامل] من كلّ جائلة الوشاح غريرة ... ترمي إلى المهجات سهما صائبا ضنّت بوصلك واستنابت طيفها ... خوف الوشاة فلا عدمت النائبا

374/ومنه قوله: [الكامل] أسفي على عصر اللّوى أن لم يعد ... وعلى التيام الشمل أن لم يرجع بانت أمامة وانثنيت وفي يدي ... أرمام باقي حبلها المتقطّع بخلت عليّ بوصلها وتمنّعت ... سقيا لذاك الباخل المتمنّع ومنه قوله: [الكامل] ولقد سريت يشقّ بي غلس الدّجى ... وحف السبائب كالرداء المسبل وكأنّما الأوضاح فوق إهابه ... صبح تقطّع فوق ليل أليل هذا ومن [] «1» ... وافي الخزامة والنّسا والمركل كاسي المناكب لا يزال حميمه ... ينصب من مثل الإزار المخمل ومنه قوله: [البسيط] وليلة بتّ أفنيها مشاهدة ... والنسر لم يسر والضرغام لم يثب وقد أطلّ هلال في أوائلها ... كأنّه نصف خلخال من الذّهب ومنه قوله: [البسيط] هل في الأخلّاء من خلّ أخي ثقة ... أصفيه ودّي مدى عمري ويصفيني وما أصيب ولكنّي أصيب أخا ... يفوّق السهم مشموما ويرميني وقوله: [البسيط] ابشر فإنّك من عاداتك الظّفر ... ما أومض البرق إلّا أسبل المطر تلقى الليالي بسعد لا احتباس له ... ويصنع الله ما لا يحسب البشر وقوله: [مخلع البسيط]

تذهب أرحامكم ضياعا ... لا كانت المدن والضّياع من قبل أن تشمت الأعادي ... وقبل أن يكشف القناع 375/ومنه قوله: [الخفيف] ينشدك الدهر مديحي فما ... تحتاج أن تسمع إنشادي أمضي وذكري غابر فيكم ... فيوم دفني يوم ميلادي وقوله: [الوافر] إذا داس التراب بأخمصيه ... تحوّل عنبرا ذاك التراب فتى يخضّر قائم كلّ عضب ... يجردّه ويحمّر الذباب ومنه قوله: [الكامل] وإلى ابن فخر الملك سرن نجائبا ... مثل السفائن في بحور سراب يثني عليه فتنثني أعناقها ... فكأنّما خلقت بغير رقاب ومنه قوله: [المنسرح] كأنّما تحت ثوبه أسد ... عبل الشّوى في ذراعه فدع إذا مشى تاه في تبختره ... كأنّما في مشاته ظلع أزلّ طاوي الحشا على زمع ... منبسط تارة ومجتمع تغدو وحوش الفلا مصرّعة ... أشلاؤها في بيوته قطع «1» أطلّ من مرقب وعنّ له ... سرب وفيه المسنّ والجذع فمدّ نحو الصّوار مشعلة ... كأنّها بعد موهن شمع وانضمّ حتى كأنّه كرة ... وامتدّ حتى كأنّه ربع

34 - الأمير أبو الفتيان مصطفى الدولة محمد بن حيوس

مدّ إليها أسنّة ذربا ... لا يقع النقع موضعا تقع فبسطات المتون تحسبها ... مدى ثني رؤوسها الصّنع فأقعصت لا ترم عالمة ... إنّ المنايا دوارك سرع كأنّما انحطّ فوقها جبل ... أو مقرم في تليله تلع 376/ذاك أو أرقم بمغصية ... منضنض في إهابه لمع عفّ عن الزاد أن يعيش به ... فهو يسفّ التراب مقتنع تهتزّ متناه وهو منبعث ... كأنّ فرط اهتزازه زمع قدحك ضيق الوجار هامته ... حتى حسبناه أنّه قرع منها: طالوا فنالوا السماء من كثب ... واجتنبوا الكبرياء فاتّضعوا حتّى لظنّ الغنيّ أنّهم ... قد نزلوا والرجال قد طلعوا أكرم ما في الفتى أواخرها ... عندهم لا الأوائل الشرع ومنه قوله: [الطويل] إذا قلت أسلو جدّدت لي صبابة ... صمائم ورق في ذرى الأيك هتّف تجاوبن في الأفنان حتى كأنّما ... تجاوب فيهنّ اليراع المجوّف 377/ومنهم: 34- الأمير أبو الفتيان مصطفى الدولة محمد بن حيّوس «1»

من بيت خيّم على منازل النجوم فخاره، وحوّم على مناهل الغيوم مطاره، كان يدعى بالأمير، لأنّ أباه كان أميرا «1» ، وكان بما يقيت القلوب مميرا، لا ترد المسامع منه إلّا نميرا، ولا تجدّ المجامع به إلّا للكواكب سميرا، ويده في هذه الصناعة لا يماثل صناعها، ولا يقاس بشيء إلّا وطال عليه في القياس ذراعها. وديوانه كبير الحجم «2» ، منير الجوانب كأنّما طلع في آفاقه النجم، وقد اعتمد فيه الجناس فأكثر منه حتى كدّر صفوه الزلال، وعسر عفوه حتى كاد يبطل به عمل سحره الحلال «3» . ومدح الملوك، والأمراء، والوزراء، وحصّل النعمة والثراء، وكان جملة فخر وقلّة ثبات لا يدهده له صخر. حكى ابن خلكان «4» أنّ أباه كان من أمراء العرب، وأنّه من شعراء الشام، ولد بدمشق، وتوفي بحلب، وكان هو وأبوه في تلك الأيام من أهل اللقب، وله مفاخر باقية على الحقب، وكان يتردّد إلى البادية أحيانا، ويتخّذ له ممّا حول الريّان «5» أوطانا، فأتت على أشعاره فصاحة البدو، ولطف الحضر، وجاءت فيها مواضع كأنّما خرجت من ألسنة العرب، ومرّت بنعمان الأراك «6» عدو بها الطرب، وأخذت من أفواه سكان الأجيرع «7» فجاءت بضرب من الضرب «8» ، ومالت أدواحا، ولا قست النفوس فجرت فيها أرواحا، وكان لا يعيا 378/

عليه معنى استغلق فهمه، ولا مبنى استوثق ببيته المشيد أن لا يتمّ نظمه، ولا بعيد من الأغراض ألّا يخطيه سهمه، ولا بديع مثل سحر الجفون المراض يحسن على معاصم العذارى نقشه، وعلى وجنات ذوي العذار رقمه، وله كلّ قصيدة لا يشان في عبارة ولا يشاب أوقاتها مثل صائدة القلوب، وقد قيل: ليس ذا وقت الزيارة «1» . ومن منتخب أشعاره السيّارة، وقصائده التى سكنت أو كار القلوب ذوات أغاريدها للطيّارة قوله: [الطويل] ومحجوبة عزّت وعزّ نظيرها ... وإن أشبهت في الحسن والعفّة الدّمى «2» أعنّف فيها صبوة قطّ ما ارعوت ... وأسأل عنها معلما ما تكلّما وأذيال دوح نيربيّ تخاله ... سماء دجى أبدت من النور أنجما «3» إذا قابلت شمس الأصائل ما علا ... تدنّر أو بدر الظلام تدرهما «4» ومنه قوله: [البسيط] لي بامتداحك عن ذكر الهوى شغل ... وبارتياحك عن عصر الصّبا بدل «5» وكيف يعدوك بالتأميل من بلغت ... به عطاياك ما لم يبلغ الأمل منها: أمّا عفاتك لا أكدوا فمالهم ... إذا المطامع طاحت عنك مرتحل «6»

فالعيس تدرس أيدي الخيل ما وطست ... والمقربات تعفّي وطأها القبل ومنها: وكلّ أسمر ما في عوده طمع ... بعد اللقاء ولا في عوده خطل «1» وكلّ أبيض مضروب بشفرته ... رأس المدجج مضروب به المثل وكلّ سلهبة أنت الكفيل لها ... ألّا يصاب لها في غارة كفل 379/دهماء كالليل أو شقراء صافية ... تريك في الليل ثوبا حاكه الأصل ومنه قوله: [الكامل] نظر الخليفة للملوك كساهم ... تاجا به تسمو وطورا تخضع «2» ناقضتهم فوهبت ما ضنّوا به ... وحفظت غير منازع ما ضيّعوا وقوله: [الكامل] وتنوفة عقمت فما تلد الكرى ... لكنّها للنائبات ولود «3» فيها يطيش السهم وهو مسدّد ... ويضلّ رأي المرء وهو سديد أفنيتها بقلائص عاداتها ... أن تنقص الفلوات وهى تزيد ومنها قوله يصف قصيدة: لو أنّ فحلي طييّء حضرا لها ... أمضى حبيب حكمها ووليد «4» مبذولة في القوم وهي مصونة ... معقولة في الحيّ وهي شرود

وتكررّت فينا فممّا كررّت ... قد صار يحفظها الدّجى والبيد ومنه قوله: [الوافر] ومن بعد الألوف منحت كوما ... غنيّ من تقلّ ومن تمون «1» محرّمة الغوارب ما علتها الرّ ... جال ولا تبطّنها وضين وقوله: [الطويل] ذر الهمّ للمرتاد مالا يناله ... ومن لم تنكّبه الخطوب النواكب «2» وذلّل عصيّ النوم بالسطوة التي ... أرحت بها نوم الورى وهو عازب مهلّلة نصريّة صالحية ... حمتها العوالي والرّهاف القواضب «3» 380/وكنت شجى للآخذيها تعدّيا ... ولولا الشّجى ما غصّ بالماء شارب ألست من القوم الألى كفلت لهم ... بإذلال من عادوا عتاق سلاهب إذا قدحت في الليل لم يدج غاسق ... وإن ضبحت في الصبح لم ينج هارب إذا عدّدت أفعالكم عند مفخر ... غنيتم بها عن أن تعدّ المناسب ومنه قوله: [الطويل] صبرنا على حكم الزمان الذي سطا ... على أنّه لولاك لم يمكن الصّبر «4» غرانا ببؤس لا يماثلها الأسى ... تقارن نعمى لا يقوم لها الشكر فأوجبت الأولى الملام فلم نلم ... وأنّى له لوم وأنت له عذر

ومنه قوله: [البسيط] نبكي وتسعدنا كوم المطيّ فهل ... نحن المشوقون فيها أم مطايانا «1» لا ومن فطر الأشياء ما وجدت ... كوجدنا العيس بل رقّت لشكوانا «2» ومنه قوله: [الكامل] من عاف ماء العيش وهو مكدّر ... عند الكرائه لم يرده زلالا «3» تضحي سيوفك للبلاد مفاتحا ... فإذا فتحت جعلتها أقفالا إن شئت تعرف أنّ رأيك ثاقب ... لا ما رأوا فانظر إلى ما آلا وقوله: [الطويل] وكانت دموع العين بيضا كغيرها ... فلمّا تلوّنتم علينا تلوّنّا «4» لذاك إذا يممّت بالركب منزلا ... أجابت دموعي قبل أن أسأل المغنى ومنه قوله: [الكامل] ما في المعالي مطمع لسواكا ... أينال ما استولت عليه يداكا» 381/من رام أن يرقى محلّك فليحز ... بأسا كبأسك أوندى كنداكا لا تنض عزمك طالبا أثر العدى ... فلو اكتفيت ببعضه لكفاكا فمتى نظرت الشّرك أدنى نظرة ... كانت لأسرى المسلمين فكاكا ومنه قوله في المنطقة: [الكامل]

ومضيئة كست النديّ بضوئها ... والحاضرين به حريقا مشعلا «1» ما إن رأينا هالة من قبلها ... أضحت تضمّن عارضا متهلّلا وأظنّها تاجا ولكن لم تجد ... لعلوّ قدرك فوق خصرك منزلا منها في الفرس: وسوابق حزن الجمال فلو مشى ... شبداز كسرى بينها لتخّيلا «2» من كلّ محبوك القوى لو لم يكن ... بعض الجبال لهدّه ما حمّلا في العلم: ومحلّق في الجوّ تحسب أنّه ... ظام وقد ظنّ المجرّة منهلا «3» أو فى على قوس الغمام معمّما ... منه بناحية لأخرى مسدلا ومنه قوله: [الطويل] وإنّ ألذّ القرب ما قبله نوى ... وأحلى وصال ما تقدّمه صدّ «4» ولست موفىّ بعض ما تستحقّه ... إذا لم ينب عن كلّ رجل مشت خدّ ومنه قوله: [الكامل] من كلّ أشقر لم يكن من قبل أن ... تغشى به وخذ الأسنّة أشقرا «5» يتلوه أدهم كان وردا برهة ... ممّا تسربله النّجيع الأحمرا داج ويشرق من ضياء حجوله ... فيخاله رائيه ليلا مقمرا

382/ومنه قوله: [الخفيف] صدّقت هذه المخايل بالإح ... سان قول المدّاح والوصّاف «1» فبقاء المديح ما لم يكن في ... ك بقاء الحباب فوق السّلاف وقوله: [الطويل] تصدّت إلى أن قلت ما البخل دينها ... وصدّت إلى أن كدت أن أنكر الصّدا «2» وبانت فبان الطيف يقضي بحكمها ... يواصلني سهوا ويهجرني عمدا ومنه قوله: [الكامل] ومحمّل الأيام ما لم تحتمل ... يفني الحياة مخيّبا مكدودا «3» أنّى يحلّ محلّه الجوزاء من ... لا يستطيع من الصّعيد صعودا وقوله: نالوا بقربك عزّة ونباهة ... وحموا بسيفك طارفا وتليدا «4» ولطالما خصّت نحوس كواكب ... قوما وكنّ لآخرين سعودا ومنه قوله: [المتقارب] وتغضي عن الذّنب لا رهبة ... كما احمرّت البيض لا من خفر «5» وتهتزّ للمدح عند السماع ... كما اهتزّ في الرّوع عضب ذكر «6»

وقوله: [الكامل] هذي مناقبكم فهل من طامع ... وصفات مجدكم فهل من طامع «1» إنّي دعوت ندى الكرام ولم يجب ... فلأشكرنّ ندى أجاب وما دعي ومنه قوله: فحويت ما لم يجر في خلد المنى ... من سيبه وحصدت ما لم أزرع «2» منن وصلن على التداني والنّوى ... فجمعن شمل رجائي المتوزّع إن أقترب فنوال كفك موطني ... أو أغترب فإلى جميلك مرجعي 383/ومن العجائب والعجائب جمّة ... شكر بطيء عن ندى متسرّع ومنه قوله: [الكامل] وإذا امتطوها في نزال خلتهم ... آساد غاب في ظهور رئال «3» ما أوردوها قطّ إلّا أصدرت ... جرحى الصدور سليمة الأكفال أسد إذا صالوا صقور إن علوا ... ولربّما كمنوا كمون صلال وقوله: [الطويل] إذا ما أدّعينا سلوة عن هواكم ... جرى الدّمع منهلّا فكذّب دعوانا «4» هبوا الوصل بالعذّال صار قطيعة ... وبعدا فماذا صيّر الذكر نسيانا «5» بنا حبّ من نرعاه وهو يروعنا ... ونذكره حتى الممات وينسانا

ومنه قوله: [الطويل] وموّهتم يوم الفراق بأدمع ... تخبّر عن صدق الوداد فتكذب «1» وكم غرّ ظمآنا سراب بقفرة ... وخبّر برق بالحيا وهو خلّب منها: وقد رمت أن ألقى الصّدود بمثله ... مقابلة لكنّني أتهيّب سأحبر صبر الصّنب والماء ذو قذى ... وأمشي على السّعدان والذلّ مركب «2» منها: ولست كمن أنحى عليه زمانه ... فظلّ على أحداثه يتعتّب «3» تلذّ له الشكوى وإن لم يفد بها ... صلاحا كما يلتذّ بالحكّ أجرب منها: فجاورت ملكا تستهلّ يمينه ... ندى حين يرضى أوردى حين يغضب «4» تدور كؤوس الحمد حينا فينتشي ... وطورا تصلّ المرهفات فيطرب إذا ما احتبى غبّ الوغى خلت أجدلا ... له أبدا فوق المجرّة مرقب «5» وإن أعمل الأفكار عند ملمّة ... تلمّ أرته ما يسرّ المغيّب 384/ومنه قوله: [الكامل]

حسنات فعلك جمّة فبأيّها ... أصبحت منفردا عن الأضراب «1» بمضائك المجتاح أم بقضائك ال ... منتاش أم بعطائك المنتاب منها: شفع الشّجاعة بالخضوع لرّبه ... ما أحسن المحراب في المحراب «2» وغدا يحاسب نفسه لمعاده ... وهباته تترى بغير حساب «3» ومنه قوله: [الطويل] خلائق أعيا في الخلائق ندّها ... تروقك مرأى أو تشوقك مسمعا «4» تزيد على ماء الغوادي طهارة ... وينسيك ريّاها الرحيق المشعشعا وقوله: [الكامل] رشأ تشابه طرفه ووداده ... ومحبّه كلّ أراه سقيما «5» يحكي تعرّضه لنا ونفاره ... والجيد والطّرف الكحيل الريما ويشاكل الشمس المنيرة وجهه ... نورا وبعد تناول وأديما

ويقايس المسك الذكيّ بعرفه ... فيكون أطيب في الأنوف شميما «1» ومنه قوله: [الكامل] وأسود هيجاء إذا قصدت وغى ... حملت على أكتافها الآجاما «2» ما ضرّهم لمّا تناسب فعلهم ... في الرّوع أن يتباعدوا أرحاما وقوله: [الخفيف] صحّة الشوق أحدثت علّة الصّب ... ر وبعد المزار أدنى السهادا «3» كم عذول عليكم رام إصلا ... حي فكان الملام لي إفسادا كلّما زاد عذله زاد وجدي ... فكلانا في شأنه قد تمادى ومنه قوله: [الطويل] 385/يصيب الفتى ما لم يكن في حسابه ... ويحذر من شيء وليس بواقع «4» وغير قريب من فؤاد ومسمع ... زئير الأسود من نقيق الضفادع وقوله: [الكامل] وممنطق يغني النّديم بوجهه ... عن كأسه الملأى وعن إبريقه «5» فعل المدام ولونها ومذاقها ... في مقلتيه ووجنتيه وريقه ومنه قوله: [الطويل]

ولمّا وقفنا والرسائل بيننا ... دموع نهاها الوجد أن تتوقفا» ذكرنا الليالي بالعقيق وظلّها ال ... أنيق فقطّعنا القلوب تأسّفا وقوله: وإذا ما أردت تعرف لخما ... فشم القوم في ندى أو نزال «2» تلق خضر الأكناف سود مثار النق ... ع بيض الأحساب حمر النّصال ومنه قوله: [الطويل] وما هي إلّا غرّة سنّها النّدى ... على سمعه في غارة سنّها الشّعر «3» ونشوان من خمر المكارم لم يفق ... فواقا ولولا هنّ لم تدر ما السّكر وقوله: [الوافر] وما أعطى الصّبابة ما استحقّت ... عليه ولا قضى حقّ المنازل «4» ملاحظها بعين غير عبرى ... وزائرها بجسم غير ناحل ومنه قوله: [الطويل] أسكّان نعمان الأراك تيقّنوا ... بأنّكم في ربع قلبي سكّان «5» ودوموا على حسن الوداد فطالما ... بلينا بأقوام إذا حفظوا خانوا «6»

35 - عبد العزيز بن عمر بن نباتة السعدي

سلوا الليل عني مذ تناءت دياركم ... هل اكتحلت بالنوم لي فيه أجفان «1» وهل جرّدت أسياف برق دياركم ... فكانت لها إلّا جفوني أجفان 386/ومنه قوله: [الطويل] كذا في طلاب المجد فليسع من سعى ... بلغت المدى فليعط فخرك ما ادعى «2» فلست ترى طرفا إلى المجد طامحا ... سلا الناس ما لم تدّع فيه مطمعا تبيت العتاق القبّ تحت سروجها ... لترسلها في غرّة الصّبح فزّعا وتمنع ما تحوي لتعطيه ندى ... وغيرك ما ينفكّ يعطى ليمنعا ومنهم: 35- عبد العزيز بن عمر بن نباتة السعدي «3» شاعر على ألفاظه عروبة، وعلى حفاظه ما لا يقوم به أسلة أنبوبة. جيّد السّبك كأنّما

خلص به ذهبا، وقّاد الذهن كأنّما حرش به لهبا. جال البلاد وجابها، وجاز على الملوك وما هابها، وتوغّل غارب كلّ سرى كأنّه كوكب أو هلال، وغالب كلّ كرى كأنّه عاشق أو خيال. طوّف جانبا من الأرض لا يزوي عنه منها إلّا ما قلّ، وما ترك بعضه لبعض منه عليه دلّ، وكان مقدّما حيث حلّ، متقدّما في الغوص ما دقّ به معنيّ الأجلّ، ومدح الملوك والوزراء، والرؤساء مدائح موسومة، ومنح الدّرر وأخذ البدر، أخذها منثورة، وأعطاها منظومة. وله في سيف الدولة ابن حمدان غرر القصائد، ومنه في جوائزه مالا يصيبه سهم كلّ صائد، وكان له منه قبول يبرق أساريره، وتشرق في صحائف الأيام أساطيره، واحتفال به كاد يلحق السعدي بالكندي، لا بل يجعله أسعد، ويرفعه عليه إلى ما هو أصعد، ويقرّبه قربا يسرّ أبا الطيب أن يدانيه ولو كان منه أبعد. وله مع ابن العميد أمور يضيق هذا الموطن بإثباتها، ولا يطيق إبراز مخبآتها، ولا يفيق سكرا من راحها الممزوج بسكّر نباتها. فأمّا أبياته الخارجة مخرج الأمثال، وكلماته/ 387/التي كأنّما تنصبّ في القلوب أو تنثال فما لا يطاولها باع ملتمس، ولا يحاولها شعاع مقتبس، كلّ معنى لا يلتبس، وكلّ بيت وأخوه يقول له: أنا أخوك فلا تبتئس. من ذلك قوله: [الطويل] وولّوا عليها يقدمون رماحنا ... وتقدمها أعناقهم والمناكب «1» خلقنا بأطراف القنا لظهورهم ... عيونا لها وقع السيوف حواجب بيوم العظالى والسيوف صواعق ... تخرّ عليهم والقسيّ حواصب «2» لقوا نبلها مرد العوارض وانثنوا ... لأوجههم منها لحيّ وشوارب ومنه قوله: [البسيط]

يا أهل بابل عزمي قبله فكري ... في النائبات وسيفي بعده عذلي «1» كم عندكم نعم عندي مصائبها ... لكم وصال الغواني والصبابة لي وقوله: [الطويل] فخطّة ضيم قد أبيت وليلة ... سريت وكان المجد ما أنا صانع «2» هتكت دجاها والنجوم كأنّها ... عيون لها ثوب السماء براقع ومنه قوله: [الكامل] قد جاءنا الطّرف الذي أهديته ... هاديه يعقد أرضه بسمائه «3» وكأنّما لطم الصّباح جبينه ... فاقتصّ منه وخاض في أحشائه وقوله: [الوافر] وأدهم يستمدّ الليل منه ... وتطلع بين عينيه الثريّا «4» سرى خلف الصباح يطير مشيا ... ويطوي خلفه الأفلاك طيّا فلمّا خاف وشك الفوت منه ... تشبّث بالقوائم والمحيّا ومنه قوله: [الطويل] 388/يخيّل لي أنّ النجوم أسنّة ... ينهنه عنها البرق سلّة صارم «5» وإنّ الكرى سهم إلى كلّ مقلة ... ترقرق فيها والرّدى طيف حالم كأنّ الدّجى مالت عليه كتيبة ... فنبّه من أهواله كلّ نائم

ومنه قوله: [الكامل] أخفيت آية حبّكم فتوهّمت ... روحي بأنّ جوانحي أحبابي «1» وكذا توهّمت الجوارح أنّكم ... روحي وكلّ ليس يعلم ما بي فالوجد لا تجد الجوانح حرّة ... والسقم لا تدري به أثوابي ومنه قوله: [الوافر] ومن طلب النجوم أطال صبرا ... على بعد المسافة والمنال «2» وتثمر حاجة الإنسان نجحا ... إذا ما كان فيها ذا احتيال وقوله من قصيدة: [الكامل] ما كدت أعرف عيب من أحببته ... حتى سلوت فصرت لا أشتاق «3» وإذا أفاق الوجد واندمل الهوى ... رأت القلوب ولم تر الأحداق وأعيش بالبلل الذي لو أنّه ... دمع لما رويت به الآماق ويزيدني عدم الدراهم عفّة ... وعلى الدراهم تضرب الأعناق ومنه قوله في السيف: [الطويل] وأبيض بالأبصار يلعب لونه ... فعال شعاع الشمس في الأعين الرّمد «4» كذي شوس تنبيك روعة لحظه ... على ما حواه في الضمير من الحقد ومنه قوله في الغزل: [الرمل]

389/طلعت من جانب الخدر لنا ... في بدور كشّفتهنّ الكلل «1» فكتمت الحبّ حتى شفّني ... وإذا ما كتم الداء قتل وقوله: [الرمل] وسنان مثل مصباح الدّجى ... زان أعطاف قضيب معتدل «2» ثغرة القرن به فاعلة ... مثلما يفعل بالخدّ الخجل لا يخاف الضّيم من يحمله ... عقل العزّ بأطراف الأسل ومنه قوله: [المتقارب] ومولى يكاتمني ضغنه ... ولا تكتم العين ما قد كتم «3» له لحظة غير مأمونة ... كما يلحظ الحاسدون النّعم وقوله: [الوافر] ملكن على المفاوز كلّ تيه ... خفيّ السّمت منخرق الفجاج «4» كأطراف الرماح مسدّدات ... إلى ثغر الهواجر والدّياجي دفعن ذلاذل الظلماء حتى ... بدا منهنّ ورد ذو انبلاج إذا مرّت ركائبها بقاع ... خلعن عليه أردية العجاج ومنه قوله في الحيّة: [الطويل] وصلّ صفا بالسنّ دون سميرة ... له في عقول الناظرين وجار «5»

يخادع ألباب الرجال كأنّه ... إذا ما تطوّى للأكفّ سوار وقوله: [مجزوء الكامل] سقيا لأيام مضي ... ن كأنّها أحلام نائم «1» متناسقات بالسّرو ... ر كما يعدّ العقد ناظم وقوله: [الكامل المرفل] طوبى لهم لو كنت جارهم ... من أين يعرف جارك الخطب «2» تهوي النجوم لأنهنّ على ... ومرامهنّ لأنّه صعب 390/ومنه قوله في الغزل: [المتقارب] غبطت الذي لا مني فيكم ... ولم أدر أنّي حسدت الحسودا «3» فليت العيون وجدن الدموع ... وليت الدموع وجدن الخدودا وقوله فى المدح: [المنسرح] أنت عليهم وإن أخفتهم ... أشفق من والد على ولد «4» كنت عليهم بالغيب مؤتمنا ... والروح مأمونة على الجسد لا تأمنن نبوة العدوّ وإن ... ناصح يوما فغشّه لغد شيمة غدر وإن أخلّ بها ... كامنة في طبيعة الأسد ومنه قوله في المدح: [الخفيف]

من به فخره ومن جلّ أن تنس ... ب أفعاله إلى منسوب «1» بهر النّاس هيبة وجمالا ... فهو في العين مثله في القلوب همّة تقصر الكواكب عنها ... وذكاء يغني عن التجريب وقوله في مثله: [الوافر] فتى ما هيب هيبته مليك ... ولا انتقادت رعيّته لراعي «2» سما للمجد يطلب منتهاه ... فأدرك فوق ما تسع المساعي «3» وقوله: ولا يرعى الأمانة يوسفيّ ... مودّته على حبل الذراع «4» إذا محيت ضغائنه بغدر ... نبتن نبات أنياب الأفاعي وقوله في الحضّ على المصالحة لأخ: [البسيط] بلّغ بلغت سلاما أو معاتبة ... أخا بفارس نرميه ويرمينا «5» 391/ما بالنا بالنّدى ندني أبا عدنا ... ولا نقرّب بالقربى أدانينا ولو ترافدت الأيدي لما وجدت ... فينا العداة مساغا حين تبغينا هلمّ ننس الذي قلنا وقيل لنا ... ولا نؤاخذ بالزّلات جانينا نكفّ صمّ العوالي عن مقاتلنا ... ونجعل الحدّ منها في أعادينا ومنه قوله: [الخفيف]

نصر الله كلّ من صعب الضي ... م عليه فصادف الموت سهلا «1» وورود الحمام حين يعاف ال ... ذلّ حلو والعيش في العزّ أحلى ومنه قوله في الجمل: [مجزوء الرجز] أهوج برّاق النّظر ... بذّ المطايا وحسر «2» لو أنّه داس النّغر «3» ... من خفّة لما شعر وقوله: [الخفيف] قيل إنّ الهوى فراغ جهول ... وكفى بالهوى لذي اللّب شغلا «4» ما استحقّ الفراق نجد فيشتا ... ق ولا استأهل الحمى أن يملّا وقوله فى المدح: [المتقارب] ترى القوم حين يفاجيهم ... كريم له شرف المجلس «5» قياما لهيبته خشعّا ... ومن وطئ النار لم يجلس كأنّ عيونهم حيرة ... لرؤيته أعين النّرجس تدير عليهم كؤوس المنون ... مدار المدامة في الأكؤس «6» وأنت بجدّهم لاعب ... كما يلعب الموت بالأنفس وقوله: [الكامل]

يا غائبا وعتابه إفراق ... ما هكذا يتحاسب العشّاق «1» يا من يعلّل نفسه بلقائنا ... يفنى الحنين ويذهل المشتاق 392/ما كدت أعرف عيب من أحببته ... حتى سلوت فصرت لا أشتاق «2» وإذا أفاق الوجد واندمل الهوى ... رأت القلوب ولم تر الأحداق «2» وقوله في الحكمة: حاول جسيمات الأمور ولا تقل ... إنّ المحامد والعلا أرزاق «4» وارغب بنفسك أن تكون مقصّرا ... عن غاية فيها الطلاب سباق لا تشفقنّ فإنّ يومك إن أتى ... ميقاته لم ينفع الإشفاق وإذا عجزت عن العدوّ فداره ... وامزح له إنّ المزاح وفاق يعتاض من قدري بمن هو دونه ... والدّر ليس يشينه الإنفاق وأعيش بالبلل الذي لو أنه ... دمع لما رويت به الآماق «5» ويزيدني عدم الدراهم عفّة ... وعلى الدراهم تضرب الأعناق «5» وقوله في المدح: [الكامل المرفل] بلغوا من الدنيا نهايتها ... وجرى بهم في صرفها المثل «7» وإذا الرجال بغيرهم عرفوا ... لم يعرفوا إلّا بما فعلوا تبقى لهم أخبار من غلبوا ... فكأنّهم أحيوا وقد قتلوا

من كلّ منشقّ الكعوب له ... نصل على الأرواح تتّصل منقضّة الأطراف تحسبها ... طيرا على اللّبات تنتضل وقوله في مصلوب: [الطويل] على الجذع موف لا يزال كأنّه ... سليب دعا قوما إليه فأقبلوا «1» فقام يماريهم وقد مدّ باعه ... يقول لهم عرضي أم الطّول أطول 393/وقوله: [الطويل] سهامي من حظّي سهام أعدّها ... عطائف نبع لحمهنّ ينال «2» يردن وأطراف الرماح حوائم ... وهنّ قصار والرّماح طوال وقوله: [المنسرح] وصارم في الضراب نفخته ... يتبعها المنكبان والعنق «3» ومن نطاق الجوزاء مطرّد ... كأنّها في كعوبه نسق وقوله في الساقه: [الرجز] قد برأت أحلامها من النّزق ... وانتقلت أخفافهنّ بالعلق «4» عالجن خبثا طبقا بعد طبق ... ظلّا يماشيها وظلّا قد أبق وقوله:

أخزر ما في جفن عينيه طرق ... لو أنه يخرق طرق لخرق «1» وقوله في الفرس: [السريع] كأنّ هاديه إذا عجته ... يرغب بالبعض عن البعض «2» وكلّما زدت إلى جيده ... عنانه زادك في الركض كأنّه البرق إذا رعته ... أو هرب السهم من النّبض تذعر منه ناشطات الملا ... بكوكب في الجوّ منقضّ إذا سما في صيد رأسه ... أكرمت فوديه عن الغضّ لا عيب فيه غير تيسيره ... وأنّه يمشي على الأرض ليس بمحدود إذا قسته ... يعلم منه الكلّ بالبعض وهو إذا حلّ بديمومة ... لم تعرف الطّول من العرض وقوله في الحكمة: [الطويل] أقلّا فإنّ العيش مال وصحة ... إذا عدّها لم يحمد العيش حامد «3» 394/ولا تأمنا لبس السقام سلمتما ... على جسد فالسقم للموت رائد «4» ومن لم يمت بالسيف مات بغيره ... تخالفت الأسباب والدّاء واحد «5» وقوله في رثاء بنت: [الخفيف]

ولعمري للبنت أصبت للقل ... ب وأدنى إلى نوال البخيل «1» لا كمن مات في البنات ولا مث ... لك للحادث الملمّ الجليل لا عقوق البنين يعدّ منهنّ ... ولا جفوة الأب المملول ولهنّ الحظّ الجزيل من الحر ... قة والحزن والحنين الطويل «2» والزيارات للقبور على اليأ ... س وبعد الرجاء والتأميل ولهذا يقال في المثل السا ... ئر لا وجد فوق وجد الثكول وقوله في عتاب أخ نصحه في الحفلة فنسبه إلى تقريعه: [البسيط] هلّا خلوت بسمعي يوم تنصحني ... إنّ النصيحة وسط القوم تقريع «3» صنيعة خفت أن تخفى فبحت بها ... لقد أضعت وبعض الحفظ تضييع «4» يا زفرة قدحت نار الهموم بها ... إنّ الهموم لها في الصدر ينبوع قطعت حبل إخاء كان متّصلا ... وكلّ من قطع الإخوان مقطوع وقوله في الحكمة: [الطويل] وإن أخي من لا يملّ خليقتي ... ومن لا يراني قائما وهو جالس «5» يجانسني في كلّ حال وإنّما ... لكلّ امرئ من صحبه من يجانس «6» وكنت مثال الكفّ منه ففاتني ... وقد يحبس الشيء القريب الحوابس «7»

وقوله في النياق: [الطويل] 395/وطارت بهم حدب الظهور كأنّها ... سفائن في لجّ الفلاة تمور «1» إذا سألوها الوخد عاند سيرها ... خوائف من جذب الأعنّة زور تضلّ فتهديها بحدّ نسورها ... قوادح مرو ليلهنّ بصير كأنّ مخاضات الفرات صحائف ... وهزّ به حتى عبرن سطور «2» وقوله في الذكرى: [الكامل] علّل جفونك بالرقاد فإنّه ... ما كان ذاك العيش غير منام «3» وأخاله حلما لكثرة ما أرى ... أيامه في طارق الأحلام وقوله: [الخفيف] أيّ عذر للدّهر أو أيّ معنى ... في محلّ يمحى وآخر يبنى «4» وإذا مرّت الجنائز أعرض ... نا كأنّا بمرّها ليس نعنى وقوله: [الطويل] رأيت أبا نصر يثمّر ماله ... ولا تحفظ الأيام ما هو حافظ «5» وإن امرأ تنعى الجنائز نفسه ... لفي عظة لو أيقظته المواعظ ومنه قوله في المدح: [الطويل] ومن مثله فيكم إذا الخيل طوردت ... وقد وردت ورد الحمام ضوائعا «6»

وما زال مذ ملّ الرهان عنانه ... يقطّع أنفاس السّوابق وادعا «1» في الهجاء: [السريع] قلت لحلو راقني قوله ... ما أحوج القول إلى فاعل «2» أعيا على الغامز تقويمه ... ومن يداوي مرض الجاهل وقوله في الجيش: [السريع] يلتهم البرّ برجراجة ... كأنّها البحر بلا ساحل «3» مرنّق الطير على ضربها ... يكاد يدنو من يد النائل 396/كأنّما النسر بها راية ... بين سنان الرمح والعامل وقوله في السيف والرمح والقوس: [الكامل] وقواطع مأثورة آياتها ... في الدارعين خفيّة الآثار «4» من كلّ مطّرد الكعوب سنانه ... كالبرق ينبض أو لسان النار يحبو الكميّ إذا اجتداه مرشّه ... مجنونة الإقبال والإدبار نعارة تطغى إذا هي روغمت ... بالفتك رجع فواقها الهدّار وقوله في السّرى إلى روضة: حاولت قصدك في قصّيات المنى ... بسرى إلى اللّذات غير سرار «5» في ليلة سرق المحاق هلالها ... فكأنّه في الأفق نصف سوار

واستودع الوسميّ كلّ وقيعة ... من فضل صيّبه وكلّ قرار حتى إذا بهر الأباطح والربى ... نظرت إليك بأعين النوّار وقوله في المدح: وبنو خفاجة من عقابك عالجوا ... يوما طويل الشرّ بالأنبار «1» ولقد وعظت بهم مسامع غيرهم ... وبلغت أقصى العذر في الإعذار ولعمر جدّهم لقد أنذرتهم ... لو أنّهم أصغوا إلى الإنذار وقوله في الحكمة: [المتقارب] تربّص بيومك ما في غد ... فإنّ العواقب قد تعقب «2» رضيت بميسور ما نلته ... فلا أستزيد ولا أطلب وقوله في الخيل: [الطويل] 397/إذا سار أعدته على البيد والعدى ... شوادن من آل الوجيه وقرّح «3» حوافرها من راعف ومثلّم ... يرضّ بها الصخر الأصمّ ويفلح وقد برحت والسنّ سنّ سميرة ... به أثر من وطئها ليس يبرح وما استصحب الفتيان مثل مثقّف ... يماج به ماء القلوب ويمنح ولا مثل مرتاع المهزّ كأنّه ... عقيقة برق يستطير ويلمح وقوله في الفرس: [الكامل] وطمّرة مأطورة بلجامها ... قوداء سالمة النساة الأشعر «4»

يوما يطارد في الرياض ظلالها ... أشرا فيوما في ظلال العثير «1» وقوله: [الخفيف] وقسيّ معطّفات من النب ... ع تطيع الأكفّ بعد نزاع «2» كضلوع الأوعال تحفر نبلا ... غير مأمونة على الأضلاع وتنمّي إلى العلا غير وان ... ربّ وان في حاجة وهو ساع أريحي يخاله القوم مرعي ... يا إذا كان فيهم وهو راعي وقوله: [مجزوء الكامل] ضاح يكون مقيله ... في ظلّ ألوية العساكر «3» صلب فإن لا ينته ... ألفيته هشّ المكاسر من معشر لا يتركو ... ن لوارث إلّا المآثر وقوله: [الخفيف] أنت شمسي على النهار ظهيرا ... وعلى الليل أنت بدري ونجمي «4» عرف الناس رغبتي عن سواكم ... فإذا ما مدحتكم لا أسمّي وقوله: [البسيط] وربّ ماء يقلّ النازلون به ... عذب الموارد لا فيض ولا وشل «5» وردته والدّجى حيران قد صدرت ... عنه النجوم وفي أعناقها ميل

398/ومنه قوله في البرق: [الطويل] ألا من لبرق في جوانح ليلة ... كأنّ الدجى من حمله يتأوّد «1» إذا قلت يبدو الصبح لي من خلاله ... محاضوءه جنح من الليل أسود يشبّ حريقا في السماء وميضه ... كنار قرى في دارة الحيّ توقد «2» أقام رهينا بالصّباح كأنّه ... على الليل أسياف تسلّ وتغمد ومنه قوله: [الكامل] نصر العواذل والدّموع خواذلي ... الآن سالمت السّهام مقاتلي «3» بخلت دموع العين لي وسمحتم ... أنتم دموع العين وهي عواذلي وقوله: ما بال سيف الدّولة الملك اغتدى ... وهو الوسيلة أن يردّ وسائلي «4» فكأننّي قلت الكواكب مثله ... أو قلت إنّ الرزق ليس بجاهل وقوله: [الكامل المرفل] وكأن لي في كلّ جارحة ... كبد مقلية على الجمر «5» ومدامع بيض بأعيننا ... تنحلّ من أكبادنا الحمر وقوله: [الهزج] وأير طوله باع ... ولكن عرضه شبر «6»

36 - الوزير أبو نصر أحمد بن يوسف المنازي السليكي

إذا أفرغ ما فيه ... تدلّى وهو ينخرّ في الهجاء: [المجتث] يحبّ فيشل أير ... مفرطح الرأس أعجر «1» إذا رآه كبيرا ... صلّى عليه وكبّر وردّه بعد عصر ... مثل الحرير المجندر إن تكته فتقدّم ... عليه ثمّ تأخّر واسلله كيما تراه ... مثل الحسام المشهّر واردده ردّا عنيفا ... كأنّه رأس خنجر فإنّه من غباه ... يهوى الحديث المكرّر ومنهم: 36- الوزير أبو نصر أحمد بن يوسف المنازي السليكي «2» 399/مجيد على الإقلال، ومفيد يرمي الدّرر بالاستقلال، لا تحوي مثله دارة الهلال، ولا تروي بغزارة مدده السّحب ذوات الاستهلال، ولا يعرف له ديوان يجمع شعره

فيه، ولا صوان يتدفّق نهره بين حواشيه، إلّا أنّ ما يوجد به ينازع الأهيف الألمى ما بين شفتيه، ويغالب الظبي الأغنّ على ما في مقلتيه، كأنّما شقّ عنه الزّهر من الكمام لبّتيه، أو آواه الروض في الخمائل بين لابتيه. ولقد تطلّب القاضي الفاضل رحمه الله ديوان المنازي فعزّ حتى كأنّه لم يكن موجودا «1» ، ولا كان إلّا آلى أن يفارقه فجاوز معه ملحودا، على أنّه الباقي بما تتفرّقه الألسنة وجود المشرق كالشمس على صفحات الأيام فلا تستطيع له جحودا. وأجاب من طلب الفاضل منه هذا الديوان بجواب قال فيه: وأقفر من شعر المنازي المنازل فأعجب الفاضل بجوابه، وقال: إن فاتنا نجح طلابه فما فاتنا حسن خطابه. وكان بين المنازي والمعري «2» اجتماع طرب له الدهر وضرب له بسهم رقص الحباب له على جنبات النهر، وكان ذا إلف للحدائق تفيّأ ظلالها، وتهيّأ طبعه السلسال لرشف زلالها ومصابحة خلقه البهيّ لو سيمها، ومقاومة خلقه السريّ لنسيمها، ومراوحة ما تديره كؤوس الورد من سلاف رحيقها، ومراودة أبكار الرياض على فضّ ختام الأرج وافتضاض

عذرة شقيقها. وزر للمروانيين ملوك ديار بكر وزارة ناطت نجاديّ سيفها بلواء، ووادي سيبها بكشف لأواء، وترسّل إلى خلفاء مصر «1» فنزل بذلك القبيل، ومسح جناح الفرات بالنيل، ورجع إلى مرسله أحسن مرجع، وأخصب به ثرى رائده بأكرم مستنجع. وكان في الدولة المروانية حيث لا مثل له في أولاها، ولا نصل أمضى من قلمه في المناضلة عن علاها/ 400/حتى كانت به في بعد اللّمس كأنّها دولة بني مروان الأولى من بني عبد شمس، فقام في دولة المروانيين مقام عبد الحميد «2» عند مروان، أو رجاء بن حيوة «3» عند عبد الملك في ذلك الأوان إلّا أنّه تأخّر عن ذلك العصر، وجاء بما يجيء به من مذهبات الألوان، وكان لا يعبأ بذي همم، ولا يعيا بجدال رمح يتشاوس موهما أنّه في أذنه صمم، ولا بحجّة سيف شامخ المضارب في عرنينه شمم، وله إدلال بشعره، وإذلال بنظمه الدرّ على غلّو سعره. ومن بدائع نظمه الذي لا تساقط مثله النجوى ولا تريق شبيهه على خدود الحبائب دمعة الشكوى، قوله يخاطب أبا العلاء، وقد فاوضه في شيء فأعجبه كلامه: [البسيط] لله لؤلؤ ألفاظ تساقطها ... لو كنّ للغيد لاستأنسن بالعطل ومن عيون معان لو كحلن بها ... نجل العيون لأغناها عن الكحل سحر من اللّفظ لو دارت سلافته ... على الزمان تمشّى مشية الثّمل ومنه قوله في ولد له توفّي ولم يكن له غيره: [الطويل] أطاقت يد الموت انتزاعك من يدي ... ولم يطق الموت انتزاعك من صدري

لئن كنت مبثوث المحاسن في الحشا ... فإنّك ممحوّ المحاسن في القبر رجوتك طفلا فوق ما يرتجي الفتى ... كذاك هلال الشهر أرجى من البدر فلا وصل إلّا بين عينيّ والبكا ... ولا هجر إلّا بين قلبي والصّبر ومنه قوله في الوزير أبي القاسم الحسين بن علي ابن المغربي «1» : [الكامل] اصفح لطرف الصبّ عن نظراته ... إن كنت آخذه بما لم يأته سقيا لوجهك فهو أول روضة ... زهرت أقاحيه أمام بناته 401/لمّا خططت مثاله في ناظري ... مدّ الحجاب عليه من نظراته حالت حماتك دون ورد غديره ... وشميم زهرته ورشف قلاته الماء يلمع في أريض جنابه ... والنار تسفع من ضلوع رعاته وإذا ادّعى بدر التمام بهاءه ... وأنار للساري قلا زعماته منها: ولئن جزت نعم الحسين محامد ... فلتجزينّ الغيث عن هطلاته أقنى وأغنى فانقلبت ولي به ... شغلان بين صفاته وصلاته حاولت عدّ خلاله فوجدتها ... يشقى الرواة بها شقاء عداته أبصرت سبل المجد من لحظاته ... وأفدت حسن القول من لفظاته فأرى الفصاحة والسماحة والغنى ... ومكارم الأخلاق بعض هباته ورث المعالي عن عليّ وابتنى ... رتبا مشيّدة إلى رتباته وكذاك لابن القيل إرث علائه ... فرض ولابن القين إرث علاته

وقوله: [البسيط] لو قيل لي وهجير الصّيف متّقد ... وفي فؤادي جوى بالحرّ يضطرم أهم أحبّ الآن تشهدهم ... أم شربة من زلال الماء، قلت: هم وقوله: [الطويل] هي الشمس حالت دونها حجب خدرها ... ولو برزت كان الضياء لها حجبا إذا جهرت ألحاظها قصد غافل ... أغارت على قلب أو استهلكت لبّا ألم يأن في حكم الهوى أن ترقّ لي ... من المدمع الريّان والكبد اللهبى ومن زفرة حرّى إذا ما تقطّعت ... شعاعا تدمّي الجفن أو تحرق الهدبا 402/شجتني ذات الطوق عجماء لم تبن ... وشيمة عجم الطير أن تشجو العربا دنا إلفها واخضلّ أطراف عيشها ... فهاجت إلى البلوى وقد هدلت عجبا هفا بك متن الغصن لو أنّ قدرة ... سلبتك حلي الطوق والغصن الرّطبا ولكنّ إخوانا أعدّ فراقهم ... خسارا ولو سافرت أقتنص الشّهبا وخلّفت قلبي بالعراق رهينة ... لقصد بلاد ما اكتسبت بها قلبا وإنّي ليحييني على بعد داره ... نسيم نعاماه ولو حملت تربا ومن شيمتي أن أستمدّ له الصّبا ... وأستتبع النّعمى وأستمطر السّحبا وأعمر من ذكراه كل مفازة ... وألهي بعلياه الركائب والرّكبا وأذكره بالضيف إن جاء طارقا ... وبالطيف إن أسرى وبالسيف إن هبّا وبالبدر إن أوفى وبالليث إن سطا ... وبالغيث إن أروى وبالبحر إن عبّا وأشتاق أياما تقضّت كأنّما ... أسرت عن الأيام أو أدركت غصبا نحنّ حنين البعد والشمل جامع ... ويزداد حبّا كلّما لم يزر غبّا إخاء تعالى أن يكون أخوّة ... وقربى وداد لا تقاس إلى قربى

وقوله يصف دار حرب جلا ساكنها: [الوافر] جلا حتّى الذباب الخضر عنها ... ذباب من حسامك ذو اخضرار وتفرّ ضاريات الأسد منها ... ثعالب من أسنّتك الضواري وقوله: [الطويل] لحى الله من يستنصر ابن عدوّه ... سفاها ولا يستنصر ابن أبيه كفيل من الشطرنج يحمي ويحتمي ... بقاطبة الشطرنج غير أخيه 403/وقوله: [الوافر] وقانا لفحة الرّمضاء واد ... وقاه مضاعف النّبت العميم «1» نزلنا دوحه فحنا علينا ... حنّو الوالدات على الفطيم وأرشفنا على ظمأ زلالا ... ألذّ من المدامة للنّديم يصدّ الشمس أنّى واجهتنا ... فيحجبها ويأذن للنسيم يروع حصاه حالية العذارى ... فتلمس جانب العقد النّظيم وقوله: [الوافر] غزال قدّه قدّ رطيب ... يليق به المدائح والنّسيب «2» جهدت فما أصبت رضاه يوما ... وقالوا كلّ مجتهد نصيب ومنه قوله: [الوافر]

37 - الماهر الحلبي

ومبتسم بثغر كالأقاحي ... وقد لبس الدّجى فوق الصّباح «1» له وجه يدلّ به وعين ... يمرّضها فيسكر كلّ صاح تثنّي عطفه خطرات دلّ ... إذا لم تثنه نشوات راح يميل مع الوشاة وأيّ غصن ... رطيب لا يميل مع الرياح وقوله: [الوافر] لقد هتف الحمام لنا بشدو ... إذا أصغى له ركب تلاحا «2» شجا قلب الخليّ فقال: غنّ ... وبرّح بالشجيّ فقال: ناحا ومنهم: 37- الماهر الحلبي «3» لفظه حال كما جال الوشاح، عال كما طفت على نهر زهرات أقاح، رقيق كما رقّت الراح، خفيف كما خفّت الجسوم بالأرواح، خلوب كما خامر الهوى لبّ صب فباح، مطرب كما اهتزّ خفّاق الجناح فناح. على كلّ بيت له علم تأوي/ 400/إليه كواكبه، ونور أضاء حتى نظّم اللؤلؤ من فكره ثاقبه. وقد أورد له الباخرزي في الدمية بيتين حسنين، زيّنهما منهما بعقدين مستحسنين، وإن كانا في رثاء من قلب حزين فإنّهما أعربا عن أدب غزير، وعقل رزين. قال الباخرزي «4» في

وصفهما والإشادة بصحّة رصفهما: هذا أرقّ ما يكون من المراثي يكاد يفجّر عيون الأحجار فتسيل بمدود الأنهار، بل بأمواج البحار، وهما: [الوافر] برغمي أن أعنّف فيك دهرا ... قليل همّه بمعنّفيه «1» وأن أرعى النجوم ولست فيها ... وأن أطأ التراب وأنت فيه 405/وقوله: [الطويل] ترى منهم يوم الوغى كلّ ناشر ... من النقع فوق الدارعين مطاردا «2» ينالون من أمسى بعيدا مناله ... كأنّهم أعطوا الرماح سواعدا وقوله يشبّب بغلام أثّرت فيه الحمّى، وأحسن في التخلّص إلى المدح: [المنسرح] وأسيل الخدّ شاحبه ... كحلت عيناه بالفتن «3» تركت حمّاه وجنته ... في اصفرار اللون تشبهني وأرى خدّيه وردهما ... ما جنى ذنبا فكيف جني نهبا حتى كأنّهما ... ما حوت كفّا أبي الحسن منها: ذو جفون تشتري أبدا ... غبرات النّقع بالوسن ويد تندى ندى وردى ... تجمع الضدّين في قرن وقوله: [السريع] مجدي وقد يثبت في نفسه ... فضيلة المجدى على المجدي «4»

38 - أبو عبد الله بن السراج الصوري

لو كان من أحببته بعض ما ... في يده زار بلا وعد 406/ومنهم: 38- أبو عبد الله بن السراج الصوري «1» من سمع شعره المرقوم، ورأى درّه المنظوم عرف كيف يستخدم النجوم، وكيف يستخرج السرّ المكتوم. وكيف تنوب الخواطر، عن السحب المواطر إلّا أنّ هذه تفتح زهرا باللّمس يذوي، وهذه تنقّح كلما يروى كلما تروي. ألفاظه منتقاه، ومعناه يقطع على السحر رقاه. وقد وصف الفهد وصفا أخذه من العيون، وأقام به الليل والنهار على حدّ موزون، لو أنّه للنّمر للان خلقه الشرس، وأنس طبعه المفترس، وارتاض ما فيه من نزق، ورضي فلم يكن به على الحيوان ذلك الحنق. وهذه قطعة من شعره المنقوش ديناره، المنقود نضاره، المعقود بالشّعرى العبور سيّاره، من ذلك قوله الأبيات الموعود بها في وصف الفهود: وهي: [البسيط] وأهرت الشّدق في فيه وفي يده ... ما في القواضب والعسّالة الذبل والشمس مذ لقّبوها بالغزالة لم ... تطلع على وجهه إلّا على وجل ونقّطته حباء لا يسالمها ... على المنون نعاج الرّمل بالمقل

39 - أبو عبد الله، أحمد الخياط الدمشقي

407/ومنهم: 39- أبو عبد الله، أحمد الخياط الدمشقي «1» توفي سنة سبع عشرة وخمسمائة. قدّر الشعر ثمّ فصّله، وحرّز مقاديره ثمّ وصله، ومسح الألفاظ على المعاني فجاءت سواء وجادت رواء، وجالت على المعاطف تامّة حللها، ضامّة لآيات حسن يتلوها مفصّلها، قد فاقت تحصيلا، وراقت جملة وتفصيلا، ثمّ برزت تلك الخرّد العين تجلى في تلك الملابس، وتزهى على الأقمار والظباء الأوانس. كان ولوعا بتصحيح المعنى يبيت طول ليلته يلوطه، ويفتق له ذهنه كأنّه يخيطه، من كلّ معنى لو تصوّر لما عدت نفسه سجاياها «2» ، ولا عدّت ولائد النجوم إلّا سباياها. قصائد تركت والحسن في قرن، وملكت الحبّ كلّه بلا ثمن، تبتسم لسقيط الدرّ ثمّ تريبها، وتخاف العين وهي تصيب بالعين وتصيبها، إذا وصفت كان واصفها وإن جهد كأنّه يعيبها، وإذا غابت وشبّهها بالبدر كان كأنّه يستغيبها. عرب كرائم ما خلطن بهجان،

أبكار لم يطمثهنّ إنس ولا جان. تخال خلال بيوتها دمى، وتظنّ خلال ريقتها سلافة راح لا لمى، وكان جزل القول كأنّه صليل سيوف، أو صرير أقلام في مخوف. فاض أيّتها على المدارج، وآض إلى/ 408/الآكام يصعد بلا معارج، قد نوّر كلامه أضواء من المسارج، وتطوّر فكأنّه اطّرد من مأرج يانع المسارج، ضائع الأرج وهو ليس ببارج، وكان من تغلب في أسرة لا يجد لكلبها شفاء إلّا أن يجدّ في الدماء ولوغا، ولا تعدّ لمنقلبها إذ تعد إلّا نزوغا، ما تحلّت جيادها إلّا بتحجيل الصباح رسوغا، ولا حلّت راية للأعداء إلّا لتعقد عوضها لواء بالدماء مصبوغا. منذ نظم حسدت الشّعرى شعره وودّ الغزال لو أنّ روقيه أحدهما له قلم والآخر لأبيه الخياط إبرة. ومن أبنائه أبناء سنى الدولة، وهم قضاة أخذت بأيديهم الأقلام من السهام سدادها، والسّجلات من النهار ما اتخّذت منه ومن الظلام مدادها. حكّام عرفوا الحقّ فسلكوا طرقه، وشرفوا السجل بعلائمهم بالقضاء وملكوا رقّة. وكان ابن الخياط في وقته ممّن له القدر العليّ، والصدر الرحيب لفضله الجلّي، وهو دمشقي الدار، شقي الحظ باللئام لا بغلبة الأقدار. هجي بما نبّه على جلالته، ونوّه بقدر أصالته، وشبّه على حسوده فأكدّ له المدح بما يشبه الذمّ، وأراد به النّقص في حقّه، وأراد الله خلافه فتّم، وتحيّل في إخفاء مسكه المتضوّع وريحه قد نمّ. ومن شعره الذي هو الدرّ تتزيّن به إلّا أنّه العنبر الذي يشمّ، قوله: [الوافر] إذا عاينت من عود دخانا ... فأوشك أن تعاين منه نارا «1» وما همم الفتى إلّا غصون ... يكون لها مطالبه ثمارا منها:

لقد لبست بك الدنيا جمالا ... فلو كانت يدا كنت السوارا «1» يضيء جبينك الوضّاح فيها ... إذا ما الركب في الظلماء حارا 409/وقوله من أخرى: [الطويل] يقيني يقيني حادثات النوائب ... وحزمي حزمي في ظهور النجائب «2» سينجدني جيش من العزم طالما ... غلبت به الخطب الذي هو غالبي وقوله: [الطويل] وما زال شوم الجدّ من كلّ طالب ... كفيلا ببعد المطلب المتداني «3» وقد يحرم الجلد الحريص مرامه ... ويعطى مناه العاجز المتواني وقوله: [الوافر] فلا تغر الحوادث بي فحسبي ... جفاؤكم من النّوب الشداد «4» إذا ما النار كان لها اضطرام ... فما الداعي إلى قدح الزناد وقوله: [البسيط] لئن عداني زمان عن لقائكم ... لما عداني عن تذكار ما سلفا «5» وإن تعوضّ قوم من أحبّتهم ... فما تعوّضت إلّا الوجد والأسفا ما أحدث الدّهر عندي بعد فرقتكم ... إلّا ودادا كماء المزن إن رشفا «6»

كالورد نشرا ولكن من سجيّته ... أن ليس يبرح غصنا كلّما قطفا وقوله: [الطويل] وكنت إذا ما اشتقت عوّلت في البكا ... على لجّة إنسان عيني غريقها «1» فلم يبق من ذي الدّمع إلّا نشيجه ... ومن كبد المشتاق إلّا خفوقها «2» فياليتني أبقي إلى الوجد عبرة ... فأقضي بها حقّ النّوى وأريقها منها: وخرق كأنّ اليمّ موج سرابه ... ترامت بنا أجوازه وخروقها «3» كأنّا على سفن من العيس فوقه ... مجاديفها أيدي المطيّ وسوقها وقوله: [البسيط] ألحّ دهر لجوج في معاتبتي ... وكلّما رضته في مطلب صعبا «4» 410/كخائض الوحل إذا طال العناء به ... فكلّما قلقلته نهضة رسبا منها: يا ربّ أجرد ورسيّ سرابله ... تكاد تقبس منه في الدجى لهبا «5» إذا نضا الفجر عنه صبغ حلّته ... أجرى الصباح على أعطافه ذهبا وقوله: [المتقارب]

صباح صبيح بأمثاله ... تقرّ العيون وتشفى الصدور «1» شربنا به العزّ صرفا فمال ... بنا طربا واتّقتنا الخمور وما لذّة السكر إلّا بحيث ... تغنّي المنى ويدور السرور وقوله في تهنئة بمولود: [الكامل] لم تلحظ الأبصار يوم ظهوره ... إلّا كؤوسا للسرور تدار «2» فغدوت تشرع في حلال مسكر ... ما كلّ ما طرد الهموم عقار وقوله يرثي: [المتقارب] بكيتك للبين قبل الحمام ... وأين من الثكل حرّ الغرام «3» وما كان ذاك الفراق المشت ... ت إلّا دخانا لهذا الضرام فأنشد مثواك عند الهبوب ... وأرقب طيفك عند المنام منها: وبكّتك كلّ عروضية ... ترنّ لها كلّ ميم ولام «4» إذا ضنّ عنك بنور الرياض ... حبتك غرائب نور الكلام وقوله: [الخفيف] يا نسيم الصّبا الولوع بوجدي ... حبّذا أنت لو مررت بنجد «5» أجر ذكرى نعمت وأنعت غرامي ... بالحمى ولتكن يدا لك عندي

411/ولقد رابني شذاك فباللّ ... هـ متى عهده بأطلال هند إنّ خير المعروف ما جاء لا سي ... ن سؤال فيه ولا واو وعد عاقدتني به الليالي فما تخ ... فر عهدي ولا تغيّر عقدي وقوله: [الوافر] وشعر لو يكون الشعر غيثا ... لبات ونوؤه الشّعرى الصبور «1» معان تحت ألفاظ حسان ... كما اجتمع القلائد والنحور وقوله: [الوافر] سأبكي والقوافي مسعداتي ... بندب من ثنائك أو مناح «2» إذا ما خانني دمع بليد ... بكيت بأدمع الشعر الفصاح وقوله يعاتب: [الطويل] لئن كان عزّي قبلها عن مودّة ... صديق لقد حقّ الغداة عزائي «3» وفي أيّ مأمول يصحّ لآمل ... رجاء إذا ما اعتلّ فيك رجائي أعيذك بالنفس الكريمة أن ترى ... مخلّا بغرض الجود في الكرماء وبالخلق السّهل الذي لو سقيته ... غليل الثرى لم يرض بعد بماء وقوله: [المتقارب] فياليتني لم أكن قبلها ... شغفت بحبّك يوما فؤادي «4»

فإنّ القطيعة أشهى إليّ ... إذا أنا لم أنتفع بالوداد ولولا شماتة من لا مني ... على بث شكرك في كلّ نادي وقولهم ودّ غير الودود ... فجوزي على قربه بالبعاد لما كنت بعد نيل الصفاء ... لأرغب في النائل المستفاد 412/ومنه قوله: [الطويل] وما هى إلّا حرمة لو رعيتها ... رعيت فتى عن شكرها لا يقصّر «1» كريما متى عاطيته كأس عشرة ... تعلّمت من أخلاقه كيف يشكر وقوله: [الكامل] يا محرقا بالنار جسم محبّه ... نار الجوى أحرى بأن تؤذيه «2» ولحرّها برد على كبدي إذا ... أيقنت أنّ تحرّقي يرضيه عذّب بها جسدي فداك معذّبا ... واحذر على قلبي فإنّك فيه وقوله: [السريع] أذلّني حبكم في الهوى ... فما حمتني ذلّة منكم «3» ومذهب ما زال مستقبحا ... في الحرب أن يقتل مستسلم وقوله في مخلص مديح: [الطويل] وخيل تمطّت بي وليل كأنّه ... ترادف وفد الهمّ أو زاخر اليمّ «4»

شققت دجاه والنجوم كأنّها ... قلائد نظمي أو مساعي أبي النّجم وقوله: [الطويل] عليكم سلام لم أقل ما يريبكم ... ولكنّه عتب تجيش به النّفس «1» حبست القوافي قبل إغضاب ربّها ... وما للقوافي بعد إغضابها حبس إذا العرب العرباء لم ترع ذمّة ... فغير ملوم بعدها الروم والفرس وقوله: [الطويل] خذا من صبا نجد أمانا لقلبه ... فقد كاد ريّاها يطير بلبّه «2» وإيّاكما ذاك النسيم فإنّه ... إذا هبّ كان الوجد أيسر خطبه خليليّ لو أحببتما لعلمتما ... محلّ الهوى من مغرم القلب صبّه 413/تذكّر والذكرى تشوق وذو الهوى ... يتوق ومن يعلق به الحبّ يصبه غرام على يأس الهوى ورجائه ... وشوق على بعد المزار وقربه وفي الركب مطويّ الضلوع على جوى ... متى يدعه داعي السقام يلبّه إذا خطرت من جانب الرّمل نفحة ... تضمّن فيها داءه دون صحبه ومحتجب بين الأسنّة والظّبا ... وفى القلب من إعراضه مثل حجبه «3» أغار إذا آنست في الحيّ أنّه ... حذارا عليه أن تكون لحبّه ويوم الرّضا والصبّ يحمل سخطه ... بقلب ضعيف عن تحمّل عتبه جلالي براّق الثنايا شتيتها ... وحلّاني عن بارد الورد عذبه فيالسقامي من هوى متجنّب ... بكى عاذلاه رحمة لمحبّه

ومن ساعة للبين غير حميدة ... سمحت بطلّ الدمع فيها وسكبه وقوله: [المتقارب] ويوم أخذنا به فرصة ... من العيش والعيش مستفرص «1» ركضنا مع اللهو فيه الصّبا ... وأفراسه مرحا تقمص إلى جنّة لا مدى عرضها ... يضيق ولا طلّها يقلص وشرب تعاطوا كؤوس المدام ... فما كدّروها ولا نغصّوا «2» سددنا بها طرقات الهموم ... فعادت على عقبها تنكص فلو همّ همّ بنا لم نجد ... طريقا إلينا بها يخلص لدى بركة حرّكت راؤها ... فليست تقلّ ولا تنقص تغنّى لنا طربا ماؤها ... وقامت أنابيبها ترقص 414/يريك الجواهر تقبيبها ... وهنّ طواف بها غوّص ومستضحك ذهبيّ الشفاه ... بما جزّعوا منه أو فصّصوا منيف يجرّ بذوب اللجين ... على ذهب سبكه المخلص ترى الطّير والوحش من جانبي ... هـ يشكو البطين بها الأخمص دوان روان فلا هذه ... تراع ولا هذه تقنص وفوّارة ما يفي وصفها ... جرير ولا رامه الأحوص كأنّ لها مطلبا في السماء ... فهي على نيله تحرص إذا ما وفا قدّها بالسموّ ... أخلفها عنق يوقص «3» وتوجّها الشّرب نارنجة ... فخلت المذّبة تستخوص

مشجّرة الماء تحليّه ... كجّمة شمطاء لا تعقص ودوح أغانيّ قمريّه ... تهزّ اللبيبو تسترقص وروض جلا النور خشخاشه ... تحار له العين أو تشخص فمن أبيض يقق لونه ... يروقك كافوره الأخلص ومن أحمر شابه زرقة ... حكى الوجنات إذا تقرص وقوله: [المتقارب] وباتت ثناياها عانيّة ال ... مراشف داريّة المنتشق «1» وبتّ أخالج شكّي به ... أزور طرا أم خيال طرق أفكّر في الهجر كيف انقضى ... وأعجب للوصل كيف اتّفق فللحبّ ما عزّ منّي وهان ... وللحسن ما جلّ منه ودقّ 415/وقوله: [الطويل] أغالب بالشكّ اليقين صبابة ... وأدفع في صدر الحقيقة بالوهم «2» فلّما أبى إلّا البكاء لي الأسى ... بكيت فما أبقيت للرسم من رسم وقوله: [الخفيف] ومن العجز أنّ شكري نسيء ... كلّ وقت وأنّ برّك نقد «3» كرم لا أبيت إلّا ولي من ... هـ على ما اقترحت زاد معّدّ وقوله: [الكامل]

لو كنت شاهد عبرتي يوم النّقا ... لمنعت قلبك بعدها أن يعشقا «1» ولكنت أوّل نازع من خطّتي ... يده ولو كنت المحبّ المشفقا وعذرت في أن لا أطيق تجلّدا ... وعجبت من أن لا أذوب تحرّقا كلني إلى عنف الصدود فربّما ... كان الصّدود من النّوى بي أرفقا قد سال حتى قد أسال سواده ... طرفي فخالط دمعه المترقرقا واستبق للأطلال فضلة أدمع ... أفنيتهنّ قطيعة وتغرّقا أو فاستمح لي من خليّي سلوة ... إن كان ذو الإثراء يسعف مملقا إنّ الظباء غداة رامة لم تدع ... إلّا حشى قلقا وقلبا شيّقا سنحت وما منحت وكم من عارض ... قد مرّ مجتازا عليك وما سقى ولكم نهيت الليث أغلب باسلا ... عن أن يرود الظبي أتلع أرشقا فإذا القضاء على المضاء مركّب ... وإذا الشقاء موكّل بأخي الشقا ولقد سريت إذا السماء تخالها ... بردا براكدة النجوم مشبرقا «2» والليل مثل السّيل لولا لجة ... تغشى الرّبى ما عمّ فيه وأعمقا وقوله من أخرى: [الطويل] 416/وما أنس لا أنسى الحمى وأهلّة ... تضلّ ومن حقّ الأهلّة أن تهدي «3» وما إن اخال الجهل فيه من النّهى ... وحبّ أعدّ الغيّ فيه من الرشد غنين وما نوّلن شيئا سوى الجوى ... وبنّ وما زوّدن شيئا سوى الوجد عواطف يعيى عطفها كلّ رائض ... ضعائف يوهي ضعفها قوّة الجلد

وقوله يشبه الهلال وفوقه كوكبان: [الكامل] لاح الهلال كما تعوّج مرهفا ... والكوكبان فأعجبا بل أطرفا «1» متتابعين تتابع الكعبين في ... رمح أقيم الصدر منه وثقّفا فكأنّه وقد استقاها فوقه ... كفّ تخالف أكرتين تلقّفا وقوله: [الكامل المرفل] لاح الهلال فما يكاد يرى ... سقما كصبّ شفّه الخبل «2» كالفتر أم كالحجل قد فتحت ... منه الكعاب لتدخل الرّجل والزهرة الزهراء تقدمه ... في الجوّ وهو وراءها يتلو كالقوس فوّق سهمها فبدا ... متألّقا في رأسه النّصل وقوله يصف النّرد: [الرجز] والنّرد كالناورد في مجالها ... أو كالمجوس ضمّها ما شوشها «3» كأنّها دساكر للشرب أو ... عساكر جائشة جيوشها وللفصوص جولة وصولة ... تحيّر الألباب أو تطيشها قاتلها الله فلا بنوجها ... يرقع لي رأسا ولا يشوشها أرسلها بيضا إذا أرسلتها ... كأنّها قد محيت نقوشها 417/كأنّ نكرا أن أبيت ليلة ... مقمورها غيري أو مقموشها كأنّني أقرأ منها أسطرا ... من الزبور درست رقوشها تطيع قوما عمّهم نصوحها ... وخصّني من بينهم غشوشها

40 - أبو الحسن علي بن الحسن بن علي بن أبي الطيب الباخرزي

يجيبهم متى دعوا أخرسها ... وإن يقولوا يستمع أطروشها مذبذبين دأبهم غيظ فما ... تسلم منهم عيشة أعيشها كأنّ روحي بينهم أيكيّة ... راحت وكفّ أجدل تنوشها وقوله: [الكامل] لم يبق عندي ما يباع بحبّة ... وكفاك شاهد منظري عن مخبري «1» إلّا بقيّة ماء وجه صنتها ... عن أن تباع وأين أين المشتري وقوله: [المتقارب] مرضت فهل من شفاء يصاب ... وهيهات والداء طرف وجيد «2» ويا حبّذا مرضي لو يكو ... ن ممرضي اليوم فيمن يعود أيا غرم ما أتلفت مقلتاه ... وقد يحمل الثأر من لا يقيد ومنهم: 40- أبو الحسن علي بن الحسن بن علي بن أبي الطيب الباخرزي «3»

مؤلف [دمية القصر] «1» كتابا طرّزه بأدبه، وطرّفه بذهبه. وذكر له فى أثنائه درر كلم تنطق بثنائه. وكان في أوّل حاله فقيها صحب الجويني والد إمام الحرمين «2» صحبة أثمرت أفانينها، وعمرت بالفوائد أحايينها، ثمّ شغل بالأدب ورقم طرزه، ونظم درّه لا خرزه. ما نسب بالباخرزي إلّا إلى باخرز «3» ، ولا حسب له إلّا الجوهر، وما هو من ذلك الطّرز. وباخرز ناحية من نواحي نيسابور أخرجت جماعة من الفضلاء، وما خرّجت جماعة إلّا بالغلاء. وصادف الهوى قبولا من قابليته انطبع في مرآته،/ 418/وانقطع كلّ سابق عن مجاراته، واحتاج كلّ من يؤثر عنه من هذا الشان إلى مداراته لحسن يحسن في إظهاره، وقبيح يحمل في مواراته توقّعا لما يقوله في الدمية أو توقّيا واتّقاء منه إذ يسم هذا انحطاطا

وهذا ترقّيا، فكم خلّص واحدا من عاب، وأحلّ آخر علياء الشّعاب، وكسى آخر فخرا لا يبلى جديده ولا يقصر مديده، وترك آخر نجابه عرضه منجى الذباب، وخيف ضرره خيفة الوزغ لا الحباب. وكان ذا ذهن حدّ لا يصدأ صقيله، ولا يهدأ في المباحث صليله، ولا يعرف شرار النار إلّا أن يكون هو أو سليله، ولا طريق إلى الاختراع إلّا في شعره وما هو سبيله، ولا رحيق المراشف إلّا ما أداره لمى غزاله أو سلسبيله ببدائع ما الروض غاداه السّحاب، وهداه السخاب، ومرّ به النسيم مثل الجلباب معتل الهبوب في طفل الشباب، قد أخذت الأرض زينتها وجبلت بكافور القطر الذائب في عنبر الأرض طينتها حتى تسلسل ماؤها وهو مطلق وأطلق فيها النظر وهو موثق، وتجاوبت قيان ورقها الصّوادح، وتطايرت شرارات جلّنارها في كفّ كلّ قادح، وبرزت شقائقها مجامر، وبدت مخاضات أقاحها معابر، وتوردّ وردها بالخجل حياء من مقل النرجس، وطال لسان سوسانها عتابا على المنثور حيث أجلس، وتنمّر البنفسج في ورقه وازرقّ من حنقه، وبان على البان في قضبه، وعلى باقي الزّهر ما فرّ به إلى رؤوس كتبه، إلى غير هذا من محاسن جمعت، وميامن أودعت بأبدع من تلك البدائع، ولا بأبدع من ذلك الفضل الرائع. وسنورد من بديعه ما يشقّ كتمانه على لسان مذيعه، منه قوله: [الطويل] وذي زجل والى سهام رهامه ... وولّى فألقى قوسه في انهزامه «1» 419/ألم تر خدّ الورد مدمى لوقعها ... وأنصلها مخضوبة في كمامه وقوله: [المنسرح] ومطرب صوته وفوه ... قد جمعا الطيّبات طرّا «2»

لو لم يكن صوته بديعا ... ما ملأ الله فاه درّا وقوله وقد أصابه مع محبوبه جرب: [الطويل] لنا جرب بين البنان نحكّه ... رضينا به والكاشحون غضاب «1» وكنّا كمثل الماء والخمر صحبة ... علاها بطول الامتزاج حباب وقوله: [الطويل] وإنّي لأشكو لسع أصداغك التي ... عقاربها في وجنتيك نجوم «2» وأبكي لدرّ الثغر منك ولي أب ... فكيف نديم الضحك وهو يتيم وقوله في شدّة البرد: [الكامل] لبس الشتاء من الجليد جلودا ... فالبس فقد برد الزمان برودا «3» كم مؤمن قرصته أظفار الشتا ... فغدا لسكّان الجحيم حسودا وترى طيور الماء في وكناتها ... تختار حرّ النار والسّفودا فالرّيق في الأشداق أصبح جامدا ... والدّمع في الآماق صار برودا «4» وإذا رميت بفضل كأسك في الهوا ... عادت عليك من العقيق عقودا يا صاحب العودين لا تهملهما ... حرّق لنا عودا وحرّك عودا وقوله من أبيات: [البسيط] يا فالق الصبح من لألاء غرّته ... وجاعل الليل من أصداغه سكنا «5»

بصورة الوثن استعبدتني وبها ... فتنتني وقديما هجت لي شجنا لا غرو أن أحرقت نار الهوى كبدي ... فالنار حقّ على من يعبد الوثنا «1» 420/ومنه قوله: [الطويل] زكاة رؤوس الناس في عيد فطرهم ... بقول رسول الله صاع من البرّ «2» ورأسك أغلى قيمة فتصدّقي ... بفيك علينا فهو صاع من الدرّ ومنه قوله في معذّر يكتب خطّا مليحا: [الكامل] قد قلت لمّا فاق خطّ عذاره ... في الحسن خطّ يمينه المستملحا «3» من يكتب الخطّ المليح لغيره ... فلنفسه لا شك يكتب أملحا وقوله: [الكامل] قالوا التحى ومحا الاله جماله ... وكساه ثوب مذلّة ومحاق «4» كتب الزمان على محاسن خدّه ... هذا جزاء معذّب العشّاق ومنه قوله: [مخلع البسيط] عجبت من دمعتي وعيني ... من قبل بين وبعد بين «5» قد كان عيني بغير دمع ... فصار دمعي بغير عين وقوله: [البسيط]

وشاغل بالنّوى قلبي ليجرحه ... أمسى جريحا بنزع الروح مشغولا «1» مشى برجليه عمدا نحو مصرعه ... ليقضي الله أمرا كان مفعولا ومنه قوله: [الكامل] إنّي لأعجب من عقارب صدغه ... سلمت وملعبها خلال حريقه «2» وتظلّ ترقص فوق وردة خدّه ... طربا إذا شربت مدامة ريقه وقوله: [الوافر] رنا ظبيا، ذكا وردا تثنى ... قضيبا، ماج دعصا لاح بدرا «3» يسائل كيف حالك بعد عهدي ... فديتك ما السؤال وأنت أدرى ومنه قوله: [الوافر] 421/عزاؤك أن حبست وليس عيبا ... فتلك الراح تحبس في الدّنان «4» وهذا الورد قد يزداد طيبا ... إذا حبسته أطراف البنان وصبرك إن ضربت فليس عارا ... كذلك يضرب السيف اليماني ومنه قوله: [الطويل] يروقك بشرا وهو جذلان مثلما ... تخاف شباه وهو غضبان محنق «5» كذا السيف في أطرافه الموت كامن ... وفي متنه ضوء يروق ورونق

[ومنه قوله] «1» : [الكامل] قالت وقد ساءلت عنها كلّ من ... لاقيته من حاضر أو بادي «2» أنا في فؤادك فارم طرفك نحوه ... ترني فقلت لها: وأين فؤادي؟ ومنه قوله: [المتقارب] أطلت الحنين وزدت الأنين ... وأصبحت من سوء حالي بحال «3» كذاك القسيّ تطيل الأنين ... إذا كلّفوها فراق النبال وقوله في مليحة مات أبوها فأفرط بها الجزع عليه: [الطويل] ودرّة حسن أنفدت حسن صبرها ... وفاة أبيها فهي تبكي وتجزع «4» فقلت اصبري فاليتم زادك قيمة ... أليس يتيم الدرّ أبهى وأبدع وقوله في ذمّ الشراب: [البسيط] لا تسقنيه فإنّي أيّها الساقي ... أخاف يوم التفاف الساق بالساق «5» هذا الشراب تهيج الشرّ نشوته ... فميّز الشرّ عنه واسقني الباقي وقوله في عيادة: [الخفيف] لا يروعنّه الذبول فقدما ... قد حمدنا من القناة الذبولا «6» ونسيم الرياض لا يكتسي الصّح ... حة إلّا بأن يهبّ عليلا 422/ومنه قوله: [الكامل]

لا تنكري يا عزّ إن ذلّ الفتى ... ذو الأصل واستغنى لئيم المحتد «1» إنّ البزاة رؤوسهنّ عواطل ... والتاج معقود برأس الهدهد وله نثر يروع حالية العذارى، وتغور منه الدرّاري غيارى، ويريك السامعين من الطرب سكارى، وما هم بسكارى ولكنّها نشوة استحسان، ونشأة روح وريحان. منه قوله في خطبة الدمية «2» ، وقد حمد الله وأثنى عليه، وانتهى إلى ذكر النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال حيث ساق الصلاة والتسليم إليه: صلاة تكبو بالإضافة في حلبات نسيمها دخن الكباء «3» ، وتسرّ باستعارة نفحات سميمها سرر الظباء وما نفجت «4» السحب بذنابها ولألأت الفور «5» بأذنابها، وأقول: إنّي لم أزل قلق التشوّق إلى التفكّه بثمار الأدب الغضّ، صادق الرغبة في أخذ الحظّ من راحه بالغبّ ومن تفّاحه بالعضّ، وارتفع عن مثاقفة المعلمين أمري، وكبر عن تقلّد طوقهم عمري، ثاقب العزيمة كما يلسن في الظلام شواظ النار، نافذ الصّريمة، كما طنّ في العظام ذباب البتّار مغرما بمطالعة الكتب. ألزمها العين شطرا فشطرا، وأكاد أقشرها بمحكّ النّظر سطرا فسطرا، وبلغني أنّ بعضا من جناة ثمرتي ورماة مدرتي «6» ، يزعم أنّ عليّا قد أنجب به إزمان والديه، وليس كذا ولا ردّا عليه، ولكن ربّما أخلف وميض المزن الواعد، وكذب صلف «7» تحت الغيم الراعد، وما عندي من هذه الصّناعة إلّا تكثير سوادها. وإن كنت

فسكل «1» آمادها ولما أضرّ بي طول الجمام «2» ،/423/وقرمت «3» إلى علك شكيمة اللّجام، خلعت عذاري على الاستنان «4» ، ورقصت مرحا في سير العنان، وعهد الصّبا مخيّم ما انتقل، والوجه بالنبت موشم همّ وما بقل «5» ، والخطّان المتورّدان من يمينه ويساره لم يتصافحا، والضّدّان المتناقضان من ليله ونهاره لم يتصالحا. ومنه: وسرت والمشيّعون يذرّون على الهواء فتات الأكباد، والمودّعون يزرّون لعناق التوديع أعضادهم على الأجياد، فلم يحفل بحمارّة «6» قيظ جوّها محموم ورشحها يحموم، يتوسّد وحشها ظل الأرطاة «7» ، وتسجر رمضاؤها وطيس الأفحوص «8» على القطاة، واعتنق على التهاب الضّرام أمرها، والتقط النقاط النعام جمرها، وكفى بالعلم مفخرا، يقدع به أنوف المفاخرين، وبالثّناء الجميل مدّخرا، وهو لسان الصدق في الآخرين. ومنه: وقد وليت وجهي شطر الفضلاء والوجاه، وبسطت حجري لالتقاط درر الشّفاه، وتركت اليراعة، التي هي أنبوب من رمح البراعة، يطول انضمامها إلى أناملي سادسة لخامسها، والمداد الذي هو مستسقى أرشية «9» الأقلام منهلا منهلا لخوامسها، لا جرم أحمدت سراي عند الصّباح، ونادى بي داعي الخير: حيّ على الفلاح، وهيّأ الله لي من

أمري رشدا، وثمّر لي من طول معاناة المخض زبدا، وتحقّق لي كلّ ظن بما تجمّع لي من كل فنّ، فكأنّ الأرض ذلّلت لي على امتناع جوانبها، فمشيت في مناكبها، وزويت لي الفضلاء من مشارقها ومغاربها، وكأني في تخليد آثارهم وتجديد الدارس من آثارهم، قبلّي من اللواقح السواحب، ذيولها على الأرض الخاشعة إحياء لمواتها أو ربعي من السوافح النوافخ في صور رعدها على الرّوضة الهائجة إنشارا لنباتها. فلله سلّم فيه ارتقيت وأعيان بهم التقيت، ونجوم بأيّهم اقتديت اهتديت، وإن لم يتيسّر الوصول إليها والفراغ/ 424/منها، إلّا وقد وخط القتير، وطلع النذير، وانضمّ الخيط الأبيض من الفجر إلى الخيط الأسود من الشّعر، فخلّى الفود مشتعلا والفؤاد مشتغلا، وأضاف الذّود إلى الذود فصارت إبلا. ومنه في تقريظه لبعض من لقيه «1» : عهدته بها وبنانه ضرّة المزن في السخاء، ولسانه خليفة السيف في المضاء. فهؤلاء سادات من عظام الصّدور وصارت صدورهم عظاما، وكبار من هامات الرءوس أطارت رؤوسهم هاما: [الطويل] ربا حولها أمثالها إن أتيتها ... قرينك أشجانا وهنّ سكون. وقد بعثرت من دفائنهم ما تعظم أخطاره عند أولي المروءة، وملكت من خزائنهم ما إنّ مفاتيحه لتنوء بالعصبة أولي القوّة ثم نقف منهم على أطلال الماضين نترسّمها، ولا نكاد نعيّنها إلّا أواريّ «2» لأيا ما أبيّنها، فنباكي حمام الأيك شجوا، ونصوغ على وزان أسجاعها شدوا. ومنه وما أشبّه ذلك الفاضل إلّا بخصب ورثناه في رحالنا من أمداد سيول غاضت فعشنا في معروفها بعد غيضها، أو بعنبر دسره «3» إلى سواحل أمصارنا أمواج بحور فاضت فتلّهفنا

على فوات فيضها، فأصبح كلّ منهم ممتلئ الصّرة على فراغ الجنان مثنيّ الحقيبة على سكوت اللسان، فهي الرتبة العالية قرّبت درجاتها للمرتقين، والجنة العاجلة أزلفت طيّباتها للمتقين. ومنه: وهذا حين أسوق صدر الكتاب إلى العجز، كما يساق الماء إلى الأرض الجرز. وكنت على ألّا أوارد الثّعالبيّ في يتيمته، ولا أزاحمه في كريمته، إلّا ما تجذبني شجون الأحاديث إليه، فأفرغ كلامي عليه. ممّن رأيته فكان لقاؤه لعيني كحلا، أو سمعت به فكانت أخباره/ 425/لسمعي نحلا، ولولا تكرار الكؤوس لما استقرّت الأطراب في النفوس، ولا استقلّت صبابة الخمار عن الرءوس، والحياة على حسن مساقها وطيب مذاقها ما جاوزت النّفس إلا ودّت معاده، وحبّها لكلّ من الحيوانات عادة. حتى إنّها لا تملّ إذا كرّرت عليها، ولا تكره إذا ردّت إليها، فإنّ في الزّوايا منهم بقايا، قد أرخي لهم إلى عصرنا هذا طول البقاء، وبقي ممّا أسأرته «1» شفاه الفناء، صبابة في قعر الإناء، وأنا إذا على ذكر شعراء العصر جريدة فريدة، ثم انتهيت إلى مكانهم منها، فأسقطت شذورهم من النّظام، وطفرت إلى من وراءهم طفرة النظّام، لمن آمن أن يقال: هذا رجل ضيق العطن، قصير الشّطن، قليل الثّبات، نزق الوثبات، يتخطّى رقاب الأحياء إلى رفات الأموات والوجه يملكه الحياء، وما يستوي الأموات والأحياء. ومنه: وألّا أستعير من تلك الحقائق حليّا، ولا أن أرعى من تلك الرّياض خليّا، وأقتصر من ذلك الأديم على مقدود من السّير، وأسلو بغثيّ عن ثمين الغير، فالضّرغام على اقتضاض مضجعه من الرّغام، لا يفترش غير إهابه عند المنام، وسينقل إليك من فرائد أشعارهم من جوّد نقلها أو لم يجوّد، ويأتيك بنوادر أخبارهم من زودته أو لم تزوّد. وما كلّ من نشر

41 - الوزير شرف الدين، أبو الحسن علي بن الحسن بن علي البيهقي

أجنحته بلغ الإحاطة، ولا كلّ من نثر كنانته قرطس الحماطة. وقال بعد الفراغ من الخطبة: لمّا كان كتابي هذا بين رعايا الكتب أميرا، أمطيته من عروش الإمارة سريرا، وجعلت رأسه بسماء الفخر مظلّلا، وبتاج العزّ مكلّلا. ثم أخذ يذكر الخليفة القائم بأمر الله، وساق شعرا له في مدحه. منه قوله: [البسيط] أليس من عجب أنّي ضحى ارتحلوا ... أوقدت من ماء دمعي في الحشا لهبا وأن أجفان عيني أمطرت ورقا ... وأنّ ساحة خدّي أنبتت ذهبا 426/أأن توقد برق من جوانبهم ... توقد الشوق في جنبيّ والتهبا؟ كأنّ ما انعقّ عنه من معصفره ... قميص يوسف غشّوه دما كذبا منها: ومهمه يتراءى آله لججا ... يستغرق الوخد والتّقريب والخببا تصاحب الريح فيه الغيم لم ينيا ... أن يشركا في كلا حظّيهما عقبا فالريح ترضع درّ الغيم إن عطشت ... والغيم يركب ظهر الريح إن لغبا أنكحته ذات خلخال مقرّطة ... والرّكب كانوا شهودا والصّدى خطبا ومنهم: 41- الوزير شرف الدين، أبو الحسن علي بن الحسن بن علي البيهقي «1»

وزير لا تقتحم لججه، ولا تخصم حججه، بلسان طلق، وسنان ذلق، وبيان ترجم ما في صدور الخلق، وإحسان لو تطلّبت مثله لم تلق. تقلّبت به الأحوال تقلّب الأيام والليّال، وتصرّفت به الدهور تصرّف السنين والشهور، ولم يكسه طول المدّة إلّا جدّة، ولم يكسبه تصريف الزمان إلّا تشريف المكان، وما زال في قطر المشرق أفقه المشرق الطالع، ومفرقه الذي يحتقر له التيجان ولو رصّعت بالنجوم الطوالع. شرفت به بلاد العجم شرفا ما له براح، وعرفت له مهابة لو أذمّ بها الليل لما هجم عليه الصباح، وكان صدر خراسان وملء صدر كلّ انسان، بدرا لا يدركه السرار، وعودا لا ينهكه السّفار. طود نهى، وجود لهى «1» ، وكان في دولة آل سلجوق لمعاقد الوزارة مرشّحا، ولقلائد السفارة موشحّا، ودفعه تصريف الدهر في صدره دفعة أقعدته على عجزه، وردّته ردّة عاد بها إلى أوّل مركزه لولا كرم رجل انتاشه، وأضفى كذنب الطاووس رياشه، وصحبه حتى قد قدمت الجنائز تهزّ نعوشها، وتصرّمت بقايا ليال كان يعيشها. وقد ذكره العماد الكاتب في الخريدة،/ 427/وآثره بالصفات الحميدة «2» . ومن أشعاره التي تدبّ كالخمر في المفاصل، وتهبّ كنار المضاء في بريق المناصل،

42 - سعد بن علي الحظيري الكتبي

قوله: [السريع] كأنّما بغداد في جانبيّ ... بنيتها حبّ له عاشق والحسن ما بينهما فاقد ... والنهر من غيرته خافق ومنه قوله: [الطويل] تشير بأطراف لطاف كأنّها ... أنابيب مسك أو أساريع مندل «1» وتومي بلحظ فاتر الطرف فاتن ... بمرود سحر بابليّ مكحّل ينمّ على ما بيننا من تجاذب ... نسيم الصّبا جاءت بريّا القرنفل وقوله: [السريع] يا خالق العرش حملت الورى ... لمّا طغى الماء على جاريه «2» وعبدك الآن طغى ماؤه ... في الصّلب فاحمله على جاريه ومنهم: 42- سعد بن علي الحظيري الكتبي «3»

محظور على غيره البلاغة، محذور البيان فلا يؤمّل بلاغه، قرأ واطّلع وامتلأ واضطلع حتى ألّف وجمع، وصنّف ما أضاءت له هذه اللّمع، وله من سرّ الصناعة ما يحقّ له به أن لا يبوح لا بل هو المسك أقلّ رتبة أن يفوح، والبدر لو جهد الغمام في إخفائه لا بدّ أن يلوح، والسجع المطرب فلا غرو للحمام لقصوره عنه أن ينوح. وله تأليفات أبدعها، وأودعها فوائد نوّعها، وفرائد في عقود الآداب رصّعها منها زينة الدهر، نحى بها منحى اليتيمة، ومنها لمح الملح، ويشتمل على بديع أجاد تقسيمه لمن أراد تعليمه «1» . وممّا نذكره من جنيه الملتقط، وشهيّه الذي لا يلام من ترك المدام، واقتصر عليه فقط. / 428/قوله، وقد أثبت شيئا من شعره في خاتمة زينة الدهر: [السريع] هذا كتاب قد غدا روضة ... ونزهة للقلب والعين «2» جعلت من شعري له عوذة ... خوفا وإشفاقا من العين ومنه قوله: [البسيط] شابت ذوائب صبري يا معذّبتي ... في ليلتي وعذار الليل لم يشب ودون صبحي ستر من زمرّدة ... مسمّر بمسامير من الذّهب وقوله: [الطويل] شكوت إلى من شفّ قلبي ببعده ... توقّد نار ليس يطفا سعيرها فقال: بعادي عنك أقرب راحة ... فلولا ارتفاع الشمس أحرق نورها وقوله: [مخلع البسيط]

قد حجبت شمس وجنتيه ... سحاب شعر من العذار فاعتضت من حرّها ببرد ... وقرّ في حبّه قراري وقوله: [السريع] مدّ على ماء الشباب الذي ... بخدّه جسرا من الشّعر «1» صار طريقا لي إلى هجره ... وكنت فيه موثق الأسر وقوله: [الخفيف] أحدقت ظلمة العذار بخدّب ... هـ فهاجت في حبّه زفراتي «2» قلت: ماء الحياة في فمه الآ ... ن فدعني أخوض في الظلمات وقوله: [مجزوء الكامل] إن لم ينم لك وهو أم ... رد، نام وهو معذّر «3» والنوم يعسر في النها ... ر وفي الدّجى يتيسّر وقلت في معناه: [الكامل] قد كان أمرد فالتحى وبدت على ... كافور وجنته سحائب عنبر 429/وتسهّلت للعاشقين حباله ... من بعد طول تمنّع وتعسّر فكأنّه نوم تيسّر في الدجى ... لمّا تعذّر في الصباح المسفر وقوله: [الخفيف] كنت فيما مضى أحبّ فلانا ... وثناني عنه سواد العذار

نار وجدي توقّدت فوق خدّي ... هـ وهذا رماد تلك النار وقوله: [مخلع البسيط] وذات طرف قد طرّفته ... تسبق في الوهم كلّ نعت «1» كأنّه في البياض علمي ... قد اختبا في سواد بختي وقوله: [الكامل] قالوا: به عرج فقلت: ضللتم ... حاشاه أن تسطو العيون عليه «2» ما ذاك من عرج به لكنّها ... قدماه لم تنهض برادفتيه وقوله: [السريع] كأنّني الحمّام من زفرتي ... وأدمعي الهامية الجاريه الماء يجري من أنابيبه ... والنار في أحشائه واريه وقوله: [السريع] (نصر) علينا زاد في تيهه ... وهجونا ينقص من مجده «3» والظّفر إن أسرف في طوله ... يردّ بالقصّ إلى حدّه وقوله: [المنسرح] وأشقر الشعر من لطافته ... يجرح لحظ العيون خدّيه «4» فإن بدا من يشكّ فيه فلي ... شاهد عدل من لون صدغيه

وقوله: [المنسرح] وأشقر الشّعر بتّ من كلفي ... به على النار من محبّته «1» كأنّ صدغيه في احمرارهما ... قد صبغا من مدام وجنته 430/ومنه قوله: [البسيط] ما اشقرّ شعر حبيبي إنّ وجنته ... سقته من خمرها يوما وقد خجلا «2» وإنّما لفحت خدّيه من كبدي ... نار ودبّت إلى صدغيه فاشتعلا وقوله: [المنسرح] تحت فم الحبيب شامة كملت ... حسنا وحاز الجمال مبسمه كأنّها قد غدت تراصد أن ... يغفل عنه الواشي فتلثمه ومنه قوله: [الخفيف] قل لمن عاب شامة لحبيبي ... دون فيه: دع الملامة فيه «3» إنّما الشامة التي قلت عيب ... فصّ فيروزح لخاتم فيه وقوله: [مخلع البسيط] أقول والليل في امتداد ... وأدمع الغيث في انفساح أظنّ ليلي بغير شك ... قد بات يبكي على الصّباح ومنه قوله: [الكامل] وخريدة قبّلتها وجبينها ... فلق الصباح وشعرها جنح الدّجى

وقرصت خدّيها لأجني وردها ... فكأنّما أنبتّ فيه بنفسجا وقوله: [السريع] قد وضع الكفّ على كشحه ... وسمعه مصغ إلى المنشد «1» خاف من الردف على خصره ... فقد غدا يمسكه باليد ومنه قوله: [الكامل] قد كان يجمع صحبة وقرابة ... فتفرّقوا عنه لكثرة ماله مثل الهلال ترى الكواكب حوله ... فإذا استتمّ تناقصوا لكماله وقوله: [الكامل] لم يحبس المولى الكريم نواله ... بخلا عليّ ولم يكن بالسّاخط «2» 431/أنشدت في علياه شعرا باردا ... والبرد يقبض كل كفّ باسط وقوله: [الطويل] بدا الشيب في فودي فأقصر باطلي ... وأيقنت قطعا بالمصير إلى قبري «3» أتطمع في تسويد صحفي يد الهوى ... وقد بيّضت كفّ النّهى حسبة العمر ومنه قوله: [الطويل] ومستحسن أصحبت أهذي بذكره ... وأمسيت فى شغل من الوجد شاغل «4» وعارضني من سحر عينيه جنّة ... وقيّدني من حبّه بسلاسل

وقوله: [المتقارب] لئن قيل أبدع تشبيهه ... ولم يكس معناه لفظا سليما «1» فمن عنب الكرم تجنى السلاف ... وإن لم يكن غصنه مستقيما ومنه قوله لغز في القلم: [الوافر] وممشوق القوام إذا تثنّى ... رأيت الحسن في ذاك التثنّي تراه يطابطون البيض طورا ... وطورا فوق أظهرهنّ يمني يواصل في الشباب فحين يبدو ... مشيب الرأس يعروه التجنّي ومنه قوله: [البسيط] لمّا حنى الشيب ظهري صحت وا حزنا ... دنا أوان فراق الروح للجسد «2» أما ترى القوس أحني ظهرها فدنا ... ترحّل السهم عنها وهي في الكبد ومنه قوله لغز في الناعورة: [المتقارب] وصامتة تتغنّى لنا ... وأدمعها بين سفح وسفك تراها كذا أبدا ودهرا ... تدور على غير شيء وتبكي وقوله: [الهزج] إذا المعنى عدا الشعر ... فتعليقي له جهل 432/ولولا الدّر في البح ... ر لما كان له فضل

43 - القاضي ناصح الدين أبو بكر أحمد بن محمد الأرجاني.

ومنهم: 43- القاضي ناصح الدين أبو بكر أحمد بن محمد الأرّجاني «1» . قرأ الفقه حتى ثبت ورسخ، والأدب حتى نبت غصنه وما فسخ، وكتب حتى ظنّ خطّ العذار البديع أنّه ممّا نسخ. وحصل جوائز الثناء من بعض ما به رضخ، وصاد المعاني وما امتدّ له من النجوم شباك ولا نصب له من الهلال فخّ. إمام في الغوص لا يبلغ مبلغه، وغمام لا شيء يفرغه، ومورد فضل لكلّ وارد يسوغه، ومقصد أمل أقلّ رتبة أنّه يبلغه. تفقّه أوّل زمانه ثمّ تأدّب، وتنبّه به خصب التحصيل وما كان أجدب، وولي قضاء تستر، وعسكر مكرم، ووجد الكرامة من كلّ مكرم، وهو ممّن أثنى عليه ابن سعيد ثناء صريحا، بل جعل له غناء لا يدع إلّا من هو من فواضل غناه مستميحا، [] «2» له حلل هذا التقريظ الأريض وحلي ذهب هذا الوميض، إذ كان لا يلزّ بقرين في القريض، ولا يستفزّ بقريب ولا بعيد معه يفيض، من كلّ قصيدة تسكن الأوج والنجوم حضيض، ومعنى أسحر من الجفن الصحيح المريض، وأبعد في التصوّر من اجتماع النقيض والنقيض، بخاطر إناؤه بالذكاء يفيض وقلب

قراره للأذن مغيض، وذهن تطاير شرارا، وفنّ تناثر كواكب لا تعدم الهلال سرارا، وعني بجمع ديوان شعره العماد الأصفهاني الكاتب، وعلا به أشرف المراتب، ولأهل بلاد العجم فيه رغبة الضنين، وطربة الحنين، على أنّه ليست من تراب العجم طينته، ولا إلى أتراب فارس سكينته، وإنّما سكن بلاد فارس سلفه فغلب على نسبه العربيّ نسبته العجميّة حتى غطّى على نهاره سدفه. قال العماد الكاتب في حقّه في الخريدة «1» :".... وهو وإن/ 433/كان في العجم مولده فمن العرب محتده، سلفه الكريم من الأنصار لم يسمح بنظيره في سالف الأعصار، أوسيّ الأسّ خزرجّيه قسيّ النّطق إياديّه، فارسيّ القلم، وفارس ميدانه، وسلمان برهانه، من أبناء فارس نالوا العلم «2» المتعلّق بالثريّا. جمع بين العذوبة والطيب في الريّ والريّا". انتهى كلام العماد. ومختاره الذي لا يثلم له غرار «3» ، ولا يهدم له منار، قوله: [الكامل] علق القضيب مع الكثيب بقدّه ... متجاذبين لحسنه وبهائه «4» حتى إذا خافا النزاع تراضيا ... للفصل بينهما بعقد قبائه «5» ذو غرّة كالنجّم يلمع نوره ... في ظلمة أخفته من رقبائه أترعت في حجري غديرا للبكا ... فعسى يلوح خيالها في مائه

بيضاء لما آيست من وصلها ... وبدت بدوّ البدر وسط سمائه «1» ومنه قوله: [الخفيف] وعدت باستراقة للقاء ... وبإهداء زورة في خفاء «2» ثمّ غارت من أن يماشيها ال ... ظلّ فزارت في ليلة ظلماء ثمّ خافت لمّا رأت أنجم الل ... ليل شبيهات أعين الرقباء فاستنابت طيفا يلمّ ومن ... يملك عينا تهمّ بالإغفاء «3» هكذا نيلها إذا نوّلتنا ... وعناء تسمّح البخلاء لست أنسى يوم الرحيل وقد غر ... رد حادي الركائب للإفضاء «4» فتباكت ودمعها كسقيط الط ... لّ في الجلنّارة الحمراء وأرت أنّها في الوجد مثلي ... ولها للفراق مثل بكائي 434/فترى الدّمعتين في حمرة الل ... لون سواء وما هما بسواء وقوله: [الكامل] يا دمية من دون رفع سجوفها ... خوض الفتى بالخيل بحر دماء «5» دمعي وبخلك يسلكان طريقة ... تغني عن الواشين والرّقباء ومنه قوله: يا ماءها أنا من فنائك راحل ... فلقد أطلت ولم ينلك رشائي «6»

بخل الغمام عليك بخلك ظالما ... وجفا ذراك كما أطلت جفائي وإذا تفروزت المياه بخضرة ... فبقيت غير مدبّج الأرجاء «1» وإذا الربيع كسا البلاد برودة ... فتجاوزتك فسائح الأنواء «2» وقوله: [الطويل] وإنّي لأستشفي بسقم جفونها ... وهل عند سقم مطلب لشفاء «3» ولمّا تلاقينا وللعين عادة ... تثير وشاة عند كلّ لقاء بدت أدمعي في خدّها من صقالة ... فغاروا وظنّوا أن بكت لبكائي وممّا شجاني والزمان مقوّض ... حمائم غنّت في فروع أشاء وما خلت ألحان الأعاجم قبلها ... تشوق وتشجو علية الفصحاء وما ذكّرتني ما نسيت من الهوى ... بحال ولكن طربة بغناء وقوله منها في المديح: أغرّ يطيف العين من نور وجهه ... بشمس سماح لا بشمس سماء «4» سل العيس عنه هل وردن فناءه ... فأصدرن عنه الوفد غير رواء 435/وهل ينظم الأقران في سلك رمحه ... بطعن كتفصيل الجمان ولاء فلله ما ضمّت حمائل سيفه ... لداعي الندى من هزّة ومضاء وقوله: [الرمل]

بكروا والصّبح في طيّ الدّجى ... وجه حسناء حيّي في خباء «1» وحداة العيس ينفون الكرى ... ويطيرون المطايا بالحداء كلّ وجناء إذا ما طرّبوا ... عطّت البيد بهم عطّ الملاء وإذا ما ادّرعت هاجرة ... جعل الظلّ لها مثل الحذاء ومنه قوله في وصف تركي، والترك لا تنطق بالفاء، لأنّها لا رهن لها قولا بالوفاء، وأبدع في البيت الثاني، وأودع فيه ما زاد على سياق المعاني وهو: [الخفيف] كيف يسخو لنا بفعل وفاء ... ذو لسان خال من اسم الوفاء «2» كيف يصحو من سكرة التيه بدر ... ما خلافوه قطّ من صهباء ومنه قوله: [الطويل] وقالت لي الحسناء غالطت ناظري ... وبعض بكاء العاشقين خلاب «3» وما ارتاب بي الأحباب إلّا بأنّهم ... إذا نظروا كانوا الذين أرابوا وقوله: [الطويل] فإن تسلبوا القلب الذي في جوانحي ... فإنّي إليكم بعده لطروب «4» فنحن أناس للحنين كأنّما ... خلقنا جسوما كلّهن قلوب ومنه قوله: [الكامل] حلفت بإنضاء السّفار ذوائب ... عليهنّ أنجاب وهنّ نجائب «5»

لأدرعنّ الليل أسحب ذيله ... إلى أن يرى فرع من الصّبح شائب بصحب لهم بيض السيوف أضالع ... وعيس عليهنّ الرجال غوارب 436/ومنه قوله، وهو وإن كان مطروقا، فإنّه لمكان الزيادة فيه موموقا: [الطويل] وقد ماج للأبصار بحر صبيحة ... به الشّهب درّ بين طاف وراسب «1» وأهوى الثريّا للأفول بدقّة ... كما قرّبت كأس إلى فم شارب ومنه قوله: ردوا يا بني الآمال جمّة جوده ... فما البحر من غرف الأكفّ بناضب «2» إلى بيت جود ما يزال حجيجه ... يوافون ملء الطّرق من كلّ جانب إذا مدّت الأعناق أجمال سائر ... إليه تلقّتهنّ أجمال آئب فلم ندر ماذا منه نقضي تعجّبا ... سؤال المطايا أم جواب الحقائب تسحّ مياه الجود في بطن كفّه ... لكلّ أناس فهي شتّى المشارب ويحسب ما تبدو به من خطوطه ... أسارير كفّ وهي طرق المواهب وقوله: [الكامل] ما جبت آفاق البلاد مطوّفا ... إلّا وأنتم في الورى متطلّبي «3» سعيي إليكم في الحقيقة والذي ... تجدون عنكم فهو سعي الدّهر بي أنحوكم ويردّ وجهي القهقرى ... دهري فيسري مثل سير الكواكب «4» فالقصد نحو المشرق الأقصى له ... والسّير رأي العين نحو المغرب

ومنه قوله: [الكامل] في حكم طرفي حين كان مريبا ... أن لا أعد على الوشاة ذنوبا «1» الدّمع منه فكم أعاتب واشيا ... والمنع منك فلم ألوم رقيبا 437/يا برق لم يقدح زنادك موهنا ... إلّا لتوقع في حشاي لهيبا عندي من العبرات ما تسقى به ... للعامرّية أجرعا وكثيبا وبمهجتي سار أجدّ مع النوى ... عتبا وساق مع الركاب قلوبا فغدا بقلبي في الظعائن مركبا ... وبكلّ قلب غيره مجنوبا منها: يا ماجدا ما لاح بارق بشره ... إلّا بوابل جوده مصحوبا «2» آوى الوفاء إلى كريم جنابه ... إذ كان في هذا الزمان غريبا «3» ومنه قوله: [الكامل المرفل] لله يوم الجزع موقفنا ... لمّا تعرّض للمها سرب «4» متطلّعات للعيون ضحى ... وأكفّها لوجوهها نقب يرمقن من شبك البنان فما ... يزكو حليم القوم أو يصبو «5» من كلّ فاتنة لمعصمها ... تبدي فيشجى القلب والقلب «6»

كالسّهم راميه يقرّبه ... ولأجل بعد ذلك القرب مدّت إليّ يدا تودّعني ... فدنا إليها المغرم الصّب وقوله: [الطويل] أحنّ إلى طيف الأحبّة ساريا ... ودون سراه نبوة الجفن الجنب «1» فما للنوى لا يعتري غير مغرم ... كأنّ النوى صبّ من الناس بالصّب فلله ربع من أميمة عاطل ... توشّحه الأنداء باللؤلؤ الرّطب جعلت به قيد الركائب وقفة ... إذا شاء ربع الحي طالت على صحبي رميت محيّا دارهم عن صبابة ... بسافحة الإنسان سافحة الغرب 438/أروّي بها خدّي وفي القلب غلّتي ... وقد يتخطّى الغيث أمكنة الجدب ومنه قوله: [الطويل] سل النّجم عنّي في رفيع سمائه ... أشاهد مثلي من جليس مبائت «2» أساهره حتى تكلّ لحاظه ... وينسلّ في الصّبح انسلال المغالت [وقوله] «3» : [الكامل] يا ناسي الميعاد من سكر الصّبا ... بعذاب هجرك كم ترى أن تعنتا «4» يوم المتيّم منك حول كامل ... يتعاقب الفصلان فيه إذا أتى ما بين نار حشى وماء مدامع ... إن جنّ صاف وإن بكى وجدا شتا وقوله: [الكامل]

واها لعصر العامرية في الحمى ... والعهد لولا أنّه منكوث «1» بيضاء فاتنة لصخرة قلبها ... في ماء عيني لو تلين أميث مقسومة شمسا وليلا إذ بدت ... للناظرين فواضح وأثيث «2» فالشمس في حيث النقاب تحطّه ... والليل في حيث الخمار تلوث ودّ الهلال لو انّه طوق لها ... والنجم لو أمس بها التّرعيث «3» والشمس أقنع قلبها من شبهها ... أن قد تعلّق باسمها تأنيث وقوله: [الطويل] ويوم الكثيب الفرد لمّا استفزنّا ... وداع وكنّا من وشاة بمدرج «4» وقفنا فدلّسنا على رقبائنا ... فظنّوا خليّا كلّ ذي لوعة شجي حططت لثاما عن مجود مورّس ... وألقت نقابا عن أسيل مضرّج «5» فما زلت أذري دمع عيني صبابة ... وتبدي دلالا عن شتيت مفلّج «6» 439/وقال رقيبانا دعوا لوم ناظر ... وناظرة لم تنو سوءا فتحرج رعت هي روض الزّعفران وبادرت ... وحدّق ذا في الشمس عند التوهّج فبالطّبع مجلوب بكاه وضحكها ... بلا محزن ممّا ظننّا ومبهج منها في المديح:

كسرتم جناحي جيش كسرى وقلبه ... بضرب كما ألهبت نيران عرفج «1» غداة دلفتم بالرماح شوائلا ... ترى النقع فيها مثل ثوب مفرّج وقوله: [السريع] أكلّما اشتقت الحمى شفّني ... لاح إذا برق على الغور لاح «2» يزيد إغرائي إذا لامني ... وربّما أفسد باغي الصّلاح ماذا عسى الواشون أن يصنعوا ... إذا تراسلنا بأيدي الرّياح وربّ ليل قد تدرّعته ... رهين شوق نحوكم وارتياح حتى بدت تطلق طير الدّجى ... من شبك الأنجم كفّ الصّباح لا غرو أن فاضت دما مقلتي ... وقد غدت ملء فؤادي جراح وقوله: [الطويل] سعى للعلى والأفق حول ركابه ... بأعزل يسعى من نجوم ورامح «3» كأنّ الثريا استأمنت لجنودها ... فقد بسطت للعهد كفّ مصالح وقوله: [الكامل] شاق الحمام إليك لمّا ناحا ... صبّا تذكّر إلفه فارتاحا «4» ليت الحمام أتّم بي إحسانه ... فأعارني أيضا إليك جناحا 440/يا نازحا لم ينقطع ذكري له ... لو أنّ ذاك يقرّب النّزاحا وعلى الجياد معارضين فوارس ... فوق الكواثب عارضين رماحا

لو قاتلوا بدل الظّبى بلحاظها ... كانوا إذا أمضى الأنام سلاحا ومرنّح الأعطاف تحسب صدغه ... ليلا وتحسب خدّه مصباحا بتنا نديمي عفة في خلوة ... متساقيين ولا زجاجة راحا خاطبت كلّ معاشر بلغاتهم ... زمنا مخاطبة الصّدى من صاحا وقوله في الشمعة: [الكامل] أفردت من إلف شهيّ وصله ... حلو الجنى عذب المذاق صريح «1» قد سلّ من جسمي وكان شقيقه ... فرجعت عنه بقلبي المقروح وأنا له هو قد فقدت بعينه ... أفليس بخل مدامعي بقبيح بالنّار فرّقت الحوادث بيننا ... وبها نذرت أعود أقتل روحي وقوله: [الطويل] ومسترق من وصل أغيد فاتن ... محاسنه روضي وعيناي رائدي «2» تغطيّت منه تحت قطر مدامعي ... تغطّي سلك تحت نظم الفرائد تمتّعتما يا ناظريّ بنظرة ... وأوردتما قلبي أمر الموارد «3» أعينيّ كفّا عن فؤادي فإنّه ... من البغي سعي اثنين في قتل واحد ومنها قوله: مواقف خطّت للهدى نبوّية ... لأبيض من بيت النّبوة ماجد «4» إذا خرجت منها المراسم صوّرت ... ثرى الأرض آثار الوجوه السواجد «5»

441/ومنه قوله: [الطويل] أحنّ إلى ليلى على قرب دارها ... حنين الذي يشكو لألّافه فقدا «1» ولي سلك جسم ملؤه درّ أدمع ... فلولا العدا أمسيت في جيدها عقدا وآخر عهدي يوم جرعاء مالك ... بمنعرج الوادي وأظعانهم تحدى ولما دنت والسّتر مرخى ودونها ... غيارى غدت تغلي صدورهم حقدا تقدّمت أبغي أن أبيع بنظرة ... إلى سجفها روحي لقد رخصت جدّا أسفت على ماضي عهود أحبّتي ... وهل يملك المحزون للفائت الرّدا ومنه قوله: [الكامل] ناشدتكم إلّا قصرتم ساعة ... فضل الأزمّة عند برقة منشد «2» أنا مسعد فيكم فهل من مغرم ... أو مغرم فيكم فهل من مسعد ربع وقفت أرى وجوه أحبتي ... فيه بعيني ذكري المتجدّد من كلّ ظاعنة أقام خيالها ... وقضت تروح لها الركاب وتغتدي لمّا سبقت إلى الحمى وتلاحقوا ... صحبي وهل لأسير حبّ مغتدي بمعاج نضو في محلّ داثر ... ومجال طرف في رسوم همّد عطر ثراه على تطاول عهده ... بمجرّ أذيال الحسان الخرّد ومسهّر قال النجوم لطرفه ... هي عقبة بيني وبينك فارصد كم قد سهرت وكم رقدت لياليا ... فالآن قد أغنيت فاسهر وارقد وقوله: [الطويل]

نظرت وأقمار الخدود طوالع ... فقد أتلعت بيض السوالف غيدها «1» فلم أر كالألحاظ لولا نبوّها ... ولم أر كالأجياد لولا صدودها 442/ومهما حدا الحادي بسعدى ففي الكرى ... معيد على رغم الفراق يعيدها ممنّعة حاطت عليها رماحها ... ولو قدرت خيطت عليها جلودها وقد زاد أشواقي إليكم حمائم ... وما كنت أدري أنّ شيئا يزيدها مطوّقة من زرقة الفجر قمصها ... ومن حلكة الليل البهيم عقودها ولو قد أعادت حين شاقت إليكم ... جناحا به يطوى على النأي بيدها تقلّدت منها منّة يغتدي لها ... مدى الدّهر في طوقين جيدي وجيدها ومنه قوله: [الخفيف] أنشدتنا ورق الحمائم عند الصّ ... بح من شعرها القديم قصيدا «2» قوّمت وزنها وإن لم تعلّم ... من عروض طويلها والمديدا وتغنّت بكلّ منظومة عج ... ماء تجلو معنى وتحلو نشيدا ما ابتداها لكن إذا درس الشّو ... ق فؤادي كان الحمام معيدا وكأنّ الحبيب يوم وداعي ... ودموعي للبين تحكي الفريدا علّق العقد فوق خدّي وأوصى ... أن يخلى كذاك حتى يعودا ومنه قوله: [الخفيف] ربّ مستجهل العواذل فيه ... بتّ منه بمقلة ليس تهدى «3» قمر بتّ ساهرا فيه حتى ... كدت أفني فيه الكواكب عدّا

لو عدا منه [] غليلي «1» ... لأبت وجنتاي أن تتندّى جاء يوم الوداع ينشد فيه ... ما ترى العيس في الأزمّة تحدى وبدا للنّوى به مثل مابي ... كم هوى كان لازما فتعدّى 443/وتقاضيته وداعا ولثما ... ليكونا لنا سلاما وبردا فتأبّى واعتاده خجل ... ألهب منّي ومنه قلبا وخدّا ثمّ ولّى كالغصن في مرح ... يفتل مني ومنه جيدا وقدّا بعد ما أنفذ الحشا بجفون ... سحر القلب طرفها حين ردّا ومنه قوله: [البسيط] يا من غدا فرط حبّي وهو يحمله ... على البصيرة منّي لو على البصر «2» إن تغش طرفي وقلبي نازلا بهما ... فالطرف والقلب كلّ منزل القمر إن يطرق الطيّف عيني وهي باكية ... فالبدر في الغيم يسري وهو ذو مطر كأنّ جفني إكراما لزائره ... أمسى على قدميه ناثر الدّرر تحيّة من عرار الرّمل واصلة ... والرّكب يطلع من أعلام ذي نفر وليس بالرّيح إلّا أنّها نسمت ... على مساحب ذيل بالحمى عطر لله خيل بكا تجري صوالجها ... أهداب عيني وقطر الدّمع كالأكر والجوّ كالروّضة الخضراء معرضة ... لناظري والنجوم الزّهر كالزّهر ومنه قوله: [الطويل] أذاكرة يوم الوداع نوار ... وقد لمعت منها يد وسوار «3»

عشيّة ضنّوا أن يجودوا فعلّلوا ... وخافوا العدى أن ينطقوا فأشاروا فليت ديار النازحات قلوبنا ... لنسلو من ليت القلوب ديار «1» وليلة أهدين الخيال لناظري ... وبالنّوم لولا الطّيف عنه نفار تقنّصته والأفق يجتاب حلّة ... من الوشي يسدى نسجها وينار «2» 444/فلا تحسب الجوزاء طرفك إنّها ... هديّ لها شهب الظلام نثار «3» وإنّ الثّريا بات فضيّ كأسها ... بأيدي ندامى الرّيح وهو يدار «4» فليس الدّجى إلّا لنار تنفّسي ... دخان تراقى والنجوم شرار وقوله: [الطويل] خيالك من قبل الكرى طارقي ذكرا ... ففيم التزامي للكرى منّة أخرى «5» غدا شخصكم في العين منّي قائما ... فمن نمّة الواشي بكم أخذ الحذرا فو الله ما ضمّي الجفون لرقدة ... ولكن لألقى منكم دونكم سترا «6» وفتّانة صاغت سلاسل صدغها ... قيودا على أعداد عشاّقها الأسرى «7» تبسّم عن درّ تكلّم مثله ... فلم أر أحلى منه نظما ولا نثرا وقوله: [الكامل] لا طالب الله الأحبّة إنّهم ... ناموا عن الصبّ الكئيب وأسهروا «8»

هجروا وقد وصّوا بهجري طيفهم ... يا طيف حتى أنت ممّن يهجر دون الخيال ودون من يشتاقه ... ليل يطول على جفون تقصر ومخيّمون مع القطيعة إن دنوا ... هجروا وإن راحوا إلينا هجرّوا أرأيت يوم البين ما صنعوا بنا ... والحيّ منهم منجد ومغوّر «1» سفروا فلمّا عارض القوم اتّقوا ... بمعاصم فكأنّهم لم يسفروا أعقيلة الحيّ المطنّب بيتها ... حيث القنا من دونه تتكسّر أخفى إذا عاينت وجهك من ضنى ... فأدقّ عن درك العيون وأصغر «2» وأرى بنورك كلمّا أدنيتني ... وكذا السّها ببنات نعش يبصر 445/خطرت إليّ فزاد من طربي لها ... أن لم يكن بالبال ممّا يخطر وكأنّما تركت بخدّي عقدها ... ليكون تذكرة بها يتذكّر ومنه قوله: [الطويل] ولم أنسها يوم الرّحيل وقد لوت ... بتسليمة التوديع حاشية السّتر «3» وقلبي مع الرّكب اليمانيّ رائح ... لقى بين أيدي العيس في البلد القفر أقول وإلفي للوداع معانقي ... ولي دمعة غيّضتها فهي في نحري أدر لي كؤوس اللثم صرفا لعلّه ... تسير المطايا عند سكري ولا أدري ومنه قوله: [البسيط] خود إذا سفرت للعين أو نطقت ... فالطّرف لي قاطف والسّمع مشتار «4»

تريك حليا على نحر إذا التمعا ... لاحا كأنّهما جمر وجمّار لا أشرب الدّمع إلّا أن يغنّيني ... ورق سواجر مهما رقّ أسحار «1» من كلّ أخطب مسكيّ العلاط له ... في منبر الأيك تسجاع وتهدار «2» خطيب خطب وقد أفنى السواد بلى ... فمن بقيّته في الجيد أزرار ومنه قوله: [الخفيف] أحضر الليل منه عقدا وثغرا ... حين ولّى ليعقب الوصل هجرا «3» وأردت اختلاس قبلة تودي ... ع فكلّ في ناظري كان درّا فتحيّرت أحسب الثغر عقدا ... من سليمى وأحسب العقد ثغرا فلثمت الجميع قطعا لشكي ... وكذا يفعل الذي يتحرّى ومنه قوله: [المنسرح] 446/عدت بقلب في الوجد منتكس ... وناظر في الدموع منغمس «4» وكان ليلي كأنّه نفس ... فصار ليلي كأنّه نفسي وقوله: [الطويل] بما عنّ من شكوى زمان تعرّضا ... تناسيت لذّات الزمان الذي مضى «5» فلا تذكراني عهد نجد وأهله ... إذا الريح هبّت أو إذا البرق أومضا فما في ضميري اليوم من طارق الأسى ... مكان لتذكار السرور الذي انقضى

ولو خلصت لي من فؤادي شعبة ... من الهمّ لم أذكر سوى ساكن الفضا ومنه قوله: [الطويل] سرى ولثام الصّبح قد كاد ينحطّ ... خيال تسدّى القاع والحيّ قد شطّوا «1» وزار وقد ندّى النسيم حليّه ... فبات يباري الثّغر في برده القرط «2» وما عطّرت نجدا صباها وإنّما ... سرى وهو مجرور على إثرها المرط «3» هو البدر وافى والثريا كأنّها ... على الأفق ملقى منه من عجل قرط ومنه قوله: [البسيط] لم يعتمد في العلى من أمرها طرفا ... ولم يقع رأيه في نقدها غلطا «4» لو لم يكن وسط الأشياء أشرفها ... ما اختارت الشمس في أفلاكها الوسطا وقوله فى الأقلام: [الطويل] ولا عجب أن تملك العين إن جرت ... وماست على القرطاس أعطاف رقطها «5» فما اللّحظ من عين الفتاة كجريها ... وما الخال في خدّ المليح كنقطها وقوله: [الكامل] ودع التناهي في طلابك للعلى ... واقنع فلم أر مثل عزّ القانع «6» فبسابع الأفلاك لم يحلل سوى ... زحل ومجرى الشمس وسط الرابع

447/وقوله: [الكامل] ما أسأروا في كأس دمعي فضلة ... عنهم فأجعلها نصيب الأربع «1» هو ذلك الدرّ الذي ألقيتم ... في مسمعي ألقيته من مدمعي وقوله: [الكامل] أبدوا وأخفوا عاجلا فكأنّني ... طيف سرى في أخريات هجوع «2» وأرى فؤادي في الزمان كأنّه ... بيت العروض يرام للتقطيع «3» وقوله: [البسيط] حيث انتهيت من الهجران بي فقف ... ومن وراء دمي سمر القنا فخف «4» يا عابثا بعدات الوصل يخلفها ... حتى إذا كان ميعاد الفراق يفي اعدل كفاتن قدّ منك معتدل ... واعطف كسائل صدغ منك منعطف ويا عذولي ومن يصغي إلى عذل ... إذا رنا أحور العينين ذو هيف تلوم قلبي أن أصماه ناظره ... فيم اعتراضك بين السّهم والهدف سلوا عقائل هذا الحيّ أيّ دم ... للأعين النّجل عند الأعين الذّرف يستوصفون لساني عن محبّتهم ... وأنت أصدق يا دمعي لهم فصف «5» لم أنس يوم رحيل الحيّ موقفنا ... والعيس تطلع أولاها على شرف والعين من لفتة الغيران ما خطيت ... والدّمع من رقبة الواشين لم يكف «6»

وفي الحدوج الغوادي كلّ آنسة ... إن ينكشف سجفها للشمس تنكسف وقوله: أيّها النائمون عن سهر الصّ ... ب إذا هوّم الخليّ وأغفى «1» 448/ما عرفت الرقاد بالعين طعما ... فصفوه أعرفه بالأذن وصفا سلبتنيه ظبية تركتني ... مقلتاها ما عشت للوجد حلفا غادة ورد خدّها وسط شوك ... من قنا قومها إذا شئت قطفا منها في المديح: فغداه من الورى كلّ نكس ... يدعي نسبة العلى وهو ينفى «2» وضع النقص منه فازداد كبرا ... ويزيد التصغير في الاسم حرفا وقوله منها: آخر يفضل الأوائل معنى ... مثلما يفضل الرّويّ الردفا «3» فهو أوفى الأنام عرفان ذي فض ... ل وأوفاهم لذي الفضل عرفا وقوله: [الكامل المرفل] عجب الخلائق من فؤاد فتى ... أرسى بحيث الأسهم المرق «4» يلتذّ ما أصماه قاتله ... وبه إذا لم يرمه القلق أشجع بقلبي حين ترشقه ... لو أنّ صدغك فوقه حلق

وقوله: [الطويل] أقول وقد ناحت مطّوقة ورقا ... على فنن والصّبح قد نور الشرقا «1» بكت وهي لم تبعد بألّافها النوى ... كإلفي ولم تفقد قرائنها الورقا كذا كنت أبكي ضلّة في وصالهم ... إلى أن نأوا عني فصار البكا حقّا فلا [] قال الفراق مجانة «2» ... فتلقى على فقد الأحبّة ما ألقى خذي اليوم في أنس بإلفك وانطقي ... بشكر زمان ضمّ شملكما نطقا وخلّ البكا ما دام إلفك حاضرا ... يكن بين لقياه وغيبته فرقا 449/وفي الدّهر ما يبكي فلا تتعجّبي ... ولا تحسبي شيئا على حاله يبقى وقوله: [المنسرح] كنّا جميعا والدّار تجمعنا ... مثل حروف الجمع ملتصقه «3» واليوم جاء الوداع يجعلنا ... مثل حروف الوداع مفترقه ومنه قوله: [الكامل] لا تقرب العوراء من قولي ولا ... ينحّل في الفحشاء عقد نطاقي «4» والناس مختلفون في آدابهم ... وكذا اختلاف مآرب العشّاق وقوله: [الطويل] رأى الفلك الدّوار أنّك فتّه ... وخاف عليه أن يصبّ سطاكا «5»

فرصّع في ترس هلالا وأنجما ... وأغمد شمسا في دجى ورشاكا ولا شكّ أنّ البدر في الأفق درهم ... من النثر باق في طريق علاكا ومنه قوله: [البسيط] زمّوا وقد سفكوا دمعي ركائبهم ... فكدت أغرق ما زمّوا بما سفكوا «1» وراعني يوم تشييعي هوادجهم ... والعيس من عجل في السّير ترتبك ستران ستر عن الأقمار منفرج ... يبدو وآخر للعشّاق منهتك منها: قد أشعل الشيب رأسي للبلى عجلا ... والشمع عند اشتعال الرأس ينسبك «2» فإن يكن راعها من لونه يقق ... فطالما راقها من قبله حلك عرفت دهري وأهليه ببادرتي ... من قبل أن نجدّتني فيهم الحنك فلا حسائك في صدري على أحد ... منهم ولا لهم في مضجعي حسك ولا أغرّ ببشر في وجوههم ... وربّما غرّ حبّ تحته شبك وقوله: [الكامل] ذهب الذين صحبتهم فوجدتهم ... سحب المؤمّل أنجم المتأمّل «3» 450/وبليت بعدهم بكلّ مذمّم ... لا مجمل طبعا ولا متجمّل منها: أسف على ماضي الزّمان وحيرة ... في الحال منه وخشية المستقبل

ما إن وصلت إلى زمان آخر ... إلّا بكيت على الزّمان الأول منها: وهززت أعطاف الصّباح إليهم ... في متن ليل بالنهار مخلخل جذلان ينتصب انتصاب المجدل ال ... عالي وينقضّ انقضاض الأجدل «1» ويهزّ جيدا كالقناة ينوطه ... بحديد أذن كالسنان مؤلّل وتخال غرّته سطوع ذبالة ... طلعت بها ليلا ذؤابة يذبل ومنه قوله: [الوافر] وأغيد رقّ ماء الوجه منه ... فلو أرخى لثاما عنه سالا «2» تبين سوادها الأبصار فيه ... فحيث لحظت منه حسبت خالا بطرف ليس يشعر ما التشكّي ... وينشد سقم عاشقه انتحالا «3» منها: وأشتمل الظّلام وفي شمالي ... زمام شمّلة تحكي الشّمالا من اللّاتي إذا طربت لحدو ... خشيت من النّسوع لها انسلالا «4» ولو سلخت لنا في الشرق شهرا ... سبقن بنا إلى الغرب الهلالا ومنه قوله: [الكامل] دعني وأطماري أجرّ ذيولها ... وأنزّه الديباجتين عن البلى «5»

أنا صائن عرضي وإن صفرت يدي ... كم من أغرّ ولا يكون محجّلا إنّا على عظّ الزمان لمعشر ... من دون ماء وجوهنا ماء الطّلى من كلّ مستبق اليدين إلى الظّبى ... طربا إلى يوم الوغى مستعجلا 451/ويخال محمّر الصفائح وجنة ... ويعدّ سمراء الوشيج مقبلا ومنها في وصف الخيل: فكأنّما يكبو إذا استدبرته ... وكأنّما يقعي إذا ما استقبلا «1» ويهزّ جيدا كالقناة مرنّحا ... ويدير سمعا كالسّنان مؤلّلا «2» فإذا دنا فجع الغزال بأمّه ... وإذا رنا خطف الظّليم المجفلا فيفوت مطرح طرفه مترفّفا ... ويجي سابق ظلّه متمهّلا وتخال منه صاعدا أو هابطا ... سجلا هوى ملآن أو سهما علا «3» وأغرّ في ثني العنان محجّل ... فتخال يوم وغاه فيه مثّلا أمّا كميت في قنوّ أديمه ... يحكي سميّته الرحيق السّلسلا «4» عكفت به من ضوء صبح فرجة ... وأعير من ليل قناعا مسبلا «5» فتراه بحرا والجبين ذبالة ... ويديه ريحا والحوافر جندلا أو أشقر في غرّة فكأنّه ... شفق المغارب بالهلال تكلّلا وكأنّه قد درّع النار التي ... قدحت سنابكه النّواهب للفلا يرتدّ خدّ السيف منه مواردا ... عكسا وطرف الشمس منه مكحّلا

أو أشهب يحكي الشهاب إذا سرى ... يجتاب تحت النّقع ليلا أليلا ربد إذا ما النقع زلزل أرضه ... أهوى يفوت النّاظر المتأمّلا «1» أو أدهم قرن الحجول بغرّة ... لطمت له وجها كريم المجتلى فظننت جونا ذا بوارق مرعدا ... وحسبت ليلا ذا كواكب مقبلا «2» سلت الأكارع صبغه كمظاهر ... بردين شمّر ذا وهذا ذيّلا 452/لبس السّواد على البياض فراقنا ... أن قلّص الأعلى وأرخى الأسفلا كدجنّة صقلت دراري خمسة ... ومحدّة كشفت محاسن نصّلا «3» أو أصفر كالتبّر يأبى عزّة ... أن لا يحاكي لونه أن ينعلا ترنو خطا فرس المسابق خلفه ... فتخاله بحجوله متشكّلا أو أبلق يسبي العيون إذا بدا ... من تحت فارسه الكميّ مجوّلا مثل الجهام تشققّت أحضانه ... برقا وراح له شمالك شمألا «4» وكأنّ خيطي ليله ونهاره ... قد قطعّا مزقا عليه ووصّلا ومنه قوله: [الطويل] ونحن نجوب البيد فوق ركائب ... تراها مع الركب العجال تجول «5» فلو وقفوا في ظلّ رمح ونوّخوا ... لضمّهم والعيس فيه مقيل وقوله: [الطويل]

ويعلو الغمام الأرض من أجل أنّه ... يسوق إليها وهي لن تبرح الوبلا «1» إذا ما قضت نفسي من العزّ حاجة ... فلست أبالي الدّهر أملى لها أم لا «2» وقوله: [الكامل] في ليلة أسر الظلام نجومها ... فثوت تلوح على الدّجى إكليلا «3» وتناهبت خيل الوزير صباحها ... فقسمنه غررا لها وحجولا «4» منها: وسطا فما ينفكّ طرف عداته ... بظباه أو بخيالها مكحولا «5» لم يشعروا حتى طرقت كأنّما ... حوّلت في الحدق الخيال خيولا وقوله: [المجتث] هذا الوزير الأجلّ ... ما في مطاويه غلّ «6» الشرّ فيه قليل ... والخير فيه أقلّ 453/وقوله: [الكامل] سأل الحمى عنه وأصغى للعدى ... كيما يجيب فقال مثل مقاله «7» ناداه أين ترى محطّ رحاله ... فأجاب أين ترى محطّ رحاله

[وقوله] «1» : [الطويل] تمزّقت الظلماء عن نور غادة ... أضاء من الآفاق ما كان مظلما «2» إذا وجهها والبدر لاحا بليلة ... فما أحد يدري من البدر منهما وقوله، والثاني يقرأ مقلوبا: [الوافر] وفي الفتيان كلّ ربيط جأش ... يرى حرب الزمان ولا يخيم «3» مودّته تدوم لكلّ هول ... وهل كلّ مودّته تدوم وقوله: [الطويل] رثى لي وقد ساويته في نحوله ... خيالي لمّا لم يكن لي راحم «4» فدلّس بي حتى طرقت مكانه ... وأوهمت إلفي أنّه بي حالم فبتنا ولا يدري لنا الناس ليلة ... أنا ساهر في عينه وهو نائم وقوله: [المنسرح] ما يلتقي اثنان منصفان معا ... إذا اختبرت الناس كلّهم «5» تنصف ما دام يظلمونك أو ... تظلم إن كان ينصفون هم أعداء عذّالهم إذا عشقوا ... وعذّل العاشقين إن سلموا وقوله: [المتقارب]

تظلّم من طرف ظبي رخيم ... سقيم غدا شاكيا من سقيم «1» فلم يسع بينكما للعتاب ... رسول يشاكل غير النسيم وقوله: [الرمل] قاتل الله أراكا بالحمى ... أبدا يملي على القلب الغراما «2» يصف الثّغر لنا يابسه ... ويحاكي رطبه منها القواما يا أراك الجذع هب لي ريقها ... ولأطرافك فاستسق الغماما 454/أرد الماء وتمتاح اللمّى ... ساء هذا يا ابنة القوم اقتساما منها: غالطتني إذ كست جسمي الضّنى ... كسوة أعرت من اللحم العظاما ثمّ قالت: أنت عندي في الهوى ... مثل عيني، صدقت لكن [] «3» وقوله: [الكامل] ورد الخدود ودونه شوك القنا ... فمن المحدّث نفسه أن يجتنى «4» لا تمدد الأيدي إليه فطالما ... شبّوا الحروب لأن مددنا الأعينا ورد تخيّر من مخافة نهبه ... باللّحظ من ورق البراقع مكمنا منها: إنّي لأذكر في الليالي ليلة ... والإلف فيها زارني متوسّنا «5»

بعث الخيال وجاءني في إثره ... أرأيت ضيفا قطّ يتبع ضيفنا منها: في ليلة حسدت مصابيح الدّجى ... كلمي وقد كانت لها هي أزينا قلمي بها حتى الصباح وشمعتي ... بتنا ثلاثتنا ومدحك شغلنا حتّى هزمنا للظلام جنوده ... لمّا تشاهرنا عليك الألسنا «1» أفناهما قطعي وأفنيت الدّجى ... سهرا فأصبحنا وأسعدهم أنا وقوله: [البسيط] تقول للبدر في الظلماء طلعته ... بأيّ وجه إذا أقبلت تلقاني «2» وجه السماء مرآة لي أطالعها ... والبدر وهنا خيالي فيه لاقاني لم أنسه يوم أبكاني وأضحكه ... وقوفنا حيث أرعاه ويرعاني 455/كلّ رأى نفسه في عين صاحبه ... فالحسن أضحكه والحزن أبكاني قد قوّس القدّ توديعا وقرّبني ... سهما فأبعدني من حيث أدناني وكنت والعشق مثل الشمع معتلقا ... بالنار ألفيته جهلا فأفناني وقوله: [الطويل] فلمّا غدا عبأ على جفن ناظري ... لقاء الورى من صاحب وخدين «3» ألفت الفلا مستوطنا ظهر ناقة ... تلف سهولا دائما بحزون وما سرت إلّا في الهواجر وحدها ... كراهة ظلّي أن يكون قريني وقوله: [الوافر]

وأين من الملام لقى هموم ... يبيت ونضوه ملقى الجران «1» يشيم البرق وهو ضجيع عضب ... وفي الجفنين منه يمانيان منها: فماج إلى الوداع كثيب رمل ... ومال إلى العناق قضيب بان «2» وحاول منه تذكرة مشوق ... فأعطى خدّه عقدي جمان منها: ألا لله ما صنعت بعقلي ... عقائل ذلك الحيّ اليماني نواعم ينتقبن على شقيق ... يرفّ ويبتسمن عن اقحوان دنون عشيّة التوديع مني ... ولي عينان بالدّم تجريان فلم يمسحن إكراما جفوني ... ولكن رمن تخضيب البنان وقوله: [المتقارب] ولا عيب فيه سوى أنّه ... إذا الناس مدّوا إليه العيونا «3» يظنّ خيالات أهدابها ... عذارا على خدّه النّاظرونا 456/منها: وقبل ثناياه والثّغر منه ... لم نر من خطّ في الميم سينا «4» لقلبي بلابل تأوي القدود ... حكتها بلابل تأوي الغصونا

وقوله: [البسيط] أجري دموعي وحتى اليوم مارقأت ... سرّ به الإلف لمّا سار حدّثني «1» كأنّما خرقت كفّ الوداع إلى ... عيني طريقا لذاك الدرّ من أذني هم في فؤادي ويبقى للفتى رمق ... ما دامت الروح في جزء من البدن وقوله: [الطويل] أقول ونحر الغرب حال عشيّة ... كأنّ على لبّاته طوق عقيان «2» أحرف مراة من خلال غشائها ... بدا أم هلال لاح للناظر الراني أم الفلك الدوّار أمسى موسّما ... بآخر حرف من حروف اسم عثمان وقوله: [البسيط] لو شاء طيفك بعد الله أحياني ... إلمامة منه بي في بعض أحياني «3» بل لو أردت وجنح الليل معتكر ... والحيّ من راقد عنّا ويقظان غيّمت يا قمر الآفاق من نفسي ... فسرت نحوي ولم تبصرك عينان لا بل إذا شئت فأذن لي أزرك وفي ... ضمان سقمي عن الأبصار كتماني أبقى الهوى لك منّي في الورى شبحا ... لو وازن الطيف لم يخصص برجحان وقوله: [الكامل] اقرن برأيك رأي غيرك واستشر ... فالحقّ لا يخفى على رأيين «4» فالمرء مرآة تريه وجهه ... ويرى قفاه بجمع مرآتين

وقوله: [الكامل] أضحي أخا سفر فما ألقاكم ... وأبيت ذا سهر فما يلقاني «1» 457/ما زلت أحكي في النحول مثاله ... حتى تناهى السقم بي فحكاني وقوله: [الكامل] وكأنّ كلّ شقيقة مكحولة ... شرقت محاجرها بأحمر قان «2» عين لإنسان وقد ملئت دما ... منه فما يبدو سوى الإنسان وقوله: [البسيط] لم تشتبك بعد أطناب الخيام لنا ... ولا المنازل ضمّتهم وإيّانا «3» لكنّهم عاجلونا بالنّوى وقضوا ... وخلّفوا الطّرب المشتاق حيرانا يمناه بعد من التسليم ما فرغت ... إذ مدّ يسراه للتوديع عجلانا لم يملأ العين من أحبابه نظرا ... إذ غادر الدّمع منه الجفن ملآنا وقوله: [البسيط] حيث الغبار يسدّ الجوّ ساطعه ... والخيل تحمل للأقران أقرانا «4» والطعن يحفر في لبّاتها قلبا ... تظلّ فيها رماح القوم أشطانا وقوله: [الوافر] نظرت إلى الحمول غداة سارت ... بطرف غير شاف وهو [ساكن] «5»

وبيض الهند من وجدي [هواز] «1» ... بإحدى البيض من عليا هوازن وقوله: [البسيط] هذا الزمان على ما فيه من كدر ... حكى انقلاب لياليه بأهليه «2» غدير ماء تراءى في أسافله ... خيال قوم قيام في أعاليه فالرّجل تبصر مرفوعا أخامصها ... والرأس يوجد منكوصا أعاليه «3» وقوله: [السريع] والإلف قد عانقني للنّوى ... فالتفّ خدّي وخدّاه «4» كأنّه رام إلى غاية ... تناول السّهم بيمناه 458/حتى إذا أدناه من صدره ... أبعده ساعة أدناه ومنه قوله في الشمعة من قصيدته المشهورة، وخريدته التي هي بالألباب ممهورة، وأوّلها: [البسيط] نمّت بأسرار ليل كان يخفيها ... وأطلعت قلبها للناس من فيها «5» قلب لها لم يرعنا وهو مكتمن ... إلّا تراقيه نارا من تراقيها سفيهة لم يزل طول اللسان لها ... في الحيّ يجني عليها ضرب هاديها غريقة في دموع وهي تحرقها ... أنفاسها بدوام من تلظّيها تنفّست نفس المهجور وادّكرت ... عهد الخليط فبات الوجد يبكيها

يخشى عليها الرّدى مهما ألمّ بها ... نسيم ريح إذا وافى يحيّيها بدت كنجم هوى في إثر عفرية ... في الأرض فاشتعلت منه نواصيها «1» نجم رأى الأرض أولى أن يبوّأها ... من السماء فأضحى طوع أهليها كأنّها غرّة قد سال شادخها ... في وجه دهماء يزهاها تجلّيها أو ضرّة خلقت للشمس حاسدة ... فكلّما حجبت قامت تحاكيها ما طنّبت قطّ في أرض مخيّمة ... إلّا وأقمر للأبصار راجيها منها: فالوجنة الورد إلّا في تناولها ... والقامة الغصن إلّا في تثنّيها «2» قد أثمرت وردة حمراء طالعة ... تجني على الكفّ إن أهويت تجنيها «3» ورد تشاك به الأيدي إذا قطفت ... وما على غصنها شوك يوقّيها صفر غلائلها حمر عمائمها ... سود ذوائبها بيض لياليها وصيفة لست فيها قاضيا وطرا ... إن أنت لم تكسها تاجا يحلّيها 459/صفراء هندية في اللون إن نعتت ... والقدّ واللين إن أتممت تشبيها فالهند تقتل بالنيران أنفسها ... وعندها أنّها إذ ذاك تحييها قدّت على قدّ ثوب قد تبطّنها ... ولم يقدّر عليها الثوب كاسيها أبدت إليّ ابتساما في خلال بكى ... وعبرتي أنا محض الحزن يمريها «4» ومنها في التخلّص:

فقلت في جنح ليل وهي واقفة ... ونحن في حضرة جلّت أياديها «1» لو أنّها علمت في قرب من نصبت ... من الورى لثنت أعطافها تيها وقوله: [مخلع البسيط] شبت أنا والتحى حبيبي ... حتى برغمي سلوت عنه «2» فابيضّ ذاك السواد مني ... واسودّ ذاك البياض منه وقوله: [السريع] قابلني حتى بدت أدمعي ... في صحن خدّ منه مثل المراه «3» يوهم صحبي أنّه مسعدي ... بأدمع لم تذرها مقلتاه ولم تقع في خدّه قطرة ... إلّا خيالات دموع البكاه وقوله: [الوافر] سهام نواظر تصمي الرمايا ... وهنّ من الحواجب في حنايا «4» ومن عجب سهام لم تفارق ... حناياها وقد جرحت حشايا منها: يريك بوجنتيه الورد غضّا ... ونور الأقحوان من الثنايا تأمّل منه تحت الصّدغ خالا ... لتعلم كم خبايا في الزوايا تغنّم صحبتي يا صاح إنّي ... نزعت عن الصّبا إلّا بقايا «5»

44 - الأديب أبو اسحاق، ابراهيم بن عثمان الكلبي ثم الأشهبي المعروف بالغزي.

وخالف من تنسّك من رجال ... [لقوك بأكبد الإبل الأبايا] «6» ولا تسلك سوى طرقي فإنّي ... [أنا ابن جلا وطلّاع الثنايا] «6» وقم نأخذ من اللذّات حّظا ... [فإنّا سوف تدركنا المنايا] «6» وساعد زمرة ركضوا إليها ... [فآبوا بالنهاب وبالسّبايا] «6» واهد إلى الوزير المدح يجعل ... [لك المرباع منها والصّفايا] «6» وقل للراحلين إلى ذراه ... [ألستم خير من ركب المطايا] «6» وقوله: [البسيط] أخذت عندي معرّجا وتعرضه ... على الورى مستقيما حيثما اجتليا «7» كالشمع يقبل نقش الفصّ منعكسا ... مكتوبه ليريه الناس مستويا ومنهم: 44- الأديب أبو اسحاق، ابراهيم بن عثمان الكلبي ثمّ الأشهبي المعروف بالغزّي «8» .

فتح عليه وباب الدواعي والبواعث مغلق، وجلباب المساعي والمطالب مخلق، وابتلي مع كساد البضاعه، وفساد ثدي كان يتمصّص من الجوائز رضاعه بأنّه كان لا يزال عليه في سرحه يطرق، وأنّ شعره الكاسد لا يشترى ومع هذا يخان فيه ويسرق. ولد بغزّة، وتأدّب بها، ثم تنقّل في البلاد ساريا سرى الكواكب، سائرا سير الشمس إلّا أنّه إلى المشارق لا إلى المغارب. دخل العراق، ورحل إلى خراسان، وعرّج على كرمان. يوما بحزوى ويوما بالعذيب ويو ... ما بالعقيق ويوما بالخليصاء وتارة ينتحي نجدا وآونة ... شعب الغوير وأخرى قصر تيماء وعرّض سؤاله للنجّح والحرمان، ومدح أكابر تلك البلاد في ذلك الزمان،/ 461/وطفح مغاصه المثري بفرائد الجمان، وغلا سعره في تلك الأقطار غلوّا بذلت فيه النفائس وعلا علوّا قصّر عنه من يقايس. وقد ذكره العماد الكاتب فقال «1» : أتى بكلّ معنى مخترع، ونظم مبتدع، وحكمه محكمة النّسج، وفقره واضحة النّهج. وكلام أحلى من منطق الحسناء، وأعلى من منطقة الجوزاء. ثمّ قال في كلام آخر «2» : الغزّيّ حسن المغزى، وما يعزّ من المعاني الغزّ إلّا إليه يعزى، يعنى بالمعنى، ويحكم منه المبنى ويودعها اللفظ إيداع الدرّ الصّدف، والبدر السّدف، فمن أفراد أبياته التى علت بها راياته، وبهرت آياته ولم تملل منها غاياته، قوله، ثمّ أخذ يسرد ما انتقاه له سردا، ويأتي بكلّ بيت فاق، وفاقه أخوه فكان مثل السيف فردا.

وإليكها جواهر شفّت، وأغصانا وريقة رفّت، وعيونا أشبهت الزّهر فما أغفت. من ذلك قوله: [الطويل] فقلنا: أدرها وهي في الكأس جمرة ... تلظّى ومن فرط اللطافة ماء أمط عنك ذكر اللهو فالعيش بلغة ... وكلّ بقاء لا يدوم فناء أرى الهمّة العلياء تخفض موضعي ... وكلّ دواء لا يريحك داء وقد تتعب الفكر المنى وهي عذبة ... ويؤذي الدخان العين وهو كباء ومن قال إنّ الشّهب أكبرها السّها ... برغم الثريّا كذّبته ذكاء له نائل كالطّيف يطرق فجأة ... فيؤمن في لقيانه الرّقباء ومنه قوله: [الكامل] ومن الدليل على الصّباح وفضله ... ما يلبس الآفاق من أضوائه وترفّع الأوباش فوقي جائز ... أو ليس درّ البحر تحت جفائه 462/ومنه قوله في مليح يسبح: [السريع] وسابح في لجّة شقّها ... شقّ شهاب جيب ظلماء سال من اللّطف فلم أستطع ... تمييزه من جملة الماء وقوله: [الطويل] وليل رجونا أن يدبّ عذاره ... فما اختطّ حتى صار بالفجر شائبا «1» منها في ذكر العيس: يرقصهنّ الآل إمّا طوافيا ... تراهنّ في آذيّه أو رواسبا

سوابح كالنينان تحسب أنّني ... مسحت المطايا أو مسحت السباسبا «1» تنسّمن من كرمان عرفا عرفنه ... فهنّ يلاعبن النشاط لواغبا كأنّا بضوء البشر فوق جبينه ... ترى دونه من حاجب الشمس حاجبا ومنه قوله: [المنسرح] أنت جمادى إذا سئلت ندى ... ويوم تدعى إلى الوغى رجب «2» مالك عرض تخاف وصمته ... أيّ طلاق يخافه عزب ومنه قوله: [المنسرح] مشتبكات الأسنّة انتظمت ... درعا متى شمّها الحسام نبا قوم يصير القنا إذا حملوا ... طورا وشيجا وتارة يلبا منها: على غدير بروضة نظمت ... نوّارها حول بدرها شهبا «3» يدقّ فيه الغمام أسهمه ... فيكتسي من نصالها حببا ضروب وشي كأنّما خلع ال ... أيم عليهن من برده طربا «4» منها: رئاسة معنوية وهبت ... لكلّ ثغر من العلى شنبا 463/وبيت مجد عماده كرم ... مدّ له قدّ بحره طنبا

وقوله: [الخفيف] كلّ ما كان نوره بدنوّ ال ... شمس كانت ببعده ظلماؤه وقوله: [الكامل] سهب الدّجى ترعاه أو شهب القنا ... فالنجمّ لا ينفكّ من رقبائه ولقد عجبت لعاذل متحرّق ... حتى كأنّ جواي في أحشائه ومنه قوله: [الطويل] ولي أدب زان الزمان اصطحابه ... وقرب التلاقي غير قرب التناسب «1» وفي صحبة الضدّ الشريف تزيّن ... وما الليل من جنس النجوم الثواقب منها: وإنّ ركوب الفرقدين ترجّل ... ونيل كنوز الأرض تقصير كاسب ولست بمذّاق الوداد فيتّقى ... دبيب نمالي قبل لسب عقاربي ومنه قوله: [المنسرح] ضعف جبان في أيد مملّكة ... غمد حديد ومنصل خشب وخلت كشف القناع ينفعني ... والكشف في غير وقته حجب وقوله: [المنسرح] والدّهر طلق اليدين يدرك من ... ساعاته ما يرام من حقبه ينظم غادي الحيا ورائحة ... قلادة للغدير من حببه ويطلع النّجم مثله مائة ... لكنّها ما تدور في قطبه

ومنه قوله: [الطويل] يقولون: لا تتعب فرزقك قسمة ... وبالتّعب اشتدّت حبال المطالب وفي العجز من وجه التّرفه نعمة ... ولكنّها معدودة في المصائب وقوله: [المنسرح] تألّق الشيب فاعتذرت له ... وقلت نور بدا على قضبه 464/كأنّ ثغر الحبيب ركّب في ... مفارقي ما أضاء من شنبه منها: قالوا: دع العلم صار مطرّحا ... يقوم بيت العلى بلا طنبه فقلت: إنّ القصور في همم ال ... خلق وليس القصور في سببه ما احتجب الأفق إنّما احتجبت ... أبصارنا بالنهار عن شهبه من هيبة الشعر أنّ قائله ... يصغي إلى ما افتراه من كذبه منها في ذكر البيداء: كأنّما الآل في جوانبها ... يرقص تحت الرّكاب من طربه أظميت بالوخد قلب فدفدها ... وسافر الجوّ مثل منتقبه لك الكلام الذي علا وغدا ... يدقّ عن فهم خاطبي خطبه كجوهر الكيمياء ليس ترى ... من ناله والأنام في طلبه يقرّ ما خلّف الكرام فتى ... تبقى سجايا أبيه في عقبه ومنه قوله: [البسيط] نسيت إلّا غزالا بات يرشقني ... من ثغره بردا زاد الحشا لهبا بمجلس لا رقيب فيه يمنعني ... من بغيتي غير خوفي أن يقال صبا

منها: ظبا المحارف أقلام مكسّرة ... رؤوسهنّ وأقلام السعيد ظبا والسيف وهو جماد ما انتضته يد ... إلّا وأصبح فيها أفصح الخطبا ومنه قوله: [الوافر] كأنّ كراك كان سحيق ملح ... فلمّا استلّ بالعبرات ذابا رجوت القرب من عنق النّواجي ... فكانت للنوى ظفرا ونابا 465/رمتني في بلاد علّلتني ... بسحب كان أكثرها ضبابا بلاد خلابة يلقاك فيها ... حبيبك يوم تأتيه حبابا فياليت الذي أعطى وعودا ... حثا في وجه مادحه الترابا مركّب جوهر الأفهام فينا ... سقى عسلا وصبّ عليه صابا ولو خيّرت لم يكن اختياري ... سوى أن يسبق الشيب الشبابا كأنّ شعاع همّته سمّوا ... دعا المظلوم يخترق الحجابا وكم للغيث من أثر كفاني ... سؤالي كيف صاب وأين صابا بك اعتذرت مسيئات الليالي ... ومن تك عذره أمن العتابا منها: فأكمل ما يكون البدر نورا ... إذا كان النجوم له صحابا ومنه قوله: [الطويل] مشعشعة في كأسها فمن الذي ... رأى فوق نار ثوب نور يناسبه ومن حسن عهد الليل يزور نجمه ... [ ... ] من خوف الفراق ذوائبه منها:

غسلت يدي جمعا من الشّعر والمنى ... وما الشعر بالفنّ المقدّم صاحبه ونزّهت نفسي عن أكاذيب مسمعي ... وأقبح في عيني من الكذب كاذبه منها: وإن لم يكن لي عندكم قدر شاعر ... هبوني لكم راوي الحديث وكاتبه ومنه قوله: [المتقارب] تواضع لمن فقته ما سعى ... له الجدّ والجدّ لا ينتقب ولا تعجبنّ فإنّ الجديد ... بأضعف من جسمه ينجذب منها: [] تنفض كمّ السحاب «1» ... فيسبقها ذيله المنسحب 466/حمى نفسه الحسن أضعاف ما ... حمى نفسه الجمر لمّا التهب منها: وصاف يشنّ عليه الصّبا ... دلاصا مساميرها من حبب وما السيف إلّا لمن سلّه ... ولم يزل الملك فيمن غلب منها: ويجمع في صبره حزمه ... وما اجتمع اللّيث إلا وثب مدحت الورى قبله كاذبا ... وما صدق الفجر حتى كذب ولولا الأنامل لم تنتظم ... برأسي اليراع جمان الكتب ومنه قوله: [الكامل]

وأنامل آثارهنّ كأنّها ... في الجرم آثار الحبيّ الصّيب فانجح بهمتّك التي منظومها ... طوق الهلال وقرط أذن الكوكب ظفر الذّ من المدام سقيتها ... مقطوبة من كفّ غير مقطّب كفّ المقلّ تكون أرضا في الجدا ... وسماه تلك الأرض كفّ المترب فحبائل الأشعار ليس بواقع ... فيهنّ إلّا كلّ باز أشهب ومنه قوله: [الوافر] وليس لوصل من يدعى فيأتي ... عذوبة وصل من يدعى فيابى ألم تر أنّه للمجد شمس ... ويرضى أن تلقّبه شهابا ومنه قوله: [البسيط] قابلت بالشنب الأجفان مبتسما ... فطاح عن ناظريك السّحر منكوتا «1» جسما من الماء مشروبا لأعيننا ... يضمّ قلبا من الأحجار منحوتا ونشر ذكراك أذكى الطّيب رائحة ... ونور وجهك ردّ البدر مبهوتا 467/فضحت بالغيد الغزلان ملتفتا ... ولم يكن عن حيال الأسد ملفوتا عذرت طيفك في هجري وقلت له ... لو استطعت إلينا في الكرى جيتا وفتية من كماة الترك ما تركت ... للرّعد كبّاتهم صوتا ولا صيتا «2» قوم إذا قوبلوا كانوا ملائكة ... حسنا وإن قوتلوا كانوا عفاريتا مدّت إلى النّهب أيديهم وأعينهم ... وزادهم قلق الأخلاق تثبيتا بدار قارون لو مرّوا على عجل ... لبات من فاقة لا يملك القوتا حبل المنى مثل حبل الشمس متّصلا ... يرى وإن كان عند اللّمس مبتوتا

العلم يؤتى ولا يأتي وليس لمن ... يغتابني منهما إلّا بأن يوتى إذا رأيت كساد القول في بلد ... وأنت قسّ فكن في أهله حوتا بعزمة لو غدا العيّوق حاسدها ... لبات في الفلك العلويّ مكبوتا ومنه قوله: [الكامل] ما في مراجعة المسرّة رخصة ... من بعد تطليق السرور ثلاثا ولئن سلمت ولم تزل أسباب من ... طلب السلامة بالخمول رثاثا لنقرّطنّ بنات أعوج بالقنا ... يوما تصير به الذكور إناثا منها: بقريحة كالنار أخلص حرّها ... أصل النّضار وأحرق الأخباثا وخلاصة السّحر الحلال وحسنه ... ما كان في عقد النّهى نفّاثا رفعت لهاك الفقر عنّا بالغنى ... رفع الطهور المطلق الأحداثا ومنه قوله: [البسيط] ولن تقوم لأهل الحبّ بينّة ... على بياض صباح أو سواد دجى 468/ومن يكن فوق أرض [] درر ... يستطرق الجزع من مهديه والسّبجا «1» كم عالم لم يلج بالقرع باب منى ... وجاهل قبل قرع الباب قد ولجا لولا التباعد بين الحاجبين به ... بان افتراقهما لم يعرف البلجا زاد الوزارة فخرا من نهاه كما ... زاد البراق سمّوا من به عرجا مؤمّل لا ترى في خدّه صعرا ... مثقّف لا ترى في عزمه عوجا بحر يزيد سكونا كلّما عصفت ... ريح الخطوب فما تلقاه منزعجا أسعد بما حال من حول وزد شرفا ... تبلى بجدّته الأيام والحججا

وافى المحرّم والعلياء محرمة ... إلّا عليك فكن بالفضل مبتهجا لا زال عزمك والتأييد في صفة ... كالماء والخمر في كأس إذا امتزجا صقال نقدك أمضاني وهذّبني ... كم مادح بركيكات الصّفات هجا وما ذكرناك في ظلماء مسغبة ... إلّا تنفّس صبح الخطب وانبلجا ومنه قوله: [الوافر] أأيامي أقوّم أم ضلوعي ... تناسبني انحناء واعوجاجا فأمّ البخل تيتم كلّ يوم ... وأمّ الجود تسقطه خداجا إذا عزموا تغايرت الدّراري ... وإن جادوا حسبت البحر ماجا [] «1» كلّ فجّ ... ومن نثر المنى نظم الفجاجا ولولا قلّة الإنصاف منّا ... لوفّرنا على النّحل المجاجا إذا ما المزنة الوطفاء جادت ... ولم ترو الثرى كانت عجاجا ومنه قوله: [الطويل] 469/ومن ليلة دهماء فازت بغرّة ... من البدر لم ترزق حجولا من الصّبح كأنّ صغار الشهب فوق ظلامها ... لآلئ غوّاص نثرن على مسح كأنّ سهيلا رعدة وتباعدا ... غريق جبان يدّعي قوّة السبح ونصح الورى عند المحبّين باطل ... يردّونه ردّ الشهادة بالجرح فلا تنتظر علم التجارب واعتمد ... على الخاطر الوقّاد والخلق السّمح تعود مساعي المرء قبل مشيبه ... أحقّ بما يجنيه من ثمر النّجح يراعك يجرى حين يسوّد رأسه ... وليس بجار حين يبيضّ بالمسح خلقتم كراما في زمان [] «2» ... وأحسن ما لاح الكواكب في الجنح

يضيع الندى ما فارق الشعر وصفه ... ضياع سنان لم تركّبه في رمح ومنه قوله: [الكامل] كل ما يهول من الأمور إلى الذي ... علم السريرة وهو بالمرصاد «1» كم سرّ آخر عارض من بعدما ... ساءتك منه طليعة وهوادي في كلّ حكم حكمة مدفونة ... كشرارة غطّيتها برماد ما الناس إلّا جازع أو طامع ... خلقوا عبيد السيف والإرفاد «2» تبّت يد الأيام إنّ صروفها ... سقم الكرام وصحّة الأوغاد فمن الحدائد وهي أصل واحد ... سيف الكميّ ومبضع الفصّاد ما كثرة الشعراء إلّا علّة ... مشتقّة من قلّة النّقاد فلك البلاغة والفصاحة خاطري ... أهدي لمجدك كلّ نجم هادي فانظر إليّ بعين فضلك نظرة ... تهدي المنام فقد أطلت سهادي 470/ومنه قوله: [الطويل] نأى الرّيم فاسوّدت حياتي تكدّرا ... ومن مثل ما قاسيته المسك أسود فياليت أحبابي، غرامي ليكثروا ... ويا ليت عذّالي، سلويّ لينفدوا بهمّته نال العلا وبرزقه ... ومن سوّدته همّة فهو سيّد تفجّر ينبوع السلال [] «3» لفظها ... ولكن معانيها لها السحر يسجد تنّم بأسرار السجايا وتمتري ... بلاغتها ضرع النّهى يوم ينشد ولو بان فضل المرء من غير واصف ... لبان فرند السيف والسيف مغمد

ومنه قوله: [الكامل] والغرب مثل الغمد منتظم الحلى ... والشرق مثل النّصل منتثر الصدى «1» والصبح ملك والنجوم رعيّة ... بصرت بغرّته فخرّت سجّدا فتردّد الأشياء ينقص حسنها ... ويزيد حسن الجود أن يتردّدا وافى زمانك آخرا وتقدّمت ... بك همّة في كفّها قصب المدى فغدوت كالعنوان يكتب خاتما ... وبذاك في حال القراءة يبتدا لا أقتضيك بما سماحك فوقه ... فأكون كالرّاجي من البحر النّدى السيف لولا أن تحرّكه يد ... أكل القراب بحدّه فتجرّدا والبدر لو لم ألقه مستسعفا ... من نوره للقيته مستسعدا ومنه قوله: [الطويل] وليس يفي لحن الهزار إذا علا ... بصرصرة البازيّ يوم يصيد «2» فما للغصون المستقيمات أوجه ... ولا للبدور المشرقات قدود 471/فتى خطّه في ناظر الملك إثمد ... ومسعاه في جيد الزمان عقود خلال يسير المجد تحت ظلالها ... كأنّ العلا جيش وهنّ بنود بقيت سعيد الجدّ ما جدّ غيهب ... وأشرق مصباح وأورق عود ومنه قوله: [الكامل] في روضة قرن النهار نجومها ... بسنا ذكاء فزادهنّ توقّدا وانجرّ فوق غديرها ذيل الصّبا ... سحرا فأصبحت الصحيفة مبردا ومهنّد يضحي عقيقا في الطّلى ... ويبيت في ضمن القراب زبرجدا

كن تحت أذيال القناعة والرضا ... أو فوق أثباج الشجاعة والنّدى والفعل كان مقلّلا ومكثّرا ... ولذاك جاء مخفّفا ومشدّدا أمّلت موعدهم فزدت مشقّة ... لمع السراب يزيد وارده صدى ومنه قوله: [البسيط] مذاهب الناس شتّى والهوى طرق ... كنّا طرائق في أخلاقنا قددا ومن تقلّد من مدح بلا صلة ... قلادة أصبحت في جيده مسدا شهادة اللفظ والمعنى تقدّمني ... من يشرح اللفظ والمعنى إذا شهدا ومنه قوله: [الطويل] وما ذكر الناس الصّبا وتلهفّوا ... على فقده حتى تقادم عهده بنفسي غزال ما دعاه الورى أخا ... لبدر الدّجى إلّا توقّد حقده ذروني................ ..... ... لأجل سكون الطفل حرّك مهده وقوله: [الكامل] حال يخون السمهريّ سنانه ... فيها ويتّم المهنّد حدّه 472/من يقتدح زندا بكفّ مالها ... زند [ ... ] يقدح زنده من يستطيع جحود مجدك بعدما ... صحّ اعتراف الدّين أنّك مجده وقوله: [البسيط] مهاك يا عقد الوعساء أعينها ... ممّن تعلّمن هذا التعث في العقد صدر شرحت به صدرا وكنت لقى ... كالظبي خاف فلم يصدر ولم يرد ومنه قوله: [الوافر] وكم عرّضت والتعريض يكفي ... وما التّصريح إلّا للبليد

وقوله: [الطويل] ونضحي أساطير الكتاب بنظمه ... عقود بها القرطاس يحسده الجيد أمير المعالي كان موكب فضله ... لواء عليه من ثنا الوفد معقود ومن صححّت بالجود أخبار فضله ... روتها القوافي والمعاني أسانيد ومنه قوله: [الطويل] وتختلف الأغراض بالناس في الهوى ... وكلّ إلى ما قاده الطّبع قاصد وكيف يرجّى للثمار مزيّة ... وبالبقل في الدنيا تزان الموائد ولا تبغ برهانا على مكرماته ... طلابك برهانا على الصبح بارد ومنه قوله: [الكامل] لا تجنحنّ إلى الهوى إنّ الهوى ... طمع تولّد من قياس فاسد «1» كن في زمانك جاهلا متجاهلا ... إن كنت تطمع في منال فوائد والعود يعرب فرعه عن أصله ... ويجيء من ثمراته بشواهد إن لم تنلها هزّة فالبحر لا ... لا يهتزّ إن اتحفته بفرائد وقوله: [البسيط] إليك عنّي ظباء العقد ما خلقت ... ألحاظهنّ لغير النّفث في العقد 473/لو لم يدم مطر الأجفان ما نبتت ... قتادة الشوق بين القلب والكبد إنّي لأهضم نفسي بعد معرفتي ... أنّ الجمانة لا تطفو مع الزّبد دع ما تناسب في الأبصار ظاهره ... ولا تقل بقياس غير مطّرد فهيئة المتنافي لا اعتدال بها ... شتّان ما بين مهتزّ ومرتعد

حتى وصلت بروح ما لها جسد ... ولا حياة بغير الروح والجسد رئاسة فوق أسّ العلم نابتة ... ودولة نلتها من واحد صمد مجدا بطارفه أحييت تالده ... من اكتفى بعلى الآباء لم يسد ما صحّ لي خبر عن منظر حسن ... في مخبر حسن لولاك عن أحد ومنه قوله: [الكامل] لا تعتبنّ على الزمان فإنّه ... فلك على قطب اللّجاج يدور «1» إنّ الخلائق للحوادث مرتع ... شهد الصباح بذاك والدّيجور نقّح بفكرك ما تخاطبه به ... واسهر فناقد ما تقول بصير ومنه قوله: [الخفيف] كيف أقتصّ والحوادث عجم ... إنّ جرح العجماء كان جبارا «2» كم لبسنا أضفى السوابغ ذيلا ... وطرقنا أحمى القبائل جارا وخلونا بالعامريّة والخيل صيا ... م والحيّ ما شبّ نارا وانكفينا والفجر يعطس والرّي ... ح تعفي بذيلها الآثارا لو حبا الله خلقه بالتّساوي ... لوجدنا في كلّ عود ثمارا قلم خلته لكثرة ما يأسو ... كلوم الورى به مسبارا 474/لو كتبنا إليه عون المعاني ... أصبحت في مديحه أبكارا منيتي أن تدوم للفضل كهفا ... خلق الناس في المنى أطورا وإذا كان دونك الله درعا ... جعل الأيدي الطّوال قصارا ومنه قوله: [مجزوء الكامل]

المجد سهل والطريق إلي ... هـ بالاتّفاق وعر «1» كتب الكواكب مدحه ... فعلى المجرّة منه سطر وقوله: [المتقارب] وعدت وغير دمي ما ... أرقت وغير فؤادي لم ينحر ومنه قوله: [الطويل] وليس يحلى منه ذا العصر وحده ... هو الشمس كم حلّى به الله من عصر ومن كانت الشّعرى دوين محلّه ... فياليت شعري أين يدركه شعري ومنه قوله: [البسيط] ذا الدّرس سهل المعاني في جزالته ... يكاد يحفظه من لا يكرّره فليس للشّرع جيد لا تقلّده ... وليس للمجد جيب لا تعطّره كنت الطبيب لجسم الفضل دمت ولي ... تعيد صحّته فيما تدبّره لا أجحد الصّبح حقا من تبلّجه ... ولا أكذّب عيني وهي تبصره شخص نرى كلّ فضل فيه مجتمعا ... تبارك الخالق الباري مصوّره ومنه قوله: [البسيط] ليت البياض الذي زال السّواد به ... أبقى لنا منه ما في القلب والبصر «2» هذي الوزارة لا ما كنت أعهده ... أين اعتكار الدّجى من بلجة السّحر 475/وقوله: [الكامل] زادت بروق الأقحوان تألّقا ... وسقت رياض الورد سحب النّرجس

وقوله: [الطويل] تقدّمت دون الكلّ والحزم والنهى ... وفضّلت تفضيل السماء على الأرض وقوله: [البسيط] لا تأمننّ امرأ لانت سجيّته ... فرقّة الخمر رقّت من بها سقطا وأنفس الدرّ ما جاد اللسان به ... في سلك منتظم التاريخ منخرطا صدر سما أن يدانى في لهى وسطى ... فخجّل البحر جودا والهزبر سطا إن هزّه الجود كان الغيث منهمرا ... أو هزّه البأس كان السيف مخترطا وقوله: [البسيط] لي حقّ سالف مدح أنت عالمه ... والمحسنون إذا ما أوثروا شفعوا وقوله: [الوافر] كيوسف ما أراد سوى أخيه ... وإن ورّى بفقدان الصّواع ويكتب في الترائب بالعوالي ... حروفا دونها خطّ اليراع وما القلم القصير القدّ إلّا ... أخو الرمح الطويل من الرّضاع ومنه قوله: [الطويل] هجرت الكرى فوق الحشيّة غرّة ... على ظهر برق قلب لاقيه يخطف يبيت معي في خيمة من دجنّة ... لها طنب فوق الثريّا ورفرف وما الخوط خوط البان في روضة الرّبى ... يغطّى بأذيال السحاب ويكشف فيمسي بدرّ الطلّ وهو مقلّد ... ويضحي بتبر الشمس وهو مشنّف بأحسن من عرض يفدّى بنائل ... وعرف بمسك الشاردات يعرّف وما كنت أخشى أن تغبّ تفقّدي ... ويلهيه عن حالي نديم وقرقف ولكن خلاعات النفوس ولهوها ... نقاب على وجه المناقب مغدف

وحيث ترى الدّنيا الدّنية جهمة ... شرودا فثمّ السؤدد المتآلف 476/ومنه قوله: [البسيط] إذا تعانق منآد ومعتدل ... كانا كلا ضاع فيها اللّام والألف «1» أعجب بهم قطّ في الآراء ما اتّفقوا ... على صواب وفي التقصير ما اختلفوا لا عيب فيه سوى ظلم الزمان له ... والدّهر معتذر طورا ومقترف وإنّما رام بالإنقاص وقفته ... عن هزّة الجود والأفلاك لا تقف وربّما حال دون الجود ضيق يد ... والغيث أحواله في الجود تختلف ممهّد العذر في نظم بعثت به ... من عنده الدرّ لا يهدى له الصّدف ومنه قوله: [البسيط] إن قصّرت خدمتي فالجود أفضله ... تجاوز المرتجى عن هفوة الهافي وما نقول سوى ما أنت تعلمه ... نحن الظماء وأنت المنهل الصافي ومنه قوله: [البسيط] كم في القريض على العلّات من حكم ... ما بين متّفق المعنى ومختلفه «2» إذا تساوى لديك الناطقون به ... فما عرفت صحيح القول من دنفه فلا تهزّن إلّا من شهدت له ... بجوهر كان في الماضين من سلفه أين الذي ملك الدّنيا وضنّ بها ... مضى وما حمل الدّنيا على كتفه جهل الملوك بهذا الفنّ أفسدهم ... والبدر بدر على ما لاح من كلفه بالشيب فارقني دهري ولا ثمر ... في العود بعد اشتعال النار في طرفه دامت مساعيك للعليا فكلّ على ... بلا مساعيك سهم طاش عن هدفه

ومنه قوله: [الطويل] 477/وقد تحمل الشمس الصّباح بضوئها ... تفاوتت الأنوار والكلّ رائق بخوض النّجيع احمرّ ذيل..... ... كما نبتت حول الغدير الشقاشق وكم في اجتماع الشّمل لله من رضى ... وإن أخفقت منه القلوب الخوافق إذا جادت السّحب الصباح بطبعها ... فأجدر مخصوص بهنّ الحدائق وما نلت هذا كلّه نيل فلتة ... ولكن بنفس هذّبتها الحقائق خلائق لولا أنهنّ كواكب ... لما استمطرت أنواءهنّ الخلائق بقاؤك للإسلام عزّ مؤبّد ... فدم وابق للاسلام ما ذرّ شاهق ومنه قوله: [الكامل] نطقوا بأعينهم وأفصح ناطق ... دمع كفضّ ختامه الأشواق «1» ولقد صحبت الليل يسحب مسحه ... والجوّ خضر والنجوم نطاق حتى إذا ظهرت لسيف الفجر في ... هام الدّجنة شجّة سمحاق لا تعتبنّ على الخطوب فربّما ... خفي الصواب وأخطأ الحذّاق ومنه قوله: [الكامل] ربع وقفت به أمزّق سلوتي ... بصوارم العبرات كلّ ممزّق والسّحب من برد تسحّ كأنّها ... ترمي البسيطة عن قسيّ البندق [وقوله] «2» : [البسيط] ما اسودّ عيشي وذهني والنّهى كملا ... حتى تشعشع هذا الأبيض اليقق «3»

منها: موفّق لاقتناء الحمد منتصب ... على محبّته الآراء تتفّق وكيف قربك لم تصقل خلائقهم ... فقد ينير بضوء الكوكب الغسق وقوله: [الطويل] وأسيافنا في السابغات كأنّها ... جداول تجري بين نور تفتّقا 478/عرفت الغنى بالفقر والفقر بالغنى ... ومن صحب الأيام أثرى وأملقا وقوله: [الطويل] تقدّمت فضلا أن تأخّرت مدّة ... هوادي الحيا طلّ وعقباه وابل «1» كشفت دجاها والبروق صوارم ... وجدت ثراها والغمام قساطل إليه مردّ الأمر والأمر مشكل ... وفيه مجال الفكر والفكر ذاهل كأنّ المعاني في محاريب كتبه ... قناديل ليل والسّطور سلاسل ومن لم تساعده المنى فهو خائب ... ومن لم يغرّسه الغنى فهو راجل بقيت بقاء الدهر يا كهف أهله ... وهذا دعاء للبريّة شامل ومنه قوله: [الوافر] وبورك في خيام قبيل سلمى ... وفي تلك المضارب والحجال منها: ومن تملأ مدائحه المعاني ... فيكتبها المعادي والموالي منها: عقود في طلى الأيام تجلى ... وطرز فوق أكمام الليالي

منها: ودمت تقلّد التوفيق سيفا ... ويحيي جودك الرّمم البوالي ومنه قوله: [الطويل] ولمّا شكونا ناظريها وأطرقت ... وإطراق ذاك الطّرف إغماد منصل منها: تناسب من جاب العجاجة معلما ... بهاديه من جاب الظلام بمشعل منها: وصفت بها الأشعار في غير أهلها ... فأخطأت في التأميل قبل التأمّل منها: جزيل اللهى صفر اليدين ولم أكن ... سمعت ببحر فاض من نضح جدول وجازاك قوم في السماح ومن يرد ... مسابقة الأفلاك بالفلك يحجل أبوك معلّى بيت كعب ومن بنى ... لملك عقيل بالنّدى كلّ معقل 479/وأسلافك الغرّ الذين عهدتهم ... أهلّة أو كواكب جحفل «2» لشعري على فكري «2» وقوله: [الكامل] حتّام أنتظر الوصال وماله ... سبب، وهل تلد التي لا تحبل «3» لمساجليك من المعالي لفظها ... ولك المعاني والمعاني أفضل ومنه قوله: [المتقارب]

وقالوا: الكمال به نقرس ... فقلت: العفاء على عقله تشنج كفّيه يوم النّدى ... تعدّى فدّب إلى رجله ومنه قوله: [الكامل] ما كلّ من خطب العلا فحل ولا ... من طاول الجبل الأشمّ يطوله فتواك أنعت أم فتوّتك التي ... صار الرجاء بها [] «1» يبلّ غليله فالشرع مبنيّ على تشريعكم ... والدين تاج حبّكم إكليله ومنه قوله: [الكامل المرفل] فاستغفر الله ... لها في دم المقل «2» واستر عليك دلاص تسلية ... فاللحظ يبطل حيلة البطل منها: وكتابة في جنب أسطرها ... خطّ ابن مقلة بيّن الخطل لا تحقرنّ طفيف الرزق واغن به ... ما الغمر مجتمع إلّا من الوشل «3» إنّي لأشكو خطوبا لا أعيّنها ... ليسلم الناس من عذري ومن عذلي كالشّمع يبكي فلا يدرى أعبرته ... من صحبة النار أم من فرقة العسل منها: وانه المعيد دروسا أنت ذاكرها ... عن التشبّه في الإعجاز بالرّسل

480/إن كانت الأرض عينا فالبلاد لها ... جفن فمقلتها بغداد لم تزل كان الأئمّة كحلا في محاجرها ... فزانها الله منك اليوم بالكحل ولا خلوت من الحسّاد في شرف ... لولا السّفوح جهلنا رتبة القلل ومنه قوله: [البسيط] حتّى أتتنا وفي أعطافها بلل ... يهدي لكلّ مريض فيه إقلال والنّفس بين تباريح الجوى نفس ... والوصل تحت سيوف الهجر أوصال حدّثت عن منحنى الوادي ونازله ... كرّر حديثك لا ضاقت بك الحال لئن حلبنا صروف الدّهر أشطرها ... فكلّنا بصروف الدّهر جهّال وإنّما خدمتي بالشعر تذكرة ... تبقى على أنّ رسم الشمس إغفال ومنه قوله: [الرمل] موت أفهام الورى أوجب أن ... لا يخطر المعنى لمخلوق ببال وقوله: [الوافر] ولو عاتبت غيرك كان عتبي ... وإن لطفت عبارته نصالا ولكنّي إذا أصميت قلبي ... بسهمي ذقت من فعلي وبالا وإن أطفأت مصباحي بنفخي ... وطال الليل كنت أشدّ حالا ومنه قوله: [الخفيف] كاد يخفى عليّ قبل اشتعال ال ... رأس أنّ الخمود في الاشتعال منها: حسن الخطّ والعبارة وال ... لفظ قريب الرضا بعيد المنال

منها: قد أتيت العلياء من جانبيها ... يا كريم الأعمام والأخوال هذه غاية الكمال المرجّى ... صرف الله عنك عين الكمال 481/ومنه قوله: [الطويل] ولن تتساوى سادة وعبيدهم ... على أنّ أسماء الجميع موالي هو اللؤلؤ المكنون في صدف النهى ... وما كلّ حال من سواه بحال على القلم التعويل في السخط والرضا ... وما الرّمح إلّا آلة لقتال ويكتب ذاك الخطّ والخط بيّن ... فأيّهما أولى بوصف كمال كماة إذا هزّوا الذوابل خلتهم ... يشبّون نارا في رؤوس جبال ومنه قوله: [البسيط] خير النّدى ما تحلّى العاطلون به ... وأحسن النّصر ما يهدى لمنهزم مالي سوى الكرم المعهود من سبب ... هل عندكم سبب أقوى من الكرم منها: وروضة ما اجتنت كفّ لها زهرا ... وإنّما يجتنيها خاطر الفهم ومنه قوله: [المتقارب] ولم أر كالسيف يهوى الطّلى ... ويبكي إذا وصلته دما وإن لبس الجوّ يوم الوغى ... ثياب العجاج غدا محرما سرت في الظلام ولو لم تغن ... بواقعها الليل ما أظلما منها: هو البدر طلقا وصوب الحيا ... منيلا وليث الشّرى مقدما

رأى الله أيّامه غرّة ... فحلّى بها الزمن الأدهما ألست الذي يأنف الجود أن ... يرى في رعيّته معدما وهل ريّح المسك من طيبه ... سوى أن يفوح وأن تفعما وقد عنون الله بالمكرمات ... كتاب سعاداتك المعجما ومنه قوله: [الكامل] وشمائل أنطقنني من بعد ما ... كان السكوت عليّ ضربة لازم «1» 482/وإذا بسطت إليّ كفّك بالندى ... عرّفتني منها بخمس غمائم ومنه قوله: [الطويل] يعاب على كيوان ما لاق بالسّها ... وكلّ عظيم الحزم مستعظم الحزم كأنّ نسيم الصّبح عاد جفونها ... فشاطرها ما تدّعيه من السّقم [وقوله] «2» : [الطويل] فلم يبق دينار سوى الشمس لم تنل ... ولم يبق غير البدر في الناس درهم «3» تحلى بأسماء الشهور فكفّه ... جمادى وما ضمّت عليه المحرّم دقيق المعاني جلّ إنجاز لفظه ... عن الوصف حتى عنه سحبان مفحم ولكنّني ألفيت بالعجز رخصة ... وبالجرح حول البحر جاز التيّمم وكم من محبّ فارق الحبّ هيبة ... وبات صبا أخباره يتنسّم وما خلتني ألفي وفي الناس عالم ... ويرزق بي أهل القريض وأحرم ومنه قوله: [مجزوء الكامل]

هذا يغلّط سيبويه ... وذاك يقدح في قدامه جاءوا أمامك والأمي ... ر يجيء حاجبه أمامه منها: نثرت على أفوافها ... أحداقها غزلان رامه كرم السّجية خلقة ... لا تسلب الطّوق الحمامه ومنه قوله: [الخفيف] كلّ شيء له مآل ومفضى ... وإلى الانتباه أفضى المنام وغصون ثمارهنّ التثنّي ... وبروق غمامهنّ اللثام بلغت بالثرى خطاك الثريّا ... واستوت خلف سعيك الأقدام 483/نافذ الأمر لو أجار من النّق ... ص بدور الدّجى لدام التمام ومنه قوله: [مخلع البسيط] ولهذا ثنت عليه الليالي ... ومشت في ركابه الأيام فقت أهل الزمان علما وحزما ... واستوت خلف سعيك الأقدام وقوله: جاءتك تسري وما سمعنا ... بالروض يسري إلى الغمام والماء إن مازج الحمّيا ... أصلح من سورة المدام فراق ناديك سوء حظّ ... لا سيما مدّة الصيام ومنه قوله: [البسيط] حتى إذا طاح عنها المرط من دهش ... وانحلّ بالضمّ سلك العقد في الظّلم «1»

تبسّمت فأضاء الليل فالتقطت ... حباب منتثر في نور منتظم فاسلم لنظم المعالي وابق ما بقيت ... على ممرّ الليالي حضرة السلم واصفح فما سالف التقصير معتبر ... بعد اعتذاري بما استأنفت من خذمي ومنه قوله: [الكامل] وجدعت عرنين الضّلال بعزمة ... مرّت بها عين الهدى فتبسّما عقد إذا كان اهتمامك سلكه ... وأحاط بالجبل الأشمّ تهدّما وقوله: [الكامل] وصفات مجدك لا يكلّف عندها ... ألفاظ من وصف الكرام معاني كلّ يضاف إليه ما يعنى به ... وكذاك مثل شقائق النعمان معنى العلى والدّعاوى للورى ... سؤر الهرير وليمة السّرحان والبرق ألمع من حسام هزّه ... بطل وأخفق من فؤاد جبان 484/منها: وكذاك يزدحم الورى في بابه ... شروى ازدحام الحبّ في الرّمان «1» لا ينزل الدينار ساحة كفّه ... حتى ينادى أنت رزق فلان وكأنّه في كيسه عرض فما ... يبقى زمانا فيه بعد زمان لولا شهود الجود أنكر سامع ... ما قاله حسّان في غسّان أنا غرس همّتك الشريفة فاسقني ... واجر المناقب في جنان جناني ومنه قوله: [الوافر]

وقد تدنو المقاصد والمباغي ... فتعترض الحوادث والمنون «1» أترضى أن يقال: الصدر يرضى ... بجعجعة وليس يرى طحين فما يندى لممدوح بنان ... ولا يندى لمهجوّ جبين وظّني كان ضامن ما أرجّي ... فإن أخّرته أخذ الضّمين ومنه قوله: [الخفيف] أفسد الشيب فيك رأي الغواني ... والصّبا كان من عواري الزمان فوّقت للسرور فيه سهام ... وقعت في مقاتل الأحزان كلّ يوم ترى يد الشّعر تجني ... ثمرا من علاك في أغصان ومنه قوله: [الكامل] لو لم ينمّ بما أراق بنانه ... لم يدر ما فعلت بنا أجفانه أرأيت كيف تمارضت في صحّة ... وكفاك من خير المريب عيانه لا غرو أن تجني عليّ فضائلي ... سبب احتراق المندليّ دخانه وعبارة كالرّوض لمّا شنّفت ... سحرا بلؤلؤ طلّه آذانه 485/والبحر ما احتملت من المزن الطلى ... حتى تنظّم في الطّلى مرجانه ومنه قوله: [البسيط] ولست في المجد محتاجا إلى حجج ... ما كان للشمس غرّ الشمس برهانا لم يبق غيرك إنسانا نلوذ به ... فلا برحت لعين الدّهر انسانا وقوله: [البسيط] وفوق أشواق آمالي خطا هممي ... فالدّهر يسخطني من حيث يرضيني

وجود كفّ على الأيام متّصلا ... وللسحائب جود في الأحايين والبحر ما فار قبل الغوص وارده ... بلؤلؤ في قرار منه مكنون ومنه قوله: [الكامل] شوق البراقع والبلاقع دونها ... أنا منه بين تلهّف وحنين لا تشك فالأيام حبلى ربّما ... جاءتك من أعجوبة بجنين ما ضاع يونس بالعراء مجرّدا ... في ظلّ نابتة من اليقطين ومن نثره خطبة افتتح بها ألف بيت من شعره، قال فيها «1» : أمّا بعد حمد الله الواجب، والصلاة على نبيّه المخصوص بالمناقب، فإنّ الشعر زبدة الأدب، وديوان العرب. كانوا في جاهليتهم يعظّمونه تعظيم الشرائع، ويعدّونه من أعلى الذرائع. وجاء الاسلام فأجراه على الرسم المعهود في قطع لسان قائله بالجود، وإذا طالعت الأخبار، وصحّ عندك ما فاض من إحسان النبيّ صلى الله عليه وسلّم إلى حسّان بن ثابت، وخلعه البردة على كعب ابن زهير، واهتزازه للشعر الفصيح، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: إنّ من الشعر لحكما، علمت أنّ أكثر الشعر سنّة ألغاها الناس لعمى البصائر، وتركيب الشحّ في الطباع. وقد كنت في عنفوان الصّبا المّ به إلمام الصّبا بخزامى/ 486/الرّبى، وأنظمه في غرض يستدعيه لأذن تعيه، فلّما دفعت إلى مضائق الغربة جعلته وسيلة تستحلب بها أخلاق الشيم، وتستخرج بها درر الأفعال من أصداف الهمم، حتى إذا خلا الزمان من راغب في منقبة تحمد، ومأثرة تخلّد، وثبت في الانزواء على فريسة لم يزاحمني فيها أسد، ولا يرضى بها أحد، على أنّ من سالمه الزمان أجناه ثمن الإحسان، ومن ساعدته الأيام أعثرته على الكرام، وذلك أنّ الوزير بهاء الدين التمس منّي جمع فقر من شعري يروض نفسه لحفظها، وتأمّل معانيها ولفظها، فعلمت أنّ الكريم على العلياء يحتال.

45 - أفضل الدولة، أبو المظفر، محمد بن أبي العباس أحمد الأبيوردي.

وقد جمعت ممّا قلت فيه، وفي غيره ألف بيت ضاق نطاق الوقت عن تنقيحها، وإماطة سقيمها عن صحيحها، والاعتماد على كرم الناظر والمتأمل لها، ومن الله سبحانه وتعالى التسهيل، وهو حسبي ونعم الوكيل، عليه توكلّت وإليه أنيب. ومنهم: 45- أفضل الدولة، أبو المظفّر، محمد بن أبي العباس أحمد الأبيوردي «1» . صدر من صدور خراسان، وبدور آفاقه الحسان. بحر أدب لا تدرك قرارته، وبدر نسب لا تطرق دارته، مع نسك وافر، وترك لما يخبئه قلب الليل الكافر، وكرم أبوّة لا يدنس من اللؤم عرضها، وعظم فتّوة لا يدلس بضوء الصباح عرضها، وله نسب إلى أبي سفيان «2» ومحاسن يقرّ بها العيان، ويقرّ «3» لها الأعيان، وتقرب البعيد فتغني عن التبيان وكتب إلى بعض الخلفاء «4» رقعة قال فيها: قال فيها المعاوي فكشط الخليفة الميم فبقيت العاوي. ونسبه العماد الكاتب إلى معاوية بن محمد من ولد عنبسة بن أبي سفيان فتكون نسبته إلى معاوية هذا لا إلى معاوية أمير المؤمنين، وإنّما هو لأخيه من عنبر ذلك الطين، وقد كان حيث أراد من فضل يستسقى/ 487/لعس نؤيه العهاد «5»

ويستشفى بنفس كرمه جدب السنة الجماد، وهو ممّن قال فيه العماد الكاتب: شعره متين الحوك، محكم النسج، حسن الصّوغ، سليم النهج، منتقى اللفظ، منتخب المعنى، مهذّب المبنى، معسول الكلم، مقبول الحكم، ولقد كان عزيز النفس أبّيها، عزيز الفضيلة سنّيها وقّاد القريحة لو ذعيّها، نقّاد البصيرة ألمعيّها، وإنّه ولي في آخر عمره إشراف مملكة السلطان محمد بن ملكشاه «1» فسقوه السمّ وهو واقف عند سرير السلطان فخانته رجلاه فسقط وحمل إلى منزله فقال «2» : [الطويل] وقفنا بحيث العدل مدّ رواقه ... وخيّم في أرجائه الجود والباس وفوق السرير ابن الملوك محمّد ... تخرّ له من فرط هيبته الناس فخامرني ما خانني قدمي له ... وإن ردّ عني نفرة الجأش إيناس وذاك مقام لا نوّ فيه حقّه ... إذا لم ينب فيه عن القدم الراس لئن عثرت رجلي فليس لمقولي ... عثار وكم زلّت أفاضل أكياس «3» وتوفي يوم الخميس العشرين من ربيع الأول سنة سبع وخمسمائة بأصفهان «4» ، ثمّ قال: وكان- رحمه الله- عفيف الذيل غير طفيف الكيل، صائم النهار قائم الليل، متبحّرا في الأدب، خبيرا بعلم النّسب. انتهى كلام العماد.

ومن شعر الأبيوردي وطرره المشبّه بالعذار الريحاني على الخدّ الوردي قوله يصف قصائده ويصفّ مصائده: [الخفيف] دلّ فيها الذهن الجليّ بألفا ... ظ رقاق على معان دقاق فقريضي يراه من ينقد الأش ... عار سهل المرام صعب المراقي مؤيس مطمع قريب بعيد ... فهو أنس المقيم زاد الرفاق «1» وقوله من قصيدة يمدح النبيّ صلى الله عليه وسلّم أولها: [البسيط] 488/خاض الدجى ورواق الليل مسدول ... برق كما اهتز ماضي الحدّ مصقول أشيمه وضجيعي صارم خذم ... ومحملي برشاش الدمع مبلول يخدي بأروع لا يغفي وناظره ... بإثمد الليل في البيداء مكحول منها: إذا قضى عقب الإسراء ليلته ... أناخه وهو بالإعياء معقول وحال دون نسيبي بالدّمى مدح ... تحبيرها برضا الرحمن موصول أزيرها قرشيّا في أزرّته ... نور ومن راحتيه الخير مأمول «2» تحكي شمائله في طيبها زهرا ... يفوح والروض مرهوم ومشمول «3» من دوحة بسقت لا الفرع مؤتشب ... منها ولا عرقها في الحيّ مدخول «4» يا سيّد الرّسل إن لم تخش بادرتي ... على أعاديك غالتني إذن غول «5» والنّصر باليد منّي واللسان معا ... ومن لوى عنك جيدا فهو مخذول

فمر وقل أتّبع ما أنت تنهجه ... والأمر ممتثل والقول مقبول «1» وساعدي وهو لا يلوى به خور ... على القنا في اتّباع الحقّ مفتول «2» منها في ذكر الصحابة رضي الله عنهم: فمن أحبّهم نال النجاة بهم ... ومن أبى حبّهم فالسيف مسلول ومنه قوله: [الطويل] وصار الهوى فينا على رأي واحد ... إذا ما أمنّا عذله عاد واشيا تردّ على أعقابهن دموعنا ... وقد وجدت- لولا الوشاة- مجاريا «3» ومنها، وهو نوع من البديع يسمّى التفريع «4» : 489/وما مغزل فاءت إلى خوط بانة ... نأت بمجانيها عن الخشف عاطيا «5» برابية والروض يصحو وينتشي ... يظلّ عليها عاطل الترب حاليا «6» فمالت إلى ظلّ الكناس وصادفت ... طلا تتهاداه الذئاب عواديا «7» فولّت حذارا تستغيث من الردى ... بأظلافها والليل يلقي المراسيا

فلمّا استنار الصبح ينفض ظلّه ... كما نثرت أيدي العذارى لآليا «1» قضت نفسا يطغى إذا ردّ غربه ... إلى صدره الحراّن رام التراقيا بأبرح منّي لوعة يوم ودّعت ... أميمة حزوى واحتللنا المطاليا «2» «3» ومنه قوله: [الطويل] فلا وصل حتى يذرع العيس مهمها ... إذا الجنّ غنّتنا به رقص الآل «4» لئن لوّحتنا الشمس والبرد منهج ... فقد يبلغ المجد الفتى وهو أسمال «5» ولم يبق منّي في مهاواتنا السّرى ... ومن صاحبي إلّا نجاد وسربال «6» ومنه قوله: [الكامل] طرقت ونحن بسرّة البطحاء ... والليل ينشر وفرة الظّلماء «7» هلّا اتّقيت الشهب حين تخاوصت ... فرنت إليك بأعين الرقباء «8» خضت الظلام ومن جبينك يجتلى ... صبح ينمّ عليك بالأضواء «9» منها: وخطا الملوك الصّيد تقصر دونه ... وتطول فيه ألسن الشعراء

يتسرّعون إلى الوغى بصوارم ... خلطت بنشر المسك ريح دماء لا تهجر الأغماد إلّا ريثما ... تعرى لتغمد في طلى الأعداء «1» من كلّ مشبوح الأشاجع ساحب ... في الروع ذيل النثرة الحصداء «2» 490/ينساب في الأدراع عامل رمحه ... كالأيم يسبح في غدير الماء «3» وتردّ من قلقت به أضغانه ... حيّ المخافة ميّت الأعضاء وإصابة الخلفاء فيما دبّروا «4» ... مقرونة بكفاية الوزراء «5» ومنه قوله: [الطويل] فصرنا نلاقي النائبات بأوجه ... رقاق الحواشي كاد يقطر ماؤها إذا ما أردنا أن نبوح بما جنت ... علينا الليالي لم يدعنا حياؤها «6» وقوله: [البسيط] والفقر تطفأ أنوار الكرام به ... كما يقلّ وميض السيف بالصّدإ «7» ومنه قوله: [الطويل] وما أمّ ساجي الطّرف مال به الكرى ... على عذبات الجزع تحسبه قلبا «8»

فلاح لها من جانب الرّمل مرتع ... كأنّ الربيع الطّلق ألبسه عصبا «1» فمالت إليه والحريص إذا عدت ... به طوره الأطماع لم يحمد العقبى فلمّا قضت منه اللبّانة راجعت ... طلاها فألفته قضى بعدها نحبا بأوجد منّي يوم عجّت ركابها ... لبين فلم تترك لذي صبوة لبّا «2» منها: مهفهفة لم ترض أترابها لها ... ببدر الدجى شبها، وشمس الضحى تربا تنفّس حتى يسلم العقد سلكه ... وأكظم وجدا كاد ينتزع الخلبا «3» وتذري شآبيب الدموع كأنّما ... أذابت بعينيها النّوى لؤلؤا رطبا «4» ومنه قوله: [الطويل] كأنّ نسيم العنبر الورد إن سرت ... إلينا ووسواس الحليّ رقيبها «5» وكنت إذ الأيكية الورق غرّدت ... أخذت بأحناء الضلوع أجيبها «6» 491/ومنه قوله: [البسيط] وفيّ من شيم الضرغام جرأته ... إذا أرابتك أخلاق من الذيب أواصل الخشف والغيران مرتقب ... لا خير في الوصل عندي غير مرقوب «7»

منها: أعداؤهم ومطاياهم على وجل ... فهم أعادي رؤوس أو عراقيب «1» ومنه قوله: [المديد] وأراني صبح وجنته ... بظلام الصّدغ ينتقب وسعى بالكأس مترعة ... كضرام النار يلتهب فهي شمس في يدي قمر ... وكلا عقديهما الشهب «2» ولها من نفسها طرب «3» ... فلهذا يرقص الحبب «4» ومنه قوله: [الطويل] إذا ما عقدنا راية مقتديّة ... رجعنا بها خفّاقة عذباتها تسير حواليها الملوك بأوجه ... تباهي ظبى أسيافهم صفحاتها «5» إذا ركزوها فالأنام عفاتهم ... وإن رفعوها فالنسور عفاتها «6» ومنه قوله يصف الديك: [الطويل] متوّج أعلى قمة الرأس ساحب ... جناحيه في العصب اليماني مرعّث «7» إذا ما دعا لبّاه حمش كأنّها ... تفتّش عن سرّ الصباح وتبحث «8»

لك الله من سار إذا كتم السّرى ... فلا ضوؤه يخفى ولا الليل يمكث «1» ينمّ علينا الحلي حتى إذا رمى ... به بات واشي العطر عنّا يحدّث له لفتة الخشف الأغنّ ونظرة ... بأمثالها في عقدة السحر ينفث وقدّ كخوط البان غازله الصّبا ... يذكّر أحيانا وحينا يؤنّث ومن بيّنات الشوق أنّي على النوى ... أموت لذكراه مرارا وأبعث بقايا جوى تحت الضلوع كأنّها ... لظى بشآبيب الدموع يورّث وركب يزجّون المطايا كأنّهم ... أثاروا بها ربد النعام وحثحثوا «2» ومنه قوله: [الوافر] وإن لبس العجاجة ضلّ فيها ... ضلال المشط في الشعر الأثيث «3» وقوله: [البسيط] وإن كويت فأنضج غير متّئد ... لا نفع للكيّ إلّا بعد إنضاج «4» منها: ألست أغزرهم جودين شوبهما ... دم وأولاهما فودين بالتاج «5» من فرع عدنان في أزكى أرومتها ... كالبحر يدفع أمواجا بأمواج قوم حوى الشرف الوضّاح أوّلهم ... والناس بين سلالات «6» وأمشاج «7»

ومنه قوله: [الطويل] وقد صغت الجوزاء والفجر ساطع ... كما لمعت ريّا إليّ بدملج «1» وشوقي حليم غير أنّ صبابة ... تسفّه حلم الوامق المتحرّج «2» ومنه قوله: [مجزوء الكامل] وأغنّ إن عذر الورى ... في حبّه عذل الحجى «3» ورقيبه في ناظري ... ي قذى وفي صدري شجى أهوى إليّ بكأسه ... كالجمر حين تأججّا والليل أسحم لم يكد ... سر باله أن ينهجا فافتّر عن قصر أها ... ب بفجره فتبلّجا وكأنّ طرّة صبحه ... ليثت «4» بناحية الدّجى «5» ومنه قوله: [الوافر] لأرتدينّ بالظلماء حتى ... تشقّ عزائمي ثغر الدياجي وأروع تحت أخمصه الثريّا ... وفوق جبينه خرزات تاج «6» ومنه قوله: [السريع] وإن وشى الحلي به راعه ... بعد وفاء الخرس غدر الفصاح «7»

وكيف يستكتم خلخاله ... سرّا وقد نمّ عليه الوشاح وما أضاء البرق من ثغره ... إلّا تجلّى حبب فوق راح كأنّه الروضة مطلولة ... لها اغتباق بالندى واصطباح «1» فالطرف- إن مرّضه- نرجس ... والخدّ ورد والثغور الأقاح «2» ومنه قوله: [الطويل] وإنّي لتسمو بي إلى المجد همّة ... تودّ الثريا أن تكون وشاحها فإن نلتها استخلصت حقّي وإن أخب ... فخطوة ساع لم تصادف نجاحها «3» ومنه قوله في الفهد: [الكامل] ومقيل عفر زرته ويد الردى ... بسطت أناملها لكي تجتاحها «4» ولديّ مرقوم القميص قد احتمت ... منه بأجنحة الحمى فأباحها «5» وفللت عن بقر الصريمة غربه ... والرعب أقمأ باللّوى أشباحها «6» فكأنّما خلعت عليه إذ نجت ... منه نواظر لا تكفّ طماحها «7» وتحوّلت نقطا بضاحي جلده ... حتى وقت بعيونها أرواحها «8»

وقوله: [البسيط] إنّي لأذكرها بالظبي ملتفتا ... والشمس طالعة والغصن ميّادا وقد رضيت من المعروف تبذله ... أن ينجز الطيف في مسراه ميعادا «1» وقوله: [الوافر] وقد جعلت على خفر تراءى ... فتخفي من محاسنها وتبدي وكم باك كأنّ الجيد منه ... يوشّح من مدامعه بعقد «2» وإن يك صافيا وشل تمشّت ... بجانبه الصبّا فكذاك ودّي «3» ومنه قوله: [الطويل] سرت أمّ عمرو والنجوم كأنّها ... على مستدار الحلي من نحرها عقد «4» وقوله: [الكامل] والسّمر من حذر التحطّم في الوغى ... تبدي اهتزاز منضنض مطرود «5» فكأنّهن أعرن من أعدائه ... يوم اللقاء تلوّي المزؤود «6» ومنه قوله: [الوافر] كأنّهم ونار الحرب يقظى ... تمشّى في عيونهم الرقاد هم بخلوا بطاعتهم ولكن ... على الأسلات بالأرواح جادوا «7»

وقوله: [الكامل] وبكلّ مرمى نظرة من وامق ... تحكي مباسمهنّ فيه عقود خدّ وخال يعشقان كأنّما ... نقطت بحبّات القلوب خدود «1» ومنه قوله: [الكامل] وعليلة اللحظات يشكو قرطها ... بعد المسافة من مناط عقودها حكت الغزالة والغزال ببعدها ... وبصدّها وبوجهها وبجيدها فمنال تلك إذا نأت كوصالها ... ونفار ذاك إذا دنت كصدودها «2» إذ شقّ أردية الشقيق بها الحيا «3» ... فحكينها بقلوبها وخدودها «4» 495/ومنه قوله: [الطويل] لأدّرعنّ النّقع والسيف ينتضى ... لجينا ونؤويه إلى الغمد عسجدا «5» بجرد يجاذبن الأعنّة أيديا ... لبيقات أطراف الأنامل بالنّدى «6» إذا هنّ نبّهنّ الثرى من رقاده ... ذررن به في مقلة النجم إثمدا «7» وشعّثن أعراف الصباح بهبوة ... يطالعن منها ناظر الشمس أرمدا «8»

ومنه قوله: [الطويل] ويوم تراءى شمسه من عجاجه ... تطّلع أسرار الهوى من ضمائري «1» وتختفق الرايات فيه كأنّما ... هفت بحواشيها قوادم طائر «2» وقوله: [الطويل] ففي العسر أحيانا وفي اليسر تارة ... يعيش الفتى والغصن يعرى ويكتسي «3» ومنه قوله: [الطويل] وأبدى الرّضا والعتب في أخرياته ... ومن بيّنات الحبّ أن يجمعا معا «4» إذا ما غسلت العار عنّي لم أبل ... نداء زعيم الحيّ بشّر أو نعى «5» وقوله: [الطويل] فإنّ ازدياد المال من غير نائل ... يشين الفتى كالسنّ لزّ به الشّفا «6» بقيت ضجيع العزّ في حضن دولة ... لبست بها طوق الأهلّة مفرغا «7» ومنه قوله: [الطويل] وأصبو ويلحاني على الحبّ عاذلي ... وأين فؤاد للسلوّ يصاغ

ومن شغلته بالهوى نظراتها ... فليس له حتى الممات فراغ «1» وقوله: [البسيط] لئن جحدتك نعمى قدّ ريّقها ... إلى النوائب منّي باع منتصف «2» فلا تلقّيت خلّي حين تزعجه ... فظاظة الدهر بالمألوف من لطفي «3» وقوله: [الطويل] بروض تمشّى بين أزهاره الصّبا ... فتحسبها مذعورة حين ترجف «4» ومنه قوله: [الكامل] هيفاء نشوى اللّحظ يقصر طرفها ... خفر ويسكر تارة ويفيق فكأنّه والبين يخضل جفنه ... بالدمع من حدق المها مسروق «5» منها: يفترّ عن برد يكاد يذيبه ... قبل تردّد في اللّمى المرشوف «6» وجرت أحاديث تبيت قلائد ... من أجلهنّ حواسدا لشنوف «7» ومنه قوله: [البسيط] كالماء والنار موجودين في حجر ... والبدر في سدف والدرّ في صدف «8»

496/كالبحر لو أمّن التيار راكبه ... والبدر لو لم يشنه عارض الكلف ولم يذر في النّدى إسرافه كرما ... وإنّما شرف الأجواد في السّرف «1» وقوله: [الكامل] وهواي تلو هواك في روق الصّبا ... حتى كأنّ العاشق المعشوق «2» ومنه قوله: [الطويل] ولا أرض إلّا وهي من كلّ جانب ... إلى بابه للمعتفين طريق وبشر يلوح الجود منه وهيبة ... تروع لحاظ المجتلي وتروق «3» وقوله: [المتقارب] ولمّا رأينا رداء الدّجى ... لقى بيد الفجر عنّا يشق جرت عبرة رقرقتها النوى ... على وجنة هي منها أرقّ ويقصر ليلي حتى يكا ... د يعلق ذيل الصباح الشّفق «4» ومنه قوله: [الطويل] صفت في الهوى منّي ومنك سرائر ... جمعن قلوبا في جسوم تفرّق ففيك سكوتي والضمائر تنتجي ... وعنك إذا ما ساعد القول أنطق «5»

وقوله: [مجزوء الكامل] ففؤاده كسوارها حرج ... ووساده كوشاحها قلق 497/عانقتها والشهب ناعسة ... والأفق بالظلماء منتطق فلثمتها والليل من قصر ... قد كان يلثم فجره الشفق ثم افترقنا حين فاجأنا ... صبح تقاسم ضوءه الحدق وبنحرها من أدمعي بلل ... وبراحتي من نشرها عبق «1» ومنه قوله في وصف الفرس: [البسيط] ومرتد بالدّجى روّحت صهوته ... بعد اختلاس ذماء الريح بالعنق «2» فما مسحت بعرف الصبح حافره ... ولا فليت عليه لمّة الغسق «3» وليس في الأرض من يطوي إليه ولا ... يجلو لمى الليل فيه مبسم الفلق «4» ومنه قوله: [الكامل] صدّت أميمة حين لاح بمفرقي ... شيب يبرح بالمحبّ الوامق لا تعرضي عنّي فأنت جنيته ... وهواك منّع بالمشيب مفارقي ولقد خلعت عليك ما استحسنته ... وهو الشباب وذاك جهد العاشق فتركتني أرعى النجوم بناظر ... يشكو الغرام إلى فؤاد خافق «5»

فسمحت حتى بالحشاشة في الهوى ... وبخلت حتى بالخيال الطارق «1» ومنه قوله: [الطويل] وذي هيف للبرق منه ابتسامة ... وراء غمام عن مدامعه أبكي أظنّ مهاة الرمل عن لحظاته ... إذا نظرت تحكي من السحر ما يحكي «2» ومنه قوله في صفة الدرع: [الوافر] وكلّ مفاضة تحكي غديرا ... يعانق وهو مرتعد شمالا «3» 498/وقد أهدى الدّبى حدقا صغارا ... لها فتحولت حلقا دخالا «4» إذا وسع التّقى كرمي فأهون ... بخود ضاق قلباها مجالا «5» ومنه قوله: [البسيط] ما للجبان ألان الله جانبه ... ظنّ الشجاعة مرقاة إلى الأجل وكم حياة جنتها النّفس من تلف ... ورب أمن حواه القلب من وجل «6» منها: حنّت إليهم ظبا الأسياف ظامئة ... حتى أبت صحبة الأجفان والخلل «7»

إذا جرى ذكرهم باتت على طرب ... متونهنّ إلى الأعناق والقلل «1» ومرهف أنحل الهيجاء مضربه ... لا يألف الدهر إلّا هامة البطل «2» وذابل ينثني نشوان من علق ... كالأيم رفّع عطفيه من البلل «3» وقوله: [الكامل] والشمس راكدة يذوب لعابها ... والظلّ يكنس تارة ويماشي «4» ومنه قوله: [الكامل] فبدا وقد نشر الصباح رداءه ... كالأيم ماج به الغدير فنضنضا «5» إذ لم يصرّح بابتسامك جهرة ... فلقد- وحبّك يالبينى- عرّضا «6» وقوله فيه: [الطويل] كأنّ خلال الغيم من لمعانه ... يدي قادح يرفضّ من زنده سقط «7» تناعس في وطفاء إن حلّت الصّبا ... عزاليها بالودق عيّ بها الرّبط «8» منها:

تبسّم عن أحوى اللثاث يزينه ... جمان يباهيه على جيدها السّمط «1» ومنه قوله: [الكامل] 499/والرّكب من دهش النّوى في حيرة ... لا راقدون ولا هم أيقاظ وبدت لنا هيفاء مخطفة الحشا ... فتناهبت وجناتها الألحاظ فكأنّما ألفاظها عبراتها ... وكأنّما عبراتها الألفاظ «2» وقوله: [الطويل] علوت ففتّ النّجم حتى تخاوصت ... إليك عيون الشهب وهي جواحظ «3» ومنه قوله: [البسيط] رنا وناظره بالحسر مكتحل ... أغنّ يمتار من ألحاظه المقل «4» فرحت أدنو بقلب هاجه شجن ... وراح ينأى بخّد زانه خجل «5» منها: يمشي كما لاعبت ريح الصّبا غصنا ... ظلّت تجور به طورا وتعتدل ذو وجنة إن جنت عين الرقيب بها ... ورد الحياء كساها ورسه الوجل «6» ومنه: [الطويل]

وحيّ من الأعداء تبدي شفاههم ... نواجذ مقرون بهنّ الأنامل «1» فمنهم بمستنّ المنايا معرس ... تطيف به سمر القنا والقنابل «2» وآخر تستدني خطاه قيوده ... وهنّ بساقي كلّ عاص خلاخل أزرتهم بيضا كأنّ متونها ... أجنّ المنايا اسودّ فيها الصياقل «3» ومنه قوله: [الكامل] واها لعصرك وهو يقطر نضرة ... ويميس تحت ظلاله التأميل فكأنّه ورد الخدود إذا اكتست ... خجلا وكان يذيبها التقبيل لولا تأخرّه وقد أوقرته ... كرما لنمّ بفضله التنزيل «4» ومنه قوله في وصف بغداد: [الطويل] 500/هواء كأيام الهوى لا يغبّه ... نسيم كلحظ الغانيات عليل وعصر رقيق الطّرتين تدرّجت ... على صفحتيه نضرة وقبول «5» ومنه قوله: [البسيط] لله ما صنعت أيدي الركاب بنا ... عشيّة استتر الأقمار بالكلل «6» إذا ابتسمن سلبن البرق روعته ... وإن نظرن فجعن الظّبي بالكحل من كلّ بيضاء مصقول ترائبها ... مقسومة العهد بين الغدر والملل

تسلّ من مقلتيها صارما أخذت ... من حدّه وجنتاها حمرة الخجل «1» ومنه قوله: [الطويل] أتحسب تلك العامرية أنّني ... أذلّ ويأبى المجد أن أتذّللا وتزعم أنّي رضت قلبي لسلوة ... إذا لا أقال الله عثرة من سلا «2» ومنه قوله: [الطويل] ولولاك يا ذات الوشاحين لم تكن ... موشّحة من أدمعي بلآل وفيك صدود من دلال أظنّه ... على ما حكى الواشي صدود ملال فلا تلزميني ذنب دهر يسومني ... على غلظ الأيام رقّة حالي «3» وعند بنيه حين يخشى بناتها ... قلوب نساء في جسوم رجال «4» ومنه قوله: [البسيط] من أغفل الحزم أدمى كفّه ندما ... واستضحك النّصر من أبكى السيوف دما فالرأي يدرك ما يعيا الحسام به ... إذا الزمان بذيل الفتنة التثما «5» [ومنه قوله] «6» : [الطويل] يشيّعهم قلب المشوق وربّما ... يقاد إلى ما ساءه بزمام

501/وقد بخلت سعدى فلا الطيف طارق ... وليس بمردود إليّ سلامي من الهيف يستعدي على لحظها المها ... وتسلب خوط البان حسن قوام «1» وكم ظمأ تحت الضلوع أجنّه ... إلى رشفات من وراء لثام وما ذقت فاها غير أنّي مكرّر ... أحاديث ترويها فروع بشام «2» ومنها: وهل أتناسى العيش غضّا كأنّما ... أعير اخضرارا من عذار غلام «3» بأرض كأنّ الروض في جنباتها ... تجرّ ذيول العصب فوق أكام «4» إذا صافحت غدرانه الريح خلتها ... تدرّع أثرا في غرار حسام «5» ومنه قوله: [الطويل] سرى طيفها والليل رقّ ظلامه ... وقد حطّ عن وجه الصباح لثامه وهبّت عصافير اللّوى فتكلّمت ... وجاوبها فوق الأراك حمامه «6» منها: فما راعني إلّا الخيال وعتبه ... وفجر نضا برد الظلام ابتسامه كأنّ ظلام الليل والنجم جائح ... إلى الغرب غمد والصباح حسامه «7»

ومنه قوله: [البسيط] إذا استنامت إلى العصيان مارقة ... يأبى لها الحين أن تبقى إلى حين مشوا إليها بأسياف كما انكدرت ... شهب ثواقب في إثر الشياطين «1» ومنه قوله: [الطويل] وليلة نعمان وشى البرق بالهوى ... ألا بأبي برق يمان ونعمان «2» فلله حزوى حين أيقظ روضها ... رشاش الحيا والنجم في الأفق وسنان إذا ما النسيم الطّلق غازل روضها ... أمال إليه عطفه وهو نشوان «3» 502/ولو لم يكن صوب الغمام مدامة ... يعلّ بها حزوى لما سكر البان «4» ومنه قوله: [الكامل] ولقد طرقت الحيّ يحمل شكّتي ... ظامي الفصوص أديمه ريّان «5» ووقفته حيث اليمين جعلتها ... طوق الفتاة وفي الشمال عنان «6» ولقد ذكرت العامريّة ذكرة ... لا يستشفّ وراءها النسيان «7» وهفا بنا ولع النسيم على الحمى ... فثنى معاطفه عليّ البان «8»

ومشى بأجرعه فهبّ عراره ... من نومه وتناجت الأغصان بأكفّ أبطال تكاد دروعهم ... عند اللقاء تذيبها الأضغان «2» منها: ومهنّد تندى مضاربه دما ... بيد ينم بجودها الإحسان «2» ومنه قوله: [الكامل] ورأيت من يمتار ضوء جبينه ... بصري فقبلّت الثرى بجبيني «3» ومنه قوله: [البسيط] وفضّ غمد حسامي في العناق لها ... ضمّي كما التفّ بالأغصان أغصان والشهب تحكي عيون الروم خيط على ... أحداقها الذرق للسودان أجفان يا أخت معتقل الأرماح يتبعه ... إلى وقائعه نسر وسرحان أعرضت غضبى وأغريت الخيال بنا ... فلست ألقاه إلّا وهو غضبان «4» ومنه قوله: [المتقارب] ولمّا تناديتم بالرحي ... ل لم يترك الدمع سرّا مصونا أمنتم على السرّ منّا القلوب ... فهلّا اتّهمتم عليه العيونا «5» 503/قال العماد الكاتب: أنشدني الحافظ أبو طاهر السلفي قال: أنشدني الأبيوردي:

تنكّر لي دهري ولم يدر أنّني ... أعزّ وأحداث الزمان تهون فظلّ يريني الخطب كيف اعتداؤه ... وبت أريه الصّبر كيف يكون «1» وقوله: [البسيط] فلست أدري أمن دمع أرقرقه ... أم من مباسمها ما في تراقيها «2» وقوله: [الطويل] فبرّح بي شوق أراني بثغرها ... ودمعي وعقديها وشعري لآليا «3» ومنه قوله في رثاء السلطان أحمد بن ملكشاه «4» : [الكامل] والبيض تقلق في الغمود كما التوت ... رقش تبلّ متونها الأنداء «5» والسّمر راجفة كأنّ كعوبها ... تلوي معاقدها يد شلّاء «6» والشمس شاحبة يمور شعاعها ... مور الغدير طغت به النكباء والنيّرات طوالع رأد الضّحى ... نفضت على صفحاتها الظلماء «7» ومنه قوله من مرثية «8» : [الكامل]

ولنا بمعترك المنايا أنفس ... وقفت بمدرجة القضاء الجاري ملأت قبورهم الفضاء كأنّها ... بزل الجمال أنخن بالأكوار «1» ألقوا عصّيهم بدار إقامة ... أنضاء أيام مضين قصار «2» وكأنّهم بلغوا المدى فتواقفوا ... يتذاكرون عواقب الأسفار لم يذهبوا سلفا لنغبر بعدهم ... أين البقاء ونحن في الآثار «3» منها: والناس يستبقون في مضمارها ... والموت آخر ذلك المضمار «4» وقوله من مرثية أخرى «5» : [الكامل] والعيش أوّله عقيد مشقّة ... وأذى وآخره مقيل حمام «6» 504/والعمر لو جاز المدى لتبّرم ال ... أرواح منه بصحبة الأجسام فمضى وقد أصحبته سيّارة ... كالروض يضحك من بكاء غمام «7»

46 - أبو عبد الله، محمد بن نصر بن صغير المعروف بابن القيسراني.

ومنهم: 46- أبو عبد الله، محمد بن نصر بن صغير المعروف بابن القيسراني «1» . هو أول بيته، وممول حيّه وميته، لأنّه نبّه ذكر عقبه وشبّه بالنظراء أهل نسبه بما ألهمه من ذكاء أضاء له زناده المقتدح، وجاء وفق المقترح فنظم القصائد الغرّ، ومدح بها وتكسّب بتجارتها، وتوصّل إلى المجالس بسفارتها، وأرخص سومها في البيع فكانت على قلّة المتحصّل أجدى في الرّيع، وتوسّع في المدائح وتنوّع في تحصيل المنائح، ومدح حتى رؤوساء اليهود، وكبراء الرعاع طلبا للجود، هذا مع ما ادّعاه من النّسب القرشي، والأدب الذي ليس معه شيء بمخشي حتى قال إنّه من ولد خالد بن الوليد رضي الله عنه قولا ردّه النّسابون، وصدّه أهل الصدق بما عرف به الكذّابون. وقد أتى في ذكر بعض ولده من الكتاب ما ذهبت مذهب التّصريح معاريضه، وركبت ركوب الأبحر أعاريضه. وهذا الأديب أصله من قيسارية الساحل، ومولده عكا، وأقام بها لا يزال يتشكّى حظّه وعكا ثمّ اضطرب في بلاد الشام وشقّها طولا وعرضا، وشام بارقها خفوا وومضا. ومدح الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي وحظي بجوائزه ثمّ تصرّف ابنه في ملكه تصرّف مالك حائزه حتى بعثه نور الدين إلى السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب

قدّس الله روحه ظنا أنّه يضبط له مال مصر ويمتدّ له هناك قلم قطّه صلاح الدين وغلّه بعدم التمكين فعاد بأقبح خزية وأبداها. وأخيب سفرة/ 505/ما أقلّ جداها، ثمّ كان في هذا البيت من ذكر ممّن ذمّ أو شكر، وكان هذا أصل تلك الدّوحة، وأصل وأبكار تلك الغدوة والرّوحة، وكان في الهيئة ذا مشاركة لا تخطي في مساحتها إذا قسّم، ولا تضيق في صدره ساحتها إذا توسّم، وكان في الأدب حيث يستمك السنّام، ويستمع قول الأنام، وكانت بينه وبين ابن منير الطرابلسي شحناء لا يسكن غليانها، وبفضاء لا تنقضي أحيانها، واستعدى ابن القيسراني الملك العادل نور الدين عليه فأباحه دمه، وحلّى وشاحه بسيف يضرب به عنقه، ويطيح دمه، وجعل له هذا السّيف حكما ماضيا، وحكما قاضيا، فتحّيل ابن منير بحيل دقّقها، ووصل اهتبل بها غرّة ابن القيسراني ووطي عنقها حتى أخذ ذلك السيف وبخّه بخلّ ثمّ رده إلى قرابه فصدأ في القراب، ولصق به لصوقا لا يفارقه إذا سلّه للضراب، ثمّ كان ابن منير في تلك المدّة يتحيّد ابن القيسراني ويقول قول الأرنب أن خير إليّ يوم لا أرى الكلب ولا الكلب يراني حتى علم بأنّ سمّ كيده قد استحكم في جسم ذلك السيف، وأنّ جفن ذلك الغرار قد تملّأ كرى لا حلم فيه ولا طيف ثمّ تعرّض له في الطريق، وأتاه وهو بين حفد له غير فرق من ذلك الفريق، فأومأ ابن القيسراني بيده إلى السيف ليخرطه فما انخرط، وخان عهده مقيما عذره في عدم الوفاء بأنّه ما شرط، فضحك من حضر، وخجل ابن القيسراني خجلا صار به مثلا للبشر، وبلغ هذا نور الدين فقال: لو كان ابن القيسراني محقّا ما كفّ عن هذا ودمه هدر. أمّا ما يختار له فقوله: [الطويل] كتائب تروى بالكتائب لفظها ... ظباها وسمر الخطّ فيها بنودها «1» وقوله: [الطويل]

فمن حذري ورّيت بالبان والنّقا ... مخافة أن يسعى عليّ رقيب «1» 506/فلا تمنعيها من قوامك هزّة ... فيحظى بها غصن سواك رطيب منها في ذكر النّياق: وليلة بتنا والمهاري حواسرا ... يزرّ عليها للظلام جيوب فبتن يبارين الكواكب في الدّجى ... لهنّ طلوع بالفلا وغروب نواصل من صبغ الظلام كما بدا ... لعينك من تحت الخضاب مشيب «2» خوافق في صدر الفضاء كأنّها ... وقد وجبت منّا القلوب قلوب منها: سوابح في بحري فضاء وسدفة ... لهنّ اعتلاء بالضحى ورسوب «3» وريق وفي عود الكرام قساوة ... طليق وفي وجه الزّمان قطوب بليغ إذا جدّ الخصام مضى له ... لسان بأطراف الكلام لعوب نسيب المعالي يطرب القوم مدحه ... كأنّ الثناء المحض فيه نسيب ومنه قوله: [السريع] أشتاق أهلي بدمشق وفي ... بغداد حظّ القلب والعين «4» ففي لقائي ذا فراقي لذا ... قل إلى متى أخلو من البين وقوله: [الوافر]

وضاقت ساحة الأخلاق حتى ... نبا الخلق الكريم عن التغاضي «1» وعندك أنّني مع ما ألاقي ... نسيتك، لا وعينيك المراض ومنه قوله: [المتقارب] وفي الركب صب إذا اشتاقكم ... لوى جيده نحوكم فالتوى «2» يجود بعين لو أنّ الرّكا ... ب تغمّر في دمها لارتوى أحبّ الشآم وأهوى العراق ... فخلفي هوى وأمامي هوى 507/وقوله: [الوافر] شتوا يدعو الضيوف إلى قراهم ... سنانير أنّهم فوق الروابي «3» وقوله: [الوافر] يتيّمني بأرض الشام حبّ ... ويعطعني على بغداد حبّ «4» فكلّ هوى يطالبني بقلب ... وهل إلى غير هذا القلب قلب إذا كان التنائي في التلاقي ... فماذا يصنع الدّنف المحبّ ومنه قوله: [المتقارب] وكيف يفوز بفضل الكما ... ل من جعل الأكمل الأنقصا «5» لعمرك ما أنصف المثمرا ... ت من يجتنيها بخبط العصا وقوله: [مجزوء الكامل]

أو ما ترى طرب الغدي ... ر إلى النسيم إذا تحرّك «1» بل لو رأيت الماء يل ... عب في جوانبه لسرّك فإذا الصّبا هبّت علي ... هـ أتاك في ثوب مغرّك ومنه قوله: [السريع] آلى على الخمرة لا ذاقها ... ما عاش إلّا زمن الورد «2» وقد مضى الورد فهل رخصة ... في أن يكون الورد من خدّ وقوله: [الكامل المرفّل] لم أنس ليلة قال لي ... لمّا رأى جسدي يذوب «3» بالله قل لي من أعل ... لك يا فتى؟ قلت: الطبيب وقوله: [الطويل] عفائف إلا عن معاقرة الهوى ... ضعائف إلّا في مغالبة الصّب «4» إذا جاذبتهنّ البوادي مزية ... من الحسن شبهّن البراقع بالنّقب ولمّا دنا التوديع قلت لصاحبي ... حنانيك سر بي عن ملاحظة السّرب إذا كانت الأحداق نوعا من الظبى ... فلا شك أنّ اللحظ ضرب من الضّرب 508/وأهوى الذي أهوى له البدر ساجدا ... ألست ترى في وجهه أثر التّرب وأعجب ما في خمر عينيه أنّها ... تضاعف سكري كلّما قللّت شربي ومنه قوله: [الكامل]

نبت الجفون فما اغتمضن وإنّما ... حقّ السيوف إذا نبت أن تغمدا «1» وكأنّ طرفي حين أبكته دما ... ألقى الشعاع بخدّها فتورّدا وقوله: [الطويل] غدرتم بنا غدر الشباب الذي مضى ... فوا أسفا هل كان بينكما عهد «2» وإن قلتم إنّي سبقت إلى النّوى ... فما جئتها حتى بدا منكم الصدّ فلا تغفلوا ناري فلي عنده [هوى] «3» ... متى كتمته العين نمّ به الخدّ ومنه قوله: [الكامل] أتقيّل الجدوى وتلك غمامة ... حاشاكم انقشعت ونجم قد خوى «4» ولكم نويت لقاءكم وتصدّني ... أيدي النّوى ولكلّ عبد ما نوى وقوله: [الطويل] تجاهل صحبي أن بكيت صبابة ... عليّ فقالوا: ما جرى؟ قلت: أدمع «5» وما عبّر الصبّ الكئيب عن النوى ... بمثل لسان فوه جفن ومدمع إلى الله من قلب يواصل بثّه ... عشيّة أسباب المنى تتقطّع وقد ردّت الحاجات خوف وشاتها ... إلى مقلة فيها لسان ومسمع منها في ذكر الفرس:

وأسرى نعاس يممّوا كعبة الندى ... فهم سجّد فوق المذاكي وركّع «1» على كلّ نشوان العنان كأنّما ... جرى في وريديه الرحيق المشعشع وقوله: [الكامل] حسبي من البرحاء أنّي مولع ... بمهفهف أمسى بقتلي مولعا «2» 509/يسبي القلوب بفاحمين تكنّفا ... من طرّتيه للغزالة مطلعا وفم تخال غديره مترقرقا ... في نوره حوضا وروضا ممرعا فعلى العواذل فيه أن لا تنتهي ... عن عذلها وعليّ أن لا أسمعا ومنه قوله: [الطويل] يخوّفني بالبعد من لا أودّه ... ويأمرني بالعجز من لا أطيعه «3» وهل يفرس الضرغام إلّا انتجاعه ... ولو دام في عرّيسه دام جوعه وقوله: [الطويل] سقى الله أيام التهافت في الصّبا ... جنى كلّ جنّان الأصائل أو طفا «4» ليالي أضللت الرّقيب موافقا ... أغازل فيهنّ الغزال المشنّفا إذا بتّ أستجلي الحسان محاسنا ... تروّحت أستجلي البنان المطرّفا أودّع لبّي ذاهل العقل مغرما ... وأودع قلبي فاتر الطّرف أهيفا ومنه قوله: [الخفيف]

كلّما امتدّ بيننا أمد البي ... ن تدانى هواكم المرموق «1» طول عهدي بكم يضاعف وجدي ... وكذا يفعل الشراب العتيق وقوله: [الطويل] ألذّ بما أشكوه من ألم الجوى ... وأفرق إن قلبي من الوجد أفرقا «2» وأذهل حتى أحسب الصدّ والنّوى ... بمعترك الذكرى وصالا وملتقى ومنه قوله: [الوافر] تملّكتم فؤادي دون جسمي ... فما أنا بالأسير ولا الطّليق «3» وذي عذل معنّى بالمعنّى ... يميل على الدعابة للعقوق يحوم من الغرام على خلافي ... وأين الروح من نفس الغريق [وقوله] «4» : [الكامل] 510/بنتم فبان محلّ صبري عنكم ... والجسم بعد القلب أوّل لاحق» وتقوّضت خيماتكم عن ناظري ... فضربتموها في الفؤاد الوامق فلأهدينّ إلى جفونكم الكرى ... ولأسرينّ سرى الخيال الطارق ولأقضينّ مناسكي من قربكم ... فزيارة المعشوق حجّ العاشق ومنه قوله: [البسيط]

على اسم [مريم] «1» فيه هيكل صلف ... سماؤه ذات أنوار من الحبك «2» لمّا رأيت بها الأقمار طالعة ... عجبت كيف أقاموا قبّة الفلك وقوله: [الطويل] تنوء بها يوم الخصام حلومها ... وتغدو بها نحو الصّريخ خيولها «3» كأنّ أنابيب القنا بأكفّهم ... قداح بأيدي اللاعبين تجيلها ومنه قوله: [البسيط] أقول للصّاحب الهادي ملامته ... ضلالة القلب في أكناف ذي ضال «4» دعني أفضّ شؤوني في معالمها ... فالدمع دمعي والأطلال أطلالي أما كفى أسفا أنّي أصخت إلى ... نهي النّهى وكفيت الشّهيب عذّالي إذا التفتّ إلى ما فات من عمري ... سحبت فوق رسوم اللهو أذيالي سقى الحيا طرفي عيش نعمت به ... فلم يكن غير أسحار وآصال أولى لها أن دنت بالوصل ثانية ... فإن ذكرت النّوى يوما فأولى لي ومنه قوله مهنئا بالنوروز: [الكامل] ملك المدى يوم أغرّ محجّل ... يأتي السوابق وهو منها أوّل «5» يختال في عطفيه جوّ ضاحك ... ويميس في طرفيه عام مقبل 511/دول الربيع له بأكمل زينة ... فأتاك في خلع الغمائم يرفل «6»

من أقحوان ما جرى دمع الحيا ... إلّا تبسّم من شقيق يخجل وعيون نور هوّمت أجفانها ... فسرى ينبّهها النسيم المرسل فلكل ضاحكة إذا استجليتها ... ثغر بأفواه العيون تقبّل ومنه قوله: [البسيط] من كلّ ذي هيف ترنو لواحظه ... إليك من لهذم في صدر عسّال «1» أبلّ كلّ نسيم غير ناظره ... وغيّر جسمي ما همّا بإبلال كم ليلة بتّ من كأس وريقته ... نشوان أمزج سلسالا بسلسال وبات لا تحتمي عنّي مراشفه ... كأنّما ثغره ثغر بلا وال ولم يدع لي سوى نفس أجود بها ... والجود بالنفس غير الجود بالمال «2» هب أنّ ليل شبابي زال فاحمه ... عنّي فما بال أسحاري وآصالي تجري النّعامى فما بالي إذا خطرت ... بالركب ما خطرت إلّا على بالي «3» ومنه قوله: [الطويل] كأنّ الذي آلى على بسط كفّه ... سوى ما لها في البأس من قائم النّصل «4» يروح عقيد الراح لا يستفزّه ... إلى الكأس إلّا أنّها ضرّة البخل يملّك ألباب الملوك بروعة ... تحالف من بعدي على حرب من قبلي وليست كأخرى تربها يكفر الحيا ... كأنّ وقوع الغيث منها على رمل أبا الحسن انقادت إلى بابك المنى ... وحلّت به الآمال محلولة العقل

بقيت [لنشء] «1» الدولة المرتجى لها ... إلى أن ترى من نسله أبوي شبل 512/هلال تجلّى في الكمال على الصّبا ... وربّ صبا يأوي إلى سؤدد كهل وغرس علمنا أصله من فروعه ... وما العلم إلّا ردّ فرع إلى أصل ومنه قوله: [الطويل] تباشرت الأقطار من فرح به ... ففي كلّ ثغر من ظباه مباسم «2» وما تحمل الخيل الأعادي جهالة ... به بل رجاء أنهنّ غنائم وقوله: [الرمل] وما عليهم لو أباحوا في الهوى ... ما عليهم من صفات المستهام «3» من حضور وشحّوها بالضنى ... وعيون كحّلوها بالسّقام ومنه قوله: [الطويل] إذا أبرزتهنّ العيون حواسرا ... نظرن إلينا من خلال المعاصم «4» حلول بمستنّ العفاة عفاتهم ... غنيّون عن نار القرى بالمباسم وقد بان عن لبنان برق كأنّه ... بياض الأيادي أو سنا وجه حاتم تعود وفود الحمد عنه كأنّهم ... قد افترقوا عن جامعات المواسم ومنه قوله: [البسيط] وخبّروني عن قلب ومالكه ... فرّبما أشكل المعنى على الفطن «5»

هذا الذي سلب العشاق نومهم ... أما ترى عينه ملأى من الوسن وقوله: [الخفيف] ظنّ صبغ الشباب صبغ الليالي ... فاصطفاها عليّ أكبر عون «1» حال حين استحال لون شبابي ... باعني في الهوى بفاضل لون وقوله: [مجزوء الكامل] ينأى ويدنو طيفه ... فهو المواصل والمباين «2» ما أغفل الأجسام من ... أخذ القلوب بها رهائن 513/ومنه قوله: [البسيط] والله لو أنصف العشّاق أنفسهم ... أعطوك ما ادّخروا منها وما صانوا «3» ما أنت حين تغنّي في مجالسهم ... إلّا نسيم الصّبا والقوم أغصان وقوله: [البسيط] شطّت بصحبي عن الشطّين فانبعثت ... تراهن الكوكب الساري فيشآه «4» أفنى بمائلها الحادي فما عملت ... لمّا هوى النّجم عنها أين مهواه ومنه قوله فيمن اسمه وهيب: [الوافر] أجرني يا وهيب وهب حياتي ... لخال فوق وجنتك اليسار «5»

بدا كبقية الندّ المعلّى ... رماها قابس في وسط نار وقوله: [المتقارب] أهيم إلى العذب من ريقه ... إذا تيّم العاشقين العذيب «1» شهدت عليه وما ذقته ... يقينا ولكن من الغيب غيب ومنه قوله: [السريع] سطرا عذار مونق خطّه ... يقرأ لي منه المعاذير «2» بينهما روضة ورد لها ... من خالها الأسود ناطور ومنه قوله ممّا يكتب على سرج: [المتقارب] حملت الكرام فأكرمنني ... ورحت وقد حملتني الجياد «3» فإن ترني للمعالي مهادا ... فلي من ظهور المذاكي مهاد فلم لا أتيه على العالمين ... وفوقي جواد وتحتي جواد ومنه قوله: [المتقارب] ولمّا أردنا نتاج السرور ... خطبنا من الماء للخمر صهرا «4» فزفّت عروسا تريك الحبا ... ب إن شئت عقدا وإن شئت ثغرا 514/إذا الماء أهدى له لونه ... رأيت العقيق وقد حال درّا ومنه قوله في رثاء: [الطويل]

وعيشك ما سمّيت يومك باسمه ... ولكنّني أرّخته مولد العدى «1» وحسبك من زوّار قبرك روضة ... ترى أعين الباكين زهرا مورّدا ومنه قوله: [السريع] دمعي لسان فمه ناظر ... يعزو الوشايات إلى سبكه «2» فاعجب لطرف دلّ قلبا على ال ... حبّ هو الواشي على حبّه إذا الحبيب اشتطّ في هجره ... فاعدل من الحسن إلى تربه وداو أدواء الهوى بالهوى ... إفاقة المخمور في شربه يا عجبا من قائل لم يجد ... معنى فقاس الشمس يوما به تلك احتراق النّجم في قربها ... منه وهذا الفوز في قربه ومنه قوله يصف دارا: [المتقارب] تأنّق في وضعها ماهر ... تفيت البصائر أنوارها «3» بنى في حشا الصبّ حمّامها ... وفي وجنة الحبّ طيّارها ومنه قوله: [الرمل] داو أنفاسي بأنفاس الصّبا ... فلتعليل الهوى اعتلّ الهواء «4» وجفون دمعها الساعي بها ... فعليها من بكاها رقباء هل محلّ الحبّ إلّا أعين ... خائنات أو قلوب أمناء «5»

يا نديميّ وكأسي وجنة ... ضرّجتها باللّحاظ الندماء «1» 515/لا تظنّوا الورد ما يسقي الحيا ... إنّما الورد الذي يسقى الحياء منها في ذكر العافية: أعقب البرء سرورا ضاحكا ... في جفون كاد يدميها البكاء «2» وأرت ألحاظها أعراضها ... لا يصحّ اللحظّ ما اعتلّ الضياء ومنه قوله: [الطويل] وقلّدتني طوق الحمامة منّة ... تردّد فيها من ثنائك تغريد» ثناء يثني أعظم الدهر دقّة ... وإيراده في وجنة الشمس توريد وقوله: [الكامل] لاموا على فرط البكاء وفقده ... فدهيت من قبل الوفيّ الغادر «4» وهب المدامع أخرست أفما رأوا ... سهرا يصيح على جفون السّاهر ومنه قوله: [الوافر] وآراء إذا شهرت ظباها ... على ليل الظبى فتقت نهاره «5» ومجد ندّ عن شعري وهمّت ... به الشعرى فما شقّت غباره وما للشمس أن تخفي سناها ... ولا للصبح أن يطوي مناره منها:

يحاول رزقه بنفاد رزقي ... وربّ جسارة عادت خساره وإنّ من العجائب أنّ ناري ... موججة وتلذعني شراره ومنه قوله: [الطويل] نشدتك لا تأمن على مضمر الحشا ... مدامع شمل الستر فيها مبدّد «1» وكلّ حديث يمكن السمع ردّه ... سوى مستفيض عن جوى القلب يسند بكينا دما والقاصرات سوافر ... فلاحت خدود كلّهنّ مورّد «2» 516/وقد وقف الواشون من كلّ وجنة ... على محضر فيه المدامع تشهد فجفن محبّ فيه جرح مضرّج ... كجفن حبيب فيه سيف مهنّد وقوله: [الخفيف] فارقونا وكلّ عين من الحر ... قة قلب وكلّ جفن وريد «3» ومنه قوله: [البسيط] قد أنكر الناس من دمعي ومن حرقي ... هوى تهادن فيه الماء والنّار «4» غصن تنزه أن يجنى له ثمر ... من الوصال وهل للبان أثمار ومنه قوله: [الكامل المرفل] يجري الثناء له بسؤدده ... وأخو العنان أحقّ بالفرس «5» والشكر عند المستحقّ له ... مثل الجنى في كفّ مغترس

ومنه قوله: [البسيط] وما يريب الغواني من ذوي كلف ... عفوا فعفوا طريق الطيّف بالسّهر «1» أما ترى سنّة الأقمار مشرقة ... في لمّتي فبياض الليل للقمر هبني تخلّصت جسمي من معذّبه ... فمن يخلّص قلبي من يدي نظري «2» ويا نسيم الخزامى هبّ عن كثب ... لعلّ نشرك مطويّ على خبر «3» واحذر لسان غرامي أن ينمّ به ... فإنّ سرّي من دمعي على خطر منها في ذكر القصيدة: إذا المقاصد عنّت سامعا أخذت ... على طريق إلى الأفهام مختصر «4» خود يسرّك منها أنّها أبدا ... مقيمة وهي في الدنيا على سفر وقوله: [الكامل] أهوى الغصون وإنّما أضنى الصّبا ... شوق النسيم إلى القضيب المائد «5» 517/يمضي العزائم وهي غير قواطع ... ما السيف إلّا قوة في الساعد وقوله: [الكامل] وخوافق قد توّجت بأهلّة ... وعوامل قد نصبّت بكواكب «6» وإذا رأيت الليث يجمع نفسه ... دون الفريسة فهو عين الواثب

ومنه قوله: [البسيط] لئن علوت ملوك العصر مرتبة ... فمثل ما نلته تعلو بك الرّتبا «1» لو لم يكن شرف الأفعال معتبرا ... كان القنا مثل باقي جنسه قصبا «2» ومنه قوله: [الكامل] إنّي لأغنى الناس عن عصبّة ... ما الحقّ مفتقر إلى متعصّب «3» ومخاتل بالكيد يهتك شخصه ... وضح النهار فيحتمي بالغيهب ما كان أبصرني بكفّ أذاته ... لو كنت أحسن رقية للعقرب يأتّم في ليل الوغى بسنانه ... أرأيت شمسا تستنير بكوكب ومنه قوله: [البسيط] عجبت للصّعدة السمراء مثمرة ... برأسه إنّ إثمار القنا عجب «4» سما عليها سمو الما لترهقه ... أنبوبة في صعود أصله صبب «5» إذا القناة ابتغت في رأسه نفقا ... بدا لثعلبها في نحره سرب «6» لم يبق منهم سوى نبض بلا رمق ... كما التوى بعد رأس الحيّة الذّنب ومنه قوله: [الطويل] فلا تسألنّ الصبّ أين فؤاده ... فإنّ فؤاد المرء مع من يحبّه «7»

47 - أبو الحسين أحمد بن منير الطرابلسي.

غداة هوى شطرين للسيف رأسه ... وللرمح حتى توّج الرأس قلبه 518/عجبت لمنّان عليه بأنّه ... محبّ وهل في الناس إلّا محبّه وقوله: [المتقارب] وما كلف البدر ما قيل فيه ... ولكن رأى وجهها فانتقب «1» وما خلّف الرّيق مثل الرحي ... ق لو لم يفتها اللّمى والشنب ومنه قوله: [الرمل] ومتى ما قيل ردّي قلبه ... قالت: القاتل أولى بالسّلب «2» وقوله: [مجزوء الكامل] منّيتني بتعلّة ... حبست فهاجت علّتي «3» ووعدتني بطويلة ... تأتي فكانت ليلتي وقوله: [المقتضب] بأبي من في عمامته ... قمر في هالة القمر «4» ومنهم: 47- أبو الحسين أحمد بن منير الطرابلسي «5» .

لو نازع البحر غصبه مغاصه، ولو نازل الفلك لأزال اعتياصه. هذا يستّل درّه، وهذا يستلب زهره، وهذا يفاضل مدّه، وهذا يناضل سعده، وكلاهما دون ذهنه يقف، ومن صوب خاطره يكف. له قصائد موشّحه بالسّخب «1» ذات بيوت تقصر عن مطاولتها السّهب، ولا تسكنها إلّا الكواعب الأتراب والخرّد العرب، إلا أنه كان رافضّيا خبيث اللسان، مهينا لأعراض الرجال، يسهل عليه الهوان. لا يسلم أحد من هجائه، ولا تظلم في الذّم مواقف هيجائه، وبينه وبين ابن القيسراني العداوة المذكورة آنفا فلا تحتاج واصفا. وهجا الصحابة رضي الله عنهم، ونال- لا نول الله أمله- ما شاء منهم. وكان أبوه ساقطا وضيعا يغنّي في الأسواق، ويتغنّى وما هزّته الأشواق، ونشأ ابنه على هذا في الميل إلى التنقّل والأسفار، معهم في كلّ سفرة يقنع فيها من الغنيمة بالقفل، ثم أخذ الأدب عن مشايخ/ 519/سوء رفّضوه بل أبعدوه عن مطاولة النظراء، ورفضوه. وذكره الحافظ ابن عساكر «2» فقال: حدّث الخطيب السّديد أبو محمد عبد القادر بن عبد العزيز خطيب حماه قال: رأيت أبا الحسين ابن منير الشاعر في النّوم بعد موته وأنا على قرنة بستان مرتفعة فسألته عن حاله، وقلت له: اصعد إلى عندي. فقال: ما أقدر من رائحتي. فقلت: تشرب الخمر؟ فقال: شرّا من الخمر يا خطيب. فقلت: ما هو. فقال: تدري ما

جرى عليّ من هذه القصائد التي قلتها في مثالب الناس؟ فقلت له: ما جرى عليك منها؟ فقال: لساني قد طال وثخن، وصار مدّ البصر، وكلّما قرأت قصيدة منها قد صارت كلّابا تتعلّق في لساني، وأبصرته حافيا عليه ثياب رثّة إلى غاية، وسمعت قارئا يقرأ من فوقه: " لهم من فوقهم ظلل من النّار" الآية، ثم انتبهت مرعوبا. وأمّا شعره فعقود مفصّلة الجمان، موصلة النداء إلى أغلى الأثمان. ومنه قوله: [الوافر] على أكبادها كلّ ابن موت ... غذته دم القراح رحى طحون «1» تخال بكوره إلفا تلوّى ... بها في مهرق البيداء نون منها: وألبسهم ثياب المكر حين ... فمّزقها بهنّ ظباك حين إذا ما الفعل علّ تلاه حذف ... يتاح لمنتهاه أو سكون ومنه قوله: [الخفيف] تحت ظلّ من المنى أرج النّف ... حة تضفي عليك أمنا أمينا «2» تتثنّى من الغصون قدودا ... وتميس القدود فيه غصونا ولحون للطّير تحسب ما ... ثقّف بالنحو عندها ملحونا 520/ومنه قوله: [الكامل] وكأنّما نسج الحيا من نوره ... حللا تفتّق تارة وتخاط «3» نثرت به تنّيس نظم رقومها ... وحنت عليه طرازها دمياط «4»

وقوله: [الكامل] ما ضرّ من أمسى الفؤاد بأسره ... في أسره لو منّ بالإطلاق» ساق إذا اشتجر الكؤوس تراه في ... سلب النفوس مشمّرا عن ساق تكسو سوالفه السلّامة رونقا ... وتعيره شفتاه طيب مذاق منها: صرعى تضرّج بالدماء خدودهم ... فكأنّما ذبحوا من الآماق أكلتهم الفلوات حتى أقبلوا ... يزجون أشباحا على أرماق وشجا الفراق مطيّهم فعيونها ... تتلو حديث مصارع العشّاق ومنه قوله: [الكامل] وإذا الكريم رأى الخمول نزيله ... في منزل فالحزم أن يترحّلا «2» كالبدر لمّا أن تضاءل جدّ في ... طلب الكمال فحازه متنقّلا سفها لحلمك أن رضيت بمشرب ... رنق ورزق الله قد ملأ الملا ساهمت عيسك مرّ عيشك قاعدا ... أفلا فليت بهنّ ناحية الفلا فارق ترق كالسيف سلّ فبان في ... متنيه ما أخفى القراب وأخملا لا تحسبنّ ذهاب نفسك ميتة ... ما الموت إلّا أن تعيش مذلّلا للقفر لا للفقر هبها إنّما ... مغناك ما أغناك أن تتوسّلا لا ترض من دنياك ما أرضاك من ... دنس وكن طيفا جلا ثم انجلى «3»

إن يحو شأوك فهو بخل سوابق ... ما زال آخرهم يفوت الأولا «1» 521/نسب كما انتسقت أنابيب القنا ... كسب العلاء صغيرها لمّا علا «2» ومنه قوله: [الرمل] في زمان صقلت أطرافه ... وتساوى الليل فيه والنهار «3» شقّ جيب الترب عن نار شق ... يق طائر منها على الماء شرار وانبرت غبراؤه عن زهره ... أشرقت فيها كما دبّ العذار يأتي في وجه الربيع المجتلى ... وشموس الراح في الراح تدار سافرات مسفرات فلها ... مشرق بين الندامى ومغار لطفت فهي هواء وصفت ... فهي ماء واستطارت فهي نار ومنه قوله: [البسيط] أيام يقنص فيها كلّ مقتنص ... ألفّ تثقله أردافه هيفا «4» زاه بلا مين من صدغيه بينهما ... نونان قد فّرعا من خصره ألفا وقوله: [الكامل] يا حبّذا عصر الشباب فإنّه ... ليل اضاء وحين أصبح أظلما «5» بيض من الشّعرات سود زورها ... وجهي فساد مودّعا ومسلّما يا أحسن اللّونين ليتك لم تكن ... يوما إلى ما ساء عيني سلّما

منها: ما كان يعرفني المفنّد فيهم ... إلّا كما عرف الدّيار توهّما سفروا فهل وسموا الشفاه بأث ... مد الأجفان أم كحلوا النواظر باللّمى ومنه قوله: [الوافر] أيا بدر السماء حجبت عنّا ... فلم ينقص ضياؤك للتواري «1» حبست فكنت كالسيف استكنّت ... مضارب حدّه وسناه واري 522/وهل صدأ علاك عليك عار ... إذا ما كنت بتّار الغرار رقا الصدّيق يوسف بعد سجن ... سرير الملك من أيدي التجار وأخفى الغار خير الخلق خوفا ... ومنه علا على الفلك المدار ولو لم يخف وجه الشمس ليلا ... لفاتته الفضيلة في النّهار ومن ظلم الدّنان السود يلقي ... على الكاسات أنوار العقار ولولا الفجر في [] «2» جار ال ... كسوف على الحصى وعدا الدراري هي الأيام تختصّ الأعالي ... وتختصّ الأسافل باخصرار كذا الدولاب سافله غنيّ ... وأعلاه المحلّق ذو افتقار ومنه قوله: [المنسرح] أحلى الهوى ما تحلّه التّهم ... باح به العاشقون أو كتموا «3» أغرى المحبين بالمحبة فال ... عذل كلام أسماؤه كلم وليس يفضي بك الملام إلى ... تغيير حكم جرى به القلم «4»

ومعرض صرّح الوشاة له ... فعلّموه قتلي وما علموا سعوا بنا لا سعت بهم قدم ... فلا لنا أصلحوا ولا لهم وقال ابن منير الطرابلسي «1» : [مخلع البسيط] من ركّب البدر في صدر الرديني ... وموّه السّحر في حدّ اليماني «2» وأنزل النيّر الأعلى إلى فلك ... مداره في القباء الخسرواني وقوله: [البسيط] طرف رنا أم قراب سلّ صارمه ... وأغيد ماس أم أعطاف خطيّ «3» وبرق غادية أم ضوء مبتسم ... يغترّ من خلل الصّدغ الدّجوجي 523/ويلاه من فارسيّ النحر مفترس ... بفاتر أسديّ الفتك ريميّ يكنّ ناظره ما في كنانته ... فليس ينفكّ من إقصاد مرميّ أذلّني بعد عزّ والهوى أبدا ... يستعبد الليث للظبيّ الكناسيّ ومنه قوله: [الرمل] بين صدغيه إلى طرّته ... فلك دار على روض الملح «4» صفّقت مقلته لي خمرة ... نقلها الوجنة والثغر القدح بات يسقيها وأسقيه التي ... ريّضت أخلاقه لمّا جمح كان كالشمس شماسا فمشت ... بيننا تعطفه حتى سمح وقوله في محموم: [الكامل]

ومهفهف عبثت بروض جماله ... حمّى أذابت في ثراه خلوقا «1» أمسى يهزّ عناقها من قدّه ... ريان من ماء الشباب وريقا بينا تراه معصفرا لفراقها ... عكرت فبدّلت البهار شقيقا ثمّ انثنت لوادعه فكأنّما ... ستر الجمان بوجنتيه عقيقا وقوله في أبيات: [الخفيف] فاعتراني مثل الحيا وجمعت ... ثيابي فحين أيقن عجزي «2» صاح يا نصف سيبويه لقد أح ... رزت علم الإعراب في غير حرز أنا خفض وأنت رفع وها ... أيرك نصب فلم تخففّ همزي قد صحبت النحاة قبلك واستو ... عبت ما كان من معنى ولغز وأراهم قد أدخلوا ألف الوصل ... على استي وأنت كالمشمئّز 524/قلت: هذاك للضرورة فاستض ... حك تيها وقال كالمتهزّي فاحتسبها ضرورة واتبع القو ... م فقد بان فيك معنى التنزّي ما مددت المقصور في باب عين ال ... فعل إلّا وأنت تطلب طعزي فاجزم الآن سين جعسي وسكّن ... راء ناري وافتح به دال درزي لا تهابنّ مرقعي ودواتي ... وفرائي المسنجبات وطرزي أنا بيت نافى العروض فلا ... يشبه صدري لمن تأمّل عجزي لي قلب عفّ ودبر طموح ال ... عين مغرى بكلّ جاسي المهزّ فاخنق اليوم حلق أيرك في ... حلقة دبر ضنك المباءة كزّ فتأدبت ثمّ سلّم أيري ... عند باب استه وليّنت وخزي

48 - أبو الفوارس سعد بن محمد بن سعد بن الصيفي المعروف بحيص بيص.

وإذا مبعر عليه من الحشمة ... ما لم يكن لقصر المعزّ جوسق مشرف وزلّاقة مل ... ساء مرصوفة بطين ومزّ ورواق وبادهنج وسابا ... ط وكرم معرّش فوق نشز فترى تقلّب الخصا في عناقي ... د بواسيره يهمّ بقفز بات بيضي مكردنا منه في تنور ... نار يشويه شيّ الأوزّ «1» ومنه قوله: [الرمل] لا تخالوا خاله في خدّه ... قطرة من صبغ جفن نطفت «2» تلك من نار فؤادي جذوة ... فيه شبّت وانطفت ثم طفت «3» ومنهم: 48- أبو الفوارس سعد بن محمد بن سعد بن الصيفي المعروف بحيص بيص «4» . فقيه تبادى «5» وطوّل طرطوره «6» ، وحوّل أموره/ 525/وبرز في زيّ العرب في هيئة

منكورة. وكان لا يمشي إلّا متقلّدا بسيف، ولا يمسي إلّا مترقّبا لضيف. حمل السيف إلّا أنّه ما أعمله، والرّمح أنّه ما زاد على أنّه اعتقله. وزعم أنّه من ولد أكثم بن صيفي «1» حكيم العرب، ويكتم من هوى البداوة أيّ أرب. تشبّه بأهل البادية «2» في الحاضرة، وتشبّث بأهداب الأسلاف الغابرة، وكان متمذهبا للإمام الشافعي رضي الله عنه، وتفقّه بالريّ على القاضي محمد بن عبد الكريم الوزان «3» ، وتكلّم في مسائل الخلاف، وتقدّم بشمائل آداب أرقّ من السلاف، وغلب عليه الأدب لتوفيره على مادّته، واستقامته في جادّته، فإنّه لم يبق إلّا طالب لإفادته، وسالب إجادة كلّ محسن لإجادته، وله رسائل فصيحة بليغة «4» إلّا أنّها ما أفرغت في قوالب حسن الصيغة؛ لأنه نحابها منحى القدماء

فجاءت قاسية محكمة الصيغة إلا أنّها كالجبال الراسية. وذكره السمعاني «1» وأثنى عليه، وحدّث ببعض مسموعاته، وأخذ طرفا في الأدب من تنوعاته. وكان الحيص بيص يحمّق، ويفتح فاه ويتشدّق، ويتقعّر في كلامه ويتعمّق، وكثر عبث الناس به «2» لغرابة أسلوبه، وغلاظة تركيبه، وكان ذا إعجاب يخيط ناظريه، وكبر يريه النجوم تحت مواطئ قدميه؛ لتيه يفرط به الإعظام، ويفرغ رأسه فيما يداس عليه بالأقدام وممّا نطلعه من شعره كواكب لا تأفل، وخمائل في البحر السحائب تكفل، قوله في صفة السحاب: [الكامل] دان يكاد الوحش يكرع وسطه ... وتمسّه كفّ الوليد المرضع «3» وقوله: [السريع] يزيد في عزّ الفتى ذلّه ... حينا وإن كان له آبيا» كسابق قصّر عن غاية ... فكان بالسوط لها حاويا 526/ومنه قوله: [البسيط] الخرق يرهب لكنّ الأناة لها ... عند التأيّد أضعاف من الرّهب «5» لا يأمن الدّهر بأس الجمر لامسه ... وقد يروح سليما لامس اللهب وقوله: [الكامل المرفل]

شكوا أشمس أنت أم قمر ... ولفرط ذلك أشكل الأمر «1» فانجاب ليل الشّك حين قضى ... ليل العذار بأنّك البدر ومنه قوله: [الطويل] هل المال إلّا خادم شهوة الفتى ... وهل شهوة إلّا لجلب المعاطب «2» فلا تطلبن منه سوى سدّ خلّة ... فإن زاد شيئا فليكن للمواهب منها: أسود إذا شبّ الخميس ضرامه ... أسالوا نفوس الأسد فوق الثعالب «3» منها: وبي ظمأ لم أرض ناقع حرّه ... سواك فهل في الكأس فضل لشارب «4» وقوله: [الطويل] إذا ما أتاه مجرم وهو قادر ... توهّمته عن عفوه غير قادر «5» وقوله: [الكامل] شغلته عن وصف [الهوى] «6» ذكر العلى ... فنضا شعار الشاعر المتغزّل «7» قضّى شبيبته بمجد مشيبه ... فإذا المشيب بدا له لم يوجل

منها: ووراء ليل الحظّ صبح سعادة ... فارغب بنفسك عن خليقة مهمل «1» وقوله: [الطويل] كررت عليه الحلم حتى تبدّلت ... جرائمه من خجلة بالمعاذر «2» وقوله: [الطويل] فبرد الصّبا عندي قشيب وهمّتي ... قناة وأيام الزمان أماميا «3» خزائنهم أيدي العفاة لأنّهم ... رأوها على مرّ الزمان بواقيا وقوله: [البسيط] إن شاركوني في قول فلا عجب ... ما حال إبليس في التخليد كالخضر «4» 527/أنازع الملك الطاغي وسادته ... ويحجبون عن التسليم والنّظر كأنّني باذل ما جئت أطلبه ... عند الملوك لفرط العزّ والخطر منها: من كلّ مشتمل بالذلّ مضطهد ... يرقّق العيش بين الذلّ والحصر أضلّه نور فضلي عن مقاصده ... وربّما ضلّ ساري الليل بالقمر منها: لا تحسبوا شرس الأخلاق منقصة ... فمرّة الخمر أشهاها إلى البشر «5»

كفى حسودي جهلا أنه رجل ... معاند لقضاء الله والقدر منها: لا شيء أقتل من حلم يمازجه ... تيه تشاوس في ألحاظ محتقر يودّ منه سفيه الحيّ لو ضربت ... ليتاه في موضع الأهواء بالبتر منها: فكلّ ليل إلى صبح نهايته ... وإن تباعد أولاه عن السّحر ومنه قوله: [السريع] علوت عن تأثير قول الخنا ... فلست أخشى سفه الشاتم «1» لو رجم النّجم بأيدي الورى ... لم تدمه قطّ يد الرّاجم منها: صيد ومن رائق أخلاقهم ... يشتبه المخدوم بالخادم وقوله: [الخفيف] إنّما الجود كالحياة ولكن ... يعتريها السّقام بالميعاد «2» ومنه قوله: [الكامل] لا تحسبي مزح الرّجال ظرافة ... إنّ المزاح هو السّباب الأصغر «3» قد يحقر الملك المطاع ممازحا ... ويهاب سوقيّ الرجال الأوقر

وقوله: [الطويل] إذا ما استقاد العاديات إلى الوغى ... تلون بتصهال لنا سورة الفتح «1» وقوله: [الطويل] هجرت الهوى والعمر غضّ نباته ... فكيف وقد لاح المشيب بمفرقي «2» 528/منها: وقافية سيّارة عطّ وخدها ... برود الملا ما بين غرب ومشرق منها: قشيب رداء العرض لكنّ ماله ... تمزّقه العافون كلّ ممزّق وقوله: [الخفيف] يغضل النّار في الحفيظة لكن ... عنده في الوداد لطف الماء «3» ومنه قوله: [الكامل] وأطيع حزمي قبل طاعة عزمتي ... والعزم منقصة إذا لم يحزم «4» وأعاف إدراك الغنى بمذلّة ... وغنى الذليل عديد فقر المعدم منها: وعجبت من مثر إذا سئل النّدى ... لم يعطه ولقادر لم يحلم

منها: لبق الشمائل بالنعيم كأنّما ... أعطافه محفوفة بالأنجم وقوله: [الطويل] تنوّرت منه لمعة المجد يانعا ... فها رقت حتى طوّحت بالغياهب «1» وقوله: [الطويل] إذا استنّ في الجدوى وجدّ إلى اللّقا ... تمنّى مقاميه الحيا والمناصل «2» ومنه قوله: [الطويل] ومن كقريش في المعارك والنّدى ... يموت مناويها ويحيا فقيرها «3» أبرّت معاليها على كلّ ما جد ... فأولها حاز العلى وأخيرها «4» منها: قواف تخطّت عرض كلّ تنوفة ... يشقّ على أيدي الركاب مسيرها «5» ومن عجب تغشى البلاد قلائدي ... وتعرض عن زورائكم لا تزورها منها: وما الدّهر إلّا حلية مستعارة ... جدير بكسب الحمد من يستعيرها «6» ومنه قوله: [الطويل]

لحى الله مجهود الفؤاد من الأذى ... إذا هو لم يستخلص العزم شافيا «1» فما أحرز الآمال مثل مهاجر ... إليها وفات النّجح من بات ثاويا 529/عصيت إبائي إذ أطعت مطامعي ... ولو كنت شهما ما عصيت إبائيا منها: صموت يضيق النّطق عنه وباسم ... إذا اختبرت حالاته كان باكيا ومنه قوله: [البسيط] بين الإباء وبين الصّبر ملحمة ... وقد غدت بين جفن العين والوسن «2» منها: وقد يكون مقال المرء آونة ... عيّا ويحسب بعض الصمت من لسن «3» منها: يحار طرفي وقلبي حين أنظره ... ما بين إحسانه والمنظر الحسن ومنه قوله: [الرمل] ولقد أكتم همّي حازما ... وهو في القلب كأطراف الأسل «4» منها: فإذا ما غضب ساورني ... طلع الحبّ عليه فاضمحل

وقوله: [الرمل] لم يدرّجه إلى منصبه ... كسواه عمل بعد عمل «1» إنّما منشؤه حجر العلى ... فخر الناس جنينا وفضل وقوله: [الطويل] ولا تأل جهدا في اصطفائي فإنّني ... نهوض بآداب الملوك كفيل» فإن لم أكن قلت الذي فيك من علا ... فإنّي بعون الله سوف أقول وقوله: [البسيط] وما أطيق لما أوليت محمدة ... وكيف ينهض من محموله جبل «3» ومنه قوله يكتب على مقرعة: [الكامل المرفل] لم لا أتيه على الرّماح إذا ... فخرت وتحسدني الظّبا البتر «4» وإليّ سوق الرّيح حاملة ... طودا أشمّ وقابضي بحر وقوله: [الطويل] إلام يراك المجد في زيّ شاعر ... وقد نحلت شوقا فروع المنابر «5» 530/منها: ولا خير في فضل تباعد عزّه ... ولو فاق أضواء النجوم الزواهر

وقوله: [الكامل] حثّ الكريم على النّدى وتقاضه ... بالوعد وابعثه على الإنجاز «1» ودع الوثوق بطبعه فلطالما ... نشط الجواد بشوكة المهماز ومنه قوله: [الوافر] تبدّل موقف العزمات حزما ... وتختلف السجايا بالزمان «2» وكنت أجيلها متمطّرات ... فها أنا لا أفرّط في العنان وقوله: [الوافر] وجوه لا يحمّرها عتاب ... جدير أن تصفّر بالصّفار «3» فما دان اللئام لغير بأس ... ولا لان الحديد لغير نار ومنه قوله: [السريع] إن عزّ لقياك وماء النّدى ... هام فإنّي شاكر عاذر «4» يسقي السحاب الجدب سحّا ولا ... يجتمع الممطور والماطر وقوله: [السريع] يلين في القول ويحنو على ... سامعه وهوله يعصم «5» كشوكة العقرب في شكلها ... لها حنوّ وهي لا ترحم

وقوله: [مجزوء الكامل] فالحظّ قد غطّى مطالعه ... بخل الملوك وعزّة النّفس «1» ولقد شكوت الأمس قبل غد ... وأتى غد فشكرت للأمس وقوله: [الطويل] إذا المرء لم يرزق مع الأيد همّة ... فلا شرف في الأيد منه ولا فخر «2» ألم تر أنّ الباز يسمو لصيده ... عزيزا ويهوي نحو جيفته النّسر ومنه قوله في قميص: [البسيط] 531/إذا اشتملت على شمس وبدر دجى ... يهدى به الرّكب أنّى وجهة سلكوا «3» فمن دعاني قميصا بات يظلمني ... وإنّما أنا لو أنصفتم فلك وقوله: [الطويل] عجزت ومالي حيلة في هواكم ... سوى أنّني أزداد وجدا مع الصدّ «4» ولو أنّني جاهدت نفسي فيكم ... سلوت ولكن لا جهاد على العبد ومنه قوله: [البسيط] زار الخيال بخيلا مثل مرسله ... فما شفاني منه الضمّ والقبل «5» ما زارني قط إلا كي يواقفني ... على الرقاد فينفيه ويرتحل

49 - الشريف أبو يعلى، محمد بن صالح الهاشمي المعروف بابن الهبارية.

وأجيز: [البسيط] وما درى أنّ نومي حيلة نصبت ... لو صله حين أعيا اليقظة الحيل «1» وقوله: [مجزوء الكامل] باغي الصّلاح تقال عثرته ... وسواه لا يعفى من الزلّل «2» قتل الطّبيب فلم يقد بدم ... والثأر مطلوب من البطل وقوله: [البسيط] العزّ والنّشب المجموع بينهما ... تباين ولو انّ المرء سلطان «3» فجرّد النّفس نحو العزّ أجمعه ... لا يرهب السيف إلّا وهو عريان ومنهم: 49- الشريف أبو يعلى، محمد بن صالح الهاشمي المعروف بابن الهبّارية «4» .

هو شريف وضيع، وسخيف إلّا أنّه غير صنيع، من بيت هاشميّ حطّ بسوء الصّنع سمكه الرّفيع، وحلّ بهذر القول سمطه الجميع. تطبّع بطباع ابن الحجاج، وقاسمه شرب الأدب إلّا أنّ ذاك عذب فرات، وهذا ملح أجاج إلّا بعض تندير في أبيات جاءت قلائل كأنّما قدّرها بتقدير، وسائر ماله من النوادر فاتر لا بالسّخن ولا بالبارد، ولا يضحك بالناقص ولا [بالزائد] «1» . راود عقائل «2» ابن/ 532/الحجاج فتمنّعت، وراوغ عقائم معانيه «3» المسفرة فتبرقعت، فقصّر دون غايته، وجهد به شيطانه وما قدر على مثل غوايته وحاكى ذلك الثغر ففاته الشّنب، وتعلّق بذلك الثاوي فانقطع به السبب. وكان من شعراء الوزير نظام الملك المبالغ في مديحه، ثمّ أنّه ما خلا من تقبيحه، وهجاه بشعر لم يعلق به وضر قبيحه، ولا ضرر نبيحه. وله على نمط كتاب كليلة ودمنة «4» ما قيدّت به أمثاله الشوارد، وأشباهه الفرائد وأنظاره إلّا أنّها النجوم الماثلة في الظلام الراكد. ومن كلماته العذاب، ومعلماته المطرّزة تطريز الشارب المخضّر فوق شهد اللمى المذاب، قوله: [مجزوء الكامل] إن كان قدّك مثل شب ... ري إنّ بظرك مثل باعي أو هل يعيب البد ... ر طول مسيره تحت الشعاع

ما حطّ فقري سؤددي ... عن قدر مجدي وارتفاعي إيّاك تحقرني فلي ... س تكال معرفتي بصاع فالجسم بيت والرجو ... ع إلى الخلائق والطباع وقوله: [السريع] من كلّ تيس خرق بارد ... ثيابه غمد بلا نصل «1» والطّرف بالعين يجوز المدى ... في السير لا بالسرج والجلّ ما صغت فيك المدح لكننّي ... من حسن أوصافك أستملي تملى سجاياك على خاطري ... فها أنا أكتب ما تملي ومنه قوله: [الطويل] فللسرم صيغ الأير لا شكّ أنّه ... له وعليه والمثال مقدّر أما السرم في التحقيق باب مقوّر ... كما الأير في التقدير ساق مدوّر 533/فهذا لهذا لا محالة قدّه ... على قدره أو إن شككتم فقدّروا فأمّا الحر الملعون فهو مطاول ... يريد طبرزينا وفيه نعذّر ومنه قوله: [السريع] يا حبّذا الصهباء لو لم يكن ... تمنعني من ذلك الأمر فيغتدي أيري على بيضه ... كالفرخ لم ينهض من الوكر كأنّه من حزنه ثاكل ... منكّس الرأس على الصدر ومنه قوله: [السريع] باتت فما زلت على ظهرها ... تمصّ غرمولي وتستقصي

رفعت رجليها إلى أن غدا ... خلخالها أعلى من الخرص وقلت: دوري فأطاعت كما ... أمرتها طرفا ولم تعص ما رابني منها سوى شعرة ... كأنّها العوسج في الخصّ وقوله: [المنسرح] وكلّ بظراء حمراء فرق ... كعرف ديك أفرق أشهب ومنه قوله: [الخفيف] وطباع الأشكال توجب لل ... أشكال جمعا مؤلّفا واقترابا وعيوب الرجال تجمعها قربى ... إلى أن يظنّها أنسابا فلذاك البازي يطير مع ال ... بازي وينأى عن الغراب اجتنابا وكذا البوم يصحب البوم طبعا ... والغراب الخبيث يهوى الغرابا والتيوس الكبار لا تترك ال ... أخلاق حين تعاين القصّابا قديما سكتّ عن أذاه احتقارا ... وسكوت الأسود يغري الكلابا 534/منها يصف شعره: وهو عذب لو ذاقه الكمد ال ... عاشق لم يرشف الثنايا العذابا رقّ في قوّة فلولا معانيه ... التي تبهر العقول لذابا مطمع مؤيس قريب بعيد ... لو تراءى شخصا لكان سرابا وافتراق الأخلاق لا تجمع ال ... ضدّين إنّما تشاكلا ألقابا ومنه قوله: [مجزوء الرجز] أفصح دمعي بالهوى ... فصار سرّي علنا فلست أدري خلق ... ت مدامعا وألسنا

وقوله: [الوافر] لئن حذفتني الأيام فيهن فما ... بي مع خمولي من خفاء وإنّي مع تعمّدهم خمولي ... ألوح كأنّني حرف النداء وقوله: [مجزوء الرجز] حتى كأنّ ما نظم ... ت فيه كان كذبا نخل أذاني شوكه ... وما جنيت منه رطبا ومنه قوله: [البسيط] قل للوزير ولا تخدعك هيبته ... إذا تتايه واستعلى بمنصبه «1» لولا فلانة ما استوزرت ثانية ... فاشكر حرا صرت مولانا الوزير به وقوله: [الكامل المرفل] وإذا نسيبك غلّ ساعده ... يوما فليس بنافع نسبه خذ من صديقك غير متعبه ... إنّ الجواد يؤوده تعبه وقوله: [الكامل] أرسلن من أقرانهنّ أفاعيا ... وبعثن من أصداغهنّ عقاربا وهززن من أعطافهنّ ذوابلا ... وسللن من ألحاظهنّ قواضبا 535/ونصبن من ألفاظهنّ حبائلا ... وجعلن أشراك القلوب ذوائبا جعلوا السهام الصائبات لواحظا ... تصمي الرمايا والقسيّ حواجبا [] «2» من خوص الركاب بأمرد ... من يافث فغدوت أحبو راكبا

ومنه قوله: [مجزوء الكامل] حالت علائقه وغا ... بت أنجمي معه وغارت صاد المودّة ثم قا ... ل ملالة طيري فطارت وقوله: [السريع] سبحان من حّول أحوالنا ... فأصبحت تعلو إلى تحت صيرّنا الله قرودا ولم ... نكن من العادين في السبت ومنه قوله: [الوافر] يدلّ على فعالك سوء حالي ... وتخبر عن نوالك إن كتمت إذا استخبرت ماذا نلت منه ... وقد عمّ الوفود ندى سكتّ وها أنا ساكت فإن اصطلحنا ... وإلّا خانني صبري وقلت ومنه قوله: [السريع] وأبرزته لعيون الورى ... من سرمها بالطّوق والتاج ولم يزل ليلته قائما ... كأنّه إصبع محتاج وقوله: [المتقارب] لقد ساهرتني عيون الدّجى ... وقد نمن عنّي عيون الملاح إذا ما شكا الليل هجر الصباح ... شكوت إلى الليل هجر الصباح وقوله: [المتقارب] وكان كتوما لسرّ الهوى ... ولكن جرى دمعه فافتضح يحبّ الفقاح ويهوى الملاح ... ويقدح زند الهوى بالقدح

536/يطيع الغرام ويعصي الملام ... ويأخذ من وقته ما سنح ومنه قوله وقد عزل ابن جهير وولّي أبو شجاع: [الكامل] وكذا سرار البدر أصل كماله ... وبسوء فعل النار يذكى العود «1» إنّ الخليفة في التبدّل منهم ... بأبي شجاع والزمان جدود كالعاشق المهجور يقنع أن يرى ... طيف الحبيب إذا ثناه صدود والحائم الصّديان يخدع رأيه ... آل الهجير وللهجير وقود وكذلك الساري إذا ما لم يكن ... بدر هداه الفرقد المعهود جهدوا وفاز سواهم بمكانهم ... ومن الكلام جواهر وعقود إن نال دستك بعد بعدك هيكل ... جعد الأنامل في الأمور بليد فكذا سليمان النبيّ غدا على ... كرسيّه جسدا له مرّيد حتى إذا حطّ اليقين لثامه ... عادت سيوف العلج وهي قيود ومنه قوله: [الطويل] إلى رجل لو أنّ بعض ذكائه ... على كلّ مولود تكلّم في المهد «2» فلولا نداه خفت نار ذكائه ... عليه ولكنّ الندى مانع الوقد وقوله: [الوافر] فإن تك ليّنا في غير ضعف ... فإنّ الموت في لين الصّعاد وإن تك مضمرا في الحلم بطشا ... فإنّ النار تكمن في الزناد ومنه قوله: [الخفيف] وبوجه كالبدر حسنا وبعدا ... حار فيه ماء الصّبا وتردّد

وبصدغ مبلبل مثل قلبي ... فوق خدّ كالجلّنار مورّد 537/مشرق كالصباح أبيض يبدو ... تحت قطع من حندس الليل أسود وبخصر مثلي نحيف ضعيف ... كاد من لينه يحلّ ويعقد ومنه قوله: [السريع] أخضر هنديّ لمى كلّه ... والصارم الهنديّ ذو خضره «1» مهفهف الأعطاف ممشوقها ... مبلبل الأصداغ والطرّه بفقحة كالتلّ مرتجة ... وتينة أحلى من التمره وقوله: [مجزوء الكامل] في ليلة فلك الصّباح على ... دجاها غير دائر أعيت كواكبها فشب ... بهت الثوائر بالسوائر ثمّ انثنت والصبح مح ... مرّ المآقي والنواظر فكأنّه غيران أو احفظه ... وصالك يا تماضر ومنه قوله: [مجزوء الكامل] قد قلت للشيخ الأجلّ ... أخي السماح أبي المظّفر «2» ذكّر معين الدين بي ... قال: المؤنّث لا يذكّر وقوله: [السريع] لو أنّ نور الشمس في كفّه ... من بخله لم تطلع الشمس «3» يبني وينقض ما يشيّده ... فكأنّه متبخّر يفسو

ومنه قوله: [مجزوء الرجز] كأنّ برق ثغره ال ... واضح سيف مخترط «1» كأنّ درّ ثغره ... عقد لآل في سفط كأنّه إذ نكته ... ثوب من الوجد يقط وقوله: [البسيط] أستغفر الله من ظنّ أثمت به ... أحسنته في امرئ في ذا الورى غلطا «2» 538/ندمت بل تبت من ظنّ يقاربه ... كالدّبر ضمّ حياء بعدما ضرطا ومنه قوله: [الوافر] وما أدري إذا أولجت فيه ... أفتّقه بذلك أم أخيط فأيري إبرتي أرفو حشاه ... وشعرة عانتي فيها خيوط وقوله: [الوافر] وشدّ الليل من درر الثريا ... على ليت السّها في الغرب شنفا» كأنّ الجوّ صرح أو غدير ... صفاء حين تنظره ولطفا كأنّ ذراعه فيه ذراع ... يمدّ إلى صفاح البدر كفّا ومصباح الضّحى قد كاد يبدو ... ومصباح الدّجى قد كاد يطفا كأنّ ذكا عروس في حجاب ... يشيل ستورها سجفا فسجفا وقد أكل المحاق البدر حتى ... غدا في معصم الجوزاء وقفا وقد رقّ المدام وراق حتى ... غدا من دمعة المهجور أصفى

ومنه قوله في تاج الملوك وقد خرج من محبسه: [الرجز] فكان في بحر الخطوب عائما ... لا يختشي كالدرّ لا يخشى الغرق «1» كأنّه الدينار في النار إذا ... زادت لظى زاد صفاء وبرق والعود بالإحراق يبدو عرفه ... والمسك أذكى عبقا إذا انسحق ما كان حبسا ذاك بل صيانة ... والصّون للشيء النفيس مستحق أمنكر صون الضلوع القلب أم ... مستبدع صون الجفون للحدق لولا سرار البدر ما تمّ فهل ... يؤيس من تمامه إذا امتحق وقد يصان السيف بالغمد وقد ... يغيب علويّ النجوم في الشّفق 539/كالكوكب العلويّ لا يضرّه ... حوادث الجوّ وإن قيل اخترق وقوله: [الكامل] كم سفرة نفعت وأخرى مثلها ... ضرّت ويكتسب الحريص ويخفق «2» كالبدر يكتسب الكمال يسيره ... وبه إذا حرم السّعادة يمحق وقوله: [مجزوء الكامل] وجهي يرقّ عن السؤا ... ل وحالتي منه أرقّ «3» دقّت معاني الفضل فيّ ... وحرفتي منها أدقّ وقوله: [السريع] واصبر على وحشة غلماج ... لا بدّ للورد من الشّوك «4»

ومنه قوله: [المنسرح] مصارع العاشقين أكثر ما ... تكون بين العذار والكفل منها: فإنّه من عطارد أخذ الظّر ... ف وخلّى النسا على زحل ما كان ظنّي قبل رؤيته ... أنّي أرى النيّرين في رجل لو لم يكن في اللواط منقبة ... إلّا أماني فيه من الحبل ومنه قوله: [مجزوء الكامل] حلو الشمائل ساحر ال ... ألفاظ يصلح للعمل في خدّه ماء الشبا ... ب كأنّه ماء المقل فإذا نظرت إليه ... أنبت خدّه ورد الخجل ومنه قوله، وهو معنى كررّه، وأعجب به فأكثره: [الكامل المرفل] ومقابر العشاق أكثر ما ... يحفرن بين الخصر والكفل وقوله: [مجزوء الرجز] دعوه ما شاء فعل ... سيّان صدّ أو وصل «1» فكم رأيت في الهوى ... أسود من ذا ونصل ومنه قوله: [الكامل] ومقاطع الندمان فوق معاطف ال ... أغصان فوق معاقد الكثبان 540/وتراسل الأطيار فوق سلاسل ال ... أزهار بين ترقرق الغدران

ويشوقني برد الثغور وأشتهي ... ورد الخدود ونرجس الأجفان ومنه قوله: [الكامل] بي مثل ما بك يا حمام البان ... أنا بالقدود وأنت بالأغصان «1» أعد الترنّم كيف شئت فإنّما ... فيما نجنّ من الهوى سيّان لي ما رويت من النسيب وإنّما ... لك فيه حقّ الشدو والألحان ومنه قوله: [الكامل] لا يزهدنّك منظري في مخبري ... فالبحر ملح مياهه عقيانه ليس القدود ولا البرود فضيلة ... ما المرء إلّا قلبه ولسانه وقوله: [المجتث] سيّدنا لا ينيك حتى ... يناك نيكا له حلاوه كالفأس لا يستمرّ قطعا ... إلّا وفي ثقبها هراوه ومنه قوله: [الوافر] وما تركت لي الستون أيرا ... ولكن فيّ من شبقي بقايا ويعجبني على شيبي وفقهي ... فقاح الترك تلمع كالمرايا وقوله: [الكامل] وإذا البيادق في الدّسوت تفرزنت ... فالرأي أن تتبيذق الفرزان «2»

نجز السفر الخامس عشر من كتاب مسالك الأبصار في ممالك الأمصار، ولله الحمد والمنّة ويتلوه في السفر السادس عشر ومنهم الأديب أبو محمد الحسن بن أحمد بن حكينا البغدادي 541/والحمد لله وصلاته على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلامه وحسبنا الله ونعم الوكيل

مصادر التحقيق ومراجعه

مصادر التحقيق ومراجعه

مصادر التحقيق ومراجعه 1- ابن القيسراني. حياته وشعره. فاروق جرّار. عمّان. الأردن. سنة 1974. 2- ابن وكيع التنيّسي، شاعر الزهر والخمر. د. حسين نصّار. مكتبة مصر. القاهرة. سنة 1953. 3- أمالي المرتضى. غرر الفرائد ودرر القلائد. تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم. دار الكتاب العربي. الطبعة الثانية. بيروت. لبنان. سنة 1967. 4- الإمتاع والمؤانسة. أبو حيان التوحيدي. صحّحه وضبطه وشرح غريبه أحمد أمين وأحمد الزين. لجنة التأليف والترجمة والنشر. القاهرة. طبعة مصوّرة عنها في المكتبة العصرية. بيروت. صيدا. بلا تاريخ. 5- الأمكنة والجبال والمياه. الزمخشري. تحقيق د. إبراهيم السامرائي. دار عمّار. الأردن. سنة 1999. 6- البداية والنهاية. ابن كثير الدمشقي. ملتزم الطبع والنشر دار الفكر العربي. القاهرة. الطبعة الثانية. سنة 1387 هـ. 7- تاريخ الأدب العربي. د. عمر فروخ. دار العلم للملايين. بيروت. لبنان. الطبعة الرابعة. سنة 1984. 8- تاريخ الأدب العربي. كارل بروكلمان. نقله إلى العربية الدكتور السيد يعقوب بكر والدكتور رمضان عبد التواب. دار المعارف بمصر. القاهرة. الطبعة الثالثة. سنة 1983. 9- تاريخ بغداد. الخطيب البغدادي. الناشر دار الكتاب العربي. بيروت. لبنان. بلا تاريخ. 10- تعريف القدماء بأبي العلاء. أشرف عليه الدكتور طه حسين. نسخة مصوّرة عن

طبعة دار الكتب المصرية سنة 1944. الدار القومية للطباعة والنشر. القاهرة. سنة 1965. 11- ثلاثمائة وخمسون مصدرا لدراسة أبي العلاء. يوسف أسعد داغر. بيروت. سنة 1944. 12- الجامع في أخبار أبي العلاء المعري وآثاره. محمد سليم الجندي. المجمع العلمي العربي بدمشق. سنة 1962. 13- جمهرة الأمثال. أبو هلال العسكري. حقّقه وعلّق حواشيه ووضع فهارسه محمد أبو الفضل إبراهيم وعبد المجيد قطامش. المؤسسة العربية الحديثة. القاهرة. الطبعة الأولى سنة 1964. 14- خريدة القصر وجريدة العصر. العماد الأصفهاني. القسم العراقي. حقّقه محمد بهجت الأثري والدكتور جميل سعيد. مطبعة المجمع العلمي العراقي. سنة 1955. 15- خريدة القصر وجريدة العصر. العماد الأصفهاني. قسم شعراء الشام. عني بتحقيقه د. شكري فيصل. مطبوعات المجمع العلمي بدمشق. سنة 1959. 16- خريدة القصر وجريدة العصر. العماد الأصفهاني. في ذكر فضلاء خراسان وهراة. تقديم وتحقيق د. عدنان محمد آل طعمة. طهران، الطبعة الأولى. سنة 1999. 17- الدرّة الفاخرة في الأمثال السائرة. حمزه الأصبهاني. حقّقه وقدّم له ووضع حواشيه وفهارسه عبد المجيد قطامش. دار المعارف بمصر. القاهرة. سنة 1971. 18- دمية القصر وعصرة أهل العصر. الباخرزي. تحقيق عبد الفتاح محمد الحلو. دار الفكر العربي. القاهرة. سنة 1968. 19- ديوان ابن أبي حصينة. سمعه وشرحه أبو العلاء المعري. حقّقه محمد أسعد طلس مطبوعات المجمع العلمي العربي بدمشق. سنة 1956.

20- ديوان ابن حيّوس. عني بنشره وتحقيقه خليل مردم بك. دار صادر. بيروت. سنة 1984. 21- ديوان ابن الخياط. عني بتحقيقه خليل مردم بك. مطبوعات المجمع العلمي العربي بدمشق. المطبعة الهاشمية. سنة 1958. 22- ديوان ابن منير الطرابلسي. جمعه وقدّم له د. عمر عبد السلام تدمري. دار الجيل. بيروت. الطبعة الأولى. سنة 1986. 23- ديوان ابن نباتة السعدي. دراسة وتحقيق عبد الأمير مهدي حبيب الطائي. منشورات وزارة الإعلام الجمهورية العراقية. سنة 1977. 24- ديوان ابن وكيع التنيّسي. حقّقه وصنع تتمّته هلال ناجي. دار الجيل. بيروت. الطبعة الأولى. سنة 1991. 25- ديوان أبي الطيب المتنبي. المنسوب وهما إلى أبي البقاء العكبري وهو لابن عدلان الموصلي. ضبط نصّه وصححّه د. كمال طالب. دار الكتب العلمية. بيروت. لبنان. الطبعة الأولى. سنة 1997. 26- ديوان الأبيوردي. تحقيق د. عمر الأسعد. مؤسسة الرسالة. بيروت. الطبعة الثانية. سنة 1987. 27- ديوان الأرّجاني. تقديم وضبط وشرح قدري مايو. دار الجيل. بيروت. الطبعة الأولى. سنة 1998. 28- ديوان الأمير شهاب الدين أبي الفوارس المعروف ب حيص بيص. حقّقه مكي السيد جاسم وشاكر هادي شكر. منشورات وزارة الإعلام. الجمهورية العراقية. سنة 1974. 29- ديوان الخالديّين. جمعه وحقّقه الدكتور سامي الدهان. مطبوعات مجمع اللغة

العربية بدمشق. سنة 1969. 30- ديوان السري الرفاء. دار الجيل. بيروت. الطبعة الأولى. سنة 1991. 31- ديوان السري الرفاء. تقديم وشرح كرم البستاني. مراجعة ناهد جعفر. دار صادر. بيروت. الطبعة الأولى. سنة 1996. 32- ديوان الصادح والباغم. ابن الهبّارية. نشره وشرح ألفاظه وترجم للمؤلف عزّت العطار. القاهرة. سنة 1355 للهجرة. 33- ديوان مهيار الديلمي. مطبعة دار الكتب المصرية. القاهرة. سنة 25- 1930. 34- ديوان الوأواء الدمشقي. عني بنشره وتحقيقه ووضع فهارسه سامي الدهان. مطبوعات المجمع العلمي العربي بدمشق. سنة 1950، طبعة مصوّرة عنها بدار صادر، بيروت. سنة 1993. 35- رسائل أبي العلاء المعري. تحقيق د. عبد الكريم خليفة. منشورات اللجنة الأردنية للتعريب والترجمة والنشر. عمّان. الأردن. سنة 1976. 36- الرسالة الموضحة. الحاتمي. تحقيق د. محمد يوسف نجم. دار صادر. بيروت. سنة 1965. 37- سير أعلام النبلاء. الذهبي. حقّقه وخرّج أحاديثه شعيب الأرناؤوط ومحمد نعيم العرقسوسي. مؤسسة الرسالة. بيروت. الطبعة الأولى. سنة 1983. 38- شاعرية أبي العلاء في نظر القدامى. محمد مصطفى بالحاج. الدار العربية للكتاب. ليبيا. تونس. سنة 1976. 39- شذرات الذهب في أخبار من ذهب. ابن العماد الحنبلي. منشورات دار الآفاق الجديدة. بيروت بلا تاريخ.

40- شروح سقط الزند. أبو العلاء المعري. تحقيق الأساتذة مصطفى السقا، وعبد الرحيم محمود، وعبد السلام هارون، وإبراهيم الإبياري، وحامد عبد المجيد. نسخة مصورة عن طبعة دار الكتب المصرية المطبوعة سنة 1945. الدار القومية للطباعة والنشر. القاهرة. سنة 1964. 41- شعر ابن القيسراني. جمع وتحقيق ودراسة د. عادل جابر صالح محمد. الوكالة العربية للتوزيع. الزرقاء. الأردن. الطبعة الأولى. سنة 1991. 42- شعر ابن منير الطرابلسي. جمعه وحقّقه وقدّم له د. سعود محمود عبد الجابر. دار القلم. الكويت. الطبعة الأولى. سنة 1982. 43- شعر الخبّاز البلدي. جمع وتحقيق صبيح رديف. مطبعة الجامعة. بغداد. سنة 1973. الطبعة الأولى. 44- شعر السري الرفاء في ضوء المقاييس البلاغية والنقدية. د. المحمدي عبد العزيز الحناوي. دار الطباعة المحمدية. القاهرة. الطبعة الأولى. سنة 1985. 45- شعر السلامي. جمع وتحقيق صبيح رديف مطبعة الإيمان. بغداد. سنة 1971. 46- صدى الغزو الصليبي في شعر ابن القيسراني. د. محمود إبراهيم. دار البشير. عمّان. سنة 1988. 47- عصر الدول والإمارات. د. شوقي ضيف. دار المعارف بمصر. 48- فضل العرب والتنبيه على علومها. ابن قتيبة الدينوري. تقديم وتحقيق د. وليد محمود خالص. مطبوعات المجمع الثقافي. أبو ظبي. الطبعة الأولى. سنة 1998. 49- فنون الشعر في مجتمع الحمدانيين. د. مصطفى الشكعة. بيروت. لبنان. 50- فوات الوفيات. محمد بن شاكر الكتبي. تحقيق الدكتور إحسان عباس. دار

صادر. بيروت. سنة 1973. 51- كشاف مصادر دراسة أبي العلاء المعري. مصطفى صالح. دمشق. سنة 1978. 52- المحبّ والمحبوب والمشموم والمشروب. السري الرفّاء. تحقيق مصباح غلا ونجي. مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق. بلا تاريخ. 53- المصايد والمطارد. كشاجم. تحقيق محمد أسعد طلس. بغداد. سنة 1954. 54- معاهد التنصيص على شواهد التلخيص. عبد الرحيم العباسي. حقّقه وعلّق حواشيه محمد محيي الدين عبد الحميد، عالم الكتب. بيروت، طبعة مصورة عن طبعة 1947. 55- معجم الأدباء. ياقوت الحموي. مطبوعات دار المأمون. طبعة الدكتور أحمد فريد رفاعي. مكتبة عيسى البابي الحلبي وشركاه. القاهرة. سنة 1936. 56- معجم المصطلحات البلاغية وتطورها. د. أحمد مطلوب. مطبوعات المجمع العلمي العراقي. 57- من غاب عنه المطرب. الثعالبي. تحقيق. د. يونس أحمد السامرائي. عالم الكتب. مكتبة النهضة العربية. بيروت. الطبعة الأولى. سنة 1987. 58- الموشح. المرزباني. تحقيق علي محمد البجاوي. دار نهضة مصر. القاهرة. سنة 1965. 59- مهيار الديلمي. حياته وشعره. د. عصام عبد علي. منشورات وزارة الإعلام. الجمهورية العراقية. سنة 1976. 60- النثر الفني في القرن الرابع. زكي مبارك. المطبعة التجارية الكبرى. القاهرة. الطبعة الثانية. بلا تاريخ.

61- الوافي بالوفيات. الصفدي. باعتناء هلموت ريتر. دار النشر فرانز شتاينر بفسبادن سنة 1962. 62- وفيات الأعيان. ابن خلكان. حقّقه د. إحسان عباس. دار صادر. بيروت. سنة 1977. 63- يتيمة الدهر. الثعالبي. شرح وتحقيق مفيد محمد قميحة. دار الكتب العلمية. بيروت. لبنان. الطبعة الأولى. سنة 1983.

فهرس الموضوعات

فهرس الموضوعات * مقدمة التحقيق 5 1- أبو الطيب أحمد بن الحسين (المتنبي) 17 2- السري بن أحمد الكندي (الرفاء الموصلي) 147 3- أبو الفتح (كشاجم) 197 4- أبو الفرج محمد أحمد الغساني (الوأواء الدمشقي) 227 5- الأخوان أبو بكر محمد، وأبو عثمان سعيد 246 6- أبو العباس أحمد بن إبراهيم الضبي 275 7- أبو الحسن محمد بن عبيد الله (السلامي) 277 8- أبو سعيد محمد بن محمد بن الحسن الرستمي 294 9- أبو محمد، الحسن بن علي بن مطران 296 10- أبو الفتح البكتمري (ابن الشامي الكاتب) 297 11- أبو محمد عبد الله بن محمد بن الفياض 299 12- أبو طاهر سيدوك بن حبيب الواسطي 301 13- أبو الحسن علي بن الحسن اللحام 303 14- أبو العلاء السروي 304 15- أبو بكر محمد بن أحمد (الخباز البلدي) 306 16- أبو القاسم عبد الصمد بن بابك 310

17- القاضي التنوخي، أبو القاسم علي بن محمد 330 18- المحسن بن علي التنوخي 337 19- القاضي أبو الحسن، علي بن عبد العزيز الجرجاني 338 20- أبو طالب، عبد السلام بن الحسين المأموني 348 21- الأمير شمس المعالي قابوس بن وشمكير 353 22- الأمير أبو الفضل عبد الله بن أحمد الميكالي 354 23- أبو محمد، الحسن بن علي بن وكيع التنيس 361 24- أبو عبد الله، الحسين بن أحمد بن الحجاج 366 25- القاضي أبو أحمد، منصور بن محمد الأزدي الهروي 397 26- أبو بكر علي بن الحسن البلخي القهستاني 400 27- مهيار بن مرزويه الديلمي 402 28- أبو العلاء بن عبد الله بن سليمان التنوخي المعري 430 29- أبو الهيثم عبد الواحد بن عبد الله بن سليمان 472 30- أبو الحسن، علي بن الدويدة المعري 473 31- السابق أبو اليمن ابن أبي مهزول المعري 474 32- الوامق المعري 475 33- الأمير أبو الفتح (الحسن بن عبد الله بن أحمد) 476 34- الأمير أبو الفتيان مصطفى الدولة محمد بن حيوس 502

35- عبد العزيز بن عمر بن نباتة السعدي 515 36- الوزير أبو نصر أحمد بن يوسف المنازي السليكي 532 37- الماهر الحلبي 538 38- أبو عبد الله بن السراج الصوري 540 39- أبو عبد الله، أحمد الخياط الدمشقي 541 40- أبو الحسن علي بن الحسن بن علي بن أبي الطيب الباخرزي 553 41- الوزير شرف الدين، أبو الحسن علي بن الحسن بن علي البيهقي 564 42- سعد بن علي الحظيري الكتبي 566 43- القاضي ناصح الدين أبو بكر أحمد بن محمد الأرجاني 573 44- الأديب أبو إسحاق، إبراهيم بن عثمان الكلبي 608 45- أفضل الدولة، أبو المظفر، محمد بن أبي العباس أحمد الأبيوردي 638 46- أبو عبد الله، محمد بن نصر بن صغير المعروف بابن القيسراني 665 47- أبو الحسن أحمد بن منير الطرابلسي 683 48- أبو الفوارس سعد بن محمد بن سعد (حيص بيص) 691 49- الشريف أبو يعلي، محمد بن صالح الهاشمي المعروف بابن الهبارية 703 * مصادر التحقيق ومراجعه 719

تم بحمد الله

الجزء السادس عشر

الجزء السادس عشر [شعراء العصر العباسى الثانى] مسالك الأبصار في ممالك الأمصار

تقديم (1)

تقديم (1) هذا هو السّفر السّادس عشر من كتاب «مسالك الأبصار في ممالك الأمصار» لابن فضل الله العمري، وقد اشتمل على (69) تسع وستين ترجمة لشعراء الجانب الشرقي، كما اصطلح عليهم، بدأهم بالشاعر حكّينا البغدادي، المتوفى سنة 528 هـ، وختمهم بمعاصره الشاعر عمر بن الوردي. أي أن هذا السّفر اشتمل على تراجم شعراء أواخر العصر العباسي. وقد تفاوت الشعراء الذين عرض لهم العمري في سفره هذا. فمنهم المقدم المشهور المعروف منذ عصره إلى يومنا هذا بديوانه وسيرته، كأسامة بن منقذ، وسبط بن التعاويذي، وعمارة اليمني، وابن عنين، وفتيان الشاغوري، وصفي الدين الحلي، وعمر بن الوردي. ومنهم المغمور الذي لا يعرف شاعرا، لكن العمري درجه ضمن الشعراء كآل منقذ الذين ذكر كثيرا منهم، وهم وإن كان لهم شأن اجتماعي أو سياسي في زمنهم، إلا أنهم أبعد ما يكونون عن الشعر. وقد كان كتاب «خريدة القصر وجريدة العصر» للعماد الأصفهاني بأقسامه الثلاثة: العراق، والشام، وفارس، المصدر الأول الذي عوّل عليه المؤلف في تراجمه. يضاف إليه دواوين الشعراء المتأخرين الذين عاصروا العمري، وتأخروا عن صاحب اليتيمة، كصفي الدين الحلي وعمر بن الوردي. ولا شك في أن التراجم التي اشتمل عليها هذا السفر، والاختيارات الشعرية التي جاءت تالية لهذه التراجم تعطي صورة واضحة لعصرها الذي قيلت فيه. وهي صورة دللت من جديد على أنه عصر أقرب للضعف منه للقوة؟ وأن شعراءه كانوا صدى خافتا مبهما لمن سبقوهم من شعراء العصر العباسي الأول. وإن نشر شعرهم أدخل في باب التاريخ منه في باب الفن.

(2) جاء منهجي في التحقيق معتمدا على النسخة المخطوطة الوحيدة التي بين يدي، وقد عنيت بقراءتها غير مرة، وآمل أن أكون قد وفقت في هذه القراءة لأصل إلى تقديم النص كما أراده مؤلف الكتاب. وأحلت غير سير الشعراء وشعرهم كما يلي: - إذا كان للشاعر ديوان شعر منشور اعتمدت على الديوان حسب، سيرة وشعرا. - إذا لم يكن للشاعر ديوان شعر أحلت على أقدم المصادر وأوفاها بمصدر أو اثنين. - جعلت لكل شاعر رقما، وأثبت اسمه تحت رقم، بوصفه عنوانا للترجمة. - الشروح والتعليقات كانت محدودة جدا لأن طبيعة الشعر لا تتطلب ذلك. - ذيلت السفر بقائمة للمصادر والمراجع. - ختمت السفر بالمحتوى، وهو أسماء الشعراء وأرقام تراجمهم في الكتاب. - ألحقت بالتقديم أربع صفحات: اثنتان للعنوان والصفحة الأولى من السفر. واثنتان للصفحتين الأخيرتين من السفر. وبالله التوفيق. محمد إبراهيم حوّر عمّان في: أول رجب 1422 هـ الموافق 17 أيلول (سبتمبر) 2001 م

صورة الغلاف

صورة الصفحة الأولى

صورة الصفحة الثانية

صورة الصفحة قبل الأخيرة

صورة الصفحة الأخيرة

1 - الأديب أبو محمد الحسن بن أحمد حكينا البغدادي

ومنهم: 1- الأديب أبو محمد الحسن بن أحمد حكّينا البغداديّ «3» (2) بسم الله الرحمن الرحيم وما توفيقي إلا بالله شاعر تتبّع من القصائد أبهجها، ونقّب عن الفوائد فاستخرجها؛ حاك من النّظم حللا، كأنّه بأشعّة الشّموس مزجها، وحاكى رضاب بنت الكرم، إلّا أنّه بالشّهد لا بالماء مزجها. وشعره زهريّ النفحات، زهريّ اللمحات، لدقّة معنى. تختلس القلوب، وتختلف بتغذية الأرواح، اختلاف النسيم عند الهبوب. اتّفق أهل العراق على استحسان لطائفه، وإحسان دوحه المثمر، فيما أجناه لقاطفه وكانت تستروح ببرد سحره، وورد خضره، ورويّة ورد أفنانه في شجره. وقدر ابن حكّينا فوق ما حكينا، وقد ذكره العماد الكاتب وشكره، بما تلمس الغواني عليه الترائب. وقال فيه: «ظريف الشعر مطبوعه. لم يجد الزمان بمثله في رقّة لفظه وسلاسته. وقد أجمع أهل العراق «1» على أنّه لم يرزق أحد من الشعراء لطافة طبعه. وله الإشارات «2» النادرة المذهبة، التي من حقّها أن

تكتب بماء الذهب» «1» انتهى كلام العماد الكاتب. وما المختار هاهنا من شعره- على قلة ما وقفت له عليه وقطفت من جنى جنيه، «2» فمنه قوله: «3» [المنسرح] عيناك ترمي قلبي بأسهمها ... فما لخدّيك تلبس الزّردا ريقته الشّهد والدّليل على ... ذلك نمل بخدّه صعدا «4» ومنه قوله: يا من تشكّى عنه، وبلاؤه منها، وفيها النّا ... س منها يشتكون وأنت منها تشتكيها ومنه قوله: [مجزوء الرجز] تبرم بالعذار وظنّ أنّي ... أقاطعه وأخرج من يديه وخافت عارضاه خلاص قلبي ... من التّبريح فانقفلت عليه ومنه قوله: «5» [المديد] لافتضاحي في عوارضه ... سبب والنّاس نوّام «6» (3) كيف يخفى ما أكتّمه ... والذي أهواه نمّام «7» ومنه قوله: [المنسرح]

يا سيّدي والذي مودّته ... عندي روح تحيا به الجسد من ألم الظّهر أستغيث وهل ... يألم ظهر إليك يستند ونظر إليه بعض إخوانه في يوم عاشوراء، وقد اكتحل وطرف أهدابه بالحداد لا بالكحل، فلامه لما رأى طرفه الكحول، ولم يعلم أنّه ممّا نزف الدمع من سواد عينه المحلول، فقال: «1» [مخلع البسيط] ولائم لام في اكتحالي ... يوم استباحوا دم الحسين فقلت دعني، أحقّ عضو ... منّي يلبس السّواد عيني «2» وباقي المختار من شعره قوله: «3» [مجزوء الخفيف] كم تقولون بعض عا ... رضه قد تغيّرا «4» إنّما الحسن حيث مر ... ربه الحبّ مسفرا «5» رام تبخيره فذر ... ر على الجمر عنبرا ومنه قوله: «6» [الطويل] وربّ جفون شاكلتني لأنني ... أقمت على سهم ولم أخل من سحر قسا ثمّ أجرى دمعتي فكأنّه ... لفرقته الخنساء تبكي على صخر «7»

ومنه قوله: [الطويل] مولى تزايد في تواضعه عظما ... كذاك البدر في الأفق ومنه قوله: «1» [الخفيف] لست أحوي صفاته غير أنّي ... ما رأيت الإعسار منذ رآني وإذا أظهر التّواضع فينا ... فهو من أنّه عظيم الشّأن «2» ومتى لاحت النّجوم على صف ... حة ماء، فما النّجوم دواني (4) ومنه قوله: [الخفيف] وكأنّ الوهاد بالدّم كاسا ... ت عقار فيها الرّءوس حباب كلما ذمّت العدى ما أتاهم ... من عقاب أثنت عليك العقاب ومنه قوله: «3» [السريع] قصدت ربعي فتعالى به قد ... ري فدتك النّفس من قاصد «4» ولم ير العالم من قبلها ... بحرا مشى قطّ إلى وارد «5» ومنه قوله: «6» [الطويل] ويكتب بالبيض الصّوارم أسطرا ... على أوجه الفرسان تنقطها السّمر وينظمهم في الرّمح نظما وإنّما ... رؤوسهم من بعد نظمهم نثر

ومنه قوله: [السريع] ناولني تفاحة أشبهت لو ... ني وطيب الرّيح من فيه ظبي جعلت القلب في أسره ... فقد غدا محتكما فيه ومنه قوله: «1» [السريع] ما فيكم بخل ولا بي غنى ... عن نائل والنّجح في الصّدق «2» ولست أستبطي ولكنّني ... ينقطع الغيث فاستسقي ومنه قوله يهجو: [مجزوء الخفيف] للنّميريّ نكهة ... طال منها تحيّري هي أفسا إذا تنف ... فس من ألف مبعر قلت لما شممتها ... من خري جوف منخري ومنه قوله في العزيز عمّ العماد الكاتب: «3» [الكامل] لنكتال من مال العزيز بصاعه ... فميلوا بنا نحو العراق ركابكم ومنه قوله في الشّريف الشّجري النّحويّ: «4» [المنسرح] يا سيدي والذي يعيذك من ... نظم قريض يصدا به الفكر ما فيك من جدّك النّبيّ سوى ... أنّك لا ينبغي لك الشّعر «5»

(5) ومنه قوله: «1» [المنسرح] ارض لمن غاب عنك غيبته ... فذاك ذنب عقابه فيه ومنه قوله: «2» [الطويل] مدحتهم فازددت بعدا بمدحهم ... فخيّل لي أنّ المديح هجاء يقولون ما لا يفعلون كأنّهم ... إذا سئلوا رفدا هم الشّعراء ومنه قوله: «3» [الطويل] أتاني بنو الحاجات من كلّ وجهة ... يقولون لي: أين الموفّق قاعد؟ فقلت لهم: فوق المجرّة داره ... ولكنني فارقته وهو صاعد فإن شئتم أن لا تضلّوا فيمّموا ... إلى حيث سارت بالثّناء القصائد ومنه قوله: «4» [الطويل] لاقى طريق النّسك شاسعة ... فاستصحب اللذّات وانحرفا يهوى كؤوس الرّاح تذكره ... قبسا أضاء وبارقا خطفا يهدي المزاج بجيدها حببا ... مثل السّهام تعاورت هدفا «5» وإذا دعاه طرف غانية ... للوصل بادره ولو زحفا منها:

واعقد بطرفك صدغ ذي ترف ... لّما ألمّ بخصره انعطفا كالنّون منحنيا فإن عبثت ... كفّي أحالت شكله ألفا «1» والماء تطربه منادمتي ... فلو استبدّ برأيه وقفا وخلائق مثل النّسيم جرى ... فإذا تعرّض للعدا عصفا وتراه يرفدني وأنشده ... مدحي فنظهر بيننا الطّرفا «2» ومنه قوله: «3» [السريع] لم أجن ذنبا في مديح امرئ ... قابل شعري بالمواعيد إن قلت: بحر فبما نالني ... من هوله أيّام ترد يدي (6) أو قلت: ليث فبتكليحه ... إذا أتاه طالب الجود ومنه قوله في ولده: «4» [السريع] ابني بلا شكّ ولا خلف ... في غاية الإدبار والسّخف «5» كأنّه الحبّال في مشيه ... يزداد إقبالا إلى خلف ومنه قوله: «6» [الطويل] سكن المجرّة واستهلّ ندا ... وكذا الغمام إذا علا وكفا لم آت أستكفيه حادثة ... إلّا تهلّل بشره وكفا

2 - أبو عبد الله محمد بن مبارك بن علي بن جارية القصار، البغدادي

ومنهم: 2- أبو عبد الله محمد بن مبارك بن عليّ بن جارية القصّار، البغداديّ «13» لفظه عال، ودرّه غال. يبدو عليه ظرف أهل العراق، ووصف أهل بغداد، في كرم الأخلاق. ومن شعره الحالي الرّشفات، الحاوي لإحياء الرّفات، من النّمط العالي الصّفات، الغالي، فالذهب ما إليه التفات، قوله: «1» [مخلع البسيط] وأدهم اللّون ذي حجول ... قد عقدت صبحه بليله كأنّما البرق خاف منه ... فجاء مستمسكا بذيله ومنه قوله يهجو مغنيا اسمه محمود: «2» [الخفيف] أنت تدري أن الشتاء على الأش ... جار صعب، إذا أطلّ شديد لو أراد الإله بالأرض خصبا ... ما تغنّى من فوقها محمود كلّما أنبتت يسيرا من العش ... ب وغنّى، غطّى عليه الجليد ومن قوله في ذمّ الشّيب: «3» [البسيط] ولي إلى الشّيب شوق ما ينهنهه ... سعي للقياه من عمري على قدم «4» ما أرغد الدّهر عيشي في الشّباب ولا ... أحلى فأبكى شبابي حالة الهرم

ومنه قوله «1» [الكامل] علّ النحيلة أن تجود بنظرة ... ولقد يجود بمائه الجلمود (7) إن كان موعدنا برامة غاله ... خلف فهذا موعد وزرود «2» ومنه قوله: «3» [المتقارب] إذا كان حظّ الفتى صاعدا ... فلا بأس بالأدب النّازل أحذقا ورزقا لقد رمت ما ... يزيد على أمل الآمل هما خلفان، فهذا المقي ... م يعقب من ذلك الرّاحل وما غاية الفضل نظم القري ... ض ولكنّه نفثة الفاضل واستدعاه بعض أصدقائه صبيحة ليلة، أكلت الشمس نجومها، وحدرت على صفحة السّماء غيومها، وقد أذابت كحل الليل دمعة الفجر، وتحرّك نهر النّهار، إلّا أنّه لم يجر، ثمّ دام عنده نهاره كلّه حتّى اعتلّ اليوم، واختلّ القوم، وقبض المساء روح الشّمس وهيّأ الغرب لميّت النّهار الرّمس، وأتت الليلة المقبلة بذكيّ شعلها، وتدبّر حللها، حتى آن لسيف الدّجى أن يستلّ من شعر العذّال الأشيب، ولثعلب الفجر على ممرّ حان أوّله يتوثّب. فلمّا أتّمهما عنده يوما وليلة، جمع طوق كلّ منهما وذيله. سأله في الانصراف، فأذن له على تلوّ عليه وتروّ أن يخرج من يديه. فلما خرج كتب إليه: [الخفيف] أيّها الصّاحب الذي عزّ عندي ... إذ تحقّقت في المودة ميله ليت شعري ماذا استطلت من ال ... وصل، وما كان غير يوم وليله

3 - القاضي أبو عمرو، يحيى بن صاعد بن سيار الهروي، قاضي قضاة هراة

فكتب إليه: [الخفيف] أيها الصّاحب الذي زاد عتبا ... لصديق له توهّم ميله دمت يوما وليلة ما افترقنا ... وهل الدّهر غير يوم وليله؟ ومنهم: 3- القاضي أبو عمرو، يحيى بن صاعد بن سيّار الهرويّ، قاضي قضاة هراة «13» حاكم على الكلام، وناجم في أفق الأيّام، علم الأدب وقاله، وبلغ به مع العلم كماله. ممن لا يقاس به إذا ندر، ولا ترد القرائح إلّا إذا أصدر. ولا يفخر العلماء إلّا إذا قاموا لديه. وقد تصدر ولا تجد المدائح لبوسها إلّا (8) مما قدر عليه أو قدّر. قال فيه العماد: «صاحب بديهة، ينظم بسرعة، حلو الشّعر لطيفه» «1» قلت: ومن شعره المنتخب ثمينه، المنتخل من درّه ما يزينه، قوله في زرقة العين: «2» [الكامل] ما شانها وأبيك زرقة عينها ... بل صار ذلك زائدا في زينها «3» كادت أساود شعرها تسطو على ... مهج الورى لولا زمرّد عينها ومنه قوله: «4» [الكامل] ومن العجائب أن يمرّ كلامه ... وممرّه بالشّهد من شفتيه «5»

وكذا تنفّس من رآه بارد ... وممرّه بالنّار من جنبيه ومنه قوله: «1» [السريع] قلبي هو العاشق لا صدغه ... فلا أراه أبدا يضطرب «2» لا تعجبن من فعله هكذا ... سنّة من يرقد فوق اللهب ومنه قوله: «3» [السريع] أبكي إذا ما حضروا منهم ... وإن نأوا أبكي على النّائي كأنّني السّكّر في طبعه ... أذوب في النّار وفي الماء ومنه قوله: «4» [مجزوء الرجز] لا تفخرن بالشّعر إنّ العقل لا يوجبه ... وأيّ فخر بالذي أجوده أكذبه ومنه قوله: «5» [البسيط] سألتها ودموع العين تشفع لي ... بالله ترحم قلبا لي بها تاها «6» قالت لديّ قلوب جمّة علقت ... فأيّها أنت تعني؟ قلت: أشقاها ومنه قوله في الشّمعة: «7» [الوافر]

4 - أبو عبد الله النقاش، عيسى بن هبة الله البزاز البغدادي

ومن يك ضاق في الظّلماء ذرعا ... فإنّي من يسرّ به جنانه أطارد عسكر الظّلماء عنّي ... برمح صيغ من ذهب سنانه (9) ومنه قوله: «1» [الوافر] أنا المغترّ حين ظننت أن لا ... يكون لوصلهم أبدا فراق وقالوا: كيف ليلك؟ قلت ليلي ... كليل الشّمع أجمعه احتراق ومنهم: 4- أبو عبد الله النّقّاش، عيسى بن هبة الله البزّاز البغدادي «13» شعره كأيّام الشّباب، والتآم الأحباب. ولم يقع إليّ منه إلّا ما يقع من الشّمس بين الغصون، أو بقدر ما يبوح به الكتوم من السّرّ المصون. وقد ذكره العماد الكاتب ذكر التفخيم، وأشار إليه إشارة قامت مقام الدّلّ من الأغيد الرّخيم. والذي أتيت له به حتى نوار ومجاجة شهد من يد مشتار، وزجاجة شفّت عن كوكب درّيّ يوقد بالأنوار. منه قوله: «2» [المتقارب] إذا وجد الشيخ في نفسه ... نشاطا فذلك موت خفي ألست ترى أن ضوء السّراج ... له لهب قبل أن ينطفي

5 - أبو المظفر، أسامة بن مرشد بن علي بن مقلد بن نصر بن منقذ، الكناني الكلبي الشيزري، مؤيد الدولة

ومنهم: 5- أبو المظفّر، أسامة بن مرشد بن عليّ بن مقلد بن نصر بن منقذ، الكنانيّ الكلبيّ الشيزريّ، مؤيّد الدولة «13» مجد الدّين، ورفد المحدثين. سليل إمارة، وسيل سحب مدرارة، وعديل شهب سيّارة. من أكابر بني منقذ، أصحاب شيزر، وأرباب تقى. لا يشدّ له على الفحشاء مئزر. توارثها منهم سادة غرّ، وقادة توزّعت خطياتهم الدّراري والدرّ، وكان هذا من أسنى بدورهم تماما، وأندى زهورهم أرجا ناغى غماما. فارس وغى، لا تقعده السآمة، وبطل حرب لا يدعى إليها أشجع من أسامة. من العلماء الشّجعان، والكرماء في الطّعام والطّعان. يطعنون صدر الكتيبة، ويطعمون السّنة الجديبة. يمتّون إلى البيت الفاضليّ بحقّ الجوار، وحظّ النّسب في الأدب، لا في النّجاد. وكانت له مع القاضي الفاضل صحبة زادت قدره بكتابه، وزانت حظّه له مشابه، وبينه وبينهم كتب تنشر (10) الرياض لمن تأمّل، وتنظر الشّهب منها في أردان من تحمّل، إلى همم يناط بالفراقد نجادها، وينام على الظّلم سهّادها. وهو في بني منقذ علامة أعلام، وضرغامة في أجمة أسل وأقلام. حمامة سجع، وغمامة رجع، وصمصامة مرهف منهم لا يفلّ له حدّ، وأسامة من بيت، كلّهم أسود، ما منهم إلّا كريم الجدّ، طمى على قريبهم سيله، وغطّى على أطوادهم المنيفة ذيله. وقد ذكره العماد الكاتب ذكرا يوشّح الأعطاف، ويرشّح لفواضل هزّاته السّلاف، قال: «وسكن دمشق، ثمّ نبت به كما تنبو الدّار بالكريم، فانتقل إلى مصر، فبقي بها مؤمّرا مشارا إليه بالتّعظيم، إلى أيّام الصّالح ابن رزّيك. ثم عاد

إلى الشّام، ثم رماه الزّمان إلى حصن كيفا، فأقام بها حتّى ملك السّلطان صلاح الدّين، فاستدعاه وقد جاوز الثّمانين» «1» انتهى كلامه. قلت: وقدم عليه وقد أمسك الهرم بواعثه، وشدّ بإمساك العصا له رجلا ثالثة، وقد جاوز الثّمانين، وجاور ركائب إلى المنايا ما بين. وفي سنّه يقول: لمّا علّت ومرّت أيامه التي خلت، وقد وهن جلده، ووهى بنانه، ورعشت يده. ويصف فيها ما آلت إليه أحواله وآصت، أقصر من أعمر الأيام أحواله، يتذكّر شبابه المفارق، وناب سنانه في صدر المارق، إذ كانت قناته تحرق لبّة الأسد، وتخلق له في قلب الشّجاع الحسد: [البسيط] فاعجب لضعف يدي عن حملها قلما ... من بعد حطم القنا في لبّة الأسد «2» وله ديوان شعر رقيق الجلباب كخدود الغيد، تحيّر فيها ماء الشّباب. لا يصل إلى درّه الغوّاص، ولا يطّلع على سرّه إلّا الخواص. ومما له يرشف ثغوره، وترهف كالسّيوف الحداد سطوره، قوله: «3» [الطويل] تخالفت الأهواء وانشقّت العصا ... وشعّبهم وشك النّوى كلّ مشعب وقد نثر التّوديع في كلّ مقلة ... على كلّ خد لؤلوا لم ينقّب (11) ومنه قوله: «4» [مجزوء الكامل] يا عاتبا أحبابه ... أأمنت تقليب القلوب؟

لا تفز عنّ سماع من ... تهوى بتعداد الذّنوب ما ناقش الأحباب إلا (م) ... من يعيش بلا حبيب ومنه قوله: «1» [البسيط] أفدي خيالا سرى ليلا فاشرقت الدّ ... نيا بأنواره والصّبح ما انبلجا عجبت منه تخطّى الهول معترضا ... أرض العدا ووشاة الحيّ، كيف نجا؟ ومنه قوله: «2» [المنسرح] انظر إليها فإن نظرت ترى ... شخصا عن العاشقين يحتجّ «3» غصن ودعص فالغصن من هيف ... يميس لينا والدّعص يرتجّ شمس وليل فاعجب لشمس ضحى ... تشرق والليل راكد يدجو منه قوله: «4» [السريع] نفسي فدت بدر تمام إذا ... عاتبني بالجدّ أو بالمزاح سددت بالتّقبيل فاه على ... مسك ودرّ ورضاب وراح «5» ومنه قوله: «6» [مجزوء الرمل] يا من فدتك النفس قد أس ... رفت في هجري وصدّي ابق من هجرك حظا ... للذي يهواك بعدي «7»

قلت: وما كان ضرّ هذا الشاعر لو قال بعدها: لا تخلّي الهجر طرا ... في نصيبي أنا وحدي ومنه قوله: «1» [مخلع البسيط] إن راعنا البين بافتراق ... وساء بعد الدّنوّ بعد فهذه شيمة الليالي ... تعيرنا ثمّ تستردّ ومنه قوله: «2» [الرجز] ما هاج هذا الشّوق غير الذّكر ... وزورة الطّيف أتى من مصر «3» (12) كم خاض بحرا وفلا كبحر ... حتى أتى طلائحا في قفر قد انطوينا من سرى وضمر ... حتى اغتدين كهلال الشّهر يحملن كل ما جد كالصّقر ... بعيد مهوى همّة وذكر للمجد يسعى لا لكسب الوفر ... يذكرني طيب الزّمان النّضر ما كان إلا غرة في الدّهر ومنه قوله: «4» [الكامل] واها لليل خلتني من طيبه ... متفيّئا في ظلّ طير طائر ناهلت فيه البدر شمسا توّجت ... عند المزاح بكلّ نجم زاهر «5» ولثمت برقا لو تألّق في دجى ... أغنى المحول عن الغمام الماطر «6»

ومنه قوله: «1» [الكامل] عاتبته في صدّه قبل النّوى ... فكأنّ عتبي زاده إصرارا ورأيت أمواه الحياء بخدّه ... فترقرقت حتى استحالت نارا ومنه قوله: «2» [الرمل] راحتي في فيض دمعي ... لو أطاعتني الدّموع وخداع الطّيف لوطا ... ف بأجفاني الهجوع ومنه قوله: «3» [الكامل] أحبابنا المتوجّعون لما بنا ... هجروا وأبدوا رأفة وتوجّعا صدّوا فأشعرني السّقام صدودهم ... وأعاض عيني من كراها أدمعا وهم جنوا ما أنكروا فتوجّعوا ... متنصّلين تقيّة وتورّعا كالقوس ترمي السّهم ثم ترنّ من ... وجد عليه تأسّفا وتفجّعا وفي هذا زيادة على قول ابن الرومي: «4» [البسيط] كالقوس يصمي الرمّايا وهي مرنان ومنه قوله: «5» [الكامل] في وجهه ماء الملاحة حائر ... وبخدّه ورد الحيا لم يقطف وكأن وشي عذاره في خدّه ... نمل تسرّب فوق ورد مضعف

(13) ومنه قوله: «1» [الكامل] هبني أكفكف زفرتي ومدامعي ... ما حيلتي وشجا التجمّل خانقي أنا كالحمام تبوح حين تنوح بالشّ (م) ... كوى ولم يفغر لها فم ناطق «2» ومنه قوله: «3» [الكامل] لله ليلتنا التي رحبت لنا ... فيها المسرّة في مجال ضيّق ما شابها لولا مشيب ظلامها ... كدر ولا راعت بواش محنق فلو استطعت خضبتها بشبيبتي ... وجعلت لون صباحها في مفرقي ومنه قوله: «4» [المنسرح] أقول للعين في يوم الوداع وقد ... فاضت بقان على الخدّين مستبق «5» تزودّي اليوم من توديعهم نظرا ... ففي غد تفرغي للبين والأرق «6» ومنه قوله في الخمر: «7» [المنسرح] إذا قراها المزاج أضرمها ... وقلت: أيدي السّقاة تحترق «8» توّجها الماء من فواقعه ... درّا به ترتدي وتنتطق «9»

ومنه قوله: «1» [البسيط] ما حيلتي خذلتني بعد بعدكم ... مدامعي واستحالت في الحشا حرقا كأنّما رام قلبي أن يصعّد من ... دمي دموعا بنار الشّوق فاحترقا ومنه قوله: «2» [السريع] أخرجني حبّك عن شيمتي ... حتى لقد أنكرت أخلاقي أخضع للواشي ولولا الجوى ... لم يخضع الملسوع للراقي أشفق أن يظهر حبّي لكم ... هيهات يا ضيعة إشفاقي ومنه قوله: «3» [مخلع البسيط] قل للملوك الذي تجنّى ... وخان من بعد ملك رقيّ أحسن بي لا عن اعتماد ... غدرك إذ جاد لي بعتقي (14) ومنه قوله: «4» [الخفيف] لو رآني أموت ظمآن والنّي ... ل بكفّيه ما سقاني بلالا وهو لو رام أخذ إنسان عيني ... قلت: خذه يكن بخدّك خالا ومنه قوله: «5» [الكامل] نفسي الفداء لمن يعاتبني ... وفمي على فمه يقبّله ويريد يوضح وجه حجّته ... واللّثم يعجله ويخجله

حتّى إذا أضجرته سترت ... ما بين فيّ وفيه أنمله ويعود معتذرا ليشغلني ... عنه بعذر لست أقبله ومنه قوله: «1» [الكامل] راجع أحبّتك الذين هجرتهم ... أو فالق هجرتهم بقلب سال تاركتهم لا معلنا بقطيعة ... تسلي ولا متعرّضا لوصال ثقة بهم ونسيت أنّ قلوبهم ... مخلوقة من جفوة وملال وغدا إذا استعطفتهم وتمنّعوا ... أدمت بنانك حسرة الإخلال ومنه قوله: «2» عتبي نفاق لا تحفلنّ به ... قول بلا نيّة ولا عمل يشبه تعبيس شارب الخمر لا ... لكرهها بل لفارط الجذل ومنه قوله: «3» [الكامل] لا تستعر جلدا على هجرانهم ... فقواك تضعف عن صدود دائم واعلم بأنّك إن رجعت إليهم ... طوعا، وإلّا عدت عودة راغم ومنه قوله: «4» [الكامل] قسما بمن لم يبق خو ... ف رقيبه لي فيه قسما خاف الوشاة فصدّ حتّ ... ى في الرّقاد إذا ألمّا

لأخاطرنّ بمهجتي ... في حبّه إمّا وإمّا ومنه قوله: «1» [البسيط] من لي بأنّ بسيط الأرض دونكم ... طرس وأنّي في أرجائه قلم (15) أسعى إليكم على رأسي ويمنعني ... إجلالي الودّ أن تسعى بي القدم «2» ومنه قوله: «3» [الكامل] نمّت على حسراته زفراته ... وكذا ينمّ على الضرام دخانه وأخو الهوى مثل الكتاب دليل ذا ... ك عيانه ودليل ذا عنوانه تحكي البروق فؤاده فضرامها ... أشواقه وخفوقها خفقانه ومنها: [الكامل] كاتمت واشيك الهوى قبل النّوى ... فبدا له من بعدها كتمانه وعصاك دمعك عند خطرة ذكرهم ... وبقدر طاعتك الهوى عصيانه وتخلّق الطّيف الطّروق بخلقهم ... فإذا ألمّ يروعني هجرانه ومنه قوله: «4» [الكامل] أنكرت واشيك الغرا ... م فجاء سقمي بالبيان شهد النّحول به وما ... يغني الجحود عن العيان ما يستدلّ على وقو ... د النّار إلّا بالدّخان

ومنه قوله: «1» [الكامل] يمتنّ طيفك بالزّيارة كلّما ... دلّته أفكاري على أجفاني المنّ للأفكار لو لم تهده ... نحوي لكان كأنت في الهجران لقن القطيعة منك في سنة الكرى ... فإذا جفا وجنى فأنت الجاني ومنه قوله: «2» [الكامل] يا هاجري [أبدا] في يقظتي فإذا ... هوّمت وكّل بي طيفا يؤرّقني «3» يلمّ بي غير مشتاق على عجل ... وينثني حين يشجيني ويقلقني فلست أنفكّ من بين مجدّد لي ... روعاته بخيال منك يطرقني «4» ومنه قوله: «5» [السريع] كيف انتصاري من هوى ظالم ... قلبي وعيني بعض أعوانه؟ (16) في كلّ يوم موقف للنّوى ... من عتبه ظلما وهجرانه فعهده أضعف من خصره ... وخصره في سقم أجفانه ومنه قوله: «6» [البسيط] جاهرت بالهجر أستبقي الوصال به ... وربّما استتر الإسرار في العلن فضاع في الصّدّ أيّام حفظت بها ... أيّام وصلك في مستأنف الزّمن

كذاك الدّم وهو الرّوح يهرقه الطّ ... بيب حفظا لباقي الرّوح في البدن «1» ومنه قوله: «2» [البسيط] إن ألقه سرّه قربي وآنسه ... وإن أغب صدّ عنّي معرضا ولها كأنّني ميّت في النّوم يبهجه ... لقاؤه ثمّ ينساه إذا انتبها ومنه قوله: «3» [الكامل] تخفى عليّ ذنوبه في حبّه ... ويرى ذنوبي قبل أن أجنيها فكأنّه عيني ترى عيبي ولا ... يبدو لي العيب الذي هو فيها ومنه قوله: «4» [الكامل] يغالطني فيكم هواي فأنثني ... إليكم على إنكار ما قد بداليا كعطفة أمّ البوّ ترأم شلوه ... وقد رابها منه الذي ليس خافيا «5» ومنه قوله:» [البسيط] بعدا لمن شرّه أعمى يصيب ولا ... يرى مكان الأقاصي من ذوي النّسب «7» كالنّار تحرق طبعا لا تميز بي ... ن المندل الرّطب في الإحراق والحطب

ومنه قوله: «1» [مخلع البسيط] أنت كلون البياض تهوى ... وهو أذى كلّه وعيب إن حلّ في العين فهو شين ... أو حلّ في الرّأس فهو شيب وقوله: «2» [الوافر] وما أشكو تلوّن أهل ودّي ... ولو أجدت شكيّتهم شكوت (17) مللت عتابهم ويئست منهم ... فما أرجوهم فيمن رجوت إذا أدمت قوارضهم فؤادي ... كظمت على أذاهم وانطويت «3» ورحت عليهم طلق المحيّا ... كأنّي ما سمعت ولا رأيت ومنه قوله: «4» [الكامل] لا تنكرن مرّ العتاب فتحته ... شهد جنته يد الوداد الناصح وتطلّب المحبوب في مكروهه ... فالدّرّ يطلب في الأجاج المالح ومنه قوله: «5» [الخفيف] لي مولى صحبته مدّة العم ... ر فلم يرع حرمتي وذمامي ظنّني ظلّه أصاحبه الدّه ... ر على غير نائل واحترام فافترقنا كأنّه كان طيفا ... وكأنّي رأيته في المنام

وقوله من مرثيّة: «1» [الطويل] أطلت عليّ الليل حتّى كأنّما ... زماني ليل كلّه ما له فجر تمثّلك الأفكار لي كلّ ليلة ... وتؤنسني أشباهك الأنجم الزّهر وقوله: «2» [البسيط] أزور قبرك مشتاقا فيحجبني ... ماهيل فوقك من ترب وأحجار فأنثني ودموعي من جوى كبدي ... تفيض فاعجب لماء فاض من نار ومنه قوله: «3» [الكامل] حيّا ربوعك من ربى ومنازل ... ساري الغمام بكلّ هام هامل وسقتك يا دار الهوى بعد النّوى ... وطفاء تسفح بالهتون الهاطل حتّى تروّض كلّ ماح ما حل ... عاف وتروي كلّ ذاو ذابل أبكيك أم أبكي زماني فيك أم ... أهليك أم شرخ الشّباب الزائل وما قدر دمعي أن تقسّمه النّوى ... والوجد بين أحبّة ومنازل «4» ومنه قوله: «5» [الكامل] نظرت إلى ذي شيبة متهدّم ... أفناه ما أفنى من الأيّام «6» (18) يمشي وتقدمه العصا وقد انحنى ... فكأنّها وتر لقوس الرّامي

ومنه قوله: «1» [البسيط] إذا كتبت فخطّي جدّ مرتعش ... كخطّ مضطرب الكفّين مرتعد «2» فاعجب لضعف يدي عن حملها قلما ... من بعد حطم القنا في لبّة الأسد وإن مشيت وفي كفّي العصا ثقلت ... رجلي كأنّي أخوض الوحل في الجلد وقد تقدّم البيت الثّاني منها في ترجمته. ومنه قوله: «3» [الكامل] كم حار في ليل الشّباب فدلّه ... صبح المشيب على الطّريق الأقصد «4» وإذا عددت سنيّ ثمّ نقصتها ... زمن الهموم فتلك ساعة مولدي «5» ومنه قوله: «6» [الطويل] أراني نهار الشّيب قصدي وطالما ... تجاوز بي ليل الشّباب سبيلي وقد كان عذري أن أضلّني الدّجا ... فهل لي عذر والنّهار دليلي ومنه قوله: «7» [البسيط] يا ربّ حسن رجائي فيك حسّن لي ... تضييع وقتي في لغو وفي لعب «8» وأنت قلت لمن أضحى على ثقة ... بحسن عفوك إنّي عند ظنّك بي

ومنه قوله: «1» [البسيط] الرّوح محصورة في الجسم موثقة ... بقيد مهلتها أو ينتهي العمر حتى إذا خلصت أفضت إلى سعة ال ... فضاء وانزاح عنها الضّيق والضّرر كالنّور في العين محصور ويخرج من ... حرص دقيق وضيق ثم ينتشر ومنه قوله في قلع الضّرس: «2» [البسيط] وصاحب لا تملّ الدّهر صحبته ... يشقى لنفعي ويسعى سعي مجتهد لم يبد لي مذ تصاحبنا فمذ وقعت ... عيني عليه افترقنا فرقة الأبد «3» ومنه قوله: «4» [البسيط] علا إلى الأفق أقوام بلا أدب ... وفي الحضيض ذوو الآداب قد همدوا (19) كأنّما النّاس في بحر يموج بهم ... رسا به الدّرّ واستعلى به الزّبد ومنه قوله: «5» [الكامل] استر همومك بالتّجمّل واصطبر ... إنّ الكريم على الحوادث يصبر كالشّمع يظهر نوره متجمّلا ... فوق الشّمات وفيه نار تسعر ومنه قوله: «6» [البسيط]

اصبر إذا ناب أمر وانتظر فرجا ... يأتي به الله بعد الضّرّ والياس إن اصطبار ابنة العنقود إذ حبست ... في ظلمة القار أفضاها إلى الكاس ومنه قوله: «1» [الكامل] اصبر على جور الولاة وعسفهم ... وترقّب الفرج الذي يتوقّع وادفع معرّتهم بطاعة خاضع ... فالدّهر عارية غدا يسترجع فالنّبت يسجد خاضعا متواضعا ... للريّح ثمّ إذا تولّت يرفع ومنه قوله: «2» [البسيط] إنّي وثقت بأمر عزّني أملي ... فيه وقد قيل كم من واثق خجل عادت إليّ الأماني منه آيسة ... فيا حياء المنى من خيبة الأمل ومنه قوله: «3» [الكامل] النّاس أشباه فإن خطب عرا ... حطّ الدّنيّ وساد ذكر الأفضل كالعود مشتبها فإن أحرقته ... كره الدّخان وطاب عرف المندل «4» ومنه قوله: «5» [البسيط] زهّدني في العقل أنّي أرى ... عناية الأيّام بالجهل والدّهر كالميزان: ذو الفضل ين ... حطّ وذو النقصان يستعلي

ومنه قوله، وفي كل كلمة نون: «1» [الكامل] نزّه لسانك عن خنا ونميمة ... من نمّ بين النّاس كان مهينا وامنح نوالك من نحاك بظنّة ... وأنف لنفسك أن تكون ضنينا (20) ومنه قوله: «2» [الخفيف] كم تغصّ الأيّام منّي وتأبى ... همّتي أن تنال منّي مناها أنا في كفّها كجذوة نار ... كلّما نكّست تعالى سناها ومنه قوله: «3» [مجزوء الرمل] يا ظلوما كلّما استع ... طفته صدّ وتاها زدت في تيهك والشي ... ء إذا زاد تناهى تتقصّى دولة الحس ... ن وإن طال مداها ومنه قوله: «4» [الكامل] خلع الخليع عذاره في عشقه ... حتّى تهتّك غاية الإفراط «5» يأتي ويؤتى ليس ينكر ذا ولا ... هذا كذلك إبرة الخيّاط ومنه قوله: «6» [الكامل] قالوا نهته الأربعون عن الصّبا ... وأخو المشيب يجور ثمّت يهتدي

6 - أخوه أبو الحسن

كم حار في ليل الشّباب فدلّه ... صبح المشيب على الطّريق الأقصد «1» ومنه قوله: «2» [الكامل] لا تحسدنّ على البقاء معمّرا ... فالموت أيسر ما يؤول إليه وإذا دعوت بطول عمر لامرئ ... فاعلم بأنّك قد دعوت عليه انتهى ذكره، وسنذكر بقايا بيته. وإذا اختصرنا فهو من جرثومة مثمرة الأغصان، مقمرة الأهلّة في طلائع الخرصان. أهل فضل لا ينزح قليبه، ولا يبرح يستسقى اغترافا باليد قريبه. ومنهم: 6- أخوه أبو الحسن «13» فاق بني منقذ سؤددا ضخما، وشجاعة أنحلت المشرفيّ عناقا، والرّدينيّ ضمّا. ورد بغداد حالا في كنف إمامها، وحاجّا تحت ظلّ أعلامها. واستشهد في حرب الإفرنج على باب غزّة، ودفن بها، فوسّد ترابها عزّه. وأنشد له أخوه شعرا ما شمخت (21) عندي ذوائبه، ولا نفحت في أذني عجائبه، وإنّما منه: «3» [الكامل] ما فهت مع متحدّث متشاغلا ... إلا رأيتك خاطرا في خاطري ولو استطعت لزرت ربعك ماشيا ... بسواد قلبي لا بسواد النّاظر «4»

7 - أبو الحسن علي بن مقلد

ومنهم: 7- أبو الحسن عليّ بن مقلد «13» جدّه سديد الملك، وهو جدهم السعيد وزندهم القادح ضرما في ماء الحديد، لولاه ما زأر أسامة، ولا استعرض مرهف الحرب ولا سآمة، ولا كان مرشد إلا حائرا يطلب طريق السّلامة، ولكن فخروا جدودا، وادجروا جودا، وأصبحوا يتوقّل الحصون لواؤهم، ويصبّ على المعاقل أنواؤهم. وهو الذي أخذ حصن شيزر من الأسقف الذي كان مالك صياصيه، بمال بذله له فسلّمه إليه بنواصيه. ثم شرع في عمارته، وبرع به في إماراته. وهو ممدوح فحول الشّعراء في أوانه، ومستودع درر القرائح في صوانه. وله شعر ما قصّر به عن مدى، ولا تأخر عن الزهر المبلل بالنّدى. فمنه قوله في غلام ضربه، وقد أبدع فيه وأغرب، وقال فأطرب، وهو: «1» [البسيط] أسطو عليه وقلبي لو تمكّن من ... كفّيّ غلّهما غيظا إلى عنقي وأستعير إذا عاتبته حنقا ... وأين ذلّ الهوى من عزّة الحنق «2» ومنه قوله: «3» [مجزوء الرمل] بكرت تنظر شيبي ... وثيابي يوم عيد ثم قالت لي بهزء ... يا خليعا في جديد لا تغالطني فما تص ... لح إلا للصّدود

8 - أبو سلامة، مرشد بن علي بن مقلد

ومنهم: 8- أبو سلامة، مرشد بن عليّ بن مقلد «13» وهو ممن كتب خطّا فائقا، وأضحى لجيوب الكمائم فاتقا. وتقدّم على قومه فتأخّروا عن شوطه، وتأثّروا بزجره قبل سوطه. وأسنّ وعمّر، وسنّ معروفا منذ أمّر. وولد أولادا نجباء، وأمجادا كرماء. وذكره صاحب بغية الألباء فلم ينشد له شعرا، ولا أنشق له عطرا. وقد أنشد له مؤلف «الفضل الأغزر في ملوك شيزر» (22) شعرا كثيرا، أليقه بالأبيات، وأنسبه طللا يلحق بالأبيات، قوله: [الطويل] بكائي على إخوان صدق فقدتهم ... أصابهم سهم الرّدى وعداني فلا صاحب إن غبت عنه أشوقه ... ولا صاحب إن متّ عنه بكاني ومنهم: 9- حميد بن مالك بن مغيث بن نصر بن منقذ بن محمد بن منقذ بن نصر بن هاشم، أبو الغنائم «14» الملقب بمكين الدّولة. تالي قرآن لا يفتر منه لسانه، وتالي غمام لا يقصر عنه إحسانه. ينظم من الشّعر فاخر عقوده، ويشقّ زاخر بحوره. ولا يردّ عن مقصوده. شاعر فحل، ظاهر في كلامه جنى النّحل. مع عفاف لا يدنّس له بردا، ولا يكدّر له وردا. هذا إلى تتيّم بسلمى وسعدى، وكلف لا يبيت ليلة لا يستنجز وعدا. كلّ هذا صناعة أدبية، ورقة عربيّة. ومن شعره السّائر، ونظمه الطّائر،

10 - أبو الفضل، إسماعيل بن أبي العلاء

قوله: «1» [البسيط] ما بعد جلّق للمرتاد منزلة ... ولا كسكّانها في الأرض سكّان في كلّ ناحية عين وكلّ فتى ... تلقاه من أهلها للعين إنسان ومنهم: 10- أبو الفضل، إسماعيل بن أبي العلاء «13» سلطان بن عليّ بن منقذ. أبوه عمّ مؤيّد الدّولة أسامة. هو الفضل حقيقة، وله الفعل الجميل خليقة. نشأ شابّا يترنّح غصنه شبابا، ويضيء ذهنه شهابا، ويرقّ خلقه شرابا. اعتورت المنايا سراجه، وعجّبت الرّزايا أدراجه. فما بزغ حتى أفل، ولا آب حتى قفل. وذكره العماد الكاتب وقال: سمعت من شعره: «2» [الطويل] ومهفهف كتب الجمال بخدّه ... سطرا يحيّر ناظر المتأمّل بالغت في استخراجه فوجدته ... لا رأي إلّا رأي أهل الموصل وذكره صاحب بغية الألبّاء، وقال: اتّصل بي ذكره، وأنه كان في مخيّمه، فطار عليه زنبوران، وكان على رأسه مملوك وضيء الوجه، فطيّرهما. فكتب إلى ابن عنين: «3» [الطويل] متفرّدين ترنّما في مجلس ... فنفاهما لأذاهما الأقوام «4»

11 - أبو الفتح يحيى بن سلطان بن منقذ

(23) هذا يجود بما يجود بعكسه ... هذا فيشكر ذا وذاك يذام «1» فأجابه: «2» [الكامل] هذان زنبوران أما جود ذا ... عسل وذا لدغ عليه يذام كلحاظ من أهوى وريقة ثغره ... خمر لراشفها وذاك سهام ومنهم: 11- أبو الفتح يحيى بن سلطان بن منقذ «13» مجد الدين «3» كان لا يعدم بينهم تمجيدا، ولا يطاول أخدعا وجيدا. إلّا أنّه كان يتنعب من العيش زهيدا، ثم قتل بعد ذلك شهيدا. وله شعر منه: [البسيط] والشمس مصفرّة في الغرب قد نشرت ... شعاعها في تفاريق من السّحب كأنّما السّحب أعلام مورّدة ... والشمس من تحتها ترس من الذّهب وروى هذه أيضا لغيره. وإنّما شيخنا علاء الدّين الكندي رواهما له، ومنه سمعت. ومنهم: 12- أبو مرهف، نصر بن علي بن مقلد «14» عمّ مؤيّد الدّولة أسامة. وكان يلقّب بعزّ الدّولة. مؤرّخ لا يفوته فائت، ولا

13 - أبو الفوارس، مرهف بن أسامة بن مرشد بن علي بن مقلد بن نصر بن منقذ، عضد الدولة

تخفى عليه حال مقيل ولا بائت. فضلا أتقنه، وشغلا جعله ديدنه. هذا، مع تحف أناشيد، وطرف شعر ألذّ من الأغاريد. سريع المحاضرة، سريّ المذاكرة، يغترف من بحر لجّيّ، ويقتطف من ليل دجوجي، فلهذا لا تعدّ درره ولا دراريه، ولا تحدّ أواخره ولا مباديه. ذكره العماد الكاتب الأصفهاني فقال: حضرنا عند الملك الصالح ليلة بدمشق، في سنة إحدى وسبعين وخمسمائة، والأمير مؤيّد الدّولة حاضر، يناشدنا ملح القصائد، وينشد لنا ضالة الفوائد. وجرى ذكر بيتين لبعضهم، في المشط الأسود والمشط الأبيض، وهما لأبي الحسين أحمد بن محمد الدويدة، وهما: [الخفيف] كنت أستعمل السواد من الأم ... شاط والشّعر في سواد الدياجي أتلقّى مثلا بمثل فلمّا ... صار عاجا سرّحته بالعاج فقال أسامة: أخذ هذا المعنى عمّي نصر، وعكسه، فقال: [الخفيف] كنت أستعمل البياض من الأم ... شاط عجبا بلمّتي وشبابي (14) فاتّخذت السّواد في حالة الشّي ... ب سلوّا عن الصّبا والتّصابي ومنهم: 13- أبو الفوارس، مرهف بن أسامة بن مرشد بن عليّ بن مقلد بن نصر بن منقذ، عضد الدّولة «13» أسنّ وما خلع جلباب الشّباب، ولا ودّع سلمى والرّباب. بخلق زادته السنون صفاء، وأفادته رقة يتخذ معها مواصلة الراح جفاء. وكان كريما خرق البنان، خلق للقلم والعنان. اقتنى الكتب وجمعها، واجتنى الآداب وأبدعها، ومتّع

14 - القاضي أبو غانم عبد الرزاق بن أبي حصين

بحواسّه فما فقدها، ولا طلبها إلّا وجدها. ما تغبّر له ذهن ولا عقل، ولا غاب عنه بحث ولا نقل. وكان إلى أن مات يقرأ الخطّ الرقيق قراءة الشّبّان، ولا يتمادى عليه أوان. ومما كتب به إلى أبيه: «1» [الطويل] رحلتم وقلبي بالولاء مشرّق ... لديكم وجسمي للعناء مغرّب «2» فهذا سعيد بالدّنوّ منعّم ... وهذا شقيّ بالبعاد معذّب وما أدّعي شوقا فسحب مدامعي ... تترجم عن شوقي إليكم وتعرب وو الله ما اخترت التّأخّر عنكم ... ولكن قضاء الله ما منه مهرب انتهى البيت المنقذي. ثم نذكر بقية من نحن بصددهم، فنقول: 14- القاضي أبو غانم عبد الرزاق بن أبي حصين «13» المعري أصفه مختصرا، وأدل عليه مقتصرا، فأقول: إن تقدّمه بلديّه بزمانه، فقد أدركه بإحسانه، وما يأتي من شعره أنموذج من بيانه. ومنه قوله في كوز الفقّاع: «3» [الوافر] ومحبوس بلا جرم جناه ... له حبس بباب من رصاص يضيّق بابه خوفا عليه ... ويوثق بعد ذلك بالعفاص «4» إذا أطلقته خرج ارتقاصا ... وقبّل فاك من فرح الخلاص

15 - أبو العلاء بن أبي الندى

وقد ترجم له العماد، وقال بعد إيرادها: وما أعجب به من إنشادها، ما صورته هذه الأبيات الحسنة، صقلتها الألسنة وهي عروسها في كنّها، خندريس في دنّها، مطبوعة في فنّها. يعدّ هذا الأسلوب من النظم معمّى. (25) ويدلّ على أن لقائله فضلا جمّا. انتهى كلام العماد. ولو شاء في الثّناء زيادة لزاد. ومن شعره قوله في حجر الرّجل: «1» [الكامل] وعجيبة أبصرتها فخبأتها ... لغزا لكلّ مساجل ومناضل ما تستقرّ بكف ألكن ناقص ... حتى تجرّ برجل أروع فاضل «2» ومنهم: 15- أبو العلاء بن أبي الندى «13» أبو العلاء بن أبي الندى، وقيل ابن جعفر بن عمرو المعري. الشعر فضله على فضائله. والأدب طبع يبدو على مخائله. من هذه البلد التي أخرجت الأخاير، وملئت بجواهرهم الذخائر. وكان أبو العلاء ذاك، ذكاء ليس فيه شاك. قال فيه العماد: «اشتغل صغيرا بالفقه، وكان في الذكاء عديم الشّبه، سمح البديهة والرّويّة. مجيد وحيد فريد، غدر به عمره، وطوي نشره، وغيّض فيضه قبره، ونضب عند تموّج عبابه بحره. ولو عاش لكان آية، فلم يبق في علم من العلوم غاية» . ومن شعره يمدح بهاء الدّين الشّريف: «3» [الكامل] من أين كان لكنّ يا حدق المهى ... علم بنفث السّحر في عقد النّهى

أم من أعار البان في مهج الورى ... فتكا فأصبح بالقنا متشبّها من كلّ ميّاد القوام منعّم ... يختال من سكر الشّباب فيزدهى «1» واهي الجفون فلو تكفّل جفنه ... فعل الصّوارم لاستقلّ وما وهى يبدو بوجه كلّما قابلته ... أهدى إليك من المحاسن أوجها كالفضّة البيضاء إلا أنّه ... يلقاك من ذهب الحياء مموّها وله على القمر المنير فضيلة ... كفضيلة القمر المنير على السّها «2» جمّ البهاء كأنّما جمعت له ... تلك الصّفات الغرّ من شيم البها البدر يقصر أن أقايسه به ... والشّمس تصغر أن أشبههه بها وظلمت شامخ مجده إن جئته ... عند المديح ممثّلا ومشبّها أنتم بني الزهراء، أهل الحجّة ال ... زهراء إن فطن المجاور أوسها فإلام يجحد في البريّة حقّكم ... قد آن للوسنان أن يتنبّها (26) صنتم ببذل عروضكم أعراضكم ... وصيانة الأعراض في بذل اللها ماذا أقول، وما لوصف علاكم ... حدّ، ولا لنهاكم من منتهى منكم سنا الشّرف المبين جميعه ... وإلى بهاء الدّين بعدكم انتهى ومنه قوله: «3» [البسيط] لا غرو إن كان من دوني يفوز بكم ... وأنثني عنكم بالويل والحرب يدنى الأراك فيمسي وهو ملتثم ... ثغر الفتاة ويلقى العود في اللهب

ومنه قوله في المروحة: «1» [الوافر] وقابضة بعنان النّسيم ... تصرّفه كيف شاءت هبوبا فمن حيث شاءت أهبّت صبا ... ومن حيث شاءت أهبّت جنوبا يضمّخ بالطّيب أردانها ... فتهدي لملبسها الطّيب طيبا إذا أقبل القرّ كانت عدوّا ... وإن أقبل القيظ صارت حبيبا ومنه قوله في غلام ينظر في مرآة: «2» [البسيط] بدا لنا فازدهانا حسن صورته ... حتى امترينا لها في أنه بشر وقابلت وجهه مرآته فبدت ... كأنها هالة في وسطها قمر ومنه قوله: «3» [الطويل] خذي قلبه رهنا وردّي له الكرى ... لعلّ خيالا منك في النّوم يطرق فواعجبا للطّيف ليس بواصل ... إلى الجفن إلّا وهو وسنان مطبق يصدّ إذا الأبواب تفتح دونه ... ويقرب منها شخصه حين تغلق وما ذاك دأب الزّائرين وإنّما ... زيارته للصّبّ زور منمّق «4»

16 - محمد بن حيدر البغدادي

ومنهم: 16- محمد بن حيدر البغدادي «13» الأديب أبو طاهر، محمد بن حيدر البغداديّ. ممن زاد بذكره الخطيري. زينة الدّهر وجلاها حسناء لم يغلها المهر. وله لطائف أغضّ من الزّهر، وأندى من الأقاحي على النّهر، ومنها قوله: «1» [الكامل] يا جاحدي فضلي وقد نطقت ... بفضائلي بدهاته عنه (27) هل أنت إلّا البدر توضحه ... شمس الضّحى وكسوفها منه؟ وقوله: [المنسرح] أما ترى البدر كيف مدّ على ... دجلة ضوءا من نوره البهج والجسر من فوقها يرقّصه الن ... نسيم من مائها على اللّجج كأنها لاذة مفرّكة ... يقطعها قاطع من الشّبج ومنه قوله: [الوافر] وصاحبة وردت بها غديرا ... يقدّر من صفاء الماء أرضا كأنّ الوحش حين تعبّ منه ... يقبّل بعضها للشّوق بعضا وقوله: «2» [الطويل] ومدامة كدم الذّبيح سخا بها ... للشّرب من لهواته الإبريق حتى إذا ضحك الزّجاج لقربها ... منه بكى لفراقها الراووق وقوله: [مجزوء الكامل]

17 - أبو الفتح، محمد بن عبد الله، سبط ابن التعاويذي

يا صاح قد جمع السّرو ... رلنا بقربك ما تبدّد قم فاسقني والسحب با ... كية وطرف البرق أرمد والليل فد شابت ذوا ... ئب أفقه والبدر أمرد والماء في وسط الصّرا ... ة كأنّه زرد مبدد وقوله: «1» [الهزج] خف الأمر وإن هان ... ولا يطغ بك الشّبع ولا تصد من الكل ... فة ما يصقله الطّبع فقد يخشى من الفأ ... ر على من عضّه السّبع ومنهم: 17- أبو الفتح، محمد بن عبد الله، سبط ابن التعاويذي «13» الملقّب بأمين الدّولة. رجل تدفع العين عوذه، وتمنع من يرتاد الرّوض نبذه. كان من الكتاب استرزاقا لا صناعة واستحقاقا. لو أن مادته في الشّعر له (28) بضاعة. وأدبه نسب النسيم إذا سرى سحرا، ونبّه عيون النّور من وسعه الكرى. وله في الشعر توليد غير موءود، وديوان شعر ما فيه مخرّج لا مردود. وكله مما يلج بلا استئذان، ويصل إلى القلب قبل الأذان، إلّا أنّ الغوص في أكثره قليل، والدّقيق في مواضعه منه حليل. وهو ممن تديّر ريفا، وتفيّأ من النّخيل ظلا وريفا، لا يعلّله إلا أساها، ولا يعلمه شكوى الفراق إلا نوح الحمائم في مصبحها وممساها. وكان مسترزقا

بالمديح، مادّا منه كفّ المستميح. وبعث مديحا إلى السّلطان صلاح الدّين- قدّس الله روحه- أرسله لأمله رائدا، وبعث يطلب بكرمه معنى زائرا. وبعث قصيدة إلى العماد الكاتب استجداه فيها فروة يدفع بها برد الشّتاء الكالح، ونبل الوبل الرّاشق، وخطّار البرق الرامح. وكان شيخنا شهاب الدّين مفتونا بطريقه، مغبونا في رحيقه. لا يقدم عليه شاعرا من معاصريه، ولا يحب ذا أدب لا يكون من ناصريه. وحدّثني الحافظ أبو الفتح ابن سيّد الناس العمري، قال: كان قاضي القضاة ابن دقيق العيد يثني عليه ويقول: من يحسن مثل قوله: «1» [السريع] سرت بنا في ليلة القرّ ... تجمع بين الإثم والأجر والله لو مدحت بمثلها لأجرت عليها ألف دينار. قلت: وحسبه ثناء هذين وكفى. ومن سهل مطبوعه، وجيده المنتقى من مطبوعه، قوله: «2» [الخفيف] بات يجلو عليّ روضة حسن ... بتّ منها ما بين روض وآس «3» قلقي من وشاحه وبقلبي ... ما بخلخاله من الوسواس ومنه قوله: «4» [المنسرح]

وقائد الجرد كالعقارب لا ... يدركها في نجائها البصر «1» حماتها كلّ يوم ملحمة ... حماتها والقنا لها إبر ومنه قوله: «2» [مجزوء الكامل] قالت وأدمعها تسي ... ل أسى على الخدّ الأسيل (29) يا بين كم أجليت يو ... م نوى الأحبّة عن قتيل منها في المديح: يا فارج الكرب العظي ... م وكاشف الخطب الجليل أحسنت في الدّهر المسي ... ء وجدت في الزّمن البخيل «3» ومنه قوله: «4» [الخفيف] بأبي الأسمر العزيز وقد با ... ت على غيرة الوشاة سميري «5» زارني بعد هجعة يمسح الرّق ... دة عن جفن عينه المزرور ومنه قوله: «6» [الكامل] عودي مريضا في يديك شفاؤه ... أشفى وأنت بما يكابد أعلم ولطالما وجد الطّبيب لدائه ... برءا إذا كان الطّبيب المسقم «7»

ومنه قوله: «1» [الطويل] يعزّ على زرق الأسنّة عودها ... وما نهلت ذوابلها السّمر تحوم ظماء والنحور كأنّها ... مناهل ورد والرّماح قطا كدر ومنه قوله: «2» [مجزوء الكامل] أين استقلّت بالحبيب ركابه ومتى ظعن ... ولربّ ليل بتّ فيه صريع باطية ودن مع مخطف لدن القوام إذا انثنى رخص البدن ... لكنّني كفّرت ليلة زرته عنّي وعن ومنه قوله: «3» [المنسرح] قد أقسمت لا اهتدى الخيال إلى ... جفني وبرّت لمياء في القسم أمزج شكواي بالخضوع لها ... ودمع عيني صبابة بدمي ومنه قوله: «4» [الكامل] يا شاكي اللّحظات شكوى مغرم ... يلقاك وهو من التجلّد أعزل أصمت لواحظك المقاتل راميا ... أفما يدقّ على سهامك مقتل (30) ومنه قوله: «5» [الطويل]

إذا ما أظلّتني عناقيد فرعها ... سقتني بكأس الثّغر ماء العناقيد ومنه قوله: «1» [السريع] وليلة بات سميري بها ... وناظري بالنّجم معقود حتى انمحى صبغ الدّجى واغتدت ... كأس الثّريّا وهي عنقود «2» ومنه قوله: «3» [الكامل] خذ في أفانين الصّدود فإنّ لي ... قلبا على العلّات لا يتقلّب «4» أتظنني أضمرت بعدك سلوة ... هيهات عطفك من سلوّي أقرب ومنه قوله: «5» [مجزوء البسيط] وبارد الظّلم شتيت الثّغر ... واهي المواعيد معا والخصر «6» في خدّه ماء الشّباب يجري ... قافية من شعري «7» أصبحت لا أملك فيه أمري ومنه قوله يمدح: «8» [الكامل] قوم إذا اعتقلوا مثقفة القنا ... لوغى حسبت الأسد في الآجام «9»

غلب ولكن في المغافر منهم ... حدق المها وسوالف الآرام ومنه قوله: «1» [الوافر] عليل الشوق فيك متى يصحّ ... وسكران بحبّك كيف يصحو وأبعد ما يرام له شفاء ... فؤاد من لحاظك فيه جرح «2» فبين القلب والسّلوان حرب ... وبين الجفن والعبرات صلح ومنه قوله: «3» [المتقارب] حمته صوارم ألحاظه ... فأصبح والثّغر من فيه ثغر نشدتك يا ظالم المقلتين ... هل عند قلبي لعينيك وتر ومنه قوله: «4» [الوافر] بنفسي من وهبت لها رقادي ... قليلي بعد فرقتها طويل (31) وما بخلت عليّ بيوم وصل ... ولكنّ الزّمان بها بخيل ومنه قوله: «5» [السريع] تختلف الأيام في أهلها ... مثل اختلاف المدّ والجزر وما لإنسانيتي شاهد ... عندي سوى أنّي في خسر ومنه قوله: «6» [الطويل]

ومما شجاني أنّني يوم بينهم ... شكوت الذي ألقى إلى غير راحم ولو كنت مذ بانوا سهرت لساهر ... لهان ولكنّي سهرت لنائم ومنه قوله يذكر عود الوزارة: «1» [الكامل] أنتم وإن رغم العدى ورّاثها ... قدما وغيركم الدعيّ الملحق لكم استفاد على الإباء شموسها ... وبكم تجمّع شملها المتفرّق ومنه قوله: «2» [المتقارب] وربّ ليال مزجنا بهنّ ... حرّ الفراق ببرد التلاقي تقضّت قصارا ولكنّها ... أطالت عليّ الليالي البواقي ومنه قوله: «3» [مجزوء الكامل] جذلان من مرح الشّبا ... ب ينام عن ليل المسهّد «4» ظبي سقاني خمر عيني ... هـ فأسكرني وعربد ومنه قوله: «5» [مجزوء الرجز] وليلة شربت فيها بالرقاد السّهرا ... قضّيتها يزاحم العشاء منها السّحرا لو كحّل الصّبح بها من قصر ما شعرا ... باريتها نواظرا مكحولة وطررا فبتّ أستجلي بها وهي سرار قمرا

ومنه قوله يصف الحمام الرسائلي من مديح: «1» [الوافر] تنال بجدّك الطّلبات حتما ... فليس يفوتها أبدا طلاب «2» (32) وتصدر عن مراحلها سراعا ... كما ينقضّ للرّجم الشّهاب تخوض دماء أفئدة الأعادي ... فمنه على معاصمها خضاب ومنه قوله: «3» [الرجز] يا نابذا بين الظّباء قلبه ... ذريّة لكل سهم عاثر كيف تعرّضت وأنت حازم ... يوم اللّوى لأعين الجآذر أما علمت أن أحداق الظّبا ... ء النّجل لا يؤخذن بالجرائر ومنه قوله: «4» [مجزوء الكامل] لله زورته وقد ... مالت إلى الغرب النجوم «5» وقلادة الجوزاء عق ... د في ترائبه نظيم وقد انتشى خوط الأر ... اكة والحمام له نديم ومنه قوله: «6» [الطويل] يجيل على متنيه سود غدائر ... كما نفض الغصن المرنّح أوراقا «7» وقالوا نجا من عقرب الصّدغ خدّه ... فقلت اعترفتم أنّ فيه درياقا

ومنه قوله: «1» [البسيط] يظنّ من فتنته أنّها عنم ... ولّت تشير بأطراف مخضّبه أنّ الخضاب على ذاك البنان دم ... تروقه وهو لا يدري لشقوته منها في المديح: [البسيط] يكاد يقطر من نادي أسرّته ... ماء الحياء ومن أعطافه الكرم ومنه قوله: «2» [مجزوء الكامل] قم يا نديم فناد في النّدماء حيّ على الفلاح «3» سيما ونشر الرّوض قد جلبته أنفاس الرياح «4» والديك كالنشوان من طرب يصفّق بالجناح ومنه قوله: «5» [مجزوء الكامل] ولقد نزعت عن الغوا ... ية لا بسا ثوب الوقار (33) لما تبلّح فجر فودي ... وانجلى ليل العذار وكذا المريب يسير لي ... لته ويكمن في النّهار ومنه قوله يعاتب: «6» [الكامل] لا غرو أن نسيت عهود مودتي ... وقديم أيامي وسالف صحبتي

أنا لا أعدّ اليوم إلا ميّتا ... ومتى وفى الأحياء قطّ لميّت ومنه قوله: «1» [المتقارب] فمن شبّه العمر كأسا يقرّ ... قذاه ويرسب في أسفله فإني رأيت القذى طافيا ... على صفحة الكأس من أوّله «2» ومنه قوله: «3» [مخلع البسيط] لم يبق لي في هوى الغواني ... مذ تقضّى الصّبا طماعه خلعت نفسي من التّصابي ... ما لأخي الشّيب والخلاعه أنكرن مني شيبا وعدما ... فلا بضاع ولا بضاعه ومنه قوله يذم خشكنانجة من قصيدة: «4» [البسيط] وخشكنانجة سوداء فارغة ... كأنّها قطعة من قرن جاموس ومنه قوله: «5» [الوافر] إذا ما الرّعد زمجر خلت أسدا ... غضابا في السّحاب لها زئير وإن سلّت صوارمها الغوادي ... أفاض عليه جوشنه الغدير «6» ومنه قوله: «7» [السريع]

وروضة غنّاء باكرتها ... والشّمس قد جاوزت الحوتا سرت بريّاها نسيم الصّبا ... تحمل نشر المسك مفتوتا «1» وردّ ما استودعه تربها ... من لؤلؤ القطر يواقيتا ومنه قوله: «2» [المنسرح] يرنحها نشوات الشباب فتمشي ... كما انعطف الغصن غضّا (34) صحت وهي بالدّلّ سكرى القوا ... م وصحّت لواحظها وهي مرضى أقام لي خدّك الدّليل بما ... ضرّمه من جوى على كبدي إنّ مرايا الأحداق تحرق ما ... قابله نورها على البعد وقوله: «3» [الوافر] أدر كأس المدام عليّ صرفا ... ولا تفسد كؤوسك بالمزاج ودعني والصّلاة إذا تدانت ... فليس على خراب من خراج وقوله: «4» [الطويل] سمحت بدمعي للدّيار مسائلا ... رسوم الهوى لو أنّ تسآلها يجدي على القلب تجني كلّ عين بلحظها ... وعيني على قلبي جنت وعلى خدّي وقوله: «5» [المنسرح] وريع سرب النّجوم فاستبقت ... في أخريات الظلام تطّرد «6»

18 - أبو الغنائم، محمد بن علي بن المعلم الواسطي

وطار عن وكره إلى الأفق النّس ... ر وخاف الغزالة الأسد وقوله: «1» [الكامل] قالت أتقنع أن أزورك في الكرى ... فتبيت في حكم المنام ضجيعي وأبيك ما سمحت بطيف خيالها ... إلا وقد ملكت عليّ هجوعي ومنهم: 18- أبو الغنائم، محمد بن عليّ بن المعلّم الواسطيّ «13» الملقّب نجم الدّين. شاعر كأنّما حرّك بكلّ هوى، وحرّق بكلّ جوى، فتحمّل كلّ صبابة، وتجمّل بالصبر لو أصابه. فداوت نسيمه وصبا «2» ، وهبّت جنوبا وصبا «3» . وسكن البطائح، وسكب في رواقها الأحمديّ «4» دم كلّ دمع طائح. وعني بشعره بين يديّ شيخ الطائفة أحمد بن الرفاعيّ، قدّس الله روحه، فطاب به هو والفقراء، فعادت عليه بركاتهم، وسرت فيه حركاتهم، وحصلت له حظوة نهنهته في العراق، ورفعت رأسه من الإطراق، فلم يخل مجلس (35) رئيس من منشد لشعره أو مستنشد، ومتّهم به أو متحدّ. واتّخذت ديوانه الوعّاظ موضع إنشادهم، ومكان استشهادهم. فذهب بالقلوب، ونهب الألباب، بلفظه الخلوب، للطافة مأخذه، وقرب وصوله إلى القلب ومنفذه: حتّى إنّ الكلمة كانت تختطف من فمه، وتقتطف قبل أن يثمر

بها أفنان قلمه. فلا تنشد له قصيدة إلا تناهب إنشادها من حضر، وتواثب إليها كلّ منهم وابتدر. فقلّ أن تميّز منشد له بإنشاد، أو برز منفردا بإيراد، لمسابقة الحضور له إلى أبياتها، مسارعة الجميع له إلى غاياتها، لسرعة انتشارها، وسعة اشتهارها، فجاء كلّه حلوا رقيقا، وصفوا رحيقا. ومن مختاره المختال، وشجاره المعتال، قوله: [المتقارب] دعوه فقد قيل إن الغرا ... م جنون وما كذب القائل ولا تسلو حاضرا غائبا ... كفى مخبرا دمعه السائل قفا بي ولو ساعة في العقي ... ق لنبكي على النّاحل النّاحل يحاول من دمعه ناصرا ... على البين والنّاصر الخاذل وقوله: [الطويل] ألم تسأموا عذلي، دعوني والبكا ... ألام على فيض الدموع ألام أسكّان نجد أين أيّام رامة ... إذ الورد من ماء الوصال جمام صحا كلّ ذي سكر بكم غير شارب ... له النّجم خدن والدّموع مدام سلوا غير طرفي إن سألتم عن الكرى ... فما لجفون العاشقين منام وخلّوا زفيري يحد دمعي فكلّما ... تتابع برق استهلّ غمام وقوله: [البسيط] أضلّه وطريق الرّكب ملحوب ... وها أمامك حيث البان ملحوب «1» عرّج وقف وقفة لوت الإزا ... ربه فما عليك به إثم ولا حوب «2» دع التجلّد وامدد للغرام يدا ... من غالب الشّوق أمسى وهو مغلوب

(36) وما خلت أنّ الهوى يقضي عليّ به ... والحبّ كالحين للإنسان مجلوب لم أخل أنّ سرّ الوجد يفضحه ... من الحمائم تغريد وتطريب فما بدا البارق العلويّ معترضا ... إلا أبيت وعندي منه ألهوب كأنّما هو من جنبيّ مخترط ... للومض أو هو في جنبيّ مقروب يبدو وأبكي دما فهو الصدوق منى ... ما لاح إذ ومضه بالبيض محجوب وقوله: [البسيط] كم لي أمدّ غطاء الصّبر أستر أس ... رار الغرام وكفّ البين يكشفه وكم أكتّم دمعي وهو منسكب ... يجري، وخوفا من الواشي أكفكفه لا تنكروا ماء أجفاني وحمرته ... لو كان في العين دمع كنت أنزفه أفنى الهوى أدمعي نزفا ولم يرني ... سوى دمي فهو بالتّوديع يذرفه ومنها في المديح: وما أمتّ بشعر بتّ أنظمه ... للمدح فيك ولا سجع أصنّفه أخذت منك الذي أثني عليك به ... فأنت لا أنا بالنّعمى مؤلّفه وقوله: [المنسرح] دار بقوس صحّت النفوس بها ... والحبّ حيث الشّقاء والعلل «1» مذ سكنتها البدور ما انتقلت ... عن جوّها والبدور تنتقل توسع فتكا فليس ندري ال ... جراحات بها أم عيونها النّجل وقوله: [الرمل]

كلفي فيكم قديم عهده ... ما صباباتي بكم مكتسبه أين ورق الجزع من لي أن ... أرى عجمه أو أن أشاهد عربه ونعم إذا بان حزوى فاسألوا ... إن شككتم في عذابي عذّبه عن جفوني النوم من بعده ... وإلى جسمي الضّنى من قرّبه وصلوا طيفا إذا لم تصلوا ... مستها ما قد قطعتم سببه (37) فإلى أن تحسنوا صنعا بنا ... قد أساء الحبّ فينا أدبه أعشق اللّوم لحبي ذكركم ... يا لمرّ في الهوى ما أعذبه وقال: [الخفيف] قسما بالقدود وهنّ رماح ... ولحاظ العيون وهنّ سهام ويجور الهوى وأعظم أقسا ... م المحبّين هذه الأقسام لأطيلنّ وقفة الحزن في ال ... أطلال حتّى يرثي لي اللّوّام وقال من أخرى: [الطويل] تظلّ عيون النّور في تلعاته ... إلى أعين السّحب الهوامي روامقا فتضحك أنواء السّحاب إذا بكت ... عليه غزار موثقا وشقائقا وقال من أخرى: [الطويل] تخال لديه الشّمس في الجوّ غادة ... عليها ردى من نقعه وخمار ويقدحن من نقع الحوامي على الحصى ... لظى برءوس السّمر منه شرار وقال منها في المديح: وراح ببذل المال صبّا كأنّه ال ... فرزدق والجود الصّريح نوار إذا هزّ يوم الرّوع رمحا فإنّما ... لثعلبه صدر الكميّ وجار

وقال: [الطويل] فلله عطف من صبا الغور مائس ... ولله طرف من سنا البرق يدمع يشاهد منه النّجم جفن مسهّد ... ويقرع منه الخدّ ماء مشعشع وقال من أخرى: [الطويل] وصارخة من أيكة أجّجت له ... لظا طالما أذكته في قلبه الورق بكت طربا فانصاع يبكي تشوقا ... فدمعتها زور ودمعته حقّ وهل يستوي ذو صبوة وابن راحة ... إذا استعبرا، هيهات بينهما فرق ذري الآن يا ورقاء نوحك إنّما ال ... بكاء لمن دمعه يخجل الودق (38) فما أنا بالمثني عليك وإنّما ... له الحزن في هذا البكا ولك السّبق وقال: [المنسرح] يا للهوى نمّت الجفون بنا ... وليس يخلو المحبّ من زلل ما عصينا القلوب، أعينهم ... نحن، وهبنا القلوب للمقل وقال: [الخفيف] قل لحيّ على اللّوى والكثيب ال ... فرد جاد الحيا الكثيب الفردا قد وقفنا من بعدكم نسأل ال ... بان ضلالا عنكم ويشكو الرّبدا «1» فشفانا صمتا، ولم يشف نطقا ... وحكاكم لينا ولم يحك قدّا وقال: [الطويل] عسى من كسا الجسم السّقام يعوده ... ومن سلب الجفن المنام يعيده

فما يبري المشتاق إلا معلّة ... وينقص داء المحبّ إلا مزيده «1» وقال: [البسيط] هو الحمى مغانيه مغانيه ... فاحبس وعان بليلى ما تعانيه لا تسأل الرّكب والحادي فما سأل ال ... عشّاق قبلك من ركب وحاديه ما في الصّحاب أخو وجد يطارحه ... حديث نجد ولا صبّ نجاريه إليك عن كلّ قلب في أماكنه ... ساه، وعن كلّ دمع في مآقيه ما واجد الصّبر في المعنى كفاقده ... وجامد الدّمع في المعنى كجاريه لقي الكئيب هوى عادت أواخره ... على العقيق كما عادت أواليه يجدّد العشق والأشجان تخلفه ... وينثر الدّمع والأحزان تطويه ربع، ثغور الهوى، لا الرّوض يضحكه ... وأعين العشق، لا الأنواء تبكيه خلا، وغير فؤادي ما يهيم به ... دعا، وغير دموعي ما تلبّيه يا منزلا بدواعي البين منتهب ... وما البليّة إلّا من دواعيه فالنّار من زفراتي لا بوارقه ... والماء من عبراتي لا غواديه (39) ومودع القلب إذ ودّعته لهبا ... حاشاه حاشاه من قلبي وما فيه يوهي قوى جلدي من لا أبوح به ... ويستبيح دمي من لا أسمّيه قسا فما في فؤادي ما يعاتبه ... ضعفا يلاقي فؤادي ما يقاسيه لم أدر حين بدا والكأس في يده ... من كأسه السّكر أم عينيه أم فيه وما المدامة إلا من تثنيّته ... وما الظّلامة إلّا من تثنّيه لو لم يطل عصره فخرا وتاه به ... عجبا لما اهتز عطفاه من التّيه وقوله: [الكامل]

عرض العقيق له وجرعاء الحمى ... فطواهما نظرا وأعرض عنهما هاجا صبابته ولم يقل اسلما ... لهما ولا حال الهوى ما هجتما صونا لسرّهما القديم وحقّ من ... حمل المحبّة أن يصون ويكتما منها: [الكامل] يا ردفه، افتضح الكثيب، وعطفه عرف ال ... قضيب بما استعارا منكما ما ضرّ ذاك، الظّلم لو اتّقى ... ظلمي وعاف تألّمي ذاك اللّمى وقوله: [الكامل] وا رحمتا للصّبّ تاه وما له ... جلد، ولا حمل الأذى من عاده هو في العراق، وقلبه بتهامة ... يا قرب مسمعه، وبعد فؤاده وقوله: [الكامل] لو رام هذا السّائق العجلان ... خبر الغضا لا بان عنه البان أمسوا، وقد ظعنوا يحدّث عنهم ... ويميل عنه كأنّه سكران ما يستفيق كأنّما عرضت له ال ... أشواق أو ولعت به الأشجان وكأنّه صبّ تهيج له الصّبا ... ذكرى تمايل عندها الأغصان بانوا وفي عذباته من طيبهم ... ماء الثّرى، وكأنّهم ما بانوا إن تجتنب حزوى فلا ذهل بها ... يستوقف الحادي ولا شيبان (40) فخفى هوى نطقت به أجفانه ... هيهات ليس مع البكا كتمان ينسى، وأذكره العقيق وما له ... ولهي ولا دمعي به الهتّان منها:

أأصونه وهو العقيق وطالما ... سمحت به الأجفان وهو جمان إنّ الألى بخلوا برد تحيّة ... ما ضنّ بعدهم بدمع شان خذ من عيونهم الأمان وهل لمن ... حمل الغرام من العيون أمان كم في البراقع من قسيّ حواجب ... تصمي القلوب وغيرها المرنان منها: واستقبلوا الوادي فأطرقت المهى ... وتحيّرت بغصونها الكثبان فكأنّما اعترفت لهم بقدودها ال ... أغصان أو لعيونها الغزلان وقوله: [الوافر] إذا رفعت عن الغور الخيام ... وعزّ مرامها هان الحمام دعوني والبكا، فلغير طر ... فيّ البكا ولغير أذنيّ الملام منها: أقصّ على البشام بها حديثي ... ولولا الدّمع لاحترق البشام أشبّب بالغصون فلا التواء ... ينوب عن القدود ولا قوام يفرّق شمل دمعي البان فيها ... وينظم نثر شكواي الحمام يميل كأنّما يقسى نسيم ... يمرّ عليه أو دمعي مدام منها: إذا كانت حواجبها قسيّا ... فإنّ لحاظ أعينها سهام إذا نفسي ودمعي قابلاه ... درى ما الريح والغيث الرهام وقوله: [الكامل]

دعني فما اخضرّ العقيق ... إلّا وصرّح نبته بزفيري مهلا فما دمعي بمحبوس ولا ... قلبي على جور النّوى بصبور (41) وإليك عن ذكر المحبّين الألى ... درجوا فما المطويّ كالمنشور وقوله: [الكامل] ما وقفة الحادي على يبرين وهـ ... والخليّ من الظّباء العين إلا ليمنحني جوى ويزيدني ... مرضا على مرضي ولا يبريني قسما بما ضمّت إليه شفاههم ... من قرقف في لؤلؤ مكنون «1» إن شارف الحادي الغوير لأقضين ... نحبي ومن لي أن تبرّ يميني «2» ولقد مررت على العقيق بزفرة ... أمسى الأراك بها بغير غصون فبكا الحمام وما يحنّ صبابتي ... وشكا المطيّ وما يحنّ حنيني وأظنّ ما اشتملت عليه أضالعي ... أهدي الذي حلّت به لجفوني فلذاك نار حشاي يظهر سرّها ... من حرّ هذا الدّمع بعد كمون أنا كالسّحاب إذا توالى برقه ... والى بغيث كالدّموع هتون يا صاحبي ما أنت إن لم ترث لي ... يوما على سرّ الهوى بأمين سل باللّوى إن كنت تخبر فيه عن ... دمعي الطّليق ودمعي المكنون وقوله: [مجزوء الكامل] قف بي على الوادي الذي ... أقوى ربا وعفا محلا أشكو بلائي إليه وال ... مشكوّ من شاكيه أبلى وعلى مرارات الهوى ... ما أعذب الشّكوى، وأحلا

وقوله: [الكامل] وتنكّر الوادي فأصبح بعدهم ... قفرا وشمل جميعهم متبدّدا وكأنّما الأغصان لم تصبح به ... سكرى ولم يمس الحمام مغرّدا وقوله: [البسيط] بانوا بزهر النّجوم الطّالعات فما ... في الرّبع معنى ولا بالرّوض من زهر (42) وأيّ نور تشيم العين من فلك ... أمسى خلاء بلا نجم ولا قمر وقوله: [الكامل] إنّ الألى رحلوا بأقمار الدّجى ... وربا النقا ونواظر الغزلان لم ينج ربّ صنيعة بتدرّع منهم ... ولا بالشّدّ ربّ حصان شهروا عن الطعن العيون وكيف لا ... تحمي وهنّ مقاتل الفرسان وقوله: [الكامل] وأصون عن نظر الوشاة مدامعي ... من أن يبوح الدّمع بالكتمان ويخونني طرف فينطق بالذي ... أخفيه من شأن الممنع شاني ما لي وما لليل وقف طوله ... هدي الكواكب وقفة الحيران وقوله: [الكامل] لا تعجبوا إن عاف مشربه الذي ... أجفانه سمحت بأحمر مربد هي مهجة لا دمعة جمدت وقد ... ذابت دما فكأنّها لم تجمد منها: أمزودي الأضياف ضيف جمالكم ... لم يحظ لا بقرى ولا بتزوّد لا رقة للمشتكي بجنابكم ... وجد المحبّ ولا جدى للمجتدي

أترى الذي صبغ الوجوه برقة الص ... صهباء صاغ قلوبها من جلمد وقوله: [مجزوء الكامل] رحلوا بأغيد مائس ال ... أعطاف معسول الشمائل طامي الوشاح بعيد مه ... وى القرط ريّان الخلاخل يفترّ عن درّ علاه ... كأنّ مبسمه المراسل «1» يجفو ويبعث طيفه ... فهو المقاطع والمواصل كالبدر وجها وهو أب ... هى طلعة والبدر كامل (43) والغصن قدا وهو أح ... سن منه معتدلا ومائل والسّحر لحظا وهو أف ... تك في الحشا من سحر بابل وقوله: [المنسرح] أين تريد درّس الربع البلا ... هو الحمى فاحبس عليه الإبلا وقفت أشكوه بجفن مارقا ... حوادث البين، وقلب ماسلا بكيته فهل رأيتم طللا ... قبل وقوفي فيه يبكي طللا عليّ أن أمطره دمعي وما ... عليّ إن جاد الحيا أو بخلا وقوله: [البسيط] لم يدر بي عاذلي لولا لظى نفسي ... ولا اهتدى الطيف بي لولا توقّده يا للهوى دلّ عذالي على سقمي ... وجدي الذي كأحرّ النّار أبرده وقوله: [من الرجز] يا صاح إن فتّ الأراك سالما ... منه مراحا لم يفته مغدا

يهدي إليك النوح من حمامه ... غبّ الهدوء قلقا ما يهدا أمّا الهوى: بان اللّوى ورنده ... سقى الحيا بان الهوى والرّندا وقوله: [البسيط] يقوى البلاء على قلبي وأوثره ... علما بأنّ بلائي فيه يؤثره وتستلذّ الضّنى نفسي وعادتها ... ألّا تمرّ بصاف لا تكدّره يا نازلين الحمى رفقا بقلب فتى ... إن صاح بالبين راع باح مضمره لا تحسبوا الصّدّ عن عهدي يغيّرني ... غيري ملازمة البلوى مغيّره كم تستريحون في صبحي وأتعبه ... وكم تنامون عن ليلي وأسهره وقوله: [الرمل] أتلقّى باحتجاجي ذنبه ... مغمدا ما من مساويه سهر فإذا قيل أسا قلت عفا ... وإذا قيل جنى قلت غفر (44) ما دنا إلّا نأى من عزّه ... هو والشّمس سواء والقمر يوسفيّ الحسن زادت بسطة ... بمعانيه على البدو الحضر وقوله: [مجزوء الكامل] ما زال يظهرني البكا ... لهم ويخفيني النّحول حتى رثى لي حاسدي ... فيهم ورقّ لي العذول وقوله: [من الرجز] تنبهي يا عذبات الرّند كم ... ذا الكرى هبّ نسيم نجد مرّ على الرّوض وجاء سحرا ... يسحب ثوبي أرج ورند حتى إذا عانقت منها نفحة ... عاد سموما والغرام يعدي

وا عجبا منّي أستشفي الصّبا ... وما تزيد النّار غير وقد أعلّل القلب ببان رامة ... وما ينوب غصن عن مد وأسأل الرّبع ومن لي وعى ... رجع الكلام أو سخا بردّ تعلّة وقوفنا بطلل ... وضلة سؤالنا لصلد وأقتضي النوح حمامات اللوى ... هيهات ما عند اللوى ما عندي بانوا فلا دار العقيق بعدهم ... داري ولا عهد الحمى بعهدي وأنت يا عيني وعدت بالبكا ... هذا الفراق فانعمي بالوعد آه من البعد ولو رفقتم ... ما ضرّني تأوّهي للبعد ماذا على العاذل لو كنّيت عن ... حزوى وليلى بالحمى وهند وقوله: [الطويل] أمن بابل أم من لواحظك السّحر ... أمن حانة أم من مراشفك الخمر وهل ما أراه الموت أم حادث النوى ... وهل هو شوق بين جنبيّ أم جمر سلوا بعدكم وادي الحمى ما أساله ... دمي أم دموع العاشقين أم القطر أيحكي الحيا عذب المذاقة أبيضا ... سيول دموعي وهي مالحة حمر يجفّ السحاب الرطب فيكم وتنضب ال ... مياه وطرفي ما يجفّ له شفر بكيت دما إذ ليس لي عنكم غنى ... وذبت جوى إذ ليس لي عنكم صبر منها: وفي الركب من لو حطّ ليلا نقابه ... لردّ الدآدي وهي من وجهه قمر «1» بكى فالتقى باللؤلؤ الرطب هازئا ... على نحره من طرفه اللؤلؤ النثر

19 - عمارة بن علي بن زيدان الحكمي

وقوله: [الطويل] أجيراننا إنّ الدموع التي جرت ... رخاصا على أيدي النّوى لغوال أقيموا على الوادي ولو عمر ساعة ... كلوث إزار أو كحلّ عقال ومنهم: 19- عمارة بن عليّ بن زيدان الحكمي «13» الفقيه، اليمني، الشافعيّ. شاعر لا تنقشع عارضته، ولا تتوقع معارضته، لو قاومه المغلّب لما ناهضه، أو قاوله الفرزدق لما ناقضه. لا يدرك لبحره قرار، ولا لبدره سرار «1» . كان عربيّا فصيحا، ينطف ردنه خزامى وشيحا، تكلم بلسان العرب فما أخطأ، ولا فات سهما ولا عرفا، بفصاحة تسيل شعابها وتسير هضابها. وأصله من مدينة يقال لها (مرطان) من تهامة، وتأدّبه بزبيد من اليمن. وحج سنة تسع وأربعين وخمسمائة، فسيّره القاسم بن هاشم بن فليتة صاحب مكة المعظمة رسولا إلى مصر، فسرى إليها يتأنّس بمهنّده، ويقطع الظلام يكتحل في كل ميل بإثمد. هذا، ورائد الفضل يقدمه، وقائد الحظّ يخدمه. فأتى مصر والملك الصالح ابن رزيك يومئذ وزيرها، وبه يبتدأ من يزورها، والفائز اسم ابن رزيك معناه، ومضطجع مهد لولاه لم يلهم لمعناه، فأكرم الصالح منه زائرا أشهى من الطيف لماما، وأخفّ من الضيف مقاما، ودخل على الفائز بقبو الذهب وهو في مجلس كلّ أشمّ الأنف فيه خاضع، وكلّ شامخ الرأس لديه متواضع، وكلّ طرف متشاوس به عضيض، وكلّ جناح همة متعال عنده مهيض، لا يتكلّم فيه إلّا أذن وقال صوابا، ولا يتكلم فيه إلّا من منحه الحصر (46) أن

يردّ جوابا، والفائز على سرير مرتفع تقع مرامي العيون دونه وتودّ أسرّة النجوم أن تكونه، وزعماء الجيش قد أخذت مجالسها في نواحيه، ومنعتها المهابة أن تتخيل أنها فيه، فأنشد قصيدة مر بها الفائز ووزيره الصالح ووصف حسن قيامه بالمصالح، وهي: «1» [البسيط] الحمد للعيس بعد العزم والهمم ... حمدا يقوم بما أولت من النّعم لا أجحد الحقّ عندي للركاب يد ... تمنّت اللجم فيها رتبة الخطم قرّبن بعد المزار العزّ من نظري ... حتى رأيت إمام العصر من أمم «2» ورحن من كعبة البطحاء سائرة ... وفدا إلى كعبة المعروف والكرم «3» فهل درى البيت أنّي بعد فرقته ... ما سرت من حرم إلا إلى حرم حيث الخلافة مضروب سرادقها ... على النقيضين من عفو ومن نقم وللإمامة أنوار مقدّسة ... تجلو البغيضين من ظلم ومن ظلم وللنبوّة آيات تنصّ لنا ... على الحقيقين من حلم ومن حلم «4» وللمكارم أعلام تعلّمنا ... مدح الجزيلين من بأس ومن كرم وللعلى ألسن تثني محامدها ... على الحميدين من فعل ومن شيم دراية الشّرف البذّاخ ترفعها ... يد الرّفيعين من مجد ومن همم أقسمت بالفائز المعصوم معتقدا ... فوز النّجاة وأجر البرّ في القسم لقد حمى الدين والدّنيا وأهلهما ... وزيره الصّالح الفرّاج للغمم اللابس الفخر لم تنسج غلائله ... إلّا يد لصنيعي السّيف والقلم «5»

وجوده أوجد الأيام ما اقترحت ... وجوده أعدم الشّاكين للعدم قد ملّكته العوالي رقّ مملكة ... تعير أنف الثّريا عزّة الشّمم أرى مقاما عظيم الشأن أوهمني ... في يقظتي أنّه [من] جملة الحلم «1» يوم من العمر لم يخطر على أملي ... ولا ترقّت إليه رغبة الهمم ليت الكواكب تدنو لي فأنظمها ... عقود مدح فما أرضى لكم كلمي (47) ترى الوزارة فيه وهي باذلة ... عند الخلافة نصحا غير متّهم عواطف أعلمتنا أنّ بينهما ... قرابة من جميل الرأي لا الرّحم «2» خليفة ووزير مدّ عدلهما ... ظلا على مفرق الإسلام والأمم زيادة النّيل نقص عند فيضهما ... فما عسى تتعاطى منّة الدّيم «3» فاستحسن قصيدته الحاضرون. ثم عاد إلى مكة وهم إليه بعيونهم ناظرون. ثم إنّ صاحب مكة أعاده إلى الفائز مرة ثانية، وهبّت إلى مصر ريح يمانية ومدّ إليها منه بحر عدّت البحار السبعة ثمانية. وأتاها على نيّة مقيم، وبعلانية أنّه عنها لا يريم، فلما دنا عمارة من الفائز أدناه، وسوّغه فوق مناه، شكرا لمسعاته، وبرّا كلّمه به بغير ترجمان من دعاته، وذلك بما لقّنه ابن رزيك وفطّنه، واستجلبه به ليوطّنه، ثم اختص بابن رزيك خصوصيّة اللسان بالبيان، واليد بالبنان، فغرفه الصالح بسجله، وعرفه نجح ما جاء لأجله، وجعله لا يطأ الثريّا برجله، ولا يطلب الجوزاء بأن تصاغ بحجله، وقد تقدّم في ترجمة الفائز ذكر وفادته، وأنّها كانت بكر سعادته، وأتينا هناك على عيون من أخباره، ومكنون من أشعاره، فلقد أحلّه ابن رزيك منه مكانا تسفّ عنه الرياح المحلّقة، وتشف عنه مصابيح النجوم

المعلّقة، ثم إنّ الصالح أراد به زيادة اختلاطه، قوة ارتباطه، فدعاه كما تقدم في ذكر الفائز ليدخل في مذهبه، ويعجّل له آلاف ذهبه، فتباعد من أربه وتأفف من سوء مشربه، وكان الصّالح قد كتب إليه: [الكامل] قل للفقيه عمارة يا خير من ... أضحى يؤلّف خطبة وكتابا الأبيات الخمسة المقدّمة الذكر، فيما مرّ من هذا الكتاب. فلما أتت عمارة هذه الأبيات، وسع من الغيظ فوق مليئه، وحمل النّفس حشو عبيئه، وأبى له أن يخيب يقينه، وأنف له لهذه الدنيّة دنية، وكان شافعي المذهب، حسن المعتقد، متعصّبا لأهل السنّة. وكان هذا ينكّب خطّته، ويتجنّب خلطته (48) وكتب إليه جوابا أقذاه، وطوى جوانحه على أذاه وهو: [الكامل] يا خير أملاك الزّمان نصابا ... حاشاك من هذا الخطاب خطابا الأبيات الثّلاثة المقدّمة أيضا. ثم إنّ الصّالح يفسد ما بينه وبين عمارة، وسكت عنه تصريحا وإشارة، وسدّ هذا الباب فلم يفتح له قفلا، ولم يكلّفه منه فرضا ولا نفلا، بل قاربه إذ جانب، وواصله إذ جاذب، وكان هو وإياه خليطي خمر وماء، وقسيمي بؤس ونعماء، وكان الصّالح يغمره ببحره، ويؤمّره على أمره، وعمارة يجعل شكره صحيفة آنائه، وحقيبة ثنائه، يقرن كل بيت بوفقه، وينظم كلّ معنى إلى لفقه، ومضت قريحته على هذا التوالي، ودبت الأيام ودرجت الليالي، بفرائد ماتت بين السحر والنحر، وقصائد نظمت حاشيتي البرّ والبحر، ومدائح ركبت الأفواه ووردت المياه، وطرقت الأندية والخدور، وحلت الأطراف والصدور، وقال فسكت كلّ متكلّم، وصدّ كلّ ناطق مترنّم، ويدلّ على أكبر حاله قصيدته التي مدح بها السّلطان صلاح الدّين، ومنها قوله: [الطويل] أيا أذن الأيام إن قلت فاسمعي ... لنفثة مصدور وأنّة موجع

يقاصرني خطو الزمان وباعه ... فقصّر من ذرعي وقصّر أذرعي وأخرجني من موضع كنت أهله ... وآداني بالجور في غير موضعي تيممت مصرا أطلب الجاه والغنى ... فنلتهما في ظلّ عيش ممتّع وزرت ملوك النّيل أرتاد نيلهم ... فأدركت آمالي وأخصب مرتعي وجاد ابن رزيك فيهما بمواهب ... وكم زاد عن مرمى رجائي ومطمعي مذاهبهم في الجود مذهب سنة ... وإن خالفوني في اعتقاد التشيّع فقل لصلاح الدّين والعدل شأنه ... من الحاكم المصغي إليّ فأدّعي فيا راعي الإسلام كيف تركتنا ... فريقي ضياع من عرايا وجوّع ونصري له من حيث لا أنت ناصر ... بضرب صقيلات ولاطعن شرّع فمالك لم توسع عليّ وتلتفت ... إليّ التفات المنعم المتبرّع فيا واصل الأرزاق كيف تركتني ... أمدّ إلى زند العلا كفّ أقطع وأقسمت (49) لو قالت لياليك للدجى ... أعد غارب الجوزاء قال لها اطلعي فيا زارع الإحسان في كلّ تربة ... ظفرت بترب تنبت الشّكر فازرع ومن شعره النّادر وقوله المبادر، ما سأشنّف به هذا التّصنيف، وأكمل عور هذا التّأليف. وقد حكى ابن خلكان عنه، وقد ذكره، قال: «ورأيت في كتابه الذي جعله تاريخ اليمن، أنّه فارق بلاده في شعبان سنة اثنتين وخمسين، ثم قال: فأحسن الصالح وبنوه وأهله إليه كلّ الإحسان وصحبوه مع اختلاف العقيدة بحسن صحبته. ثم قال: وكانت بينه وبين الكامل ابن شاور صحبة متأكّدة قبل وزارة أبيه، فلما وزر استحال عليه، فكتب إليه: «1» [الطويل] إذا لم يسالمك الزّمان فحارب ... وباعد إذا لم تنتفع بالأقارب

ولا تحتقر كيدا ضعيفا فربّما ... تموت الأفاعي من سموم العقارب «1» فقد هدّ قدما عرش بلقيس هدهد ... وخرّب فأر قبل سدّ المآرب «2» إذا كان رأس المال عمرك فاحترز ... عليه من الإنفاق في غير واجب فبين اختلاف اللّيل والصّبح معرك ... يكرّ علينا جيشه بالعجائب وما راعني غدر الشّباب لأنني ... أنست بهذا الخلق من كلّ صاحب وغدر الفتى في عهده ووفائه ... وغدر المواضي في نبوّ المضارب إذا كان هذا الدّرّ معدنه فمي ... فصونوه عن تقبيل راحة واهب رأيت رجالا أصبحت في مآرب ... لديكم وحالي وحدها في نوادب «3» تأخّرت لما قدّمتهم علاكم ... عليّ وتأبى الأسد سبق الثّعالب ترى أين كانوا في مواطني التي ... غدوت لكم فيهنّ أكرم نائب «4» ليالي أتلو ذكركم في مجالس ... حديث الورى فيها بغمز الحواجب ومما كان فيه بلاؤه الموكّل بالمنطق قوله- وقد رأى مصلوبا مما أنشد له ابن سعيد- وقال: وكأنما كان لسان حاله، وهو: [الكامل] ورأت يداه عظيم ما جنتا ... فنفرن ذي شرقا وذي غربا (50) وأمال نحو الصدر منه فما ... ليلوم في أفعاله القلبا وكذلك أنشد له قوله: [الكامل] يا ساكن الجفن القريح وليته ... يرعى لجاري الدّمع حقّ الجار

ومن شعره قوله: [البسيط] واقبض على كلماتي كفّ منتقد ... زيف الكلام فليس الصّفر كالذّهب قصائد لم تزل في كلّ جارحة ... من حسنها نشوات الخمر والطّرب كانت مكرّمة المثوى منزّهة ... في أرض مصر عن التّصريح بالطلب فأصبحت في زمان التّرك طامية ... تحوم حول زلال الماء والعشب حتى كأنّ أذى قلبي يطيب لهم ... كالعود لولا حريق النّار لم يطب وقوله: «1» [الكامل] غصبت أميّة إرث آل محمّد ... سفها وشنّت غارة الشّنان وغدت تخالف في الخلافة أهلها ... وتقابل البرهان بالبهتان لم تقتنع حكامهم بركوبهم ... ظهر النّفاق وغارب العدوان «2» وقعودهم في رتبة نبويّة ... لم يبنها لهم أبو سفيان حتّى أضافوا بعد ذلك أنّهم ... أخذوا بثأر الكفر في الإيمان فأتى زياد في القبيح زيادة ... تركت يزيد يزيد في النّقصان تأمل هذا اللفظ المحكم، والمعنى المحكّم، والتجنيس الخالي من التكليف، والعبارة البريئة من التعقيد، والعروس المحببة إلى من زفّت إليه، وجليت عليه، وإلى المقاصد الملائمة لهوى الممدوح، وقد جلاها هذا الفقيه السّنّي، لابسة إزار التشيّع المحض، (51) بارزة في رداء الروض الغض. وقد أكثر النّاس في هذا المعنى فما منهم من قارب هذا الفحل ولا داناه، ولا أشبه أعلى شعره ولا أدناه، ولهذا تحق له بهذا المدح ومثله أن يخصّ، تنكأ الشيعة جناحه وتريشه بالندى،

وقلّ من يسود سدى، ولهذا كان قسيم ذهبها وإن باين تأسي مذهبها، وهذا الذي أورده في الدّولة الصّلاحيّة ذلك المورد الذي عجز عن إصداره، ورفعه على الجذع التي لا تناسب جلالة مقداره، ولكنه القضاء المحكّم، والبلاء المختّم، فنعوذ بالله من خرق لا يرقع، وخرق يودع صاحبه البلقع. عدنا إليه، ومنه قوله: [الكامل] يا حاسدي عضد الإمام جهالة ... غضّوا جفونكم على الأقذاء فو حقّه ما نال إلّا حقّه ... والدرّ أحسنه على الحسناء وقوله: «1» [الطويل] خفضت لواء الحمد من بعد رفعه ... وحلّت بنان العتب عقد لوائي ولم يتخلّف بيننا كلّ خامل ... أشرّف من مقداره بهجاء «2» وقوله: [البسيط] ألقى الكفيل أبو الغارات كلكله ... على الزمان فضاعت حيلة النّوب لما تمرّد بهرام وأسرته ... جهلا وراموا قراع النبع بالغرب صدّعت بالناصر المحيي زجاجتهم ... وللزجاجة صدع غير منشعب في ليلة قدحت زرق النّصال بها ... نارا تشبّ بأطراف القنا الأشب ظنوا الشجاعة تنجيهم فقارعهم ... أبو شجاع قريع المجد والحسب سقوا بأسكر سكرا لا انقضاء له ... من قهوة الموت لا من قهوة العنب تسنّموا إبلا يتلو قلائعهم ... يا عزة السّرج ذوقي ذلة القتب (52) كأنهم فوقها خشب مسنّدة ... إن النّفاق لمنسوب إلى الخشب

سما إليهم سموّ البدر تصحبه ... كواكب من سحاب النقع في حجب في فتية من بني رزيك تحسبهم ... عن جانبيه رحا دارت على قطب كأنّ لمع المواضي في أكفّهم ... صواعق في الوغى تنقضّ من سحب متوّج من بني رزيك تنسبه ... بين المساعي إلى جرثومة العرب ما أليق التّاج معصوبا بمفرقه ... وربّ معتصب بالتاج مغتصب أرضته عن هفوات النّاس قدرته ... فما يكدّر صفو الحلم بالغضب تجر بين يديه من سوابقه ... قبّ ترقرق منها الحسن في أهب من كلّ أجرد مسكيّ الأديم له ... صبغ إذا شاب رأس الليل لم يشب وأحمر شفقيّ اللون متّقد ... بحدّة الشوط لا بالسوط ملتهب مسوّمات عراب لم تزل أبدا ... تجلى وتكسى بما بزّت من السّلب يرى لكلّ هلال من مراكبها ... خيط المجرّة مجرورا على اللبب جرد إذا جرّدتها كفّ عزمته ... للغزو هزّت عذاب الشرك في العذب تثير نقع دخان تحته لهب ... إنّ الدّخان لنمّام على اللهب تحكي مجر عواليها إذا رحلت ... عن منزل أثر الحيات في الكثب لانت صفاة عدو أنت قارعها ... فاصلب على ملّة الأوثان والصّلب فعندك الضّمّر الجرد التي عرفوا ... وفوقهن أسود الغاب لم تغب إذا تهنت بك الأيام قاطبة ... فما الهناء بمقصور على رجب وقوله: [الكامل] جاءته إخوته ووالده إلى ... مصر على التدريج والترتيب فانظر إلى الأسباط زارت يوسفا ... والشّمل مجتمع إلى يعقوب جاءوا وما جاءوا أباهم فرية ... بحديث ذيب أو دم مكذوب

وقوله: «1» [الطويل] فهاجرت بعد الصالح الملك هجرة ... غدت سببا للعز وهو المسبب «2» (53) غفرت به ذنب الليالي التي مضت ... وربّتما يستوجب العفو مذنب رأينا بيومي بأسه ونواله ... علا ضاع فيه حاتم والمهلّب أقول لمغترّ بظاهر بشره ... تيقظ فإنّ الماء تخفيه طحلب ولا تركنن للبحر عند سكونه ... وبادر فإنّ البحر إن هاج يعطب وقد يبسم الضرغام وهو معبّس ... وقد يتلظى البرق والغيث يسكب وقوله: [الطويل] عليم بأوضاع السياسة لم يزل ... يصرفها منه الخبير المجرّب وهون قدر الانتقام فما يرى ... له أثر في وجهه حين يغضب هذا الذهب الإبريز، والأنموذج الغريب، والمدح الذي يحثا في وجه سواه التّراب والحلم الذي ليس فيه ما يستراب، والحكمة ثمانيه [هكذا!] وما أثمن حكمته، وأوفر حظّه منها وقسمته، وانظر إلى أين طوّح نظره، وهمته، عدنا إليه، وقوله: [البسيط] نور النبوة في ذا الدست مؤتلق ... للنّاظرين ونار العزم تلتهب في صدره فائز بالنصر محتجب ... بنوره وبتاج العز معتصب لا يستوي وملوك الأرض في شرف ... إلّا كما يتساوى الصّفر والذهب من معشر شابت الدنيا ومجدهم ... غصن وأثوابه فضفاضة قشب لولا الوزير أبو الغارات ما خفقت ... للنصر في القصر رايات ولا عذب

وسطوة لو خلت عن عفو مقتدر ... على العقاب لكاد الجوّ يلتهب يا ابن النبي نداء ما لصاحبه ... قلب إلى غير حسن الظنّ ينقلب كم موقف لك قد نادى نداك به ... يا مادحين لكفّ المادح السّلب وقوله: [البسيط] الأروع البرّ لا تخشى بوادره ... إذا استخفّت رجالا سورة الغضب لو كان في السّلف الماضي لكان به ... إما وليّا لعهد أو وصيّ نبي (54) وقوله: [البسيط] عمت رعايته أقصى رعيّته ... حتى استوى نازح منها ومقترب يا طالب الشرف الأقصى ولو عدمت ... بنو أبي طالب ما أنجح الطلب ولو تولت بنو رزيك نصرتكم ... في سالف الدهر ما نابتكم النّوب أندى الملوك وجوها غير أنّهم ... ترضى المواضي بأيديهم إذا غضبوا وقوله: «1» [السريع] طرقتها والليل وجف الجناح ... وما تلبّست بثوب الجناح «2» في ليلة بات نجادي بها ... ذوائب تخفق فوق الوشاح «3» وفاح من عرف الصبا عنبر ... أحرقه الفجر بجمر الصباح لاموا عليها مغرما سمعه ... كراحة الناصر عند السماح كأنما أسيافه روضة ... لما بها من ورقات الصفاح والملك لا يسكب خطّابه ... إن لم يكلّمهم كلوم الجراح

فالقدس قد آذن إغلاقه ... على يدي يوسف بالانفتاح ملك إذا حدّثت عن بأسه ... قال النّدى واذكر حديث السّماح وقوله: «1» [الكامل] ضاق الصّعيد على جيادك بعد ما ... ضمنت صعادك فتح كلّ صعيد «2» والغرب واليمن القصيّ وأهله ... من خوفهم في قائم وحصيد فإلى متى أيدي الكماة معوقة ... عن نشر ألوية ونشر بنود وخلفت مملكة تقول طريقها ... للدّهر أرّخ بي وخلّ تليدي وقوله: [الكامل] شرفا بني رزيك إنّ علوّكم ... أبدا على مسّ الحديد حديد لا تفتل الأيام حبل مكيدة ... إلا وفيه لأمركم تأكيد وقوله: «3» [الكامل] يا دار دار عليك سعد المشتري ... وجرى إليك زلال نهر الكوثر «4» (55) ولقد كسيت من الرّخام غلائلا ... نسجت ولكن من نقيّ المرمر وكأنّ حسن سواده وبياضه ... ليل تبسّم عن صباح مسفر «5» كمرايش الحبرات أو كقلائد ... كافورهنّ مفصّل بالعنبر دارت مناطقه على فسقيّة ... تملى فتحكي مقلة من محجر «6»

وعلى جوانبها بساط خميلة ... قد فروزوه بالنّبات الأخضر وقوله: [الوافر] رحلت وكان حظي في رحيلي ... وقربي في التّنائي عن بلادي فمن عثرت به قدم فإني ... بمصر قد عثرت على المراد وقوله: «1» [الكامل] سفر الزّمان بواضح من بشره ... وافترّ باسم ثغره من ثغره وأضاء حتى خلت فحمة ليله ... طارت شرارا من توقّد فجره بالياسر المغني بأيسر جوده ... والمقتني عزّ الزّمان بأسره «2» ما كانت الدّنيا تضيق بطالب ... لو أنّ واسع صدرها من صدره لله هذه الديباجة الخسروانية، والحبرات اليمانية، عدنا إليه: وقوله: [البسيط] هبت رويحة نجد وهي من قطري ... فعطّرت بالخزامى نفحة المطر عليلة النّفس الحادي وأحسن ما ... هبّ النسيم عليلا آخر السّحر واستشرفت عقدات البان لي فهفا ... قلبي بمعتدل منها ومنأطر أضمّهنّ وفي الأغصان تسلية ... عن القدود وليس العين كالأثر والليل قد طال حتى خلت أنجمه ... مسمّرات أو الأفلاك لم تدر قالت: كبرت وشبّت فيك ناشئة ... من الغرام تنافي حالة الكبر؟! ومادرت أنّ حبّ الحبّ منبته ... في أسود القلب لا في أسود الشّعر

أنكرت أشهب رأسي بعد أدهمه ... والفرع ليل وحسن الليل بالقمر (56) يا قصّر الله باع الدهر كيف سعى ... في نقض مبرمة الأطراف في مزر وردّ بقلة راسي وهي ذاوية ... وكان أخضرها ريحانة العمر وقوله منها: [البسيط] من ذا يعيرك أجفانا لتوقعها ... في قبضة الظالمين الدمع والسهر قالوا أتبكي لهم والقلب من حجر ... فقلت والماء قد يجري من الحجر قلب: هو الطير في جوّ الغرام فلم ... تبتاعه إنّ ذا بيع على غرر لكلّ ورد ذبول قد سمعت به ... إلّا الذي فوق خديه من الخفر لك الحديث الذي تبقى حوادثه ... ما قيّد الذكر مثل الصارم الذّكر قالوا إلى اليمن الميمون رحلته ... فقلت ما دونه شيء سوى السّفر لا توقدن لها النّار التي عهدت ... خفّض عليك تنل ما شئت بالشّرر الحال ملء يد والقوم ملك يد ... وما أطيل وهذا جملة الخبر يا عدن كم فيك إلّا في ربا عدن ... للجسم من وطن والقلب من وطر ردها على الصّفو من حمات مشرعها ... فقد عهدناك ورّادا على الكدر وطأ بها هامة الدنيا وأوح إلى ... فرق المنابر ما توحي إلى السّور كانت إليك عيون الملك ناظرة ... وكنت أشرف مأمول ومنتظر تصدّعت بك من مصر زجاجتها ... ما للزجاجة من صبر على الحجر غسلت بالسّيف والأيام راغمة ... ما كان فوق رداء الملك من وضر وقد قصدتك في جاه وفي وزر ... وإن فعلت فما تخطي خطا سفري فإن عزمت فقل فيها لعزمك يا ... ذريعة الخير لا تبقي ولا تذري

وقوله: «1» [الكامل] وأجلّها يوم الخليج فإنّه ... من بينها يوم أغرّ مشهّر وافاك فيه النيل وهو من الحيا ... خجل يقدّم رجله ويؤخّر قد جاء معتذرا إليك وتائبا ... من ذنبه الماضي ومثلك يعذر (57) لولا تعثّره بأذيال الثّرى ... ما كان مذرورا عليه العنبر ولو أنّه لاقى ركابك صافيا ... صرفا لكدّره العجاج الأكدر «2» ولقد عدمناه فنبت نيابة ... عزّ الغنيّ بها وأثرى المعسر كسر الخليج عبارة عن منّة ... أضحى بها كسر البريّة يجبر وقوله: «3» [الكامل] أكفيل آل محمّد ووليّهم ... في حيث عرف ولائهم إنكار «4» واخجلتا للبيض كيف تطاولت ... سفها بأيدي البيض وهي قصار رصدوك في ضيق المجال بحيث لا ال ... خطّيّ متّسع ولا الخطّار أوفى أبو حسن بعهدك عندما ... خذلت يمين أختها ويسار غابت حماتك واثقين ولم يغب ... فكأنّهم بحضوره حضّار لا تسألن إلّا مضارب سيفه ... فلقد تزيد وتنقص الأخبار هي وقفة رزق المكرّم جهدها ... وعلى رجال يومها والعار وقوله: «5» [الكامل]

لم تحترق دار الخليج وإنّما ... شبّت لمن يسري بها نار القرى طلبت يفاع الأرض دون وهادها ... فتوقّدت في راس شامخة الذّرى طلعت طلوع النّجم نال به الهدى ... سار أضلّ طريقه فتحيّرا «1» ودليل ذلك أنّها لم تشتعل ... في اللّيل حتّى رنّقت سنة الكرى أوهل تزور النّار ساحة جنّة ... أجريت فيها من نداك الكوثرا فتملّ دارا شيّدتها نعمة ... يغدو العسير بأمرها متيسّرا «2» ألبستها بيض السّتور وحمرها ... فأتت كزهر الورد أبيض أحمرا لم يبق نوع صامت أو ناطق ... إلّا غدا فيها الجميع مصوّرا فيها حدائق لم تجدها ديمة ... أبدا ولا نبتت على وجه الثّرى لم يبد فيها الرّوض إلّا مزهرا ... والنّخل والرّمان إلّا مثمرا «3» (58) وبها من الحيوان كلّ مسهّر ... لبس النسيج العبقريّ مشهّرا أنست نوافر وحشها بسباعها ... فظباؤها لا تتقي أسد الشّرى وبها زرافات كأنّ رقابها ... في الطّول ألوية تؤمّ العسكرا نوبّية المنشا تريك من المها ... روقا ومن بزل المهاري مشفرا وقوله: [من الرجز] عند ظباء الجلهتين «4» ثاره ... وبين أطناب المها عثاره فلا ترقّا لشكاة مغرم ... أسلمه إلى الضّنى اصطباره تخيّر الموت بألحاظ المها ... فخلّيا عنه وما اختياره

يا حبّذا في حبّهنّ لوعة ... تضرم وجدا لا يبوح ناره وموقف رقّت حواشي عتبه ... ودقّ حتى لم يبن سراره «1» من كلّ من طال لسان عتبها ... على محبّ قصّر احتذاره يا صاحبيّ والغرام صبوة ... ألذّها ما عظم اشتهاره فاستقبلا رونق عيش مقبل ... وابتدراه لا يفت بداره فقد ضمنت للعذول عنكما ... أمرا عليّ في الهوى إمراره إن كان دينا فعليّ دينه ... أو كان عارا فعليّ عاره لا تسألنّ شاكيا عمّا به ... فإنّما سكوته إمراره يا هذه إنّ المشيب حلّة ... يخلعها على الفتى وقاره فلا تصدّي واعلمي بأنّه ... ما كلّ من شاب بدا عواره إن أقلع الوبل فعندي طلّه ... أو ذهب الخمر فبي خماره «2» سقى مغانيك وإن لم يغنها ... عن أدمعي مع الحيا مدراره يسحب ذيل السّحب فيها وابل ... تزجى على وجه الثرى أستاره تحسب صوت الرعد في ربابه ... صوت قطيع أرزمت «3» عشاره كأنّ بدرا «4» سمحت يمينه ... بذلك الوابل أو يساره (59) أبلج من غسان، لا نصيفه ... يدرك في المجد ولا معشاره

فرّ من الذّمّ إلى بذل الندى ... فاعجب لليث زانه فراره من آل رزيك الذين أقسموا ... لا خذل الحقّ وهم أنصاره مؤيّد سمر القنا بنانه ... مظفّر بيض الظّبى أظفاره يطلع من أبنائه في ملكه ... نجوم ملك تجتلى أقماره أشبال خيس وهم أسوده ... صغار عصر وهم كباره وقوله: [الوافر] وقائلة من الرجل الذي لا ... تماثله الرجال فقلت عيسى فقالت ما دليلك قلت أضحت ... بهمّته كلوم الدهر توسى في «1» بعض كتّاب النصارى وقد خدم بدار الكباش بمصر: [المتقارب] رأيت أبا النّقص ضاقت به ... مذاهبه في التماس المعاش فمن حبّه لبنات القرون «2» ... غدا وهو خادم دار الكباش وقوله: [البسيط] مدائحي وسجاياه ونائله ... ثلاثة نظمت كالدّرّ في نسق يرجى ويخشى ما في ذاك من عجب ... كالماء يشرق إذ ينجي من الشّرق وقوله: «3» [الكامل] لمّا أدار «4» سلافة الأحداق ... دبّت حميّا نشوة الأشواق

ما كنت أدري قبل رؤية وجهه ... أنّ الخدود مصارع العشّاق وقوله: [البسيط] من كان لا يعشق الأجياد والحدقا ... ثمّ ادّعى لذّة الدنيا فما صدقا في العشق معنى لطيف ليس يدركه ... من البريّة إلّا كلّ من عشقا لا خفّف الله عن قلبي صبابته ... بالغانيات ولا عن طرفي الأرقا من كلّ شمس إذا قابلتها التثمت ... كأنّما أشفقت أن ألثم الشفقا (60) وقوله [في] طرخان بن يوسف وقد صلب: «1» [الوافر] تمنّى رفعة وعلوّ قدر ... فأصبح فوق جذع وهو عال «2» ومدّ على صليب الصّلب منه ... يمينا لا تطول على الشمال «3» ونكّس رأسه بعتاب قلب ... دعاه إلى الغواية والضّلال وقوله: [البسيط] قل للرعيّة لا تقنط مطامعها ... فجرح عيسى بعبد الله يندمل أما ترى حركات النّيل قد نشطت ... من بعد ما كان في أعطافها كسل زيادة النّيل في إقبال دولته ... مما يدلّك أنّ السّعد مقتبل وقوله: [الطويل] أفاتح أرض النيل وهي منيعة ... على كلّ راج فتحها ومؤمّل متى توقد النّار التي أنت قادح ... بغمدان مشبوب سناها بمندل وتسمع من لفظ التحيّة ما سما ... إليه ابن هند وهو باغ على علي

وتخلق ملكا لا تحيل بفخره ... على أحد إلّا على عزمك العلي وقوله: [الطويل] له راحة ينهلّ جودا بنانها ... ووجه إذا قابلته يتهلّل يرى الحقّ للزوّار حتى كأنّه ... عليهم- وحاشا قدره- يتطفّل وقوله: [الكامل] لو كنت أمدح غير آل محمّد ... لرفعته فوق السّماك الأعزل قوم إذا ما أسندوا خبر العلا ... جاؤوا بأقرب مسند عن مرسل من كلّ ملثوم البساط غدت به ... قمم الرءوس حواسدا للأرجل ووصلت حبلك في الحياة بحبلهم ... صلة الأشاجع ركّبت في الأنمل وقوله يمدح القاضي الفاضل: [البسيط] من راكب وعلى أعجاز نضوته ... شكر تفيض به الأنساغ والحزم «1» (61) يستخبر الناس عن عبد الرحيم وهل ... يخفى بذروة طود شامخ علم واشكر يدا من أبيه عن وليّهما ... شكرا يصدّقها الإكرام والكرم جاورت منه الفرات العذب مطعمه ... وزاخرا من أخيه الملح يلتطم خرّجت من يدك العليا إلى يده ... وكلّ شعب بوادي مكّة حرم وقوله: [الوافر] أيا شمس الخلافة وهو نعت ... يصدّقه جبينك بالضياء تشيّع جود كفّك في فؤادي ... وعدّي بالتشيّع في الولاء

وقوله: [الكامل] واذكر محامد أحمد من قبل أن ... تجد القوافي فترة المغصوب واختر له صفو الكلام فإنّما ... صفو النّمير لذاذة المشروب وقوله: [الكامل] إن لم يكن لك في القوافي رغبة ... فالطم بها وجه الرجاء وهاتها فالأمّ لا تأبى إذا لم يولها ... أصهارها خيرا طلاق بناتها وقوله: «1» [الطويل] أيخفى صحيح الودّ والسقم لائح ... ويكتم سرّ الشّوق والدّمع بائح جنحت إلى الواشي ولولاك ما التقى ... سهادي وطرفي والجوى والجوانح وليلة هوّمنا بذي الطّلح زارنا ... خيالك وهنا والمطايا طلائح فبتّ ولم أسكر سوى سنة الكرى ... أطارحه ذكر الهوى ويطارح وأصحب أيّامي على العلل التي ... بها تمرض الأيّام وهي صحائح ولولا أبو النجم المظفّر عطّلت ... مسارب من سبل الندى ومسارح لئن شركوه في اسمه دون فعله ... فما يستوي البحران عذب ومالح لئن حلّ في دست الوزارة عادل ... سما قبله فيها إلى النجم صالح فإنّك يا بدر بن رزيك عنهما ... لنعم المكافي للعدى والمكافح (62) نهضت بأمر الدّولة النّهضة التي ... جزاك بها خيرا وليّ وكاشح وأوريت ناريها عقابا ونائلا ... وما وريا إلا وزندك قادح وقوله: [الطويل]

20 - ابن الساعاتي، علي بن رستم، بهاء الدين، أبو الكرم الخراساني

إذا أكثر المحموم من هذيانه ... تقدّم له عذر الخبير بشانه ولا تتأخّر حين تدعى لحاجة ... فما الغيث بالمحمود بعد أوانه ومنهم: 20- ابن الساعاتي، عليّ بن رستم، بهاء الدين، أبو الكرم الخراساني «13» شاعر كلّ وصف حقيق، وثائر كلّ ساعة منه بعمر الشقيق. ولا يضاهي حسن ديباجته الحقائق، ولا تعدّ نظير درجته الرقائق. بفطنة زائدة، وفطرة لم تنفق ساعاته بغير فائدة. مذ نشأ بذّ من أنشا، ومن حين راهق ساير النجوم ورافق. ومن أوّل ما نزع التمائم، برع في أهل العمائم، وشرع يفتّق الزهر من الكمائم، ويهزّ الغصن تحت الحمائم. وكان ذا شباب رقّ ماؤه، وترف نعماؤه. يجلو قمر السّماء، ويعطو بجيد ظبية أدماء. ترف عليه طرّة، وسالف ولين أعطاف لا تخالف. ولم يخل مذ كان من كآبة معشوق، وصبابة مشوق، حتى عدّ في الأعيان، وقعد على ذروة البيان، وقرّبته الملوك، فحظي بالجميل، وحبي بالجزيل. وكانوا إذا أنشد لديهم الشعراء، قدّم ابن الساعاتي، وأحسن إذا أساء العاتي، لروائع لا يقدر الواصف يوقّنها، وبدائع ما مضى قبلها، فآتى ذلك الساعة التي أنت فيها. ومنه قوله: «1» [الكامل] نهبت منام العاشقين جفونه ... فلذاك ليس يراك كالوسنان ذو وجنة حمراء حول عذاره ... وكذا تكون شقائق النعمان

رشأ عصيت عواذلي وأطعته ... فأطاع فيّ وشاته وعصاني وقوله: «1» [البسيط] وأهيف القدّ حيّاني بكأس طلا ... كالشّمس يحملها بدر الدّجى السّاري فقلت لّما رأيت الكأس في يده ... قد أمكن الجمع بين الماء والنّار (63) وقوله: «2» [الطويل] إذا الحبّ لم يشفع بسقم وأدمع ... فهاتيك دعوى لا تزكّى شهودها لقد سقمت مثل الجسوم جفونها ... فلولا عموم السّقم كنّا نعودها عدا مقلتي برق الحمى ووميضه ... فما غادرت من لوعة تستزيدها وما هو إلا صارم قتل الدّجى ... وحمرته لوث فمن ذا يقيدها «3» وقوله: «4» [الطويل] وبي سالم الأحشاء من ألم الهوى ... نظرت إليه نظرة سبّبت حتفي «5» فيا آخذي أجفانه بظلامتي ... دعوها فما أصمى فؤادي سوى طرفي وقوله: «6» [الطويل] شكوت إلى خدّيه فعل لحاظه ... وقد فوّقت نحوي سهام جفونه فقال كذا الورد الجنيّ بدوحة ... يمانع عنه شوكه في غصونه

وقوله في أرمد: «1» [البسيط] قالوا به رمد ينهى لواحظه ... ألّا تخيف على قلب ولا كبر «2» قلت احذروا مقلتيه فهي قاتلة ... وضعفها الآن ينجيها من القود ألم تروا عارضيه كيف قد لبسا ... من خوف عارضها ثوبا من الزّرد إن السّنان مخوف وهو ذو كلف ... والسّيف يقطع منه الحدّ وهو صدي وقوله: «3» [الكامل] ولقد وقفت بها وكفّ ربيعها ... في نسج حلّة نورها تتألّق وشذا خيوط المزن يرسلها الحيا ... إبرا وأكمام النبات تفتّق «4» والبان يرقص والحمام هواتفا ... تشدو وأطراف الغدير تصفّق «5» وقوله: «6» [الكامل] ألزمتني قول الوشاة وليس من ... عدل الهوى أخذي بقول النّاس وأريهم أن قد سلوت مغالطا ... وبليتي في الدّمع والأنفاس (64) وأما وحبّك لو تفوز بسلوة ... كفّي وقد علقت بذيل النّاس عفت الحنين إلى زمان ذاهب ... وأبيت ذكري للملول الناسي وقوله: «7» [الكامل]

ما هذه يا عمرو أوّل وقفة ... هان العزيز بها ولان الجليد «1» أنكرت أدمعه وليس ببدعة ... بالماء أن يتفجّر الجلمود وقوله: «2» [مخلع البسيط] يا سائلا عن غليل قلبي ... لقد تجاهلت للسؤال أنت على القرب والتنائي ... أعلم مني بكلّ حال «3» وقوله: «4» [الكامل] يا قلب عاشقه وسهم جفونه ... من ألزم المقتول حبّ القاتل؟ وقوله: «5» [الطويل] تعجّب عمرو أن وقفت بمنزل ... كلانا لفقدان الأحبّة ناحل لئن جنّ فيه العاشقون صبابة ... فأصداغه للعاشقين السلاسل وقوله: «6» [الخفيف] زعموا أنني تعشّقتك سو ... داء دون بيض الغواني ليس معنى الجمال فيك بخاف ... إنما أنت خال خدّ الزّمان وقوله: «7» [الكامل]

21 - شرف الدين، أبو المحاسن، نصر الله بن عنين، الدمشقي

وسألت عن قلبي وأنت سلبته ... سواك العارف المتجاهل عاقبتني طوع الوشاة تجنّيا ... وأخذتني ظلما بقول العاذل وقوله: «1» [الكامل] لو أنّ صدّكم تمثّل ليلة ... لثنت غياهبها الخيال عن السّرى ولئن غدرت فسنّة مأثورة ... ما حلت عن شيم الليالي والورى غلب الهيام عليه حتى أنّه ... وكفاك حبّا، لو وصلت لما درى «2» فانقع بذكر الصّبر حرّ فؤاده ... أو لا فحدّث مقلتيه عن الكرى حجبوك بدرا في الهوادج طالعا ... وثنوك ظبيا في الأكلّة أحورا ما هذه الغزلان بين كناسها ... لكنّها الأسد الضواري والشّرى (65) من كلّ ماضي اللّحظ زهّد قومه ... في البيض حتّى أنّها لا تشترى «3» ومنهم: 21- شرف الدين، أبو المحاسن، نصر الله بن عنين، الدمشقيّ «13» شاعر لا يطاق يلبّه، ولا يهاب الأسد إلا إذا كفّ مخلبه. ينفح بلسان صلّ، ويلفح بنيران غل. أنفذ في المدام من المسام، وأشدّ في الإيلام من الهوام. بلسان أفتك في الأعراض من المقراض، وأنهك للأجسام من الأمراض. دؤوبا لزم منه طباع العقرب، ووثوبا مثل وثوب شجاع أو أقرب، وأسلوبا أقدم به إقدام الخناع ولم يترقّب فلم يسلم منه بريء على الإطلاق، ولا حمي عرض منه بمكارم

الأخلاق، بهجاء لا يخلص منه إنسان، ولا يخلو ربّ سيف ولا طيلسان. هذا مع كلمة بتصريف الأمر مقبولة، وعظمة على الكبر مجبولة، وهمّة نصبها على نقع في شركه، وأحبولة تعرض إلى العرض الفاضليّ. واشتغل به زمانه، وأشعل بيانه بنانه. فما قال لكلبه أخسّه إذ نبح، ولا التفت إليه هجاء أو مدح. وتصدّى لأهل دمشق تصدّيا، أدوى قلوب الجميع، وآرى أذن كلّ سميع، فقاموا لمقاومة سمّه، ومقاحمة تمّه، فآل به الحال إلى الهجاج، واختراق الفجاج، فتغلغل في البلاد، ومني بالبعد عن موضع الميلاد. وطاف الحجاز، واليمن، والهند، والسّند، وما وراء النّهر، وخراسان، وبلاد العجم، والعراق، مذبذبا في مهامهها الفساح، راكبا على كفل الليل وهادي الصّباح. وكان على بعد الديار لا ييأس من روح الاقتراب، على طول الاغتراب. ومع هذا، لا تنجلي عن أهل دمشق غيابته، ولا تنجلي غوايته، بل يصبّ عليهم وبله، ويصيب فيهم نبله، ومن ذلك قوله: «1» [الكامل] فعلام أبعدتم أخا ثقة ... لم يجترم ذنبا ولا سرقا انفوا المؤذّن من بلادكم ... إن كان ينفي كلّ من صدقا على أنه ما ذكر دمشق إلا ضاقت ضلوعه بزفراتها، وفاضت عيونه بعبراتها. (66) وله في هذا أشعار لم يقصّ لها جناح، ولم يقصر بها ارتياح. ثمّ إنّه ما سكن له قلق، ولا سلب عن جفنه أرق، حتى أزيلت عن العود إليها موانعه، وأزيحت أسباب من كان لا يصانعه. ثم لما استقرت به الدار، وبها لم يدع أهلها من بوائقه، ولم يعد إلا وقد أذنت بقدومه جعجعة صواعقه. ومنها

قوله: «1» [المتقارب] هجوت الأكابر في جلّق ... ورعت الرفيع بسبّ الوضيع «2» وأخرجت منها ولكنّني ... رجعت على رغم أنف الجميع ومما استعطف به هذه النائبة، حتى لان له قلبها القاسي، وخفّ عليه حبلها الراسي، قصيدة كتبها إلى الملك العادل، أبي بكر ابن أيوب، منها: «3» [الكامل] ما في أبي بكر لمعتقد الهدى ... شكّ يريب بأنه خير الورى بين الملوك الغابرين وبينه ... في الفضل ما بين الثّريّا والثّرى يعفو عن الذّنب العظيم تكرّما ... ويصدّ عن قول الخنا متكبّرا وله البنون بكلّ أرض منهم ... ملك يقود إلى الأعادي عسكرا من كلّ وضّاح الجبين تخاله ... بدرا، فإن شهد الوغى فغضنفرا يعشو إلى نار الوغى شغفا بها ... ويجلّ أن يعشو إلى نار القرى متقدم حتى إذا النّقع انجلى ... بالبيض عن سبي الحريم تأخّرا يا أيها الملك الذي ما في فضا ... ئله وسؤدده ومحتده مرا أشكو إليك نوى تمادى عمرها ... حتى حسبت اليوم منها أشهرا لا عيشتي تصفو ولا رسم الهوى ... يعفو ولا جفني يصافحه الكرى ومن العجائب أن تفيّأ ظلكم ... كلّ الورى، ونبذت وحدي بالعرا ثم كانت له من الملك المعظم عيسى، حين أفضى إليه ملكها، مكانة أشرقت عداه، وأشرقت بنداه. وكان لا يفارقه حيث شاد وخيّم، ولا يتجهّم له وجهه حيث تقشّع أو غيّم. وولّاه بدمشق وظيفة نظر الديوان، فباشرها حتى (67)

استقال، وهدأ شيطانه وقال، وخرس إلا ما أضحك به الملك المعظم فقال. وكان يعجب بنوادره، ويعجل إيماء الطرف ببوادره، ويقترح عليه في خواص مجلسه، ليخرج بينهم تلك الدّفائن، ويغرق في بحره الأجاج تلك السفائن، إلا من ركب ذلك البحر على خطر، أو وقف في طريقه ليقع منهم في حفر. ولّما كان في العراق، حضر مجلس الإمام الرّازي، في يوم ذيول السّحب عليه مكفوفة، وعين الشمس به مطروفة، والثّلج قد بثّ في الجوّ سرايا نوره، وبعث من الأفق تحايا كافوره. وأري ماء كلّ غدير في إناء بلّوره. فسقطت لديه حمامة لزبها «1» خاطف، ووقعت عليه كما يستجير الخائف، فقام ابن عنين، وقال: «2» [الكامل] يا ابن الكرام المطعمين إذا شتوا ... في كلّ مخمصة وثلج خاشف «3» العاصمين إذا النفوس تطايرت ... بين الصوارم والوشيج الرّاعف «4» من نبّأ الورقاء أن محلّكم ... حرم وأنّك ملجأ للخائف وفدت عليك وقد تدانى حتفها ... فحياتها ببقائها المستانف لو أنّها تحبى بمال لانثنت ... من راحتيك بنائل متضاعف «5» جاءت سليمان الزمان حمامة ... والموت يلمع في جناحي خاطف «6» قرم لواه الجوع ثمّ أعاده ... من دونها يهوي بقلب واجف «7»

فقال له الإمام: أنت ابن عنين الدمشقي- ولم يكن يعرفه من قبل- فقال: أنا هو. فأدني من مجلسه، وأسنى له خالص ودّه وأنفسه. ولم يبق من أهل المجلس إلّا من كتب شعره، ورواه، ثم كان لا يؤثر إلا هواه. وأشعاره كلّها موضع استحسان، ومجمع إحسان. فمنه قوله يمدح المعظم نوبة دمياط، وهو: «1» [الطويل] سلوا صهوات الخيل يوم الوغى عنّا ... إذا جهلت آياتنا والقنا اللّدنا غداة لقينا دون دمياط جحفلا ... من الروم لا يحصى يقينا ولا ظنّا قد اتّفقوا رأيا وعزما وهمّة ... ودينا وإن كانوا قد اختلفوا لسنا (68) تداعوا بأنصار الصليب فأقبلت ... جموع كأن الموج كان لهم سفنا عليهم من الماذيّ كلّ مفاضة ... دلاص كقرن الشمس قد أحكمت وضنا وأطمعهم فينا غرور فأرقلوا ... إلينا سراعا بالجياد وأرقلنا فما برحت سمر الرماح تنوشهم ... بأطرافها حتى استجاروا بها منّا سقيناهم كأسا نفت عنهم الكرى ... وكيف ينام الليل من عدم الأمنا لقد صبروا صبرا جميلا ودافعوا ... طويلا فما أجدى الدفاع ولا أغنى رأوا الموت من زرق الأسنّة أحمرا ... فألقوا بأيديهم إلينا فأحسنا «2» منحنا بقاياهم حياة جديدة ... فعاشوا بأعناق مقلّدة منّا ولو ملكوا لم يأتلوا في دمائنا ... ولوغا ولكنّا ملكنا فأسجحنا فكم من مليك قد شددنا إساره ... وكم من أسير من يد الأسر أطلقنا «3»

أسود وغى لولا وقائع سمرنا ... لما ركبوا قيدا ولا سكنوا سجنا «1» يسير بنا من آل يعقوب ماجد ... أبى عزمه أن يستقرّ به مغنى «2» سرى نحو دمياط بكلّ سميذع ... بحيث يرى ورد الوغى المورد الأهنى وطهّرها من رجسها بحسامه ... همام يرى كسب الثّنا المغنم الأسنى مآثر مجد خلّفتها سيوفه ... لها نبأ، يفنى الزمان وما تفنى «3» وقد عرفت أسيافنا ورقابهم ... مواقعها فيهم، فإن عاودوا عدنا «4» وقوله: «5» [الطويل] وما شام من أعلى المقطّم جفنه ... سنا بارق إلا توالت قطاره حديث صقال الخدّ لم يذو ورده ... ولا دبّ كالريحان فيه عذاره وقوله وهو مريض، يتقاضى نفقة ينفقها، وطبيبا يعوده، وصبيّا معظميا من الغيث يجوده: «6» [الكامل] انظر إليّ بعين مولى لم يزل ... يولي النّدا وتلاف قبل تلافي أنا كالذي أحتاج ما يحتاجه ... فاغنم دعائي والثناء الوافي «7» (69) وقوله في ملوك بني أيوب، رحمهم الله: «8» [الوافر]

هم تركوا صليب الكفر أرضا ... يداس وكان معبودا يباس وأرغم بأسهم آناف قوم ... تجنّبها لعزّتها العطاس وقوله: «1» [البسيط] أبيت وأسراب النّجوم كأنها ... قفول تهادى إثرهنّ قفول وقوله: «2» [الطويل] ألا يا نسيم الرّيح من تلّ راهط ... وروض الحمى كيف اهتديت إلى الهند فأصبح طيب المسك يخفي مكانه ... حياء ولا يبدو شذا العنبر الورد «3» أأهل الحمى خصّوك منهم بنفحة ... فأصبحت معتلّ الصّبا عطر البرد إذا جمعت بيني وبينهم النّوى ... فأيّ يد مشكورة للنوى عندي «4» وقوله منها: فما زالت الأيام ترهف حدّها ... وتسحت حتى استأصلت كلّ ما عندي «5» فأقبلت أجتاب البلاد كأنّني ... قذى حال دون النّوم في أعين رمد وقوله: «6» [الكامل] ما باله في عارضيه مسكه ... ولقد عهدت المسك في سرر الظّبا عجبا له اتّخذ الوشاة وقولهم ... صدقا وعاين ما لقيت وكذّبا

وقوله: «1» [الكامل] خود تعثّر كلّما رقصت ... من شعرها بمبلبل زجل «2» وبليّتي من ضيق مقلتها ... إن خيف قتل الأعين النّجل «3» تسعى بصافية معتّقة ... تبدو لنا في الكأس كالشّعل ودنت كأنّ شعاعها قبس ... باد وإن جلّت عن المثل في روضة غنّى الربيع بها ... فأبان صنعة علّة العلل «4» فكأنّما فرشت بساحتها ... بسط الزّمرّد راحة النّفل «5» (70) وكأنّ كفّ النجم من طرب ... نثرت عليها أنجم الحمل «6» ودعت حمائمها مراجعة ... فوقفت في شغل بلا شغل شقّ الشقيق بها ملابسه ... حزنا على ديباجة الأصل وكأن في أغصانها سحرا ... ثاني الثّقيل ومطلق الرّمل «7» ومنها قوله: ملك زهت أيام دولته ال ... غرّاء وافتخرت على الدّول يغشى الوغى والحرب قد كشرت ... للموت عن أنيابها العصل والشمس كالعذراء كاسفة ... محجوبة بالنّقع في الكلل «8» ملك صوارمه رسائله ... إنّ الصوارم أبلغ الرّسل

ملك قصرت على مدائحه ... شعري، وعقد نواله أملي «1» ومنها قوله يمدح الملك المعز، صاحب اليمن، ويحرّضه على الأشراف بمكة، وكان قد أخذ بها وسلب، ودبّت إليه عقارب شرارها فلسب: «2» [البسيط] أعيت صفات نداك المصقع اللسنا ... وحزت في الجود فضل الحسن والحسنا «3» وما تريد بجسم لا بقاء له ... من خلّص الزّبد ما أبقى لك اللّبنا ولا تقل ساحل الإفرنج أملكه ... فما يساوي إذا قايسته عدنا وإن أردت جهادا روّ سيفك من ... قوم أضاعوا حقوق الله والسّننا «4» طهّر بسيفك بيت الله من دنس ... وما أحاط به من خسّة وخنا ولا تقل إنّهم أولاد فاطمة ... لو أدركوا آل حرب قاتلوا الحسنا وقوله يمدح الصاحب صفي الدين، ابن شكر، وكان مالكيّ المذهب: «5» [البسيط] في ظلّ أبلج يستسقى الغمام به ... فيستهلّ ويستشفى به الكلب المستقلّ بما تعنى الملوك به ... والمستقلّ لنا الدّنيا إذا يهب «6» ثبت الجنان له حلم يوقّره ... إذا هفا بحلوم السّادة الغضب صافي الضمائر، مرضيّ السّرائر مح ... مود المآثر ترضى باسمه الخطب (71) إذا احتبى للفتاوى فهو مالكها ... وإن حبا خجلت من جوده السّحب

فما رأينا إماما قبل رؤيته ... يرى النّوافل فرضا فعلها يجب يقظان للمجد يحمي ما توارثه ... آباؤه الصّيد من فخر أب فأب قوم ترى الوفد في أبياتهم زمرا ... فالمجد يخزن والأموال تنتهب لو أزمعوا أمرهم يوما على أجأ ... رأيت أركان سلمى خيفة تجب يا أيها الصاحب الصدر الوزير ومن ... إلى مفاخره العلياء تنتسب «1» دعيت في الدولة الغرّاء صاحبها ... حقّا فظنّ جهول أنه لقب «2» وقوله: «3» [الخفيف] خبّروها بأنّه قد تصدّى ... لسلوّ عنها ولو مات صدّا عنفت طيفها على ظنّها أن ... ن خيالا منها إلينا يهدى «4» كذّبتها ظنونها لا الكرى زا ... ر جفوني ولا الخيال تهدّى «5» ومنها قوله: وتعاطى الملوك مثل معالي ... هـ فنالوا من دون ذلك جهدا «6» هلكوا دون نيل ما أمّلوه ... من يطر فوق طوره يتردّى لم يقف دونهم ولو كان يلقى ... رتبة من ورائهم لتعدّى وقوله يمدح الإمام فخر الدين الرّازي: «7» [الكامل]

بحر تصدّر للعلوم ومن رأى ... بحرا تصدّر قبله في محفل غلط امرئ بأبي عليّ فأسه ... هيهات قصّر عن مداه أبو علي «1» لو أنّ رسطاليس يسمع لفظة ... من لفظه لعرته هزّة أفكل ويحار بطليموس لو لاقاه من ... برهانه في كل شكل مشكل «2» فلو انهم جمعوا لديه تيقّنوا ... أنّ الفضيلة لم تكن للأوّل وقوله في الأمجد بهرام شاه: «3» [البسيط] تمضي المنايا بما شاءت أسّنته ... إذا القنا بين فرسان الوغى اشتجرا (72) تكاد تخفي النجوم الزّهر أنفسها ... خوفا ويشرق بهرام إذا ذكرا «4» وقوله: «5» [الخفيف] وربا عزّتا وقد جادها الثّل ... ج ولاحت من سائر الأقطار كعروس من آل ساسان تجلى ... من دبيقي ثوبه في إزار «6» وقوله في جنديّ استحسنه وهو ببلاد الهند: «7» [مجزوء الكامل] ما للمحبّ وللعواذل ... لو أنهم شغلوا بشاغل ما أنكروا أعجوبة ... إذ يصبح الهنديّ قاتل «8»

وقوله على لسان حائك، يورّي بصناعته كأنه يفخر: «1» [الطويل] أنا الذي لولا صنائع كفّه ... لما رفعت يوما لملك مضاربه «2» فتى يتقاضى صنعه النّاس دائما ... فلم يخل وقتا من غريم يطالبه له قصبات السّبق في كلّ موطن ... يطيل إذا أسدى لمن لا يناسبه ويسقي إذا الأنواء في العام أخلفت ... فهل مثل آبائي تعدّ مناقبه وكم قد كسونا من يتيم وميّت ... سترنا ولولانا لبانت معايبه وكم قد سعى جدّي لمدّ صنيعة ... تهزّ لها أعطافه وجوانبه «3» وكم راض صعبا جامحا متمنّعا ... يلاينه طورا وطورا يصاعبه ولست كمن ولّى فرارا من الضّنى ... يطيل سؤالا عن رفيق يصاحبه «4» وقوله في البئر، في معرض الإلغاز: «5» [الطويل] ورومية في الدار عندي عزيزة ... عليّ تروّيني الحديث بلا ضجر تفوت القنا الخطّيّ طولا وشكلها ... يوازي الغلام الطفل في الدار إن خطر «6» وقوله في المرآة: «7» [الطويل] وفاتنة عندي عزيز نجارها ... عليها حليّ من لجين ومن تبر «8»

يؤثّر فيها الوهم من صلف بها ... فمن أجل هذا لا تريم من الخدر «1» تخبّرني عني بما لا رأيته ... فتصدق فيما خبّرت وهي لا تدري (73) تقابل بالمكروه إن قابلت به ... وإن قوبلت بالبشر لاقته بالبشر «2» وقوله في الكركة التي يستخرج فيها ماء الورد: «3» [الطويل] ومثقلة حملا إذا ما بناتها ... مرتها أعارتها الغواني نهودها «4» تباري ثقال المعصرات بدرّها ... فما تركت للسّحب إلا رعودها وقوله في جواب لابن عدلان في حبل الغسيل: «5» [الخفيف] أبدا يكتسي العواري من النا ... س، ومن يكتسي العواري عاري فهو يكسى، واليوم صحو ويعرى ... جسمه في مواقع الأمطار وكان الذي كتب به ابن عدلان إليه: «6» [الخفيف] وضئيل له الهواء مقيل ... مكتس يومه وفي الليل عاري «7» ويرى لابسا صنوف ثياب ... وهو ذو فاقة حليف افتقار تعتليه الكسا ثقالا فيلقي ... ها خفافا في أخريات النهار «8»

وقوله في الزّرّ والعروة: «1» [الوافر] وبعل كلّه ذكر صحيح ... وأنثى كلّها فرج مباح «2» فتفضي هذه، ويحب هذا ... ولا يوديهما ذاك الجراح «3» وقوله: «4» [المتقارب] تعجّب قوم لصفع الرّشيد ... وذلك ما زال من دأبه رحمت انكسار قلوب النّعال ... وقد دنّسوها بأثوابه فو الله ما صفعوه بها ... ولكنهم صفعوها به وقوله في هجاء الفاضل، وقد تمحّل عليه وتقوّل فيما لا ينسب إليه ومثله من يصفح، وما زالت الأشراف تهجا وتمدح. والذي قاله: [المنسرح] حاشى لعبد الرحيم سيّدنا ال ... فاضل مما تقوله السّفل وتبّ من قال إنّ حدبته ... في ظهره من عبيده حبل هذا قياس في غير سيّدنا ... يصحّ إن كان يحبل الرّجل (74) وقوله في مثله: «5» [الطويل] سألت السّديد الفاضليّ وقد بدا ... عليه هزال بعد شدّة أسره أكنت مريضا؟ قال: لا، وإنما ... يخبّرني عبد الرحيم بسرّه «6»

فقلت له: إن العظيم اختياره ... لأوضح فحل من تفاقم أمره «1» فما هذه ما بين ثدييك، قال لي: ... تقعّر صدري من محدّب ظهره وقوله في جدال طال بين فقيهين يعرف أحدهما بالجاموس، والآخر بالبغل: «2» [الكامل] البغل والجاموس في جدليهما ... قد أصبحا مثلا لكل مناظر برزا عشيّة يومنا فتناظرا ... هذا بقرنيه وذا بالحافر «3» وقوله: «4» [الكامل] ما إن مدحتك أرتجي لك نائلا ... فحرمتني فهجوت باستحقاق لكنني عاينت عرضك أسودا ... متمزّقا فقدحت في حرّاق وقوله: «5» [البسيط] وما هجوت ابن عصرون أروم له ... فضلا ولا نلت من فخر ولا شرف لكن أجرّب فيه خاطري عبثا ... كما تجرّب بيض الهند في الجيف وقوله في ابن دحية الكلبي اللغوي: «6» [السريع]

دحية لم يعقب فلم تنتمي ... إليه بالبهتان والإفك «1» ما صحّ عند الناس شيء سوى ... أنّك من كلب بلا شكّ وقوله: «2» [الوافر] شكا شعري إليّ وقال تهجو ... بمثلي عرض ذا الكلب اللئيم فقلت له تسلّ فربّ نجم ... هوى في رجم شيطان رجيم «3» وقوله في ابن المؤيّد، وقد عزل: «4» [المتقارب] شكا ابن المؤيّد من صرفه ... وذمّ الزمان وأبدى السّفه «5» (75) فلا تغضبنّ إذا ما صرفت ... فلا عدل فيك ولا معرفه «6» وقوله في علويّ أحبّ صبيّا يلقب الجمل: «7» [المتقارب] فديتك قل للشهاب الشّريف ... وإن شاط غيظا لذا واحتفل «8» أتزعم أنّك من شيعة ال ... وصيّ وأنت تحبّ الجمل «9» وقوله مما كتب به وهو مريض إلى الصلاح الإربلي: «10» [الوافر]

إليك شكيّتي عبث الليالي ... لقد حصّت نوائبها جناحي «1» وكيف يفيق من عبث الليالي ... مريض لا يرى وجه الصلاح «2» وقوله في صبي أسود أحبه، وقصر منه على حبّة القلب حبّه: «3» [الطويل] أجل أنا في لون الشّبيبة مغرم ... وإن لجّ عذّال وأسرف لوّم وقد عابني قومي بتقبيل خدّه ... وما ذاك عيب أسود الرّكن يلثم «4» وقوله، مما كتب به إلى الملك المعظم عيسى: «5» [البسيط] إذا لقيت الأعادي يوم معركة ... فإنّ جمعهم المغرور منتهب لك النفوس وللطير اللحوم ولل ... وحش العظام وللخيّالة السّلب وقوله في العجلة المعدّة لجرّ الأثقال، وأجاد المقال: «6» [البسيط] أهل العلوم أحاجيكم بواردة ... لا ترتوي ذات إبطاء على عجله إذا استوى بين رجليها امرؤ نطقت ... بمزعجات من الأصوات متّصله تمشي وقائدها من خلفها أبدا ... تميد في المشي كالسكرانة الثّمله صعراء إن قامت فهي مائلة ... وإن مشت فهي كالميزان معتدله محمولة وهي للأثقال حاملة ... مقمية لا تزال الدّهر مرتحله وقوله في محي الدين بن أبي عصرون، وكان يباشر الحرب تحت الراية

الناصرية الصلاحية، سقى الله أيامها: «1» [الوافر] سمعت بأنّ محي الدين يغشى ال ... وغى والحرب سارية المنايا «2» فلا تشهد بصفعان قتالا ... فقوس النّدف لا تصمي الرّمايا (76) وقوله: «3» [البسيط] لو كنت أسود مثل الفيل هامته ... عبل الذّراعين في غرموله كبر كانت حوائج مثلي عندكم قضيت ... لكنني أبيض في أيره قصر وقوله: «4» [السريع] أقولها بالغة ما عسى ... والطبل لا يضرب تحت الكسا «5» قاضيك إن لم تخصه فاقصه ... أولا فلا يحكم بين النّسا «6» وقوله: «7» [الطويل] فيا من لراج أن تبيت مغذّة ... ببيداء دون الماطرون ركابه وقامت جبال الثّلج زهرا كأنّها ... سفائن في بحر يعبّ عبابه «8»

22 - إسحاق بن أبي البقاء، يونس بن علي بن يونس، فتح الدين، أبو محمد

وقوله: «1» [الطويل] وقد شرقت زرق الأسنّة بالدّما ... وأنكر حدّ المشرفيّ قرابه فكم أمرد خطّ الحسام عذاره ... وكم أشيب كان النجيع قرابه «2» ومنهم: 22- إسحاق بن أبي البقاء، يونس بن عليّ بن يونس، فتح الدين، أبو محمد من كتّاب إنشاء الملك الناصر بن العزيز، وكان في فلك أولئك الجماعة له تبريز، وله تخيّل لطيف، وتحيّل طريف، إلّا أنّ مدده ضعيف، وجدده مخيف. يدفق محاربه نزز «3» ، وتمام معانيه عوز. ومن شعره الرقيق، وخمره الرحيق، قوله مما أنشد له ابن سعيد: [الخفيف] أدغموا الذّابلات في مثلها من ... هم وفي المثل يحسن الإدغام وأمالوا إليهم ألفات النّبع ... حتى لم تحمهم منه لام وقوله: [الطويل] وما زلت من حيث استقلّت بك النوى ... أسائل أنفاس الصّبا عنك والبرقا ومن كلفي بالشّرق لما حللته ... توهّم قوم أنني أعبد الشّرقا

23 - عون الدين، سليمان بن عبد المجيد بن الحسن بن عبد الله بن الحسن بن العجمي

ومنهم: 23- عون الدين، سليمان بن عبد المجيد بن الحسن بن عبد الله بن الحسن بن العجمي «13» ولي الشام أيام الناصر المذكور، وهو من أكابر بيوت حلب (77) ، وممن ينفق له كل جلب. وهو ممن قتله سيف السيف السامري، وأطاح دمه الفري، ورماه بأيدته، وعرّاه من فائدته، حتى صار عرضه بما بذل منه منديلا لكل ماسح، وبئرا يدلي فيه كل ماتح. ولم يرع له بيتا لا يغمط حقّه، ولا يجحد سبقه. ومن شعره ما أنشده له ابن سعيد، وهو قوله: «1» [الوافر] لهيب الخدّ حين بدا لعيني ... هوى قلبي عليه كالفراش فأحرقه فصار عليه خالا ... وها أثر الدّخان على الحواشي ومنه قوله، وقد رمى رجلا بما رماه به السامريّ من الداء العضال، والمرض الذي لا يشفى منه إلا ماء الرجال، وهو المعروف المنكور، والمنسيّ المذكور، والفضاء الواسع لوقع المهنّدة الذّكور. والذي قاله: [السريع] ابن القطيمي له فقحة ... شيعيّة تصبو إلى القائم أبخل من كلب ولكنّه ... بجحره أكرم من حاتم ومنه قوله: [البسيط] وكلما لجّ طرفي في تأمّله ... ليشتفي القلب قال الحسن كيف ترى هذا الذي أبدع الرحمن صورته ... ولا تفاوت فيه فارجع البصرا

24 - محيي الدين بن زيلاق الموصلي. وهو أبو العزيز يوسف بن يوسف بن يوسف بن سلامة، العباسي

ومنه قوله: [الكامل] تمّت محاسنه بمرسل صدغه ... فالصبر عنه بشرعه منسوخ رشأ يلوح البدر من أطواقه ... حسنا ومن وجناته المرّيخ ومنه قوله: [السريع] يا لائمي في حبّ ذي عارض ... ما البلد المخصب كالماحل يجول ماء الحسن في خدّه ... فيقذف العنبر بالسّاحل ومنه قوله، وقد قال له الملك الناصر بن العزيز: أنت من أهل البيت: «1» [الطويل] (78) رعى الله ملكا ما له من مشابه ... يمنّ على العافي ولم يك منّانا «2» لإحسانه أمسيت حسّان مدحه ... وكنت سليمانا فأصبحت سلمانا ومنهم: 24- محيي الدين بن زيلاق الموصليّ. وهو أبو العزيز يوسف بن يوسف بن يوسف بن سلامة، العباسيّ «13» الشريف قدرا، الشّريد شعرا، الشهيد الذي قتل صبرا. قتله التتار حين ملكوا الموصل قتلا بالسيف، يطيل النجم لنومه تسهيدا، ويحيي الشفق بدمه على ثوبه شهيدا. وهو ممن ضرب في النّسب بعرقه، وأخذ من الأدب بحقّه، وتمّم مذهب الكرم بخلقه أيّ معنى لمرتحله، أو معنى لم يحلّه، أو طيّب محرّم على سواه لم يحله.

وشعره قريب التناول على الأفهام، قريب يعدّ من الإلهام. طاف الآفاق له طيف زائر، وشقّ الأقطار بجناح طائر. وهو لميل النفوس إلى سماعه، وميل الرءوس بإيقاعه، كأنّما اشتقّ من كلّ البلاد، وشقّ ليجتبيه كلّ فؤاد، سواء العاكف فيه والباد، والمتروّي منه والصاد. قلت: وقد ذكره ابن الفخر عيسى الإربلي في تذكرته، وهي التذكرة الفخرية، وقال: «فارس مبارز في حلبات الأدب، وعالم مبرز في لغة العرب. شعره أحسن من الروض جاده الغمام، وأزهى من اللؤلؤ الرطب زانه النظام. قال: وعاشرته مدّة فملأ سمعي ببدائع فرائده، التي هي أحسن من الدّرّ في قلائده. وطلبت منه الإجازة فاعتذر اعتذار خجل، وأطرق إطراق وجل، وقال: أنا والله أجلّك عن هذا الهذر، وأنت أولى من عذر «1» وسريع الاعتلاق بالخواطر، والاعتلاج في الضمائر. ومن مشهود قدره، في مشهور شعره، قوله: «2» [الطويل] بعثت لنا من سحر مقلتك الوسنى ... سهادا يذود الجفن أن يألف الجفنا وأبصر جسمي حسن خصرك ناحلا ... فحاكاه لكن زاد في دقّة المعنى ومنه قوله: [الكامل] يوم تكاثف غيمه فكأنّه ... دون السّماء دخان ندّ أخضر (79) والطّلّ مثل برادة من فضّة ... منثورة في تربة من عنبر والشمس أحيانا تلوح كأنّها ... أمة تعرّض نفسها للمشتري ومنه قوله: [الطويل]

أدرها فدمع المزن قد أضحك الرّبى ... ونظّم درّ النظم درّ الغمائم وقد آن للإصباح أن يصدع الدّجى ... كذا حدّثتنا عنه ورق الحمائم ومنه قوله، وأحسن: [البسيط] إنّي لأقضي نهاري بعدكم أسفا ... وطول ليلي بتسهيد وتعذيب جفن قريح وقلب حشوه حرق ... فمن رأى يوسفا في حزن يعقوب ومنه قوله: «1» [المنسرح] أحور يجلو الدّجى تبسّمه ... أسمر يحلو بذكره السّمر جوامع الحسن فيه كاملة ... فالقلب وقف عليه والبصر «2» ومنه قوله: «3» [الكامل] وإذا شكوت من الزّمان ومسّني ... ضيم ونكّس صعدتي إعصار وعلمتم أني بكم متعلّق ... فعلى علاكم لا عليّ العار ومنه قوله: [الوافر] فبات يمجّني عذبا شهيّا ... كأن رضابه ضرب وراح إلى أن رقّ جلباب الدّياج ... وقرّت في تبسّمها الرياح ومنها: وأخشى أن ينمّ بنا ضياء ... يكون لسرّنا فيه افتضاح فقلت: أقم، فدتك النفس، عندي ... فإن لم تبد لم يبد الصباح

ومنه قوله: [الكامل] قد زخرفت في وجنتيه جنّة ... أنس النفوس بها وحظّ الأعين يا موسرا من صنف كلّ ملاحة ... أظفرت من هذا الزّمان بمعدن أبدأت في وصلي فهلّا عدت لي ... وكسوتني سقما فهلّا عدتني ووعدتني عطفا عليّ فلم أطب ... نفسا، إنّ عطفك ينثني (80) ومنه قوله: [الخفيف] ما أهتدي بعدكم رقادا إلى جف ... ني ولا أهتدي السّلوّ لبالي وحياتي بعد الفراق دليل ... أنّ موت النفوس بالآجال ومنه قوله: [السريع] هل أنت يا وفد الصّبا مخبري ... بربع أحبابي متى روّضا وهل أقام الحيّ من بعدنا ... مخيّما بالجزع أم فوّضا وأنت يا بارق نجد إذا ... أضأت جيرانا بذات الأضا فقل لهم: ذاك الغريب الذي ... أمرضتموه بجفاكم قضى حاشى لذاك الوجد أن ينقضي ... وعهدنا بالخيف أن ينقضا ويا شفاء النّفس لو أنّه ... كان طبيب الدّاء من أمرضا أحبابنا منذ وداع اللّوى ... لم ألق عيشا بعدكم يرتضى ولا رأت عيناي مذ غبتم ... يوما كأيّامي بكم أبيضا ومنه قوله: «1» [المنسرح] بمن كسا وجنتيك من حلل ال ... حسن رياضا نسيمها عبق

لا تثن عطفا إلى الوشاة فما ... سلاك قلبي لكنّهم عشقوا أنت بحالي أدرى وحالهم ... قد وضّحت في حديثنا الطّرق ما كنت يوما إليك معتذرا ... لو أنهم في حديثهم صدقوا ومنه قوله: [البسيط] نقشت أناملها وأنبت خدّه ... وردا يزيد ملاحة عن عهده فإذا أشارت بالغناء بدا لنا ... مخضرّ آس بنائها من ورده ومنه قوله، مما أنشده له ابن سعيد: [الطويل] ومن عجبي أن يحرسوك بخادم ... وخدّام هذا الحسن من ذاك أكثر عذارك ريحان وثغرك جوهر ... وخدّك كافور وخالك عنبر (81) ومنه قوله من قصيدة مطولة، ضمنها ذكر دمشق: «1» [الكامل] أدمشق لا زالت تجودك ديمة ... يرفّ بها زهر الرياض ويونق «2» أنّى التفتّ فجدول متسلسل ... أو روضة مرضية أو جوسق «3» يشدو الحمام بدوحها فكأنّما ... في كلّ عود منه عود يخفق وإذا رأيت الغصن ترقصه الصّبا ... طربا رأيت الماء وهو يصفّق فحمامها غرد ونبت رياضها ... خضل وركب نسيمها مترفّق وترى من الغزلان في ميدانها ... فرقا أسود الغيل منها يفرق والقاصدون إليه إمّا شائق ... متنزّه أو عاشق متشوّق

لا تخد عنّ فما اللّذاذة والهوى ... ومواطن الأفراح إلا جلّق «1» ثم أعقب هذه القصيدة برسالة منها: «2» «حتى إذا بلغت النفس أمنيتها، وأقبلنا على دمشق فقبّلنا ثنيّتها، رأينا منظرا يقصر عنه المتوهّم، ويملأ عين النّاظر، المتوسم: ظلّ ظليل، ونسيم عليل، ومغنى بنهاية الحسن كفيل. يطوى الحزن بنشره، ويصغر قدر البلاد «3» دون قدره، فيصغر عن صفته شعب بوان، ويغمد في مفاضلته «4» سيف غمدان، ويبهت لمباهاته نظر الإيوان. فالأغصان مائسة في سندسيّها، متظاهرة بفاخر حليها. قد ألقحتها الأنهار فأثقلتها بحملها، ولا عبتها الصّبا، فتلقّت كلّ واحدة بمثلها «5» . فسرنا منها بين جنّات كظهور البزاة، وجداول كبطون الحيّات. قد هزّ الشوق أطيارها فصدحت، وحرّك النسيم رباها فنفحت، وحنّت علينا «6» أفنانها حنوّ الوالدات على الفطيم، وحجبت عن معارضتنا الشمس «7» وأذنت للنسيم، فإذا أصابت شمسها فرجة، لاحظتنا ملاحظة الحياء، وألقت على «8» فضّة الماء شعاعها، فصحّحت صناعة الكيمياء. ثم أفضينا إلى فضاء قد أثرى من الرّوض

ثراه، وغني عن منّة السّحاب ذراه، قد تشابه فيه (82) الشّقيقان خدّا وزهرا، واقترن الباسمان «1» أقاحا وثغرا، وتغاير أخضراه آسا وعذارا، وأصفراه عاشقا وبهارا، فأيّ همّ لا تطرده أنهاره المطّردة، وفرح لا تجلبه أطيارها المغرّدة. ولمّا وصلنا إلى محلّها الذي هو مجتمع الأهواء، ومقرّ السّرّاء، ومقنص «2» الظّباء، واستوطنّا وطنها الذي هو للظامي نهله، وللمستوفر عقله. [الطويل] أجدّ لنا طيب المكان وحسنه ... منى فتمنّينا فكنت الأمانيا وهذا مع إكثاره لا يبلغ اليسير من نعتها، وما يري آية من الحسن إلا هي أكبر من أختها. ومن شعره قوله: [الكامل] هذا فؤادي في يديك تذيبه ... غادرته عرض الهموم تصيبه ما كان يبلغ من أذاه عدوّه ... ما قد بلغت به وأنت حبيبه تهدي الشّفاء له وأنت نعيمه ... وتزيده مرضا وأنت طبيبه وسرى النّسيم فهزّ عطف غرامه ... إذ كان من جهة الحبيب هبوبه ومنه قوله: «3» [المنسرح] حياة وجدي ماء بوجنته ... ما كدّرت صفوه يد الكدر «4» إن يطل الفكر في توردّها ... فذاك والله موضع النّظر

ومنه قوله: «1» [الطويل] دعاه يشم برقا على الغور لائحا ... يضيء كما هزّ الكماة الصّفائحا ولا تمنعاه أن يمرّ مسلّما ... على معهد قضّى به من العيش صالحا فماذا عليه أن يطارح شجوه ... حمائم فوق الأيكتين صوادحا «2» بعيشكما هل في النّسيم سلافة ... فقد راح منها القلب ريّان طافحا «3» وهل شافهت في مرّها روضة الحمى ... فإنّا نرى من طيّها النّشر فائحا «4» وقوفا فهذا السّفح أسقي ربوعه ... دموعا كما شاء الغرام سوافحا «5» منازل كانت للشّموس مطالعا ... وللغيد من أدم الظّباء مسارحا (83) ومنه قوله: [الطويل] وإن سفحت عيناي دمعي أحمرا ... فلا عجب سيل العقيق من السّفح أيجعله الواشي على الوجد شاهدا ... وحمرته في الجفن تشهد بالجرح ومنه قوله: [الكامل] يا مانحي طول السّقام ومانعي ... بجفاه ورد رضابه المعسول ما صار وجهك للمحاسن جامعا ... إلّا وثغرك قبلة التّقبيل وحكى الإمام الفاضل أبو العباس، ابن العطار، أن ابن زيلاق أهدى إلى بدر الدين لؤلؤ، صاحب الموصل، جملا، وكتب معه إليه يداعبه: [مجزوء الرجز]

25 - أبو بكر بن عدي بن الهيذام الموصلي

يا أيّها الملك الذي ... ببابه كلّ أمل لو لم تكن بدرا لما ... أهدى لك الثور الجمل ومنهم: 25- أبو بكر بن عدي بن الهيذام الموصلي قوّس بالمعاني حتّى تهوّس، وتعالى في تشييد المباني حتى تنكّس. عرض له وسواس اختل به نظام عقله، ونقص تمام فضله، وكان لا يخلو في جنونه من طرف أفرح من البساتين، وألطف ما يحكى عن عقلاء المجانين. ثم زاد يبس مزاجه، ويئس من علاجه، فأتى جبلا ألقى نفسه من شاهقه فهلك، وحلّ رمسه لا ينتفع بما ملك، وقد أنشد له ابن سعيد قوله: [الخفيف] أنا صبّ وماء عيني صبّ ... وأسير من الضّنى في قيود وشهودي على الهوى أدمع العي ... ن ولكنّني قذفت شهودي ومن شعره قوله: [مجزوء الكامل] أفدي الذي ناديته ... وركابه بيد النّوى مولاي حبّك نيّتي ... ولكلّ عبد ما نوى ومنهم: 26- أحمد بن محمّد بن الوفا، ابن الحلاوي، الربعيّ الموصليّ «13» شرف الدّين، أبو الطّيّب، ذو الصّناعة التي لها لذاذة في الذوق، وحلاوة (84) في مرارة الشّوق. لم ترم بضاعته بالكساد، ولا صناعته بالفساد. على

أنّها صناعة حلاوي ما عرفتها العرب، ولا ألفتها في مأدبات الأدب، ولا ألّفتها الألباب من لباب البرّ والضّرب، ولا جادت بتقريبها ذات جفون ولا جفان، ولا جاءت بضرب من ضربها شفة ولا لسان. ولا تطاول إلى منّها الحلاويّ حلاويّ الأري والشّراب، ولا ندّ مثل عبقها في نادي الأعراب. ولا ذاقت العين شبيه طعم حلاوتها في صحون خدود الكواعب الأتراب، ولا تجاسر النخل أن يساقط رطبه الجنيّ لمقابلتها، ولا النّحل أن يعرض شهده الشّهيّ لمشاكلتها، ولا مكرر السكران يبرز من غلفه الملبسة لمماثلتها. ومن معموله الغالي، وقوله العالي، ما أنشده له ابن سعيد: «1» [الطويل] كتبت فلولا أنّ هذا محلّل ... وهذا حرام، قست لفظك بالسّحر «2» فو الله ما أدري أزهر خميلة ... بطرسك أم درّ يلوح على نحر فإن كان زهرا فهو صنع سحابة ... وإن كان درّا فهو من لجّة البحر وكان له فرس أصابه داء الحمر لزيادة علفه، فأمر غلامه أن يسيّره ليخفّ ثقله، فأهمل الغلام ما أمره به، فتشبّك صدره، فلام الغلام، فادّعى أنّه سيّره، فقال: «3» [مجزوء الرجز] ابن الحلاويّ أنا ... دع قولك المعلّكا لو أنّه مسيّر ... لما غدا مشبّكا ومما اخترته من شعره قوله، مما كتب به إلى بدر الدّين لؤلؤ، صاحب الموصل، ليلة نصف شعبان: [الطويل]

أتى للهنا ابن الحلاويّ مادحا ... بنادر شعر فيكم محكم الرّصف يهنّيك بالنّصف الذي أنت بدره ... وقد حاز في أشعاره غاية اللّطف ففي النّصف أبهى ما يرى البدر طالعا ... وأحسن معمول الحلاويّ في النّصف (85) ومنه قوله يخاطب شخصا اسمه الركن: [الوافر] على دار السّلام وأنت فيها ... لأجلك دائما مني السّلام بقربك لذّ لي فيها مقامي ... ولولا الرّكن ما طاب المقام ومنه قوله في مليح قصّر شعره: [الكامل] قصّرت شعرك كي تقلّ ملاحة ... فكساك أبهى الحسن وهو مقصّر وقطعته ليقلّ عنّا شرّه ... والإثم أقتله القصير الأبتر ومنه قوله: «1» [الطويل] يهدّد منه الطّرف من ليس خصمه ... ويسكر منه الرّيق من لا يذوقه حكى وجهه بدر السّماء فلو بدا ... مع البدر قال النّاس هذا شقيقه ومنه قوله: [الكامل] أطلقت أدمع عينه يوم النّوى ... وفؤاده أحكمت شدّ وثاقه أسهرته وأسلت مقلته دما ... أترى ذبحت النّوم في آماقه ومنه قوله: «2» [الكامل] أحيا بموعده قتيل وعيده ... رشأ يشوب وصاله بصدوده لم أنسه إذ جاء يسحب برده ... والليل يخطر في فضول بروده

والصّبح مأسور، أجدّ لأسره ... جنح الظّلام تأسّفا لفقيده فالليل يرفل في ثياب حداده ... والصّبح يرسف في وثاق حديده «1» ولذاك لم تنم النّجوم مخافة ... من أن يفادي الصّبح فكّ قيوده «2» ما زال يرشفنا شقيقة ريقه ... طيبا، ويلثمنا شقيق خدوده حتى تحكّم في النّجوم نعاسها ... والتذّ كلّ مسهّد بهجوده ومنه قوله: «3» [الطويل] يقولون يحكي البدر في الحسن وجهه ... وبدر الدّجى عن ذلك الحسن منحطّ كما شبّهوا غصن النّقا بقوامه ... لقد بالغوا في المدح للغصن واشتطّوا «4» (86) ومنه قوله، وقد عرّف النور السهرزوري بينه وبين بدر الدين لؤلؤ في أيّام العشر: [الطويل] وعشر رأيت البدر فيه مجالسي ... وأعجب شيء رؤية البدر في العشر هداني إليه النّور حتى أتيته ... ولا عجب إن دلّ نور على بدر ومنه قوله، مما كتب إلى الصّاحب بهاء الدّين زهير: [البسيط] تجيزها وتجيز المادحين بها ... فقل لنا أزهير أنت أم هرم ومنه أخذ الصاحب جمال الدين بن مطروح فقال: [الوافر] أقول وقد توالى منك برّ ... وأهلا ما برحت لكلّ خير

ألا لا تذكروا هرما بجود ... فما هرم بأكرم من زهير ثم رجع إلى تتمّة ما اخترنا لابن الحلاوي. ومنه قوله وقد خلع عليه خلعة صفراء فكرهها، وبوجه الوجل شبّهها: [الكامل] فعلام ألبس من فواضل جودكم ... ما لا يليق بهمّتي وفخاري صفراء أنبأ لونها لما أتت ... بقصور حجّتها عن الإعذار ومنه قوله في الشّبّابة، وأجاد في التضمين، ووفّى من الإجادة بما هو به ضمين: «1» [الطويل] وناطقة خرساء باد شحوبها ... تلقّفها عشر وعنهنّ تخبر «2» يلذّ على الأسماع رجع حديثها ... إذا سدّ منها منخر جاش منخر «3» ولم أر مثلي شاقه صوت مثلها ... وكم مثلها فارقتها وهي تصفر ومنه قوله مما كتب به إلى بعض أصدقائه يستعين به في عاريّة صوان له من شخص كان يصحبه من الأمراء: [الطويل] أريد من المولى الأمير الذي سرت ... مواهبه بين الورى سير عدله أخا سفر ما حلّت الشّمس وجهه ... من الأرض إلّا صدّها قدر شكله فكن مسعدي فيما طلبت فمقصدي ... بأنّي لا أنفكّ من تحت ظلّه

27 - مجد الدين بن الظهير

(87) ومنهم: 27- مجد الدّين بن الظّهير «13» هو أبو عبد الله، محمّد بن أحمد بن عمر بن أحمد بن أبي شاكر، الإربليّ، الحنفيّ. إمام الأدب إذا أتى كلّ أحد بإمامه، وملك البيان الآخذ بزمامه، وبدر السّماء الذي لا يغتاله النّقص عند تمامه، وبحر العلم الذي يسير في الآفاق بغوث غمامه، ويسري في الخواطر التي لا تسري خطراتها إلّا بزمامه. ولد بإربل وأخذ عن أدبائها. وأقام بعانة محمّلا لصهبائها. ثمّ أتى دمشق واستوطنها، واستوطى وطنها، وكان حرزا للبّتها، وكنزا لطلبتها. ودرّس بالقيمازيّة مدّة سنين، تنشر به الفتاوى عذبها، وتحيي موات الأموات أدبها. ذكره ابن اليونيني رحمه الله، وقال: «وكان وافر الدّيانة، دمث الأخلاق، حلو النادرة، كثير الصّدقة، صحبته في طريق الحجاز الشّريف سنة ثلاث وسبعين وستمائة، ورأيت من جميل أوصافه ما يجتمع في غيره» . قلت: وهو شيخ شيخنا شهاب الدّين أبي الثناء محمود، وعنه أخذ، ومنه فلذ. وأنشد مما أنشده قوله: «1» [الكامل] صبرا كمال الدين يا من حلمه ... أرسى من الطّود المنيف وأرسخ غشّى السّرار أخاك قبل تمامه ... ضنّا بمجدك أن يكون له أخ وقوله: «2»

طاف بدر الدّجى بشمس النّهار ... في رياض أنيقة النّوّار «1» وأتانا بها يقدّ أديم ال ... ليل منها صوارم الأنوار جاء يسعى بها إلينا وقد خا ... طت يد اللّيل أعين السّمّار «2» وكأنّ النّجوم نور رياض ... وكأنّ المرّيخ شعلة نار وقوله: «3» [الكامل] ما شانه الألم الملمّ ولم يزل ... لأليم أدواء القلوب طبيبا فالرّيح تزداد اعتلالا كلّما ... هبّت ولا تزداد إلّا طيبا وقوله: «4» [الخفيف] أكثر اللّوم في الحبيب أناس ... عيّروني ببذله بعد منع قلت شمس الضحى أشدّ ابتذالا ... وهي محبوبة إلى كلّ طبع وقوله، مما كتبت إليه من العلا سنة حجّه: «5» [الطويل] بلغنا العلى والشوق يحدو ركابنا ... وذكركم زاد لنا وسمير لعلّ النّوى ينجاب عنّا ظلامها ... فتدنو ويبدو للعيون سنير «6» وتروى أحاديث الغرام صحيحة ... وتروى بكم بعد الغليل صدور وتحدث في اللّقيا أمور عجيبة ... وتحدث من بعد الأمور أمور

وقوله: «1» [الطويل] أما والمطايا في الأزمّة تمرح ... وقد شفّها طول السّرى فهي طلّح يتمّم من أرض الحجاز منازلا ... لها دونها مسرى فسيح ومسرح قسيّ عليها كالسّهام سواهم ... كرام كما أمسوا على النّوق أصبحوا «2» يميل بهم سكر السّهاد كأنّما ... على كلّ كور غصن بان مرنّح ومنه قوله: «3» [الكامل] نم لا جناح عليك في سهري وما ... ألقاه في ليلي الطويل وجنحه طرفي وقلبي، ذا يفيض دما، وذا ... دون الورى أنت العليم بقرحه «4» وهما بحبّك شاهدان وإنما ... تعديل كلّ منهما في جرحه «5» والقلب منزلك القديم فإن تجد ... فيه سواك من الأنام فنحّه وقوله: «6» [الطويل] وإن لم أكن يا أهل ودّي مكاتبا ... فما أنا من أسر الصّبابة معتق وقوله: «7» [الكامل] طلق المحيّا والوجوه عوابس ... صفو الموارد والزّمان مكدّر ما كان فعلك في النّدى متعدّيا ... إلّا وأنت لكلّ خير مصدر

وقوله: «1» [الطويل] أحبابنا والدار منكم قريبة ... هل الوصل يوما إن دعوت مجيب وهل عندكم حفظ لعهد متيّم ... حليفاه منكم لوعة ونحيب (89) يحنّ إليكم والخطوب تنوشه ... ويشتاقكم والنّائبات تنوب له أنّة لا يملك الحلم ردّها ... إذا هبّ من ذاك الجناب جنوب وقوله مما أنشده ابن اليونيني له: «2» [الخفيف] قد دفعنا إلى زمان لئيم ... لم ننل منه غير غلّ الصّدور ورثاه تلميذه شيخنا شهاب الدين أبو الثنا محمود الكاتب بقصيدة منها: «3» [الطويل] ألا في سبيل الله من ضيم بعده ... حمى المجد حتى لان للجهل جانبه وفي ذمّة الرّضوان بحر ندى غدت ... مشرّعة للواردين مشاربه ولله من فاق المجازين سعيه ... ومن أدرك المجد المؤثّل طالبه بكته معاليه ولم ير قبله ... كريم مضى والمكرمات نوادبه ولا غرو أن تبكي المعالي بشجوها ... على المجد إذ أودى وهنّ صواحبه أما والذي أرسى كثيرا وحلمه ... لقد طاش حلمي يوم زمّت ركائبه وقد كدت أن أقضي غراما كما قضى ... فؤادي الذي قد أدرك الفرض واجبه

28 - الجلال ابن الصفار الدنيسري

ومنهم: 28- الجلال ابن الصفّار الدنيسري «13» كتب الإنشاء بماردين، وخدم ملوكها عدد سنين. وكان صاحب قلم أبقي البيان في روعه، وأبقى الإحسان في نوعه. لكنّه ممّن رجحت كفّة شعره في الوزن، وصلحت نفائس درّه للخزن. ولما ماج طوفان التتار بديار بكر، غرق في سيلهم العرم، وتقطّع بسيف موجهم المزدحم. واستتر فما نفعه الاستتار، وحذر وأبى الله إلّا أن يقتل بسيوف التّتار. وأنشد له ابن سعيد: «1» [الكامل] تعلّقته أمّيّ حسن فما له ... أتى بكتاب ضمنه سورة النّمل «2» ومالي أنا المجنون فيه وشعره ... إذا مرّ بالكثبان خطّ على الرّمل وأنشد له: «3» [الكامل] فمتى تقوم قيامتي بوصاله ... ويضمّ شملينا معاد شامل وأكون من أهل الخطايا؛ خدّه ... ناري، وصدغاه عليّ سلاسل (90) وحكى لي بعض أصدقائه: استدعاه إلى مجلس شراب، ومكنس غزلان وأتراب، على أنّه يأتيه صبيحة عنده، ليقضوا يومهما في لذّة العيش ورغده، وقدّم إليه الوعد من العشاء، والليل تزهر نجومه، ويصابر السّهر نومه. فلما نصّف الليل، جاءت السّحب ترقص في أعنّتها، وأصليت سيوف البروق للنجوم وأسنّتها. فأصبحت الأرض قارورة، وقطعت عن الجماعة في الفرض

الضّرورة، وخاف عتب صديقه، فكتب إليه، والحال يشهد بتصديقه: [الخفيف] حال بيني وبينك حالا ... ن وحول وقرب عهد عهاد وكأنّ الطريق ليل محبّ ... وكأنّ السّماء كفّ جواد ومن شعره قوله: «1» [المتقارب] هل اختط فانآد غصنا وريقا ... غرير حكى الكأس ثغرا وريقا أم الصّدغ لما صفا خدّه ... تمثّل فيه خيالا دقيقا حججت إلى كعبة الحسن منه ... ووجّهت وجهي إليه مشوقا «2» وقبّلته فوردت العذيب ... وحزت الثّنايا وجئت العقيقا ومنه قوله: [المنسرح] حلا بأفواهنا مقبّله ... وإنّما في عيوننا ملحا يدير من خدّه ومن يده ... وفيه، من كلّ واحد قدحا ومنه قوله في فحم يوقد: [الطويل] تذكّرت أيّام الشّباب الذي مضى ... تمنّيته لّما ترنّح أغصنا فأزهر منه الآبنوس بنفسجا ... وأثمر عنّابا وأورق سوسنا ومنه قوله: [السريع] ويوم قرّ ندّ أنفاسه ... تمزّق الأوجه من قرصها يوم تودّ الشّمس من برده ... لو جرّت النّار إلى قرصها

ومنه قوله: [المتقارب] ويوم حواشيه مضمومة ... علينا تحاذر أن تفرجا (91) قبصت والتفتّ أريد ... أختها فاحتمت بالدّجى «1» وقوله: [البسيط] حتى إذا اخضرّ من ماء الشّباب عذا ... راه كما احمرّ خدّاه من الخجل خافت زمرّد عينيه ذؤابته ... فاستخبأت خلفه فهي ابنة الجبل وحكي عنه أنّه حضر مجلسا، وقد طلعت في أفقه شهب الأقداح، وكتم الزهر شذاه ففاح. والجوّ قد لبس ثوب السّحاب المصندل، وشبّ على حور الرّوق المندل، ومال يتناثر من القطر عنقوده المهدّل، ومن دونه الرّباب، مسحّف «2» به ذيل السّحاب، كسرب قطا تعلّق بالأحبل، أو قطيع نعام تعلّق بالأرجل، فقال: [البسيط] كنّا نبيت نشاوى من مدام هوى ... عذراء لم نفترع كأسا ولا جاما ونجتني الورد حتى لان مسمعه ... للنّاس فازددت من واشيه نمّاما أما ترى الروض نسّاجا ملاءته ... على الثّرى وغمام المزن رقّاما إذا تناثر سلك الطّلّ كان له ... في مثله من أصول الدّوح نظّاما جمر ألمّت بخمريّ البنفسج في ... أسيّه يد سار هبّ نسّاما ففتّقته جيوبا حين صار له ... نشر اللّطائم لّما انشقّ أكماما وقوله: [البسيط] ألمّ طيفكم وهنا فحيّاني ... وظنّ أنّ الكرى من بعض سلواني

ولم أنم غير أني متّ من كلفي ... بكم فلما ألمّ الطّيف أحياني وقوله: [الكامل] لا تخش من عين الكمال فما انتهت ... بك غاية إلّا وأنت الأفضل وإذا بلغت فلا تزال زيادة ... لك في العلى فمتى تتمّ وتكمل وأنشد له ابن سعيد: [الطويل] وو الله ما أخّرت عنك مدائحي ... لأمر سوى أنّي عجزت عن الشّكر (92) وقد رضت فكري مرّة بعد مرّة ... فما ساغ أن أهدى إلى مثلكم شعري فإن لم يكن درّا فتلك نقيصة ... وإن كان درّا كيف يهدى إلى البحر ومن شعره قوله: [البسيط] أحبابنا هل لأوقات لنا سلفت ... بقربكم، والتئام الشّمل عودات بنتم فلا البان ميّاس يرنّحه ... مرّ النّسيم ولا الرّوضات روضات وربّ دير طرقنا بابه سحرا ... وللنّواقيس في أعلاه أصوات فقال راهبه من ذا؟ فقلت له: ... قوم إليك لهم في الدّير حاجات فقام يسعى إلى إكرامنا عجلا ... وقال: بشرى لكم عندي المسرّات فاشرب على وجه من تهوى مشعشعة ... بنورها تهتدي الزّهر المنيرات كأنّها الشّمس نورا والمدير لها ... بدر الدّجنة والأقداح هالات ومنه قوله: [البسيط] لم يبق منّي الضّنى رسما ولا طللا ... سوى رسوم بقت من جسمي البالي فخلّني أجر رسم الرّسم سحب دم ... فالدّمع دمعي والأطلال أطلالي ومنه قوله: [الخفيف]

حزني من أقاح مبسمه العذ ... ب وويلي من طرفه النّرجسي أسرتني طليعة بلواء ... أخضر، من عذاره الخارجي ومنه قوله: [الكامل] ما إن عليهم في الهوى درك ... حقنوا دم العشّاق أم سفكوا وصلوا كلمعة بارق خطفت ... وجفوا فما أبقوا ولا تركوا قال الوشاة سلا، وأدمعه ... يشهدن أن وشاته أفكوا «1» ما ضرّه والعذر مجتنب ... لو أنّه بالعهد يمتسك يجلو عروسا كلّما دمع الر ... راووق أبدى ثغرها الضّحك كانت من الأقداح طائرة ... لولا بها من لؤلؤ سبك (93) ومنه قوله: [الكامل] ومهفهف لدن المعاطف جسمه ... ماء ولكن قلبه جلمود عبث الهواء بعطفه وهو الصّبا ... فأماله المقصور والممدود في قدّه والرّدف منه تنازع ال ... حقف المهيل وناضر أملود حتى إذا ما طال ذلك منهما ... قطع التنازع بنده المعقود ومنه قوله: [الكامل] لي من محيّاه البهيّ ومن ... أجفان عيني الرّوض والمطر من ريق مبسمه وشاربه ... ماء الحياة العذب والخصر

29 - يوسف بن بركة بن سالم الشيباني، التلعفري

ومنهم: 29- يوسف بن بركة بن سالم الشيبانيّ، التلعفريّ «13» شهاب الدين أبو المحاسن. وأبوه يعرف بابن عرّاج. رجل خضعت له رقاب المعاني، وطمعت أنها لشهب السّماء تداني، بهمّة بلّغتها ما أرادت، وسوّغتها المنى وزادت. وكان لا يرتفع عليه رأس أديب، ولا يمتنع عليه لمن شمخ منهم أنفه تأديب. وتصالت معه تصالي الكواكب في مطلع الفجر، وتخاضعت له تخاضع العشاق في الهجر. ومدح ملوك بني أيّوب، ومتح ماءهم الشّروب، ومنح منهم ثقل الأردان والجيوب، وصحبه الأشرف، ووهبه فأسرف، وكان بآل بيت النبوّة كلفا متواليا، وشغفا مغاليا. لا يرى إلّا آل أحمد شيعة لإسعاده، وذريعة في معاده، وأنشد له ابن سعيد قوله: «1» [الكامل] وإذا الثّنيّة أشرقت وشممت من ... أرجائها أرجا كنشر عبير سل هضبها المنصوب أين حديثها ال ... مرفوع عن ذيل الصّبا المجرور «2» ومن شعره قوله: «3» [الكامل] ربع علقت به وربع شبيبتي ... نضر وفودي ليله لم يقمر «4» لله عصر شبيبة قضّيته ... في جوّه برحيق صرف مسكر (94) مع كلّ معتدل يرنّح صعدة ... من قدّه ويدير مقلة جؤذر

ورشيقة ممشوقة لو تقيت ... بالبدر ليلة تمّه لم يسفر وقوله مهنّئا بعيد نحر: «1» [الطويل] ولا تنحر الأعداء فيه مضحّيا ... ففيهم عيوب لا يتمّ بها النّحر وبهذا ذكرت بيتين كنت كتبتهما جوابا للفاضل إلى الصفا الصفدي. فأما ما كتب به إليّ فهو مع غنم أهداها إليّ في الأضحى، وهو: [الطويل] أتتني ضحاياك التي قد بعثتها ... لتصبح كالأعداء في بكرة الأضحى وحسبك أعدانا كلاب جميعهم ... وحاشاك لا تجزي الكلاب لمن ضحّى وأما ما كتبت به إليه وهو المراد هنا فهو: [الطويل] أيا من أرجّي فيه أنّ عداته ... تبيت كما تمسي ضحاياه أو تضحي وحقّك ما أهدي إليك أضاحيا ... ولكنّني قدّمت أعداك للذّبح عدنا إليه. ومن شعره قوله: «2» [الوافر] تمتّع من سهاد أو رقاد ... ولا تأمل كرى تحت الرّجام فإنّ لثالث الحالين معنى ... سوى حال انتباهك والمنام وهذه حكمة ما فاز بطاوتها سبق اليونان، ولا عرفتها الهند ولا آباؤها إلى كنعان. عدنا إلى قوله. ومنه «3» [البسيط] عج حين تسمع أصوات النواقيس ... من جانب الدّير تحت الليل بالعيس

مستخبرا عن كميت اللّون صافية ... قد عتّقتها أناس في النّواويس يسعى بها من نصارى الدّير بدر دجى ... يميس في فتية مثل الطّواويس فاصرف بدينارها صرف الزّمان إذا ... ونادم الشّمس من نحل الشماميس «1» وقوله: «2» [السريع] أصبح قارون ولكنّه ... ما عنده يوما لراجيه خير والله ما يملك من جبّة ... إلّا وقد نيك بها ألف أير وقوله: «3» [الكامل] أرأيت غيرك يا حياة الأنفس ... من يحرس الورد الجنيّ بنرجس يا من يدير بوجنتيه ومقلتي ... هـ وراحتيه لنا ثلاثة أكؤس آنست إذ أخذ الكرى من مقلتي ... ي زمام هاتيك الجفون النّعّس «4» ما كنت أطمع قبلها في مثلها ... لكنّني من بعدها لم أيأس «5» وقوله: «6» [البسيط] إذا سئلت عن الدنيا وساكنها ... فقل دمشق وموسى الأشرف الملك المستنير سنا والليل معتكر ... والمستشيط سطا والخيل تعترك

ملك تبرّ يمين المقسمين إذا ... قالوا بغير ارتياب إنّه ملك تناقضت حالتاه فهو يوم وغى ... غرّ وفي الآراء محتنك وقوله: «1» [الكامل] ذرني وعزمي والسّرى والعيس وال ... قفر الذي لا يهتدى لسبيله في كلّ مشتبه الجوانب تربه ال ... مغبرّ يخفق منه قلب دليله وقوله: «2» [البسيط] أفدي الذي زارني في الليل مستترا ... أحلى من الأمن عند الخائف الدّهش ولاحت الشّمس تحكي عند مطلعها ... مرآة تبر بدت في كفّ مرتعش وقوله: «3» [الوافر] إذا أمسى فراشي من تراب ... وبتّ مجاور الملك الرّحيم فهنّوني أخلّائي وقولوا ... لك البشرى قدمت على كريم وقوله: وقد رأى الفلوس الأسديّة أيام الظاهر بيبرس: «4» [السريع] يقولون في أرض مصر الغنى ... وليس لأقوالهم مستند وكيف يرجّى بها معدم ... غنى وعلى كلّ فلس أسد وقوله: «5» [الكامل]

القلب دلّ عليك أنك في الدّجى ... قمر السّماء لأنه لك منزل (96) هب أنّ خدّك قد أصيب بعارض ... ما بال صدغك راح وهو مسلسل وقوله: «1» [البسيط] من ضلّ في شعره يهدى بمبسمه ... وثغره البارق السّاري به ساري رفعت عن أدمعي الشّكوى فوقّع لي ... لا ينقطع رسم هذا المدمع الجاري وقوله: «2» [الكامل] من لي بطيف منكم إن أغمضت ... عيني يعين على الأسى ويريح هذي الجفون، وإنّما أين الكرى ... منها؟! وهذا الجسم أين الرّوح؟! وقوله: «3» [الطويل] تحيّرت لما قال نشوان عطفه ... فقلت وقد أزرى بما يثبت الخطّ أمن لحظه أم لفظه أم رضابه ... يميل ألا إنّ الثلاثة أسفط «4» وقوله: «5» [الكامل] بعثت إليّ ودوننا رمل اللّوى ... طيفا على قتل النّفوس محرّضا «6» فمددت بين يديه خدّا مذهبا ... أجرى البكاء دما عليه مفضّضا من لي بمرسلة الخيال وقد جلا ... بالوصل، ليل السّخط لألاء الرّضا

لأعيد رمّان النهود مكسّرا ... منها وتفاح الخدود معضّضا في قوله معضّضا استخدام، ما لكلّ فكرة عليه إقدام، هو في كلّ معنى كأنما وضع بإزائه، وصنع لتمام أجزائه، والبيت الآخر تضمين من شعر السّريّ الرّفّاء، وقد جاء به طبعه العفو، لا يبين لصنعة الرّفاء فيه الرّفو. وقوله:» [الخفيف] من بني التّرك كلّما جذب القو ... س رأينا في وسطه بدر هالة «2» يقع الوهم حين يرمي فماتد ... ري يداه أم عينه النبّالة «3» قلت لما لوى ديون وصالي ... وهو مثر وقادر لا محالة بيننا الشرع قال: سربي فعندي ... من صفاتي لكلّ دعوى دلالة (97) وشهودي من خال خدّي ومن ... قدّي شهود معروفة بالعدالة «4» أنا وكّلت مقلتي في دم الخل ... ق، فقالت: قبلت هذي الوكالة ومنه قوله: «5» [الخفيف] يا شيب كيف وما انقضى زمن الصّبا ... عجّلت منّي اللّمّة السوداء لو أنّها يوم الحساب صحيفتي ... ما سرّ قلبي كونها بيضاء ومنه قوله: «6» [الكامل]

بشقيق وجنتك الجنيّ وآسها ... عالج لواعج عاشقيك وآسها واسمح بإرسال الرّقاد لمقلة ... أهدت إلى جفنيك كلّ نعاسها «1» ومنه قوله: «2» [الكامل] قف سائلا بلوى الكثيب الأيمن ... دارا عفت فكأنّها لم تسكن وحذار من حدق الظّباء فلم يزل ... جمر المنايا في سواد الأعين «3» رحلوا بواضحة الجبين إذا بدت ... فلمجتل وإذا انثنت فلمجتن «4» يا ظبية عشّاقها في حبّها ... لا يظفرون بغير حظّ الألسن «5» ليس الغرام كما عهدت وإنّه ... باق وأمّا الصّبر عنك فقد فني «6» أرجو خيالك والرّقاد مشرّد ... عنّي لقد أمّلت ما لم يمكن ومنه قوله: «7» [الطويل] أمتلف عيني بالدّموع وبالبكا ... ومهجة قلبي بالأسى المتوقّد تعذّب قلبي. قلت: طرفي مشرك، ... فما العذر في تعذيب قلبي الموحّد ومنه قوله: «8» [الخفيف]

أيّ سهم من مقلة نجلاء ... أثبتته اللّحاظ في أحشائي «1» وخدود لو لم تنقّط بخال ... قلت: كالجلّنارة الحمراء ومنه قوله: «2» [الرمل] يا خليلي خلّ دارا أقفرت ... ومحلا غاب عنه السّكّن ودماء سفكتهنّ الدّمى ... ما سلاح العين إلا الأعين (98) ومنه قوله: «3» [الخفيف] لا تغر بالغوير إذ تتثنّى ... فيه أعطاف كلّ غصن وريق «4» واثن محمرّ خدّيك واستر ... هـ وإلّا ينشقّ قلب الشّقيق ومنه قوله: «5» [الخفيف] لو رعيتم للعاشقين ذماما ... لبعثتم قبل الخيال المناما كان ظنّي أنّ الحمائم تشفي ... فسقاني نوح الحمام الحماما لا وأيام قربكم ما نهاني ... عنكم عاذل يطيل الملاما كلّما قال: دعهم. قلت دعني ... لا شفى الله فيهم لي سقاما ومنه قوله: «6» [الوافر] لواحظك التي تصمي الرّمايا ... سهاما حاجبيك لها حنايا «7»

ملكت بعدل قدّك كلّ رق ... وذاك العدل جور في الرعايا «1» ومنه قوله: «2» [الكامل] مذ شام سيف لحاظه مسلولا ... لا يلتقي إلّا دما مطلولا «3» فإذا عطا، قل: كيف فارق سربه ... وإذا سطا، قل: كيف أخلى الغيلا «4» ومنه قوله: «5» [الكامل] حدّثه عن نجد فذاك يعينه ... واسأله فيه هل تجفّ جفونه «6» واستمل ما تمليه نفحة روضه ... سحرا، وترفعه، إليك غصونه «7» ومنه قوله: «8» [الكامل] أألومكم في هجركم وصدودكم ... ما هذه في الهجر منكم أوّلة «9» قسما بكم قد حرت مما أشتكي ... حتى الدّجى وعدمته ما أطولة «10» يا سائلي عن شرح حالي في الهوى ... تركي الجواب جواب هذي المسألة «11» يا راحلين وفي أكلّة عيسهم ... رشأ، عليه، حشا المحبّ مقلقلة

أسرت له العشاق نضرة وجنة ... بسوى اللواحظ لا تبيت مقبّلة» لو لم يصب صدغيه عارض خدّه ... ما أصبحت في سالفيه مسلسلة «2» (99) وهذه القطعة من قصيدة أوّلها: هذا العذول عليكم مالي وله؟ ... أنا قد رضيت بذا الغرام وذا الوله وكلّها جيّدة وهذا مختارها، وكلّها جنان وهذه ثمارها. وأتى فيها بأبيات أكثر فيها من التورية بأسماء الكتب وهو مالا أستحسنه. ولا يعدّ مع المحسنين وإن أجاد محسنه. ورأيت بخطّ الفاضل كمال الدّين أبي العبّاس أحمد بن العطّار الشيباني الكاتب، رحمه الله، ما صورته: «ذكر أنّ أبا الشيص كان لو قيل له: ابن من أنت؟ لقال: وقف الهوى بي حيث أنت ... البيت. ولو قيل لشهاب الدين التلعفري: ابن من أنت؟ لقال: هذا العذول عليكم ما لي وله ... ثم قال: وهي قصيدة مشهورة سيّارة محفوظة، دائرة على ألسنة العالم. وعارضها جماعة من معاصريه، فلم يتّفق لهم ما اتّفق له من الجودة والسيرورة. عدنا إلى تتمّة شعره. ومنه قوله «3» [الكامل] مهما الجفون كذا محاربة الكرى ... ما لي انتفاع بالخيال إذا سرى «4» كم ذا التباله في الهوى عن حالتي ... دمعي يسيل وأنت تسأل ما جرى! وحياة حبّك إنّ قول عواذلي ... لك: إنني سال، حديث مفترى

30 - نجم الدين القمراوي

ما كنت قبل لحاظ طرفك مثبتا ... أنّ الظباء تصيد آساد الشّرى «1» وقوله: «2» [الكامل] أأفوز من أسر الهوى بخلاص ... كيف المناص ولات حين مناص لي ظاعن كم دون يوم لقائه ... من فتّ أكباد وشيب نواصي دمعي وصبري فيه، هذا طائع ... لي حين أدعوه وهذا عاصي جرحت لواحظه فؤادي فاغتدى ... بلواحظي من وجنتيه قصاصي ما كان يهجرني ويسرف لو رأى ... ما في الفؤاد له من الإخلاص كم ذا التّجنّي والجفا يا درّة ال ... غوّاص أو يا ظبية القنّاص «3» (100) ومنهم: 30- نجم الدين القمراوي «13» ليث فصاحة لا يساور، وغيث سماحة لا يسارر. وجدول بيان لا تغمد قضبه، ومهمه فكر لا تتطامن هضبه، وحديقة حدق لا تشبع منه نظراتها، ومهبّ صبا لا تميل به خطراتها. وكان لا يسأم معه طول السّمر، ولا تجالس مذكراته في كلّ ناحية من وجهها قمر، بلطائف يماثل العقود فريدها، وأحاديث يودّ إذا ما انقضت أحدوثة لو يعيدها. لكنّه عصفت به ريح التتار، وشقّت طوده فما استقلّ ولا سار. وأنشد له ابن سعيد:

31 - فتيان الشاغوري

ويا ليل الذّؤابة ما كفاني ... تطاول حالك الليل البهيم وحاكمت النسيم على مرور ... بعطفيه فمال مع النّسيم ومنه قوله وهو مما يعدّ في حسن التخلّص في ممدوح اسمه علي: [الكامل] عجبا له ثنّى على مجروحه ... وقد انتضى باللّحظ سيف عليّ ملك غدا ودعاؤه وولاؤه ... فرض على الشّيعيّ والسّنّيّ ومنهم: 31- فتيان الشاغوري «13» فتيان الشاغوريّ. بحر ربّما قذف الدّرّة، وبرّ طالما طاولت الجبال منه الذرّة. تنبه منه فطن لا يدرك له غرّة، وجرى منه سابق أدهم ربّما وضحت له غرّة. يقع له الجيّد في أثناء كلامه، وينقع مورده للصادي بعض أوامه، وتتولّد له معان ما منعت بالتمام، وتتجلّى له نجوم طلعت وباقيها تحت ستور الظلام. وأنشد له ابن سعيد: «1» [البسيط] فبطنها حجر الأسباط منبجس ... وظهرها حجر الإسلام مستلم «2» ومنه قوله: «3» [المنسرح] قد كتب الحسن بالعذار على ... كاغد تفّاح خدّه ألفا كأنّه عاشق لوجنته ... حتى إذا ما تقابلا وقفا

32 - عبد الرحمن بن عوض بن محبوب، الكلبي، المعري، عفيف الدين التلمساني، أبو البركات

ومنهم: 32- عبد الرحمن بن عوض بن محبوب، الكلبيّ، المعرّيّ، عفيف الدين التلمسانيّ، أبو البركات «13» ممن كان له في الحديث اللطيف غاية، وله بالحديث الشريف رواية، مع دماثة خلق يتجافى عنها الماء (101) وهو سلسال، والصهباء وهي جريال، والنسيم وقد لعبت الشّمول منه بأعطاف الشّمال. وما نقص حظّه من أدب بارع، أو فكر مسارع. ومن شعره المشعشع السّلسبيل، الملمّع به برد الأصيل، الصّافي الظّلّ في خدّ النهر الأسيل، قوله، فيما أنشده له ابن سعيد: [الطويل] فإن نحت في أفنان وجدي يحقّ لي ... لأنّي بما أوليتموني مطوّق قطعتم، ولم أسرقكم الودّ، كتبكم ... وكيف يجازى القطع من ليس يسرق ومنهم: 33- محمد بن سوار بن إسرائيل بن الخضر بن إسرائيل بن محمّد بن الحسن بن الحسين، الدمشقيّ «14» الأديب نجم الدين، أبو المعالي وله صحبة بالقدوة صاحب الطريقة عليّ الحريريّ- رحمه الله-. لبس بها من ديباجته، وشرب من زجاجته، فلاح عليه نور إيمانه، وفاح له من سرّ حقائبه ما عجز عن كتمانه، وفاء عليه من ظلّ حقائقه ما تقلّ الأرواح في أثمانه. وتقدّمت له صحبة بالسّهرورديّ. وأجلسه في ثلاث خلوات، وآنسه في الجلوات. وكان له أدب غضّ تميل به الأغصان والقدود،

وتخلع عليه النفوس والبرود. أشغل قلب الشّجيّ والخليّ: فهذا غنّى وهذا ناح. وأسمع أذن السّالي والمغرم: فهذا كتم وهذا باح. وكان لا يخلو منه سماع، ولا عقد اجتماع. تتهاداه مجالس الكبراء سرورا للنفوس، وتتعاطاه سلافا في الكؤوس، وتميل به لإمالة الطّرب الرءوس. وجرت بينه وبين الخيميّ في القصيدة البائية المحاكمة التي قضى فيها ابن الفارض عليه قضاء لم يقدر حاكم على نقضه، ولا أعانه صاحب على تجرّع ممضّه. ثم كان بعده لا يزال منقّبا بالحياء، مذبذبا يمشي على استحياء، لما ألق به من وصمة عار الادّعاء، وسمة قبح لا يطلب منه بعدها رفع يد بصالح الدّعاء. وكان مع كثرة حضوره حيث تصفّق الألحان، وتصفّق أواني المدام، بنت خضرة القدس لا بنت الجان، لا يدخل طابق الرّقص، ولا يزداد وحده إلّا بمقدار ما يأخذ في (102) النقص. وحكى قاضي مجد الدين بن العديم، قال: أريت في النوم كأني داخل إلى بلده، فقيل لي: إن نجم الدين بن إسرائيل، قد صار كاتبا عند الوالي بها، فقلت: [الوافر] إلى كم ذا تغرّرك الليالي ... وتبدي منك حالا بعد حال فطورا شيخ زاوية وفقر ... وطورا كاتب في دار والي وذكرت هذا المقام للطف موقعه، وطرف نظمه في موضعه. ومن فائق شعره، وفائح نشره، قوله: [الكامل] يا واحد الحسن الذي لولا الجفا ... ما عاقه عني العشيّة عائق أنت الأمير على الملاح بأسرهم ... وعليك من قلبي لواء خافق ومنه قوله: [الكامل] أعلمت ما أبكى الجفون وأسهرا ... برق أعار الأفق مرطا أحمرا

باتت تشام على البشام سيوفه ... فكأنما باتت تهزّ على الكرى وعلى الثنيّة من تنمّر حلّة ... ما إن يزال غيورها مستنمرا تذكى الولائد في متون يفاعها ... بالمندل الهندي نيران القرى ووراء أستار الخدور خريدة ... يمسي حماها بالرماح مستّرا سمراء تحسب أنها كافورة ... قد خالطت للطيب مسكا إذفرا ومنه قوله، يذكر أنابيب بركة تصعد الماء عاليا ثم تحدره نجوما، وتوشيه في جلباب اللّجّة الزرقاء رقوما، وهو: [البسيط] ترقى أنابيبها بالماء مصعدة ... حتى تفوت صعودا طرف رائيها تحكي رماح لجين طال شامخها ... قبّ السماء رشاش من عواليها منه قوله: [الرمل] وهبوا عيني إذا لم تصلوا ... نظرة من طيفكم يجلو قذاها ومحال أن ترى طيفكم ... عين صبّ فقدت فيكم كراها ومنه قوله: «1» [الكامل] يا سيّد الحكماء هذي سنّة ... مسنونة للناس أنت سننتها (103) أو كلّما كلّت سيوف جفون من ... سفكت لواحظه الدماء سننتها ومنه قوله يخاطب شريفا أتى مصر فنزل باللؤلؤة: [المنسرح] يا ابن رسول الله لم أدر ذا ال ... أمر الذي جئت به ماهوه عهدي باللؤلؤ في بحره ... وأنت بحر حلّ في لؤلؤه ومنه قوله يرثي الشيخ العارف علي الحريري: [الكامل]

34 - علي بن يحيى البطريق، البغدادي، الحلي

بكت السماء عليه ساعة دفنه ... بمدامع كاللؤلؤ المنثور وأظنّها فرحت بمصعد روحه ... لّما سمت وتعلّقت بالنور أو ليس دمع الغيث يجري باردا ... وكذا تكون مدامع المسرور ومنه قوله: «1» [الطويل] ودار لكم بالبان عن أيمن الحمى ... يلوح عليها نضرة وسرور كأنّ مواطي الخيل فيها أهلّة ... وآثار أخفاف المطيّ بدور ومنه قوله: [الطويل] لقد عادني من لاعج الشوق عائد ... فهل عهد ذات الخال بالسّفح عائد نديميّ من سعد أديرا حديثها ... فذكر هواها والمدامة واحد فديتك هل إلمامة من خيالكم ... تعود لقا قد ملّ منه العوائد وكيف يزور الطيف، لا الليل ساتر ... عليه، ولا الطرف المسهّد راقد وقوله: [السريع] ويوم قرّ بدا غيمه ... يلفّ قرص الشّمس في برده كأنّما الأرض وقد زلزلت ... تهتزّ للرّعدة من برده ومنهم: 34- عليّ بن يحيى البطريق، البغداديّ، الحليّ «13» الكاتب، نجم الدين، أبو الحسن. طلع نجمه عليّا، وجمع نظمه حليّا، وبرع أدبا فائقا، وذهبا نافقا، وكتب الإنشاء إلّا أنّه لم يكن لبيانه سحر يؤثر، ولا لجنانه

نهر يتدفق ولا كوثر، لتقصير وقع في قسمه، وقعد بنثره عن نظمه. وكانت له في الأيام الكامليّة (104) قدم صدق في الولاء، وقدم استحقاق في الأولياء. ومن شعره المحرّر الحالي لفظه، المكرّر، ما أنشده له ابن سعيد، وهو: «1» [البسيط] أعاذك الله من همّي ومن وصبي ... ولا لقيت الذي ألقى من العرب «2» فذا زماني أبو جهل، وذا جربي ... أبو معيط، وذا قلبي أبو لهب «3» وقوله: [الكامل] كن كالديار فكلّ مغنى منهم ... قد كان بعدهم جديدا أخلقا وتغيّرت صفة الغوير فلم يكن ... ذاك الغوير ولا النّقا ذاك النّقا وقوله في ابن أبي الحديد، عارض الجيش، وقد لبس خلعة خضراء، ماس في ورقها غصنه، وثارت فيها بسيوف جفونه فتنه: [مخلع البسيط] لما بدا مائس التّثنّي ... في خضر أثوابه تميد قبّلته باعتبار مغنى ... لأنّه عارض مديد وقوله وقد تقلّد راجح الحلّي سيفا محلّى ورمحا: «4» [الوافر] تقلّد راجح الحلّي سيفا ... محلّى واقتنى سمر الرّماح وقال الناس فيه فقلت: كفّوا ... فليس عليه في ذا من جناح

35 - ابن نجم الموصلي، شرف الدين

أيقدر أن يغير على القوافي ... وأموال الملوك بلا سلاح وقوله يشكو- وهو بالقاهرة- طلوعه كلّ يوم إلى القلعة الجبلية، ووقوعه لمعاناة تردّده إليها في بليّة: «1» [الخفيف] لي على الرّيق كلّ يوم ركوب ... في غبار أغصّ منه بريقي أقصد القلعة الخراب كأنّي ... حجر من حجارة المنجنيق فدوابي تفنى وجسمي يضنى ... هذه قلعة على التحقيق «2» ومنهم: 35- ابن نجم الموصلي، شرف الدين ولم أعرف اسمه. ما قصّر عن إحسان تبييض الصحيفة، ويعوّض النجوم بكلمه الشريفة. وصل جناح الموصل ذكره الجائل، وشعره الطّائل. وقد أنشد له ابن سعيد: [الكامل] (105) فالعضب أبتر والمثقّف ذابل وكلّ حنيّة مرنان ومنهم: 36- أيدمر المحيوي، فخر التّرك، أبو شجاع «13» مولى وزير الجزيرة. أثبت الفضل للتّرك وما ترك. وهاجم سيل الليل ولا درك، وواثب القرائح ففاز بالدّرك، ولزّ السّحائب فما قدرت على الحرك، وجمع عقد الجوزاء وقد انفرك، ونصر آل خاقان وعلى خدّه القاني دم المعترك، وصاد المعاني

ولام عذاره الشّرك، وساوت السيوف لحاظه والأجفان من المشترك. التقط الدّراري ونظمها عقودا، وأضرمها وقودا، وقسّمها صهباء عنقودا. وخلط سحر بيانه بسحر أجفانه، فجاء بسحر عظيم، ومدام لفظه بمدام لحظه، ولا غول فيها ولا تأثيم، وسلب بطرفه وطرفه، وكلاهما فتّان، ونزّه في شعره وشعره، وكلاهما بستان. والحبّ يشرب صفاؤه ورونقه، والحسن يظهر في شين رونقه. فآذن أن الترك لا ترامى ولا ترام، وأنّ الأقلام في أيديهم مثل السهام، وأنّ في بني يافث من يسمو بني سام، وأن الحسن لا ينفكّ عن أفنيتهم، والغصن لا يعقد عليه إلا ازرار أقبيتهم. وكان كعبة جمال يحجّ إليه، وصنم حسن لا تزال طائفة يعكفون عليه. وقلّ من لم يكن بشعره هائما، وعلى ثغره حائما، ومن بدائع نظمه ونثره السّاخرين، وبيانه وبنانه وما تظاهر عليه الساحران، ما أنشده له ابن سعيد، قوله: «1» [الكامل] وكأنّ نرجسه المضاعف خائض ... في الماء لفّ ثيابه في رأسه وأنشد له: «2» [الطويل] شكا رمدا جفن الأصيل إلى الدجى ... فكحّله ميل الظلام بإثمد ومن شعره: «3» [السريع] يا حبذا مجلسنا مجلسا ... قد حفّت النعمة جلّاسه يجلو علينا الغصن أعطافه ... زهوا ويهوي الزّهر أنفاسه

37 - ابن عربي، سعد الدين الدمشقي

ومنهم: 37- ابن عربي، سعد الدين الدمشقي «13» شاعر وصّاف، وبطل (106) يقدّم على الأوصاف، ومتفنّن ذلّلت عناقيده للقطاف، وحلّلت مدامته والسّاقي قد طاف، وطلعت دراريه وما أكنّتها الأسداف، وبرزت درره وما ولدها البحر ولا خبّأتها الأصداف. وكان يظهر التّهتّك وليس كفاك، ويشهر الغرام وما هو على ذاك. يتخيّل في كلّ طور حبيبا ما رآه، وجوى ما أقلّه ولا واراه. ومن بدائعه التي سبرها، ومحاسنه التي في كلّ حفظ سيّرها، وفي كلّ لفظ صوّرها، ما أنشده له ابن سعيد، وهو: [الطويل] وقالوا قصير شعر من قد هويته ... فقلت دعوني لا أرى فيه مخلصا محّياه شمس قد علت غصن قدّه ... فلا عجب للظّلّ أن يتقلّصا وأنشد له: [الكامل] عاينت في الحمّام بدرا مشرقا ... يرنو بمقلة شادن مذعور يرخي ذوائبه على أعطافه ... فيريك ظلا لاح فوق غدير ومن بديع قوله: [الكامل] وافى إليّ مع الظّلام مسلّما ... فلقيت منه نضرة وسرورا غصنا رأيت النور منه بثغره ... فضممته وقرأت منه النورا ومنه قوله: [الطويل]

وبدر بدا منه العذار كأنّه ... بقيّة ليل فرّ من وضح الفجر محوت بفرط اللّثم خطّ عذاره ... ألم تر ذاك المحو في صفحة البدر ومنه قوله في قصّار: [الكامل] أحببت قصّارا محاسنه ... شرك العقول ونزهة النفس أقسمت لولا أنّه قمر ... ما كان محتاجا إلى الشمس ومنه قوله: «1» [الخفيف] قيل لي جسم من تحبّ نحيل ... وهو مما يشينه فاسل عنه قلت: ما ذاك من سقام ولكن ... خفّة الرّوح أعدت الجسم منه (107) ومنه قوله: [الطويل] وبالنفس أفدي طلعة القمر الذي ... إذا ما انثنى كالغصن يا خجلة الغصن يخاطبني خوف الرّقيب بنفرة ... فيفهم قلبي غير ما سمعت أذني ومنه قوله: [الخفيف] هو لا شكّ واحد العصر في ال ... حسن ولكن قدّه يتثنّى رشأ أعربت عن السّحر عينا ... هـ وأجفانه على الكسر تبنى ومنه قوله: [الكامل] زعم العذول بأنّ قلبي قد سلا ... كلّا وحقّك هذا يتخيّل فهواك في طيّ الجوانح مودع ... وعليه من شفتيّ باب مقفل ومنه قوله: [الطويل]

أقول وقد وافى الرسول مخبّري ... بأن حبيبي قد أساء بي الظّنّا بعيشك ما أبدى الحبيب وقاله ... وما ظلّ يحكي قال لي الغصن اللّدنا ومنه قوله: «1» [الخفيف] يا خليليّ في الزيادة ظبي ... سلبت مقلتاه جفني رقاده كيف أرجو السّلوّ عنه وطرفي ... ناظر حسن وجهه في الزّياده ومنه قوله: [الكامل] قالوا الحلول بحيّزين لجوهر ... حكم عليه العقل غير مساعد هذا حبيبي وهو فرد حلّ في ... طرفي وقلبي في زمان واحد ومنه قوله: [مخلع البسيط] وربّ قاض لنا مليح ... يعرب عن منطق لذيذ إذا رمانا بسهم لحظ ... قلنا له دائم النفوذ ومنه قوله: [الطويل] كلفت بظبي ظلّ يقطف مشمشا ... على سلّم فيه اعتصام لهارب كذا البدر لولا أنّه في مسيره ... رقا درجا لم يتّصل بالكواكب (108) ومنه قوله: [السريع] شاهدت دولابا له أدمع ... تكفّلت للرّوض بالرّيّ فاعجب له من فلك دائر ... ما فيه برج غير مائيّ ومنه قوله: [السريع]

يا مانعي القبلة في خدّه ... فتّتت قلبي فهو مفتوت لا تخش أنفاسي ولا حرّها ... فإنّما خدّك ياقوت ومنه قوله: [الكامل] ماذا الذي تعني بقولك جوهر ... إذا الشيء أو عرض وقصدك يحضر جسدي هو العرض الذي أنكرته ... فافترّ، قلت له وهذا الجوهر ومنه في مجروح اليد: [الطويل] وبدر دجى في الكفّ منه جراحه ... يظنّ بأني في محبّته سمح فقلت له إن الدّموع شواهدي ... بأنّي من سكر المحبّة لا أصحو فقال: وما تغني شهود مدامعي ... لديّ إذا ما كان في يدي الجرح ومنه قوله في صانع تطماج: [المنسرح] أضحى يبيع التطماج بدر دجى ... يغرب في القلب كلما طلعا قلت وقد صفّه على طبق ... ما هذه؟ قال وما خدعا كنّ بدورا رامت مشابهتي ... فقطّعتها لواحظي قطعا ومنه قوله في حريري: [الوافر] أقول له ألا ترثي لصبّ ... عديم للمساعد والنّظير أقام ببابكم خمسين شهرا ... فقال: كذا مقامات الحريري ومنه قوله في حجّام: [الكامل] حاولت منه الوصل قال بشرط أن ... آتيك والرّقباء ليست تعلم كدّرت بالشّرط الوصال، فقال لي: ... أو ما علمت بأنّ شرطي مؤلم

(109) ومنه قوله في غلام اسمه سليمان: [الطويل] وبدر دجى ما زال ينشد طرفه ... عزيز أسى، من داؤه الحدق النّجل له وجنة تدمى من اللحظ رقّة ... يكاد بها ماء الشبيبة ينهل فهذا سليمان لرقّة خدّه ... إذا دبّ فيه النّمل كلّمه النّمل ومنه قوله: [الكامل] ناديت من أهواه وهو مقلّم ... أظفاره، يا نزهة المتأمّل فأجابني: أتظنني قلّمتها ... عن حاجة، لا بل لمعنى عنّ لي لأريك يا من بالهلال تقيسني ... إنّ الهلال قلامة من أنملي ومنه قوله في جواب أبيات جاءته من نظام الدين، ابن المولى: [الطويل] بعثت بأبيات إذا ما عرضتها ... بسوق ذوي الألباب ليس تسام فإن لحظتها منك عين عناية ... فهنّ لآل رأيهنّ نظام ومنه قوله مما كتب به إلى مجد الدين بن العديم: [الطويل] أمولاي مجد الدين ما زلت مسديا ... بقول وفعل كلّ فضل وإفضال أطوف بهذا العيد حولك داعيا ... لأنّك قد أصبحت كعبة آمالي ولّما بدا منك الصّفا جئت ساعيا ... إليك ولم أقطع مسافة أميال وغيري يسعى كي ينال بك الغنى ... وما أنا من يسعى بجاه ولا مال ولكنّما أسعى لمجد مؤثّل ... وقد يدرك المجد المؤثّل أمثالي ومنه قوله في دواة: [الخفيف] ودواة من أنفع الأدوات ... مصطفاة لما حوت من صفات إن عدت منبع الحياة فلا غر ... وفماء الحياة في الظّلمات

ومنه قوله في مؤذّن: [الخفيف] وبنفسي مؤذّن مذ سباني ... لم تفدني شكوى الغرام إليه كيف يصغي لما أقول حبيب ... واضع إصبعيه في أذنيه (110) ومنه قوله في قوّاس: «1» [السريع] قلت لقوّاس له طلعة ... من رام عنها الصّبر لم يقدر يا من له وجه كبدر الدّجى ... كيف تبيع القوس للمشتري ومنه قوله في طيوريّ: [مخلع البسيط] هذا الطيوريّ قلت يوما ... له ولم أرهب الأعادي يا جامعا صنف كلّ طير ... هل لك في طائر الفؤاد ومنه قوله فيمن يبيع قضامة: [الكامل] باع القضامة شادن ترف ... فاضت عليه مدامعي فيضا يا من قضامته مجوهرة ... الثغر منك مجوهر أيضا ومنه قوله: [مخلع البسيط] خاصمني من أهيم فيه ... ورام جرحي بما يبيد يا مالكي ما أقوله في ... واقعة بعدها الحديد ومنه قوله في نشّار: [الخفيف] أيّها البدر لو تواصلني اليو ... م لقاربت في وصالك سعدا ما وجدنا لحسن نشرك ندّا ... بل وجدنا لطيب نشرك ندّا

ومنه قوله يرثي رجلا يلقّب البدر، دفن بالشرف الأعلى: [البسيط] يا بدر إن كنت في ظلماء موحشة ... فالبدر في سدف والدرّ في صدف دفنت في الشّرف الأعلى ومن عجب ... هبوط بدر الدّجى في ذروة الشّرف ومنه قوله يصف شعر عون الدين سليمان، ابن العجمي: [الطويل] يقولون عون الدين أضحى لمجده ... قريض كروض باكرته عهاده فقلت لهم هذا سليمان عصره ... يدين له في كلّ معنى فراده إذا هو أمسى في القريض مفكّرا ... عرضن عليه بالعشيّ جياده ومنه قوله: [الكامل] أمبشّري ممن أحبّ بزورة ... أهلا وسهلا بالبشارة والهنا (111) ما كان أسمحني عليك بخلعة ... لو كان عندي حلة غير الضّنا ومنه قوله: [الكامل] عفت المدام سوى مدامة ريقه ... ذاك الرّحيق ختامه مسك اللّمى إن سمته خمر الرّضاب يقول لي ... أهممت أن تعصي؟ فقلت: اللّوّما

38 - أبو عبد الله الكردي

ومنهم: «1» 38- أبو عبد الله الكردي 1» مدرة حرب، وندرة أخدان، ما رقم بهم طراز شرب. فهمه مثل سيفه، كلاهما حدّ، ونظمه مثل سيبه، كلاهما ما له حدّ. وقفت له على شعر كثير، لم يعلق بخاطري منه شيّ، ولا أطلّ على أنهار صحفي منه ظلّ ولا فيّ، إلّا أنّه شاعر مجيد قادر على التوليد. لا يحضرني منه إلا ما أنشده له ابن سعيد، وهو وقوله: [الوافر] إذا ما اشتقت يوما أن أراكم ... وحال البعد بينكم وبيني بعثت لكم سوادا في بياض ... لأبصركم بشيء مثل عيني ومنهم: 39- جمال الدّين، يوسف بن البدر لؤلؤ، الذهبيّ 1» كما نسبوه الجوهريّ. واللؤلؤ أبوه، والبدر والده، أو هو جماله اليوسفيّ، أو أخوه. وأدبه أعبق في المجامع من النسيم، وأعلق بالمسامع من قرط الثّريّا في أذن الليل البهيم. أدخل على الخواطر من الأفكار، وأوضح للنواظر من رؤية النهار. وله في نوع التورية من البديع، ما أخمد وراة شراره من قدح، وفرغ الكأس وما أبقى سؤرا في القدح. وكان من شعراء ابن العزيز، عزيزا عنده مكانه، مجيرا له بما يسعه إمكانه، ومما أنشد له ابن سعيد قوله: [البسيط] والخيل قد نشرت من نقعها صحفا ... قامت كتائبها ما بينها سطرا

تملي علينا الرّدينيّات ما نظمت ... فيها ويملي علينا السيف ما نثرا ومن شعره: [البسيط] دع الفصاد إذا ما كنت مشتكيا ... بكلّ أحور في أعطافه ميل ولا ترق دمك القاني فحسبك ما ... تريقه بظباها الأعين النّجل (112) وقوله: «1» [السريع] حلا نبات الشّعر يا عاذلي ... لما يدلّ في خدّه الأحمر «2» فشاقني ذاك العذار الذي ... نباته أحلا من السّكّر وقوله في رفّاء: «3» [مجزوء الكامل] بمهجتي الرّفّا الذي ... فضح الذّوابل لينه لم يرف قلب متيّم ... قد مزّقته جفونه وقوله: [الكامل] والعيس مثل العاشقين مع النّوى ... حملت من الأثقال ما لم تحمل ولكم سبقت حداتهم بمدامعي ... حتى جعلت قطارها في الأوّل وقوله: «4» [السريع] هلمّ يا صاح إلى روضة ... يجلو بها العاني صدا همّه

نسيمها يعثر في ذيله ... وزهرها يضحك في كمّه «1» وقوله: «2» [السريع] أدر كؤوس الرّاح في روضة ... قد نمّقت أزهارها السّحب الطير فيها شيّق مغرم ... وجدول الماء بها صبّ «3» وقوله: «4» [السريع] فعاطني الصّهباء مشمولة ... عذراء فالواشون نوّام واكتم أحاديث الهوى بيننا ... ففي خلال الرّوض نمّام وقوله في غلام غرق: [المتقارب] أسلت الدموع إلى أن جرت ... وواراك تيّارها المغدق وأيّ غزال هضيم الحشا ... يحلّ العيون ولا يغرق وقوله: [الكامل] أحمامة الوادي بشرقيّ الغضا ... فغصونه في راحتيك وجمره في أضلعي فإذا هوى بك منزل مستوبل ... رفعتك هوج اليعملات الوضّع كلّفتها مسح الفيافي قسمة ... فلذاك تضرب أذرعا في أذرع عدها الحمى إن أرزمت وإذا ونت ... فإلى جناب ابن العزيز الممرع (113) وانظر أساريرا تلوح فإنّها ... في كفّه طرق النّدى المتنوّع

وقوله: «1» [مجزوء الكامل] رفقا بصبّ مغرم ... أبليته صدّا وهجرا وافاك سائل دمعه ... فرددته في الحال نهرا وقوله: «2» [مجزوء الرجز] وروضة دولابها ... إلى الغصون قد شكا من حيث ضاع زهرها ... دار عليه وبكى وقوله: [مخلع البسيط] ما نظرت مقلتي عجيبا ... كاللوز لما بدا نواره اشتعل الرّأس منه شيبا ... واخضرّ من بعد ذا عذاره وقوله: «3» [الطويل] وبتّ أعاطيه الحديث منمّقا ... وبات يعاطيني العتيق مشعشعا «4» ولم أدر أنّ الصّبح كان مراقبا ... لنا من وراء الليل حتى تطلّعا وقوله: [السريع] ولا تعذلوني في هوى شادن ... هويت طرفا منه سحارا لو لم يكن حبّي من حسنه ... يحسده النّجم لما غارا وقوله: «5» [الخفيف]

وجنان ألفتها حين غنّت ... حولها الورق بكرة وأصيلا «1» نهرها مسرعا جرى وتمشّت ... في رباها الصّبا قليلا قليلا وقوله، وفيه زيادة على المتداول: [الطويل] جنبنا إلى العيس الجياد جوامحا ... سوامي الهوادي أن تنال فتلجما يريك بدورا وطؤها وأهلّة ... وآونة من قدحها الصّخر ألجما وقوله: [الطويل] في جنّة أضحى الأقاح مدرهما ... في جانبيها والبهار مدنّرا لمّا تشعّب ماؤها بين الرّبا ... عبثت به أيدي الصّبا فتكسّرا وقوله في قريب منه مع العكس: [الكامل] (114) وحديقة مطلولة باكرتها ... والشمس ترشف ريق أزهار الرّبا يتكسّر الماء الزّلال على الحصا ... فإذا غدا نحو الرّياض تشعّبا وقوله [الكامل] لم أنسه إذ قال أين تحلّني ... حذرا عليّ من الخيال الطّارق فأجبته: قلبي. فقال تعجّبا: ... أسمعت قطّ بساكن في خافق قوله: [الطويل] لقد بتّ عند الفارس النّدب ليلة ... وما غرّني إلّا شقائي وأطماعي فبتّ أقاسي البرد في طول ليلتي ... مغطّى كرأس القنّبط بأضلاعي وقوله: [الكامل]

ومعذّر قد بايتته جماعة ... وفّوا بما وعدوه عند الليل واكتاله كلّ هناك وما رأى ... منهم سوى حشف وسوء الكيل وقوله: [الطويل] وعلّقته سيفا من البيض مرهفا ... بغير حلاه لم أكن أتقلّد أبيت ولي من ساعديه حمائل ... على عاتقي في الليل وهو مجرّد وقوله: [الطويل] يكلّفني العذّال صبرا وقد قضى ... لي الله عنه الصبر ليس يكون وما كان إلا الرّوض نشرا وبهجة ... فلا غرو أن تجري عليه عيون وقوله من قصيدته الزّائية الزّاهية، الآمرة الناهية، التي حلّق إليها كلّ شاعر في زمانه، فوقع وسار وراءها، ولكنّه من نصف الطريق رجع: [الطويل] فأتبعتهم طرفا إلى الجزع باكيا ... وراء المطايا لا بكيّا ولا نزّا وقلت لحادي العيس رفقا بمدمعي ... وبالعيس لا تفني قطاريهما لزّا وفي الكلّة الحمراء بيضاء غادة ... مريضة لحظ العين مملوءة عجزا تسارقنا باللحظ خوف رقيبها ... فآونة شزرا وآونة غمزا (115) وقوله مما كتب به إلى بعض أصحاب جمال الدين أحمد المصري النحوي يعزيه فيه: [الطويل] عزاؤك زين الدين في الذاهب الذي ... بكته بنو الآداب مثنى وموحدا هم فارقوا منه الخليل بن أحمد ... وأنت ففارقت الخليل وأحمدا وقوله عند عبور الملك الظاهر الفرات: [مجزوء الخفيف] ظنّ أن يحفظوا الفر ... ات ببيض الصّفائح

كيف يحمونها وقد ... جاءها كلّ سائح وقوله: [البسيط] ولاح كأس الثّريّا في مشارقه ... ملوّحا من شعاع ساطع ذهبا وللبروق وميض في الغمام حكى ... تحت العجاج سيوف الناصر القضبا له يد لا عدمناها يفيض بها ... بحر فلم ذا يباري جودها السّحبا يد تلاقت يراعات بها وفتى ... أنّى تجارى وحازت ذلك القصبا وحدّثني شيخنا أبو الحسن الكندي، عن بعض من خرج معه يوما، حين تقشّعت الحرور، وطفت نارها الشّعرى العبور، وبدا سهيل يزهر في الصباح كالقنديل، وأثمر كلّ غصن في جانح كلّ أصيل، وباكر الدهر بسرّائه، وكفّ بأس بأسائه، وتقدمت الشّتاء آلاؤه، وعطف تشرين فرقّ جوّه وماؤه، وطاب المقيل في برد أفيائه، وترقرقت على صفحات النهر دمعة أندائه، وأتى الخريف مخلّفا زرع الزعفران، ناشرا من ذهبيّاته مصبغات الألوان، والأترجّ كأنّه عاشق مدنف، والسّفرجل كأنّه وجل مخطّف، والرّمّان كأنّه من صافي الذهب أكر، والتفاح كأنّه جامد الراح أو خدود تلك الشجر، والنسيم قد كرّ من طراد أيلول وأتى مبشّرا بالغمام كذيل الغلالة المبلول، والأرض تتوقع الشتاء توقّع المأمول، وتنتظر الغيث انتظار المحبّ عود الرسول. والنّبت قد صحت مقل نرجسه، ولم يبق منها ناظر إلّا (116) وهو بالطّلّ مكحول. إنه لما رأى تلك المحاسن الأشتات، اهتزّ إعجابا بفصل الخريف، وما جمع منها زمانه، وأبدع في تأليف ألوانها أوانه، فقال: [الكامل] رقّ النّهار وراقت الأنهار ... وسرى النسيم وغنّت الأطيار وأتى الخريف مبشّرا بصبوحه ... فتخلّقت لقدومه الأشجار

وثنى معاطفه الخليج وصفّقت ... أمواجه وتراقص التّيّار ودعا إلى شرب الأصائل والضّحى ... في كلّ واد بلبل وهزار واجنح لحانة كرمة في ظلّها ... الرّاح بكر والدّنان عشار واشرب على ذهبيّة الأوراق من ... ذهبيّة بيد السّقاة تدار قد أينعت وتألّفت فكأنّما ... هي جلّنار للنديم ونار عذراء رقّصها المزاج بحلّة ... في طوقها من لؤلؤ أزرار وقوله: [الكامل] ومن التّعلّل أنني أرجو الصّبا ... تغدو تبثّ تحيّتي وتروح أو أطلب الأحباب بين معاهد ... قد ضاع فيها رندها والشّيح وقوله: «1» [الكامل] وبمهجتي المتحمّلون عشيّة ... والرّكب بين تلازم وعناق وحداتهم أخذت حجازا بعدما ... غنّت وراء الظّعن في عشّاق «2» وتنبّهت ذات الجناح بسحرة ... في الواديين فنبّهت أشواقي «3» أنّى تباريني جوى وصبابة ... وكآبة وأسى وفيض مآقي «4» وأنا الذي أملي الجوى من خاطري ... وهي التي تملي من الأوراق ولقد صفحت عن الزّمان لليلة ... عدل الحبيب بها وجار الساقي وقوله: «5» [الرمل]

ورياض وقفت أشجارها ... وتمشّت نسمة الرّيح إليها «1» طالعت أوراقها شمس الضّحى ... بعد أن وقّعت الورق عليها (117) وقوله: «2» [السريع] جاء الشتاء الغثّ مستعجلا ... مبادرا بالغيم والغمّ «3» وفصله البارد قد جاءني ... منه بكانون بلا فحم وقوله: «4» [السريع] إن تمادى الغيث شهرا هكذا ... جاء بالطوفان والبحر المحيط «5» ما هم من قوم نوح ياسما ... أقلعي عنهم فهم من قوم لوط وقوله: «6» [المجتث] يا عاذلي فيه قل لي ... إذا بدا كيف أسلو يمرّ بي كلّ وقت ... وكلّما مرّ يحلو وقوله: [المنسرح] يا شادنا كلّما مررت به ... يخفق قلبي له ويضطرب قد قمت بالقلب في هواك ضنى ... وإنّما قمت بالذي يجب

قوله: «1» [المتقارب] أيا صاح أشكو إليك الخمار ... وما فعلت بي كؤوس العقار «2» وجور سقاة الكؤوس التي ... ترينا الكواكب وسط النّهار «3» وقوله: [الرمل] وحمام الأيك في الأشجار قد ... بثّت الأشجان فيها والغراما والصّبا معتلّة من طول ما ... حمّلت من كلّ مشتاق سلاما وقوله: [البسيط] وحفتيان الذي غرّ العدى طمع ... فيها فأهلكتهم في نيلها الغرر رام العدى لك دفعا عن جوانبها ... وكيف يدفع سيل وهو منحدر وقوله: [الطويل] وما ذهبت شمس الأصيل تحيّة ... إلى الغرب حتى ذهبت فضّة النهر وأمسى أصيل اليوم ملقى من الضّنا ... على فرش الأزهار في آخر العمر وقوله: [السريع] لنا حديث يا حمام الحمى ... توضحه الأشجان أيّ اتّضاح (118) ألفت غصنا وأنا في الهوى ... فقدت غصنا وأطلنا النّواح فهات طارحني فكلّ غدا ... منّا على غصن تغنّى وناح وقوله: [الكامل]

وسريتم طوع النّوى ورجعتم ... وكذا الكواكب سيرها ورجوعها ما كنت أعلم أنّ دائرة النّوى ... فيكم وفي أكبادنا تقطيعها وقوله: [الطويل] وأهيف طرفي منه في جنّة غدا ... وقلبي من أعراضها في جهنّما أغنّ يريك الغصن من لين قدّه ... قويما ويبدي زهره أن تبسّما وقوله: [الخفيف] ورشيق القوام حلو التّثنّي ... والثّنايا مهفهف أملود هو بدر قبلت فيه ومن ما ... ت ببدر مثلي فذاك شهيد وقوله في كحّال كحّل غلاما حسنا غدوة يوم، ثم مات الكحّال مساء يومه: «1» [الكامل] يا قوم غلط الحكيم وما درى ... في كحله الرّشأ الغرير وطبّه «2» وأراد أن يمضي نصال جفونه ... لتصيبنا بسهامها فبدت به وقوله: «3» [مجزوء الرمل] ربّ ناعورة يوم ... بات يندى ويفوح تضحك الأزهار منها ... وهي تبكي وتنوح وقوله: [مجزوء الكامل] إنّ الذين ترحّلوا ... نزلوا بعيني الناظره

أنزلتهم في مقلتي ... فإذا هم بالساهره وقوله يخاطب رجلا أحبّ غلاما يلقّب بالجارح: «1» [مجزوء الخفيف] قلبك اليوم طائر ... عنك أم في الجوانح كيف ترجو خلاصه ... وهو في كفّ جارح ثم قوله وقد بلغه أن ذلك الرجل قال: خلص الطائر: «2» [الكامل] (119) خلّصت طائر قلبك المضنى هوى ... من جارح يغدو به ويروح «3» ولقد يسرّ خلاصه إن كنت قد ... خلّصته منه وفيه روح ومنه قوله في غلام ورّاق: «4» [الطويل] خليليّ جدّ الوجد واتصل الأسى ... وضاقت على المشتاق في قصده السّبل وقد أصبح القلب المعنّى كما ترى ... معنّى بورّاق وما عنده وصل ومنه قوله يشكو غرفة كان يسكنها، والحرّ يلفح هجيره، ويتوقّد سعيره: مولاي أشكو غرفة في ناجد ... كالنار تلفح بالهجير اللافح عزّ النسيم بها فليس بسانح ... وخلا الذباب بها فليس ببارح ومنه قوله: «5» [مخلع البسيط] عرّج على الزّهر يا نديمي ... ومل إلى ظلّه الظّليل

فالغصن يلقاك بابتسام ... والرّيح تلقاك بالقبول «1» ومنه قوله: «2» [مجزوء الكامل] الزهر ألطف ما رأي ... ت إذا تكاثرت الهموم تحنو عليّ غصونه ... ويرقّ لي فيه النّسيم ومنه قوله، وقد استسقوا فلم يسقوا: [الكامل] لما بدا وجه السماء لهم ... متجهّما لم يند أنواء قاموا ليستسقوا الإله لهم ... غيثا فما أسقاهم الماء ومنه قوله في عامل كان بالجامع المعمور، سعى في تأخير رواتب النّاس: [الكامل] أضحى بديوان المصالح عامل ... ما سرّني أن ليس فيه سنان بطلت رواتبنا عليه وإنّما ... قد قام في بطلانها البرهان ومنه قوله: [الكامل] عرّج بوادي النّيربين بنا وقف ... فيه بحيث تلاقت الغزلان وانظر إلى جنّاته العليا التي ... شبّ القضيب بها وشاب البان (120) ومنه قوله: [البسيط] يا سيّدي شرف الدين الجواد أتت ... إليك أبكار أفكاري ولم تقف فهاك ألفاظها إن لم تكن دررا ... فإنّها أنجم سارت إلى الشّرف ومنه قوله: [المجتث]

40 - محمد بن محمد بن إبراهيم بن الخضر، الطبري *

يا ذا النّدى والمعالي ... نسيت وعدي شهورا قد كنت تنسى قليلا ... فصرت تنسى كثيرا ومنه قوله: ملغزا في فحم: [الوافر] وما أحوى له قدّ إذا ما ... أردنا وصفه قلنا قضيبا تبيت به القلوب إذا قلاها ... على جمر يذيب به القلوبا أحنّ إليه إن هبّت شمالا ... وأذكره إذا هبّت جنوبا به حرق وبي حرق إليه ... وأرجو أن أزاد به لهيبا وكم أبدى لنا نارا يبيسا ... وقدما كان يخفيها رطيبا عريق الأصل سوّده أبوه ... ولم يك في مغارسه نجيبا ومنه قوله: [الكامل] يا حسنه في الجيش حين غدا ... يختال بين السّمر والقضب لم ألق أحلى من شمائله ... في العين لما سار في القلب ومنهم: 40- محمد بن محمد بن إبراهيم بن الخضر، الطبريّ* الآمليّ المحتد، الحلبيّ المولد، المهذّب، أبو نصر الحاسب. حاسب لو شاء لأحصى الأرض مساحة، وقسّم البرّ والبحر بالراحة، لا يعزب عنه في الحساب مثقال ذرّة، ولا في السحاب إذا أراد عدّة قطرة. لو همّ بجمع رمل عالج لأحصاه، أو حصر شجر ضارج لاستقصاه. ذكيّ فهم، وطالب علم نهم. لا يشوب

الانتقام عفوه، ولا يكدّر ما في ضريح الغمام صفوه. تخيّله المصدّق المكذّب، وشعره وافق اسمه المهذّب. لو رقا الصخر للان له قاسيه، أو دعا الجليل لخضع له راسيه. (121) لو زاد المطر لأمسك عقوده الواهية، أو صاد الحجر لأنبطه عيونا جارية. وأنشد له ابن سعيد: [الطويل] جننت فعوّذني بكتبك إن لي ... شياطين شوق لا يفارقن مضجعي إذا استرقت أسرار وجدي تمردا ... بعثت عليها في الدّجى شهب أدمعي ومنه قوله: [السريع] هذا هلال كهلال الدّجى ... من شعره قد لاح في غيهب إن عطف الصّدغ على خدّه ... فانظر إلى المرّيخ في العقرب ومنه قوله: [السريع] وشادن أبصرته راكبا ... في كفّه جوكانه يلعب كالبدر فوق البدر في كفّه ... هلاله والكرة الكوكب ومنه قوله: [البسيط] وشادن ذي عذار كنت أعشقه ... فصار يحلق لما طغى الشّعر فاليوم قد زار موسى طور عارضه ... وكان بالأمس في أرجائه الخضر ومنه قوله: [الكامل] ومهفهف ريحان نبت عذاره ... في ورد خدّيه الجنيّ الأحمر أصلى بنار الخدّ عنبر خاله ... فبدا العذار دخان ذاك العنبر ومنه قوله: [الكامل] ومعود صيد الطيور بكاسر ... والعاشقين بكسر طرف لائح

41 - نور الدين الأسعردي

هيهات أفلت من هوى متقنّص ... أبدا بجارحة يصيد وجارح ومنه قوله في مليح يعمل التكك: [السريع] يا بائع التّكّة في سوقه ... محكمة بالظفر والعقد ما حاجتي إلا إلى تكّة ... تحلّها في خلوة عندي ومنهم: 41- نور الدين الأسعرديّ «13» ذو سخف حجّ ابن الحجاج، وهبّر ابن (122) الهبّارية، ألبد البديع الهمدانيّ، وهرّ نافخا في وجه الوهراني. وأتى بكلّ حلو إحماضه، وبكلّ تبسّم إيماضه، لو هزّأ بالنّجوم لأطفأ مصابيحها الزّاهية، أو هجا البدر المنير لرماه بداهية. وكانت بينه وبين بني العديم مودة ما تقطّعت أسبابها، وتصرّمت لهم أيام مضى طيبها وبقيت آدابها. ومما أنشده له ابن سعيد: [الطويل] ولم أر شمسا قبلها في زجاجة ... مكلّلة من نفسها بنجوم وتنظر من ستر الزجاج كأنها ... سنا البرق يبدو من دقيق غيوم ومن شعره قوله يعتذر عن هفوة، وكان قد أضرّ: [الوافر] أيا ملكا له ظلّ ظليل ... يقال به ويولي كلّ نعمى أقلني إن عثرت أريك سهوا ... فأولى ما يقال عثار أعمى

وقوله: «1» [الطويل] سباني معسول المراشف عاسل ال ... معاطف مصقول السوالف مائد يروم على أردافه الخصر مسعدا ... «إذا عظم المطلوب قلّ المساعد» «2» وقوله: [السريع] قال وقد قصّرت في نيكه ... سدّ فضا مبعري الواسع فقلت يا مولاي عذرا فقد ... «اتّسع الخرق على الراقع» وقوله: [البسيط] وجئته طائعا أبغي البراز له ... فقال: دعني فقد ضاقت بي الحيل فقلت صبرا على ما قد بليت به ... فظلّ ينشدني والدمع ينهمل يحتاج من عرف الجمّال منزلة ... يوسّع الباب حتى يدخل الجمل وقوله: [المتقارب] سألت الوزير أتهوى النّساء ... أم المرد جاروا على مهجتك فقال وأبدى الخلاعة لي ... كذا وكذا قلت: من زوجتك؟ وقوله: [البسيط] لما ثنى جيده للسكر مضطجعا ... وهنا ولولا شفيع الرّاح لم ينم (123) دببت ليلا عليه بعد هجعته ... شكرا فقل في دبيب النّور في الظّلم وقوله: [المجتث] هذا النّصير عجيب ... يا ويحه كم ينيك

42 - جمال الدين بن خطلخ، الأموي

مؤذّن لا يصلّي ... كأنّما هو ديك وقوله: [الخفيف] قلت يوما للصدر هل تث ... بت البعث وتنفي إنكارهم للحشر قال: أثبتّ. قلت: ذقنك في استي ... قال: أنفي فقلت: في وسط جحري وقوله: [الخفيف] لا تقولوا تدري النّصارى حسابا ... ليس تدري غير علم الخباثه كيف يدري الحساب من جعل الوا ... حد سبحانه بجهل ثلاثه ومنهم: 42- جمال الدين بن خطلخ، الأمويّ فرع من ذلك الأصل سمق، وجواد على العرق سبق. بقية من علوم بها الأعداء أقرّت، وحلوم مثل الجبال استقرّت. نطق فأبانت أمويته عن أنسابها، وأنابت قريش لآدابها، وأنامت معد لا تسفه أحلامها، وأنالت كنانة ما تخفق عليه أعلامها. ونفح محاضرة من عبد شمس هاشم، ولحا مجالسة من قصيّ قصارى كل اسم. ومن شعره ما أنشده له ابن سعيد، وهو قوله: [السريع] صابونه في راحتي منعم ... أصبحت السّحب له حسّدا تلاطم البحران في صدرها ... فأصبح الموج بها مزيدا

43 - يحيى بن يوسف بن يحيى، الصرصري، الفقيه، الحنبلي

ومنهم: 43- يحيى بن يوسف بن يحيى، الصّرصريّ، الفقيه، الحنبليّ «13» فقيه أديب، ومحبّ ما مثل حبيبه حبيب. جعل المدائح الشريفة النبويّة- زادها الله شرفا- فري قريحته، ودأب أيامه، في مسائه وصبيحته. ملأ صحائفه بحسناتها، وملأ بطيبها أسماع حداتها، حتى عرف بولوج ذلك الباب، وولوع قلبه بما تتهافت عليه الألباب، وقرّ في كلّ خاطر هيامه بساكن ذلك الحمى، وقيامه في كنف الذي به احتمى. وكان منور البصيرة، وإن أظلم منه البصر، طويل الباع (124) في وصف هواه وإن اقتصر. بان شوقا إلى المحلّ النازح، ويحنّ إلى من حنّت إليه المطيّ الرّوازح. وكان من الفقهاء الحنابلة المبالغين، وقصيدته العينية التي أولها: «1» [الطويل] تواضع لربّ العرش علّك ترفع ناطقة، وحلّل الإطناب في محاسنه. هذا إلى ما لا شكّ فيه، ولا ريب في فضله الذي لا يدّعي مكثر أنه يوفّيه، مما كان به من ثوب الصّلاح مرتديا، وإليه من حسن الثواب مهتديا. وقد وقفت له على مدائح ليست من المشرفات المحمدية، ولا مما تقي نار الخطوب كراماتها الأحمدية. ومن طرره المقوم للتشريف المنظوم في المديح الشريف، قوله: «2» [البسيط] يا سائق الرّكب لا تعجل فلي أرب ... فوق الرّواحل حالت دونه الحجب

لعلّ بدر الدّجى يرخي اللّثام لنا ... عن عارضيه فيشفى الواله الوصب ماذا على ظاعن شطّ المزار به ... لو أنّه في الدّجى يدنو ويقترب أحبابنا إن تكن أيدي النّوى عبثت ... بشملنا فهو بالتفريق منتهب فإنّ حبّكم وسط الحشاشة لا ... تناله غير الأيام والنّوب هلّا عطفتم على صبّ بكم فعلت ... به سطا البين مالا تفعل القضب «1» فؤاده نازح مستأنس بكم ... وجسمه وهو بين الأهل مغترب ما هبّ من نحوكم في الصّبح نشر صبا ... إلا وهزّ إليكم عطفه الطّرب ولا ترنّم قمريّ على فنن ... إلا وظلّ من الأشواق ينتحب يحنّ نحو الحمى إذ تنزلون به ... وليس بينهما لو لاكم نسب وإن جرى ذكر سلع في مسامعه ... فإنه لدواعي وجده سبب سحّت غمائم أنوار المزيد على ... قبابه البيض سحّا دونه السّحب «2» فهي الشّفاء لأسقامي وساكنها ... هو الحبيب الذي أبغي وأطّلب يا ناقتي لا تغشّاك الضّلال ولا ... مسّ القوائم منك الأين والنّصب سيري إلى أن تحلّي ربع أفضل من ... في الأرض شدّ إلى أقطاره القتب محمد خير مبعوث بمرحمة ... من خير بيت عليه أجمع العرب (125) عف كريم السجايا من سلالة إب ... راهيم أكرم خلق الله منتجب مهذّب طاهر طابت أرومته ... وطاب بين الورى أمّ له وأب به هدى الله قوما صدّهم سفها ... عن الهدى الخمر والأزلام والنّصب «3» أتاهم بكتاب صدّق الصّحف ال ... أولى كما صدّقت آياته الكتب فأخرج الناس من ليل الضّلال به ... إلى صباح رشاد ليس يحتجب

دعا إلى الله ربّ العرش وهو على ... بصيرة لا يغطّي نورها الرّيب وقوله: «1» [الخفيف] لو وفى مولع بليّ العدات ... لم تخنّي الدموع بين العداة ناظر بالبكاء أضحى حسيرا ... وحشا تنطوي على الحسرات أتمنّى أرض الحجاز ودوني ... حاجز من صوارف النائبات كلّما أهدت النسيم عبيرا ... من رباها أجود بالعبرات آه للبارق التّهاميّ أذكى ... لي على أبرق الحمى زفراتي طال شوقي إلى منازل فيها ... يقصر الهمّ مثل قصر الصلاة فوق خوص تفري جيوب الدياجي ... باجتياب المهامه المقفرات طالبات البرّ في قطعها البر ... رو فلي البيداء والفلوات «2» فهي في الآل كالأجادل تهوي ... بل ترى كالمجادل المشرفات وإذا ما ونت تعرّض حادي ... ها بذكر الحمى غدت طائرات «3» فهي تطوي صعب الفلاة بأسرا ... ر الهوى لا بطيبة النغمات وعليها شعث النّواصي تواصوا ... في سبيل الهدى بحسن الثبات وأجدّوا بمسجد الخيف عهدا ... وأقاموا للرمي بالجمرات ثمّ حلّت بأرض طيبة ربعا ... فيه أضحت معادن الطيّبات النبيّ الهادي البشير أبو القا ... سم ذو البيّنات والمعجزات وقوله: «4» [الكامل]

(126) لي بين سلع والعقيق عهود ... بلي الشّباب وذكرهنّ جديد «1» أيّام أرفل في جلابيب الصّبا ... وعليّ من خلع الوصال برود كلّ الليالي للمحبّ بجوّه ... ليل التمام وكلّ يوم عيد إنّ امرأ يمسي ويصبح عاكفا ... بجنابه العطر الثّرى لسعيد تدنيه بالآمال أحلام الكرى ... منّي وإنّ مزاره لبعيد إن متّ من شغفي به وصبابتي ... فقتيل أسياف الفراق شهيد كيف اللّقاء ودون من أحببته ... وعر الحجاز ومن تهامة بيد وقوله: «2» [الخفيف] يا ولاة الفلا ذميلا ووخدا ... كيف خلّفتم العذيب ونجدا «3» هل جرى بعدنا النسيم مريضا ... في ثراه فهزّبانا ورندا أم كست من رباه أيدي الغوادي ... كلّ عطف من الأزاهير بردا «4» خبّروني كيف الحجاز وهل مر ... رت بأعلامه الرّكائب تحدا «5» وقوله: «6» [البسيط] ماذا أثار بقلبي السّائق الغرد ... لما انبرت عيسه نحو الحمى تخد «7» وددت لو أنني أصبحت متّبعا ... آثارها أرد الماء الذي ترد

أهوى الحجاز ولولا ساكنوه لما ... حلا بنجد لي التّهجير والنّجد ولا اطّباني برق في أبارقه ... كأنه صارم في متنه ربد «1» هل من سبيل إلى ذات السّتور ولو ... أنّ الظّبا والقنا من دونها رصد «2» ففي هواها قليل أن يطلّ دمي ... وكم لها من قتيل ما له قود وبالعقيق حبيب لو بذلت له ... روحي لكان يسيرا في الذي أجد وقوله: «3» [الكامل] ذكر العقيق فهاجه تذكاره ... صب عن الأحباب شطّ مزاره وهفت إلى سلع نوازع قلبه ... فتصرّمت بين الجوانح ناره (127) شغفا بمن ملك الفؤاد بأسره ... وبودّه أن لا يفكّ إساره يا من ثوى بين الجوانح والحشا ... مني وإن بعدت عليّ دياره عطفا على قلب بحبّك هائم ... إن لم تصله تقطّعت أعشاره «4» وارحم كئيبا فيك يقضي نحبه ... أسفا عليك وما انقضت أوطاره ما اعتاض من سمر الحمى ظلّا ولا ... طابت بغير حديثكم أسماره «5» هل عائد زمن تضوّع نشره ... أرجا ورقّت بالرّضى أشجاره «6» يحمي النّزيل وكيف لا يحمي وقد ... حفّت بجاه المصطفى أقطاره وقوله: «7» [الكامل]

سلوان مثلك للمحبّ عزيز ... وعليك لوم الصّبّ ليس يجوز قلبي ذلول في هواك ومسمعي ... فله عن اللّوّام فيك نشوز يا من شأى بجماله شمس الضّحى ... ولقدّه دان القنا المهزوز هل للمتيّم في وصالك مطمع ... فلعلّه بالقرب منك يفوز أنا عبدك الرّاضي برقّي فارضني ... عبدا فلي في ذلك التمييز لا عار يلحق في هواك لعاشق ... ومحبّ غيرك عرضه مغموز «1» لا أدّعي فيك الغرام مغمغما ... في مثل حبّك يكشف المرموز نظم القريض بمدح غيرك نقده ... زيف ونظم مديحك الإبريز «2» كلّ العروض بحسن مدحك كامل ... يحلو به المقصور والمهموز وقوله: «3» [الكامل] إن بان من تهوى وأنت مثبّط ... وصبرت لا تبكي فأنت مفرّط فاحلل عقود الدّمع في دار الهوى ... فلها البكاء عليك حقّ يشرط «4» طلّ الدموع على ثرى الأطلال في ... شرع الغرام فريضة لا تسقط دار علقت بها وفودك فاحم ... أفتنثني عنها ورأسك أشمط كيف التّسلّي عن هوى بدر له ... في القلب منّي منزل متوسّط «5» (128) وقوله: «6» [الكامل]

لوم المحبّ عليك ليس يسوغ ... فلم العذول عن الصّواب يروغ يتجرّع المشتاق فيك تستّرا ... غصص الملام ولا يكاد يسيغ وقوله: «1» [الوافر] دموع العين موعدك الفراق ... هنالك ما خزنت أسى يراق «2» أيا ركب الحجاز هديت رفقا ... بقلب هائم معكم يساق عجبت له يحلّ بذات عرق ... بهمّته ومنزله العراق ويسكن أرض نعمان اشتياقا ... ولم تشعر بمسراه النياق وقوله: «3» [الكامل] من غير سنّة حبّهم خذ واترك ... وسوى طريقهم تعدّ أو اسلك واصبر على فتكات صارم حبّهم ... لا فخر للهنديّ إن لم يفتك والبس بهم ثوب النّحول فإنّه ... لا يخلص الإبريز إن لم يسبك شرف القلوب دخولها في رقّه ... والعبد يحوي الفخر بالمتملّك «4» وقوله: «5» [البسيط] ركب الحجاز ومنك الخير مأمول ... هل عندك اليوم للمشتاق تنويل هل ربّة السّتر بعد النّأي دانية ... أم حبلها بعد طول القطع موصول أم هل تحلّ مطايانا بساحتها ... وربعها الرّحب بالأحباب مأهول «6»

44 - الحسام الحاجري

يلبزن صمّ الحصا لبزا كأن دمها ... خطّ عليه فمنقوط ومشكول تحنّ شوقا وأنّى لا تحنّ إلى ... حمى الرسول النجيبات المراسيل حللتها فحلا عندي الغرام بها ... ثم انصرفن وفي قلبي عقابيل وقوله: «1» [البسيط] أحبابنا إن ونت عنّي رسائلكم ... فإنّ أنفاس وجدي نحوكم رسل (129) وإن تشاغل غيري عنكم يهوى ... فما لقلبي سوى تذكاركم شغل ومنهم: 44- الحسام الحاجريّ «13» وهو أبو الفضل، عيسى بن سنجر بن بهرام بن جبريل بن خمارتكين بن طاشتكين، الإربليّ. ممن تسمّى في الأفراد، وينمى في نسبه إلى الأكراد. وكان من أهل الجنديّة وذوي الفضل. ولابن خلكان به صحبة، وكان يكثر في سوم شعره، ويؤثر السحر من شعره. وقتل بعد الثلاثين وستمائة. رزق عليه بعض أعدائه، وزرّ عليه طوقا من القتل سلبه من ردائه. وشعره سهل الخلائق، دمث الجانب، كأنّه الرّوض دبّجت الشقائق. ومنه قوله: «2» [الكامل] لم لا يشنّ على فؤادي غارة ... والخدّ من زرد العذار ملبّس

يتنفّس الصّعداء قلبي كلما ... عاينت صبح جبينه يتنفّس «1» ملك الفؤاد بعارض وبمقلة ... حار البنفسج فيهما والنّرجس كيف السبيل إلى السّلوّ ولي حشا ... أضحى يقوم بها الغرام ويجلس قد صيّر الخدّ البكاء حفائرا ... فإذا جرت فيه المدامع تيبس لا تخش ثأرا حيث خدّك ناطق ... يدمى عليك فلي لسان أخرس وقوله: «2» [الطويل] بحقّكم يا جائرين تعطّفوا ... فقد رقّ لي من هجركم كلّ شامت «3» وقوله: «4» [الخفيف] جسد ناحل وقلب جريح ... ودموع على الخدود تسيح وحبيب جمّ التّجنّي ولكن ... كلّ ما يفعل المليح مليح «5» وقوله: «6» [الطويل] ولم أنسه كالبدر ليلة زارني ... يميس كغصن البان وهو رطيب فبتنا ولا واش سوى طيب نشره ... علينا ولا غير النجوم رقيب وقوله: «7» [الكامل]

وعلى الكئيب ولا أصرّح بالهوى ... من لا يلمّ بقلبه الإشفاق «1» (130) ما كنت أعلم قبل يوم فراقهم ... أنّ الحمام قطيعة وفراق وقوله: «2» [الطويل] رعى الله ليلات بطيب حديثكم ... تقضّت وحيّاها الحيا وسقاها فما قلت إيها بعدها لمسامر ... من الناس إلا قال قلبي آها «3» وقوله: «4» [الطويل] وبي ثمل ما ماس إلا وأطرقت ... حياء له السّمر الذّوابل والقضب «5» يعاتبني والذّنب في الحبّ ذنبه ... فيرجع مغفورا له ولي الذّنب وقوله: «6» [الخفيف] قلت لما بدا يرنّح عطفي ... هـ كغصن الأراكة الميّاد قد سرقت الرّقاد قال مجيبا ... ليس هذا بدعا من الأكراد وقوله: «7» [الوافر] أسائقها إلى العلمين قصدا ... يبيد البيد قربا مثل بعد حذارا إن وصلت بها المصلّى ... من البلوى فداء الحبّ يعدي

وقوله: «1» [الكامل] لله درّ لواعج أودعتني ... يوم الغوير ضحى وأنت مودّعي سأعلّمنّ النّوح كلّ حمامة ... ثكلى وفرط الوجد كلّ مفجّع وقوله: «2» [الوافر] عذار في الغرام أقام عذري ... شغفت بحبّه وهتكت ستري «3» أيا شمس الملاحة كلّ صبّ ... يشاهد من جفونك يوم بدر «4» وقوله: «5» [الوافر] أتظعن والذي تهوى مقيم ... لعمرك إنّ ذا خطر عظيم إذا ما كنت للحدثان عونا ... عليك وللزمان فمن تلوم وقوله: «6» [الطويل] ولّما ابتلي بالحبّ رقّ لشقوتي ... وما كان لولا الحبّ ممن يرقّ لي (131) أحبّ الذي هام الحبيب بحبّه ... ألا فاعجبوا من ذا الغرام المسلسل وقوله: «7» [الطويل] تعشّق من أهوى فأصبحت ذا هوى ... جدير بمن يهوى الحبيب ويعشق

وأعجب من ذا أن قلبي موثّق ... كذا من له قلب بآخر موثق وقوله: «1» [السريع] قلت لمحبوبي وقد مرّ به ... محبوبه كالقمر السّاري هذا الذي يأخذ لي طرفه ... من طرفك الفتّان بالثّار وقوله: «2» [الكامل] ومهفهف من شعره وجبينه ... تغدو الورى في ظلمة وضياء لا تنكروا الخال الذي في خدّه ... كلّ الشّقيق بنقطة سوداء وقوله: «3» [السريع] ومن غرامي فيه قال الورى ... ما جنّ قيس مثل هذا الجنون كلّي لسان عند تذكاره ... وجملتي عند التلاقي عيون وقوله: «4» [الكامل] أضحى ليوسف في الجمال خليفة ... يخشاه كلّ العاشقين إذا بدا عرّج معي وانظر إليه لكي ترى ... في خدّه علم الخلافة أسودا وقوله: «5» [الكامل] ما زال يحلف لي بكلّ أليّة ... أن لا يزال مدى الزمان مصاحبي لما جفا نزل العذار بخدّه ... فتعجّبوا السواد وجه الكاذب

وقوله: «1» [الوافر] سقى عهد الصّبا غاد ملثّ ... ولا حيّا بياض العارضين فمذ خطّ المشيب عدمت صحبي ... لقد كان المشيب غراب بين وقوله: «2» [الخفيف] كذب القائلون بابل أرض ... هي اسم من بعض تلك العيون (132) وقوله: «3» [السريع] لو لم تكن وجنته جنّة ... ما أنبتت ذاك العذار الأنيق وا عجبا يفعل بي في الهوى ... ما تفعل الأعداء وهو الصديق وقوله: «4» [الكامل] ومهفهف عبث السّقام بجفنه ... وسرى فخيّم في معاقل خصره مزّقت أثواب الظلام بثغره ... ثم انثنى فرفوتهنّ بشعره وقوله: الصّواب أنها لابن سهر بن العباس الصولي: «5» [الطويل] دنت يا ناس عن بابي زيارة ... وشطّ بليلي عن دنوّ مزارها وإنّ مقيمات بمنعرج اللّوى ... لأقرب من ليلي وهاتيك دارها وقوله: «6» [المتقارب]

بليت بذي جفوة جائر ... وماذا احتيالي ورقّي لديه أراه فأدعو له خيفة ... وأخلو بنفسي فأدعو عليه وقوله: «1» [الكامل] ووقفت قلبي المستهام على الهوى ... طوعا وكلّ متيّم مطواع يا غير حبّ العامريّة لا تسم ... قلبي فإن الوقف ليس يباع وقوله: «2» [الكامل] لا تعجبن يا عزّ إن ذلّ الفتى ... ذو الأصل واستعلى اللئيم المعتدي فكذا البزاة رؤوسهنّ عواطل ... والتاج معقود برأس الهدهد وقوله: «3» [الكامل] قد قلت لما أن رأيت بخدّه ... وردا وخطّ عذاره كالآس أعذاره السّاري العجول بخدّه ... ما في وقوفك ساعة من باس وقوله: «4» [الوافر] تثنّى فاستحال قضيب بان ... يحيّر من معاطفه الغصونا وكانت بابل من قبل أرضا ... فلما أن رنا صارت جفونا (133) وقوله: «5» [الطويل]

أموت اشتياقا مبعدا ومقرّبا ... وأتلف وجدا حين يرضى ويغضب فكيف احتيالي في الشّفاء ومهجتي ... على كلّ حال في هواه تعذّب وقوله: «1» [السريع] طبّ ابن شمعون بلا ريبة ... حكم على كلّ الورى مقضي «2» يمشي وعزرائيل من خلفه ... مشمّر الأردان للقبض وقوله: «3» [البسيط] حذار من طبّ شمعون فقد حلفت ... أن لا يفارق جسما زاره العلل «4» ما جسّ نبض فتى إلا وأنشده ... «ودّع هريرة إنّ الركب مرتحل» «5» وقوله: «6» [السريع] ليت ابن شمعون درى أنه ... يفعل فعل الأرقم القاتل مبارك الطّلعة في طبّه ... لكن على الحفّار والغاسل وقوله: «7» [السريع] من آل خاقان له لفتة ... كالظّبي والظّبي شرود نفور صحّ حساب السّحر من طرفه ... إذ كان في جفنيه جمع الكسور

وقوله: «1» [الطويل] على دمع عيني من فراقك ناظر ... ترقرقه إذ لم ترقه المحاجر «2» يمثلك الشّوق الشّديد لناظري ... فأطرق إجلالا كأنك حاضر عجبت لخال يعبد النار دائما ... بخدّك لم يحرق بها وهو كافر وأعجب من ذا أن طرفك منذر ... يصدّق في آياته وهو ساحر ومذ خبّروني أن غصنا قوامه ... تيقّنت أنّ القلب مني طائر وما اخضرّ ذاك الخدّ نبتا وإنما ... لكثرة ما شقّت عليه المرائر وقوله: «3» [الطويل] سقى الله جيرانا على الخيف طالما ... سقيت الثرى من بعدهم بدموعي (134) تناءوا فآل القلب بعد فراقهم ... يمنيا بأن لا قرّ بين ضلوعي «4» وقوله: «5» [الخفيف] هل لطرف أسهرتموه هجود ... ولظام ألهفتموه ورود كيف صبري والبين منّي قريب ... ليس ينفكّ والمزار بعيد والليالي القصار أضحت طوالا ... كنّ وصلا واليوم هنّ صدود وقوله: «6» [الرمل]

45 - ابن تميم

إن هم بالله يا حادي السّرى ... سألوك الحال قل: والله مضنا يتمنّى ساعة من قربكم ... وبعيدا أن يرى ما يتمنّى وقوله: «1» [المتقارب] شكوت إلى البان ما بي فمال ... إلى أن تباكى عليه الحمام «2» وقوله: «3» [الطويل] بدا فأراني الظّبي والغصن والبدرا ... فتبّا لقلب لا يبيت به مغرى نبيّ جمال كلّ ما فيه معجز ... من الحسن لكن وجهه الآية الكبرى أقام بلال الخال من فوق خدّه ... يراقب من لألاء غرّته الفجرا «4» أغالط إخواني إذا ذكروا له ... حديثا كأني لا أحبّ له ذكرا أعاذل هل أبصرت من قبل وجهه ... وعارضه نارا حوت جنّة خضرا سرى طيفه ليلا إليّ مجدّدا ... عهود الهوى يا حبّذا ليلة الإسرا ومنهم: 45- ابن تميم «13» وهو مجير الدين، محمد بن [يعقوب بن علي الإسعردي] «5» . طاب شميما، وطال بأبّوته الفرزدق وتميما. وكان فتى لا يزال من النّوائب مجيرا، ولا يرنّح

الرّكائب بردا ولا هجيرا. يعمل مطيّه على وجاها، ويعمل لما زاده رتبة وجاها «1» ، لأدب رقّ كالخدّ سلسله، وخطّ حسن كالصّدغ مسلسله، وشعر كان فيه مطبوعا لا يتكلّف، ومتبوعا لا تجد عنه من يتخلّف. وأغري بالتورية والاستخدام، وأتى منهما بالماء والمدام، فألقى على الناس منه محبّه، وملك القلوب فلم يدع منها حبّه، فأخمل شعراء الشام والعراق، وضمّ اللطائف (135) ضمّ السّاعد للعناق. وطالما بات ليالي لا ينقاد لوسن، ولا يرتاد إلّا سهل الكلام لكنه الحسن. وكان يعدّ في حماة من حماتها، وممن تفلق به الدّروع قلوب كماتها. وصحب ملوكها الطّيّبين بحارا، وأمسى لهم في جانب الفرقدين جارا، فبلغ به جودهم فوق همّاته، وغادروه الدهر شاكرا لحماته. وله معهم أخبار يطول شرحها، ويحول سرحها. حكي أنّ الملك المنصور استدعاه في ليلة غفل رقيبها، وحضر ربيبها، وسحبت من الذّوائب ضفائرها، وسجنت من بيض الأيام ضرائرها، إلى مجلس من خزف، وفواكه لم تحرف. وأمامه جدول قد خرّ ماؤه فتكسّر، وأنّ عليه كل بارق وتحسّر. والكؤوس دائره، والشّموس في أيدي البدور سائرة. فلما رأى الجدول، وقد أصابته من العين نظرة فتعثّر، وسقط عقد لؤلؤه فتنتّر، نظر إليه، وقال: [الكامل] يا حسنه من جدول متدفّق ... يلهي برونق حسنه من أبصرا ما زلت أنذره عيونا حوله ... خوفا عليه أن يصاب فتعثرا فأبى وزاد تماديا في جريه ... حتّى هوى من شاهق فتكسّرا فسرّ المنصور بأبياته، وأحبّ استطلاع خبايا بناته، وأمره بالجلوس إليه، وجعله أرفع القوم مجلسا لديه. ثم لم يستقرّ به المكان، ولا قعد واستكان، حتى

تحرّك المجلس لغلام ورد، كأنما تبسّم عن برد، فقال له المنصور بصوت يخفيه، ما تقول فيه، فقال: [الخفيف] بأبي أهيف تبدّى وحيّا ... بابتسام عدمت منه اصطباري فأراني بوجهه وثنايا ... هـ نجوما طلعن وسط النّهار فقال له سرّا، وقد أسفر وجهه وتسرّى: ألا إنّه شديد النّفار من المدام، ولو قرّع بالملام. فهل تقدر على استلابته، وتسهيل بأسه واستهابته؟. فما قطع المقال، حتى التفت إليه ابن تميم وقال: [الطويل] أتهجرها صرفا لأجل خمارها ... وذلك شيء لو جرى غير صائر (136) فلا تخش من داء الخمار وعاطها ... «هنيئا مريئا غير داء مخامر» فكاد الغلام يسطو عليه سطوة العائث، وقال له كالعابث: وما هذه؟ فقال: [السريع] صفراء لو لاحت لشمس الضّحى ... من قبل أن تطلع لم تطلع أحسن ما في وصفها أنّها ... لم تجتمع والهمّ في موضع فقال: بل أشرب خيرا منها، وأدعو «1» للنهي عنها. ثم أتى بركة، فغبّ في مائها، وأرى وجهه خيال قمره في سمائها، فقال: «2» [الكامل] أفدي الذي أهوى بفيه شاربا ... من بركة راقت وطابت مشرعا أبدت لعيني وجهه وخياله ... «فأرتني القمرين في وقت معا» ثم لم يزل به حتى شرب، ولذّ معه عامّة ليلته وطرب. فلما طلع ابن ذكاء، وأنار الصّبح وأضاء، شكر له المنصور حلّ عقدة الغلام، وقال: مثلك من سحر

بالكلام. ثم سنّى له الجائزة، وغدا ابن تميم ويده لها حائزة. ثم استدعاه ليلة أخرى، والحندس قد أسبل جلابيبه، والظلام قد صبّ شآبيبه، والنجوم قد آلت أن لا تزول، وركائب السّيّارة على المجرّة نزول. فبيناهم في ذلك العيش السّجسج «1» ، وبرد السّرور الذي مثله ما يسنج، وإذا بجارية في ظلامها مسفرة، ولذمامها غير مخفرة. قد عنّت كالظّبية المقبلة، تحت ذيل ذوائبها المسبلة، فقال له: إن كنت من أبناء قيلة، قل في هذه الليلة. فقال: «2» [الكامل] يا ليلة قصّرت زورة غادة ... سفرت فأغنى وجهها عن بدرها «3» حتى إذا خافت هجوم صباحها ... نشرت ثلاث ذوائب من شعرها فتبسّمت تضحك لشيب مفرقه، وتوضّح الشمس في مفرقه، فقال: [الوافر] تقول وقد وصفت لها مشيبي ... بزهر في دجى شعري منير بودّي لو يغيّبها غمام ... ويؤمر بالمقام فلا يسير (137) فقال له الملك المنصور: دع عنك هذا، وقل في ذوائب هذه الجارية، فقال: [الطويل] وهيفاء يسبينا اهتزاز قوامها ... وتفتننا بالسّحر أجفانها المرضى يطول عليها الشّعر حتى إذا مشت ... أتى خاضعا قدّامها يلثم الأرضا فقال له: بالله هل أعجبتك هذه الجارية؟ فقال: إي والذي خلق الحبّ، وقيّم الزّبّ. فضحك المنصور، وضحكت الجارية. ثم قال له: أفتحبّ أن تكون ملكك، على أن لا تمنعنا من عادة زيارتها؟ فقال: رضيت بالشّركة. فقال له

المنصور: لو قلت هذا شعرا لكان أحسن. فقال: [الطويل] يقولون لم نعهدك في الحبّ آخذا ... شريكا ولا مستأنسا بصديق فقلت طريق الحبّ أصعب مخطرا ... مخوفا فلم يسلك بغير رفيق فقضى معه ليلة لم ير مثلها ابن حجر في لياليه الغرّان، ولا ابن بحر عند ابن الخيزران. وحكي أنّه استدعاه في صبيحة يوم أبيض، ونور بات ياسمينه على الأرض ينفض، والثلج قد نثر كافوره، والجليد قد كسر بلّوره، والسحائب قد أضحت ذيولها مجرورة، والبرق قد تلوّن طول ليلته حتى أخرجها من صورة إلى صورة، وأواني الزجاج قد شفّت من وراء مدامها الرّاح، والدّنان قد فكّ عنها ختام فدامها، ورجال الرّاح قد رادت في إقدامها، والسّاقي بعذار كأنّما كتب بالريحان، أو سيّج بالزّمرّد بنت الجان، وتحت عذاره خيلان. قد خبّأت مسكها فزاد تضوّعا، وكثر طيبه تنوّعا. قد بارح نشرها وفاح، وعلم بنقطها في خدّه أنّه قد تمّ وصف التفاح. فلما دخل عليه في بكرة ذلك اليوم الأغر، ورأى الدنيا الضاحكة تفترّ، أنشده: [الكامل] يا أيها الملك الذي بسطت له ... بالجود كفّ دهرها لم يقبض دنياك مذ وعدت بأنّك لم تزل ... في نعمة وسعادة لا تنقضي كان الدليل على وفاها أنّها ... أضحت تقابلنا بوجه أبيض (138) فقال له: ما لهذا طلبتك، ولا لأجله خبّأتك، لكن انظر إلى شامات هذا السّاقي تحت عذاره، وقل في أسّه وعذاره. فلم يقل إيها، حتى قال بديها: [الكامل] ومهفهف خيلانه وعذاره ... قد جاوزا حدّ الجمال فأفرطا

فكأنّما كتب العذار بخطّه ... سطرا بحبّات القلوب ونقّطا فأجزل له الصّلة، وإن لم تكن عوائده منفصلة. وحكي أنه طلبه في أخريات عصر غربت شمسه، وكاد يتساوى يومه وأمسه. وبثّ الرّسل في طلبه من كلّ صوب، وتوقّع أوبته من كل أوب، إلى أن توقّد في فحم الدّجى جمر الشّفق، وأهزلوا الجوزاء وخفق. فلم يوجد في ناحية، ولا رئي في عشيّة ولا ضاحية. فلما انشقّ جيب الظلام، واشتعل في المشرق وثيب الضّرام، ألفي في بستان، نائي المكان، نائي السّكان. قد خلا فيه بنفسه منفردا، وبقي فيه فردا مثل السيف مجرّدا. فأخبر بحاله، وأحضر إليه على حاله، فأمر أن يسقى مداما، ثم أوسعه ملاما، فقال: [الكامل] من كان يرغب في حياة فؤاده ... وصفائه فلينأ عن هذا الورى فالماء يصفو ما نأى فإذا دنا ... منهم تغيّر لونه وتكدّرا وحكي أنه خرج والرّبيع قد غشيت أنديته، وقتيل المحل قد أديت ديته، حتى خيّم بروضة أطال إليها الخبب والإيضاع، وأودعت النّسيم طيبها فضاع، وبها دولاب تذر مآقيه، ويسرّ مدير كأسه وساقيه، قال فيها: «1» [الطويل] أيا حسنها من روضة ضاع نشرها ... فنادت عليه في الرّياض طيور ودولابها كادت تعدّ ضلوعه ... لكثرة ما يبكي بها ويدور فبينا هو على تلك الوسائد، وفي خدمه من قائم الشجر تلك الولائد. فلما أمست مسكة الليل من بأرضه، وصاغ النجم له خاتما من فضة، أخذته (139) إغفاءة كإغفاءة المناصل، أو أخذ المدام بأطراف المفاصل. فرأى فيما يراه النائم

غلاما كان يهواه. قد طرقه طيفا، وبات له في سواد الليل ضيفا، فقال: [الطويل] أقول لطيف الحبّ إذ زار مضجعي ... وبات إلى وقت الصّباح معانقي أيا عجبا من ليلة قد طويتها ... بوصل حبيبي وهو فيها مفارقي ومرحت وامتدت أقاطيع الأشعة وسرحت، إيّاه الغلام بقدّ كالرّدني، وطرف كاليماني. قد لبس لام عارضه، وأسكت حسنه قول معارضه، فقال: [البسيط] من لي بأهيف قد أمست على خطر ... من قدّه مهجتي إن ماس أو خطرا قد راح بالعارض المسكيّ محتجبا ... والغيم عادته أن يحجب القمرا وفيه يقول: «1» [الطويل] وأهيف مثل البدر غصن قوامه ... عليه قلوب العاشقين تطير تدور عذاراه لتقبيل وجنة ... على مثلها كان الخصيب يدور وفيه يقول: [الكامل] يا حسن أهيف حظّه من حبّنا ... طيب النّعيم وحظّنا منه الشّقا قدم العذار إلى نقا وجناته ... يا مرحبا بقدوم جيران النّقا وفيه يقول، وقد عيّره بالمشيب: [الكامل] أضحى يعيّرني المشيب وإنما ... أبداه طول صدوده وفراقه هذا الذي أخذ الشباب فزاده ... في ليل طرّته وفي أحداقه وحكي أنه حضر أندية بعض الكبراء، وقد غضّ فيه قدر من بقي من

الشعراء. وهو لا يبوح ببنت شفة، ولا يحترف معهم تمرة ولا خشفه، إلّا أن تلبّث خاطره قد انفجر، وخاسئ فضله لهم قد زجر. فلما لم يوم إليهم بطرف، ولا نطق بحرف، همّوا بمناجاته، فعالجهم بمفاجاته، حين أعورت عينه قذاتهم، وأعولت عنده أذاتهم، وقال: لقد جهلتم غرر المصاع، وكلتم زمر الناس كلّهم بصاع، (140) ولو اختبرتم القدّ على المحكّ، لبان الشّك. فتنوّعوا حينئذ في الاقتراح، وكدّوا خاطره فاستراح. فقال أحدهم: صف فوّارة. فقال: [الطويل] سمت فأعادت في السماء مياهها ... وزادت فأجرت من مجرّتها نهرا وقال الآخر: صف كلبا أحمر. فقال: [البسيط] وثقت بالصّيد لّما أن ركبت له ... بمستطيل على وحش الفلا ضاري بأحمر اللون خفّت روحه فله ... روح من الرّيح في جسم من النّار وقال الآخر: قل في غلام طويل الشّعر. فقال: [الكامل] قال الحبيب وقد رآني خائفا ... إذ زارني من أعين النّظّار أرسلت شعري حين جئتك زائرا ... خلفي فعفّى عنهم آثاري وقال الآخر: صف روضا تعبث به النسيم. فقال: [الكامل] روض تحلّى بالنبات فماله ... ولحسنه إلا السّماء نظير والزّهر مثل الزّهر تحسب أنها ... فيه إذا هبّ النّسيم تسير وقال الآخر: صف حديقة قد اهتزّ دوحها، وابتزّ عرف الجنان روحها، واخضلّ فيها نبت النعماء، ورفّت بنت الروض على ابن ماء السماء. وبينها نهر صفا ضميرا، وغدا لأطفال النبات ضيرا. فقال: [مجزوء الكامل] وحديقة مالت معا ... طف دوحها من غير سكر

والنهر ساغ قد غدا ... بسعادة الأغصان يجري وقال الآخر: إني كلف بفتى دقيق الخصر، لم يحو مثله القصر. فقل فيه. فقال: [السريع] قد أظهر المحبوب أعجوبة ... حار بها العاشق في أمره ضاق على خنصره خاتم ... فردّه يقلق في خصره وحكي أنه مرّ مرّة بدار كان يعهدها معاهد ظباء، ومواعد حباء. فرآها مقفرة الأبيات، من سوانح تلك الظبيات، فوقف بها باكيا، وطاف بأطلالها شاكيا، وهو يقول: [البسيط] (141) يا ليت دارهم من بعدهم رسخت ... تحت الثّرى واختفت عنّي إلى الأبد فإنّ رؤيتها من بعدهم سبب ... إلى تضرّم نار الشّوق في كبدي ثم عكف عليها طائفا، وتذكّر تليدا وطارفا، وقال: [الكامل] كانت ديارهم بهم مأهولة ... تغدو بها غزلانها وتروح حتى نأوا عنها فصارت بعدهم ... كالجسم لما فارقته الرّوح ثم والى الزّفير والشّهيق، حتى رثى له الشفيق، ورأى الخليّ أنه لا يفيق. وحكي أنّه خلا بنفسه في بعض مجالس أنسه، متداويا من هوى برّح بقلبه في جارية، كاد ريّاها يطير بلبّه في ليلة أفصحت العيدان بحروف معجمها، وقرئت صحائف الظلماء بنقط أنجمها، وجرّت كمّت الكؤوس إلى وردها، وخلطت مسك الليل بوردها. وأقبلت الجواري والولدان كاللؤلؤ المنثور، ووصلت الظلماء بذوائب الشّعر المنشور. وأقسم السرور أن قفل الظلماء على الفجر لا يفتح، وآلى أن جانب السّحر له لا يفسح، فقال: [البسيط]

إنّ الغناء الذي قد كان يطربني ... بكم وينشي مسراتي وأفراحي هو الذي صار ينشي بعد بينكم ... حزني ويجعل دمعي مزج أقداحي ثم أصبح وهو ما هو عليه من الجماح، وأصحر وقد غنّت ذوات الجناح، فجعل يبكي ويقول: [الكامل] أعلمت أنّ الورق بعدك ساعدت ... أهل الهوى بالنّوح والأحزان وبحقّها ناحت عليك لأنّها ... فقدت قوامك في غصون البان وحكي أنّه جلس مرّة بالمسجد الجامع، وقد أجاب داعي مؤذّنه السّامع. فلما فرغ من أداء ما وجب، وجلس إليه رجل يقرأ كتابا ويظهر العجب. فلما امتدّ في ذلك الطّلق، ولم يفه لسانه ولا نطق، فقال له: ممّ تعجب، ولم تتخفّى السّماء وتحجب؟ فقال: إنها درعيات أبي العلاء، ودرّيّات ذلك اللألاء. فقال: اقرأها عليّ، وهاك ما لديّ. فقال: لا والله حتى أترح عليك وإلّا (142) فاطرح وإليك، فقال على لسان الدّرع: [الطويل] هنيئا لمن يأوي إليّ فإنّه ... يلوذ بحصن لا يرام حصين وألبسه في الرّوع ثوب سلامة ... وألقى الرّدى عن نفسه بعيون وحكى أنّه دعاه بعض الرؤساء إليه في ليلة باردة، أصبح منها بطن الأرض مقشعرّا، وظهر الرّوض من الزّهر قد تعرّى، والجليد قد أقلّ حيل الجليد، والبرد قد نهك الحديد، فسار على كره منه وغيظ لم يثنه، حتى أتى مجلسا أمامه بحرة لو جاراها البحر لجارت، أو أطلقت فيها أزمّة السّفن لسارت، ترمي فيها فواره كإنسان يتشهّد في الماء، أو عمود فضّة يقيم خيمة السّماء. فقال له ذلك الرئيس: هل قلت في ليلتك هذه شيئا؟ فقال: نعم. فقال: ما هو؟. فأنشده: [الوافر]

وليلة قرّة قد هبّ فيها ... نسيم لا تقابله الصّدور نسيم يقشعرّ الرّوض منه ... إذا وافى ويرتعد الغدير فعبس ذلك الرئيس وجهه وقطّب، وقال: ظننت والله أنّك تسرّنا فسؤتنا، فهلّا تكفّر هذا بما تقوله في هذه البحرة، فقال: [الطويل] لقد قابلتنا بالعجائب بحرة ... مكمّلة الأوصاف في الطول والعرض كأنّ الذي يرنو إليها بطرفه ... يرى نفسه فوق السّما وهو في الأرض فقال له: فما شأن الفوارة؟ فقال: [الطويل] وفوارة جادت على الأرض فانثنت ... عقيب الظّما بالرّيّ كالنّرجس الغضّ وقد أرسلت لّما ارتوت فضل مائها ... هدايا على أيدي السّحاب إلى الأرض فقال له: لقد والله عظم حقّك عليّ فاحتكم. فقال: إي والله، فقال: تهبني السّاقي، وكان غلاما روميّا ناعس الطّرف ناعم الظّرف، قد فاق بسحر عينيه، وفلّ الجيوش بكسر جفنيه. فقال: [الكامل] روحي الفداء لمن أدار بلحظه ... صهباء في عقلي لها تأثير فاعجب له من أن يصون بلحظه ... مشمولة وإناؤها مكسور (143) فاستطار مسرّه، واستقلّ الغلام له في المبرّه. وحكي أنّه جلس على بحرة، أشرقت سماؤها، وطاب بكفّيه المجلس ماؤها، والشمس قد توسّطت الظّهيرة، وأرخت ذوائب أشعّتها الضّفيرة، واللّجّة قد نصبت في كلّ ناحية حباله، وتناومت عينها فما رأيت من الشيء إلا خياله، والماء قد لبس من شعاع الشّمس فضّيّ الغلالة، وغابت سباع البركة، فلعبت الغزالة. فقال: [الطويل]

ولمّا احتمت منها الغزالة بالسّما ... وعزّ على قنّاصها أن ينالها نصبنا شباك الماء في الأرض حيلة ... عليها فلم نقدر فصدنا خيالها ثمّ، بينما هو في في إملائهما على الحضور، ويومه قد وسع فوق طاقته من السّرور، وإذا بفتاة كانت تنتاب محلّه انتياب الطّيف الطّارق، وتطلع عليه في الأحيان، طلوع النّيّر الشّارق، وقد جاءت إليه بتهادي وزارته، ولم تفارق جفنه سهادا، ثم لم تلبث أن تجرّدت من ثيابها ونزلت الماء، وأرته في الأرض كيف يحلّ البدر السّماء، فقال: [الكامل] لو كنت إذ أبصرتها عريانة ... بضفيرتين كليلتي مهجور لتراهما ألفين من مسك وقد ... خطّا على لوح من الكافور وحضر نادي الملك المنصور، وقد حشر الصّباح له ونادى، وقدح السّماح له زنادا، واليوم أوّل ما قد ترعرع، وسرير الملك بوقاره قد تزعزع، وكؤوس الرّاح ساعية، ونفوس الأفراح داعية، وقد جلس للاصطباح، والدهر قد انقاد نيبه للاصطلاح. وإذا بغلام قد دخل كالظّبي، قد تدرّع درع الفارس الأشوس، وخاف أسود شعر محيّاه دراء الأطلس، فقال له: قل في هذا، فقال: [الطويل] وأهيف أخفى شعره تحت أطلس ... فأصبح منّا كلّ قلب به مغرى أراد بأن يطفي عن النّاس فتنة ... بإخفائه فاستأنفت فتنة أخرى فقال: أحسنت والله، فبحياتي قل فيه أيضا، فقال: [الطويل] (144) وبي ساحر الأجفان حيّة شعره ... تبدّت لنا في أطلس راق أبصارا عجبت لها ما فارقت منه جنّة ... فلم سكّنت من ذلك الأطلس النّارا فقال: أحسنت والله، فبحياتي قل فيه أيضا، فقال: [السريع] قلت لحبّي إذ خبا شعره ... في أطلس بالغ في ستره

مكّن يدي من لمسه قال لي ... من يلمس الثّعبان في وكره فقال: أحسنت والله، فبحياتي انظر إلى حسن هذه المنطقة في خصره، ثمّ قل فيها شيئا. وكان الغلام قد شدّ عليه منطقة مجوهرة، قد عانقته كأنّها كلّفت بحبّه، وشغفت بخصره غراما، فتعلّقت به، وتلك المنطقة كأنّما توشّحت بالمباسم، أو توشّعت بأصل المواسم، قد جعلت للهوى به أقوى سبب، وجليت صفوا كالرّاح طفا عليها الحبب، فقال: [الكامل] كم قلت إذ شدّ الحياصة شادن ... كلّ القلوب بأسرها في أسره أتراه قد شغف النّجوم محبّة ... فتساقطت وتعلّقت في خصره فقال: أحسنت والله، فبحياتي قل أيضا، فقال: [الكامل] لّما رأت عيني مناطقك التي ... أضحت بخصرك دائما تتعلّق لا تستقرّ وقد علتها صفرة ... ونحول جسم بالصبابة ينطق أيقنت أنّ الخصر ضاع نحافة ... فلذا تدور جوى عليه وتقلق فقال: أحسنت والله، فبحياتي قل أيضا، فقال: [المتقارب] بروحي حبيب إذا ما بدا ... رأيت العيون به محدقه أعار التّثنّي قدود الغصون ... فأعطته من حليها منطقه فسنى له الجائزة، ثم قال له: لك الاقتراح، وكان وقت راح، فقال: أن تأذن لي أن أسافر إلى مصر مدّة، ولك أن تشترط في أيّام الغيبة العدّة. فأذن له على شرط لازم، فشمّر تشمير عازم، ثمّ ما بلّل طلّ الشّجر أطراف الأردية، إلّا وقد ندّ من الأندية، وخلّف رقعة كتب فيها إليه: [السريع] (145) إنّي وبعدي عنك يا يامالكي ... وأنت بالإحسان لي ناظر

كالرّوض إذ جادت عليه السّما ... والبعد ما بينهما ظاهر فلمّا أتى دمشق وحلّها، واستطاب دون البلاد محلّها، ورأى النّيّرين وقد أشرق له فيهما نيّر البين، وهبّ إليه ذلك الرّيا، ووقف على مجرى النهر في الدّوح، تحت أغصان الثّريا قال: «1» [الطويل] سقى الله وادي النّيّرين فإنّني ... قطعت به يوما لذيذا من العمر «2» درى أنّني قد جئته متنزّها ... فمدّ لأقدامي بساطا من الزّهر وأوحى إلى الأغصان قربي فأرسلت ... هدايا مع الأرواح طيّبة النّشر وأخدمني الماء القراح فحيث ما ال ... تفتّ رأيت الماء في خدمتي يجري «3» ثمّ خرج يريد مصر في بكرة يوم من أيّام الرّبيع، قد جاء فيه النّسيم بريح الجنان مخبرا، وتأجّج الشّفق نارا تحرق من الطّيب عنبرا، وقد ألقى أبيض الغيم على محمرّه ذيله الفضفاض، وآناء الصّباح قد امتلأ من ندى الطّلّ وفاض، فقال: [الكامل] للغيم في شفق الأصائل منظر ... يلهي برونق حسنه من أبصرا لا غرو إن طاب النّسيم وأفقنا ... نار مؤجّجة تحرّق عنبرا ثمّ سار أمام كلّ سريّة، حتى أتى الإسكندرية، وهي صنعاء البلاد، وذات الحلل لا البجاد، لا يتجاوزها الأمل، ولا يعدّ ما فيها من حسن التّفاضيل والجمل. فلمّا تمتّع بتحبيرها وتحريرها، وتنعّم في جنّتها وحريرها قال: [الكامل] لمّا قصدت سكندريّة زائرا ... ملأت فؤادي بهجة وسرورا

ما درت فيها جانبا إلّا رأت ... عيناي فيها جنّة وحريرا وفي المركب بمينائها يقول: [الكامل] انظر إلى قطع المراكب إذ بدت ... والماء يعلو حولها ويدور مثل السّحائب لا يفرّق بينها ... نظر وكلّ بالرّياح يسير وحكي أنّه مات له يوم مطر صديق بكاه، وأغرى بدمعه السّحاب فحكاه (146) فقال: [الطويل] بروحي الذي جاء الغمام يعوده ... فصادفه نحو المنيّة قد سرى فما زال يبدي حرقة وتنهّدا ... ويبكي إلى أن بلّ من دمعه الثّرى وحكي أنّه كان قد علق غلاما توقّدت نار وجنته، وحلت مجاجة شفتيه، فأتاه ليلة أثر مدام، دقّق غزل مقلتيه، وشوّش سالفتي طرّتيه، وفي يده شمعة، أزهر منها شمعة خدّه، وأرشق منها قامة قدّه، فلمّا رآه مقبلا وثب وقبّل قدميه من كثب، ثمّ قال بديها فيه وفيها: [الكامل] عجبا له أنّى يزور بشمعة ... وضياؤه أبقى الظّلام نهارا لمّا رأته ووجهه أبهى سنا ... منها أسالت دمعها مدرارا وغدت لفرط الغيظ تعطي كل من ... وافى ليقطع رأسها دينارا وحكي أنّه خرج يوما بحماة يتفسّح في الصّحراء، والرّبيع قد طلع في حلّته الخضراء، حتى أتى النّاعورة الكبرى، والغروب قد جرى على النّهر تبرا، ونهر العاصي في تلك العشيّة قد موّهت كؤوسه، وذهبت نجوم فواقعه شموسه، فقال يصف النهر: [الطويل] ونهر إذا ما الشّمس حان غروبها ... عليه ولاحت في ملابسها الصّفر رأينا الذي أبقت به من شعاعها ... كأنّا أرقنا فيه كأسا من الخمر

ثم قال في الناعورة: [الطويل] وناعورة شبّهتها حين ألبست ... من الشّمس ثوبا فوق أثوابها الخضر بطاووس بستان يدور وينجلي ... وينفض عن أرياشه بلل القطر وحكي أنه كان قد واعد صديقا أن يخرج معه غازيا، ثمّ قعد وانطلق صديقه غاديا، وذلك لأنّه لم يتقدّم له عليه حقّ يسلّفه، ولا ضرب له موعدا لا يخلفه، ثم كتب إليه يعتبه، وحمّله من أثقاله ما يتعبه، فكتب إليه: [الطويل] رأيتك إذ ألزمتني الذّنب ظالما ... وذنبك بين النّاس قد شاع واشتهر كقلب الذي يهوى يعذّب دائما ... ولم يجن ذنبا إنّما الذّنب للبصر (147) ثمّ لّما فقد ذلك الصديق، وقابل عذره بوجهه الصّفيق، جعل يذكر مواقف غزاته، والاعتداد بمجازاته، فقال: [الطويل] أتفخر إذ طاعنت خيلا مغيرة ... فوارسها يوم الوغى ما لها ذكر وفاتك أنّي طول عمري لم أزل ... أطاعن خيلا من فوارسها الدّهر «1» وحكي أنّه خرج يوما إلى الصحراء، وقد تجلّت الأرض بالبيضاء والصفراء، وعيون النّرجس محدّقة. الفضاء مجال خيله. فألفى به غلاما كان له. كان له أيّ مسعد وافاه على غير موعد، فأنزل القبل بساحة خدّه، وأطال في ذميل العناق إليه ووخده «2» ، وقال، وجيوب الشّفق مشقّقة، والنّسيم يتعثّر بذيله، ويوسع في ذلك: [الكامل] لو لم أعانق من أحبّ بروضة ... أحداق نرجسها إلينا تنظر

ما شقّ جيب شقيقها حسدا ولا ... بات النّسيم بذيله يتعثّر ثمّ لم يقدر على إطالة المكث معه، فتركه وودّعه، فضاق عليه فسيح ذلك الفضاء، وقام يشيح للمضاء، فمرّ بدولاب قد فاضت عيونه، وعبّرت عن شأنه شؤونه، قد حنّ حنين المفارق للأخدان، وإن تعهّد شبابه وهو أغصان لدان، فقال: [الطويل] ودولاب روض كان من قبل أغصنا ... تميس فلمّا غيّرتها يد الدّهر تذكّر عهدا بالرّياض فكلّه ... عيون على أيام الصّبى تجري وحكي أنّ الملك المنصور استدعاه يوما إلى مجلسه المطلّ على العاصي، المشرف على الدّاني منه والقاصي، والسّعد قد خدمه، وطنب على النجوم خيمه. وقد أتاه بعض الخدم المعدّين للخدم، فعرض عليه من أعمال الجواري صنائع حسان، وبدائع إحسان، كأنّما أسهمها الرّوض في حبره، أو سهّمها النرض بإبره، فجعل يقرّبها ويأخذها ويقلّبها، حتى أتى على مناديل ليست بمذالات، جعلت لبدور الوجوه هالات، فأمره أن يكتب ما يطرّز فيها، فلم يقل أيّها (148) بل قال بديها: [الطويل] إذا حملتني راحة الملك الذي ... أنامله جودا تفيض على البحر فمن ذا الذي قد حاز ما حزت من علا ... ومن ذا الذي قد نال ما نلت من فخر إذا كنت أرقى كلّ وقت وساعة ... على لجّة البحر المحيط إلى البدر وحكي أنه واعد غلاما كان به مغرما، وكان لا يرى غير وصله مغنما، وقد ضرب له العشاء موعدا، وأصبح له الدّهر بوصله مسعدا. فجلس لانتظاره حتى طوي بساط السّمر، وكفّ الغروب اشتطاط القمر. فلمّا اسودّت أحشاء الظّلماء، وطفي سراج السّماء، طلع عليه إذ غاب القمر طلوع البدر، وأراه من تلك الليلة

ليلة القدر، فقال: [البسيط] كم قلت للقمر العلويّ حين بدا ... يزهى بنور على الآفاق منتشر أغرب فبدر الدّجى عندي ومن ملكت ... يداه بدر الدّجى لم يرض بالقمر ثمّ أديرت الكؤوس، وأذيلت من الهموم مسرّات النّفوس، والساقي يحثّها صفراء تسرّ النّظّار، وتبطن فضّة الأقداح بالنّضار، والغلام إذا أتاه الدّور أطال حمل الكاس، وتشاغل بشمّ الآس، فقال: [الطويل] حبيبي وعدت الكأس منك بقبلة ... وأعقب ذاك الوعد منك نفار فأوقفتها تحت الرّجاء وقلبها ... به خوف خلف الوعد منك شرار وما كان هذا لونها غير أنّها ... علاها لطول الانتظار صفار فلمّا غربت النّجوم، وغرّدت الطيور حين همّ الصّباح بالهجوم، باكر الغلام رفقة كان قد اتّعد معهم السّفر، وحكى الظّبي الغرير فنفر، فقال: [البسيط] لّما رحلتم بقلبي في حمولكم ... وظلت حيران بين الهمّ والفكر سلّطت دمعي على عيني وقبلكم ... قد كنت أشفق من دمعي على بصري وحكي أنّه حين آب من سفره، وانجاب عنه من ذلك النّبكان «1» سحاب مغفرة، دخل عليه زائرا، وقد قلع لامته «2» ، وهزّ عوض الرّديني «3» قامته، والكؤوس (149) تحثّ والمدام يقول: لا يكن للكأس في يدك لبث. وهو يخالف أمره المطاع، ويحبس الكأس في يده ما استطاع، فجنّ ابن تميم جنونه، وباسطه فلم يقبل جنونه، فقال: [البسيط]

لا تحسبوا طول حمل الكاس في يد من ... أحببته أنّه ساه ولا ناسي لكن رأى وجهه فيها وأعجبه ... جماله فأطال الحمل للكاس وحكي أنّه كان له صديق يسر بموافقته، ويصرّ على مرافقته. كانا نجيّين في السّرور، ويضعان ويرتشفان الحبور ويرتضعان، ثمّ حصلت بينهما مقاطعة وهجرة، أظلمت ما بينهما، والكؤوس ساطعة، ومكثا على الهجران، حتى آن أن يلقي الشّتاء الجران «1» ، فهبّ يوما من منامه، وصبّ للاصطباح كؤوس مدامه، والجوّ قد مرحت فيه قطع الغيم، ولبس منه صدور البراءة وحلّة الأيم. فلمّا برئت من الشّفق الجراح، وتعلّق السّحاب دون السماء تعلّق القطاة بالجناح، تذكّر عهد صاحبه المفارق، وساقه إليه من شعاع المدام وميض البارق، فكتب إليه: [البسيط] إلى متى ذا التواني يا نديم فقم ... والق المدام بإكرام وإعزاز «2» فيومنا بابتسام الجوّ تحسبه ... من عقل من بات فيه صاحبا هازي فقد تجعّد مبيضّ الغمام به ... دون السّماء فحاكى جؤجؤ البازي «3» فلمّا قرأها قام إليه، وقطع يمينا لا يغلو بإنفاق العمر عليه. وحكي أنّه اتخّذ له بادهنجا تغيّر عليه هواه، ولم يحسن إرساله للنّسيم ولا هواؤه، فقال فيه: [البسيط] قد كان لي بادهنج أستلذّ به ... في القيظ منه النّسيم الرّطب ألتمس لكنّه، عشتم، قد مات من زمن ... أما تراه وما يبدو به نفس وكذلك حكي أنّه رأى وردا يستخرج ماؤه، وقد فارت في الأنابيب دماؤه،

فقال: [البسيط] الورد قد قال لّما أن أتيتكم ... ضيفا وفضلي عليكم غير ملتبس (150) جعلتم فيض روحي نصب أعينكم ... ظلما ولم تقنعوا أن تأخذوا نفسي وقال: «1» [الطويل] ولم أنس قول الورد والنّار قد سطت ... عليه فأمسى دمعه يتحدّر ترفّق، فما هذي دموعي التي ترى ... ولكنّها نفس تذوب فتقطر وحكي أنّ رجلا دعاه إلى بستان نازح، ومكان لا يسمع ضيفه صوت نابح، بعيد من القرى والقرى، ما فيه للطارق إلا الحديث والمناح في الذّرى، فبات عنده بسوءة الحال. فلمّا أصبح شمّر للارتحال، فأركبه المضيّف له فرسا قصيرا، لا يحسن له مصيرا، فقال: [الطويل] وما أنا إلا راحل فوق ظهره ... ولكنّني فيما ترى العين فارس فقال له ذلك المضيّف، وكان جاهلا لا يتقلّب بين الناس والرّجا، ولا يفرّق بين المديح والهجا: هبك قلت هذا، ماذا يكون؟ فقال ولم يفصل بين كلاميهما سكون: [البسيط] لا تحتقر بقليل الشّرّ إنّ له ... زيادة كضرام النّار بالقبس فحرب وائل ضرع النّاب سعّرها ... وحرب عبس جنتها لطمة الفرس وحكي أنّه كان يهوى غلاما يهيم بوعده، ويصلى النّار ببعده. وطالما قعد ينتظر منه موعدا أخلفه، وقد قدّم له الوعد وأسلفه، فإذا عتب قال: نسيت. وإن كان لا ينسى ولا يأسف عليه ولا يأسى، فقال: [الطويل] مدحي الذي نسيانه صار عادة ... وأفرط حتى كاد يعدمه الحسّا

فلو أنّه بالهجر أضحى مهدّدي ... لما ساءني علما به أنّه ينسى وحكي أنّه حضر مجلس بعض الأكابر، وقد غصّ المجلس، وبهتت فيه عيون النرجس، وقمعت فيه أصابع المنثور، وأعطي فيه أمير الحسن ذؤابة شعره المنشور، وطال إعمال الكؤوس، حتى غمضت الجفون، ولم يبق من دور الكأس حال من الجنون، وثم أمنية ابن تميم قد تركه السّكر لقى، وخلا (151) خدّه المضرّج مخلقا. فنهض غير مرّة لتقبيله، ثمّ خاف أعين قبيله، فقعد بعد اللّجاج، ورجع رجوع الصادي، والماء يجلا عليه في الزّجاج، فقال: [الكامل] كيف السّبيل لأن أقبّل خدّ من ... أهوى وقد نامت عيون المجلس وأصابع المنثور تومي نحونا ... حسدا وتغمزها عيون النّرجس وفيه يقول: [السريع] أبدى الذي أعشقه شامة ... تزيد بلبالي ووسواسي بصحن خدّ لم يغض ماؤه ... ولم تخضه أعين النّاس وفيه يقول، وقد أفاض عليه درعا، ضاق به ذرعا، وقد جعل شعره في كيس من الأطلس، منع بها حيّته أن تسعى، أو تجدّد له لسعا: [الكامل] شهد القتال وحاجباه وطرفه ... تغنيه عن حمل الصّوارم والقسي أعطاه أرقم شعره جلبابه ... درعا فعوّضه بثوب أطلس وأمّا ما لم يقع لنا فيه من شعره خبر، فقوله في البنفسج والورد: [الكامل] إن البنفسج مذ أتاه مبشّر ... بالورد عرّض وحشه من أنسه الورد يورده الحمام فلبسه ... ثوب الحداد لرزأة في نفسه وقوله يهجو: [الكامل]

لّما جسستك بالمديح ولم أكن ... أدري بأنّك خامل في النّاس ناديت لّما أن جسستك بالهجا ... أكليب خذها من يدي جسّاس وقوله في النرجس: [المتقارب] ولما أتى النّرجس المجتنى ... بقرب الرّبيع وإيناسه نثرنا على رأسه فضّة ... وتبرا فراق لجلّاسه وأصبح يخطر ما بيننا ... وذاك النّثار على رأسه وقوله في إهداء قدح: [الكامل] يا حسنه قدحا يضيء زجاجه ... ليل الهموم إذا ادلهمّ وعسعسا (152) أهديته مثل النّهار فإن حوى ... صرف المدام غدا نهارا مشمسا وقوله: [الوافر] وزورق فضّة لم تحظ منه ... عيون الشّرب من فرط البريق تراه وهو يسبح في الحميّا ... هلالا لاح في شفق رقيق وقوله يرثي شريفا غرق في نهر يزيد: [البسيط] بني عليّ يزيد حيث كان لكم ... حربا، فمن حلّ منكم فيه لم يعش لقد تنوّع في إتلاف أنفسكم ... فظلّ يقتلكم بالرّيّ والعطش وقوله يصف خيال الغصون في الماء: [الكامل] وحديقة ينساب فيها جدول ... طرفي برونق حسنه مدهوش يبدو خيال غصونها في نهرها ... فكأنّما هو معصم منقوش وقوله في النيلوفر: «1» [الكامل]

لما حكى زهر الكواكب نوفر ... وأقام وهو على الكياد حريص خاف الحريق وقد رمته بشهبها ... فلذاك أمسى في المياه يغوص وقوله: [الطويل] ونيلوفر يحكي النجوم وماؤه ... يحكي سماها لا يغادرها حرفا يغيب إذا غابت ويبدو إذا بدت ... ويشبهها شكلا ويفضلها عرفا وقوله: [الطويل] إذا كنت ذا فضل وتشكر ناقصا ... يقابل إعراض الورى بالقوارص فلا خير في الفضل الذي قد حويته ... إذا الفضل لم يرفعك عن شكر ناقص وقوله: [الكامل] إنّ الشّفيع إلى الجواد شريكه ... في الجود للدّاني معا والقاصي وإذا شكرت البحر في إنعامه ... بالدّرّ فاشكر حيلة الغوّاص وقوله: [الكامل] ولربّ صيّاد غذتني كفّه ... سمكا يظلّ الطرف منه حائرا (153) يلقي إلى قعر الخليج بدرعه ... فيعود ملآن العيون خناجرا وقوله: [البسيط] لا تعجبوا من غلامي وهو أبله خل ... ق الله إذ راح لي في حاجة فمضى فالسهم وهو جماد حين أرسله ... من ساعتي في مهمّ يفهم الغرضا وقوله يذم قينة: [السريع] غانية جاءت بلا موعد ... ولم تكن روحي بها راضية

قضى الله لي بها مرّة ... يا ليتها كانت القاضية وقال يصف زهر اللّوز: [الوافر] خرجنا للتّنزّه في بقاع ... يعود الطّرف عنها وهو راض ولاح الزّهر من بعد فخلنا ... ضبابا قد تقطّع في رياض وقوله على لسان الياسمين: [الكامل] لما ازدرى بالياسمين ولبسه ال ... مبيضّ زهر الرّوض قال وأعرضا ما ضرّ إذ كان نشري طيّبا ... من دونكم إذ كان ثوبي أبيضا وقوله في المديح: [البسيط] لّما تفضّلت في حقي وقمت إلى ... نصري وبلّغتني بالجود أغراضي كسوت عرضك درعا بالمديح فإن ... أردته كان سيفا في العدا ماضي وقوله في المشيب: [الكامل] خطب ألمّ، وشيب رأسي جملة ... فلقيت شرّا منهما وكذا قضي فاعجب لخطب أسود لم يقتنع ... بفعاله وأتى بخطب أبيض ولله هذا الشاعر وحسن تخيّله، ولطف تحيّله، انظر كيف جعل الخطب الملمّ موافيا لشيب رأسه المدلهم، وجعل خطب النّوائب أسود، وخطب الشيب أبيض، وأنه جمع فيهما بين المتضادين، وقد قال في البيت الأول: و «لقيت شرّا منهما «وهو إن حمل على ظاهره كان بليغا، وإن حمل على أنّ المراد بقوله شرّا (154) أفعل التفضيل كان أبلغ، وهذا الذي لا يقدر عليه كلّ شاعر، ولا يعدل به وسق «1» الأباعر.

عدنا إليه. وقوله يخاطب شيخه علاء الدّين النّحّاس: [الوافر] علاء الدّين أضحى بحر علم ... يجيب السّائلين بلا قنوط أحاط بكلّ ما في الأرض علما ... فقل ما شئت في البحر المحيط وهذا من المقاصد الحسنة، إذ جعله قد أحاط بما في الأرض، وهو البحر المحيط، إذ هكذا حقيقته. عدنا إليه. وقوله وقد دعي إلى مجلسين يفضّل أحدهما: [الوافر] دعيت فكان أكلي فخد طير ... ولم أشرب من الصّهباء نقطة وما يومي كأمس وذاك أنّي ... أكلت إوزّة وشربت بطّة وهذا والله غاية ما بعدها. عدنا إليه: [السريع] مذ زارني المحبوب تحت الدّجى ... مبرّدا قلبي من قيظه تطّلع الصّبح علينا ولم ... يشعر به فانشقّ من غيظه وقوله يحرّض على القتال: [الكامل] انهض بنا نحو العدوّ فإنّهم ... في غفلة من قبل أن يتيقّظوا فجيادنا للغيظ تأكل لحمها ... حنقا عليهم والظّبى تتلمّظ وقوله في مطرب: [الكامل] يا من يلازم موضعا في شدوه ... قسما لقد شرّفت مني مسمعي لو كان لي سعد وحقّك لم تزل ... أبدا تعنّيني بهذا الموضع وقوله يصف نارا: [الكامل]

وكأن نارا أضرمت ما بيننا ... ولهيبها يخشى سطاه ويجزع سوداء أحرق قلبها فتكلّمت ... بسفاهة فينا كلاما يلذع وقوله: [الكامل] لا ذنب للنيران إن هي أخمدت ... زمنا فصنّ العرق فيه بنبضه كانون أرعدها فأصبح جسمها ... للبرد يدخل بعضه في بعضه (155) وقوله يصف فانوسا: [الكامل] انظر إلى الفانوس تلق متيّما ... ذرفت على فقد الحبيب دموعه يبدو تلهّب قلبه لنحوله ... وتعدّ من تحت القميص ضلوعه وفيه يقول: «1» [الطويل] يقول لها الفانوس لما بدت له ... وفي قلبه نار من الوجد تسعر خذي بيدي ثم اكشفي الثّوب تنظري ... ضنى جسدي لكنني أتستّر «2» وفيه يقول: [البسيط] أبدي اعتذارا لذا الفانوس حين غدا ... في حالة من هواه ليس ينكرها رأى الهوى مضرما ما بين أضلعه ... نار الجوى فغدا بالثّوب يسترها وقوله يصف درعا: [الطويل] ودرع إذا ألقيتها وسط مهمه ... رأيت القطا فيها يغبّ ويكرع يكاد إذا عاينت ضحضاح ما بها ... يلوح بها للصّفو حوت وضفدع إذا ما أتاها الرّمح ظنّ بأنّها ... غدير نشأ في مائه فهو يخضع

ويرعد متن السّيف علما بأنّه ... متى زارها في شهره يتقطّع ولو كان أنّ في ضلوعه ... من الغمد يلقاها لما كان يطلع وإن جاءها سهم يناد بها سردها ... أرى النّصح يا مغرور أنّك ترجع إذا كان هذا في قنا اللحظ والظّبى ... صنيعي فقل لي ما بضعفك أصنع فلو لجأت نفس إليّ وجاءها ... رسول المنايا لم تكن منه تجزع وقوله: [الوافر] ونهر كلّما هبّت عليه النّ ... واسم في الذّهاب وفي الرّجوع يؤثّر فيه تجعيدا خفيفا ... كوطء الصّافنات على الدّروع وقوله في غلام ينظر وجهه في مرآة: «1» [الكامل] طوبى لمرآة الحبيب فإنها ... حملت براحة غصن بان أينعا (156) واستقبلت قمر السّماء بوجهها ... فأرتني القمرين في وقت معا وقوله في غلام لابس قباء أصفر: [الطويل] ولّما ارتدى من أصفر اللّون حلّة ... كسا عاشقيه حلّة من طباعها وما هي إلّا شمس خدّيه أشرقت ... فألقت على أثوابه من شعاعها انظر إلى رأي هذا الشاعر الأصيل، ولطف معناه الذي خضعت له شمس الأصيل، هل يقال أحسن منه في لابس أصفر، أو يجلي مثله الصباح إذا أسفر. عدنا إليه. وقوله يصف ناعورة: [الكامل] وناعورة قالت لنا بأنينها ... قولا ولم تدر المقال ولم تعي كم فيّ من عيب يرى مع أنني ... أبدا أسير ولا أفارق موضعي

لا رأس في جسدي وقلبي ظاهر ... للناظرين وأعيني في أضلعي وقوله: [الطويل] أيا ذا الذي قد كفّ كفّيه عامدا ... عن الجود خوف الفقر ما ذاك سائغ أتخشى، سهام الفقر ما دمت منفقا ... تصيبك، والنّعمى عليك سوابغ وقوله: «1» [الكامل] حاذر أصابع من ظلمت فإنّه ... يدعو بقلب في الدّجى مكسور فالورد ما ألقاه في جمر الغضا ... إلّا دعاء أصابع المنثور «2» وقوله: [الكامل] لّما دعا المنثور أن الورد لا ... يأتي وإن يصلى بنار سعير ودّت ثغور الأقحوان لو أنّها ... كانت تعضّ أصابع المنثور وقوله: [الكامل] أنعم على المنثور منك بزورة ... فلقد أراه والسّقام حليفه ما اصفرّ إلا حين غبت ولم تزل ... تدعو بأن يأتي إليه كفوفه وقوله: «3» [الكامل] مذ لاحظ المنثور طرف النّرجس ال ... مزور قال وقوله لا يدفع (157) فتّح عيونك في سواي فإنه ... عندي قبالة كل عين أصبع وقوله: [الكامل]

46 - الأمير السليماني

مذ قلت للمنثور إنّ الورد قد ... وافى على الأزهار وهو أمير بسمت ثغور الأقحوان مسرّة ... بقدومه وتلوّن المنثور ومنهم: 46- الأمير السليمانيّ «13» رجل من أبناء الأمراء، وبطل تجلّى بأبناء الأسود بلا مراء، كان من أضرى الضّراغم، وأعزّ الفوارس. إذا أنف شمّ الرّغام أنف الرّاغم، ثمّ خلع تلك الملابس، وولع بما كان له أفخر لابس. واجتنب الأمراء وصحب الفقراء، ولبس رداء التصوّف، وترك رياء التصرّف، وترك دويرة أبي القاسم الشّميساطي بباب الجامع الأموي. وأصبح عن النّاس بمعزل، وقال ما مثل الدّويرة منزل. وخمدت منه تلك السّطا الفاتكة، ولم يجنح مع دويرة الشّميساطي أن يقول: يا دار عاتكة. وكان من صاغة الشعر، وباعة القصائد بأغلى سعر. وممّا اختار لنفسه، ومن خطّه نقلت، ومن ظبائه السّوانح عقلت، قوله: [البسيط] لو عاين اللائم اللّاحي محاسنه ... لما خلا قلبه من حبّه أبدا شمس سنا، غصنا قدّا نقا كفلا ... سهما لحاظا طلا ريقا طلا جيدا يزيد قلبي لهيبا في محبّته ... إذا ترشّفت من ذاك اللّمى بردا وقوله: [الكامل] ولقد سريت على أغرّ كأنّه ... لهب الهشيم أصاب ريح الشّمال وله إذا ضاق الفضاء وحطّمت ... سمر القنى، وعلت سماء القسطل دوران زوبعة وخفّة شمأل ... وصدام جلمود وعطفة جدول

وقوله: [الكامل] إن مسّ ذاك الوجه من كره أذى ... أخفاه عن لحظ العيون فلم تره فكذا أخوه البدر عند كماله ... يعتاده مسّ الكسوف من الكره (158) وقوله: [الكامل] لك معنيان إذا طرقت أراهما ... وإذا ذكرتك في النّسيب أريهما بيني وبينك من جمالك عامر ... فالحسن والإحسان يظهر فيهما وقوله: [الكامل] أعلقتكم حبل الوداد وجئتكم ... بمودّة ما زال ثابت أسّها مثل السّفين تجشّمت صعدا وجا ... دبها على علّاتها من نفسها وقوله: [الكامل] قولوا لمن أضحى سواء عندهم ... ما يوجب الإعراض والإلمام بإضافة الأعلام لا تتعرّف النّ ... كرات بل تتنكّر الأعلام وقوله: [الكامل] لا غرو إن وصف امرؤ وصفي ونا ... ل مكانتي يوما وليس بطائل تجري الصّفات على أمر ليست له ... ويقام مفعول مقام الفاعل وقوله: [المنسرح] لا تك ممن يقول أعرف هـ ... ذا الأمر جهلا منه وما عرفه سل غير مستكبر فإن حيا ... ة الجهل بين الحياء والأنفه

وقوله: [المنسرح] في الناس من يخطئ الصّواب فإن ... ردّ إليه يعود كالنّاسي وإنّما من يرى الصّواب ولا ... يعرفه لا يعدّ في النّاس وقوله: [الطويل] الخاتم المنقوش زينة لابس ... وحرز لما يحوي من العين والقدّ فمن جاءني كالصّخر عاد كما بدا ... ومن جاءني كالشمع حصّل ما عندي وقوله: [الطويل] إليك أمير المؤمنين بعثتها ... عروسا تهادى في صوان وفي خدر سليلة أعراب بنجد بيوتها ... وما برحت من قصر عيسى إلى النّهر لدى ناهب عجم الطّغاة نفوسهم ... وأمواله نهب الفصيح من الشّعر أليلة قدر قمت أنشد مدحة ... لديه، وما أدراك ما ليلة القدر (159) أؤمّل نعمى ثيّبا أستزيدها ... على حسن ما أهديت من ناهد بكر وقوله: [البسيط] إن لم يصب من عدوّ سهمه غرضا ... يوم النّضال فإن الرّأي صائبه وإن سرى في بهيم الخطب سائره ... تريك محتوم ما يأتي تجاربه ومنها: غيث يسحّ على الدّاني فيغرقه ... جودا وتنشر للقاصي ذوائبه وكلّ ما جلّ من مال ومن نشب ... فالعدل جامعه والجود ناهبه وقوله: [الطويل] إذا ساس ملكا سار كالشّمس أشرقت ... عليه فنجم الظّلم في الأفق آفل

وإن حكّ مسودّ الخطوب برأيه ... جلاه كما تجلو الصّفاح الصّياقل ومنها: إذا اعتقلوا سمر الرّماح فعقلهم ... بمولاهم صيد وبيض عقائل وإن نكحت بيض الصّدور فإنّها ... تحيض دما في الرّوع وهي حوامل وقوله: [الطويل] فلا تتّخذ عونا على الدّهر دائبا ... سوى العدمس الوجناء والفرس النّهد «1» فإني حلبت النّاس ثمّ مخضتهم ... فما حصلت كفّاي منهم على زبد «2» وقوله: [الطويل] عزيز إذا عاززته في عظيمة ... ألّمت، فإن لاينته لان جانبه إذا اضطرّ لم يحلم ويحلم قادرا ... على مذنب والغيظ يزور حاجبه وقوله: [الرجز] إن القضاء قاذف المرء إلى ... مقدوره أو جاذب بطوقه أفّ لمن يجبن عن أقرانه ... إنّ الجبان حتفه من فوقه وقوله: [الرجز] ندعوك للأمر الذي يعزّنا ... دفاعه عنّا فليس يبرح ليس لهذا الأمر إلاك فتى ... إن الحديد بالحديد يفلح

(160) وقوله: [الكامل] وكأنّ بركة مائها ماويّة ... تحكي النّجوم الزّهر في جريانها فتريك لامع مائها في سقفها ... وتريك زخرف سقفها في مائها ومنها: وكأنّ ألواح الرّخام موائلا ... في لونها وصقالها وصفائها أمواه آنية تخالف لونها ... فتشبّهت كلّ بلون إنائها ومنها: تمّت محاسنها بجمّام لها ... تتخلّل الضّرّاء في سرّائها كالكير يخلص سرّه بحريقه ... فنعيم داخلها بطول شقائها تبدو لعينك في القباب بدورها ... وتضيء في أرجائها وسوائها وبكلّ أنبوب سكوب قنية ... فدموعها تجري جوا والنار في أحشائها ومنها: ودمشق، زاد الله ملكك، جنّة ... جدواك فيها مثل قسمة مائها علّمه يرقى مثل جودك في ذرى ... أو غالها ويصبّ في بطحائها وقوله: [البسيط] إنّي ليحزنني ذكرى مآربه ... وقصده الشّرف المقصود بالدّأب جرت أمانيه تتلوها منيّته ... شدّا فما وقفا إلّا على الإرب قضى وفي قلبه من فقد صبيته ... حزن يدوم مع الأيام والحقب كالعظم ليس بذي روح ويؤلمه ... أذى المشارك مثل العرق والعصب وقوله: [البسيط]

ملك له من بني العباس منزلة ... علياء يقصر عن إدراكها زحل سمت جلالا فلو مدّت لتلمسها ... كفّ الخضيب عراها الضّعف والشّلل وقوله: [مجزوء الرجز] إيّاك يا منتحلا ... حديث شعري متّضح (161) شعري كالمسك من ... يسرق منه يفتضح وقوله: [الطويل] صفاتك أصفى من سماء سحابة ... رأت من مديحي حيث مازجها بحرا ولكنّها تهمي عليّ فرائدا ... فآخذها ماء وأقذفها درّا وقوله: [الكامل] لا تركننّ إلى صفاء مصاحب ... إن لم تكن أحكمته تجريبا فالماء يصفو للعيون وإنّه ... ليريك كلّ ممثّل مقلوبا وقوله: [الطويل] نصبت على التمييز إنسان مقلتي ... أشاهد قدّا منه نصبا على الظّرف أأخشى فراقا بعدها أو قساوة ... وقد جاؤوا والصّدغ للجمع والعطف وقوله: [الخفيف] لم يوفّق من أعوزته المدارا ... ة ولا طال من يطول عناده وإذا المرء صيّر الحقد طبعا ... مات غبنا ولم تمت أحقاده فاجعل الحلم والسّماح جناحي ... ك تصيد ما لم تكن تصطاده

واقتصد في الأمور إن لبيب النا ... س من أعجب اللبيب اقتصاده هي منّي نصيحة لك والنّص ... ح كبير نفاقه وكساده وقوله: [مجزوء الرمل] قل لمن علّم خطّا ... مرّة لا نلت علما زدت عين الشّرّ شرّا ... وسقيت السّهم سمّا وقوله: [الكامل] إنّي لأعرف في الرّجال مخادعا ... يبدي الصّفاء وودّه ممذوق مثل الغدير يريك قرب قراره ... لصفائه والقعر منه عميق وقوله: [الخفيف] لم تغيّر يا أحسن النّاس ودّي ... بدوام الصّدود والتّعذيب شافع واحد من الحسن يمحو ... ألف ذنب لا سيّما من حبيب (162) وقوله: [الطويل] وقد كان روح الأرض حال حياته ... وأيّة روح لا يفارقها الجسم لقد عدم المعروف بعد وفاته ... ولو أنّه حيّ لما عرف العدم وقوله: [مجزوء الرجز] يا هرما كأنّه نصل يراه من لمح ... وصغيره من شاهد الوضع اتّضح فلو تهيّا سهمه وركّب السّهم وصح ... رمى به عفريت بلقيس على قوس قزح وقوله: [الطويل] أساكن مصر قرّ عينا ولا تخف ... فقد كفل الجبّار رعي مقامها

وقد صحّ نقلا أن مصر كنانة ... وأهرامها منها يصول سهامها وقوله: [الوافر] تبيّن أنّ صدر الأرض مصر ... ونهداها من الهرمين شاهد ووا عجبا وقد ولدت كبيرا ... على هرم وذاك النّهد ناهد وقوله: [البسيط] يا ويح ناعورة باتت تؤرّقني ... فواصلت حزن آصالي بأسحاري باتت تئنّ وتبكي في تقلّبها ... لكن على غير أوطان وأوطار فهيّجت أنّتي شوقا إلى سكني ... وأرسلت دمعي الجاري على الجار وقوله: [مجزوء الكامل] لا تعذلنّي في العرو ... ض ولو رأيت القصد حائر دارت عليّ دوائر ... فجهدت في فكّ الدوائر وقوله: [الكامل] فتّ التّتار على عتيق مقرّب ... ورجعت لكن فوق جدّ مقرف وإذا اصطفى الملك الخؤون لنفسه ... ولملكه فالذنب ذنب المصطفي وأخوك خانك قبل ذاك فما نجا ... فابكوا مليكا خانه الأخ والصّفي والعين تشبه أختها في خلقها ... ولرّبما اختلفا كعيني أخيف ومنها: تتلو الجواسق فاطرا أسفا وقد ... كانت بقربك تاليات الزّخرف (163) وقوله: [الوافر]

أميل إلى سكون وانقطاع ... مريح والزّمان به ضنين وكيف يرام من حركات دهر ... يدور بأهله أبدا سكون وقوله: [الخفيف] نمّ فوق الخدّين منه عذار ... لا تراه العيون إلّا خيالا كإناء من عسجد فيه ماء ... نقشت تحته الصّناع مثالا وقوله: [الوافر] تقاطع صاحباي على هناة ... جرت بعد التّصافن والتّصافي وذا مالا يضمّهما مكان ... كأنهما معاقبة الزّحاف وقوله: [الطويل] وصلت فلمّا أن ملكت حشاشتي ... هجرت فجد وارحم فقد مسّني الضّرّ فليت الذي قد كان لي منك لم يكن ... وليتك لا وصل لديك ولا هجر فلا عبرتي ترقى ولا فيك رقّة ... ولا منك إلمام ولا عنك لي صبر وقوله: [البسيط] إن دام بعدكم لا شكّ في تلفي ... أنتم دوائي وأنتم في الهوى دائي بقاي بعدكم يا من كلفت بهم ... كالحوت في البرّ أو كالضّبّ في الماء وقوله: [الكامل] أنّى تكيّف أو تمثّل ذات من ... عجزت عقول الخلق عن أوصافه مهما تمثّل ناظر أو خاطر ... فالله جلّ ثناؤه بخلافه وقوله: [المتقارب]

47 - الحسام الأحدب، وهو أبو العوف، منقذ بن سالم بن منقذ بن رافع بن جميل بن منير بن مزروع المخزومي

أنام إذا أنا حدّثته ... لأن حديثي لا ينفع نشاط المحدّث في لفظه ... على قدر فهم الذي يسمع وقوله: [مجزوء الكامل] يغتابني فإذا التفتّ ... أبان عن محض صحيح وثبا كوثب البحتريّ ... من النّسيب إلى المديح وقوله: [الخفيف] من مجيري من أسمر اللون كالأس ... مر قامت عليّ فيه القيامه (164) حسد البدر حسنه فلهذا ... ذاب غيظا حتى بدا كالقلامه لعبت خلفه الذّؤابة فاس ... تكبر تيها فقبّلت أقدامه وقوله: [الكامل] والشّعر كالدّينار جيّده ... ورديئه كالفلس في الصّرف ضرب كضرب العود تسمعه ... وقعاقع كالطّبل والدّفّ ومنهم: 47- الحسام الأحدب، وهو أبو العوف، منقذ بن سالم بن منقذ بن رافع بن جميل بن منير بن مزروع المخزومي شاعر ولد بالمعرّة، وعقد راحه بالمسرّة، ومن ثمّ بين نبلائها نجم، ومن يمّ فضلائها انسجم. ونشأ بدمشق منذ كان في سن اليافع، واخضرّت فيها فروعه، فقيل له أبو الغصن لغصنه اليانع. ولم يكن مثله في الحدبان والهلال الذي تقوّس، ولا شبيهه في الأغصان ولو تهوّس، إلا أنه ما سدّت بمثله محرومة محروم، ولا سدّت قريش على نظره نطاق مخزوم.

وقد ذكره الفاضل أبو العباس، ابن العطّار الكاتب، قال: «وكان قامته دون قعدة الرجل» خلاف قول سلم الخاسر: [المتقارب] إلى ملك من بني الخيزرا ... ن كان القيام لديه قعود وقد أنشده من شعره قوله: [الكامل] لولا ظماي إلى جنى رشفاتها ... عفت الكؤوس وما شربت مداما وممنّع الزّورات زور خياله ... من أجله أنا أعشق الأحلاما يهوى الزيارة في الظّلام مجالسا ... فأودّ لو عاد الصّباح ظلاما من لي بمعشوق الشّمائل لم ينل ... بدر التّمام إذا رآه تماما رشأ لقتل محارب ومسالم ... إن لم يهزّ الرّمح هزّ قواما وقوله: [الطويل] سلوا ورق بانات الحمى عن تشوّقي ... وجز بالمنحنى عن تحرّقي ففي دين بعد البين ما بعض بثّه ... يدلّ على قلب المعنّى وما لقي (165) وليس الذي عندي من الوجد والأسى ... بمستحدث عن بعد يوم التّفرّق ولكنها نار تشبّ ضرامها ... نوانا فما تخبو إلى حين تلتقي وفي ذلك الحيّ التّهامي كاعب ... كغصن النّقا عضّ النظارة موثقي إذا طلعت شمس النهار رأيتها ... تحاذر ذاك الحيّ منها وتتّقي وقوله: [الكامل] وفتور لحظك وهو آفة سكرنا ... لا ما أتى في الكأس والإبريق ما فاتك الحرّ الحلال وإنّما ... حلو حديثك فيه مرّ عتيق وقوله: [الخفيف]

لا تزدني على شديد اشتياقي ... فكفاني من الأسى ما ألاقي فإلى من وأنت خصمي ووالي ال ... حسن أشكو جناية الأحداق ونصوح يقول نم لترى الطّي ... ف فتحظى منه ببعض التّلاقي يا رفيق المحبّ أطنبت في التّع ... نيف، ما هذه شروط الرّفاق وقوله: [الكامل] ما للغواني قلّ منها ناصري ... لّما رأت خذلان شبّي النّاصل عطلي من الأحباب أبقاني على ... حال الأسى فأعجب لحال عاطل وقوله: [الكامل] زمن الصّبى هل ما تولّى يرجع ... هيهات ذلك والشّباب مودّع كم قد بكيت عليك لو أجدى البكا ... وأسفت لو أنّ التّأسّف ينفع لا تنكرنّ لهم خضوعي ذلّة ... من ذا يحبّ ولا يذلّ ويخضع وحمائم بالغور بتّ مؤرّقا ... أشكو الذي تشكو وباتت تسجع وأحبّة قطعوا حبال مودّتي ... لم يبق لي في الوصل منهم مطمع قالوا تعرّض بالخيال وطيفه ... والطّيف كيف يزور من لا يهجع وقوله: [الطويل] تجمعت الأحزان من كلّ جانب ... عليّ كشمل الحيّ لّما تفرّقا (166) حبست على أطلاله الدّمع سافحا ... ففي سفح ذاك المنحنى راح مطلقا أطلت إليه بثّ شكوى صبابتي ... [ومثلي] يطيل البثّ من كان شيّقا ولما اجتمعنا للوداع عشيّة ... جزعت ولما يبعد العهد باللّقا وإن تبت عنكم كارها فأليّة ... بحبّكم لا بتّ إلّا مؤرّقا

وقوله: [الطويل] سرى البرق من نحو الحمى يتألّق ... فهاج لمسراه الحمام المطوّق وغرّد حتى قلت مثلي متيّم ... وأعلن حتى قلت مثلي مؤرّق وبتّ أناجي الشوق حتى إذا بدت ... عن الصبح أثواب الظلام تشقّق وقفت بربع الدار عنهم مسائلا ... فكادت لما بي دمنة الدار تنطق وقوله: [الطويل] مرير التّجنّي ثغره خصر الجنا ... بصدري به قبض وعذري له بسط أباح دم العشّاق خطّى قدّه ... فهل جاءه غير العذار به خطّ وقوله: [مجزوء الكامل] طاب الصّبوح مع الغبوق ... فامزج لنا راحا براح مشمولة قد عتّقت ... في دنّها من عهد نوح حمراء صرفا إن بدت ... في كأسها أزرت ببوح أو ما ترى راووقها ... يبكي على الزّقّ الذّبيح خذها وإلا ما النصي ... ح فلا تطع قول النصيح وقوله: [الخفيف] يا نسيم الصّباح عيّ لساني ... قصر والغرام شرح يطول أنت مأمونة على السّرّ فاستملي ... حديثي وحقّقي ما أقول جدّدي بيننا المواثيق فالله ... على ما نقول وكيل في عذول عن السّلوّ وفي ... أذنيّ وقر عما يقول العذول ما عليهم لو خفّفوا من غرامي ... إن عبء الغرام عبء ثقيل (167) وبذاك الصّريم ريم لقتلي ... فاعل وعن صدّه مفعول

قمر من جبينه ومن الفر ... ع لرأيه بكرة وأصيل أشبهت لون قده حوّة ... الثغر فذا عاسل وذا معسول يا عنيدا بالصدّ هل لظما الصب ... ب إلى رائق الوصول وصول إن نار الجفا التي أنت مصل ... فوق ما يستحقّ منك الخليل وقوله: [الكامل] كرّر عليّ فإنّ أخبار النّقا ... أمست أحقّ لمسمعي أن تطرقا وأعد عليّ حديث من حلّ الحمى ... فلربما ناب الحديث عن اللّقا وقوله: [الطويل] أهاجك نجد أم شجتك المنازل ... فأكناف سلع فاللوي فالمعاقل فيا حبّ وصل لم تشبه قطيعة ... ويا طيب حبّ لم تشنه العواذل ولم أنس سكّان الحمى وقد اغتدوا ... رواحل قد شدّت لديهم رواحل فما أوسقوا يوم الترحّل أو سقوا ... مطيّهم إلا ودمعي مناهل ولما نأوا نأيا تولّيت إثرهم ... أسائل بعد القوم والدمع سائل فلو قصدوا الإنصاف أدنوا وباعدوا ... ولو عدلوا في الحكم صدوا وواصلوا أيا فالقا هام الدّجى بقلوصه ... توقّ النّقا إن كنت نجدا تحاول وإياك أن تأتي الأراك مخافة ... أراك وقد أصمى فؤادك نائل وقبّل إذا أقبلت أحجار حاجر ... ومثّل به فالرسم للرسم ماثل وحيّ به حيّا متى رمت ريمة ... يصدّك عنه الذابل القدّ ذابل فكم علقتنا من هواه علائق ... خذلنا بها والحبّ للمرء جاذل وكم قد توسّلنا إليه بمدمع ... فسال ولم تنفع لديه الوسائل ولما رأيت السّحر بدعة طرفة ... تيقنت حقّا أن عيناه بابل

48 - عبد الله بن عمر بن نصر الله الأنصاري، أبو محمد، موفق

وقوله: (168) [البسيط] وعاذر في الهوى أن دان جاهله ... فللهوى مسلك مستويل زلق يردي الكميّ وإن جلّت بسالته ... ويستباح حماه المدره العرق هل أنت عاصم باك سوف يدهمه ... إما حريق بنار الشوق أو غرق لله من واله ولم ترم بسكان النقا ... ولّما يزل ما اعتاده القلق فلا تعجّب من ذلّي وعزّهم ... فطالما ذلّ أقوام إذا عشقوا وإن حرمت لذيذا من وصالهم ... فالمستحقّون شيئا قلّ ما رزقوا ومنهم: 48- عبد الله بن عمر بن نصر الله الأنصاري، أبو محمد، موفّق المعروف بالورن، الواعظ، الكحال، المتطبّب. واعظ لا يغر، ولا فظ بلفظ الدّر، وطبيب يمسح بيده السّقام، وكحّال لا تروّع بعده العيون بالمنام. دمث الأخلاق، غيث الروض فخاب سعي نسيمه الخفّاق، وتنقّل في السّكنى بمصر والشام، ثم اتخذ بعلبك من مساكنها دارا، ورضي بساكنها جارا، ثمّ لما حمّ حمامه، وقاربت الممات أيامه، رحل إلى مصر فتوسّد بها فراش التراب، وحطّ بها رحله، ثمّ لم يبعث له ركاب، وشعره الذّ من غفلة الرقيب، وزورة الحبيب، فمنه قوله: [الطويل] يسائل طرفي عن خيالك في الكرى ... فيخبر سهدي أنّ طرفك راقد ويحسب وكرا ناظري طائر الكرى ... وما هو إلا للسّهاد مصائد وقوله: [الكامل] قلبي وطرفي في ديارهم ... هذا يهيم بها وذا يهمي

رسم الهوى لما وقفت بها ... للدمع أن يجري على الرّسم وقوله: [السريع] تشابهت والصّبح في نورها ... ففرّق الساقي بفرق دقيق ومزّقت ثوب الضحى فانثنى ... من بزلها يرفي بخيط رقيق وقوله: [الكامل] رقّ النسيم لطافة فكأنّما ... في طيّه للعاشقين عباب وسرى يفوح معطّرا وأظنّه ... لرسائل الأشواق فيه جواب (169) وقوله: [الكامل] إن ضيّعوا عهدي فعهد هواهم ... بين الجوانح سرّه مكنون وحياتهم، أما السّلوّ فإنّه ... شك وأما حبّهم فيقين وقوله: [الكامل] شمت الحسود لأني ضنيت وما درى ... أنّي بأثواب الضّنا أتشرّف يا غائبين وما ألذّ نداهم ... وحياتكم قسمي وعزّ المصحف وقوله: [الطويل] رتق الحمى حدّث بأخبار لوعة ... لها من فؤادي بالجفون تواتر ويا نسمات الصّبح قولي لراقد ... هناك الكرى، إنّي لبعدك ساهر وقوله: [الطويل] خليلي ما للبرق يخفق غيرة ... أبرق حماها مثل قلبي عاشق وما للمطايا قد حداها اشتياقها ... حتى لها مثلي تحنّ الأيانق

تميل غصون البان شوقا لقدّها ... فتنطق إشفاقا عليها المناطق وينشقّ قلب للشقائق غيرة ... إذا حدّقت حينا إليها الحدائق وقوله: [الكامل] نقل الأراك بأنّ ريقة ثغره ... من قهوة مزجت بماء الكوثر يا طيب ما نقل الأراك لأنّه ... يرويه نقلا عن صحاح الجوهر حكى الفاضل أبو العبّاس بن العطّار، الكاتب، أنّ أخت الشيخ قطب الدين موسى بن القويني كانت مزوّجة في الرّحبة، فلمّا مات زوجها توجّه أخوها قطب الدين لإحضارها فأقام عندها لتقضي مدّة العدّة، ثمّ يحضرها، فكتب إليه الورن: [الكامل] مولاي قطب الدين موسى دعوة ... من نازح يسلو قطيعة وصله أتراك ما آنست نار تشوّقي ... يا من قضى أجلا وسار بأهله قال: وكان بالبقاع قاض يلقّب شهاب الدين، وله ولد مليح اسمه موسى (170) فأتاه فقيه مشهور يحبّ الغلمان، وكان قد أطلّ شهر رمضان، فتلقّاه القاضي، وأنزله عند ابنه، فكتب إليه الورن: [السريع] قل لشهاب الدين يا حاكما ... في سرعة الحبّ على الجار جار آويت في ذا الشهر ضيفا يرى ... أنّ دبيب الليل مثل النهار وهو فقيه أشعريّ الخصا ... يعلّم الصّبيان باب الظّهار إياك إن لاحت له غفلة ... لفّ كبار البيت بعد الصّغار قال: وكان بالبقاع وال من أهل الأدب، يعرف بابن درباس، واسمه عليّ، وكان ينظم الشّعر ويتوالى، والوزير بدمشق إذ ذاك بدر الدين جعفر بن الآمدي، وكان يتوالى أيضا. فاتّفق أنّه ولّى عنده بالبقاع كاتبا ممن سلم من التّشمير من

49 - يوسف بن أحمد بن محمود، الأسدي، أبو العز وأبو المحاسن، جمال الدين. عرف بابن الطحان

ديوان المطابخ، وكان من حديث هؤلاء أنهم سرقوا قندا كبيرا، كان قد حمل من غور الكرك، ليطبخ بدمشق للسلطان، فبلغ ذلك الملك الظاهر بيبرس، فأمر بهم فسمّروا، وطيف بهم على الجمال، إلّا هذا الكاتب، فإنّه شفع فيه، فأطلق بعد أن قدّم الجمل ليسرّ، فلمّا استخدمه ابن الآمدي بالبقاع، ضيّق على ابن درباس، فأقام يعمل قريحته فيما يكتبه إلى ابن الآمدي فيه، فلم يأت بشيء، فسأل الورن في ذلك فكتب: [البسيط] شكية يا وزير العصر أرفقها ... ما كان بأملي هذا من ولاك علي لم يبق في الأرض مختار إلا فتى ... من بقايا وقعه الجمل فضحك ابن الآمدي، وقال: قال الحق والله، ثم عزل ذلك الكاتب، ولم يستخدمه بعدها. ومنهم: 49- يوسف بن أحمد بن محمود، الأسديّ، أبو العزّ وأبو المحاسن، جمال الدين. عرف بابن الطّحان «13» وهو المسمى بالحافظ اليغموري، لنسبته إلى صحبة ابن يغمور. محدّث لا يملّ، ومؤرّخ لا يخلّ، وحافظ مدد بحره لا يقلّ، وفاضل لا يعجز أن يستدلّ، ملأ بخطّه الورق، ورمى بخطبه الفرق، وكتب أوقار أحمال، وأوراق تعاليق تقيّد خطا الجمال، صدوق، نقله محقّق، (171) وقوله مصدّق، وحديثه موثّق. كم له من مجموع حسن، ومسموع ما أطرب به طائر على فنن، وكان له طرف تشفّ، ولطف تخفّ، وأدب شكره واجب، كأنه الغمز بالحواجب. وحكي أنه مرض لابن يغمور مملوك كان يعزّ عليه، وكان يعوده طبيب من أخصّاء أصحابه،

فمات المملوك، فلما خرجت جنازته، خرج الطّبيب فيمن خرج معها، فلما حضر الدفن قعد الطبيب على القبر وهو يحفر، ثم بقي يقول للحفّار احفر كذا، اعمل كذا، افعل كذا، فقال له الحافظ اليغموري: يا سيّدنا أنت قد عملت ما يجب عليك وما قصّرت، لازمته حتى وصّلته إلى هنا، وأمّا من هنا ورايح، ما بقي يتعلّق بك. الذي عليك أنت عملته، وبقي الذي على هذا، وأشار إلى الحفار، فخزي الرجل، وضحك كلّ من حضر الدفن. ورأيت بخطّ ابن العطّار ما صورته وقد ذكره، فقال: «وكتب إليه الأديب شهاب الدين محمّد بن عبد المنعم ابن الخيمي، وكلاهما أرمد: «1» [الوافر] أبثّك يا خليلي أنّ عيني ... غدت رمداء تجري مثل عين حديثا أنت تعرفه يقينا ... لأنّك قد رمدت وأنت عيني «2» فكتب جوابه: [الوافر] كفاك الله ما تشكو وحيّا ... محاسن مقلتيك بكلّ زين فإنّي من شفائك ذو يقين ... لأني قد شفيت وأنت عيني «3» ومن شعره قوله: «4» [الرمل] رجع الودّ على رغم الأعادي ... وأتى الوصل على وفق مرادي «5» ما على الأيام ذنب بعدها ... كفّر القرب إساءات البعاد «6»

50 - جوبان القواس

ومنه قوله: «1» [الرمل] أنا مرآة فإن أبصرتم ... حسنا أنتم بها ذاك الحسن أو تروا ما ليس يرضيكم فقد ... صدئت إذ لم تروها من زمن «2» ومنهم: 50- جوبان القوّاس «13» واسمه رمضان، ولقبه أمين الدين. لسان (172) ينفق درّا، وبيان ينفث سحرا، وسنان يصيب نحرا، وحسّان يؤيّد بروح القدس إذا قال شعرا، كان لا يقرأ ولا يكتب، ولا سلف له سابق بأديب، ولا درس، بل كان شغله صنعة القسيّ يطلع أهلّتها، ويصنع من سقام الأصيل حلّتها. وحكى لي شيخنا شهاب الدين محمود الحلّي الكاتب عنه، أنه كان يدّعي الأميّة، وكان بخلاف ما يدّعيه، قرأ وكتب وحفظ المفصّل في النحو. وحكى لي صاحبنا الشيخ جمال الدين، أبو زكريا يحيى بن الغويرة السّلميّ عنه، أنّه كان يأخذ الخطوط المنسوبة الفائقة بخط ابن البوّاب، والوليّ التبريزي، وأمثالها ويضعها قدّامه بحيث يراها، ثمّ يقصّ من التّوّ مثلها ويلصقها أسطرا على الدروج، لا يفرّق بين ما قصّه منها بالمقصّ وبين ما كتبه أولئك الكتّاب بالقلم. وحكى لي حسن بن المحدّث الكاتب أنه كان يكون قاعدا في عمل صناعته وهو ينظم القطعة من الشّعر، النظم الجيّد المرضي، وفي شعره ما يبلّل بقطره الغمائم، ويلطم بنشره اللطائم، ومنه قوله: «3» [الطويل]

وعهدي بوجه الأرض مبتسما فلم ... تغرغر منه الدّمع في مقل الغدر «1» إذ أرجف الماء النسيم لوقته ... كساه شعاع الشمس درعا من التّبر وقوله: نصون الحميّا بالقناني وإنّما ... نصون القناني بالحميّا ولا ندري «2» ولما حكى الرّاووق في العين شكله ... وقد علق العنقود في سالف الدّهر تذكّر عهدا بالكروم فكلّه ... عيون على أيام عصر الصّبا تجري «3» يناولنيها مخطف الخصر أغيد ... فلله ذاك الأغيد المخطف الخصر يقول وفرط السّكر يثني لسانه ... إلى غير ما يرضي التّقى وهو لا يدري «4» ومن كان لا تحوي ذراعاه مئزري ... فدون الذي تحوي أنامله خصري وقوله: لك بين حزني والسّرور مقام ... فلذاك أعذر في الهوى وألام (173) ولك السّرى بين الرّقاد ويقظتي ... فالوجد لا فكر ولا أحلام يا حيرة العشّاق في سبل الهوى ... إذ ليس يدرك علمه فيرام كتب الغرام على صحيفة خدّه ... مت عاشقا فلتتعب اللّوام وقوله: أدر علينا كأس ذكر الحبيب ... فإنّه يسكر سكرا عجيب لو نسيمات بنشر الحمى ... تأتي مع الصّبح لمات الكئيب

وا رحمتا للصّبّ إن عرضوا ... بذكر من يهواه عند الرقيب يروم أن يكتم أحواله ... وكيف تخفى لمحات المريب وقوله في مليح له خال رقم ديباجة خدّه، وخال أنّه هو سبب صدّه، وأتى بلفظة حاله هنا تورية حسنة على ابتذالها وكثرة استعمالها: [السريع] وأسمر يخجل سمر القنا ... معسوله تحمي بعسّاله يتمنّى خال على خدّه ... وآفة العشاق من حاله وقوله: [الطويل] تحمّلت فيك السّقم حتى رحمتني ... فحاكيت حالي والتوجّع مسقم وأحرقت قلبي بالجفا وسكنته ... فلا غرو إن فاحت عليك جهنّم ومذ غاض ما استودعت في الخدّ من دمي ... بكيت به إلّا فمن أين لي دم وقوله: [السريع] لولا عيون الرشأ الأكحل ... ما وصل السّهم إلى مقلتي رقّ لي العاذل من لوعتي ... فكيف لو شاهده عذّلي وقوله: [مجزوء الخفيف] سار مزموم ركبهم ... وهو عنّي مجنّب فأنا اليوم بعدهم ... بالمغاني مشبّب وقوله في القوس، وبذل فيه جهد استطاعته، وأجاد في صناعته: [الخفيف] أنا عون على هلاك عداكا ... زادك الله نصرة وحماكا (174) فادعني في الوغى تجدني صبورا ... نافذ السّهم في العلا فتّاكا

ربّ في الحرب نلت مطلبك ال ... أقصى وما بي من قدرة لولاكا وقوله في مليح لعب بالصوالجة، فطارت الكرة إلى وجهه فأثّرت فيه، وحقّقت باللّدم له بالبدر التّشبيه: [البسيط] وافى وقد أثّرت في وجهه كرة ... جاءته قاصدة من غير مقتصد لم ألق في حرجي من فعلها ألما ... بقدر ما نالني من شدّة الحسد وقوله: «1» [مجزوء الكامل] ربّح وخذ بنسيئة ... واشرب وامطل ودافع «2» فأحقّ ما أكل المحا ... لي مال أرباب المطامع وقوله، وهما في جملة قطعة من قطعه السائرة، وأبياته التي علقت بكلّ ذاكرة: «3» [البسيط] لاح الهلال ابن يوميه فأذكرني ... شرب المدامة تجلى من يد السّاقي «4» كأنّه شفق للكأس قد نقصت ... بالميل والخمر شفّاق على الباقي وقوله: [مجزوء الوافر] تفرّق عقله فرقا ... كذاك يصاب من عشقا وأودع قلبه حجرا ... من الوجنات فاحترقا وقوله: [الكامل]

قابل مذلّة من أتاك بعذره ... بالصفح إنّ العذر خير شفيع وإذا غفرت فلا تشوب حلاوة ال ... غفران منك مرارة التقريع وقوله: [الوافر] أغايظه ليعرض بالتجنّي ... فيحلو لي إذا أبدى الدلالا وإن عرف الفتى مقدار شيء ... عزيز من بضاعته تغالى وقوله: «1» [مخلع البسيط] جئت أريد الحمّام يوما ... فغرّني النقش والحصير أنقل خوف الوقوع رجلي ... فيها كما ينقل الضرير (175) جهنّم لا يصاب فيها ... وهج بل الكلّ زمهرير وكلّما جاءها زبون ... قلنا ألم يأتكم نذير وقوله: [المنسرح] نفس الخسيس البخيل كامنة ... فيه ولو حاز ملك قارون يعطي ويقري وفي مخايله ... منّ شحيح وكظم مغبون وقوله: «2» [الوافر] حمانا الترك وانتهكوا حمانا ... وليس يفي التواصل بالصدود «3» حمونا بالصوارم والعوالي ... وجاروا باللواحظ والقدود وقوله يرثي صديقا له: [الخفيف]

كيف نسلو يا زين أو نتناسى ... خلقا منك يطرب الجلّاسا لست أبكي عليه لكن على نف ... سي أبكي فقد عدمت النّاسا وقوله: [الطويل] ولما نزلنا دوحة الزهر نجتلي ... محاسن ما قد نظّمته يد القطر فما خلتها إلّا تماثيل عنبر ... وقد جلّلت من فوقها شبك الدّرّ وقوله: [البسيط] أرني المنافس في الدنيا ليجمعها ... حرصا وللرزق حكم يبطل السّببا كلاعب النّرد يفني في تصرّفه ... جهدا ويمنعه المقدار ما طلبا وقوله: [البسيط] وباقة ألّفت من نرجس نضر ... تروق أبصارنا بالمنظر العجب تخال مائدة من فضّة وضعت ... وبثّ فيها سكاريج من الذّهب «1» وقوله: [المديد] أيّها الحادي أقم نفسا ... فلعمري فيك إحسان اسأل الأحباب أن يعدوا ... عودة فالقوم قد لانوا (176) رحلوا والقلب بينهم ... يتوارى وهو وجلان خيفة ممّن يهيم بهم ... كلّ من في الركب غيران وحكي أنه كان يعهد غلاما مصونا، ذا جمال رائق، وكمال فائق، وحسن يعذر به الوامق، وانجذاب يطمع بمثله العاشق، وكان يعهده يجرح قلبه ولا يكلّمه، ويروي نظره منه ولا يطفأ تضرّمه، فمرّ به وقد تمادى عليه زمان في

حانوت معلّمه، فمذ رآه افترّ له بمبسمه، فأراد أن يجلس إليه فأشار إليه ألّا يفعل، فعلق قلبه برحم إيمائه، وقوي طمعه في الوصول إلى نجم سمائه، وكان الغلام قد خاف معلّمه لأنّه كان به مفتونا لا يكفّ عنه نظرا، ولا يبصر غيره ولا يرى، وكان المعلّم وهو الذي راض جامح ذلك الغلام، وعلّمه أن يرمي بطرفه تلك السّهام، فانصرف عنه وهو يقول: [المنسرح] أقصد حانوته فيغمزني ... أن لا تقف عندنا لتهتكنا فإنّ هذا معلّمي رجل ... قد لاط قسطا من عمره وزنا لا جمّل الله من معلّمه ... بالسّتر عرقا إن مات أو دفنا علّمه صنعة يعيش بها ... معه، وأخرى بها أموت أنا قلت، وقد سكّن (معه) في هذا البيت وهو معيب. وكان شيخنا شهاب الدين محمود رحمه الله يقول: قلّ أن نهضت قافية مقيّدة، أو عمّر بيت سكّنت فيه مع. قلت: وفي قول شيخنا هذا مطلقا نظر، و (مع) ، الساكنة مع غير ضمير أخفّ منها ساكنة مع الضمير. ثمّ نرجع إلى تتمّة شعره فنقول، ومنه قوله: [الطويل] ألقت هواي في هواكم فراضني ... فلم يبق لي نفس تخالف عن أمري وقد كنت ذا صبر على ما ينوبني ... فعلّمني هجرانكم قلّة الصّبر وقوله: [السريع] لما بدا الشّعر على سالفيه ... سعى به من كان يسعى إليه (177) ما عاينت من قبله مقلتي ... بدرا عراه النّقص من جانبيه وقوله في الحشيشة: [الوافر]

إذا فرص بدت لك فانتهزها ... فأعمار السّرور بها قصار وخذها من معنبرة بلون ... كلون الآس يلحقها اصفرار تطوف على الأكفّ بغير كاس ... لها، وحياتها الحبّ الصغار وودّع غيرها إن خفت عارا ... فحسوة غيرها ذل وعار فلو أنّ الحشيش تزيد فهما ... لنال بفهمه الرّتب الحمار وقوله: [السريع] يعبث عجبا بقلوب الورى ... في الشّحّ بالوصل وبذل السّماح يؤنس بالنرجس من يجتني ... فإن لوى أطعمه بالأقاح وقوله في الأذريون، وأهل دمشق تسمّيه (الكركاش) : [الكامل] انظر إلى الكركاش وهو محدّق ... كالتّبر محتاط عليه يدار فكأنّه فم شادن متبسّم ... من فوق رأس لسانه دينار وقوله: [السريع] تبّا لحمّام نشبنا بها ... لم نر فيها خصلة صالحة فبابها كالفحم لكنّها ... كالثّلج منها نقطة راسخة والماء كالبولة لكنّه ... سخن غليظ سهك الرائحة «1» فيها ضباب عاقد تغتدي ... أوجهنا في نقعه كالحة والسّدر كالوحل على أرضها ... قد لزم الشّعر من البارحة وما الذي يذهب غيّابه ... وليس فيه نقطة شارحة وفيم أترف من أحذم ... علامة الشّرّ به لائحة

تتلو علينا كلّما جئنا ... هـ نتلو سورة الفاتحة وقوله: «1» [السريع] نفّش غصن البان أذنابه ... واهتزّ عند الصّبح عجبا وفاح وقال هل في الروض مثلي وقد ... عزوا إلى غصني قدود الملاح «2» (178) فحدّق النرجس يهزا به ... وقال حقّا قلته أو مزاح؟! قال له البان ألا تستحي ... ما هذه إلّا عيون وقاح «3» وقوله: [الخفيف] وعدت زورة إذا الليل جنّا ... فتجافى الكرى جفون المعنّى وغدا بين خوفه والدّجى هل ... ل إليه الصباح أو هي أدنى وقوله: [مجزوء الرجز] ذو مقلة صحيحة ... ألحاظها منكسرة كأنّها من فعله ... بصبّها معتذرة أوصافه كاملة ... وفي الورى مختصرة يا ربّ خذ رقيبه ... فهو أشدّ العشرة وقوله: [الوافر] لئن جحدتني العينان ظلما ... وجوب دمي فإنّ الخدّ يشهد بخلت على الخليل بغير ذنب ... جناه بطيب مرشفك المبرّد

51 - محمد بن العفيف، سليمان بن علي بن عبد الله بن علي، التلمساني، أبو عبد الله، شمس الدين

وقوله في المائدة وهي الخونجاه: [مخلع البسيط] وذات أصل لها زكيّ ... يصلح بين المغاضبين تسعى على الرأس إن أتتنا ... طورا وطورا على اليدين وقوله: [السريع] وذات وجهين وما فيهما ... عين ولا أنف ولا حاجب لها فم ليس له مدخل ... وهو لّما يسقونه شارب ومنهم: 51- محمد بن العفيف، سليمان بن علي بن عبد الله بن علي، التلمسانيّ، أبو عبد الله، شمس الدين «13» نسيم سرى، ونعيم جرى، وطيف لا بل أخفّ موقعا في الكرى، لم يأت إلّا بما خفّ على القلوب، وبرئ من العيوب، ورقّ شعره فكاد يشرب، ودقّ فلا غرو للقصب أن يرقص، وللحمام أن يطرب. ولزم طريقة دخل بها بلا استئذان، وولج القلوب ولم يقرع باب الآذان، وجاء بكلّ لطيف، وأجاد التورية والكلّ معها لفيف، وبرز على (179) أقرانه ففات الرّفقة، وملأ العين بما جاء به من الرّقّة، وكان لأهل عصره، فمن جاء على آثارهم افتتان بشعره، وافتنان فيه وفي ذكره، وخاصة أهل دمشق، فإنّه بين عمائم حياضهم ربّي، وفي كمائم رياضهم خبّي، حتّى تدفّق نهره، وأينع زهره، وكان يرى أنّهم جلدته، وأبناء بلدته، وإن كان قديمه من بلد سوى بلدهم، ولمولد غير مولدهم. وقد أدركت جماعة من خلطائه لا يرون عليه تفضيل شاعر، ولا يروون له

شعرا إلّا عظّموه كالمشاعر، ولا ينظرون له بيتا إلا كالبيت، ولا يقدّمون عليه سابقا، لو قلت: ولا امرأ القيس لما باليت. ومرّت له ولهم بالحمى أوقات لم يبق لهم من زمانها إلّا تذكّره، ولا من إحسانها إلّا ما تشكره. وأكثر شعره- لا بل كلّه- رشيق الألفاظ، سهل على الحفّاظ، لا يخلو من الأمثال العاميّة، وما تحلو به المذاهب الكلاميّة، فلهذا علق بكلّ خاطر، وولع به كلّ ذاكر، وعاجله أجله فاخترم، وأحرم أحبابه لذّة الحياة وحرم. ذكر شيخنا أبو حيّان وهو آخر من ذكره في مجاني العصر، وقال: مولده بالقاهرة في عشر جمادى الآخرة، سنة إحدى وستين وستمئة، ومما أنشد له قوله في طبّاخ: «1» [مجزوء الرمل] ربّ طبّاخ مليح ... فاتر الطرف غرير مالكي أصبح لكن ... شغّلوه بالقدور وقوله: «2» [السريع] أسير أجفان بخدّ أسيل ... كليم أحشاء بطرف كليل «3» في حبّ من حظّي كشعر له ... لكن قصير ذا وهذا طويل «4» ليس خليلا لي ولكنّه ... يضرم في الأحشاء نار الخليل «5» يا ردفه جرت على خصره ... رفقا به ما أنت إلّا ثقيل وقوله: «6» [الهزج]

وقد سوّد حظّي من ... ك يا أبهى الورى غرّة «1» سواد الخال والعار ... ض والمقلة والطّرّة «2» (180) قديم الهجر من لفتى ... قديم في الهوى هجره رأينا من جفا وجنا ... ولكن زدت في كرّة «3» فهل تسنح أو تس ... مح بالوصل ولو مرّة «4» فقد أصبحت لا أمل ... ك من صبري ولا ذرّة وقد صيّرني هجرك ... في كس أخت ما أكره «5» عذيري فيه من قمر ... يريك بخدّه الزّهره إذا قارن بالأكؤس ... إذ بشرتها ثغره «6» أراك الذّهب المصري ... ي فوق الفضّة الفقرة ومما أنشد له الفاضل أبو الصفا الصّفديّ قوله: «7» [الخفيف] ومليح كالبدر زار بليل ... فجلا حسنه الدّجى إذ تجلّى «8» وما درى منزلي ولكنّ قلبي ... بلهيب الجوى هداه ودلّا «9»

وعجيب منه فقيه ذكيّ ... بمحلّ النزاع كيف استدلّا وقوله: «1» [الكامل] ولقد أتيت إلى جنابك قاضيا ... باللّثم للعتبات بعض الواجب «2» وأتيت أقصد زورة أحيا بها ... فرددت يا عيني هناك بحاجب «3» وقوله في رسّام: «4» [مجزوء الرجز] قلت لرسّامكم ... بك الفؤاد مغرم «5» قال متى أذيبه ... فقلت حين ترسم «6» وقوله: «7» [من الرجز] يا بأبي معاطف وأعين ... يصول منها رامح ونابل «8» فهذه ذوابل نواضر ... وهذه نواظر ذوابل وقوله: «9» [الطويل] حللت بأحشاء لها منك قاتل ... فهل أنت منها نازل أم منازل «10»

أرى الليل مذ حجّبت ما حال لونه ... على أنه بيني وبينك حائل (181) أيسروا يا طلعة البدر طالع ... ومن شقوتي حظّ بخدّك نازل ولو أنّ قسّا واصف منك وجنة ... لأعجزه نبت بها وهو باقل وقوله: «1» [الطويل] بلا غيبة للبدر وجهك أجمل ... وما أنا فيما قلته متقوّل لحاظك أسياف ذكور فما لها ... كما زعموا مثل الأرامل تغزل وما بال برهان العذار مسلّما ... ويلزمه دور وفيه تسلسل ولا عيب عندي فيك إلا صبابة ... لديك بها كلّ امرئ متبدّل «2» وعهدي أنّ الشمس بالصّحو آذنت ... وسكري أراه من محيّاك يقبل «3» وقوله: «4» [السريع] في غزلي من لحظ ذاك الغزال ... أخبار صبّ قتلته النّبال غصن سقته أدمعي ثمّ ما ... أثمر لما مال إلّا الملال وهبته ياقوت دمعي ولا ... يسمح لي مبسمه باللآل «5» حلّ ثلاثا يوم حمّامه ... ذوائبا تعبق منها الغوال «6» فقلت والقصد ذؤاباته ... واسهري في ذي الليالي الطّوال

وقوله: «1» [الطويل] وكم يتجافى خصره وهو ناحل ... وكم يتحالى ثغره وهو بارد «2» وكم يدّعي صونا وهدب جفونه ... تفتّرها للعاشقين مواعد «3» وقوله: «4» [الرجز] مثل الغزال نظرة ولفتة ... من ذا رآه مقبلا ولا افتتن أحسن خلق الله ثغرا وفما ... إن لم يكن أحقّ بالحسن فمن وسنّ في شرع الهوى تسهّدي ... وحرّم الأجفان لذّات الوسن «5» في ثغره وصدغه ووجهه ... الماء والخضرة والوجه الحسن «6» وقوله: «7» [الوافر] وبين الخدّ والشفتين خال ... كزنجيّ أتى روضا صباحا (182) تحيّر في الرياض فليس يدري ... أيجني الورد أم يجني الأقاحا وقوله: «8» [السريع] كأنّ ذاك الخال لما غدا ... يلوح في سلسلة من عذار أسيود يخدم في جنّة ... قيّده مولاه خوف الفرار

قلت والمذكور له محاسن كثيرة سوى هذا، منها قوله في نحوي: «1» [السريع] يا ربّ نحويّ له مبسم ... تقبيله غاية مطلوبي قد صغّر الجوهر من ثغره ... لكنّه تصغير تحبيب وقوله في مليح يعمل الكوافي اسمه علي: «2» [مخلع البسيط] اسم حبيبي وما يعاني ... قد أظهرا لوعتي وحبّي «3» قالوا: عليّا، فقلت: قدرا ... قالوا: كوافي، فقلت: قلبي «4» وقوله: «5» [مجزوء الوافر] عذار فيه قد عبثوا ... محبّوه وقد عنتوا يخاف عيون واشيه ... فيمشي ثمّ يلتفت وقوله: «6» [مجزوء الكامل] إنّي لأشكو في الهوى ... ما راح يفعل خدّه ما كان يعرف ما الجفا ... لكن تفتّح ورده وقوله: «7» [الكامل]

بعث العتاب برقعة محمرّة ... جاءت تهدّدنا بفرط جفائه «1» فسألتها عنه فقالت إنّه ... ذبح الوداد فكنت بعض دمائه «2» وقوله: «3» [الكامل] ما أنت عندي والقضي ... ب اللّدن في حال سوا «4» هذاك حرّكه الهوا ... ء وأنت حرّكت الهوى وقوله: «5» [الوافر] جلا ثغرا وأطلع لي ثنايا ... يسوق بها إلى قلبي المنايا «6» (183) وأنشد ثغره يبغي افتخارا ... أنا ابن جلا وطلّاع الثنايا «7» وقوله: «8» [الكامل] لي من هواك بعيده وقريبه ... ولك الجمال بديعه وغريبه يا من أعيذ جماله بجلاله ... حذرا عليه من العيون تصيبه إن لم تكن عيني فإنّك نورها ... أو لم تكن قلبي فأنت حبيبه هل حرمة أو رحمة لمتيّم ... قد قلّ فيك نصيره ونصيبه «9»

لم يبق لي سرّ أقول تذيعه ... كلا ولا قلبا أقول تذيبه «1» والنجم أقرب من لقاك مناله ... عندي وأبعد من رضاك مغيبه والجوّ قد رقّت عليّ عيونه ... وجفونه وشماله وجنوبه «2» هي مقلة سهم الفراق يصيبها ... ويسحّ وابل دمعها فيصوبه «3» وقوله: «4» [الطويل] دعاه ورقم الليل بالبرق مذهب ... هوى بك لبّاه الفؤاد المعذّب بروحي يا طيف الحبيب محافظ ... على العهد، يدنو كيف شئت ويقرب «5» ومن كلّما عاتبته رقّ قلبه ... وأقسم لا يجفو ولا يتجنّب «6» يعلّمه فرط القساوة أهله ... ويعطفه الخلق الجميل فيغلب «7» يشقّ جلابيب الدّجنّة زائري ... على رغم من يلحى ومن يترقّب فأخجله مما أبثّ له الهوى ... ويخجلني من كثر ما يتأدّب «8» فلو رمت أني عنه أثني عن الهوى ... غرامي لنادى لطفه أين تذهب «9» وقوله: «10» [السريع]

أخجلت بالثّغر ثنايا الأقاح ... يا طرّة الليل ووجه الصّباح وأعجمت أعينك السّحر مذ ... أعرب منهنّ صفاح فصاح «1» فيا لها سودا مراضا غدت ... تسلّ للعشاق بيضا صحاح «2» يا للهوى هل مسعد مغرما ... رأى حمام الأيك غنّى فناح «3» (184) يا بانة مالت بأعطافه ... علّمتني كيف مهزّ الرّماح «4» وأنت يا أسهم ألحاظه ... أثخنت والله فؤادي جراح وقوله: «5» [المنسرح] أوّل عهدي بالحبّ فيك غدا ... آخر عهدي بالصّبر والجلد وأنت يا طرفه السّقيم أما ... ترحم ما قد حكاك من جسدي يميل قلبي لرشف ريقته ... من أين للنار نسبة البرد حسبي وحسب الهوى وحسبك ما ... يفعله الهجر بي فلا تزد وقوله: «6» [الطويل] تعالوا نعيد الوصل نحن وأنتم ... فلا رأي منا عند من دام صدّه «7» ولا تفتحوا للعتب بابا فربّما ... يعزّ علينا بعد ذلك سدّه «8»

ومنتقم مني وذنبي عنده ... مقالي وهذا الحرّ قلبي عبده رعى الله ليلا زارني فيه والدّجى ... يلثّمه لولا تضوع ندّه فلما بدا واشي الصّباح بوشيه ... ونيط علينا من ندى الجوّ برده «1» ترقرق درّ الدمع في متن لحظه ... فحقّقت أن السيف فيه فرنده «2» أقول لقلبي والغرام يقوده ... وسيف التجنّي والتّمنّي يقدّه سأسري وجنح الليل يسطو ظلامه ... وأسقي وقلب الشمس يلمح وفده «3» أروم بعزمي فوق ما دون نيله ... لواء المنايا خافق الظلّ بنده ولا ذنب لي إلّا الكمال على الصّبا ... فمن لي بعيب أو بشيب أعدّه «4» وقوله: «5» [الكامل] ولقد أقول لصاحبيّ برملة ال ... جرعاء ما بين النقا والغار حثّا النياق بنا تسير ونحن في ... قلب الدّجى أخفى من الأسرار «6» لا تخد عنّكما المعاطف إنّها ... قد أنحلت سمر القنا الخطّار وتوقيا تلك المحاسن إنّها ... نار القلوب وجنّة الأبصار (185) وقوله: «7» [الوافر] أما وتمايل الغصن النضير ... وحسن تلفّت الظّبي الغرير وصدغ قد حكا لما تبدّى ... خيال الروض في صفو الغدير

52 - عمرو بن مسعود بن عمرو الكتاني

لقد نشطت لواحظه لقتلي ... بعزم وهي توصف بالفتور كما جهلت ذوائبه غرامي ... ذهولا وهي توصف بالشّعور «1» هلال في التباعد والتداني ... غزال في التلفّت والنفور أعاين من محاسنه ودمعي ... طلوع الشمس في اليوم المطير وقوله: «2» [مجزوء الرجز] غادرني بغدره ... على هجير هجره فلم يحرّك في الهوى ... لسانه بذكره وطرفه الساحر إن ... شككتم في أمره «3» كيف يذوق عاشق ... حلاوة في صبره يا عاشقين حاذروا ... إذا وفى من غدره «4» يريد أن يخرجكم ... من عقلكم بسحره ومنهم: 52- عمرو بن مسعود بن عمرو الكتّاني «13» المحّار، السرّاج، أبو حفص. هو السّراج المنير، والمحّار محاره، الدرّ خاطره، الحسن التصوير، والكتانيّ الذي دون صناعته قدر الحريريّ والحرير، الحلبيّ الذي لو تقدّم زمانه ابن حمدان لما طابت لأبي الطيّب عنده أردان، ولا كان له من الكنديّ أو نظرائه أخدان، ولقال بلدي أنا أولى به وهو أولى بي، وأنا أحقّ بذهبه

وهو أحقّ بذهبي، وجاري ولا واحد جاء من تنوفة، وشاعر من حلب ولا شاعر من أهل الكوفة. وهو ممن اجتمعت به ورويت عنه ما تروي منه النّهلة، ولقطت من عجالته ما لا تحصّله المهلة. وكان قد لبس زيّ المتصوّفة، ونسك آخر عمره نسك أهل المعرفة، وكان جلّ أدبه الموشّحات والزّجل، وأجادهما أجل، وكان فيهما أجلّ، ومن شعره قوله يصف مرآة من سبج: [الوافر] ومرآة من السّبج المحلّا ... بدت في راحة الملك الهمام (186) تراءى وجهه فيها فقلنا ... أهذا البدر يجلى في الظلام ومنه قوله: «1» [المنسرح] رأيته في المنام معتنقي ... يا ليت ما في المنام لو كانا ثم انثنى معرضا فواعجبي ... يهجرني نائما ويقظانا وقوله: «2» [السريع] بعثت نحوي المشط يا مالكي ... فكدت أن تسلبني روحي وكيف لا تسلب روحي وقد ... بعثت منشورا لتسريحي ومنه قوله في معالج مقيرة: «3» [الطويل] بروحي أفدي في الأنام معالجا ... معاطفه أزهى من الغصن الغضّ إذا ما امتطى لطفا مقيرة له ... وأقعدها واحمرّ سالفه الفضيّ رأيت محيّاه وما في يمينه ... كشمس تجلّت دونها كرة الأرض

ومنه قوله يصف الجوسق الذي بناه، وأظهر بالذّهب المموّه عن الأصل غناه: [الكامل] لله جوسقك الرفيع محلّه ... طال المجرّة سقفه المرفوع يغنيك عن زهر الربى إذهابه ... فلديك منه مربع وربيع مختارة منه المحاسن كلّها ... فصفاته ما مثلها مجموع ومنه قوله يصف طيب حماة، وما يرشف العاصي الجوسق من لماه، وينزلها لدمشق منزلة الضّرة، ويفضّلها على أكفافها المخضّرة: «1» [الكامل] يا حبّذا وادي حماة وطيبه ... وطلاوة العاصي بها والجوسق فاتت منازل جلّق فلحسنها ال ... شقراء تكبو خلفها والأبلق «2» ومنه قوله وقد ناوله صاحب حماة قرص حلواء أو خشكنانكه: [مخلع البسيط] يا ملكا جود راحتيه لم ... يحوج السائل السّؤالا ما زلت تسمو في الجود حتّى ... أهديت لي الشمس والهلالا (187) ومنه قوله: [السريع] لنا مغنّ حسن صوته ... يطرب من لحنه العرب يرقص من يسمعه طيبة ... وهكذا المرقص والمطرب ومنه قوله في مركب: [السريع] وأدهم أحسن شكل يرى ... قد راق حسنا وحلا منظرا

يزيد عن مرّ نسيم الصّبا ... لطفا على الماء إذا ما سرى أغرب ما فيه على حسنه ... رجاله تمشي به القهقرى البرق لو جاراه قلنا انظروا ... كيف يعدّي الأدهم الأشقرا ومنه قوله في وصف باب رخام مشحّم عليه جامة ذهب وحلق، من رآه قال سبحان من علّم الإنسان ما لم يعلم وأتقن ما خلق: [البسيط] قالوا تشبّه ذا الباب الرّخام فما ... تقول في حسن هذا الجام والحلق فقلت شمس عليها هالة طلعت ... تمزّق الغيم عنها حمرة الشّفق ومنه قوله «1» : [الكامل] قالوا هوى بابن الأمير جواده ... فقلوبنا كادت عليه تفطّر فأجبتهم لا تعجبوا لوقوعه ... إنّ السّحاب إذا سرى يتقطّر ومنه قوله: [السريع] لو جاد لي باللثم تحت اللّثام ... غنيت عن شرب كؤوس المدام عذاره أوضح عذري به ... لام، لمن عنّف فيه ولام إذا رنا يخجل ريم الفلا ... وإن بدا يفضح بدر التّمام أو انثنى قالت غصون النّقا ... لله ما أعدل هذا القوام وقوله: [المنسرح] إنّ بني مزهر وإن صغرت ... أقدارهم من أكابر الفجرة لا يعرف الخير عندهم فلذا ... معرفة الخير عندهم نكرة (188) إذا تأمّلتهم وجدت على ... وجوههم من مهانة قترة

ترهقها ذلة اليهود وإش ... راك النّصارى وخسّة السّحرة أبوهم مزهر فمذ نشأت ... فروعه ما رأوا لها ثمرة ودوحة لا تظلّ صاحبها ... فلا سقى الله تلكم الشجرة ومنه قوله: [الكامل] أحببته ساجي اللواحظ أهيفا ... مرّ الجفا عذب اللّمى حلو الجنى قالوا تهيم بحسنه فأجبتهم ... ماذا عليّ إذا عشقت الأحسنا ومنه قوله في قنديل: «1» [البسيط] يا حسن بهجة قنديل خلوت به ... والليل قد أسبلت منه ستائره أضاء كالكوكب الدرّيّ متّقدا ... فراق باطنه نورا وظاهره تزيده ظلمة الليل البهيم سنا ... كأنما الليل طرف وهو باصره ومنه قوله في حمام بعض مقاصيده بطّالة: [السريع] سقيا لحمّام الأمير التي ... رقّت بها من بعدها الحال حلّ بها الفالج من بردها ... فجنبها الواحد بطّال ومنه قوله في مليح اسمه شعبان: [السريع] أحبّ شعبان وأرجو بأن ... أرزق في حبّي له صبرا ما اتّفق الناس على نصفه ... إلّا وفيه الآية الكبرى ومنه قوله في فوّارة ماء تبيض جؤجوا، وترقص لؤلؤا: [الوافر] ومائسة القوام إذا تثنّت ... يروقك شكلها الحسن البديع تريك من العيون لها قواما ... فتثنيه وسائره دموع

ومنه قوله في مليح محموم، لازمت بدنه ثمّ قبّلت فمه: [السريع] لا أحسد الناس على نعمة ... لكنني أحسد حمّاكا أما كفاها أنّها عانقت ... قدّك حتّى قبّلت فاكا (189) ومنه قوله في قريب منه: [الكامل] قالوا حبيبك قد غدا ذا هزّة ... أتقول تلك عقوبة الهجران فأجبتهم: حاشاه لكن الهوى ... أبدا يهزّ معاطف الأغصان ومنه قوله في إبريق فخّار: «1» [البسيط] يا حبّذا شكل إبريق تميل له ... منا القلوب وتصبو نحوه الحدق يروق لي حين أجلوه وتعجبني ... منه محاسن ذاك الجسم والعنق «1» كم قد شربت به ماء الحياة ولن ... ينالني منه لا غصّ ولا شرق حتى غدا خجلا مما أقبّله ... فظلّ يرشح من أعطافه العرق ومنه قوله في شخص من نحاس يجري منه الماء: [البسيط] وصامت صامت موضوعه عجب ... فأمره مبهم المعنى وموضوح له عيون بأعضاء يفجّرها ... ماء الحياة، وما في جسمه روح ومنه قوله في مليح اسمه محمود: [السريع] يقول لي منكر حالي به ... من لك في ذا الحيّ مقصود فقلت لا تسأل عن مقصدي ... فيه فقصدي فيه محمود ومنه قوله يشفع في مسجون اسمه كمال: [الوافر] فقال أيرتجى منّي تمام ... أسرّ به وفي السّجن كمال

ومنه قوله يذكر الشّتاء الكالح وثلجه المكفهرّ وثغره الفاتح: [البسيط] يا شهر كانون أمرضت الغصون ومذ ... أمتّها لبست أنوارها حزنا والمزن غسّلها من ماء أدمعه ... والثّلج حاك لها من نسجه كفنا ومنه قوله: [المنسرح] انظر إلى النهر في تسلسله ... وصفوه، قد وشا على السّمك توهّم الرّيح صيدها فغدا ... ينسج متن الغدير كالشبّك ومنه قوله في الياسمين وقد لاحت نجومه المشرقة، وبدت وكأنّه (190) على صدر الغواني في الأزر الخضر، صلبه المعلقة: [الوافر] كأن الغصون من الياسمي ... ن وأزهاره حين يعلوه طيب نساء من الروم هيف الخصو ... ر على صدر كلّ فتاة صليب ومنه قوله في زهر الخوخ، وهو الدراقن: [الوافر] وللزهريّ زهر راق لونا ... تجلّى في بياض واحمرار كأن عيونه ترنو إلينا ... عيون حشوها أثر الخمار وقوله، وقد دخل الملك المنصور من فامية إلى حماة، وتركه في مخيمه بها، وكانوا بها في حمى نرجس: [الطويل] رحلت فأصبحت روضة النّرجس ال ... ذي عهدت بها الأزهار وهي بواسم مقرّحة الأجفان خفّاقة الحشا ... تود اشتياقا لو بكتها الحمائم ومنه قوله في مليح يعلوه صفرة ذهّبت أديمه الفضّيّ، ووشعت أصلها نسيمه الروضي: [الكامل] قالوا: حبيبك أصفر فأجبتهم ... ما ذاك منقصة لفرط بهائه

ولذاك إنّ الحسن رقّ بخدّه ... فأراك لون محبه في مائه ومنه قوله في معذّر رآه في قباء أزرق كالبدر في الصحو أشرق، أو الشمس في غيم ذلك الاستبرق، إلا أن عارضه قد لوي ونام لما شرب من ماء خده وروي: [الهزج] ولما لاح في الأزرق ... من مزروه المزري بخدّ مشرق اللون ... عليه عارض ملوي أرانا الشمس في الغيم ... وبدر التمّ في الصحو ومنه قوله: [الطويل] أرى لابن سعد لحية قد تكاثفت ... على وجهه واستقبلت غير مقبل ودارت على أنف عظيم كأنه ... «كبير أناس في بجاد مزمّل» «1» ومنه قوله في زامرة سوداء قبيحة: [الكامل] (191) ولربّ زامرة تهيج بزمرها ... ريح البطون فليتها لم تزمر شبّهت أنملها على مزمارها ... وسوادها الداجي القبيح المنظر بخنافس قصدت كثيفا فاعتدت ... تدنو إليه على خيار الشنبر ومنه قوله في أحدب يدعى الحسام: [المنسرح] وأحدب أنكروا عليه وقد ... سمّى حساما وغير منكور ما لقبوه الحسام عن سفه ... لو لم يروا قدّه القلا جوري ومنه قوله في نجار مليح رآه بالمعرة: [الكامل] قالوا المعرة قد غدت من فضلها ... يسعى إلى أبوابها وتزار

53 - علي بن المظفر الكندي الوداعي

وجبت زيارتها علينا عندما ... شغف القلوب حبيبها النجار ومنه قوله يخاطب رجلا أهدى له زيتا: [الوافر] أنور الدين يا مردي الأعادي ... بصارمه إذا اشتدّ الهياج أتاني الزيت منك فزدت نورا ... ولولا النور ما عرف السراج ومنه قوله من أبيات طارت في كل سماع، وعلقت بكل الأسماع، صنعت في موضع من الغناء، ما سمع منه أطيب، ولا هزّ المعاطف منه أطرب. طالما كانت لأغصان القدود مميلات، وقضيت بها ليال، وإنما العمر هاتيك الليلات: [البسيط] ما بثّ شكواه لولا مسّه الألم ... ولا تأوّه لولا شفّه السقم ولا توهم أنّ الدّمع مهجته ... أذابها الوجد حتى سال وهم دم صبّ له مدمع صب يكفكفه ... فتستهل غواديه وتنسجم أراد إخفاء ما يلقاه من ألم ... حتى لقد كان بالسلوان يتهم ومنهم: 53- علي بن المظفر الكندي الوداعي «13» شاعر له لسان لا ينبو له ضرب، ولا تخبو له نار حرب. أولع من النار بتخليد الفساد، ومن النار بتخليف الرماد. أفنى أعراق الأعراض قرضا وأنهك عظام العظام رضا. وتتبع المساوئ ودوّنها، والمخازي وسطّر أدونها. وخلّد القبائح وكتب، وأظهر الفضائح (192) وكذب. وولع بالكبراء ولع الخمر بالعقول، وعبث بالأمراء وكان لا يبقي فيما يقول. وكان ممن غالب صباه على تأديب

نفسه فتأدب، ثم ما تأدب، وصفا منهله ثم تطحلب، لأنه أشغله بإفشاء المعايب، وإنشاء المثالب. وكتب أول حاله للصاحب عز الدين بن وداعة، ثم كان ينقل في الوظائف التي بها ينتفع، إلا أنه لا يرتفع. ثم استكتب بالبيرة، ثم بديوان الإنشاء بدمشق. بعد عطلة ضاق بها عطنا، وضاع فيها فهمه فحار لا يهتدي، ولا يأنس فطنا، فما صدر عنه ما يثبت، ولا ظهر ما يكتب له إلا ما يكبت. فما عدم من عزاء القديم امتهانا، ولا خلّد له بالديوان إلا أنه خلد فيه مهانا. وكان ممن لا يؤخر في رجال الحديث، والقراءة علو رواية، وعلوم دراية، وتعاليق فيها بخطه، وكان غاية. وقرأت عليه بعض كتب الأدب، أول ما عقّت عني التمائم، ولبثت على رأسي العمائم. وكان سريع الإفهام سرى القدح في زناد الأفهام. وله تذكرة جمعها عدة أجزاء، وديوان شعر، أول ما بدأه بأعراض أصحابه الأعزاء، معما فيهما من محاسن أخر، ومعادن درر. ووقفهما ببعض الجهات، وملأهما حراما وحلالا، وبينهما شبهات. فانتدب قاضي القضاة نجم الدين، أبو العباس، أحمد بن صصري التغلبي، فكشط ما ضمهما من القبائح وتطهيرهما، وقد غمس فيهما يده في دماء تلك الذبائح، وها ديوانه الآن منقّى من ذلك الغلث، مبقى ما سوى ذلك العبث. أجل، إلا ما غمض على بديهة المعارف، وخفى بهرجه على بصيرة الصيارف. وكنت قد استعرت نسخة منه، فلما انقضت إفادتها، وطلب مني إعادتها، كتبت معها: [الطويل] بعثت بديوان الوداعيّ مسرعا ... إليك وفي أثنائه الذمّ والمدح حكى شجر الدفلاء شكلا ومخبرا ... فباطنه سمّ وظاهره سمح وها أنا ذاكر من شعر المبتدع، الوداعي إلا أنه الدر الثمين لا الودع. فمنه

قوله: [المجتث] يا من يلوم كريما يهشّ للتعظيم ... ما يقبل النفخ إلا ظرف صحيح الأديم (193) ومنه قوله: [مجزوء الكامل] يا سائلي من أين تأكل ... هاك حالي عن يقين إن الذي خلق الرّحى ... يأتي إليها بالطحين ومنه قوله في نصراني مليح رآه سائحا، وكالظبي في جنبات الوادي سارحا: [المجتث] وسائح وهواه في كل قلب مقيم ... مذ أشبه الظبي أضحى في كل واد يهيم ومنه قوله: [السريع] أشكو إلى الرحمن بوابكم ... وما أرى من طول تعميره ملازم الباب مقيم به ... كأنه بعض مساميره ومنه قوله وقد مرّ بالنّيرب فرأى تمايل غصونه ما أطرب: «1» [الطويل] ويوم لنا بالنّير بين رقيقة ... حواشيه خال من رقيب يشينه وقفت فسلمنا على الدّوح غدوة ... فردّت علينا بالرؤوس غصونه «2» ومنه قوله: [السريع] أما ترى الجامع في ليلة النص ... ف التي تزهى بأنوارها قد وقّدوه فحكى روضة ... ذهبيّة أوراق أشجارها

قلت: وقد ذكرت بهذين البيتين بيتين كنت قلتهما في هذا المعنى، ليلة نصف شعبان سنة تسع عشرة وسبعمائة بدمشق، ونحن بالجامع الأموي، وقد علقت مصابيح الوقود، كأنها خدود، وأقبل شاب ما طرّ شاربه، هو البدر التمام في تلك الليلة أو يقاربه، ثم طفق في الجامع يتمشى، ويأخذ بمجامع القلوب ولا يخشى، فقلت: [الطويل] ولاحت مصابيح الوقود كأنها ... عيون رأت معنى الحبيب فحدّقت وولّت تريد العود من خوف خدّه ... وقد سرقت منه الشعاع فعلّقت عدنا إليه. ومنه قوله، وقد وكل السلطان ابن المقدسي، وهو ناصر الدين (194) محمد بن عبد الرحمن بن نوح، وكان من علمت فعلاته وعرفت عليه ولم يسرق عملاته: [مجزوء الكامل] قل للمليك أمدّه ربّ العلى منه بروح إن الذي وكّلته لا بالنصيح ولا الفصيح وهو ابن نوح فاسأل القرآن عن عمل ابن نوح ومنه قوله، وقد طلبت منهم بغال، ورميت عليهم جواري من سبي بيروت: [مجزوء الرمل] أيها الكتّاب قد زال زمان الافتقار ... وغنينا واحتشمنا ببغال وجواري ومنه قوله، وقد رفعت الديادب النار منذرين بالعدو، ثم أصبح الخبر ساكنا، والبلد آمنا، وقد خمدت جمرة ذلك الليل وأصبحت رمادا، وسطح بياض النهار وما رأوا في مساء تلك الليلة إلا سوادا: [مجزوء الرمل]

لا تخافوا رفع نار ... عندما لاح السواد إنها جمرة ليل ... أصبحت وهي رماد ومنه قوله، وقد اهتم المتحدث بالشام في توسعة الميدان، عند قدوم الملك الأشرف: [الكامل] علم الأمير بأن سلطان الورى ... يأتي دمشق ويطلق الأموالا فلأجل ذلك زاد في ميدانها ... ليكون أوسع للجواد مجالا ومنه قوله، وقد أهدي قطرا: [المجتث] أرسلت قطرا وسؤلي ... له قبول وعذر ثم الأباليج يأتي ... وأول الغيث قطر ومنه قوله، قد سبق الأعسر الأمراء في عمل ما خصّه من الميدان: [الكامل] لقد جاد شمس الدين بالمال والقرى ... فليس له في حلبة الفضل لاحق وأعجز في هذا البناء بسبقه ... وكلّ جواد في الميادين سابق ومنه قوله في الصاحب محي الدين، محمد بن النحاس، أحد أئمة الحنفية، وكان له ولد اسمه يوسف أجاد: [الطويل] (195) من مثل محي الدين دامت حياته ... إلى مذهب الدين الحنيفي يرشد لقد أشبه النّعمان وهو حقيقة ... أبو يوسف في علمه ومحمد ومنه قوله: [الطويل] كفى أسفا أننا جميعا ببلدة ... لا نلتقي يوما ولا نتزاور وما ذاك من بغض ولكن عيوننا ... على بعضنا من بعضنا تتغاير

ومنه قوله: [مجزوء الكامل] يفدي عدوّك سبعة ... ممن يحبّك في البرايا وكذلك البقر التي ... في العيد تنحر للضحايا ومنه قوله، وقد اجتاز في طريقه بجفان كرم: [الكامل] لله كرم أصله وفروعه ... طابت وطالت فهو غير مذمّم نصبت بمدرجة الطريق جفانه ... وكذاك عادات الكريم المطعم ومنه قوله، وقد غنى الفصيح، ومال الشمع وطرب في جملة الجمع: [مجزوء الرمل] وفصيح ما سمعنا ... لأغانيه مثالا أطرب الحيّ إلى أن ... طرب الشمع فمالا ومنه قوله: [مجزوء الكامل] يوم يقول بشكله ... قوموا اعبدوا الله الأحد قزح كمحراب بدا ... والبرق قنديل وقد والرّعد فيه مسبّح ... حبّات سبحته البرد ومنه قوله: [مجزوء الرمل] أيها الزائر ربعي ... بعد هجر ونفور ليس في الدنيا مكان ... يسع اليوم سروري ومنه قوله: [مجزوء الوافر] رمتني سود عينيه ... فأصمتني ولم تبطي (196) وما في ذاك من بدع ... سهام الليل ما تخطي

منه قوله، وأحسن كلّ الإحسان: [الوافر] أبا أقضى القضاة ومن نداه ... له نشر يعطّر كلّ ناد لقد جنّت دواتي من بياض ... فعوّذها بحرز من مداد ومنه قوله: [السريع] يا حسنه من حمدار لقد ... حارت عقول الناس في وصفه كأنه من عظم أردافه ... قد حمل الكاره من خلفه منه قوله، وتطارف: «1» [الطويل] لنا صاحب قد هذّب الطبع شعره ... فأصبح عاصيه على فيه طيّعا إذا خمّس الناس القصيد لحسنه ... فحقّ لشعر قاله أن يسبّعا ومنه قوله: «2» [الطويل] أتيت إلى البلقاء أبغي لقاكم ... فلم أركم فازداد شوقي وأشجاني فقال لي الأقوام: من أنت راصد ... لرؤياه، قلت: الشمس. قالوا: بحسبان ومنه قوله: [الخفيف] إن هذا الفتى فتى سباني ... حسن نقش العذار في وجنتيه يا نديمي في المدامة إني ... أشتهي أن أدقّ يوما عليه ومنه قوله، قد طلب بخيل الحجر: [مجزوء الرمل] حرت في أمري فدلّو ... ني وقولوا: أين أذهب ومتى ينجو ضعيف ... وهو بالخيل يطلب

ومنه قوله، وقد مرّ بباب عمّي الصاحب شرف الدين، رحمه الله، في الشتاء، فوجد كرمة هناك، لم ترم ورقها، ولا جرد الأجيرد رونقها: [البسيط] قد أسقط البدر أوراق الغصون وفي ... أبواب دارك غصن يانع الورق هذا يحقق عند الناس كلهم ... بأن ربعك من ريب المنون يقي (197) ومنه قوله في مليح هرب فنطق على جناح الحمام الرسائلي برده: [الرجز] وذي دلال أهيف كم ... سرّحوا من الحمام نوبة في ردّه لأنها تعرفه من طول ما غنت ... على مائس غصن قدّه ومنه قوله، وقد سمع قائلا يقول عنه: هذا رافضيّ، والقائل يعيش أبوه وجدّه، وهما شيخان: «1» [مجزوء الكامل] قل للذي بالرّفض أت ... همني أضلّ الله قصده أنا رافضيّ ألعن الشي ... خين أباه وجدّه ومنه قوله: [الخفيف] أنا كأس من المدامة فان ... كنت تفاحة من البستان كنت ذوبا مثل العقيق ولكن ... جمدتني مخافة السلطان ومنه قوله في كاتب مليح: [السريع] اسمع حديثي ثم من بعده ... كن عائبي إن شئت أو عاتبي أصبح جسمي قلما من ضنى ... وما براه غير ذا الكاتب

ومنه قوله: «1» [البسيط] قالوا: حبيبك قد دامت ملاحته ... وما أتاه عذار إن ذا عجب فقلت: خدّاه تبر والعذار صدا ... وقد زعمتم بأن لا يصدأ الذهب ومنه قوله: «2» [الخفيف] لا أرى لفظ عارضيه قبيحا ... يا عذولا عن حبه ظلّ ينهى وجهه روضة وليس عجيبا ... أنه يلقط البنفسج منها «3» ومنه قوله: [الكامل] أحببته رشأ عليه شقرة ... من أجلها ذهب العذار مفضض قل للعواذل فيه هل أنكرتم ... أن البنفسج منه زهر أبيض ومنه قوله في أعمى يرى بابنه: [الخفيف] (198) موسويّ الغرام يهوى بسمعي ... هـ ويشكو من رؤية العين ضرّا يتوكّا على قضيب رطيب ... وله عنده مآرب أخرى ومنه قوله: [الوافر] ركبدار وجندار غواني ... ورئيس قرية وأمين خان لئام أمهاتهم زوان ... وإلا أين أولاد الزواني ومنهم:

54 - أحمد بن أبي المحاسن، يعقوب بن إبراهيم بن أبي نصر

54- أحمد بن أبي المحاسن، يعقوب بن إبراهيم بن أبي نصر الطيبي، الأسدي، أبو علي، شمس الدين، ردنه ينفح طيبا، وفنه بل فتنه يهتز رطيبا. جاء من بلاد الطيب مملوء الحقائب، موفور الركائب. يساجل بطيبه الأطايب، ويضمخ لمم المفارق عنبره الذائب، ويغلّف مسك نقشه رأس الطرس الشائب. يعرف نفسه الطيبي، ويغرق في مسكيّ شعاره الخطيبي، بدائع طيبيّ أخملت ذكر أبي الطيّب، وأذوت غرس ابن نباتة بتوالي غيثها الصّيّب، وجعلت ورد الأبيوردي لا يضر بجعلي، وزهر زهير المتقدم والمتأخر هذا جفّ وهذا بلي، بكلّ عقيلة طائره تمسي الغوالي نسال رياشها، وطائلة تضحي فتيت المسك فوق فراشها. نتيجة فكر تخرج اللآلي إذا جرت بحارها، ونبت قريحة تشيب نواصي المسك إذا وقدت بالمندل الرطب نارها. بديهة إذا وعتها المسامع انتشت، وإذا جازت بأودية الخواطر تضوع طيبا بطن نعمان إذ مشت، إلا أنها ذات أرج كقهوة الديرانيّ تعرف بشميمها، وزجاجة أبي الهندي ينمّ شذاها على نديمها، وروضة الصنوبري يفاوح مغضوض الحقائب مسكها، ومليحة الكندي قلتها وهي مسك هتكها، وكأس أبي نواس والنجم قد تصوّب، ومحبوبة امرئ القيس كلما جاء طارقا وجد بها طيبا وإن لم تطيّب. لو حلّت فيما سلف في المطيّبين من آل عبد مناف، لما استطاعت أن تتعاقد عليهم الأحلاف، ولا ذعنت اللعقة للتحكيم، وغمست أيديها في الطيب من جفنة أم حكيم. ورد الطيبيّ هذا دمشق، ونزل بها على ابن عمّنا القاضي جمال الدين (199) أبي محمد، يوسف بن رزق الله العمري، واتصل به اتصال الطيّب باللمم، واتصف بصنائعه اتصاف الروض الأريج بالديم، وأوصله إلى والدي- رحمه الله- فاستكتبه في بعض الثغور، ولم ينتظر له الشغور، وأطلع كواكبه إلا أنها التي لا تغور. ثم نقله إلى طرابلس، فدام في كتاب الدرج بها حتى مات،

وغابت شمسه فجاءت الظلمات، وكلّ كلمه طيب الأرج، إلا أن نظمه أعبق، ونوافحه في المسام أعلق، وشذاه من بلد الطيب حيث تشام أعرق. وكان لا يزال مائلا بنشوة، ومائلا مع نسوة، وقائلا في ظل كرم أو قهوة، ومنجدبا بين مهبّ صبا أو صبوة. لم يتعظ بنذير المشيب، ولم ينقّ بياضه من دنس المعيب. مدمنا في الكؤوس، يحثّ أدوارها، ويحلّ من الدنان المشدودة المعاقد إزارها، ويصرف فيها دراهمه بالذهب، ويتلقاها له بالمبزل ساق توشّح بالمنديل حين وثب وبرهن لديها روحه، فيعجز عن فكاكها، ويدخل إليها فتصيده فواقع الحبب في شباكها، وكان على ما يصل إليه من غمرة هذه السكرة، ويقع عليه في مظنه ما يكره. لا يغيب له ذهن خاطر، ولا يغيم له أفق ماطر. وما عرف في عمره يوم صحو، ولا فرق له بين إثبات ومحو، حتى لقد حكى لي من كان يحضر عنده على تلك الحال، التي يعشى دونها طرف الأعشى، ويقلع الوليد ولا يخشى، وينكل ابن هرمة خوفا من أمير المدينة لا يغشى. لا يزيد ذهنه إلا حضورا، وفهمه إلا أن يقدح من ذات الشعاع نورا. وأدبه الطيبي إلا أن يدير كأسا كان مزاجها كافورا، وكلمه الطيب إلا أن يفتح لمصعدها سماء السماع ومدامته العاطرة الأرج، إلا أن يتقسمها شعاع الشعاع وشجرته الفارسية إلا أن يتفتح وردها. ونسبته الأسد إلا أن يهاجم وردها، وأنديته المنسوبة إلى الطيب، إلا أن يشبّ ندها ويشيب بأهواله ندها. ومن بديعه الذي طار في كل جمع، وطاف بكأسه على كلّ سمع، كلمته نوبة مرج الصفر، حين نصر سلطاننا الملك الناصر على جيوش السلطان محمود غازان، وهي القصيدة التي أغنته أن يغزو، وتركته وما (200) شهد القتال بالأبطال يهزو. وهي الفائية الفائتة شأو كلّ قريحة، البائتة لا تني عن السّرى

وركائب النجوم طليحة، المنقولة إلى أقصى البلاد، المحمولة على الرواة ورقاب الحسّاد. التي خلّت الدّرّ أصدافا، وحلت فاؤها فما تركت نطق كلّ شاعر همّ بأن ينطق بمعارضتها إلا فأفأ. وكان سبب نظمه لها، أنه قيل له وهو على مجلس الشراب، وقد أخذ منه: لقد أكثر الشعراء في وصف هذا اليوم، فلو عملت فيه. فأخذ دواة وقرطاسا وكتب لوقته هذه القصيدة عن آخرها. هذا ونجوم الكؤوس حوله سائرة، وأدوار الترك عليه دائرة، والخمر قد ضربت على رؤوس الشرب سرادقها، والعقول قد أنكرت في أفهام القوم حقائقها. ثم لم يزل يكتب والساقي بكأسه يصافحه ويحاسبه على نوبته ولا يسامحه، وهو على طلقه كأنه يقتدح الفهم من قدحه، ويلتقط الدرّ من حباب كؤوسه لمدحه، وهو يغالب النوم. فلما أكملها، سقط لجنبه ونام، والسّكر قد عجّل قضاء نحبه. فلما بشّر طائر الديك بالصباح، وهزّ لارتياحته به خافق الجناح، نهض به جلساؤه إلى الحمام، لغسل ظاهر دنس ذلك الإثام. فلما قضوا منه إربهم، وقاربوا منقلبهم، أذكروه بما كان منه، فأنكر أن يكون أجال في هذا فكرا، أو افترع خاطره عونا ولا بكرا. ثم لما رأى كلمة إجماعهم، وراب كذب شكّه نزاعهم، قال: دعوني أبادر هذه العورة البادية لأسترها، وهذه السّوءة الفاضحة لأقبرها. فكيف يكون عبث المخمور، وكلام من ضرب السكر بينه وبين عقله بسور. ثم أخذ في تعجيل الحميم، ومواثبة الخروج لتصحيح نتيجة فهمه السقيم، فخرج وخرجوا معه، لينظروا ما صنعه، فلما أتوا موضع منامه، ومصرع مدامه، أخرجوا تلك الورقة التي ضمّنت تلك الشذور قراطيسها، وقدحت من شرارة شعاع تلك البراح مقاييسها، فأوموا لها سجودا، ونكسوا رؤوسا، ومدوا إليها أيديهم ليتناولوها مما ادّخروه كؤوسا، ثم علموا أنها (201) آية أحمدية، جاءت ببقية ما جاءت به السّحرة لموسى، وهي: [البسيط]

برق الصّوارم والأبصار تختطف ... والنّقع يحكي سحابا بالدّما يكف أحلى وأغلا وأعلى قيمة وسنا ... من برق ثغر الغواني حين ترتشف وفي قدود القنا معنى شغفت به ... لا بالقدود التي قد زانها الهيف ومن غدا بالخدود الحمر ذا كلف ... فإنني بخدود البيض لي كلف ولامة الحرب في عينيّ أحسن من ... لام العذار الذي في الخد ينعطف كلاهما زرد، هذا يقيك وذا ... يردي، فشأنهما في الفعل يختلف والخيل في طلب الأوتار صاهلة ... ألذّ لحنا من الأوتار تأتلف ما مجلس الشّرب والأرطال دائرة ... كموقف الحرب والأبطال تزدلف هل دارع برداء الفخر مؤتزر ... كحاسر بشعار العار يلتحف؟ أو رامح سمقت في المجد همّته ... كأعزل بدنايا الهمّ يتّصف لا تغبطنّ مضاما عيشه رغد ... واغبط أبيّا وإن أودى به الظلف فالرزق من تحت ظل الرمح مقترن ... بالعزّ، والذلّ يأباه الفتى الصلف لا عيش إلا لفتيان إذا انتدبوا ... ثاروا، وإن نهضوا في غمّة كشفوا مستلئمين فلا جمّ ولا عزل ... يوم القراع ولا ميل ولا كشف مقحّمين يخوضون الغمار إذا ... ما استرغبوا بأذى آذيّها اعتسفوا ما استأكلوا الخبز بالجبن المذلّ ولا اس ... تسقوا ندى غير عين العجز بل صدقوا يقي بهم ملّة الإسلام ناصرها ... كما يقي الدّرّة المكنونة الصّدف قاموا لقوة دين الله ما وهنوا ... لما أصابهم فيه ولا ضعفوا هم كسّروا الشّرك بالتوحيد إذ جبروا ... كسرا فلاحوا شموسا بعدما كشفوا وجاهدوا في سبيل الله وانتصروا ... من بعد ظلم ومما شانهم أنفوا وهاجروا وبحقّ جاهروا ونكوا ... في باطل دفعوه عندما قذفوا لما أتتهم حشود الكفر يقدمهم ... رأس الضلال الذي في عقله جنف

(202) وأضمروا النقض للميثاق إذ جنحوا ... للسلم وانقلبوا للغدر وانحرفوا جاءوا فكلّ مقام ظلّ مضطربا ... منهم، وكلّ مقيم بات يرتجف أبدوا، وقد أوردوا الخيل الفرات، لنا ... أن الذي يمموه الماء والعلف ثم استجاشوا لنكث العهد فارتبعوا ... مرعى وخيما أراهم غبّ ما اعتلفوا زاد التتار تبارا أن طغوا وبغوا ... فهم لكيدهم في قيدهم رسفوا شاموا من الشام برقا من طماعية ... فطشّهم بغمام الغمّ إذ أزفوا ظنوا السّراب شرابا فاستزلّهم ... غول الغوائل سقاهم غبّ ما اغترفوا وجال مكرهم فيهم وحاق بهم ... وانهار من تحت ما قد أسّسوا الجرف جاسوا خلال حمى الله المنيع وهل ... ترضى بلبس الحمير الروضة الأنف داسوا بأنجاسهم أرضا مقدّسة ... فنفضتهم وهم في الرجس ما نظفوا ويوم كوم بأرض العرض عارضهم ... من الرّدى عارض شؤبوبه التلف لما أغاروا وغاروا راجعين وقد ... راعوا الرّعاء كدبت السّرح واختطفوا سدّت مسالكهم بالسيف فافترقوا ... مجدّلين سدى من سوء ما اقترفوا وكان فيه لهم وعظ ومزدجر ... لو أنهم عقلوا الأنباء أو عرفوا وغرّهم نيلهم من حمص وهو لهم ... كالحبّ يصطاد منه الطائر الوجف غابوا عن الرّشد إذ عاثوا وسرّهم ... ومن وراء السّرور الهمّ والأسف لجّوا وعاموا من الطغيان في لجج ... إلى البحيرة فانصاعوا وما اغترفوا وساقهم طمع في طيّه جزع ... وعاقهم شمس في ضمنه عجف حتّى بدت راية الإسلام عالية ... والخيل جائلة من حولها تجف يسعى بها ملك بالنصر مقترف ... بالناس مدّرع بالجود متّصف ظلّ الإله وسلطان الأنام فتى ... برّ عطوف رحيم بالورى رؤف محمد ناصر الدين الذي طفقت ... له السلاطين بالتقديم تعترف سلالة الملك المنصور يخلفه ... بالعدل في ملكه يا حبذا الخلف

(203) قاد الجنود من الفسطاط حين طغى ... الطاغي وكاد عمود الملك ينحرف بهمّة كالدراري وهي طالعة ... وعزمة كالمواضي وهي ترتهف لقد غزا غزوة تحكي بطلعته ... غزاة بدر بلا ريب كما وصفوا وافى طباق موافاة العدوّ ولو ... تواعدوا للقاء الخيل لاختلفوا في فيلق تلبس الأرض الحديد به ... وتحجب الجوّ من آثاره السّجف خيل لها طرف بالنيل متصل ... وبالفرات إذا امتدت لها طرف وغلمة من كماة الحرب تحسبهم ... تحت الدّروع شموسا فوقها سدف من كلّ أهيف بالخطّيّ معتقل ... فالرمح والقدّ منه اللام والألف يحمي بصارمه ثغريه ذاك له ... ثغر الجهاد وهذا الثغر يرتشف ففي اللقاء تراه باسلا خشنا ... وفي التلاقي على أعطافه ترف رمى كتائب غازان بعسكره ال ... غازين إذ دلفوا بالبغي وازدلفوا حمى حمى حوزة الإسلام ثم محا ... آثار ما شوّهوا فيها وما خسفوا أتوا كراديس ترتجّ الجبال بهم ... كأنهم قطع الظلماء والكسف ما زال خذلانهم في سيرهم خببا ... إلى مصارعهم يجري فلا يقف حتى رأوا من جنود الله دونهم ... سدّ الحديد وبحر الموت فانصدفوا وشاهدوا علم الإسلام مرتفعا ... بالعدل فاستيقنوا أن ليس ينصرف لقّاهم الفيلق الجرّار فانكسروا ... خوف العوامل بالتأنيث وانصرفوا يا مرج صفر بيّضت الوجوه كما ... فعلت من قبل والإسلام مؤتنف للمؤمنين من الرحمن فيك بدا ... فتح فأنت بنور النصر ملتحف أزهر روضك أزهى في تفتّحه ... أم يانعات رؤوس فيك تقتطف غدران أرضك قد أضحت لواردها ... ممزوجة بدماء المغل تغترف زلّت على كنف المصري أرجلهم ... فليس يدرون أنّى تؤكل الكتف

راموا سهاما ولكن بالتراكش ... والقسيّ خيفة راميهم فهم هدف (204) أووا إلى جبل لو كان يعصمهم ... من موج فوج المنايا حين تختطف دارت عليهم من الشجعان دائرة ... فما نجا سالم منهم وقد زحفوا ونكّسوا منهم الأعلام فانهزموا ... ونكّصوهم على الأعقاب فانقصفوا فرّوا من السيف ملعونين حيث سروا ... وقتّلوا في البراري أينما ثقفوا ففي جماجمهم بيض الظّبى زبر ... وفي كلا كلهم سمر القنا قصف وما استقام لهم في أعوج نهج ... ولا أجارهم من مانع كنف وأحرقوا بعد ما قد أغرقوا ورموا ... من القلال إلى الأوحال فانخسفوا وملّت الأرض قتلاهم بما قذفت ... منهم وقد ضاق منها المهمه القذف والطير والوحش قد عافت لحومهم ... ففي مراج الصواري منهم قرف ردوا فكلّ طريق نحو أرضهم ... تدلّ جاهلها الأشلاء والجيف وأدبروا فتولّى قطع دابرهم ... والحمد لله قوم للوغى ألفوا ساقوهم فسقوا شطّ الفرات دما ... وطمّهم بعباب اليمّ فانحرفوا وأصبحوا بعد، لا عين ولا أثر ... غير القلاع عليها منهم السّعف يا برق بلّغ إلى غازان قصتهم ... وصف فغصّتهم من فوق ما تصف فقلبه وجل من أجلهم قلق ... حتى يعود حزينا دمعه ذرف بشّر بهلكهم ملك العراق لكي ... يعطيك حلوانها حلوان والنجف وإن يسل عنهم قل قد تركتهم ... بالنخل صرعى فلا تمر ولا سعف ما أنت كفء عروس الشام تخطبها ... جهلا وأنت إليها هائم دنف قد مات قبلك آباء بحسرتها ... وكلهم مغرم مغرى بها كلف إنّ الذي في جحيم النار مسكنه ... لا تستباح له الجنات والغرف

وإن تعودوا بعد أسيافنا لكم ... ضربا إذا قابلتها رضّت الحجف ذوقوا وبال تعدّيكم وبغيكم ... في أمركم ولكأس الخزي فارتشفوا كذاك والج غاب الليث يحسبه ... قد غاب عنه بناب الليث يجترف (205) فالحمد لله معطي النصر ناصره ... وكاشف الضّرّ حيث الحال ينكشف قد أنجز الوعد في تصديق سيدنا ... محمد من به أضحى لنا الشرف نبيّ سيف أتتنا الأنبياء به ... وبشّرتنا به التوراة والصحف عليه من صلوات الله أكملها ... ومن هدايا تحيات الورى التحف وكتبت هذه القصيدة بتمامها لإعجازها، ولأن حقيقة كلّ بديع في مجازها. وأما باقي شعره الطيبي، الذي نفح وانتشر طيبه، لأنه روض بات يجوده الغمام بما سفح، فقف قليلا تزود منه نفسا، وتشهد قبسا، ويجحد بعده في الكنوز ملتمسا، ومنه قوله: [البسيط] ترنّم العود مسرورا ومن عجب ... سروره وهو في ضرب وتقييد من أين للعود هذا الصوت تطربنا ... ألفاظه بأظاريف الأناشيد أظنّ حين نشا في الدّوح علّمه ... سجع الحمائم ترجيع الأغاريد ومنه قوله، وقد لبست الذمّة العمائم المصبغة: النصارى أزرق، واليهود أصفر، والسامرة أحمر: [البسيط] تعجّبوا للنصارى واليهود معا ... والسّامريّين لما عمّموا الخرقا كأنما بات بالأصباغ منسهلا ... نسر السماء فأضحى فوقهم درقا ومنه قوله: [السريع] النهر وافى شاهرا سيفه ... ولمعه يختلس الأعينا فماجت البركة من خوفه ... وارتعدت وادرعت جوشنا

ومنه قوله: [البسيط] قامت تنبهني وسنى الجفون وقد ... رقّ النسيم ونامت أعين الرقبا والليل قد مدّ سترا من ذوائبها ... والصبح من خدّها قد لاح ملتهبا واستغربت راحتاها الرّاح حين رأت ... بنانها بشعاع الكأس مختضبا ضنّ الزمان بما قد جاد به ... وعادة منه لي استرجاع ما وهبا (206) ومنه قوله: [البسيط] بناظري قمر اتبعته نظري ... مذ حلّ في خاطري قد زاد في خطري تحت النقاب له بدر يقابله ... قد صار منزله في القلب كالقمر ومنه قوله: [المتقارب] أيا ناظري أنت سقت البلا ... لقلبي وذقت الهوى أوّلا ويا قلب أبليتني بالغرام ... ومن ناظري كان أصل البلا ومنه قوله: [الخفيف] برزت في الكؤوس كالإبريز ... فأعادت مسرّتي بالبروز قهوة فارسية من خبايا ... أردشير لبخله برويز بنت كرم من عصر نعمان زفّت ... لابن ماء السماء غير نشوز وجلاها زجاجها فأرانا ... جامد الماء ذائب الإبريز وهي في حلّة السرور كميت ... تكتسي بالحباب حلية بوز ارقني إنني أصبت بعين ... بالحميّا لا بالرّقى والحروز أنا لا أرتوي بكأس وطاس ... فاسقنيها بالزّقّ والقطر ميز اسقنيها حتى أموت بسكري ... وادع جمع القيان في تجهيزي اسقنيها فالأرض تحكي عروسا ... تتجلّى في ملونات الخزوز

55 - محمد بن محمد بن محمود أبو عبد الله، شهاب الدين

اسقنيها مع الصبايا فإني ... أنا شيخ الغرام وهي عجوزي ومنهم: 55- محمد بن محمد بن محمود أبو عبد الله، شهاب الدين «13» عرف بابن دمرداش. عدل مات على الشهادة، وعاش مدرّعا بالزهادة، وكان في أول أمره على ما كان عليه آباؤه من معاناة الجندية، ومعاياة البروق بمخاصمة سيوفه (207) الهندية. خدم الملك المنصور صاحب حماة، واتخذه من نداماه، وأمطره بواكف نعماه، وأسرى إليه صباه ونعاماه. ثم كره حماة بعد صاحبها المنصور، وعاف موردها، واستنزر إثمدها، ولم ير بعده من يرى أن يكون له خديما، أو يعد له نديما. وطفق يقلب يديه، وصدره طافح، وقلبه لهمه مكافح، وحاله لا يلمّ شعثه، كأنه لمّة المحرم، وحظه لا يضيء، كأنه صحيفة المحرم، فخلع عن منكبه ذلك الرداء، وانتهى في معالجة نفسه إلى أن كوى ذلك الداء. وعاد إلى دمشق، وعانى بيع الكتب ومشتراها، وحصل منها الفرائد كما تراها. ثم فقد ما بيده، إلا ما حصله من ذلك الربح الظاهر، وحصنه حفظا في خزانة الخاطر. ثم استرزق بالعدالة بما يقسم له بين الشهود، ويقدر له من المتيسّر الموجود، غير منافس مثلهم في الجعالة، ولا لابسا خلق تلك الحالة، قانعا بما سمحت له به النفوس، وسنحت له ديم الكرم بغير عبوس. وكان حقيقة تمنح جوهرا، وحقيبة تنفح عنبرا. ومن شعره المطرب نغمه،

المطيب تفتيت المسك لممه، قوله مما أنشدنيه: [البسيط] أحسن إلى الناس مهما دمت مقتدرا ... على الجميل ففعل الخير ينتهز ولا تكن كأناس أخّروه إلى ... غد فلما أتاهم في غد عجزوا وقوله مما أنشدنيه: «1» [الكامل] ومهفهف الأعطاف معسول اللّمى ... كالغصن يعطفه النسيم إذا سرى قال اسقني فأتيته بزجاجة ... ملئت قراحا وهو لاه لا يرى وتأرّجت برضا به وأمدها ... من نار وجنته شعاعا أحمرا ثم انثنى ثملا وقد أسكرته ... برضا به وبوجنتيه وما درى وقوله مما أنشدنيه: «2» [الخفيف] قال لي ساجي اللواحظ صف لي ... هيفي: قلت: يا رشيق القوام «3» (208) لك قدّ لولا جوارح عيني ... ك تغنّت عليه ورق الحمام «4» وقوله مما أنشدنيه: «5» [السريع] بالله إن جزت وادي الأراك ... وقبّلت أغصانه الخضر فاك «6» اهد إلى عبدك من بعضها ... فإنني والله مالي سواك وقوله مما أنشدنيه: «7» [الطويل]

أقول لمسواك الحبيب لك الهنا ... برشف فم ما ناله ثغر عاشق فقال وفي أحشائه لاعج الجوى ... مقالة صبّ للدّيار مفارق «1» تذكرت أوطاني فقلبي كما ترى ... أعلّله بين العذيب وبارق وقوله، وهو مما أنشدنيه: «2» [الطويل] جيادك يا من طبّق الأرض عدله ... وحاز بأعلى الجدّ أعلى المناصب إذا سابقتها في المهامه غرّة ... رياح الصّبا عادت لها كالجنائب «3» ولو لم يكن في ظهرها كعبة المنى ... لما شبهت آثارها بالمحارب وقوله: «4» [الطويل] ولما التقينا بعد بين وفي الحشا ... لواعج شوق في الفؤاد تخيّم «5» أراد اختباري بالحديث فما رأى ... سوى نظر فيه الجوى يتكلم وقوله: «6» [الكامل] حتّام لا تصل المدام فقد أتت ... لك في النسيم من الحبيب وعود «7» والنهر من طرب يصفّق فرحة ... والغصن يرقص والرياض تميد وقوله: «8» [الكامل]

قد صنت سرّ هواكم ضنّا به ... إنّ المتيّم بالهوى لضنين فوشت به عيني ولم أك عالما ... من قبلها أنّ الوشاة عيون وقوله: «1» [الطويل] روى دمع عيني عن غرامي فأشكلا ... ولكنه ورّى الحديث فأشكلا (209) وأسنده عن واقديّ أضالعي ... فأضحى صحيحا بالغرام معلّلا وقوله: «2» [الكامل] وافى النسيم وقد تحمّل منكم ... لطفا يقصّر فهمه عن علمه وشكا السّقام وما درى ما قد حوى ... وأنا أحق من الرسول بقسمه وقوله: «3» [الكامل] إن طال ليلي بعدكم فلطوله ... عذر وذاك لما أقاسي منكم لم تسر فيه نجومه لكنها ... وقفت لتسمع ما أحدّث عنكم وقوله: «4» [الكامل] عجبا لمشغوف يفوه بمدحكم ... ماذا يقول وما عساه يمدح «5» والكون إمّا صامت فمعظّم ... حرماتكم أو ناطق فمسبّح وقوله: «6» [المنسرح]

من لأسير أمست قرينته ... في الدّوح عن حاله تسائله «1» فهو يغنّي مبدا الحزين لها ... وهي بأوراقها تراسله وقوله: «2» [البسيط] حتى إذا رقّ جلباب الدّجى وسرت ... من تحت أذياله مسكيّة النفس تبسّم الصّبح إعجابا بخلوتنا ... ووصلنا الطاهر الخالي من الدّنس وقوله: [السريع] بالرّوح أفدي منطقيّا علا ... برتبة النحو على نشوه منطقه العذب الشهيّ الذي ... قد جذب القلب إلى نحوه وقوله: «3» [الكامل] يا سيدي أوحشت قوما ما لهم ... عن حسن منظرك الجميل بديل وتعلّلت شمس النهار فما لها ... من بعد بعدك بكرة وأصيل وبكا السّحاب مساعدا لتفجّعي ... من طول هجرك والنسيم عليل (210) وقوله: «4» [الكامل] انظر إلى الأزهار تلق رؤوسها ... شابت وطفل ثمارها ما أدركا وعبيرها قد ضاع من أكمامها ... وغدا بأذيال الصّبا متمسكا وقوله: «5» [الطويل]

56 - محفوظ العراقي، رشيد الدين

ولما أشارت بالبنان وودّعت ... وقد أظهرت للكاشحين تشهّدا طفقنا نبوس الأرض نوهم أننا ... نصلّي الضحى خوفا عليها من العدى وقوله: «1» [الكامل] ما أبطأت أخبار من أحببته ... عن مسمعي بقدومه ورجوعه إلّا جرى قلمي إليه حافيا ... وشكا إليه تشوقي بدموعه «2» وقوله: «3» [الطويل] يقولون شبّهت الغزال بأهيف ... وهذا دليل في المحبة واضح ولو لم يكن لحظ الغزال كلحظه اح ... ورارا لما تاقت إليه الجوارح وقوله: «4» [الطويل] يقول لي الدولاب راض حبيبك ال ... ملول بما تهوى من الخير والنفع فإني من عود خلقت وها أنا ... إذا مال عنّي الغصن أسقيه من دمعي ومنهم: 56- محفوظ العراقي، رشيد الدين «13» فحل لا يقرع له أنف، ولا يطمع أن يقاد بالعنف. قادر على الشعر ينظمه في الوقت الحاضر، ويرقمه كالروض الناضر، يدل على قوة لجتين، كأنما يهدر

فيهما رعد، أو يشهر سيف وعيد لا وعد. بعارضة يلين لها الجماد. ورد دمشق، ومدح والدي، رحمه الله، بقصيدة أحرقت قلب حاسده، وأشجت فؤاد معانده، وبات لها عدوه على شوك القتاد، وضده قد سلم إليه القياد، خلا رجل كانت منه نادرة غلط حملته على تفضيل رجل عليه، كلمة قالها بغير علم، وعثرة ما استقى لها عندي حلم، فمزّقت عرضه هجاء، وفرّقت أرضه أرجاء، فسلط (211) عليه ذلك الرجل بعض أقاربه، وقصد رفو عرضه الممزق بإبر عقاربه، فالتقفهم صلّه الأرقم، والتقمهم عقابه القشعم، وجاهرهم بالسوء من القول، وجاهدهم جهاد الفحل على الشوك. وكان قد اجتمع رأي فضلاء العصر، كالإمامين: صدر الدين أبي عبد الله محمد بن الوكيل، وكمال الدين أبي المعالي محمد بن الزملكاني، والفاضل رئيس الكتاب كمال الدين أبي العباس أحمد بن العطار، على تفضيله وتقديمه في الشعر على أهل جيله. ومن شعره في هجاء من هيّج حفيظته، وأوهج توقيد نار الغضب مغيظته، مما قاله ارتجالا في خصمه، وواجهه بنفث سمه، قوله: «1» [الخفيف] ركب الله في فناء بني فع ... لان معنى النيران والحيّات «2» أوجه القوم بالمكاره تحفى ... وفروج النساء بالشهوات «3» حدثني ابن عمنا القاضي جمال الدين، أبو محمد، يوسف بن رزق الله العمري، وكان هذا الرشيد محفوظ خاصّا به، وخالصا لصاحبه، نزل عليه حال

مقدمه، واصفا خالص خدمه، قال: حدثني الرشيد، ما سأذكر أنا معناه، وهو أنه لما مرّ بحماة، في مقدمه إلى دمشق، مدح طائفة من كبرائها المتّصلين بخدمة صاحبها الملك المظفر، منهم: ابن قرناص، كاتب سره، وصاحب أمره بأسره، وأراد منه أن يوصله إلى صاحبه لينشده مديحا عمله فيه، قاطع عليه الكرى، وأشبه به النجوم إلا في السّرى، حتى جاء به روضا ما سقته إلا سحب القرائح التي تشب لهبا، وتصب ذهبا، فعلّق أمله بالوعد ومنعه، فلم يصل إليه إلا فيما بعد. فلما رأى أن وعده لا يثمر، وأن قصده لا يظهر منه إلا خلاف ما يضمر، عدل إلى كستغدي أستاذ الدار «1» وكان ممن لا يخيّب المرجو، ولا يقطع رحم الأدب المرجو، لأخذه بحظّ من الفضائل لا تنقص، ولا يعرف الذهب ما لم يخلص، فلما أنزل به مقصده، أنشده: «2» [الكامل] ولقد ركبت هجين عزم ساقه ... مني الرجاء إلى الأعزّ الأبلج «3» (212) ملك توعّره جنود حوله ... كالروض بات مسيّجا بالعوسج فلما دخل على الملك المظفر، أوصل إليه جليّة خبره، وأنشده البيتين بما فيهما من وخز إبره، وابن قرناص حاضر يسمع، ناطر يتوقع ما يصنع، فأمر بإحضاره، فأحضر في الحال، واستنشده البيتين، فقال: ولقد ركبت هجين عزم ساقه (البيت) ثم اهتدم البيت الثاني فقال: [الكامل] ملك تزان به جنود حوله ... كالروض بات مسيجا ببنفسج «4»

فقال له: ما هكذا قلت. فقال: قد كان ذاك قبل أن أحضر لديك، فأما بعد أن حضرت، فهو كما أنشدت بين يديك. فأسنى عطاءه من الذهب الخلاص، وأوسع ملامته ابن قرناص. وحدثني أيضا عنه: أنه أتى حصن الأكراد مادحا نائبها، ومستقيا من أياديه سحائبها، فأخذ ابن الذهبي كاتب درجه القصيدة ليوصلها إليه، ثم عاد إليه، فأخبره أنها ضاعت من وسط يديه، فقال: [المنسرح] لا الذهبيّ أسرى المديح ولا ... أعذبه منهلا وعذّبه أهديت مدحي تبرا إليه فما ... ذهّبه بل عليّ أذهبه وقوله، وقد رأى مشجر الفسيفساء بجامع دمشق: [الطويل] ألم تر أشجارا بجامع جلّق ... حكت مثلها لو أنّ صانعها باق نضارتها أن لا تداني فروعها ... بشمس ولا يسقي مغارسها ساق وقوله: «1» [الخفيف] فرّقت بيننا الحوادث لكن ... لي نفس إليكم أدنيها فكأني في الودّ فارة مسك ... أفرغوها ونفحة الطيب فيها «2» وقوله: [الخفيف] هيّج البرق لوعة المشتاق ... بوميض لقلبه الخفّاق هذه مزنة إليّ حدتها ... نسمة الصّبح من نواحي العراق يا قساة القلوب رقّوا فإني ... لا غرامي فان ولا أنا باق (213) هل لبؤس لاقيته من فراق ... ونعيم فارقته من تلاق

57 - محمد بن سبط الحافظ، شمس الدين

ومنهم: 57- محمد بن سبط الحافظ، شمس الدين ذكي الفطنة، زكي الفطرة، وقّاد القريحة، نقّاد المعاني الصحيحة، لطيف المحاضرة، خفيف المجالسة. يقع على نادر المعنى، لكنه ربما أتى بمساكن بلا مغنى، إذ كان مستوشل المواد، مستوحش الجواد، لا دربة له بممارسة، ولا رغبة تقدمت له في مدارسة، اعتمادا على ضياء حسه، وصفاء جوهر نفسه. مركب أعاريض الشعر، ولا يلحج في بحاره، ولا يدلج ليله قبل تبلج أسحاره. وخدم في الدواوين زمانا، ثم في الجيش بصفد خدمة أخذ بها الرامح من قلبه أمانا، وكان يجيد حلّ المترجم ويبيّن ما أسرّه قلم كاتبه وجمجم، بفهم إلى قراءته، يسارعه كأنه واضعه متى نظره قرأه لا يتوقف، كأنه هو الذي كتبه وسطره. ومن شعره: [الطويل] وذي شنب مالت إلى فيه شمعة ... وعادت إلى رجليه عن شفتيه وقالت: بدا من فيه شهد فهزّني ... بذكر لأوطاني فملت إليه فحالت يد الأيام بيني وبينه ... فعفّرت أجفاني على قدميه ومنهم: 58- محمد بن سباع الصائغ، الدمشقي، أبو يوسف، شمس الدين «13» صائغ لا غشّ في ذهبه، ولا غلّ في أدبه، ولا غب لزيارة سحبه. قطف غضّ البلاغة، وجاء بالكلام كمال يقال: صاغه صياغة. وما كان ابن سباع إلا وهو شبل قسورة، ولا نعت بالشمس إلا لأن الليالي كانت به مقمرة.

وهو ممن أخذت عنه العروض، وكان فيه إماما، وقطّعت بحوره لا أرد الماء إلا حماما. وتعلمت منه علم القوافي، وطرت في دقيقه وجليله بالقوادم والخوافي. وكانت حانوته بقيسارية الصاغة بدمشق سوق ذهب وأدب، كلاهما إبريز، وهما ما هما وله فيهما التبريز. وله أوفر قسم من النحو والعربية والمقامات (214) الحريرية، وسائر المواد الأدبية. ومن أشعاره المولدة العربية الذهبية، قوله: [الكامل] وتخيّروا تلك الحزون منازلا ... بالحزم للأمر الأشدّ الأصعب ملأت خيامهم الجهات فلم يكد ... للقرب يفرق مضرب من مضرب ومنه قوله يذكر حريق بلد أخذ منه الكفر: [الكامل] طهّرتها من أهلها بدمائهم ... وجعلت باسمك ربعها مأنوسا أمهرتها عزما ملأت به الدّنى ... ولقد ملكت كما بذلت نفيسا ورميت فيها النار تطهيرا لها ... مثنى فمنها الشّرك عاد يؤوسا فكأنّها والنّار في جنباتها ... نبت به الشّيطان غرّ مجوسا وسلبتها مما حوته ذخائرا ... وجواهرا ونفائسا ونفوسا وتركتهم برا وبحرا جيفة ... من بالقصور يظنها ناووسا ومنه قوله في فتح عكا وصور: [الكامل] قلقلت أرض الشام عند دخولها ... ركضا بجيش كالسحاب عرمرم قد كان وجه الشمس غير مبرقع ... لولاهم والبدر غير ملثّم فأريت عكاما بعمورية ... رأت الفوارس في الزمان الأقدم فتح محيّا الدهر موسوم به ... وزمانه في دورة كالموسم ما الرأي إلا عند قلب ثابت ... والسيف إلا في يمين مصمم قد حزت صورا في تقضّي فتحها ... فبشكرك الإسلام رطب المبسم

59 - عبد المجير، أحمد بن الحسين الخياط، مجير الدين

ما كان بينهما سوى يوم فذا ... سعد إليه كلّ سعد ينتمي والجمع للأختين غير محلّل ... لكن بهذا الحال غير محرّم ومنه قوله يصف قصيدة مطولة: [الكامل] عجبا رأينا من تزيّد حسنها ... مع أنها زادت على التسعين شغلت ذوي الأسماع في إنشادها ... مما حوته عن ابنة العشرين (215) ومنه قوله، وهو مما ادّعاه سواه، وكان شيخنا أبو الثناء لا يبثّهما إلا لابن القماح: [الرجز] لو تعلم الورق حنيني نحوكم ... لمزّقت من طرب أطواقها ولو يذوق عاذلي صبابتي ... صبا معي، لكنه ما ذاقها ومنهم: 59- عبد المجير، أحمد بن الحسين الخياط، مجير الدين شاعر لا يقدر على مبالغه، ولا يعصى الحصا على ماضغه. قريحته مقتدرة، وفكرته مبتدرة، وخاطره السمح لا يقابله بالمعذرة. ولم يكن في سوق الشعر متكسبا، ولا بما يتسنّى من جوائزه متسببا، بل كان يكتفي بصناعة يده، وبضاعة شمم يكفى بها منه مسترفده، مع قليل مال يصلحه فينمي، ويستسفحه فيهمي، إلا أنه رزق خياط يجنيه من حرث إبرته، وتأييد بمقدار ما يبيعه من نظر مقلته، مع أنه بدا بناظره فخاطه بالإعجاب، وخاطه بكبرياء بلغت به العجب العجاب. ومن شعره السهل الذي لو دعي أجاب، قوله: [الكامل] يغنيه عن بعث الكتائب كتبه ... وكأنما في كلّ سطر فيلق

والمرء يفتن بابنه وبشعره ... وكلاهما شيء لعمرك يعشق ورأيت بخط المجير المذكور فصلا أتبعه بشعر لخصتهما وهو: ولقد ورد على رجل من مصر يتعاطى أنه شاعر، ولم يكن خبيرا بما يحتاج إليه، بل كان نظّاما لحّانا، يخطئ الأوزان، ويخالف اللغة في غير مكان، فأصلحت من هذيانه على ما أفضى إليه حال لفظه، ونسقت له أساليب من كلامي، زيّنت بها قبح ما جاء به من بشاعة نظمه، وبرد سرده، ولم يخل من قصيده وضيعا ولا رفيعا، ولا عبدا ولا حرّا. وكل هذا وأنا أنظم له القصائد، وهو بحبالي الصائد، ثم ثلبني، فنقل إليّ، فقلت: [الوافر] عتبت وقلت إني قيل عني ... مقال ما سمعنا منه أكذب وإني قانع بقليل شكر ... فقل لي ما لكثر الذمّ أوجب (216) ولا تعجب لقلب الخير سرّا ... فذمّك لي بظهر الغيب أعجب وإن تر أنّ في عتبي صوابا ... فترك العتب منك عليّ أصوب وقد قلت الذي عندي وهذا ... نهاية حالنا فاجنب أو اركب ولم أسلفك إلا كلّ خير ... وإن تعتب فإنّي غير معتب ومن شعره قوله: [المجتث] صبح العوافي تنفّس ... في ليل سقمي وعسعس وعاد نطق حياتي ... وكان بالموت أخرس ونافس البرء سقمي ... فكان بالنفس أنفس والموت لم ينج منه ... سمّ العرانين أخنس وكل عال ونكس ... في هوّة الهلك ينكس ومنه قوله: [المنسرح]

يدافع الموت في تقلّبه ... موج المنايا وسيلها دفع وليس من تحت سبع أرقعة ... يبقى ذباب كلّا ولا سبع ومنه قوله: [المنسرح] سدّ عليّ النهيج والأرق ... وساقني في لجامه العرق واتّسعت فيّ للردى سبل ... فيها تضيق الأنفاس لي طرق وفي عروقي وأعظمي ودمي ... جرت خيول الحمام تستبق أظلّ لا أطعم الطعام فإن ... طعمت منه أكاد أختنق وفي سحاب الحياة بارقة ... في جوّ جوفي بالموت تأتلق ولي بتقدير خالقي علق ... من حيث لا نطفة ولا علق ومنه قوله في وزن درعية المعري التي أولها: هم الفوارس بات في إدراعها، «1» قصيدة منها: [الكامل] ماذية لو أرسلت من خالق ... في سيله فاتته في إسراعها (217) لو أن أرجل نملة دبّت على ... سربالها ما غاص طرف ذراعها عاديّة تنبو الصوارم في الوغى ... عنها لرقّتها وغلظ طباعها لو ألقيت في قفرة دويّة ... حام القطا طمعا بحومة قاعها خصراء محكمة القتير لسردها ... حبك يضيع الفكر في أوضاعها زغف دلاص ستر كلّ مقنع ... إن آذنت حرب بكشف قناعها كم قطّعت بيض الظّبا بوصالها ... وتدافعت سمر القنا بدفاعها وثوابت الخرصان لو قارعنها ... لتقصّفت وتقصّدت بقراعها

لطفت على فرط الكثافة حلّة ... قد طرّزت بالبرق من تلماعها سمح الزمان بحين عصر ولادها ... ومسامع الدنيا ثديّ رضاعها ومنه قوله يصف مقتل أفعى: [الكامل] نفر الحباب فخلت سيل الجدول ... متدفقا نحو الأباطح من عل أو أسمرا متأطّرا يوم الوغى ... في كفّ مشبوح الذراع شمردل يرنو بأخرز شبه جذوة قابس ... متوقدا في جنح ليل أليل فهو الشجاع مدرّبا بإهابه ... فمسربل درعا وغير مسربل وكأنما حدق الجراد لباسه ... أو رقش وشي فوق ردّ أسحل بادرته بمهند ضمّ الصفا ... بفرنده يغري بضربة فيصل وكأنه ليل سطا بسواده ... عند الصدام بياض صبح منجلي متململا من فوق مفرش تربه ... يعلو أعالي رأسه بالأسفل وكأنّما هو بالدماء مضمّخ ... ليل كقنو النخلة المتعثكل تملو لهازمه لفرقة نفسه ... بتكشّر عن كلّ ناب أعصل فقتلت منه أفعوانا قاتلا ... كم قد أصاب ضريبة في المقتل ومنه قوله: [مجزوء الرمل] أين من أعطافهم ... كانت تهزّ الأريحيّة (218) وعلى الشعر يجازو ... ن الجوائز السنيّة ذهبوا لم يبق في ... الدنيا منهم بقيّة غبروا لذكر منهم ... عطّر أفواه البريّة ومنه قوله: [المجتث] لا ترفعنّ دنيّا ... فرفعه لك خفض

60 - أحمد بن محمد بن سلمان بن حمائل، شهاب الدين، أبو جعفر

ودسه حيث تراه ... بتركه فهو أرض ومنه قوله: [الكامل] لا شيء فوق الموت تألمه ... إلا إذا أضيافه ارتحلوا لو أن كعب الجود عاصره ... بسماحه لم يضرب المثل ومنه قوله في حائك صار خطيبا: [السريع] وحائك صار خطيبا ومذ ... صار خطيبا قد بدا منصرما ظنّ وقد صار على منبر ... بأنه قد صار فوق السما وهو الذي من نفق في الثرى ... إلى الثريّا قد رقي سلّما ومنه قوله، وقد ولي شمس الدين محمد بن الرزيز خطابة الجامع الكريمي بقبيبات دمشق، وقام شخص اسمه ابن العديسة واعظا: [المجتث] في الدهر شيء عجيب ... مرآه يقذي اللواحظ ابن الرزيز خطيب ... وابن العديسة واعظ ومما أملانا من نثره قوله مع قصيدة كتب بها إلى بعض الرؤساء، وهو: فأرسلتها كالمهدي قطرة إلى البحر المحيط، أو النافخ بغيه ليزيد بنفسه في الهواء البسيط. ومنهم: 60- أحمد بن محمد بن سلمان بن حمائل، شهاب الدين، أبو جعفر «13»

عرف بابن غانم. أي لا يصبر على ضيم، ولا يتغافل لمساورة أيم، بل أي بلد نبت به أرضها، ونبت له ممضّها، طلّقها طلاق البتات، وقوّض عنها (219) خيامه قبل البيات. جوّال آفاق، وجوّاب مهامه بلا رفاق. طار بغير جناح، واخترق حيث تهب الرياح. وقد تقدم ذكر أخيه في الكتّاب في هذا الكتاب. وكان أبوهما ممن أحبّ له داعي الفلاح، وأجيل قلمه في سهام القداح، ثم غضب ابنه هذا عليه غضبة حملته على الاغتراب، وحلّقت به حيث لا يحلق الغراب. هذا وبدره ما اكتمل، وجلباب الورق على غصنه ما اشتمل. فأتى العراق في رفقة، سلكوا به السماوة، لا يصحبه إلا أبيض مسلول، ولا يؤنسه إلا أرقط زهلول، ولا يظلله إلا سمرة في يهماء، ولا برد إلا أداوة يترشف منها الماء. ونزل بها على خفاجة مخفيا لنفسه، مظهرا له أدب درسه، فلما تسمّى لهم واكتنى، وكتم من أمره معلنا- وكان العهد إذ ذاك قريبا بأخذ بغداد، وشتات شذاذ الخلافة في أقطار البلاد- ظنوه ابنا للمستعصم، كان قد فقد على الجسر، بعد اقتحام التتار شوارعها الفساح، والتهام أفواه قسيهم الفاغرة مضغ الأرواح، وأبناء الخلائق لديهم نهب صيح في حجراته، وهضب ذيد عن سمراته. ولقد حكى لي أن هذا صار فيه عقد دينهم، وعقل يقينهم، فقدموه عليهم إماما، وسلموه لهم زماما، وإنه لم يفسدهم بكشف باطنه، وإخراج خبيئة من مواطنه. وأتى الملك الظاهر هذا البناء، فخاف منه فتقا لا يرقعه، وخرقا لا يجمعه، فكتب إلى ملك العرب عيسى بن مهنا يطلب منه إحضاره، ويوكل به انتظاره، فاستدرجه إليه، ثم بعث به حتى أقدمه عليه، فلما حضر بين يديه، تعرّف إليه بأبيه، وشهد له بعض من حضر، فسلّم وقد أهوى إليه الحجر، وأمر باستدعاء أبيه من دمشق، فلما وصل سلّم إليه، وسلّ من قنصة الموت وألقى

لديه، وقيل له: لا بورك لك، ثم ردّ ضائعه عليه. ثم إنه كتب الإنشاء في الممالك، وتنقل بمصر ودمشق، ثم أبى حمل المشق. كان قد أفرد للكتابة في مجلس الوزارة بدمشق، والمتحدث إذ ذاك، الصاحب شمس الدين عبد الله المعروف بغبرال، فأمره يوما بكتابة كتاب، فضمنه شيئا (220) من الصناعة التي لا عهد بها لمن كتبت عنه، وقرأ ما فيها فلم يستبينه، فأنكر ما لم يحط به علمه، ولا تصوره فهمه، فسأله عن موضع منها كالمستفسر، فظنه كالمستنفر، فركب القفار يضربها أذرعا في أذرع، ويودع منها أربعا في أربع، وظنّ أنه قد تفلّت من يده تفلّت المملق من يد الغريم المقلق، وتقحّم مهالك بحار الرياح في قطعها، ومهاوي لا تكتحل جفن الغزالة، ينقعها بتلاعب يد الإقتار، ويقذف به في الفجاج البعيدة الأقطار، إلى أن نزل بالملك المؤيد صاحب اليمن، في بحبوحة مجد، وأرجوحة جد، وسعادة أراشت جناحه المحصوص، وأطارت طائره المقصوص. ثم ضاقت به تلك الرحاب، ونغصت إليه تلك المحاب، لأمراض تناوبت بنيه، وأعراض هدّت مبانيه، فسيرهم من طريق لاقاهم إليه، إلى مكان لم يخلف لهم فيه موعدا، ولا تجاوزه مبعدا، إلى أن حلّ حضرة صنعاء متذمما بإمامها، وطالبا منه صنيعة يتمسك بذمامها، فوجد لديه إكراما، وحواليه لاقى كراما. ثم وجه على طريق السراة ميمما مكة المعظمة، فوافاها والموسم قد أقمرت لياليه، ورقمت خدود الأيام غواليه، فحضر الموسم وشهد أيامه المعلومات، ولياليه الرافلة حلله المرقومات. وقد التقى كلّ ذي دين وماطله، وهدت به سنابك اليمن وأياطله، ثم قصد الباب الشريف النّاصري، فلقي برّا بحسن الخلف، وحلما لا يؤاخذ بما سلف، وأمر باستخدامه، ثم تنقل في مصره وشامه،

وتنقل ببرّه وإنعامه. ولما فوّض إلينا الأمر بالشام في أخريات شعبان، سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة، أبى إلا أن يحفظ عهدنا، وأن لا يقيم بمصر بعدنا، فجاء على آثارنا مستصحبا لحال المودة، مقضيا معنا عمره إلى آخر مدة. ثم منعه مانع الهرم أن يعود معنا إلى مصر، في جمادى الأولى من السنة القابلة، حين قلدنا بها ثانيا، وقعد عجزا لا توانيا، لفتور عزم قيد خطاه، وفند رأيه لحلول الأجل فما تخطاه. وبلغنا على الأثر أنه غلب عليه سوء مزاج، لم يفد فيه حسن (221) علاج، إمضاء لإرادة الله في خلقه، وإفضاء به إلى نهاية أجله ورزقه. وكان فاضل بيته، ومستدرك فوته، ناقلة لغة، وعاقلة أدب، مع إلمام بطرف كل فضيلة، وطرف ودّ أوى به إلى ضوء كل قبيلة. فأما الشعر، فكان نبعته التي قرع بها القرناء، وصنعته التي ما خلا بعده لمن عاناها إلا العناء. وله طرائف وظرائف. حكى عنه قريبنا القاضي جمال الدين، أبو محمد، يوسف بن رزق الله العمري، قال: اجتمعت به يوما في سماع، فرقص الناس ثم جلسوا، فأقامهم شخص استمع هو ورجال مثله، عليهم سيماء البادية، وطال الحال في الوقوف، وشهاب الدين ساكت لا يتكلم، وساكن لا يتحرك، فقال له رجل على سبيل الهزء به: مالي أراك ساكنا كأنه يرجى إليك؟ فقال: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِ «1»

وحكى عنه بعض أقاربه، أن الملك المنصور صاحب حماة، خرج إلى باب الشجريات بالمعرة، وشهاب الدين في صحبته، فاحتاج شهاب الدين إلى الخلاء، ولم يكن من رأيه دخول الخربشت، «2» وكان الفضاء مسدودا بالوطاق الظاهري، وهو إذ ذاك مخيم به، فصعد شهاب الدين إلى شجرة تين ليتخلّا، والملك المنصور يراه، ولم يعلم ما يصنع، فجهز شخصا لينظر ما يفعل، فقال: خذ! وسلح عليه، حتى ملأ وجهه وعينيه. فقال: ويلك، ما هذا؟ فقال: أطعمتك من التينة. فأتى الملك المنصور الخبر، وفهم الصورة، فانقلب يضحك حتى أغشي عليه. وحكي أنه اجتمع يوما هو ونور الدين ابن هلال الدولة مقدم يمن بكفر عامر، في مجلس لهو فيه شيء من آلات الطرب، فأخذ شهاب الدين آلة منها ليضرب بها على سبيل العبث، وكان لا يعرف هذا، وابن هلال الدولة متهم بالرفض، فقال له ابن هلال الدولة: أحسنت، بالله سمّعنا غليظ ما نكره، فقال: رضي الله (222) عن أبي بكر وحكي عنه، ثم حكى هو لنا عن نفسه، أنه كان عند واحد الدهر القاضي كريم الدين عبد الكريم الناصري في خيمة جمع القرّاء بها بالقرافة، وأنه أوى إلى القاضي علاء الدين، علي بن الظاهر، وجلس إليه يحدثه، فبعث إليه بآخر هناك يعرف بالطواشي معاوية، يقول له: بقيت نوبتي، يعني قم تعال إليّ، وألحّ عليه. فقال له: ويلك! من يخلّي عليّا ويروح إلى معاوية؟ فيما أوردناه مقنع، وفي بعضه ممتع. ومما أنشدنا من شعره تلفظا أو إجازة قوله: «1» [السريع] والله ما أدعو على هاجري ... إلا بأن يمحن بالعشق

حتى يرى مقدار ما قد جرى ... منه وما قد تمّ في حقي وقوله: «2» [المجتث] يا حسنها من رياض ... مثل النّضار نضاره كالزهر زهرا وعنها ... ريح العبير عباره «1» وقوله: «2» [مخلع البسيط] طرفك هذا به فتور ... أضحى لقلبي به فنون قد كنت لولاه في أمان ... لله ما تفعل العيون وقوله: [الكامل] يا نازحا عني بغير بعاد ... لولاك ما علق الهوى بفؤادي أنت الذي أفردتني مني فلي ... بك شاغل عن مقصدي ومرادي سهرت بحبك مقلتي فحلالها ... فيك السّهاد فلا وجدت رقادي ورضيت ما ترضى فلو أقصيتني ... أيام عمري ما نقضت ودادي أنت العزيز عليّ إن أشكو لك ال ... وجد الذي أهديته لفؤادي وقوله: «3» [الخفيف] أيّها اللائمي لأكلي كروشا ... أتقنوها في غاية الإتقان لا تلمني على الكروش فحبي ... وطني من علائم الإيمان «4»

وهو من قول النصير الحمامي، وقول النصير أحسن، وهو: [السريع] (223) رأيت شخصا آكلا كرشة ... وهو أخو ذوق وفيه فطن وقال: ما زلت محبّا لها ... قلت: من الإيمان حبّ الوطن وكذلك قوله، أعني أبا جعفر بن غانم: «1» [الخفيف] ما اعتكاف الفقيه أخذا بأجر ... بل لحكم قضى به رمضان هو شهر تغلّ فيه الشياطي ... ن ولا شكّ أنه شيطان وقوله: [البسيط] تعجّب الناس للبطيخ حين أتى ... لحين حين وإذ وافى بطاعون وكيف لا يقطع الأعمار مقدمه ... وليس يؤكل إلا بالسكاكين وقوله في مولود سمّي مباركا: [مجزوء الرجز] تهنّ يا مباركا ... بالولد المبارك بمن سمّوه أنسا ... لكونه ابن مالك وقوله، مما كتب به إلى قاضي القضاة، جمال الدين ابن واصل، وقد أقعده عاقدا بحماة في مكتب فيه السيف علي بن المغيزل: «2» [مخلع البسيط] مولاي قاضي القضاة يا من ... له على العبد ألف منّه إليك أشكو قرين سوء ... بليت منه بألف محنه شهرته بيننا اعتداء ... أغمده فالسيف سيف فتنه وقوله في زركشي: [مجزوء الكامل]

بأبي أفدي زركشيا ... قد سبى كلّ الورى عشق الشريط جماله ... فغدا نحيلا أصفرا وقوله مناقضة للبيتين المشهورين، والذي قاله: [المتقارب] تأمّل دمشق وجاور بها ... فقد زانها الجامع الجامع فسرّ السرور به مودع ... وسعد السعود به طالع وأما البيتان المنقوضان فيهما، فهما: [المتقارب] (224) تجنّب دمشق ولا تأتها ... وإن شاقك الجامع الجامع فسوق الفسوق به قائم ... وفجر الفجور به طالع عدنا إلى تتمة ما نذكره له، فمنه قوله في مقصوص الشعر: «1» [البسيط] صدغان كان فؤادي هائما بهما ... فكيف أسلو وكلّ الشعر أصداغ «2» قالوا: ذؤابته مقصوصة حسدا ... فقلت: قاطعها للحسن صوّاغ ومنه قوله، نقلته مما كتبه لي من شعره القاضي نجم الدين أحمد ابن أخيه، واستثبته في قوله، فقال: إنه سمع هذا من فيه، وهو: [الطويل] أعاهد قلبي في اجتناب هواكم ... ويغلبني شوقي إليكم فأنكث وأحلف لا واصلتكم ما بقيتم ... وأعلم أن الوصل خير فأحنث ومنه قوله: «3» [الخفيف] بأبي صائغ مليح التثني ... بقوام أزرى لغصن البان

أمسك الكلبتين يا صاح فاعجب ... من غزال في كفّه كلبتان وحكي أنه كان قد دعاه صاحب له ليضيفه، فلما جاءه قال له. اقلع قماشك واقعد عندنا اليوم. فلما قلع قماشه واطمأن، سرق جبّته وخبّأها على سبيل اللعب. ثم جاءه بصحن كبير مغطى، فلما كشفه لم يجد فيه إلا سبع حبات من القطائف في غاية الصغر. فقال: ويحك! ما هذه؟ فقال له: كل، فإن استطبتها زدناك. فلما أكلها لم يأته بشيء آخر، ثم أمره بالانصراف. فلما قام لينصرف، لم يجد جبّته، فسأل عنها. فقال له: أخذناها ثمن القطائف التي أكلتها. فقال: «1» [مجزوء الرجز] قل للذي ضيّفني ... في بيته سبع لقم «2» ورام أخذ جبّتي ... هذا على الرطل بكم قلت: وعلى طول مدته في ديوان الدرج، واسترزاقه بقلم الإنشاء، وما يتلاطم في حفظه من أمواج المراد، ما تعاظم إلا لديه من وافر الفضل (225) لا يذلّه في تنميق النثر، ولا في تحقيق طريق الكتابة، بل هو مخلّى فيها، ونفسه يركد ولا يهب، ويقعد ولا يقوم، حتى في كتب السفيل، لا يرضى منها له كتاب، ولا تحلّى بشيء مما عنده من الأدب، بل هي في معزل، والكتابة في مغزل، وقد سدّ بينهما باب، وضيّع خازنه المفتاح، حتى لا يفتح ذلك الباب. انتهى كلامنا فيه. وهذا آخر ما ذكرت من شعراء الجانب الشرقي، ممن ضمت حنايا القبور أسرارهم، وأخفت مغارب اللحود أقمارهم، ووسدهم التراب حشاياه، وكدّر

61 - عبد العزيز بن سرايا الحلي، أبو الفضل، صفي الدين

لهم الدهر عشاياه، وصاد ورقهم الساجعة، بازيّ الحمام المطل، وشبرق ثوب الشفق بدمهم سبع منونهم المطل، وها هم الآن كما رأيتهم أرواحا، يتصوّر بالتمثيل عيانهم، وتفضّ من مدارج الصحف أكفانهم. وها أنا الآن أذكر من بقي من شعراء الجانب الشرقي ممن هو حي موجود، هم على آثار سبقهم مجدون، ولسلف موتاهم ممدون، وما نحن إلا مثلهم، غير أننا أنخنا قليلا بعدهم وتقدموا. فنسأل الله أن يكشف غطاء قلوبنا، ويرشدنا لما فيه صلاح أمورنا، إنه هو أهل التقوى وأهل المغفرة. فأمّا من وعدت بذكرهم من الأحياء الموجودين، فأقول وبالله التوفيق: ومنهم: 61- عبد العزيز بن سرايا الحلّي، أبو الفضل، صفيّ الدين «13» التاجر، ملء فكيه لسان، وحشو لحييه إحسان، وبين جنبيه بحر إلا أنه إنسان، ولا بس برديه شاعر ولكنه حسّان. وزن به بلديّه الحلي فخفّ راجح، وقرن به سلم فسلّم أن الخاسر غير رابح. لو نازع الحكميّ لحكم له عليه من أجمع، أو السّلميّ لعلم من منهما أشجع. وله شرف نفس يرى الجوزاء دون مرامه، والبدر أقلّ من تمامه. أخذ ثأر خاله وقد قتل قهرا بيده، وابتزّ دمه من مخالب الأسود قسرا بمهنده، ولم ينفق سوقه على السوق، ولا لبس عقائله إلا الحرير وحاشاه من السوق. ولم يتخذ من الشّعر سببا، ولا علق لأطماعه (226) بأوتاد طينا، ولا رضي لفواضله من فواصله مكسب، إلا ما جاء من عفو إنعام الملوك هنيئا بلا

تعب، وهنيّا لم يستصعب. أو ما سامح به من حقوق متجره، ويصالح به على مالا يقوّم من جوهره. ووفد على سلطاننا متشرّفا بمدحه، تشوّفا إلى منحه، فأقبل عليه بفضله ووصله، ملء حقيبة رحله. ثم عاد إلى ماردين، مصاحبا لملوكها الكرام، مواظبا لهم دون سائر الندماء. وتردد إلى حماة، أيام الملك المؤيد عماد الدين، أبي الفداء إسماعيل، ثم أيام ابنه الأفضل. وما منهما إلا من كان يعدّ لوفوده الليالي، ويعدّ لوروده الذهب ثمنا للآلي. وهو اليوم باق يمتاح، وحي إليه كلّ قلب حيّ يرتاح. ومن شعره الغرد، وسلسله المطّرد قوله: «1» [الكامل] لولاك ما نافقت أهل مودّتي ... وظللت فيك نفيس عمري أنفق وصحبت قوما لست من نظرائهم ... فكأنّني في الطّرس سطر ملحّق وقوله: «2» [الكامل] وأغرّ أدهم ذي حجول أربع ... مبيضّها يزهو على مسودّه «3» خلع الصّباح عليه سائل غرّة ... منه، وقمّصه الظّلام بجلده قلق المراح، فإن تلاطم خطوه ... ظنّ المطارد أنّه في مهده أرمي الحصى من حافريه بمثله ... وأروع ضوء الصّبح منه بضدّه وقوله: «4» [الكامل]

عاتبته، فتضرّجت وجناته ... وازور ألحاظا وقطّب حاجبا فأرابني الخدّ الكليم وطرفه ... ذو النّون إذ ذهب الغداة مغاضبا «5» لا غرو إن وهب النّواظر حظوة ... من نوره ودعاه قلبي ناهبا «6» فمواهب السّلطان قد كست الورى ... نعما وتدعوه القساور سالبا ملك يرى تعب المكارم راحة ... ويعدّ راحات القراع متاعبا لم تخل أرض من ثناه وإن خلت ... من ذكره ملئت قنا وقواضبا (227) ترجى مواهبه ويرهب بطشه ... مثل الزّمان مسالما ومحاربا كالسّيل يحمد منه عذبا واصلا ... ويعدّه قوم عذابا واصبا «1» فإذا نظرت ندى يديه ورأيه ... لم تلف إلّا صائبا أو صائبا «2» وقوله: «3» [الرمل] شام برق الشّام صبحا، فصبا ... وترآه عشاء فعشا لاح واللّيل به مكتهل ... وجنين الصّبح حمل في الحشا وهلال الأفق يحكي قوسه ... جانب المرآة يبدو من غشا وحكى المرّيخ في صبغته ... خدّ محبوب بلحظ خدشا وسهيل مثل قلب خافق ... مكّن الرّعب به فارتعشا والثّريّا سبعة قد أشبهت ... شكل لحيان بتخت نقشا ووميض غادرت غرّته ... أدهم اللّيل صباحا أبرشا

وقوله: «4» [البسيط] والرّيح تجري رخاء فوق بحرتها ... وماؤها مطلق في زيّ مأسور قد جمّعت جمع تصحيح جوانبها ... والماء يجمع فيها جمع تكسير والرّيح ترقم في أمواجها شبكا ... والغيم يرسم أنواع التّصاوير «5» والماء ما بين مصروف وممتنع ... والظّلّ ما بين ممدود ومقصور والرّيح قد أطلقت فضل العنان به ... والغصن ما بين تقديم وتأخير والنّرجس الغضّ لم تغضض نواظره ... فزهره بين منفض ومزرور كأنّه ذهب من فوق أعمدة ... من الزّمرّد في أوراق كافور والأقحوان زها بين البهار بها ... شبه الدّراهم ما بين الدّنانير وزامر القوم يطوينا وينشرنا ... بالنّفخ في النّاي لا بالنّفخ في الصّور وقد ترنّم شاد صوته غرد ... كأنّه ناطق من حلق شحرور بشامخ الأنف قوّام على قدم ... يشكو الصّبابة عن أنفاس مهجور (228) شكت إلى الصّحب أحشاه وأضلعه ... قرض المقاريض أو نشر المناشير «1» والراقصات وقد مالت ذوائبها ... على خصور كأوساط الزّنانير كأنّ في الشّيز يمناها إذا ضربت ... صبحا تقلقل فيه قلب ديجور «2» ترعى الضّروب بكفّيها وأرجلها ... وتحفظ الأصل من نقص وتغيير وتعرب الرّقص من لحن فتلحقه ... ما يلحق النّحو من حذف وتقدير وحامل الكأس ساجي الطّرف ذو هيف ... صاحي اللّواحظ يثني عطف مخمور يدير راحا يشبّ المزج جذوتها ... فلا يزيد لظاها غير تسعير نارا بدت لكليم الوجد آنسها ... من جانب الكأس لا من جانب الطّور وللأبارق عند المزج لجلجة ... كنطق مرتبك الألفاظ مذعور

كأنّها وهي في الأكواب ساكبة ... طير تزقّ فراخا بالمناقير أقول والرّاح قد أبدت فواقعها ... والكأس ينفث فيها نفث مصدور أسأت يا مازج الكاسات حليتها ... وهل يتوّج ياقوت ببلّور وقائل إذ رأى الجنّات عالية ... والحور مقصورة بين المقاصير لمن ترى الملك بعد الله؟ قلت له ... مقال منبسط الآمال مسرور لصاحب التّاج والقصر المشيد ومن ... أتى بعدل برحب الأرض منشور فقال: تعني به كسرى؟ فقلت له: ... كسرى بن أرتق لا كسرى بن سابور لا تفخر الشّمس إلّا أنّها لقب ... له، وشبه له في العزّ والنّور رأت بنو أرتق نهج الرّشاد به ... وليس كلّ زناد في الدّجى يوري كم عصبة مذبدا سوء الخلاف بها ... بادت بصارم عزم منه مشهور مشوا كمشي القطا، حتى إذا حملوا ... ثقل القيود مشوا مشي العصافير إن كان بالجوسق النّعمان ساد، فكم ... من جوسق لك بالشّعبين معمور «1» في كلّ مستصعب الأرجاء ممتنع ... تبنى القناطير فيه بالقناطير لا أدّعي العذر عن تأخير قصدكم ... ليس المحبّ على بعد بمعذور (229) بل إن غدا طول بعدي عن جنابكم ... ذنبي العظيم فهذا المدح تكفيري فاستجل بكر قريض لا صداق لها ... سوى القبول وودّ غير مكفور على (أبي الطيّب) الكوفيّ مفخرها ... إذ لم أضع مسكها في مثل (كافور) رقّت لتعرب عن رقّي لمجدكم ... حبّا وطالت لتمحو ذنب تقصيري وقوله: «2» [الكامل]

يا من يعير الغصن لين قوامه ... ويغير بدر التّمّ عند كماله ما حلّت الواشون ما عقد الهوى ... تفنى الليالي والغرام بحاله وقوله: «7» [الكامل] زوّجت أبكار الظّبا بنفوسهم ... وجعلت أطراف الرماح شهودا كفروا فآمنت الرءوس لأنها ... خرّت لسيفك ركّعا وسجودا وجرت على الخيل الدماء مذالة ... فكأنما كسيت بهنّ جلودا بقساور قلّت عديدا في الوغى ... ومن الشجاعة أن تقلّ عديدا «1» رفضوا الدروع عن الجسوم وأسبغوا ... فوق الجسوم من القلوب حديدا وقوله: «2» [الوافر] ومجلسنا الأنيق تضيء فيه ... أواني الرّاح من ورق وعين فأطلقنا فم الإبريق فيه ... وبات الزّقّ مغلول اليدين وشمعتنا شبيه سنان تبر ... تركّب في قناة من لجين ونحن نزفّ أعياد النّصارى ... بشطّ محوّل والرّقمتين «3» نوحّد راحنا من شرك ماء، ... ونولع في الهوى بالمذهبين وورد كالمداهن من عقيق ... وقدّاح كأزرار اللّجين «4» وقوله: «5» [الطويل] وبكر فلاة لم تخف وطء طامث ... ولا افتضّها من قبل مهري ناكح كشفت خمار الصّون عن حرّ وجهها ... ضحى، ولثام الصّبح في الشرق طائح (230) وأنكحتها يقظان من نسل لاحق ... فأمست به مع عقمها وهي لاقح من الشّهب في إدراكه الشّهب طامع ... فناظره نحو الكواكب طامح أخوض به بحر الدّجى وهو راكد ... وأورده حوض الضّحى وهو طافح «6»

وقوله: «1» [الكامل] أهلا بها كالقضب في كثبانها ... جعلت شواظ النّار من تيجانها باحت أسرّة وجهها بسرائر ... ضاقت صدور النّاس عن كتمانها وقوله: «2» [السريع] أهلا بشهب عند إشراقها ... يحكي الدّجى من نورها الواضح «3» ينضب بحر اللّيل إذ تغتدي ... ناهلة من لجّه الطّافح كأنّما إيماضها عزمة ... من عزمات الملك الصّالح وقوله: «4» [الخفيف] يا ضعيف الجفون أضعفت قلبا ... كان قبل الهوى قويّا مليّا لا تحارب بناظريك فؤادي ... فضعيفان يغلبان قويّا وقوله: «5» [السريع] ما زال كحل النّوم في ناظري ... من قبل إعراضك والبين حتى سرقت الغمض من مقلتي ... يا سارق الكحل من العين وقوله: «6» [الوافر]

تنبّأ فيك قلبي فاسترابت ... به قوم وعمّهم الضّلال وصدّهم الهوى أن يؤمنوا بي ... وقالوا: إن معجزه محال فمذ سلّمت سلّمت البرايا ... إليّ، وقيل: كلّمه الغزال وقوله: [السريع] وربّ ليل خضت تيّاره ... بأدهم يسبق جري الرّياح محجّل الأربع ذي غرّة ... ميمونة الطّلعة ذات اتّضاح كأنّه قد شقّ بحر الدّجى ... وبعده خاض غدير الصّباح (231) لم تعلم الأبصار في جريه ... قادمة خفّت به أم جناح وقوله: «1» [الوافر] لحى الله الطّبيب لقد تعدّى ... وجاء لقلع ضرسك بالمحال أعاق الظّبي في كلتا يديه ... وسلّط كلبتين على غزال وقوله: «2» [السريع] قلوبنا مودعة عندكم ... أمانة يعجز عن حملها إن لم تصونوها بإحسانكم ... ردّوا الأمانات إلى أهلها «3» وقوله: «4» [الوافر] لعمرك ما تجافى الطّيف جفني ... لفقد الغمض إذ شطّ المزار «5»

ولكن زارني من غير وعد ... على عجل فلم ير ما يزار وقوله: «1» [مجزوء الكامل] عاتبت من أهواه في ... هجري وأكثرت الملامه فأجابني: أقللت حب ... بك لي فأبديت الجهامه فأجبت: إنّ كرامتي ... فرض عليك إلى القيامه فأجابني: من لا له ... حبّ فليس له كرامه «2» وقوله: «3» [الوافر] وساق من بني الأتراك طفل ... أتيه به على جمع الرّفاق أملّكه قيادي وهو رقّي ... وأفديه بعيني وهو ساقي وقوله: «4» [الوافر] خفيّ الكيد تعرفه المنايا ... إذا ما أنكر السّيف النّجادا ترى الأسياف قد مطرت نجيعا ... إذا أوداجه قطرت مدادا وقوله: «5» [المتقارب] ولا تطلبوا ما بأيدي الأنام ... تصيروا بذلك أعداءهم (232) لذلك قد قال رب العباد ... ولا تسألوا الناس أشياءهم وقوله: «6» [الكامل]

قال العذول: لم اعتزلت عن الورى ... وأقمت نفسك في المقام الأوهن «1» ناديت طالب راحة، فأجابني ... أتعبتها بطلاب ما لم يمكن وقوله: «2» [الكامل] اسمع مخاطبة الجليس ولا تكن ... عجلا بنطقك قبلما تتفهّم لم تعط مع أذنيك نطقا واحدا ... إلّا لتسمع ضعف ما تتكلّم وقوله: «3» [السريع] أنا الذي خالفت كلّ الورى ... في خبر أثبته الوقت لما أتاني عمر زائرا ... أنمته ثمّ تنبّهت وقوله: «4» [الخفيف] ومليح له رقيب قبيح ... يتعنّى وغيره يتهنّى وليس فيه معنى يقال ولكن ... هو عند النحاة جاء لمعنى وقوله: «5» [الوافر] عرضنا أنفسا عزّت لدينا ... عليكم فاستخفّ بها الهوان ولو أنّا دفعناها لعزّت ... ولكن كلّ مجلوب مهان وقوله: «6» [الوافر]

ويظهر منك زور وازورار ... فلي في عود صحبته الخيار أتهجرني وما أسلفت ذنبا ... إذا اختلّ الخليل لغير ذنب قلت: انظر إلى هذا الشعر ما أظرفه، وما أرقّ مزاج كأسه وألطفه. ولقد أحسن إذ قال: فلي في عود صحبته الخيار. إذ كان لا يعرف ما يلجأ إليه وقت الاضطرار، فإن المرء قد يهون عليه قدر البلوى قبل وقوعها، ثم لا يجدها من نفسه إذا وقعت. ولقد تطارف في قوله: «1» [الوافر] (233) إذا صدّ الحبيب لغير ذنب ... وقاطعني وأعرض عن وصالي أمثّله وأنكح عند صلحي ... بأير الفكر في ثقب الخيال وقوله: «2» [الطويل] تزوّج شيخ في جواري صبيّة ... فلم يستطع غشيانها حين جاءها ولو أنني بادرتها لتركتها ... يرى قائم من دونها ما وراءها وقوله في رجل اسمه أحمد، كان يرمى بابنة، وهو يدّعي حبّ غلام اسمه عمر: «3» [المتقارب] توالت على أحمد ابنة ... فأقبل يشكو إليّ الألم فقلت له: إنها فتنة ... فنبّه له فتنة ثم نم وقوله في غلام اسمه لؤلؤ: «4» [الكامل]

وصفوك عندي بالجواد فلم أزل ... متعجّبا حتّى رأيتك تركب وعجبت إذ سمّتك أمّك لؤلؤا ... فكأنها علمت بأنك تثقب وقوله: «1» [الكامل] وبه الجواري المنشآت كأنّها ... أعلام بيد أو فروع قنان نهضت بأجنحة القلوع كأنّها ... عند المسير تهمّ بالطّيران والماء يسرع في التّدفّق كلّما ... عجلت عليه يد النّسيم الواني طورا كأسنمة القلاص وتارة ... متفتّل كأكارع الغزلان ومنه قوله: [الكامل] نسج الغبار على الجياد مدارعا ... موصولة بمدارع الفرسان ودما بأذيال الدروع كأنّه ... حول الغدير شقائق النّعمان «2» وفلك حدّ جموعهم بصوارم ... ككراك نافرة عن الأجفان وقوله: «3» [الخفيف] قيل إنّ العقيق يبطل السّح ... ر تختيمه لسر حقيقي «4» فأرى مقلتيك تنفث سحرا ... وعلى فيك خاتم من عقيق (234) وقوله: «5» [مخلع البسيط]

ورنّح الرّقص منه عطفا ... حفّ به اللطف والدخول فعطفه داخل خفيف ... وردفه خارج ثقيل وقوله: «1» [الخفيف] حرّضوني على السلوّ وعابوا ... لك وجها به يعاب البدر حاش لله ما لعذري وجه ... في التّسلّي ولا لوجهك عذر وقوله: «2» [البسيط] وقهوة كوميض البرق صافية ... كأنّها من أديم الشّمس قد رشحت رقيقة الجرم يستخفي الزّجاج بها ... كأنّها دون جرم الكأس قد سفحت باكرتها وعيون الشّهب قد غمضت ... خوف الصّباح وعين الشمس قد فتحت وبشّرت بوفاة اللّيل ساجعة ... كأنّها في غدير الصّبح قد سبحت مخضوبة الكفّ لا تنفكّ نائحة ... كأنّ أفراخها في كفّها ذبحت ومنها قوله: تلوي يداه صفاح الهند عن غضب ... حتى إذا ظفرت عن قدرة صفحت ما إن تزال مقاليتا خزائنه ... لأنّها بوليد المال ما فرحت أثنت عليه بنو الآمال حين غدا ... يعطي القرائح منهم فوق ما اقترحت «3»

قالوا: وردنا نداه، قلت: عادته ... قالوا: وجادت يداه، قلت: ما برحت وله في طلب ثأر خاله صفي الدين محاسن بن محاسن أشعار تحرّك بها القرائح، وتحرض على جمع ذلك الدم الطائح. وسآتي على بعض ينبئ عن الكل، ويظهر الكثر منه بالقل، وإن لم يكن كلّ ما أورد منها نادرا من شرط الاختيار، لتعلق بعض الساقط بالمختار، على أنه ليس في شعره ساقط، ولا في نجومه هابط. فمنها قوله يخاطب أحد أعمامه عقيب واقعة جرت لهم بالعراق، وأجرت كلّ دم مهراق، وهو: «1» [البسيط] (235) ما دام وعد الأماني غير منتجز ... فطول مكثك منسوب إلى العجز هذي المغانم فامدد كفّ منتهب ... وفرصة الدّهر فاسبق سبق منتهز واغز العدى قبل تغزونا جيوشهم ... إنّ الشّجاع إذا ملّ الغزاة غزي والق العدوّ بجأش غير محترس ... من المنايا وجيش غير محترز ما عذرنا وبنو الأعمام ليس بهم ... نقص ولا في صفاح الهند من عوز «2» وكلّ ذي صمم في كفّ ذي همم ... وكلّ ذي ميس في كفّ ذي ميز فاقمع بنا الضّدّ ما دامت أوامرنا ... مطاعة، ومعالينا على نشز إنّ الولاية ثوب قد خصصت به ... جاءت كفافا فلم تفضل ولم تعز ومنها ما كتبه إلى بعض الأصحاب يعتبه لتأخره عن المساعدة، وهو قوله: «3» [السريع]

وعدت جميلا وأخلفته ... وذلك بالحرّ لا يجمل وقلت بأنّك لي ناصر ... إذا قابل الجحفل الجحفل وكم قد نصرتك في معرك ... تحطّم فيه القنا الذّبّل بذا يتفاوت قدر الرّجا ... ل فتعلم أيّهم الأكمل كما قاله الصّقر في عزّة ... به حين فاخره البلبل وقال: أراك جليس الملو ... ك ومن فوق أيديهم تحمل وأنت كما علموا أخرس ... وعن بعض ما قلته تنكل وأحبس مع أنّني ناطق ... وحالي عندهم مهمل «1» فقال: صدقت ولكنّهم ... بذاك دروا أنّني الأفضل لأنّي فعلت وما قلت قطّ ... وأنت تقول، ولا تفعل ومنها قوله، وقد أخذ بثأره، وتقاضاه ببتّاره، وبرد غليله بأخذ دمه، وتخليق صدر السيف بعندمه، وانطفأ لاعج أواره، وسكن قلق جهد ولم يواره، وهو: «2» [البسيط] (236) سل الرّماح العوالي عن معالينا ... واستشهد البيض هل خاب الرّجا فينا وسائل العرب والأتراك ما فعلت ... في أرض قبر عبيد الله أيدينا لمّا سعينا فما رقّت عزائمنا ... عمّا نروم ولا خابت مساعينا يا يوم وقعة زوراء العراق وقد ... دنّا الأعادي كما كانوا يدينونا بضمّر ما ربطناها مسوّمة ... إلّا لنغزو بها من بات يغزونا وفتية إن نقل أصغوا مسامعهم ... لقولنا أو دعوناهم أجابونا قوم إذا استخصموا كانوا فراعنة ... يوما وإن حكّموا كانوا موازينا إنّ الزّرازير لمّا قام قائمها ... توهّمت أنّها صارت شواهينا بيادق ظفرت أيدي الرّخاخ بها ... ولو تركناهم صاروا فرازينا «3»

ذلّوا بأسيافنا طول الزّمان فمذ ... تحكّموا أظهروا أحقادهم فينا لم يغنهم مالنا عن نهب أنفسنا ... كأنّهم في أمان من تقاضينا أخلوا المساجد من أشياخنا وبغوا ... حتى حملنا فأخلينا الدّواوينا ثمّ انثنينا وقد ظلّت صوارمنا ... تميس عجبا وتهتزّ القنا لينا وللدّماء على أثوابنا علق ... بنشره عن عبير المسك يغنينا إنّا لقوم أبت أخلاقنا شرفا ... أن نبتدي بالأذى من ليس يؤذينا بيض صنائعنا سود وقائعنا ... خضر مرابعنا حمر مواضينا لا يظهر العجز منّا عن بلوغ منى ... ولو رأينا المنايا في أمانينا «1» ما أعوزتنا فرامين نصول بها ... إلّا جعلنا مواضينا فرامينا «2» نغشى الخطوب بأيدينا فندفعها ... وإن دهتنا دفعناها بآدينا «3» ومن غرر محاسنه، ودرر قلائده، أرجوزته المزدوجة ذات التخميس، التي ضمنها رمي البندق، وذكر فيها طير الواجب، وهي: «4» [الرجز] دارت على الدّوح سلاف القطر ... فرنحت أعطافه بالسّكر ونبّه الورق نسيم الفجر ... فغرّدت فوق الغصون الخضر

(237) تغني عن العود وصوت الزّمر تبسّمت مباسم الأزهار ... وأشرق النّوّار بالأنوار وظلّ عقد الطّلّ في نثار ... وباكرتها ديم الأمطار فكلّلت تيجانها بالدّرّ قد أقبلت طلائع الغيوم ... إذ أذن الشّتاء بالقدوم فمذ حداها سائق النّسيم ... جفّت ربى العقيق والغميم «5» وباكرت أرض دياربكر أما ترى الغيم الجديد قد أتى ... مبشّرا بالقرب من فصل الشّتا فاعقر همومي بالعقار يا فتى ... فترك أيّام الهنا إلى متى؟ وإنّها محسوبة من عمري فانهض لنهب فرصة الزمان ... فلست من فجواه في أمان واشرب على النّايات والمثاني ... إنّ الخريف لربيع ثان «1» كأنّه بالصّرع عيد النّحر هذي الكراكي نحونا قد قدمت ... فاقدة لإلفها قد عدمت لو علمت بما تلاقي ندمت ... فانظر إلى أخياطها قد نظمت «2» شبه حروف نظمت في سطر تذكّرت مربعها فشاقها ... فأقبلت حاملة أشواقها «3»

تجيل في مطارها أحداقها ... تمدّ من حنينها أعناقها لم تدر أنّ مدّها للجزر يا سعد كن في حبّها مساعدي ... فإنّها مذ عشت من عوائدي ولا تلم من بات فيها حاسدي ... فلو ترى طير عذار خالد أقمت في حبّ العذار عذري طير بقدر أنجم السّماء ... مختلف الأشكال والأسماء إذا جلا الصّبح دجى الظّلماء ... يلوح من فوق طفيح الماء «1» شبه نقوش خيّلت في ستر في لجّة الأطيار كالعساكر ... فهنّ بين وارد وصادر «2» جليلها ناء عن الأصاغر ... محدودة منذ عهود النّاصر معدودة في أربع وعشر (238) شبيطر ومرزم وكركي ... وصنف تمّ وإوزّ تركي «3» ولغلغ يشبه لون المسك ... والكيّ والعنّاز يا ذا الشّكّ ثمّ العقاب مقرن بالنّسر «4» ويتبع الغرنوق صنف مبدع ... أنيسة إنسيّة إذ تصرع

والصّوغ والحبرج فهي أجمع ... خمس وخمس كملت وأربع كأنّها أيّام عمر البدر فابكر إلى دجلة والأقطاع ... فإنّها من أحمد المساعي واعجب لما فيها من الأنواع ... من سائر الجليل والمراعي وضجّة الشّيق وصوت الخضر ما بين تمّ ناهض وواضع ... وبين نسر طائر وواقع وبين كيّ خارج وراجع ... ونهضة الطّير من المرابع «1» كأنّها أمثال غيم تسري «2» أما ترى الرّماة قد ترسّموا ... ولارتقاب الطّير قد تقسّموا بالجفت قد تدرّعوا وعمّموا ... لّما على سفك دماها صمّموا جاؤوا إليها في ثياب حمر قد فزعوا عن كلّ عرب وعجم ... وأصبحوا بين الفيافي والأكم «3» من كلّ نجم بالسّعود قد نجم ... وكلّ بدر بشهاب قد رجم عن كلّ محنيّ شديد الظّهر محنّية في رفعها قد أدمجت ... أدركها التّثقيف لّما عوّجت قد كبست بيوتها وسرّجت ... كأنّها أهلّة قد أخرجت بنادقا مثل النّجوم الزّهر قد جوّدت أربابها متاعها ... وأتعبت في حزمها صنّاعها وهذّبت رماتها طباعها ... إذا لمست خابرا أقطاعها حسبتها ملمومة من صخر «4»

إذا سمعت صرخة الجوارح ... تصبو إلى أصواتها جوارحي وإن رأيت أجم البطائح ... ولم أكن ما بينها بطائح يضيق عن حمل الهموم صدري من لي بأنّي لا أراك سائحا ... (239) بين المرامي غاديا ورائحا «1» لو كان لي دهري بذاك سامحا ... فالقرب عندي أن أبيت نازحا أقطع في البيداء كلّ قفر نذرت للنّفس إذا تمّ الهنا ... وزمّت العيس لإدراك المنى أن أقرن العزّ لديها بالغنى ... فمذ رأت أنّ الرّحيل قد دنا «2» فطالبتني بوفاء نذري تقول لي لّما جفاني غمضي ... وأنكرت طول مقامي أرضي وعاقني صرف الرّدى عن نهضي ... ما للّيالي أولعت بخفضي كأنّها بعض حروف الجرّ فامض ركاب العزم في البيداء ... وازور بالعيس عن الزّوراء «3»

ولا تقم بالموصل الحدباء ... إنّ شهاب القلعة الشّهباء يحرق شيطان صروف الدّهر نجم به الأنام تستدلّ ... من عزّ في حماه لا يذلّ في القرّ شمس والمصيف ظلّ ... وبل على العفاة مستهلّ أغنى الأنام عن هتون القطر وقال في الفهد: «1» [الرجز] ويوم دجن معلم البردين ... سماؤه بالغيم في لونين كأنّها وقد بدت للعين ... فيروزج يلمع باللّجين قضيت فيه بالسّرور ديني ... وسرت أفلي مفرق الشّعبين بأدهم محجّل الرّجلين ... سبط الأديم مطلق اليدين خصب الغطاة ماحل الرّسغين ... وسرب وحش مذ بدا لعيني عارضته في منتهى السّفحين ... بأرقط مخطّط الأذنين ناتي الجبين أهرت الشّدقين ... أفطس سبط الشّعر صافي العين ينظر في اللّيل بجمرتين ... ذي كحل سال من العينين فخطّ لامين على الخدّين ... محدّد النّابين والظّفرين كأنّما يكشر عن نصلين ... ليس لها عهد بضرب قين (240) رقيق لحم الزّند والسّاقين ... ذي ذنب أملس غير شين فخاتل السّرب بخطوتين ... وأردف الخطو بوثبتين فكان فيها كغراب البين ... فرّقها قبل بلوغ الحين ونال منها أعفر المتنين ... أجيد مصقول الإهاب زين جدّله في ملتقى الصّفّين ... ولم يحل ما بينه وبيني نلت بمهري وبه كفلين ... يالهما للصّيد عدّتين لا يحسن اللهو بغير ذين وقال في ذلك: «2» [الرجز]

وليلة في طول يوم العرض ... سماؤها من دكنه كالأرض مخضت فيها العيش أيّ مخض ... وفزت فيها بالنّعيم المحض وغضّ جفن الدّهر أيّ غضّ ... فبتّ من صروفه أستقضي أرفع قدر عيشتي بالخفض ... لا أكحل الجفن بها بغمض مع كلّ ساق كالقضيب الغضّ ... يدير راحا بالسّرور يقضي ساطعة كالبرق عند الومض ... حتى إذا آن قضاء الفرض «1» وشقّ جيب الفلق المبيضّ ... عرضت خيلي فأجدت عرضي واخترت منها سابقا لي يرضي ... يفوت لمح الطّرف حين يمضي كأنّما الأرض به في قبضي ... لا فرق بين طوله والعرض جعلته وقاية لعرضي ... ثمّ غدوت لمرامي أقضي من كلّ سرب شارد منقضّ ... بأرقط الظّهر صقيل بض كسبج في ذهب مرفضّ ... أهرت رحب الصّدر نائي الغمض «2» مستثقل الشّلو خفيف النّهض ... عريض بسط الكفّ عند القبض مدرّب النّاب لغير عضّ ... منتصب الأذنين عند الرّكض «3» فخاتل السّرب بغير وفض ... منخفضا للختل أيّ خفض «4»

(241) مصافحا بالبطن ظهر الأرض ... يجسّها بالكفّ جسّ النّبض حتى إذا أمكن قرب البعض ... عاجلها كالكوكب المنقضّ فعانق الأكبر عند النّهض ... عناق ذي حبّ لربّ بغض فهاض منه العظم عند الهضّ ... ورضّ منه الصّدر أيّ رضّ «1» فقمت أسعى خيفة أن يقضي ... خضّبت كفّي بالدم المرفضّ أرضيته من نحره ببرض ... وعدت مسرورا بعيش مرض «2» راض من الدّهر بما لي يرضي ... أغضّ عن زلّاته وأغضي وقال فيه: «3» [الرجز] وأهرت الشّدقين محبوك المطا ... محدّد الأنياب مرهوب السّطا «4» أفطس تبري الإهاب أرقطا ... كلون تبر بمداد نقّطا ألبسه الخالق حسنا مفرطا ... وخطّ في الخدّين منه خططا مستثقل الجسم خفيف إن خطا ... مجرّب الإقدام مأمون الخطى يسبق في إرساله كدر القطا ... أضحى على قنيصه مسلّطا حتى إذا من العقال نشطا ... وفى لنا فعلا بما قد شرطا قلت وقد بتّ به مغتبطا ... والشّلو من قنيصه معتبطا بذاك أم بالخيل تعدو المرطى «5» وقال يصف الكلب: «6» [الرجز] وأخطل من الكلاب أعصل ... يخال مرحوضا وإن لم يغسل «7»

أعصم مثل الفرس المحجّل ... مختصر الشّلو ثقيل المحمل منفسح الهامة ناتي المقل ... آذانه كالسّوسن المهدّل منسرح الزّور فسيح الكلكل ... منهضم الخصر عريض الكفل ذي أيطل خال ومتن ممتلي ... خصيب أعلى العضد محل الأسفل قصير عظم السّاعد المفتّل ... مقتصر الأيدي طويل الأرجل (242) مزدحم الأطفار ثبت العضل ... ذي ذنب سبط قصير أفتل أملس في دقّته كالمغزل ... يبيت غضبان إذا لم يرسل قيد الأراوى وعقال الأيّل ... رعت به سرب الظباء الجفّل فاعتصمت منه بأعلى الجبل ... حتى إذا انقضّ انقضاض الأجدل فما ارتضى منها بدون الأوّل ... غادره مجندلا في الجندل فظلّ صحبي في نعيم مقبل ... لهم غريض لحمه والشكر لي وقال في صيد النعام: «1» [الرجز] وربّ يوم أدكن القتام ... ممتزج الضّياء بالظّلام سرنا به لقنص الآرام ... والصّبح قد طوّح باللّثام كراقد هبّ من المنام ... بضمّر طامية الحوامي «2» معتادة بالكرّ والإقدام ... تحجم في الحرب عن الإحجام حتى إذا آن ظهور الجام ... والبرّ بالآل كبحر طام «3»

عن لنا سرب من النّعام ... مشرفة الأعناق كالأعلام فاغرة الأفواه للهيام ... كأينق فرّت من الزّمام «1» وحش على مثنى من الأقدام ... مل طير تدعى وهي كالأنعام «2» تطير بالأرجل في الموامي ... كأنّما أعناقها السّوامي «3» أراقم قد قمن للخصام ... فحين همّ السّرب بانهزام ألجمت القسيّ بالسّهام ... وأرسل النّبل كوبل هام فعنّ رأل عارض أمامي ... كأنّما درّع بالظّلام نيطت جناحاه بعنق سام ... كأنّها في حسن الالتئام هاء شقيق وصلت بلام ... عارضته تحت العجاج السّامي بسابق ينقضّ كالقطامي ... خلو العنان مفعم الحزام «4» يكاد يلوي حلق اللّجام ... ذي كفل راب وشدق دام (243) وصفحة ريّا ورسغ ظام ... فحين وافى عارضا قدامي أثبتّ في كلكله سهامي ... فمرقت في اللّحم والعظام فخرّ مصروعا على الرّغام ... قد ساقه الخوف إلى الحمام فأعجب الصّحب به اهتمامي ... حتى اغتدى كلّ من الأقوام يقول: لا شلّت يمين الرّامي وقال يصف فرسا أدهم محجلا: «5» [البسيط]

وأدهم يقق التّحجيل ذي مرح ... يميس من عجبه كالشّارب الثّمل مطهّم مشرف الأذنين تحسبه ... موكّلا بارتقاب السّمع عن زحل «1» ركبت منه مطاليل تسير به ... كواكب تلحق المحمول بالحمل إذا رميت سهامي فوق صهوته ... مرّت بهاديه وانحطّت على الكفل قلت: وهذا معنى ظنّه أبا عذرته، وهو لابن السراج. ولقد اجتمعنا ليلة نحن، وهو عند شيخنا شهاب الدين محمود، ودار بيننا في هذا ما ليس هذا موضعه، إلّا أنه لم يسعه الجحود. عدنا إلى ذكره فنقول، وله: «2» [الكامل] شكرتك عني شاردات قصائد ... بصنائع فاهت بشكر صنائع تنفي الحداة بها عن الجفن الكرى ... وتخيط من طرب جفون السامع وله: «3» [الوافر] غدا رجب يؤمّن حين أدعو ... لمجدك أن يزيد به ارتقاء أصمّ ظلّ مستمعا دعائي ... فها أنا أسمع الصّمّ الدّعاء وله: «4» [الطويل] قدمت، وقد لاح الهلال مبشّرا ... بعودك، إنّ السّعد فيه قرينه ويخبر أنّ النّصر فيه مقدّر ... ألم تره قد لاح في الغرب نونه وله: «5» [الكامل]

قوم يعزّون النّزيل، فطالما ... بخل الحيا، وأكفّهم لم تبخل «1» (244) يفنى الزّمان وفيه رونق ذكرهم ... كبلى القميص، وفيه عرف المندل «2» قلت: هذا هو العذب المنسجم الذي لا كلفة عليه، ولا تقعر فيه. قوي التركيب، حسن الأساليب، لا كما رغب فيه أهل العصر من حبّ اللين الذي لا يتماسك رغبة في التورية، التي لا تسع أفهامهم سواها من البديع، ولا تعرف غيره من الحسن. عدنا إلى تتمة مختاره. ومنه على مذهب المديح، قوله: «3» [البسيط] يقبّل الأرض عبد تحت ظلّكم ... عليكم بعد فضل الله يعتمد ما دار ميّة من أسنى مطالبه ... يوما، وأنتم له العلياء والسّند وله: «4» [الخفيف] حرّضوني على السّلو وعابوا ... لك وجها به يعاب البدر حاش لله ما لعذري وجه ... في التّسلّي ولا لوجهك عذر وله: «5» [الطويل] وخلّ دعاني للصّبوح أجبته ... وقلت له: أهلا وسهلا ومرحبا وأبرزها صفراء تحسب كأسها ... غشاء من البلّور يحمل كهربا «6»

وله: «1» [الطويل] وراح لها طبع كعكس حروفها ... تصيّر ضيق الصدر من حرّها رحبا «2» إذا لمعت في الليل غرّة وجهها ... تصيّر دهم الليل من نورها شهبا «3» وله: «4» [الخفيف] قد أتانا الربيع والزهر يبدي ... لهبا خلته مشاعل جمر وبدا النرجس المحدّق يحكي ... شائبا فوق رأسه طاس تبر وله: «5» [المديد] وشدت في الدّوح صادحة ... بضروب السجع والملح كلما ناحت على شجن ... خلتها غنّت على قدح وله: «6» [الوافر] وراح في لجين الكأس تحكي ... بصفرة لونها ذوب النّضار (245) وقد عقد الحباب لها نطاقا ... لمعصم كأسها شبه السّوار وله: «7» [البسيط]

قد مرّ لي ليلة بالدّير صالحة ... مع كلّ ذي طلعة بالبدر مشتبه وقد عزمت بأن أغشاه ثانية ... فهل تعين على غيّ هممت به وله: «1» [الوافر] ولما شاقنا نظم بديع ... وقد أرخى المدام لنا نقابا جعلنا الماء شاعرنا فلما ... جرت في فكره نظم الحبابا وله: «2» [الخفيف] إن أكن قد جنيت في السّكر ذنبا ... فاعف عنّي يا راحة الأرواح أيّ عقل يبقى هناك لمثلي ... بين سكر الهوى وسكر الرّاح قلت: وهذا وإن كان متداولا، قد ابتذلته الألسنة، فإنه عذب سائغ شرابه، لذيذ يطرب سماعه، يهز الأعطاف، ويحرك الجماد، وهكذا شأن كل كلمه، وجميع قوله، حتى تجربة قلمه. ومن بقية ما له قوله: «3» [المنسرح] قد أضحك الرّوض مدمع السّحب ... وتوّج الزّهر عاطل القضب وقهقه الورد للصّبا فغدا ... تملأ فاه قراضة الذّهب «4» وأقبلت بالرّبيع محدقة ... كتائب لا تخلّ بالأدب فغصنها قائم على قدم ... والكرم جاث له على الرّكب وقوله: «5» [المتقارب]

وللنّرجس الغضّ ما بيننا ... وجوه بحضرتنا ناضره كأن تحدّق أزهارها ... عيون إلى ربّها ناظره وقوله: «1» [مخلع البسيط] جدت بخطّ بغير وجه ... ذاك حال عليّ يبطي وليس ذا مذهبي، ولكن ... أريد وجها بغير خطّ «2» (246) وقوله: «3» [الطويل] عذرتك إذ حالت خلائقك التي ... أطلت بها باعي وقصّرت آمالي لأنّك دنياي التي هي فتنتي، ... فلا عجب ألّا تدوم على حال وقوله: «4» [السريع] يا مالكا أصبح لي صارما ... أعدّه يوم الوغى للضّراب حاشاك أن ترضى بقول العدى ... سيفك هذا لا يفكّ القراب وقوله: «5» [الخفيف] يا مهيني عند المغيب ومبد ... مع حضوري خضوع عبد لمولى لا تقم لي مع التّقاعد عنّي ... فقيام النّفوس بالودّ أولى وقوله: «6» [الكامل]

حالي وحالك كالهلال وشمسه ... مذ أكسبته النّور في إشراقه فإذا نأى عنها حظي بكماله ... وإذا دنا منها رمي بمحاقه وقوله: «1» [الكامل] لّما استعرت من المهذّب جوخة ... ولّى وأولاني جفا وصدودا حاولتها عاريّة مردودة ... فرجعت منها عاريا مردودا وقوله: «2» [الكامل] إنّ البخيريّ مذ فارقتموه غدا ... يسفي الرّماد على كانونه الحرب لو شئتم أنّه يمسي أبا لهب ... جاءت بغالكم حمّالة الحطب وقوله: «3» [السريع] سألتكم ردّ جوابي فكم ... يد لكم من قبلها عندي فقلّدونا منّة واعجبوا ... من سائل يقنع بالرّدّ وقوله: «4» [المتقارب] تركت إجابة كتبي إليك ... لحقّ تشبّه بالباطل (247) لأنّي سألتك ردّ الجواب ... ولا تعرف الرّدّ للسّائل وقوله: «5» [الخفيف]

كنت أخشى عذل العواذل حتى ... صرت مستثقلا لردّ جوابي فتركت التّثقيل في بعث كتبي ... واستراحت عواذلي من عتابي وقوله في ذم ماطل للوعود: «1» [البسيط] لمّا تطاول بي إفراط مطلك لي ... وضاع وقتي بين العذر والعذل أيقنت أن لست إنسانا لبطئك ذا ... لقوله خلق الإنسان من عجل وقوله في طبيب يدعى إسحاق: «2» [الطويل] مباضع إسحاق الطّبيب كأنّها ... لها بفناء العالمين كفيل معوّدة ألّا تسلّ نصالها ... فتغمد حتى يستباح قتيل وقوله: «3» [الكامل] إني مدحتك كي أجيد قريحتي ... وعلمت أن المدح فيك يضيع لكن رأيت المسك عند فساده ... يدنوه من بيت الخلا فيضوع «4» وقوله: «5» [الكامل]

صدقوا بأنّ النّجم محتشم ... بالمال لا بالفضل والخطر لكنّه مع فرط حشمته ... كقميص يوسف قدّ من دبر قلت: هكذا فليكن التعريض الذي أسهل منه بري المدى، وقرض المقاريض على طول المدى. لقد أكل عرضه، وشرب ماء حياته، إذ عرّضه لهذا البلاء، ومزّقه كلّ ممزّق. وبمثل هذا تطيّر السّمع، ويضحك الأعداء. عدنا إلى قوله ومنه: «1» [الخفيف] طفلة غضّة الحياء من الدّل ... ل ولكن خدودها جمريّه هي مع حسنها حريريّة ال ... جسم ولكن أشفارها صوفيّه وهذا نظم مهزول، ومعنى مبذول، وللناس فيه شتى المحاسن. عدنا (248) وقوله: «2» [الطويل] وذات حر جادت به فصددتها ... وقلت لها مقصودي العجز لا الفرج فدارت ودارت سوء خلقي بالرضى ... ولم يعل من فرط الحياء لها رهج إذا ما دفعت الأير فيها تجشأت ... وذاك ضراط لم يتم له نضج وقوله: «3» [الكامل] ولقد تعاطيت اللواط فلم أجد ... علقا لأقسام الصناعة يكمل بل ضاع بينهما الصواب فواسع ... يخرى عليّ وضيّق لا يدخل وقوله: «4» [الطويل] ولم أنس إذ أولجت في النجم فيشة ... كجلمود صخر حطّه السيل من عل «5»

فقلت لها مهلا إذا رمت عودة ... وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي فمثل هذا التضمين وإلا فلا، ومثل هذه التورية وإلا فدع. عدنا، وقوله في عمر: «1» [السريع] أنا الذي خالفت قول الورى ... في خبر أثبته الوقت لما أتاني عمر زائرا ... أنمته ثم تنبّهت وقوله: «2» [الكامل] ولم أر كالمحبوب ليلة وصله ... وقد راضه لومي له وعتابيا إذا كان غضبانا لقيني بوجهه ... وبالظهر يلقاني إذا كان راضيا وقوله: «3» [الطويل] تعلّمت فعل الخير من غير أهله، ... وهذّب نفسي فعلهم باختلافه أرى ما يسوء النّفس من فعل جاهل، ... فآخذ في تأديبها بخلافه قلت: وهذا مبتذل، إلّا أنه كما ابتذلت الشمس وهي محبوبة، ورزق النطاف وهي مشروبة، وخلاف النفس مشروع والحظ فيه، وللعلماء في النفس أقوال ليس هذا موضعها، ولا نرى في أفق الأدب (249) مطلعها. عدنا إلى قوله، ومنه: «4» [المنسرح] من لم تضمّ الضّيوف ساحته ... فستره أن تضمّه الحفره ومن غدا عرضه المهلّب في النّا ... س غدا وجهه أبا صفره وقوله: «5» [الكامل]

عجبا لفودي بعد فقد شبيبتي ... وكأنّ ضوء الشّيب فيه ظلام «1» لّما نضت عنه اللّيالي صبغها ... خلعت عليه ضياءها الأيّام «2» وقوله: «3» [السريع] لا غرو إن قصّ جناحي الرّدى ... فعذره في فعله واضح يضرب عن ذي النّقص صفحا ولا ... يقصّ إلّا الدّرهم الرّاجح قلت: والأشبه بهذا أن يكون قول ملك متظلم أعيا لحاقه القرناء، وعنّى بعده الأمثال، فوقفوا وجرت سلاهبه، وتصنّعوا وأتت طبعا مواهبه، تلتهب ذكاؤه والخلق تغشاه، وينهب نائله والأسد تخشاه. رأى نفسه فوق الجوزاء، وخدين الشهب الأغراء. قد جعل للآمال مآلفا، وللآمال ملتفا. يسدي الرّفد إلى أربابه، ويحسب المجد من آرابه، فبلي بداهية الدهر، وشنعاء الحادث النكر، وقدم عليه من لا يدرك أدنى شوطه إذ يسعى على مهل، ولا تقمص بخلق جلبابه إلا إذا فضل. فلم يجد إلا أن تنفّس الصعداء، ويتحمل الداء. لا يقعده إذا بدر إلا سابق القدر، وإلا فهو أوثب من أرقم، وأمرّ إذا غضب من علقم. لو قد قام لاقتاد دهم الليل في رسنه، واخضرّ الشجر مخبلا بوسنه، ولكنه فردد لا يغالب، وسؤدد هدر ما ثمّ من به يطالب. عدنا إليه. قال أيضا في البازي: «4» [الكامل] قد ارتدى ذيل الصباح الأكهب ... والصّبح مثل الماء تحت الطّحلب «5»

مثقّل الكفّ بباز أشهب ... منتصب القامة سامي المنكب ذي عنق خصب ورأس مجدب ... عيونه مثل الجمان المذهب (250) قد بدّلت من سبج بكهرب ... محدّد المنسر شين المخلب حتف الحبارى وعقال الأرنب ... مهذّب الخلق قليل الغضب يرتاح للعود وإن لم يطلب ... كفاضل حاول حفظ المنصب وقال: «1» [الطويل] سوابقنا والنّقع والسّمر والظّبى ... وأحسابنا والحلم والبأس والبشر هبوب الصّبا واللّيل والبرق والقضا ... وشمس الضّحى والطّود والنار والبحر وقوله، وفيه استخدامان: «2» [الطويل] لئن لم أبرقع بالحيا وجه عفّتي ... فلا أشبهته راحتي في التّكرّم «3» ولا كنت ممّن يكسر الجفن في الوغى ... إذا أنا لم أغضضه عن رأي محرم «4» وقال: «5» [الكامل] ولقد أسير على الضّلال ولم أقل ... أين الطّريق وإن كرهت ضلالي وأعاف تسآل الدّليل ترفّعا ... عن أن يفوه فمي بلفظ سؤال وقال: «6» [الطويل]

ولائي لآل المصطفى عقد مذهبي ... وقلبي من حبّ الصّحابة مفعم وما أنا ممن يستجيز بحبّهم ... مسبّة أقوام عليهم تقدّموا ولكنّني أعطي الفريقين حقّهم ... وربّي بحال الأفضليّة أعلم فمن شاء تعويجي فإنّي معوّج ... ومن شاء تقويمي فإنّي مقوّم وقال: «1» [الكامل] لما رأت علياك أني كالذي ... أبدو فينقصني السقام الزائد وافيتني ووفيت لي بمكارم ... فنداك لي صلة وأنت العائد وقال: «2» [مجزوء الكامل] ولقد ذكرت القرب منك ... وطيب أيّامي الخوالي فطفقت أصفق راحتيّ ... وعند صفقتها مقالي: (251) كيف السّبيل إلى سعا ... د ودونها قلل الجبال وقال: «3» [الطويل] وعود به عاد السّرور لأنّه ... حوى اللهو قدما وهو ريّان ناعم يغرّب في تغريده وكأنّه ... يعيد لنا ما لقّنته الحمائم «4» وقال: «5» [السريع]

عود حوى في الروض أعواده ... كلّ المعاني وهو رطب قويم «1» فحاز شدو الورق في سجعه ... ورقّة الماء ولطف النّسيم وقال في جملة وصف رسالة: «2» [المتقارب] فكم بكر معنى حوى طرسها ... وإن كان في حسن لفظ عوان إذا ما شققت صدور البيوت ... وجدت بهنّ قلوب المعاني وقال من أبيات: «3» [الكامل] وشدت فأيقظت الرقود بشدوها ... وأعارت الأيقاظ طيب رقودها خود شدت بلسانها وبنانها ... حتى تشابه ضربها بنشيدها وكأنّ نغمة عودها في صوتها ... وكأن رقّة صوتها في عودها إنّي لأحسد عودها إن عانقت ... عطفيه أو ضمته بين نهودها وأغار من لثم الكؤوس لثغرها ... وأذوب من لمس الحليّ لجيدها وقال: «4» [الوافر]

ومجلس لذّة أمسى دجاه ... يضيء كأنّه صبح منير تجمّع فيه مشموم وراح ... وأوتار وولدان وحور تلذّذت الحواس الخمس فيه ... بخمس يستتمّ بها السّرور فكان الضّمّ قسم اللّمس فيه ... وقسم الذّوق كاسات تدور وللسّمع الأغاني والغواني ... لأعيننا وللشّمّ البخور وقال في إبريق: «1» [الوافر] (252) وإبريق له بطن عجيب ... إذا ما أرسلت منه السّلاف «2» كتمتام تلجلج في حديث ... يردّد لفظه والتاء قاف «3» وقال في رواقص: «4» [البسيط] بحر من الحسن لا ينجو الغريق به ... إذا تلاطم أعطاف بأعطاف ما حركته نسيم الرّقص من مرح ... إلّا وماجت به أمواج أرداف وقال: «5» [الوافر] ليهنك أنّ لي ولدا وعبدا ... سواء في المقال وفي المقام فهذا سابق من غير سين ... وهذا عاقل من غير لام وقال في باب: «6» [المتقارب] وباب إذا أمّه قاصد ... رآه من الغيث أدنى وأندى له الفتح دأب ومن شأنه ... يردّ وقاصده لن يردّا وقال في النيل: «7» [الطويل]

وفي النّيل إذ وفّى البسيطة حقّها ... وزاد على ما جاءه من صنائع فما إن توفّى النّاس من منعم ... يشار إلى إنعامه بالأصابع وقال: «1» [البسيط] وكيف أنسى مليكا فضل أنعمه ... فرضي ونفلي في سرّي وإعلاني جعلت نفسي كشطر اسمي لخدمته ... وكيف لا وهو عندي شطره الثّاني وقال: «2» [الطويل] أحنّ إليكم كلّما ذرّ شارق ... ويشتاق قلبي كلّما مرّ خاطف واهتزّ من خفق النّسيم إذا سرى ... ولولاكم ما حرّكتني العواصف وقال: «3» [الطويل] رعى الله من فارقت يوم فراقهم ... حشاشة نفس ودّعت يوم ودّعوا ومن ظعنت روحي وقد سار ظعنهم ... فلم أدر أيّ الظّاعنين أشيّع (253) وقال: «4» [الخفيف] يا قرير العيون رقّ لعين ... فجّرتها دموعها تفجيرا لم تطلّق من بعدك الغمض إلّا ... لترى منك نظرة وسرورا وقال: «5» [الكامل]

لي في ضميرك شاهد فيه غنى ... لك عن قراءة ما حوى قرطاسي ولئن وقفت عليه معتبرا له ... ما في وقوفك ساعة من باس وقال: «1» [الكامل] ولقد ذكرتك والعجاج كأنّه ... ظلّ الغنيّ وسوء عيش المعسر والشّوس بين مجدّل في جندل ... منّا وبين معفّر في معفر فظنت أنّي في صباح مشرق ... بضياء وجهك أو مساء مقمر وتعطّرت أرض الكفاح كأنّما ... فتقت لنا ريح الجلاد بعنبر وقال: «2» [الكامل] ولقد ذكرتك والجماجم وقّع ... تحت السّنابك والأكفّ تطير والهام في أفق العجاجة حوّم ... فكأنّها فوق النّسور نسور فاعتادني من طيب ذكرك نشوة ... وبدت عليّ بشاشة وسرور فظننت أنّي في مجالس لذّتي ... والرّاح تجلى والكؤوس تدور وقال: «3» [الكامل] ولقد ذكرتك حين أنكرت الظّبى ... أغمادها وتعارفت في الهام والنّبل من خلل العجاج كأنّه ... وبل تتابع من فروج غمام فاستصغرت عيناني أفواج العدى ... وتتابع الأقدام في الإقدام ووجّدت برد الأمن في حرّ الوغى ... والموت خلفي تارة وأمامي وقال: «4» [السريع]

غارت وقد قلت لمسواكها: ... أراك تجني ريقها يا أراك قالت: تمنّيت جنى ريقتي ... وفاز بالتّرشاف منها سواك (254) وقال: «1» [الكامل] يا من حمت عنّا مذاقة ريقها ... رفقا بقلب ليس فيه سواك فلكم سألت الثّغر وصف رضابه ... فأبى وصرّح لي سفيه سواك وقال: «2» [الخفيف] قد شهدنا فعل البلى بمغاني ... ك ودمع الغيوم فيها سجام واقترضنا منها الدّموع فقالت: ... كلّ قرض يجرّ نفعا حرام قلت: لقد أتى من الفقه بهذه اللطيفة. فإن قيل: فما الذي جرّه البكاء من النفع؟ قلنا: أشياء، نحو سقيا المعاهد، وإطفاء حر الفؤاد الواقد، وتخفيف ثقل البكاء عن العيون التي كثر بكاؤها. وقد قال الأول: وأثقل محمول على العين ماؤها. وقد ذكرت بالدمع بيتين كنت قلتهما، وإن لم يكن معناهما من هذا في: [الخفيف] عما جرى لي من دموع كأنهنّ اللآلي «3» خففت وطأة الغرام ولكن ... غرقت في الجفون طيف الخيال عدنا إليه. قال: «4» [من الهزج]

ألا يا مالك الرّ ... قّ من ملّكك الرّقّا إذا لم تقض أن أسعد ... لا تقض بأن أشقى تصدّق بالذي يفنى ... وخذ أجر الذي يبقى وذكّر عطفك الميّا ... ل والرّدف بما ألقى وقال: «1» [المجتث] وجه من البدر أحلى ... ومنه بالمدح أحرى طرفي به يتحلّى ... وخاطري يتحرّى «2» بمنظر يتجلّى ... وناظر يتجرّى «3» خدّ يقرّ بقتلي ... وردفه يتبرّى وقال: «4» [الطويل] ولم أنس إذ زار الحبيب بروضة ... وقد غفلت عنّا وشاة ولوّام

وقد فرش الورد الخدود ونشّرت ... لمقدمه للسّوسن الغضّ أعلام (255) أقول وطرف النّرجس الغضّ شاخص ... إلينا وللنمّام حولي إلمام أيا ربّ! حتى في الحدائق أعين ... علينا وحتى في الرّياحين نمّام قلت: وهكذا التورية، وبمثل هذا تضيء القريحة المورية. تأمل كيف بدأه: أن الحبيب زاره بروضة، ثم ذكر مع كل من الزهر ما يناسبه ويدنو منه ويقاربه، حتى إذا انقضى من هذا أربه، عاد إلى مناسبة تتمة البيت الأول، وقد قال فيه: وقد غفلت عنا وشاة ولوّام، ليستوفي معنى البيت الذي بنى عليه، فتظلّم من الحدائق، إذ لها أعين، وفيها نمّام، يعني النرجس والنمّام، وهذا في غاية التمام. وقال: «1» [المتقارب] رعى الله ليلتنا بالحمى ... وأمواه أعينه الزّاخره وقد زين حسن سماء الغصون ... بأنجم أزهاره الزّاهره «2» وللنّرجس الغضّ ما بيننا ... وجوه بحضرتنا ناضره كأنّ تحدّق أزهارها ... عيون إلى ربّها ناظره وقال: «3» [مخلع البسيط] قال الحيا للنّسيم لمّا ... ظلّ به الزّهر في اشتغال وضاع نشر الرّياض حتى ... تعطّرت بردة الشّمال أما ترى الأرض كيف تثني ... عليّ منها لسان حالي فاعجب لإقرارها بفضلي ... وسكرها بي وشكرها لي وقال: «4» [الخفيف] خلياني أجرّ فضل برودي ... راتعا في رياض عين البرود كم بها من بديع زهر أنيق ... كفصول منظومة وعقود زنبق بين قضب آس وبان ... وأقاح ونرجس وورود كجبين وعارض وقوام ... وثغور وأعين وخدود وقال يعاتب من اعتذر بالثلج: «5» [المنسرح]

(256) عذرك بالثلج عن زيارتنا ... مبدولة باؤه من الكاف والغير لما أراد زورتنا ... سعى إلينا من نشره حافي وعندك المال والرجال وما ... في تاسع النحل وافر واف بل أبدلت ذلك الولاية يا ... أحمد لما وليت بالقاف قوله: تاسع النحل وافر واف: أراد بذلك قوله تعالى «وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها» «1» وكتب مع طبق حلاوة أهداه مع غلام: «2» [الرجز] عبدك قد أرسل أدنى خدمة ... إليك يا من بالجميل قد سبق فانظر بعين الجبر أو عين الرّضا ... نحو غلام وكتاب وطبق «3» وقال ملغزا في القوس: «4» [الطويل]

وما اسم تراه في البروج وإنما ... يحلّ به المرّيخ دون الكواكب إذا قدّر الباري عليه مصيبة ... عدته وحلّت في صدور الكتائب ولاجسم إلا فيه يدرك قلبه ... ويدركه في قلبه كلّ طالب قلت: وقوله: وإنما يحل به المريخ دون الكواكب، أراد به نصل السهم أو السهم، إذ كان من شأنهما القتل، وهو من طبيعة المريخ كما يزعم أهل النجابة. أو ليلطخه بالدماء، فإذا نظر، كان المريخ بحمرته واشتعاله. وهو إذا صحّ على هذا، لا يصحّ على ظاهره، إذ كانت القوس محلا لكلّ من السبعة السّيّارة، وهو بيت المشتري، فلا وجه لتخصيص المريخ به. وفي جملة على المعنيين اللذين أرادهما نظر. وقال في السهم: «1» [الطويل] وأهيف منسوب إلى التّرك أصله ... رشيق براه ربّه وهو راشق يقرّب من أفواههم وهو فاجر ... ويرسل في أعراضهم وهو مارق يبيت عديم النفع وهو مواصل ... ويرضيك في الأفعال وهو مفارق إذا اعتبروا أفعاله فهو طائر ... وإن نسبوه فهو بالنّبت لاحق وقال فيه: «2» [الطويل] وأهيف ماض في الأمور مسدّد ... إذا رام قصدا لا يميل عن القصد (257) ينضنض مثل الأفعوان لسانه ... لشدّة ما لاقى من الحرّ والبرد «3» تقرّبه الأملاك وهو ممانع ... ويجهد في تقريبه غاية الجهد إذا صحّفوه مرة كان بينهم ... وإن تركوه كان منهم على بعد وقال في قلم: «4» [الطويل] وأخرس بادي النطق حلو فؤاده ... حليف ضنى يبكي وما هو عاشق يشقّ مرارا رأسه وهو طيّع ... ويقطع أحيانا وما هو سارق إذا أرسل البيض الصّفاح لعادة ... يتابع طورا أمره ويفارق يحاجى به ما ناطق وهو صامت ... يرى ساكتا والسيف عن فيه ناطق «5»

وقال في الدواة والقلم: «1» [الطويل] وما اسمان كلّ صالح لقرينه ... إذا اتّفقا يستصغر الصّارم العضب وقد وجدا في الذّكر أوّل سورة ... ولولاهما لم يوجد الذكر والكتب فهذا له قلب وما حلّ جسمه ... وهذا له جسم وليس له قلب وقال في الخطّ: «2» [مجزوء الكامل] ومعلّق في قنّب طورا وطورا في حرير ... ولقد تراه مسلسلا بيد الإمارة والصدور ولقد يكون على الجباه وفي البطون وفي الظهور ... ويرى بأعضاد الرجال وفوق أجنحة الطيور

قلت: وهذا شعر بديع، ونظم صنيع، ونمط عال رفيع، لا يقدر عليه كل قائل، ولا يحظى معه معارض بطائل. ألا ترى كيف وصف الخط وافتتحه بقوله: ومعلق! وانظر هذه التورية ما أتمّها وأحسنها وأقواها وأمكنها. ثمّ أتى في البيت كله باستخدام معنوي إذ قال: في قنّب طورا وطورا في حرير! وظاهره على مجرى اللغز، يوهم أنّ شيئا له جسم، علق بخيط حرير، أو حبل قنب، وباطنه يريد الورق. وهو يصنع من هذين (258) حيث يعهد الشاعر. وهو إذا حمل على كل من المعنيين صح، وكان تماما موفيا بالمراد. وكذلك قوله في البيت الثاني: ولقد تراه مسلسلا. يجري مجرى قوله: ومعلق. فأما البيت الثالث، فمعناه أكثر من لفظه، وتفهمه أكبر من حفظه. فأما كونه جعله يكون معلقا على الجباه، فهو ما يكتب من التمائم والعوذ، وما هو من هذا النوع. وأما قوله: وفي البطون وفي الظهور، فكذا يكتب: تارة في بطون الأوراق، وتارة في ظهورها. وهو مع كونه أتى فيه بالحقيقة، لم يعدم فيه رونق المجاز. والبيت الرابع نوع منه آخر. وقوله: وفوق أجنحة الطيور، هو ما يكتب في صغار البطائق على هوادي الحمام الرسائلي. فانظر إلى محاسن ما أتى به، واعجب لإيجازه. عدنا إليه. قال في دود القز: «1» [الطويل] وما حيوان عكسه مثل طرده ... له جسد سبط وليس له قلب ضعيف وكم أغنت مجاجة ريقه ... فقيرا به أمسى ومربعه خصب يرى من خشاش الأرض طورا وتارة ... من الطير لكن دونه تسبل الحجب شقيّ لنفع الغير يسجن نفسه ... وليس له في السجن أكل ولا شرب وقال في العود: «2» [السريع]

وأعجميّ أخرس ناطق ... له لسان مستطاب الكلام مناجيا في الحجر أربابه ... طورا وفي البيت العتيق الحرام قلت: ولله مذهبه في هذين البيتين، لو وصف هذا الألمعي العود بأطيب من نغمه وأرجه. وقوله: أعجمي، وصفا له، قول صدق، إذ العود الشجر أعجم لا ينطق، والعود عود الطرب من وضع الأعاجم. ولسان العود هو الذي يحرك به الوتر. وقوله مستطاب الكلام وهو طربه. وقد أتبعه بقوله: ساجيا في الحجر ربّا له، لأنه كان كأنّه يناجي ربه، وهو الضارب به. وقوله: وفي البيت العتيق الحرام، هو العود الهندي. يقال: إن عهد البيت الحرام زاده الله شرفا منه. فاعرف لهذا الرجل حقه، واعلم حذقه. عدنا (259) إلى بقية مختاره. قال في الحشيشة يحسّن قبيحها، ويدّعي تفريحها: «1» [الوافر] تغانى بالحشيش عن الرّحيق ... وبالورق الجديد عن العتيق وبالخضراء عن حمراء صرف ... وكم بين الزّمرّد والعقيق وقال أيضا فيها: «2» [البسيط] في الكيس لي عوض عمّا حوى الكاس ... وفي القراطيس عمّا ضمّت الطّاس وبالجديد غرامي لا معتّقة ... وسواسها في صدور النّاس خنّاس مدامة ما لها في الرّأس وشوشة ... تطغي النّفوس ولا في الصّدر وسواس ولا تكلّف نفسا غير طاقتها ... ولا يخاف بها ضرّ وإفلاس كم بين خمر يخاف الحدّ شاربها ... وخمرة ما على شرّابها باس ولا نبيت إذا شئنا نعاقرها ... لنا على الباب حفّاظ وحرّاس حوض الدّواة لها جان ومزودها ... دنّ وكاساتها ظفر وقرطاس وقال أيضا: «3» [السريع] في الكيس لا في الكأس لي قهوة ... من ذوقها أسكر أو شمّها لم ينه نصّ الذّكر عنها ولا ... أجمع في الشّرع على ذمّها ظاهرة النّفع لها نشوة ... تستنقذ الأنفس من همّها فشكرها أكثر من سكرها ... ونفعها أكثر من إثمها وقال: «4» [السريع]

جاءت بوجه بين قرطين ... شبيه بدر بين نجمين فامتدت الأعين منا إلى ... عينين منها تحت نونين قالت لكي تعبث بي لا تكن ... للنّفس نونا بعد ميمين فقلت إن عارضتني بعدها ... قطعت سينا بين كافين وقال: «1» [المنسرح] عنّفتها إذ فست على ذكري ... وهو لعمري في غاية الكبر (260) قالت دع اللوم والعتاب فلو ... دفعت هذا في است البعير خري لو أن ضعفيه جاء من قبل ... ما كان عندي لذاك من أثر لكنه مع جفاء جثّته ... صال فقدّ القميص من دبر قلت: فشيخي قد قال مبتدئا ... وذاك في العلم صادق النظر الأير للجحر حربة خلقت ... لو كان للكس كان كالطّبر وقال: «2» [الطويل] وذات حر جادت به فصددتها ... وقلت لها مقصودي العجز لا الفرج فدارت ودارت سوء خلقي بالرضى ... وفي قلبها مما تكابده رهج وظلّت تقاسي من فعالي شدّة ... ولم يعل من فرط الحياء لها رهج إذا ما دفعت الأير فيه تجشّأت ... وذاك ضراط لم يتمّ له نضج وقال: «3» [المنسرح]

ولي غلام كالنجم طلعته ... أخدمه وهو بعض خدّامي تراه خلفي طول النّهار فإن ... دجا لنا الليل صار قدّامي جعلته في الحضور مع سفري ... كفروة الحارث بن همّام وقال: «1» [الوافر] وليلة عانقت كفّاي بدرا ... كأنّ ضياء مبسمه نجوم لثمت الثغر منه فقام أيري ... فعنّفني وأقبل لي يلوم وأسكتني الحياء فقال أيري ... أقم عذري فإنّ اللوم لوم أيقدر من له عقل ولبّ ... ومعرفة يراك ولا يقوم وقال: «2» [السريع] قالوا اخضب الشّيب فقلت اقصروا ... فإنّ قصد الصّدق من شيمتي فكيف أرضى بعد ذا أنّني ... أوّل ما أكذب في لحيتي وقال يعتب ابن المعتز عن قوله: «3» [المتقارب]

(261) ونحن ورثنا ثياب النبي ... ي فكم تجذبون بأذيالها لكم رحم يا بني بنته ... ولكن بنو العم أولى بها ومنها: قتلنا أمية في دارها ... ونحن أحقّ بأسلابها إذا ما دنوتم تلقيتم ... زبونا أقرت بجلّابها وقوله: [المتقارب] وقلت ورثنا ثياب النّبي ... ي فكم تجذبون بأهدابها وعندك لا يورث الأنبياء ... فكيف حظيتم بأثوابها أجدّك يرضى بما قلته ... وما كان يوما بمرتابها وإذ جعل الأمر شورى لها ... فهل كان من بعض أربابها «1» وقولك أنتم بنو بنته، ... ولكن بنو العمّ أولى بها بنو البنت أيضا بنو عمّه ... وذلك أدنى لأنسابها وقلت بأنّكم القاتلو ... ن أسود أميّة في غابها ولولا سيوف أبي مسلم ... لعزّت على جهد طلّابها وقال: «2» [الرجز]

انهض فهذا النّجم في الغرب سقط ... والشّيب في فود الظّلام قد وخط والصّبح قد مدّ إلى نحر الدّجى ... يدا بها درّ النّجوم تلتقط وألهب الإصباح أذيال الدّجى ... بشمعة من الشّعاع لم تقطّ وضجّت الأطيار في أوراقها ... لّما رأت سيف الصّباح مخترط وقام من فوق الجدار هاتف ... متوّج الهامة ذو فرع قطط يخبّر الرّاقد أنّ نومه ... عند انتباه جدّه من الغلط والبدر قد صار هلالا ناحلا ... في آخر الشّهر وبالصّبح اختلط كأنّه قوس لجين موتر ... واللّيل زنجيّ عليه قد ضبط (262) وفي يديه للثّريّا ندب ... يزيد فردا واحدا عن النّمط فأيّ عذر للرّماة والدّجى ... قد عدّ في سلك الرّماة وانخرط أما ترى الغيم الجديد مقبلا ... قد مدّ في الأفق رداه فانبسط يلمع ضوء البرق في حافاته ... كأنّ في الجوّ صفاحا تخترط وأظهر الخريف من أزهاره ... أضعاف ما أخفى الرّبيع إذ شحط ولان عطف الرّيح في هبوبها ... والطّلّ من بعد الهجير قد سقط والشّمس في الميزان موزون بها ... قسط النّهار بعد ما كان قسط وأرسلت جبال دربند لنا ... رسلا صبا القلب إليها وانبسط من الكراكي الخزريّات التي ... تقدم والبعض ببعض مرتبط كأنّها إذ تابعت صفوفها ... ركائب عنها الرّحال لم تحط إذا وعاها سمع ذي صبابة ... مثلي، تقاضاه الغرام ونشط «1» فقم بنا نرفل في ثوب الصّبى ... إنّ الرّضى بتركه عين السّخط والتقط اللّذة حيث أمكنت ... فإنّما اللّذّات في الدّهر لقط إنّ الشّباب زائر مودّع ... لا يستطاع ردّه إذا فرط أما ترى الكركيّ في الجوّ وقد ... نغّم في أفق السّماء ولغط أنساه حبّ دجلة وطيبها ... مواطنا قد زقّ فيها ولقط فجاء يهدي نفسه وما درى ... أنّ الرّدي قرينه حيث سقط فابرز قسيّا من كمنداناتها ... إنّ الجياد للحروب ترتبط من كلّ سبط من هدايا واسط ... جعد التّلاع منه في الكعب نقط «2» أصلحه الصالح باجتهاده ... فكلّ ذي لبّ له فيه غبط «3»

وما أضاع الحزم عند حزمها ... بل جاوز القيظ وللفصل ضبط «1» حتى إذا حرّ حزيران خبا ... وتمّ تموز وآب وشحط وجاء أيلول بحرّ فاتر ... في نضج تعديل الثّمار ما فرط (263) أبرز ما أحرز من آلاته ... وحلّ من ذاك المتاع ما ربط ومدّ للصنعة كفّ أوحد ... منزّه عن الفساد والغلط وظلّ يستقري بلاغ عودها ... فسبّر الأطراف واختار الوسط «2» وجوّد التّدقيق في لحامها ... فأسقط الكرشات منه والسّقط «3» ولم يزل ينقلها مراتبا ... تلزم في صنعته وتشترط

فعند ما أفضت إلى تطهيرها ... صحّح دارات البيوت والنّقط حتى إذا قمّصها بدهنها ... جاءت من الصّحّة في أحلى نمط كأنّها النّونات في تعريقها ... يعرج منها بندق مثل النّقط مثل السّوار في يد الرّامي فلو ... شاء طواها وحواها في سفط لو يقذف اليمّ بها مالكها ... ما انتقض العود ولا الزّور انكشط كأنّما بندقها نيازك ... أو من يد الرّامي إلى الطّير خطط من كلّ محني البيوت مدمج ... ما أخطأ الباري به ولا فرط كأنّه لام عليها ألف ... وقال قوم: إنّها اللّام فقط فاجل قذى عيوننا ببرزة ... تنفي عن القلب الهموم والقنط فما رأت من بعد هور بابل ... ومائه التّيّار عيشا يغتبط ونحن في مروجه في نشوة ... عند التّحرّي في الوقوف للخطط من كلّ مقبول المقال صادق ... قد قبض القوس وللنّفس بسط يقدمنا فيها قديم حاذق ... لا كسل يشينه ولا شطط «1» يحكم فينا حكم داود فلا ... ينظر منّا خارجا عمّا شرط لا يشبك الأسباق من جفّته ... ولم يكن مثل القرلّي في النّمط «2» إذا رأى الشرّ تعلّى وإذا ... لاح له الخير تدلّى وهبط «3» ما نغم المزهر والدّفّ إذا ... فصّل أدوار الضّروب وضبط أطيب من تدفدف التّمّ إذا ... دقّ على القبض الجناح وخبط (264) والطّير شتّى في نواحيه فذا ... قد اكتسى الرّيش وهذا قد شمط وذاك يرعى في شواطيه وذا ... على الرّوابي قد تحصّى ولقط فمن جليل واجب تعداده ... ومن مراع عدّها لا يشترط يعرج منّا نحوها بنادق ... لم ينج منها من تعلّى واختبط فمن كسير في العباب عائم ... ومن ذبيح بالدّماء يعتبط وقال، وورّى وكأن قصده كان طلب الدّرياقين: «4» [الخفيف]

قيل لي تعشق الصّحابة طرّا ... أم تفرّدت منهم بفريق فوصفت الجميع وصفا إذا ضوّ ... ع أزرى بكلّ مسك سحيق قيل هذي الصّفات والكلّ كالدّر ... ياق يشفي من كلّ داء وثيق فإلى من تميل؟ قلت إلى الأر ... بع لا سيّما إلى الفاروق وقال في السلطان وقد لعب بالكرة: «1» [الكامل] ملك يروّض فوق طرف قارع ... كرة بجو كان حكاه ضبابا وكأنّ بدرا في سماء راكبا ... برقا يزحزح بالهلال شهابا «2» وقال في أدهم ذي حجول: «3» [الكامل] ولقد أروح إلى القنيص وأغتدي ... في متن أدهم كالظّلام محجّل رام الصّباح من الدّجى استنقاذه ... حسدا فلم يظفر بغير الأرجل فكأنّه صبغ الشبيبة هابه ... وخط المشيب فجاءه من أسفل وقوله: «4» [الكامل] لا غرو أن يصلى الفؤاد لبعدكم ... نارا تؤجّجها يد التّذكار قلبي إذا غبتم يصوّر شخصكم ... فيه وكلّ مصوّر في النّار وقوله: «5» [الكامل] ولما سطرت الطرس شوّهت لفظه ... وجئت بما شاهدت من لحنه عمدا عساك ترى عيبا به فتردّ لي ... جوابا لأنّ العيب قد يوجب الرّدّا (265) وقوله: «6» [الطويل]

لئن سلّ الزّمان لنا مناصل ... فصنع الودّ عندي غير ناصل فإن يك قد تأخّر عنك سعيي ... فإني بالدعاء لكم مواصل ولم تثن النّوى أوتاد ودّي ... بأسباب القطيعة والفواصل وإنّي إن وصفت لكم ودادي ... كأنّي طالب تحصيل حاصل وقوله يصف غلاما تركيا على فرس يرمي الظباء بالسّهام: «1» [الطويل] وظبي بقفر فوق طرف مفوّق ... بقوس رمى في النّقع وحشا بأسهم كبدر بأفق فوق برق بكفّه ... هلال رمى الليل جنّا بأنجم وقال في فرس: «2» [الوافر] وعادية إلى الغارات ضبحا ... تريك لقدح حافرها التهابا كأنّ الصّبح ألبسها حجولا ... وجنح اللّيل قمّصها إهابا جواد في الجبال تخال وعلا ... وفي الفلوات تحسبها عقابا إذا ما سابقتها الرّيح فرّت ... وأبقت في يد الرّيح الترابا وقال: «3» [الطويل] وإنّي لألهو بالمدام وإنّها ... لمورد حزم إن فعلت ومصدر ويطربني في مجلس الأنس بيننا ... أنابيب في أجوافها الرّيح تصفر ودهم بأيدي الغانيات تقعقعت ... مفاصلها من هول ما هي تنظر وصفر جفون ما بكت بمدامع ... ولكنّها روح تذوب وتقطر وأشمط محنيّ الضّلوع على الضّنى ... به الضّرّ إلّا أنّه يتستّر «4»

إذا انجاب ستر اللّيل ظلّت ضلوعه ... مجرّدة تضحى لديك وتخصر وقال: «1» [السريع] قد نشر الزّنبق أعلامه ... وقال: كلّ الزّهر في خدمتي لو لم أكن في الحسن سلطانه ... ما رفعت من دونه رايتي (266) فقهقه الورد به هازئا ... وقال: ما تحذر من سطوتي وقال للسّوسن: ماذا الذي ... يقوله الأشيب في حضرتي فامتعض الزّنبق من قوله ... وقال للأزهار: يا صحبتي «2»

62 - محمد بن يوسف بن عبد الله بن عبد الرحمن الحنفي

يكون هذا الحسن بي محدقا ... ويضحك الورد على شيبتي قلت: وهذا قول يقطر ظرافة ويحسن، وإن كان حديث خرافة. وهذا آخر ما اخترت من جميع ديوانه، وبديع ما ضمنه من الفريد في صوانه. وقد وقفت عليه، وكله ناطق بصنيعه، مذهب بشعاع توشيعه. ولم اقتصر على هذا لأن بمثله يكتفى، وإنما أقللت للقناعة، وأتيت من عينه بمقدار ما تعرف به بقية البضاعة. وقد وقفت له على نثر لا يقاس بنظمه، وإن كان الكلّ درّ، ولا يقاربه، وكلّ منهما يسر، وإنما هو في طبقة هذا الشعر حيث ترى، وأين الثريّا من الثّرى. وقد كان كتب إليّ كتابا وددت لو حضرني لآتي به، وإن كنت جدّ ضنين وأسمح به، وإن كان لا يسمح بالثمين. ومنهم: 62- محمد بن يوسف بن عبد الله بن عبد الرحمن الحنفي الفقيه العدل، الأديب، الشاعر. أبو عبد الله شمس الدين الخياط الدمشقي. قادر أتى بما لم تستطعه الأوائل، ولم تطعه إلّا قسرا أنداد الفضائل، لا يجيء البحر له إلى كعب، ولا يحاول إلّا النجوم، لا يعجزه مرامها الصّعب. وكان خصم نفسه في الأدب، يدرس فنونه النافعة، ويغرس أفنانه اليانعة. فاحتذى مفارق الرءوس وانتعل، وعرفت الرّجال بغيرهم وعرف بما فعل، سدّ الفجاج على المعائب، وعدّ صفو المزن رنقا بالشوائب. وله قصائد أدرك منها ما رامه ابن الروميّ في مطوّلاته، وتمّ لأبي تمام في تطوّلاته، وفات حوليّات زهير بن أبي سلمى، وخوليّات ابن العبد، وطرف طرفة أعمى، وما منها إلّا ألحق بالسّبع

الطّوال، وحاربت في جوّ النّسور العوال، فكأنها كانت لتلك القصائد كامنة، لتلك (267) السبع المعلّقات ثامنة، بل ما أتت بعد تلك السبع الشّداد، إلّا كالعام الذي فيه يغاث الناس وفيه يعصرون، ومنه يجنون ويهصرون. وله قطع تقطع كلّ أجدع، وتقرّع كلّ حميّ أنفه لا يجدع. فيومه يومان، وطعمه طعمان، بكلّ كلمة هي إبر النّحل أو مشاره، وفخر الدهر أو عاره، تلعّبا بالكلام كيف شاء صرفه، ومن شاء وضعه به أو شرّفه، فطالما أوقد حائن وهدف عرّضه لرميه فدفع بيديه حدّ المدى، ووضع إصبعيه في فم الرّدى، على أنّه خير أخ في الشدائد، وأعظم مقاوم لسمّ الليالي الأساود، وكلمه لا يغشى بوارقها بالسّحب، ولا ثلاث رودها إلّا بالرّماح منصلة بالشّهب. ومن شعره المحرّك للأطراب، المبيّض لقادمة الليل والفجر في آخره كما شاب جناح الغراب، قوله: [السريع] كم نلت في الأسفار من شدّة ... لم تحص في عدّ ولم تحصر فهذه عين وذا محجر ... والموت بين العين والمحجر ومنه قوله: [السريع] ديار مصر جنّة فتّحت ... أبوابها في الحسن للمبصر وغير بدع أنّها جنّة ... ونيلها جار من الكوثر ومنه قوله: [الطويل] شكت زوجة القاضي من الطّلق شدّة ... فنال الإمام الهمّ وهو همام فقلت له صبرا جميلا فربّما ... يكون مع الطّلق الشديد غلام ومنه قوله: [الوافر] وما طلبي الشهادة خوف نقص ... على مالي ولا طمع الزّيادة ولكنّي لإسلامي وديني ... وتوحيدي حرصت على الشّهادة

ومنه قوله: [الطويل] تهنّ فلان الدين شهرا مباركا ... فصب لك فيه بالعلاء المكارم (268) وإن تك قد باشرت في يوم موسم ... فسائر أيام الكرام مواسم ومنه قوله: [السريع] الحبس حبس النّفس عن قصدها ... وإنّما نقمته نعمة لا سيّما إن كان أعجوبة ... كثرة ناموس بلا حرمة ومنه قوله: [السريع] مولاي سيف الدين يا من له ... أصل زكيّ في انتساب الملوك أسمعتني وعد ديوك وقد ... أكلت كفّي قبل أكل الديوك ومنه قوله وقد ردّد مقصود المعنى وزاده: [السريع] كم ليلة بالبرد قضّيتها ... في شدّة والعين لم تهجع وليس لي أكل سوى راحتي ... وليس لي شرب سوى أدمعي ومنه قوله: [السريع] حفيت من طول طوافي على ... بشر لأحظى بالنّدى الوافي فاعجب لعكس الحال ما بيننا ... هذاك بشر وأنا الحافي ومنه قوله: [الطويل] إلى كم أمنّي النّفس في طلب الغنى ... أقول عسى ينزاح فقري وربّما وما العار إلّا أن أرى عاريا وما ... عليّ كما قالوا سوى مطر السّما ومنه قوله: [الوافر]

عجبت من الزمان ومن بنيه ... ورفضهم الأهاجي والمدائح أروح على منازلهم وأغدو ... وليس أشمّ للجدوى روائح ومنه قوله: [الكامل] يا سيّدي قد طال مكث قصيدتي ... وأعيذ سيّدنا من النّسيان إن كان في يوم المعاد إجازة ... أمّلتها من كفّة الميزان ومنه قوله [الكامل] (269) رقب الهلال الناس واجتهدوا فلم ... تره العيون وكفّها عنه العمى لا غرو إن خفي الهلال عن الورى ... ورآه في الأرض ابن ناطور السّما ومنه قوله: [الطويل] يقولون في سمّ الخياط قناعة ... فلا ترم شكر العيش في القنع بالدمّ فقلت لهم إنّي أخاف من الرّدى ... ولا آمل البقيا ورزقي من سمّ ومنه قوله: [مخلع البسيط] يا سيّدا لم يزل بحمدي ... بين بني جنسه محلّا أسلفتني موعدا جميلا ... فاسمح بإنجازه وإلّا ومنه قوله: [البسيط] قالوا تردّد فبيت المال فيه غنى ... لكلّ مشتمل بالفقر محروم فحين وافيته لم ألق فيه سوى ... مسوّدات لتأخير وتقديم فيه صناديق أوراق بلا ورق ... قد أوسقوها بتحديد المراسيم قبض وصرف ومردود وفذلكة ... بلا حساب وتخريج لمعلوم فاحذر إذا جزت بيت المال فهو بلا ... لام وفيه مخاريم بلا ميم

ومنه قوله: [السريع] وقيّم مغرى بسفك الدّما ... كلّ سليم بيديه سليم صعقت خوفا منه لّما غدا ... في كفّه موسى ورأسي الكليم ومنه قوله: [السريع] إن تهجروا الخياط عمدا فما ... له إلى غيركم هجرة يقصّ أخباركم ناقلا ... حديثكم بالخيط والإبرة ومنه قوله: [الوافر] أرى المحبوب يفعل كلّ ذنب ... ويغضب والهوى أمر عجيب وأسأله الرّضى والذنب منه ... كأنّي من إساءته أتوب (270) ومنه قوله: [السريع] لم أنس والمحبوب في مجلسي ... كالبدر يسقيني كؤوس الرحيق يجمع لي ضدّين من عارض ... له جديد ومدام عتيق ومنه قوله: [مخلع البسيط] عذار حبّي دقيق معنى ... تجلّ من حسنه الصفات حلا لرائيه وهو نبت ... هذا هو السّكّر النبات ومنه قوله: [السريع] خلّفت بالشام حبيبي وقد ... يمّمت مصرا لغنى طارق والأرض قد طالت فلا تبعدي ... بالله يا مصر على عاشق ومنه قوله: [الوافر]

صبرت على صروف الدهر حتّى ... رماني من هويت بسهم صدّ وأسقمني بهجران طويل ... وقال دواؤه بالوصل عندي ومنه قوله: [البسيط] سار الحبيب بقلبي يوم ودّعني ... ولم يدع لي صبرا ساعة البين وقال إن كنت مشتاقا إلى نظري ... أجر المدامع حمرا قلت: من عيني ومنه قوله: [البسيط] قلبي شكا حبّ خياط يمزّقه ... فكيف من قلق لي فيه تثبيت قد كفّ عن غيري طرفه ونمنم لي ... خدا كأنّ عذارا فيه تنبيت ومنه قوله: [الطويل] لربوتنا واد حوى كلّ بهجة ... فعيش الورى يحلو لديه ويعذب يروق لنا الأنهار تحت حنكه ... فلا عجب أنّا نخوض ونلعب ومنه قوله: [مجزوء الخفيف] ربّ علق عيوبه ... عدد الرّمل والحصا (271) يأخذ الأير ضاحكا ... ثمّ يبكي على الخصا ومنه قوله: [السريع] يا من على عينيه شعريّة ... قد أضرمت في القلب نار الغرام يشبه بدرا طالعا نصفه ... ونصفه الآخر تحت الغمام ومنه قوله: [السريع] لا تحسبوا شطبا على خدّه ... قد لاح من فعل سيوف الجنون

63 - حسن بن علي العزي

وإنّما من رقّة خدّه ... قد أثّرت فيه لحاظ العيون ومنه قوله: [السريع] قد طال فكري في القريض الذي ... من نفعه لست على طائل أقرّني زورا فصرت امرأ ... صاحب ديوان بلا حاصل ومنه قوله: [الخفيف] لي بأرض الشام شرّ مقام ... لا مكاني يرجّى ولا إمكاني أسهر الليل في مكابدة الشّع ... ر وأبكي النّهار للحرمان ومنه قوله: [الخفيف] قل لمن حضّنى على الدين أقصر ... عن ملامي فليس لي تقصير لا تسلني عن الصّلاة فبيتي ... مسجد غير أنّه مهجور ومنهم: 63- حسن بن علي العزّي ابن نفسه، وصاحب يومه لا أمسه، يعرف بالزعاري، نسبة إلى غور زعر، لا إلى الكلاب، وإن كان قد فغر فمه فأشبهها، وغرّ بأنّه بشر إلّا أنه سوّد صورته وشوّهها. أعقل منه سكان المارستان، وآمن عاقبة منه حنش البستان، وأقلّ غيبة منه وجوه أهل البهتان، وأملك منه لشهوته الحمار، شمّ بولة الأتان. لا دين يرجع إليه، ولا عقل يرد عليه، ولا محتسب يقيم عليه (272) الحدّ، ويمسك يديه، بعقيدة لا يغسل السيف عارها، ولا يواري الليل عوارها، أثقل من منّ، وأشحذ من مسنّ، وأبغض من مساء رقيب، وأشأم من صباح ذيب، وأقدر من قمل، وأحرص من نمل، وأسقط من الذّباب، وأسمج من الذّئاب. بعرض أسرع

تفطّرا من الزّجاج، وآكل للقدر من الدّجاج. لا له زاجر يردعه، ولا أمر من العفاف يسعه، يطير مع كلّ ناعق، ويعوي لكلّ ناهق، إذا شعر نبح، وإذا أنشد كبح. يتهادى إلى كلّ مجلس كأنّه زلزلة، ويتباذى وما حرج من الخطوة الحاضرة قدر أنمله. على أنّه حام تتحامى صرحه الذّئاب، ويعرف فضله على كثير ممّن لبس الثياب. يرعى العظام ولا يلج بيت جاره إلّا أنّه يسعى حول الخيام، ذو حميّة ما شهد شبهها يوم الكلاب، وحفيظة ما عرف مثلها لبني كلاب، ببصر حديد، وساعد شديد، وفطنة لو تقيّد بها علم الطّبّ أو تنحّل علم أبقراط فصار الأكحل لا يخاف الغارة الشعرى ولا يهاب في السماء العوا. لا يزال في الحيّ منه طائف يسعى، ومقدام الأسد إذا أقعى، تتوقّى الأعداء من كلبه، وتتطاول الرءوس ولا تصل إلى ذنبه. فاتك أخلا رامة من ظباتها السوانح، وسبق بطشه الجوارح. إذا رأته كلاب الحيّ بصبصت أذنابها، وأكرمت مقدمه كأنّها تعرف أنسابها. إذا نبذت له الحصاة ينزو لوقعها، وينبو لسمعتها. وله خطّ يروق وشي قلمه، ويطول بعصيّ يراعه كأنّما يهش بها على غنمه. هذا مع رجوعه إلى أكرومته وعفافه، وقنعه بقليل الذّمّ بلغه، واللحم موفر لأضيافه، وعدم تهافته على آمال تتنافس طلابها، ودنيا تزاحم منها على جيفة وتهارش كلابها. وحكى لي من لا أتّهمه، ممن كان يصحبه ويلزمه، (273) ويبيت عنده ولا يضجره ولا يبرمه، أنّه كان ينام عنده الليلة الطويلة بتمامها، ويصبح النّهار ويتضحّى وهو نائم، فإذا حضر الغداء، أنبهه فقعد فأكل، لا يغسل وجها ولا يدا، ولا يقف مع أمر كأنّه خلق سدى، ما استيقظ وتوضّا، ولا صلى سنة ولا فرضا، هذا مع إصرار لا يهمّه منه لبس القبائح، ولا يخيفه تشيع الفضائح، ولا يضرّه أن يبيت جسمه سماط السّياط، وعرضه قرى القوابح. وعلى هذا فهو شاعر يملأ السمع عجبا، ويهزّ الجماد طربا، لا يفوته صيد معنى شارد، ولا ليل

يسهره لراقد. بديهة في التحصيل اعتادها، وقدرة على صيد شوارد المعاني لا ينكر له إذا صادها. عجبا له وهو في هذا النّسب العريق، والمشابهة في التخلّق والتخليق، كيف خالف عادة مثله في الوفاء، وكيف حمد من نوعه كلّ مضمر، ووصف وهو بالجفاء، إلّا أنّ محاسن شعره نطقت، ويد المعرفة به سبقت، وله حقّ الصّحبة التي كانت إنفاقا، فليتها لا كانت ولا أنفقت. ومن بدائعه قوله فيما كتب به إليّ: [الكامل] أبدا يجدّد لي الحمام إذا شدا ... ذكراك في الليل البهيم إذا هدى يا غصن بان طار قلبي نحوه ... شوقا فبلّ جناحه قطر النّدى أترى دمي في وجنتيك فإنّني ... عاينت خدّك لا يزال مورّدا أم نار حسنك أوقدت في صحنه ... فوضعت قلبي منه خالا أسودا عقد الجفون بكلّ نجم طالع ... طرف يطالعني على بعد المدى شرقت به عين وغصّ بشخصه ... صدري وضمّ عليّ وارده يدا ثمّ انتضته يد الفراق بيقظة ... من مقلتيّ وكان فيها مغمدا منها: نجل الخليفة من قريش والذي ... حاز المفاخر طارفا أو متلدا سلك الطريق إلى عديّ جدّه ... في المجد والحسب الصريح فما عدا (274) وجلت مخايله الرئاسة إذ نضا ... عنه الغمامة ثمّ لاث السؤددا أورى زناد الدين بعد خموده ... حينا ونار الجاهليّة أخمدا وعصى دعاء اللات بعد بلوغه ... وأطاع في الله النبيّ محمّدا بنيت معاليه على قصد القنا ال ... خطّيّ إذ سلك الطريق الأقصدا وأقام أعمدة المآثر وارتقى ... درج المعالي في السّيادة مصعدا وأحلّ أسرار الممالك صدره ... فحنت أضالعه عليه تودّدا

فلو استطاع الماردون لوحيه ... سمعا علوا صرحا إليه ممرّدا لكنّهم منعوا برجم شهابه ... أن يقعدوا للسّمع منه مقعدا وقوله من أخرى كتب بها إليّ: [الطويل] عفا بعدهم بطن العقيق فلعلع ... فوادي الغضا فالمنحنى فطويلع منازل عفّاها البلى فتأبّدت ... معالمها بعد النّوى فهي بلقع هي الدار يصبيني صباها ولم يزل ... تجرّعن فيها الأمرين أجرع وزعني بها الصبر الجميل عن الأسى ... دموع على ليل الصّدود توزع سقى الله أيامي بها وإن انقضت ... مراجعتي فيها لمن ليس يرجع وحيّ لياليّ التي زالت المنى ... وقد زلن والأيّام تعطي وتمنع ومنها: فساروا بمثل الشّمس حطّت لثامها ... وكم دون تلك الشّمس بدر مقنّع لوت جيدها فيما ترى العين دمية ... تحاط بألحاظ الكماة وتمنع يراقبنا فيها غيور كأنّما ... ترى الشّمس منها بين قرنيه تطلع إذا زلّ عنها سجنها أحدقت به ... لواحظ قد غطّت عليهنّ أدمع يشقّ إليها الدّمع وهي سريعة ... يشقّ عليها والقنا وهي شرّع ومنها: شهاب يضيء الخطب رأيا مهذّبا ... عليه الحسام الهندوانيّ يطبع (275) سليل أبي حفص إلى مثل هديه ... وآثاره في صالح الذّكر ينزع فتى عدويّ يجبن السيل دونه ... إذا همّ ناجاه فؤاد مشيّع إذا ناب خطب ناب فيه عن القنا ... يراع له أنف الكريهة يجدع وألفاظ حرّ حرّة لا يديرها ... خداع إذا مرّت وذو الحرب يخدع يصيح على الأعداء في كلّ بقعة ... غراب لها بالطّرس والنّقس أبقع «1»

وقوله من أخرى كتب بها إليّ: [الوافر] سقى عهد الحمى صوب العهاد ... بكلّ أجشّ منفتق المزاد كأن حبيك ريّقه إذا ما ... تراكم قطره رجلا جراد يفضّ عراه لمع البرق فيه ... كما هتك الدّجى شرر الزّناد فيسرق منه أجفان الخزامى ... ندى كالدّمع في الأجفان بادي فلو أنّ الجماد يطيق شكرا ... له لنطقن ألسنة الجماد حيا يحيى موات التّرب منه ... بنفث الرّوح أفواه الغوادي ثرى دار وجدت بها شجوني ... ولكنّي عدمت بها فؤادي منازل باعدت ما بين قلبي ... وسلواني وجفني والرّقاد يعارض ذكرها ريقي فتشجى ... لهاتي منه بالعذب البراد ويبرأ من نسيم المسك أنفي ... إذا هبّت صبا تلك البلاد منها: إذا الحلماء والفصحاء جاؤوا ... وجيء بهم لإسداء الأيادي فمن قيس بن عاصم وابن قيس ... ومن قسّ بن ساعدة الإيادي ذكرتك يا ابن فضل الله ذكرى ... علا هي والكواكب في عداد وقد نوّهت باسمي فهو فرد ... أجوز به النّجوم علي انفرادي وألبسني احتفالك بي رداء ... خلعن عليه أفئدة العباد وقد أوطأت آثاري أناسا ... على آثارهم وطء الجياد

(276) فكنت لهم عليانا ودوني ... إذا ما حاولوا خرط القتاد وقوله من أخرى كتب بها إليّ: [الكامل] أطروق طيف من خيالك عائد ... يعنى بوسنان اللواحظ هاجد قطع السماوة بعد هدء قائما ... بالودّ في حفظ العهود لقاعد ومن العجائب أن تحسّ دنوّه ... بعد الجفاء لنازح متباعد أصبو إليه ودون منهل ثغره ... ما دون مورد كلّ عذب بارد خفقان ألوية ولمع أسنّة ... زرق تفارط في أنامل ذائد للماء تحت طلا لهى وضاءة ال ... خدّ المورّد تحت فرع وارد منها: برّاق ثغر الجود يشعر نشره ... بالرّيّ أشعار الغمام الرّاعد وترى السكينة في خفافي عطفه ... كالصّفو في ماء الغدير الرّاكد يسطو فيبرأ تاج كلّ مملّك ... لسطا يديه من بنان العاقد وإذا اجتنى للجود ناط يمينه ... بالنيّرات إلى يمين القاصد وتظلّ تحسده الملوك فإنّني ... لأرى الملوك على نداه حواسدي أطناب عزّيه على هام السّهى ... موصولة من عزمه بقواعد يتعثّر الخطب المفاجئ بينها ... ويقيل عثرة كلّ حدّ صاعد وقوله مضمّنا: [الكامل] أفديه أغيد شعره وجبينه ... نور تلألأ في ظلام داجي والفرق بين الشّعر فوق جبينه ... عريان يمشي في الدّجى بسراج وقوله: [الرجز]

قد بعتهم قلبي يوم بينهم ... بضمّة التوديع وهو محترق ولم أجد من بعدها لردّه ... وجها، وكان الرّدّ لو لم نفترق وقوله: [المتقارب] (277) أتى ابن نباتة ديوانه ... يوقّع والجهل قد أوقعه فلمّا تصدّر لم يدر ما ... يصدّر في الكتب المصفعة فقالوا حمار وهذا الجمود ... يدلّ على أنّه بردعه وقوله: [المتقارب] أرى ابن نباتة لما غدا ... يعرّض في كتبه بي غوى فإن كنت كلبا فقد حمّلوا ... على عرسه كلّ كلب عوى وقوله: [المنسرح] كأنّما الورد حمرة وندى خدّ مليح أبكاه توبيخ ... فانظر إليه في أفق مجلسنا كواكبا كلّهنّ مرّيخ وقوله: [البسيط] يا سيّدي أهل دار الطّعم قد كذبوا ... حتى عليّ بوعد غير منضبط فاعلم على كلّ حال أنّهم سقط ... لا يفلحون فلا تغترّ بالسّقط وقوله في يوم ثلج: [الطويل] كأنّ مغاني جلّق حين أشرفت ... وقد عمّ منها الثلج بكلّ طريق كواعب قامت في انتظار لزائر ... يبسطن لممشاه ثياب دبيقي وقوله: [الوافر]

بدا والليل مضموم الجناح ... بريق مثل منبلج الصباح سريع الومض في وطفاء تشكو ... تثاقل خطوها هيم البطاح أصاخ لها الثرى وقد ارجحنّت ... وشافه وقعها ثغر الأقاحي فأولد بطن ذاك السّفح زهرا ... كواعبه التقين على سفاح فمن قان يخال دما وزاه ... أغرّ كأنّه بيض الأداحي كأنّ المزن والأغصان خيل ... عطفن على الرّبى بكؤوس راح فوا لهفيّ من جفن وثغر ... رقيق الخصر مجدول الوشاح (278) أغنّ إذا نضا برديه لاحت ... معاذير المتيّم للّواحي شكا خدّاه من طرفي جراحا ... وقلبي منهما دامي الجراح فلم أر مثل ناظره وقلبي ... وكلّ منهما شاكي السّلاح ومن قصيدة: [الطويل] سرى ونقاب اللّيل بالفجر قد حطّا ... وخطّت يد الإصباح في فوده وخطا وقد شغلت أيدي الضّحى بنجومه ... أناملها يلقطن جوهرها لقطا وألقت خواتيم الثّريّا اليد الّتي ... لها فكّت الجوزاء من أذنها القرطا وشقّت على اللّيل البهيم ابتسامة ... من الصّبح شقّت عن ترائبه مرطا وخادع مطرود الكرى كلّ ناظر ... وسدّ عن الرّمل أبرده الأرطى «1» خيال إذا أدنته من كبدي المنى ... شفاها فقد يدنو المراد وإن شطّا خليليّ ما أولاكما بتحيّة ... تردّ إلى من شطّ إن جئتما الشّطّا يذاد لها ماء الفرات إذا انتهت ... إلى كبد تشتاق من عاته السّقطا «2»

ومن قصيدة: [الكامل] لله مطّلعون من قلل الحمى ... تدنيهم الذّكرى وإن لم يسعفوا بين البروق ثغورهم تجلو الدّجى ... ومع الشّموس وجوههم تستشرف أنكرت منزلهم بعيني والحشا ... يدريه للشّعف القديم ويعرف ومن قصيدة: [الكامل] غادي الدّيار فناج فيها فعلنا ... وشكا الذي نشكو الحمائم موهنا صبّ بكى إثر الخليط وعاقه ... أن يستقلّ وراءهم فرط الضّنى زالت حمولهم وفيها أنفس ... قد أبدلوها بالضّلوع المنحنى لله ما سترت غمائم خمرهم ... من أقمر تبدو فيحجبها السّنا هي والبدور على قوالب أفرغت ... لكن أرى الآدى إلينا الأحسنا بانوا وأتبعهم فؤادي حسرة ... يستصحب الأكباد فيها الأعينا (279) يتلفّتون إلى قتيل نواهم ... وهم الظّباء وأيّ ظبي ما دنا ويلينهم مرّ النّسيم لطافة ... وهم الغصون وأيّ غصن ما انثنى واها لها ولكلّ غصن ليّن ... لو ضمّ منه الصّدر قلبا ليّنا وقوله: [الخفيف] ومليح ما زال طاير عقلي ... واقفا في الهوى على غصن قدّه ضمّ نبت الشّقيق زهرا وكانت ... علّة الضّمّ أنّه جنس خدّه وقوله: [الكامل] أعطى أزمّته الصّبا والشّمالا ... وانقاد أدهم بالبروق محجّلا غيث قفا إثر الكواكب ذيله ... فعفا وأرسلها سحائب جفّلا ما قبّلت منه الكمائم هيدبا ... إلّا وقد حسبته كمّا مسبلا

لبست له الغدر الدّروع وقد رأت ... برقا يهزّ على الأبيرق منصلا وقوله: [الوافر] جرت كبدي مع الدمع المندّي ... حواشي وحشتي غبّ العقاب فكانا لؤلؤا رطبا أضيفت ... فرائده إلى ذهب مذاب فيالك حلية لوفزت منها ... بشيء لافتديت به شبابي وقوله: [الوافر] حبست الدمع ثمّ جعلت جفني ... سياجا ما له عنه انفراج فما زلتم بجودكم إلى أن ... تجرّى الدّمع وانخرق السّياج وقوله: [المتقارب] وأغيد ألثغ خاطبته ... وقد أبدل السّين في اللفظ ثا فقلت له زر فقال الرقي ... ب أراه مع الصّبح قد غلثا فقلت أرى جبلا لا يرق ... فؤادك لي قال لي قد رثا وقوله: [السريع] كأنّما طابعه المشتهى ... من تحت تلك الشّفة الزاهرة (280) مركز بيكار الجمال الذي ... صحّح وضع الطلعة الباهرة فاعجب لأيدي الحسن إذ قرّرت ... مركزه في طرف الدائرة وقوله: [الرمل] أعجب ما في مجلس اللهو جري ... من أدمع الرّاووق لمّا انسكبت لم تزل البطّة في قهقهة مم ... ما بيننا تضحك حتى انقلبت وقوله: [السريع] أنا القليل العقل في خرقي الذي ... أهلكه في كلف المشارب «1»

ما نلت من تضييع موجودي سوى ... تصفية الكاسات في شواربي وقوله: [مخلع البسيط] قالت وقد أنكرت سقامي ... لم أر ذا السّقم يوم بينك لكن أصابتك عين غيري ... فقلت لا عين غير عينك وقوله: [الطويل] جرت من بعيد الدار لي نفحة الصّبا ... فقد أقبلت حسرى من السّير ظالعة ومن عرق مبلولة الجيب بالنّدى ... ومن تعب أنفاسها متتابعة وقوله: [الكامل] لي عند مشتجر الرّياح إذا التقى ال ... جمعان واستنّ الجياد الضّمّر وتراكمت سحب المنايا واعتلى ... في الجوّ من وقع السّنابك عثير وانهلّ من زرق الأسنّة فوق مغ ... برّ التّراب دم عبيط أحمر وعلى الثرى من كلّ شهم أروع ... ثوب بتفضيل المنون مشهّر من أبيض في مفرقيه أبيض ... أو أسمر في جانبيه أسمر قلب تخيّلك الظنون له فما ... تصبيه حادثة ولا تتغيّر وقوله: [المتقارب] فتنت بأسمر حلو اللّمى ... لسلوانه الصّبّ لم يستطع

64 - ألطنبغا العلمي الجاولي، أبو جعفر، علاء الدين

(281) يقطّع قلبي وما رقّ لي ... ودمعي يرقّ وما ينقطع وقوله: [الطويل] لقد نبتت في الصّالحيّة دوحة ... من العزّ يحلو لي جناها ويعذب فطاب لدى قاضي القضاة محلّها ... وكلّ مكان ينبت العزّ طيّب وقوله: [الكامل] ركب البريد سواي نحو قمامة ... للرّزق كابن نباتة النّجّام وأتوا وأجربة البريد وراءهم ... وأتيت لا خلفي ولا قدّامي وقوله: [الوافر] توهّم إذ رأى حبّا يحاكي ... على شفتيه درّا في عقيق فقلت له وحقّك ليس هذا ... سوى حبب على كأس الرّحيق وقوله: [مجزوء الرمل] يا فم المعشوق سبحا ... ن الذي زانك زينا قد تحلّيت بدرّ ... فتحيّيت إلينا وقوله: [الطويل] أتى سرطان الشّام مصر مهاجرا ... ليلجأ في النّيل السّعيد إلى جرف فإن منعوه النّيل خوف نجاسة ... فقل نهر قلّوط عليه إلى الأنف ومنهم: 64- ألطنبغا العلمي الجاولي، أبو جعفر، علاء الدين «13»

هو اليوم واحد في جنسه، لا أعرف له ثانيا، ولا لفضله مدانيا. يتبارى سيفه وذهنه، ويتجارى جواده وخاطره، وكلاهما يحرز له رهنه. لو اجتمع هو والفارابيّ في مجلس ابن حمدان، لأراه بمعانيه كيف الطّرب. أو جاوره الجوهريّ لقيل له لقد حكيت ولكن فاتك النّسب. أو جالسه أيدمر السّنائي لاستمدّ من موادّه الغزيرة. أو وقف على ديوانه ابن العديم، لأقرّ بأنّه فخر التّرك لا مولى وزير الجزيرة. لقد أسمع من كلمه ما رقّ كأسه حتى شرب، ونفح من شذاه ما سلّم به إلى أنّ جياد المسك (282) ما كان من بلاد الترك قد جلب. فيا له فارس جواد وإجادة، أصبح فيهما بلا نظير، وبلغ منهما غاية كلّ مضمار وغاية كلّ ضمير. وأتى بالدّرّ كأنّه مبسمه، أو من فلول سيفه لما اخترطه. هذا وقد طبع على سجايا لو تمثّلت كالزّجاج لشفّت. ومرايا لو قلقل طوارق الليل لكنّت شيمة ممازجة، وسجيّة كريمة. تحلّى بملابسها، وأحسن ما فيها أنّها تركيّة ساذجة. ومن شعره الفائق قوله: «1» [البسيط] سبّح فقد لاح برق الثّغر بالبرد ... واستسق كفّ الطّلا من كفّ ذي ميد ستعرب اللّفظ للأتراك نسبته ... له على كلّ صبّ صولة الأسد يا عاذلي خلّني فالحسن قلّده ... عقدا من الدّرّ لا حبلا من المسد ويل لمن لا مني فيه ومقلته ... نفّاثة النّيل لا نفّاثة العقد وقوله: «2» [الكامل] خود زها فوق المراشف خالها ... ولئن فتنت به فلست ألام فكأنّ مبسمها وأسود خالها ... مسك على كأس الرّحيق ختام وقوله: «3» [المجتث] وبارد الثغر حلو ... بمرشف فيه حوّة وخصره في انتحال ... يبدي من الضّعف قوّة وقوله: «4» [الخفيف]

ردفه زاد في الثّقالة حتّى ... أقعد الخصر والقوام السّويّا نهض الخصر والقوام وقاما ... وضعيفان يغلبان قويّا وقوله: «1» [الطويل] تخاطبني خود فأبدي تصامما ... فتكثر تكرار الخطاب وتجهر فأصغي لها أذنا وأظهر عجمة ... لكيما أرى درّا من الدّرّ ينثر وقوله: [البسيط] قال النّحاة بأنّ الاسم عندهم ... غير المسمّى وهذا القول مردود الاسم عين المسمّى والدّليل على ... ما قلت أنّ شهاب الدين محمود وقوله: «2» [الوافر]

(283) وصالك والثّريّا في قران ... وهجرك والجفا فرسا رهان فديتك ما حفظت لشؤم بختي ... من القرآن إلّا لن تراني وقوله: [الكامل] وكأنّ عارضه تسلسل دورة ... وحلا مراشف ثغره من شهده نمل سعى يبغي ضريب رضابه ... لكن توقّف من تصرّم خدّه وقوله: [الكامل] بالرّعب أحضر الخدود وشاربه ... فليهن بالرّيق المعسّل شاربه سلطان عشق كلّما كلّمته ... يزور ناظره ويقسو حاجبه وقوله: [الطويل] وقالوا عذار الخدّ فيه صبابة ... وإنّ به كلّ الجمال يتمّ وقوله: [المتقارب] عذارك والخدّ قد أظهرا ... جميع الذي فيهما يرمز وأنّى يصان الهوى فيهما ... وهذا ينمّ وذا يغمز وقوله: [الخفيف] شغف الطّرف والعذار بخدّ ... فيه ماء وجمر نار يشبّ كلّما احمرّ خجلة وحياء ... ينعس الطّرف والعذار يذبّ وقوله: [الكامل] نقلوا الهوى عنّي وقد شاع الخبر ... حتى درى بصبابتي كلّ البشر

إنّ العيون الضيّقات فتنّني ... لا الأعين النّجل التي فيها الحور يا من يعرّض للهلال فؤاده ... من سطوة الأتراك الحذر الحذر قوم إذا رقّوا يروقوا في الوفا ... فإذا قسوا قاسا محبّهم الخطر لا يعرفون سوى السّهام ورشقها ... إمّا بأيديهم وإمّا بالنّظر عند الجلاد ضراغم لكنّهم ... في مجلس اللذّات زهر أو زهر من كلّ ريّان القوام مهفهف ... يختال في حلل الملاحة والخفر (284) من آل خاقان كلفت بحبّه ... زنجيّ لحظ والحواجب والشّعر لّما بدا للناس قالوا إنّ ذا ... ملك أتى بالحسن ما هذا بشر وقوله: [المديد] مت شهيدا في غزال ألوف ... ليّن الأعطاف غير عطوف خدّه دون ظبا مقلتيه ... جنّة تحت ظلال السّيوف وقوله: [الكامل] وإذا بليت من الهموم بلسعة ... فاجعل سلافك عاجلا درياقها لم يظلموا راووقها في صلبه ... فلقد أباح دماءها وأراقها وقوله: [الطويل] بكت عندما عانقتها يوم ودّعت ... فقالت: لقد زاد البعاد وأفرطا فو الله لا أدري ألؤلؤ دمعها ... أم العقد من ذاك العناق تفرّطا وقوله: [الكامل] سفرت عن الوجه المنير نقابها ... واستقبلت قمر الدّجى فتشابها حتى إذا حاشى الرّقيب تبرقعت ... شمس غدا ذاك النقاب حجابها

65 - سليمان بن داود بن سليمان بن محمد بن عبد الحق، الحنفي، أبو الربيع، صدر الدين

لم أنسها يوم الوداع وقد دعت ... دمعا يكلّل خدّها فأجابها فكأنّه درّ على ديباجة ... أو روضة طلّ السّماء أصابها خافت غداة البين من رقبائها ... لّما رأت بلّ الدموع نقابها زجرت دموعا مثل لؤلؤ ثغرها ... حتى حسبنا كلّلت أهدابها وقوله: [المتقارب] خذوا حذركم من سيوف المقل ... فليس لكم بسطاها قبل وقوا أنفسا إن رمت أسهما ... فما هي إلّا سهام الأجل وإن نفثت سحرها أورنت ... فليس تفيد الرّقي والحيل فهل لدمي آخذ من رشا ... يصول ولا يختشي إن قتل (285) وقوله: [الكامل] وسرت سيوفك في الكماة كما سرت ... سنة الكرى في مقلة النّوّام لا يشعرون إذا قطعت رقابهم ... لولا التحاق الهام بالأقدام وقوله: [الخفيف] وكأنّ الكماة صرعى مدام ... رقدوا من ظباك لا إغفاء إذ سقتهم سيوفك البيض كأسا ... فتراهم صرعى تفانوا دماء ومنهم: 65- سليمان بن داود بن سليمان بن محمّد بن عبد الحقّ، الحنفيّ، أبو الربيع، صدر الدين من بيت فقه وقضاء، وعلم كأحسن وجوه الكواكب الوضاء. تفقّه على مذهب الإمام أبي حنيفة، ويغلب على ظنّي أنّه لم يعلق في المدارس بوظيفة. وجاس خلال البلاد، وجاز على ملوك المغل ثمّ عاد. ووصل مع رسل جاءت منهم مشاركا في الرّسالة، مشارا إليه بينهم بالجلالة. ما الأري «1» المشار إلّا مذاقه، ولا النّهار المنير إلّا إشراقه، ولا سلاف العقار إلّا ما أسمع، ولا البدور الكوامل إلّا ما أطلع، ولا العراب الأتراب إلّا ما أبدى من بنيّات فكره فجلا أو أكنّ فبرقع. وهو في كلّ فنونه مبرّز، ولعيونه محرز. حاز البيان بحدّه، وملك منه ملكا سليمانيّا لا ينبغي لأحد من بعده، بقريحة عرفت بالسماح حتى لوم حاتم، وتصرّفت في ملك البيان تصرّف سليمان وقلمه الخاتم، لقدرة طبّ «2» بها فخر

العقود، وتصرّف بها تصرّف سليمان بن داود. لم يبق عروض حتى زخر له بحره، ولا سرّ بلاغة حتى ضمّ عليه صدره، ولا تفنّن أهل غرب أو شرق حتى جمع، وتفنّن فيه حتى قصر دونه كلّ طمع، مما ينافس فيه البديع، ويجانس وشي صنعاء حسنه الصّنيع، وينشر ملاءات الحبر من فكره السحابيّ أبو الربيع، مما تقذف به السّفن والرّكاب، وتجري الريح بأمره مسخّرة حيث أصاب، لمحاسن أبعد فيها وأبدع، وظلّ بها كلّ من حضر مجلسه السّليمانيّ وكأنه الهدهد يسجد ويركع. هذا ونشره يلوح على الأسارير، وندى وجهه تخوضه (286) العيون ثم تقول إنّه صرح ممرّد من قوارير. ومن شعره الذي يروق، ودرّه الذي يفوق، قوله: [الوافر] أروم وصاله فيصدّ قلبي ... بلحظ قد حمى رشف الثّنايا فبين لحاظ عينيه وقلبي ... وبين الوصل معترك المنايا وقوله: [المتقارب] ولما انقضى وقت توديعها ... عشيّة بين وجدّ السّفر وقفت بجسم يريها السّها ... وسارت بوجه يريني القمر «1»

وقوله: [الرمل] حظّ عينيّ من الدّنيا القذى ... وفؤادي حظّه منها الأذى ولكم حاولت فيها راحة ... ما أراد الله إلّا هكذا وقوله: [السريع] لمّا بدا في خدّه عارض ... وشاق طرفي نبته الأخضر أمطر أجفاني مستقبلا ... فقلت هذا عارض ممطر وقوله: [الخفيف] إن بدا لي وتبت عن شرب راحي ... ودعاني إليه دفّ وعود فأدر يا نديم كأس مدامي ... وعليّ الضّمان أنّي أعود وقوله: [مخلع البسيط] عطشت في مجلس وفيه ... ساق كريم يدير خمرا سقيت لما عطشت كأسا ... يا ليتني لو عطشت أخرى وقوله: [الطويل] تعشّقته ظبيا فنمّ عذاره ... فناديت يا قلبي خلصت من السّبي فقال أتسلو عند نبت عذاره ... ألم تدر أنّ المسك ينبت في الظّبي وقوله: [مجزوء الكامل] من يكن أعمى أصمّا ... يدخل الحان جهارا (287) يسمع الحان تتلى ... وترى النّاس سكارى وقوله: [الطويل] بدا الشّعر في الخدّ الذي كان مشتهى ... فأخفى عن المعشوق حالي وما يخفى لقد كانت الأرداف بالأمس روضة ... من الورد وهي اليوم موردة الحلفا «1»

وقوله: [المجتث] أهوى رشا غريرا ... لم يبق فيّ بقيا من مهجتي ودمعي ... رعيا له وسقيا وقوله: [الخفيف] يا رسول الحبيب غث مستهاما ... مغرما يعشق الغرام ديانه حدّث الخائف الكئيب من الهج ... ر فهو ممّن يرى الحديث أمانه وقوله: [الطويل] أناديك موسى إذ رأيتك واردا ... ومقتبسا نارا وقد قيل لا ولا أيا قابسا خذ من فؤادي جذوة ... ويا واردا رد من دموعي منهلا وقوله: [مخلع البسيط] قل للذي حين رام رزقا ... بكلّ مالا يليق لاذا

أقصر عناء ونم قريرا ... فالرّزق يأتي بدون هذا وقوله: [الطويل] وقائلة يوم الوداع أرى دما ... تفيض به عيناك قلت لا أدري ألم تعلمي أنّ الفؤاد لبيننا ... يذوب وأنّ العين لا بدّ أن تجري وقوله: [الكامل] وإلام أمنحك الوداد سجيّة ... وأبوء بالحرمان منك وبالأذى ويلومني فيك العذول وليس لي ... دمع يعي، وإلى متى تبقى كذا وقوله، مما كتبه إليّ: [الطويل] نشأت شهاب الدين بالعلم والحجا ... وفقت الورى فضلا وعلما وسؤددا (288) شهاب العلا قد كان قبلك في العلا ... شهاب ومحمود وقد جئت أحمدا وقوله: [السريع] ضيّعت أموالي في سائب ... يظهر لي بالودّ كالصّاحب لّما انتهى مالي انتهى ودّه ... واضيعة الأموال في السّائب وقوله: [الطويل] يقول نديمي عن نصوح بكفّه ... لقد فضح الصّهبا وجلّ عن الخبث فقلت هو المطبوخ من جسد لها ... ألم تره قد صار منها على الثّلث وقوله: [الطويل] أقول لثغري والحبيب رضابه ... مدامي، ونقلي لثم أيد وأرجل أيا ثغر قبّل جيده وجبينه ... تنقّل فلذّات الهوى في التّنقّل

66 - سليمان بن أبي داود

وقوله: [الطويل] وساحر طرف عقرب فوق صدغه ... تدبّ إلى قلبي ولم أملك الدّفعا وحيّة شعر خلفها نحو مهجتي ... يخيّل لي من سحرها أنّها تسعى وقوله: [مجزوء الكامل] لما حكى برق النّقا ... لمعان ثغرك إذ سرى نقل الغمام إليك عن ... دمعي الحديث كما جرى وقوله: [مجزوء الكامل] قد كنت أحسب بعدكم ... حتى توخّيت السّرى وظننت دمعي بعدكم ... يجري دما وكذا جرى ومنهم: 66- سليمان بن أبي داود علم الدين، صاحب الديوان. العلم الفرد، الذي ساد ذكره وساد الشّكر شكره، وسال بذائب النّضار فكره، وسام الدّر الغالي فهان لديه قدره، وولي المناصب السلطانية، وكان صدر رتبها، وسرّ كتبها، ورأس دواوينها، وأساس قوانينها، وآس دوحها الخضر، وورد (289) أفانينها. وتقدّمت له خدمة لقرا سنقر المنصوري، حلّ فيها عنده المحلّ الجليل، وصحبه بها مدّة، وفارقه على وجه جميل، وكان معه حيث رجع عن قصد الحجّ، موجّها إلى البريّة، وأخبرني أنّه وصل معه إلى الفرات، ثم رجع بإذنه، حيث خلّاه صاحبه، وتغلغل ووطئ ذلك البساط، وتوغّل وأتى الباب الشّريف الناصريّ، فعرف وفاءه لصاحبه، وقيامه له من حسن الصّحبة بواجبه، واتّخذه

67 - يحيى بن محمد بن زكريا، العامري

موضع المعوّل، والوفاء الذي شكر بدونه السموأل، وهو أقدر النّاس على نظم، وأسرع فيه تقريبا لفهم، ومنه قوله: [مجزوء الرجز] قلت له: كم تشتكي ... أتشتهي خذ واتّكي فقال: لا. قلت له: ... لا تشتهي وتشتكي وقوله في زوجة له ماتت، وكانت لخلائقه قد واتت، ثمّ مضت كأنها ما أصبحت عنده، ولا باتت، فجرحه مصابها، وجرّعه صابها، فواصل حزن قلبه قطيعتها، وأنطق لسان شكواه فجيعتها: [الطويل] أقول لقلبي حين غيبها الثّرى ... تسلّ فكلّ للمنيّة صائر وفي كلّ شيء للفتى ألف حيلة ... ولا حيلة فيمن حوته المقابر وقوله: [الكامل] قالت وقد راودتها عن حالة ... يا جارتي لا تسألي عمّا جرى إنّي بليت بعاشق في أيره ... كبر بلا فلس ويطلب من ورا وقوله: [الطويل] وبي رشأ ريحان خطّ عذاره ... مسلسله حول الحواشي محقّق على وجنة قد ورّد الورد لونها ... وقلب شقيق الروض منه مشقّق ومنهم: 67- يحيى بن محمّد بن زكريا، العامريّ الخبّاز في التنّور. وهو شاعر عطّل الخبّاز البلديّ فنّه، وأنف أن يكون من الخبز أرزي خدنه، وسجر التنّور وأوقده ذهنه، بقريحة محصّلة لم تتّكل، على حاصل ابن القمّاح، ولا قنعت بمدّ (290) ابن خضير الحوراني، لما تشكّله على الألواح. ما قدح خاطره المتوقّد إلّا مثل هذا الفكر المسجور، ولا استمرئ فكره المتدفّق إلّا قيل جاء أمر الله وفار التّنّور. تتحاشد عليه المسامع تحاشد الطّبون «1» وتتحاسد تحاسد نظرائه في الزّبون. تدرك فطرته المعاني بخرصها، وتودّ الشمس لو جرّت ناره إلى قرصها. تودّ فحمة الليل لو أنّها في تنّوره أحرقت، وعنبرة الصّدغ لو استدارت بوجوه أرغفته التي أشرقت، بتصرّف لا تتلوّم به الأعذار، ومعنى يخرج من فكره وله الغداة نوار، إلى خطّ كأنّه رغيفه على الألواح له من الشّونيز «2» عذار. فلو رآه ابن الروميّ لعدل عن مدح صانع

الرّقاق، وقطع له دونه بالاستحقاق، ولراسله ابن المعتزّ في تشبيهه السّوقي، وقدّمه على تشبيهه الملوكي، لبديهته التي في مثل اللمح بالبصر، وصناعته التي بينما هو متجمّع لها كأنّها كرة إذا بها قوراء كالقمر، وسرعته التي مقدار ما تنداح دائرة في صفحة الماء تلتقي فيه بالحجر. ومن شعره قوله: [الطويل] كأنّ هلال الصّبح والشهب حوله ... مليك عليه الخاصكيّة تحدق ولفّ الثريّا قصة رفعت له ... عليها لسان الصّبح بالبشر ينطق وقوله: [الكامل] زهر السّفر جل بالجميل رأيته ... قد فاق زهر اللّوز في الأوصاف هذا ينثّر للنّسيم دراهما ... ونثار ذا بخفائف الأنصاف وقوله: [الطويل]

ولم أنس زهر اللّوز عند عشيّة ... وقد ميّلت ريح الصّبا لين أعطافه طربنا لتغريد الحمائم فوقه ... فنقّط وجه الأرض من جملة أنصافه وقوله: [الكامل] أين السيوف من العيون نسلّها ... غلظا وإن كانت بصقل تلمع إنّ السيوف قواطع بصقالها ... إلّا العيون إذا تصدّت تقطع وقوله: [الطويل] ولّما رأى حبّي سقامي يزيدني ... فقال: إلى كم ذا المقال يزيد (291) فقلت: وهل لي صحّة وسلامة ... وجفناك مرضى إن ذا لبعيد وقوله: [السريع] قلت لمن ينتف أصداغه ... لا يكره الريحان حول الشقيق واعتق لشعر الذّقن من نتفها ... فالشيخ سنّيّ يحبّ العتيق وقوله من قصيد: [الكامل] والياسمين كأنّه من فضّة ... قد صيغ للنّدمان كالصّلبان ولأجل ذا قد غرّد الشّحرور في ... حلل السّواد كحلية الرّهبان وقوله: [البسيط] بادر إلى فرص اللّذّات في الغلس ... واجل المدامة تغنينا عن القبس فمسكة الليل قد فتّت نوافجها ... على الرياض فأهدت أطيب النّفس «1» ووجه روضك بسّام ونرجسه ... محدّق الطّرف لا يخشى من النّعس

وإن رأيت النّدى في الأقحوان بدا ... فنزّه الطّرف بين الثّغر واللّعس وقوله: [الكامل] لا تعجبوا لسرور من أحببته ... ودمي عليه في المحبّة يسفك فدم الشقيق يسيل من وجناته ... وبجنبه ثغر الأقاحي يضحك وقوله في مثاقف: [المتقارب] لئن شبّهوا قدّه بالغصون ... أو الوجه بالبدر خافوا عليه وأخطا المشبّه في حقّ من ... غدا الغصن والبدر في قبضتيه وقوله: [الطويل] تتيّمت زهر اللوز من أجل سبقه ... يخبّرنا إنّ الرّبيع لقادم وأعجب ما عاينته منه أنّه ... يقطّع من أعضائه وهو باسم وقوله في أقطع: [الطويل] وبي أقطع ما زال يسخو بماله ... ومن قاصديه قطّ ما ردّ سائل (292) تناهت يداه فاستطال عطاؤها ... وعند التّناهي يقصر المتطاول وقوله مضمّنا: [الوافر] أحبّ الجحر دون الكسّ قصدا ... ولا أبغي على ذاك ازديادا ولي نفس تحلّ بي الرّوابي ... وتأنف أن يحلّ بي الوهادا وقوله: [السريع] باكر عروس الرّوض واستجلها ... وطلّق الحزن ثلاثا بتات بقهوة حلّت لنا كلّما ... حلّت لآلي القطر جيد النبات

68 - محمد بن علي، الحموي

وقوله: [الكامل] ومعقرب الأصداغ أسبل برقعا ... فسبا لكلّ معقرب ومبرقع قالت لواحظه لطالب قبلة ... في خدّه لا تخش قلب البرقع وقوله: [الوافر] بعيشك هاتها صفراء صرفا ... صباحا واطّرح قول النّصوح فهذي الشمس قد بزغت بعين ... تغامزنا على شرب الصّبوح وقوله: [الكامل] اشرب على الغيم الجديد عتيقا ... وانظر بكأسك لؤلؤا وعقيقا واطف اللهيب بكأس راحك ساعة ... واحرق همومك بالرّحيق حريقا والحق صبوحك بالغبوق لذاذة ... ما العيش إلّا صبحة وغبوقا من كفّ ساق صاغه منشيه من ... لطف فلم تنظر لديه عقوقا ساق أبعناه العقول بكأسه ... فأقام فينا للمسرّة سوقا ثمل المعاطف قدّه من لينه ... رشق القلوب به فصار رشيقا وشققت ثوب تصبّري من خدّه ... لّما له صار الشقيق شقيقا شرقت لرؤيته العيون بدمعها ... وجرت دما لما رأته شريقا وبريقه زاد الحميّا رقّة ... وبشعره زاد البروق بريقا (293) خرست أساوره وأنّ وشاحه ... فتخاله قلبا عليه خفوقا أرخى ذوائبه وقال أبينهم ... فرق فقلت له أراك دقيقا يجفو الصّديق صديقه في مثله ... ولطالما هجر الصّديق صديقا قد جاز في حدّ الملاحة مثلما ... فضل المؤيّد جاوز العيّوقا ومنهم 68- محمّد بن عليّ، الحمويّ المعروف بالشت.. «1» ومنهم: 69- عمر بن المظفّر بن عمر بن محمّد بن أبي الفوارس بن عليّ، الورديّ، أبو حفص، زين الدين «13» أحد القضاة ببلاد حلب، وفي ذلك قال: «2» [الكامل] قد قيل لي قاض وأيّ فضيلة ... لاسم هو المستثقل المنقوص «3»

قلت: وهذا الورديّ ذو أدب. حسبك ما تشمّ من شذاه، وتضمّ من ورده تحت قطر نداه. وأقمت قبل تمام هذا التأليف مدّة أسأل عنه الرّكبان، وأتطلّبه حتى جاءني منه أوائل ورد في أواخر شعبان، فتحرّجت بمراهقة الصيام من إدارة كؤوسه، وتحجّرت في كتمانه خوفا أن يجعل رمضان نهار أكله بشعشعة شموسه، وقلت لسابق سحابه: أمسك عنانك الصيّب، ولمورد ورده من أين لك هذا النّفس الطّيّب، ونظرت إلى مدبجه، وقلت: إنّك للعلم الفرد، ثم التفتّ إلى أرجه، وقلت: وإنّك ماء الورد إن ذهب الورد. وتحيّرت هل هو مما أنبتت حلب أو نصيبين، وهل هو مما شحّ به الشّجر أو درّ من دارين. ورأيت ما ينسب إلى الخدّ الورديّ في ديباجته، وإلى المدام الورديّ في زجاجته. لا بل هو الورد على رغم

المنكر، وهو المضاعف حسنه إن كرّر. ثمّ قدمت حلب فأتاني، وعرض عليّ من شعره كلّ غضّ القطاف، ورديّ العطاف، لا يشكّك فيه الممتري (294) ، ولا يرتاب قبل جفاف النّدى عن الورق أنّه الورد الطّري، فاجتنيت به الورد من غصنيه، واجتلبت الورد لكنّه مما لا يعدّه مرتبط الجياد في حصنيه، واجتبيت الورد إلّا أنّه الأسد المتعقع زئير لسنه، واجتليت الورد إلّا أنّه العنبر الورد في يد مختزنه، وكدت أستخرج منه ماء الورد إلّا أنه قد أعرق، وتكلّل منه بالجوهر مثل لؤلؤ الطّلّ المفرّق، وقلت بوركت من ورديّ يعير ثغور العذارى عقوده المجوهرة، وورد منسوب في نصيب نصيبين لا قطعت أيدي الحوادث من أنسابه شجرة، وظللت أنشدها ويجتهد الحسود فلا يقدر يجحدها، وطفقت أقلّب جنيّه الورديّ، وأقبّل شفاه ورده، والساقي يتوهّم فيقول تارة: دع قدحي. وتارة يقول: خلّ خدّي، وأجتني باكورته من فرعه المنتمي إلى علي، وأنشر نشره ورياحه تضرّ حاسده الجعليّ. ولو عاصره ابن قلاقس وعقل، لقال: دعني أتستّر بورقي، وأختبيء من الأرض في نفقي، وأسرق من وشيه الورديّ خضرة سرقي. ولما أدّعى- وقال الحقّ- بنفسج صبحي، ووردة شفقي، ولو جاء بكيرا في أوّل الأوان لما وسم الأبيوردي في اسمه بالزّيادة، ولا كان إلّا عبده أبو عبادة، ولكان صنو الصنوبريّ لا بل أبان عجزه على التّحقيق، وقصوره في وصف الرّوض الأنيق، وعرّفه- وقد ضيّع عمره في وصف الرّوض وشقيقه- بأنّ ساعة من الورد بعمر الشّقيق. وهو ممّن ضرب إلى الفقه بعرق، وظهر له في النّحو حذق. وولي القضاء وهو له مستحقّ. ومن شعره الذي يقرّ له الكلام الحرّ بالبرق، وتسأله القرائح المماتنة الرّفق، ما أثبته له الفاضل أبو الصفاء خليل الصّفّديّ. ومن خطّه نقلت، وفي أثنائه أبيات لأبي الصفاء ذكرها، واعترض بمثل أثناء الوشاح المفصّل دررها، كان قد أنشدها لقاضينا الورديّ، فأخذ معناها قسرا، وركّبها في صورة أخرى، إلّا أنه استزار منها حلم الطّيف، وأكرم ملقيها لمّا أتته من حلب إلى دمشق، وقال يا كرام الورد ضيف، ومما ذكر للوردي قوله المستدعي يحثّ كؤوس المدام، وكيف (295) لا، وهي أيّام الورد في غبوق الغمام. فمنه قوله: «1» [الكامل] أتظنّني أصغي إلى اللوّام ... في حبّ من ذلّي بها إكرامي فبقدّها وبخدّها وبثغرها ... غصن وتفاح وحبّ غمام لما تبدّت بين أتراب ومن ... سحب البراقع لاح بدر تمام «2» ناديت يا قلبي ويا طرفي معا ... أنا قد وقعت ففارقا بسلام «3»

وقوله: «1» [الخفيف] سل وميض البروق عن خفقاني ... وعليل النّسيم عن جثماني ولهيب الهجير عن نار قلبي ... وخفيّ الخيال عن أجفاني وقوله: «2» [الكامل] إن عاد لمع البرق يخبر عنكم ... وأتى القبول مبشّرا بقبولي فلأقدحنّ البرق من نار الحشا ... ولأخلعنّ على النّجوم نحولي وقوله: «3» [الوافر] وسود صيّرتها السّود بيضا ... فلا تطلب من الأيّام بيضا فبعد السّود ترجو البيض ظلما ... وقد سلّت عليها السّود بيضا وقوله: «4» [البسيط] انهلّ أدمعها درّا وفي فمها ... درّ وبينهما فرق وتمثال لأنّ ذا جامد في الثغر منتظم ... وذاك منتثر في الخدّ سيّال وقوله: «5» [الخفيف]

جاءنا الورد في بديع زمان ... فقطعناه في منى وأمان ونهبنا فيه لذيذ وصال ... وهتكنا فيه عروس الدّنان وغلطنا فيه ببعض ليال ... فخلطنا شعبان في رمضان وقوله: «1» [الكامل] أنّى لورقاء الغضا تشكو النّوى ... وغدت مضاجعة قضيب البان فلو طوّقت جيدا وقد خضبت يدا ... وشدت بألحان على عيدان وقوله: «2» [الكامل] ومرنّح الأعطاف مهضوم الحشا ... يهتزّ من هيف بلين قوام نمّ العذار على صحيفة خدّه ... أنا خائف من فتنة النّمّام (296) وقوله: «3» [البسيط] أحاط بالخال فوق الخدّ عذاره ... لّما تكوّن في نور ونيران مكان عابد نار فوق وجنته ... وقد غدا راهبا في دير شعران وقوله: «4» [البسيط] لّما رأوا حسن شامات بوجنته ... وقد نما حولها خاف من الزّغب قالوا لقد شان شامات له شعر ... فقلت والله ذا من أفحش الكذب لكنّها نفحات المسك قد نثرت ... وصيغ منثور ذاك المسك بالذّهب وقوله: «5» [البسيط]

زهت عقارب أصداغ له مسخت ... في نار وجنته نملا وما احترقت حتى إذا اجتمعت عادت بوجنته ... حبّات مسك على خدّيه واخترقت وقوله: «1» [البسيط] قد خطّ في خدّه من زغب ... فقال لي عاذلي هل عنه سلوان أما ترى نمّ نبت فوق وجنته ... فقلت ما نمّه زور وبهتان وإنّما كتبت كلّ المحاسن في ... صحيفة الخدّ والسّطران عنوان وقوله: «2» [البسيط] لا تحسبوا شعرا من فوق وجنته ... يشين خدّا صقيلا راق منظره لكنّه سلّ من أجفان مقلته ... سيفا فمثّل في الخدّين جوهره وقوله: «3» [البسيط] كأنّ عارضه في الخدّ حين نما ... خفيّ غيم بدا في جانب الشّفق أو عنبر الخال فوق الخدّ محترق ... دخّانه قد علا في خدّه الشّرق وقوله: «4» [الرمل] بي من لو قال لي مبسمه ... ادن والثم غرت أن ألثمه غاب عن عيني نهارا كاملا ... ليتني أعلم من علّمه وقوله: «5» [المجتث]

إن جزت سلعا فسل عن ... ظبي من الظّبي أحسن (297) مكّنته من فؤادي ... ومهجتي فتمكّن «1» لا تطلبوا فيه صبري ... فالصّبر أوهى وأوهن «2» أفنيت فيه وجودي ... ولست أسمع ممّن وقوله: «3» [السريع] علقت أعرابيّة ريقها ... شهد ولي فيها عذاب مذاب «4» طرفي بها نبهان والرأس من ... شيبان والعذال فيها كلاب «5» وقوله: «6» [المتقارب] وأفشيت سرّي إلى صاحبي ... فعدت له طول دهري ذليلا «7» فوا أسفا كيف أودعته ... ليوم العداوة سيفا صقيلا وقوله: «8» [مجزوء الرجز] أنتم أحبّائي وقد ... فعلتم فعل العدى حتّى تركتم خبري ... للعاشقين مبتدا «9»

وقوله: «1» [السريع] إذا مضى للمرء من عمره ... خمسون عاش العيشة السيّئة وإن شكا قال له دهره ... أجمل فلي عندك نصف المئة «2» وقوله: «3» [الرمل] جاءنا ملتثما مكتتما ... فدعوناه لأكل وعجبنا مدّ في السّفرة كفّا ترفا ... فحسبنا أنّ في السّفرة جبنا وقوله: «4» [مجزوء الرجز] قلت وقد عانقته ... عندي من الصّبح قلق قال: وهل يحسدنا ... قلت: نعم: قال: انفلق وقوله: «5» [السريع] بالله يا معشر أصحابي ... اغتنموا علمي وآدابي فالشّيب قد حلّ رأسي وقد ... أقسم ما يرحل إلّا بي وقوله: «6» [الوافر]

وكنت إذا رأيت ولو عجوزا ... يبادر بالقيام على الحرارة (298) فأصبح لا يقوم لبدر تمّ ... كأنّ النّحس قد ولي الوزارة وقوله: «1» [المنسرح] رامت وصالي فقلت لي شغل ... عن كلّ خود تريد تلقاني قالت: كأنّ الخدود كاسدة ... قلت: كثيرا لقلّة القاني وقوله: «2» [مجزوء الرجز] لا تصحبنّ أعورا ... وإن تناهى زينه لو كان فيه راحة ... ما فارقته عينه وقوله: «3» [مجزوء الكامل] لّما شتت عيني ولم ... ترفق لتوديع الفتى أدنيتها من خدّه ... والنار فاكهة الشّتا وقوله: «4» [السريع] لما رأى الزهر الشقيق انثنى ... منهزما لم يستطع لمحه وقال من جاء؟ فقلنا له: ... «جاء شقيق عارضا رمحه» «5» وقوله: «6» [السريع]

من كان مردودا بعيب فقد ... ردّتني الغيد بعيبين الرأس واللّحية شابا معا ... عاقبني الدّهر بشيبين وقوله: «1» [مجزوء الرمل] دهرنا أضحى ضنينا ... باللّقا حتى ضنينا يا ليالي الوصل عودي ... واجمعينا أجمعينا وقوله: «2» [الرجز] أنتم أحبّائي وقد ... فعلتم فعل العدى حتى تركتم خبري ... في العالمين مبتدا «3» وقوله: «4» [السريع] وتاجر شاهدت عشّاقه ... والحرب فيما بينهم سائر «5» قال: علام اقتتلوا هكذا ... قلت: على عينك يا تاجر وقوله: «6» [الكامل] مرض الفؤاد وصحّ ودّي فيكم ... وأقام تذكاري وجفني نازح «7» إنسان عيني كم سهاد كم بكا ... «يا أيّها الإنسان إنّك كادح» «8» وقوله: «9» [البسيط]

يعيب شعري أقوام وأعذرهم ... فإنّ شعري ورديّ وهم جعل شعري وإن كان سهلا فهو ذو ثقل ... على حسودي فهو السّهل والجبل

(299) وقوله: «1» [مجزوء الرمل] العروضيّ فلان ... أن بدت منه هنات فله جدّات سوء ... فاعلات فاعلات «2» وقوله: «3» [السريع] مرّت نساء كالظّبا خلفها ... أدهم يحميها عن الكيد قالوا لما يصلح؟ قلت الظّبا ... للصّيد، والأدهم للقيد وقوله وزاده: «4» [البسيط] ديار مصر هي الدّنيا وساكنها ... هم الأنام فقابلهم بتقبيلي «5» يا من يباهي ببغداد ودجلتها ... مصر مقدّمة والسّرح للنيل «6»

المصادر والمراجع

آخر السّفر السادس عشر من كتاب مسالك الأبصار. ويتلوه- إن شاء الله- في السابع عشر. ثمّ لم يبق إلّا ذكر الشّعراء بالجانب الغربيّ. الحمد لله وحده، والصلاة والسّلام على سيّدنا محمّد، خاتم النبيّين، وعلى آله وصحبه أجمعين. طالعه وانتفع منه: يحيى بن محمد بن الحسين المدني طالعه أفقر العباد: حليم البغدادي سنة 1209 طالعه أفقر عباد الله ربّي: أحمد خليل الشافعي عفا الله تعالى عنهم سنة 834 المصادر والمراجع 1- التذكرة الفخرية. الإربلي. حققها نوري القيسي وحاتم الضامن. المجمع العلمي العراقي. بغداد 1984 م. 2- تهذيب تاريخ دمشق. عبد القادر بدران. دار المسيرة. بيروت 1399 هـ 1979 م.

3- خريدة القصر وجريدة العصر. العماد الأصفهاني. - قسم الشام. حققه شكري فيصل. مجمع اللغة العربية. دمشق 1375- 1384 هـ 1955- 1964 م. - قسم العراق. حققه محمد بهجت الأثري. المجمع العلمي العراقي. بغداد 1375- 1398 هـ 1955- 1978 م. - قسم فارس. حققه عدنان محمد آل طعمة. وزارة الثقافة. طهران 1420 هـ 1999 م. 4- الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة. ابن حجر العسقلاني. دار الجيل. بيروت 1965 م. 5- دمية القصر وعصرة أهل العصر. الباخرزي حققه محمد ألتونجي. بدون تاريخ ومكان طبع. 6- ديوان ابن الرومي. حققه حسين نصار. الهيئة المصرية العامة للكتاب. القاهرة 1974- 1981 م. 7- ديوان ابن الساعاتي. حققه أنيس المقدسي. الجامعة الإمريكية. بيروت 1939 م. 8- ديوان ابن الظهير الإربلي. حققه ناظم رشيد جامعة الموصل 1988 م. 9- ديوان ابن عنين. حققه خليل مردم. دار صادر. بيروت. د. ت. 10- ديوان ابن الوردي. حققه أحمد فوزي الهيب. دار القلم. الكويت 1407 هـ 1986 م. 11- ديوان الأعشى. حققه محمد محمد حسين. دار النهضة العربية.

بيروت 1974 م. 12- ديوان التلعفري. صححه محمد سليم الأنسي. المطبعة الأدبية. بيروت 1310 هـ. 13- ديوان الحاجري. مطبعة فكري. القاهرة 1280 هـ 14- ديوان أسامة بن منقذ. حققه هاشم مناع. دار المنار. دبي 1417 هـ 1996 م. 15- ديوان سبط ابن التعاويذي. دار صادر. بيروت 1967 م. 16- ديوان الشاب الظريف. حققه شاكر هادي شكر. مطبعة النجف. النجف 1967 م. 17- ديوان الصرصري. حققه مخيمر صالح. جامعة اليرموك. إربد 1990 م. 18- ديوان صفي الدين الحلي. حققه محمد حوّر. المؤسسة العربية للدراسات. بيروت 2000 م. 19- ديوان عفيف الدين التلمساني. حققه يوسف زيدان. أخبار اليوم. الإسكندرية 1989 م. 20- ديوان فتيان الشاغوري. حققه أحمد الجندي. مجمع اللغة العربية. دمشق 1387 هـ 1967 م. 21- ديوان المتنبي. دار صادر. بيروت 1958 م. 22- الروضتين في أخبار الدولتين. شهاب الدين المقدسي. دار الجيل. بيروت. د. ت.

23- سبط ابن التعاويذي- حياته وشعره. نوري شاكر الآلوسي. مطبعة الأزهر. بغداد 1975 م. 24- سقط الزند. أبو العلاء المعري. دار الحياة. بيروت 1965 م. 25- صفي الدين الحلي- حياته وآثاره وشعره. محمد حوّر. دار الفكر.

المحتوى

بيروت 1410 هـ 1990 م. 26- فوات الوفيات. ابن شاكر الكتبي. حققه إحسان عباس. دار الثقافة. بيروت 1973 م. 27- مختار ديوان أيدمر المحيوي. دار الكتب المصرية. القاهرة 1931 م. 28- معجم الأدباء. ياقوت الحموي. حققه إحسان عباس، دار الغرب الإسلامي. بيروت 1993 م. 29- النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة. ابن تغري بردي. وزارة الثقافة. القاهرة. د. ت. 30- النكت العصرية في أخبار الوزارة المصرية. عمارة اليمني. مكتبة مدبولي. القاهرة. ط ر 2 1411 هـ 1991/م. 31- الوافي بالوفيات. الصفدي. فسبادن 1962- 1998 م. 32- وفيات الأعيان. ابن خلكان. حققه إحسان عباس. دار صادر. بيروت 1398 هـ 1978 م. المحتوى - تقديم 5 - صور الصفحات الأولى والأخيرة من المخطوط 7 1- حكينا البغدادي 13 2- ابن جارية القصار 20

3- ابن سيار الهروي 22 4- عيسى البزاز 24 5- أسامة بن منقذ 25 6- أبو الحسن بن منقذ 42 7- علي بن مقلد 43 8- مرشد بن علي 44 9- ميد بن مالك 44 10- ابن أبي العلاء 45 11- أبو الفتح بن منقذ 46 12- نصر بن علي 46 13- مرهف بن أسامة 47 14- عبد الرزاق بن أبي حصين 48 15- أبو العلاء بن أبي الندى 49 16- محمد بن حيدر البغدادي 52 17- سبط ابن التعاويذي 53 18- ابن المعلم الواسطي 64 19- عمارة اليمني 77 20- ابن الساعاتي 98

21- ابن عنين 102 22- إسحاق بن أبي البقاء 120 23- سليمان بن العجمي 121 24- محيي الدين بن زيلاق 122 25- ابن الهيذام الموصلي 130 26- ابن الحلاوي 130 27- ظهير الدين الإربلي 135 28- ابن الصفار 139 29- التلعفري 144 30- نجم الدين القمراوي 154 31- فتيان الشاغوري 155 32- عفيف الدين التلمساني 156 33- محمد بن سوار 156 34- نجم الدين الحلي 159 35- ابن نجم الموصلي 161 36- أيدمر المحيوي 161 37- سعد الدين بن عربي 163 38- أبو عبد الله الكردي 170

39- بدر الدين الذهبي 170 40- محمد بن الخضر الطبري 183 41- نور الدين الأسعردي 185 42- جمال الدين الأموي 187 43- الصرصري 188 44- الحاجري 195 45- ابن تميم الإسعردي 204 46- الأمير السليماني 232 47- الحسام الأحدب 241 48- عبد الله الأنصاري 246 49- الحافظ اليغموري 249 50- جوبان القواس 251 51- الشاب الظريف 260 52- السراج المحار 271 53- علاء الدين الوداعي 279 54- شمس الدين الطيبي 288 55- شهاب الدين ابن دمرداش 297 56- محفوظ العراقي 302

57- شمس الدين الحافظ 306 58- شمس الدين الصائغ 306

الجزء التاسع عشر

[الجزء التاسع عشر] بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة كلّفنى المجمع الثقافي مشكورا، بتحقيق الجزء التاسع عشر من كتاب «مسالك الأبصار في ممالك الأمصار، للقاضي شهاب الدين أحمد بن يحيى ابن فضل الله العمري، وزوّدني بنسخة فريدة من مخطوطة هذا الجزء. وتم الاتفاق بيني وبين المجمع بتاريخ 23 من جمادى الأولى سنة 1421 هـ الموافق 23/8/2000 م، على أن تكون المدة المقررة للانتهاء من التحقيق سنة واحدة، وقد انتهيت من التحقيق بتاريخ 15/4/2001 م. وقبل أن أتحدث عن المخطوطة أرى من المستحسن أن أذكر شيئا مقتضبا عن مؤلفها، وأجتزئ بما جاء مختصرا عنه في الوافي بالوفيات للصفدي. قال: أحمد بن يحيى بن فضل الله العمري، القاضي شهاب الدين أبو العباس، هو الامام الفاضل البليغ المفوّه الحافظ حجّة الكتّاب، إمام أهل الأدب، أحد رجالات الزمان كتابة وترسلا، يتوقد ذكاء وفطنة، ولا يعتقد أن بينه وبين القاضي الفاضل من جاء مثله، فقد رزقه الله أربعة أشياء قلما تجتمع في غيره وهي: الحافظة والذاكرة والذكاء وحسن القريحة في النظم والنثر. وكان ذا معرفة دقيقة بتاريخ المغول من لدن جنكزخان وهلمّ جرّا، وإماما في معرفة الممالك والمسالك وخطوط الأقاليم ومواقع البلدان، ولد بدمشق ثالث شوال سنة سبعمائة، وأخذ العلم عن كبار رجال العصر، وله مصنفات كثيرة أشهرها (مسالك الأبصار في ممالك الأمصار) ، يقع في عشرين مجلدا.

وقد أطنب الصفدي في ترجمته له، وذكر الكثير من صفاته وأحواله وكان له معه مكاتبات. وتوفي الشهاب يوم عرفة سنة تسع وأربعين وسبعمائة «1» . تقع المخطوطة في (371) صفحة، وتشتمل على أربع وعشرين ترجمة تبدأ بترجمة الشاعر السراج الورّاق، واستغرقت هذه الترجمة مئتين وخمس صفحات، وهي أطول التراجم. وقد عمد ابن فضل الله- على ما يبدو- إلى ديوان الشاعر فاختار منه ما شاء مرتبا على حسب القوافي. اختار مقطوعات كما اختار قصائد ورسائل، ومن الطريف أن أطول قصيدة اختارها له كانت في رثاء حمار. وتلي هذه الترجمة اثنتان وعشرون ترجمة لعدد من الأدباء والشعراء كانت تتراوح هذه التراجم بين صفحة واحدة أو صفحات. وتنتهي المخطوطة بترجمة ابن نباتة المصري وهي أطول التراجم بعد ترجمة الورّاق، فقد استغرقت مائة وثلاث عشرة صفحة، اختار للشاعر قصائد ومقطوعات ولكنه لم يلتزم بإيرادها كما جاءت متسلسلة في الديوان، كالذي فعله في ترجمة السراج. المخطوطة كتبها ناسخ واحد، وهذا واضح في الخط في عامتها، إلا في صفحة واحدة فقد كانت بخط مغاير تكاد كلماتها تكون مندمجة، حتى ليصعب فكّ الكثير من كلماتها، وقد بذلت الكثير من الجهد في سبيل معرفة ما جاء فيها، وتركت مالم يتيسر لي قراءته، ولهذا أثبت صورة، الصفحة هذه لعل أحدا يستطيع قراءة ما لم يتسنّ لي قراءته.

في صفحة العنوان طرر وتملكات وكلها لا تكاد تتبين كلماتها. كتبت تراجم المخطوطة بخط النسخ فيما كتب الشعر بخط الثلث. وأسطرها تختلف في أعدادها بحسب نوع الشعر المتمثل به، فإذا كان المختار قصيدة فالأسطر تكون أكثر عددا مما هو عليه إذا كان المختار مقطوعة- وتركت في المخطوطة فراغات كثيرة تتراوح بين الأسطر والصفحة وكأنها مواضع لبقايا ترجمة أو لترجمة ساقطة، وقد أشرت إلى ذلك في أماكن ورودها. وفي ترجمة ابن نباتة لم يذكر فيها سوى اسمه واسم أبيه وجده. لم تقابل النسخة على نسخة أخرى، وهناك تعليقات في حواشيها أكثرها استحسان لشعر الشاعر المتمثل بشعره وخاصة شعر السراج الوراق وابن نباتة وهي تعليقات ليست بذات قيمة يمكن أن يفيد منها المحقق. لم يلتزم ابن فضل الله في إيراد التراجم بحسب تسلسلها التاريخي أو الأبجدي ولم يذكر تواريخ مواليد أصحابها ولا وفياتهم، وكان يكتفي بسرد أخبار عنهم أو أوصاف لهم، بأسلوب مسجع، لا يخلو من مبالغة ومن تكلف أحيانا. وعلى الرغم من صحة ما كان يرويه من أخبار وأحاديث، فإنه كان غير دقيق في بعضها الآخر. ولم يقتصر على إيراد الشعر وإنما كان يذكر ما للمترجم من رسائل أيضا. وقد تيسر لي أن أقف على سبع عشرة ترجمة في مصادر شتى فأثبت ما كان مبترا في النسخة أو فارغا فيها. أما ما جاء في هذه المخطوطة من أمور وعلامات فيمكن إجماله فيما يأتي:- 1- جمال خط الناسخ وضوحه.

2- ضبط ما جاء في المخطوطة شعرا ونثرا. 3- شيوع الأخطاء: من تحريف وتصحيف ونحو وإملاء. 4- سقوط كلمات من النصوص. 5- اختلال الأوزان العروضية. 6- كتابة كل بيتين بيتا واحدا. 7- وضع حاء صغيرة تحت الحاء الكبيرة. 8- وضع صاد صغيرة تحت الصاد الكبيرة. 9- وضع ألف (1) تحت الحروف المعجمة كالجيم والخاء والضاد بدل النقطة. 10- إهمال نقاط الكثير جدا من الحروف. 11- شطب أو ضرب عدد كثير من المقطوعات أو أبيات من القصائد. 12- انطماس عدد من الكلمات وخاصة ما جاء في الحواشي. 13- وضع ثلاث نقاط على هذا النحو ... بين كل فقرة وأخرى. 14- كتابة: أرى- أرا، الكرى- الكرا..... 15- في ترجمة من كانت لهم تراجم في مصادر أخرى، وفي ترجمة ابن نباتة يمكن القول إن هناك مقابلة بين هذه التراجم والمصادر الأخرى، وبخاصة ترجمة ابن نباتة، حيث كان لديوان الشاعر غير المحقق أثر في تصحيح الكثير مما وقع في المخطوطة من هفوات. أما نصوص السراج الوراق وهي أطول النصوص فليس هناك مصدر آخر يمكن أن يكون نسخة أخرى. 16- كثرة التضمين والاقتباس لدى الشعراء.

17- خلو النسخة من ذكر اسم ناسخها أو تاريخ النسخ. وأما عملي في التحقيق فيتلخص فيما يأتي: 1- تصحيح ما وقع من أخطاء مختلفة في النصوص من تصحيف وتحريف ونحو وإملاء. 2- تقويم ما وقع من اختلال في الأوزان. 3- وضع أسماء للبحور. 4- ضبط النصوص التي لم تضبط. 5- التعريف بالكثير مما ورد من أسماء وحوادث أو نقص في التراجم. 6- تخريج النصوص من أشعار وآيات وأمثال ومنها الأشعار المضمنة. 7- شرح ما بدا لي أنه محتاج إلى الشرح من الألفاظ. 8- كثرة التقديرات لما سقط من كلمات وخاصة الشعر. 9- استشارة عدد من المختصين في عدد من الحوادث والأسماء الواردة في النصوص. 10- ترك ما لم يتيسر لي تقويمه من أوزان أو قراءته من كلمات وهو قليل جدا بالقياس إلى ضخامة ما في المخطوطة من نصوص. 11- إسقاط بعض حروف الكلمات المكشوفة وإبقاء ما يدل عليها لدى القرّاء المتمرسين مراعاة للآداب. 12- استعنت بحواشي النجوم الزاهرة في شرح عدد من المصطلحات أو الأسماء، لأنها حواش حديثة.

13- لكثرة الأسماء وتشابهها في الكنى والألقاب حتى ليجعل البت فيها غير دقيق، استعنت بكلمة (لعل أو لعله) حذرا من الوقوع في الخطأ. 14- رمزت للمخطوطة بالحرف (م) ولديوا ابن نباتة بالحرف (د) . وبعد: فإن التحقيق عمل علمي وأخلاقي لا يقدره إلا من يمارسه ويعانيه، وهو على ما فيه من حلاوة التقويم ولذته، ولا يخلو من مرارة العناء وبذل الجهد الجهيد، وقد بذلت ما في الطاقة في سبيل تقويم نص تعرّض إلى ما تعرّض إليه من شيوع الآفات، وجهل النساخ، وانفراد النسخة وحواشي الكتاب شهيد على هذا الجهد المبذول. ومن الله التوفيق

1 - السراج الوراق:

بسم الله الرحمن الرحيم، وعلى الله توكلت ومنهم 1- السّراج الورّاق: «1»

سراج ما برح لسانه يلهج، وإحسانه في تجلية الظّلم ينهج، طارت أجنحة ضرمه بالسّمعه، وتوقّد منه السّراج وقد شرقت بالبكاء الشّمعه. وكان في شعراء ذلك العصر على توقّد جمهرتهم، وتوقّي نيران أسرتهم، هو المغشىّ ناره دون القبيله، والمشكور بما يعاب به غيره من طول الفتيله، ولم نطمع تلك الرّياح الهوابّ في إمالة شعلته، ولا في إماتة مصباحه، ظمآن بغلّته «1» ، وكان لو قدح به زند الفجر لأنار، أو استصبح «2» به اللّيل لما ميّزت ساعاته من

النهار، أو شبّت بناره الرّياض لعمّمت كلّ منابتها بالنّوّار «1» ، أو قذفت بها الحياض لتممّت للقرى «2» بها مواقد النار، وكم له من بيت يؤسّسه، (ومشكاة يكاد زيتها يضيء، ولو لم تمسسه (نار) «3» . لو استضاء بسراجه ابن المعتز «4» لما سمح بعاريته للصباح، أو التّنوخيّ «5» لما

(....) «1» لبريق الصّفاح، أو الإسكندريّ «2» لما عدل عن البحر إلى الخلج، ولا وجد غنى عنه من قال: (الرمل) إنّ بيتا أنت ساكنه ... غير محتاج إلى السّرج «3» بل لو عنّ ذكراه لابن أبي الخصال «4» ، لعلم أنّه ما أخصب، أو

الجزريّ «1» لما لقي الكباش بقرن أعضب «2» ، بل لو لم يخيّم على معاصره ابن الخيمىّ «3» ، لما عاج معاجا، ولا ظنّ أنّ برق الجزع «4» ، وإن أوفى إمداده، ولا يقال إنّه راق إلّا وفي الورّاق ما فيه وزياده.

وكان هو والجزّار «1» فرسي رهان وقبسي نار، لا يسكت لهما لسان، يتناقضان تناقض الفرزدق «2» وجرير «3» ، ويتعارضان تعارض ابن القيسرانيّ «4»

وابن منير «1» ، يطلعان طلوع الشّمس والقمر المنير، ويقولان قول الانصار، منّا أمير ومنكم أمير «2» . وكان شعراء ذلك الصّدر معهما في المطارحة على حسب الاتّفاق، وما يقدّر لكلّ واحد منهم من الاتّفاق، إلّا أنّ الحلبة «3» كانت تخلى لهذين الفحلين وهما لا يبقيان، والأرض لا تسعهما، ومرج البحرين يلتقيان «4» ، إلّا أنّ أبا الحسين الجزّار (ممن ذبح معه بسكينه، وعرف قدر مسكينه) «5» . وأصبح به لا يعرف شحمه من ورمه، ولا يرى معه 7 لّا قطعة لحم، ممّا علق على وضمه «6» ، لا تضيء مع سراجه شمسه، ولا يمتدّ مع جوده «7» نفسه. وكتب الورّاق لوالي مصر الدّرج «8» ، وقطف من ثمر الإنشاء إلّا أنّه ما تعلّق

(إذا سلك سبيله) «1» إلّا بفج «2» . فأمّا نظمه فهو السّلوك «3» ، ورقمه «4» ، لم يزل لكبراء الوزراء والملوك. وجمع شعره بنفسه، وجاء يزيد على ألف ورقة، والمختار من هذه الطبقة قوله: (كامل) - 1- 1- شجّت جبين مدامها بالماء ... فبنانها منها خضيب دماء 2- زمّت أشعتها «5» الدّجى فمضى وقد ... سلب الحباب قلادة الجوزاء 3- وبدت على وجنات «6» من طافت بها ... فرأيت جذوة مارج في ماء 4- حمراء تسكر من جفون مديرها ... ما أشبه الحمراء بالحوراء - 1- كررت الأبيات مع زيادة بيت في الرقم (29)

- 2- «1» 4/أ (و) قوله: (وافر) 1- سألتهم وقد حثّوا المطايا ... قفوا شيئا «2» فساروا حيث شاؤوا 2- وما عطفوا عليّ وهم غصون ... ولا التفتوا إليّ وهم ظباء - 3- (و) قوله: (كامل) 1- يا ربّ صن وجهي عن الكرماء ... فضلا عن الحاجات للؤماء 2- فلقد رأيت القوم جفّوا أيديا ... حتّى كأن لم يخلقوا من ماء - 4- «3» وقوله: (سريع) 1- يا بني الآداب قد مات الرّجا ... وقد اشتدت وعزّ النّجباء - 2- - 4-

2- سفن الآمال في بحر المنى «1» ... وحلت «2» منّا فأين الرّؤساء؟ - 5- وقوله: (وافر) 1- كفى ضعفاء مصر ظالميها ... وأورد عدله ذيبا وشاء 2- وأظهر فيه سرّا من عليّ ... أضاء لنا ومن يخفي ذكاء «3» 3- ولم نعجب لفيض النّيل «4» إني ... وإبراهيم علّمه الوفاء - 6- «5» وقوله: (كامل) 1- ولقد أدام الصّاحب بن محمّد ... بذل القرى فى القفرة البيداء - 5- - 6-

2- ولو أنّ فيها حاتما «1» منع القرى ... وغدا ابن مامة باخلا بالماء 5/ب و (قوله) «2» (متقارب) 1- تجلّى لنا البدر في خلعة ... لفاض عليها السّنا والسّناء «3» 2- من الفاختيات «4» لمّا بدت ... بها طلعة البدر كانت سماء - 7-

- 8- وقوله: (وافر) 1- أمولانا الأمير وأنت سمح ... يجيب نداك من قبل النّداء 2- لقد برد الهواء عليّ فارحم ... فما حال السّراج مع الهواء؟ - 9- وقوله: (كامل) 1- يدعو الضّيوف بألسن من ناره ... يمسي «1» الكريم بها مجاب دعاء 2- يمحو سواد اللّيل ألوية لها ... حمر تسير أمام كلّ لواء 3- يأوي لها يمن وقيس راية ... حمراء تصدر «2» عن يد بيضاء 6/أ 4- فبأيّ قدح نرتقي لعلائه ... ما أبعد الشّعرى «3» من الشّعراء - 10- وقوله: (كامل) 1- يا واهب «4» الصّلحاء من دعواته ... فوق الذي يحوي مجاب دعائها - 9- - 10-

2- سالت لك الرّحمن في جنح الدّجى ... تحت المسوح «1» السّود من ظلمائها - 11- 7/ب وقوله: (كامل) 1- ما رثّ لا وأبيك عهد زنادي ... بل عزّ عنك وعن أبيك عزائي 2- أجري الدّموع على الدّموع وذو الأسى ... من طالب العبرات بالإبطاء 3- إن كان دمع العين لم يبلغ دمي ... فوراء شهب الدمع جمر دماء 4- ما صان أحمد «2» ماله عن سائل ... فيصون ما في جفنه من ماء 5- ولطالما جلّى سواد مطالب ... جود ابن موسى ذي اليد البيضاء 6- ولكم أبى «3» في الجود معنى قد شأى ... معنا به وطوى حديث الطّائي «4» - 11-

- 12- وقوله: (رجز) 1- عندي منديل إذا غسّلته ... غسّلت ماء جاريا بماء 8/أ 2- لا أستطيع نشره مخافة ... عليه من غائلة «1» الهواء - 13- وقوله: (كامل) 1- من كلّ خوّاض الغمار «2» بلأمة ... نسجت عليه من حباب الماء 2- وكأنّه ويداه في مجذافه «3» ... رام الطّعان بصعدة «4» سمراء 3- وتخال جلسته على كرسيّه ... للجذف فوق طمرّة «5» جرداء - 12- - 13-

- 14- وقوله: (كامل) 1- شكواك من ألم المفاصل للّذي ... حمّلتها للمجد من أعباء 2- تقف البحار ولم تقف فارفق بها ... أو لم تكن عضوا من الأعضاء؟ - 15- «1» وقوله: (كامل) 1- ما حلّ عزمي مثل عقد قبائه ... بدر «2» يعدّ البدر من رقبائه «3» 2- يحلو مقبّله وبرد رضابه ... (كالأقحوان غداة غبّ سمائه) 3- يتشبّه الغصن الرّطيب «4» بقدّه ... يا غصن فاتك لست من نظرائه - 16- و (قوله) : (طويل) 1- تواضع عن مقداره وهو مرتق ... كذا البدر يدني النّور منه اعتلاؤه 2- أبيّ غدت آباؤه من علمتم ... ألا حبّذا آباؤه وإباؤه - 15-

- 17- وقوله: (وافر) 1- بكلتا الخلعتين «1» لك الهناء ... هما تشريف ملكك والشّفاء 2- فبرد أنت تبليه «2» وبرد ... له فتملّه ولك البقاء - 18- وقوله: (الخفيف) 1- جاذبت نسمة الصّباح ردائي ... عبثا جدّ في الهوى منه دائي 2- وأذاعت سرّ الرّياض وهل يكت ... سم بين النّسيم والآناء «3» 3- باكرتها غمامة شقّت الجي ... ب وجادت بدمعة الثّكلاء 4- فثغور الكمام «4» ذات ابتسام ... وجفون الغمام ذات بكاء - 19- وقوله: (رمل) 1- نفد «5» الزّيت الذي جدت به ... لسراج لك وقّاد الذّكاء - 17- - 18- - 19-

2- ذي لسان لك رطب بالذي ... طاب من حمد وشكر وثناء 12/أ 3- وهو أمسى في ذراكم «1» آمنا ... من هوى يغدو عليه أو هواء 4- غير أنّ السّرج «2» تحتاج إلى ... أن يزاد الزّيت في ليل الشّتاء - 20- وقوله: (وافر) 1- وسهّل حظّه رزقا عسيرا ... أراح به فؤادي من عنائه 2- وعاد لي الرّصاص به لجينا «3» ... فأصل سعادتي من كيميائه - 21- «4» وقوله: (الخفيف) 1- رفضوا الشّعر جهدهم ورقوه ... بينهم بالهوان والازدراء 2- فلو انّ الكتاب «5» كان بأيدي ... هم محوا منه سورة الشّعراء - 20- - 21-

- 22- وقوله: (وافر) 1- أرى إنجاز وعدك قد تمادى ... وطال مغيبه فمتى اللّقاء 2- وما زالت وعودك كالأعادي ... قصار العمر دام لك البقاء - 23- وقوله: (مجزوء الرمل) 1- خطّ في خدّك لام ... كدجى فوق ضياء 2- ظنّها من ظنّها آ ... خر وجدي وعنائي 3- وهي لو ينحون ما أن ... حوه لام الابتداء «1» - 24- 13/ب وقوله: (كامل) 1- قف نبك أبيات القريض فإنّها ... أقوت وكم حرست من الإقواء «2» 2- ولقد يقلّ لها بأن تبلي دما ... محضا لو حشتها من الكرماء - 23- - 24-

- 25- وقوله يرثي خادما لابن صندل الزّمام «1» : (كامل) 1- عمر المعمّر والصّغير سواء ... والموت داء ليس منه دواء 2- وإذا الرّدى جذب الزّحام وسيرنا ... متواصل فمناخنا «2» البيداء 3- جادت بهاء الدّين صندل ديمة ... وطفاء «3» تقفو إثرها وطفاء 4- ذا صندل «4» فوق الرءوس مكانه ... لم لا وفيه للرؤوس شفاء - 26- وقوله: (خفيف) 1- نام من نام وانفردت بهمّي ... أين أهلي يا ليل والأصدقاء؟ 2- ما أظنّ الصّباح حيّا فيرجى ... لك يا ليل في الصّباح البقاء - 25-

- 27- وقوله: (متقارب) 1- ذاك الأمير الذي مثله ... أحقّ وأولى بعقد اللّواء «1» 2- وإنّك أفرسها فارسا ... إذا ضاق بالخيل صدر الفضاء 3- وبدّلت البيض أغمادها ... بسود النّواصي «2» وحمر الدّماء 4- وأثمرت السّمر هام الكماة ... وعاجلنها بأوان الجناء «3» 5- وشمّرت «4» الحرب عن ساقها ... وقد سحب النّقع فضل الرّداء 14/أ 6- ومحمرّ بيضك فوق الرّءوس ... شقائق قد نبتت فوق ماء - 28- وقوله: (خفيف) 1- أنمت طرفي قريرا منك في دعة ... لموعد قد كفاني شرّ أعدائي - 27-

2- وقد أتى ضامن الشّختور «1» ملتمسا ... إنجاز وعدك يا ألفين مولائي 3- ومنزلي حفّه بحران دونكم ... وما ادّعيت لكم مشيا «2» على الماء - 29- «3» وقوله: (كامل) 1- شجّت جبين مدامها بالماء ... فبنانها منها خضيب دماء 2- وجلت مخدّرة الدّنان فدنّها ... من كفّها عذراء من عذراء 3- هزمت أشعّتها الدّجى فمضى وقد ... غنم «4» الحباب قلادة الجوزاء 4- وجنت على وجنات من طاقت بها ... فرأيت نارا أضرمت في ماء 5- حمراء تسكر من جفون مديرها ... ما أشبه الحمراء بالحوراء - 28- - 29-

- 30- (وقوله) (خفيف) 1- يا ربيع العفاة هذا الشّتاء ... من تولّى «1» شبابه والفتاء 2- وتولّت من كلّ أفق رياح ... تتّقيها قبل السّراج ذكاء 3- سرقوا لي في ليلة العيد ديكا ... (هو للعيش) «2» والعيون سواء 4- سرقوه وخلّفوا الفحم والثّل ... ج فحسبي مصيبة بلياء «3» 5- قد مضى العيد مثلما جا ... ء لا قلاء «4» عندي فيه ولا شواء 6- منذ عام وبّيته (و) له «5» قب ... ل غذائي غذاؤه والعشاء - 31- وقوله: (خفيف) 1- دعوة (لي) «6» في النّحو قد جمعتنا ... حلقة ثمّ فرّقتنا السّماء - 30- - 31-

2- فوهت حجّة «1» المبرّد فيها ... والكسائىّ راح والفرّاء - 32- وقوله: (متقارب) 1- يكافيك «2» عنّي إله السّماء ... فأدّى جميلك فوق الثّناء 2- رأيت سراجا خبا نوره ... فبادرت إنجاده بالضّياء - 33- وقوله: (مجزوء الرمل) 1- بك نور الدّين «3» أضحى ... مشرقا وجه رجائي - 32- - 33-

2- أبلغ القاضي نور ال ... دّين شكري وثنائي 3- وأنا اليوم سراج ... وهو نوري وضيائي - 34- وقوله: (الوافر) 1- وذى رمد «1» ثناني دون سعى ... لبابك بالثّناء وبالهناء 17/ب 2- وأرجو أن يعود ضياء عيني ... لها فيمدّها نور الضّياء - 35- وقوله: (وافر) 1- أمولانا ضياء الدّين «2» دم لي ... وعش طول الزّمان بلا انتهاء 2- فلولا أنت ما أغنيت شيئا «3» ... وما يغني السّراج بلا ضياء - 34- - 35-

- 36- وقوله: (بسيط) 1- لم أنس إذ ودّعتني وهي باكية ... وبالحشا ما بخدّيها من اللهب 2- فأرسلت لؤلؤا رطبا تكفكفه ... من فوق مختضب قان لمختضب 3- وبشّرتني بلقيا الطّيف قلت ومن ... ينام قالت لقد أجملت «1» في الطّلب 4- إن كنت سالبة عينيك نومهما ... فقد أمنّ على المسلوب بالسّلب «2» - 37- 21/ب وقوله: (خفيف) 1- عرف الموت قدر من هو طالب ... فألحّت صروفه والنّوائب 2- وأتى راجيا لبابك علما ... أنّ راجيك ليس يرجع خائب 3- قد أصمّ «3» النّاعي بك اليوم حتّى ... «4» رجبا فاسمه الأصمّ مناسب 4- ولئن متّ فيه فالآن لا ... يختلف النّاس في انقطاع الرّغائب «5» 5- كنت عبد الوهّاب من أنعم اللّ ... هـ علينا ومن أجلّ المواهب 6- كنت كالبدر طالعا في دجى الخط ... ب ولا بدّ أن يرى البدر غائب - 36- - 37-

7- قل لأبنائه وصدرهم الصّد ... ر وأصباهم له حكم شائب 8- إن هوى من سمائكم بدرها التّ ... مّ» فما عطّلت وأنتم كواكب - 38- 22/أوقوله: ويعرض (لمحامعه) (كذا) سيف الدين ابن اسباسلار «2» (بسيط) 1- السّيف خلفي فعذرا إن جرحت إذا ... عمّا يليق بأمثالي من الأدب 2- وقد تحقّق قربي من جنابكم ... والقرب منه لعمري أعظم القرب 23/ب 3- ولم أجد خشبا يدنو السّراج له ... قبلي وكم أتت الأشياء بالعجب 4- وفي يديك «3» أمان لا جتماعهما ... لخائب الجمع بين النّار والخشب - 38-

- 39- وقوله يهنئ حاجا ركب البحر: (طويل) 1- مساع «1» غدت في الله تنضى ركابها ... فأنجح منها عزمها وإيابها 2- وداعية للشّوق نحو مناسك «2» ... شفاء العيون الرّمد منها ترابها 3- ركبت إليها الهول في كلّ لجّة «3» ... كأنّ ندا كفّيك فيضا عبابها 4- وقد حجبت وجه الفضاء كأنّما ... جوانبها موصولة وسحابها 5- كأنّ اخضرار اللّجّ ضاهى سماءه ... وجارى عليها الجاريات «4» شهابها 6- كأنّ قلاع الفلك مدّت بجوّه ... جناحا به يبغي السّماء عقابها «5» 7- فتلك وسفن البرّ «6» تخترق الفلا ... ولا لجّ إلّا أن يلوح سرابها 8- كأنّ السّرى يقتات منها غواربا «7» ... برى النّيّ «8» منها نأيها واغترابها 9- تفاءلت خيرا وهي تدمى مناسما «9» ... بأنّ علامات «10» السّرور خضابها 10- وطامسة الأعلام يوحش ذئبها ... بها ويهاب الاغتراب غرابها - 39-

11- مموّهة «1» الآثار عن كلّ سالك ... يسير بقلب الجيش وهو يهابها 12- كأنّ الدّجى لم يسر فيها نجومها ... ولا خطّ «2» عن شمس النّهار نقابها 13- فمازلت حتّى نلت مارمت من قبا «3» ... وبشّرت هذي يثرب «4» وقبابها - 40- 24/أقوله: في عزّ الدين بن مقدام بن الزبير: «5» (بسيط) 25/ب - 40-

1- للصّاحب النّدب «1» عزّ لا يبيد فقل ... عزّ يدوم وإقبال لصاحبه 2- إذا الأباعد أعداها «2» الوزير علا ... (حقّا) فلم لا تراها في أقاربه 3- في قبعتي اليوم دهر يا بني أسد ... قد كان أروغ عنّي من ثعالبه 4- ومذ رآني يتيما تحت رايتكم ... فما نوى ليّ شرّا من نوائبه 5- علوتم رتبة تختال من فرح ... والطّرف «3» يمرح مختالا براكبه 6- قد قدّم الله مقداما «4» وأوطأه ... ما مهّدته المعالي من مراتبه 7- وجاء يتلو المجلّي «5» في يدي كرم ... تأخّر النّاس عن أدنى مواهبه 8- أغرّ يهديك لألاء بغرّته «6» ... والخطب أغطش ليلا من غياهبه - 41- وقوله: (سريع) 1- لي مطبخ راجع عصر الصّبا ... وطيبه من عصرك المذهب «7» - 41-

2- بيّضت وجهي حين سوّدته ... إذ بات ضيفي وهو لم يسغب «1» - 42- وقوله: (طويل) 1- منازلهم جادتك غرّ السّحائب ... وجرّت بمغناك الصّبا ذيل ساحب 2- وليل به قد عاجلتني يد السّرى ... وقد كان من طول بطيء الكواكب 3- وللذّكر مسك من معاقرة الكرى ... أقرّ وساد الهام فوق الغوارب 4- سروا لغناهم طالبين فعرّجوا ... على ابن عليّ «2» منتهى كلّ طالب 26/أ 5- علمنا يقينا بالتّجارب شأنه ... وما توضح «3» الأشياء مثل التّجارب - 42-

- 43- وقوله: (الرمل) 1- صاح قم إنّ نسيم الصّبح هب ... وقضيب الدّوح خفّاق العذب «1» 2- فاصطبح مشمولة «2» كاساتها ... جمعت للماء شملا باللهب 3- لا تدع لذّة يوم لغد ... قبل عود الدّهر فيما قد وهب 4- وتغنّى الطّير فالأزهار قد ... شقّت الأكمام من فرط الطّرب - 44- وقوله (كامل) 1- جاءت بأنواع النّوى فمجلبب «3» ... أدبا وعار ما له جلباب 2- وعلى النّفير «4» لمرّها أثر عفا ... فهدي إليه الحائرين ذباب 3- وإذا رجعت إلى الصّحيح فإنّه ... عتب وعيشك ليس فيه سباب 4- وإذا تباعدت الجسوم فودّنا ... باق ونحن على النّوى أحباب - 43- - 44-

- 45- 27/ب و (قوله) (مخلع البسيط) 1- آن لمن ودّع الشّبابا ... أن يدع الكأس والشّرابا 2- عنيّ بالرّاح يا نديمي ... فالشّيب قد اغلظ الخطابا 3- أطار بازي «1» المشيب قسرا ... عن لمّتي ذلك الغرابا 4- وما المداجاة «2» لي بخلق ... فكيف أستحسن الخضابا؟ 5- ربّ زمان ركبت فيه ... لهوي وقد خفّ لي ركابا 6- أمتعني والشّباب غضّ ... بكل ما لذّ لي وطابا 7- يأتي صبوحي «3» على غبوقي ... واللّيل لم ينزع الإهابا 8- وسوءة سؤءة لعصر ... أصفر «4» من خيره الوطابا 9- وما عتابي لغير حظّي ... لو أنّه يسمع العتابا - 46- وقوله: (مجزوء الكامل) 1- بين اللّواحظ والقلوب ... لا تنطفى نار الحروب - 45-

2- وهناك ليث الغاب يح ... ذر فتكة الرّشأ «1» الرّبيب 3- وأنا الجريح بلحظ من ... تلقاه ذا خلّ خضيب 4- يخفى دمي ولقلّما ... تخفى إشارات المريب «2» - 47- وقوله: يعزّي من غرق في النيل: (سريع) 1- من صفة الجوهر أن يرسبا ... فما الذي أوجب أن تعجبا؟ 28/أ 2- إنّ الرّدى غاص على درّة ... عزّت على غير الرّدى مطلبا 3- وغال بحر النّيل أجزى ندا ... منه وقل أجدى وقل أعذبا 4- ويكمد «3» الأنداد كم بينهم ... تحاسد أوجب ما أوجبا! 5- أين وفاء النيل «4» أم ليس ذا ... زمانه شاء الفتى أو أبى 6- وقد أراه لاطما وجهه ... للغدر ما أقبحه مركبا - 46- - 47-

7- هل نافس الرّجّاف «1» في درّة ... فكان ما أخرجه أغربا 8- بدا على صفحته أوّلا ... كالسّيف أبدى رونقا «2» مذهبا 9- حتّى إذا ما غاص قال الورى ... مجرة «3» قد غيّبت كوكبا - 48- وقوله: (طويل) 1- لكلّ فؤاد من هواك نصيب ... فأنت إلى كلّ القلوب حبيب 2- تواردت العشّاق فيك فكلهم ... بكلّك مسلوب الفؤاد كئيب 3- ولكنّني فقت الجميع صبابة ... فلم يك لي في العاشقين ضريب 4- وما حدّثتني النّفس عنك بسلوة ... كأنّ الهوى منّي عليّ رقيب 5- تمثلّك الذّكرى لقلبي وناظري ... فأغدو وكلّي أعين وقلوب 6- غدا السّلم ما بين الغرام ومهجتي ... وبين جفوني والمنام حروب «4» - 49- 29/ب وقوله (بسيط) 1- يا سيّد الأمراء العبد منتظر ... جود المليك ومولانا هو السّبب - 48-

2- والانتظار بقلبي ناره التهبت «1» ... قل في سراج بنار الوعد يلتهب - 50- وقوله: (الوافر) 1- قطائفك «2» التي رقت جسوما ... لماضغها كما فتّت قلوبا 2- كغيم رقّ لكن فيه قطر ... غدا المرعى الجديب به خصيبا 3- فجاءت وهي غرقى راسبات ... ولم تنكر مع الغرق الرّسوبا 4- لئن رقّت لابسها «3» وحلّت ... لعظم محلّها الصّدر الرّحيبا - 51- وقوله: (طويل) 1- رقيت «4» من الشّكوى بنعمة طالب ... فأنت لبّرد البرء أكرم ساحب 2- وما رقيت شكوى الكرام بمثلها ... إذا ما أصاخوا «5» منصت من لراغب - 49- - 50- - 51-

3- بك اليوم صحّت مهجة المجد والعلا ... وصحّت ظنون فيك غير كواذب 4- ولاحت على وجه المكارم نضرة «1» ... ومن قبلها أبدت لنا لون شاحب 5- خذوا بنصيب معشر الوفد من هنا ... يغبّر «2» حثوا في وجوه النّوائب 6- وهبّوا فقدنا داكم من بيمينه ... ندى ملك الآمال رقّ «3» المواهب 31/ب 7- هو الخصر «4» الجمّ الجدّى الخضر الندا ... إذا لم يبلّ البحر غلّة شارب 8- بني الحسن العلياء قرّت لديكم ... ولم تلق حبلا دونكم فوق غارب «5» 9- وأوضحتم بالبدر في كلّ منهج ... خفّي وبالبرهان سبل المذاهب 10- وأيامكم بيض تشفّ «6» كأنّما ... أفضتم عليها مالكم من مناقب 11- إليك إمام العصر مدحة صادق ... ثناء وودّا فيهما غير كاذب 12- يهنّيك إن أغنيت «7» بالسّقم صحّة ... وأجرا هما لا شكّ خير العواقب

- 52- وقوله: (مجزوء الكامل) 1- مملوك مولانا السّرا ... ج بقلبه يذكي «1» اللهيب 2- قد ساوأته كفيت من ... هنّ الحوادث والخطوب - 53 وقوله يهنئ الصاحب عليّا «2» وقد رمى البندق «3» (السريع) 1- ما أجدر الصّالح بالواجب ... وما أحقّ السّيف بالضّارب - 52- - 53-

2- يخدم سعد المشتري «1» قوسه ... في طالع منها ومن غارب 3- ترنّ إذ ترنو بعين لها ... ما دونها للشّمس من حاجب 4- هذا وسعد الذّابح «2» المقتفي ... لأمره فى البندق الصّائب 5- فاز وليّ العهد بالمطلب ال ... أسنى وحقّ الطّالب الغالب 6- رقى ولو حاول نسر السّما ... لما نجا من طينة «3» اللّازب 7- جدّ إلى أن جدّل الطّائر ال ... هاوي هوى كالكوكب الثّاقب 8- حتّى إذا مسّ الثّرى واجبا ... قام بلال فيه بالواجب 9- والملك الصّالح قد جدّ في ... الملك وما من جدّ كاللاعب 10- قد رفع الله عليّا فما ... ترى له في الأرض من ناصب «4» - 54- وقوله: (طويل) 1- إذا جدت فيها قالت السّحب غيرة ... تأنّ فإنّ السّيل قد بلغ الزّبى «5» - 54-

2- ومن قصّرت عنه البحار تأخّرت ... خطى الغيث «1» عنه شاء ذلك أو أبى 3- دعوا الفجر في ديناكم لسميّه ... فمنذ ثوى في ظلّه ما تغرّبا 4- وإلّا فروموا شأوه إن قدرتم ... ومن ذا الذي يبغي على الشهب منصبا 5- وما حجب الأملاك تالله مثله ... فلا زال عن عين الخطوب محجّبا - 55- 33/ب وقوله: (كامل) 1- الخبز فتّ «2» وزبدنا قد ذابا ... فاهمع بقطرك لا عدمت سحابا 2- أو بالقطارة «3» أو فعجّل مرسلا ... فالعيش أصبح بعد حلو صابا 3- والجرّ «4» لست أحبّه في موعد ... ما طال شيء في الوعود فطابا 4- أمطر نواحينا التى قد أجدبت ... وندا يديك بكلّ قطر صابا «5» - 56- وقوله: (طويل) 1- سلام عليّ الصّدر الذي عنده قلبي ... وحبّي له دأبي كما دأبه حبّي - 55-

2- وعند غلامي وهو عيسى لعبده ... أبي الدّرّ ياقوت هوى الواله الصّب 3- وقد سامه «1» التّكبيس يطلب ختله ... كما يختل الذّئب الغزال من السّرب 4- ولبّسه «2» عيسى فراعته آية ... أرته عصا موسى فخاب من الضّرب 5- ومرّ ولو كان استقرّ مكانه ... لقد كان محمولا على مركب صعب 6- وأقبل مذعورا وقال بعثتني ... لصدر على الأعجاز أصبح ذا نصب «3» 7- وقال رأت عيني ثلاثة أرجل ... وواحدة منهنّ مشؤومة الكعب 8- إذا كبسته راحتاي تحرّكت ... وقامت على ساق كوصفك للحرب 9- إلى معدن الياقوت كان سلوكها ... وما فكّرت في بعد أرض ولا قرب 10- وفي النّظم للياقوت فهي بصيرة ... وكم عانت الأحجار بالحلّ والثّقب 11- فلا هديت رجل «4» تروم بوطئها ... مدائن لوط وهي في الجانب الغربي 12- وسل عدنا عن زفّة «5» طار ذكرها ... لثاو وسار في السّنين وفي الرّكب 13- وقد زفّ في ضوء من الشّمع أسود ... حكى وحكت ليلا ترصّع بالشّهب 14- بدا اللّيل فيها والنّهار لأعين ... رأت عجبا لا يلصق الهدب بالهدب 15- وقد نزل العاج في آبنوسة «6» ... له حيّة رقطاء تنهشّ في القلب - 56-

- 57- وقوله: (بسيط) 1- لا غرو «1» أن صغرت عن قدرك الرّتب ... وقبلها قصرت عن شأوك الشّهب 2- ما فاتك الدّهر شيء فات ذا أمل ... أدركت والقوم قد أعياهم الطّلب 3- كم عظّمتك ملوك الأرض واعترفت ... بأنّها قصّرت من بعض ما يجب 4- وكان ذاك لأسباب يمتّ بها ... لا خير في رفع قدر ماله سبب 5- ألبست مصرا جمالا كان قد سلبت ... قدما وما يتساوى اللّبس والسّلب 6- فما تراقص هذا النّيل عن عبث ... وإنّما خفّ مسرورا به الطّرب 7- قد ضمّ حلمك برّيها فلا عجب ... هب أنّ ذا جلّق «2» أو أنّ ذا حلب 8- أحييت ذكر ملوك كان فخرهم ... أن خلّفوك فهم باقون ما ذهبوا - 57-

- 58- وقوله: (خفيف) 1- قد تغنى لكم أغنّ «1» دعاه ... من رآه ربّ الغزال الرّبيب 35/ب 2- زيّنتّه جراحة فيه وفي الخ ... دّ توخّت ثاراتها في القلوب 3- وجرى ذلك الغناء على حم ... رة فيه فضمّخته بطيب 4- حبّذا ليلة على النّيل قمرا ... ء تعرّت من (لونها) «2» الغرّبيب 5- أحذرتم (منّي) «3» نميمة واش ... أم خشيتم منّي اطّلاع رقيب 6- أم نعاسي حتّى ينام المعنّى ... طمعا أو تطلّعا للذّهيب؟ «4» 7- أدبيب واللّيل من طرب ش ... قّ عن الصّبح داجيات الجيوب 8- عدّة قد عرفتها أنا بالتّق ... ليد لا عن علم ولا تجريب 9- قد يجيد الطّبيب معرفة الدّا ... ء وما حلّ قطّ جسم الطّبيب - 58-

- 59- 36/أوقوله: (طويل) 1- هوى من سماء المجد للأرض كوكب ... فحقّ العلا تبكي عليه وتندب 2- تراه رأى أنّ التّواضع شيمة «1» ... بها قد سما فوق السّماك له أب 3- فأمّ الثّرى عن قدره متنزّلا ... بغرّة «2» طفل لم يرضه التّدرّب - 60- وقوله: (خفيف) 1- وبيان لمثله يرفع القل ... ب حجابا وينتح السّمع بابا 2- ذو معان تزفّ في حلل الألف ... اظ فيها كواعبا أترابا «3» 3- بلغت من بلاغة أشرف الغاي ... ات لمّا تطاولت أنسابا - 61- وقوله: (كامل) 1- أبا المظفّر «4» ما ظفرت بنعمة ... إلّا وجدتك فاتحا لي بابها - 59- - 60- - 61-

2- وإليك أنهي قصّة لا سيرة ... بذيول فضلك أعلقت أسبابها 3- فافرج مضيق الكرب عن فرجته «1» ... أفنت لدى الشّيخ الكبير شبابها 4- أفنيت جدّتها وما خان الصّبا ... أقرانها كلّا ولا أترابها 5- ولطالما سترت قبيح ملابسي ... من قبل ما هتك الزّمان حجابها 6- وغدت تقيم لي المحافل خدمة ... جعلت عبيدا لي بها أربابها 7- فاغنم ثنائي عاجلا وثناءها ... واربح ثوابي آجلا وثوابها 8- واجعل لها بدلا وعطفك سابق ... توكيدها ومحقّق إعرابها - 62- 38/أوقوله: (وافر) 1- مدحنا هم بسحت «2» عن ... محال واهي السّبب - 62-

2- فإن تسأل بناوبهم ... وصلانا (هم) «1» من العجب 3- فأكّالون للسّحت ... وسمّاعون للكذب - 63- وقوله: (كامل) 1- مولاي فخر الدّين «2» دعوة خادم ... منّي إليك وذاك بعض الواجب 2- الدّولة الغرّاء عين زمانها ... إذ زانها منك الإله بحاجب - 64- وقوله: (سريع) 1- دعت لك الشّيخة طول الدّجى ... ووجّهت وجها إلى ربّها 2- وطاب قلبي بدعاء التي ... حلاوة الإيمان في قلبها - 63-

- 65- وقوله: (الوافر) 1- نأى بي عن موارده زماني ... فأرسل لي نداه مع السّحاب 2- ولم أر قبل جود يديه جودا ... أتاني طارقا بالخير بابي 3- وكان الفأر فارقنا وغنّى ... برغمي عن منازلتي اغترابي 4- وكيف يقيم في بيت طوانا ... طوانا عنده طيّ الكتاب 5- ويحسبنا فوارس إذ يرانا ... بساحته نحوم على اللّباب 39/ب 6- وقد بعث الأمير لنا مغلّا «1» ... به قد فكّ أغلال الرّقاب 7- ولمّا غاب شمس الدّين «2» عنّي ... دعاني الظّنّ فيه لارتيابي - 65-

8- وبتّ أقول قمح أم شعير ... فبادرني عطاؤك بالجواب 9- وجاء البرّ برّا لؤلؤيا ... يباهي العقد في جيد الكعاب 10- فزار الضّيف بعد جفاء ربعي ... وأيقن طارقي خصب الجناب - 66- 40/أوقوله: (كامل) 1- الغوث «1» قد أكل الصيّام ثيابي ... وأخاف أكل تسخّطي لثوابي 2- قد بعت ما كنت اشتريت وأصعب الآ ... لام بيعي في الشّتاء جبابي «2» 3- هذا وقد هجمت عليّ جيوشه ... تنجرّ «3» أطلابا على أطلاب 4- فبباطني ألم الخواء «4» وظاهري ... ألم الهواء فلا تسل عمّا بي - 66-

5- فأشدّ من هذا ندائي معلنا ... لنداء الأمير فلا يردّ جوابي - 67- وقوله: في السّمك المعروف باللّبيس: (متقارب) 1- لبيس اللّبيس طعام «1» يعاب ... وقد صدقت لهجة العائب 2- ندمت لملقاه شاكي السّلاح «2» ... له شوكتا طاعن ضارب 3- فآكل كفّي مع لحمه ... وأنتف مع شوله شاربي - 68- «3» وقوله: (رجز) 1- ومن رآني والحمار مركبي ... وزرقتي للرّوم عرق قد ضرب 2- قال إذا أبصر شخصي مقبلا «4» ... لا فارس الخيل ولا وجه العرب - 67- - 68-

- 69- وقوله: (بسيط) 1- إذا تفكّرت في حظّي وجودك لا ... أنفك من عجب إلّا إلى عجب 41/ب 2- وجملة الأمر أنّي متّ من ظمأ ... إلى نداك وقد أجملت في الطّلب - 70- وقوله: (كامل) 1- ولربّ ذي لؤم غلطت بقصده ... فرجعت عنه كما تسوّل خائبا 2- وذممت عنّي فعله وشكرته ... لمّا رجعت على يديه تائبا - 71- وقوله: (سريع) 1- وباخل أطعمني «1» بشره ... وغرّني بالبارق الخلّب «2» 2- لو قلت يا أبخل من مادر «3» ... لقال يا أطمع من أشعب - 71-

- 72- 42/أوقوله: (سريع) 1- أبدى لنا لمّا بدا قرعة «1» ... يحار فى تشبيهها القلب 2- قالوا فهل تشبه يقطينة «2» ... فقلت لو كان لها لبّ - 73- وقوله: (كامل) 1- ما حيلتي والقوم أصبح دأبهم ... أن يرفضوا الأدباء والآدابا 2- كرهوا المديح وأنكروا جلّابه «3» ... لو ذوّبوه وجدتهم جلّابا - 74- وقوله: (طويل) 1- وكلّ كتاب لي إلى من بأرضها ... سلامي عليكم فيه قبل خطابه - 73-

2- وذكركم لي في أواخر كتبكم ... كما يجلس المحقور حيث انتهى به - 75- «1» 43/ب وقوله: (وافر) 1- يروم حياته ما بين قوم ... لقاء الموت عندهم الأديب «2» 2- وربّ الشّعر «3» ممقوت بغيض ... ولو وافى به لهم حبيب «4» - 76- وقوله: (مجتث) 1- عاتبته بدر تمّ ... قد أطلضعته جيوبه 2- يقلّه غصن بان ... لدن المهزّ «5» رطيبه 3- في ليلة غاب عنها ... واشي الحمى ورقيبه 4- يمسّ كفّي بجسم ... يكاد لمسي يذيبه - 75- - 76-

5- وقال رفقا بخصر ... في السّقم أنت نسيبه 6- فقلت قد غاب عنّي ... فأين أين يصيبه 7- فقال لي هازئا بي ... من غاب غاب نصيبه؟ - 77- وقوله: (مخلع البسيط) 1- من عادة الجوهر الرّسوب ... فما لأكبادنا تذوب؟ 2- من ذا رأى درّة سواها ... أكثر أصدافها القلوب - 78- وقوله: (كامل) 1- أبا الحسين «1» سقاك وابل ديمة «2» ... ثكلاء قد شقّت عليك جيوبها 2- حقّ القبائل أن تعزّي طيّبا ... إذ أنت حاتمها «3» وأنت حبيبها «4» - 79- 44/أوقوله: (سريع) 1- ببابك الرّحب سراج غدا ... في قلبه للشّوق أذكى «5» لهيب - 78- - 79-

2- متّبعا من قال من قبله ... (وإنّما اللّيل نهار الأديب) «1» - 80- وقوله: (متقارب) 1- أيا سيّد الوزراء استمع «2» ... لقصّة شكواي وانظر ما بي 2- فراتب عبدك في أمره ... جرى فيه ما لا جرى في حسابي 3- وكان رسولي بخطّ الوزير ... يوجّه ملتمسا للجواب 4- فو الله ما آمنوا بالرّسول ... وتالله ما صدّقوا بالكتاب «3» - 81- وقوله: (طويل) 1- أرى عنب البستان قد آن أكله ... وأصبح أحلى ما يذاق وأطيبا 2- وقد لبست أوراقه الخضر صفرة ... يصوغ لك العنقود درّا مذهّبا 3- ولي منك رسم «4» عند إدراك قطفه ... لنا مأكلا ما لم تبح منه مشربا - 80- - 81-

4- وقد رضع العصفور منه ثديّه ... وما الكرم للعصفور أمّا ولا أبا 5- وإن زاد عن هذا تربّيت» حبّه ... وعبدك لا يختار شيئا مزبّبا - 82- وقوله: (كامل) 1- حتّى متى أجد الأمير مجّبا ... أنّى أتيت وتارة هو راكب 45/ب 2- ومن العجائب أنّه مع عدله ... لي مثل هذا العذر وهو العاتب - 83- «2» وقوله: (سريع) 1- عشقت من ريقته قرقف «3» ... وما له إذ ذاك من شارب 2- قلندرىّ «4» حلقوا حاجبا ... له كنون الخطّ من حاجب - 83-

3- سلطان حسن زاد في عدله ... فاختار أن يبقى بلا حاجب - 84- وقوله: (متقارب) 1- لقد سمع الله والكاتبان «1» ... ما قال في عرضي «2» الكاتب - 84-

2- وما ضرّني ما يقول العدوّ ... إذا ردّ غيبتي الصّاحب «1» - 85- وقوله: (رمل) 1- وأناس غرّني ظاهرهم «2» ... وجوى باطنهم كلّ معيبه 2- أخطأت عيني في نقدهم ... أيقظ الله لهم عينا مصيبه «3» - 86- 46/أوقوله (طويل) 1- أيذلّ رسلي في اقتضاء وعوده ... وأقرب ممّا أرتجيه الكواكب 2- وأفضي «4» إليه قاصدا بعد قاصد ... كما بدّلت تحت البريد «5» الجنائب 3- ولو سار ومض البرق والرّيح عنده ... لكلّا وكلّا ليس يدرك «6» كاذب - 85- - 86-

- 87- وقوله: (خفيف) 1- لم أودّع من سار في دعة اللّ ... هـ وقلبي يسير تحت ركابه 2- وسقى الله داره حيث ما حلّ ... وحلّ الحيا «1» جنوب سحابه - 88- وقوله: (وافر) 1- ومتّصل الجدال بغير علم ... جهول بالسّؤال وبالجواب 2- يكون معي الصّواب ولم يسلّم ... ولو أنّي يكون معي الصّوابي - 89- 47/ب وقوله: (سريع) 1- أساءت الحمّى ولكنّها لي ... أحسنت في ذكري التّوبه 2- ترجع لي روحي إذا ودّعت ... فتنثني مسرعة الأوبه 3- ولي طبيب قال لا تخشها ... فقلت لم تشهد معي النّوبه - 90- وقوله: (طويل) 1- أقول لعذّالي ولم يعرفوا الهوى ... ولا ألفوا ماذا العناء من الحبّ - 87-

2- عشقت ولي قلب وقد ذهبوا به ... فلو رمت سلوانا سلوت بلا قلب - 91- 48/أوقوله: (مجتث) 1- سكر الولاية يلهي ... يا صاح عن كلّ صاحب 2- وغاية السّكر صحو ... وللمبادي عواقب - 92- وقوله: (المجتث) 1- عالجته بثناء ... ثمّ انتقلت لعتبي 2- فلم يفد ذا ولا ذا ... والكيّ آخر طبّي «1» - 93- «2» 49/ب وقوله: (سريع) 1- هززته بالمدح جهدي فما اهتز ... ونادى النّاس «3» كم تتعب 2- فقلت «4» أرجو زبدة قيل لي ... فاتك أين اللّبن الطّيّب - 92- - 93-

- 94- 50/أوقوله: (خفيف) 1- أيّها الفاضل الأديب يمينا ... لم يكن في مودّتي ما يريب 2- لا تصدّق فيّ العدوّ فمن دون ... ك عندي ولم أبالغ حبيب - 95- وقوله: (سريع) 1- لمّا تمثّلت بقولي له ... ما ضاع حقّ خلفه طالب 2- أجاب ما مدحي حقّ ولا ... ناسبني ذا المثل السّائب «1» 3- كذبت في وعدي كذا أنت في ... مدحي كلانا مفتر «2» كاذب - 96- «3» وقوله: (طويل) 1- أرى الثّغر بسّاما بذكرك عاطرا ... تبضّع منه الدّرّ والمسك جالب 2- أقمت منار العدل فوق مناره ... فلاذت بحقويه «4» النّجوم الثّواقب - 95- - 96-

3- ويّمه «1» من في البسطين سالك ... فحاد وملّاح وماش وراكب 4- وأوردت ليث الغاب والأسد مشرعا «2» ... غدا جانحا في السّلم فيه المحارب 5- فما رعدت فيه لظبي فرائص «3» ... ولا نشبت فيه لليث مخالب 51/ب 6- إذا ناطق سمّاك فالماء جامد ... لموقعه في القلب والصّخر ذائب 7- وما ذاك إلّا أنّه خاف ربّه ... وهاب فكلّ خائف منه هائب 8- تدرّع ثوب الهول واللّيل يافع ... وشابت «4» به فوداه واللّيل شائب 9- وأصبح مطلوبا من الدّهر خائفا ... وكيف له بالأمن والدّهر طالب 10- إذا أنت جار لابن باخل «5» فاعتصم ... بأروع لم تطرق حماه النوائب 11- وناد بناد للأمير محمّد ... ألا من يغالي في العلا ويغالب «6» 12- وصف أمويّا ما لوى المطل وعده ... وأنّى وجدّاه لؤي وغالب «7»

13- ودلّ على آبائه بإبائه ... وبالفرع تستفرى «1» الأصول الأطايب 14- وقد ساد حتّى أولّيه بمجده ... فها عبد شمس «2» منهم اسم مناسب 15- وكم مشكلات قد جلاها وكيف لا ... يخلّى بضوء الشّمس وهي غياهب» 16- وسوق عكاظ «4» ربعه وهو قسّه «5» ... وها نحن ألقتنا إليه السّباسب «6» 17- وآداب درس ثمّ نفس حواهما ... فقد ناسبت تلك المالي المناسب 18- وكم حكم تأتي بها وعجائب ... بها تأنس الأفهام وهي غرائب 19- كأنّا نرى الإسكندر «7» الآن قاطنا ... ببلدته أو أرسطاليس «8» نائب

- 97- 52/أوقوله: (وافر) 1- وعيشك لم أكد أسلوه كبشا ... يطول عليه نوحي وانتحابي 2- وقد أعلنته علفا تماما ... فحاول شحمه شقّ الوهاب «1» 3- فهدّوا حائطا أخذوه منه ... وعنه يضيق مشكل كلّ باب 4- فإن لم أوت من ذنب فإنّي ... أمنت من الكلاب بني الكلاب 5- وحظّي قد كبا بي دون حظّي ... بعيد النّحر من أكل الكباب «2» 6- فأنعشه الوزير فقام يسعى ... بكبش خلّقت «3» منه رحابي - 98- وقوله: (طويل) 1- شرثبت على ورد وخدّ مدامة ... كلونهما إنّ الشّكول أقارب 2- ثلاثة أصناف من الورد جمّعت ... لديّ فمنها جامدان وذائب - 99- وقوله: (بسيط) 1- وكنت إن ن.. ت «4» تلقاني أخا فرح ... بادي النّشاط كثير اللهو واللّعب - 97- - 99-

2- فصرت إن ن ... ت ألقى بعده ألما ... وأدرك النّقص في العينين والرّكب 3- فويحها لذّة كمّ أعقبت ندما ... كواجد لذّة من حكّة الجرب - 100- وقوله: (طويل) 1- وما لي بعد الله غيرك ملجأ ... ألوذ به في كلّ ما أتطّلب 2- ولا سعي لي إلّا لبابك إنّه ... لراجيه باب للنّجاح مجرّب - 101- وقوله: (مجزوء الكامل) 1- لا ذنب عندي لليتي ... م إذا نحت «1» به المطالب 2- الذّنب ذنبي غير أنّ ... ي منه معتذر وتائب - 102- 53/ب وقوله: (متقارب) 1- تعوّذت مذ كنت خبر «2» القلوب ... وكفّ الخطوب وكشف الكروب 2- ولي كرمة «3» خفّفت حملها ... فيا ليتني مثلها في الذّنوب - 101- - 102-

- 103- وقوله: (خفيف) 1- هزئت بي عند ابتدار مشيبي ... يوم قالت كالسّائل المسروب «1» 2- نزل الشّيب أين قلت على الرأس ... فقالت هذا وقار المشيب - 104- 54/أوقوله: (مجزوء الرمل) 1- نفق «2» الإكديش يا منتخب ... وعلى الحزن ألبّ اللّبب «3» 2- وخلا منه لجام معرق «4» ... كاد أن يقطر منه الذّهب 3- وخبا البرق الذي يا طالما ... بات في آثاره يلتهب 4- وخلا منه برغمي موكب ... زانه زينة أفق كوكب 5- تستعير الخيل من آدابه ... ومليح في الجياد الأدب 6- وترى الفارس في صهوته «5» ... شأنه العجب به والعجب - 103- - 104-

7- يدرك المطلوب أنّى رامه ... وهو لا يدرك أنّى يطلب 8- وإذا صلّ لجام لك في ... رأسه هزّك منه الطّرب 9- وجرى الشّطّار «1» منه سلبا ... هو منه جلده والذّنب - 105- وقوله: (سريع) 1- ردّت إليّ المصطكي «2» نهضة ... عهدى بها طوّلت الغيبه 2- فهلّلت جاريتي كيف لا ... والمصطكي وافقت الشّيبه - 106- وقوله: (كامل) 1- يا طالب الأبكار إنّي أعزل ... لا رمح لي كي أستعدّ لحربها 2- فاقطع بصحّة ما ذكرت فإنّها ... جاءت سليمانا «3» بخاتم ربّها - 105- - 106-

- 107- 55/ب وقوله: (بسيط) 1- تبكي المروءة شمسا كم جلا كربا ... ولم يزل مشرقا بالبشر أو غربا 2- وقد بكينا دما نبدي به شنقا ... بعد الغروب فناعي «1» الشّمس ما كذبا 3- وعمر نوح «2» وعمر الطّفل غايته ... إلى نتهاء فدع عن نفسك التّعبا 4- وقد كفانا بشمس الدّين «3» موعظة ... لو كان يتّعظ الباقي بمن ذهبا - 108- وقوله: (كامل) 1- يقبّل كفّك كانتجاع «4» سحاب ... فأغث بغيثك منزلي ورحابي 2- وانظر إليّ فإنّني في عسرة ... أكل الصّيام بها أعزّ ثيابي - 109- وقوله: (طويل) 1- أمولاي قد ضمّنت قول كثيّر ... وعندي ما يلهيه عن حبّ عزّة - 107- - 108-

2- وقد كنت في شغلين لكنّ واحدا ... رمتني فيه الحادثات فأصمت «1» 3- وكنت لدى رجلين: رجل صحيحة ... ورجل رمى فيها الزّمان فشلّت 4- وإن لم تداركني «2» بخير فإنّني ... أخاف على الأخرى التي حلّ بالتي - 110- وقوله: (رمل) 1- قال خذها من يدي تشبه ما ... في فمي قلت: ولا كلّ الصّفات 2- فجلا من «3» كأسها القار كما ... شقّ نور الصّبح جيب الظلمات 3- وسقانيها وقد كلّ الدّجى ... فهو نحو الغرب داني الخطوات 57/ب 4- يا نديميّ خذاها من يديّ ... فمر ركّب في صدر قناة 5- لست أنساه وقد حيّا بها ... قهوة «4» تجمع لذّات الحياة - 111- 1- يا وزيرا هو أعلى ال ... نّاس مقدارا وبيته 2- ومسيحيّ نوال «5» ... طالما أنشر ميته - 109- - 110- - 111-

3- قسما لم أنو في قص ... دك إلّا ما نويته 4- طلبا كاد السّراج ال ... يوم يفني فيه زيته - 112- 58/أوقوله: (مجزوء الرجز) 1- أحسنت لولا عائق ... وقعت في ورطته «1» 2- من ناصر الدّين «2» الذي ... رحت على سلّته - 113- وقوله: (كامل) 1- الأمن في العرفات حطّك الذي ... قدّمت فالق الأمن في العرفات 2- وابشر فإنّك في الدّارين في ... ما تشتهي من أرفع الدّرجات - 112-

- 114- وقوله: (طويل) 1- مسامعهم صمّ إذا سئلوا النّدا ... وألسنهم عن منطق الخير صمّت 2- وأيديهم جفّت وإنّ تعجّبي ... لأظفارها مع لبسها كيف تنبت - 115- «1» وقوله: (طويل) 1- ثلاثة أيّام قطعت لطولها ... ثلاث شديدات من السّنوات 2- حجبن محيّا الصّاحب ابن محمّد «2» ... ليجمع بين الحسن والحسنات - 116- «3» 59/ب وقوله: (رجز) 1- تنسيك عرقوبا «4» له قواعد ... عن منهج القول الصّحيح نكّبت - 115- - 116-

2- لا تبن آمالا عليها إنّها ... واهية الأسّ وقد تعرقبت - 117- وقوله: (كامل) 1- سعى ببابك لا أخلّ بفرضه ... إلّا لأنّي قد رميت بجمرة «1» 2- فاعجب لحظّ ساق قبل الحجّ لي ... رمي الجمار «2» وعند حالي وقفتي - 118- «3» وقوله: (هزج) 1- رأت حالي وقد حالت ... وقد غال الصّبا فوت «4» 2- فقالت إذ تشاجرنا ... ولم يخفض لنا صوت 3- أشيخ مفلس يهوى ... ويعشق فاتك الفوت - 117- - 118-

4- فلا خير ولا مير ... ولا أ ... «1» رفذا موت - 119- «2» وقوله: (كامل) 1- قالوا وقد ضاعت جميع مصالحي ... لهموم نفس ليت لا حمّلتها 2- قد كان عندك يا فلان صريمة «3» ... فأجبتهم بعت الحمار وبعتها - 120- «4» وقوله: (سريع) 1- رزقت بنتا ليتها لم تكن ... في ليلة كالدّهر قضّيتها 2- وقيل ما سمّيتها قلت لو ... بكيت «5» منها كنت سمّيتها - 119- - 120-

- 121- 60/أوقوله: (سريع) 1- لا تنكري صمتي فإنّ الذي ... قارب ورد الموت كالميّت 2- مذ أسرج «1» الأشهب يا هذه ... من لمّتي ألجمت عن حجّتي - 122- «2» وقوله: (رمل) 1- أطنبوا في عرفات وغدوا ... يتعاطون له حسن الصّفات 2- ثمّ قالوا لي «3» هل وافقتنا ... قلت عندي وقفة في عرفات - 123- وقوله: (سريع) 1- يا عمر الخير «4» أعني فقد ... هنّأت بالشّعر وعزّيت - 121- - 122- - 123-

2- وارحم سراجا قد خلا فهو لا ... فتيلة فيها «1» ولا زيت - 124- وقوله: (وافر) 1- أتاج الدّين «2» كنت محلّ قصدي ... لمن كفل النّجاح لكلّ راج 2- جعلتك لي السّفير إلى وزير ... إلى معناه يلجأ كلّ لاج 3- عروس أنت أولى من جلاها ... وهل تجلى العروس بغير تاج؟ 4- وقد أرسلتها عذراء بكرا ... لكفء وجهه يجلو الدّياجي - 125- وقوله: (طويل) 1- يهنّأ مولانا الوزير بخلعة ... يلوح بها كالبدر بين دياجي 2- وشمل بتاج الدّين «3» نظّم عقده ... فكانا على الإسلام خير سياج 3- ولم تر عيني مثلها اليوم خلعة ... تسرّ وليّا أو تسوء مداجي 4- ولمّا رأت قدر الوزارة دونه ... أتته كما تأتى الملوك بتاج - 124- - 125-

- 126- 61/ب وقوله: (كامل) 1- وصلت مقدّمة لها غرر المعا ... ني الزّاهرات الباهرات نتاج 2- كالرّوضة الغنّاء «1» ضاحك زهرها ... من جود كفّك عارض ثجّاج «2» «3» 3- حلّت بنادي الصّاحب ابن محمّد «4» ... فهي العروس ومن جلاها التّاج 4- بهرت «5» أشعتها فلا شمس الضّحى ... شمس الضّحاء ولا السّراج سراج - 127- وقوله: (رمل) 1- صدقوا قد نظروا الورد مسيّج ... هل رأوه في عذار من بنفسج؟ 2- عشق النّاس ولا مثل الذي ... همت وجدا فيه فانظر وتفرّج «6» 3- من رأى بدرا وغصنا ونقا «7» ... قد تجلّى وتثنّى وترجرج - 126- - 127-

4- وجهه نسخة حسن حرّرت «1» ... ولها من عارض سطر يخرّج 5- ذو وشاح «2» مثل قلبي قلق «3» ... وإزار «4» مثل صدري منه يحرج 6- وأصمّ فتحت أسماعه ... بقواف كم بها يفتح مرتج «5» 7- قال شعر لك أم درّ على ... أنّه أبهى من الدّرّ وأبهج 8- قلت: تاج الدّين «6» فيه وصفه ... قال: هذا ملك الشّعر المتوّج - 128- وقوله: (بسيط) 1- قد كنت في شدّة بالأمس قد عرضت ... فلم أبت أو أتى من عندك الفرج 2- وجاء صدر حكى صدر الوزير به ... تنسى الهموم التي في الصّدر تعتلج «7» 3- ومن شمائل «8» مولانا حلاوته ... ومن ثنائي عليه الطّيب والأرج - 128-

- 129- «1» وقوله: (وافر) 1- بكتبك راج لي أملي وقصدي ... وفي يدك النّجاح لكلّ راج 62/أ 2- ولولا أنت لم يرفع مناري ... ولا عرف الورى قدر السّراج - 130- وقوله: (متقارب) 1- أفيّ تنظم ألغازكم ... وفيّ تخلد تلك الأهاجي 2- لينبيك «2» أنيّ أبو زيدها ... وما للسّروجيّ ما للسّراج - 129- - 130-

- 131- «1» وقوله: (مجزوء الكامل) 1- يا سيّدي خذ بالدّجاج ... فالنّار في قلب السّراج 2- لا سيّما وقد ابتدأ ... ت ولم يجب قصدا لراجي - 132- وقوله: (خفيف) 1- ما علينا ضوء وقد أبطأ الشّم ... ع فقوّض بنا خيام الدّياجي 2- وتدارك منّا عليه ظلاما ... لم يكد ينجلي بنور السّراج - 133- وقوله: (وافر) 1- كمال الدّين «2» صفحا عن مسئ ... عديم الصّبر منحرف المزاج - 131- - 133-

2- فسامحني على ما كان منّي ... فما تخفاك لبلبة السّراج - 134- وقوله: (طويل) 1- لقد نسيت عهدى أناس تبدّلوا ... وقد بدّلوا عذبا حلا بأجاج «1» 63/ب 2- تعامو أو غضّوا دون شخصي أعينا ... فما لهم من حاجة بسراج - 135- وقوله: (خفيف) 1- بلّغتني أضعاف ما أنا راجي ... وأتاحت «2» مسرّتي وابتهاجي 2- يا فتى ينشئ الرّياض على الطّر ... س «3» بكفّ كالعارض الثّجّاج 3- فعلت بالعقول ما تفعل الصّه ... باء «4» صرفا ما لينّت بمزاج - 134- - 135-

4- ومعان تضيء في أسود النّف ... س كشهب قد أشرقت في الدّياجي 5- قد أعارت ضياءها ألق الشّم ... س فماذا يجدي ضياء السّراج 6- ووردنا نميرها الصّافي العذ ... ب وجئنا له بمدّ أجاج «1» 7- وبإدراجها جواهر جلّت «2» ... عن دسوت الورّاق والأدراج - 136- وقوله: (طويل) 1- يخاطبني قم فاقض حقّي مثله ... وإلا فمن عيبي وسبّي ما تنجو 2- وما أحد لابن الوجيه «3» بلا حق ... إذا امتدّ شوط في المكارم أو نهج - 137- «4» وقوله: (رجز) 1- لمّا «5» رأيت البدر والشّمس «6» معا ... وقد انجلت دونهما الدّياجي - 136- - 137-

2- حقرت نفسي ومضيت هاربا ... وقلت ماذا موضع السّراج - 138- وقوله: (وافر) 1- بهاء الدّين «1» والدّنيا هناء ... بعيد طير أسعده سوانح «2» 2- نداك به نواحر للضّحايا ... وسعدك فيه للأعداء ذابح - 139- 64/أوقوله: (وافر) 1- واهنأ بعيدك خاضبا «3» ... بالجزر «4» أفنية «5» البطاح «6» - 138- - 139-

2- بصوارم مثل الشّقي ... ق جعلتها بعد الأقاحي «1» - 140- وقوله: يمدح عزّ الدين بن مقدام بن عيسى «2» (وافر) 1- وميض البرق أم ثغر يلوح ... ونشر «3» المسك أم شنب «4» يفوح 2- أعاذل قد نصحت وليس وجدي ... بوجد يستشار له نصيح 3- أيخرق «5» خدّها منّي خيالا ... كليم القلب ناظره الذّبيح 4- مذقت «6» الدّمع بالدّم في هواها ... وخلف مدامعى ودّ صريح 5- ولست أعاف ورد الموت فيها ... ومعروف ابن عيسى لي مسيح 6- إذا استنجدت مقداما لأمر ... فنم والخطب ناظره طموح 7- يعاقب ماله من غير جرم ... وعمّا يجرم الجاني صفوح 8- فحرس المال يشكي «7» من يديه ... ولا عتب على شاك يصيح 9- لعزّ الدّين مقدام بن عيسى ... خلائق كلّها حسن مليح 10- سكون يرجح الأجبال وزنا ... وميّاد إذا تلي المديح - 140-

11- غدا تعبا بأعباء المعالي ... وما حمل المعالي مستريح 12- يشحّ بعرضه ويدرّ جودا ... ألا يا حبّذا السّمح الشّحيح - 141- وقوله: (وافر) 1- ولي رزق يكدّره لئام ... ذبابهم يحطّ على جراحي 2- إذا وعدوا فلا سلموا فكلّ ... مسيلمة «1» يحدّث عن سجاح «2» - 142- وقوله: (طويل) 1- أمولاي فتح الدّين «3» دعوة خادم ... يرى قدرك العالي يجلّ عن المدح - 141- - 142-

2- له بلغة في الرزق أغلق بابها ... فيمّم باب الفتح في طلب الفتح - 143- وقوله: (طويل) 1- ثناه إلى أوطانه شوق نازح ... ونار جوى تنبثّ بين الجوانح «1» 2- حليف غرام يستغشّ نصيحه ... وليس عذول في الغرام بناصح 3- ويشتاق من أعلام وجرة «2» منزلا ... غدت أسده طوع الظّباء السّوانح 4- أغار عليهم من ضميري فيا له ... هوى رابني حتّى اتّهمت جوارحي «3» - 143-

- 144- 67/ب وقوله: (خفيف) 1- عد لأوطان دولة لا أراها اللّ ... هـ من رأيك السّعيد انتزاحا «1» 2- سقتها نحوها غنائم من خي ... ل ومال سدّ الفيافي «2» الفياحا - 145- وقوله: (خفيف) 1- عزمة صحّ فألها بالنّجاح ... بين ذي مخلب وذات جناح 2- من فهود ومن صقور حداها ... يمّها «3» في غدوّها والرّواح 3- أرسلتها سعادة الملك الصّا ... لح «4» فاستقبلت وجوه الصّلاح 4- ملك ضرّج الثّرى من دماء ... خلت زنكها «5» خدود الملاح 5- كلّ يوم من صيده عيد نحر ... في وحوش وفي عدى كالأضاحي 6- عوّد الخيل يوم صيد تصدا ... هـ ويوما تكنيه أمر الكفاح - 144- - 145-

7- ضمّر دون سوطها يلهب البر ... ق وتشكو الكلال «1» هوج الرّياح 8- فهي قيد «2» الظّباء في كلّ قفر ... لم تفتها مثل القضاء المتاح 9- وضوار تودّ أنفسها من ... جدّة لو نزت على الأشباح 10- ما رأتها الوحوش إلا وقالت ... لا تحيدي فما لنا من براح 11- من مهاة ومن فرى «3» وغزال ... طال منها نواحها في النّواحي 12- مغنم قد أحلّه الله واللّ ... هـ تعالى من رازق فتّاح - 146- 68/أوقوله: (بسيط) 1- يا طيب شربي «4» بأوقات الأصيل وقد ... تداول الشّرب أقداحا فأقداحا 2- شربتها وكأنّ الغرب نادمني ... فبات يشرب شمسا تشبه الرّاحا 3- ثمّ اصطبحنا فدرّت من أبارقها ... والشّمس من شرقها فارتحت وارتاحا - 147- «5» وقوله: (طويل) 1- وصلت غبوقي بالصّبوح «6» وإنّما ... حياتي غبوق مسعد وصبوح - 146- - 147-

2- ونبّهت عيداني ولم تعبث الصّبا «1» ... بعود «2» ولم ينطق عليه صدوح «3» 3- كأني سلبت الدّيك في الكأس عينه ... فقام مروعا من كراه يصيح - 148- وقوله: (بسيط) 1- ما بعد قربك للآمال منتزح ... ولا على الدّهر بعد اليوم مقترح 2- قد يسّر الله منّا ما نسرّ به ... فراح كلّ فؤاد حظّه الفرح 3- لم يخف للرّشد منهاج على أحد ... والبدر يشرق والبرهان يتّضح 4- وللنّسيم شذى ما كنت أعهده ... لو لم يهبّ الشّذى الحضريّ «4» والمدح 5- بيوسف «5» وأخيه مصر باسمة ... وقد ثنى معطفيها «6» الدّلّ والمرح - 148-

6- الباذلين لما تحوي أكفّهما ... والعرض خلف حجاب ليس يلتمح 7- من معشر كسيوف الهند مضلتة «1» ... لكن يداوون يوم العفو ما جرحوا 8- هم غرّة في جبين الدّهر واضحة «2» ... من غير سوء ولكن غيرهم وضح 9- لهم مناقب «3» في سلك العلى نظمت ... وأصبحت هي ما بين الورى سبح - 149- وقوله: (كامل) 1- قد كدت أقطع يوم عيدى طاويا ... وأعيش دون النّاس بالتّسبيح 2- وأريق من ندمي دمي إذ تنقضي ... أيام تشريق «4» بلا تشريح 3- وسرت أرائح من شرائح «5» جيرة ... يؤذي سراجا كان تحت الرّيح 4- لولا ابن عبد الظاهر الفتح الذي ... وافاني هينا من نداه «6» فتوحي «7» - 149-

- 150- 70/أوقوله: (وافر) 1- أعيذك أن أراك بعين شاك ... قذى «1» رمد مع القلب الجريح 2- وأرجو صحّتي لأراك إذ لا ... تقابل أنت إلّا بالصّحيح - 151- «2» وقوله: (مجزوء الكامل) 1- مالي نسيت وكنت من ... محفوظكم كالفاتحه 2- وغدت تكبلني «3» القري ... نة وهي عنكم نازحه 3- لكن بعيد الودّ ح ... قّ يد بطيب الرّائحه «4» - 150- - 151-

- 152- وقوله: (سريع) 1- نجلّك «1» القابل للمدح ... يبشّر القائل بالنّجح 2- ورأس مالي حسن ظني ولا ... بدّ لرأس المال من ربح - 153- وقوله: (سريع) 1- تخلو همومي بي وأخلو بها ... طول ليال ما لها من صباح 2- طار الكرى عن وكره والدّجى ... غرابه فيه مهيض «2» الجناح 3- ولو سألت اللّيل عن صبحه ... لقال ألهته الوجوه الصّباح 4- وقال سامرت نجوم السّما ... مذ غرّبت عنك بدور السّماح - 154- وقوله: (متقارب) 1- إذا ما استعنت على حاجة ... بوجهك هذا الصّبيح المليح 2- تيّقنت فها حصول النّجاح ... وصحّح ظني الحديث الصّحيح - 152- - 153-

- 155- وقوله: (سريع) 1- أنهي لمولاي الذي حلّ بي ... من ألم قد قال لي لا براح 71/ب 2- ولا أطيل القول منه وقد ... سلّ قوى جسمي جميعا وراح - 156- «1» وقوله: (سريع) 1- يا لحظة أثخنت قلبي جراح ... كأنّ قتلي لك أمر مباح 2- يا مهج العشّاق ماذا جنت ... عليك في الحبّ عيون الملاح 3- غرتك من أجفانها فترة ... وكيف يغترّ بلين الصّفاح؟ «2» 4- أما على ألحاظ من قتلنا ... من قود «3» أو حرج «4» أو جناح؟ «5» 5- لاقى الدّجى من شعره بالدّجى ... والصّبح من طلعته بالصّباح 6- وزار والنّجم قصير الخطى ... في السّير والنّسر «6» مهيض الجناح - 156-

- 157- وقوله: (هزج) 1- زففت البكر من مدحي ... لمن يهجى ولا يمدح 2- وقد عادت بخاتمها ... وذاك البعل ما أفلح - 158- «1» وقوله: (وافر) 1- أعد مدحي عليّ وخذ سواه ... فقد أتعبتني يا مستريح 2- ولا تغضب إذا أنشدت يوما ... سواه وقيل لي هذا الصّحيح - 159- وقوله: (مجزوء الرجز) 1- قنطرة قد بنيت ... وصوّرت من الملح 2- يكاد من يبصرها ... يطير عجبا وفرح 3- قد كملت أوصافها ... من كلّ حسن مقترح 4- كأنّما ارتفاعها ... في ذروة قوس قزح «2» - 159-

- 160- 72/أوقوله: (وافر) 1- لمن أشكو لمن والنّاس سمح ... فقير أو غنيّ غير سمح 2- فلم أبلغ بمدحى رأس مالي ... فلست مصدّعا رأسي بمدح - 161- وقوله: (كامل) 1- بينا أفارق رجفة مرهوبة ... لاقيت من أخرى فراق الرّوح 73/ب 2- فإذا انقضت هذى تراءت هذه ... كترادف الأمواج يوم الرّيح - 162- وقوله: (رمل) 1- نحن نفديك من السّوء فعش ... تصحب الصّيحة العمر الفسيحا 2- وإن استقللت أن تفدى بنا ... فبكبش قد فدى الله الذّبيحا «1» - 162-

- 163- وقوله: (مجزوء الرجز) 1- لمّا تجلّى وجه من ... أهواه جنّ الكاشح «1» 2- فقلت هذا الوجه عذ ... ري قال عذر واضح - 164- وقوله: (كامل) 1- بك قد تيمّنت «2» الملوك الصّيد «3» ... إذ حيث سرت تيسّر المقصود 2- يخفي بياض الثّلج عنك مسالكا ... كانت كفايتها اللّيالي السّود 3- وبدا جبينك في الدّجى فكأنّه ... فيهنّ من فلق «4» الصّباح عمود 4- ما بين أودية وبين شواهق ... للخيل منحدر بها وصعود 5- قد أقسمت أكوارها «5» وسروجها ... لا سار في ظهر بمثلك عود - 163- - 164-

- 165- وقوله: (طويل) 1- وما لي والإسهاب وهي مناقب ... بأيسرها يننى الكلام وينند 2- ولكن تولاني وفي الحسن «1» واله ... يقوم بسكري إن غدا السّكر يتعد 3- صفات عليّ «2» فى بنيه تدلنا ... على كرم أدّاه للفرع محتد 74/أ 4- هم القوم أمّا دينهم فمشدّد ... متين وأمّا مجدهم فمشيّد «3» 5- يزيدون حسّادا على النّعم التي ... تزيد ألا إنّ الكريم محسّد 6- ترجّيهم حلما وتخشاهم «4» سطا ... وعند المواضي الصّفح والحدّ يوجد - 166- وقوله: (بسيط) 1- حاشى يدا كم لها في العالمين يد ... ومن صنائع شتّى ما لها عدد 2- وفي الطّلوع لها فأل وما برحت ... فوق الغمام ولم يدرك لها أمد 3- ومذ شكت فأخوها البحر من فلق ... يلوح قبل أبيب «5» فوقه الزّبد - 165- - 166-

4- زيد تشرّف منكم بالجوار علا ... قدرا وهذا قياس راح يطّرد - 167- وقوله يذكر الجامع بدير الطين «1» (طويل) 1- بنيتم على تقوى من الله مسجدا ... وخير مباني العابدين المساجد 2- فقل في طراز «2» معلم فوق بركة ... على حسنه الزّاهي لها البحر حاسد 3- لها حلل شتّى ولكن طرازها ... من الجامع المعمور بالله واحد 4- هو الجامع الإحسان والحسن والذي ... أقرّ له زيد وعمرو وخالد «3» 5- وقد صافحت شهب الدّجى شرفاته» ... فما هي بين الشّهب إلّا فراقد - 167-

6- وقد أرشد الجيران «1» عالي مناره ... فلا حائر عنه ولا عنه حائد 7- ونالت نواقيس الدّيارات وجمة «2» ... وخوف فلم يمدد إليهن ساعد 8- تبكّى عليهنّ البطاريق في الدّجى ... وهنّ لديهم ملقيات كواسد 9- (بذا قضت الأيام ما بين أهلها ... مصائب قوم عند قوم فوائد) «3» - 168- «4» 75/ب وقوله (طويل) 1- ودائرة في الأرض لا تطعم الكرى ... لها مقلة كلّا ولا تشتكي السّهدا 2- لها حافر يحفى وينعل تارة ... وقد ينتهي قربا وقد ينتهى بعدا 3- وتبدي فما رحبا يقبّل بعضه ... وريقته تهدي لأكبادنا بردا 4- ويمتاحها منّا مقيم وسائر ... فتوسع ذا جودا وتوسع ذا رفدا 5- وقد أخذت فيها الشيّاطين حظّها ... فذا هابط غورا وذا صاعد نجدا - 169- 76/أوقوله: (رجز) 1- وفاتك بجرح سيف لحظه ... مجرّدا من جفنه ومغمدا - 168-

2- خاف على خدّيه من لحاظه ... فبات في عذاره مزرّدا «1» - 170- وقوله: (رمل) 1- إنّ عيني وهي عضو دنف «2» ... ما على من كابدته «3» جلدا 2- ما كفاها بعدها عنك إلى ... أن دهاها وكفيت الرّمدا - 171- وقوله: (رمل) 1- هربت هرّة بيتي يوم عيدى ... فانظروا هل تمّ هذا السّعيد «4» 2- وازدرتني إذ رأت لي مطبخا ... أبيض اللّون كقرطاس الوليد 3- ووجوها من عيالي أصبحت ... غير بيض وقدورا «5» غير سود 4- أفلا تمعن عنّا هربا ... ولو أنّا موثقوها «6» بالقيود - 169- - 170- - 171-

5- أين أعياديّ واللّحم بها ... يشتوي بين غريض «1» وقديد «2» 6- وأضاحيّ التي من دمها ... ظالما ضرّجت خدّا للصعيد «3» 7- تلك أيّامي التي قاد لها ... جود شمس الدّين «4» يا أيّام عودي - 172- 77/ب وله يرثي حمارا: (وافر) 1- برغمي إن خلت منه المذاود «5» ... وراحت عطّلا منه القلائد 2- وغودرت الأعنّة «6» ملقيات ... بلا كفّ يحاذيها «7» وساعد 3- خلت منه مراغته «8» وكانت ... تعشّره «9» (وتألفه) الملابد «10» 4- تدمّث «11» تحت جنبيه الحشايا «12» ... وتلقى تحت خدّيه الوسائد 5- وأوحش طابقا «13» ما زال يمضي ... لديه والرّياح به رواكد - 172-

6- وأثّر سيره في كلّ سير ... وخدّه ما ضغيه «1» في الحدائد 7- وما ثنت الصّرائم «2» منه رأسا ... ولا ردّته- حاشاك- المقاود 8- وكابدت البرادع «3» فقد حزم «4» ... فوا أسفي لمفقود وفاقد 9- غدت خلف السّوابق بالمنايا ... ولم تفت المنايا من مطارد 10- أنصّ «5» زناقه فالخيل عطل ... وجاد بنفسه أفديه جائد 11- هي الأيّام تصدع كلّ قلب ... وهل يبقى على الأيّام خالد 12- وأدركت المنون أبا زياد ... وكان البرق دون نداه قاعد 13- يسير ووطؤه فى السّهل سهل ... كما يطأ الجلامد بالجلامد 14- بأربعة الأهلّة سمّروها ... على إيماض برق بالفراقد 15- إذا ضرب اللّجام له وغنّى ... فدع عنك الأساحق «6» والمعابد «7»

16- يقارن بالحباق «1» له نهاقا ... هما شيئان والسّمعان واحد 17- رنا «2» فرثا «3» بأ ... ر قبل عين ... وشيطان الحمير نقيب مارد 78/أ 18- «4» ومزوزر «5» في سمعيه تلقى ... فراح يقيم خمسا غير ساجد 19- تخاف الأتن «6» منه شقّ ميم ... لها ويراعه في الصّاد زاهده 20- وما أدري له من أين هذا ... بلى أدري وقد تعدي العوائد 21- سبال «7» أبو الحسين «8» له عذار ... وحبّك للعذار للعذار عليك شاهد 22- ولو زينت محاسنه بنتف ... وحلق لم تجد كأساك «9» واحد 23- يحطّم منه ثغرا لا نيابا ... ولا أنياب فيه ولا زوائد 24- وكنت مزاحما «10» منه بشيخ ... يشقّ به المحافل والمحاشد 25- نجوب به البلاد فمستقيم ... وهاو تارة فيها وصاعد

26- وليس يهوله أمد «1» بعيد ... ولو أقحمته دربند آمد 27- وكم من ليلة في الخان قامت ... به في عانة «2» الحمر العرابد 28- وسقّط من أتان ثمّ خلّى ... وأحبل حائلا بين المساهد «3» 29- وكم كسرت أساطين «4» عليه ... وعند الن.. اك كم هانت شدائد 30- تكسّر وهو مشغول مكّب ... على أكفالها وعلى المذاود 31- وكم قلب المرابط في ربيع ... وأيقظ في دجاها كلّ هاجد 79/ب 32- فمن سبب «5» يراجفه «6» وودّ «7» ... يشعّبه «8» ويقطع منه زائد 33- ولم لا والخليل غلام يحيى ... يعاني ذا ويرغم من يعاند 34- هو الغاوي «9» ولا عجب لفاو ... ويتبع شاعرا جمّ الفوائد 35- لو أنّ ابن الحسين «10» رأى أباه ... لقد ألقى إليه بالمقالد

36- فذا لا ذاك إن أنصفت حكما ... ضجيع الجود منه أيّ ماجد 37- وأولى أن يقول أزائر يا ... خيال طرقتني أم أنت عائد 38- ودع عنك الوليد «1» فنكر هذا ... إذا أنكرت أنتج للولائد 39- وإن حسنت قصائد من حبيب «2» ... فدا حسن التصايد والمقاصد 40- لو الفتح بن خاقان «3» رآه ... لقلّد من محاسنه القلائد

41- ولو يحيا كشاجم «1» كان عبدا ... ليحيى في مصنّفه الفوائد 42- ولو وقعت شوارده إليه ... لزان بها المصايد والمطارد 43- ومن لأبي نواس «2» لو رآها ... مفاخرة كبت بها الحواسد 44- وميّز قول تلك وذاك فيها ... وتفضيل الجراء «3» على الجرائد «4» 45- ستاك أبا زياد كلّ جون «5» ... ملثّ القطر «6» مرتجز «7» الرّواعد

46- تشقّ عليك من حرق جيوبا ... وإن أحسست منها القلب بارد 47- ولو بالغت قلت يمين يحيى «1» ... ولكني على هاتيك حاسد - 173- وقوله: (طويل) 1- أمولاي فخر الدّين «2» عمّرت منزلي ... وعمّرت من ذهني سراجا موقدا 80/أ 2- بعثت بقمح لؤلؤى نثرته ... فخذ من ثنائي جوهرا متنضّدا 3- وقد كان لي بيت من الفار مقفر «3» ... فلمّا عمرت البيت جاءته حشّدا 4- وطابت «4» لنا طابونة شاب فودها ... فعاودها عصر الشّباب كما بدا - 173-

- 174- وقوله: (بسيط) 1- من يحفظ الفيل «1» بعد الشّبل والأسد ... هيهات والموت لا يبقي على أحد 2- من يجمع الشّمل من يرضي العشيرة من ... يجلو الضّرورة من يهدى إلى الرشد 3- لم يبق فوق بسيط الأرض من أحد ... إلا ثنته حزينا صبحة الأحد 4- وجدّدت لي في يوم الخميس أسى ... لم يجر «2» مشبهه يوما على أحد 5- ما أغفل النّاس عن هذا وكم نظروا ... في والد عبرا شتّى وفي ولد 6- أجدّ فقد ابن موسى «3» مثل والده ... فياله كمدا وافى على كمد 7- لو كنت بالجانب الغربيّ حين قضى «4» ... فيه ابن موسى لناديت الحمام قد «5» 8- ما بعده غاية يا موت تطلبها ... وصلت للشّهب فى ترقاك فاتئد 9- يزيد في كلّ يوم علم تجربة ... حتّى أتيح له يوم بغير غد «6» 10- سقى الحيايا بني يغمور «7» أعظمكم ... فطالما جدتم والغيث لم يجد - 174-

- 175- 81/ب وقوله: (طويل) 1- وكانت لك الدّنيا فعشت سعيدا ... وأومت لك الأخرى فمتّ شهيدا 2- رأى اليمن العزم الذي كنت شاهرا ... ففلّ لقيس عسكرا «1» وحشودا 3- لعرضك تعلو راية يمنيّة ... تنير وجوها للحوادث سودا 4- وأوديت قيسيّ الملابس من دم ... جرى فأبى دمع العيون جمودا 5- كذلك يكسو نفسه كلّ صارم ... يمان فسل هاما به ووريدا - 176- 81/ب وقوله: (مجزوء الرجز) 1- لو وجد اللّائم بعض ما وجد ... في الحبّ ما فنّده «2» هذا الفند 2- يسومه «3» صبرا وما أبقى الهوى ... تالله لا صبرا له ولا جلد 3- سل بي وقد حمّ «4» الفراق موقفا ... ألزم فيه كبدا منّي بيد 4- يضمّنا طيب عناق ضيقه ... قد ألف الرّوجين منّا في جسد 5- كدنا وقد رقّ العتاب بيننا ... نحلّ من عزم الفراق ما انعقد - 175- - 176-

6- إنّ ابن موسى «1» فى الكرام واحد ... أعيذه بقل هو الله أحد 7- تلا أباه في العلا وحبّذا ... كيف جرى ذاك القياس واطّرد 8- ما أجدر «2» الفرع بسرّ أصله ... وأخلق «3» الشّبل بأخلاق الأسد 82/أ 9- من آل يغمور الذين مجدهم ... تشابه الوالد فيه والولد 10- قل لحسود قد عوى سماءهم ... لما رأى شهابهم وقد وقد «4» 11- لا تعبأ «5» الأسد بذؤبان الفلا ... إذا عوت فكيف تعبا بالنّقد «6» 12- سل بهم ليل القتام «7» إذ دجا ... وسمرهم توقظ أجفان الزّرد 13- وبيضهم عارية لكنّها ... من الجساد «8» قد تبدّت في جسد 14- مخضرّة محمّرة كأنها ... آس عذار من شقيق فوق خد - 177- وقوله: (رجز) 1- سطّرها المملوك وهو أضرمد ... يخال أنّ الصّبح ليل أسود

2- يمسي بليل العاشقين دمعة ... لا تنتهى، ومقلة لا ترقد 3- كلّ على إنسان عيني «1» عطفت ... كأنّ إنساني لديها ولد 4- وقوعد البرّ فطام ناظري ... منها فهل ينجز ذاك الموعد 5- وهل لطبّ المصر منّي راحة ... فكلّهم في تعب منكّد 6- ملّوا إليّ البرّ والبحر معا ... ذا مزبل «2» الطّرق وهذا مزبد 7- بل سئموا السّخرة «3» لا كاغدة «4» ... فيها من الورّاق ما ينتقد 8- ولو أتى فيهم حنين لم يرح ... إلا بخفّيه وذا مطّرد «5» 9- سعيدهم بالمدح موعود معي ... وذو الشّقاء بالهجا «6» مهدّد 10- وعوّدى ملّوا وشرّ الدّاء أن ... تعيا الأساة وتملّ العوّد 11- ولم يكن مطل الطّبيب عادتي ... وإنّما العزيز ما لا يوجد - 178- 83/ب وقوله: (متقارب) 1- أيا ربّ من ظنّني عاجزا ... عن القول والقول عندي عتيد «7» - 177- - 178-

2- يراني في الحلم عن جهله ... معاوية «1» وهو فيه يزيد «2» - 179- وقوله في رثاء صندل الزّمام: «3» (طويل) 1- وكان سداد «4» الباب عن مسلك الهوى ... وصاحب رأي كم هدى بسداده 2- وسترا على السّتر الرّفيع بهاؤه ... به ويزين السيف حسن نجاده 3- وقالوا المقاصيريّ في وصف صندل ... لفأل جرى بالسّعد قبل ولاده 4- وكانت مقاصير الجنان محلّه ... وساد وقد أمست مقرّ وساده 5- ولمّا غدا إنسان عين زمانه ... بدا النّور شفّافا لنا في سواده 6- وبيّض إسلام النّجاشيّ وجهه ... وقيصر داج وجهه بعناده - 180- وقوله: (كامل) 1- أصبحت رجسا للئام من الورى ... ولظالم يبغي عليّ ومعتد - 179-

2- وأظنّهم لم يسمعوا بمدائح ... خلّدتها في أحمد بن محمّد «1» - 181- 84/أوقوله: (مجزوء الكامل) 1- النّار في كبد السّرا ... ج «2» وقلب إبراهيم جدّا 2- شوقا إلى المولى الوزي ... ر سقى العهاد لديه عهدا 3- ويزيد إبراهيم نا ... ري عند بثّ «3» الوجد وقدا 4- لكنّها يوم السّلا ... م على الوزير تكون بردا - 180- - 181-

- 182- «1» وقوله: (مجزوء الرجز) 1- ناديت يا سيف فما ... أجاب حرفا للنّدا 2- أندب سيفا مغمدا ... في لحده مجرّدا «2» - 183- «3» وقوله: (منسرح) 1- جاء عذار الذي أهيم به ... فجدّد «4» الوجد أيّ تجديد 2- وظنّه آخر الغرام به ... مفنّد جاهل بمقصودي 3- وما درى أنّ لام عارضه ... لام ابتداء ولام توكيد «5» - 184- وقوله: (مجزوء الرمل) 1- منزلي في ذلك البرّ ... وفي ذا البرّ زادي 2- ولتفريطىّ ما أبقي ... ت شيئا للمعاد - 182- - 183-

- 185- وقوله: (بسيط) 1- هبني سراجا طوال «1» اللّيل توقده ... هل ذلك الزّيت يكفيه مع الأبد 2- جدّد تفقّده كيما تراه غدا ... رطب اللّسان «2» بشكر غير مفتقد - 186- وقوله: (خفيف) 1- للطّواشي الرّشيد «3» بركة ماء ... زيّنتها دساتر «4» كالهّود 2- صيغ فيها صوالج «5» من لجين ... كانعطاف الأصداغ فوق الخدود 3- وتدانت منها الأعالي فقامت ... خيمة في الهوا بغير عمود - 185- - 186-

85/ب 4- يا لها خيمة لطيب مقام ... لا لتجهيز عسكر وجنود 5- ولديها ليثان قد جحدا خو ... ف سطاه إذ فاق بأس الأسود 6- ليس فيما رأيت أحسن منها ... غير خلق من الشّهاب رشيد - 187- وقوله: (مجزوء الرمل) 1- يخرج الطّيب سهلا ... من يد تسدي النّدا 2- والذي يخبث لا ي ... خرج إلّا نكدا - 188- وقوله: (سريع) 1- لي فقير وهو أغنى الورى ... بالحسن جلّت قدرة الواحد 2- قلت له لمّا بدا وانثنى ... كالبدر فوق الغصن المائد 3- قف نتنادم ساعة قال لي ... تقول يا ورّاق بالشّاهد 4- قلت وللقاضي فنادى إذا ... ما بيننا للودّ من عاقد - 189- وقوله: (مجزوء الرمل) 1- لست أنسى لمشيبي ... يده البيضاء عندي 2- مؤنسي باقي عمري ... وضجيعي عند لحدي

- 190- وقوله: (وافر) 1- أبا العبّاس تاج الدّين أحمد «1» ... دعوتك في مهمّ قد تجدّد 2- أرى بصري وإن أضحى صحيحا ... له فيما أرى نظرات أرمد 3- كأنّ الشّيب يسرق نور عيني ... فينقص ذا إذا ماذا يزيّد 4- وفي كحل الوزير شفاء عيني ... ولو نوّلت «2» منه حمل مرود 5- وليس قليله عندي قليلا ... وإعطاء القليل فما تعوّد «3» - 191- 86/أوقوله: (كامل) 1- وصلت ضحيّتك التى أرسلتها ... ووصولها أنّى «4» بقيت معاد 2- ولسوف تلقى كلّ أضحيّة غدا ... ما تلتقيه عداك والحسّاد - 190- - 191-

- 192- وقوله: (متقارب) 1- أأفرح بابن أتى والمشي ... ب بيّض «1» فودى بعد السّواد 2-وماذا أقول لأهل العقول ... إذا ما زرعت أوان الحصاد؟ - 193- وقوله: (بسيط) 1- كانت سطورك ترياقا «2» لقيت بها ... ذاك الشّجاع «3» فعاد السّم لي شهدا 2- وكان غايتها أرجوه كفّ أذى ... فأتبع الكفّ بالإحسان منه يدا - 194- وقوله: (رمل) 1- ولئيم جئته في حاجة ... فتأمّى وتأبّى «4» وتمردك «5» 2- ودعالي أنا جهرا وهو لو ... كان سرّا قلت سرّا أنت وحدك 3- قال لا أحوجك الله إلى ... سفلة «6» قلت له آمين بعدك - 192- - 193- - 194-

- 195- وقوله: (مجتث) 1- خفّفت عنك زمانا ... لأن أنقّل «1» قصدا 2- وقد خلعت حياء ... أمالني عنك صدّا 3- وما أجاور «2» بحرا ... من راحتيك وأصدا - 196- وقوله: (متقارب) 1- أغرى اهتمامك يا أمجد ... فقدري من غيظها تزبد 2- وصومي والبرد قد أقبلا ... ومطبخنا فيها أرمد - 197- 87/ب وقوله: (كامل) 1- مولاي لاقتني الخطوب بأوجه ... صلبت وظنّي أنّها جلمود «3» 2- هيهات بل هي من حديد لم تكن ... لتلين لي ولو أنّني داود «4» - 195- - 197-

- 198- وقوله: (خفيف) 1- لم يعدني محمّد «1» مذ تشكّيت ... وكم جئته وحاشاه عائد 2- وهو لا ينكر السّراج وكم ض ... مّهما في المساء وقت واحد - 199- وقوله: (مجزوء الوافر) 1- وقالوا امدح فلان الدّي ... ن فهو اليوم مقصود 2- وما في ذاك من بأس ... فقلت لهم ولا جود - 200- وقوله «2» : (كامل) 1- خدمي علما ذا البيت تشهد لي بها ... عصر الشّباب وأين ذاك الشّاهد - 198- - 200-

- 201- «1» وقوله: (بسيط) 1- ما كان رأيك محمودا بمدحته ... فقلت بل كان رأيي فيه محمود 2- ووجّهه شاهد ينبيك عن خبري ... والباء في خبري ليست بموجود - 202- وقوله: (سريع) 1- قد عقد الإفلاس لي توبة ... ما خلتها من قبله تنعقد 2- وقد كفاني واعظا زاجرا ... أنّ من العفّة ما لا نجد 3- وجاء شيبي ليزيد الجفا ... فقلت يكفي ما جرى لا تزد - 203- 88/أوقوله: (سريع) 1- كن قاطعا من قطع القدّه «2» ... وسلّ عنه النّفس بالوحده 2- لا تمخضن «3» فكرك في مدحه ... فذاك من لا عنده زبده «4» - 201- - 203-

- 204- 89/ب وقوله: (رمل) 1- نجل شمس الدّين «1» من أنعامه ... وهو في المهد به جيدي مقلّد 2- فمتى خفت الأذى من زمني ... قلت في وقع الأذى يا لمحمّد - 205- 90/أوقوله: (متقارب) 1- أيّا خاضب الشّيب حتّى متى ... تسوّده وهو يستعبدك 2- وما حاجة لشباب غدت ... تسوّد وجهك فيه يدك - 206- وقوله: (كامل) 1- أبناظري «2» في حبّ من أحببته ... هاك الدّليل وما أراك تعاند 2- الصّبح طلعته وهذا واضح ... واللّيل طرّته وهذا وارد - 207- وقوله: (بسيط) 1- وقائل عهده بالنّاس مذ زمن ... وقد رآني غريب الدّار في بلدي - 204- - 206-

91/ب 2- ما فطّروك بهذا الصّوم قلت له ... ما فطّروني ولكن فطّروا كبدي - 208- وقوله: (منسرح) 1- وغادة بالحساب عالمة ... لذهنها في الحساب تسديد 2- ما رضيت مذ خدمتها عملي ... لأنّه ليس فيه تجويد 3- قلت لها فاستو فيه فابتسمت ... وماس منها بالعجب أملود «1» - 209- وقوله: (خفيف) 1- صارأ ... ري دجاجة تخصن البي ... ض برغمي وعن قليل ينادي 2- الملاح الملاح ويلي عليه ... والملاح الملاح جلّ مرادي - 210- «2» وقوله: (مجزوء الكامل) 1- حاشاك ترضى للرّجا ... ء خلوة من فائده 2- لا الأنزروت «3» به بعث ... ت ولا دعاء الوالده - 208- - 210-

- 211- «1» وقوله: (طويل) 1- وقفت بأطلال الأحبّة سائلا ... ودمعي يسقي ثمّ عهدا ومعهدا 2- ومن عجب إنّي أودّ ديارهم «2» ... وحظّي منها حين أسألها الصّدى - 212- وقوله: (طويل) 1- إذا ثبتت بين القلوب مودّة ... فلا تخش من نقض بنقل الحواسد 92/أ 2- وما حاجة أدلي إليك بحجّة ... وقلبك للورّاق أعدل شاهد - 213- وقوله: (بسيط) 1- قواي تضعف عن همّ خصصت به ... فكيف أحمله مع همّ أولادي 2- ومن شكا ألما يؤذيه في كبد ... فإنّ شكواي من آلام أولادي

- 214- «1» وقوله: (مجزوء الرمل) 1- فابق مجد الدّين «2» عن مج ... دك يهوي «3» الفرقد 2- وتصدّق بوفاء الكي ... ل فهو المقصد 3- ووفاء النيل «4» مذجا ... ريته لا يجحد 4- وهو ثان لك قد ن ... صّ على ذا المفرد - 215- وقوله: (بسيط) 1- لي من أبيك سقاه الغيث ماطره ... مكارم لست أنساها إلى الأبد 2- ولي غريم غدا كالذّئب يختلني ... وما درى أنّ خلفي سطوة الأسد - 216- وقوله: (كامل) 1- مولاي شمس الدّين «5» يا من ضوؤه ... بخلاف ضوء الشمس يشفي الأرمدا - 214- - 216-

2- وكّلت عيني بالطّريق لموعد ... قدّمته لا زلت تنجز موعدا 3- ولقد جلبت لها الضّياء بهمّة ... جلبت لها من أصفهان «1» الإثمدا «2» - 217- 93/ب وقوله: (كامل) 1- أمطهّر بن الطّاهر بن مناسب ... رفعت على قمم الكواكب مجدها 2- امدد يدا لي بالكساء فإنّ لي ... رجلا تؤمّل في كسائك حدّها - 218- وقوله: (طويل) 1- إذا أنا يممّت الوزير بمدحة «3» ... تيقّنت عقباها «4» الجوائز والرّفدا 2- وخفت إذا أنشدته حذق «5» نقده «6» ... فأرجو له نقدا وأخشى له نقدا - 218-

- 219- وقوله: (مجزوء الكامل) 1- يا كاتبا أحيا البلا ... غة منشئا أو منشدا 2- فلذاك لم يبعث «1» من ال ... فضلاء بالمحنى سدى - 220- وقوله: (خفيف) 1- لم يعدني محمّد «2» مذ تشكّيت ... وكم جئته وحاشاه عائد 2- وهو لا ينكر السّراج وكم ض ... مّهما في المساء وقت واحد - 221- وقوله: (طويل) 1- وأذكرنني أيّام صيدك نزهة ... تقوم لها أيّام دهري وتقعد 2- مطارد وحش أو مطار عصائب «3» ... من الطّير خدّ الأرض منها تورّد 3- تباري لها خيل الوزير صقوره ... وأسهمه علوا إلى الجوّ تصعد - 219- - 220- - 221-

4- ليهنك للطّير انقضاض إلى الثّرى ... وللخيل مرقى في الهواء ومصعد 5- فلا تنكرن حاليهما في مواقف ... هنالك فيهنّ الجوارح «1» تشهد - 222- وقوله: (وافر) 1- ذكرت بنيّ والأهوال بيني ... وبينهم وأهواء الأعادي 94/أ 2- فياربّ العباد أجر طريدا ... ببابك فرّ من جور «2» العباد 3- تشفّع بالرّسول أجلّ خلق ... يقوم غدا شفيعا في المعاد «3» 4- أناخ رجاءه بحمى عزيز ... ومدّ يد السّؤال إلى جواد - 223- وقوله: (خفيف) 1- طال إصغاء مسمعي للوساد ... طول ليلي أطال ذيل السّواد 2- وكأنّ الصّباح مات وقد سنّ ... ت «4» عليه النّجوم لبس الحداد - 222- - 223-

- 224- وقوله: (وافر) 1- وجارية ظنناها غلاما ... بفترة مقلة ونشاط قدّ 2- رآها الشّيخ فانبعثت قواه ... وبشّر بالشّباب المستجدّ 3- وأتبع ردفها نظرا فقالت ... أظنّ الشّيخ من أكناف «1» نجد - 225- وقوله: (طويل) 1- ومملوكة لي كلّما رمت وطأها ... أقبّلها شرطا عليّ مؤكّدا 2- ولم تبد لي ثغرا نقيّا «2» مفلّجا «3» ... فأعذر أو خدّا أسيلا «4» مورّدا 3- ولكن ردا «5» ما اعتدت شيئا ألفته ... وكلّ امرئ جار على ما تعوّدا 4- فوجهي على وجه لها كلّ ليلة ... ويوم إذا جوا «6» إنّ ذا نافعي غدا 5- وغسلي لا من وطئها بل لوطبها «7» ... ترى كلّ يوم ذاك منّي مجدّدا 6- وما يعدم الواطي لها منه حملها ... وإن كان حملا ليس يعقب مولدا 7- وها هي في عشر الثمانين وهي لا ... تردّ مع الأيمان من لامس يدا - 224- - 225-

- 226- 95/ب وقوله: (متقارب) 1- سألت (صديقا) «1» بأمر الورى ... خبيرا بصيرا بطرق الهدى 2- أغيض النّدا من أكفّ لهم ... فجاوبني منشئا منشدا 3- إذا غيض طوفان «2» نوح «3» فما ... تعجّبنا أن يغيض النّدا - 227- وقوله: (بسيط) 1- صار الثّلاثا «4» ليوم السّبت أفّ «5» على ... حظّي فأفّ فما حقّى أرددها 2- ألهاني الهمّ عن نعتي وأفّ بها ... ما زال يطفى سراج اللّيل موقدها - 226- - 227-

- 228- وقوله: (سريع) 1- مولاي فخر الدّين «1» أرسلتها ... أشكر للصّاحب «2» فيها يدا 2- فاقصد بها عنيّ أبوابه ... دامت مدى الدّهر لنا مقصدا - 229- 96/أوقوله- ويورّي بثابت الكسككائي وليس في القاهرة إذ ذاك من يعملها سواه-: (خفيف) 1- جاءني القمح تلوه «3» ثمن اللّح ... م فعيدى لا شكّ عيد سعيد 2- وطبخت الكسكاك «4» من ذا وهذا ... فأنا اليوم ثابت ويزيد - 230- وقوله: (مجتث) 1- لي عادة من أيادي ... ك يا لها من عوائد 2- فعد بها فلحالي من ... ها طبيب وعائد - 228- - 229-

- 231- وقوله: (متقارب) 1- وقد كنت في عنفوان «1» الشّباب ... أوافق أيرى على ما يحب 2- فأعتبه «2» وهو لا يرعوي «3» ... وأجذبه وهو لا ينجذب 97/ب 3- ووالى جفاه وولّى قفاه ... وما في يدي درّة «4» المحتسب «5» - 232- وقوله: (طويل) 1- أمولاي هذا مادح وابن مادح ... أتى فيك يرجو ماجدا وابن ماجد 2- ويسأل إنجازا لوعدك إنّ من ... شعار الكريم الحرّ صدق المواعد 3- فأمر لعمّال الصّناعة إنّما ... صناعتهم في المطل رفع القواعد - 233- وقوله: (مجزوء الكامل) 1- ولسانه قد كلّ حت ... ى قلّ منه كلّ شاحذ «6» - 231- - 233-

2- وبعذره إذ لم يجد ... للقول نهجا «1» قطّ نافذ 3- وبحقّه وهو المز ... يّف «2» أن يخاف من الجهابذ «3» 4- هبني اجترأت فأين من ... شوك القنا شوك القنافذ - 234- وقوله: (كامل) 1- شمس كما قد تعلمون مقرنز «4» ... جعل السّها «5» من نظمه أفلاذا «6» 2- وله أشار ابن الحسين «7» بقوله ... (أمساور أم قرن شمس هذا) «8» - 235- وقوله: (طويل) 1- أمولاي عزّ الدّين «9» كم قال شاعر ... خليليّ مسرورا بها متلذّذا - 234- - 235-

2- وأنت وفخر الدّين «1» أدعو كما معا ... خليلىّ لا بل سيّديّ وفوق ذا 98/أ 3- وبينكما ما خاب قصد مؤمّل ... وبيتكما الدّارىّ «2» كالمسك والشّذا - 236- وقوله: (متقارب) 1- شكوت لها لهبا في الحشى ... فقالت وكلّ سراج كذا 2- فقلت ولم تبعيدني إذا ... فقالت بنارك أخشى الأذى - 237- وقوله يهنئ بخلعة زرقاء: (بسيط) 1- وخلعة إن بدت لون السّماء لنا ... فقد بدا منك ما يزهى على القمر 2- قالت سعادة مولانا لصانعها ... دعها سمائية تمضي على قدر - 238- وقوله: (مجزوء الوافر) 1- وخفت عليه من نظري ... ففاض الدّمع وابتدرا 2- ولم يظفر بحلو العي ... ش من لا يلعق الصّبرا «3» - 238-

- 239- 99/ب وقوله: (طويل) 1- رأيت بني الدّنيا وحاشاك أصبحوا ... ولم يجر منهم للنّدى أحد ذكرا 2- تريني وجوها لم تنلها معاولي ... فقدت وجوها أستلين بها الصّخرا - 240- «1» 100/أوقوله: (خفيف) 1- أنا من أين والعمارة من أي ... ن لقد دقّ «2» معصمي «3» عن سواري 2- كلّ يوم أقول قد تبت عنها ... لو تهيّت «4» إرادة الأقدار 3- آفة «5» الدّرهم العمارة عافى اللّ ... هـ منها وآفة الدّينار 4- وهي تشلي «6» الحسّاد حتّى يثوروا ... أو يثيروا بسعيهم كلّ نار 5- ويقولوا في الدّار مطلب مال ... كذبوا أيّ مهلك «7» في الدّار 6- ونزاع الجيران ذا الباب بابي ... وطريقي وذا الجدار جداري - 240-

7- كلّ يوم كأنّني أنا والبنّاء ... ء حلفا شكيّة ونفار «1» 8- حيث يأتي وخلفه كلّ نغّا ... ص «2» من الطّين مكتس وهو عار 9- واحد منهم يرتّب «3» للما ... ء ولم يدر غير كسر الجرار «4» 10- والذي منهم يرتّب للطّي ... ن قصاراه ثمّ كسر القصاري «5» 11- وإذا ما قاموا لنصب الأسافي ... ل تقضّى «6» في النّصب نصف النّهار 12- وأقاموا الحديث بينهم واند ... فعوا في غرائب الأخبار 13- وترى كلّهم مشيرا بكفّي ... هـ فيمضي نهارنا في النثار «7» 14- كسروا الطّوبة «8» الطّويلة والصّغر ... ى لديه مطروحة في انكسار 15- ذا وبطر «9» النّشّار أصلحك اللّ ... هـ فلا تنس قصّة النّشّار 16- ويراني منه على الجمر غيظا ... وهو لاه بالبرد في المنشار 17- وقدوم «10» يسنّ «11» شهرا ولا يق ... طع شبرا كأنّه أفكاري 18- ولعمري الحدّاد أنحس منه ... أحاشي الأديب عبد الباري

19- وحديث المبلّطين «1» كفاني ... منه ذا الاسم فاقتنع باحتضاري «2» - 241- 103/ب وقوله في طرد: (طويل) 1- نصف «3» شهبا قد أرسلتها أهلّة ... براحة بدر عنه تجلى الدّياجر 2- وكم طير ماء في الرّياض له دم ... تضاهيه من حمر الشّقائق زاهر 3- وفي كلّ يوم للوحوش مصارع «4» ... بأشلائها «5» تقتات تلك العساكر 4- ومن دمها للأرض خدّ مضرّج ... يهيم به قلب ويفتن ناظر 5- كأنّ مليك الأرض خيّم عندها ... وضحّى وهاتيك البقاع مجازر «6» - 242- وقوله: (طويل) 1- سروا وكأنّ اللّيل من بطء سيره ... وداني خطاه بالنّجوم مسمّر «7» - 241- - 242-

2- ولاذت سيوف بالغمود وقد رأت ... قلوب رجال في الحديد تؤثّر 3- رجال على خلق من الغيث ركّبوا ... وأسد على خلق من الناس صوّروا - 243- وقوله: (سريع) 1- ترى النّدامى حول حيطانها ... صرعى وما ذاقوا ولا قطره 2- ومرّة من طول ما عمرت ... كنّي إبليس أبا مرّه - 244- 104/أوقوله: (خفيف) 1- إن مددت الغطاء «1» لي مدّ ورش «2» ... ليس هذا عليّ بالمقصور 2- دمت لي نافعا كما أنا راج ... عاصما لي من فجأة المحذور - 245- وقوله: (كامل) 1- إنّي وإن كنتم تروني عندكم ... وترون من أقوالي التّحريرا «3» - 244- - 245-

2- أجد الوزارة فيك يا ابن محمّد «1» ... حقّا يحقّ وفي سواكم زورا - 246- وقوله: (رجز) 1- بي رمد جاء كلمح بالبصر ... بما دهي والحال أدهى «2» وأمر 2- وأشتهي الكحال «3» يأتي في البكر ... وهو معي معيّن من السّخر «4» 3- يأتي وفيه من مقاساتي «5» ضجر ... ترميني الأنفاس منه بالشّرر 4- إن قلت من أين يقول من سقر «6» ... والله ما بينكم إلّا سفر «7» 5- كم جئته من الحديث بسمر ... فقال ما يؤذيكم إلا الهذر «8» 6- والله ما يتمّ هذا في البشر ... وما رأينا عاقلا قطّ فشر «9» 7- كم قلت لا تأخذها إلا حجر ... فقال لي مجاوبا ويا عمر 8- لا تدخل الحمّام إلا في سحر ... ومن غريب ما أتاكم بخبر - 246-

9- بي حدّة في العين ليست في الأثر «1» ... فاعتبروا «2» فإنّما الدّنيا عبر - 247- «3» 106/أوقوله: (مجزوء الرجز) 1- وهذه صحيفة ... بأدمعي مسطّره 2- وإنّما سوادها ... حداد عين لم تره 3- يا علم «4» الدّين الذي ... أخلاقه مطهّره - 247-

4- ويا كريم الفرع وال ... فرع دليل الشّجره

5- لا أنس لا أنس وقد ... أدار راحا عطره 6- كأنّها في كأسها ... ياقوتة مجوهره

- 248- وقوله: (كامل) 1- عند الخدود دمي فهل لي ثائر ... يا للرّجال وحيّ ليلى عامر 2- وبأرضهم سمر الرّماح عواطف ... مسّاسة «1» وظبا «2» الصّفاح «3» بواتر 3- ومتى رأيت هناك ظبيا راتعا ... فقتيله في الحبّ ليث خادر 4- ووراء دمعي للدّيار دمي ولا ... حذر «4» وللأطلال منه ذخائر - 249- وقوله: (خفيف) 1- منعتني من الوداع أمور ... نا في بعض بعضها معذور 2- وكفاكم منها إذا قيل لم لا ... جاء قال المحتجّ شيخ كبير 3- ومضاف لذاك ضعف وعجز ... وحمار ما كاد تحتي يسير 4- كلّما رضته بشعري نادى ... أنا ما لي والشّعر ابن الشّعير «5» 5- وحمته منّي دمامل ألقت ... ني «6» فما لي عن الفراش مسير - 248- - 249-

6- كلّ قاس عليّ كالدّهر مالا ... ن وهيهات أن تلين الصّخور «1» 7- وعلى بابه المراهم «2» لم يؤ ... ذن لها والحجاب ثمّ عسير 8- مغلق الباب ما تلا سورة الفت ... ح «3» وقاف «4» ض دونه والطّور «5» 9- وتراني في اللّيل يرتقب الفج ... ر وقد حال دونه الدّيجور «6» 10- وأشدّ الآلام ليل طويل ... ما له آخر وجفن قصير - 250- 110/أوقوله في فروة كسيها: (بسيط) 1- كسوتني فروة «7» فرّ الشّتاء بها ... عنّى وولّى كما ولّت جموع تتر «8» 2- تودّ شهب الدّياجي لو تلوح بها ... سوداء كاللّيل أهداها إليّ قمر 3- كنت المبرّد «9» لولاها وقد جعل ال ... فرّاء لي رابطا كالمسك أو خبر - 250-

4- إذا خطرت بها في معشر دهشوا ... وقال قائلهم من ذا الأمير عبر 5- بطوق «1» سمّورة «2» كادت محاسنه ... تكون للورق «3» في أفنانهنّ سمر 6- إن شبّ عمرو عن الطّوق الذي زعموا ... فقل وقد شبّ في طوق الوزير عمر - 251- وقوله: (متقارب) 1- وأنظم فيك العقود «4» التي ... يغوص عليهنّ فكري البحارا 2- إليك غدا رافعا شكره ... سراج له قد رفعت المنارا 3- وتبدي لسانا غدت ناره ... لعرض حسودك ترمي الشّرارا - 252- وقوله: (طويل) 1- وهاتفة «5» نبّهتها بعد ما ونت «6» ... من النوح واكتنّت «7» أراك «8» الحمى وكرا 2- بكت لو بكت مثلي بدمعة عاشق ... وهيهات فيض الدّمع مرتبة أخرى - 251- - 252-

3- وقد ضمّنا إذ ذاك ضيق عناقنا ... وكم ضمّ غصن ذابل غصنا نضرا 111/ب 4- يظنون أنّ الخدر «1» يحجب وجهها ... وضوء محيّاها «2» الذي يحجب الخدرا - 253- وقوله: (مجزوء الكامل) 1- لله يمناك التي ... كم كان لي فيها يسار 2- أخذت من الأيّام لي ... ثأرا فما جرحي جبار «3» - 254- وقوله: (كامل) 1- ما عائق المتقدّمين إلى الرّدى ... إلّا انتظار اللاحق المتأخر 2- لا يطمعنكم إن أنا خوا «4» برهة «5» ... فأمامهم سفر ليوم المحشر 3- وكأنّني بخيامهم قد قوّضت ... فتأهبا «6» للرّحلتين «7» وشمّر «8» 112/أ 4- هو مورد راع العباد وربّما ... كانوا أشدّ تروّعا للمصدر - 253- - 254-

- 255- وقوله: (كامل) 1- يا أيّها الملك الذي أيّامه ... حلم وجفن السّيف فيها ساهر 2- والضّارب الأقران «1» أوّل ضربة ... هي من حياة من اتّقاها آخر - 256- 113/ب وقوله: (سريع) 1- يا من شكا لي أنّ في صدره ... قلبا وحاشاه على الجمر 2- النّار في قلب السّراج الذي ... لهيبه يعلو إلى الفجر - 257- 114/أوقوله: (طويل) 1- تقول وعيد النّحر أقبل والورى ... ضحاياهم جاءت منازلهم تترى «2» 2- ومطبخنا قد شاب من طول عطلة ... بها ما رفعنا فوق كانونه «3» قدرا 3- ولم تر سكينا تحدّ ولا رأت ... شرائي لفحم كان أوّل ما يشرى 4- ولا وجدت ريح الأبازير «4» لا ولا ... رأت عينها للملح «5» عينا «6» ولا أثرا - 255- - 257-

5- أراك معيري سكتة عن ضحيّة ... بها سنّة المختار ما برحت تجرى 6- فقلت لها هذا مع اليسر فاعذري «1» ... وحقّك فى الإعسار أن تبسطي عذرا - 258- وقوله: (بسيط) 1- لولا الحطيئة هاجاني لقال وما ... عليه في الحقّ من عاب ولا عار 2- (دع المكارم لم ترحل لبغيتها ... وابعد فإنك أنت الجائع العاري) «2» - 259- وقوله: (طويل) 1- وقد طاف في الدّنيا أريج ثنائه ... فإن لم يكن خضرا فإنّ ابنه الخضر «3» - 258- - 259-

- 260- وقوله: (طويل) 1- وما ضرّه شنّ «1» صغير وقد سرى ... إلى بابه من كلّ قطر كبيره 2- على صهوات «2» الخيل مرباه «3» مذنشا ... إذا ربّ «4» طفلا مهده وسريره - 261- وقوله: (وافر) 1- يخاف التّبر «5» سطوة راحتيه ... ولون الخائف المرتاع أصفر 2- يقصّر آل برمك «6» عن نداه ... فنعماهم لذي نعماه تكفر 3- له فضل لنا فيه ربيع ... وبحر ندى وما أرضى بجعفر - 260- - 261-

- 262- وقوله: (طويل) 1- ولم أر كالكسكاك «1» إذ راق دهنه ... ولاح له نشر وفاح له نشر 2- وما عدل الطّبّاخ فيه وجوره ... هو العدل فافهم ما تضمّنه «2» الشّعر 3- وتسعة أعشار لعمرك لحمة ... وما فيه من برّ لعمري ولا عشر - 263- 117/ب وقوله: (بسيط) 1- وقد رأت مصر أيّام الخصيب «3» به ... وسرّها قائم منه ومنتظر 2- ولا بن هانيه «4» مدح سوف يتبعه ... عبد الوزير ومولى جوده عمر - 262- - 263-

- 264- وقوله: (الخفيف) 1- أيّ عيد مضى ومملوكك الو ... رّاق فيه لم يلتق الجزّارا 2- شاب فودى ومطبخي وفؤادي ... فغدا ليلنا الجميع نهارا 3- والضّحايا تساق إلّا إلينا ... فكأنّا كنّا به كفّارا 4- ومتى ما دعوت جود كريم ... لم يزده الدّعاء إلّا فرارا 5- فقد وري تنزّلت بعد ما كن ... ت لها أنت رافعا أقدارا 6- لم يقم في السّواد منها خطيب ... يذكر النّاس جنّة أو نارا 7- لا ولا زخرف «1» الدّماء بأرضي ... فتريني بوجنتيها احمرارا 8- لا ولا سورة الدّخان «2» تلتها ... برمة «3» لي قد أصبحت أعشارا «4» - 265- وقوله: (مجزوء الكامل) 1- والشّعر ليس للابس ... من نسجه يوما شعار «5» 2- يلقى «6» فلا يهدى كذا ... لك لا يباع ولا يعار - 264- - 265-

3- وأرى الكبار في الهمو ... م لمن له مثلي صغار 4- وأبو الهنات «1» أبو البنا ... ت ومن له أيضا حمار 5- ومضى الشّعير فليس يل ... حق بالحياة له غبار 6- والقرط «2» عزّ «3» فقرط مار ... ية غدا منه يغار 7- والقمح جلّ عن الحدي ... ث فخوضنا فيه فشار «4» - 266- 118/أوقوله: (بسيط) 1- ولي صغيران أعرى من سيوف وغى ... في كفّ ذي حنق قد حثّه النّار 2- كسوتني وكسوت العرس أمّهما ... بيضاء تشرق فيها منك أنوار 3- عمّت بفضلك من في الدّار أجمعهم ... حتىّ تناول منها حظّه الجار

- 267- وقوله: (سريع) 1- واجعل لهذا آخرا إنّه ... لا شيء إلّا وله آخر 119/ب 2- وقد تناسى الناس بي أشعبا «1» ... وسار باسمي المثل السّائر - 268- وقوله: (طويل) 1- سقاها فهل أبصرت شمسا منيرة ... يحثك في جنح الظّلام بها بدر 2- ولمّا بدت من فيه هامت بلثمه ... فنظّم من ثغر الحباب لها ثغر 3- ولمّا اجتلينا ثغره وحبابها ... ومبسمه لم نستبن أيّها الدّرّ 4- من التّرك فتّاك اللّحاظ إذا رنا «2» ... ومال بعطفيه فما البيض والسمر 5- غزاني وما أضمرت حربا لحبّه ... فأوّل ما ولّى سلوّي «3» والصّبر 6- يكاد لفرط اللّين ينقدّ قدّه ... فهل جسمه ماء وهل قلبه صخر؟ - 267- - 268-

- 269- وقوله: (طويل) 1- سلام كأنفاس الصّبا مست الرّبى ... بأذيالها فاستيقظت أعين الزّهر 120/أ 2- وغضّ لها كالنّرجس الفضيّ ناظر ... يكفكف في أجفانه أدمع القطر 3- وقبّل خدّ الورد وهو بكمّه «1» ... أقاح ومن دمع الحيا باسم الثّغر 4- وقد أظهر النّمّام «2» سرّ هواهما ... وليس مع النّمّام ستر على سرّ 5- ولؤلؤ طلّ لاح في كلّ زهرة ... ما لاح عقد من فتاة على نحر 6- وقام خطيب الرّعد بين ملابس ... من السّحب سود فانبرى دمعها يجرى - 270- وقوله: يخاطب التلعفري «3» ويعرّض ... باشتغاله عن غشيانهم بما كان مغرى - 269- - 270-

به من القمار (رجز) 121/ب 1- وأرسلوها يققا «1» أو ظلما «2» ... عليّ في جنح الدّجى المعتكر «3» 2- تسوّد أو تبيّض لونا واحدا ... كاللّيل طورا والصّباح النّيّر 3- وكم حرام وحرام وقعا ... عليّ من وقت العشا «4» للسّحر 4- وهي متى ترمى على تربيعها «5» ... مذ خرجت سريعة كالأكر «6» 5- تدور حتى تنتهي لمغرمي «7» ... فتحتبي «8» في جلسة «9» الموقّر 6- أفّ لها أفّ لها من أعظم ... بالية «10» فيها بلاء1» البشر 7- غالت فتى الخيّاط أو أصبح في ... أضيق عيش من خروق الإبر 8- وليس للورّاق معها حجّة ... فاعطف علينا يا فتى التّلعفري

- 271- وقوله: (بسيط) 1- هل تعلم النّاس أنّي في صيامي قد ... صبوت عشقا إلى بيضاء كالقمر 2- حوراء تنظر في المرآة طلعتها ... يا هذه ليس هذا الجنس للبشر 3- وربّما قليت «1» منّي وموضعها ... أدنى لقلبي من سمعي ومن بصري 4- وصائن في إزار صان بهجتها ... فقلت ليس يصان الحسن بالأزر 5- باتت وعيشك في صدري فما برحت ... من العشاء على حكمي إلى سحر 6- أشكو لها نار قلبي وهي شاكية ... أضعافها وكلانا صادق الخبر 7- وأستبيح حماها غير مقترف ... ذنبا من الله في ورد ولا صدر «2» 8- حتّى إذا ثوّب «3» الدّاعي نهضت وقد ... خفنا نميمة «4» طيب فوقها عطر 122/أ 9- فلا غدا «5» القطر مغناها ومنزلها ... لا بل أقول غداها وابل المطر 10- ولا لحى «6» الله من يدني زيارتها ... منّي فما فيه من وزر «7» ولا خطر «8» - 271-

- 272- وقوله: (كامل) 1- وتدرّعوا «1» فوق الدّروع قلوبهم ... والسّمر شهب في النّحور تغور 2- ومثقّف «2» شرب الدّماء وهزّ من ... أعطافه فكأنّه مخمور - 273- وقوله: (سريع) 1- ولي حمار قطعتي «3» في الدّرى ... قد أشبهت قطعته في الحمير 2- مشكّل «4» من همّة بالطّوى «5» ... مشكل من شوقه للشّعير 123/ب 3- إذا مشى الخطوة أو دونها ... أقول سبحان اللّطيف الخبير - 274- وقوله: يخاطب ابن الخليلي «6» : (بسيط) - 272- - 273- - 274-

1- قد أصلح الجوع بين القطّ والفار ... عندي لإدباري حظّي أيّ إدبار 2- ورقّ هذا لذا من سقمه فهما ... كعاشق وخيال نحوه ساري 3- وفي الشّدائد ما ينسي الحقود وما ... يثني الحسود إلى حبّ وإيثار 4- فلو رأيتهما شاهدت من عجب ... ألا رأيت ولم تسمع بأخبار 5- هذا على مطبخي المبرود في حرق ... وذا على مخزني المكنوس في نار

6- وما بي القطّ همّ الفار أذهلني ... عنه وضاعف منه شغل أفكاري 7- ما كاد يعثر وفي داري لشقوته «1» ... بقمحة لا ولا الأهلون في الدّار 8- وليس في دار دنياهم ذخيرتهم ... ودار أخراهم إلّا الفتى الدّاري «2» - 275- وقوله: (طويل) 1- إذا ضنّ عنّي باخل بعطائه ... فقد قلّد «3» الإحسان من حيث لا يدري 2- ولم يتكلّف كاهلي «4» حمل منّه «5» ... له لا ولا نطقي بحمد ولا شكر - 276- وقوله: (بسيط) 1- فليت شيبي فيما اسودّ من صحفي ... وليت حظّي فيما ابيضّ من شعري - 275-

- 277- 124/أوقوله: (بسيط) 1- عبّادة النّاس إنّ الدّار قد فعلت ... كناية منهم عن ربّة الدّار 2- وداركم قال عنها النّاس قد رجمت ... والرّجم «1» حدّ «2» وما يخفى على الدّار - 278- «3» وقوله: (مجزوء الرجز) 1- أنشدني شعرا به ... ظننت فاه مبعرا 2- وقال لي كيف ترى ... قلت أرى مثل الخرا 3- فقال لى اسمع غيره «4» ... قلت كفى ما قد جرى - 279- وقوله: (سريع) 1- تأنّ للظّالم واصبر له ... ودعه فالدّهر له ثايره «5» 2- وإن تكن دنياه أملت له ... فلم تكن دنيا بلا آخره - 277- - 278- - 279-

- 280- وقوله: (سريع) 1- ثمّ أتاه شيبه جملة ... فأثلجت لحيته صدره - 281- «1» وقوله: (مخلع البسيط) 1- يمنعني باخل وسمح ... وليس لي منهما نصير 2- وغايتي أن ألوم حظّي ... وحظّي الحائط القصير - 282- وقوله: (بسيط) 1- صفت خواطر مدّاح صفت لهم ... موارد الجود من قوم بهم ذكروا 2- وأيقظتهم أياديهم فسار لهم ... مدح تحلّت به الأيّام والسّير 125/ب 3- ولو رأوا من رأينا قال قائلهم ... لو أنّهم ضربوا بالسّيف ما شعروا - 283- وقوله: (منسرح) 1- أرّقني دمّل وأقلقني ... فما لليلي وماله فجر - 281-

2- حتّى لقد يعجب السّمندل من ... بقاء جسمي وحشو «1» محمّر - 284- «2» وقوله: (الخفيف) 1- كلّ قلب عليّ كالصّخر ما لا ... ن وهيهات أن تلين الصّخور 2- مغلق الباب ما تلا سورة الفت ... ح وقاف من دونه والطّور - 285- «3» 1- وكان النّاس إذ مدحوا أثابوا ... وللكرماء بالمدح افتخار 2- وكان العذر في وقت ووقت ... فصرنا لا عطاء ولا اعتذار - 283- - 284- - 285-

- 286- وقوله: (بسيط) 1- لكم أياد عذاب لي مواردها ... والوفد «1» منهنّ بين الورد والصّدر 2- والبرد يمنعني منها على ظمأي ... والعذب يهجر للإفراط في الخصر «2» - 287- وقوله: (سريع) 1- يا جامع المال توقّع له ... ما جمّع الدّمل إلّا انفجر 2- كم يعظ الدّهر وأنت امرؤ ... قلبك في قسوته كالحجر - 288- وقوله: (طويل) 1- وأسمر يحكي الأسمر اللّدن «3» قدّه ... ويغدو له الغصن النّضير «4» نظيرا «5» 2- له وجنة بل جنّة زاد حسنها ... عذارا «6» فصارت جنّة وحريرا - 286- - 288-

- 289- 126/أوقوله: (سريع) 1- إنّ ثلاثة صحبت ثلاثة ... أعبت علاج بدوها والحضر 2- عداوة مع حسد وفاقة ... مع كسل وعلّة مع كبر - 290- وقوله: (سريع) 1- يا نابش الشّرّ علينا أفق ... وخف إذا بعثر ما في القبور «1» 2- وقل لمن يجنف «2» في أمره ... (ألا إلى الله تصير الأمور) - 291- وقوله: (طويل) 1- وعدت بزيت ثمّ أخلفت موعدي ... وأنت بإخلاف الوعود جدير 2- وقلت الذي عندي غليظ مدوّر ... وإخراج هذا من يديك عسير - 292- وقوله: (متقارب) 1- إذا قال لي قائل كيف أنت ... أقول رخيصا فمن يشتري - 290-

2- ومن يرغب اليوم في مدحة ... ولو سمعت من فم البحتري «1» 127/ب 3- وإن حرّموني على مدحهم ... فتلك عقوبة من يفتري - 293- وقوله: (كامل) 1- أمّا السّماح فقد مضى وقد انقضى ... فتسلّ عنه ولا تسل عن خيره 2- واسكت إذا خاض الورى في ذكره ... (حتّى يخوضوا في حديث غيره) «2» - 294- وقوله: (طويل) 1- ومن فرط فقري واحتياجي بعدكم ... وبذل محيّا بالحياء مستّر 2- أكلت حمارا طالما قدر ركبته ... كأني لم أسمع بأخبار خيبر «3» - 292- - 293- - 294-

- 295- 128/أوقوله: (متقارب) 1- وبتنا سراجين في مدحه ... كلانا يؤجّج في القلب نارا - 296- وقوله: (وافر) 1- مبادي الشّعر في حكم «1» وفخر ... ووصف الخود «2» والظّبي الغرير «3» 2- وآخره سؤال وابتذال ... ومدح للجليل وللحقير 3- كماش في المطالب منتهاه ... وغايته إلى نبش القبور - 297- وقوله: (خفيف) 1- وجواد تهزّه نغمة السّا ... ئل هزّ النّسيم أعطاف ناضر 2- قلت عذري باد فقال مجيبا ... هو باد فابشر وجودي حاضر - 298- وقوله: (طويل) 1- أرى القوم قد ملّوا السّماحة والنّدى ... وكم بين معذور إلى غير معذور 2- وربّ سراج ضاع بين بيوتهم ... فبات بلا زيت وباتوا بلا نور - 296-

- 299- وقوله: (مجزوء الرجز) 1- كم لك معنى مرّ بال ... دّهر كلمح بالبصر 2- ألبسته اللّفظ فلا ... طول به ولا قصر - 300- وقوله: (طويل) 1- طلبت جوادا فامتدحت مبلّدا «1» ... حمارا فألجاني لبيع حماري 2- فأنزلني الحرمان دار ندامة ... وأنزل أشعاري بدار بوار «2» - 301- وقوله: (طويل) 1- بدأت بمعروف فأتمم لتجتلي «3» ... أهلّته في الأفق وهي بدور 129/ب 2- وشيّد بناء المكرمات وأعلها ... قصورا فما يعزى «4» إليك قصور «5» - 300- - 301-

- 302- وقوله: (طويل) 1- وتحتك برذون يظلّ بظلّه ... صقور تأيّا «1» موته ونسور 2- لسائره «2» لولا ضلوع تخالها ... فخاخا «3» لها منصوبة «4» فتطير 3- يرى أنّ للّطاحون «5» آخر أمره ... ويعلم أنّ الدّائرات تدور «6» - 303- وقوله: (طويل) 1- وأهيف مثل الرّمح عانقت قدّه ... غداة وداع والمراقب ينظر 2- ولم أخش طعنا للوشاة بقولهم ... وفي راحتي من قدّه اللّدن أسمر - 304- وقوله: (كامل) 1- أشغال مولانا الوزير كثيرة ... وحوائجي «7» أبدا إليه أكثر 2- وأقول قد أضجرته فيقول لي ... علياؤه ربّ العلا لا يضجر - 302- - 304-

- 305- وقوله: (خفيف) 1- وتجلّى جبينها في دجى اللّي ... ل فخلناه من سناه نهارا 2- فبهذا من حار قد أرشدته ... وبهذا من أرشدته حارا - 306- وقوله: (كامل) 1- إنّ الحوائج لا تكون هنيئة ... حتّى تكون قصيرة الأعمار - 307- وقوله: (خفيف) 1- غيّرتك الأيّام سبحان من لا ... يعتريه «1» عن حاله التّغيير 2- وتطاولت «2» فوق قدرك والأ ... قدار «3» تجري والدّائرات تدور 130/أ 3- وتخازرت «4» لي بمؤخر عين ... لك والله ناقد ونصير 4- وتصاممت «5» عن سؤال وقد أ ... مّل في القبر منكر ونكير» - 307-

5- ينصف «1» الدّهر منك إن غرّك «2» الدّه ... ر وأغراك «3» والحياة غرور «4» - 308- وقوله: (مجزوء الرجز) 1- بان عليّ الكبر ... وغيّرتني الغير 2- وصار من ينظرني ... يقول هذا عمر 3- أين اهتزار كالقضي ... ب اللّدن حين أخطر «5» 4- وقولهم عند الصّبا ... تالله ماذا بشر 5- تقوّس الظهر وما ... غير العصا لي وتر «6» 6- وليس لي من الغوا ... ني «7» اليوم سهم «8» يذكر - 309- وقوله: (متقارب) 1- أرتني هنا «9» يملأ الرّاحتين ... وأخفي هنا لي فرط الصّغر 2- وظلّت تقول لأترابها ... يريني السّها وأريه القمر «10» - 308- - 309-

- 310- «1» 131/ب وقوله: (مخلع البسيط) 1- أرسل لي ابن الوحيد «2» لمّا ... مرضت بالأمس جام سكّر 2- ومدحة لي بخطّه لي ... فقلت ذا سكّر مكرّر 3- حلّى وحلّى فمي وجيدي ... عقد شراب «3» وعقد «4» جوهر - 310-

- 311- وقوله: (مجزوء الرمل) 1- ولقد نزّهتهم فو ... قك في ماء وخضره 2- فغدا جلدك لا أثوا ... به في الشّمس عصره «1» 3- ورأينا جسمك الأب ... يض قد شرّب حمره 4- وسمعناهم يقولو ... ن الأمير اليوم زفره «2» - 312- وقوله: (كامل) 1- منّا المدائح والمنائح «3» منكم ... كلّ بما يعزى إليه جدير - 313- وقوله: (كامل) 1- وإذا جليت «4» اليوم درّ مدائحي ... جلبت «5» لأسواق بغير تجار «6» 2- فيحلّني الحرمان دار ندامة ... ويحلّها الخسران دار بوار - 311- - 312- - 313-

- 314- «1» 132/أوقوله: (طويل) 1- وعمّرت في الإسلام فازددت بهجة ... ونورا كذا يبدو السّراج المعمّر 2- وعمّم رأسي الشّيب نورا فسرّني «2» ... وما ساءني أنّ السّراج منوّر - 315- وقوله: (خفيف) 1- نقّر «3» الأغبياء عنّي شعري ... مثل ما نقّر الغوانيّ شعري 2- وابلائي «4» من قدرة لي قلّت ... فلهذا قد قلّ في النّاس قدري - 316- وقوله: (طويل) 1- ولي قلم في عصركم جفّ «5» ريقه «6» ... ويكفيه من دنياه نغبة «7» طائر - 314- - 315- - 316-

- 317- «1» وقوله: (مخلع البسيط) 1- كم قطع الجود من لسان ... قلّد «2» من نظمه النّحورا 133/ب 2- وها أنا «3» شاعر سراج ... فاقطع لساني أزدك نورا - 318- وقوله: (متقارب) 1- إذا يئس المرء من أ ... ره ... رأت عرسه اليأس من غيره 2- ومن كان في سنّه طاعنا ... فقد عدم الطّعن في غيره - 319- وقوله: (طويل) 1- وأفرغ شيء قلبها ونطاقها» ... وأملأ شيء قلبها «5» وسوارها - 317- - 319-

- 320- وقوله: (خفيف) 1- كم يريد الخبّاز يرفع رطلي «1» ... وأرجّي بالنّصب «2» مشي أموري 2- وإلى كم شرائي بالجرّ «3» منه ... وانصرافي بخاطر «4» مكسور - 321- وقوله: (طويل) 1- ترهّبت «5» لمّا أن غدا اللّحم غاليا ... ورهّبت عرسي فهي لا تتزفر «6» 2- ومن طرفيها تشتهي اللّحم شهوة ... وللنيّ والمطبوخ منّي تعذّر - 322- وقوله: (متقارب) 1- معاد «7» الحديث معادي فلا ... تكرّر حديثا ولو كان سكّر - 320- - 321- - 322-

2- فإن فتح السّمع بابا له ... وعاودت ألفيت بابا مكسّر - 323- 134/أوقوله: (بسيط) 1- قالوا اتّخذه لؤلؤا كحلا يفيدك في ... ما أنت شاك لنا من ظاهر البصر 2- وقيل خذه بلا ثقب فقلت لهم ... هذا يوافق ضعف العين والأثر - 324- وقوله: (كامل) 1- طوت الزّيارة عند ما ... رأضت المشيب طوى الزّياره 2- فبقيت أهرب وهي تل ... في جارة من بعد جاره 3- وتقول يا ستّي «1» استري ... حي لا سراج ولا مناره - 324-

- 325- وقوله: (طويل) 1- أمولاي بدر الدّين «1» أنت بدأتني ... بفضل به أصبحت مستوجبا شكري 2- ولكنّه يحتاج منك تتمّة ... ومن هو أولى بالتّمام من البدر - 326- 135/ب وقوله: (مجزوء الرمل) 1- كان أ ... را صار سيرا ... يجلد الأكساس سخره 2- أفلا ينفرن منّي ... ومعي شيب ودرّه - 327- وقوله: (مجزوء الرمل) 1- أنكروا المعروف حتّى ... صار بين القوم منكر 2- وتناسوه فدع ذك ... رك شيئا ليس يذكر - 325-

- 328- وقوله: (مجزوء الكامل) 1- تدنو القلوب من القلو ... ب وإن تباعدت الدّيار 2- وبذا قنعت «1» من الأحبّ ... ة لا أزور ولا أزار - 329- وقوله: (مجزوء الكامل) 1- قالت نعبّئ «2» حاجة ال ... حمّام قلت جرت هزاهز «3» 2- بيني وبينك بالعدا ... وة جار سوء لي مبارز - 330- 136/أوقوله: (مجتث) 1- كن لي جوابا فلفظي ... إليك لفظ وجيز 2- والورد عندي ضيف ... والورد ضيف عزيز 3- وفي يمني كوب ... وفي يساري كوز «4» - 328- - 329- - 330-

4- فزر صحيح مزاج «1» ... وما خفتك الرّموز - 331- وقوله: (طويل) 1- أقول ومولانا المبارز ناصرى ... ألا يا صروف الدّهر هل من مبارز - 332- 137/ب وقوله: (سريع) 1- يا ربّ لا تشمت «2» بنا حمزه ... وقفّز «3» النيل لنا قفزه «4» 2- ولا تذفنا العجز والذّلّ لل ... خبّاز يا ذا الحول «5» والعزّه 3- وكلّ خزّان أذقه من ال ... عمود في قلب له وكزه «6» 4- وكلّما زدت لنا إصبعا ... كان له في عينه وخزه «7» - 332-

5- حتّى نرى هامدة «1» الأرض قد ... أضحت بما أنزلت مهتزّه - 333- 138/أوقوله (وافر) 1- أعزّ الدّين «2» دمت أعزّ حصن ... لمن يأوي له وأجلّ كنز 2- إذا ذلّ الحريص لأخذ رزق ... أخذناه وأنت لنا بعزّ - 334- وقوله: (وافر) 1- فينظرني من الحمّى جميعا ... بجملتها «3» وقد حمي الوطيس «4» 2- ولي سنة أكابدها فتمضي ... وتأتي وهي ساخطة عبوس 139/ب 3- إذا ما أقلعت عنّي بريح ... طياب «5» ردّها الرّيح المريس «6» 4- فقد ملّ الطّبيب وملّ أهلي ... وملّتني المضاجعة العروس 5- وقالت راهبا قد صرت قل لي ... فقلت نعم وفي بيتي حبيس - 333- - 334-

- 335- وقوله: (كامل) 1- البس شفاءك فهو خير لباس «1» ... واسلم سلمت لنائل ولباس 2- واعلم بأنّ الله جلّ جلاله ... ما كان بالنّاسي دعاء النّاس - 336- 140/أوقوله: (كامل) 1- أنت ابن حمدان «2» الذي آدابه ... يعزى ابن حمدان لها وفراسه 2- والشّاعر الكنديّ» لولا فخره ... بك يا ابن حمدان لنكّس راسه - 335- - 336-

- 337- 140/أوقوله: (رمل) 1- ومقال لو مددتم باعها ... لتناولتم بها النّجم جلوسا 2- وأياد أطلقت فينا النّدى ... بعد ما كان في الأيدي حبيسا - 338- 141/ب وقوله: (طويل) 1- يمينا لقد سرّ الإمام ابن إدريس «1» ... جلوسك في يوم الخميس لتدريس 2- وتشييد «2» ما قد كان جدّك بانيا ... هناك من التّقوى على خير تأسيس 3- وهل صائب «3» أولى من الغيث بالرّبى ... وهل صائل «4» أولى من اللّيث «5» بالخيس «6» 4- لعمري قد كانت منازل عزّكم ... لما عدمت تالله من علمك الطّوسي «7» - 338-

5- ركبت إليها في خميس مبارك ... وللعلم أعلام رفعن على الروس 6- وصلت بسيف الحقّ في كلّ بدعة «1» ... فمكّنت جند الله من جند إبليس - 339- 142/أوقوله: في دواة من الفولاذ مذهبة (كامل) أعطاها الملك المنصور «2» لفتح الدين بن عبد الظاهر «3» 1- شهدت دواة الفتح ساعة فتحها ... أنّ الحديد منافع للنّاس - 339-

2- ولجنسها البأس الشّديد وهذه ... فضلت عليه بالنّدى والباس 3- تقف الصّوارم «1» وهي جالسة لها ... شرف القيام وسؤدد «2» الجلاس 4- تلهي بجوهرها وجوهر لفظه ... ثغر المليحة عن حباب الكاس 5- وبها تحلّت حلّة «3» شرفت بها ... كم لابس أضحى جمال لباس 6- علق النّضار «4» بها وقد رقّت له ... فاعجب لقاسية ترقّ لقاس 7- هنديّة عبقت «5» لنا أنفاسها ... وجرى لها ذكره مع الأنفاس 8- وأثابها «6» المنصور للمهدي إذا ... هملت سوادا من بني العبّاس 9- والنّور في ذاك السّواد كأنّما ... نظرت إليك بعين ذات كناس «7» - 340- 143/ب وقوله: (بسيط) 1- رددت فيّ بذاك الملتقى نفسا ... وكنت في مأتم «8» صيّرته عرسا 2- ورحت أتلو ألم نشرح «9» ووجهك لي ... قد بشّ لا وجه من أتلو له عبسا «10» - 340-

3- وكان قلبي يشكو طول وحشته ... صدري وقد قرّ في صدري وقد أنسا 4- وراقه لؤلؤ رطب يفيض به ... نحر يرى كلّ نحر دونه يبسا 5- وإن نظرت لروض فوق مهرقه «1» ... فانظر لغيث حيا من كفّه انبجسا «2» - 341- وقوله: (بسيط) 1- تردّدي «3» اليوم للخبّاز يشغلني ... عن التّردّد والتّرداد للنّاس 2- ما ليس لي بدّ «4» منه كلّ شارقة ... أسعى إليه على العينين والرّاس 3- طورا بنقد وطورا بالرّهو ... ن وطورا بالنّسيئة «5» ممن ليس بالناس 4- وعطلتي «6» أنا قد دامت فلا عمل ... إلا ضراس أهلي أو لأضراسي - 342- وقوله: (لغز في السهام) (وافر) 1- أتعرف إخوة شهدوا حروبا ... عراة والكماة لهم كناس 2- لهم بيت رفيع شاركته ... والاسم «7» قبيلة سادوا وساسوا - 341- - 242-

3- إذا أثبتهم بالنّقل فيه ... نفاهم عنه من يدك القياس - 343- وقوله: (متقارب) 1- ولست أريد شفيعا إليك «1» ... ونفسك يا أكرم النّاس نفسك - 344- وقوله: (كامل) 1- من لم يمدّ نداه ليّ براحة ... ألزمت رجلي عنه قيد الياس «2» 2- ولقد يقلّ لمن سعى ليّ برّه ... سعيي على عيني إليه وراسي - 345- وقوله: (مجزوء الرمل) 1- لاح بدر يتجلّى ... وتثنّى غصن آس 2- قلت ما تبرح نشوا ... ن بلا خمر وكاس 3- قال لي ريقة ثغري ... خمرة من بيت راس» - 344- - 345-

- 346- 146/أوقوله: (كامل) 1- لا أجحد «1» المنن «2» التي تلدّتم ... جيدي ولا أنسى ولا أتناسى 2- وتجوب كتبكم البلاد ولا أرى ... ودّي يساوي عندكم قرطاسا - 347- وقوله: (كامل) 1- تخفون عنّي ما يزوّر حاسد ... عنّي ويظهر لي من الإتعاس «3» 2- وإذا سمحتم بالعتاب سمعته ... خبرا يطيح «4» على لسان النّاس - 346- - 347-

- 348- 1- ورجلي على قدر الكساء مددتها ... كذاك يدي أيضا تمدّ لكيسي - 349- «1» وقوله: (خفيف) 1- فرغ الشّعر والشّعير فلاحا ... لي برغمي ولا حماريّ ماشي 2- لا تكرب انني سراج وحولي ... من للهموم مثل الفراشى - 350- وقوله: (مجزوء الخفيف) 1- ظلّ عيشي على الحما ... رة عيشا منغّصا 2- دائما جائيا سدى ... وكذا عادة الخصى - 351- 147/ب وقوله: (مجزوء الوافر) 1- لشأني قصّة «2» رفعت ... فبادر واغنم الفرصه 2- ضميرى لا تقدّره ... ضمير الشّأن والقصّة - 349- - 351-

- 352- وقوله: (بسيط) 1- يا قبحها من عجوز صدرها قفص ... وثغرها أسود والشّعر ذو برص «1» 2- قالت لقد طار قلبي اليوم من فرح ... فقلت كيف يطير الطّير من قفص - 353- وقوله: (كامل) 1- أنت المهنّا بالسّلامة والهنا ... إن عمّنا فله لديك تخصّص 2- سلم الذي كلّ الأنام تحبّه ... لكنّ مولانا المحبّ المخلص - 354- وقوله: (كامل) 1- من أعلقته للجفون حبائل ... متيّقن أن ليس منها مخلص 2- يا معشر العذّال لست بصابر ... عنهم ولا سال لهم فتربّصوا «2» - 352- - 354-

- 355- وقوله: وقد بعث إليه بكبش للأضاحي: (منسرح) 1- لله من أملحين مذ وصلا ... وصلت حبلي بحبل أغراضي 2- فلو نمى «1» للجزّار أمرهما ... صرنا لوالي البلاد والقاضي - 356- وقوله: (رمل) 1- ذكر المشتاق عهدا قد مضى ... بارق من نحو نجد أومضا 148/أ 2- ونسيم شبّ «2» نيران الجوى ... في حشاه بعد جيران الغضا 3- وأخو الوجد «3» بمعتلّ الصّبا ... ربّما استشفى فزاد المرضا 4- والهوى العذريّ عذر فسح «4» ... يتلقّى كلّ شيء بالرّضا - 357- وقوله: (كامل) 1- من ظنّ أنّ السّيف يغمد صارما ... ما زال في أيدي الممالك منتضى «5» - 355- - 356- - 357-

2- ولئن مضى لسبيله فبحقّه من ... صارم يثنى عليه إذا مضى - 358- وقوله: (طويل) 1- وما منّة الخبّاز عندى قليلة ... لقرضي «1» منه وهو في عسرتى يغضي «2» 2- وقد كنت مثل اللّيث آكل «3» فريستي ... وقد صرت مثل الفار آكل بالقرض «4» - 359- «5» وقوله: (طويل) 1- وكم سيّد يستوجب الرّفع قدره ... غدا شاكيا من لحن «6» أيّامه خفضا 2- ومستثقل «7» يدعى رئيسا لقومه ... كذاك الخصى تدعى رئيسا من الأعضا - 358- - 359-

- 360- وقوله: (مجزوء الكامل) 1- يا معرضا «1» عنّي أص ... رّح لا أقول معرّضا 2- لو كنت عندي مقبلا ... ما كنت عندي معرضا - 361- «2» وقوله: (سريع) 1- حجابه قد زاد في عرضه ... مع وجه بوّاب طويل بغيض 149/ب 2- فإن دفعنا ووقعنا له ... فقد وقعنا في الطّويل العريض «3» - 362- وقوله: (خفيف) 1- لك في المجد نسبة وانتماء ... وبناء باق بغير انتقاض 2- وإذا المجد كان عوني على المر ... ء تقاضيته «4» بترك التّقاضي - 360- - 361- - 362-

- 363- وقوله: (مجزوء الرجز) 1- وساقط الهمّة في ... حكم الوداد قاسط «1» 2- وهو على فرط السّقو ... ط مائل كالحائط - 364- وقوله: (متقارب) 1- وقالوا تعرقب «2» في وعده ... وقد كان في نفسه ساقطا 2- فقلت صدقتم وما منتم «3» ... فما زلت أعرفه حائطا - 365- وقوله: (طويل) 1- فداؤك من يشكو إلى الله نزلة «4» ... ذكرت بها ما أنزل من حظّي 2- وفي كلّ عضو لي لسان شكاية ... يحدّث بالمعنى فيغني «5» عن اللّفظ - 363- - 364- - 365-

- 366- 150/أوقوله: (متقارب) 1- يقاسي الأديب الأديم «1» الذي ... تكاد الجبال له تخضع 2- ويبرز في يوم نوروزه «2» ... فما يستريح له أخدع «3» 3- ولو رام حلّ قفا نفسه ... لما كان فيه له موضع 4- وأصحابه كلّ عبل «4» الذّراع ... أصابع راحته أذرع 5- كثير مداعبة للصّديق ... بما تحت جمّته مولع 6- فليس لراحته حابس ... ولكنّ صاحبه الأقرع «5» - 367- 151/ب وقوله: (رمل) 1- لاح في زرقائها بدرا منيرا ... في سماء فتفاءل بالطّلوع 2- وبدت بيضاؤها فابيضّ منها ... طرف «6» شأن «7» خلف محمّر الدّموع - 366- - 367-

- 368- وقوله: (متقارب) 1- ولم ير في مجلس شاعران ... ولا ثالثا ضمّهم موضع 2- كأنّا مصادر «1» عند الورى ... فليس تثنّى ولا تجمع - 369- وقوله: (سريع) 1- منيّتها «2» منزلة قد علت ... وانحطّ عنها الفلك السّابع «3» 2- طالعها «4» أسعد شيء يرى ... وأنت فيها ذلك الطّالع - 368- - 369-

- 370- وقوله: (طويل) 1- ويوم سموم «1» خلت أنّ نسيمه ... ذوات سموم «2» للقلوب لواذغ «3» 2- ظللت به أشكو معالجة الصّدى ... وكوزي ملآن ومائي فارغ - 371- وقوله: (طويل) 1- أمولاي لا زالت أعاديك في عمى ... ونجمك في أفق السّعادة بازغا «4» 152/أ 2- ولا زلت توليني أياديك منعما ... بأخذي ملآنا وردّي فارغا - 372- وقوله: (بسيط) 1- ولي عليه أدام الله دولته ... رسم سفرت «5» به والوقت قد أزفا «6» - 370- - 371- - 372-

2- والمنحل «1» الآن قد غنّى فأرقصني ... أو قال من قال إنّ الشّيخ قد خرفا 3- والقمح أعشق منه أسمرا ذهبيّ الل ... ون صيّرني شوقي له دنفا «2» 4- ولو رأيت بدور التّمّ طالعة ... وددتها أصبحت في قفّتي «3» رغفا - 373- وقوله: (طويل) 1- ولي خدم «4» سطّرتها قبل هذه ... ولم يأت عنها بالجواب مشرّف «5» 2- فكن ذاكري بالغيب فيمن ذكرته ... فلي عندك العين «6» الذي ليس تطرف - 374- وقوله: (وافر) 1- أيا ملكا تزفّ له القوافي ... عرائس من خصائصها الزّفاف 2- أتيتك والجمال «7» بمد حتينا ... وكان لنا اختلاف وأتلاف - 373- - 374-

3- وكان على الرّوّي لنا اتّفاق ... وعند الوزن كان لنا اختلاف - 375- وقوله: (كامل) 1- ومبخّل بالمال قلت لعلّه ... يندى «1» وظنّي فيه ظن مخلف 2- جمع الدّراهم «2» ليس جمع سلامة ... فأجابني لكنّه لا يصرف - 376- وقوله: (منسرح) 1- وسائل عن قصيدة عبقت ... بالعلم «3» الفرد روضة أنفا «4» 2- وصفت فيها علوّ همّته ... وهل ينال السّماء من وصفا؟ 153/ب 3- يقول لي سائلي رأيت بها ... مسامع القوم حلّيت شنفا «5» 4- فمن جلاها على الأمير بأل ... حان تلاها الحمام إذ هتفا 5- قلت له ابن الوحيد «6» منشدها ... فقال لي حسبها به شرفا - 375- - 376-

- 377- وقوله: (متقارب) 1- بدا ملك الحسن بين الملاح ... وقال على طاعتى فاحلف 2- ومن مقلتيه وخطّ العذار ... حلفت على السّيف والمصحف - 378- وقوله: (بسيط) 1- أخذوا بأطراف الأصابع حاجتي ... وكذا يكون تهاون الأطراف 2- لهفي على القوم الكرام فإنّهم ... تحت القبور جواهر الأصداف - 379- وقوله: (كامل) 1- لي مذ نأيت أسى ولي أسف ... لا ذقت أنت أسى ولا أسفا 2- وأودّ ستر الشّمس أمكنني ... كيما أجدّ فأبلغ الشّرفا - 380- وقوله: (كامل) 1- مولاي هل صدر الكتاب الأشرف ... فلعبد مولانا إليه تشوّف «1» 2- وإذا الجواب أتى لكم فيه وقد ... وقد السّراج وشمسه لا تكسف - 380-

- 381- وقوله: (بسيط) 1- وقد تشبه الحالة الأخرى وبينهما ... إذا تأمّلت فرق عن سواك خفي 2- فربّما صفّق المسرور من طرب ... وربّما صفّق المحزون من أسف - 382- 154/أوقوله: يصف قلما في يد ابن الزّبير الوزير «1» (كامل) 1- قلم الوزير هو الشّقيق «2» لبيضه «3» ... والبيض في علق «4» النّفوس شقيق - 382-

2- كالحية النّضناض «1» إلّا أنّه ... يشفي للسع «2» الدّهر منه الرّيق 3- حبسته أنملك الكرام عن الخنا «3» ... وسعى إلى الحسنات وهو طليق 4- وجرى على ميدان طرسك سابقا ... لكنّه مع ذهنك المسبوق 5- لا كالذي بالغيّ «4» آلم جيده ... صم الثلاث كأنّه مخنوق 6- يوحي إلينا عن ضميرك سامع ... منه أصمّ وآخر منطيق 7- فهو المسوّد والمسود بالذي ... يثني المحقّ على ثناه حقيق 8- أكرم به قلما يغوث وغيره ... عند الحوائج لا يزال يعوق 9- ملكت رقيقا منه كفّ مفوّه «5» ... للسانه حرّ الكلام «6» رقيق 10- رقم «7» السّطور على الطّروس بأرقم «8» ... رتق «9» البنان لسانه المفتوق «10» 11- مشق «11» الحروف وهزّ من أعطافه ... فسباك «12» منه الماشق الممشوق 12- ثمل «13» القوام «14» كأنّ نقش دواته ... قار «15» وقد صحبته منه رحيق «16» 13- عجبا لصفرة جسمه ويسقمه ... كالعاشقين وإنّه المعشوق

14- خذ من يراع «1» الخطّ معنى في يرا ... ع الحظّ قد نزعت «2» إليه عروق 15- أثناء مولانا الوزير بفرقه «3» ... أم مسكة «4» أم بين ذين فروق 16- هيهات فاق المسك طيب ثنائه ... فلذاك راح المسك وهو سحيق «5» 155/ب 17- يا سائلي عن كعبة حجّي لها ... أنا كعبتي بيت بناه عتيق «6» 18- كن زائرا بالصّدق فيه ذوي الهوى ... ولك الزّبير وصهره «7» الصّدّيق 19- ومقصّر عن شأوه قلت اتّئد ... إنّ الذي زحم الخضمّ غريق - 383- وقوله: يصف سيلا أخذ الأزواد «8» (رجز) 1- حلم الوزير أحمد «9» أفرط أو ... تهجّم السّيل على وطاقه - 383-

2- وليس يخفى السّيل أنّ كفّه ... قادرة ثمّ على إغراقه 3- لكنّه زار حماه طارقا ... وعادة السّمح قري «1» طرّاقه 4- فبات في أزواده محكّما ... وزاد حتّى زاد في استغراقه «2» 5- ولو أتاه في النّدي «3» محاربا ... ما قدر الغيث على لحاقه 6- أقد رأى الغيث أبرّ نائلا ... منه وأحلى منه في مذاقه 7- وفارق المجموع إلّا فخره ... حاشاه أن يرغب في فراقه - 384- وقوله: (بسيط) 1- خذ في مدائح لابن الموصلي «4» تهزّ ال ... سموصليّ ابن إبراهيم إسحاقا «5» 2- تطوى «6» على نشر أوصاف له صحف ... سلني بهنّ تسل بالصحف ورّاقا - 384-

- 385- 156/أوقوله: (كامل) 1- أنساكم إن كنت أنساكم وما ... حلفت بمثل يمينيّ العشّاق 2- رقّ النّسيم لما شكوت وبات مح ... ترقا عليّ البارق «1» الخفّاق «2» 3- طيّبتم الدّنيا ثناء عاطرا ... للمسك من نفحاته استنشاق 4- وملأتم صحف الزّمان محامدا «3» ... وعن الصّحائف يسأل الورّاق - 386- وقوله: (كامل) 1- طلبت ضحيّتها فقلت مغالطا ... هو موسم الجزّار لا الورّاق «4» 2- قالت فيا ورّاق لا وصل إذا ... سيفكّ هذا القول منك لصاقي 3- حتّام تعمل لي دسوتا «5» لم تزل ... مصقولة «6» بخديعة ونفاق 4- وإلام تكسر «7» لي أجلّ دفاتر ليس لي ... من حاصل فيها ولا من باق 5- قلت البياض أجلّ لون فاسألي ... قالت ولا هذا على الإطلاق - 385- - 386-

- 387- 157/ب وقوله وقد بعث كبشا له ليرتع «1» (طويل) 1- بعثت به نضوا «2» إليك كأنّه ... خيال لليلى آخر اللّيل طارق 2- براه «3» الضّنى حتّى ظننّاه «4» أنّه ... تحمّل كلّ السّقم عن كلّ عاشق 3- يرى القرط «5» مثل القرط في أذن غادة «6» ... فيعدو بقلب خافق دون خافق 4- خفيّ عن الأبصار لولا نواحه «7» ... على القول «8» ما حدّته «9» عين لرامق «10» 5- له نصف ذاك البيت إذ كان كلّه ... حليف الضّنى ما فيه قوت «11» لناسق - 387-

- 388- وقوله: (منسرح) 1- ولا تقل كم كذا تواصلني ... على ممرّ الأيّام أوراق 2- فإنّني شاعر وذو طمع ... وكاتب فارغ وورّاق - 389- وقوله: (كامل) 1- أرسلت عنّي النّرجس الغضّ الذي ... بفتوره تتشبّه الأحداق 2- لتكون لي عينا على من لم يجد ... شوقا إليّ ومن غدا يشتاق 3- وبنفسج يحكي بزرقة لونه ... عينا فذاك بنورها الورّاق «1» - 390- وقوله: (كامل) 1- ويهزّأ عطاف الكرام كأنّما ... صبحوا «2» بكاسات المدام دهاقا 2- وشدا «3» الصّحائف كالرّياض بذكره ... وعن الصّحائف فاسألوا الورّاقا - 389- - 390-

- 391- «1» 158/أوقوله: (متقارب) 1- وقد خجل الورد مذغبت عنّا ... وكاد يكون شقيق «2» الشّقيق 2- فبادر إلينا فدتك النّفوس ... فلم يخف عنك انتظار المشوق 3- فللباب آذان سوساتنا ... وأعين نرجسنا للطّريق - 392- وقوله: (طويل) 1- أعنّي برأي صائبات سهامه ... إذا أخطأ «3» الأغراض «4» كلّ تفوّق «5» 2- فما عدم التّفويق «6» من كان عونه ... على نائبات الدّهر رأي موفّق - 393- وقوله: (مجزوء الكامل) 1- عوفيت من جرب به ... صرت المنقّب «7» والممزّق «8» - 391- - 392- - 393-

2- وأحكّ ليلي بالمرا ... فق واليدين ولست ألحق 3- عريان كالعود اليب ... يس وإنّما جفني مؤرّق 4- وكأنّ جسمى من دمي ... بأظافرى الرّكن «1» المخلّق «2»

- 394- وقوله: (متقارب) 1- شكار قد آليت عيني فداه ... فقلب المتيّم قلب شفيق 2- وقال أمنت بشعريتي ... وبيني وبينكم ستر رقيق 3- وما سرد داود «1» منى يقيك ... وأنت بأسهم لحظي رشيق - 395- وقوله: (كامل) 1- وفتى يقول أنا الجواد وما له ... جود وأحسبه يبرّ ويصدق 2- أبدا تراه هاربا من طالب ... فهو الجواد «2» لأنّه لا يلحق - 394- - 395-

- 396- وقوله: (منسرح) 1- قرنت بالجمعة افتقادك لي ... أخذا بحقّ الحنوّ والشّفقه 2- فلا عد مناك واجدا أبدا ... تجمع بين الصّلاة والصّدقه - 397- وقوله: (متقارب) 1- وقدر طبيخي لأجل العيال «1» ... يخاف على السّفن فيها الغرق 2- وإن زاد طار «2» يزد كوز زير «3» ... فليس بضائرنا من طرق 3- وكم مرّة ضجّ منّي الطّبيخ ... بتلك الزّيادة حتّى مرق «4» 4- وخفت لغرقي من النّيل أن ... يقال بنار السّراج احترق - 398- وقوله: (كامل) 1- قال الوشاة وكنت نكّرت «5» اسم من ... أهوى لآمن مؤلم التّعنيف «6» - 397- - 398-

2- ألف القوام ولام خطّ عذاره ... دلا عليه بآلة التّعريف - 399- وقوله: (كامل) 1- قابلت منها روضة أدبيّة ... قبّلت منها كلّ حسن يعشق 2- وفررت بالنّظم المحيط بجانبي ... من لجّها والبيت حولي خندق - 400- «1» وقوله: (كامل) 1- واخجلتي وصحائفي سود غدا ... وصحائف الأبرار في إشراق «2» 2- وتوقعي لموبّخ لي قائل ... أكذا تكون صحائف الورّاق «3» - 401- وقوله: (سريع) 1- يا ربّ مغرور بدنياه ما ... وقت له آخذة باركه 2- صفت له الدّنيا فلمّا طغى ... صفّت «4» له وانقلبت ضاحكه - 400- - 401-

- 402- 160/أوقوله: (مجتث) 1- كم درهم بات يشكو ... من طول سجن لديكا 2- وقال تالله باللّ ... هـ خلّني من يديكا - 403- وقوله: (كامل) 1- ما أنصف الصّحنين منّي واصف ... عجلت بديهة فكرة «1» المتوالي «2» 2- لم يهد ملك الصّين أحسن منهما ... أخوين كالقمرين عند كمال 3- أرز تجاوره هريسة «3» فستق ... كالخدّ حفّ بعارض «4» سبّال «5» 4- ويروقني مع ذا وذا سنبوسج «6» ... حلو الضّمير مرقّق السّربال 5- عجبا له كلّ الأنام تحبّه ... وله من الأقوام شخص قال - 403-

- 404- وقوله: (طويل) 1- أعيذ «1» كمال الدّين «2» من شرّ حادث ... يميّل عنّا وجهه وهو مقبل 2- ونفديه بالأقمار فهي لنعته ... وباسم أبيه تستدير فتكمل - 405- وقوله: يشكو دمّلا: (كامل) 1- مولاي أقسم لم تعد في منزلي ... من جمرة في العيد إلا دمّلي 2- حوشيت من قاس كأنّ الدّهر قد ... أعداه غلظته «3» وقد أهداه لي 161/ب 3- وألدّ «4» ذي حنق «5» عليّ كأنّما ... تغلي عداوة صدره في مرجل «6» 4- وله وليس له فم أكل به ... لي شاغل عن مشرب أو مأكل 5- ويقول هذا جمرة «7» ويقول هذا شقف ... ة «8» والقول قول الأوّل 6- وإذا توقّد في سراج جمرة ... قبلي فتلك مزية للمشعل - 404- - 405-

7- أترى كبرت وزدت أيضا رتبة ... فجمعت حظّ المهتدي والمطلي «1» 8- ولقد بليت به عذوّا بات في ... جلدي فرّق لمن بذلك قد بلي 9- ويظلّ يجمع ثمّ يجمع وهو من ... حسد عليّ وفرط غيظ ممتلي - 406- وقوله: (بسيط) 1- كم شدّة جاء في أعقابها فرج ... عن فجره انشق ليل الحادث الجلل «2» 2- وكم جلا الله من غمّاء «3» أدركها ... بلطفه «4» لا بحول «5» المرء والحيل 3- وهمّة ليس يثنيها رفاهية «6» ... عن المعالي بحبّ الأين «7» والكسل 4- لا يدرك المجد إلا كلّ مدّلج «8» ... يدري ويعلم أنّ العزّ في النّقل «9» 5- سمح متى بلغت برقا أسرّته «10» ... جاءت يداه مجرّ «11» العارض الهطل - 406-

- 407- وقوله: (رمل) 1- بلبلت «1» مقلته عقلي وقد ... سحرته فأرتني بابلا «2» 2- طرفه والقدّ كادا مهجة ... وافق النّاظر فيها القابلا «3» - 408- وقوله: (طويل) 1- وألبست الأطلال بعدك وحشة ... وكيف يكون الغمد فارقه النّصل 2- فما الدّار دار وهي منك خليّة ... ولا صحبها صحب ولا أهلها أهل 162/أ 3- تبدّلت الأسحار «4» فيها هواجرا «5» ... وأصبح نارا عندها الماء والظّلّ 4- فروع ذوت لّما ذويت وإنّما ... يكون بقاء الفرع ما بقي الأصل - 407- - 408-

- 409- وقال يداعب شخصا كان اشترى جارية تسمّى (زبيدة) من سيّد لها جميل الوجه يسمّى (فخر الدين عثمان) ، وحملت سيّدها المشتري لها على زيارته بها عند سيّدها الأول، واسم المشتري لها (النجم) (بسيط) 1- ذابت زبيدة من شوق لسيّدها ... عثمان والنجم بالنّيران مشتعل 2- وما تلام ونيل الفخر يعجبها ... وبالزّيارة لم يبرح لها شغل 3- فقل لطائر قد أتاه بها ... (ويلي عليك وويلي منك يا رجل) «1» 4- لو كنت يا سطل «2» ذا أذن تصيخ «3» إلى ... عذل «4» عذلتك لو يجدي «5» لك العذل 5- تقود ظبية آرام «6» إلى أسد ... لولا التّقى لمضت «7» أنيابه العظل «8» 6- ومن ترى ذلك الوجه الجميل ولا ... تودّ من قبحك المشهور تنفصل 7- هذي بثينة «9» والمجنون «10» قائدها ... إلى جميل أجاد المخّ يا جمل - 409-

8- وهبه عفّ أما تبقى محاسنها ... في قلبه يا لكاع الوقت يا زحل 9- أفّ لعقلك يا متبوع إنّك ذو ... رأس خفيف وذاك الطّود والجبل 10- والويل ويلك إن ذاقت عسيلته ... وبات يجتمعان الزّبد والعسل 11- لأنشدنّك إذ ودّعتها سفها ... (ودّع هريرة إنّ الرّكب مرتحل) 12- وإن تكن ذاك أعشى كنت أنت إذا ... أعمى فلا اتّضحت يوما لك السّبل - 410- 163/ب وقوله: (مجتث) 1- قطائف الحشو قالت ... لأختها في المقالي «1» 2- كلّ الورى لي محبّ ... بحيث ما لي قال «2» 3- فجاوبتها بنضج ... وحدّة في المقال 4- الدّست لي أنا وحدي ... فسلّمي لي حالي «3» 5- وإن تحلّى «4» بنا الصّد ... رحلي ذات الحجال «5» 6- أين اللّجين من التّب ... ر «6» قيمة عند حال «7» - 410-

- 411- وقوله: (كامل) 1- حجبت شعاع الشّمس فاحترقت جوى ... ومع العشيّة أقبلت تتطفّل «1» 2- حتّى لقد رقّ النّسيم لها وقد ... صبغت بصفرة من يردّ فيخجل 3- فثنى لها الأغصان فانفرجت لها ... طرق فكان لها بهنّ توصّل 4- فدنت وأزعجها الرّحيل فودّعت ... ولها التفات من اشتهى لا يرحل 5- حتّى إذا ما الشّمس هوّم «2» جفنها ... ورنا من الظّلماء طرف أكحل 6- زار الحبيب فكأنّ يومي والدّجى ... ما منهما إلّا أغرّ «3» محجّل «4» - 411-

- 412- وقوله: (مجزوء الكامل) 1- قالت وقد هاجرتها «1» ... في الصّوم أفّ عليك بعلا «2» 2- كانت عليك وظيفة «3» ... صيّرتها في الصّوم بقلا «4» 3- فأجبتها ذاك المدلّل ... صار منكوسا مدلّى 4- وعهدته رمحا أش ... قّ به الدّروع فصار حبلا - 413- وقوله: (رمل) 1- زدت فيها زادك الله علا ... عمر بدر التّمّ لمّا كملا 2- وهي في السّبعين مثلي ولها ... بهجة البكر إذا ما تجتلى «5» - 414- 164/أوقوله: (طويل) 1- دعوني ك ... البيت ممّا لزمته ... وإن كان ك ... البيت عنّي بمعزل «6» - 412- - 413- - 414-

2- ولو كنت ذا رمح لعاودت طعنه ... وكيف بعودات الطّعان لأعزل «1» - 415- وقوله: (طويل) 1- وكنت على وعد من الطّيف برهة ... فلّما بدا لي بعد مطل «2» بدا له 2- وأعرض إعراض الحبيب كأنّني ... أرى مثله في طيفه وملاله «3» 3- وولّى ودمعي خلفه وهو لا يرى ... كعادته في الحبّ لا لي ولا له - 416- وقوله: (وافر) 1- وأصيد «4» ظلّ يدرك يوم صيد ... طرائده «5» بجرد «6» كالسّعالي «7» 2- فإن عبقت لنا يمناه مسكا ... (فإنّ المسك بعض دم الغزال) «8» - 415- - 416-

- 417- وقوله: (سريع) 1- وشعره قال لعشّاقه ... لا تنسبوا ذلك إلا لي 2- فصدّقوه أنّه مرسل «1» ... أرسل من شنف لخلخال «2» - 418- وقوله: (كامل) 1- ولقيت عنتر «3» إذ منيت بفاصد «4» ... ذي ريشة سقطت عليّ كيذبل «5» 2- ولو اهتدى للعرق لم يقنع به ... إذ كان لا يرضيه غير المقتل «6» - 417- - 418-

- 419- وقوله: (كامل) 1- قالت أراك قد انحني ... ت فقلت من غير «1» اللّيالي 2- قد كنت سهما في اليمي ... ن فصرت سهما في الشّمال - 420- 165/ب وقوله: (مخلع البسيط) 1- ويوم قيظ أذاب جسمي ... والماء لم يشف لي غليلا «2» 2- قد صحّ موت النّسيم فيه ... وكان عهدي به عليلا «3» - 421- وقوله: (طويل) 1- وخادعتني عن صاحب الشّعرة التي ... بدت علما من تحتها الرّمح مائلا 2- وتلك التي تدني السّعادة للفتى ... فصدّق بها من كان في النّاس قائلا 3- إذا أقبلت جاءت تقاد» بشعرة ... وإن أدبرت ولّت تقدّ السّلاسلا «5» - 419- - 420- - 421-

- 422- وقوله: يشكر ابن الخليلى «1» لكبش أهداه له في الأضحى (مخلع البسيط) 1- يا ابن الخليليّ لا عدمنا ... منك جميلا على جميل 2- بعثت في العيد لي بكبش ... كأنّه في إهاب «2» فيل 3- فبيتنا بيت لحم «3» ... لمّا اتّجهنا إلى الخليلي «4» - 423- وقوله: (رمل) 1- جرّد اللحظ فكم في كبدي ... وفؤادي منه جرح ما اندمل «5» - 422- - 423-

2- وجرى دمعي دما نصّ «1» على ... أنّني من بعض قتلاه ودل 2- وأتى يكثر عذلي لائمي ... قلت دعني سبق السّيف العذل «2» - 424- «3» وقوله: (وافر) 1- وجاز اني على شعر بشعر ... وعوّضني المحال عن المحال 2- ولست ألومه فيما أتاه ... لعادته قديما بالبدال - 425- وقوله: (كامل) 1- قالت جمعت لفاقة «4» كسلا ... فانهض وقم وادأب «5» لهمّ العائله 166/أ 2- فأجبت هل تدرين لي سببا فقا ... لت لا ولا وتدا وهذى الفاصله «6» - 424- - 425-

- 426- وقوله: يخاطب ابن الخليلي «1» (وافر) 1- عسى خبر «2» من الإنجاز شاف ... لمبتدأ من الوعد الجميل 2- فعلم النّحو دان «3» لسيبويه «4» ... وكان الأصل فيه للخليل «5» - 426-

- 427- وقوله: (طويل) 1- وفي الروضة الغنّاء أصبحت مثنيا ... عليك وأنفاس الرّياض رسيل «1» 2- وأمسيت أدعو واثقا بإجابتي ... لأنيّ أدعو والنّسيم قبول «2» - 428- وقوله: (مخلع البسيط) 1- وسائل قال لي ومثلي ... يرجع في مثل ذا لنقله «3» 2- لم حرّم الشعر قلت حتى ... يقاد قسرا «4» لغير أهله - 429- وقوله: (طويل) 1- وكم ذدت «5» آمالي وقد ذبت خجلة ... وإحسانك الدّاعي لإفراط إذلالي - 427- - 428- - 429-

2- وقالت لنا بالفتح قال من اسمه ... سعيد فقم نغنم «1» فقمت على فالي «2» - 430- وقوله: (مجزوء الكامل) 1- أطوى الزّيارة عنك مع ... شوقي وحملي عنك كلّي 167/ب 2- وأنا السّراج ومن يح ... سّ الرّيح في الأقوام مثلي - 431- وقوله: (مجتث) 1- جنونه بغناه ... عليه لا شكّ قد دل 2- يد عن الجود غلّت «3» ... له ووعد مسلسل «4» - 432- «5» وقوله: (طويل) 1- رزيّة فتح الدّين سدّ بها الفضا ... علينا وماتت حين مات الفضائل - 431- - 432-

2- وقد قيل سعد الدّين «1» وافق موته ... فقلت وسعد كلّها والقبائل - 433- وقوله: (مجتث) 1- أجبتني خلف خطّي ... وذا فصفع «2» يجمّل 2- فجرّس «3» الآن مدحي ... هذا جزا «4» من تقوّل «5» - 433-

- 434- وقوله: (طويل) 1- ولم أدر إلا عند أخذي مضجعي ... وقد سدّ ليلي دون أبوابك السّبلا 2- فبتّ أقاسي ليلة نابغيّة «1» ... بها النّوم لم يعقد «2» جفوني ولا خلّى 3- فدع مقلتي تلقى الرّدى مطمئنة ... فقد جعلت بالسّهد والدّمع لي شغلا - 435- «3» وقوله: (سريع) 1- خرجت من بيتي سراجا وقد ... عدت من الأمطار قنديلا «4» 2- فالحمد لله الذي شكره ... به لساني عاد مبلولا - 434- - 435-

- 436- وقوله: (سريع) 1- كلّفتني ما لم أطق في الصبّا ... فكيف والشّيب بفودي نزيل 2- والشّعر لا بيع ولا حلّة «1» ... ولا سراج منه يسوى «2» فتيل «3» 3- والنّاس في أوسع عيد وقد ... يشكو الطّبيب اليوم شكو العليل 4- وهرّتي قد هويت هجرتي ... إذ نارنا في العيد نار الخليل «4» 5- فمر تقيّ الدّين «5» في طبخنا ... نسعى فقصد الصّلح قصد جميل 6- ونعم من وكّله هيّنا ... (وحسبنا الله ونعم الوكيل) «6» - 436-

- 437- وقوله: (خفيف) 1- سيّدى سيّد الأفاضل تاج ال ... دّين «1» سطّرتها «2» عليك مدلّا «3» 2- منهيا زفرة اشتياقي إلى اللّح ... م ولا زفرة ببيتيّ أصلا 3- وغدت هرّتي تهرّ من الغي ... ظ وحيلي «4» وحيلها قد تخلّى «5» 4- ومحلّي «6» ما فيه نافخ نار ... وفؤادي بناره يتقلّى «7» - 438- وقوله: (سريع) 1- عاف (نعم) حبّا (للا) سفلة ... أطربني فيه الذي قالا 2- تربية الخدّام هذا بلا ... شكّ فما يخرج عن لا لا - 439- 169/أوقوله: مما كتب إلى الصاحب تاج الدين بن حنا «8» وقد بعث له طيورا ليذبحها بدلا من ديوك كانت عنده. (متقارب) - 437- - 439-

1- فديت الدّيوك بذبح «1» عظيم ... وأنقذتهم من عذاب أليم 2- فناري لهم مثل نار الخليل «2» ... ونارك لي مثل نار الكليم «3» 3- وذو العرف تالله في جنّة ... فكن واثقا بالأمان العظيم 4- لقد صفّقوا طربا بالجناح ... كتصفيق شاد بصوت رخيم 5- مشوا كالطّواويس في ملبس «4» ... بهىّ «5» البرود بهيج «6» الرّقوم «7» 6- وجادت بهم راحة كالغمام ... فجاءت بأحسن روض وسيم 7- وكم أيقظوا نائما بالأذان ... غدا بجلاء الظّلام البهيم «8» 8- كأني أشاهدهم كالقضاة ... لسمت «9» عليهم كسمت الحليم 9- وإلا أزمّة دار غدت ... بهم حرما أمنا «10» للحريم

10- ونعم الفداء لهم قد بعثت ... من الفائقات «1» ذوات الشّحوم 11- أعدن الشّباب إلى مطبخي ... وقد كان شاب بحمل الهموم 12- وعادت قدوري زنجيّة ... فأعجب بزنجية عند روم «2» 13- وطال لسان لناري به ... خصمت خطوبا غدت من خصوم «3» 170/أ 15- وأمسيت ضيفك في منزلي ... ومن فيه ضيف يضيف الكريم 16- وقد أنبتت صدقات الوزير ... لهم ما لهم من دم أو لحوم - 440- وقوله: (رمل) 1- ليت من أسبل «4» من شعر ظلاما ... حطّ من أبهى من البدر لثاما 2- ابن ستّ وثمان يا له ... قمرا أطلعه الحسن تماما 3- هزّ عطفا ونضا «5» طرفا فما ... أنذر الرّمح وما أمضى حساما - 440-

4- ورضاب الثّغر لم أظفر به ... هنّأ الله أراكا وبشاما «1» 5- لم يجد غير فؤادي هدفا ... عند ما فوّق من لحظ سهاما 6- أيّها اللائم لا ملت إلى ... قول من عنّف في الحبّ ولا ما 7- لا ومن صيّر نيران العدا ... لي بإبراهيم «2» بردا وسلاما 8- إنّ إبراهيم أضحى آمنا ... كلّ من حلّ له منّا مقاما 9- قف بناديه المرجّى وقفة ... وادع في طاعته الخطب غلاما - 441- 171/ب وقوله: (كامل) 1- لله بركتك التي حسنت ... نظرا لوجهك حين تبتسم 2- حكت السّماء ووردها شفق ... ونجومها أضيافه وهم 3- وكأنّما السّبعان قد جمدا ... من خوف بأسك حين تنتقم 4- والماء من فم ذا وذاك حكى ... سيفين سلا والسّيوف دم 5- وصوالج في فضّة سبكت «3» ... للماء دون طلوعها الدّيم 6- وكأنّما أيّا منا حلل «4» ... نشرت «5» ويومك ذا لها علم - 441-

- 442- وقوله: (كامل) 1- ورعيت «1» هذا الجيش منك بناظر ... ما كاد يهمل رعيه بمنام 2- ورددت للأقلام أمر سيوفه ... فأقرّت الأسياف للأقلام - 443- 172/أوقوله: (طويل) 1- قف العيس «2» إن وافيت تلك المعالما «3» ... وقوف محبّ بات بالشّوق عالما 2- وروّ ثراها بالمدامع «4» إنّها ... لتحسد أجفاني عليها الغمائما 3- وما أنا بالنّاسي عهودا تقدّمت ... ولا معهدا لي بالحمى متقادما 4- خليليّ إن لم تسعداني على الهوى ... فلا تلزماني أن أخيب اللّوائما - 444- وقوله: (طويل) 1- أشاقك برق بات طرفك «5» شائمه «6» ... فأرسل دمعا لا تغبّ غمائمه «7» - 242- - 443- - 444-

2- سل الدّار عن أقمارها ولربّما ... سألت عن الشيء الذي أنت عالمه 3- ودونك فاستنشق صبا مسّ ذيلها ... لواحظ زهر قد تنبّه نائمه 4- سقى الغيث أيّامي هناك فإنّها ... وسل زمني أعياده ومواسمه 5- وشرب كرام للصّبوح دعوتهم ... وغمد الدّجى لم يشتهر «1» منه صارمه 6- دعوتهم والدّيك لم ينع ليله ... ولا نهضت بالنّسر فيه قوادمه 7- إلى بنت كرم «2» كاتم «3» الدّهر أمرها ... بنيه رجاء في خليل تنادمه 8- وكنت امرأ ما ضاق صدر احتماله ... بذنب صديق لا أريد أقاومه 9- ولو شئت لا ستنجدت عزمة «4» جلدك «5» ... وحاربت دهرا لا أزال أسالمه - 445- وقوله: (طويل) 1- نعاوده لحدا بكته الغمائم ... وشقّت عليه للّرياض كمائم

2- يجدّد حزني أنّه اليوم راحل ... وصوم عدمنا برّه وهو قادم 3- وكم مكرمات للوزير محمّد «1» ... على شاطئيها حاتم الجود حائم «2» 173/ب 4- أتربته جاورت فخرين منهما ... تساجل «3» أعراب علا وأعاجم 5- وإنّ عليّا «4» طوّل الله عمره ... وعمر بنيه للثّواب لغانم 6- وإنّ له في كلّ أجر أجلّه «5» ... ولا مثل هذا الأجر والله عالم 7- ولا مثله في الصّبر عنه وانما ... (على قدر أهل العزم تأتي العزائم) «6» - 446- وقوله: (طويل) 1- وأصبح بيتي بالحلاوات عاطرا ... كأنّا فتقتا «7» للرّياض كمائما 2- وقد رقصت إذ طاب وقتي شيختي ... وبات مريد الشّيخة الليل قائما - 445- - 446-

- 447- وقوله يخاطب رجلا يعرف بالبحر: (طويل) 1- لك الفضل إذ نوهت في بلدى باسمى ... وقد كنت إذ ذكّرتها دارس الرّسم 2- أبيت وقد خاطبتني عن تواضع ... رفعت به قدر السّراج إلى النّجم - 448- وقوله: (بسيط) 1- ما هان دمعي حتّى هان فيه دمي ... فدع ملامك لي في الحبّ أو فلم 2- أشكو السّقام وما تشكوه مقلته ... مرضى الجفون معاناة من الألم - 449- وقوله: (طويل) 1- تيمّن «1» بياسين فحسبك باسمه ... شفاء إذا ما انفكّ وانكسر العظم 2- أقال «2» لرجلي عثرة ولربّما ... يزلّ الفتى يوما ويهفو «3» به الحلم 3- فيبرئ من آيات ياسين أصله ... فلا ألم بي بعد ذاك ولا سقم - 450- 174/أوقوله: (وافر) 1- أرحتك واسترحت من الملام ... ومن عذل يطيل مدى الكلام - 449-

2- وكنت أجيد عشق الظّبي ألمى «1» ... سقيم المقلتين بلا سقام 3- تقول أفرّ من رضوان «2» أم ذا ... له حسن سوى حسن الأنام 4- فما تمّ الجمال لغير هذا ... ولا وأبيك للقمر التّمام 5- وليلة زارني واللّيل ملق ... على الآفاق أردية الظّلام 6- وكاد الصّبح لا يبدو حياء ... فأبداه بما تحت اللّثام 7- هم قالوا المدام رضاب فيه ... ومن أعطاك يا كأس المدام - 451- وقوله: (طويل) 1- أآل تميم «3» إنّ حزني بعده ... لتنسي به الأيام حزن متمّم 2- وإن حملوا بالصّالحية «4» قبره ... فدمعي له سفح بسفح المقطّم - 450- - 451-

- 452- وقوله: (متقارب) 1- فضضت «1» عن الدّنّ «2» مسك «3» الختام «4» ... وراضعت «5» شربي بعد الفطام 2- وكيف ثبوتي على توبة ... وقد هزم الفطر شهر الصّيام؟ 175/ب 3- ولاح هلال الدّجى قادما ... بقايا محيّاه تحت اللّثام 4- فقم نصطبحها سلافا «6» لها ... دبيب تسارقه «7» في الفطام 5- يطوف بها بابليّ اللّحاظ ... سكرنا بعينيه قبل المدام 6- جنيت «8» على خصره ما جنته ... عليّ لواحظه من سقام 7- صبوت له «9» وزمان الصّبا ... له في النّضارة عمر الغلام - 452-

8- رعى الله عهدا مضى للشّباب ... وإن لم يراع لنا من ذمام 9- وأبقى لنا خلدك الفائزيّ «1» ... وأبقى به طيب ذكر الكرام - 453- وقوله: (كامل) 1- أعدت معاطفك القنا فتعوّما ... وبلونه أعدى مراشفك اللّمى 2- إن كان جفنك كاتما من لحظه ... سيفا فمن أجرى بوجنتك الدّما 3- بيضاء يلتبس الأقاح بثغرها ... فتزيل عنك اللّبس أن تتبسّما 4- هات الحديث عن الأراك فإنّ في ... أنفاسه ما لم يكن ليكتما 5- صبحته ريقتها فهزّ غصونه ... ودرى الحمام بسكره فترنّما 6- أشكو السّقام وجفنها لي هازئ ... لو كان سقمى سقمه لتألّما 7- أشتاق طيفك وهو مثلك في الجنا ... علّمته هجراننا فتعلّما 8- لا أنت لي تعطي «2» ولا هو في الكرى ... ليت الوشاة مضوا بحظّي منكما - 453-

- 454- وقوله: مزدوجة طردية (رجز) 1- لا تأخذن عنها السّروج «1» واللّجم «2» ... ودم على حبّ طراد «3» الخيل دم 176/أ 2- وانهض بها والصّبح في حجابه «4» ... كالسّيف ما جرد من قرابه «5» 3- سوابق «6» قبّ «7» البطون ضمّرا ... خلعن ليلا ولبسن عثيرا 4- من أدهم «8» محجّل أغرّ ... كاللّيل خاض في غدير الفجر 5- وأشهب «9» كأنّه شهاب ... له مضاء وله التهاب 6- وأحمر يخرج كالشّرار ... لا يصطلي البرق له بنار 7- وأصفر كذائب «10» من ذهب ... قد حلّيت غرّته بكوكب 8- مالي ووصف الخلق والشّباب ... ووصفها في الحسن فوق الدّاب - 454-

9- تنسيك حسن الخلق بالخلائق ... لاحتة «1» بأعوج «2» ولاحق «3» 10- كواكب بالنقع «4» لاحت في غسق «5» ... كما بدت من الدّماء في شنق 11- أعارها والصّبح ما تنفّسا ... أبلج «6» يذكي «7» من جبين قبسا 12- أبيض كالسّيف الصّقيل أزهر «8» ... يثني عليه أبيض وأسمر «9» 13- غزا وقاد الجيش في عصر الصّبا ... وهذّب «10» الكهل وراض «11» الأشيبا 14- وجاءها كنسر «12» في المفارق ... كلّ قنيص حطّه من حالق 15- وغارة بغارة ألحقها ... وهنا «13» وأعطى المرهفات «14» حقّها 16- وكم له من غارة شعواء «15» ... والشّمس ذات مقلة عشواء «16»

17- أخلى بها الجوّ من الطّيور ... والقفر من عفراء «1» أو يعفور «2» 18- كم بزّ «3» روضا وغديرا طائرا ... بجارح «4» جدّ لها «5» كسائرا «6» 177/ب 19- حوّم حتى صار جار النّجم ... وانقضّ يهوي كشهاب الرّجم «7» 20- فانقضّ للأرض بغيظ وحنق «8» ... والخيل تحذوه «9» بركض وعنق «10» 21- فكم رأينا من بنات ماء «11» ... مضرّجات ثمّ «12» بالدّماء 22- ومن بلا شين «13» ومن كراكي ... من صائح في كفّه وباكي 23- والرّوض جذلان به مبتسم ... وللشّقيق فيه قد جنّ الدّم 24- وطالما صفّقت الغدران ... من طرب وماست الأغصان

25- حتى إذا قضى هناك الأربا «1» ... واشتاق سفحي «2» حاجر «3» والرّبربا «4» 26- وادّكر الأجراع «5» والكثبانا «6» ... فراح يثني نحوها العنانا 27- فأرسل التّيهم «7» والطّاوى «8» الحشا ... والجوّ ما قلّص عنه الغبشا «9» 28- حتّى أحسّ الظّبي في بيدائه ... سوط عذاب صبّ من سمائه 29- وطالبا بالموت من ورائه ... وفارسا «10» يجري على غلوائه «11» 30- فالظّبي والشّاهين «12» والكلب معا ... والطّرف «13» قد فاتوا الرّياح الأربعا

31- من كلّ خفّاق الجناح أجدل «1» ... كالصّخرة الصّمّاء حطّت من عل 32- حديد قلب وحديد البصر «2» ... ومخلب «3» ماضي الشّبا «4» ومنسر «5» 33- مهذّب مؤدّب مدرّب ... مزاحم نجم السّما بمنكب 34- وكلّ مجدول «6» القرى «7» مضمّر ... كأنّه أنبوبة من أسمر 35- مهما رأت عيناه كان في يده ... ولم يرع سرب «8» القطامن مرقده 36- ونحن في الأسفار من عياله «9» ... نبيت مغمورين من أفضاله 37- والأرض خجلى خدّها مضرّج ... من دم قتلى ليس فيها حرج «10» 178/أ 38- ونحن في الحرب من النّظّاره «11» ... نزهتنا في موكب الوزاره 39- وصيدنا نحن من المقالي «12» ... نجزى عن الفعال بالمقال 40- في ظلّ من دام علينا ظلّه ... ولا عدانا وبله «13» وطلّه «14»

41- فعرض «1» من أصبح من حسّاده ... كثوب طاهية «2» دجى سواده 42- وما رأينا سفرة كمثلها ... نثني بفضل الله ثمّ فضلها 43- ولا رأينا كالوزير صاحبا «3» ... سهّل أخلاقا ولان جانبا 44- دام ودام الصّاحب المؤيّد ... أخوه زين الوزراء أحمد

- 455- وقوله: وقد أهدى إليه علم الدين «1» خلعة وتفصيلة «2» وأترجّا (طويل) 1- رفلت «3» بها في حلّة علميّة «4» ... خلالك «5» فيها أعجزت كلّ راقم 2- وتفصيلة كادت تكون لرقّة ... ولين أراها من ثياب الأراقم 3- ويانع أترجّ كأنّ نسيمه ... ثناؤك إذ لا يستطاع لكاتم 4- جسوم لجين في غلائل «6» عسجد ... وأنمل حسّاب بغير معاصم 5- وقالوا لقد جاءت إليك هنيئة ... فقلت كذا تأتي هديّة حاتم «7» - 456- وقوله: (متقارب) 1- توجّه لومي على لائمي ... وقد مست كالغصن النّاعم 179/ب 2- وقام بعذري فيك العذار ... وما النّاس إلّا مع القائم - 455-

- 457- وقوله: (كامل) 1- قلبي لفقدك يا خليل كليم «1» ... برّد حشاي فأنت إبراهيم 2- دمعي وصبري إذ مقامك في الثّرى ... هذا وهذا زمزم «2» وحطيم «3» - 458- وقوله: فى إزار أهدي له: (خفيف) 1- من صفات الكريم ستر الحريم ... فلك الله من جواد كريم 2- شدّ أزري «4» وصان أهلي إزار ... كسجاياك «5» رقّ أو كالنّسيم 3- أرسلته إليّ بيض أيادي ... ك فجلّى سواد حظّي البهيم «6» 4- وأتاني وما سألت ولا استسق ... يت جودا هذي «7» صفات الغيوم - 457- - 458-

- 459- وقوله: يشكو الحمىّ على طريقة أبي الطيب «1» ، ووزن قصيدته ورويّها «2» (خفيف) 1- وزائرة وليس بها احتشام «3» ... تزور ضحى وتطرق في الظّلام 2- بها عهد «4» وليس بها عقاف ... عن الشّيخ الكبير ولا الغلام 3- إذا طرقت أعاذ الله منها ... سلوت عن الكرائم «5» والكرام 4- لها في ظاهري برد وحرّ ... بقلبي والفتور ففي عظامي 5- تلهوج «6» نارها لحمي طعاما ... وتشرب من دمي صرف المدام 6- وأصوات الغناء لها أنيني ... فما تنفكّ من هذا المقام 7- تجافتني «7» على شيبي وضعفي ... وقد أعييت ربّات الخيام 8- إذا ما فارقتني غسلّتني ... لأني قد وصلت إلى حمامي - 459-

- 460- 180/أوقوله: يصف مسيرا عاجلا (وافر) 1- أبا لملك السّليمانيّ «1» فيها ... ركبتت الرّيح خافقة «2» الزّمام «3» 2- فكان بها مساؤك عند مصر ... وكان بها صباحك بالشّام - 461- وقوله: (طويل) 1- ولست بناس من سطورك روضة ... غمامتها كفّ كشفت بها العمى 2- فها أنا بين الخطّ واللّفظ أجتلي «4» ... محاسن تهدي العمي أو تسمع الصّمّا - 462- وقوله: (طويل) 1- وأقبلت قبل العيد والعيد عارف ... ومعترف أنّ المهمّ المقدّم 2- يمينك أبهى بهجة من هلاله ... وخمسك لا عشر من الشّهر يلثم - 460- - 461-

3- وما أنت إلا رحمة الله ساقها ... إلى بلد عاداتها بك تزحم 4- يمينا لأنت البدر معنى وصورة ... ولولا اعتقادي ذا لما كنت أقسم - 463- وقوله: (كامل) 1- أمسي بخصرك في ضناه قسيما ... وأشدّ ما أعدى السّقيم سقيما 2- وأظنّ جفنك قد تحكّم فيهما ... فلقد أجاد وصحّح التقسيما 3- أكتمتنا فيه المدام ونفحة ال ... مسواك تظهر سرّه المكتوما 4- ولقد وجدنا ذاك من أنفاسه ... إذ ما وجدت سوى الأراك نديما 5- الجيد أغيد «1» واللّحاظ كحيلة ... يا للمها ماذا سلبت الرّيما 6- خفقان قرطك في فؤادي لو رمى ... بخفوقه برق الدّجى ما شيما 7- وأنا الذي حكمته في مهجتي ... ونسيت عمرا «2» فيك والتحكيما - 464- 181/ب وقوله: (وافر) 1- جرت من بعد ساداتي أمور ... غدت عجبا تسطّر في الأنام - 463-

2- فما غلت البطالة لي لأنّي ... عرفت بها الكرام من اللّئام - 465- وقوله: (مديد) 1- لي على خدّ الحبيب دم ... فإلى من فيه أحتكم 2- ما أبرّي «1» منه ناظره ... وهو بالعشّاق متّهم - 466- وقوله: (بسيط) 1- لو أنني بتّ ضيفا لابن زائدة «2» ... معن لما زاد معنا عنك في الكرم 2- بشاشة وحديثا ممتمعا «3» وقرى ... سررت طرفي وسمعي وفمي - 467- وقوله: (سريع) 1- مذ رقّ ذاك الخصر من ظالمي ... رجوت منه رقّة الرّاحم - 465- - 466-

2- ومذ تشكّى جور «1» أردافه «2» ... أشفقت أن أدعو على ظالمي - 468- وقوله: (مجزوء الكامل) 1- سبق السّراج إلى امتدا ... حك كلّ من يتقدّمه 2- وسناك مسرجة لبا ... بك والمهابة تلجمه 3- لكن توقد ذهنه ... ما كاد شيء يفحمه «3» - 469- وقوله: (طويل) 1- ظننت جنيّ الورد حمرة خدّه ... كما ظنّه قوم شقيقا وعندما «4» 2- وما ذاك إلّا أنّ سيف جفونه ... بوجنته من مهجتي تقطر الدّما - 470- وقوله: (طويل) 1- وذى دمّل كالدّهر شدّة قسوة ... منيع حجاب عن بلوغ المراهم - 467- - 468- - 469-

2- عسا «1» وقسا حتّى كأنّ مجسّه «2» ... يمين بخيل ظنّ «3» أو قلب ظالم - 471- 183/ب وقوله: (خفيف) 1- قلت قومي لعلّنا ننسج العي ... ش فقالت وللكلام كلام 2- لحمة «4» الوصل ها هي وهي من غز ... ل جفوني فأين منك القيام - 472- وقوله: (كامل) 1- ولربّ جمع من عداك لقيته ... فلقيت جمعا ليس منك بسالم 2- ولّوا وقد ولّيت سيفك أمرهم ... فحسمت داءهم «5» بوال صارم «6» - 473- 184/أوقوله: يصف هاجرة. (طويل) 1- وهاجرة أذكت على السّفر «7» جذوة «8» ... أعوّذ من رمضائها «9» كلّ مسلم - 470- - 471- - 472- - 473-

2- غدا الماء فيها كالحميم «1» لشارب ... وبرد الصّبا فيها كفج «2» جهنم 3- إذا «3» الشّمس كالدّينار يسهل صرفه ... بدارة ظلّ قدر دارة «4» درهم - 474- وقوله: (رمل) 1- حصل العزّ لها مذ خطبت ... منك لا نعدمك عزّا دائما 2- وبصدر الدّين «5» ملّيت ولا ... زلت تحوى منه صدرا سالما - 475- وقوله: (منسرح) 1- وربّ شخصين قطّ ما اجتمعا ... إلا على هرت «6» غائب فهما 2- ما مرّ يوم إلا وعندهما ... لحم رجال أو يولغان «7» دما - 474- - 475-

- 476- 185/ب وقوله: (خفيف) 1- صيتكم نار في الظّلام يكفّي «1» ... كرما من قراكم وكرامه 2- خبزكم طبّب حلال لقد طا ... ب وطبتم وأصلكم من علامه - 477- «2» وقوله: (خفيف) 1- وباخل يشنأ «3» الأضياف حلّ به ... ضيف من الصّفع نزّال على القمم 2- ساءلته ما الذي تشكو «4» فأنشدني ... (ضيف ألمّ برأسي غير محتشم) - 478- وقوله: (منسرح) 1- قد كتبوا عنك ما تصنّفه ... قال الأديب المحرّر الفهم - 476- - 477-

2- وصحّفوا قال قاد سيّدنا ... وذاك شيء جرى به القلم «1» - 479- وقوله: (خفيف) 1- ورقيع يأبى السّلام «2» علينا ... لا مشيرا به ولا متكلّم 2- قلت سلّم إذا مررت بقوم ... فهو الشّرع قال لي لا أسلّم - 480- 186/أوقوله: (منسرح) 1- كان متاعي «3» إذا استعنت به ... في حاجة أعجزت ذوي الهمم 2- قام بأمري وقد قعدت به ... ونمت عن حاجتي ولم ينم - 481- وقوله: (رجز) 1- درهمهم على الدّوام يحرم ... 2- تقطع يا هذا بذا وتجرم 3- فمدحهم لزوم ما لا يلزم - 478- - 479- - 480-

- 482- وقوله: (بسيط) 1- أهديت لي عنبا سرّ الفؤاد به ... كأنّه ابنة «1» إذ زانها القدم «2» 2- وغير بدع إذا أهديته كرما «3» ... يوما ودارك فيها الكرم والكرم - 483- «4» وقوله: (رمل) 1- أيّها السّائل عنّي إنّني ... قد تحامى الجود عنّي واعتصم 2- عزّ من أمدحه في رجب ... فأنا الأخرس والشّهر الأصم - 484- وقوله: (مجتث) 1- نادى رجائي نداه ... فكان عنه أصمّا 2- وما ألوم أصمّا ... في قصده كنت أعمى - 482- - 483-

- 485- وقوله: (وافر) 1- لبست مدائحي قبل التّمائم ... وقبل المدح أرضعت المكارم 2- وفي المهد انتجعنا منك كفّا ... كفانا منّها منن الغمائم 3- وهزّك مدحنا من جانبيه ... فلم تك عن جوارحنا بنائم 4- وقبّلنا يمينك ثمّ لم لا ... تقبّل وهي قبلة كل لا ثم - 486- 187/ب وقوله: (سريع) 1- جدّد سرورا بالشّراب القديم ... واشرب هنيئا واسقني يا نديم 2- وهاتها كالشّمس قد أشرقت ... من دنّها في جنح ليل بهيم 3- في رقّة الماء ولكن لها ... توقّد النّار وبرد النّسيم - 487- وقوله: (خفيف) 1- أوجبت وحشة الذّنوب أنفباضي ... عن سؤالي لكنّ ربّي كريم 2- ولئن كنت غارقا في ذنوبي ... هي كالبحر فهو برّ رحيم - 488- وقوله: (طويل) 1- علمت زكيّ الدين أنّي مطالب ... بدين ولم لا وهو وعد كريم

2- فقلّد صنيعا واغتنم من مدائحي ... فلابدّ «1» ما دنسّتها «2» بلئيم - 489- وقوله: (متقارب) 1- أقمت المطامع من نومها ... ونمت فمن ذا بهذا حكم 2- وحاشاك تسمع في مثلها ... (فنبّه لها عمرا ثمّ نم) «3» - 490- 188/أوقوله: (خفيف) 1- ما مع الخبز فضلة للإدام «4» ... فاقنعي واقطعي حديث الملام 2- بشّرينا بسلّة الخبز حبلى ... وافرجي من رغفانها بغلام 3- رقّصيه مربرب «5» الخدّ بادي ... الحسن يجلو وجها كبدر التّمام - 488- - 489- - 490-

4- فهو يغنيك عن سواه ولا ... يغنيك عنه شيء وذوقي كلامي 5- ودعينا عن الإدام وعدّي ... القدر أمّا قد آذنت بالفطام - 491- 1- بادر العشر عشر كفّيك لثما ... وتمنّى هلاله منك تمّا 2- ورأى الملك مطلعا منك نورا ... كم جلا نوره ظلاما وظلما 3- فبدا حاجبا لديك وما أس ... عد من ينتمي لبابك نجما - 492- وقوله: (متقارب) 1- أمير له طلعة طالما ... بدت قمرا تحت ليل التّمام 2- يطاعن بالرأي قبل السّنان ... ويضرب بالعزم قبل الحسام 3- ويقتادها ضمّرا كالّرياح ... حشي البرق من خلفها في ضرام 4- يطير بها العزم دون السّياط ... ويمسكها «1» الزّجر «2» دون اللّجام 5- وننسب تهذيب تأديبهنّ ... لتهذيب فرسانهنّ الكرام - 493- وقوله: (مجزوء الكامل) 1- إنّ الدّراهم مسّها ... ألم يشقّ على الكرام - 492-

2- الضّرب «1» أوّل أمرها ... والحبس في أيدي اللّئام - 494- 189/ب وقوله: (مجزوء الكامل) 1-ماذا على شؤم الدّرا ... هم من مقاساة الأنام 2- ولخوفها من ذا وذا ... ك تفرّ من أيدى الكرام - 495- 190/أوقوله: (بسيط) 1- بقيت في كلّ يوم كم أروح وكم ... أغدو وملّ المكاري «2» كم يردّني 2- ولا أزاد على التّقار «3» عندكم ... كأنّني جئتكم رأسا بلا بدن - 496- وقوله: (كامل) 1- لم يسر بينهم الخيال لغيرة ... هجرت مخافتها المنام عيون - 493- - 495-

2- ولربّما ركب المهاول «1» طارقا ... والصّبح طفل تارة وجنين - 497- 191/ب وقوله: (رجز) 1- إنّ فتوحا جامع شمل الفتن ... أقود للعاصي «2» الحرون «3» من رسن «4» 2- كم ورد الماء لديه ورعى ... حشيشة في بيته ظبى أغن 3- ونزهة الفسّاق في بيته (ذا) «5» ... والماء والخضرة والوجه الحسن - 498- وقوله: (سريع) 1- إذا رأت شيبي على صدرها ... أذكرها القطن ولون الكفن 2- وبين فخذيها ترى ميتا ... مصبّرا «6» من مدّة ما اندفن - 496- - 497- - 498-

- 499- وقوله: (بسيط) 1- كانون «1» مطبخنا في العيد كانون ... والهرّ فيه على ما فيه مأمون 2- فما شكا زفرة «2» كالعاشقين ولا ... تخضّبت بنجيع فيه سكّين 3- ولا هدت ناره السّاري «3» ولا رفعت ... قدر ولا نصبت فيه مواعين 4- ولا ألمّ بنا الجرّار «4» فيه ولا ... دين البراهمة «5» الواهي لنا دين - 500- وقوله: (بسيط) 1- وربّ سمراء «6» كالسّمراء قامتها ... ما أخطأت شبها في اللّون واللّين - 499- - 500-

2- لقد سبى «1» حسنها عقلي ولي كبد ... أعيذ فاطرها «2» منها بياسين «3» - 501- 192/أوقوله (سريع) 1- ابعث بذى قرنين «4» من لي به ... ومن لأهلي أو لجيراني 2- أملح «5» أغدو يوم عيد به ... مقرّبا «6» أعظم قربان 3- ويتبع الجزّار حكمي فلا ... يلقاني الدّهر بعصيان «7» 4- يرفع لي قدرا «8» وقدرا بها ... نصب «9» خواني «10» بين إخوان 5- ويرفع المطبخ لي راية ... قيسيّة «11» من لونها القاني «12» - 501-

- 502- وقوله: يذكر انيفا (سريع) 1- رأيت أنف ابن خنفر «1» وقد ... تطاولت أجناب حيطانه 2- أنف أبو الهول «2» على جرمه ... محتقر في جنب بنيانه 3- وهو كسبع الحوض في فتحه ... فاه وفي إعلان أجفانه 4- ويكمل التّشبيه فيه إذا ... غرّق في الماء إلى آذانه «3» - 503- وقوله: (منسرح) 1- يا ساعة البين قد نسيت بما ... كابدته منك لذّة الزّمن 2- قد ظعن الرّكب بالجمال وبال ... حسن وعدنا بالشّوق والحزن - 502-

- 504- وقوله: (سريع) 1- هزّوا قدودا وانتضوا «1» أعينا ... وعطّلوا البيض وسمر القنا 193/ب 2- خادعننا يوما وقلن الذي ... عندكم «2» دون الذي عندنا 3- تشكون سقما ولنا أعين ... لو نطقت قالت بكم ما بنا 4- قلنا فتشكو غير ذا قلن ما ... كلّ هواكم قسمة بيننا 5- يا ربّة الخال أما يجتلى ... شقيق خدّيك أما يجتنى 6- قالت أبا لخال توهّمته ... شقائقا «3» فاتك ماها هنا 7- خديّ ورد ريقتي ماؤه ... قلت سلي من ذاق أو من جنى - 505- وقوله: (كامل) 1- هم فارقوك وهذه الأوطان ... ولهنّ باقي الدّمع كان يصان 2- فاسق المعاهد «4» وارع خفّهم وإن ... نقضوا عهودك غادرين وخانوا - 504- - 505-

3- لا تدخروا «1» الأجفان بعد فراقهم ... فلأي معنى تذخر الأجفان 4- ولو أنّهم رفعوا البراقع «2» لم يكن ... ليضلّ تحت دجنّة حيران - 506- 194/أوقوله: (بسيط) 1- ابعث إليّ بمشط من شبيبته «3» ... يدلي بقوّة تركيب وأسنان 2- فأنت تمسك إمساكا بمعرفة ... كما تسرّح تسريحا بإحسان «4» - 507- «5» وقوله: (مخلع البسيط) 1- أثنى عليّ الورى بأنّي ... لم أهج شخصا ولو هجاني «6» 2- فقلت لا خير في سراج ... إن لم يكن دافئ اللّسان - 506- - 507-

- 508- «1» وقوله: (مجتث) 1- ما زلت رطب «2» لسان ... بشكر أهل الزّمان 2- وللسّراج بقاء ... ما دام رطب اللّسان - 509- وقوله: (مجزوء الرمل) 1- بتّ أشكو سقم جسمى ... لسقيم المقلتين 2- قال لي يكفيك أن ... أصبحت عندي مثل عيني - 510- 195/ب وقوله (مجزوء الخفيف) 1- وقهوة «3» سبقت ك ... لّ مدّة وأوان «4» 2- عجبت منها تسمّى ... مع ذاك بنت الدّنان «5» 3- ولو كنوها «6» بحقّ ... لقيل أمّ الزّمان - 508- - 510-

- 511- وقوله (كامل) 1- لي في دواة الفتح «1» أحسن مدحة ... بفنونها لذوي العقول فنون 2- تالله لو فطن الحديد لبعض ما ... أنا ناظم فيه لكان يلين - 512- وقوله يتشكّى ركوب المحارة «2» : (بسيط) 1- أشدّ رأسي ووسطي في المحارة من ... هزّ لها فكأني قصّ كان «3» 2- فأسأل الله ربّ العرش يبدلني ... من المحارة تسريحا بإحسان - 513- وقوله (وافر) 1- رأيت قطوف «4» عفوك دانيات ... فنحن مع المدى نجني «5» ونجني - 511- - 512- - 513-

196/أ 2- وكم بات المسيء قرير عين ... وسيفك إذ حلمت «1» قرير جفن - 514- وقوله (متقارب) 1- إذا جدّد الله سبحانه ... لكم نعمة عمّت المسلمينا 2- فلا عدم الملك نصرا عزيزا ... ولا عدم الدّين فتحا مبينا - 515- وقوله (رجز) 1- طلبت من عندك أصلا طيّبا ... فقلت لي طلبت ما لا يمكن 2- انظر إلى فعلي فأصلي مثله ... فقلت هذا العذر عذر بيّن - 516- «2» وقوله (بسيط) 1- وقائل قال لي لمّا أن رأى قلقي ... من انتظاري لآمال تمنّينا «3» - 516-

2- عواقب الصّبر فيما قال أكثرهم ... محمودة «1» قلت أخشى أن تخرّينا - 517- وقوله (طويل) 1- رسولي شيطان خبير مجرّب ... ولم ينخدع مذ كنت يوما ولا كانا 2- ولكنّه الشّيطان ذلّ ولم يحر ... لديك جوابا «2» إذ رآكا سليمانا - 518- وقوله (مجزوء الرمل) 1- نظرت من خلل «3» السّج ... ف «4» كشمس من دجون 2- فرنت لي بفتور ... ورمتني بفتون 3- وعلينا رقباء ... هجروا نوم العيون 4- فتطارحنا «5» هوانا ... برسالات الجفون 5- وزنينا بعيون ... ورجمنا «6» بظنون - 517- - 518-

- 519- وقوله (مجزوء الكامل) 1- ما كدت تكحل أرقدا ... خبثا لتحرمه الوسن 197/ب 2- إلا الغسيل على الغسيل ... كذا على مرّ الزّمن 3- حتّى تقول لك اللآمة ... ما خرجت عن اللّبن - 520- وقوله (مجزوء الرمل) 1- أنا تبر فوق خصر ... صار لي حليا وزينا 2- قالت الأعين «1» لي ضق ... ت وضيّقت علينا 3- لست منّا قلت من قا ... ل أليس التّبر عينا - 521- وقوله (خفيف) 1- لم أنل في الشّباب ما نلته عن ... د مشيبي من افتراع «2» المعاني 2- كلّ بكر ما افتضّها من فحول الشّ ... عر عندي يا ليت ذا في الغواني - 520- - 521-

- 522- «1» وقوله (خفيف) 1- أخذت بحبل من حبال محمّد «2» ... أمنت به من طارق الحدثان 2- أمسكتني أمس بالمعروف لا عدمت ... حالاك واليوم تسريحي بإحسان «3» - 523- وقوله: (وافر) 1- شكا رمدا فقلت عيناه كلّت ... لواحظه من الفتكات فينا 2- وقالوا سيف مقلته تصدّى «4» ... فقلت نعم لقتل العاشقينا - 524- 198/أوقوله: (طويل) 1- رأت صبرك الأقدار في كلّ حادث ... عظيم وجاءت بالحقير وهانا 2- وقد تصبر الأبطال للبيض والقنا ... وتألم من قرص البعوضة أحيانا - 522- - 523-

- 525- وقوله: (خفيف) 1- زاد نطحا «1» كمّا تكبّش «2» واغت ... رّ بدهر كم قد أباد القرونا «3» 2- وتناسى يوما عظيما ترى ال ... قرناء «4» تقضي «5» الجمّاء «6» فيه الدّيونا - 526- وقوله: (طويل) 1- وكم صاح في الأبطال هل من مبارز ... فأخرس كلّ عن إجبابته أنا 2- وكلّمهم بالسّمهريّة «7» والظّبا ... وما كلّم الأبطال إلّا وبيّنا 3- فغنّوا جوابا والسّوابغ «8» فوقهم ... مجاوبة وقع الصّوارم والقنا 4- فأنطق أفواه الجراح وقد حكت ... بها فضلات من مواضيه السّنا - 525- - 526-

- 527- وقوله: (خفيف) 1- ضاع في موسم «1» الوقود «2» سراجي ... طالما ضاء والزّمان زمان 2- كان رطب اللّسان بين كرام ... عنه ما جفّ من نداهم بنان 3- وهو الآن يعرك «3» الأذن «4» إنّي ... طال منه إلى المديح لسان - 528- وقوله: (وافر) 1- له كفّ أهان المال فيها ... فأقسم لا أقام على الهوان 2- ومن يمناه لا من شعب كسرى ... دنانير تفرّ من البنان «5» 3- ومذ بنيت على الفتح استمرّت ... عليه ولا مغيّر للمباني 199/ب 4- وما مع جوده للمال سكنى «6» ... هناك وكيف يجمع ساكنان - 527- - 528-

- 529- وقوله: (مجتث) 1- قد كان يوصف نظمي ... قدما «1» بسحر البيان 2- فمذ منعت جوابي ... عنه لأمر عناني 3- علمت أن صحّ منه ... باب لعقد اللّسان «2» - 530- «3» وقوله: (طويل) 1- إذا بحت بالشّكوى عنيت معاشرا ... بلا راحة في مدحهم أتعبوا ذهني 2- يريدونني رطب اللّسان ومن رأى ... سراجا غدا رطب اللّسان بلا دهن - 531- وقوله: (كامل) 1- ما النّاس بالصّور التي شاهدتهم ... منهم ولكن خلفهنّ معاني 2- فاخبر معانيهم ودع صورا لهم ... كي لا تكون كعابد الأوثان «4» - 529- - 530- - 531-

- 532- وقوله: (كامل) 1- نصب العداوة «1» حاسدوك فأعتبوا «2» ... خزيا «3» لألسنهم وخفض الشان «4» 200/أ 2- فمتى أراهم قدموا ورءوسهم ... مرفوعة بعوامل المرّان «5» «6» - 533- وقوله: (بسيط) 1- أنضيت «7» هرّتي الغضبى وجدياني «8» ... وأهل بيتي وأضيافي وجيراني 2- وأطلقت يدك العلياء ألسنهم ... بالشّكر عن ألسن طالت لنيران 3- دعتهم بلسان بعد لكنتها «9» ... إلى خوان كما شاؤوا وإخوان 4- ومطبخي بعد ما قد شاب «10» آب له ... زمانه بشباب منه فينان «11» - 532- - 533-

5- وكان يشكو انحطاطا للقدور فقد ... علت كوانينها عن قدر كيوان «1» 6- إن رحّلت عن أثافيها «2» فقد رجعت ... تلك الأماني سروجا تحت فرسان 7- وأقبلت في سواد مقبل ذكرت ... به رواة القوافي بيت حسان «3» 8- وكنت من وحشتي للحم مذ زمن ... داري كدير ومن فيها كرهبان 9- وكان غاية قصدي أن أبدّل من ... لفظ الأديب بأن أدعى بحوبان «4» 10- ومن غرامي بذى قرنين أنظره ... إنّي أخاطب في مدحي بقرنان «5» 11- فبينما أنا في هذا ومشبهه ... إذا ندا الصّاحب المخدوم ناداني 12- وساق أملح «6» لي في العين أملح من ... حوراء قد جمعت حسنا لإحسان 13- لولاه في العيد ما مدّت إلى حمل «7» ... يدي وكيف وما مدّت لميزان 14- يكاد يخدعني لولا معي قرم «8» ... يكاد يذبح أولادي بأسنان

15- فما درى أو «1» جعلت الأرض من دمه ... يحمرّ من خجل خدّ لها قان «2» 16- وبزّ «3» عنه إهاب كان ممتلئا ... شحما ولحما كدرّ فوق مرجان «4» 201/ب 17- وأشرقت كيواقيت «5» مجامرنا «6» ... وبعضها سبج «7» من سيل أدهان 18- ثمّ انتقاها «8» لألوان معجّلة ... وفي غد قد تواعدنا لألوان وحكى أنه بات ليلة بدمشق والفاضل شرف الدّين القيسرانيّ «9» فى طبقة عالية، ترى النجوم دون منالها، وتقصّر البروج عن مثالها، وقد (نحت) «10» في العلوّ كأنّما تحاول ثأرا عند بعض الكواكب، وتطاول كافرها جهد الرّاكب، فأتاه زائر من النّجم فأمره بالصّعود لها، فلم يطق فقال - 534-

- 534- السّراج: (خفيف) 1- شكر الله ليلة طالما كن ... ت حريصا مدى الزّمان عليها 2- رفعتني إلى حمى الشّرف الأع ... لى فجاوزت صاعدا فرقديها «1» 202/أ 3- وبحسبي منها بلوغ مقال ... عجز النّجم من طلوع إليها - 535- وقوله: (متقارب) 1- وقد كنت أعزل «2» عنها وفي ... جوانحها النّار من عزليه 2- تذوب لقطرة ماء عسى ... يكون لعلّتها مطفيه 3- إلى أن كبرت وبان الشّباب ... وصار قواي إلى التّخليه «3» 4- وأصبح رمحي حبلا به ... رجعت من الطّعن للتّدليه «4» 5- وولّيت ظهري لها في الفراش ... فصاحت من النّار يا ويليه 6- تكفّرت «5» بالعزل فيما مضى ... وها أنا أكفر «6» بالتّوليه - 535-

- 536- وقوله: (خفيف) 1- وفتى أبخر «1» تستّر بالصّم ... ت وكان الحديث قد شاع عنه 2- قلت للقوم عند ما سدّ فاه ... مستريح» ومستراح منه - 537- وقوله: (مجتث) 1- السّرّ عندى حبيب ... أضمّ صدري عليه 2- وغيرتي لي تأبى «3» ... وصول غيري إليه - 538- «4» وقوله: (وافر) 1- أعدّ مدحا كذبت عليك فيه ... وقد عاقبت «5» بالحرمان عنه 2- ولكنّي سأصدق فيك قولا ... فلا يصعب عليك الحقّ منه - 536- - 537- - 538-

- 539- وقوله: (منسرح) 1- إن عزّ بالمال معشر ومشت ... أحوال قوم بالمال والجاه 2- فنحن لله ثمّ أنت لنا ... والنّاس قالوا الكمال لله «1» - 540- «2» وقوله: «3» (كامل) 1- ومهفهف «4» عنّى يميل ولم يمل ... يوما إليّ فقلت من فرط الجوى «5» 2- لم لا تميل إليّ يا غصن النّقا ... فأجاب كيف وأنت من قتلى الهوى «6» - 541- وقوله: (مجزوء الكامل) 1- قل للوزير «7» عليّ يا اب ... ن محمّد وهو الوليّ 2- من ذا أحقّ بأن يزور النّ ... بيل غيرك يا عليّ - 539- - 540- - 541-

3- وكلاكما جار «1» ول ... كن أنت للجار الوفيّ - 542- وقوله: (متقارب) 1- أقول وكفّي على خصرها ... تطوف وقد كاد يخفى عليّ 2- أخذت عليك عهود الهوى ... وما في يدي منك يا خصر شي - 543- «2» 204/أوقوله: (خفيف) 1- بأبي أهيف القوام تميل البي ... ض والسّمر والغصون إليه 2- كلّفوني من قدّه حفظ خصر «3» ... ضاع منّى فكم أدور عليه - 544- وقوله: (طويل) 1- إذا أوترت قوس السّحاب وفوّقت ... سهام الحيا للحلي سحّت راميها «4» - 543- - 544-

2- وإن أشبهت ألوانها زهر الرّبا ... عرفت لتلك القوس قدرة باريها «1» - 545- وقوله: (مجزوء الكامل) 1- مولاي زين الدّين «2» سد ... ت بحسن أخلاق رضيّه 2- فبقيت لي يا من قنا ... ديلي به أبدا مضيّه وهذا آخر ما وقع عليه الاختيار من شعره، وأمّا نثره فهو أقلّ بضاعته، وأسهل صناعته، ومنه: - 546- ما كتبه إلى بعض أصحابه: وهي أنّ الدّويرة «3» على ما أنهاه، وربّما قصدت أن تكون فداه، قد ملّت دعامها «4» من طول الوقوف، وكلّت نفثة جدرانها من حمل السّقوف، وعزم - 545- - 546-

جمعها على أن ينقضّ، وكلّ جدار يريد أضن ينقضّ، ومولانا مسئول في تجديد المراسم، وأولى من فكّ أسرى منها وأسر الدّعائم. - 547- وقوله وقد بعث إليه ابن حنّا الوزير «1» بمأكل «2» فصادف وصولها وصول طوائف من الفقراء إليه: (رمل) 1- كان عندي فقراء أحمديّه ... عمّهم جود الأيادي العلويّه 2- وسعوديّون قد أسعدهم ... وبّهم بالمكرمات الصّالحيّه يا مولانا سيّد الوزراء، وكهف الفقراء، أكل والله طعامك الأبرار «3» وأفطر على معروفك من لا نوى الإفطار، وصلّت عليك ملائكة السّماء البررة الأطهار. المملوك يقسم بالله لقد صادف المأكول الشّريف من فضلّه المملوك على الطّوائف المذكورة (وعربهم) «4» وعمّهم كثر الطّعام، وبركة سيّد الصلحاء الكرام، وما رأى النّاس صائما أبرّ بهذا الإيثار «5» ، ولا اقتفى أحد في المكارم هذه الآثار، الحمد لله (طيّبات «6» إلى «7» من الدّعاء المقبول في، وأعلا مناقبه الشّريفة من (اعتر) «8» والجنة) . - 547-

- 548- 205/ب وقوله: وقف المملوك موقف الإجلال لقدرها والإخلال بالعجز عن شكرها، واجتلى الأنوار «1» من زهرها وزهره، وألهاه نسج الجوى عن الحريريّ ومقاماته «2» ، والخوارزمي ومصنفاته «3» ، والعتّابي ومذهباته «4» ، وكأنّ رياض سطري «5» - 548-

نسجت غلى منوال «1» سطوره، وأسرجت أنوارها من ضياء وجهه ونوره، وأجرى أنهارها جريان يمينه، مع صفاء ضميره، فنشرت باباتها العيويّة «2» ، ولثمت آثار يده الموسوية «3» ، وآمنت بموجزات معجزاتها المحمديّة «4» ، وأءنت من يميني اليسار «5» ، وباعدت بينها وبين الإعسار «6» ، وجمعت بين المعلّى «7» والرّقيب «8» من سهام الأيسار «9» ، كما جمعت بين الفضل والإفضال، ومحاسن القول والأفعال، فراح مفضولا بها اليسان «10» ، ومعمودا «11» ببدائهما «12» عماد

أصفهان «1» ، ومعمودا ببدائها عماد همذان) «2» . - 549- وقوله يصف شعرا وسكّرا أهداهما إليه أبو الحسين الجزّار «3» عند ولادة ولده محمّد «4» ويهنّئ ورود ما سمحت به الأنامل الكريمة من درّها «5» الذي ملأ الوطاب ودرّها الذي ملك الرّقاب، وكلتا الصّنيعتين «6» حلا موقعها، وعلا مصطنعها، - 549-

وبكلتيهما «1» النّسب العالي، والثّمن الغالي، فلا خلت الآفاق من فوائده، ولا عطلّت «2» الأعناق من فرائده «3» ، فلقد استنطق «4» بحمده، حتّى الوليد بمهده، وقد تفاءلت بهديه يحيى «5» ، فقلت يهدى وتحيا. وكانت أبياتك أولى بتمامه، وهباتك «6» أوّل مغانمه، وقد جدّد المملوك السّؤال في تشريف مولانا بكرائمه، كما شرّف بمكارمه، ورأيه أعلى. - 550- وحكي أنّ ابن اسباسلار «7» والي مصر قد طلع في ذكره دمّل أطال ليلة، وقصّر بطول القعود ذيله، فكفّ من جماحه «8» الطّمع، وفرّق شمل مسرّاته بما جمع، فأتاه الطّبيب والألم قد أوسعه فوق جهده وحمّله (يبس) «9» الصاحب في رقعة من خلده، فأمره بتجنّب الزّفر، وزجره عن أمور لو انزجر، فبعث إلى - 550-

أبي الحسين الجزّار «1» في عمل مزوّرات «2» له، فعمل منها أنواعا منوّعة، وبعث بها فجاءت إليه مسرعة، وكتب إليه معها رقعة المقصود منها «3» : وما علم المملوك ما تجدّد من حديث ذلك الشّخص الذي شكا ألم تاجه «4» وورم أوداجه، وانحراف مزاجه، وعجز ممرضيه عن مداواته وعلاجه. وظاهر الحال أنّ الذي أحدّ بأسه، وآلم رأسه، كونه تقاوى «5» وتسلّط وترك الحمية وخلّط، فلو أنّه لزم من الأغذية ما اعتاده، وجرى من الرّياضة والتّورّع «6» على ما جرت به العاده؛ لما ضعفت قواه، ولا تعذّر دواه، ولا رجع بعد فطره يصوم ولا استغنى بالمزوّرات عن الألية «7» واللّحوم، ولا عدم الرّاحة من الرّاحة باللّمس، ولا افتقر لمباشرة البدر والشّمس، فالله تعالى يبقيه لأولئك القوم، ويمتعه بالعافية قبل دخول شهر الصّوم. - 551- 207/ب فأمر السراج بإجابته فكتب:

وصلت الأواني العطرات، والألوان التي أزرت «1» بالحبرات «2» والحقائق على الحقائق لا المزوّرات، فلفت «3» مطعما، وشفت ألما، ووفّرت لكلّ حاسة من الحسن أسهما لمسا ومذاقا، ونظرا وانتشاقا ووصفا لها يعلق بالنفس اعتلاقا، سلم كشاجم «4» الظّرف لطاهيها، والوصف لمهديها، ونمّت على المخفيّة أفاويها فلم تكد تخفيها، فجرى الماء في ذلك الذي تعلمه، وشفي ألمه، وعادت شهوته إليه ونهمه «5» ، وقام من الصّحة على ساق، وتشوّق الزّفر واشتاق، وإليكم هذا الحديث يساق، وقد دعت الحاجة إليه في إليه، واعتمدت عليه في نيل البغيه «6» ، ونادته بالاسمث واللّقب والكنية، فطالما فضلت عنده اللّوايا «7» ، ووجدت في زواياه منها خبايا، وقبلت منها على (لله) «8» تقادم وهدايا، فليعجّل بذلك قبل الصّوم، وليلزم حالته الوسطى «9» (بين اليقظة والنّوم، وإن شكّ في صحّة المريض، وتوقف عن (ش: فحصره) «10» المستريض،- 551-

فلينعم بجس نبضه، وبسط كفّه عليه وقبضه، صرف الله عنه الشّكّ باليقين، ولا زال بغير حجب بينه وبين ما يحبه يقين) . - 552- (وكتب «1» إلى ابن الخويي «2» القاضي وهو بدمشق وقد بعث إليه بكتاب ونفقة) : ويهنئ ورود المشرّف لقدره، والمشنّف «3» سمعه بدرّه، المنثور لذهنه وفكره، المنوّه «4» بعد الخمول بذكره، متضمّنا من الصّدقات العميمة، والبركات العظيمة، والصّلات «5» الجسيمة، ما أعجز كاهل الشّكر عن حمله، بل حمل أقلّه، ومساعى الكرماء أن يهتدوا السبيل من سبله، ودواعى البلغاء أن يأتوا- 552-

2 - أحمد بن أبي الفرج بن عبد الله الشافعى: الدين أبو عبد الله:

بسورة من مثله، فقبّل مواقع القلم، ولقي به فرسان الكلام فألقوا السّلم، واهتدوا بمعانيه الشّهابيه في جنح الظّلم، كاهتداء السّفر بالفلم «1» وفيه وفيه ولا أو فيه، وهو لم يكن إلا التّنبيه، على الاجتماع بخدمة القاضي النّبيه، فحمدت طريقا هدى، وبسطت للقبض الدّاخل يدا، وقلت لي البشرى اجتماع تولّدا، فلله كتاب تضمّن وقد، وهي التي بتحقيقها «2» حقّ للسّراج أن وقد «3» ، وخالط لسانه لسان الميزان، فأثّزن وانتقد، وقد كان الإفلاس سقى «4» بينهما بالنّمائم «5» ، فأنفق الصلح يد الدّراهم، واندمل «6» من الجراح ما لا يندمل بالمراهم، ولا زالت الأيادي الشّهابيّة «7» تصلح من الأيام ما فسد، وتتقن من بضائع الأدب ما كسد، وتقوم في مصالح أهله مقام الرّوح للجسد. 208/أومنهم: 2- أحمد بن أبي الفرج بن عبد الله الشّافعىّ: الدّين «8» أبو عبد الله: فقيه لا يطاق معه نهوض، وشاعر لا يركب معه عروض، طالما سلك البحور،

وسلك الدّرر للنّحور، إلى علم بالعربيّة، وفهم في اللّطائف الأدبيّة، وإمعان واف، لأوزان وقواف، بمعرفة لو فطن لها الخليل بن «1» أحمد، لأجراه مجرى والده وترك طريف «2» ما عنده لتالده «3» . ومن شعره قوله في شيخنا قاضي القضاة أبي عبد الله بن جماعة «4» وكان قد عزم على الحجّ، فلمّا ركب بغلته سقط عن ظهرها فوقعت عمامته وانكشف رأسه. - 553- وقوله: (كامل) 1- بشراك يا قاضي القضاة بحجّة ... تكسوك من حلل الكمال لبوسا 2- قد شاقك الإحرام لمّا شقته ... فأبى يقبّل رأسك المحروسا

3 - عبد الله بن علي بن منجد، تقى الدين أبو محمد السروجئ:

ومنهم: 3- عبد الله بن عليّ بن منجد، تقىّ الدّين أبو محمّد السّروجئّ: - 553-

قيس «1» هوى وغرام، وقيس «2» جوى وضرام، من الفقهاء الفضلاء، والأكابر ذوي القدر والولاء، بدع «3» فضائل، وطلع «4» كلّ طائل وكان من الدّنيا متقلّلا، وعلى الآخرة مقبلا. وكان يسكن الحسينيّة «5» ، وهي أجلّ حواضر القاهرة، وبوادي حضرتها الزّاهره وكان يقول: هي وادي الغزلان، ويهيم بظبائها، ويصف بهم أسقامه التي أعيت على أطبّائها، ولا يزال يميل به هوى كلّ قضيب، ويصرعه لحظ كلّ حبيب، بوجد لو لامس الصّخر للآن، وحبّ تساوى فيه السّرّ والإعلان. - 554- ومن شعره قوله: «6» (بسيط) 1- يا ريّس «7» الوصل أدركني فقد وصلت ... مراكب الحبّ في بحري وأشواقي - 554- المقطوعة في فوات الوفيات 2/200.

4 - الحسن بن عمر بن سالم، النقاش الأسطرلابي، زكي الدين:

2- ولي بضاعة شعر ضاع أكثرها ... وقد بدا ذا الهوى يستغرق الباقي «1» 209/ب ومنهم: 4- الحسن بن عمر بن سالم، النّقّاش الأسطرلابيّ، زكيّ الدّين: وأثنى عليه شيخنا أبو حيان «2» بالعلم والأدب، وشعره يدلّ على كثرة ما له من الدّأب، وله ما يهزّ هزّة الرّاح، ويبثّ في القلوب الأفراح.

5 - محمد بن عمر بن أبي بكر بن إسماعيل أبو عبد الله:

- 555- ومن شعره قوله: (بسيط) 1- الحرّ بالبرّ والإحسان تملكه ... والنّذل بالصّدّ أفعالا وأخلاقا 2- يزداد لؤما إذا ما زدته كرما ... كالنّفط يزداد بالتّكريم إحراقا ومنهم: 5- محمّد بن عمر بن أبي بكر بن إسماعيل أبو عبد الله: شاعر له براعه، وساحر نفث «1» في براعه «2» ، طلع كلّ شرف «3» ، وأخذ بكلّ طرف «4» ؛ لفضل قدّ فيه باعه، وملك حرّ الكلام واشتراه وباعه. - 556- ومن شعره قوله: (طويل) - 555- 1- أحبّتنا بنتم فبان تصبّري ... وذقت عذابا لا يجدّ لواصف «5» في الحاشية: أبو محمد، اطلع بآدابه النجوم وسيّرها، ووقّت لها المواقيت وصيّرها ولم يقنع بالدرر وأسلاكها حتى طلع إلى الدّراري في أفلاكها، فنسب المشارق والمغارب ... (كلمات غير مقروءة في حدود أربع كلمات) . - 556-

6 - ضياء بن عبد الكريم بن حاتم الأنصاري وجيه الدين أبو الحسن:

2- وقد كنت أدري أنّ في البين آهة ... ولكنّما التّجريب فوق المعارف ومنهم: 6- ضياء بن عبد الكريم بن حاتم الأنصاريّ وجيه الدّين أبو الحسن: «1»

بزغ «1» من قحطان، ونزغ «2» حيث لا (تمتد له) «3» أشطان «4» . من أصل معرق «5» ، ودوح «6» في الإسلام مورق «7» . أتى بالحسن، ووانى طوع إرادته اللّسن «8» ، إلا أنّه مقلّ، وتقليله على كثيره يستدلّ. - 557- «9» ومن شعره قوله: (طويل) 1- بروحي معشوق الجمال «10» فما له ... شبيه ولا في حبّه «11» لي لائم 2- تثنّى فمات الغصن من حسد له ... ألم تره ناحت عليه الحمائم - 557-

7 - موسى بن علي بن موسى بن يوسف الزرزاري، شرف الدين أبو عمران

210/أومنهم: 7- موسى بن عليّ بن موسى بن يوسف الزّرزاريّ، شرف الدّين أبو عمران «1»

8 - أحمد بن محمد عبد المجيد بن صاعد الخزرجي، نجم الدين أبو العباس ابن الوزير عز الدين:

شاعر نوؤه «1» مطير، وضوؤه يكاد يستطير «2» ، وذكاؤه فوق ذكاء «3» اتّقادا، ومثل عين الشّمس لا تكتحل رقادا. - 558- ومن شعره «4» قوله: (طويل) تواضع «5» كالنّجم استبان لناظر ... على صفحات الماء وهو رفيع 2- ولم يك «6» كالدّخّان يرفع نفسه ... إلى طبقات الجوّ وهو وضيع هكذا ذكرها أبو حيّان وأنشد كالدّخّان مشددة. ومنهم: 8- أحمد بن محمّد «7» عبد المجيد بن صاعد الخزرجيّ، نجم الدّين أبو العبّاس ابن الوزير عزّ الدّين: - 558-

قبس أضاء وأرى، ومضى ففرى «1» ، وجنى الثّمار وقد وشج «2» في عرق الثّرى، سؤدده «3» قديم، ومحتده «4» اليمنيّ لفخار قيس قسيم «5» ، ببيت يبيت وهو للنّجم نزيل وسمير. وتقول به الخزرج للأوس: (منّا أمير ومنكم أمير) «6» . وقد ذكره شيخنا أبو حيّان، وكان لا يزال في الأحيان. وله غرر لا تخفى محاسن أهلّتها، ولا يكاثر على قلّتها. ومما أنشد له: - 559- «7» قوله: (طويل) 1- رأيت الفتى أهواه «8» يبكي فسرّني ... وقلت لما قد نالني يتوجّع - 560-

9 - على بن أحمد بن الحسين الأصفوني علاء الدين أبو الحسن:

211/ب 2- وما ذاك منه رحمة غير أنّه ... سقى طرفه والسّيف يسقى «1» فيقطع ومنهم: 9- علىّ بن أحمد بن الحسين «2» الأصفونيّ «3» علاء الدّين أبو الحسن: -

من بيت طلع في الوزارة نجمه، وتدفّق في جانب الملك يمّه «1» ، وكان هو من خيار أبنائه، وأركان بنائه، كان بالأدب مليّا «2» ومن ذوى السّمات والأسماء عليّا. - 560- ومن شعره «3» : قوله: (كامل) 1- وقل المتيّم جاءكم مستغفرا ... ومن الأحبّة يعرف الغفران 2- فإذا تصالحت القلوب على الوفا ... فخذوا الفؤاد فإنّه شكران «4» - 560-

10 - إسماعيل بن أحمد بن إسماعيل

ومنهم: 10- إسماعيل بن أحمد «1» بن إسماعيل

القوصيّ «1» ، جلال الدّين أبو الطّاهر: ناجذ «2» أدب مفترّ «3» ، ورائد» كنف «5» مخضرّ، وكان صادق الوفاء، صادع «6» الصّباح بلا خفاء، من نبعة «7» الشّعراء، وبرعة «8» أهل الأدب بغير مراء «9» ، يقول للمعنى اصحب شئت أو أبيت، وللشعر أخل فأنا الذي رفع قواعد البيت «10» . أثبت اسمه شيخنا أبو حيان وذكره، وأثنى عليه وشكره، وكان لا ينال أدنى سبقه، ولا تثبت عين لسنا برقه.

ووقفت له أيّام مقامي بمصر على شعر كثير لا يحضرني فيه الآن إلا ما قطفته «1» من مجاني «2» الهصر «3» ، ومنه: - 561- «4» 212/أقوله: (وافر) 1- أقول ومدمعي قد جال «5» بيني ... وبين أحبّتي يوم العتاب 2- رددتم سائل الأجفان نهرا ... تعثّر «6» وهو يجري في الثّياب - 562- «7» وقوله: (وافر) 1- غزال كم غزا قلبي بعضب ... يجرّده وليس له حمائل 2- وضاع «8» تمسكي بالنّد فيه ... وضاع المسك من تلك الغلائل - 561- - 562-

11 - محمد بن الشرف القدسي الكاتب:

ومنهم: 11- محمد بن «1» الشّرف القدسيّ الكاتب «2» :

تائه يخبط «1» في عشواء «2» ، ويخلط في نطق وعواء، بين رشد وتضليل، وتحريم وتحليل. وكتب الإنشاء مصرا وشاما، وجلا وجوه المعاني وساما، فجاءت حالية التّرائب «3» ، (وحاوية للغرائب، تسحر كأنّ سفور الحور في جنّاتها، كان يطوي الضّلوع للدّين ويحنو ولم يكن) «4» . وخدم الشّجاعيّ وكان لديه أثيرا، وقليله عنده كثيرا، ثم سقط من عينه سقوط الدّمع، وقطّ «5» في مجلسه قطّ الشّمع وذلك بدمشق عند ظهوره على فساد معتقده، وبيان بهرجه «6» في يد منتقده. وكان على ما فيه من قبيح المعائب، وخلق السّوء الذي لا يؤنّبه الصّريح المكاتب، مفرى بحبّ الكيمياء ومعاناة عملها، ومعاداة ما له في صحبة أملها. وقد خمّس ديوان الشّذور، ورجع بالخيبة رجعة الملوم المغدور. وحكى غير واحد، منهم والدي وشيخنا أبو الثناء محمود الكاتب «7»

213/ب وابن البيّع «1» ، وعلىّ بن حمزة النّقيب «2» ، وغيرهم: أنّه كان- والله يعفو عنه- مغرى بتربية صغار الأطفال، والميل إليهم والتخلّق بأخلاقهم، حتّى كان يربّي جرى «3» الكلاب العكليّة من الطّرقات، ويحملهنّ تحت ثيابه،

لإرضاء الصّغار، ومن هذا ومثله، ممّا لو قذف في البحر لنجّسه، أو جلّل به النّهار لأدمسه «1» هذا أكثره حكوه من عظيم استهتاره «2» ، وقبيح اشتهاره، مع فضل في الأدب، وحظّ ما مثله حظّ من كتب، ولا سيّما التعليق الذي كأنّه سلاسل الذّهب «3» ومن شعره: - 563- «4» قوله: (طويل) 1- عجبت له إذ دام توريد خدّه ... وما الورد في حال على الغصن دائم 2- وأعجب من ذا أنّ حيّة شعره ... تجول على أعطافه وهو سالم - 564- وقوله في بعض الفتوحات: (وافر) 1- وما زال الحمام ينوح فيها ... إلى أن صار موضعه الحمام - 563-

12 - السيد الشريف الجعفري الحاكم بإخميم

2- وظنّوا أنّهم قوم عظام «1» ... فهاهم في جوانبها عظام 3- أرى أسوارها سجدت لخوف ... ولكن فاتها فيك السّلام 214/أومنهم «2» : 12- السّيّد الشّريف الجعفريّ الحاكم بإخميم «3» . ذكره السّراج الورّاق في مختصر «4» ديوانه، ولم يعرّفه باسم ولا لقب، ولا بجدّ ولا باب. وإنّما حسبك منه ما شهد به الأدب، وعرف ثناؤه وهو في مجمر «5» البروق نشب «6» ، ذكر الورّاق أنّ هذا السّيد الجعفريّ كتب إليه: - 564-

- 565- وقوله: (كامل) 1- لك عزمة ماثورة عمريّة ... كالسّيف أصلت «1» في يمين المنتضي «2» 2- ويد إذا خطّت بنقش أسود ... في طرسها جاءت بفضل أبيض - 566- 215/ب وقال إنّه أجابه: (كامل) 1- ما الرّوض بين مفتّق «3» ومنمنم «4» ... من زهره ومذهّب ومفضّض 2- بكت السّحاب له وشقّت جيبها «5» ... والبرق مبتسم بثغر مومض 3- واحمرّ خدّ الأرض فيه خجلة ... من لحظ نرجسه المريض الممرض «6» 4- يوما بأحسن من سطور صاغها ... فكر الشّريف فعدّ «7» عن شعر الرّضي «8» - 565- - 566-

5- من كلّ بيت جعفريّ «1» ساده ... كالجعفريّ وما بنى لم ينقض «2» قلت (وأظن هذا الشريف هو الذي عناه السراج وكتب إليه يقول (سريع) «3» - 567- وقوله: 1- وحاسد ما رقّ لمّا رأى ... لي حالة ما معها بقيا 2- قال وإنّ الحقّ في قوله ... يكفيه أن يحيا له يحيى نقلتهما من خط السّراج من ديوانه، وقد قال فيما إنّهما في مدح الشّريف جمال الدّين يحيى بن الجعفرىّ رحمه الله- ثمّ ذكرهما)

13 - ... مجد الدين ... عرف بابن الجباب:

216/أومنهم 13- ... «1» مجد الدين ... «2» عرف بابن الجبّاب «3» : سليل أماجد، ورسيل «4» أوّل مبكّر إلى المساجد، من قوم كانوا للزمان أمارا، وللرّكبان «5» أسمارا «6» ، وللمعتفي «7» مزنا «8» ، وللمعتدي حزنا، وتأخّرت منه قنّة» من شواهقهم «10» ، ولمعة من شوارقهم، يضيء الدّجى، (ويقرّ الحلم

والحجى) «1» ، إذ كان من تلك البقيّة، وابن جلا «2» الطّالع من كلّ ثنيّه «3» ، دينار من ألوف، وزبرة «4» من سيوف. ذكره «5» السّراج الورّاق في غير موضع من ديوانه «6» ، والكتاب يعرف بعنوانه. قال السّراج الورّاق: كنت طلبت من القاضي الرئيسي مجد الدّين ابن الجبّاب قربة عند توجّهي إلى الحجاز الشّريف، فبعث بها «7» وكتب إليّ: - 568- وقوله: (كامل) 1- يا شاعرا ما الأحنف «8» المشهور في ... حلم يقاس به وليس معاويه - 568-

14 - أحمد بن نصر الله بن باتكين المصرى القاهرى محيي الدين أبو العباس:

2- أصبحت محتاجا لفاضل قرية ... هذا وكم من فاضل لك راويه «1» فأجبته: - 569- وقاله: (كامل) 1- قل للفتى السّعديّ أفضل من له ... في الصّدفتين «2» قرينة «3» أو قافيه 2- من ذا يجاري فيك بحرا زاخرا ... صارت به السّبع البحار ثمانيه 3- أنا عنه راوية وحمّاد «4» له ... خلّفت حمّادا يسير ورائيه ومنهم: 14- أحمد بن نصر الله «5» بن باتكين المصرىّ القاهرىّ محيي الدّين أبو العباس: - 569-

217/أملأ العيان «1» ، وجاء على فترة «2» بمعجز البيان، فأطلع الألفاظ غرّا، وأطمع كلّ أديب قال لعلّ له عذرا، وظلّ يعاطي «3» كؤوس الأدب معاطاة الرّاح،

ويدافع على «1» عيونه «2» دفاع الرّاح، فكلف «3» به كلف ذوي الغرام، وشغف «4» به شغف الرّوض بالغمام، فحاز «5» منه الاقتراح، وجاز «6» الغايات فحطّ «7» الرقّ «8» عنه واستراح. وكان ذهنه يتوقّد الضّرام، وجفنه يتجنّب الكرى الحلال تجنّب الحرام، وتدفّق خاطره بالمعاني التي فجّرها «9» وتوقّد بالنّار التى سجّرها «10» ، وتفنّن بالفنون التي ما كان لأقلام البلغاء أن تنبت شجرها. وقد حكي أنّه كان على قدمه الثّابتة في الأدب، وتقدّمه في فنّه الذي زمّ «11» إليه ركائب «12» الطلب، ربمّا أخطأ الوزن في مواضع وخرج عنه من غير موانع. وحكى السّراج الورّاق أنّه انتقد عليه وزن الكامل فبلغ ذلك ابن باتكين، فكتب:

- 570- «1» إليه: (كامل) 1- يا جابرا كسر الضّعيف بطوله «2» ... ومصحّحا معلول كلّ سقيم 2- لا تعجبن إن تبد منّي توبة ... عن وزن بحر الكامل الموسوم 3- لا زلت تستر كلّ عيب ظاهر ... منّي وتأسو «3» داميات كلومي - 571- فأجابه: (كامل) 1- باكرتني «4» بخميلة «5» مطويّة «6» ... يسري لها أرج «7» بكلّ نسيم 2- فشكرت من أنفاسها أدبيّة ... ذهبيّة في وشيها المرقوم 3- ووردت بحرا كاملا من كامل ... ترك الخليل «8» يجنّ قلب كليم - 570- - 571- - 572- «1»

1- يا جفن مقلته سكرت فعربد «1» ... كيف اشتهيت على «2» فؤادي المكمد «3» 2- من لم يبت بعذاب حبّك قلبه ... متنعّما لا فاز فيك بموعد 3- لاموا على ظمأي إليك ولو دروا ... في ماء خدّك ما حلاوة موردي 4- وجه كما سفر الصّباح وحوله ... حسنا بقايا جنح ليل أسود «4» - 573- «5» وقوله: (بسيط) - 573-

1- أقسمت بالله وآياته ... يمين برّ صادق في اليمين «1» 2- لو زدت قلبي فوق ذا من أذى ... ما كنت عندي غير عيني اليمين - 574- «2» وكتب إليه أبو الحسين ملغزا في الشّطرنج: (وافر) 1- وما شيء له نفس ونفس «3» ... ويؤكل عظمه ويحكّ جلده 2- يودّ به الفتى إدراك سؤل «4» ... وقد يلقى به ما لا يودّه 3- ويأخذ «5» منه أكثره بحقّ ... ولكن عند آخره يردّه - 574-

- 575- «1» فكتب ابن باتكين جوابه: (وافر) 1- لقد أهديت لي شعرا بديعا ... يضلّ عن اللّبيب لديه رشده - 575-

2- به ضدان مقتتلان وهنا ... ويصطحبان في نطع يمدّه 3- هما ضدان من زنج وروم ... يقاتل كلّ قرن فيه ضدّه 4- تقوم الحرب فيه كلّ وقت ... ولا تكفي من الوقعات جنده 5- ويشتدّ القتال به طويلا ... ويحكم بالأصاغر فيه عقده 6- ويقتل ملكه في كلّ حين ... ويبعثه النّشاط فيستردّه 7- وما ينجي الهمام به حسام ... وقد نجّى من الآفات شدّه 218/أومنهم:

15 - الشهاب الأعزازي

15- الشّهاب الأعزازيّ «1» وهو أحمد بن عبد الملك بن عبد المنعم بن عبد العزيز «2» شهاب الدّين أبو العبّاس: عود الأدب ونبعته، وصيت الذّكاء وسمعته، وكان حسّان قول، وإحسان طول يسحر ببيان كلم «3» بوالغ «4» ، وسنان كلوم في دم والغ «5» . وهو جملة إحسان، وجبلّة «6» كلام خلق للسان، بفكر يقذف بحره العنبر «7» ، ولا يحدّث

فيه إلا عن برّ «1» ، ولم يبرح شهابا يتوقّد فرقدا «2» ويتضرّم موقدا، بصدر رحيب، وبرّأ من كلّ رقيب، إلى أن بعد منه ما اقترب، ودانى شهابه المغيب فغرّب. أصله من عزاز، وسكن القاهرة المعزيّة «3» وتمطّر «4» في عنان صباه المطريّة «5»

والحزيّة «1» ، ولم يفت منذ كان فتى رافلا «2» في بردها الممصّر «3» ، وراقلا «4» في بلدها الذي أعجز كسرى وقيصر، وكان بقيساريّة (جهاركس) «5» في قطانها «6» التجار، وسكانها بالأبحار، والناس تنتابه «7» ، وآونة عتبه وآونة إعتابه «8» ، وكان

يبيع البزّ «1» ، ويعيب الأماعز، ومكانه نادي حسب، وبادى فضل حاضر ومكتسب، يغشاه «2» أكابر الفضلا، وذوو المآثر من الأجلاء، فأمّا الأدباء فكان عكاظ «3» سوقهم، وغاية سبوقهم «4» ، وعزّت به عزاز، ورفلت القاهرة في ثوب لها منه طراز «5» جالس بها الملوك وحاضرها، وجانس «6» باديها وحاضرها، فزهت به مناظرها، وبهت «7» بأدبه مناظرها «8» . سألت شيخنا أبا الثّناء «9» ، فقال: كان قويّ التّراكيب، صحيح الأساليب. قلت: وكان مظهرا للأعاجيب، ومظهرا لأبكار «10» من الجآذر في زيّ الأعاريب «11» .

وكتب إلى شيخنا أبي الثّناء يهنئه بطبقة كان بناها بحارة (زويلة) «1» رفع سمكها «2» ، (ورصّع في عنق الجوزاء «3» سلكها، وجلا عقلتها «4» الحاليه، وطاول بها القصور فتضاءلت لطبقتها العاليه) «5» . - 576- وقوله: (طويل) 1- سلام على تلك المحاسن والحلي ... وتلك السّجايا «6» الغرّ والخلق العذب 2- سلام محبّ تطّبيه «7» صبابة «8» ... إليك على بعد من الدّار أو قرب - 576-

3- أيا عمر الحمرات «1» والمدرك العلى ... بمنصبه العالي ومنزله الرّحب 4- أبثّك ما بي من هوى منك زائد ... وشوق قنوط «2» بالملامة والعتب 219/ب 5- عهدتك سمحا بالتّواصل واللّقا ... فصرت ضنينا «3» بالرّسائل والكتب 6- وما لي ذنب «4» أستحق به الجفا ... وإن كان لي ذنب فحبكم ذنبي 7- وما ازددت عندي جفوة بعد جفوة ... وحقّك إلا ازددت حبّا على حبّي 8- أيا طيفه زرني ليسكن مضجعي ... ويا شخصه عدني لتطفى لظى «5» كربي «6» 9- ويا بارقات من رباه ألا أو مضي ... ويا نسمات من حماه ألا هبّي 10- فتى كفّه تهمي ونعماه تبتدي ... وألفاظه تسبي وآدابه تصبي «7» 11- أنمّ من الرّيحان والبان ذكره ... وأذكى «8» من الجاديّ «9» بالمندل «10» الرّطب 12- له كلمات نشرها «11» ومذاقها ... كراح النّدامى أو كريحانة الشّرب 13- ألذّ إلى الأجفان من سنة «12» الكرى ... وأسحر للألباب من حدق السّرب «13»

14- شجاع القوافي مائل ببداهة ... يروح بلا طعن ويغدو بلا ضرب 15- إذا حاك شعرا أو رواه محرّرا ... فمن أحمد الكنديّ «1» أو عامر الشّعبي 16- سقى الله مصرا ما سقى عذب «2» الحمى ... ولا أخطأتها صيّبات «3» من السّحب 17- ولا برحت مخضلّة الدّوح والثّرى ... معنبرة «4» الأرجاء مسكية التّرب 18- أحنّ إلى أطلالها وربوعها ... وما دارها داري ولا شعبها «5» شعبي 19- ولكن لمن قد حلّها وثوى بها ... وإن غاب عن عيني فمازال عن قلبي 20- سأشكر منه نعمة عمريّة ... وعارفة حسبي صنائعها حسبي 21- وأذكر أيّاما له ولياليا ... رأيت بهنّ السّرج «6» أذكى من الشهب

- 577- فأجابه: (طويل) 1- لقد باكرتني روضة أدبيّة ... هززت بها أعطافنا هزّة القضب «1» 2- وأغنيتني عن كلّ غنّاء «2» بالتي ... سقتها يمين منك أندى من السّحب 220/أ 3- لثمت بها للورد خدّا مضرّجا ... عليه سقيط «3» الطّلّ كاللّؤلؤ الرّطب 4- وقبّلت ثغر الأقحوان مفلّجا «4» ... فأطفأت حرّ القلب بالبارد العذب 5- وغازلت لحظ النّرجس الغضّ خاليا ... وللسّحب هدب منه نيطت «5» إلى هدب 6- فمن أنبت الأزهار فوق مهارق «6» ... سواك ومن ذا أنشأ الرّوض في الكتب 7- وأعطش ليل النّفس تشرق تحته ... معان إذا استجليت أبهى «7» من الشّهب 8- لقد راق لي ما راق من حسن لفظها ... كما رقّ لي ما راق من ذلك القلب 9- ألذّ لجفن المستهام من الكرى ... وأعذب في قلب المحبّ من الحبّ 10- وأطيب من ليل تنفّس «8» صبحه ... من الرّاح والرّيحان للفتية الشّرب - 577-

11- وقام ينادي للصّبوح بسحرة «1» ... غلام يغنّي للفتاة ألا هبّي 12- وغنّى عليها جائل» من وشاحها ... على الصّمت من خلخالها ومن القلب «3» 13- وطاف براح لونها من خدوده ... ورقّتها في الكأس من دمعة الصّبّ 14- وأطيب من ذا ساعة أجتلي بها ... محيّا شهاب الدّين محترق الحجب 15- وتشنيف سمعي منه بالدّرر التي ... عندها درّ التّرائب في التّرب 16- ولا اختار إلا شعب أحمد دونهم ... وناهيك «4» للآداب والعلم من شعب 17- ومن أحمد الكنديّ «5» إذ قال أحمد ... فريضا فأعيا قالة العجم والعرب 18- وقصّد «6» أحيانا ووشّح «7» تارة ... ليطلع في شرق شهابا وفي غرب 19- إليك شهاب الدّين «8» عذري فإنّ لي ... عوائق تلهيني عن الأكل والشّرب 20- وحسبك منّي حسبك اليوم «9» خجلتي ... لديك وحسبي فيك فرط الحيا حسبي

21- وعادتك الحسنى إذا لم أزر تزر ... فنحن سواء لا محالة في الذّنب 221/ب 22- فزرني وهب عيني برؤياك حظّها ... كما نال قلبي منك يا ساكنا قلبي - 578- (وكتب إلى السّراج الورّاق) «1» (كامل) 1- قسما بوجهك إنّه الوجه المضى ... وبحسن خلقك إنّه الخلق الرّضى 2- وبحود راحتك التي نعماؤها ... للمعتفي ونوالها للمنفض «2» 3- وبذكرك الحسن الجميل وفضلك ال ... غمر «3» الذي «4» بقليله لم أنهض 4- إني على العهد الذي أسبابه ... لم تنصرم «5» وبناؤه لم ينقض 5- يا فاقدا لم يخف عن لحظاته ... أمر المحبّ من الحسود المبغض 6- نبئت أنّك معرض «6» متعرّض «7» ... روحي فداء المعرض المتعرّض - 578-

7- وأتت خيولك بالعتاب سوابقا ... تردي «1» وخيلي قبلها لم تركض 8- فعجبت من حظّي لمثلي أسود ... وخجلت من عرض لمثلك أبيض 9- فابعث كتابك ضامنا عنك الرّضا ... ممّا سمعت وداوني يا ممرضي 10- فمدامعي لم تنبجس «2» حتى أرى ... منك الرّضا ونواظري لم تغمض 11- ضلّ امرؤ بسوى سراج الدّين «3» في ... جنح الحواري يهتدي أو يستضي

- 579- «1» فأجابه: (أي السراج الوراق) (كامل) 1- حبل المودّة بيننا لم ينقض ... سخط الحسود بذاك منّا أو رضي 2- فلئن تعرّض أو تعرّض ناقل ... فالويل للمتعرّض المتعرّض 3- ثبتت لديّ كما لديك مودّة ... تدلي إليك بحجّة لم تدحض «2» 4- وبها اكتفيت فقد دعيت المكتفي ... وبها استضأت وقد دعيت المستضي 5- قسما شهاب الدّين «3» بالبشر الذي ... من غير وجهك ما أراه بمومض 222/أ 6- وبراحة بسوى النّدى لم تنبسط «4» ... يوما وعن غير الخنا «5» لم تقبض 7- إنّي على ودّ يزيدك صحّة ... من (دونه) «6» ألم العتاب الممرض 8- ولقد بعثت خميلة أغنيتني ... من زهرها بمذهّب ومفضّض 9- وأريتني آثار كفّك في النّدى ... يا فخر روّيها الطّروس وروّض «7» 10- ومن الغلام فقد أطاعك بين ... أمران المجد وبين حنك المحمض «8» - 579-

وكان السّراج الورّاق قد عمل قصيدة في الملك المظفر «1» صاحب حماة فأنشدها له بحضور العزازيّ في مناظر الشّرف الأعلى المطلّ على بركة الفيل «2» ، وهي قصيدة سيّارة، منها «3» : (البسيط) 1- إليك بالإذن صار الناس والجود ... فلا عدمنا فقيدا فيك موجود 2- وللرّبيع لسان ظلّ ينشدنا ... النّبت «4» أغيد والسّلطان محمود 3- وأقبل الغيث منه حاجبا ملكا ... كم شاع يوما «5» له بالنّصر مشهود 4- والنّيل كم حسد القاضي على ملك ... تصوّر الجود فيه بل هو الجود 5- ملك يصدّ بنعماه القلوب على ... ما هذّبته به آباؤه الصّيد 6- فيا لجدود العوالي والجدود معا ... لواؤه حيث حلّ النّجم معقود 7- له شريعة عدل عندها شرع ... أسد الفلا والمها والشّاء «6» والسّيد «7» 8- يا ناظم الطّعن في لبّات «8» حسّده ... كصنعة «9» ما خلا من نظمه جيد 9- لقد أتيت بها جهد المقلّ «10» ولل ... سّاري بها ومقيم الدّار تغريد - 580-

فلّما انصرف كتب إلى العزازيّ يشكر حسن صنعه إليه، وجميل ثنائه عليه وهي «1» : - 581- (طويل) 1- وقد كنت دهرا للمروءة «2» ناشدا «3» ... أسائل عنها من أغار وأنجدا «4» 223/ب 2- وأسمع عنها ما يشوق ولا أرى ... إلى أن رأت عيني العزازيّ أحمدا 3- فراش جناحي «5» نحو ملك متوّج ... تخرّ له الأفلاك «6» ما لاح سجّدا 4- وأنشدته في حضرة الملك قاعدا ... وودّ ابن أوس «7» ثمّ لو قام منشدا 5- ولا بيت إلا والشّهاب (معزّز) «8» ... يقول أعد فالعود ما زال أحمدا - 581-

6- وأردف «1» لي النّعمى بنعمى مشافها ... (بها) «2» الأفضل الملك الجواد ممجّدا 7- فأنشدت كالحال التي قد تقدّمت ... وعاد شهاب الدّين يثني كما بدا 8- يقول كذا فلينظم الشّعر ناظم ... ويأتي به الأملاك مثنى وموحدا 9- فحدّثت نفسي بالغنى غير كاذب ... لأنّ بني أيّوب «3» هم منبع النّدا 10- ولم تر عيني شاعرا «4» ودّ شاعرا ... لذا ولذا ما شاد «5» هذا الفتى سدى 11- فعاش شهاب الدّين يفدى بحبّهم ... وبينهم «6» والعبد من جملة الفدا - 582- فأجابه العزازيّ: (طويل) 1- لقد باكرتني روضة أدبيّة ... تغنّى بها طير الثّناء وغرّدا 2- فبتّ وقد هشّ «7» الخليل بوصلها ... وأرشقني «8» منها الأراك (المبرّدا) 3- أقبّل منها مبسما طاب موردا ... كما قبّل المشتاق خدّا مورّدا - 582-

4- أيأتي بها شيخ الفضائل فاضلا ... (سديد) «1» القوافي زاخرا «2» ومقصّدا 5- أرى عمرا «3» أولى الكرامة أحمدا «4» ... ومن غيره أولى «5» بإكرام أحمدا 6- سراج «6» هدى الله الشّهاب «7» بنوره ... ولولاه في نهج البلاغة ما اهتدى 7- تكاد العذارى يتخذن قلائدا ... منظمة من شعره لو تجيّدا 224/أ 8- أترجو بناتي «8» لحاقا نساءه «9» ... وأبناؤه قد أحرزت قصب المدى «10» 9- وهل يرتجي غير المظفّر «11» نازح ... وقد أشبه المنصور «12» بأسا وسؤددا 10- فأدنى سراج الدّين مستمعا له ... فأنسى حبيبا «13» حين أنشا وأنشدا 11- وساقط ذاك الدّرّ من لهواته «14» ... نظيما «15» ولولا نظمه «16» لتبدّدا 12- ورنّح أعطاف النّدامى ولم يدر ... منه لكن ثناء مجدّدا «17»

13- وقمنا ووجهي للسّفارة «1» أبيض ... بمن ساد في نظم القريض «2» وسوّدا «3» 14- وأعرفه أسخى الملوك شمائلا ... وأسمحهم نفسا وأبسطهم يدا 15- ولكن هي الأوراق «4» يحرمها الفتى ... قريبا ويجني زهرها المرء مبعدا 16- فلا تيأس المدّاح من صدقاته ... فإن فات يوما جوده لم يفت غدا - 583- ومن شعره قوله: (خفيف) 1- وحديث كأنّه قطع الرّو ... ض سقتها دموع وبل وطلّ 2- وعتاب أرقّ من بسمة الفج ... ر تمنّت ما هنّ: «5» ماء وظلّ - 584- «6» وقوله: (سريع) 1- مذ فرّ منّي الصّبر في حكمه ... حكى عليه مدمعي ما جرى 2- أباح قتلي في الهوى «7» عامدا ... وصاح كم من عاشق في الورى 3- رميته في أسر حبّي ومن ... أجفان عينيه أخذن الكرى - 583- - 584-

- 585- وقوله (مجزوء المتقارب) 1- أقام لعشّاقه ... على حكم مشتاقه 225/ب 2- وهذا دليل على ... مكارم أخلاقه 3- هلال بدا طالعا ... بأفلاك «1» أطواقه «2» 4- وهلال السّماء ... يخرّ لإشراقه 5- حمى آس «3» أصداغه ... بنرجس أحداقه 6- وقال فخلنا القضيب ... يميل بأوراقه - 586- وقوله (سريع) 1- هل حكم ينصفني فهو لي ... مصارع يصرع أسد الشّرى - 587- وقوله: (سريع) 1- إن أقبلوا من بين تلك السّتور ... وأقبلوا فوق القدود الشّعور - 585-

2- فقل شموس أشرقت في الدّجى ... وقل غصون أثمرت بالبدور 3- نواعس الأجفان بيض الطّلى «1» ... نواعم الأبدان هيف الخصور 4- كأنّما أدمع عشّاقهم ... قد نظموها دررا في النّحور 5- يا كحلا حلّ بألحاظهم ... جرت كما جار علي الفتور 6- وأنت يا نرجس أحداقهم ... شاركت في قتلي أقاح الثغور - 588- وقوله: (سريع) - يا خصره الدّارس أشكوك ما ... حمّلته من ردفه العامر 2- يا أيّها الفاحم من شعره ... لله كم أفحمت من شاعر - 589- وقوله: (خفيف) 1- ما علينا إذا التثمنا خدودا ... قد كسا الحسن فوقها أنوافا «2» 226/أ 2- واقتطفنا واوا وراء ودالا ... وشممنا ميما وسينا «3» وكافا - 587- - 589-

- 590- «1» وقوله (كامل) 1- ما عذر مثلك والرّكاب تساق ... ألا تفيض بدمعه «2» الآفاق 2- فأذل مصونات «3» الدّموع فإنّما ... هي سنّة قد سنّها العشّاق 3- ولربّ دمع خان بعد وفائه ... مذ حان من ذاك الفريق فراق 4- ووراء ذيّاك الكثيب «4» منيزل ... لعبت بقلبك نحوه الأشواق 5- خذ أيمن الوادي فكم من عاشق ... فتكت به من سربه الأحداق «5» 6- واحفظ فؤادك إنّ هفا برق الحمى «6» ... أو هبّ منه نسيمه الخفّاق - 591- وقوله: (خفيف) 1- أيّها المستبيح قتلي خف اللّ ... هـ وانه عينيك للدّم المستحله «7» - 590- - 591-

2- وأبن لي بأي ذنب تقلّد «1» ... ت دمي عامدا وأيّة زلّه 3- يا نحيف القوام من غير ضعف ... وسقيم الجفون من غير علّه 4- بأبي منك وجنة لدم العشّ ... اق فيها شواهد وأدلّه 5- كتب الحسن فوقها سورة النّم ... ل وكانت للعاشقين مضلّه 6- مشكلات حروفها وهي لا تك ... تب إلا بنقطة وبشكله 7- بدر تمّ يلوح في فلك الح ... سن فيكسو البدور نقص الأهلّه 8- وإذا «2» خطا فبانة حقف «3» ... وإذا ما عطا «4» فجؤذر رمله 9- لو بدا للحسان تحت الأكالي ... ل «5» تهتكن من ستور الأكلّه «6» 10- قلت لّما بدا لعيني يا مو ... لاي (إنّ لي) «7» حاجة وهي سهله 227/ب 11- قال صفها فقلت قد شرحتها ... لك في الخدّ أدمعي المستهله «8» 12- قال لي قبلة أظنّك تعني ... قلت لم بعدها أجل هي قبله 13- فتصدّق بها لتطفي أواما «9» ... قد أذاب الحشا وتبرد علّه

14- فإلى برد فيك واحرّ قلبا «1» ... هـ ومن لي من برد فيك بنهله «2» 15- أترى يسمح الزّمان بلقيا ... ك وهل يغلط الرّقيب بغفله 16- كم أمنّي بوصلك القلب في السّ ... رّ وفي الجهر والأمانيّ ضلّه «3» 17- وألاقي الأشجان مكثرة في ... ك بنفس من العزاء مقلّه 18- أنا أشكو لعزّة منك ما أل ... بستني الحبّ من خضوع وذلّه 19- لي دمع أجاد «4» في الخدّ ما خ ... طّ ولم لا يجيد وهو ابن مقله «5» 20- وفؤاد مقلقل «6» وضلوع ... واهيات ومهجة «7» مضمحلّه «8» 21- يا نبيّ الجمال في أمّة العشّ ... اق لا تجعل الملالة «9» ملّه «10» 22- وترفّق بأمّة جعلت ح ... بّك دينا (لنا) «11» ووجهك قبله

23- أطرق «1» الغصن مذ خطرت حياء ... واعترى البدر مذ تبدّيت خجله 24- قسما لا سلوت عنك ولو ذب ... ت سقاما أو صرت في الحبّ مثله «2» 25- كيف أسلوك والملاحة تجلو ... ك لعيني في حلّة بعد حلّه - 592- وقوله: (سريع) 1- أثنت على عطفيه لّما انثنى ... معاطف البان وسمر القنا 2- غصن نقا ينبت في خدّه ... أزاهر للحسن لا تجتنى 3- يعطيك من أحداقه نرجسا ... غضّا ومن أصداغه سوسنا «3» 228/أ 4- فهو هلال طالع إن بدا ... وهو غزال راتع إن رنا 5- لله ما أفتك ألحاظه ... في مهج الخلق وما أفتنا 6- يا ردفه رفقا على خصره ... فقد تشكّى بلسان الضّنى «4» - 592-

- 593- وقوله: (متقارب) 1- إذا ما رنا ناظرا أو جلا ... جبينا وهزّ قواما رطيبا 2- فلا تلتفت لالتفات الغزال ... وذمّ الهلال وسبّ القضيبا - 594- وقوله: (بسيط) 1- لو كنت تقبلني عبدا بلا ثمن ... رأيتها منّة من أعظم المنن 2- يا معرضا عن عتابي في محبّته ... كمثل إعراض أجفاني عن الوسن 3- صف لي المنام فإنّي لست أعرفه ... كلا ولم أره يوما ولم يرني 4- ولم يمرّ له شخص على بصري ... لكن أحاديثه مرّت على أذني - 595- وقوله: (بسيط) 1- إن لم أمت في هوى الأجفان والمقل ... فوا حيائي من العشّاق وا خجلي 2- ما أطيب الموت في عشق الملاح كذا ... لا سيّما بسيوف الأعين النّجل 3- يا صاحبيّ إذا ما «1» متّ بينكما ... دون الشّهيين: ورد الخدّ والقبل 4- فاستغفرا لي وقولا عاشق غزل ... قضى صريع القدود الهيف والمقل 5- راش الفتور له سهما فأخطأه ... حتّى أتيح له سهم من الكحل - 595-

6- وللعيون اللّواتي هنّ من أسد ... إلى القلوب سهام هنّ من ثعل «1» - 596- وقوله: (خفيف) 1- قال لي من أحبّه عند لثمي ... وجنات يحدّث الورد عنها 229/ب 2- خلّ عنّي أما شبعت فنادي ... ت الحياة يشبع منها؟ - 597- وقوله (مجتث) 1- يا راشق «2» القلب مني «3» ... أصبت فاكفف سهامك 2- ويا كثير التّجني ... قطعت حتّى سلامك 3- وخنت ذمّة «4» صبّ ... ما خان قطّ ذمامك 4- فاردد عليّ منامي ... فلا سلبت منامك «5» - 597-

5- فمن رأى سوء حالي ... بكى عليّ ولامك 6- فلو أردت حياتي ... لما هززت قوامك 7- بمن أحلّك قلبي ... ارفع قليلا لثامك 8- وابسم لعلّي أحيا ... إذا رأيت ابتسامك 9- يا خدّه ما أحيلى «1» ... للعاشقين التثامك 10- بكيت دالا وميما ... لمّا تأمّلت لامك - 598- وقوله: (مجزوء الكامل) 1- غضبان جاد بوعده ... وطوى مسافات «2» بعده 2- فرشفت خمرة ريقه ... وقطفت وردة خدّه 3- وشفيت حرّ جوانحي ... برضاب فيه وبرده 4- ولقد نعمت بوصله ... ولكم شقيت بصدّه 5- مذهزّ بانة عطفه ... وثنى أراكة قدّه 6- شهد القضيب بفضله ... وكفت شهادة ضدّه - 598-

- 599- «1» 230/أوقوله: (خفيف) 1- بدويّ كم حدّثت مقلتاه ... عاشقا عن مقاتل الفرسان 2- ذو محيّا يصبح يا لهلال «2» ... ولحاظ تصيح يا لسنان «3» - 600- «4» وقوله: (خفيف) 1- ما يقول الهاجون في شيخ سوء ... راجح الجهل ناقص المقدار 2- شان تلعفرا «5» فأضحت به أل ... أم أرض نعم وأخبث دار 3- ذو محيّا في غاية القبح ما ير ... خي عليه الحياء فضل خمار «6» 4- فلكم جاء لابسا ثوب عاب «7» ... ولكم راح ساحبا ثوب عار - 599- - 600-

5- بين ميمي مهانة ومساو ... ثمّ قافي قيادة وقمار «1» - 601- وقوله ملغزا في هنات «2» 1- ولله ممشوق «3» القوام أطعته ... وعاصيت في حبي له كلّ لائم 2- له شفة العنّاب في رشفاتها ... شفاء «4» وروي «5» للقلوب الحوائم «6» 3- كأنّ الغواني إذ ترشفن ريقه ... وقبّلنه قلّدنه بالمباسم «7» 4- تبدّى لنا في حلّة عسجديّة ... عليها طراز رقّ من درّ ناظم 5- ووافى كخود «8» أقبلت في حليّها ... وشمس تجلّت بالنجوم العواتم 6- فأثبت فيه لحظه كلّ ناظر ... ومال الى تقبيله كلّ لاثم 7- مسرّة قلبي أن يكون مجالسي ... وقرّة عيني «9» أن يبيت منادمي 8- إذا صحّفوه كان شيمة ماجد ... وتصحيفه الثاني سجيّة آثم 9- وإن حذفوا منه أخير حروفه ... فقل في سرور مقبل لك دائم 231/ب 10- يذكّرني فقد الشّيبة عكسه ... قدود العذارى أو غناء الحمائم - 601-

- 602- وقوله: (منسرح) 1- قام يروم الطّهور «1» فانحسر الم ... ئزر عن أبيض له يقق 2- فمدّ سقرا «2» عليه من سبح ال ... شّعر وغطّى الصّباح بالغسق «3» 3- فخلت بدرا يلوح في ظلمة اللّ ... يل وغصنا يميس «4» في الورق - 603- «5» وقوله في مليح مصارع (سريع) 1- هل حكم ينصفني من هوى ... مصارع يصرع أسد الشّرى 2- مذفرّ منّي الصّبر في حبّه ... حكى عليه مدمعي ما جرى 3- أباح قتلي في الهوي عامدا ... وصاح كم من عاشق في الورى 4- رميته في أسر حبّي ومن ... أجفان عينيه أخذت الكرى - 602- - 603-

- 604- وقوله: ممّا يكتب على حياصة «1» : (خفيف) 1- ما علوت الخصور حتّى تبوأ «2» ... ت من السّقم مقعدي ومكاني 2- وصبرت الصّبر الشّديد على البر ... د وذقت العذاب بالنّيران 3- وكأنّي أعلنت أو بحت بالسّ ... رّ فكفّوا كما رأيت لساني - 605- وقوله في القوس والنّشّاب «3» ملغزا: (خفيف) 1- ها عجوز كبيرة بلغت عم ... را «4» طويلا وتتّقيها «5» الرجال 2- قد علا جسمها صفار «6» ولم تش ... ك سقاما ولا عراها هزال - 604- - 605-

3- ولها في البنين سهم وقسم ... وبنوها كبار قدر نبال «1» 4- وأراها لم يشبهوها ففي الأ «2» ... مّ اعوجاج وفي البنين اعتدال - 606- «3» 232/أوقوله ملغزا في شبابة: (وافر) 1- وما صفراء شاحبة ولكن ... يزيّنها «4» النّضارة والشّباب 2- مكتّبة وليس لها بنان «5» ... منقّبة وليس لها نقاب 3- تصيخ «6» لها إذا قبّلت فاها ... أحاديثا تلذّ وتستطاب 4- ويحلو المدح والتّشبيب فيها ... وما هي لا سعاد ولا الرّباب «7» - 606-

- 607- (وقوله) : (بسيط) 1- مهاجري في الهوى من غير ما سبب ... ها قد جعلت دموع العين أنصاري 2- لئن قطعت عن الأجفان راتبها «1» ... من الكرى فلها من دمعها جاري» - 607-

16 - أحمد بن شهاب البغدادي

- 608- (وقوله) : (مخلع البسيط) 1- ما هزّ أعطافه النّسيم ... إلّا انثنى قدّه القويم 2- بدر له من ذؤابتيه «1» ... ليل ومن ثغره نجوم 3- إذا تثنّى قدّه فغصن ... وإن لوى جيده فريم 4- إن كان جسمي به سقيما ... فإنّ سقمي به جسيم «2» 233/ب ومنهم: 16- أحمد بن شهاب البغداديّ «3» . وحكى شيخنا أبو الثّناء الحلبيّ «4» قال: جلس إليّ ابن البغداديّ ثمّ أخذ ورقة وكتب فيها: - 609- وقوله: (خفيف) 1- قد عرفنا الذّهاب لا شكّ فيه ... فعن العود بعده خبّراني - 608-

2- هل تعود الأرواح في الجسم أم بال ... عكس أم لا رجوع أم يرجعان ثمّ ناولتها «1» فقطعت قوله: (يرجعان) ، وأعطيتها له، واقتصرت عليها في جوابه، فبهت وسكت، كأنما ألقمته حجرا. ومن محاسن شعره: - 610- قوله: (طويل) 1- حججت إليه «2» والعذول يحجني «3» ... عليه فكان العذل رنّة «4» حادي «5» 2- فأحرقت لكن مقلتي سنة الكرى ... وطفت ولكن حوله بودادي «6» - 611- وقال: (بسيط) 1- لو كان (شرب) «7» حرام كالنّبيذ له ... ريح لعزّ وجود الزّاهد الصّاحي - 609- - 610- - 611-

17 - عبد الرحيم بن محمد بن يوسف السمهودي الخطيب:

234/أومنهم: 17- عبد الرّحيم بن محمد بن يوسف السّمهوديّ الخطيب «1» :

ذكره الأتفوهي «1» وقال: قال: حضر إليّ بعض أصحابي وسألني أن أمضي معه إلى زوجته لأصلح بينهما، فمضيت معه، فشكت زوجته من سوء خلقه، وقالت: انظر ما فعل بي، ضربني وكسر معصمي، ثمّ كشفت عن معصم كأنّه البلّور فقلت: (بسيط) - 612- «2» وقوله: (بسيط) 1- قالت وقد كشفت عن سرّ معصمها ... انظر إلى فعل من قد جار وابتدعا 2- فما رأيت به للكسر من أثر ... بلى رأيت عمود الصّبح منصدعا - 612-

18 - ابن دانيال:

234/أومنهم: 18- ابن دانيال: ورد «1» في النّوادر «2» ، وشبل سريع البوادر «3» ، ألطف مذهبا من ابن حجّاج «4» وأحسن مذهبا من أبي الزّجّاج «5» ، بتنذير أعمرت من سدير

بشار «1» وأقرب ممّا يعدّ الهبّارية «2» في قلب الأشهار. ولم ير مثله الهرواني في منامه، ولا نادم بمثله الحورانيّ على مدامه، بسرعة جواب لا يعدّ قريعه «3» القاضي ابن قريعه «4» ، ولا فتح على مثله (عينا) «5» ، أبو

العيناء «1» أخلق معه ثوب أبي خليل ممّا يرقّع، وسئم من سؤال الأدب ممّا يشنّع. روى خبر طريّ، ونسى خبر أبي الشّمقمق مع البحتريّ «2» . وكان ممن

يورده الملك الصالح «1» ابن المنصور بودّه، وجرى على هذا الطّلق «2» سلّار «3» من بعده، وله معهما حكايات مضحكة، ليس هذا موضع مجونها، ولا مجمع شجونها. وكان على هذا ممن له صناعة في الكحل يد على كلّ عين، وميل لو منّا لأرى به من فرسخين. كلّ هذا لطلاوة «4» محاضرّه، وأجوبة حاضره، وطبّ للبس الأجسام ملابس صحتها، وأدب سلب الرّياض أريج نفحتها. 235/ب- 613- وحكى لي النّقيب عليّ بن حمزة «5» أنه كان قد أمر بقطع رواتب الناس من - 613-

اللّحم، فقطع لابن دانيال، ممن قطع، فدخل على الملك الصّالح وهو يتعارج، فقال: ما بك يا بن دانيال؟ فقال: قطع لحم، وكان هناك شاب قد جاء يشكو على النّاس أنّهم أمسكوه وفعلوا به القبيح، فقال ذاك الشّاب بالله جئت تشكو من قطع لحم، فقال له إي والله كما جئت تشكو من تقطيع تين «1» ، فضحك الملك الصّالح «2» وكلّ من حضره. - 614- وحكى لي أن (حنّا) «3» أخا «4» سلار كان قد حصل له رمد شديد فطلب سلّار ابن دانيال وأمره بملازمته ومعالجته، فلازمه حتّى أفاق، وركب ومشى، ولم يعط ابن دانيال شيئا، فأتى ابن دانيال إلى مجلس سلّار ودخل على سبيل الاتّفاق، فنظر سلّار إلى ابن دانيال وقال له: أين الخلعة «5» ؟ قال: أيّ خلعة، - 604-

فقال: أيّ شيء أعطاك الأمير وأشار إلى أخيه (حنّا) ، فقال ابن دانيال: - 615- (وافر) 1- إذا كان الأمير أخا (ضنينا) «1» ... فكيف تكون أحوال الحكيم فضحك سلّار ومن حضره، ولام أخاه، وقال له: مثل هذا ما يعامل هذه المعاملة، وأمر له بألف درهم، أعطيت لابن دانيال - 616- وحكي أنّ ابن دانيال دخل مجلس الوزير ابن الخليليّ «2» فجلس إلى جانب ابن المجبي البغداديّ «3» ، ثمّ أخرج من كمّه منديلا فيه قرعة «4» فقدّمها لابن- 605- - 606-

البغداديّ، فأخذها وشمّها، ثمّ التفت إلى ابن دانيال وقال: عثّرك «1» الله ما جيتها «2» حتّى صلحت «3» بها عميرة «4» ، فضحك من حضر، واستحيا ابن دانيال. - 617- وحكي أنّه لمّا ولي علم الدّين سنجر «5» الخياط ولاية القاهرة حضر النّاس ليهنئوه، وابن دانيال فيهم، فأحضرت خلعته فلبسها وقام يتعمّم، وأكثر من وضع أصابعه على لفّات العمامة لإصلاحها وتعديلها فبقي كأنّه يفتّش على شيء فقال ابن دانيال «6» ... 236/أوحكي أنّ نصرانيا قطع زنّاره في مجلس فيه ابن سعيد «7» ، فاقترح العمل في ذلك. - 617-

- 618- «1» فقال: (مديد) 1- قطعوا زنّاره «2» فغدا ... بعد جمع الشّمل مفترقا 2- أتراه حين بات على ... خصره من رتبة قلقا 3- سرق الخصر الخفيّ فقد «3» ... بات مقطوعا بما سرقا - 619- فلمّا فرّغت هذه الأبيات سمع ابن دانيال قال: (رمل) - 618-

1- حسدوا زنّاره في ضمّه ... دونهم ما عا (ده) «1» عنه سنين 2- فغدا يشدو لدى إسلامه ... ارحموا من كان أحظى العاشقين وقد يذكر الشّيء بمثله أو بضدّه، وبهذا ذكرت قول حسن بن الأنصاريّ المصريّ (1) : - 620- وقوله: (خفيف) 1- شدّ زناره فلله ماذا ... حلّ فيه من كلّ معنى لطيف 2- قاد بين الكثيب والغصن حتّى ... غرس الفسق «2» في ضمير العفيف وحكي أنّه علق بهوى أنحله، وأمطره بسواكب دمعه حتّى أمحله، (فأ) نشد عن حاله: - 621- «3» فقال: (متقارب) 1- محبّ غدا جسمه ناحلا «4» ... يكاد لفرط الضّنى أن يذوبا - 619- - 620- - 621-

2- ورقّ فلو حركته الصّبا ... لصار نسيما وعادت قضيبا «1» وحكي أنّه حضر مرّة عند بعض الولاة، وقد أحضر لصّ سرق فلمّا قدّم إلى الوالي أخرج يديه فإذا هما مقطوعتان، وجعل يقول: من لا له يد كيف يسرق؟!، فقال ابن دانيال: - 622- «2» وقوله: (مجزوء الرجز) 1- وأقطع قلت له ... هل «3» أنت لصّ أوحد 2- فقال هذي صنعة ... لم يبق لي فيها يد - 622-

وحكي أنّ السّراج الورّاق «1» شكا رمدا، ثمّ شفي، ثمّ عاوده حتى كاد يذهب نور 237/ب السّراج وينطفئ، فعاوده الشّريف القدسيّ «2» ، وقد شكا مثله رمدة كادت تذهب بعينيه «3» فأعطاه ابن دانيال كحلا جلا سيف بصره، وقوّى صحّة نظره، فوصفه للسّراج، ليستهدي منه نورا، ويحدث به لإنسان عينه سرورا، فبعث إلى ابن دانيال في طلبه، فجهّز إليه به، فلمّا جلا أكثر رمده، ودنا بجفنه أن ينتضي مهنده: كتب إليه: - 623- وقوله: (مجزوء الكامل) 1- يا واحدا في الجود لا ... يثنيه «4» قول ثاني 2- قد جدت لي باللّؤلؤ ... يّ ثنّه بالأصفهاني «5» ثمّ كتب إليه بعده: مولاي حسبي من الوسائل طلبي الأصفهاني من الفاضل، فبعث إليه ابن دانيال به وكتب معه ليقرأ عليه: - 623-

- 624- «1» وقوله: (خفيف) 1- قل لعين الأماثل «2» الأعيان «3» ... وسواد الإنسان «4» للإنسان «5» 2- يا سراجا «6» أسنى من الشّمس والشّم ... س سراج قد جاء في القرآن 3- خذه كحلا مثل «7» السّيوف فريدا «8» ... وصقالا يروق في الأجفان 4- حجر «9» كسرة أحدّ من الإكس ... ر «10» فعلا في العين أو في العيان 5- ألف عين تقيمها حبّة من ... هـ قياسا يصحّ «11» بالبرهان 6- إن يعظّم «12» مثاله في حجاز ... كان هذا معظّما في أصفهان فكتب إليه السّراج حين تمّ له العافية والابتهاج: - 624-

- 625- وقوله: (خفيف) 1- أيّها الفاضل «1» الذي قصّر الفا ... ضل عن صنعتيه «2» والأصفهاني «3» 2- والذي تنشئ الرّياض على مه ... رقه «4» هاطلات تلك البنان 3- وصلتني منهنّ باسمة الأز ... هار تفترّ عن شبيب «5» المعاني - 625-

4- تتحف «1» الرّوضة التي أنا فيها ... بأفانين الرّوح «2» والرّيحان «3» 5- ويضاهي موارد «4» النّيل فيها ... كلّ صاف من ماء ذاك البنان 6- ولدى قربها بخفّة (ذي) «5» العي ... ن فلله أنت من إنسان 7- بان لي في فرندها ألق «6» الشّم ... س الذي قد علا على كيوان 8- شمس فضل قد وافق الشّرف الأ ... على «7» قرينا أسعد بذاك القران «8» 9- فأضاءت مذاهبي بعد ما أل ... زمني الدّهر موقف الحيران 10- ولقد جئت قرّة لعيون ... سلمت أن تعدّ في العميان وحكي: أنّه حضر مجلس الملك الصّالح «9» وحوله من الغلمان الأتراك شبيبة «10» ، اختلفت قدودهم، وأيتلف «11» خدودهم، ونسبت إليهم ظباء

رامة «1» ، ونسبت الى لحاظهم كلّ ظلامة «2» ، وكان فيهم من قدّه كأنّه الرّمح في التقريب، ومن قصر وهو كأنّه الغصن الرّطيب، ومنهما شباب معتدل القامة، زاد عليهما حسنا وأبى أن يكون رمحا أو غصنا، فقال له الملك الصّالح: أيّ الثلاثة أعلق بقلبك، وأليك «3» بحبك: - 626- «4» فقال: (طويل) 1- أيا سائلي عن قدّ محبوبي الذي ... فتنت به وجدا وتهت غراما «5» 2- رأى قصر «6» الأغصان ثمّ رأى القنا ... طوالا فأضحى بين ذاك قواما وحكي أنّه كان بينه وبين الوطواط «7» ما يكون بين الأدباء، ولا يخلو منه - 626-

داب «1» بين الأحبّاء، فعرضت للوطواط رمدة تكدّر بها صفيحه «2» ، وتثنّى له فيها صريحة «3» ، فقيل له: لو طلبت ابن دانيال، فقال: ذاك لا يسمح بذرّة، يعني من كحله، فبلغ ابن دانيال، - 627- «4» فقال: 239/أ (طويل) 1- ولم أقطع الوطواط بخلا بكحله ... ولا أنا من يعييه «5» يوما تردّد 2- ولكنّه ينبو «6» عن الشّمس طرفه ... وكيف به لي قدرة وهو أرمد - 628- ومن شعره: (كامل) 1- ولربّ قائلة أما من رحلة ... تمشي وقد أعسرت منها موسرا 2- سر كالهلال كماله في سيره ... والماء أعذب ما يكون إذا جراى 3- فأجبتها سيري ومكثي واحد ... النّحس نحس منجدا ومغوّرا 4- إنّ المدائن وهي أوسع بقعة ... ضاقت عليّ فكيف أرحل للقرى - 627-

5- فلأصبرنّ على الزّمان وإنّني ... لأخو الشّقاء صبرت أم لم أصبرا «1» - 629- وقوله: (طويل) 1- أحمّل شيبي صبغة بعد صبغة ... وصبغة ربّ العرش أحسن صبغة 2- وحاولت «2» أن يخفى مشيبي فما اختفى ... ويكفيك أنّي كاذب خوف لحيتي - 620- وقوله: (خفيف) 1- يا نديميّ باكرا الخمّارا ... واشرباها صهبا «3» ء صرفا عقارا 2- ألبستها الرّهبان ثوبا من القا ... ر لأنّ السّواد يكسو القفارا - 621- «4» وقوله: (وافر) 1- بليت بضيّق الأنفاس قاس ... فدمعي وهو جار فيه جاري - 628- - 629- - 630-

2- وكم في الأرض من حسن ولكن ... عليك لشقوتي «1» وقع اختياري - 632- «2» وقوله: (وافر) 240/أ 1- خفيت عن العيون «3» فلن تراني ... وعشقك في الحقيقة قد براني «4» 2- عيانا ما أشاهد «5» أم مناما ... لقد أفسدت من وله «6» عياني - 633- «7» وقوله: (كامل) 1- حيث اتّجهت فلي إليك تطلّع ... ولشمس وجهك في ضميري مطلع 2- (يا) «8» موضع «9» الوجناء «10» عندى لم يكن ... أبدا لغيرك في فؤادي موضع - 631- - 632- - 633-

3- إن كنت يمّمت الحجاز فمقلتي ... وادي العقيق «1» ودمع عيني ينبع «2» 4- قد كنت أحسب «3» قبل تشييعي «4» لكم ... أنّي لقلبي في الحمول «5» أشيّع 5- تبدو البلاقع «6» منكم مأهولة ... ودياركم لمّا رحلتم بلقع - 634- وقوله: (كامل) 1- لو لم يكن قلبي بحبّك مبتلى ... ما بات طرفي بالسّهاد موكّلا 2- يا من أطعت له الغرام تولّها ... وعصيت من وجدي عليه العذّلا 3- انظر ترى ربع المسرّة ما خلا ... يا هاجري والعيش بعدك ما حلا 4- أنت الذي أكّدت أسباب الهوى ... وتركتني بعد المودّة مهملا 5- وجعلت ما بين التواصل فترة ... وبعثت دمعي للعواذل مرسلا 6- ويلاه «7» من وجدي عليك وآه من ... شوقي إليك فقلت لم لا تفعلا «8» 7- ما ضرّ لو أحييتني بتحيّة ... أو أن تمنّيني الوصال تعلّلا «9» - 634-

8- أمعذّبي بدلاله وملاله ... آمنت مثلي بالجفا أن يبتلى 9- يا سائلي عن حبّه في حيّه «1» ... ونحول جسمي والضّنا يكفي البلا - 635- «2» وقوله: (مجزوء الرجز) 1- لا ودخان المشعل ... وضوئه المشتعل «3» 2- يزهى «4» بنار رفعت «5» ... مثل اللّواء المسبل «6» 3- مشاعل «7» كأنّها ... لينوفر «8» ذو خصل «9» 4- وكم هدتنا تائها ... في جنح ليل أليل 5- هذا وكم حشّ نزح ... نا أرضه بالمعول 6- ففعلنا في جوفه ... فعل دواء المسهل «10» 7- صنعتنا محمودة ... وهو كبطن ممتلي «11» - 635-

8- وكم نقمنا لحدود «1» ... الله من ذي الحيل 9- تدبّ «2» مثل النّمل في ... البيت على تمهّل 10- من كلّ لصّ طارق «3» ... مثل البلاء النازل 11- أدخل في الضّيق بها ... من نفس متّصل «4» 12- حتى إذا ما زلّ ذي ... ل ستره المنسدل «5» 13- تمسكه فيغتدي ... كالفرس المشكّل» - 636- وقوله: (مجزوء الخفيف) 1- أين من كان أيره ... قائما يملأ الفضا 2- لا يرى ردّ سائل ... رحم الله من مضى - 637- وقوله: (خفيف) 1- قل لغصن الأراك ويحك تحكي ... قدّ محبوبتي «7» ولم تخش منّي - 637-

2- أنا لولا غفلت عنها فماست «1» ... ما تعلّمت أنت منها التّثنّي - 638- «2» 242/أوقوله: (خفيف) 1- كلّ صعب على رضاكم يهون ... وجفوني بمن هويت جنون «3» 2- يعجب الصّبر من تصبّر «4» قلبي ... واحتمالي فما «5» رأته العيون 3- جلدي مفرم بتمزيق جلدي «6» ... وجفوني لها السّيوف «7» جفون «8» - 639- «9» وقوله: (طويل) 1- أيا سائلي عن قدّ محبوبي الذي ... به همت وجدا في الهوى وغراما «10» 2- أبى قصر الأغصان ثمّ رأى القنا ... طوالا فأضحى بين ذاك قواما - 638- - 639-

- 640- «1» وقوله: (طويل) 1- عجبت وشأن الحبّ غير عجيب ... إذا مات بالأشواق كلّ غريب 2- تباعدت الأجسام منّا وإنّما ... لنا جامع من تربة وقلوب «2» 3- لنا كلّ يوم منزل نزعة النّوى «3» ... وقرب خليط «4» وهو غير قريب «5» 4- كأني من كلّ البلاد فمدمعي ... على كلّ باد أو فراق حبيب «6» 5- على أنّني لولا اغترابي لم أطب «7» ... وما عاقل في بلدة بغريب - 641- «8» وقوله: (خفيف) 1- كلّ حيّ إلى الممات يصير ... ما له ساعة النزاع «9» نظير «10» 2- والسعيد الذي يرى طرق الرش ... د بعين اليقين وهو بصير - 640- - 641-

- 642- ومن نثره: وما هذا من أهل الملام «1» ، وما لجرح بميّت بإيلام «2» ؛ لأنه شيخ كبير، وأحول بنصف ضرير «3» ، قد بلغ من التّغفّل والنّسيان إلى غاية صار بها حمارا في صورة إنسان. - 643- 243/ب وقوله يصف امرأة قبيحة: من الدّواهي «4» بأنف كأنف الحمل «5» ، وشفاتير «6» مثل شفاتير الجمل، بأجفان مكحّلة بالعمش «7» ، وخدود مضمّخة بالنّمش «8» وأسنان مثل أسنان- 642- - 643-

المفتاح، ونكهة «1» تفوح من المستراح. - 644- وقوله: وقد بحث بلسانه في الطّبيعة بحثا شافيا «2» حتّي علم أنّ الياقوت من الجزع «3» ، وأنّ القرطم «4» من الطّلع، وأنّ الخلّ من النّارنج، وأنّ القطائف «5» من الإسفنج «6» ، وأنّ الشمع من الشّحم، وأنّ الزّفت من الفحم، وأنّ الحرير من الأرجوان، وأنّ السّمسم من الباذنجان، فهو أوّل ناقل عن باقل «7» ، وأحسن من محا نوادر جحا «8» ، أجهل من تولس، وأشأم من طولس. فله من الحمار أذنه، - 644-

ومن التّيس ذهنه، ومن الثور قرنه، فما يفرق بين الخشب والقصب، ولا يميّز بين الفضّة والذهب، ولا يعرف النّار إلا بإحراقها، ولا السّلحة «1» إلا بمذاقها. ولو ختموا جانب الكنيف به ما قربته بنات وردان «2» . طالما تشمّس بالقمر، وتعشّى في السّحر، وفتح رجليه لسقوط الكواكب، وعلم زيادة النّيل في ظهور المراكب، يمضغ «3» من اللّقمة قطعة من لسانه، ويؤذّن ثمّ يمشي ليسمع أين بلغ طرف أذانه، ينام وهو قائم، ويمشى وهو نائم. - 645- «4» وقال ملغزا في السّر موزة «5» : (طويل) 1- وجارية هيفاء قمشوقة القدّ ... لها وجنة أبهى احمرارا من الورد 2- من اليمنيّات «6» التي حرّ «7» وجهها ... يفوق صقالا صفحة الصّارم الهندي - 645-

3- وثيقة حبل الوصل منذ وطئتها ... فلست أراه قطّ منتقض «1» العهد 4- ومن عجب «2» أنّي إذا ما وطئتها ... تئنّ أنينا دونه أنّة الوجد «3»

19 - الشريف ابن الضياء القناوي:

244/أومنهم: 19- الشّريف ابن الضّياء القناويّ: وهو تقيّ الدّين أبو عبد الله محمد بن جعفر ابن محمّد بن عبد الرّحيم الحسينيّ، وهو من ولد جعفر الصّادق رضي الله عنه: حدّثني عنه الأديب ابن نباته «1» ، وأراني إنباته «2» . وشعره ناطق بمبلغ فضله، ومستودع ورده العذب وظلّه، ينطق بلسان فصيح، وبيان صحيح، وإحسان. 245/ب لا غرو أن يجري فيه جواده على أعراقه «3» ، ويباهي في مصره نسيبه الرّضيّ «4» في عراقه. ومن شعره ممّا أنشدني في شيخ مطيلس «5» :

- 646- «1» قوله: (مجزوء الرجز) 1- يا من رأى الشّيخ الذي ... كالعين إذ نعرفه 2- وظهرها حديثه ... ورأسها رفرفه «2» - 647- وله في الشقيق: (متقارب) 1- أتتك الشّقيقة في نكتة «3» ... ولون يدلّ بحسن غريب - 646- - 647-

20 - شافع بن علي بن عباس الكاتب: ناصر الدين أبو علي

2- كخال بأسفل خدّ المليح ... وكالشّمس عند ابتداء الغروب 246/أومنهم: 20- شافع بن عليّ بن عبّاس الكاتب: ناصر الدّين أبو عليّ قريب منّي عند الظّاهر، ونسيب ذلك العنصر الطّاهر، كان من أعيان كتّاب الإنشاء، والمستقى «1» من قليب لا يحتاج إلى طول الرّثاء، ثمّ أصيب بسهم وقع في عينه فأذهب نورها، وأطبق عليها من الأجفان بثورها «2» .

والنّظم أكثر بضاعته، وأكبر صناعته. وكتب إليّ وأنا بمصر، ولم يقدّر لي به اجتماع، وإنّما أروي عنه ما كان «1» - 648- ومنه شعره قوله: (طويل) 1- عهدت لأنعام الملوك تنوّعا «2» ... إذا «3» لجميل القصد من برّها تجري 2- فما نالهم في ذا الزّمان تسافل «4» ... إلى أن غدوا بخلا كسيحون «5» في الجرّ - 649- «6» وقوله: (في الوطواط الكتبى) «7» (خفيف) 1- كم على درهم يلوح حراما ... يا لئيم الطباع سرّا تواطى «8» 2- دائما في الظّلام تمشي مع النا ... س وهذى عوائد الوطواط «9» - 648- - 649-

- 650- «1» وقوله فيه (أي الوطواط) (سريع) 1- قالوا ترى الوطواط في شدّة ... من تعب الكدّ وفي ويل 2- فقلت هذا دأبه دائما ... يسعى من اللّيل إلى اللّيل - 651- وقوله: (مخلع البسيط) 1- عابوا على الظّاهر احتفالا ... بزّتك سبع به يراع 2- فقلت كفّوا ولا تعيبوا ... من بعده غابت السّباع - 652- قلت «2» لي مثل هذا في امرأة اسمها غزالة، صار لها شأن وشفاعة مقبولة: (وافر) 1- رأيت غزالة مهما أرادت ... من الأشياء كان بلا محاله 247/ب 2- لقد غابت سباع الحيّ عنّا ... فلا عجب إذا لعبت غزاله عدنا إلى شعره ومنه: - 650- - 652-

- 653- قوله: (كامل) 1- وافى رياؤك مبدعا أقوالا ... ومحققا بعزائه أثقالا 2- ونعيته «1» فنعيته «2» بمحاسن ... أو ضحت فيها من علاه خصالا «3» - 654- وقوله: (كامل) 1- إنّ البطاركة «4» الذين تصرّمت «5» ... نيران موطئهم على الأحداق 2- خرقوا «6» شريعة «7» هدنة عمريّة ... فجزوا على الإخراق «8» بالإخراق - 653- - 654-

- 655- وقوله: (مجزوء الرجز) 1- من بعد أهل القلع «1» ... هجرت طيب المضجع 2- وجدت «2» فيه بالذي ... أملكه من أدمعي 3- قوم لهم في خاطري ... أغلى وأعلى موضع 4- أنّى اتّجهت لم يزل ... حديثهم معى معي - 656- وقوله: (طويل) 1- أهيل النّقا كدّرتم العيش فاعطفوا ... ولا تجعلوا سلم الوداد بكم حربا 2- إلى كم أقاسي لوعة «3» في هواكم ... ولا ذنب إلا أن شغفت بكم حبّا «4» 3- ألا ترحموا «5» أن تحرموا الصّبّ زورة ... وأنتم كما شاء الولاء ذوو القربى 4- ترى تجمع الأيّام بيني وبينكم ... وأشفي فؤادي إن ظفرت بكم عتبا - 657- وقوله: (بسيط) 1- قالوا نرى ابن فلان الدّين ذا غلط ... كأنّه من جبال الصّمّ منحوت - 655- - 656-

248/أ 2- قلت أما قد غدا للقوت «1» يخزنه ... وخازن القوت فيما قيل ممقوت - 658- وقوله: (طويل) 1- أشاد «2» بجسمي آخذا منه سوسه «3» ... رفيق «4» بها من جدّة «5» العمر يؤيس 2- فقلت أما أصبحت كالغصن ذاويا ... وذاوي غصون الدّوح حقا يسوّس «6» - 659- وقوله: (سريع) 1- سألت من أعجبني جرمه «7» ... فى بثّه «8» الأقوال والأفعالا 2- فقلت ما وضعك يا ذا الفتى ... فلم يجبني بسوى لا لا - 657- - 658- - 659-

- 660- وقوله: (كامل) 1- ويلاه من حزني عليه وإنّه ... حزن طويل «1» ما له من آخر 2- قد كان تمّ براعة وبلاغة ... والبدر ينقص في التّمام الباهر 3- مولاي عزّ أباه فيه فإنّه ... أولى بها من غائب (أو حاضر) «2» 4- واندبه عند ضريحه متفضلا ... واذكر له فعل الزّمان الغادر قد مات ملء الصدر وانقطعت إلى ... أو طان................ .. «3» - 661- وقوله: (طويل) 1- تشوّقت للأهرام «4» من عظم «5» وصفها ... وإعجاب ما أبداه في وصفها الشّعر 2- فصرت إليها كي أحقّق خبرها ... فلمّا التقينا صغّر الخبر الخبر «6» - 660- - 661-

- 662- وقوله: (مجنث) 1- لدمع عيني تراكم «1» ... إذ فاتها أن تراكم «1» 2- عودوا «3» وعودوا «3» عليلا ... أضناه طول جفاكم 249/ب 3- لا تحسبوا أنّ قلبي ... والله يهوى سواكم 4- رقّوا عليّ ومنّوا «5» ... ولو بلثم ثراكم ومن نثره وهو أقلّ صناعته، وأكسد بضاعته - 663- قوله: وهو فتح قلعة، المتينة «6» الأسباب «7» ، المتوارية من أسوارها ما منع حجاب، الشّامخ على السّحب أنف تساميها، الفائت «8» النجوم بما أو تيته من تباهيها «9» ، إلّا الله سبحانه أذلّها إلى أن قبّلت «10» بين يدي ركابنا الشّريف- 662- - 663-

الثّرى. وأراك معالمه «1» بثباتنا «2» وو ثباتنا «3» . إلى أن أصبحت خاوية على عروشها «4» ، فلا أذن تسمع، ولا عين ترى، فأحدقنا بها «5» إحداق الخاتم بالخنصر «6» ، والدّملج بالسّاعد، وحسبنا بالمواياه «7» الغرض في خصرها من شاهد، فلم يزل يراوحها «8» بالعزائم «9» ويغاديها «10» ، ويسمعها الصّرخة فالصّرخة بألسنة المجانيق «11» تناديها، إلى أن أزلنا بتكاتف «12» السّتائر «13» أستارها، وتسوّرنا أسوارها، وهتكنا حريمها، واسترققنا «14» جريمها «15» فليأخذ حظّه من البشرى، وليقدّر لها حقّها بالسّجود لله حمدا وشكرا.

- 664- وقوله: فبادرنا القوم وأحطنا بهم إحاطة الدّائرة بقطبها «1» ، والأجفان بهدبها، وأخذت السّيوف حظّها منهم لا منّا، ونهبت الأرماح لحومهم، والسبب «2» ... فيهم سنّا، ولم تدع منهم من لاذ بالفرار حتى أدركناه، ولا معلا «3» غرّته العافية بزعمه حتى رغمه أهلكناه. - 655- وقوله معارضا لتاج الدّين ابن الأثير «4» في منشور» صاحب كان معتقلا- 664- - 665-

وأطلق وهو: وما أحقّ وصف مناقبه «1» بالأطياب «2» ، وأجلّها من صحف تحويله «3» بمحلّ الإعجاب، وأبهر «4» أنواره الشّمسيّة لولا اكتساؤه برقيق غيم التّعويق والحجاب، كم قضت آدابه لأولياء الدّولة بالواجب، وكم رأيت 250/أوجوهها باسفار ... «5» وأمّا الذي قاله ابن الأثير فمنه قوله: وكان فلان ممّن قضى من حقوق الوفاء للسّلف واجبا، وحلّ من الدّولة محلّ العين، وإن سمّي حاجبا «6» . - 666- عدنا إلى قول أبي «7» شافع، ومنه في ذكر وفاء النّيل «8» : والذي ينهيه «9» لعلمه أنّ الله سبحانه منّ بنعمته في مجرى النّيل وكم به منّ، وجاد بوابله وطلّه كما في الظّنّ وما ضنّ «10» ، وزادا إلى أن ملأ أوطابه بما - 666-

يحسن تأثيره من زاد، وبدا بالرّحمة وأعاد، ووفى بميعاده، إنّ الله لا يخلف الميعاد «1» ، فلو رآه سيّدنا وقد طفا «2» ونهج «3» ، وجاء بالرّجاء ورجج «4» وبلغت أياديه النّافعة الباقعة «5» فوق إمكانها، وأمنت الأمّة في أوان الاحتياج وما أحسن الأشياء في أوانها.. الصّامت النّاطق، الفائق «6» الرّائق «7» ، العامل المعمول، النّاقل المنقول، الكافل «8» المكفول، الباذل المبذول، قد اتّسقت «9» عقود تأثيراته مع تناقص هذه الأحوال، وأمّن على صدق عزائمه مع تغاير هذه الأقوال. إن عجّل لا يكبو «10» ، وإن صوفحت الصّفائح لا ينبو «11» يجري جواد تجويده ما وجد من الطّرس أرضا، ويجول في ميدانها بمبدع التّنميق «12» طولا وعرضا.

- 667- وقوله: قد جعل الله العلماء ورثة الأنبياء كما ورد. وأوضحوا المذاهب «1» المذهبة، والحقوق التي هي للأماطيل «2» مذهبة «3» ، كالإمام الشافعي رضي الله عنه «4» ؛ فإنّه قام «5» الشّريعة المحمّدية أتمّ قيام، وشهر «6» لها بذكره، وذكره «7» وذوو الساسي «8» من النّاس نيام وأوى بني القلم الشّريف من تأليفه إلى أحنى أمّ وأشفقها، وأرفدها وأرفقها، وأدرّها للعلم ضرعا، وأخصبها مرعى، وأتمّها 251/ب عقلا وشرعا. وكانت مصر قد شرفت «9» منه بأشرف نزيل، وأجلّ خليل، وأقام إلى أن حارحا تقى «10» ويصيد، ويبدى ويعيد،- 667-

ويقمع «1» المريد «2» ، ويمدّ المريد «3» ، ويجلس بجامع عمر «4» بن العاص، الذي هو كما نعت [تاج الجوامع] «5» ويحلّ منه بأشرف المرابع «6» وهو راويه الكريم منسحب عليها، وهلمّ جرا. ونسبتها إليه مستمرّة، وبه أعلى الله بها قدرا، فلهذا لا يحلّ بصدرها إلّا من العقد على أهلّيه «7» الاجتماع، ومن إذا بحثت في مسألة من مسائله هزّ الأعطاف وشنّف الأسماع، ومن درب «8»

ودرّب «1» وأعرب «2» وأعرب «3» . وكان فلان قد أخذ من مذهب هذا الإمام بنصيب وأيّ نصيب، وأنصف «4» من آرائه، وكانت كلّها صائبة بالرأي المصيب، وأفنى عمره على طول شقّته «5» فى العلم، وتحصيل فنونه، وحيازة أبكاره وعونه، فقوبلت جلالة قدره بما يجب لها من هذه المنزلة، حتّى حلّ أكثر منها وأجلّها، وولي وكانوا أحقّ بها وأهلها. - 658- وقوله: صدرت معلمة «6» بصحّة المزاج الفلاني من الألباب الذي حمّت له الأرواح، وحقّ لها أن تحمّ، وضمّت الجوارح على مثل جمر الغضا «7» ، ويعذرها أن تضمّ. هذا على خفّة زورتها «8» ، وضآلة زورتها، ولكنها ثقلت على القلوب، وإن خفّت وعفّت «9» معالم الأجسام، وإن عفّت «10» ، وأو كفت «11» الدّموع وإن - 668-

كفت «1» ، إلّا أنّها والحمد لله ما ألمّت «2» حتى أقلعت، ولا سلّمت حتى ودّعت وجاءت الصحّة، ووافت «3» المحنة «4» ، وأذهب الباس «5» ربّ النّاس وسرّ حتى سرير الملك، وقد افترش صهوة صحّته، وابتهل سرير التّمرّض «6» ، إذا كان الانفصال على خير من فرش فرشته. فالحياة ساجدة، والألسنة في شكر النّعمة جاهدة، والأعين قريرة، والقلوب مسرورة. 252/أوالصّدور منشرحة «7» والخواطر «8» منفسحة، وعقود التّهاني منسقة، وأعنّة الجياد بيمين اليمن مطلقة، وأركان المعاهد مخلّقة ولا أقول وغير مخلّقة «9» .

21 - ابن الجباس الدمياطي: وهو أحمد بن منصور بن أسطوراس:

253/ب ومنهم: 21- ابن الجبّاس الدّمياطيّ: وهو أحمد بن منصور بن أسطوراس:

خطيب الورّادة «1» من منازل الرّمل، وكان يتردّد إليّ، ويتجدّد عرض ما عنده عليّ، وكان قليل المادّه، جميل الجادّه «2» ، يظفر «3» بمحبّات المعاني، ويكسيها «4» في أجلّ المعاني «5» ، وكان كافا للسانه، مظهرا لإحسانه، مقبلا على شانه، فما أهمّه لا يعلق (به) «6» مذمّة. وقصيدته التي وصف فيها الموز لا تطاول «7» ذيولها، ولا تعارض سيولها، أبدع فيها كلّ الإبداع، وأبعد منها الابتداع «8» ومن المختار منها: - 669- «9» قوله: (منسرح) 1- كأنّما الموز في عراجنه «10» ... وقد بدا يانعا على شجره - 669-

2- فروع «1» شعر برأس غانية ... عقصن «2» من بعد ضمّ منتشره «3» 3- كأنّ من ضمّه وعقّصه ... أرسل شرّابة «4» على أثره «5» 4- وفي اعتدال الخريف أحسن ما ... يرقل مثل الرّداح «6» في أزره «7» «8» 5- كأنّ أشجاره وقد نشرت ... ظلال أوراقه «9» على ثمره

6- حاملة طفلها على يدها ... تظلّه «1» بالخمار من شعره 7- كأنّما ساقه الصّقيل وقد ... بدت عليه نقوش معتبره «2» 8- ساق عروس أميط «3» مئزرها ... فبان وشيء الخضاب في حبره «4» «5» 9- تصاغ من جدول خلاخلها ... فينجلي «6» والنّثار من زهره 10- حدائق خفّقت «7» سناجقها ... كأنّه «8» الجيش أمّ في زمره 11- زها «9» فراق العيون منظره ... فما تملّ العيون من نظره

12- وكلّ آياته فباهرة «1» ... تبين في ورده وفي صدره 254/أ 13- كأنّما عمره القصير حكى ... زمان وصل الحبيب في قصره 14- كأنّ عرجونه المشيب أتى ... يخبر أن خانه انقضا عمره 15- كأنّه البدر في الكمال وقد ... أصيب بالخسف في سنا قمره 16- كأنّه بعد قطعه وقد اصف ... رّ لما نال من أذى حجره «2» 17- متيّم قد أذابه كمد ... يبيت من وجده على خطره «3» 18- معلّق بالرّجاء ظاهره ... يخبر عمّا أجنّ «4» من خبره «5» 19- يطيب ريحا ويستلذّ جنى ... على أذى زاد فوق مصطبره «6» 20- كأنّه الحرّ حال محنته «7» ... يزيد «8» صبرا على أذى ضرره

- 670- «1» وقوله وقد أصمّ «2» : (مجزوء الكامل) 1- إن قلّ سمعى إنّ لي ... فهما يوفّر «3» منه قسم 2- يدني إليّ مقاصدي ... ويروقك الرّمح الأصمّ «4» 3- ولربّ ذي سمع بعي ... د الفهم عيّ «5» النّطق فدم «6» 4- زادوا على عيب التّصا ... مم إنّهم صمّ وبكم «7» - 671- «8» وقوله في رمّانة: (كامل) 1- كتمت هوى قد لجّ «9» في أشجانها ... وحشت حشاها من لظى نيرانها - 670- - 671-

22 - محمد بن محمد المعروف بابن الحبلى الفرجوطي:

2- فتشقّقت من حبّها عن حبّها ... وجدا وقد أبدى خفا «1» كتمانها 3- رمّانة ترمي لها أيدي النّدى ... من بعد ما رمّت «2» على أغصانها 4- فاعجب وقد بكت الدّموع عقائقا «3» ... لا من محاجرها «4» ولا أغصانها «5» 255/ب ومنهم: 22- محمّد بن محمد المعروف بابن الحبلى «6» الفرجوطيّ: أنشد له الاتفوهي قوله:

- 672- «1» 1- انظر إلى النّبق «2» في الأغصان منتظما ... والشّمس «3» قد شرعت «4» تجلوه في القضب 2- تراه فيما تراه من تصوّره ... يحكي جلاجل «5» قد صيغت من الذّهب - 672-

23 - ومنهم ممن هو من أدباء هذا الزمان، ونادرة هذا العصر والأوان الشيخ عز الدين ابن الموصلي

256/أ 23- ومنهم «1» ممن هو من أدباء هذا الزّمان، ونادرة هذا العصر والأوان الشّيخ عزّ الدّين ابن الموصليّ ناظر ألفاظ تغني عن الحلل والحليّ، يهيم للاسحار بعذوبة أشعاره البديعه، ويخطف الأبصار ببوارق تبيهته السّريعه، يتيم درر مبتكره، ونافث سحر ببيان يبطل به كيد السّحره (يعاهد) للصنعة اللّطيفه، ويأتي في معانيها بكلّ لمعة ظريفه، بقريحة «2» أينعت بالتريض، وروّيّة روت وروّت «3» ، فهذا الرّاكب لغير البحر الطّويل العريض، يسلك البديع والقوافي مطلقه، فيمطر صيّب أدب أغدق من السّحائب الغدقه «4» على أنّه لم يشغل دابه من هذه الفنون، وطلّقها من ذهنه (للافرقتا) على سبيل المجون، بل إنّما هو من أهل العلماء شريف، واللّغة والتّصريف، وله في التّفسير أياد، وما يحتاج إليه فيه يشهد له إتقانه للحاضر والبادي، وله الرّحلة في الحديث المنوّر، والمحبّة في البيت المعمّر (يشكر بهرله) ريقه التي حلّت بالفضائل، ولهذا ما شهدت له بأن ليس

24 - محمد بن محمد بن محمد بن نباتة جمال الدين

له مماثل، (نبرامعى) كشف له من العلوم اللّدنية «1» ، والمناهج السّنيّه، وهو لعمر «2» أكثر من الوصف، ونهج ألفاظه تعذب المدام، ويكدّ الوصف. 258/أومنهم: 24- محمد بن محمد بن محمد بن نباتة جمال الدين «3»

- 673- «1» 259/ب وقوله: (طويل) 1- صحا القلب لولا نسمة تتخطر ... ولمعة برق بالفضا تتسعّر 2- وذكر جبين المالكيّة إن بدا ... هلال الدّجى والشّيء بالشّيء يذكر 3- سقى الله أكناف الغضا «2» سبل «3» الحيا «4» ... وإن كنت أسقى أدمعا تتحدّر - 673-

4- وعيشا نضا عنه الزّمان بياضه ... وخلّفه في الرّأس يزهى «1» ويزهر 5- تغيّر ذاك اللّدن مع «2» من أحبّه ... (ومن ذا الذي لا يعزّ لا يتغيّر) 6- وكان الصّبا ليلا وكنت كحالم ... فيا أسفي والشّيب كالصّبح يسفر «3» 7- يعلّلني «4» تحت العمامة «5» كتمه ... فيعتاد قلبي حسرة حين أحسر «6» 8- وينكرني ليلي وما خلت أنّه ... إذا وضع المرء العمامة ينكر 9- ألا في سبيل الله صوم عن الصبّا ... وقلب على عهد الحسان يفطّر «7» 10- تذكّرت أيام الوصال «8» فأشهب ... من الدّمع في ميدان خدّي وأحمر 11- إذا لم تفض عيني العقيق «9» فلا رأت ... منازله «10» بالوصل تبهى وتبهر 12- وإن لم تواصل غادة السفح «11» مقلتي ... فلا عادها عيش بمغناه «12» أخضر

13- ليالي تجني «1» الحسن في أوجه الدّمى ... وتجني «1» على أجسامها حين تنظر 14- يؤثّر في خدّ المليحة لحظها ... وإن كان في ميثاقها «3» لا يؤثّر 15- رأيت الصّبا ممّا يكفّر «4» للفتى ... ذنوبا إذا كان المشيب يكفّر «4» 16- إذا حلّ مبيضّ المشيب بعارض «6» ... فما هو إلّا للمدامع ممطر 17- كأنّي لم أتبع صبا وصبابة ... خليع العدار «7» حيث ما همت أعذر 18- ولم أطرق «8» الحيّ الخصيب زمانه ... يقابلني زهر «9» لديك ومزهر «10» 260/أ 19- وغيداء «11» أمّا جفنها فمؤنث ... كليل «12» وأمّا لحظها فمذكّر 20- يروقك جمع الحسن «13» في لحظاتها ... على أنّه بالطّرف جمع مكسّر «14» 21- من الغيد تحتفّ «15» الظّبا لحجابها «16» ... ولكنّها كالبدر في الماء يظهر 22- يشفّ وراء «17» الحشر فيّة خدّها ... كما شفّ من دون الزّجاجة مسكر 23- ولا عيب فيها غير سحر جونها ... وأحبب بها سحّارة حين تسحر

24- إذا جرّدت من بردها فهي عبلة «1» ... وإن جرّدت ألحاظها فهي عنتر «2» 25- إذا خطرت في الرّوض طاب كلاهما ... فلم يدر من أزهى وأشهى وأعطر 26- خليليّ كم روض نزلت فناءه «3» ... وفيه ربيع للنزيل وجعفر 27- وفارقته والطّير صافر «4» به «5» ... وكم مثلها فارقتها وهي تصفر «6» 28- إلى أعين بالماء نضّاخة «7» الصّفا ... إذا سدّ فيها منخر «8» جاش «9» منخر 29- نداماي من خود «10» وراح وفتية «11» ... (ثلاث شخوص كاعبان ومعصر «12» ) 30- قضيت لبانات الشّبيبة والهوى ... وطوّلت حتى آن «13» أنّي أقصر

31- وربّ طموح «1» العزم أدماء «2» جسرة «3» ... يظلّ بها عزمي على البيد يجسر 32- طوت بذراعي وخدها «4» شقّة «5» الفلا ... ونجم الثريّا «6» في دجى اللّيل يشبر «7» 33- ومدّ جناحي ظلّها ألق الضّحى ... فشدّت كما شدّ «8» النّعام المنفّر «9» 34- بصمّ الحصى ترمي الحداة كأنّما ... تغار على محبوبها حين يذكر 35- إذا ما حروف العين خطّت بقفرة ... غدت موضع العنوان والعيش أسطر 36- فلله حرف «10» لا ترام كأنّها ... لو سك السّرى حرف «10» لدى البيد مضمر 37- تخطّت بنا روض الشام إلى حمى ... به روضة ريّا الجنان ومنبر 261/ب 38- إلى حرم الأمن المنيع جواره ... إذا ظلّت الأصوات بالرّوع تجأر «12» 39- إلى من هو التّبر الخلاص لناقد ... غداة الثّنا والصّفوة المتحيّر 40- نبيّ أتمّ الله صورة فخره ... وآدم في فخاره يتصوّر 41- نظيم العلا والأفق ما مدّ طرسه ... ولا فقر «13» الزّهر الكواكب ينثر

42- ولا لعصا الجوزاء في الشّهب آية ... تجرّ «1» الدّجى من تحتها يتفجّر 43- نبيّ له مجد قديم وسؤدد ... صميم «2» وأخبار تجلّ ومخبر «3» 44- تحزّم «4» جبريل لخدمة وحيه ... وأقبل عيسى بالبشارة يجهر «5» 45- فمن ذا يضاهيه «6» وجبريل خادم ... لمقدمه الغالي وعيسى مبشّر 46- تهاوى لمأتاه «7» النّجوم كأنّما ... تشافه بالخدّ الثرى وتعفّر «8» 47- وينضب «9» طام «10» من بحيرة ساوة «11» ... ولم لا وقد وافت بكفيه أبحر 48- نبيّ له الحوضان هذا أصابع ... تفيض وهذا في القيامة كوثر «12» 49- وعن جاهه الناران هذي بفارس «13» ... تبوخ «14» وهذي في غد حين تحشر

50- إذا ما تشفّعنا «1» به كفّ غيظها ... وقالت عبارات الصّراط لنا اعبروا 51- تنقّل نورا بين أصلاب «2» سادة ... فلله منه في سما «3» الفضل نيّر «4» 52- به أيّد الطّهر الخليلي «5» فانتحت «6» ... يداه على الأصنام «7» تغزو وتكسر 53- ومن أجله جيء الذّبيحان بالفدا ... وصين دم «8» بين الدّماء مطهّر 54- ولمّا أراد الله إظهار دينه ... بدا قمرا والشّرك «9» كاللّيل يكفر 55- فجلّى الدّجى واستوثق الدّين واضحا ... وقام بنصر الله داع مظفّر 56- مخوف «10» السّطا «11» بالرّعب ينصر والظّبا ... وداني الحيا في اليسر والعسر يهمر

262/أ 57- عزائم من لا يختشي «1» يوم غزوه ... ردى وعطا من ليس للفقر يحذر 58- علا عن محاكاة «2» الغمام بفضله ... وكيف يحاكيه الخديم «3» المسخّر 59- تظلّله «4» وقت المسير وتارة ... يشير إليها بالبنان فتمطر 60- ألم تر أنّ القظر في الغيم فارس ... إذا برزت آلاؤه «5» يتقطّر «6» 61- هو البحر فيّاض الموارد للورى ... ولكنّه العذب الذي لا يكدّر 62- فمن لي بلفظ جوهريّ قصائد ... تنظّم حتّى يمدح «7» البحر جوهر 63- وهيهات أن تحصى بتقدير مادح ... مناقب في الذّكر الحكيم تقرّر «8» 64- إذا شعراء الذّكر قامت بمدحه ... فما قدر ما تنشي الأنام وتشعر «9» 65- نبيّ زكا «10» أصلا وفرعا وأقبلت ... إليه أصول في الثّرى تتجرّر 66- وخاطبه وحش المهامه «11» آنسا ... إليه وما عن ذلك الحسن ينفر «12»

67- له راحة فيها على البأس والنّدى ... دلائل حقّ في الجهاد «1» تؤثّر 68- فبينا العصا فيها وريق «2» قضيبها ... إذا هو مشحوذ «3» الغرارين «4» أبتر «5» 69- كذا فلتكن في شكرها وصفاتها ... يد بين أوصاف البنين تشكر 70- سخت ومحت شكوى قتادة «6» فاغتدت ... بها العين تجري «7» أو بها العين تخبر 71- لعمري لقد سادت صفات محمّد ... كذاك النّجوم الزّاهرات تسيّر 72- أرى معجز الرّسل انطوي «8» بانطوائهم ... ومعجزه حتّى القيامة ينشر 73- كبير فخار الذّكر في الخلق كلّ ما ... تلا قارئ أو قيل الله أكبر 74- هو المرتقي السّبع الطّباق «9» إلى مدى ... لجبريل «10» عنه موقف متأخّر 75- هو الثّابت العليا على كلّ مرسل ... بحيث له في حضرة «11» القدس محضر

263/ب 76- هو المصطفى والمقتفى «1» لا مناره ... يحطّ ولا أنواره تتكوّر «2» 77- إليك رسول الله مدّت مطالبي ... على أنّها أضحت على الغور «3» تقصر 78- خلقت شفيعا «4» للأنام مشفّعا ... فرجواك في الدّارين أجدى «5» وأجدر «6» 79- ولي حالتا دنيا وأخرى أراهما ... يمران بي في عيشة تتمرّد «7» 80- حياة ولكن بين ذلّ وغربة ... فلا العزّ يستحلى «8» ولا البين يفتر «9» 81- وعزم على الأخرى يهمّ «10» نهوضه ... ولكنّه بالذّنب كالظّهر موقر «11» 82- تصبّرت في هذا وذاك كأنّني ... من العجز والبؤسى «12» قتيل مصبّر 83- وها أنا قد بلّغت «13» عذري قاصدا ... وأيقنت أنّ النّجح لا يتعذّر

84- عليك سلام الله في كلّ منزل ... تعبّر «1» عن سرّ الجنان وتعبر 85- وآلك والصّحب الذين عليهم ... تحلّ «2» حبى «3» مدح ويعقد خنصر 86- بجاهك عند الله أقبلت لائذا «4» ... فكثّرت حاجاتي وجاهك «5» أكثر 87- ونظّمت شعري فيك تزهى قصيدة ... على كلّ ذي «6» بيت من الشّعر يعمر «7» 88- معظّمة المعنى تكرّر «8» لفظها ... فيحلو نباتيّ «9» الكلام المكرّر 89- دنت عن صفات الفضل منك وإنّها ... لتفضل ما قالته طيّ وبحتر «10» 90- وما ضرّها إذ كان نشر نسيمها ... رخاء «11» إذا ما لم يكن فيه صرصر «12» - 674- «13» وقوله: (كامل) - 674-

1- حمت الخدود بناظر فتّان ... أو ما سمعت شقائق النّعمان «1» 2- وتبسّمت من لؤلؤ متمتع «2» ... تبكي العيون عليه بالمرجان 3- غيداء أستجلي البدور لوجهها ... إذ ليس خظّي منه غير عيان 264/أ 4- تركيّة للقان «3» ينسب خدّها ... وا صبوتي منها بخد قان 5- خدّ يريك تنعّما بتلهّب «4» ... يا من رأى الجنّات في النّيران 6- ومحاسن تزهى «5» وتخلف عهدها ... وكذا يكون الرّوض ذا ألوان 7- كالجنّة الزّهراء إلّا أنّ لي ... من أدمعي فيها حميما «6» آن «7» 8- ترنو لواحظها على عشّاقها «8» ... فتصول بالأسياف في الأجفان

9- ويهزّ حلو قوامها مرح «1» الصّبا ... هزّ الكماة عوالي «2» المرّان 10- إن صدّها عنّي المشيب فطالما ... عطفت شمائلها بما أرضاني 11- وبلغت مالا سوّلته «3» شبيبتي ... وفعلت مالا ظنّه شيطاني 12- وجنيت من ثمر الذّنوب تعمّدا ... لّما رأيت العفو حظّ الجاني 13- وحلبت هذا الدّهر أشطر «4» عيشه ... فوجدت زبدتها متاعا «5» فاني «6» 14- ملك ترنحت «7» المنابر باسمه ... حتى ادّكرن معاهد الأغصان 15- بادي الوقار إذا احتبى وحبا النّدى ... أبصرت سير السّيل من ثهلان «8» 16- قامت بسؤدده مآثر بيته ... وعلى العماد إقامة البنيان 17- قسما بمن أعلى وأعلن مجده ... وأفاض أنعمه بكلّ مكان 18- ما حاد عني «9» الفقر حتى صحت في ... مدحي أنا بالله والسلطان

19- فوجدت للنّعماء «1» ملء مآربي «2» ... ووجدت للأوصاف ملء لساني 20- ومدحت من نشرت مدائح مجده ... ذكري فلو لم يعطني لكفاني 21- ملكا أبرّ «3» على الأولى متأخرا ... عنهم كبسم الله والعنوان «4» 22- تعب الأنامل «5» لا يغبّ نواله ... إنّ العلى والمجد للتعبان «6» 265/ب 23- أعطى وقد منع الغمام وأرشدت ... آراؤه والنّجم كالحيران 24- واعتادت الهيجاء منه غضنفرا «7» ... سار من اليزنىّ في خفّان «8» 25- تتآلف «9» العقبان «10» فوق رماحه ... إلف الحمام على فروع البان 26- ويصحّ علم الكيمياء لبيضه «11» ... فترى اللّجين يعود كالعقيان

27- ويقول فيض فعاله ومقاله ... مرج «1» التّقى بحرين يلتقيان 28- يا مشتري «2» بلغ الثّناء بماله ... هنّئت مرتبة على كيوان 29- صانت يداك عن الأنام وسائلي ... وثنى حماك عن البلاد عناني 30- فمحوت إلّا عن ثناك خواطري ... ونفضت إلّا من نداك «3» بناني 31- وتركت مدح العالمين وذمّهم ... وشغلت من هذا «4» النّدى في شاني «5» 32- وأقمت متّصل الرّجاء بواحد ... لم يختلف في الفضل منه اثنان 33- متسلسل الكلمات في أوصافه ... متقيّدا بصنائع الإحسان 34- لا يعدم الدّهر الأخير بدائعا ... تنثال «6» بين سماحة «7» وبيان 35- أمتار بالمكيال «8» فضل هباته ... وأبيحه الأقداح بالأوزان

- 675- وقوله: (بسيط) 1- أهلا بطيف على الجرعاء «1» مختلس «2» ... والفجر في سحر كالثّغر في لعس «3» - 675-

2- والنجم في الأفق الغربيّ منحدر ... كشعلة سقطت من كفّ مقتبس «1» 3- يا حبّذا زمن الجرعاء من زمن ... كلّ اللّيالي فيه ليلة العرس 4- وحبّذا العيش مع هيفاء لو ظهرت ... للبدر لم يزه أو للغصن لم يمس 5- خود لها مثل ما في الظّبى من ملح «2» ... وليس للظّبي ما فيها من الأنس «3» 266/أ 6- محروسة بشعاع البيض ملتمعا ... ونور ذاك المحيّا آية «4» الحرس 7- يسعى ورا لحظها قلبي ومن عجب ... سعي الطّريدة في آثار مفترس 8- ليت العذول على مرأى محاسنها ... لو كان ثنّى عمى عينيه بالخرس «5» 9- إنّي وإن طويت في القلب غلته «6» ... لمحوج العيس «7» طيّ الضّوء والغلس «8» 10- سفينة ليس تجري بي إلى بخل «9» ... (إنّ السّفينة لا تجري على اليبس) 11- تؤم «10» باب ابن أيّوب «11» إذا اعتكرت «12» ... سود الخطوب كما يؤتمّ بالقبس

12- المانح الرّفد أفنانا «1» مهدّلة «2» ... فما يردّ جناها كفّ ملتمس 13- والرّافع البخل في الدّنيا وساكنها ... بجود كفّيه رفع الماء للبجس «3» 14- محا المؤيّد بؤس المقترين «4» فما ... تكاد تظفر جدواه بمبتئس 15- واستأنس النّاس جدوى ملكه فرووا ... عن مالك «5» خبر العليا وعن أنس «6» 16- ملك يقاس «7» حجاريه بسؤدده ... إذا يقايس عير الدّار «8» بالفرس 17- وينتهى لضحى بشر مؤمّله ... إذا انتهى من بني الدّنيا إلى عبس 18- مظفّر الجدّ مشّاء على جدد «9» ... من حمله «10» اللّدن أو من حربه الشّرس

19- يخفي اللها «1» ودنانير الصّلات بها ... تكاد تضرب للأسماع بالجرس 20- وينشر العلم لا قول بمختلف ... إذا رواه «2» ولا معنى بملتبس «3» 21- ويشبع الأمر آراء مسدّدة «4» ... تمضي وتدفع صدر الحادث الشّكس «5» 22- تكون كالعضب «6» أحيانا وآونة ... تكون من وقعات العضب كالترّس «7» 23- لو باشر الأفق يوما يمن «8» طلعته ... لما سمعت بنجم ثمّ «9» منتحس «10» 24- ولو تولّت حزون «11» الأرض راحته ... لم يبق في الأرض صلد «12» غير منبجس 267/ب 25- من مبلغ قومي الزّاكي «13» نجارهم «14» ... أنّي اعتزيت إلى جمّ «15» العلى ندس «16» 26- مجدّدا لي في أمداحه نسبا ... أبرّ من نسب في التّرب مندرس «17» 27- ما زلت أخبر ممدوحا وأهجره ... حتى اعتلقت «18» بحبل محصد «19» المرس «20» 28- وطاهر الخيم «21» لا تخلى «22» خلائقه ... على الملال ولا تطوى على الدّنس

29- ما شمت بارق جدواه فأخلفني ... ولا عهدت إلى معروفه فنسي 30- تلك العلى لابن حمدان «1» على حلب ... ولابن عمّار شأو فى طرابلس «2» 31- ما ضرّني إن تولوا وهو مرتقب ... وخاس «3» عهد الغوادى «4» وهو لم يخس 32- يا بن الملوك الأولى خذها عروس ثنا ... مصرّية المنتمى غربيّة النّفس 33- الله أكبر صاغ الحقّ مادحكم ... كأنّه ناطق من حضرة «5» القدس - 676- وقوله: (خفيف) 1- قام يرنو «6» بمقلة كحلاء ... علّمتني الجنون بالسّوداء «7» - 676-

2- رشأ دبّ في سوالفه «1» النّم ... ل فحارت خواطر «2» الشّعراء 3- عذلوني على هواه فأغروا ... فهواه نصب «3» على الإغراء 4- من معيني على لواعج «4» حبّ ... تتلظّى من أدمعي بالماء 5- وحبيب «5» لديّ يفعل بالقل ... ب فعال الأعداء بالأعداء 6- يتثنّى كقامة الغصن اللّد ... ن ويعطو كالظّبية الأدماء «6» 7- يا شبيبة الغصون رفقا بصبّ ... نائح في الهوى مع الورقاء 8- يذكر العهد بالعقيق فيبكي ... لهواه بدمعة حمراء 9- يا لها دمعة على الخدّ حمرا «7» ... ء بدت من سوداء في حمراء 268/أ 10- فكأني حملت رنك «8» ابن أيّو ... ب «9» على وجنتي لفرط ولائي

11- ملك حافظ المناقب تروي ... راحتاه عن واصل وعطاء «1» 12- في معاليه للمديح اجتماع ... كأبي جاد «2» في اجتماع الهجاء 13- خلّ كعبا «3» ورم نداه فما كع ... ب العطايا ورأسها بالسّواء 14- وارج وعد المنى لديه فإسما ... عيل «4» ما زال معدنا «5» للوفاء 15- ما لكفّيه في الثّراء هدوّ ... فهو فيه كسابح في ماء 16- جمّعت في فنائه الخيل والإب ... ل وفودا أكرم به من وفاء «6»

17- لو سكتنا عن مدحه مدحته ... بصهيل من حوله ورغاء «1» 18- همّة حازت السّماك فلم يع ... بأ مداها بالحاسد العوّاء» 19- وندى يخجل السّحاب فيمشي ... من ورا جوده على استحياء 20- طال بيت الفخار منه على الشّع ... ر فماذا يقول بيت الثّناء 21- شرف في تواضع ونوال ... في اعتذار وهيبة في حياء 22- يا مليكا علا على الشّمس حتّى ... عمّ إحسانه عموم الضّياء 23- صنت لفظي عن الأنام وكفّي ... فحرام نداهم وثنائي «3» 24- وسقتني مياه جودك سقيا ... رفعتني على ابن ماء السّماء «4» 25- فابق عالي المحلّ داني العطايا ... قاهر اليأس طاهر الأنباء «5» 26- يتمنّى حسودك «6» العيش حتّى ... أتمنّى له امتداد البقاء

- 677- «1» وقوله: (طويل) 1- تصرّمت «2» الأيّام دون وصالك ... فمن شافعي في الحبّ يا ابنة مالك 269/ب 2- وكان «3» الكرى يدني خيالك وانقضى ... فلا منك تنويل «4» ولا من خيالك 3- رويدك «5» قد أوثقت بالهمّ مهجتي ... عليك فماذا يبتغى بملالك 4- أفي كلّ يوم لي إليك مطالب ... ولكنّها محفوفة بمطالك «6» 5- وغيران «7» قد مدّ الحجاب من الظّبا ... وقد كان يكفيه حجاب دلالك 6- فتنت بخال فوق خدّك صانه ... أبوك فويلي من أبيك وخالك 7- وعاينت منك الشّمس بعدا وبهجة ... فيا عجبا من وابق «8» بحبالك - 677-

8- هجرت وما فاز المحبّ بزورة ... فديتك زوري واهجري بعد ذلك 9- لي الله طرفا «1» كلّ ما جرّ طرفه ... إلى الحسن ألقى عروة المتماسك «2» 10- تأبط شرّا «3» من أذى الوجد وانثنى ... (كثير الهوى شتى النّوى والمسالك) 11- قفي تنطريه في لظى البيد تابعا ... سراك وإلا في رماد ديارك 12- سقى الله أكناف الدّيار هوامعا ... تبيت بها الأزهار غرّ ضواحك «4» 13- كأنّ يد الملك «5» المؤيد جادها ... فأسفر نوّار «6» الرّبا عن سبائك «7» 14- مليك إلى مغناه تستبق المنى ... مسابقة الحجّاج نحو المسالك «8»

15- له شيم تحصي المدائح وصفها ... إذا أحصيت زهر النّجوم الشّوابك «1» 16- وفي الأرض أخبار له ومآثر ... تسير سرى الأسمار «2» بين الملائك 17- حمى الأرض من آرائه وسيوفه ... بكلّ مضيء في دجى اللّيل فاتك 18- وسكّنها «3» حتّى لو اختار لم تمس ... غصون النّقا تحت الرّياح السّواهك «4» 19- مهيب السّطا هامي العطا سامق العلى «5» ... جليّ الحلا كشّاف ليل المعارك 20- تولّى فيا عجز الأكاسرة «6» الأولى ... وجاد فقلنا يا حياء البرمك «7» 21- وشاركه العافون في ذات ماله ... وليس له في مجده من مشارك 22- كريم يجيل «8» الرأي فعلا ومنطقا ... فلا يرتضي غير الدّراري «9» السّوامك «10»

23- كعوب القنا عجبا براحته التي ... يروّي نداها مشرعات «1» طوالك 24- إذا هزّ منها الملك «2» كعبا مثقّفا ... فيالك من كعب عليه مبارك 25- وإن جرّ فى صون «3» الثغور رؤوسها ... جلت قلح الأعدا جلاء المساوك 26- ولله من أقلام علم بكفّه ... سوالب ألباب الرّجال سوالك «4» 27- كأنّ معانيها كواعب تتكي «5» ... على حبك الأدراج «6» فوق أرائك 28- كأنّ بياض الطّرس بين سطورها ... أياديه في طيّ السّنين الحوالك 29- أمسدي «7» الأيادي البيض دعوة ظافر ... لديك على رغم الزّمان المماحك «8» 30- عطفت على حالي بنظرة ساتر «9» ... وقد مدّ فيها الدّهر راحة هاتك 31- فدونك من مدحي اجتهاد مقصر ... تداركت من أحواله شلو «10» هالك 32- تملّكه الهمّ المبرّح «11» برهة ... إلى أن محار رضوان «12» سطوة «13» مالك

- 678- وقوله: (بسيط) 1- نفس عن الحبّ ما أعفت «1» وما غفلت ... بأيّ ذنب وقاك الله قد قتلت 2- وعين صبّ إلى مرآك قد لمحت ... كفى من الدّمع والتّسهيد «2» ما حملت 3- دعها وقد مدمعها الجاري فقد لقيت ... ما قدّمت «3» من أذى قلبي وما عملت 4- أفديك من ناشط الأجفان في تلفي ... والسّحر يوهم طرفي أنّها كسلت 5- وأوضح «4» الحسن لو شاءت ذوائبه ... في الأفق وصل دجى الظّلماء لاتصلت 6- معسّل «5» بنعاس في لواحظه ... أما تراها إلى كلّ القلوب حلت «6» 271/ب 7- من لي بألحاظ ظبى تدّعى كسلا ... وكم ثياب ضنى حاكت وكم غزلت 8- وسمرة فوق خدّيه ومرشفه «7» ... هذي روّت مجانيها وذي ذبلت 9- أما كفاني تكحيل الجفون أسى ... حتّى المراشف أيضا باللّمى كحلت 10- لو ذقت برد رضاب تحت مبسمها ... يا حار «8» ما لمت أغصاني التي ذبلت - 678-

11- أستودع الله أعطافا شوت «1» كبدي ... وكلّما رمت تجديد الوصال قلت «2» 12- ومهجة لي كم ألقت بمسمعها ... إلى الملام فلا والله ما قبلت 13- كأنّ عيني إذا رفضّت «3» مدامعها ... عن المؤيد أو صوب «4» الحيا نقلت 14- ملك له في الوغى والسّلم بسط يد ... مأثورة الفضل إن صالت «5» وإن وصلت «6» 15- تعطى الألوف إذا جادت لمطّلب ... ومثل أعدادها تردي إذا قتلت 16- في كلّ نهج «7» وموماة «8» ركاب سرى ... لولا ابن أيّوب ما شدّت ولا رحلت 17- إن تغش أبواب مغناه التي فتحت ... وطال ما بالعطايا «9» والنّدى قفلت 18- سل عن عطاياه تسأل كلّ وافدة «10» ... من المدائح فازت قبل ما سألت 19- فضل أبرّ فوّفى الحمد غايته ... وراحة فعلت كلّ النّدى فعلت 20- وسيرة عدلت «11» في الخلق قاطبة ... مع أنّها عن سبيل الحقّ ما عدلت «11»

21- هذي السّيادة تعلو كلّما اتّضعت «1» ... وأنمل الفضل تهمي كلّما عذلت 22- أنّى يقايس بالأنواء نائله ... وهي التي باحمرار البرق قد خجلت 23- جادت يداه بلا منّ ينغّصها ... والمنّ قد يصحب الأنواء «2» إن نزلت 24- وزاد بالجود ما شادت أوائله ... وتلك قد تهدم «3» البنيان «4» إن هطلت 25- لا شيء «5» أليق من مرأى أنامله ... إذا تأمّلت أمريها التي كفلت «6» 272/أ 26- تخطّ بالرّمح في الأجساد صائلة ... وتطعن «7» العسر «8» بالأقلام إن بذلت 27- لو قيل إنّ شموس الصّحو خافية ... ما قال عنها عدوّ إنّها بخلت 28- يمّمه والسّحب عقم واخش سطوته ... والخيل من سلب «9» الهيجاء «10» قد نسلت «11»

29- ذاك الكريم الذي يجدي مدائحنا ... وكان يكفي من الجدوى إذا قبلت «1» 30- من مبلغ الأهل أنّي ضيف أنعمه ... وأنّ كفيّ على الآمال قد حصلت 31- عزيمة السّعي ما خابت وسائلها ... وآية المنطق السّحّار ما بطلت 32- بسل على النّاس «2» أمداحي التي اشتهرت ... فإنّها في معاني مجده، اشتغلت 33- أما ووصف ابن شاد قد سما وعلا ... والله لا قصّرت «3» عيني ولا سفلت 34- لا نسأل الله إلا أن تدوم لنا ... لا أن تزاد معاليه «4» فقد كملت - 679- «5» وقوله: (كامل) 1- عوّذت «6» شعرك بالظّلام وما وسق «7» ... وسناك بالقمر المنير إذا اتّسق «8» 2- آها لها من طلعة في طرّة ... لاحت فلا لاح الصّباح ولا الغسق 3- وهلال تمّ طالع في سعده ... لكنّ نجم حشاي فيه قد «9» احترق - 679-

4- رشأ وجدت العذل فيه باطلا ... لمّا وجدت بمقلتيه السّحر حق 5- زعم المشنّع «1» أنّني واصلته ... ليت المشنّع عن تواصلنا صدق 6- بأبي الذي أجريت أحمر أدمعي ... في حبّه فإذا ابتغى أمدا سبق 7- ما للجوانح «2» والبكاء تطابقا ... هذي مقيّدة وذاك قد انطلق 8- قم يا غلام وهاتها في حبّه ... صفراء مشرقة كما وضح الشّفق 9- هذي الحمائم في منابر أيكها ... تملي الغنا «3» والطّلّ يكتب في الورق 273/ب 10- والقضب تخفق «4» للسّلام رؤوسها ... والزّهر يرفع زائريه على الحدق 11- فعسى تجدّد لي زمان تواصل ... قد كان في اللّذّات معنى مسترق «5» 12- لا تسمعنّ بأنّ قلبي قد سلا ... ذاك الزّمان فذاك قول مختلق «6» 13- تتخالف الأخبار لكنّ النّدى ... خبر عن الملك المؤيّد «7» متّفق 14- ملك خزائن ماله وعداته ... تشكو «8» التّفرّق كلّ يوم والفرق «9» 15- البحر في كفيّه أو في صدره ... فانهل وإن ناويته «10» فاخش الغرق

16- ذاك الذي بالناس يفدى مشخصه ... ويعاذ في ظلم الحوادث بالفلق «1» 17- للسّيف في يمنى يديه «2» جدول ... فلذا يفيض على جوانبه العلق «3» 18- وبكفّه القلم الذي لا يشتكي ... فتق «4» الأمور لفضله إلّا رتق «5» 19- تجري البحار ولو رمى بجرابه «6» ... لانشقّ ذاك البحر غيظا «7» وانفلق «8» 20- فيه مآرب للعلوم وللندّى ... إن «9» فاض راق وإن أفاض «10» القول رق 21- كالغصن يستحلى «11» سنا أزهاره ... ويجود بالثّمر الجنيّ وينتشق «12» 22- فاز امرؤ ألقى يمين رجائه ... لمقام إسماعيل «13» يوما واعتلق «14» 23- المرتجى «15» والأفق محجوب الحيا ... والملتجا والدّهر مرهوب الحنق 24- لله كم خضعت لعليا مجده ... رأس وكانت ذات صويل لم تطق «16» 25- سارت سيادته وأمعن «17» شوطها ... فغدت على الأعناق واصلة العنق «18»

26- وأراد أن يجري إلى غاياته ... صوب الحيا فلذاك ألجمه «1» العرق 27- النّصر والدّنيا الخصيبة والهدى ... إن صال أو بذل الصّنائع أو نطق 28- لاقيته فشفى رجاي وعانقت ... كفاي من جدواه أطيب معتنق 274/أ 29- وروائح المعروف لا تخفى على ... حال فشمّوا من أناملي العبق «2» 30- يا أيّها الملك المؤيّد دعوة ... تذر العداة بغيظها تشكو الحرق 31- واصلت «3» قصدي باللها وقطعت ما ... بيني وبين بني الزّمان من العلق «4» 32- فلأشكرنّ جميل ما أوليتني ... شكر الرّياض الزّهر للماء الغدق «5» 33- بمدائح أهّلني لنظامها ... فغدت محرّرة وعنقي مسترق «6» 34- درر خدمت بها علاك «7» وإنّما ... عطفت «8» على درر العلى عطف النّسق

- 680- «1» وقوله: (بسيط) 1- لام العذار أطالت فيك تسهيدي ... كأنّها لغرامي لام توكيد «2» 2- وخلف وعدك خلق منك أعرفه ... فليت كان التّجافي «3» منك موعودي 3- يا من أفنّد في وجدي عليه فما ... أبقى «4» الأسى فيّ ما يصغى لتفنيد 4- عاب العدا منك أصداغا مجعّدة ... عيب المقصّر عن نيل العناقيد 5- وعقد بند «5» على خصر رجعت به ... ذا ناظر بنجوم اللّيل معقود 6- كأنّه تحت وجدان» القبا «7» عدم ... وا حيرتي بين معدوم وموجود 7- ردّ الجفاء سؤالي فيك أجمعه ... فما لسائل دمعي غير مردود 8- لقد خضعت إلى وجدي كما خضعت ... إلى المؤيّد أعناق الصّناديد «8» - 680-

9- داعي «1» المقاصد في علم وفي كرم ... إلى اللّقاء «1» مليّ الفضل مقصود 10- تسري سفين الأماني نحو منزله ... فتستوي من أياديه على الجودي «3» 11- ذاك الذي أسعدت أعمارنا يده ... فما نفكّر في حكم المواليد «4» 12- ملك إذا تليت أوصاف سؤدده ... ألقى السّراة «5» إليه بالمقاليد «6» 275/ب 13- ذو العلم قلّد طلّاب الهدى مننا ... حتى وصفناه في علم «7» وتقليد «8» 14- والجود راش «9» ذوي الجدوى وطرّقهم ... فما يزالون في سجع وتغريد 15- والجيش قد ألفت بالنّسر رايته ... تآلف الطّرف في مغزاه «10» بالسّيد 16- يبدو وقد سخّر الله العباد له ... والطير «11» والوحش في الآفاق والبيد 17- حتّى يقول مواليه وحاسده ... هذا ابن أيّوب أم هذا ابن داود «12»

18- لأشكر المدح «1» الحسنى وقد قرنت ... بشاهد من معاليه ومشهود 19- أغنى العباد فلولا ناهيات «2» تقى «3» ... أستغفر الله سموه بمعبود 20- وواصل الحرب حتى كلّ معركة ... كأنّها بيت معنى ذات ترديد «4» 21- يهدي الرّماح قدودا ذات منعطف «5» ... والمرهفات خدودا ذات توريد 22- إذا انتشى من دم الأرواح «6» صارمه ... رمى العدى بشديد السّطو عربيد «7» 23- وإن أفاض حديثا أو نوال يد ... وردت من حالتيه خير مورود «8» 24- جواهرا لا يحدّ الوصف غايتها ... فاعجب لجوهر شيء غير محدود 25- وأنعما دأبها إسداء «9» بكر «10» يد ... لكنهنّ أياد ذات توليد «11» 26- لو أنّ للبحر جدواه أفاض «12» على ... وجه الثّرى بنفيس «13» العقد منضود «14» 27- ولو أمرّ على جلد «15» الصّفا يده ... لأنبت العشب عنها كلّ جلمود

28- يا حبّذا الملك السّارى على شيم ... يروي وينقل عن آبائه «1» الصّيد 29- أدنيت من نار فكري عود نبعته «2» ... عند الثّناء ففاحت نفحة العود 30- نعم العماد لراج مدّ رغبته ... فمدّ نحو لقاها طرف معمود «3» 31- يمّمت في حال مرحوم منازله ... ثمّ انثنيت وحالي حال محسود 276/أ 32- ورحت أنقل عن أيّوب أنعمه ... نحو الصّلات فمن عطف وتوكيد «4» 33- إن شئت تنظر في زهر الرّبى مطرا ... فانظر نوال يديه في أناشيدي 34- وإن أردت عيانا أو محادثة ... فاهرع «5» إلى سندي «6» واسمع أسانيدي 35- يا من تحلّيت عن ألفاظه وندى ... كفّيه حلية فضل ذات تجديد 36- إن كان لفظك شبه القرط «7» في أذني ... فإنّ جدواك مثل العقد في جيدي - 681- «8» وقوله: (كامل) 1- بالغت في شجني «9» وفي تعذيبي ... ومع الأذى أفديك من محبوب - 681-

2- يا قاسيا هلا تعلّم قلبه ... لين الصّبا من جسمه المشروب «1» 3- آها لورد فوق خدّك أحمر ... لو أنّ ذاك الورد كان نصيبي 4- ولواحظ ترث الملاحة في الظّبا ... إرث السّماحة في بني أيّوب 5- بعثت بنو أيّوب «2» أموات الرّجا ... وأتت بحارهم بكلّ عجيب 6- وبملكهم رفع الهدى أعلامه ... وحمى سرادق بيته المنصوب 7- وإلى عمادهم انتهت علياؤهم ... وإلى العلاء قد انتهت لنجيب 8- ملكت «3» بأدنى سطوه ونواله ... أنسى ندى هرم «4» وبأس شبيب 9- الجود ملء أنامل والعلم مل ... ء مسامع والعزّ ملء قلوب 10- ألفت بأنبوب البراعة والقنا ... يمناه يوم ندى ويوم حروب

11- فإذا نظرت «1» وجدت أرزاق الورى ... ودم العداة تفيض «2» من أنبوب 12- كم مدحة لي صغتها وأثابها ... فزهت على التّفضيض والتّذهيب 13- وتعوّدت في كلّ مصر عنده ... مرعى يقابل جدبها بخصيب «3» 277/ب 14- يا ربّ بشر منه طائي النّدى «4» ... لاقى مدائحنا لقاء حبيب «5» - 682- «6» وقوله: (طويل) 1- ألا من لمسلوب الفؤاد رهينه ... معنّى بمحجوب الوداد ضنينه 2- تجلّده شكّ إذا لام «7» لائم ... ولكنّ «8» ذاك الوجد عقد «9» يقينه «10» 3- وفي قلبه داء دفين من الأسى ... فلا غرو «11» أن نبكي «12» لأجل دفينه «13» - 682-

4- وظبي له في أسرة التّرك نسبة ... وفي الهند معنى من مضاء جفونه 5- من الطّالبي «1» كتم الغرام صببانة «2» ... وأحسن بمكتوم الغرام مصونه 6- كتمت الهوى في عشقه متفلسفا «3» ... فأصبح عشقي قائلا بكمونه «4» 7- وعاينت في خده خطّ عذاره ... فأقسمت في صحف الجمال بنونه 8- يحنّ له قلبي فلله من رأى ... حمى يتبع الغادين رجع حنينه «5» 9- برغمي طرف غاب عنه عريزه ... فعوّده ماء «6» البكا بمهينه 10- روى «7» بمعين الدّمع طرفي فأسمعوا ... حديث جوى قلبي من ابن معينه 11- وإنّي لجلد في ممارسة «8» الهوى ... مدلّ «9» بمهديّ الولاء أمينه 12- يقوم بنصري في الصّبابة عون من ... أقام ابن أيّوب عمادا لدينه 13- ملك تولى الفضل بعد ضياعه ... وهذّب هذا الدهر بعد جنونه «10» 14- ومدّ يمينا يعذر البحر والحيا ... إذا حلفا يوم النّدى بيمينه 15- أخو صدقات يقدر المدح قدره ... فما يشترى «11» في المدح غير ثمينه

16- وما ذاك «1» حاج للثّناء وإنّما ... سجيّة فيّاض الغمام هتونه «2» 17- شج «3» في العلا «4» والعلم والبأس والندى ... فلله ما أحلى حديث شجونه 278/أ 18- له منزل تهوي المقاصد نحوه ... هويّ حمام الأيك نحو وكونه «5» 19- إذا طلب الملك المؤيّد معسر «6» ... أتى بشره «7» في وجهه كضمينه 20- عجبت لبشر ضامن الوجه إذ غدا ... يطالبه عافي النّدى بديونه 21- وأروع «8» يهتزّ الزّمان لأمره ... وما الطّود أرسى جانبا من سكونه 22- كثير السّرى ما بين مشتجر القنا «9» ... فيالك ليثا سائرا في عرينه 23- يلاقي العدا يوم الوغى متبسما ... كأنّك قد لا قيته بخدينه «10» 24- وتلهيه في الهيجاء رنّة قوسه ... إذا وتر «11» ألهى امرأ برنينه

25- ولو شاء أغناه عن الجيش ذكره ... وربّ حسام هازم بطنينه 26- أيا ملجأ «1» أغنى عن الغيث جوده ... وأغنته حو مات «2» الوغى عن حصونه 27- بك ارتدّ مشكوّ الزّمان عن الأذى ... وأطلق أبناء المنى من سجونه 28- وقد كان ذا همز «3» يحاذر فانتهى ... إلى مدّة بعد الإباء ولينه 29- وكم لك عندي من ندى يفضل الثّنا ... ويحلف أنّ الشّعر غير قرينه 30- إذا قلت قد قابلته بقصيدة ... بدا غيره مستظهرا بكمينه «4» 31- فدونك جهدا «5» من قريحة مادح ... يقابل أبكار الصّلات «6» بعونه 32- رأى أنّك البحر الذي طاب ورده ... فجاءك من نظم القريض بنونه «7» - 683- «8» وقوله: (كامل) 1- لولا معاني السّحر من لحظاتها ... ما طال تردادي إلى أبياتها 2- ولما وقفت على الدّيار مناديا ... قلبي المتيّم من ورا حجراتها 3- دار عرفت الوجد منذ أتيتها ... زمن الوصال فليتني لم آتها - 683-

279/ب 4- حيث الظّبا «1» وكواعب وحدائق ... أنّى التفت وقعت في جنباتها «2» 5- والرّاح هادية السّرور إلى الحشا ... مثل الكواكب في أكفّ سقاتها 6- لا تظلم «3» الأحزان في آيامها ... أو ما ترى كسرى على كاساتها 7- كم ليلة عاطيت «4» صورته طلا ... كادت تحرّك معطفيه بذاتها 8- فلئن بكيت فإنّ هذا الدّمع من ... ذاك الحباب يفيض من جنباتها 9- مالي ومال اللهو «5» بعد مفارق ... قد نفّرت «6» غربانها ببزاتها 10- والشيب فى فودي يخطّ أهلّة ... معنى المنون يلوح في نوناتها «7» 11- سقيا لروضات الشّباب وإن جنت ... هذى القلوب «8» على قلوب جناتها 12- ولدولة الملك المؤيّد إنّها ... جمعت فنون المدح بعد شتاتها 13- ملك ليمناه عوائد أنعم ... ألفت نحاة «9» الجود فيض صلاتها 14- ما قال إلّا في مبادرة العطا ... وتناول الأمداح هاك وهاتها «10»

15- أكرم بساحته التي لا صدح «1» من ... ورق الثّنا إلّا على روضاتها 16- غذّى الرّجاء نباتها فانظر لها ... وشّاه من مدح فم ابن نباتها «2» 17- واهرع إلى الشخص الذي قد ألّفت ... كلّ القلوب له على رغباتها «3» 18- وإذا حلى الملك المؤيّد أشرقت ... فاخشع لما تمليه من آياتها 19- شرف يحار النجم دون مناله «4» ... ولها يضيع الغيث في قطراتها 20- لم يكف إن جلّى الخطوب عن الورى ... حتى جلا بعلومه «5» جهلاتها 21- لله فيه سريرة «6» مكنونة ... فصفاتها الإعياء «7» دون «8» صفاتها 22- لا تطلبنّ من القرائح حصر ما ... أفضي إليه وعدّ «9» عن إعناتها «10» 280/أ 23- ركعت لذكراه الحروف فلم تكد ... تتبيّن الألفاظ «11» من دالاتها

24- وتقشعت «1» أنواء كلّ غمامة ... وهباته تجري على عاداتها 25- يا ابن المملوك الناشرين لبيتهم ... سيرا تبيّض من وجوه رواتها 26- متّ القصير «2» إلى يديك بمنّة ... إذ كان صنع الجود من لذّاتها 27- وصبت إلى لقياك غير ملومة ... نفس رأت جدواك أصل حياتها 28- لا تعتب «3» الأيّام كيف تقلّبت ... بالقاطنين وأنت من حسناتها - 684- «4» وقوله: (بسيط) 1- لثمت ثغر عذولي حين سمّاك ... فلذّ حتى كأني لاثم فاك 2- حبا لذكراك في سمعي وفي خلدي «5» ... هذا وإن جرحت في القلب ذكراك 3- تيهي وصدّي إذا ما شئت واحتكمي ... على النفوس فإنّ الحسن ولاك 4- وطوّلي من عذابي «6» في هواك عسى ... يطول في الحشر إيقافي وإيّاك 5- في فيك خمر وفي عطف الصّباميد ... فما تثنّيك إلا من ثناياك 6- وما بليت «7» لكوني فيك ذا تلف ... إلّا لكون سعير القلب مأواك - 684-

7- يا أدمعا لي قد أنفقتها سرفا ... ما كان عن ذا الوفا والبرّ أغناك 8- ويا مديرة صدغيها كقبلتها «1» ... لقد غدت أوجه العشّاق ترضاك 9- مهما سلونا فلا نسلو ليالينا ... وما نسينا فلا والله ينساك «2» 10- نكاد نلقاك بالذكرى إذا خطرت ... كأنّما اسمك يا سعدى «3» مسمّاك 11- ونشتكي الطير نعّابا «4» بفرقتنا ... وما طيور النّدى إلّا مطاياك 12- لقد عرفناك «5» أياما وداومنا ... شجو فيا ليت أنّا لا عرفناك 281/ب 13- نرعى عهودك في حلّ ومرتحل «6» ... رعي ابن أيّوب حال اللّائذ «7» الشاكي 14- العالم الملك السيّار سؤدده ... في الأرض سير الدّراري بين أفلاك 15- ذاك الذي قالت العليا لأنعمه ... لا أصغر الله في الأحوال ممساك 16- له أحاديث تغني كلّ مجدبة ... عن الحيا وتجلّي كلّ أحلاك «8» 17- ما بين خيط الدّجى «9» والبدر واضحة ... كأنّها درر من بين أسلاك 18- كافاك يا دولة الملك المؤيّد عن ... برّ البرّية من للفضل أعطاك

19- لك الفتوّة «1» والفتوى محرّرة ... لله ماذا على الحالين أفتاك 20- أحييت ما مات من علم ومن كرم ... فزادك الله من فضل وحيّاك 21-ماذا يجمّع «2» ما جمّعت من شرف ... في الخافقين ومن يسعى كمسعاك 22- أنسى المؤيّد أخبار الأولى سلفوا «3» ... في الملك ما بين فتّاك وفتّاك «4» 23- ذى الرأي يشكو «5» السلاح الجمّ حدّته ... لذاك يسمى السّلاح الجمّ بالشّاكي 24- والمكرمات التي افترّت مباسمها ... والغيث بالرّعد يبدي شهقة الباكي 25- قل للبدور استجني «6» في الغمام فقد ... محاسنا ابن عليّ «7» حسن مسراك 26- إن ادّعيت من النشر المطيف به «8» ... غيظا فقد ثبتت في الوجه دعواك 27- يا أيّها الملك المدلول قاصده ... وضدّه نحو ستّار وهتّاك 28- لو أدركتك بنو العبّاس فانتصرت «9» ... بمقدم «10» في ظلام الخطب ضحّاك 29- مظفّر الجدّ من حظّ ومن نسب ... مبصّر بخفيّ الرّشد مدراك 30- وحّدته في الورى بالقصد وارتفعت ... وسائلي فيه عن زيغ «11» وإشراك «12»

31- ما عارضت يد أمداحي مواهبه ... إلّا رجعت بصفو المغنم الزّاكي 282/أ 32- إنّ الكرام إذا حاولت صيدهم ... كانت بيوت المعالي مثل أشراك «1» 33- سقيا لدنياك لآكفّ بخائبة ... فيها لديك ولا وصف بأفّاك «2» 34- من كان في خيفة «3» الإنفاق يمسكها ... فأنت تنفقها من خوف إمساك - 685- «4» وقوله: (طويل) 1- عذيري من ساجي اللّواحظ أغيد ... يصول بأسياف الجفون ولا يد 2- غزال يناجيني بلفظ معرّب ... ولكنّه يسطو بلحظ مهنّد 3- وقدّ روت عن لينه واعتداله ... صحاح العوالي مسندا بعد مسند - 685-

4- إذا قعدت أردافه قام عطفه ... فيا طول شجوي من متيم ومقعد 5- يخيّل لي أني له لست عاشقا ... لأن ليس لي في عشقه «1» من مفنّد «2» 6- ولولا الهوى ما بتّ بالدمع غارقا ... عليه وأشكو للورى علّة «3» الصّدي 7- وربّ مدام من يديه شربتها ... معتّقة «4» تدعى «5» لعيش مجدّد 8- (إذا جئته تعشو إلى ضوء كأسه ... تجد خير نار عندها خير موقد) «6» 9- كأنّ سنا راووقها «7» وصبيبها «8» ... حبال شعاع الشّمس تفتل باليد 10- كأنّ بقايا ما مضى من كؤوسها «9» ... أساور «10» تبر في معاصم خرّد 11- سقى الغيث عني ذلك الشخص إنّه ... مضى شبه غصن البانة المتأوّد «11» 12- وفرّق إلّا مقلتي وسهادها ... وجمّع إلّا مهجتي وتجلّدي «12» 13- فلا غزل إلّا له من قصيدة ... ولا مدح إلّا للمليك المؤيّد

14- مليك رأى أن لا مباري في العلا ... فظلّ «1» يباري سؤدد اليوم بالغد 15- لو اختصمت أهل المكارم في الندى ... لقال مقال الحقّ ملكي وفي يدي «2» 283/ب 16- كذلك فليحفظ تراث جدوده ... مليك بنى فوق الأساس الموطّد «3» 17- يؤمّ حماه طالب بعد طالب ... فذو القصد يستحذي «4» وهو «5» الدهر يفتدي «6» «7» 18- ولا عيب فيه غير إسراف «8» بذله «9» ... وأنّ مدى علياه غير محدّد «10» 19- تجول ثغور اللثم في عتباته «11» ... كما جال عقد في ترائب أجيد 20- رعى الله أيّام المؤيّد إنها ... أحقّ وأولى بالثناء المؤيّد 21- حمت وهمت فالناس ما بين هاجد «12» ... أمانا وداع «13» في الدّجى متهجّد «14»

22- وما عرفت يومي ندى وشجاعة ... بإخلاف «1» موعود ولا متوعّد «2» 23- دع المبتغي نحو المكارم «3» شافعا ... وجئه فقيرا بالرّجاء المجرّد 24- هنالك تلقى نعمة «4» بعد نعمة ... لداعي النّدى مثل النّداء المؤكّد 25- ومبيّض آثار الصّنائع أخمدت «5» ... مناقبه أيّام كلّ مسوّد 26- إذا شام رأيا في الملمّات ردّها «6» ... بأفتك من مرّ الزّمان «7» وأكيد 27- ولم تزل الهيجاء أثنى مقامها ... عليه بألفاظ الوشيج «8» المقصّد «9» «10» 28- أيا ملكا في منّه وعقابه ... حياة لمعتدّ وموت لمعتدي «11» 29- إليك سلكت الخلق سمحا وباخلا ... وجبت الموامي «12» فدفدا «13» بعد فدفد 30- فوفّيتني وعد الأماني وإنّها ... سجيّة إسماعيل «14» في صدق موعد

31- وجاد بك الدّهر البخيل وربمّا ... تدفّق «1» عذب الماء من قلب جلمد 32- فياليت قومي يعلمون بأنني ... تعجّلت «2» من نعماك أضعاف مقصدي 33- وجمّلت «3» فيك الشّعر حتى نظمته ... فما البيت إلّا مثل قصر مشيّد 34- وأخملت أرباب القريض كأنني ... أدرت على أسماعهم كأس مرقد 284/أ 35- فلا زلت مخدوم المقام مخلّدا ... ومن يكتسب هذا الثّناء «4» يخلّد 36- شكرتك حتى لم تدع لي لفظة ... وكدت بأن أشكوك في كلّ مشهد 37- لأنّك قد أوهيت «5» جهدي باللها ... وأنسيتني أهلي وكثّرت «6» حسّدي - 686- «7» وقوله: (كامل) 1- أخفي الأسى ولسان سقمي يعلن ... وأردّ ما بي والسّقام يبرهن» - 686-

2- وتظلّ تعدى الغانيات مدامعي ... فمدامعي كعهودها تتلوّن 3- بأبي التي «1» أسكنتها في خاطري ... فسرت فسار مع النّزيل «2» المسكن 4- لمياء «3» لي دين على ميعادها ... مع أنّ قلبي عندها مسترهن 5- تبدي اللآلئ منطقا وتبسّما ... فكأنّ فاها للآلئ معدن 6- ويلومني فيها خليّ ما درى ... ألشّمس «4» أم تلك المليحة أزين؟ «5» 7- يا لائمي انظر حسن تلك وهذه ... وادفع ملامك بالتي هي أحسن 8- كيف التصبّر عن سعاد وحسنها ... كالفضل في الملك المؤيّد بيّن 9- ملك على عهد المعالي ثابت ... لكنّه في فضله متقنن 10- بينا يرى بحر العلوم إذا به ... بحر النّدى فحديثه متشجن «6» 11- ظعن «7» الكرام الأولون وأقبلت ... أيامه فكأنّهم لم يظعنوا 12- لم يبق لولا جوده ومقالنا ... مال يكال ولا يقال «8» فيوزن 13- من أين للآمال مثل مقامه ... الروض «9» أفيح والغمائم هتّن «10»

14- خذ عن عواليه «1» أحاديث الوغى ... فحديثها عن راحتيه يعنعن «2» 15- شرف القتيل بسيفه فقتيله «3» ... في الجوّ ما بين الحواصل «4» يدفن 16- فتطابقت أفعاله لعفاته ... فالكيس «5» يهزل والحقائب «6» تسمن 285/ب 17- فضل يموت «7» به الحسود تحسّرا ... فكأنّه بثيابه متكفّن 18- ما ضرّ معشر «8» حاسديه لو أنهم ... فطنوا ليسر «9» الله فيه وأذعنوا 19- الله قدّر والعزائم «10» أنّهم ... يتحارفون «11» وأنّه يتسلطن «12» 20- يا ابن الملوك إذا دعاهم مقتر ... لانوا وإن دعيت نزال «13» اخشو شنوا «14» 21- نسب كصدر الرّمح إلّا أنّه ... عند المحامد ليس فيه مطعن

22- لله دهرك إنّه الدهر الذي ... سيء الكفور به وسرّ المؤمن 23- شيدت بإسماعيل «1» أركان العلا ... فإليه يلتجئ الرّجاء ويركن «2» 24- ودعا ندى ابن عليّ «3» كلّ مودّة ... حتى استوى الشّيعيّ والمتسنن 25- فليعذر المدّاح فيه فإنّهم ... بالعجز عن أدنى المدى قد أيقنوا 26- عنت «4» القرائح عن بلوغ صفاته ... وتسترت خلف الشّفاه الألسن - 677- «5» وقوله: (طويل) 1- أجبت منادي الحبّ من قبل ما دعا ... فإن شئتما لوما وإن شئتما دعا 2- لي الله قلبا صيّر الوجد شرعة ... عليه وجفنا صيّر الدّمع مشرعا «6» » 3- كنانة «8» لحظ خلّفتني من الهنا ... قصيّا وفكري للهموم مجمّعا 4- وسالف عهد بالعقيق ذكرته ... فعاد بدرّ المدمعين مرصّعا - 687-

5- يخوّفني بالسّقم لاح «1» وليت من ... عناني «2» أبقى فيّ للسّقم موضعا 6- بليت فلو رامتني العين ما رأت ... ولو أنّ فكري عارض «3» السّمع ما وعى 7- وربّ زمان كان لي فيه مالك ... حبيب سقى منه الفراق بما سعى «4» 8- (فلّما تفرّقنا كأنّي ومالكا ... لطول اجتماع لم نبت ليلة معا) «5» 286/أ 9- من الغيد لو كان الملاح قصيدة ... لكان سنا خدّيه للشّمس مطلعا 10- أدار عليّ الدّمع كأسا وطال ما ... أدار عليّ البابليّ «6» المشعشعا «7» 11- كأنّ التلاقي كان وفرا «8» تسرّعت ... أيادي ابن شاد «9» فيه حتى تضعضعا 12- إذا لم يكن في الغيث للعام نجعة «10» ... فحسبك بالملك المؤيّد منجعا 13- مليك أعاد الشّعر سوقا بدهره ... فجئت إلى أبوابه متبضعا «11» 14- فو الله «12» لولا باعث من مديحه ... لأصبح بيت الشّعر عندي بلقعا «13» 15- أتعذل أقلام المدائح إن غدت ... له سجّدا لا للأنام وركّعا

16- فدت «1» طلعة البدر المنير أبا الفدا ... وإن كان أعلى من فداها وأرفعا 17- ألم تر أنّا قد سلونا بأرضه ... مرادا لنا في أرض مصر ومربعا 18- إذا ابن تقيّ الدّين «2» جاد بنانه «3» ... علينا فلا مدّت يد النيل إصبعا 19- أما والذي أنشا «4» الغمام وكفّه ... وجاد وقد ملّ الغمام فأقلعا 20- لقد سمعت للأولين فضائل ... ولكنّ لهذا الفضل ما جاز «5» مسمعا 21- سخاء كما ترجى السّحائب «6» حفّلا «7» ... وبأس كما تنضى الصّواعق لمّعا 22- وعلم ملأنا صحفنا «8» من فنونه ... فكانت على الأيام بردا موشّعا «9» 23- وذكر له في كلّ قلب محبّة ... على ابن عليّ «10» يعذر المتشيّعا «11» 24- له الله ما أزكاه في الملك نبعة ... وأعذب من سقي «12» المكارم منبعا 25- هو الملك أغنى ماء وجهي وصانه ... فإن تقصر الأمداح لا يقصر «13» الدّعا 26- غدت كلّ عام لي إليه وفادة ... فيا حبّذا من أجل لقياه كلّ عا «14»

27- وطوّقت تطويق الحمام بجوده ... فلا عجبا «1» لي أن أحوم «2» وأسجعا 287/ب 28- قضى الله إلا أن يقوم لقاصد ... بغرض فإن لم يلق فرضا «3» تطوّعا 29- حلفت لقد ضاع الثنا عند غيره ... ضياعا وأمّا عنده فتضوّعا «4» - 688- «5» وقوله: (بسيط) 1- يا شاهر اللّحظ حبي فيك مشهور ... وكاسر «6» الطرف قلبي منك مكسور 2- أمرت لحظك أن يسطو على كبدي ... يا صدق من قال إنّ السيف مأمور 3- وجاوب الدّمع ثغرا منك متّسقا ... فبيننا الدّرّ منظوم ومنثور 4- لا تجعل اسمي للعذّال منتصبا ... فما لتعريف وجدي فيه تنكير «7» 5- ولا توال أذى قلبي لتهدمه ... فإنّه منزل بالودّ معمور 6- هل عند منظرك الشّفاف جوهرة ... إنّي إليه فقير اللّحظ مضرور «8» - 688-

7- أو عند مبسمك الغرّار «1» بارقة ... إنّي بموعد صبري فيه مغرور 8- أقسمت بالعارض المسكيّ «2» أنّ به ... للمقسمين كتاب الحسن مسطور 9- لقد تغيّر «3» عهد الحال من جسدي ... وما لحال عهودي فيك تغيير 10- حبي ومدح ابن شاه شاه «4» من قدم ... كلاهما في حديث الدّهر مأثور 11- أنشا المؤيّد ألفاظي وأنشرها ... فحبّذا منشر «5» فيها ومنشور «6» 12- ملك إذا شمت برقا من أسرّته ... علمت أنّ مراد القصد ممطور 13- مكمّل الذّات زاكي الأصل طاهره ... فعنده الفضل مسموع ومنظور 14- أقام للملك آراء معظّمة ... لشبهها في بروج اليمن «7» تسيير 15- وقام عنه لسان الجود ينشدنا ... زوروا «8» فما الظّنّ فيه كالورى زور 16- هو الذي «9» للثّنا من نحو دولته ... وللجوائز مرفوع ومجرور

288/أ 17- وللعلوم تصانيف «1» بدت فغدت ... نعم السّوار على الإسلام والسّور 18- قد أثّرت ما يسرّ الدّين أحرفها ... وللحروف كما قد قيل تأثير 19- في كفّه قلم صان الحمى فله «2» ... مال على صفحات الحمد منثور 20- وصارم في ظلام النقع «3» تحسبه ... برقا يشقّ به في الأفق ديجور 21- تفدي البريّة إن قلّوا وإن كثروا ... أبا الفداء فثمّ الفضل والخير 22- مدّت إلى مجده الأمداح واقتصرت ... فاعجب لممدود شيء وهو مقصور «4» 23- وسرّها من أب وابن قد اجتمعا ... مؤيّد يتلقّاها ومنصور «5» 24- يا مالكا أشرقت أيامه وزهت ... رياضها فتجلّى النّور والنّور 25- هنئت عيدا له منك اعتياد هنا ... فالصّبح مبتهج واللّيل مسرور 26- فطّرت فيه الورى واللّفظ متّفق «6» ... للوفد فطر وللحسّاد تفطير 27- كأنّ شكل هلال العيد في يده ... قوس على مهج الأضداد موتور «7» 28- أو مخلب مدّه نسر السماء لهم ... فكلّ طائر قلب منه مذعور

29- أو منجل لحصاد «1» القوم منعطف ... أو خنجر مرهف النّصلين «2» مطرور «3» 30- أو نعل تبر أجادت في هديّته ... إلى جوار ابن أيّوب المقادير «4» 31- أو حاجب أشمط «5» ينبي «6» بأنّ له ... عمرا له في ظلال الملك تعمير 32- أو زورق جاء فيه العيد منحدرا ... حيث الدّجى كعباب «7» البحر مسجور «8» 33- أو لا فقل شفة للكأس مائلة ... تذكّر العيش إنّ العيش مذكور 34- أو لا فقطعة قيد فكّ عن بشر ... أخنى «9» الصّيام عليه فهو مأسور 35- أو لا فنصف سوار قام يطرحه ... كفّ الدّجى حين عمّته التباشير «10» 289/ب 36- أو لا فمن رمضان النون قط سقطت ... لمّا مضى وهو من شوّال «11» محصور 37- فانعم به «12» وبأمداح مشعشعة «13» ... مديرها في صباح الفطر مبرور

38- قالت وما كذبت رؤيا محاسنها ... قبول غيري على الأملاك محظور 39- بعض الورى شاعر فاسمع مدائحه ... وبعضهم مثل ما قد قيل شعرور «1» - 679- «2» وقوله: (سريع) 1- لا تسألوا في الحبّ عن شاني ... فقد كفى تعبير أجفاني 2- هويت من طلعته روضة ... ففاضت العين بغدران - 689-

3- غصن من البان إذا ما انثنى ... أبصرت فيه ألف بستان 4- أشبهت في حبيه «1» ورق الحمى ... فكلنا نبكي على البان 5- بالرّوح أفدي وجنتي مالك ... كأنّه من حور رضوان «2» 6- فرّ عن الجنّات من تيهه ... وعذّب «3» القلب بنيران 7- ظبي إلى القان «4» له نسبة ... واحربا «5» في خدّه القاني 8- تقول لي نشطة «6» أعطافه ... ضلّ الذي بالرّمح حاكاني 9- حلوان من عطفيّ قد أينعا ... فكيف تحكيها بمرّان 10- يا فارع الفكرة من شقوتي ... يعينني من فيك أشقاني 11- لا وندى ابن الأفضل «7» المرتجى ... لا نكثت «8» بيعة أشجاني 12- ذاك الذي أنقذني جوده ... من مخلب الدّهر فأحياني 13- ولم يزل تنويه «9» تنويله «10» ... حتى حمى وجهي وأغناني 14- قالت لآمالي يداه انفذي ... لا تنفذني إلّا بسلطان

290/أ 15- أفضي لإسماعيل «1» بيت العلا ... فشاد منه أيّ أركان 16- مؤيّد تفتح «2» يوم الوغى ... في مدحه ألسن خرسان «3» 17- ذو راحة بالبذل تعبانة ... وما العلا إلّا لتعبان 18- تجني على المال وتجني الثنا ... يا حبّذا المجتنى «4» والجاني 19- كيف على كفيه يظما لرّجا «5» ... ما بين سيحان «6» وجيحان «7» 20- أكرم به في الدّهر من واحد «8» ... لم يختلف في فضله اثنان 21- يلقاك من علياه أو علمه ... بملء أبصار وأذهان

22- باسط «1» كفّيه لطلابه ... فهو الورى وهي البسيطان «2» 23- له إذا حاولت نهب اللها ... خزائن ليست بخزّان 24- للجود في أمثالها «3» مثل ما ... في قصتي عبس وذبيان 25- أصبحت من غلمان أبوابه ... والسّعد من جملة غلماني «4» 26- أطوي على محض «5» الولا مهجتي ... وأنشر المدح بتبيان 27- فكلّ أبياتي في مدحه «6» ... أبيات سلمان «7» وحسّان «8» 28- يا ربّ هبه عمر نوح «9» فقد ... جاء من الجود بطوفان «10»

- 690- «1» وقوله: 1- ما ضرّ من لم يجد في الحبّ تعذيبي ... لو كان يرفع عنّي هم «2» تأنيبي 2- أشكو إلى الله عذّالا أكابدهم ... وما يزيدون قلبي غير تشبيب 3- وخاطرا غنت «3» الأشواق تعجبه ... سوالف التّرك في عطف الأعاريب 4- كأنني لوجوه «4» الترك معتكف «5» ... ما بين أصداغ شعر كالمحاريب «6» 291/ب 5- لا يقرب الصّبر قلبي أو يفارقه ... كأنّه المال في كفّ ابن أيّوب «7» 6- لولا ابن أيّوب ما سرنا لمغترب ... في المكرمات ولا فزنا بمرغوب 7- دعا المؤيّد بالترغيب قاصده ... فلو تأخّر استدعى «8» بترهيب - 690-

8- ملك إذا مرّ يوم لا عفاة به ... فليس ذلك من ملك بمحسوب «1» 9- للجود والعلم أقلام براحته ... تجري المقاصد منها تحت مكتوب 10- مجموعة فيه «2» أخبار الأولى سلفوا «3» ... كما تترجم أخبار بتبويب «4» 11- إذا تسابق للعلياء ذو خطر «5» ... معى فأدرك تبعيدا بتغريب 12- وإن أمال إلى الهيجاء صدر قنا «6» ... أجرى دماء الأعادي بالأنابيب 13- قد أقسم الجود لا ينفكّ عن يده ... إمّا لعا فيه أو للنسر والذّيب 14- أمّا حماه فقد أضحى «7» بدولته ... ملاذ كلّ قصيّ الدّار محروب «8» 15- غريبة الباب تقري «9» من ألمّ بها ... فخلّ بغداد «10» وانزل بابها النّوبي «11» 16- وانعم بوعد الأماني عند رؤيته ... فإنّ ذلك وعد غير مكذوب 17- وا عجب لأنمل جود قطّ «12» ما سئمت ... إنّ البحار لآباء الأعاجيب 18- كلّ العفاة عبيد في صنائعه ... ودار كلّ عدوّ دار ملحوب «13»

19- يا مانحي مننا من بعدها منن ... كالماء يتبع «1» مسكوبا بمسكوب 20- من كان يلزم ممدوحا على غرر «2» ... فما لزمتك إلا بعد تجريب 21- أنت الذي نبّهت فكري مدائحه ... ودرّبتني والأشيا بتدريب «3» 22- حتى أقمت قرير العين في دعة «4» ... وذكر مدحك في الآفاق يسرى «5» بي 23- مدح تغار «6» لمسود المداد به ... (حمر الحلى والمطايا والجلابيب) 292/أ 24- ألفاظه عن شرا «7» كافور «8» غالية ... لما تضمّن في الألفاظ من طيب - 691- «9» وقوله: (خفيف) 1- يوم صحو فاجعله لي يوم سكر ... وأدر لي كأسي رضاب وحمر 2- واسقني في منازلي مثل خلقي ... بيدي هاجري «10» يغنّي بشعري - 691-

3- حبّذا روضة وظلّ ونهر ... كعذار على لمى فوق ثغر «1» 4- ومليح يقول حسن حلاه ... اعملوا ما أردتم أهل بدر 5- جفن عينيه فاتر مستحيّ «2» ... إنّما خدّه المشعشع جمري 6- وغرامي العذريّ ذنب لديه ... وعجيب يكون ذنبي عذري «3» 7- هاتها من يديه «4» عذراء تجلى ... لنداماي في قلائد درّ 8- ليت شعري وللسرور «5» انتهاء ... أيّ شيء يعوقنا ليت شعري 9- زمن الأنس قائم بالتهاني ... ونوال الملك المؤيّد يسري 10- ملك باهر المكارم يروي ... وجه لقياه عن عطاء بن بشر «6» 11- زرت أبوابه فقرّب شخصي ... ومحا «7» عبرتي ونوّه ذكري 12- ونحا لي من المكارم نحوا ... صانني عن لقاء زيد وعمرو «8» 13- وتفنّنت في مفاوضة «9» الشّ ... كر إلى أن أعيى «10» التطوّل «11» شكري 14- أريحيّ «12» من الملوك أريب ... فائض البحر ذو عجائب كثر

15- ربّ خلق أرقّ من أدمع الخن ... سا «1» وقلب يوم الوغى مثل صخر «2» 16- يقسم الدّهر من سطاه بليل ... ومن المنظر البهيّ بفجر 17- كلّ أيامنا مواسم فضل ... في ذرا «3» بابه وأعياد فطر 293/ب 18- فإذا لاح وجهه في ذوي القص ... د بعيد فاضت يداه بعشر 19- سمّه في الضمير إن ذقت «4» عسرا ... وعليّ الضّمان إنك تثري «5» 20- والقه للعلوم أو للعطايا ... تلق ملكا يقري «6» الضيوف ويقري 21- طوت العسر ثمّ فاضت «7» لهاه «8» ... فنعمنا بذات طيّ ونشر 22- يا مليك النّوال والعلم لازل ... ت سريّ «9» الثناء في كلّ قطر

23- حمّلتك العلا شؤونا فألفت «1» ... آل أيّوب دائما آل صبر - 692- «2» وقوله: (طويل) 1- إذا ظفرت يوما بقربكم المنى ... فلست أبالي من ترحّل أودنا «3» 2- ولعت بعشقي فيكم فتأكّدت «4» ... قضاياه فاستولى فأصبح ديدنا 3- أحبابنا إن عفتم السفح منزلا ... وأخليتم من جانب الجزع «5» موطنا 4- فقد حزتم دمعي عقيقا ومهجتي ... غضى وسكنتم من ضلوعي «6» منحنى «7» 5- وأرسلتم ضيف الخيال «8» لمقلة ... إذا ما أتاها استصحب السهد ضيفنا 6- وكم فيكم يوم الوداع لشقوتي ... هلال سما غصن زها رشأ رنا 7- إذا شمت تحت الحاجبين جفونه ... أرى السّحر منها قاب قوسين «9» قد دنا - 692-

8- أما والذي لو شاء قصّر بينهم ... فلم يبعث «1» الطّيف المردّد بيننا 9- لقد خلقت للعشق فيكم جوانحي ... كما خلق الملك المؤيّد للثنا 10- مليك له في العلم والجود همّة ... ترى المال في الإقتار «2» والعيش في العنا «3» 11- بنى رتبا قد أعرب المدح ذكرها ... فيا عجبا من معرب كيف يبتنى 12- وأولى النّدى حتى اقتنى الحمد مخلصا ... فأكرم بما أولى وأعظم بما اقتنى 294/أ 13- وجلّى ثغور «4» الدّين من قلح العدى ... ولم لا وقد جرّ الأراك من القنا 14- يكاد يعدّ النبل في حومة «5» الوغى ... أقاحا وأطراف الأسنّة سوسنا 15- أخو فعلات تردع «6» الخطب «7» بائنا ... إلى كلمات تنفث «8» السّحر بيّنا «9» 16- لئن أجريت «10» ذكري المعادن إنّني ... أرى أرضه للعلم والجود معدنا 17- خليليّ هل هذا حماة «11» محلّه ... فعوجا على الأرض التي تنبت الهنا 18- فلا جلّق «12» بالسهم تمنع قاصدا ... ولا حلب الشّهباء تلبس جوشنا

19- غننت «1» بجدواه فأطربني الغنى «2» ... ولا عجبا «3» أن يطرب المرء بالغنا 20- ولا عيب فيه غير أني قصدته ... فأنستني الأيام أهلا وموطنا 21- تعلّمت أنواع الكلام برفده ... فأصبحت أعلى الناس شعرا وأحسنا 22- إذا قيل من ربّ المكارم «4» في الوغى ... أقل «5» هو أو ربّ القريض أقل أنا - 693- «6» وقوله: (مجزوء الرجز) 1- هنّ الوجوه الناضره ... عيني إليها ناظره 2- آها لها عينا على ... تلك الأزاهر «7» ماطره 3- رقب الوشاة جفونها ... فإذا هم بالسّاهره 4- من لي بغزلان على ... سفح المحصّب «8» نافره - 693-

5- ومعاطف «1» مثل الغصو ... ن سبت حشاي الطائره 6- يا صاح علّل مهجتي ... بسنا الكؤوس الدّائره 7- واحرق بلمع «2» شعاعها ... هذى اللّيالي الكافره 8- وانظر لساعات النها ... ر بجنح ليل سائره 9- من كفّ مهضوم الحشا ... مثل المهاة الخادره «3» 10- رامي النواظر والقلو ... ب بهاجر «4» وبهاجره 11- ذي مقلة تلقى الضّرا ... غم بالجفون الكاسره 295/ب 12- تردي «5» وأنت تحبها ... وكذا تكون السّاحره 13- أحيت وأردت بالفتو ... ر وباللّحاظ الشّاطره «6» 14- كيد المؤيّد باليرا ... ع وبالسيوف البانزه 15- ذات الحروف مجيرة ... وشبا الأسنّة «7» جائره 16- أكرم بصنع يد لها ... هذي الأيادي الفاخره 17- محمرّة الآفاق في ... يوم الوغى «8» والنائره «9»

18- فشعاع تبر صاعد ... ودماء قوم مائره «1» 19- وتبسّم مع ذا وذا ... يرع «2» الخطوب الكاشره 20- وتفنّن في العلم يق ... دح «3» بين ذاك خواطره 21- عن كفّه أو صدره ... تروي البحار الزّاخره 22- لا يهمل «4» الدّنيا ولا ... ينسى حقوق الآخره 23- يا أيّها الملك الذي ... ردّ الحقائب شاكره 24- وسما بهمّته على ... غرر النجوم الزّاهره 25- حتى انتقى من زهرها ... هذي الخلال الباهره 26- سقيا «5» لدهرك إنه ... دهر الأيادي الوافره 27- مترادف «6» لذوي الرّجا ... بهباته المتواتره «7» 28- لولاك ما أمست قري ... حتي الكليلة «8» شاعره 29- أنت الذي روّت غما ... ئمه رباي العاطره 30- وأبحتني بحر النّدى ... حتّى نظمت «9» جواهره 31- لا غرو إن سلّيت عن ... بلدي حشاي الذّاكره

32- فلقد وجدت ديار مل ... كك «1» بالسّعادة عامره 33- قهرت حماة «2» لي العدى ... فحماة عندي القاهره - 694- «3» وقوله: (بسيط) 1- عوّض بكأسي ما أتلفت من نشبي «4» ... فالكأس من فضّة والرّاح من ذهب 2- واخطب إلى الشّرب أمّ الدّهر «5» إن نسبت ... أخت المسرّة «6» واللهو انية العنب «7» - 694-

3- عذراء تنجز ميعاد «1» السّرور فما ... تومي «2» إليك بكفّ غير مختضب 4- مصونة تجعل الأستار «3» ظاهرة ... وجنّة تتلقّى العين باللهب 5- خفّت فلو لم تدرها «4» كفّ حاملها ... دارت بلا حامل في مجلس الطّرب 6- يا حبّذا الرّاح للأفواه سائرة ... تفضي «5» بسعد سراها أنجم الحبب «6» 7- علقته من بني الأتراك مقتربا ... من خاطري وهو منّي غير مقترب 296/أ 8- حمّالة الحلي والدّيباج «7» قامته ... تبّت «8» غصون الرّبا حمّالة الحطب 9- يا تالي «9» العذل كتبا في لواحظه ... (السّيف أصدق أنباء من الكتب) 10- جادت جفوني بمحمرّ الدّموع له ... جود المؤيّد للعافين بالذّهب 11- ملك تدلّك في العليا شمائله «10» ... على شمائل آباء له نجب «11»

12- محجّب العزّ عن خلق يحاوله «1» ... وجود كفّيه باد غير محتجب 13- قد أتعب السّيف من طول القراع به ... فالسّيف في راحة منه وفي تعب 14- هذا «2» وللحلم معنى من خلائقه ... لا تستطيل إليها فطنة «3» الغضب 15- يفضى عن السبب المردى «4» بصاحبه ... عفوا ويعطي العطا جمّا «5» بلا سبب 16- ويحفظ الدّين بالعلم الذي اتّضحت ... ألفاظه فيه حفظ الأفق بالشّهب 17- ذاك الكريم الذي لو لم يجد لكفت ... مدائح فيه عند الله كالقرب «6» 18- نوع من الصّدق مرفوع المنار غدا ... في الصّالحات من الأعمال والكتب «7» 19- وواهب لو غفلنا عن تطلّبه ... لجاءنا جوده الفيّاض «8» في الطّلب 20- أسدى الرّغائب «9» حتى ما يشاركه ... في لفظها غير هذا الشّهر من رجب «10» «11» 21- واعتاد أن يهب الآلاف عاجلة ... فإن سرى «12» لألوف الحرب لم يهب 22- كم غارة عن حمى الإسلام كفكفها «13» ... بالضّرب والطّعن «14» أو بالرّعب والرّهب «15» 23- وغاية جاز في آفاقها صعدا «16» ... كأنّما هو للإسراع في صبب

24- يا ابن الملوك الأولى لولا مهابتهم ... وجودهم لم يطع دهر ولم يطب «1» 25- الجائدين «2» بما نالت عزائمهم ... والطّاعنين الأعادي بالقنا السّلب «3» 26- والشّائدين «4» على كيوان بيت علا ... تغيب زهر الدّراري وهو لم يغب 497/ب 27- بيت من الفخر شادوه على عمد ... وبالمجرّة مدّوه على طنب «5» 28- لله أنت فما تصغي إلى عذل ... يوم النّوال ولا تلوي «6» على نشب 29- أنشأت للشّعر أسبابا يقال بها ... وهل تنظّم أشعار بلا سبب 30- فلا برحت برئ الفضل من دنس ... والعيش من رونق «7» والمجد من ريب «8»

31- أنت الذي أنقذتني من يدي زمني ... يداه من غير إشرافي «1» على العطب «2» 32- فإن يكن بعض أمداح الورى كذبا ... فإنّ مدحك تكفير «3» من الكذب - 695- «4» وقوله: (سريع) 1- مبلبل «5» الأصداغ والطّره ... ومرسل اللّحظ على فتره 2- أرخى على أعطافه شعرة ... قد جذبتني فيه للحسره 3- فاعجب لمن جار عليه الضّنى ... حتى غدت «6» تجذبه شعره 4- واحربا من رشأ خاذل ... مالي على عشقته نصره «7» 5- مهفهف تعرف من «8» جفنه ... علامة التأنيث بالكسره 6- ذو طلعة تعلو على المشترى ... وغرّة تزهو «9» على الزّهره - 695-

7- ومقلة دعجاء «1» ضاقت فما» تشبع من يقنع بالنّظره 8- عشقته حلوا على مثله ... يطاع في الغيّ أبو مرّه «3» 9- لولا دجى طرّته لم أبت ... سهران لا أجر «4» ولا أجره «5» 10- يبدو كتاب الحسن في وجهه ... فأقرأ العشق من الطّرّه 11- يا ابن أمير الحرب يوم الوغى «6» ... كم لك في العشّاق من إمره «7» 12- إليك يشكو المرء أشجانه ... ولا بن شاد «8» يشتكي دهره 298/أ 13- الملك العالم والضّيغم ال ... باسل والمنفرد «9» القدره 14- ربّ العطايا عن غنى قاصر ... والحلم كلّ الحلم عن قدره 15- سبحان من صوّره خالصا ... ما شيب «10» من أخلاقه ذرّه 16- من آل مروان ويمناه في ... حبّ العطايا من بني عذره «11»

17- حروفا تعطف يسر الفتى ... فهي حروف العطف لليسره 18- وسيفها ممتزج بالدّما ... مزح بياض الخدّ بالحمره 19- إذا مضى في الدّرع إفرنده ... عجبت للمرّيخ «1» في النّثره «2» 20- أكرم بإسماعيل «3» من سائد ... أركان بيت الملك عن خبره 21- ذي السّلم لا تعبا له ديمة ... والحرب لا تصلى «4» له جمره 22- معطي جواد الخيل للمقتفي ... وخلفه الصّرّة «5» كالمهره 23- دع حاتما «6» يفخر في قومه ... بنحره البكرة «7» لا البدره «8»

24- هذا الذي يروي حديث الثنا ... من شخصه «1» الباهر «2» عن قرّه «3» 25- للخلق والخلق على وجهه ... نوران ردّا نظر الإمره «4» 26- إن كان ذو النورين «5» فضلا فكم ... جهّز من جيش ذوي العسره 27- يا ملكا يلقى المنى والعدى ... بضعف ما ترضى وما تكره 28- وقّرتني عن أهل دهري «6» فلا ... والله ما لي فيهم فكره

29- إلى أياديك انتهى مطلبي ... فيالها فيحاء «1» مخضرّه 30- كذا مدى الأيام في نعمة ... باسمة الأحوال «2» مفترّه 31- في كلّ وجه قد تيممته ... سعادة واضحة الغرّه - 696- «3» وقوله: (كامل) 1- صيّرت نومي مثل عطفك نافرا ... وتركت عزمي مثل جفنك فاترا 2- وسكنت قلبا طار فيك مسرّة ... أرأيت وكرا «4» قطّ أصبح طائرا 3- يا مخربا «5» ربع السّلوّ جعلتني ... أدعو بأنساب الصّبابة عامرا «6» 4- ويطيع قلبي حكم لحظك في الهوى ... يا للكليم «7» غدا يطيع السّاحرا - 696-

5- رفقا بقلب في الصّبابة والأسى ... صيّرته مثلا فأصبح سائرا «1» 6- ومسهّد يشكو العثار «2» دموعه ... بما سلكن على هواك محاجرا «3» 7- ما بال مقلتك الضّعيفة لم تزل ... وسنى «4» وطرفي ليس يبرح ساهرا 8- خلقت بلا شكّ لإجلاب الأسى «5» ... ويد المؤيّد للنّوال بلا مرا 9- من مبلغ الملك المؤيّد أنّني ... لولاه ما سمّيت نفسي شاعرا 10- ملك ابن أيّوب الثناء بنائل ... أضحى على حمل المغائر صايرا «6» 11- وتملكته سماحة وحماسة ... جعلا له في كلّ ناد ذاكرا 12- فإذا سخا «7» ملأ الدّيار عوارفا «8» ... وإذا غزا ملأ القفار عساكرا

13- وإذا سطا جعل الحديد قلائدا ... وإذا عفا قلب الحديد جواهرا «1» 14- بينا الأسير لديه راكب أدهم «2» ... حتى غدا بالعفو أدهم ضامرا 15- تمحو ظلام اللّيل بيض سيوفه ... مذ قيل إنّ اللّيل يسمى كافرا 16- ويتابع «3» المنن التي ما عيبها ... إلّا رجوع الوصف عنها قاصرا 17- يا ابن الملوك المالئين فجاجها «4» ... مدحا منظّمة الحلى «5» ومآثرا 18- من كلّ ذي عرض يصفّى جوهرا «6» ... فاعجب لأغراض تكون جواهرا 300/أ 19- شكرا لشخصك ما أبرّ ممدّحا ... وأعزّ منتصرا وأحكم قادرا «7» 20- حمّلتني النّعمى إلى أن لم أبن ... من نقلهنّ أشاكيا «8» أم شاكرا 21- ونعم شكرت مواهبا لك حلوة ... حتى شققت «9» من العداة مرائرا 22- لا غرو أن عمر البيوت معانيا ... عاف عمرت له البيوت ذخائرا

- 697- «1» وقوله: (بسيط) 1- أودت فعالك يا أسما «2» بأحشائي ... وا حيرتي بين أفعال وأسماء 2- إن كان قلبك صخرا «3» عن قساوته ... فإنّ طرف المعنّى «4» طرف خنساء 3- ويح المعنّى الذي أضرمت «5» خاطره ... ماذا يكابد من أهوال أهواء 4- قامت قيامة قلبي في هواك فإن ... أسكت فقد شهدت في السّقم «6» أعضائي 5- يا صاحبيّ أقلّا من ملامكما ... ولا تزيدا بتكرار الأسى دائي «7» 6- هذي الرّياض عن الأزهار باسمة ... كما تبسّم عجبا ثغر لمياء 7- والأرض ناطقة عن صنع بارئها ... إلى الورى وعجيب نطق خرساء 8- فما يصدّكما والحال «8» داعية ... عن شرب فاقعة «9» للهمّ صفراء - 697-

9- راحا غريت «1» بزيّاها ومشربها ... حتى انتصبت إليها نصب «2» إغراء 10- من الكميت «3» التي تجري بصاحبها ... جري الرّهان إلى غايات سرّاء 11- من كفّ أغيد يحسوها «4» مقهقهة «5» ... كما تأوّد غصن تحت ورقاء 12- حسبي من الله غفر للذنوب ومن ... نعمى المؤيّد «6» تجديد لنعمائي 13- ملك يقيّد بالإحسان «7» وفد رجا ... وبالظّبا والعوالي وفد هيجاء 301/ب 14- ذا بالنّضار وهذا بالحديد فما ... ينفكّ آسر أحباب وأعداء 15- داع لجود يد بيضاء ما برحت ... تقضي على كلّ صفراء «8» وبيضاء 16- يدافع النّكبات الموعدات لنا ... حتى الرّياح فما تسري بنكباء 17- ويوقد الله نورا من سعادته ... فكيف تطمع «9» حسّاد بإطفاء 18- لو جاورت آل ذبيان «10» حماه لما ... ذمّوا العواقب من حالات غبراء

19- ولو حمى حمل الأبراج «1» دع حملا ... يوم الهباءة «2» لم يقصد بدهياء 20- ولو رجا المشتري إدراك غايته ... لدافعته عصا في كفّ جوزاء 21- ما زال يرفع إسماعيل «3» بيت على ... حتى استوت غايتا نسل وآباء 22- مصرّف الفكر في حبّ العلوم فما ... يشقى «4» بسعدى ولا يروى بظمياء 23- له بدائع لفظ صادفت كرما ... كأنّهن نجوم ذات أنواء 24- وأنمل في الوغى والسّلم كاتبة ... إمّا بأسمر نضو «5» أو بسمراء «6» 25- تكلّفت كلّ عام سحب راحته ... عن البريّة إشباعي وإروائي 26- فما أبالي إذا استكثرت عائلة ... وقد كفى همّ إصباحي وإمسائي 27- نظمت ديوان شعر فيه واتخذت ... عليّ كتّابه ديوان إعطاء «7»

28- وعاد قول البرايا عند دولته «1» ... أشهى وأشهر ألقابي وأسمائي 29- محرّر اللّفظ لكن غرّ أنعمه ... قد صيّرتني من بعض الأرقّاء «2» 30- أعطى الزّكاة وقدما كنت آخذها ... يا قرب ما بين إقتارى وإثرائي 31- شكرا لوجناء «3» سارت بي إلى ملك ... لولاه لم يطو نظمي سمعة الطائي «4» 32- عال عن الوصف إلا أنّ أنعمه ... لأجل قلبي «5» تلقاني بإصغاء 302/أ 33- يا جابر القلب خذها مدحة سلمت ... فبيت حاسدها أولى بإقواء «6» 34- مشت على مستحب الهمز مصمية «7» ... نبالها كلّ همّاز ومشّاء 35- بيوت نظم هي الجنّات معجبة ... كأنّ في كلّ بيت وجه حوراء - 698- «8» وقوله: (مجزوء الرمل) 1- لا وخمر بابليّه ... في ثنايا «9» لؤلؤيّه - 698-

2- لا رقا «1» سفح «2» دموعي ... في هوى تلك الثّنيّه «3» 3- ربع سلواني خراب ... وشجوني عامريّه 4- حربي من ذات حسن ... باسم تبكي البريّه 5- غادة يروي لماها ... عن صحاح جوهريّه «4» 6- من بيوت الترك ترمي ... عن قسي «5» حاجبيّه 7- رحّلتني عن سلويّ ... بلغات فارسيّه 8- لست أرضى يا عذولي ... في هواها بالتّقيّه «6» 9- ولقد أبذل روحي ... في معانيها السّنيّه 10- لم أخف في عبلة السا ... ق وغاها «7» العنتريّه «8» «9»

11- لا ولا أخشى من الدّن ... يا عواديها الجريّه «1» 12- حجبتني يد اسما ... عيل «2» من كلّ بليّه «3» 13- ملك أغنى بجدوا ... هـ «4» عن السّحب المليّه «5» 14- حاتميّ «6» الكفّ يثني ... من أذى الدّهر عديّه «7» 15- معرق الآباء باهي «8» الشّ ... خص وضاح السّجيّه 16- قد رعى الله ببقيا ... ملكه هذي الرّعيّه 17- حبّذا بحر بكفّي ... هـ الأماني والمنيّه 18- ذو حسام يكشف الخط ... ب برؤياه المضيّه 19- عادل يقسم من نا ... زله «9» قسم السّويّه 20- شرّف الأسياف حتى ... سميّت بالمشرفيّه 21- ويراع ناحل الج ... سم له نفس قويّه

22- ساهر في ظلم الح ... بر «1» لتأمين البريّه 23- جامع في الجود والع ... لم صفات كوكبيّه 24- هكذا تبنى المعالي ... بمزايا هندسيّه 25- يا مليكا خصّه اللّ ... هـ بأوصاف سنيّه 26- لك عندي صدقات ... وإفادات خفيّه «2» 27- تقتضي المدح وإن كا ... نت عن المدح غنيّه 28- فابق مخدوم السّجايا ... بسجايا عنبريّه 303/ب 29- واصل الملك بأسبا ... ب السّعود الأبديّه - 699- «3» وقوله: (خفيف) 1- والذي زاد مقلتيك اقتدارا ... ما أظنّ الوشاة إلّا غيارى «4» 2- بهم مثل ما بنا من جفون ... ساجيات «5» تهتّك الأستارا - 699-

3- كلّما جال طرفها ترك الخل ... ق «1» سكارى وما هم بسكارى 4- يا غزالا رنا وغصنا تثنّى ... وهلالا سما وصبحا أنارا «2» 5- كان دمعي على هواك لجينا ... فأحالته نار قلبي نضارا 6- حلية لا أعيرها لمحبّ ... شغل الحليّ أهله أن يعارا 7- ما لقلبي الكليم «3» ضلّ وقد آ ... نس من جانب السّوالف نارا 8- لك جيد ومقلة تركا الظاهر ... بي لفرط الحياء يأوي القفارا 9- وثنايا أخذن في ريقها الخم ... ر وأعطين للقلوب الخمارا «4» 10- عاطرات الشّميم «5» تحسب فيه ... نّ شذا «6» من ثنا ابن شاد «7» معارا 11- المليك المؤيّد اللازم السؤ ... دد إن حلّ «8» أو سار سارا 12- والجواد الذي حبا المال حتى ... كاد يحبو الأعمال والأعمارا 13- أعدل المالكين حكما فما يظ ... لم «9» إلّا العداة والدّينارا 14- فاح ذكرا وفاض في الخلق برّا «10» ... فحمدنا الرّياض والأزهارا

15- ليس فيه عيب سوى أنّ إحسا ... ن يديه تستعبد «1» الأحرارا 16- لم يزل جوده يجور على الما ... ل إلى أن كسا «2» النّضار اصفرارا 17- البدار البدار نحو نداه «3» ... فإذا صال فالفرار الفرارا 304/أ 18- مثل ماء السّماء خلفا وخلقا «4» ... وابن ماء السّما «5» على واقتدارا 19- كلّما استغفر «6» الرّجا من سواه ... أرسلت كفّه النّدى مدرارا «7» 20- وإذا شبّت الوغى فكأنّ السّ ... يف من بأسه استعار استعارا «8» 21- ذو حسام مدرّب لم يدع في ... جانب الشّام للعدى ديّارا «9» 22- أعجل الكافرين بالفتك عن أن ... يلدوا فيه فاجرا كفّارا 23- يا مليكا أحيى الثنا والعطايا ... فجلبنا لسوقه «10» الأشعارا 24- وتلقى بضائع القصد والحم ... د فجئنا إلى حماه «11» تجارا

25- أسأل الله أن يزيدك فضلا ... وسموّا على الورى وفخارا 26- صنتني من أذى «1» الزّمان وقد حا ... ول حربي واستكبر «2» استكبارا 27- وانبرى «3» غيثك الهتون بجدوى ... علّمتني مدائحا لا تبارى 28- ما مددنا لك اليمين ابتغاء ... للعطايا إلّا شكرنا اليسارا - 700- «4» وقوله: (بسيط) 1- في مرشفيه «5» سلاف الرّاح من عصره ... وبعطفيه قوام البان من هصره 2- وفي ابتسام ثناياه ومنطقه ... من نظّم الدّرّ أسلاكا ومن نثره 3- ظبي قضى كلّ زيد في محبته ... وما قضى من ليالي وصله وطره 4- مطابق الوصف في مرأى ومختبر ... فالخدّ سهل وأبواب الرّضا عسره «6» 5- إذا انثنى سمّيت أعطافه «7» غصنا ... عليه من كلّ حسن باهر زهره 6- ذاك الذي خجلت أجفان مقلته ... من القلوب وراحت «8» وهي منكسره - 700-

7- بينا يرى جنّة في العين مونقة «1» ... حتى يرى جذوة في القلب مستعره 305/ب 8- كيف الخلاص لمطويّ على شجن ... وقد تمالت عليه أعين سحره «2» 9- تغزو لواحظها في المسلمين كما ... تغزو سيوف عماد الدين «3» في الكفره 10- ملك إذا نظرت عين «4» الحياء له ... لم يدفع الجود رؤياها إذا نظره 11- مؤيّد النعت والأفكار «5» ذو شيم ... لباسه لبرود الحمد معتجره «6» 12- يضيء حسنا وتبدي كفّه «7» كرما ... فما ترى بدره حتى ترى بدره 13- إذا تأمّلت بشرا منه مقتبلا ... عرفت من مبتداه في النّدى خبره 14- لو أنّ للغيث جزءا من مكارمه ... لم يهمل الغيث في سقيا الثّرى «8» مدره «9» 15- لا عيب فيه أدام الله دولته ... إلّا عزائم مجد عندهنّ شره «10» 16- وفكرة في العلى «11» والعلم دائبة ... ليست على أمد في الفضل مقتصره 17- طالت إلى الأفق فاستنقت «12» دراريه ... وغاصت البحر حتى استخرجت درره

18- آها لها فكرة «1» حدّت بمعرفة ... تحديد ربّ من الألفاظ بالنكره 19- وهمّة في سماء العزّ واضحة ... كأنّما الشّمس من نيرانها شرره 20- تباشر الحرب هولا وهي سافرة ... وتمنح المال جودا وهي محتقره 21- يا حبّذا منه في عين الثّنا رجل ... شاف إذا النّاس في عين الثناء مره «2» 22- أبهى وأبهر ما يلقاك منظره ... إذا نظرت على وجه الوغى قتره «3» 23- والبيض «4» محنية الأضلاع من قرم «5» ... على الطّلا وقدود السّمر «6» منتظره 24- والطّرف قد نبتت بالنّبل جلدته ... كأنّه بين أنهار الدّما شجره 25- مناقب ما تولّى الخبر أحرفها ... إلّا حسبت على عطف العلى خبره 26- أقول للمدح اللّاتي أنظّمها ... ردّي حماه على اسم الله مبتدره 306/أ 27- ما يخذل الله أوصافا ولا كلما ... بين المؤيّد والمنصور «7» منتصره 28- أضحى المؤيّد والأملاك «8» واسطة ... بين الأصول وبين النّسل مفتخره 29- ذاك الذي سيّرت «9» رؤيا محاسنه ... ذنب الزّمان فما يشكو امرؤ ضرره

30- مهما أراه رفيع الذّكر ممتدحا ... فكلّ سيئة للدّهر مغتفره 31- يا ابن الملوك قضوا أوقات ملكهم ... سديدة وتقضّوا «1» سادة برره 32- كم سفرة لي إلى مغناك فائزة ... أغفت لهاك يدي فيها عن السّفره «2» 33- ومدحة لي قد أيمنت طائرها ... حيث المدائح في أرض الغنى طيره «3» 34- فعش ودم لبني الآمال ذا رتب ... عليّة ويد في الفضل مقتدره 35- يا ربّ أفنان «4» مدح فيك قد سطرت ... فأصبح الجود في أوراقها ثمره - 701- «5» وقوله: (طويل) - 701-

1- حلفت بما يملا النّديم «1» وما يملي ... لقد صان ذاك الحسن سمعي عن العذل 2- إذا كان كلّ الناس مشتغلا به ... فمن عاذلي فيه إذا كان من شغلي «2» 3- بروحي فتّان اللّواحظ طالب ... كرى مقلتي يوم النّدى «3» زدته عقلي 4- من المغل «4» أشكو نحوه ألم الهوى «5» ... وطبّ الهوى عندي كما قيل بالمغلي 5- أعيذ سناه والعذار وريقه ... بما قد أتى في النّون والنّمل والنّحل «6» 6- وأصبو إلى السّحر الذي في جفونه ... وإن كنت أدري أنّه جالب قتلي .

7- وأملأ أوصال الدّروج رسائلا ... فيبخل عنّي بالجواب من الوصل «1» 8- ويعجبني رمل المنجّم «2» باسمه ... وما ذاك إلّا حبّ من حلّ في الرّمل 9- يعلّلني مسرى الرّياح وطالما ... تعلّلت العشّاق بالرّيح من قبلي 307/ب 10- إذا سحبت جدوى «3» المؤيّد ذيلها ... تغطّي فخار الفضل في ذلك الفضل 11- مليك إذا رمنا مديح جلاله ... فأقلامنا تجري وأوصافه تملي 13- مجدّد أيام المدائح والنّدى ... وأدفع «4» أيام الشكاية «5» والأزل «6» 14- وباعثها للحرب جردا «7» سوابحا «8» ... كأنّ دم الأعداء «9» من تحتها يغلي 15- إذا حفيت فوق الجسوم تعوّضت ... بكلّ جبين كالهلال عن النّعل 16- إذا ما دعته الحرب يا قاتل العدى ... بدا فدعاه الجود يا قاتل المحل «10»

17- يقدّم في أهل العلا شرف اسمه ... كما قدّم الاسم النحاة على الفعل 18- وتخدمه حتى النجوم محبّة ... ومن أجل ذا تعزى النجوم «1» إلى عقل 19- هو المرتقي فوق السّها بعزائم ... درت كيف ترقى للفخار وتستعلي 20- تفرّد لولا ناصر الدّين «2» بالعلا ... فيا حبّذا أنس الغضنفر بالشبل 21- هو النجل «3» يروي عن أبيه شمائلا ... وعن جدّه «4» والسابقين من الأهل 22- حوى الدّهر من مرآه «5» أشرف «6» نسخة ... فقابلها يوم المفاخر بالأصل 23- كأنك يا ظلّ العفاة بشخصه ... تسابقك العليا مسابقة الظّلّ «7»

24- مشيلك «1» في يومي وغىّ ومكارم ... فقد «2» قمت أياما كثيرا بلا مثل 25- وملتقيا منّي مدائح عدّدت ... فرائدها «3» ليقا مقامك من قبل 26- أصوغ له منها فألحق نسله ... فأجمع بين الأب «4» والجدّ والنجل 27- فديتك ملكا في نداه وبشره ... غمام لمستجد وضوء لمستجلي «5» 28- تخيّرته دون الأنام ولذّ لي ... به بدل البعض الجميل من الكلّ 308/أ 29- وأنزلت آمالي لديه وإنّه ... لأكرم من آل المهلّب «6» في محل «7» 30- تفصّح لفظي مجزلات هباته ... فيحسن مدحي للجزيلة «8» بالجزل «9» «10»

31- سقى الله أيام المؤيّد بالهنا ... إذا ما سقى الأيام بالطّلّ والوبل 32- لقد أمّنتنا من أذى كلّ حادث ... وقد فرّغتنا للتنعّم والدّلّ «1» 33- فلا جائر فينا سوى ساق غادة ... ولا ظالم إلّا من الأعين النّجل - 702- «2» وقوله: (كامل) 1- تحلو «3» الثّغور بذكرك المتردّد ... حتى أهمّ بلثم ثغر مفنّدي 2- وأراك تتهمني «4» بصبر لم يكن ... يا متهمي هلّا وصالك منجدي 3- آها لمقلتك الكحيلة إنّها ... نهبت سويدا «5» كلّ قلب مكمد «6» 4- تلك التي في السّكر «7» فيها حانة ... قالت لحسنك في الخلائق عربد 5- دعجاء ساحرة لأنّ لحاظها ... تفري «8» جوانحنا بسيف فعمد 6- حظّي من الدّنيا هواي بجفنها ... يا شقوتي منها بحظّ أسود 7- عجبي «9» لوجهك وهو أبهى كوكب ... كم ذا يحار عليه عقل المهتدي - 702-

8- ولخدّك القاضي بمنع زكاته ... عنّي وقد أثرت يداه بسجد «1» 9- من لي بيوم من وصالك ممكن ... ولو أنّه يوم الحمام بلا غد 10- رفقا بناظري القريح فقد جرى ... ما قد كفى من عبرة «2» وتسهّد 11- وحشاشة «3» لم يبق فيها للأسى ... والهمّ إلّا نبذة «4» وكأن قد 12- هذى يدي في الحبّ إنك قاتلي ... طوع الغرام وإنّ حسنك لا يدي «5» 13- لو كان غير الحبّ كان مؤيّدا ... بمقام منصور اللّقاء مؤيّد 309/ب 14- ملك تصدّى للوفود بمنزل ... يردى بلثم ترابه قلب الصّدي «6» 15- متنوّع الآلاء أغنى بالنّدى ... وسطا فكفّ «7» المعتفي والمعتدي 16- وسرت لهاه لكلّ قاطن منزل ... سير الخيال «8» إلى جفون الهجّد 17- لو كان للأمواه جود بنانه ... لطوت ركاب «9» السّفن عرض الفدفد 18- ولو أنّ راحته تمرّ على الصّفا ... لارتاح للمعروف قلب الجلمد

19- كان النّدى في آل برمك يدّعى ... فإذا به في الملك منه واليد «1» 20- لا تستقرّ بكفّه أمواله ... فكأنها نوم بمقلة أرمد 21- حبّا لإسداء الصّنائع والندى ... وهوى بأبكار العلى والسّؤدد 22- قضّت «2» مكارمه مآرب حبّه ... فلو أنّ قاصده درى لم يحمد 23- وحمى فجاج الأرض منه بهمّة «3» ... قالت لجفن السّيف دونك فارقد 24- كم أنشرت جدواه فينا حاتما «4» ... ولكم كفانا بأسه دهرا عدي «5» 25- ما لابن شاد «6» في العلى ندّ وسل ... عمّا ادّعيت سنا الكواكب تشهد 26- بين المكارم والعلوم فلا ترى ... بحماه إلّا سائلا أو مقتدي 27- أقواله للمجتبي ونكاله «7» ... للمجتري «8» ونواله للمجتدي 28- في كلّ عام لي إليه وفادة ... تغني قصيدي «9» عن سواه ومقصدي 29- نعم المليك متى ينادى في الورى ... لعلى فيا لك من منادى «10» مفرد 30- واصلت قولي في ثناه وحبّذا «11» ... متوحّد يثني على متوحّد 31- إن لم يكن هذا الحمى العالي فمن ... لنظام هذا اللّؤلؤ المتبدّد

32- يا أيّها الملك المهنّى دهره ... صم ألف صوم بالهناء وعيّد 310/أ 33- واملك من العمر المؤيّد خلعة «1» ... ما تنتهي في العين حتى تبتدي - 703- «2» وقوله: (طويل) 1- أمنزل ذات الخال حيّيت منزلا ... وإن كان قلبي فيك بالحزن «3» مبتلى «4» 2- لك الله قلبا لا يزال مقيّدا ... بوجد ودمعا «5» لا يزال مسلسلا 3- يعبّر عن سرّ الهوى وأضيعه ... فيا لك دمعا معربا صار مهملا «6» 311/ب 4- كفى حزني «7» أن لا أراقب لمحة ... ولا أنظر اللّذّات إلّا تخيّلا - 703-

5- وما أستزير «1» الطّين خوف فراقه ... لما ذقت من طعم التفرّق أوّلا 6- وأقسم لو جاد الخيال بزورة ... لصادف باب الجفن بالفتح مقفلا 7- وأغيد قد أنضى عذولي «2» ذكره ... فقل في أسى أضنى «3» محبّا وعذّلا 8- غرير رنت أجفانه ووصفته ... فراح كلانا في الهوى «4» متغزّلا 9- بليت به ساجي الجفون «5» كليلها ... وما زال تعذيب الكليلة أطولا 10- إذا ما بدا أوصال أو ماس «6» أو رنا ... فما البدر والخطيّ واللّيث والطّلا «7» 11- وقالوا أتحكيه الغزالة في الضحى ... فقلت ولا لحظ الغزالة في الفلا 12- تبارك من في الحسن مكّن شخصه ... ومكّن إسماعيل من رتب العلى «8»

13- مليك هوى شأو الكواكب قاعدا ... وجاوز غايات (الكواكب منزلا) «1» 14- يقولون أعدى باليمين يساره ... فقلت فمن أعدى «2» الذي جاد أوّلا 15- ومن في المعالي قد تقدّم ورده ... أجل إنّها عادات آبائه الألى 16- أخو كرم «3» تبغي العواذل عطفه ... فتلقاه «4» أندى ما يكون معذّلا 17- له راحة ضمّت يراعا ومرهفا ... كأنّهما زاداه في الكفّ أنملا «5» 18- يراع» إذا مدّته يمناه للنّدى ... رأيت عباب البحر قد مدّ جدولا «7» 19- وسيفا كأنّ القين «8» سوّاه «9» جذوة ... فلو لم يعاهد «10» بالطّلا «11» لتأكلا 20- مضى وحسام الرأى والذهن قبله ... إذا طرقا الأقران في الطّيف جدّلا «12» 21- ألا ربّ شأو رامه فتسهّلت ... ذراه وصعب راضه «13» فتذلّلا 22- وجيش كأنّ الأفق يلبس نقعه ... رداء بأطراف الأسنّة مخملا «14»

314/أ 23- رماه بعزم فانجلت «1» ظلماته ... ولو رامة الصّبح المنير لما انجلى 24- وبيداء مقفار «2» إليه قطعتها ... فلاقيت معلوما وفارقت مجهلا 25- وقضيّت في ظلّ النّعيم لياليا ... لو انتفضت «3» كانت كواعب تجتلى «4» 26- لبابك يا ابن المالكين بعثتها ... أو من مدح عن الغير جفّلا «5» 27- شببت لها فكري ففاحت «6» حروفها ... كأني قد دخّنت «7» في الطّرس مندلا «8» 28- وأنت الذي أسعفتني فصنعتها ... ولولا الحيا «9» ما أصبح التّرب مبقلا «10» 29- وأعتقت رقّي من خمول وفاقة «11» ... فحزت ولا قلبي «12» وللمعتق الولا 30- بقيت لهذا الدّهر تبسط إن أسا ... يديك فما ينفكّ أن يتنصّلا «13» 31- حلفت يمينا ليس مثلك في الورى ... فما شرع «14» المفتون أنّ أتحلّلا

- 704- «1» وقوله: (بسيط) 1- نجم تولّد بين الشّمس «2» والأسد ... هنّئت بالوالد الأزكى وبالولد 2- ودام ملكك مضروبا سرادقه «3» ... على ضروب التّهاني آخر الأبد 3- يا حبّذا الملك قد مدّت سعادته ... ما شئت من عضد سام إلى عضد 4- وحبّذا بيت إسماعيل «4» مرتفعا ... على قواعد أمست جمّة العمد 5- جاء البشير بنجل النجل مقتبلا ... فيالها من يد موصولة بيد 6- فرع من الدّوحة العلياء مطّلع ... مع أنّه من ثمار القلب والكبد 7- مدّت إليه المعالي كفّ حاضنة «5» ... وضمّه الملك ضمّ الرّوح بالجسد 8- وماست السّمر بالإعجاب وابتسمت ... بيض لسّيوف وقرّت أعين الزّرد 9- وغرّدت بأغانيها القسيّ على ... أو تارهنّ غناء الطّائر الغرد 313/ب 10- واستشرف «6» القلم العالي للثم يد ... عريقة سوف تعلو فوق كلّ يد 11- واختالت الخيل من زهو فوقّرها «7» ... ما سوف تحمل من عزم ومن جلد - 704-

12- كأنّني بفتى المنصور «1» ممتطيا ... جيادها الغرّ في فرسانه النّجد 13- نحو الغزاة ونحو الصّيد يعملها ... إمّا الطّراد «2» وإمّا لذّة الطّرد 14- لله كوكب سعد في سماء على ... لو حلّ في الأفق لم يظلم «3» على أحد 15- له مخايل من مجد تكلّمنا ... في مهده بلسان الحلم والرّشد 16- تكاد تنضو وشاحيه حمائله ... وينزع «4» الذّرع عنه القمط «5» من جسد 17- عصائب الملك «6» أولى من عصائبه «7» ... فهنّ من غيرة في زي مرتعد 18- يا آل أيّوب «8» بشراكم بوجه فتى ... مظفّر الجدّ طلّاع على نجد «9» 19- يروي حديث المعالي عن أب فأب ... رواية «10» التبر في ألحاظ منتقد 20- هذا المؤيّد صان الله دولته ... قلّ في مناقبه الحسنى وزد وزد «11» 21- ملك له في ظلال العزّ منزلة ... ترنو إلى الفلك السّيّار من صعد «12» 22- محكّم الأمر للأقلام في يده ... وللسّيوف مقام الرّكّع السّجد «13»

23- وناشر بنداه كلّ قافية ... (أخنى عليها الذي أخنى لبد) «1» 24- ذاك الذي في حماة «2» نبع أنعمه ... وقلب حسّاده للهمّ في صفد «3» 25- حدّثت في فضله «4» ثمّ استندت له ... فلا عدمت أحاديثي ولا سندي 26- وقمت أكسو بنيه من مدائحه ... ما يرفل الملك في أثوابه الجدد 27- الحمد لله أحياني وأمهلني ... حتى بلغت بعمري أكرم الأمد 28- الجدّ والأبّ والابن امتدحت فيا ... فوزي بها كلّها أحلى من الشّهد «5» 29- كأنّما الملك المنصور واسطة ... وليس في العقد درّ غير منفرد 30- ذو الجود والبأس في يومي ندى وردى ... ما بين منسجم طورا ومتّقد 314/أ 31- والسّيف والرّمح لا يهوى لغيرهما ... لمعا من الثغر «6» أو نوعا من الغيد 32- ونبعة الملك قد طالت وقد رسخت ... فالناس في ظلّها «7» في عيشة رغد 33- هنئت يا ابن عليّ في الفخار بها ... ومن بنيك «8» بمنصور ومعتضد 34- لولا مديحك ما اخترت القريض ولا ... والله مادار في فكري ولا خلدي 35- سددت رأيا حباك العزّ متّضحا ... فزادك الله من عزّ ومن سدد

- 705- «1» وقوله: (طويل) 1- سرى طيفها حيث العواذل هجّع ... فنمّ علينا نشره المتضوّع 2- وبات يعاطيني الأحاديث في دجى ... كأنّ الثّريّا فيه كأس مرصّع 3- أجيراننا حيّى الرّبيع دياركم ... وإن لم يكن فيها لطرفي مربع 4- شكوت إلى سفح النّقا طول نأيكم ... وسفح النّقا بالنأي مثلي مروّع «2» 5- ولا بدّ من شكوى إلى ذي ضرورة «3» ... يواسيك «4» أو يسليك «5» أو يتوجّع «6» 6- فديت حبيبا قد خلا منه ناظري «7» ... ولم يخل منه في فؤادي موضع 7- مقيم بأكناف الفضا وهي مهجة ... وإلّا بوادي المنحنى وهي أضلع - 705-

8- أطال حجاب الصّدّ «1» بيني وبينه ... فمقلتي الجوزا «2» ودمعي ينبع 9- لئن عرضت من دون رؤيته الفلا ... فياربّ روض ضمّنا فيه مجمع 10- محلّ ترى فيه جوامع لذّة ... بها تخطب الأطيار والقضب تركع 11- قرانا «3» به نحو الهنا وملابس» تجرّ وأيد بالمدامة ترفع 12- وقد أمّنتنا دولة شاذويّة «5» ... فما تختشي «6» اللأوا «7» ولا نتخشع «8» 13- مدائحها تمحو الأثام ورفدها «9» ... يعوّض عن وفر الغنى ما نضيّع 14- رعى الله أيام المؤيّد إننا ... وجدنا بها أهل المقاصد قد رعوا «10» 315/ب 15- مليك له في الجود صنع تأنقت ... معانيه «11» حتّى خلته يتصنّع 16- وعلياء لو أنّا وضعنا حديثها ... وجدنا سناها فوق ما كان يوضع 17- مذال الغنى لو حاولت كفّ سارق ... خزائنه ما كان في الشّرع تقطع «12» 18- أرانا طباق المال والمجد في الورى ... فذلك مبذول وهذا ممنّع 19- وجانس ما بين القراءة والقرى ... فللجود منه والإجادة مطلع

20- توقّد ذهنا واستفاض مكارما ... فأعلم أنّ الشّهب بالغيث تهمع 21- وصان فجاج الملك بأسا وهيبة ... فلا جانب «1» إلّا لدى الروّض يرتع «2» 22- عزيمة وضّاح الخلائق أروع ... إذا قيل وضّاح الخلائق أروع «3» 23- تفرّق بالحمر القصار «4» يمينه ... لما راح بالسّمر الطّوال يجمّع 24- ولا عيب في أخلاقه غير أنّه ... إذا عذلوه في النّدى ليس يرجع 25- له كلّ يوم في السّيادة والعلى ... أحاديث تملي المادحين فتبدع 26- إذا دعت الحرب العوان «5» حسامه ... جلا أفقها والرّمح بالسّنّ «6» يقرع «7» 27- وإن مشت الآمال نحو جنابه «8» ... رأت جود كفّيه لها كيف يهرع 28- ولا تفتخر «9» من نيل مصر أصابع ... فما النّيل إلّا من يمينك إصبع 29- أيا ملكا لّما دعته ضراعتي ... تيقّنت أنّ الدّهر لي سوف يضرع 30- قصدتك ظمآنا فجدت بزاخر «10» ... أشقّ كما قد قيل فيه وأذرع 31- وفي بعض ما أسديت قنع وإنّما ... فتى كنت مرمى ظنّه ليس يقنع «11»

32- لك الله ما أزكى وأشرف همّة ... وأحسن في العليا «1» بما يتنوّع 33- مديحك فرض لازم لي دينه ... ومدح بني العليا سواك تطوّع - 706- «2» وقوله: (طويل) 1- وغيداء يعزى طرفها لكنانة «3» ... ومعطفها «4» الميّاد يعزى إلى النّضر «5» 2- حمت ثغرها عن راشف بلحاظها ... كذاك سيوف الهند تحمي حمى الثّغر 3- كأنّ جفوني حين تسفح بالبكا ... على حبّها كفّ المؤيّد بالتّبر - 706-

4- رعى الله أيام المؤيّد إنّها ... ولا برحت فينا مواسم للدّهر 5- مليك تساوى علمه ونواله ... كأنّهما بحران جاءا على بحر 6- مليك العلى بشراك بالعيد مقبلا ... وبشرى الورى من بحر «1» كفّك بالعشر 7- وهنّئت بالفطر الذي قام ناحرا «2» ... عداتك حتى أشكل «3» الفطر بالنّحر - 707- «4» وقوله: (كامل) 1- أهوى بمرشفه «5» إليّ وقال: ها «6» ... ويلاه من رشأ أطاع وقالها 2- وأمالت الكاسات معطف «7» قدّه ... بقصاص ما قد كان قبل أمالها 3- فمصصت «8» من رشفاته معسولها ... وضممت من أعطافه عسّالها 4- وظفرت في اليقظات «9» منه بخلوة ... ما كنت آمل في المنام خيالها 5- ولربّما أهدى بكأس مدامة ... لولاه ما حملت يدي جريالها «10» 6- طبخت بنار خدوده في كفّه ... فقبلتها وشربت منها حلالها «11» - 707-

7- حتى إذا هوت النجوم وأطفأت ... في الصّبح أنفاس النّسيم ذبالها «1» 8- ولّى وأسأر «2» في الجوانح حسرة ... لو شاء عائذ وصله لأزالها 9- ومضى بشمس محاسن لولا الهوى «3» ... ما كنت أمسك في الوفاء حبالها 10- ومن البليّة عذّل قد ضمّنت ... ثقل «4» الكلام مقالها وفعالها 317/ب 11- يا ليت أرض العاذلين تزلزلت ... أو ليتها لا أخرجت أثقالها 12- والنّجم من كأس الحبيب وخدّه ... لا زاغ «5» فكري عن هواه ولا لها «6» 13- بأبي «7» بديع الحسن ناء شخصه ... سلب الكواكب حسنها ومثالها «8» 14- متلوّن الأخلاق إلّا أنّها ... لشقاوتي ليست تملّ ملالها 15- لو ذاق حالة مهجتي ما راعني ... دعه يروع ولا يقاسي حالها 16- هي مهجة «9» ليست تجاور «10» صبرها ... كيد المؤيّد لا تجاور مالها 17- جادت يد الملك المؤيّد جود من ... لم تخش بسطة «11» كفّه إقلالها

18- يا عاذل الملك المؤيّد في النّدى ... هي صبوة «1» قد أتعبت عذّالها 19- وشمائل مدّت يمين مكارم ... لم ترض أن يدعى الغمام شمالها 20- سبقت سواك «2» عفاتها وتعمّقت ... في الجود حتى سابقت آمالها 21- ما لابن شاد «3» في العلى مثل فدع ... علياه تضرب في الورى أمثالها 22- رقمت بنو «4» أيّوب نسخة أصلها ... وأتى فكان تمامها وكمالها 23- ملك تطاولت المطالب نحوه ... لكنّه بأقل طول نالها «5» 24- متطابق النّعماء صانت كفّه ... سرح «6» القريض وشرّدت أموالها 25- أخذت براءتها «7» العفاة بدهره ... ممّا تخاف وقسّمت أنفالها «8» 26- نعماه فى عصب «9» قلائد حليها ... فإذا بغت عصب غدت أغلالها 27- يا ربّ مكرمة وربّ كريهة ... أضحى معيد حياتها قتّالها 28- ومسائل في العلم أشكل أمرها ... حلّا وحلّ لطالب إشكالها 29- بيراع سيف أو بسيف يراعة ... فضل الأمور جلادها وجدالها

30- قل للمثّل «1» فى البسيطة وصفه ... دع سحبها وبحارها وجبالها 318/أ 31- هاتيك أمثلة دنت عن قدره ... فاطلب لهاتيك الصّفات مثالها 32- لحماك يا ابن المالكين ترقّبت «2» ... فكر الرّجا رقبى العيون هلالها 33- أمّا حماة فنعم دار سيادة ... نصبت «3» بمدرجة «4» الطّريق جلالها «5» 34- يسعى لمكّة وافد ولأرضها ... ولنعم أرضا وافد يسعى لها 35- هاتيك قبلة من يروم رشادها ... وحماه قبلة من يروم نوالها 36- في كلّ حول حالها «6» لي معجب ... لله ما أشهى إذا أحوالها 37- شكرت لهاك فما أشكّ بأنني ... ثقّلت وهي مطيقة أثقالها 38- أغنيتني عن كلّ ذى مال فلم ... أفتح يدا لسوى نداك ولا لها 39- وكفيتني حتى قفوت «7» معاشرا ... كثر النّدى فاستكثرت أطفالها

40- أيّام مالي غير قصدك حيلة ... تنجي وتنجح في الورى بطّالها «1» 41- لا زلت مقصود الحمى بقصائد ... أصبحت عصمة أمرها وثمالها «2» 42- لولاك لم يخطر ببالي نظمها ... لا والذي يلقاك أنعم بالها 43- سألت روايات النّدى فتأخّرت ... عنها الورى وأجزت أنت سؤالها - 708- «3» وقوله: (بسيط) 1- يا صاحيّ أرانا الدّهر شوّالا ... فبادرا وانصبا باللّذّة «4» الحالا 2- واستعطفا بالطّلا حلو الدّلال به ... منّا عبيد ومن ألفاظه لا لا «5» 3- لا تحذرا مع عفو الله موبقة «6» ... تحصى ولا مع ندى السّلطان إقلالا 4- جاد المؤيّد حتى كدت أحسبه ... مع فضل فطنته لا يعرف المالا 5- ولا كحلت بمرأى مثله بصري ... هذا وقد جبت ظهر الأرض أميالا 6- فليهنه من هلال العيد مقترب «7» ... يدنو ليركع إعظاما وإجلالا - 708-

7- حتى ترى نونه من فرط خدمتها ... تودّ لو صيّرت لي أفقها دالا - 709- «1» وقوله: (خفيف) 319/ب 1- ما يقول المقام أيّده اللّ ... هـ ولا زال بالسّعود «2» يحوز 2- في وليّ «3» ببابه ترك الخ ... لق ووافى «4» يجوز أم لا يجوز - 710- «5» وقوله: (بسيط) 1- يا جوهر الفضل إن عدّت فرائده «6» ... حاشا (لمثلك) «7» أن يشكو من العرض «8» «9» 2- لا ردّ سهمك عن نحر العداة ولا ... نالوا من السّهم ماراموا من الغرض 3- صحّت بصحّتك الدّنيا فليس لها «10» ... غير الذي في جفون الغيد من مرض - 709- - 710- ا

- 711- «1» وقوله: (كامل) 1- هنّئت شهرا بالسّعادة مقبلا ... يا من أفاض على الورى نعماءه 2- أسمعته فيك النّداء «2» مخبّرا ... فانظر لمن سمع الأصمّ ثناءه - 712- «3» وقوله: (طويل) 1- أيا ملكا أيّامه الغرّ كلّها ... مواسم تلقى النّاس باليمن والغرّ «4» 2- تهنّ بعيد النّحر وابق ممتّعا ... بأمثاله سامي العلى نافذ الأمر 3- تقلّدنا فيه قلائد أنعم ... وأحسن ما تبدو القلائد في النّحر - 713- «5» وقوله: (كامل) 1- يا أيّها الملك الذي كلّ الرّجا ... والرّوع بين يراعه وحسامه 2- هنّئت عاما «6» مثل طرف سابق ... يسعى به المخدوم نحو مرامه «7» - 711- - 712- ا - 713-

3- جمع الثّريّا والهلال وإنّما ... وافى إليك بسرجه ولجامه - 714- «1» 320/أ (قوله) : (متقارب) 1- كفاني المؤيّد عتب الزّمان ... وأنقدني من إسار «2» الشّقا 2- فكان ولائي له مخلصا ... لأنّ الولاء لمن أعتقا - 715- «3» وقوله: (كامل) 1- أمّا حماة فعيش ساكنها ... صفو وكلّ زمانه سحر 2- إسكندر «4» الأيام مالكها ... بدليل أنّ وزيره الخضر «5» - 716- «6» وقوله: (كامل) - 714- - 715- - 706-

1- هنّئت يا ملك السّماحة «1» والنهى «2» ... شهرا يزورك بالهنا معتادا 2- تسدي «3» به مننا وتكبت «4» حسّدا «5» ... فتفطّر «6» الأفواه والأكبادا - 717- «7» وقوله: (كامل) 1- أقسمت ما الملك المؤيّد في الورى ... إلّا الحقيقة والكرام مجاز «8» 2- هو كعبة للجود ما بين الورى «9» ... منها وبين الطّالبين حجاز - 718- «10» وقوله: (كامل) 1- يفديك «11» من لك في حشاه مودّة ... فإذن أجلّ العالمين لك الفدا 2- وعداك أرضى أن تعيش فإنّها ... ببقاك في عيش أمرّ من الرّدى - 717- - 718-

- 719- «1» وقوله: (بسيط) 1- يا أيّها الملك المربي «2» برؤيته ... عن كلّ فضل سمعناه عن الأول «3» 2- كم جملة وصلت لي من نداك وكم ... تفصيلة «4» ألبستني أجمل الحلل 3- لقد غدت فكر الأمداح حائرة «5» ... بين التفاصيل من نعماك والجمل - 720- «6» 341/ب وقوله: (رمل) 1- يا مليكا تنظر الشّهب «7» له ... مثل ما ينظر للشّهب الورى 2- دم كذا في كلّ وقت سامعا ... مدحا تعني «8» مداها الفكرا 3- كلّما أوردت «9» منها قصصا ... حرجت منها صدور «10» الشّعرا - 719- - 720-

- 721- «1» وقوله: (بسيط) 1- فتحت للناس أبواب المقاصد لا ... تعطّلت من حماك الرّحب أبواب 2- هذا له سبب فيما يحاوله ... وذا له من مقال الشّعر أسباب - 722- «2» وقوله: (سريع) 1- لا تقيسوا ابن سنان في النّدى ... بابن أيّوب قياسا «3» منخرم 2- فرق ما «4» بينهما متّضح ... أين من جود فتى جود هرم - 723- «5» وقوله: (بسيط) 1- فديت من آل أيّوب لنا ملكا ... سار من الشّيم «6» العليا على جدد - 721- - 722- - 723-

2- حدّثت عن فضله ثمّ استندت له ... فلا عدمت أحاديثي ولا سندي «1» - 724- «2» وقوله: (كامل) 1- يا مجلس ابن عليّ «3» حيّتك الصّبا ... وسقى مرابعك الغمام الهامع 2- صفّت بك الأغصان صفّ جماعة ... فالغصن «4» إمّا قائم أو راكع 3- ورقى إليك الطّير» منبر أيكة ... فعلمت أنّك للمسرّة جامع - 725- «6» وقوله: (طويل) 1- رعى الله بحرا فوق أرجاء بحره «7» ... تكاد تحاكي «8» بسط «9» يمناه بالنّدى 2- وتبدو كما هبّ النّسيم كمبرد ... فلا غرو أن تجلو «10» عن المهج الصّدى - 724- - 725-

- 726- «1» 322/أوقوله: (سريع) 1- لله تصنيف «2» له رونق ... كرونق الحبّات «3» في عقدها 2- كادت تصانيف الورى عنده ... تموت للهيبة في جلدها - 727- «4» وقوله: (بسيط) 1- يا أقرب الناس من مدح ومن كرم ... وأبعد الناس من عاب ومن عار 2- أقسمت لولا أياديك التي اشتهرت ... ناداني الزّمن المودي بأشعاري - 726- - 727-

3- (دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد فإنّك أنت الجائع العاري) - 728- «1» وقوله: (خفيف) 1- سر على اليمن والسّعادة يا من ... شيّد الله بالمعالي «2» مكانه 2- أنت سهم الله «3» ما كان يخلي ... منه أو طان مصر وهي كنانه - 729- «4» وقوله: (خفيف) 1- يا مليكا به عن الدّهر يرضى ... وبآرائه الخطوب تراض «5» 2- بالهنا والسّعود مقدمك الزّ ... ائد عمّا تمنّت الأغراض 3- سبقتك الأخبار تنفح «6» روضا ... ثمّ وافى غمامك الفيّاض 4- ما رأينا من قبلها غيث عام ... سبقته إلى القدوم الرّياض - 528- - 729-

- 730- «1» وقوله: (طويل) 1- على اليمن والنّعمى قدومك إنّه ... قدوم الحيا السّاري إلى كلّ ظمآن 2- وعودك للأوطان من مصر فائزا ... بملك ومن أرض الحجاز بغفران 3- حلفت بدهر أنت غوث عفاته ... لقد نقدت «2» فيه العفاة بسلطان - 731- «3» 323/ب وقوله: (طويل) 1- ألا في سبيل الله نصل عزائم ... وعلم غدا في باطن التّرب مغمدا - 730- - 731-

2- على الرّغم منّا أن خبا منه رونق ... وجاوبنا من حول تربته الصّدى - 732- «1» وقوله: (طويل) 1- لعمري قد «2» أقحمت «3» بالفضل منطقي ... وقد كنت ذا نطق وفضل بيان 2- وحرّكت «4» ميزاني فأثنى لسانه ... فلا زلت مشكورا بكلّ لسان - شاهنشاه بن أيوب بن شادي. وكان والده الملك المؤيد قد سمّاه في حياته الملك المنصور، فلما توفي والده في سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة، ورسم له السلطان الملك الناصر بمكان أبيه سماه الأفضل. وكان إنسانا حسنا يعطي العطاء الوافي الوافر، وكان أبوه أسعد منه، وما زال مروى مدة حياته. وكان قد نسك في وقت وجلس على الصوف والتزم بأن لا يسمع الشعر، ثم ترك ذلك وجلس على الحرير وسمع الشعر. رآه الصفدي وولاه نظر المدرسة التقوية بدمشق وسمع كلامه فما كان يخلو من استشهاد بشعر مطبوع، أو مثل مشهور، حضر إلى دمشق في أوائل شهر ربيع الآخر من سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة، وقد رسم السلطان الملك الأشرف علاء الدين كجك ابن السلطان الملك الناصر بحضوره إلى دمشق ليكون بها مقيما أمير مائة رأس الميسرة، فركب بها موكبين وحصل له قولنج أعقب بصرع فتوفي ليلة الثلاثاء حادي عشر الشهر المذكور، فرثاه شاعره وشاعر أبيه من قبله جمال الدين محمد بن نباتة، كما رثاه علي بن مقاتل الحموي بعدة مرات. الوافي بالوفيات 2/224 والنجوم الزاهرة 9/100 والسلوك 2/615، وخزانة الأدب 10 - 732-

- 733- «1» وقوله: (مخلع البسيط) 1- أشكو إلى الله ما أقاسي ... من شدّة الفقر والهوان 2- أصبحت من ذلّة وعري ... مافيّ داف سوى لساني - 734- «2» وقوله: (منسرح) 1- أهواه لدن القوام منعطفا ... يسلّ من مقلتيه سّيفين 2- وهبت قلبي له فقال عسى ... نومك أيضا فقلت من عيني - 735- «3» وقوله: (طويل) 1- أتيتك يا أزكى البريّة «4» جامعا ... لأمرين في يوم من الدّهر وافد 2- هنى وعزا «5» لا عتب فيه لأنّني ... أهنّي بعشر إذ أعزّي بواحد - 733- - 734- - 735-

- 736- «1» وقوله: (خفيف) 1- عاد غيث الورى فأهلا وسهلا ... لا عدمنا مرعى لديك وظلّا 2- سيف ملك يثني الزّمان عليه ... حبّذا بالثّناء سيف محلّى 3- يا أشدّ الورى بعادا وهجرا ... وأجلّ الورى قدوما ووصلا - 737- «2» 324/أوقوله: (متقارب) 1- أيا صاحب النّعم الباهرات «3» ... إليك بعثت مقالي النّظيم 2- وأهديت منه يتيم العقود «4» ... وحاشاك تكسر قلب اليتيم - 738- «5» وقوله: (سريع) 1- مبقّل «6» الوجه أدار الطّلا ... فقال لي في حبّها عاتبني «7» - 736- - 737- - 738-

2- عن أحمر المشروب ما تنتهي «1» ... قلت ولا عن أخضر «2» الشارب - 739- «3» وقوله: (وافر) 1- وكنت أظنّ في كبري صلاحا ... يكفّر زلّة السّنّ الصّغير 2- فلمّا أن كبرت ازددت نحسا «4» ... فقل ما شئت في النّحس الكبير - 740- «5» وقوله: (كامل) 1- ما بال ليلي لا يسير كأنّما ... وقفت كواكبه من الإعياء 2- وكأنّما كيوان في آفاقه ... أعمى يسائل عن عصا الجوزاء - 739- - 740-

- 741- «1» وقوله: (وافر) 1- تحمّل حيث «2» كنت صداع قصدي ... فقصد سواك مالا يستطاع 2- إذا ما كنت للرّؤساء رأسا ... فلا تنكر إذا حصل الصّداع «3» - 742- «4» وقوله: (سريع) 1- قلت وقد أقبل في أحمر ... وشعره المسبل «5» كالحندس «6» 2- يا عجبا للشّمس شمس الضّحى ... طالعة باللّيل «7» في أطلس «8» - 743- «9» 325/ب وقوله: (متقارب) 1- تصدّق برفد «10» على السّائلي ... ن ما دام يمكن «11» رفد جميل «12» - 741- - 742- - 743-

2- ولا تأمننّ عروض «1» الزّمان ... فإنّ الزّمان فعول فعول - 744- «2» وقوله: (طويل) 1- تركت للفظ الحاجبيّة رونقا ... له لا لألفاظ الأوائل تقبل 2- إذا كتب النّحو استمالت عيوننا ... أبينا وقلنا الحاجبيّة أوّل - 745- «3» وقوله: (مجزوء الكامل) 1- لمّا تبدّى في الحني ... ن «4» تحاربت كبدي وعيني 2- فاعجب لها من غرّة «5» ... جاءت ببدر «6» في حنين «7» - 744- - 745-

- 746- «1» وقوله: (طويل) 1- تداينت من زيد فلما صرفته «2» ... بنعماك أضحى عمرو نحوي قاصدا 2- وما ضرّني دين وفعلك سالم ... يصرّف لي «3» زيدا وعمرا وخالدا - 747- «4» وقوله: (بسيط) 1- قضى وما قضيت منكم لبانات ... متيّم عبثت فيه الصّبابات - 746- - 747-

2- ما فاض من جفنه يوم الرّحيل دم ... إلّا وفي قلبه منكم جراحات 3- أحبابنا كلّ عضو في محبّتكم ... كليم وجد فهل للوصل ميقات «1» 4- غبتم فغابت مسرّات القلوب فما ... أنتم برغمي «2» ولا تلك المسرّات 5- يا حبّذا في الصّبا عنكم شفاء «3» هوى ... وفي بروق الغضى منكم إشارات 6- وحبّذا زمن اللهو الذي انقرضت ... أوقاته الغرّ والأعوام ساعات «4» 7- أيام ما شعر البين المشتّ «5» بنا ... ولا خلت من معاني «6» الأنس أبيات 326/أ 8- حيث الشباب قضاياه منفّذة ... وحيث لي في الذي أهوى ولايات «7» 9- وربّ حانة خمّار طرقت ولا ... حانت ولا طرقت للقصف «8» حانات «9» 10- سبقت قاصد مغناها وكنت فتى ... إلى المدام له بالسّبق عادات 11- أعشو إلى ديرها الأقصى وقد لمعت ... تحت الدّجى فكأنّ الدّير مشكاة «10»

12- وأكشف الحجب عنها وهي صافية ... لم يبق في دنّها إلّا صبابات 13- راح زحفت على جيش الهموم بها ... حتى كأنّ سنا الأكواب رايات «1» 14- مصونة السّرّ «2» ماتت دون غايتها ... حاجات قوم وللحاجات أوقات 15- تجول حول أوانيها أشعّتها ... كأنّما هي للكاسات كاسات 16- كأنّها في أكفّ الطائفين «3» بها ... نار تطوف بها في الأرض جنّات 17- من كلّ أغيد في دينار وجنته ... توزّعت في قلوب الناس حبّات 18- مسلسل «4» الصّدغ طوع الوصل منعطف ... كأنّ أصداغه للعطف واوات 19- ترنّحت «5» وهي في كفيه من طرب ... حتى لقد رقصت تلك الزّجاجات 20- وقمت أشرب من فيه وخمرته ... شربا تشنّ «6» به في العقل غارات 21- وينزل اللّثم خدّيه فينشدها ... هي المنازل لي فيها علامات 22- سقيا لتلك اللّييلات «7» التي سلفت ... فإنّما العمر هاتيك اللّييلات 23- غنّت لها كلّ أوقات السّرور كما ... غنّت لفضل كمال الدّين سادات «8» 24- حبر «9» رأينا يقين الجود من يده ... وأكثر الجود في الدّنيا حكايات

25- سما على الخلق فاستسقوا «1» مواهبه ... لا غرو أن تسقي الأرض السماوات 26- واستأنف «2» الناس للأيام طيب ثنا ... من بعد ما كثرت فيها الشّكايات 327/ب 27- لا يختشي فوت جدوى «3» كفّه بشر ... كأنّ جدواه أرزاق وأوقات «4» 28- ولا تزحزح عن فضل شمائله ... كأنّها لبدور الفضل هالات «5» 29- يا شاكي الدّهر يمّمه وقد غفرت ... من حول أبوابه للدّهر زلات 30- ويا أخا السّعي في علم وفي كرم ... هذي الهدايا وهاتيك الهديّات «6» 31- لا تطلبنّ من الأيام مشبهه ... ففي طلابك للأيام إعنات «7» 32- ولا تصخ «8» لأحاديث الذين مضوا ... ألوى «9» العنان بما تملي الرّوايات 33- طالع فتاويه «10» واستنزل فتوّته ... تلق الإفادات تتلوها الإفادات 34- وخبّر الوصل 1» في فضل لصاحبه ... تكاد تنطق بالوصف الجمادات

35- حامي الذّمار «1» بأقلام لها مدد «2» ... من الهدى واسمه في الطّرس مدّات 36- قديمة تمنع الإسلام من خطر ... فاعجب لها ألفات وهي لامات 37- تعلّمت بأس آساد وجود حيا «3» ... منذ اغتدت وهي للآساد غايات 38- وعوّدت قتل ذي زيغ «4» وذي خطل «5» ... كأنها من كسير «6» الحظّ فضلات 39- وجاورت يد ذاك البحر فابتسمت ... هنالك الكلمات والجوهريات 40- أغرّ يهوى معاد «7» القول فيه إذا ... قيل المعادات وأخبار معادات 41- في كلّ معنى دروس «8» من فوائده ... ومن يودئ نعماه إعادات 42- صلّى وراء أياديه الحيا «9» فعلى ... تلك الأيادي من السّحب التّحيّات 43- وصدّ عمّا يروم اللّوم نائله ... فلا تفيد «10» ولا تجدي الملامات 44- يرام تأخير جدواه وهمّته ... بقول إيها «11» وللتأخير آفات 45- من معشر نجب ماتوا وتحسبهم ... للمكرمات وطيب الذّكر ما ماتوا

328/أ 46- ممدّحين لهم في كلّ شارقة ... برّ وبين خبايا اللّيل «1» إخبات «2» 47- بيت أتمّته «3» أوصاف الكمال كما ... تمّت بقافية المنظوم أبيات 48- ما روضة قلّدت أجياد «4» سوسنها ... من السّحاب عقود لؤلويات 49- وخطّت الريح خطا في مناهلها ... كأنّ قطر الغوادي فيه جريات «5» 50- يرقى الحمام المصافي دوحها فلها ... خلف السّتور على العيدان رنّات 51- يوما بأبهج «6» من أخلاقه سيرا «7» ... أيّام تنكر أخلاق سريّات «8» 52- ولا النّجوم بأنأى من مواطئه «9» ... أيام تقتصر الأيدي العليّات 53- قدر علا فرأى في كلّ شمس ضحى ... جماله فكأنّ الشّمس مرآة 54- وهمّة ذكرها سام وأنعمها ... فحيثما كنت أنهار وجنّات «10» 55- يا ابن المدائح إن يمدح «11» سواك بها ... فتلك فيهم عوار مستردات

56- الله جارفك من عين الزّمان «1» لقد ... تجمّعت للمعالي فيك أشتات 57- جاورت بابك فاستصلحت لي زمني ... حتى وفى «2» وانقضت تلك العداوات 58- ولاطفتني اللّيالي فهي «3» حينئذ ... من بعد أهلي عمّات وخالات 59- ونطّقتني الأيادي بالعيون ثنا ... فللكواكب «4» كالآذان إنصات 60- خذها عروسا لها في كلّ جارحة «5» ... لواحظ وكؤوس بابليّات 61- أوردت سؤددك الأعلى مواردها ... وللسّها في مجرّ الأفق «6» عبّات «7» 62- نعم الفتى أنت يستصفى «8» الكلام له ... حتى تسير له في العقل سورات «9» 63- ويطرب المدح فيه حين أذكره «10» ... كأنّ منتصب الأقلام نايات 64- ما بعد غيثك غيث يستجاد «11» ولا ... من بعد إثبات قولي فيك إثبات

329/ب 65- حزت المحامد حتى ما لذي شرف ... من صورة الحمد لا جسم ولا ذات - 748- «1» وقوله: (سريع) 1- في دعة الله وفي حفظه ... مسراك والعود بعزم نجيح 2- لو جاز أن تسلك «2» أجفاننا ... إذا فرشنا كلّ جفن قريح «3» 3- لكنّها بالبعد معتلّة ... وأنت لا تسلك غير الصحيح - 748-

- 749- «1» وقوله: (كامل) 1- يا هاجرين ترفّقوا بمتيّم ... ذي مدمع سار ووجد قاطن «2» 2- لسع الجفاء حشاه وهو يرومكم ... حقا لقد أمسى سليم الباطن - 750- «3» وقوله: (بسيط) 1- لله خال على خدّ الحبيب له ... في العاشقين كما شاء الهوى عبث 2- أورثته حبّة القلب القتيل به ... وكان عهدي أنّ الخال «4» لا يرث - 751- «5» وقوله: (سريع) 1- وأغيد ينهب أرواحنا ... ووجهه كالرّوض بسّام - 749- - 750- - 751-

2- تنمّ «1» خدّاه بقتل الورى ... فخدّه ورد ونمّام - 752- «2» وقوله: (كامل) 1- وبمهجتي رشأ يميس قوامه ... فكأنّه نشوان من شفتيه 2- شغف العذار بخدّه ورآه قد ... نعست لواحظه «3» فدبّ عليه - 753- «4» وقوله: (مخلع البسيط) 1- واحربا من هوى رشيق ... معذّر كالقضيب «5» مائل 330/أ 2- عذاره لا يغيث دمعي «6» ... وسائل «7» لا يجيب سائل - 752- - 753-

- 754- «1» وقوله: (وافر) 1- عجبت لحاسد أضناه أمري ... وحمّلني لهذا الأمر همّه 2- كلانا فائض الأجفان مهما ... بكى حنقا «2» بكيت عليه رحمه - 755- «3» وقوله: (سريع) 1- زد كلّ يوم في العلى رفعة ... وليصنع الحاسد ما يصنع 2- الدّهر نحويّ كما ينبغي ... يدوي الذي يخفض أو يرفع - 754- - 755-

- 756- «1» وقوله: (كامل) 1- لم أنس موقفنا بكاظمة «2» ... والعيش مثل اللّيل «3» مسدد 2- والدّمع ينشد في مسائله ... (هل للطّلول «4» لسائل ردّ) - 757- «5» وقوله: (طويل) 1- بقيت مدى الدّنيا جمالا لدولة ... لها منك شهم في اللّقا ورئيس - 756- - 757-

2- تسوق لها غرّ الفتوح «1» جنائبا ... وأوّل هاتيك الجنائب سيس «2» - 758- «3» وقوله: (كامل) 1- رحلت إليك ركائب ومدائح ... فإليك يقصد «4» راغب ويقصّد 2- وزهت بك الأرض التي أوليتها «5» ... من بعد ما أمست بغيرك تكمد «6» 3- وإذا نظرت إلى البقاع «7» وجدتها ... تشقى كما تشقى الرّجال وتسعد - 758-

- 759- «1» وقوله: (بسيط) 1- سقيا لدهري إذ أعصي الملام وإذ ... أبغي المدام بتكبير «2» وتغليس «3» 331/ب 2- وأبذل التّبر في صفراء صافية ... كأنّ في الكأس ما قد كان في الكيس - 760- «4» وقوله: (منسرح) 1- قد لقّبوا الرّاح بالعجوز وما ... تخرج ألقابهم عن العاده 2- ألا نت الغادة التي اجتمعت «5» ... فصحّ أنّ العجوز قوّاده - 759- - 760-

- 761- «1» وقوله: (طويل) 1- بروحي نديم تشهد الرّاح أنّه ... قضى العمر باللّذات وهو خبير 2- تذكّر مزج الكأس عند وفاته ... فأوصى لها بالثلث وهو كثير - 762- «2» وقوله: (مخلع البسيط) 1- تهنّ يا مجزل العطايا ... قدوم شهر له طلاوه «3» 2- حلا وأثنى عليك صدقا ... فهو إذا صادق الحلاوه - 763- «4» وقوله: (خفيف) 1- لك يا أزرق اللّواحظ مرأى ... قمريّ أضحى على الخلق رتيها 2- يا لها من سوالف وخدود ... ليس تحت الزّرقاء أحسن منها - 761- - 762- - 763-

- 764- «1» وقوله: (كامل) 1- قلم العذار بوجنتيك جرى ... وبسيف لحظك هان كلّ «2» دم 2- فاحكم على مهج الأنام «3» فقد ... أصبحت ربّ السّيف والقلم - 765- «4» وقوله: (مجزوء الكامل) 1- يا قلب أنت ومهجتي «5» ... متحاربان كما أرى 2- هاتيك تمنعك الرّقا ... د وأنت تمنعها الكرى «6» 332/أ 3- وأنا الذي قاسيت بي ... نكما العذاب الأكبرا 4- كفّا المدامع والأسى ... فلقد كفى ما قد جرى - 764- - 765-

- 766- «1» وقوله: (متقارب) 1- أيا سيّدى أنّني قد عييت ... عن أن أشابه أهل الكرم «2» 2- فأرسلته مثل نهدّ «3» الشباب ... وودّي لو كان نهد الهرم - 767- «4» وقوله: (بسيط) 1- شكرا لأنعم مولانا التي فضلت ... جهد الثّناء فأبدي وجه معترف 2- لو لم أكن للغنى أبغي تطلّبها ... طلبتها كونها نوعا من الشّرف - 768- «5» وقوله: (خفيف) 1- لا تسل عن حديث دمعي لمّا ... ظعن الرّكب «6» واستقلّ «7» الفريق «8» - 766- - 767- - 768-

2- لوّنته وأمطرته جون ... خرّ «1» منها «2» الوادي وسال العقيق - 769- «3» وقوله: (طويل) 1- تمتعت يا أ ... رى بغانية لها ... أمام وخلف طيّب ملتقاهما 2- حللت بهذا حلّة ثمّ خلّة ... بهذا فطاب الواديان «4» كلاهما - 770-» وقوله: (كامل) 1- يا ناظرا شجر النفوس بجامع ... جمعت مطالعه برؤيته الهنا 2- لو تعلم الشّجر التي قابلتها ... مدّت محيّية «6» إليك الأغصنا - 769- - 770-

- 771- «1» وقوله: (سريع) 1- جفاني الدّرهم من بعدكم ... فبيتكم يفضي «2» إلى بيته 2- والذّهب المذكور لي مدّة ... ما وقعت (عيني) «3» على عينه - 772- «4» وقوله: (منسرح) 333/ب 1- أصبحت يا مالكي تفيض «5» ندى ... ديناره منجح لأوطاري 2- إذا رويت الثّناء متّصلا ... أرويه عن مالك بن دينار «6» - 771- - 772-

- 773- «1» وقوله: (بسيط) 1- كلّ يهنيك «2» بالتشريف محتفلا ... يا من بأيامه المعروف معروف 2- لكنّني بك أختار الهناء له ... فإنّ قدرك بالتشريف تشريف «3» - 774- «4» وقوله: (كامل) 1- دع من شفيع صحبة ما أذنبت ... واهنأ بمحبوب الجمال بديع 2- وإذا الحبيب أتى بذنب واحد ... جاءت محاسنه بألف شفيع - 775- «5» وقوله: (خفيف) 1- قالت البيض حين شبت تغزّل «6» ... وترحّل عن ودّنا بسلام - 773- - 774- - 775-

2- ما رأينا المشيب إلّا كثلج «1» ... أبيض بارد قليل المقام - 776- «2» وقوله: (كامل) 1- من كان من هفواته «3» متنصّلا ... في باب عزّكم فما أتنصّل «4» 2- أظهرت إذ أذنبت فضل حلومكم ... فأنا امرؤ بذنوبه يتوسّل «5» - 777- «6» وقوله: (رمل) 1- كان لي عبد «7» يسمّى فرجا ... نصب «8» الغير «9» عليه الشّبكا 2- وأنا اليوم كما تبصرني ... ليس عندي فرج «10» إلّا البكا - 776- - 777-

- 778- «1» وقوله: (بسيط) 1- حازت صفات «2» عليّ «3» في الورى رتبا ... تظلّمت من ثناها الأنجم الزّهر 334/أ 2- أما ترى ما تشكّى «4» من أنامله ... عطارد وادّعى في وجهه القمر - 779- «5» وقوله: (طويل) 1- وردت على الباب الجماليّ قاصدا ... فجاد ولاقى مقصدي بأياد - 778- - 779-

2- ولي فرس قد بات ضيفا لطرفه ... فبات كلانا وهو ضيف جواد «1» - 780- «2» وقوله: (طويل) 1- أهمّ بتسطير الذي أنا واجد ... إليك فيمحو «3» دمع عيني أفكاري «4» 2- فيا عجبا للدّمع بثّ سرائرا ... لغيري ودمعي مانعي بثّ أسراري - 781- «5» وقوله: (كامل) 1- أفدي سطورا من كتابك أقبلت ... بعد الجفاء وآذنت برجوع 2- قبّلتها فاحمرّ نقش حروفها ... فكأنّني رمّلتها «6» بدموعي «7» - 782- وقوله: (طويل) 1- أتى الملبس الصوف الذي قد بعثته ... لجبري يا أندى الأنام وتشريفي - 780- - 781- - 782-

2- فقابله الشّكران: شكر قصائدي ... وسجعي والشكران ما عادة «1» الصوفي «2» - 773- «3» وقوله: (طويل) 1- يا ربّ لصّ سالب ناهب ... وهو من الحسن مليّ غني «4» 2- يرنو إلى سرب الظّبا لحظه ... فيسرق الكحل من الأعين «5» - 784- «6» وقوله: (وافر) 1- مرضت فعادني أزكى البرايا ... وأغنى عن مراض الودّ «7» حادوا - 783- - 784-

2- رأوا أنّي إلى الأجداث «1» ماض ... فقالوا كلّ ماض لا يعاد - 785- «2» 335/ب وقوله: (وافر) 1- لقد عدناكم لّما مرضتم ... فلا «3» والله ما وافيتمونا 2- أقيموا في ضناكم أو أفيقوا ... فإن عدنا فإنّا ظالمونا - 786- «4» وقوله: (متقارب) 1- ولمّا رنت لي ألحاظه ... رفعت بتكبيري الصّوت رفعا «5» 2- فيا لك في الحسن من شافع «6» ... تبدّى غزالا فكبّرت سبعا - 785- - 786-

- 787- «1» وقوله: (بسيط) 1- وأغيد كلّ شيء فيه «2» يعجبني ... كأنّما هو مخلوق على شرطي 2- أجفانه السّود لا تخطى «3» إذا رشقت ... سهامها وسهام اللّيل ما تخطى - 788- «4» وقوله: (سريع) 1- يا ربّ إنّ ابني وشعري كما ... تراهما في حالة حائله «5» 2- الشّعر محتاج إلى قابل «6» ... والابن محتاج إلى قابله «7» - 787- - 788-

- 789- «1» وقوله: (سريع) 1- يا راحلا من بعد ما أقبلت ... مخايل للخير مرجوّه 2- لم تكتمل حولا وأورثتني ... ضعفا فلا حول ولا قوّه - 790- «2» وقوله: (متقارب) 1- فأت عن محبيه أعطافه ... وأمسوا إلى الطّيف يستطلعون 2- فهاهم «3» قيام لفرط الأسى ... قليلا من اللّيل ما يهجعون - 791- «4» 336/أوقوله: (كامل) 1- الله جارك إنّ دمعي جاري ... يا موحش الأوطان والأوطار - 789- - 790- - 791-

2- لمّا سكنت من التّراب حديقة «1» ... فاضت عليك العين بالأنهار 3- شتّان ما حالي وحالك أنت «2» في ... غرف الجنان ومهجتي في النار 4- خفّ النّجا بك يا بنيّ إلى السّرى ... فسبقتني وثقلت بالأوزار 5- ليت الرّدى إذ لم يدعك أهاب بي ... حتى ندوم معا على مضمار 6- ليت اللّقا «3» الجارى تمهّل ورده ... حتّى حسبت عواقب الإصدار 7- ما كنت إلّا مثل لمحة بارق ... ولّى وأغرى الجفن بالإمطار «4» 8- أبكيك ما بكت الحمام هديلها ... وأحنّ ما حنّت إلى الأوكار 9- أبكي «5» بمحمرّ الدّموع وإنّما ... تبكي العيون نظيرها بنضار 10- قالوا صغيرا قلت إنّ «6» وربّما ... كانت به الحسرات غير صغار 11- وأحقّ بالأحزان ماض لم يسئ ... بيد ولا لسن «7» ولا إضمار 12- نائي اللّقا وحماه أقرب مطرحا «8» ... يا بعد مجتمع وقرب مزار

13- لهفي لغصن راقني بنباته ... لو أمهلته التّرب للإثمار 14- لهفي لجوهرة خفت «1» فكأنّني ... حجّبها «2» من أدمعي ببحار 15- لهفي لسار حار فيه تجلّدي ... وا حيرتي بالكوكب السّيّار «3» 16- سكن الثّرى فكأنه سكن الحشا ... من فرط ما اشتغلت «4» به أفكاري 17- أعزز عليّ بأنّ ضيف مسامعي ... لم يحظ من ذاك اللّسان بقاري «5» 18- أعزز عليّ بأن رحلت ولم تخض ... أقدام فكرك أبحر الأشعار 19- أعزز عليّ بأن رفقت «6» على الرّدى ... وعليك من دمعي كدرّ نثار 337/ب 20- أبنيّ إن تكس التراب فإنّه ... غايات أجمعنا وليس بعار «7» 21- ما في زمانك ما يسرّ مؤمّلا ... فاذهب كما ذهب الخيال الساري 22- لو أنّ أخباري إليك توصّلت ... لبكيت في الجنّات من أخباري 23- أحزان مدكّر «8» ووحشة مفرد ... ومقام مضيعة وذلّ جوار

24- أبنيّ قد وقفت عليّ حوادث ... فوقفن «1» من طلل على آثار 25- ومضى البياض من الحياة وطيبها ... لكنّه أبقته فوق عذاري 26- نم وادعا فلقد تقرّح ناظري ... سهرا ونامت أعين السّمّار 27- أرعى النجوم وكلّ ذيل ظلامه «2» ... متشبّث بالنجم في مسمار 28- خلع الصّباح على المجرّة سجفه ... أم قسّمت شمس النّهار دراري 29- أم غاب مع طفلي «3» أخير دجنّتي ... لا كوكبي فيها ولا أسحاري 30- تبا لعادية «4» الزّمان على الفتى ... ولقد حذرت وما أفاد حذاري 31- وحويت دينارا لوجهك فانتحى «5» ... صرف المنون وراح بالدّينار 32- أبنيّ إنّي قد كنزتك في الثّرى ... فانفع أباك بساعة الإقتار 33- إن تسقه في الحشر شربة كوثر ... فلقد سقتك جفونه بغزار «6» 34- أبنيّ إن تبعد فإنّ مدى اللّقا ... بيني وبينك مسرع التّيار «7» 35- كيف الحياة وقد دفنت جوانحي ... ما بين أنجاد إلى أغوار 36- وحوى بنيّ تراب مصر وجلّق «8» ... كالغيم مرتكما «9» على أقمار

37- طرقت على تلك العيون طارق ... وطرت على تلك الجسوم طوارى 38- وبدت لدى «1» البيدا مطيّ قبورهم ... علما بأنّهم على أسفار 338/أ 39- قسما بمن جعل الفناء مسافة ... إنّا على خطر من الأخطار 40- نجلو عواقب أمرنا بقرائح ... فطن «2» ونسلك مسلك الأغمار «3» «4» 41- قل للذين تقدّمت أمثالهم ... أين الفرار ولات حين فرار 42- ما بين أشهب «5» للظّلام معاود ... ركضا وأدهم «6» للدّجى كرّار 43- يطأ الصغير ومن يعمّر يلتحق ... وعليه من شيب كنقع غبار 44- ما لي وعتب الشهب في تقديرها ... ولقد تصاب الشهب بالأقدار 45- لا عقرب «7» الفلك اللّسوب من الردى ... تنجو «8» ولا أسد البروج «9» الضاري 46- يرمي الهلالف بقوسه أرواحنا ... ولقد يصاب القوس بالأوتار 47- كتب الفناء على الشواهد حجّة ... غنيت عن الإقرار والإنكار 48- فلتظهر الفطن الثّواقب «10» عجزها ... فظهوره سرّ من الأسرار 49- وليصطبر متفجّع فلربّما ... فقد المنى ومثوبة «11» الصّبّار

50- أين الملوك المرفلون «1» إلى العلى ... عثروا إلى الأجداث أيّ عثار 51- كانوا جبالا لا ترام فأصبحوا ... بيد الرّدى حفنات ترب هار «2» 52- أين الكماة إذا العجاجة أظلمت ... قدحوا القسىّ وناضلوا بشرار «3» 53- سلموا على عطب «4» الوغى ودجابهم ... داجي المنون إلى محلّ بوار «5» 54- أين الأصاغر في المهود كأنما ... ضمّت كمائمها على أزهار 55- خلط الحمام جسومهم ولحومهم «6» ... حتّى تساوي الدّرّ بالأحجار 56- فلئن صبرت ففي الأولى متصبّر ... ولئن بدا جزعي فعن أعذار «7» 57- درّت عليك من الغمام مراضع ... وتكنفتك «8» من النجوم جوار 339/ب 58- تسقي ثراك وليس ذاك بنافعي ... لكن أغالط مهجتي وأداري - 792- «9» وقوله: (سريع) 1- لا أظلم الشّيب فمن قبله ... لم يك لي في طيب عيش نصيب - 792-

2- كلّا ولا قبل سواد الصّبا ... كأنّما أبيض خدّي مشيب - 793- «1» وقوله: (بسيط) 1- قالوا عهدناك ذا شعر نلذّ به ... ما باله قد تولّى حسنه الآتي 2- فقلت من كثر ما أشكو به ضررا ... والشّعر يفسده كثر الضّرورات - 794- «2» وقوله: (متقارب) 1- بعثت بهث واثقا أنّ لي ... شفاعة ذى أمل نافعث 2- ولا شيء أحسن من مالك ... تجود يداه على شافع «3» - 795- «4» وقوله: (خفيف) 1- أيّها العاذل الغبيّ تأمّل ... من غدا في صفاته القلب ذائب 2- وتعجّب لطرّة وجبين ... إنّ في اللّيل والنّهار عجائب - 793- - 794- - 795-

- 796- «1» وقوله: (سريع) 1- تناسبت فيمن تعشّقته ... ثلاثة تعجب كلّ البشر 2- من مقلة سهم ومن حاجب ... قوس «2» ومن نغمة صوت وتر - 797- «3» وقوله: (وافر) 1- وغانية يرافقني «4» إذا ما ... صبوت لها ذو والعقل السّليم 2- وأعذر إن بكيت على رياض «5» ... بكاء البحتريّ «6» على نسيم - 796- - 797-

- 798- «1» 340/أوقوله: (بسيط) 1- وصارم كعباب الموج ملتمع ... يكاد يفرق رائيه ويحترق 2- لمّا غدا جدولا تسقى المنون به ... أضحى يشفّ على حافاته العلق - 799- «2» وقوله: (كامل) 1- يا ربّ ليل بتّه متنعّما ... برشيقة تغني بردف مثقل 2- أ ... ى بجانب ك.. ها في حجرها ... عرف المحلّ فبات دون المنزل - 800- «3» وقوله: (رمل) 1- سيّدي قد كلّضفتني زوجتي ... حلقا فانظر إلى حالي الأشق 2- كنت في الشّعر أكدّي برهة ... وأنا اليوم أكدّي في الحلق - 798- - 799- - 800-

- 801- «1» وقوله: (بسيط) 1- أشكو السّقام وتشكو مثله امرأتي ... فنحن في الفرش والأعضاء نرتجّ «2» 2- نفسان والعظم في نطع يجمّعنا ... كأنّما نحن في التمثيل شطرنج «3» - 802- «4» وقوله: (بسيط) 1- قد أمكنت فرص اللّذات فانتهز ... وسامحتك وعود العيش «5» فانتجز «6» 2- روض يزفّ «7» ومعشوق وكأس طلا ... فقد ظفرت «8» بعيش غير ذي عوز 3- أما ترى الرّاح يهدي «9» صفو مزنتها ... غيم الزّجاج إلى أرض الحشا الجرز «10» - 801- - 802-

4- وحامل الرّاح «1» قد جاز الغرام به ... قلبي ولولا فتاوى الحبّ لم يجز 5- والزّهر قد نفحت في الأفق نسمته ... نفح الثّناء عليكم يا بني اللّكز «2» 6- أنتم قياس «3» إذا أجرى الورى نسبا ... للجود عدّ إلى أيديكم وعزي 341/ب 7- نعم المفيدون للطّلاب «4» ما سألوا ... والآخذون من الهلاك «5» بالحجز «6» 8- والجاعلون معاني المجد واضحة ... بين الأنام وكان المجد كاللّغز 9- لم يبق بين بني الدّنيا وبينكم ... إلّا مشابه بين الدّرّ والخرز 10- دلّ العلاء على إيضاح سؤددكم ... دلالة القبس الموفي على نشز «7» 11- ذو الجود والبأس من يعرض لسطوته ... يهلك ومن يرج «8» نعمى كفّه يفز 12- وشائد البيت لا حقّ بمطّرح ... للقاصدين ولا فكر بمكتنز «9» 13- أمّا النّدى فندى غرّ نخادعه ... والعزم عزم سديد «10» الرأي محترز «11»

14- جدوى على إثر جدوى غير قاصرة ... كالسّيل محتفز في إثر محتفز 15- لو نازعته بيوت الأوّلين على ... لصيّر الصّدر منها موضع العجز 16- غزا إلى الجيش منصور اللّوا ودنا ... جيش السّؤال إلى أمواله فغزي 17- يا ماجدا نال من حمد ومن شرف ... ما لم ينل آل حمدان «1» ولم تحز «2» 18- تقاصر الشعر عن علياك من خجل ... حتى البسيط «3» تماما آخر الرّجز «4» 19- وما وفتك الطّوال المسهبات «5» ثنا ... فكيف نبغى وفاء الحقّ بالوجز «6»

- 803- «1» وقوله: (سريع) 1- أفديه أعمى مغمدا لحظه ... ليرتعي «2» في خدّه الوردي 2- تمكّنت عيناي من وجهه ... فقلت هذى جنّة الخلد - 804- «3» وقوله: (طويل) 1- بروحي مكفوف اللّواحظ لم يدع ... سبيلا إلى صبر يفوز بخيره 2- سوالفه تغني الورى جلّ طرفه «4» ... (ومن لم يمت بالسيف مات بغيره) - 803- - 804-

- 805- «1» 342/أوقوله: (خفيف) 1- أيّ شيء يا سيّدي يبلغ «2» النا ... س ويصطادهم بكلّ مكان 2- وهو ذو حافر يسير ويسري ... كلّ وقت وليس بالحيوان 3- ملحد لا يزال في شرعة «3» الدّي ... ن وإن كان ليس بالإنسان - 806- «4» وقوله: (كامل) 1- يا صاحبا لي إن يغب فعهوده ... لم تنس حيث تناست الأحباب 2- أرسلت تمرا بل نوى فقبلته ... بيد الوداد وما عليك عتاب 3- وإذا تباعدت الجسوم فؤدّنا ... باق ونحن على النّوى «5» أحباب - 805- - 806-

- 807-» وقوله: (رجز) 1- يا تاركين للمحبّ أدمعا ... قد وقّع «2» الحزن له إطلاقها 2- والذّاريات «3» من دموعي حلفة «4» ... ما نقضت أيدى النّوى ميثاقها 3- (لو حنّت الورق حنيني «5» بعدكم ... لمزّقت من أسف أطواقها 4- ولو غدت تحكي على الأغصان ما ... في كبدي لأحرقت أوراقها. «6» - 808- «7» وقوله: (بسيط) 1- أحرجت قلبي «8» الذي صيّرته وطنا ... أيام لم تك ذا زيغ وذا عوج 2- فكدت بالرّغم أخلي منك جانبه ... خوفا عليك من المستوطن الحرج «9» - 807- - 808-

- 809- «1» وقوله: (سريع) 1- يقول بيت المال لّما رأى ... تدبير مولانا الجليّ «2» الجليل 2- الله أعطاني وكيلا رضى ... فحسبي الله ونعم الوكيل «3» - 810- «4» 343/ب وقوله: (مجزوء الكامل) 1- زادت أصابع «5» نيلنا ... وطمت «6» فأكمدت «7» الأعادي 2- وأتت بكلّ جميلة «8» ... ماذي أصابع ذي أياد - 809- - 810-

- 811- «1» وقوله: (طويل) 1- وأغيد يشكو خصره لؤم ردفه «2» ... ويمسي بليل الشّعر وهو يعاتبه 2- تشبّع «3» ذا شحما وذا بات جائعا ... وشبع الفتى لؤم إذا جاع صاحبه - 812- «4» وقوله: (مجزوء الكامل) 1- لهفى على فرسي الذي ... أضحى قريح المقلتين 2- يكبو «5» فأملك «6» رقّه ... فمعثّر في الحالتين - 813- «7» وقوله: (منسرح) 1- سقيا لأيامي التي سلفت «8» ... ما بين ذاك النّعيم والمرح - 811- - 812- - 813-

2- لا يترك الدّهر عن يدي قدحا «1» ... كأنّي صورة على قدح - 814- «2» وقوله: (منسرح) 1- نقطة خال ووجنة جعلا «3» ... في اللهو لي بعد توبتي غبطه «4» 2- فيا لها وجنة «5» معشّقة ... صرت عليها أقول بالنّقطه - 815- «6» وقوله: (سريع) 1- لو ساعدتني حالة كان لي ... بالقوم في المسعى لكم أسوه «7» 2- حتى ترى عيني مقام العلى ... وكعبة المعروف في الكسوه «8» - 814- - 815-

- 816- «1» وقوله: (كامل) 1- هنّيئتها خلعا تذكّر من رأى ... نعماءك الخضراء «2» والعرض النّقي 2- كنت الأحقّ بأن تهنّئ لبسها ... فملابس التّقوى أحقّ بها التّقي - 817- «3» وقوله: (رمل) 1- سيّدى أصبحت مقروح الحشا ... وبشيّ اللّحم في ذا اليوم عان «4» 2- زخرف الألفاظ قد أرسلته ... فعسى تملأ بيتي بالدّخان - 816- - 817-

- 818- «1» وقوله: (مجتث) 1- لي صديق «2» يسوءني ... ما يقاسي من الألم 2- كيف تخفى «3» شجونه ... وهي نار على علم «4» - 809- «5» وقوله: (طويل) 1- رأيت فتى من باب دارك طالعا ... فأذكرني بيتا قديما شجانيا 2- (خليليّ لا والله ما أملك «6» البكا ... إذا علم من أرض نجد بداليا) - 820- «7» وقوله: (سريع) 1- حمّلت قلبي فيك ما لم يكن ... يحمله قلب وجثمان 2- وعدت تعبانا «8» بحملي له ... وحامل الحامل تعبان - 818- - 819- - 820-

- 821- «1» وقوله: (كامل) 1- لفلان «2» في الديوان صورة حاضر ... فكأنّه «3» من جملة الغيّاب 2- لم يدر ما مخرومة وجريدة «4» ... سبحان رازقه بغير حساب - 822- «5» وقوله: (بسيط) 1- يا مشتكي الهمّ دعه وانتظر فرجا ... ودار وقتك من حين إلى حين 345/ب 2- ولا تعاند إذا أصبحت في كدر ... فإنّما أنت من ماء ومن طين - 821- - 822-

- 823- «1» وقوله: (طويل) 1- أيا سيّدى إن لم تكن منك زورة «2» ... فنظم كأمثال العقود النّفائس «3» 2- يهاب ابن قادوس «4» اقتحام بحوره ... ويقلى لعجز دونه ابن قلاقس - 823-

- 824- «1» وقوله: (خفيف) 1- ربّ سوداء مقلة هيّجت لي ... داء وجد أعظم به من داء «2» 2- ليت رمان صدرها كان يجنى ... فهو بعض الدّوا من السّوداء - 825- «3» وقوله: (كامل) 1- رقّ النّسيم كرقّتي من بعدكم ... فكأنّفه في حبكم نتغاير «4» 2- ووعدت بالسّلوان واش «5» عابكم ... فكأنّنا في كذبنا نتخاير «6» - 826- «7» وقوله: (مجزوء الكامل) 1- أفدي حبيبا ليس لي ... في حسنه الفتّان لائم - 824- - 825- - 826-

2- سبحان مالي خدّه ... تبرا وصائغ فيه خاتم - 827- «1» وقوله: (رجز) 1- جاء الطّواشيّ «2» بها نصفّية ... كأنّها الصّبح إذا تبلّجا 2- مستورة بذيله فحبّذا ... طرّة صبح «3» تحت أذيال الدّجى - 828- «4» وقوله: (طويل) 1- أحاشيك يا نجل الوزارة من أذى ... تمكّن في أسرارنا «5» والجوانح 2- دفنت النّوى والتمر فيمن تحبه «6» ... ودفن النّوى يا ميّ إحدى الفضائح - متنبها وكأنه ... لفتور ذاك اللحظ نائم أشكو ذوائب شعره ... شكوى السليم إلى الأراقم - 827- - 828-

- 829- «1» 346/أوقوله: (طويل) 1- بروحي مشروط «2» على الخدّ أسمر ... دنا ووفى بعد التّجنّب والسّخط 2- وقال على اللّثم اشترطنا «3» فلا تزد ... فقبّلته ألفا على ذلك الشّرط - 830- «4» وقوله: (بسيط) 1- أهدي لبابك أوراقا ملفّقة «5» ... من حظّه منك إرفاد وإرفاق «6» 2- غرس «7» لنعماك سامح جهد قدرته ... إن لم يكن ثمر منه فأوراق - 831- «8» وقوله: (خفيف) 1- يا خليلا جعلته العين والقل ... ب وملّكته ذخائر حبي «9» - 829- - 830- - 831-

2- لا عجيب إذا جلبت لي الضّ ... رّ «1» فهذي عادات عيني وقلبي - 832- «2» وقوله: (منسرح) 1- كلّ فعال العلاء تعجبني «3» ... كأنّني بالعلاء مفتون 2- يحمض «4» بالمطل حلو موعده ... فوعده سكّر وليمون - 833- «5» وقوله: (مخلع البسيط) 1- حلا ثنائي على عليّ «6» ... كما حلا جوده المواتي فرحت ذا سكّر بياض «7» ... وراح ذا سكّر نباتي «8» - 832- - 833-

- 834- «1» وقوله: (بسيط) 1- يا دهر رفقا فما أبقيت لي أملا ... من ثروة «2» أتمنّاها ولا جذل «3» 2- قطعت باليأس آمالي لديك فقد ... (تركتني أصحب الدّنيا بلا أمل) «4» - 835- «5» 347/ب وقوله: (طويل) 1- ألا ربّ يوم والظّبا حول دارها ... تصفّ «6» على أيدي الكماة وتزهر 2- (وقفت كأني من وراء زجاجة ... إلى الدّار من فرط الصّبابة أنظر) «7» - 836- «8» وقوله: (طويل) 1- كذا أبدا يا أرفع الناس همّة ... غوادي «9» النّدى من راحتيك غزار - 834- - 835- - 836-

2- أقدّم أطراسا وتمنح أنعما ... فمنّي أوراق ومنك ثمار - 837- «1» وقوله: (طويل) 1- إليك ابن عبّاس سرى حامل الرّجا ... فأغنيت «2» من فقري وآمنت من باس 2- وفي بابك العالي «3» تفسّرت المنى ... ومن أين للتفسير مثل ابن عبّاس «4» - 838- «5» وقوله: (طويل) 1- ظمئت «6» إلى تقبيل كفّ كريمة ... تكاد بها الأقلام تعشب «7» باللّمس 2- وأرمد عينيّ التسهّد والبكى ... وحسبك أنّي لا أرى بهجة الشمس - 837- - 838-

- 839- «1» وقوله: (بسيط) 1- أحسن بسابغة «2» التحجيل «3» سابقة ... فما لها من جياد الخيل أشباه 2- تغدو حوافرها للصّخر ماضغة ... كأنّ آثارها في الصّخر أفواه - 840- «4» وقوله: (طويل) 1- فقدت من الخلّان قوما سألتهم ... دوام الوفا إنّ الوفا لقليل «5» 2- (وإنّ افتقادى واحدا بعد واحد ... دليل على أن لا يدوم خليل) «6» - 839- - 840-

- 841- «1» وقوله: (طويل) 1- وقالوا أحاطت ذقنه «2» بخدوده ... ووجدك لا ينفكّ يذكر حسنه 348/أ 2- فقلت نعم ضيف «3» بقلبي نازل ... أعظّم مثواه وأكرم ذقنه - 842- «4» وقوله: (كامل) 1- للعبد عندكم رسوم «5» مكارم ... إن أقصيت فنداكم يدنيها 2- وكفاكم أنّ الغيوث إذا همت ... تمحو الرّسوم وغيثكم ينشيها - 843- «6» وقوله: (طويل) 1- أسرّت إلى سمعي غداة ترحّلت ... حديثا إلى حفظ العهود يشير - 841- - 842- - 843-

2- وهيّج عندى قرب خدّى لخدّها ... بكى فتلاقى روضة وغدير - 844- «1» وقوله: (كامل) 1- سل عن مقامي والرّءوس حوائم «2» ... تحت العجاجة والنّسور وقوع 2- والمرهفات على الجسوم شوابك ... حتى كأنّ المرهفات دروع «3» 3- هل أكشف الغمّى ووجهي مسفر «4» ... فأروق عادية الوغى وأروع - 845- «5» وقوله: (كامل) 1- لله ترخيم بجامع جلّف ... متناسب التجنيس والتّقسيم «6» - 844- - 845-

2- بزيادة التحسين خالف قول من ... قد قال إنّ النقص في التّرخيم «1» «2» - 836- «3» وقوله: (وافر) 1- قفا زيد لقد جرّبت منّي ... أنامل كالسّياط ذوات حوم 2- كأنّك سيف زيد الخيل «4» عندي «5» ... أحادثه بصقل «6» كلّ يوم - 847- «7» وقوله: (بسيط) 1- أفدي غزالا من الأتراك قد جمعت ... في حسنه من معاني الحسن أشتات - 846- - 847-

349/ب 2- عيناه منصوبة للقلب غالبة ... والخدّ فيه لقتل النفس شامات «1» - 848- «2» وقوله: (طويل) 1- أمولاي لا زالت مساعيك للعلى ... وكفّك للجدوى ورأيك للحزم 2- مضى السّلف الأزكى وأبقاك للندى ... فلله ما أبقى الوليّ «3» من الوسمي «4» - 848-

- 849- «1» وقوله: (سريع) 1- تبسّم الشيب بذقن الفتى ... يوجب سحّ الدّمع من جفنه 2- حسب الفتى بعد الصّبا ذلّة ... أن يضحك الشيب على ذقنه - 850- «2» وقوله: (رمل) 1- قال لي خلّي تزوّج تسترح ... من أذى الفقر «3» وتستغني يقينا 2- قلت دع نصحك إنّي «4» رجل ... لم أضع بين ظهور المسلمينا - 851- «5» وقوله: (رمل) 1- شكر الله أياديك «6» التى ... عاجلت قصدي بأنواع الهبات «7» - 849- - 850- - 851-

2- أنت بالمعروف قد أحييتني «1» ... وكذا الشمس حياة للنبات - 852- «2» وقوله: (بسيط) 1- يا قلب غرّك محبوب كلفت به ... حتى طمعت بوصل دونه الخطر 2- وسرت تطلب لقياه ولا عجب ... (ما أنت أوّل سار غرّه قمر) «3» - 853- «4» وقوله: (وافر) 1- شهاب الدّين يا غيث «5» الموالي ... ومن حاز الثنا والفضل كلّه - 852- - 853-

2- أغث قوما «1» إلى البطيخ «2» أمسوا ... صياما يسألون عن الأهلّه - 854- «3» 350/أوقوله: (رمل) 1- سائلي عن شرح حالي بعد من ... خلّفوني مفردا بين الورى 2- لا أرى العمر يساوي حبّة ... بعد «4» حبّات قلوب في الثّرى - 855- «5» وقوله: (رمل) 1- ربّ نحويّ بدا فى خدّه ... عارض كاللام ما أعلى وأسنى 2- قلت ما هذا السّواد المنتهي «6» ... قال حرف جاء في الحسن لمعنى - 854- - 855-

- 856- «1» وقوله: (منسرح) 1- أصبحت يا سيّدي ويا سندي ... أقصّ في أمر بغلتي القصصا 2- بالأمس كانت لفرط سرعتها ... طيرا وفي اليوم أصبحت قفصا «2» - 857- «3» وقوله: (طويل) 1- أجيراننا حيّى دياركم الحيا ... وطاف عليها للغمائم ساقي 2- فقد أنفد «4» التوديع حاصل أدمعي ... ولم يبق منه للمنازل باقي - 858- «5» وقوله: (طويل) 1- قفا فاعجبا من هامل الغيث إنّه ... لأحسن شيء يعجب العين والفكرا - 856- - 857- - 858-

2- تمدّ» على الآفاق بيض خيوطه ... فينسج منها للثرى حلّة خضرا - 859- «2» وقوله: (خفيف) 1- ليت شعري إلى متى أتشكّى ... سفرا ماله ولو متّ آخر 2- بطن ساري الوحوش قبري «3» فما أب ... رح في الموت والحياة مسافر - 860- «4» وقوله: (سريع) 1- طلّقت أبكار القوافي التي ... كم معها في بيت شعر أويت 2- فلا وقت كان للشعر «5» لا ... يجمعنا من بعد ذا سقف بيت - 859- - 860-

- 861- «1» وقوله: (متقارب) 1- جواب أتاني في ساعة ... يدلّ على نفث صلّ اليراعه «2» 2- ومن عجب الدّهر أنّي به ... لذذت على أنّه سمّ ساعه «3» - 862- «4» وقوله: (سريع) 1- لا واخذ «5» الله غزال التّقا ... أىّ عنا أبقى على العاشق 2- ما بين حجل ووشاح بدا ... فراح «6» بالصّامت «7» والنّاطق «8» - 861- - 862-

- 863- «1» وقوله: (وافر) 1- عدمت محمّدا «2» أيّام أرجو ... نداه على الزّمان وأستجير 2- فإن تحجب محاسنه بلحد ... ففي أفق السّماء لها مسير 3- تقول لروحه الأفلاك أهلا ... لنا زمن «3» على هذا ندور - 864- «4» وقوله: (مخلع البسيط) 1- نظمت للصاحب «5» المرجّى ... رائية كالجمان يلقط 2- نروم «6» من برّه نقوطا «7» ... والحكم للرّاء أن تنقّط - 863- - 864-

- 865- «1» وقوله: (طويل) 1- عليّ ديون من ثنا لم أقم بها ... فيا عجبا لي في ازديادي «2» من الفضل 2- وأعجب من ذا أن شمسك أشرقت «3» ... وها أنا منها حيثما كنت في ظلّ - 866- «4» 352/أوقوله: (بسيط) 1- هنّئت عاما سعيد الوجه ترقبه ... هلاله «5» خير مأمول ومرتقب 2- بدا لتحصد أعمار العداة به ... كأنّه منجل قد صيغ من ذهب «6» - 865- - 866-

- 867- «1» وقوله: (مجزوء الكامل) 1- يا حبّذا خدّ الحبي ... ب وقد «2» أضاء شريقه 2- إن لم يكن في الحسن نف ... س الرّوض فهو شقيقه - 868- «3» وقوله: (منسرح) 1- يا واصف الخيل بالكميت وبال ... نّهد «4» أرحني من طول وسواسي «5» 2- لو (كنت) «6» تحت الدّجى تشاهدني ... لا ستحسنت مقلتاك أفراسي 3- لا نهد إلّا من صدر غانية ... ولا كميتا «7» إلّا من الكاس - 867- - 868-

- 869- «1» وقوله: (كامل) 1- يا سائلي رتبة الحليّ «2» في ... نظم القريض وراضيا بي أحكم 2- للشعر حليّان ذلك «3» راجح ... ولّى الزّمان «4» به وهذا قيّم - 870- «5» وقوله: (مخلع البسيط) 1- دعوا «6» شبيه الغزال يرمي ... في مهجتي بالنفار جمرا - 869- - 870-

2- تالله «1» لا فاتني لقاه ... وعين كيسي عليه حمرا - 871- «2» وقوله: (متقارب) 1- أمولاي ما اسم جليّ إذا ... تعوّض «3» عن حرفه الأوّل 2- لك الوصف من شخصه سالما ... فإن قلعت عينه قلت لي - 872- «4» وقوله: (متقارب) 1- عهدت فؤادي ملآن من ... شجون فلا موضع لازدياد 353/ب 2- إلى أن تعشّقت حلو الحليّ ... وللحلو زاوية في الفؤاد «5» - 871- - 872-

- 873- «1» وقوله: (كامل) 1- بشرى سمائكم «2» بطلعة فرقد ... يومي إليها بالسّعود بنانها 2- إنّ المنابر أورقت بأكفّكم ... فتكاثرت من نسلكم أغصانها - 874- «3» وقوله: (طويل) 1- حمى الله شمس المكرمات «4» من الأذى ... ولا نظرت عيناي يوم مغيبه 2- لقد أبقت الأيام منه لأهلها ... بقية صافي المزن غير مشوبه 3- كأنّ سجاياه اللطيفة قهوة ... حباب حميّاها بياض مسيبه - 873- - 874-

- 875- «1» وقوله: (منسرح) 1- قام غلام الأمير يحسب في ... يوم طهور «2» البنين طاووسا 2- فأنزل الحاضرون من شبق «3» ... وعاد ذاك الطّهور تنجيسا - 876- «4» 354/أوقوله: (كامل) 1- يا حسن كتّاب الحساب وخلفهم ... غلمانهم بدفاتر وتعابي «5» 2- كم قد رجوت وطا «6» حساب مثلهم ... فلقيته لكن بغير حساب «7» - 875- - 876-

- 877- «1» وقوله: (بسيط) 1- لا يبرح الناس في محل وفي شظف «2» ... حتّى يجدّد لي في وجهه سفر 2- هناك تلقى غوادي المزن هاطلة ... الحمد لله بي يستنزل المطر - 878- «3» وقوله: (خفيف) 1- وصلتنا ديوك برّك تزهى «4» ... بوجوه جميلة مستجاده 2- كلّ عرف «5» يروق حسنا وإني ... أرتجي أن تكون عرفا وعاده - 879- «6» وقوله: (بسيط) 1- قل للرئيس جمال الدّين» لا برحت ... هباته كلّ وقت ذات أساس «8» - 877- - 878- - 879-

2- واصل رجائي بعرف «1» الدّيك مقتبلا ... (لن يذهب العرف عند الله والناس) «2» - 880- «3» 355/ب وقوله: (خفيف) 1- كلّ شهر لنا هلال جديد ... مبرز للفناء كلّ مصون 2- يقرأ الناظر المفكّر فيه ... فوق طرس السماء نون المنون - 881- «4» وقوله: (رمل) 1- بين أجفان ابن عمرو وسواد «5» ... دائر في كلّ «6» عقل بخمر 2- كلّما طاف على الصّبّ غنّى ... اسقنيها يا سواد بن عمرو - 780- - 781-

- 882- «1» وقوله: (هزج) 1- تركت المال والجاه «2» ... لأهل المال والقدره «3» 2- فحسبي من حمى كرّ «4» ... وحسبي من غنى كسره «5» - 883- «6» وقوله: (خفيف) 1- يا سراة الشآم أشكو إليكم ... أرض قلّ «7» فلاحها للرّجاء 2- وإذا قلّت الفلاحة في الأر ... ض فعتب الفتى على الرّؤوساء - 884- «8» وقوله: (مجزوء الكامل) 1- يا شهد «9» لا والله أق ... نع «10» أن أعاود قبلتك - 882- - 883- - 884-

2- ما أنت «1» عندي شهدة «2» ... حتى أذوق عسيلتك - 885- «3» وقوله: (مجتث) 1- إذا نظرت كتابا ... فاضت دموعي الهوامي 2- نعم فما الكتب عندي ... إلّا قبور الكرام - 886- «4» وقوله: (كامل) 1- يا ربّ أسألك الغنى «5» من معشر «6» ... غضبوا وكافوا «7» بالجفاء تودّدي «8» 356/أ 2- قالوا كرهنا منه مدّ لسانه ... والله ما كرهوا سوى مدّ اليد - 885- - 886-

- 887- «1» وقوله: (طويل) 1- يقولون من وطء «2» النساء خف العمى ... فقلت دعوا قصدي فما فيه من شين 2- إذا كان شفر العين دون محلّها ... فعندى أنا الأشفار خير «3» من العين - 888- «4» وقوله: (كامل) 1- سلبت محاسنك الغزال صفاته ... حتى تحيّر كلّ ظبي فيكا 2- لك جيده ولحاظه ونفاره ... وغدا تصير قرونه لأبيكا - 889- «5» وقوله: (خفيف) 1- ومليح إذا نظرت إليه ... قلت ملك» له الملاح رعايا - 887- - 888- - 889-

2- ركّب الله في معانيه ملحا «1» ... فهو يشوي به كبود البرايا - 890- «2» وقوله: (طويل) 1- فدى لابن ريّان «3» الكرام لأنه ... أخو منن روّى بها كلّ ظمآن 2- إذا جال فكرى فى تسرّع جوده ... تقول القوافي إنّه من سليمان «4» - 890-

- 891- «1» وقوله: (بسيط) 1- عرّج على حرم المحبوب منتصبا ... لقبلة «2» الهمّ واعذرني على سهري 2- وانظر إلى الخال دون الثغر «3» فوق لمى «4» ... تجد بلالا «5» يراعي الصّبح في السّحر - 892- «6» وقوله: (كامل) 1- شكرا تقيّ الدّين «7» «8» للمنن التي ... رقّت على عافي حماك ظلاله «9» - 891- - 892-

2- لله أنت فقد وصلت إلى مدى ... في الفضل أعيى السائدين مناله «1» 357/ب 3- وغدوت وجها مثل خالك في الورى ... يا حبّذا وجه الزّمان وخاله «2» - 893- «3» وقوله: (متقارب) 1- تسلّى فؤادي بعد الجوى «4» ... ونامت جفوني بعد الأرق 2- وزدتم «5» شجوني إلى أن مضت «6» ... كما حمّص الشيء حتى احترق - 894- «7» وقوله: (كامل) 1- ربع لعزّة صامت لا يفهم ... وقلوبنا في رسمه تتكلّم - 893- - 894-

2- لو لم تعفّ «1» حماه غرّ سحائب ... تهمي لعفّته دموع سجّم «2» «3» - 895- «4» وقوله: (طويل) 1- لوالد الممدوح مرأى مبارك ... ولولاك في عليائه لم يشارك 2- فإن ترو أخبار التقى عنك والعلى ... فإنّك عبد الله ابن المبارك «5» - 896- «6» وقوله: (طويل) 1- رعى الله نعماك «7» التي من أقلّها ... قطائف «8» في طيّ النّوال لها نشر «9» - 895- - 896-

2- أمدّ لها كفيّ فيهتزّ «1» فرحة ... (كما انتفض العصفور بلّله القطر) - 897- «2» وقوله: (مخلع البسيط) 1- رأيت في جلّق غزالا ... تحار في حسنه العيون 2- فقلت ما الاسم قال موسى ... قلت هنا تحلق الذّقون - 898- «3» وقوله: (مجزوء الرمل) 1- سائلي عن شرح حالي ... كيف حال الضّعفاء 2- فرط إسهال وفقر ... إنّ ذا حال خراء - 899- «4» 358/أوقوله: (طويل) 1- تشبّهت بالغدران والنقش روضها «5» ... فأصبحت ملهى الناظر المتوسّم «6» - 897- - 898- - 899-

2- وأنبتّ بالتطعيم أشجار فضّة ... ومن أحسن الأشجار كلّ المطعّم «1» - 900- «2» وقوله: (طويل) 1- ولم أنسه كالغصن تمطره «3» الحيا ... على إثر «4» حمّام وتعطفه الصّبا 2- تلثّم بالمنديل أبيض ساذجا «5» ... فصار بضوء الخدّ أحمر مذهبا - 901- «6» وقوله: (متقارب) 1- وأشهب «7» أعجبني حسنه ... ومثل محاسنه يعجب 2- وقد عنبر «8» النقع أعطافه ... فيا حبّذا العنبر الأشهب - 900- - 901-

- 902- «1» وقوله: (كامل) 1- هنّئت بالعيد السّعيد ولا تسل ... في يومه عن همّي المتغلّب «2» 2- أجري الدّموع دما وآكل في أسى ... لحمي كأنّي فيه قد ضحّيت بي - 903- «3» وقوله: (كامل) 1- أهواه معسول الرّضاب منعّما ... ولكم يعذّبني «4» الهوى بمنعّم 2- يا قلب هذا شعره وجفونه ... صبرا على هذا السّواد الأعظم - 904- «5» وقوله: (متقارب) 1- أيا ابن نباتة جار الزّمان ... وزلت وزالت قوى همّتك 2- وقد كنت ذا خدمة «6» وانقضت ... فلا أوحش الله من خدمتك - 902- - 903- - 904-

- 905- «1» 359/ب وقوله: (رجز) 1- وقائل لي عندما عدت إلى ... قاضي القضاة بعد طول مسرى 2- أهد له مدحا جميلا ودعا ... قلت نعم كلاهما وتمرا - 906- «2» وقوله: (مجزوء الكامل) 1- يا حبّذا الظّبي الذي ... قد كان يعتمد النّفارا 2- عاينت صدغ صفاته ... فجعلت خاتمه سوارا - 907- «3» وقوله: (سريع) 1- سافرت للساحل مستبضعا «4» ... حمدا وقصدا حسن الجملة - 905- - 906- - 907-

2- فيا له من متجر «1» وافر ... ما نفقت «2» فيه سوى بغلتي - 908- «3» وقوله: (مجزوء الكامل) 1- كان لي مال ولبس ... قبل تهيامي وسكري 2- فسبكت المال طاسا ... وصبغت اللّبس خمري - 909- «4» وقوله: (خفيف) 1- وصديق أنشدته لي بي ... تين حوت في الصّداع معنى بديعا 2- فادّعاها لأجنبيّ ولو كا ... ن ادّعاها لخاف أمرا شنيعا - 908- - 909-

- 910- «1» وقوله: (كامل) 1- كم ذا عليك جوانحي تتلهّب ... يا جنّة فيها المحبّ معذّب 2- آها لصبّ فيك يعجبه الجوى ... حتّى دماء دموعه تتصبّب - 911- «2» وقوله: (منسرح) 1- أشكو إلى الله ما أكابد من ... دمامل مسّني بها الضّرّ» 360/أ 2- في اللّيل عندي من حالها سشبه «4» ... فما لليلي ولا لها فجر - 910- - 911-

- 912- «1» وقوله: (كامل) 1- انظر إلى الزّهر الذي شاق «2» الورى ... خبرا بآفاق «3» البلاد ومخبرا «4» 2- رقمت ثياب غصونه إبر الحيا ... والرّقم أحسن ما يكون مزهّرا - 913- «5» وقوله: (متقارب) 1- أمط بالدّواء ثياب الأذى ... وطب بالرّواح «6» به والغدوّ 2- وكرّر أحاديث بيت الخلا ... ولكن على رغم أنف العدوّ - 914- «7» وقوله: (طويل) 1- لعمرك ما خدّ الحبيب معذّر ... ولكن بمسودّ النّواظر جالي - 912- - 913- - 914-

2- سمت نحوه الأبصار «1» حتّى كأنّها ... بناريّة من هنّا وهنّ صوالي «2» - 915- «3» وقوله: (منسرح) 1- أقبل عند القدوم «4» يسألني ... من أيّ أرضيك نلت إيثارا «5» 2- قلت من الذّ ... ك ما رأى «6» بصري ... خيرا ولكن رأيت منقارا - 916- «7» وقوله: (طويل) 1- إذا كنتم لا تذكرون قضيتي ... وتأبون «8» منّي ساعة أن أذكّرا 2- صدقتم بأنّ الحال «9» تمشي إليكم ... ولكنّه الحبّال «10» يمشي إلى ورا - 915- - 916-

- 917- «1» وقوله: (طويل) 1- هنيئا لك الحجّ الشريف وحبّذا ... بك الرّبع مأهول المنازل والدهر 2- كذا فليعد من عاد مقبول حجة ... له الذّكر في كلّ المنازل والأجر 361/ب 3- يحنّ اشتياقا نحو رؤيته الصّفا «2» ... ويملأ دمعا بعد فرقته الحجر «3» - 918- «4» وقوله: (خفيف) 1- وبديع الجمال لم ير طرفي ... مثل أعطافه ولا طرف غيري - 917- - 918-

2- كلّما حدت عن هواه أتاني ... سهم ألحاظه كسهم النّميري - 919- «1» وقوله: (رمل) 1- قالت الناس فلان قد مضى «2» ... بعد مسّ «3» الفقر ذا مال عريض 2- لا وعليائك ما عندي ما ... يدخل الوزن سوى نظم القريض - 920- «4» وقوله: (مجزوء الكامل) 1- كانت للفظي رقّة ... بخل الزّمان «5» بما استحقّت - 919- - 920-

2- فصرفتها عن فكرتي «1» ... وقطفتها من حيث رقّت - 921- «2» وقوله: (وافر) 1- أجزت لهم رواية ما أشاروا ... إليه بمقتضى الشّرط العزيز 2- إجازة مادح مثن عليهم ... فيا عجبا لممدوح «3» مجيز - 922- «4» وقوله: (متقارب) 1- عملت لمن جود أقلامه ... ربيع ومنطقه بارع 2- إذا أطلع «5» الخطّ رمّلته «6» ... فيا حبّذا الرّمل «7» والطّالع «8» - 921- - 922-

- 923- «1» وقوله: (كامل) 1- آها لصبّ يوم جدّ رحيلكم ... تعبان بين الوجد واللّوّام 2- يخفي بكمّيه ملوّن أدمع ... وكأنّها الأزهار في الأكمام - 924- «2» 362/أوقوله: (كامل) 1- إنّي أغار من المدام إذا ... لثم امرؤ في الكأس مبسمها 2- فلذا بنصل الحاء أذبحها ... خنقا وأشرب في الدّجى دمها - 925- «3» وقوله: (خفيف) - 923- - 924- - 925-

1- إنّ سجّادتي الحقيرة قدرا ... لم يفتها من بابك «1» التعظيم 2- شرفت إذ سعت إليك فأمست ... وعليها الصّلاة والتّسليم - 926- «2» وقوله: (كامل) 1- ومسموع لفظك في القلوب ممكّن ... فى الحبّ فوق تمكّن الملحوظ 2- حفظت فوائده وضاع نسيمه ... فاعجب له من ضائع محفوظ - أيا حسنها سجادة سندسية ... يرى للتقى والزهد فيها توسّم إذا ما رآها الناسكون ذوو الحجا ... أمامهم صلوا عليها وسلّموا ومن هنا أخذ الشيخ جمال الدين بن نباتة وقال: عبد العزيز الأنصاري: جاء في خزانة الأدب: 356: (وهذه زاوية اخترتها من ديوان الشيخ الإمام العلامة شيخ الشيوخ عبد العزيز الأنصاري الحموي، سقى الله ثراه. أما بعد حمدا لله الذي أطلعنا من زوايا الأدب على خبايا، وأرشدنا بمشايخ شيوخه إلى سلوك ما فيه من المزايا، والصلاة والسلام على نبيه الذي اختاره فكان نعم المختار، وعلى آله وصحبه المنتظمين في سلك هذا الاختيار، فقد انتهى ما أوردته منوعا في التورية، من الحلاوات القاهرية، وقد تعين أن أفكه المتأمل بعد ذلك بالفواكه الشامية، واقتطفت له من فروع شيخ الشيوخ ما يظهر به مزية الثمرات الحموية، وقدرة السلطنة في الأدب وناهيك بالسلطنة الشيخية، فاخترت من أبيات قصائده) . ومواصيل مقاطيعه ما يحلو بها التشبيب، وسميته (زاوية شيخ الشيوخ) علما بأنها زاوية يتأهل بها الغريب، والله تعالى يجعلنا ممن تخير العمل الصالح فأحسن، وسمع القول فاتبع منه الأحسن، فمن ذلك قوله) . وتمثل له بعدد من أبيات قصائده. - 926-

- 927- «1» وقوله: (كامل) 1- علّقتها غيداء حالية الطّلا «2» ... تجني «3» على فضل المحبّ وقلبه 2- بخلت بلؤلؤ ثغرها عن لاثم ... فتطوّقت «4» بمثال ما بخلت به - 928- «5» وقوله: (مجزوء الكامل) 1- يفديك عبد مودّة ... أسليته عن أهله 2- وكتبت «6» عهدة «7» رقّه ... بالمكرمات فحلّه - 927- - 928-

- 929- «1» وقوله: (وافر) 1- شربت منكرّش «2» الندماء حتفا «3» ... فلا موتي على هذا الطّريق 2- ثكلتهم أما علموا بأنّي ... خليع «4» أشتهي شرب العتيق - 930- «5» وقوله: (طويل) 1- أقيما فروض الدّمع فالوقت وقتها ... لشمس ضحى يا ناظريّ ندبتها «6» 363/ب 2- ولا تبخلا عنّي بإنفاق أدمع «7» ... ملوّنة أكوي بها إن كنزتها 3- أغائبة «8» عني وفي القلب «9» شخصها ... كأنّي من عيني لقلبي نقلتها 4- يقولون كم تجري لجارية بكى ... وما علموا النّعمى التي قد فقدتها - 929- - 930-

5- ملكت جهاتي الست «1» فيك محبّة ... فأنت من النفس الشجيّة «2» ستها «3» «4» 6- ألا في سبيل الله شمس محاسن ... وإن لم تكن شمس النهار فأختها 7- تعرفتها دهرا يسيرا وأعقبت ... دوام الأسى يا ليتني لا عرفتها 8- وقال أناس إنّ في الدمع راحة ... وتلك لعمري راحة قد نكرتها «5» 9- هل الدّمع إلّا مهجة» قد أذبتها ... عليك وإلّا هجعة قد غسلتها 10- نصبت جفوني بعد بعدك للدّجى ... وأما أحاديث الكرى فرفعتها 11- وقال زماني هاك بعد تنعّم ... كؤوس الأسى والحزن ملأى فقلت ها 12- بكيتك للحسن الذي قد شهدته ... وللشّيم الغرّ التي قد عهدتها 13- وروضة لحد حلّها غصن قامة ... لعمرى لقد طابت وقد طاب نبتها 14- وحزن فلاة يممته وإنّما ... ديار الظبا «7» حزن الفلاة ومرتها «8» «9»

15- كلانا طريح «1» الجسم بال ولو درت ... إذا ندبتني في الثّرى من ندبتها 16- بروحي من أخفي إذا زرت قبرها ... جواي ولو أعلمتها لعففتها «2» 17- خبيّة «3» حسن كنت مغتبطا بها ... ولكن برغمي في التراب دفنتها 18- وآنسة قد كان حسن عطفها «4» ... فلم يبق لي إلّا نداها «5» ونعتها 19- أنادي ثرى الحسناء والترب بيننا ... وعزّ على سمع المتيّم صمتها «6» 20- كفى حزنا أن لا معين على الأسى ... سوى أنّه «7» تحت الظلام بعثتها 364/أ 21- وتمنيق «8» ألفاظ عليك رقيقة ... كأنّي من نثر الدّموع نظمتها 22- قضيت «9» فما في العيش بعدك لذّة ... ولا في أمان لو لقيت بلغتها 23- سلام على الدّنيا فقد رحل الذي ... تطلّبتها من أجله وأردتها

- 921- «1» وقوله: (بسيط) 1- حاشاك من وحشة تحت الثرى وبلى ... يا سائرا صرت في حزني له مثلا «2» 2- سقيا لقربك والأيام عاطفة ... والقلب يسحب أذيال الهنا جذلا 3- والسّمع قد صمّ عن نجوى «3» عواذله ... وسيف لحظك «4» عندي يسبق العذلا 4- حيث التبسّم طلّاع الثّنية «5» من ... فرط السرور ونشر «6» الطلعة ابن جلا 5- فبينما أنا معطوف على سكن «7» ... حتى تحرّكت الأيام فانتقلا 6- أشكو إلى الله بينا لا انقضاء له ... ورحلة للنّوى لا تشبه الرّحلا «8» 7- بينا أرى فيه للنعش انبعاث سرى ... لا ناقة للسّرى فيه ولا جملا «9» - 931-

8- لهفي عليك وهل لهفي «1» بنافعة ... إذا تحدّر دمع العين وانهملا 9- لم يترك الدّهر من أوقات منتظري ... إلّا أواخر «2» عمر «3» تندب الأولا 10- وتربة يتلقّى الحزن زائزها ... كأنّما تنبت «4» التّبريح والوجلا 11- حديثة الظهر إلّا أنّ باطنها ... قد استجنّ «5» جناب «6» الرّوضة «7» الخضلا 12- أستوقف الجسد المضنى لأندبها ... يا من رأى نادبا يستوقف الطّلا 13- متيّما نصلت فودا شبيبته ... وقلبه من حداد الحزن ما نصلا 14- يا غائبا ذهبت أيدي الحمام به ... بعدا ليومك ماذا بالحشا فعلا 15- إن ينأ شخصك إنّي بعد فرقته ... أدنى وأيسر ما قاسيت ما قتلا 365/3 16- أو ينقضي للمنايا بيننا شغل ... فقد تركن لقلبي «8» بالأسى شغلا 17- آها لقطف معان منك «9» ذي نسق ... جعلت من بعده نار الأسى بدلا 18- هلّا بغيرك ألقى الموت جانبه ... لقد تألّق فيك الموت واحتفلا

19- هلّا قضى غصنك الزّاهي شبيبته ... فما ترعرع حتى قيل قد ذبلا 20- أفدي الذي كان لي عيشا أقرّ به «1» ... فما أبالي أجاد العيش أم بخلا 21- دعا التّجلّد صبري يوم رحلته ... فقلت لا ودعا سقمي فقلت هلا 22- سقم ملكت به معنى النّحول فإن ... جاء الخلال «2» بسقم جاء منتحلا 23- ومقلة قد طغى إنسان ناظرها ... وكان «3» أكثر شيء بالبكا جدلا «4» 24- لا نلت قربك فى دار «5» النعيم غدا ... إن كان قلبي المعنّى عن هواك سلا 25- يا منية الصّبّ أمّا ثكل مهجته ... فقد أقام وأمّا صبرها فجلا «6» 26- سقي ضريحك رضوان ولا برحت «7» ... ركائب السّحب في أقطاره ذللا «8» 27- ما أحسن العيش في عيني وأنت به ... أمّا وأنت بأكناف «9» التّراب فلا

- 932- «1» وقوله: (طويل) 1- هجرت بديع القول هجر المباين ... فلا بالمعاني «2» لا ولا بالمعاين 2- وكيف أعاني سجعة أو قرينة ... وقد فقدت منّي أجلّ القرائن «3» 3- ثوت في مهاوي «4» الترب كالتبر خالصا ... فحقّقت أنّ التّرب بعض المعادن 4- فو الله ما أدري لحسن خلائق ... تسحّ جفوني أم لخلق محاسن 5- دفنتك يا شخص الحبيب ولو بدا «5» ... لعينيك حالي خلت «6» أنك دافني 6- كلانا على الأيام بال وإنّما «7» ... أشدّ البلا «8» بين الحشا كلّ كامن 366/أ 7- إلى الله أشكو يوم فقدك إنه ... عليّ ليوم الحشر يوم التغابن «9» 8- فقدتك والسّرّا وقلبي والصّبا ... فيالك من فقد لفقد مقارن «10» - 932-

9- وكنت أخاف البين قبلك والنوى ... فأصبحت لا آسى على إثر بائن «1» 10- كأنك بادرت الرّحيل تخوّفا ... عليّ من الحسن الذي هو فاتني 11- فديتك من لي من سناك بلمحة ... وينزل بي من بعدها كلّ كائن 12- أأنسى قواما ثقّف «2» الحسن رمحه ... فما فيه من عيب يعدّ لطاعن 13- ووجها حكى من حسنه «3» كلّ مقمر ... ولحظا روى عن طرفه كلّ شادن 14- فوا أسفا حتى أو سّد في الثّرى ... ويدني الرّدى منّا مقيما لظاعن 15- ويا ليت شعري في القيامة هل أرى ... محاسنها ما بين تلك المواطن 16- رشاقة ذاك الخطّ «4» فوق سراطه ... ودينار ذاك الخدّ بين الموازن «5» 17- سقتك غوادي المزن إنىّ ظاميء ... إلى القرب طوعا «6» للزمان المحارن «7» 18- شكرت زمانا جار بعد «8» أحبتي ... وبالغ في العدوى وبثّ الضغائن 19- فلو طاب طابت «9» لي حياتي بعدهم ... وكنت ألاقيهم بطلعة خائن

- 933- «1» وقوله: (طويل) 1- سقى الله جسما منك أودى «2» به الثّرى ... وأودى بعينيّ البكا والتسهّد 2- وقد كان مسلولا يهيّج حسرتي ... فكيف به تحت الثّرى وهو مغمد - 934- «3» وقوله: (طويل) 1- أتاركة بالحزن قلبي مقيّدا ... ودمعي على الخدّين وهو طليق 2- يقولون قد أخلقت جفنك بالبكى ... نعم إنّ جفني بالبكاء خليق 367/ب 3- دعوا الدّمع «4» للجفن القريح مؤاخيا ... فإنّي فقدت الخدّ وهو شقيق - 933- - 934-

- 935- «1» وقوله: (طويل) 1- رعى الله للعلياء قطب «2» سيادة ... يدور عليه كلّ علم وسؤدد 2- متى جئت موسى «3» شائما نار ذهنه ... (تجد خير نار عندها خير موقد) - 936- «4» وقوله: (متقارب) 1- تنطقني مكرمات الجمال ... فتدعو «5» اللّسان إلى مدحه - 935- - 936-

2- وأجلب «1» نظمي ونثري له ... فأروي الصحيحين «2» من صدحه «3» - 937- «4» وقوله: (خفيف) 1- بقّلت وجنة المليح وقد ولّ ... ى زمان الصّبا «5» الذي كنت أملك 2- يا عذار المليح دعني فإنّي ... لست في ذا الزّمان من خلّ بقلك - 937-

- 938- «1» وقوله: (وافر) 1- فديت مؤذّنا تصبو إليه ... بجامع جلّق منّا النفوس 2- لقد زفّ الزّمان به مليحا ... تكاد بأن تعانقه العروس - 929- «2» وقوله: (وافر) 1- فلان الدّين قد أعليت قدري ... وصحّ إلى مودّتك انتسابي 2- ألم ترني بلغت الأفق حتى ... بعثت لك الهلال مع الشهاب «3» - 940- «4» وقوله: (خفيف) 1- يا كريما قد طابق الاسم بالفع ... ل وأنسى في الفضل كلّ كريم «5» - 938- - 939- - 940-

2- لا تخف نبوة «1» الحوادث فاللّ ... هـ كريم يحبّ كلّ كريم - 941- «2» 368/أوقوله: (خفيف) 1- آه كم ذا يسوؤني جرب «3» الج ... سم وكم ذا حالي به معدوق «4» 2- خلق الناس كلّهم من تراب ... وكأنّي من الحصى مخلوق - 942- «5» وقوله: (متقارب) 1- أقول لمن يتشكّى الخطوب ... ويحذر من موبقات الصّروف 2- عليك بأبواب سيف العلا «6» ... ملاذ الفقير وأمن المخوف 3- تجد ظلّه جنّة والجنان ... بلا شكّ تحت ظلال السيوف - 941- - 942-

- 943- «1» وقوله: (كامل) 1- أفدي مليحا في النصارى «2» لم أزل ... طول الزّمان عليه في وسواس «3» 2- قالوا أتقطعه «4» كثيرا قلت من ... راحات قلب المرء قطع الياس - 944- «5» وقوله: (منسرح) 1- وصاحب ساءني «6» تعشّقه ... لشاحب الوجنتين حوران «7» 2- لو كنت في اللّيل ناظرا لهما ... قلت شهاب في ظهر شيطان «8» - 945- «9» وقوله: (مخلع البسيط) 1- مرآتك العقل كلّ وقت ... تريك من نفسك الخطايا «10» - 943- - 944- - 945-

2- فلا تحكّم هواك فيها ... إنّ الهوى يصدئ «1» المرايا - 946- «2» وقوله: (متقارب) 1- أسفت لشاشي «3» الذي قد مضى ... وفاز به سارق حاشه 2- وو الله ما بي ممّا جرى ... سوى قولهم صفعوا شاشه - 946-

- 947- «1» 369/ب وقوله: (بسيط) 1- أستودع الله أحبابي الذين نأوا ... وخلّفوني في نيران تبريح 2- أستنشق الريح من تلقاء أرضهم ... لقد قنعت من الأحباب بالريح - 948- «2» وقوله: (مجزوء الكامل) 1- أولاد مولانا بهم ... تزهى «3» المحافل والمشاهد 2- مثل السيوف «4» مهيبة ... لكنّ سيف الله خالد «5» - 947- - 948-

- 949- «1» وقوله: (مجزوء الكامل) 1- بالله ربّك يا شتا ... ء تحوّلي عنّا وجوزي «2» 2- فلقد طربت إلى المصي ... ف ووقته الحسن العزيز 3- ومللت من بول الحيا ... وقرفت «3» من ريح العجوز «4» - 950- «5» وقوله: (سريع) 1-ماذا أقول اليوم إن أكثر ال ... عالم عن جودك تسآلي «6» 2- وقيل قد أجدى «7» المديح الذي ... حبّرته في مجده العالي 3- إن قلت لا كذّبني الناس أو ... قلت نعم كذّبني حالي - 949- - 950-

- 951- «1» وقوله: (مخلع البسيط) 1- يا خيبة العاذل الذي قد ... أطال «2» في العذل واستطالا «3» 2- عذّبني ثمّ قال تسلو «4» ... عن حبّ ماما فقلت لا لا - 952- «5» وقوله: (كامل) 1- هنّئت بالعيد السعيد ودمت ذا ... نعم لها في القاصدين غمائم 370/أ 2- لله ما أشهى بك الدّنيا وما ... أهنا زمانا «6» أنت فيه سالم 3- الشّام منزلنا وأنت ملاذنا ... دار مباركة وعزّ دائم - 951- - 952-

- 953- «1» وقوله: (هزج) 1- لقد أصبحت في حال ... يرقّ لمثله الحجر 2- مشيب بعد فقريد ... فلا عين ولا أثر «2» - 954- «3» وقوله: (طويل) 1- رأيتك صدر الدّين «4» غيث مكارم ... فعرّضت آمالي إلى طلب القطر «5» 2- وأمّلت أن تجلى عليّ كنافة ... وأحسن ما تجلى الكنافة بالقطر «6» - 953- - 954-

- 955- «1» وقوله: (بسيط) 1- شكرا لبرّك يا غيث العفاة ولا ... زالت مدائحك العلياء تنتخب «2» 2- قد جدت بالقطر حتى زدت في طمع ... (وأوّل الغيث قطر ثمّ ينسكب) «3» - 956- «4» وقوله: (كامل) 1- أفدي غزالا من بني الأتراك في ... أيّ امرئ بسهام لحظ لم يصل 2- في خدّه ألف ولام كلّما ... رشق الورى قالت مقال الترك إل - 957- «5» وقوله: (خفيف) 1- أسفي للدراهم الحلبيّا ... ت فقد أقرحت «6» حشاي وطرفي - 955- - 956- - 957-

2- أكلتني كفّي عليها مرارا ... وعليها أصبحت آكل كفّي 3- وتحيّرت بين أمرين شكوى ... كدّرت عيشتي وفقر يصفّي «1» «2»

الفهرس

الفهرس مقدمة 9 1- السراج الوراق 15 2- أحمد بن أبي الفرج 306 3- عبد الله بن علي بن منجد 308 4- الحسن بن عمر بن سالم، الأسطرلابي 310 5- محمد بن عمر بن أبي بكر 311 6- ضياء بن عبد الكريك 312 7- موسى بن علي بن موسى 314 8- أحمد بن محمد بن عبد المجيد 315 9- على بن أحمد بن الحسين الأصفوني 317 10- إسماعيل بن أحمد بن إسماعيل القوصي 319 11- محمد بن الشرف القدسي الكاتب 322 12- السيد الشريف الجعفري 328 13- مجد الدين (ابن الجباب) 331 14- أحمد بن نصر الله بن باتكين 333 15- الشهاب الأعزازي 341 16- أحمد بن شهاب البغدادي 374

17- عبد الرحيم بن محمد بن يوسف السمهودي 376 18- ابن دانيال 379 19- الشريف ابن الضياء القناوي 406 20- شافع بن علي بن عباس الكاتب 408 21- ابن الجباس الدمياطي 424 22- محمد بن محمد الفرجوطي 430 23- الشيخ عز الدين بن الموصلي 432 24- محمد بن محمد بن نباتة 433

مصادر التحقيق

مصادر التحقيق - القرآن الكريم. - أبحاث في الشعر العربي تأليف د: يونس أحمد السامرائي- الموصل 1989. - أبو العتاهية- أشعاره وأخباره تح.. د. شكرى فيصل، دمشق 1384 هـ 1965 م. - أخبار البحتري- لأبي بكر الصولي. ط (1) . دمشق 1378 هـ- 1958 م. - أشعار أبي الشيص: جمعها وحققها عبد الله الجبوري 1387 هـ- 1967 م. - الأعلام- لخير الدين الزركلي- ط (2) بيروت 1942 م. - أعيان العصر وأعوان النصر- لصلاح الدين خليل الصفدي. تح/ د. على أبو زيد وجماعة. بيروت ط (1) 1418 هـ- 1998 م. - أمالي القالي- بيروت. - أنيس الجلساء في شرح ديوان الخنساء- الأب لويس شيخو اليسوعي ط (1) بيروت. - البحترى في سامراء حتى نهاية عصر المتوكل. يونس أحمد السامرائي بغداد 1970 م. - تاج العروس. للزبيدي- طبعة الكويت. - تاريخ بغداد- للخطيب البغدادي- بيروت. - تاريخ الخلفاء للسيوطي. تح/ محمد محيي الدين عبد الحميد. ط (2) . 1378 هـ- 1959 م.

- التنبيه على حدوث التصحيف تأليف حمزة بن حسن الأصفهاني. تح/ الشيخ محمد حسن آل ياسين بغداد ط (1) 1387 هـ- 1967 م. - التصوف الإسلامي في الأدب والأخلاق- الدكتور زكي مبارك- بيروت. - ثمار القلوب في المضاف والمنسوب- للثعالبي- تح/ محمد أبو الفضل ابراهيم مصر 1384 هـ- 1965 م. - ثمرات الأوصاف المنشور على هامش المستطرف للأبشيهي- القاهرة. - جامع الدروس العربية/ تأليف الشيخ مصطفى الغلاييني- بيروت. ط (12) 1393 هـ- 1973 م. - جمهزة أنساب العرب/ لابن حزم الأندلسي- تحقيق عبد السلام هارون 1382- 1962 م - جمهرة خطب العرب تأليف أحمد زكي صفوت. ط (1) 1985 م- بيروت. - حسن التوصل إلى صناعة الترسل- لشهاب الدين محمود الحلبي. تحقيق ودراسة: أكرم عثمان يوسف. بغداد 1980 م. - حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة- تأليف السيوطي- مصر - الحلبة في أسماء الخيل المشهورة في الجاهلية والإسلام للصاحبي التاجي تح/ د. حاتم صالح الضامن، مجلة المجمع العلمي العراقي ج 1 م 34، 1403 هـ- 1983 م. - حلية الكميت- للفواجي- مصر 1357 هـ- 1938 م. - الحماسة البصرية- للبصري- بيروت.

- خزانة الأدب لابن حجة الحموي- بيروت. - خطط المقريزي- للمقريزي- القاهرة 1270 هـ-. - خلاصة الأثر للمحبي- بيروت. - الدرر الكامنة لابن حجر العسقلاني تح/ محمد سيد جاد الحق- القاهرة. - ديوان الأعشى الكبير- ميمون بن قيس شرح وتعليق د. م محمد حسين القاهرة. - ديوان ابن سناء الملك تح/ محمد ابراهيم نصر. د: حسين نصار القاهرة. 1388 هـ- 1969 م - ديوان ابن نباتة السعدي تح/ عبد الأمير مهدي الطائي بغداد 1977 م - ديوان ابن نباتة المصرى- بيروت. - ديوان أبي نواس. تح/ أحمد عبد المجيد الغزالي- بيروت. - ديوان البحتري تح/ حسن كامل الصيرفي- القاهرة 1963 م. - ديوان تأبط شرا: تح/ علي ذو الفقار شاكر دار المغرب الإسلامي 1984 م - ديوان الحطيئة تر/ نعمان أمين طه- مصر 1958 م. - ديوان الحطيئة من رواية ابن حبيب عن ابن الأعرابي وأبي عمرو الشيباني- بيروت. - ديوان الشريف الرضي- بيروت. - ديوان الصبابة لابن أبي حجلة المطبوع في أعقاب تزيين الأسواق لداود الأنطاكي. ط (1) 1972 م بيروت.

- ديوان كثير عزة. تح/ د. إحسان عباس بيروت- 1971 م. - ديوان المتنبي- العكبري- بيروت 1397 هـ- 1978 م. - ديوان مجنون ليلى تح/ عبد الستار فراج- القاهرة. - ديوان مجنون ليلى جمع وترتيب أبي بكر الوالي- تح/ جلال الدين الحلبي، مصر- 1358 هـ- 1934 م. - ريحانة الألباب للخفاجي- ط (2) القاهرة 1386- 1967 م. - سامراء في أدب القرن الثالث الهجري- يونس أحمد السامرائي- بغداد 1968 م. - شذرات الذهب في أخبار من ذهب/ لابن العماد الحنبلي بيروت 1399 هـ- 1979 م. - شرح ابن عقيل تح/ محمد محيي الدين عبد الحميد- القاهرة 1370 هـ- 1951 م - شرح تحفة الخليل في العروض والقوافي- تأليف: عبد الحميد الراضي، بغداد: 1388 هـ- 1968 م - شرح ديوان المتنبي لأبي العلاء المعري (معجز أحمد) تح/ د: عبد المجيد دياب. القاهرة. - شرح ديوان حسان بن ثابت الأنصاري تر/ عبد الرحمن البرقوقي. دار الأندلس 1980 م. - شرح ديوان كعب بن زهير- القاهرة- 1369 هـ- 1950 م.

- شرح المفصل لابن يعيش- القاهرة. - شعر ابن المعتز دراسة وتحقيق: د: يونس أحمد السامرائي بغداد- 1978 م. - شفاء الغليل للخفاجي تح/ محمد عبد المنعم خفاجي ط (1) 1371 هـ- 1952 م. - صبح الأعشى في صناعة الإنشاء لقلقشندي- مصور طبعة دار الكتب. - الطالع السعيد للأدفوي تح/ سعد محمد حسن القاهرة 1966. - العبر في خبر من غبر/ للحافظ الذهبي تح/ صلاح الدين المنجد- الكويت 1963 م. - العمدة لابن رشيق. تح/ محمد محيي الدين عبد الحميد ط (2) مصر 1383 هـ- 1962 م. - عيون التواريخ لابن شاكر الكتبي تح/ نبيلة عبد المنعم- بغداد 1991 م. - الغيث المسجم في شرح لامية العجم/ للصفدي ط (1) 1305 هـ-. - فهرست ابن خير الأشبيلى- تح/ فرنسثكه قداره زيدين- بيروت. - فوات الوفيات لابن شاكر الكتبي. تح/ د. إحسان عباس- بيروت. - القاموس المحيط- للفيروزآبادي. - كتاب أسماء خيل العرب وفرسانها- لابن الأعرابي تح/ د. نوري حمودي القيسي، د: حاتم صالح الضامن- بغداد 1405 هـ- 1985 م - كتاب السلوك لمعرفة دول الملوك للمقريزي تح/ محمد مصطفى زيادة ط (2) 1957 القاهرة.

- كتاب عقود الجمان/ للزركشي مخطوطة مصورة في مكتبة د: ناظم رشيد. - كتاب اللمع في العربية لابن جني تح/ فائز فارس ط (1) الأردن 1409 هـ- 1988 م. - الكشاف/ للزمخشري- بيروت. - الألفاظ الفارسية المعرّبة تأليف ادي شير بيروت 1908. - اللسان/ لابن منظور. - مالك ومتمم ابنا نويرة اليربوعي تأليف ابتسام مرهون الصفار بغداد 1968 م. - مجمع الأمثال للميداني تح/ محمد محيي الدين عبد الحميد. ط (2) القاهرة 1379 هـ- 1959 م - مختار الحكم ومحاسن الكلم/ لأبي الوفاء المبشر بن فاتك. تح/ د: عبد الرحمن بدوي- القاهرة. ط (2) 1980 م. - المختار من شعر ابن دانيال للصفدي تح/ محمد نايف الدليمي الموصل 1399 هـ- 1979 م. - مراصد الأطلاع لابن عبد الحق- تح/ علي محمد البجاوي- القاهرة ط (1) 1373 هـ- 1954 م. - المستطرف في كل فن مستظرف للأبشيهي- القاهرة. - المستقصى في أمثال العرب/ للزمخشري- بيروت. - معجم البلدان/ لياقوت الحموي- بيروت. - المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم وضعه: محمد فؤاد عبد الباقي-

القاهرة. - المعجم الوسيط. القاهرة. - المعرّب للجواليقي تح/ أحمد محمد شاكر ط (2) القاهرة 1389 هـ- 1969 م. - مغني اللبيب تح/ محمد محي الدين عبد الحميد. - المفصل في تاريخ الأدب العربي تأليف أحمد الإسكندري وجماعة/ القاهرة 1936 م. - المقتصب من كتاب جمهرة النسب لياقوت الحموي. تح/ د: ناجي حسن ط (1) الدار العربية للموسوعات. - الملل والنحل للشهرستاني ط (2) - القاهرة. - المنهل الصافي والمستوفي بعد الوافي لابن تغري بردي تح/ د: نبيل محمد عبد العزيز 1988. - نهاية الأرب/ للنويري مصور طبعة دار الكتب المصرية. - الوافي بالوفيات للصفدي- بيروت. - وفيات الأعيان/ لابن خلّكان تر/ د: إحسان عباس بيروت - يتيمة الدهر للثعالبي ط (2) القاهرة 1375 هـ- 1956 م.

الجزء الثانى والعشرون

[الجزء الثانى والعشرون] مقدمة بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على من لا نبي من بعده، وعلى آله وصحبه وحزبه وجنده. أما بعد فهذا هو الجزء الثاني والعشرون من كتاب (مسالك الأبصار في ممالك الأمصار) الذي ألفه القاضي شهاب الدين أحمد بن يحيى المعروف بابن فضل الله العمري المتوفى سنة 749 هـ، ليكمل به صورة المعرفة الإنسانية كما تبدت لمثقفي عصره، جغرافية وتاريخا ومجتمعا وطبيعة. وقد اختص هذا الجزء بالبحث في أنواع النباتات والمعادن والأحجار التي وجدت على الأرض، من حيث أسماؤها وصفاتها وأماكن وجودها وخواصها وما إلى ذلك من شؤون. اعتمد ابن فضل الله في تأليفه هذا الجزء على كتابين اثنين، هما: 1- الجامع لمفردات الأدوية والأغذية. تأليف ضياء الدين عبد الله بن أحمد المالقي النباتي المعروف بابن البيطار، المتوفى سنة 646 هـ، ويقع الكتاب في أربعة أجزاء، ويمثل موسوعة ضخمة ضمت آلاف المواد الخاصة بالنبات والأحجار مما كان يدخل في نطاق الطب. 2- عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات. تأليف القاضي زكريا بن محمد ابن محمود القزويني الأنصاري، المتوفى سنة 682 هـ. ولنا أن نلاحظ أن ابن فضل الله العمري لم يلزم نفسه بالأخذ بجميع ما ورد في هذين الكتابين من مواد مختلفة، وإنما انتقى ما شاء له أن ينتقي من هذه المواد، على وفق ما رآه مهما منها. ورتب كلا مما انتقاه من مواد نباتية أو أحجار على حروف الهجاء. كما أنه اختصر المادة التي انتقاها، غير ملزم نفسه بضوابط محددة في هذا

وصف مخطوطة الكتاب

الاختصار، وبخاصة مما نقله من ط. فحذف في أحيان كثيرة أسماء عدد من مصادره، وأسقط الأسماء الثانوية لبعض المواد مكتفيا بالاسم الرئيسي حسب، وأغفل ذكر تفاصيل كثيرة تتصل بالفوائد الطبية المعزوة للمادة موضوعة البحث، كما سكت أحيانا عن ذكر تفاصيل المواقع الجغرافية التي وجد فيها النبات أو الحجر. وصف مخطوطة الكتاب تتألف مخطوطة هذا الجزء من (مسالك الأبصار) من قطعتين، كتب كلا منهما ناسخ مختلف، وهما: أ- قطعة من مجموعة في مكتبة (روان كوشكي) في طوب قابي سرابي بإستانبول، تحت العدد 1668 (وتشغل القطعة الأوراق 170 ب- 201 ب من المجموعة) وهي بخط نسخ متقن، مضبوط بالشكل، تتألف من 56 صفحة، في كل منها 27 سطرا، أولها بسملة، لكنها ناقصة من أولها، لأنها تبتدىء فجأة في الكلام على (الكزبرة) ، وفي الواقع فإن هذه القطعة لا تزيد على أن تكون تكملة للمخطوطة التي ألفت الجزء الحادي والعشرين من (مسالك الأبصار) والتي يشغل قسم النبات منها الأوراق 86- 340، وسبب هذا القطع في مادة المخطوطة الواحدة، أن ناسخها أضاف بسملة وعبارة (رب يسر) التي اعتاد الناسخون، أحيانا، وضعها في أول ما يكتبون. ومما يلفت النظر أن هذا الناسخ ختم هذه القطعة بثمانية أبيات كافية في مدح من نسخت لأجله هذه القطعة، وذيلها الناسخ بعبارة تشير إلى وقت فراغه منها، وهو «نهار الأحد، في العشر الأواخر من شهر صفر الخير، من شهور السنة الحادية عشرة بعد الألف» . ومما زاد من أهمية هذه القطعة ما احتوت عليه من صور توضيحية دقيقة للنباتات التي

منهجنا في التحقيق

جرى الكلام عليها، وهي دقة مشهودة تدل على مهارة مصورها الذي لا ندري ما إذا كان الناسخ نفسه أو شخص آخر من معاصريه له دراية بفن الرسم. ويبلغ عدد هذه الصور 76 صورة، وآخر سبع منها رسمت منفردة على صفحتين مستقلتين، وثمة بياضان تركا دون تصوير، والظاهر أن مصور النسخة أغفلهما لسبب لا نعرفه وضع الصورتين المناسبتين فيهما. ب- قطعة من مجموعة في مكتبة أحمد الثالث في طوب قابي سراي بإستانبول، تحت العدد 2798/14، (الصفحات 12- 171) كتبت بخط نسخ معتاد، غير مضبوط بالشكل، وتخلو من رسوم توضيحية، تتألف من 159 صفحة، في كل منها 23 سطرا، وهي تكمل، بصفحة مباشرة، ما انتهى إليه ناسخ القطعة السابق، والقطعة تامة من آخرها، وإن لم يذكر الناسخ اسمه وتاريخ نسخه كما فعل ناسخ القطعة الأولى. وكان الأستاذ فؤاد سزكين قد عثر على هاتين القطعتين في مجموعتين خطيتين مختلفتين في طوب قابي بإستانبول، فقام بالجمع بينهما في مجلد واحد بوصفهما يمثلان الجزء الثاني والعشرين من كتاب مسالك الأبصار لابن فضل الله العمري، وصدر هذا الجزء عن معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية التابع لجامعة فرانكفورت بألمانيا سنة 1409 هـ/ 1989 م. منهجنا في التحقيق 1- اعتمدنا لغرض المقابلة النسخة المطبوعة من (الجامع لمفردات الأدوية والأغذية) ، وقد أشرف على طباعتها إبراهيم عبد الغفار الدسوقي، ومراجعة أبي العينين أفندي أحمد، وجرى طبعها في بولاق بمصر سنة 1291 هـ. والتماسا للاختصار فقد رمزنا لها بالحرف (ط) في إشاراتنا المتكررة في هذا الكتاب. كما اعتمدنا من كتاب (عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات) النسخة المطبوعة على هامش كتاب (حياة الحيوان الكبرى) بجزأيه، وقد طبعت

في مطبعة الاستقامة بالقاهرة سنة 1954. ورمزنا لها حيثما تكررت الإشارة إليها بالحرف (ق) . 2- قابلنا نص المخطوط على المصدرين المذكورين، مثبتين الاختلافات بينهما أينما وقعت، فلاحظنا ثمة اختلافات كثيرة بينما أثبته المؤلف وبين ما هو موجود في النسخة المطبوعة من ابن البيطار، وهي اختلافات لا يمكن تفسيرها إلّا بأن المؤلف اعتمد نسخة لم يرها طابعو الكتاب، وحاولنا معرفة أيّ من النسختين هي أولى بالترجيح، لكننا لم نجد الأمر ميسرا، لأن ما ينقله المؤلف من نسخته يكون أكثر توفيقا في مرات عديدة، بينما يكون الأصل أدعى للقبول في مرات أخرى، وهكذا فإننا سعينا إلى الأخذ بما وافق المصادر الأخرى التي ذكرت اللفظ، إن كان اسما لنبات أو حجر أو غير ذلك، وبخاصة حين يقارب أحد اللفظين الأصل الأول الذي أخذ منه اسم المادة، إن كان يونانيا أو فارسيا أو غير ذلك. وحينما وجدنا الأصل الأول لا يوافق أيا من اللفظين، علمنا أن كليهما لم ينج من آفة التحريف والتصحيف فأثبتنا ذلك الأصل بديلا للفظ الذي أورده المؤلف، مع تنبيه القارئ إلى الصورة التي كان عليها اللفظ، وما أصابه من تغيير في النسخة المطبوعة من ابن البيطار، ليطمئن بنفسه إلى صحة ما أثبتناه. ونحن نعتقد أن قيمة كتاب ابن فضل الله العمري تكمن- في الأكثر- في أنه نقل، أو اقتبس، من نسخة هي أدق من النسخة المطبوعة. ويزيد هذا الرأي أهمية أن المطبوعة خلت من أي تحقيق، سوى أن الناشر أثبت في بعض الهوامش بعض الاختلافات الواردة في نسخة أخرى كانت لديه، وربما وافقت هذه الاختلافات ما أثبته العمري من نسخته، مما دل على أن النسخة التي اعتمدت في طبع الكتاب لم تكن هي الأكثر دقة على كل حال. ومن المؤسف أن هذا الناشر، لم يصف للقارئ ما اعتمده من نسخ، كما تقتضي

قواعد تحقيق المخطوطات عادة، فلم يعد ممكنا ترجيح النسخة الأم، أو الأدعى بالثقة. وينطبق هذا على النسخة المطبوعة من عجائب المخلوقات إلى حد كبير. 3- أكملنا في حالات ضرورية ما سقط من المخطوط، ووجدناه في أصوله. وأثبتنا ذلك في مواضعه. 4- عرفنا باختصار بالمواد التي أوردها المؤلف، وبالمواقع، وأعلام الناس، مع أن هذه المواد منقولة من المصدرين المشار إليهما، ولما كان هذا يعني أن تتجاوز مهمتنا تحقيق الكتاب، إلى تحقيق أصوله، فإننا لم نقابل هذه الأصول على مصادرها الأولى، إلّا حينما وجدنا ذلك ضروريا لفهم النص. وأثبتنا كل ذلك في حواش مناسبة. 5- شرحنا الكثير من المصطلحات والألفاظ، بالرجوع إلى معاجم اللغة، وإلى الكتب الباحثة في علمي النبات والأحجار، وكتب الأدوية المفردة التي تكثر فيها تلك المصطلحات والألفاظ. 6- أثبتنا، لإتمام الفائدة، الأسماء العلمية لكل نبات، حتى يمكن للباحثين اليوم الإفادة مما احتواه هذا الكتاب من معرفة تراكمت عبر القرون، كما أثبتنا الأسماء الحديثة للأحجار، وتركيبها الجزئي للغرض نفسه. 7- لما كان معظم الكتاب غير مشكول، فقد عمدنا إلى ضبط معظم الأسماء والمصطلحات والألفاظ بالشكل حيثما أمكن ذلك، وذلك بالرجوع إلى المصادر التراثية الأخرى، أو بمقابلتها على طريقة تلفظها في الأصول الأعجمية التي أخذت منها. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين الدكتور عماد عبد السلام رؤوف

الورقة الأولى من المخطوط

الورقة الثانية من المخطوط

مخطوطة ما قبل الأخيرة

الورقة الأخيرة من المخطوط

النباتات

[النباتات] كزبرة معروفة «1» قال ابن البيطار «2» : تبرّد، وإذا تضمّد بها مع الخبز أو السّويق أبرأ الحمرة «3» والنّملة «4» ، وإذا تضمّد بها مع العسل والزيت أبرأ الشرا «5» وورم البيضتين الحار والنار الفارسي «6» ، وإذا تضمّد بها مع دقيق الباقلّى حلّل الخنازير «7» والجراحات، وبزره إذا شرب منه [شيء] يسير بالمستحح «8» أخرج الدّود الطوال، وولّد المني، وإذا شرب منه شيء كثير خلط الذهن فيتحرّز من إدمانه. وماء الكزبرة إذا خلط بالإسفيداج «9» أو المرداسنج «10» ودهن الورد «11» ولطّخ على الأورام الملتهبة الظاهرة في الجلد نفع منها. والكزبرة تنفع من الدوار الكائن عن بخار مراري أو بلغمي، وتولّد ظلمة البصر أكلا، وتنفع من الخفقان شرابا. والكزبرة اليابسة لها خاصيّة في تقوية

القلب وتفريحه وخصوصا في المزاج الحار، وتعينها عطرها وقبضها. والكزبرة قاطعة للدم إذا شرب منها مثقالان أو بثلاث أواق من [ماء] «1» لسان الحمل «2» مقصورا «3» غير مقلي. والرطبة منها إذا مضغت نفعت السّلاق «4» الكائن في الفم، والرّطبة منها نافعة من هيجان المرّة الصفراء إذا أكلت. ومن وجد في معدته التهابا، فأكلها رطبة بالخل، أو بماء الرمان الحامض، نفعته. وخاصيتها النفع من الشرا «5» الظاهري في الفم واللسان إذا تمضمض بها أو دلكت به، واليابسة إن قليت عقلت البطن وقطعت الدم شربا وذرورا على موضع النزف. والكزبرة تمنع البخار أن يصعد إلى الرأس، ولذلك تخلط في طعام صاحب الصّرع الذي من بخار يرتفع من المعدة، وإذا نقعت اليابسة وشرب ماؤها بسكّر قطع الإنعاظ الشديد ويبس المني، وكذلك إن استفّ «6» مع السكر. والكزبرة الرطبة «7» حارة تعقل، وتسكّن الجشأ الحامض، إذا أكلت في آخر الطعام، وتجلب النوم. وإذا قطّرت عصارة الكزبرة في العين، مع لبن امرأة، سكّنت الضّربان الشديد. وورق الكزبرة إذا ضمّدت به العين

قطع انصباب المواد إليها. والكزبرة الرطبة تمنع الرّعاف «1» إذا قطّر منها أو تنشق» ماؤها. والكزبرة توقف الطعام في المعدة زمانا طويلا، فتنفع لذلك أصحاب زلق الأمعاء والإسهال ومن لا تحتوي معدته على الطعام، وخاصة إذا أكلت مع الخل والسّماق. والكزبرة اليابسة تطيل تلبث الطعام في المعدة [ولذلك ينبغي أن تكثر في طعام] «3» من يقيئ الطعام وتطرح معها الأفاويه المسخّنة الملطّفة ولا سيما الفلفل، وليقلّل منها في طعام من به ربو، ويحتاج إلى أن ينفث شيئا من صدره. ومن تعتريه البلادة وأمراض باردة في الدماغ فلا يكثرون منه [ولا ينفردون به] «4» بل يطرحون معه التوابل الملطّفة المسخّنة. وماء الكزبرة الرطبة إذا طبخت به الدجاج المسمّنة كانت أمراقها نافعة من حرقة المثانة. وبزرها اليابس ينفع من الوسواس الحار السبب شربا، وماؤها يقطع الرّعاف تقطيرا في الأنف إذا حلّ فيه يسير كافور، وهو حبّتان في مقدار درهم من الماء. والكزبرة تورث الغمّ والغثى، وهي سمّ مجمّد «5» . والكزبرة الرطبة تعلّق على فخذ المرأة العسيرة الولادة فإنها تلد بسرعة. وإن شرب من عصير الكزبرة الرطبة أربع أواق «6» قتلت. وإذا شرب، غلّظ الصوت، وعرض منه جنون، وحال شبيهة بحال السّكارى وكلامهم سفه وقلّة حياء،

كزبرة الثعلب

ورائحة الكزبرة تفوح من جميع أبدانهم، فليدهنوا بدهن السوسن «1» الصّرف ساذجا، أو مع أفسنتين «2» ، وينفعهم أيضا البيض يفقس في إناء ويصب عليه ماء الملح ويتحسّى، أو يطعموا مرق الدجاج أو بط الغالب عليه الملوحة، وبعد أن يطعموا ذلك يسقوا عليه شرابا صرفا قويا قليلا فإن كفّاهم وإلّا سقوا الشراب بالدارصيني «3» ، وأعطوا الفلفل بالشراب، وأفضل ما عولج به شاربها القيء بماء الشّبت «4» المطبوخ ودهن الخل وشرب السمن والطلاء. كزبرة الثّعلب قال الغافقي «5» : هو نبات له خيطان دقاق مزوّاة، منبسط على الأرض، لونها إلى الحمرة الدموية كثيرة «6» ، وعليها ورق صغير مرصّف من الجانبين، مشرّف «7» الجوانب تشريفا متقاربا، ألوانه إلى الحمرة والسواد، وله ساق رقيقة قائمة مدوّرة، على طرفها رأس في قدر الأنملة من الإبهام، صنوبري الشكل فيه زهر دقيق، لونه إلى الحمرة، وبزره دقيق، ونباته الجبال.

كشوت

قال ابن البيطار: إذا نقّع هذا النبات وشرب ماؤه عرض منه [حالة] «1» شبيهة بالسّكر مع اختناق وخشونة في الحلق والصدر، وعلاج من عرض له ذلك القيء يطبخ الشّبت والزيت ويسقى بعد ذلك دهنا. وربّ العنب وعصارته يكتحل بها مع السّكّر فيشفي من الغشاء [في العين] ويحد البصر وتذهب غشاوته، وإذا دق ورقها يابسا، وشوي كبد التّيس ولتّ في سحيقه وأكل سخنا وفعل ذلك مرارا أبرأ الغشا. ويقال: إن هذا النبات يشفي من الخنازير. كشوت هو «2» نبات محبّب، مقطوع الأصل، أصفر اللون، ويتعلق بالنبات مثال الخيوط، ويشرب من ماء النبات الذي يتعلّق به، ولا أصل له في الأرض، ولا ورق له، في أطراف فروعه ثمر لطاف. ويكثر في الكروم، ويسمو وتشتبك «3» فروعه.

كمأة

قال ابن البيطار: يجعل في الشراب فيشدّه «1» ويعجل به السّكر، ويدبغ المعدة، ويقوّي الكبد، ويفتح السّدد التي في الكبد والطحال، [و] يخرج الفضول العفنة من العروق والأوراد، وينفع من الحمّيات المتقادمة، ويليّن الطبيعة ولا سيما ماؤه. وهو صالح للحمّيات العارضة للصبيان إذا شرب مع السّكنجبين «2» ، وإن أكثر منه ثقل في المعدة وخاصة إسهال المرّة الصفراء. ويؤخذ من مائه نصف رطل مغلي أو غير مغلي بوزن عشرة دراهم سكّرا سليمانيا، وإذا شرب عصيره رطبا مع سكّر طبرزد نفع من اليرقان، وينقّي البدن. والكشوت ينقّي الأوساخ عن بطن الجنين، وينفع من المغص، ويحتمل به فينقص نزف الدم، والمغلي منه يعقل [البطن] «3» ويقطع سيلان الرّحم، وإن نقع من غير طبخ كان أعون على الإسهال، وان طبخ كان أكثر تفتيحا للسدد. وشرب عصارته وبزره يفعلان ما يفعل نقيعه وطبيخه. وإذا غسل بطبيخه أو بعصارته اليد والرّجل نفع من النّقرس وأوجاع المفاصل، وإذا وضع مع أدوية الجرب قوّى فعلها. وينفع ماؤه من الحمّيات المركبة من البلغم والصفراء، وغذاؤه ليس بالرديء. وكامخ الكشوت جيد للمعدة ولا سيما إذا جعل معه الأنيسون وبزر الكرفس أو الرازيانج «4» . كمأة «5» قال ديسقوريدوس: هو أصل مستدير لا ورق له ولا ساق، ولونه إلى الحمرة،

يوجد في فصل الربيع، ويؤكل نيّئا ومطبوخا. قال ابن البيطار: والكمأة يورث عسر البول والقولنج. والكمأة يهيّج منها الذّبحة فقهم بطبيخ الشبت، وأعطهم رماد الكرم بسكنجبين، أو أعطه مثقالين ذرق الدجاج بالسكنجبين ليقيّأ به. والكمأة الحمراء قاتلة. والكمأة تورث ثقلا في المعدة وتولد السدد أكلا، وماؤها يجلو البصر كحلا. والكمأة تورث السّكتة والفالج ووجع المعدة، فينبغي أن تقشّر وتنقّي تنقية كثيرة ليصل إليها [الماء] ويخرج غلظها، ويسلقها بالماء والملح والفودنج «1» والسّذاب «2» سلقا بليغا ويؤكل بالزيت الرّكابي والمرّي والصعتر «3» والفلفل والحليب. واليابس منها أبطأ في المعدة وأكثر ضررا، فينبغي أن يجاد إنقاعها وأن تدفن في الطين الحر يوما وليلة، وتستعمل بعد الغسل لتعمل الرطوبة فيها من الماء وتكون شبيهة بالطريّة، ويشرب بعدها النبيذ المعسّل الصّرف الشديد. ويؤخذ الترياق والزنجبيل «4» المربّى والمسحوق، فإدمان أكلها والإكثار منها يولّد البلغم والبهق الأبيض خاصة، وثقل اللسان وضعف المعدة. وينبغي أن تؤكل بالمري «5» ، وإن سلقت بالماء وطبخت بالزيت وطيبت بالأفاويه الحارة كالفلفل والدار صيني ذهب عنها توليدها البلاغم اللزجة؛ وان سلقت بالملح والصّعتر والمري قلّ ذلك منها أيضا،

كمافيطوس

وإن كبّبت (أو كردبت) «1» فلتؤكل بالمري والفلفل. والمشوي أيضا منها في بطون الجداء والحملان اكتست من شحومها ما تصلح به بعض الصلاح، لكن الأجود أن تؤكل بالفلفل والملح، ويشرح منها مواضع بالسكين ويجعل فيها من الزيت والفلفل قبل ذلك. واختلاطها باللحم ليس بصالح، وينبغي أن لا تؤكل فيه، وليتجنب شرب الماء القراح بعدها. ومن خواص الكمأة أن من أكلها ولدغه شيء من ذوات السموم، والكمأة في معدته، مات ولم يخلصه دواء البتة. وماء الكمأة من أصلح الأدوية للعين إذا ربي به الإثمد واكتحل به، ويقوي أجفان العين، ويزيد في الروح الباصرة، ويدفع نزول الماء عنها. والكمأة اليابسة إذا سحقت، وعجنت بماء، وخضّبت به الرأس، (6) نفع من الصلع العارض قبل وقته فجرّبه، فإذا جفّفت وسحقت وعجنت بغراء السمك محلولا في خلّ نفعت من قبله الصبيان المعائية، ومن نتوء سررهم ومن الفتوق المتولّدة عليهم، مجرّب. كمافيطوس «2» ومعناه صنوبر الأرض «3» . قال ديسقوريدوس في الثالثة «4» : هو من النبات

المستأنف كونه في كل عام، وقد يسعى في الأرض في نباته إلى الانحناء ما هو. وله ورق شبيه بورق الصغير من حي العالم «1» إلّا أنه أدق منه، وفيه رطوبة تدبق باليد، وعليه زغب كثيف، وورقه كثيف على أغصانه، ورائحته شبيهة برائحة الصّنوبر، وله زهر دقيق أصفر، وأصول كأصول فنحوريون «2» . قال ابن البيطار: ينقّي ويفتح ويجلو الأعضاء الباطنة، وهو من أنفع الأدوية لمن به يرقان ولمن يحدث في كبده السدد. ويحدر الطمث إذا شرب مع العسل، وإذا احتمل من أسفل، ويدر البول. وبعضهم يشفى منه لوجع الورك بعد طبخه بماء العسل، وما دام طريّا فهو يقدر أن يلزق ويدمل الجراحات المتعفنة ويحلل الصلابة التي تكون في اليدين. وإذا شرب من ورقه مع الشراب سبعة أيام متوالية أبرأ عرق النّسا. ويسقى منه أيضا لعلّة الكبد ووجع الكلى والمغص، ويسقى طبخه لضرر السم خانق النمر «3» ، ويهيأ منه لهذه العلة ضماد متّخذ من طبيخه مخلوط بسويق فينتفع به. وإذا سحق وخلط بالتين «4» وهيئ

كمادريوس

منه حب وأخذ حلّ الطبيعة، وإذا أخذ بتوبال النحاس والراتنج وشرب أسهل الفضول من الرّحم. وإذا وضع على الثدي الجاسية «1» حلل جساها، وإذا تضمد به مع العسل ألزق الجراحات ومنع النملة أن تسعى في البدن. وهو يسهل بلغما غليظا، وهو أصناف، فليعلم. كمادريوس «2» ومعناه بلّوط الأرض «3» . قال ديسقوريدوس في الثالثة: ينبت في أماكن خشنة صخرية، طوله نحو من شبر، وورقه صغار شبيه في شكله وتشريفه «4» بورق البلوط، مر الطعم، وزهره إلى لون الفرفير «5» . وينبغي أن تجمع العشبة وثمرتها فيها بعد. قال ابن البيطار: يذوّب الطحال، ويدر الطّمث والبول، ويقطع الأخلاط الغليظة، وينقّي السدد الحادثة في الأعضاء الباطنة. وإذا شرب طريا أو مطبوخا (7) بالماء نفع من شدخ العضل والسعال، وجسا الطحال، وعسر البول وابتداء الاستسقاء، ويحدر الجنين. وإذا شرب بالخمر حلّل ورم الطحال، وإذا شرب بالشراب أو تضمد به كان صالحا لنهش الهوام. ويمكن أن يسحق ويعجن ويستعمل للعلل المذكورة. وإذا خلط بالعسل نقّى القروح المزمنة، وإذا سحق وخلط بشراب واكتحل به

كمون

أبرأ قرحة العين التي يقال لها أخيلوس «1» وهو النّاصور. وإذا دق ووضع على الطحال أضمره. وشربه يذهب اليرقان، وإذا طبخ بماء قليل وزيت وشرب ثلاثة أيام متوالية على الريق، كل يوم ثلاث أواق فاترا، نفع [من] «2» الحصى نفعا عجيبا. وينفع من الأوجاع المزمنة العارضة في نواحي الصدر والرئة إذا سحق وشرب منه ثلاثة أيام معجونا بجلّاب «3» أو بعسل، ومقدار الشرب منه لذلك ثلاثة دراهم. وشراب الكمادريوس مسخّن محلّل، ينفع من التشنج واليرقان، والنفخ الذي يكون في الرحم، ومن بطء الهضم وابتداء الاستسقاء. كمّون «4» معروف. قال ابن البيطار: وإنما يستعمل منه بزره، وقوته في إدرار البول وطرح الرياح وإذهاب النفخ، ويسخن ويجفف، وإذا طبخ بالزيت واحتقن به مع دقيق الشعير وافق المغص والنفخ. ويسقى بخل ممزوج بالماء لعسر النفس الذي ينتصب فيه. ويسقى بالشراب لنهش الهوام. وينفع من ورم الأنثيين مخلوطا بالزيت ودقيق الباقلّى أو بقيروطي «5» ووضع «6» عليها. ويقطع سيلان الرطوبات

المزمنة من الرحم، ويقطع الرّعاف إذا قرّب مسحوقا من الأنف مخلوطا بخل، ويصفّر البدن إذا شرب منه أو تلطخ به. وهو عدة أصناف والفارسي أقوى من غيره. وإذا مضغ مع الملح، وقطّر ريقه على الجرب «1» والسّبل «2» المكشوطة والظّفرة «3» ، منع اللصق. والكرماني يعقل، والنّبطي يسهّل، والنّبطي هو الموجود في سائر المواضع. وإن قلي الكمّون وأنقع في الخل عقل الطبيعة المستطلقة من الرطوبة. وينفع من الريح الغليظ، ويجفف المعدة ويصلح الكبد. وإذا احتملته المرأة مع زيت عتيق قطع كثرة الحيض، وإذا نقع في الخل، «4» وجفف وسحق، وتمودي على أخذه سفوفا، قطع شهوة الطين «5» وأشباهها. وإذا مضغ بالملح وابتلع قطع سيلان اللّعاب.

كندس

والكمّون البرّي بزره أشد حرافة من الكمون البستاني، ويشرب من بزره للمغص والنفخ، وإذا شرب بالشراب وافق ضرر ذوات [السموم] «1» من الهوام، والبلّة العارضة في المعدة «2» . وإذا خلط بزيت وعسل وتضمد [.....] لوّن الدم العارض تحت العين. كندس «3» قال إسحاق «4» : الكندس عروق نبات، داخله أصفر وخارجه أسود، ونباته يسمى الحرشف، [.....] ولون ورقه أرقط ببياض وخضرة، والمستعمل منه العروق، ويجمع في [يونيه] «5» ، وهو شديد الحرارة. قال ابن البيطار: وخاصيته قطع البلغم والمرّة الغليظة، ويحلل [الرياح] «6» من الخياشيم، وهو شديد الحرارة، وفي شربه خطر عظيم، ومقدار الشربة منه ليتقيأ به من دانق إلى أربعة دوانيق «7» [مسحوقا] منخولا [ومذافا] بصفرة ثلاث بيضات قد [شويت] «8» شيّا لم ينضج، وفيها رقّة مع ما قد أغلي فيه عدس وشعير مرضوضان مقشوران مقدار نصف رطل فإنه يقيّئ قيئا جيدا. وإذا

سحق الكندس ونفخ في الأنف هيّج العطاس وينزّل البول والحيض. وهو من الأدوية القتّالة إن لم ترفق به، ويجفف الحلق، ويهيج وجع البطن. وينبغي أن يسقى اللبن ودهن الخل. وهو جيد للعشاء «1» جدا، وكان رجل لا يبصر الكواكب ولا القمر بالليل فاستعط بمثل عدسة كندسا بدهن بنفسج فرأى الكواكب بعض الرؤية في أول ليلة وفي الثانية برأ البتّة، وجرّبه غيره «2» أيضا. وإذا كان الولد ميتا لثلاثة أشهر، أو لأربعة، يسحق الكندس في عسل، ويتخذ منه فتيلة، واحتملتها المرأة فأنها تلقيه. ولا يستعط به في القيظ ولا في الصيف فأنه ينشف الرطوبة، وإنما يستعط به في الخريف والشتاء والربيع. [و] إذا عجن الكندس بالخل وطلي به البهق وتمودي عليه أزاله، وإذا أغلي في الخل وضرب بدهن الورد نفع الحكّة، وإذا سحق وصيّر في خرقة واشتم عطّس ونقّى الدماغ [ونبّه] «3» المصروعين والمفلوجين، وأعان بالعطاس على دفع المشيمة. وإذا شرب منه وزن ربع درهم أو نحوه بالسّكنجبين والماء الحار قيّأ بلغما لزجا. وإذا اختلط بالزّفت، ووضع على

لبلاب

القوباء «1» العتيقة، وتمودي عليه قلعها، وهو ينفع من الخشم بفتح سدد المصفاة بقوته. لبلاب «2» قال ديسقوريدوس في الرابعة: هو نبات له ورق وقضبان طوال يتعلق بما قرب منها من النباتات، وينبت في السّياجات وأمرجة «3» الكروم (9) ، وينبت أيضا بين زروع الحنطة، وله نور شبيه بقمع أبيض يغلفه غلف صغار «4» ، فيه حب صغار أسود وأحمر. قال ابن البيطار: قوته قوة محلّلة، إذا شرب عصارة أوراقه أسهلت البطن، واللبلاب يسهّل باللزوجة التي فيه، ويخرج الصفراء، ويسهّل برفق إذا خلط بالسّكّر. وإن أردت تقوّيه وزدت فيه من فلوس الخيار شنبر «5» محلولا بالماء المغلي. وليس ينبغي أن تشرب ماء اللبلاب مغلّيا لأنه إذا غلي ذهبت لزوجته التي يسهّل الطبيعة بها، وانكسرت قوته، والشرب

لبسان

منه رطل مع عشرين درهما من السّكر. وينفع من السعال إذا كان من حبس الطبيعة، وينفع من القولنج الذي يكون من خلط حار، ويحلّل أورام المفاصل والأحشاء إذا استعمل مع فلوس الخيار شنبر، وإن طبخ ماؤه، قلّ إسهاله، وكان أكثر تفتيحا للسدد؛ وهو نافع من الحمّى الصّالبة «1» . لبسان «2» قال الغافقي: زعم بعض الأطباء أنه الخردل البرّي «3» ، وهي بقلة تشبه الخردل في الصّفة فقط، وليست من حرارة الخردل في شيء، وتسمى باللطينية أخشنيه. وقال ديسقوريدوس في الثانية: هي بقلة معروفة برّية أكنز غذاء، وأحسن وأجود للمعدة من الحماض «4» ، وقد تطبخ وتؤكل. قال جالينوس في السابعة: أما على سبيل الطعام فهو يولّد خلطا رديئا «5» ، وأما على سبيل الدواء فأنه إذا ضمّد به كان له جلاء وتحليل. وقال الشريف «6» : اللّبسان إذا طبخ، وجلس في طبيخه الأطفال الذين لا

لحية التيس

يمشون لضعف عصبهم وبرده «1» ، أعانهم على المشي. وبزره إذا سحق وعجن بلين «2» ولطخ به الوجه أذهب كلفه وحسّنه وورّده وأذهب نمشه وبرشه، وإذا صنع من بزره لعوق وأخذ على الريق، نفع من السعال المزمن، وإذا شرب بالطّلا نفع من الحصى. لحية التّيس «3» قال أبو حنيفة: يسمى أذناب «4» الخيل، وهي بقلة جعدة، ورقها مثل ورق الكرّاث، ولا يرتفع ارتفاع ورق الكراث، ولكن يتسطح؛ والناس يأكلونها ويتداوون بعصيرها. قال ابن البيطار: هذا النبات هو لحية التّيس على الحقيقة، وهو معروف بهذا الاسم عند العرب وعند أهل الشام والمشرق وديار بكر أيضا، وقد ينبت منه شيء ببلاد الفيّوم من أعمال مصر. وأما الدواء الذي سمّاه حنين في كتاب جالينوس وديسقوريدس لحية التّيس وليس هو هذا الدواء المذكور قبل، ولا من أنواعه، ولا بينهما نسبة، لا في ورد ولا في صدر، بل هو دواء غيره، وهو المسمى باليونانية قسوس «5» ، ونحن «6» متّبعون حنينا في ذلك إذا كان هذا هو المقصود في كتب الأطباء بهذا الاسم. وهذا النبات الذي سماه حنين لحية التّيس هو المعروف (10) عند عامّتنا بالأندلس بالشقواص وهو مشهور بما ذكرته.

لسان الحمل

قال ديسقوريدوس في الأولى: قسوس شجرة صغيرة، تنبت في أماكن صخرية، وهي كثيرة الأغصان، ولها ورق مستدير صلب عليه زغب شبيه بالجلّنار، والأنثى زهره أبيض. أما ورقه الغض فإذا سحق وجفّف وقبض [تجفيفا ويبسا بلغ به أن] أدمل الجراحات «1» . وزهرته أقوى من ورقه حتى إن من شرب شيئا منها مع شراب أبرأت ما يكون به من قروح الأمعاء وضعف المعدة، وإذا اتّخذ منها ضماد نفعت الجراحات المتعفنة، وقوة الزهرة قابضة. وإذا شرب مسحوقا بشراب قابض نفع من اختلاف الدم وضعف البطن. وإذا تضمد به منع القروح الخبيثة أن تسعى في البدن، وإذا خلط بزيت عذب وثوم أبرأ حرق النار والقروح المزمنة. لسان الحمل «2» قال ديسقوريدوس في الثانية: هو صنفان كبير وصغير، فالصغير له ورق أصفر وأدق وأشد ملوسة من ورق الكبير، وله ساق مزّواة مائلة إلى الأرض، وزهر أصفر وبزر على طرف الساق، والكبير أخشن أغصانا من الصغير، عريض الورق، يشبه إلى البقول التي يتغدى بها، وله ساق مزّواة إلى الحمرة، طولها ذراع، عليها بزر دقاق في شكلها من وسطها إلى أعلاها، وله أصول رخوة عليها زغب

أبيض، غلظها غلظ إصبع، ويكون في الآجام والسّياجات «1» والمواضع الرطبة. قال ابن البيطار: ينفع القروح الرديئة في الأمعاء، وذلك أنه يقطع الدم ويطفئ اللهيب والتّوقّد ويدمل النواسير وسائر القروح الرطبة. ويستعمل أصل هذا النبات في مداواة وجع الأسنان، يعطي صاحب الوجع أصله ليمضغه، ويطبخ الأصل أيضا بالماء ويعطى فيتمضمض به. وأما في مداواة سدد الكبد والكلف فإنّا نستعمل بزره أكثر من ثمره. ولورق لسان الحمل قوة قابضة مجفّفة، وإذا تضمد به وافق القروح الخبيثة، (والقروح التي تسيل إليها المواد) «2» ، والقروح الوسخة، ومن به داء الفيل، وقطع سيلان الدم ومنع القروح الخبيثة، والنار الفارسية، والنملة، والبثور، من أن تسري في البدن. وهي تبرئ وتدمل القروح المزمنة والقروح الخبيثة، ويلزق الجراحات العميقة بطراوتها، وإذا تضمد به مع (11) الملح نفع من عضّة الكلب وحرق النار والأورام والخنازير ونواسير العين وورم اللوزتين.

وإذا طبخ هذا البقل وأكل بملح وخل وافق قرحة الأمعاء والإسهال المزمن، ويطبخ مع العدس بدل السلق ويؤكل، وقد يعطى مسلوقا للمحبونين «1» حبنا لحميا، ويقطع المصروعين ومن به ربو، وإذا تمضمض بالورق دائما أبرأ قروح الفم، وإذا خلط بالطين المسمى قيموليا «2» أو بإسفيداج الرصاص أبرأ الحمرة، وإذا حقنت به النواسير جففها. وإذا قطر في الأذن الموجعة نفع وجعها، وإذا ديف بعصارته الشيافات «3» وقطّر في العين نفع من الرمد، وينفع اللثة المسترخية والدامية. وإذا شرب نفع من نفث الدم، وما فيه من الآلات وقرحة الأمعاء، وقد يحمل في صوفة لوجع الرحم الذي يعرض فيه اختناق ولسيلان الفضول من الرحم. وثمره إذا شرب قطع الفضول السائلة إلى البطن، ونفث الدم من الصدر، وما فيه. وإذا شرب ثلاثة أصول من أصول لسان الحمل بأربع أواق ونصف شرابا ممزوجا بمثله ماء نفع من حمّى الغب «4» . وإذا شرب أربعة أصول نفعت من حمى الربع، وقد يشرب الأصل والورق بالطلا لأوجاع الكلى والمثانة. ومن الناس من يعلق الأصول في رقاب من بهم الخنازير يريدون بذلك تحليلها. وشرب ماؤه مغليا مصفّى ينفع من استطلاق البطن عن حر يستدعي شرب ماء كثير فيفسد لذلك الهضم ويليّن الطبيعة، أو من خلط صفراوي.

لسان الثور

لسان الثور «1» قال ديسقوريدوس في الرابعة: هو نبات خشن أسود يشبه ورقه في شكله ألسن البقر. قال ابن البيطار: إذا طبخ في الشراب وشرب أحدث لشاربه سرورا. وينفع من به سعال من خشونة قصبة الرئة والحنجرة إذا طبخ بالعسل. وخاصته في تفريح القلب وتقويته عظيمة، ويعينها ما فيه من إسهال السوداء الرقيق [فينقّي] بذلك جوهر الروح، ودم القلب، ويلين الطبيعة، ويعين على إحدار الأخلاط المحترقة، وينفع من السوداء المتولدة عن خلط صفراوي، ويسكّن جميع أعراضها من الوسواس والخفقان والفزع وحديث النفس. وإذا أحرق ورقه نفع رخاوة اللثة والقلاع «2» ، وخاصة في أفواه الصبيان والحرارة التي في الفم. لوبيا «3» معروفة، قال ابن البيطار: يدر الحيض إذا صير معها القنّة «4» ودهن النّاردين «5» ،

لوسيماخوس

تولّد البلغم الرديء، فإن أكلها بخردل منع ضررها، والأحمر أجودها، والأبيض غليظ عسر الانهضام ويعين على هضمه أكله بالمري والزيت والكمون حارا، وأن لا يؤكل (12) قشره الخارج. وأما بطنه فأحمد أكله أن يؤكل بالملح والفلفل والصعتر ليعين على هضمه ويشرب عليه نبيذ صلب صرف، والمربّى منه بالخل قليل الرطوبة بطيء الهضم من أجل يبس الخل، وهو أقل نفخا من الباقلّى، وهو جيد للصدر والرئة. وأما الأحمر منه المطبوخ فيه [ف] ينقّي دم النفاس ويخرج الأجنة الميتة والمشيمة وهو يغثي ويبخر الرأس [و] ليس بصالح للمعدة، وينبغي أن يؤكل بالخل والخردل والسذاب والمري، فالخل يمنع تبخيره إلى الرأس و [وتوليده] الغثى، والخردل والمري يطيبانه ويسرعان إخراجه ويذهبان بما فيه من تقلب المعدة، والسذاب يكثر نفخه. لوسيماخوس «1» قال ديسقوريدوس في الرابعة: هو نبات له قضبان نحو من ذراع، رقاق شبيهة بقضبان الثمنش من النبات، معقّدة وعند كل عقدة ورق نابت «2» شبيه بورق الخلاف، قابض في المذاق، وزهره أحمر شبيه بالذهب في لونه، وينبت في

لوف

الآجام وعند المياه. قال ابن البيطار: يدمل الجراحات، ويقطع الرّعاف إذا ضمد به، ويقطع كل دم ينبعث من حيث كان [من] نفس جرمه وعصارته، إلّا أن عصارته أبلغ فعلا منه. ومتى شرب أو احتقن به شفى قروح الأمعاء، ونفع من نفث الدم من الصدر، وقرحة الأمعاء، شرابا أو محتقنا به، وإذا احتملته المرأة قطع سيلان الرطوبات المزمنة من الرحم دما كان أو غيره، وإذا شد المنخران بهذا النبات قطع الرّعاف، وإذا وضع على الجراحات ألحمها وقطع عنها نزف الدم، وإذا دخّن به طرد الهوام وقتل الفار (13) . لوف «1» اللوف ثلاثة أصناف: صنف يسمى دراقيطن «2» ومعناه لون الحيّة، لأن ساقه يشبه لون الحيّة في نفسه ونعومته، وهو اللوف السّبط، ويسمى بالأندلس غرغيته «3» ، وبعض العلماء يسمونه الصّرّاخة، لزعمهم أن له صوتا يسمع منه في

يوم المهرجان، وهو يوم العنصرة؛ ويقولون إن من سمعه يموت في سنته تلك. والصنف الثاني يسمى أأرن ويسمى [بالبربرية] «1» أيرني، ويسمى صارة «2» ، وهو اللوف الجعد. والثالث يسمى أأريصارن، وهو الدّويرة أيضا. قال ديسقوريدس في الثانية: دراقيطون «3» ، وهو الفيلجوش «4» ، ومعناه آذان الفيل. له ورق شبيه بورق النبات المسمى قسوس «5» ، في لونه فيرفرية وآثار مختلفة الألوان، وهو مثل عصا في غلظه، وله في طرف الساق شبيه بعنقود، أول ما يظهر لونه أبيض شبيه بلون الخشخاش فإذا نضج كان لونه شبيها بلون الزعفران، يلذع اللسان. وأصله إلى الاستدارة أقرب، وعليه قشر رقيق، وينبت في أماكن ظليلة رطبة. قال ابن البيطار: أصل اللوف ينقّي ويفتح السّدد من الكبد والطحال والكليتين، لأنه يلطّف الأخلاط الغليظة اللّزجة. وهو نافع للجراحات الرديئة، يجلوها وينقيها، وينفع من العلل المحتاجة إلى الجلاء. وإذا طلي بالخل قلع «6» البهق، وورقه قوته هذه القوة بعينها، وبزره أقوى من ورقه ومن أصله، وهو يشفي السّراطين وأورام المنخرين التي يسميها الأطباء الكثيرة الأرجل، وهي نواصير «7» الأنف.

وعصارة اللوف تنقّي الأثر الحادث في العين عن قرحة، وثمره إذا أخرج ماؤه وخلط بالزيت وقطّر في الأنف أذهب اللحم الزائد في الأنف والسرطان. وإذا شرب من ثمره نحو ثلاثين حبّة بخل ممزوج بماء أسقط الجنين، ويقال إن المرأة إذا علقت واشتمّت رائحة هذا النبات عند ذبول زهره أسقطت. وأصله مسخن ينفع من عسر النفس الذي يحدث فيه الانتصاب، ومن الوهن العارض في العضل والسعال والنّزلة. وإذا طبخ أو شوي وأكل وحده أو بعسل يسهل خروج الرطوبات من الصدر، وقد يجفّف ويدق ويخلط بعسل ويلعق فيدر البول، وإذا شرب بشراب حرّك شهوة الجماع، وإذا خلط بالدواء الذي يقال لها القير «1» أو عسل، وصيّر بمنزلة المرهم نقّى القروح الخبيثة وأدملها، وقد يعمل منه شيافات للنواصير وإخراج الأجنّة. ويقال: إن أصله إن ذلك به أحد بدنه لم تنهشه أفعى، وإذا دق وخلط بخل ولطخ به البهق قلعه، وورقه إذا دق وضمّد به الجراحات الطرية بدل الفتل (14) وافقها، وإذا طبخ بالشراب ووضع على الشقاق العارض من البرد وافقه، والجبن إذا لفّ فيه لا يدوّد. وأما الأصل [ف] وافق القرحة في العين، وقد يؤخذ الأصل

لينابوطس

مطبوخا رطبا. وينبغي أن تجمع الأصول أيام الحصاد وتغسل وتقطّع وتشك في خيوط كتان وتجفّف في الظّل. وأصل اللّوف رطبا يغلى في دهن نوى المشمش حتى يحترق وتطلى به البواسير الظاهرة [ف] يقلعها ويحمل في صوفه أيضا للباطنة. وقد يقطّع صغارا وينقع في شراب يوما وليلة ثم يمسك ما أمكن في الدّبر فإنه نافع من البواسير، وهو عجيب في ذلك إلّا أنه صعب. وإذا بخّرت البواسير بأصل اللّوف جفّفها. ولأصل اللوف في النفع من داء الشّوكة «1» فعل عجيب إذا طلي به مع دهن بنفسج مسخّن. وإذا سحق مع الدهن وطليت به أطراف المجذوم أوقف التآكل، وإن أديم الطلاء عليها أبرأها، وإذا سقي مع الدهن العتيق شفى من الدماميل. لينابوطس «2» نبات ذو أصناف، ومعناه الكندريات لأجل رائحة الكندر «3» الموجودة فيها، فاشتق هذا الاسم من لينانو الذي هو الكندر. وزعم ابن جلجل «4» : أنه الإكليل الجبلي المعروف عند أهل الأندلس باكليل النّفساء، وهذا غلط محض، وتابعه جماعة ممن أتى بعده، مثل الشريف

الإدريسي، فإنه لما ذكر الإكليل الجبلي في مفرداته تكلم فيه على أنواع اللينايوطس على أنها الإكليل، وهذا تخبيط وعدم تحقيق في النقل. واللينابوطس بأنواع جميعه هو من أنواع الكلوخ «1» . قال ديسقوريدوس في الثالثة: لينابوطس هو ذو أصناف منه صنف له ثمر يقال له فجرو «2» ويسمى زاه «3» ، وله ورق يشبه ماراثون إلّا أنه أعرض منه وأغلظ، منبسط على الأرض باستدارة، طيب الرائحة، و [له] ساق طولها نحو ذراع، فيها أغصان كثيرة، وعلى أطرافها أكلّة فيها ثمر كبير أبيض مستدير، وفيه زوايا. حرّيف «4» في طعمه شبيه الراتينج، وإذا مضغ حدّ «5» اللسان، وله عرق أبيض يشبه رائحته رائحته رائحة الكندر. ومنه صنف آخر بزره عريض أسود طيب الرائحة، وليس له حذو، وله عرق ظاهره أسود وباطنه أبيض. ومنه صنف لا ينبت له ساق ولا زهر ولا بزر.

وينبت اللينانوطس في مواضع صخرية وأماكن وعرة، (أما في بلاد المغرب فأكثر ما يكون بالسواحل، ويسمى عندهم الزبطور الساحلي الشعراوي) «1» . قال ابن البيطار: عصارة حشيشه وأصوله (15) إذا خلط كل منهما بالعسل يشفي من ظلمة البصر الحادثة عن الرطوبة الغليظة. وأما الذي يطبخ فيه النوع الذي يتخذ منه الإكليل، فإنه إذا شرب أصحاب اليرقان منه نفعهم، وإذا تضمّد به مدقوقا قطع سيلان الدم من البواسير، وسكن الورم الحار في المقعدة والبواسير الناتئة، وأنضج الخنازير والأورام العسرة النضج. وأصوله (إذا استعملت يابسة) «2» مع العسل فينقي القروح ويشرب بالخمر فيبرىء المغص، ويوافق نهش الهوام ويدرّ البول والطمث. وإذا تضمد بها رطبة حلّلت الأورام البلغمية. وماء الأصل منه وغير الأصل إذا خلط بعسل واكتحل به أحدّ البصر، وثمره إذا شرب فعل ذلك، وإذا شرب بالفلفل والشراب نفع من الصرع وأوجاع الصدر المزمنة واليرقان، وإذا تمسّح به مع الزيت أدّر العرق، وإذا دقّ وخلط بدقيق الشّيلم «3» والخل وتضمد به وافق شدخ العضل وأطرافها، ويخلط بخل ثقيف «4» فينقي البهق. وينبغي أن لا يستعمل للدّبيلات «5» بزر اللينابوطس المسمى فجرو، ولكن بزر الآخر، لأن الفجرو حرّيف يخشّن الحلق، وإذا خلط الفجرو بأشياء يغسل بها الرأس ويذر عليه ويترك ثلاثة أيام ويغسل بعد ذلك، فيوافق بعد ذلك العيون

ماهوبدانه

التي ينصب إليها الفضول. ماهوبدانه «1» ومعناه القائم بنفسه، لأنه يقوم بنفسه في الأسهال، ويسمى في الأندلس طارطقة «2» وسيسبان، وعند أطباء المشرق والهند يعرف بحب الملوك. قال ديسقوريدوس في الرابعة «3» : لاروليس «4» هو نبات يعده بعض الناس من أصناف اليتوع «5» ، له ساق طولها نحو ذراع جوفاء [في] غلظ إصبع، وفي طرف الساق شعب، ومن الورق ما هو على الساق ففيه طول، يشبه «6» ورق اللوز وأشد ملاسة، وأما الورق الذي على الشعب فأصغر منه يشبه ورق الزّراوند الطويل «7» ، وله حمل على أطراف الشعب مستدير كأنه حب الكبر «8» ، وفي جوفه ثلاث حبات تفرّق بعضها من بعض بغلف هي فيها، والحب أكبر من حب الكرسنة «9» ، وإذا قشر كان أبيض، وهو حلو الطعام، وهو مملوء لبنا مثل اليتوع. قال ابن البيطار: إذا أخذ من بزره سبع أو ثمان عددا، وعمل منه، وشرب أو

ماهيزهره

مضغ، وشرب بعده ماء بارد، أسهل بلغما ومرّة وكيموسا مائيا. ولبنه إذا شرب كما يشرب لبن اليتوع فعل ذلك. ويطبخ ورق هذا النبات مع الدجاج، أو مع بعض البقول، ويؤكل فيفعل ذلك؛ وإذا شرب من بزره وزن درهمين أسهل البلغم والصفراء أو الأخلاط الغليظة والماء وقيّأ بقوة، وإذا (16) ابتلع كان إسهاله ألين، وإن أجيد مضغه كان أقوى. والإسهال به ينفع من أوجاع المفاصل والنّقرس وعرق النّسا والاستسقاء والقولنج، وهو مضر بفم المعدة ويولد الغشي، وينفع من وجع الظهر. ويجب أن لا يشربه إلا من كان قوي المعدة. ماهيزهره «1» قال ابن البيطار: بحثت عن اسم هذا الدواء وحقيقته مشرّقا ومغرّبا فلم أقف له على حقيقة أكثر مما أني رأيت أهل الشام والمشرق أيضا يستعملون مكانه قشر أصل الدواء المعروف بالبوصير، ويسمونه بهذا الأسم، وقد ذكرته في الباء. وأهل المغرب والأندلس يعرفونه بسيكران «2» الحوت «3» ، وبالبرشكوا أيضا، وهو ثلاثة أنواع: نوعين جبليين ونوع بستاني، والنوعان الجبليان هما المستعملان،

مازريون

وهما في جبال الشام كلها، وهي تنفع أوجاع المفاصل ولمن أصابه تشبّك في أصابعه، وإنما ينفع اللحاء [الذي هو] خارج «1» الأغصان. وذكر أنها إذا صيّرت في غدير فيه ماء وسمك، وخلط بذلك الماء أسكر السمك. ومقدار الشرب منه مع السّكر مثقال، فإن طبخ مع غيره من الأدوية في مطبوخ فالشربة منه درهمان أو ثلاثة، وهو جيد للنقرس ووجع الورك والظّهر. مازريون «2» قال ديسقوريدوس في الرابعة: حامالا «3» ، أو «4» هو تمنيش «5» صغير، يستعمل في وقود النار، وله أغصان طولها شبر وورق شبيه بورق الزيتون إلّا أنه أدق منه، وهو مر متكاثف يلذغ اللسان ويخدره. قال ابن البيطار: ورقه يسهل بلغما ولا سيما أن خلط بجزء منه جزءان «6» أفسنتين، وعجن بعسل أو ماء، وعمل منه حب، واستعمل. والحب المتّخذ منه

إذا شرب لم يذب «1» في الجوف وخرج في البراز. وإذا دق ورقه ناعما، وعجن بالعسل، نقّى القروح الوسخة، وقلع الخشكريشة «2» . وهو حار يابس يأكل الرطوبة من الكبد والجسد، ويسرع إلى شاربه الاستسقاء. وإذا سقي منه إنسان من غير أن يصلح اعتراه غم وكرب شديد، وربما قيّأ شاربه وأسهله جميعا، وربما دفعت الطبيعة بأحدهما دون الآخر. وإذا سقيته إنسانا من غير أن يصلحه أخلفه شيئا مثل غسالة المعي، أو مثل عجين الدقيق، وإنما ذلك من حمله على المعى الحمل «3» يجردها. وأصحاب الرطوبات أكثر احتمالا لشربه من أصحاب الحرارات، والمشايخ أحمل لشربه من الشباب والمكتهلين. وإذا أردت إصلاح المازريون فاعمد إلى أصلح جنسه وهو أعرضهما وأطولهما ورقا، فأنقعه صحيحا في خل ثقيف يومين وليلتين، وغيّر له الخل مرتين أو ثلاثا، ثم صب الخل، واغسله بالماء العذب مرتين أو ثلاثا، وجففه في الظل أو في الشمس إن لم يسرع جفافه في الظل، ثم دقّه دقّا ناعما فيه بعض الجراشة ولتّه بدهن اللوز الحلو، ودهن البنفسج، أو دهن الخل. وإن أحببت (17) أن تخلطه بما يصلحه، فاخلطه بالزبد والأفتيمون «4» والهليلج الأصفر «5» والورد ورب السوس والكمّون الكرماني والملح الهندي، فإنه حينئذ يكون دواء موافقا للمرّة السوداء ويخرجها بالإسهال، وينفع من وجع البلغم. وإن عالجت به

الماء الأصفر فاخلطه بعد تبريده بما ذكرنا بأصل السوسن الآسمانجوني» وتوبال النحاس «2» والأسارون «3» والمر الصافي والسكبينج «4» والملح الهندي والهليلج الأصفر وبزر الكرفس البستاني وعصارة الغافت «5» وعصارة الأفسنتين وسنبل الطيب «6» والمصطكي وأسقهما عنب الثعلب «7» والرازيانج «8» المعصور المصفّى. وإن كانت الطبيعة شديدة فزد من الخيار شنبر مع ماء البقول فإنه يسهل الماء الأصفر. وإن شئت جعلته حبّا أو أقراصا، غير أنه يسقى من كان قويا ولا يحتمله الضعفاء ولا من سقطت قواه، ولا المحرورون، ولا يسقى في الزمان الحار ولا في البلاد الحارة، والشرب منه مدبرا [في] القوي الصحيح نصف درهم إلى دانقين.

ماميثا

وأما المرضى فعلى قدر قواهم، وأما أصحاب الماء فالشّرب منه للقوي من أربع حبات إلى ست حبات. والمازريون يفسد مزاج الجوف، وإن نقّع في الخل ووضع على الطحال أذبله. ويصلح بأن يطبخ منه أوقية بثلاثة أرطال حتى يسقى الثلث ويمرّس ويصفّى، ويصب عليه أوقية دهن لوز حلو، ويطبخ أيضا حتى يذهب الماء ويبقى الدهن، ويشرب الدهن ما بين وزن درهم إلى خمسة دراهم. ويتّخذ من المازريون شراب وقت ما يزهر ينفع من به استسقاء ووجع الكبد، ومن له الوجع الذي يقال له الأعياء، وقد ينقي النّفساء التي يعسر تنقيتها. ماميثا «1» قال ابن البيطار: قال أبو العباس النباتي «2» : ويقال مميثا. والاسمان مشهوران عند أكثر الناس. ووصفها ديسقورديدوس بصفتها، وذكر أنها تغش بالخشخاش السواحلي لغلط كثير من الناس فيها، أو كلاما هذا معناه. وقال ابن البيطار: وقد رأيت الماميثا بالشام على ما وصفت، ورأيت منها نوعا صغيرا ينبت بين الصخور الجبلية. وأهل حلب يستعملونه في علاج العين، ويسميها بعضهم بالحضض، على أن الحضض معلوم عندهم، والأطباء أجمعون قد ذكروا الماميثا في كتبهم، ولم يصفها أحد منهم في كتابه بصفتها اتكالا على الصفة التي وصفها بها ديسقورديدوس في كتابه أو غير ذلك، إلا أن إسحاق بن

عمران الإفريقي «1» من المتأخرين فإنه وصفها. وهي بأفريقية معروفة الصفة، وأهل البلاد يسمون بزرها بالسمسم الأسود، والسمسم في الحقيقة غيرها. وقد رأيته في الحقيقة ورأيتها ولا شبه بينهما، وقد تكون الماميثا ببلاد الأندلس (18) بجهة لبلة «2» وقرطبة وما والاها [ا] وبغرناطة «3» على الصفة أيضا، وهي في الصورة النبتة المعروفة بإشبيلية مميثا سواء بسواء، إلّا أن زهر هذا النوع يكون في البر منه ما يكون فيه نكتة إلى الحمرة، ومنه ما لا نكتة فيه، والصورة الصورة. وأما الذي يستعمل بإشبيلية، فصحّ لي بالعمل والخبر، وطول المزاولة، أن الصالحين فيما مضى ازدرعوه في البساتين مما جلب إليهم من السواحل البحرية من بزر الخشخاش الساحلي «4» ، وذلك لظنهم في الخشخاش المذكور أنه الماميثا، والأمر بخلاف ظنّهم. وبحث في ذلك المتقدمون والمتأخرون، وجرى الغلط

إلى هذه الغاية. على أني رأيت أبا الحسن مولى الحرة «1» - رحمه الله- كان ممن له تحقيق بهذا الشأن قد ظنّ أن الماميثا الإشبيلية المزروعة في البساتين مميثا صحيحة. وقد كنت أنا أظن ذلك قبل «2» ، وجعل الفرق بين الخشخاش الساحلي وبين الماميثا الإشبيلية النكتة النعمانية الموجودة في ورق الخشخاش الساحلي، وقال: إن هذا الفرق بين الماميثا البستانية- على ظنّه- وبين الخشخاش المقرّن، وهذا الفرق ليس بصحيح، فإن الخشخاش الساحلي، وإن كان كما قال، فإن منه في السواحل أيضا ما لا نكتة فيه، وزهره كله أصفر، وكذلك تجد الماميثا المحققة «3» أيضا النابتة في البراري في زهرها المنكّت وغير المنكّت، لكن الفرق الثالث الذي لا يشكل ولا يحتاج معه إلى فرق آخر. وقد خفي على من مضى من الأطباء المحدثين، فلم يعلمه كثير من المتأخرين أن الخشخاش الساحلي فيه «4» الحبّة المنكّتة وغير المنكتة. والماميثا المحققة النابتة في البر مستأنفة الكون، في كل سنة تتحطم عيدانها في الصيف، والمزروع من الخشخاش الساحلي بالبساتين المسمى ماميثا عند أهل إشبيلية، فإن الذي ينبت منه على الأصل تتحطم أغصانه وتبقى أرومته، ينبت منها في العام «5» المقبل فاعلم ذلك وتحققه، فقد أوضحت لك القول في هذا الدواء الكثير المنافع العظيم الفائدة في علاج العين وغيره.

وليعلم أن الخشخاش المقرّن [والماميثا] «1» لا فرق بينهما في صورة الورق والزهر والثمر ولون الصفرة التي في الأصل، إلّا أن ما أنبأتك به أولى وأحرى من اختصاص الماميثا بالبراري والأرض الطيبة، واختصاص الخشخاش بالسواحل البحرية برمليها وحجريها «2» . وكذلك قد أعلمتك أيضا أن ما الماميثا ما يكون في أسفل ورقه نكتة لكنه اللون، ومنه ما لا نكتة فيه، وكذلك الخشخاش أعلمتك (19) أنه قد يكون من أنواع الخشخاش ما يشبه الماميثا [إلّا] «3» أن زهر هذا لونه أحمر وشنفته «4» قائمة، فصار فيها خشونة بخلاف شنفة الخشخاش المقرّن. وأما الماميثا فإن زهرتها معوجّة كالقرون، وهذا النوع من الخشخاش الأحمر، وقد ذكره ديسقوريدوس في الرابعة، وقد بينا ذلك في موضعه من كتابنا وبالله التوفيق. قال ديسقوريدوس في الثالثة «5» : الماميثا نبات ينبت في المدينة التي يقال لها منبج «6» وغيرها، ورقه شبيه بورق الخشخاش المقرّن إلّا أن فيه رطوبة تعلق باليد، وهو قريب من الأرض، ثقيل الرائحة مرّ الطعم، كثير الماء، ولون الماء شبيه بلون الزّعفران.

ماش

قال ابن البيطار «1» : وهو دواء كثير المنافع للعين، يبرّد تبريدا بيّنا، ويشفي العلل المعروفة بالحمرة «2» إذا لم تكن قوية، وأهل بلاده يصيّرونه في قدر نحاس ويسخّنونه في تنّور ليس بمفرط الحرارة إلى أن يضمر، ويدقّونه ويخرجون ماءه، ويستعمل في الأكحال في ابتداء العلل لبرده. وهو قابض جيد للأورام الحارة وحرق النار إذا طلي به، وإذا عجن بماء ورقه دقيق الشعير سكّن أورام «3» الحمرة وحللها في الابتداء، وسكّن أوجاع الفلغموني «4» ، وإذا حلّت عصارته بخل نفعت طلاء على الصدغين من الصداع الصفراوي، وإذا حلّت العصارة في ماء الورد نفع من القلاع في أفواه الصبيان. وجباه الصبيان إذا طليت به قطعت انصباب المواد إلى أعينهم. وعصارة الزهر إذا لم تحرق في الطبخ وأحكمت صنعتها تنفع من الدّمعة وتقوّي العين، وتنفع «5» في آخر الرمد. وحب الماميثا صغير أسود يؤكل وتسمّن به النّساء، [و] يبرئ به الحمرة الشديدة وورم السّرّة وورم النّفاس. ماش «6» معروف كنبات اللوبيا. قال ابن البيطار: الماش ليس بنافخ، ويؤكل، والخلط

الذي يولّده محمود، وإن ضمّدت به الأعضاء الواهنة نفعها وسكّن وجعها [لا سيما] «1» إذا عجن بالمطبوخ والزعفران والمر. وأحمد المعالجة به في الصيف أو في المزاج الحار والوجع الحار. وإن أراد مريد إذهاب ضرره، ويلين به الطبيعة، فليطبخه بماء القرطم «2» ودهن اللّوز الحلو، إذا لم يكن هناك حمى صفراوية أو ورم، فإن كان هناك حمى حارة فاطبخه مع البقلة الحمقاء «3» والخس والسّرمق «4» وشعير مرضوض. وإن احتجت أن تعقل البطن فتلقيه بقشره، ويطبخ بالماء، ويصب ماؤه، ثم تطبخه مع البقلة المدعوّة الحمّاض «5» ، ويصير معه ماء الرمان والسّمّاق والزيت الأنفاق «6» ، وإذا صنع به هكذا عقل وسكّن الحرارة، فإن كره الزيت صيّر مكانه دهن اللوز الحلو. والماش يسكّن المرة وينقص الباه وإذا استعمله المحرورون لم يحتج إلى إصلاح ولا كانت فيه مضرّة تدفع.

مثنان

وأما (20) المبرودون، ومن تعتريه الرياح، فتدفع مضرته بالجوارشن «1» الكمّوني، وأكله بالخردل، وماؤه يليّن البطن، والحسو المتّخذ منه ينفع السعال والنزلات. وهو ينفع المحمومين. وإذا طبخ بالخل نفع من الجرب المتقرح. مثنان «2» قال ديسقوريدوس في الرابعة: ثومالا، أو من الناس من يسميه قورغن «3» . وهو نبات يخرج قضبانا كثيرة حسانا، وورقه يدبّق باليد. وهو لزج يدبق بالمضغ، وله زهر أبيض. وفيما بين الزهر ثمر صغير شبيه بحب الآس مائل إلى الاستدارة، وهو في ابتداء كونه أخضر، وقشره صلب أسود، وداخله أبيض. قال ابن البيطار: يسهل البطن رطوبة مائية ومرّة وبلغما إذا شرب من حبه عشرون حبة عددا، وإذا شرب وحده حرق الجلد. وينبغي أن يشرب مع الدقيق أو السّويق أو في حبة عنب، أو يزدرد ملطخا بعسل مطبوخ. وقد تلطخ الأبدان، التي يعسر عرقها، بلطوخ يعمل من هذا الحب مسحوقا مخلوطا بنطرون وخل. وورق هذا النبات الذي يسمى خاصة قيارون يجمع أوان الحصاد، ويجفّف في الفيء ويرفع. وإن احتيج أن يسقى منه فيدق ويخرج ما فيه من الشظايا. وإذا ذرّ منه مقدار أكسوثافن «4» في شراب ممزوج بالماء أسهل رطوبة مائية، وإذا خلط

بطبيخ العدس أو الفول المسحوق أسهل إسهالا لينا. وقد يخزن «1» مسحوقا بعصارة الحصرم مصنوعا أقراصا. وهو رديء للمعدة، وإذا احتمل قتل الجنين. وذكر الرازي في الحاوي «2» : إن هذا هو الحبّة المسماة كرمدانه. وقال: إن النساء يستعملن هذه الحبة لتسخين الفروج. والكرمدانه تسهّل البلغم الغليظ وتمنع من أبخرة الدواء المرتفعة إلى الرأس وأبخرة السوداء، وتقيئ. وهو دواء قتّال إن أكثر منه، لأنه يسحج المعى، ويلهب المخرج، ولا يحتمله إلّا الأقوياء الغلاظ الطبائع، ويعالج به البرص. وأصله إذا طبخ بالزيت ولطخ به الجرب والقوابي والقروح في الرأس نفعها. قال ابن البيطار: ومن المثنان صنف آخر متخذ من قشرة أرسان الدواب، وهو بغزّة والدّاروم «3» كثير جدا، [و] في تلك الرمال وبرقة أكثر. إذا قطعت من ورقه وأغصانه شيئا أراق لبنا، وإذا أصلح ورقه بإنقاعه في الخل، وجفف في الظل، وخلط بدهن لوز وعسل، وأخذ منه درهم، أسهل الديدان وحب القرع وكيموسا مائيا، وهو جيد في علاج المستسقين. وإن طبخ منه وزن خمسة

مخلصة

دراهم مع أوقية زبيب منقى من عجمه في رطل ماء، إلى أن ينقص الثلثان، ثم صفي، ويلقى عليه درهم دهن لوز حلو وقيراط صمغ عربي، ثم شرب الكل أسهل البلغم الخام، وأسهل (21) الدود الصغار. وإذا صنع من قشر أغصانه فتل ودسّت في الجراحات والخنازير كانت لها علاجا موافقا. وإذا سحق ورقه وخلط مع مرهم الأكلة أبرأها ونفع منها. مخلّصة «1» قال أبو عبيد البكري: هي أصناف، صنف يطلع فروعا؛ ورقه على مقدار ورقة الكرفس إلّا أنه ألين. وكل ورقة منه مشقّقة شقوقا كثيرة، فإذا طلع الفرع ونما دقت الأوراق وصارت على شكل ورق الكتّان، والفرع أخضر أملس يطلع في استقبال القيظ، نوارا أزرق منكوسا كأنه المحاجم. وصنف آخر مثله سواء إلّا أن بزره بين الزّرقة والحمرة منكوس أيضا. وصنف آخر صغير ينبت في الرمل، وورقه هدب ونواره أبيض فيه صفرة، ومذاقته كلها مرّة. قال ابن البيطار: ذكر جماعة ممن يوثق بهم أنه سقي من هذه الشجرة، وأمرهم بأخذ الأفاعي بأيديهم والتعرض لنهشها، ففعلوا ذلك، ولم يضرّهم سمها، فلما أتى عليهم حول، لسع أحدهم، فأحس بدبيب السم في جسده، فجاء إلى الذي سقاه ذلك، فسقاه شربة أخرى، فعاد إلى ما كان عليه من قلة الاكتراث بلسعها، فعلم بذلك أن نفعها وقوّتها تلبث في الجسم ويمنع فعل السم حولا كاملا. ويسقى منها للمنهوش أو الملدوغ وزن درهم بزيت، مجرّبة في ذلك. قال: وحشيشة أخرى تعرف بالمشرق، وخاصة بحرّان (والرّها) «2» ، تعرف

مزرنجوش

بالكنيفشة يشرب منها نصف درهم ويتعرض شاربها للسع العقارب فلا يضره ذلك، ولا يجد للسعها ألما البتة حولا كاملا، كما ذكره في المخلّصة. وهي كثيرة بظاهر غزة إلى بلد الخليل، وبجبل بيت المقدس منها كثير أيضا. مزرنجوش «1» و [ويقال] «2» مرزجوش ومزدقوش أيضا. وهو فارسي، واسمه بالعربية السّمسق والعنقز «3» . قال ديسقوريدوس: الذي يؤتى به من قبرس «4» والمصري دونه في الجودة، وتسميه أهل صقلية «5» أمراقن «6» ، (ويوجد ببغداد وما والاها إلى المشرق) «7» . وهو نبات كثير الأغصان، ينبسط على الأرض في نباته، له

ورق مستدير له زغب. وهو طيب الرائحة جدا، مسخّن، وقد يستعمل في الأكاليل. قال ابن البيطار «1» : إذا شرب طبيخه وافق ابتداء الاستسقاء وعسر البول والمغس. وإذا استعمل ورقه يابسا مع العسل ذهب بأثر الدم العارض تحت العين. وإذا احتمل أدرّ الطّمث ويتضمد به بالخل للسعة العقرب. وقد يعجن بقيروطي، ويوضع على التواء العصب وعلى الأورام البلغمية، وقد يتضمد به مع المغرة «2» لأورام العين الحارة. ويقع في أخلاط الذهن المذهب للإعياء، والمراهم المليّنة، ليسخّن به. وهو نافع من (22) الأوجاع العارضة من البرد والرطوبة والصداع المتولد منهما، والشقيقة الحادثة من السوداء والبلغم إذا غلي وصبّ ماؤه على الرأس ثم ورقه. والمرزنجوش محمود الفعل في علّة اللّقوة «3» ، وهو فيها أكثر فعلا من النمّام «4» . ويفتح سدد الرأس والمنخرين شما ونطولا «5» ، وخاصة إذا دقّ وصيّر ماؤه في محجمة بعد الفراغ من الحجامة، وصير على العنق، ذهب بالآثار البيض الكائنة من الشّرط. وإذا خلط ماؤه بالأدوية التي تحد البصر، والتي تجفف، ابتداء الماء النازل في العين قوّاها، وإذا درس ورقه الرطب، ووضع على

مرو

التهيج الريحي أو البلغمي، حلّله. وإذا (درس ورقه الرطب بالملح) «1» والكمّون وأكل، نفع من الفواق «2» البارد، والخفقان المتولد عن خلط لزج في فم المعدة. وإذا خلط وطبخ مع التربد «3» والزبيب نفع من خفقان النقرس، ومن المالنخوليا المعائية «4» . وهو يسخّن المعدة والأحشاء، ويحلّل النفخ والسدد، ويدر البول إدرارا قويا، ويجفف رطوبات المعدة والمعى. وإذا مضغ بالملح وابتلع قلع سيلان اللعاب. وإذا عجنت به الأدوية النافعة من كثرة النزلات الموضوعة على مقدم الدماغ قوّى فعلها. وإذا درس مع لحم الربيب «5» ، ووضع على نتوء الخصيتين، أزاله إذا كان الورم هادئا، وإن كان شديد الحرارة رطبا فبالخل. ومتى استعط بمائه مع شيئ من العسل نقّى الدماغ من الأخلاط الباردة، وسخّنه، وإذا شمّ على النبيذ أسرع السّكر لما فيه من الحر والتفتيح. مرو «6» قال صاحب الفلاحة «7» : المرو سبعة أصناف، فمنها المرماحوز «8» وهو

أجودها وأنفعها للجوف وأكثرها دخولا في الأدوية، والثاني بعده التالي له في المنفعة مرو يعلونة «1» ، والثالث مرو أطوس، والرابع مرو ماهان، والخامس مرو مريدان، والسادس مرو الهوم، والسابع مرو كلايل، وهو أصغرها نباتا وأقلها دخولا في الأدوية. وكلها تتشابه في الصورة إلّا أن المرماحوز أشرفها وأنفعها، ويرتفع من الأرض شبرا وزيادة، وساقه خشبي، وعروقه [نابتة متقاربة] «2» قريب من مقدار فرعه، ويتفرع ورقه على ذلك الساق بشيء يمتد منه إلى الورقة. وريح ورقه طيب قليلا، وطعمه مر فيه أدنى بشاعة. ويبزر في طرفه [بزر] يلتقط في تموز كبزر الكتان، وفي ورقه أدنى تحديد في رأسها، منكسر الخضرة نحو [السلق و] «3» الآس. ومن أصناف المرو ثلاثة ورقها مدور، أحدها ورقه كورق الخبّازي إلّا أن فيه تشريفا، وآخر أصغر منه، وآخر ورقه كورق الكبر «4» ، والآخر يشبه ورقة ورق اللبلاب وهو أصغر منه. قال (23) ابن البيطار «5» هو سبعة أصناف مرو، جميعها تنضج الأورام الصلبة والدماميل والجراحات، وهو يصلح للمعدة الضعيفة والكبد، مزيل [ضرر] الرطوبات وفساد المزاج، مذهب للرياح أكثر من كل شيء، ويزيل الضعف العارض من سوء المزاج العارض بسبب كثرة الأكل وكثرة شرب الماء البارد. وإذا أدمن المستسقي اقتماح «6» وزن درهمين في كل يوم من ورقها

وبزرها، مع مثله سكّرا على الريق، جفّف الماء وأخرجه بالبول والعرق دائما. ومنه صنف يقال له المرماحوز ينفع من الخفقان الكائن في القلب من السوداء، مفتح لسدد الرأس، وينفع الرحم والنساء الحوامل إذا شرب بالشراب، لا سيما إذا كانت العلة من برد، وهو أجود شيء [نفعا من الأوجاع] «1» . والمرو على كثرة أنواعه واختلافه ينفع المرطوبين ومن به بلغم، وإن كثر شمّه على النبيذ أسكر وصدّع، وإن نقع في الشراب وشرب أسكر سكرا شديدا. وبزر المرو إذا قلي عقل البطن وقوّى الأمعاء، وإن لم يقل أسهل، وكذلك حال البزور اللعابية. والنوع المسمى منه المرو الأبيض معتدل مفرح، وجميع أصنافه مفش «2» ، محلل للنفخ والبلغم، مفتح للسدد البارد حيث كانت. ويقطّر ماؤه مع اللبن في الأذن الوجعة. وسائر المرو تنفع [للسدد] البارد [ة] «3» ، وتقوّي المعدة، وتفتح سدد الأحشاء، وتنشّف رطوبة المعدة، وتقوي الأمعاء. وإذا افترش ورقه الغض في الحمام الحار ورقد عليه صاحب الأوجاع والرياح الجائلة في الأعضاء نفعها، وكان أبلغ دواء في ذلك.

مزمار الراعي

مزمار الراعي «1» قال ديسقوريدوس في الثالثة العمآه: أو من الناس من يسميه طاما شوينون «2» . وهو نبات له ورق شبيه بورق لسان الحمل، إلّا أنه أدق منه، وهي منحنية إلى الأرض، و [لها] ساق دقيقة ساذجة طولها ذراع، وعلى طرفها رأس شبيه برأس العمود الذي يسمى جيدرا «3» ، وله زهر أبيض إلى الصفرة، دقاق، وأصوله شبيهة بأصول الخربق «4» الأسود، دقاق طيبة الرائحة جدا، حرّيفة، فيها رطوبة يسيرة، يدبق باليد. وهذا النبات ينبت في (24) أماكن مائية. قال ابن البيطار: وقال جالينوس في السادسة «5» : جرّبت منه أنه يفتت الحصى المتولّد في الكليتين إذا طبخ وشرب ماؤه، وذلك لأن قوته تجلو. قال ديسقوريدوس «6» : وإذا شرب من أصله مقدار درخمي واحدا أو اثنين مع شراب وافق من شرب [سم] «7» الأرنب البحري «8» ،

نانخواه

وسم الضفدع الذي يقال له قونوس «1» ، وضرر الأفيون. وإذا شرب وحده أو مع جرمسا «2» ، وله مالدوقوا «3» سكّن المغص، ونفع من قرحة الأمعاء، ويوافق شدخ العضل وأوجاع الأرحام. وإذا شرب هذا النبات عقل البطن وأدر الطّمث. وإذا ضمّدت به الأورام البلغمية سكّنها. وقال ابن سينا: ينفع من الأورام «4» الرخوة والثقيلة في الأحشاء. نانخواه «5» هو نوع من الكمّون «6» . وهو اسم فارسي. قال أمين الدولة «7» : معناه طالب الخبز «8» ، كأنه يشهي الطعام إذا ألقي على الأرغفة قبل اختبازها. قال ديسقوريدوس في الثالثة: أآمتي وهو النانخواه، ومن الناس من سماه باسليقون قومنون، ومعناه الكمّون الملوكي. ومنهم من زعم أنه الكمون الكرماني. وبزر النانخواه معروف، وهو أصغر من الكمون بكثير، ويختار منه ما كان نقيا ولم يكن فيه شبيه بالنخالة. قال ابن البيطار: أكثر ما يستعمل من هذا النبات بزره خاصة. وهو يدر البول ويحلل، وقوته مسخّنة مليّنة للبدن، مجففة، تصلح إذا شرب بالشراب

للمغص وعسر البول ونهش الهوام. وقد يدر الطمث، ويخلط بالأدوية المدرة للبول التي تقع في أخلاطها التداريج «1» لتضاد عسر البول. وإذا خلط بالعسل وتضمد به قلع كمية الدم العارضة تحت العين. وإذا شرب أو تلطّخ به، حال لون البدن إلى الصفرة. وإذا تدّخن به مع الزفت والراتينج نقى الرحم. وطبيخه يحل النفخ، وحبّه يذهب المليلة «2» والحمّيات العتيقة. وطبيخه يصب على لسع العقرب فيسكن الوجع على المكان، ويقطع القيح «3» الذي في الصدر والمعدة، ويسكّن الرياح، ويهضم الطعام. [وهو] جيد لوجع الفؤاد والغثيان، ويقلب النفس، ومن لا يجد طعم الطعام، ويسخّن المعدة والكبد شربا، وينقّي الكلى والمثانة، ويذهب الحصاة، ويخرج الدود وحب القرع أكلا بالعسل. وإذا سحقت وعجنت بعسل، وطلي بها الوجع أو أي عضو، كان حللت ورمه، وإذا خلطت بالطفل كانت في ذلك أبلغ. وإذا حقنت بها الرحم نقّته وجفّفت رطوباته وحسّنت رائحته. وإذا وضعت في الأدوية المسهلة نفعت الذي يعتريهم بها أمغاص، وإذا طلي (25) بالنانخواه على الوجه أذهبت البثور الملينة. وإذا دقّت مع الجوز المحرّق وأكلت، نفعت من الزحير. وإذا خلطت بالأدوية النافعة من البهق والبرص قوّت منافعها وزادت في تأثيرها.

ناركيوا

ناركيوا «1» يقال على زمان «2» السعالي بالفارسية. وهو صنف من الخشخاش الأسود، وقيل إن النّاركيوا هو الخشخاش كلّه بأصنافه، وقيل هو الخشخاش الأسود. وفي مفردات الشريف «3» : الناركيوا بالفارسية نبات أغفل ذكره ديسقوريدوس. وذكره في كتاب الأدوية المنتخب من الفلاحة النبطية «4» ، وقال: هو نبات ينبت في شطوط الأنهار ومواضع مجمع المياه وفي المواضع الندية الظليلة، ينبت بنفسه، ويرتفع عن الأرض نحو القامة، وله ورق كورق الزيتون، ولكنه أصغر منه، و [هو] ناعم ليّن اللمس، وأغصانه صلبة جدا، وله زهر يظهر في الربيع كالورد الخيري «5» ، يخلفه ثمر كالبندق في جوفها حب أسود كأنه الفلفل، أدكن اللون. قال ابن البيطار: قشر هذا النبات إذا

نرجس

نزع عن أغصانه وجفف وسحق وذرّ على القروح الجاسية حلّلها، لا سيما إذا دهنت بالزيت، ثم ذرّ بعد ذلك. وإذا بخّر بأغصان هذه الشجرة بحملها وورقها وأغصانها وجميع رمادها، وصنع منه نؤورة، وخلط مع زرنيخ، وطلي به الشعر النابت على البدن أسقطه وخيا «1» وأبطأ نباته كثيرا، وإذا طلي به على الكلف والنمش أذهبه، وقد يفعل الرّماد وحده ذلك من غير زرنيخ. وإذا طبخ ورقه وسقي أصحاب البلغم والريح الغليظة أخرج ذلك من المعى والمعدة. وبزره أقوى من ورقه، وإن شرب حبّه مدقوقا معجونا بالعسل أذهب المليلة «2» ونفع أصحاب الحمى من السوداء والبلغم المحترق. نرجس «3» قال ديسقوريدوس في الرابعة: هو نبات له ورق شبيه بورق الكرّاث إلّا أنها أدق وأصغر بكثير، وله ساق جوفاء ليس عليها ورق، طولها أكثر من شبر، وعليها زهر أبيض مستدير شبيه بالبلبوس «4» ، وثمرة سوداء كأنها في غشاء مستطيل. وأجود ما ينبت في مواضع جبلية، وهو طيب الرائحة جدا. قال ابن البيطار: أصل النرجس قوته قوة مجففة يلحم الجراحات العظيمة، ويلحم القطع الحادث في الوترات، وفيه شيء يجلو ويحدث، وإذا أكل أصل النرجس مسلوقا أو شرب هيّج القيء، وإذا استعمل مع العسل مسحوقا وافق حرق النار، وإذا تضمد به ألزق الجراحات العارضة للأعصاب، وإذا سحق وخلط (26) بالعسل وتضمد به نفع من انفتال الأوتار التي في العقبين والأوجاع

المزمنة العارضة في المفاصل، وإذا خلط البزر الذي يقال له فيديوس «1» والخل نقّى البهق والكلف، وإذا خلط بالكرسنة «2» والعسل نقّى أوساخ القروح وفجّر الدبيلات العسرة النضج. ويتضمد به مع دقيق الشيلم «3» فيخرج السّلّي «4» وما أشبهه. وإذا شمّ نفع من وجع الرأس الكائن من البلغم والمرة السوداء، ويفتح سدد الرأس، وشمّه ينفع الزكام البارد، وفيه تحليل قوي، وبصله يجفّف وينقّي وينضج ويسيّل القيح من القروح ويجففها. وإذا شرب منه مثقالان بعسل قيّأ، ويقتل الحيّات في البطن، وزهره معتدل محل، ويصدع رؤوس المحرورين إذا شم. وأصله نافع من داء الثعلب «5» طلاء بخلّ، وإذا شرب منه مثقالان بعسل أسقط الأجنة الأحياء والموتى، وإذا نقعت ثلاثة من أصوله في لبن حليب يوما وليلة، ثم أخرجت وسحقت، وطلي بها دكن العينين دون الرأس، وضمد به، أقامه وفعل معه فعلا عجيبا. وإذا دلك القضيب بأصله ساذجا زاد في غلظه كثيرا. وبزره إذا سحق وخلط بخل وطلي به أذهب الكلف والنمش والبهق.

نسرين

نسرين «1» قال إسحاق بن عمران: النسرين نوّار أبيض، وهو ورد برّي يشبه الورد، وسماه بعض الناس وردا صينيا. وأكثر ما يوجد مع الورد الأبيض، وهو قريب القوة من الياسمين. قال ابن البيطار: نافع لأصحاب البلغم، ومن كان بارد المزاج، وإذا سحق شيء منه وذرّ على الثياب والبدن طيبّها «2» . ولنباته كلها [قوة] «3» منقّية لطيفة الأجزاء، وهي في زهره أكثر، سيّما إذا كان يابسا، حتى إنه يدر الطّمث ويقتل الأجنة ويخرجها. وإن خلط به ماء حتى تكثر قوته صلح أيضا في الأورام الحارة سيما التي تكون في (27) الرحم. وأصوله أيضا لها قوة قريبة من هذه القوة إلّا أنها أغلظ أجزاء وأكثر أرضية. وهو يحلّل الأورام الجاسية إذا صيّر عليها مع الخل، وإذا دق وطلي به على الآثار في الوجه والكلف قلعها، وإذا جفّف وشرب منه نصف مثقال أياما «4» متوالية منع إسراع الشيب. وينفع من برد العصب، ويقتل الديدان في الأذن، وينفع من الطنين والدّوي فيها، وينفع من وجع الأسنان، والبري منه تلطخ به الجبهة ويسكّن الصداع وأصنافه، ويفتح سدد المنخرين، وينفع من أورام الحلق واللوزتين. وإذا أخذ منه أربع درخميات

نعنع

سكّن القيء والفواق، وخصوصا البري. وهو نافع لأصحاب المرة السوداء الكائنة عن عفن البلغم، وقد يسخّن الدماغ ويقوّيه، ويقوّي القلب إذا أديم إشمامه، ويحلّل الرياح الكائنة في الصدر والرأس ويخرجها بالعطاس. وإذا تدلّك به في الحمّام مسحوقا طيّب البشرة والعرق. نعنع «1» معروف «2» . قال ابن البيطار: يحرّك الجماع، ومن الناس من يدقه ويضعه مع دقيق الشعير على الجراحات والدبيلات فينفعها. وإذا شربت عصارته مع الخل قطعت نفث الدم. وهو يقتل الدود الطّوال، ويحرّك شهوة الجماع، وإذا شربت طاقتان أو ثلاث بماء رمّان حامض سكّن الفواق والغثي والهيضة. وإذا تضمد به مع السّويق حلّل الدبيلات، وإذا وضع على الجبهة سكّن الصداع، وإذا تضمد به مع السّويق حلّل الدبيلات، وإذا وضع على الجبهة سكّن الصداع، وإذا استعمل للثدي التي ورمت من تعقّد اللبن فيها سكّن ورمها، وإذا تضمد [به] «3» مع الملح نفع من عضّة الكلب، وإذا خلطت عصارته بماء القراطن «4» وافق وجع الأذن، وإذا احتملته المرأة قبل الجماع منع الحمل، وإذا دلك به اللسان الخشن لانت خشونته، وإذا دلكت منه طاقتان أو ثلاث في اللبن حفظه من التّجبن. وهو جيد للمعدة، طيّب الطعم، يدخل في التوابل، وإذا مضغ نفع من وجع الأضراس، وإذا مضغ ووضع على لسعة العقرب نفع منه، وإذا سعط منه صاحب الخنازير الظاهرة في العنق ثلاث مرات بوزن دانق من عصارته مع دهن نفع منها. وينفع أصحاب البواسير ضمادا بورقه، وهو أنجح دواء له، وإذا درس مع النّعنع

لحم الرّبيب، ووضع «1» على حساء الأنثيين أضمرها وسكن وجعها. وإذا ضرب مع الخل نفع من أضراره بالعصب وبفم المعدة لإضعافه لعصبها، ويحل نفخ المعدة ويبرئها ويسكن وجعها ويبعث شهوتها ويسخنها، ويوافق المعدة أكلا وضمادا، ويقطع القيء البلغمي الحادث عن ضعف فم المعدة. وإذا مضغ مع شيء من عود أو مصطكي بهذا النحو أيضا ينفع من الفواق والخفقان. وهو من الأدوية المقوية للقلب، وإذا وضع في أدوية الصدر نفع من وجع الجنبين، وسهّل النفث، وإذا عجنت (28) بمائه الأضمدة الماسكة للطبيعة قوّى فعلها جدا، وإذا درست أوراقه الغضّة مع أطعمة اللبن نفع من ضررها. وعصارته مع مسحج «2» ينفع من عسر الولادة، وإذا دق ورقه مع ملح أندراني «3» وخلط ووضع على كل دمل يطلع في البدن من خلط غليظ أبرأه، وهو مخصوص بالنفع من عضّة الكلب الكلب، وهو مقوّ للمعدة يعين على قوة الهضم ويحرّك الحشا، ولقواه خاصية في التفريح.

نمام

نمّام «1» وهو الرّيحان المعروف. قال ابن البيطار: قوته حارة تدر الطّمث والبول، ومنه غير بستاني، أقوى وأسخن من البستاني، وأصلح في أعمال الطب، يدر الطمث والبول، وينفع [من] المغص وأوجاع العضل وترض «2» أطرافها وورم الكبد الحار، ويوافق الهوام. وإذا شرب أو تضمد به أو طبخ بالخل وصيّر معه دهن ورد وصبّ على الرأس سكّن الصداع. ويوافق المرض الذي يقال له ليثرغس «3» ، والذي يقال له فرانيطس «4» . وإذا شرب منه أربع درخميات بخل سكّن قيء الدم. وهو يقاوم العفونات، ويقتل القمل، وينفع الأورام الباردة، ومن الفلغموني الشديد الصلابة، وينفع [من] الديدان، وحب القرع، ويخرج الجنين الميّت وخصوصا البري منه. وإذا عدّل حر النّمّام ويبسه بدهن البنفسج ونفثت عطريته ونفوذه كان نافعا في تعديل مزاج الروح التي في الدماغ، وخاصة إذا كان بلغمي المزاج، وحينئذ لا يحتاج أن يعدّل. والنّمّام يطيّب رائحة شعر الرأس والذقن إذا طلي به بعد الحمّام، وينفع السدد المتولدة من الكيموسات الغليظة في الدماغ، وسدد المنخرين. وخاصته النفع من لسع الزّنبور إذا شرب منه مثقال بسكنجبين.

نيلوفر

نيلوفر «1» قال أمين الدولة: هو اسم فارسي معناه النّيلي الأجنحة، والنيلي الأرياش، وربما سمي بالسريانية ما معناه كرنب الماء «2» . قال ديسقوريدوس في الثالثة «3» : هو نبات ينبت في الآجام والمياه القائمة، وله ورق شبيه بورق النبات الذي يقال له قنوريون «4» إلا أنه أصغر منه وأطول بشيء يسير، وقد يظهر على الماء، ومنه ما يكون داخل الماء، وله «5» ورق كبير من أصل واحد، وزهر أبيض شبيه السوسن «6» ، وسطه زعفراني اللون، إذا طرح زهره كان مستديرا شبيها بالتفاحة حتى في الشكل أو الخشخاشة «7» ، وفيه بزر أسود عريض مرّ لزج، وله ساق ملساء ليست بغليظة، شبيهة بساق النبات الذي يقال له قينوريون، وأصل أسود خشن شبيه بالجزر (من الأعمدة) «8» ، يقطع في الخريف. ومتى شرب الأصل نفع من الإسهال المزمن وقرحة الأمعاء وحلل ورم الطحال. وقد يتضمد به لوجع المقعدة ووجع المثانة، وإذا خلط بالماء وصيّر (29) على البهق ذهب به، وإذا خلط بالزفت وصير على داء الثعلب أبرأه، وقد يشرب أيضا

للاحتلام فيسكّنه، وإذا أدمن أحد شربه أياما أضعف ذكره، وبزره أيضا يفعل ما يفعله الأصل في هذه الأشياء جميعا. وقد يكون من هذا النبات صنف آخر له ورق، وأصل أبيض وزهره أصفر مساو لورق الورد. أصل هذا النبات وبزره إذا شربا بالشراب الأسود نفعا من سيلان الرطوبة المزمنة في الرحم. وأصل هذا النبات وبزره قوتهما تجفّف بلا لذع، فهو لذلك يحبس البطن، ويقطع سيلان المني ودروره الكائن باحتلام أو غيره على وجه الإفراط، وينفع قروح الأمعاء، وما كان منه أبيض الأصل فهو أقوى من الأسود، حتى إنه يقطع النزف الحادث للنساء، والأبيض والأسود فيهما قوة تجلو ويشفيان البهق وداء الثعلب، وإذا عولج بهما البهق عجنا بالماء، وإذا عولج بهما داء الثعلب عجنا بالزّفت الرطب، وإلّا نفع في هاتين العلّتين النوع الذي بصله أسود، كما أن النوع الذي أصله أبيض أنفع لتلك «1» العلل الأخر. وزهره ينوّم ويسكّن الصداع إلّا أنه يضعف. وبزره نافع لوجع المثانة، وكذلك أصله، وشرابه شديد التطفئة «2» ، نافع من الحمّيات الحارة. والنيلوفر يقرب في أحكامه من الكافور، إلّا أنه رطب، ورطوبته لقوته وكثرة البرودة التي تقاربه «3» تحدث في جوهر الروح الذي في الدماغ كلالا، إلّا أن

هايسمونا

يكون محتاجا إلى ترطيب وتبريد لتعديل. وأما الروح الذي في القلب فيشبه أن لا ينفعل عن المعني الضار الذي فيه انفعال الروح الذي في الدماغ حتى يفوته منفعته، بل خاصيته التي في عطريته تقوي الروح التي في القلب، ويكون ضرره ورطوبته إلى حد ما يعدل بالزعفران والدارصيني. والنيلوفر يذهب بالسهر الكائن من الحرارة. وشراب النيلوفر صالح للسعال والأوجاع التي في الجنب والرئة والصدر، ويليّن الطبيعة ويبرّد. وهو أكثر ترطيبا من البنفسج، ولا يضر بالمعدة إضرار البنفسج. هايسمونا «1» قال صاحب الفلاحة النبطية: هو نبات لا ورق له، يمتد ويعلو رأسه، وعلى قضبانه لزوجة كثيرة على زغب ظاهر عليها، ولهذه القضبان أصول مثل البطيخ الصغار شديدة التدوير كأنها مخروطة، وتحتها عروق تمتد في الأرض مقدار شبر، وهو مما يلي الأصل غليظ ثم يرق فيكون آخره كالشّعر، وليس لأصله عرق غير هذا الواحد، والعرق أسود من حد الأصل إلى آخره، والأصل عليه قشر أغبر إلى السواد، غليظ خشن، فإذا قشّر ظهر داخله أبيض. قال ابن البيطار: يؤكل أصله وفروعه (30) مطبوخة مطيبة بالزيت والخل والمري «2» ، وقد تضاف أصوله

هليون

إلى قضبانه ويسلق بالماء والملح مرة وبالماء وحده مرة ثانية، ثم يجفف ويطحن ويخلط معه شيء من دقيق شعير، ويتخذ منه خبز على الطابق. وهو يعين على الجماع، متى أكل إنسان خبزه مع شحم وجامع زوجته ولدت له ولدا ذكرا، مجرب مشهور، ويكون المولود جميلا، صحيح الجسم، كامل الهيئة بإذن الله عز وجل. وأكل خبزه سبعة أيام متوالية يقوّي الظهر ويشدّه، ويقوّي القلب، ويحفظ قوة البدن حفظا بليغا، وينفع من السعال أكله نيّا ومطبوخا. وإذا طبخ بماء، وجلس فيه الصبيان الذين لا يطيقون المشي، أنهضهم وشد أعصابهم. هليون «1» هو الأسفراج «2» عند أهل الأندلس والمغرب أيضا، ومنه بستاني يتّخذ في البساتين في الديار المصرية، وقد نقل إلى سائر البلاد. ورقه كورق الشّب ولا شوك له البتّة، وله بزر مدور أخضر يسودّ ويحمرّ، وفي جوفه ثلاث حبّات كأنها حب النيل صلبة، ومنه كثير الشوك، وهو الذي يسمى بعجمية الأندلس أسرعين «3» . قال ابن البيطار: يفتح السدد للكبد والكليتين، وبخاصة أصلها وبزرها، ويشفي من وجع الأسنان لأنها تجفف من غير أن يسخن، وإذا سلق سلقة خفيفة وأكل، ليّن وأدرّ البول. وإذا طبخت أصوله، وشرب طبيخه، نفع من عسر البول واليرقان وعرق النّسا ووجع المعى. وإذا طبخت بالشراب نفع طبيخها من نهش الرتيلاء «4» . وإذا تمضمض بطبيخها على موضع السّن الآلمة نفع من ألمها. وبزره

إذا شرب فعل ما يفعل الأصل. ويقال إن الكلاب إذا شربت طبيخه قتلها، وزعموا أن قرون الكباش إذا قطعت وطمرت في التراب ينبت الهليون. وهو مغيّر لرائحة البول، زائد في الباه، مفتّح للسدد في الكبد والكلى، نافع من وجع الظهر [و] من الريح والبلغم، والنفع من القولنج، وإن أكثر منه غثى، ويسخّن الكلى والمثانة وينفع من تقطير البول من برودة المشايخ، ووجع الورك العتيق، ويصلح الصدر والرئة. وليس بجيد للمعدة بل يغثي، ولا سيما إذا لم يسلق. ولا يصلحه المبرودون، والمحرورون [أن] «1» يأكلوه بعد سلقه وتمقيره «2» بالخل والمري. والمحرور يطرح منه في المضيرة ونحوها، وأما المطحن والعجّة منه فيشرب عليه المحرورون السكنجبين، ومن ليس بمحرور فلا بأس عليه منه. وإذا أكل بعد الطعام (31) غذّى أكثر منه قبل الطعام، وهو حسن التغذية، حميد التنمية، يلطّف ويهضم سريعا. والبستاني أعدلها رطوبة وأكثرها غذاء، والبرّي أكثر يبسا وجفافا، والصّخري أقلّها رطوبة وهو أقواها جلاء من غير إسخان بيّن ولا تبريد ظاهر. ويدر الطّمث ماؤه، وبزره يفتّت حصا المثانة والكليتين إذا شرب مع العسل وشيء من دهن البلسان. وأكله يحد البصر، وينفع ابتداء نزول الماء في العين، وإدمان أكله يهيّج الأوجاع كلها، وإذا

هندبا

سحق أصله ووضع في أصل الضّرس الوجع- وإن كان فاسدا- قلعه، وإن كان متماسكا يسكّن وجعه، وإن علّق أصل الهليون يابسا على الضرس الوجع قلعه بلا وجع. وأصله ينفع طبيخه من وجع الظهر [المتولد] «1» من البلغم إذا أدمن عليه، مفردا، ومع العسل والسكر، ومع بزر البطيخ، وحينئذ يوصل أقوى الأدوية النافعة من علل المثانة توصيلا بالغا، وينفع وجع الخاصرة [إذا كان] «2» من سدد الكلى، أو [في] مجاري البول. وطبيخ أصوله يزيد في الباه، وينقع في الخل لوجع الأسنان. وبزره يدر الطّمث حمولا، ويفتح سدد الطحال شربا، والهليون نفسه إن أكل نيّئا على الرّيق فتّت الحصاة، ونفع علل المثانة والكلى، وإدمان أكله يهيّج وجع المفاصل. هندبا «3» هي صنفان برّية وبستانية، وصنف ثالث يسمى خندريلي «4» ، وهو قريب منه يشبه بعضه بعضا. قال ابن البيطار: البستاني تبريده أكثر من تبريد البرّي وكلاهما طعمه قابض، وإذا أكلت مطبوخة عقلت البطن، وخاصّة البرّي منها، فإنها أشد عقلا للطبيعة. وإذا أكلت نفعت ضعف المعدة والقلب وإذا تضمد بها وحدها مع السّويق سكّنت الالتهاب العارض للمعدة. ويستعمل منها ضماد

للخفقان، وينفع من النقرس ومن أورام العين الحارة إذا خلطت مع السويق والخل، وإذا تضمد بها مع أصولها نفع من لسعة العقرب، وإذا خلطت بالسّرمق «1» نفعت من الحمرة. وماؤها إذا خلط بإسفيداج الرصاص وخلّ، كان منه لطوخ لمن احتاج إلى التبريد «2» [الشديد] . والهندبا تقوّي (32) المعدة، وتفتح السدد في الكبد والطحال، وتطفىء حرارة الدم والصفراء، وتجلو ما في المعدة، وتنفع الكبد حارّها وباردها، ولا توافق أصحاب السعال ولا المبرودين «3» ، وتنفع إذا استعملت بالخل بعد الفصد والحجامة تفتح سدد الكبد، وتنقي مجاري الكلى. وإذا عصر ماؤه وأغلي ونزعت رغوته وشرب بسكنجبين فتح السدد، ونقى الرطوبات العفنة، ونفع من الحمّيات المتطاولة، وهو جيد الكيموس. وأصله ينفع من لسعة العقرب، وإذا عصر ماؤه وأغلي وصفّي نفع من الأورام، وإن جعل مع غيره من البقول الملائمة له مثل الرازيانج والكشوت كان فعله في الأدوية المذكورة أبين، وإن طلي ماؤه على الأورام من خارج البدن نفعها وبردّها. وماء الهندبا [إذا] يحل فيه الخيار شنبر، ويتغرغر به، ينفع من أورام الحلق.

هيوفاريقون

والهندبا البرّي وهو الطّرخشقوق «1» ، ويشرب فينفع لسع العقارب والزّنبور والحيّات وحمّى الرّبع «2» . ويكتحل بماء ورقه فينفع من الغشاء، ويدخل ورقه في الترياقات، وينفع إذا سحق من الحمّيات، والذي يقل شربه للماء. وهو أقوى من الهندبا في جميع أفعاله، وينفع نفث الدم، ويقطع العطش، ويشهّي الأكل، وينفع من الاستسقاء، ويقوّي القلب إذا شرب أو تضمد به، ويقاوم أكثر السموم، وينفع الحرارات، وخاصة إذا اعتصر ماؤه وصب عليه الزيت وتحسّي، فإنه يخلّص من الأدوية القتالة كلها، ويعقب صلاحا تاما. ولبنه يجلو بياض العين، وينفع من الحمى المطبقة. هيوفاريقون «3» قال ديسقوريدوس في الثالثة: أوفاريقون «4» ، ويسمّى أندروسامن «5» ويسمى قوريون، ويسمى حاما نيطس «6» لمشاكلة رائحة بزره رائحة الراتينج الذي هو صمغ الصنوبر، ونيطس «7» هو الصنوبر، [و] هو تمنش، يستعمل في وقود النار، له ورق كورق السذاب، وطوله نحو من شبر، ولونه أحمر كالدم، وله

زهر أبيض كالخيري الأبيض، وبزره في غلف «1» ، مستطيل مدور في عظم حبّة الشعير، ولون البزر أسود، وله رائحة كرائحة الراتينج، ينبت في أماكن خشنة وعرة. قال ابن البيطار «2» : يسخّن ويجفّف ويدر الطّمث والبول، وإذا أردنا أن نسقي منه من يحتاجه سقيناه من ثمرته كما هي، ولا يقتصر على بزره وحده. وإذا اتّخذ من ورقه ضمادا، وضمدت به مواضع حرق النار والقروح، أصارها إلى الالتحام والاندمال. وإن جفّف ودق ونثر شفى القروح المترّهلة والعفنة، ويشفي وجع الورك. وإذا شرب بزره بالشراب أذهب حمّى الرّبع. وإذا شرب أربعين يوما متوالية أبرأ عرق النّسا. وإذا تضمد بورقة وبزره أبرأ حرق النار، ويفتح السدد. وشرب ورقه ينفع من النّقرس نفعا بيّنا ومنه صنف أعظم من الأول، وأكثر أغصانا، ولونه أحمر قان، وزهره (33) أصفر، إذا شرب من بزره شيء بقوطولين «3» من [الشراب الذي يقال له] «4» أدرومالي نفع من عرق النّساء، وأسهل وأخرج المرّة. وينبغي أن يدمن أخذه من به عرق النّساء إلى أن يخرج من العلة. وإذا تضمد بهذا النبات كان صالحا لحرق

وج

النار. ومنه صنف له بزر إذا شرب بالشراب نفع من الكزاز وتهيأ منه. ومن التربة مسوح نافع من الفالج الذي تميل فيه الرقبة إلى خلف وعرق النّسا. وجّ «1» قال ديسقوريدوس في الأولى: أفورون «2» ورقه شبيه بورق الإيرسا «3» غير أنه أرق وأطول. وأصوله مشتبكة بعضها على بعض معوجّة، وفي ظاهرها عقد لونها إلى البياض. قال ابن البيطار: المستعمل منه أصله فقط، وقوته حادّة، وجوهره لطيف، يدر البول، وينفع صلابة الطحال، ويجلو ويلطف ما يحدث من الغلظ في الطبقة القريبة من العين، وأنفع ما يكون منه لهذا عصارة أصله، وإذا سلق ماؤه أدرّ البول، ونفع من أوجاع الجنب والصدر والكبد والمغص وشدخ العضل، ويحلل ورم الطحال، وينفع من تقطير البول، ومن نهش الهوام، ويجلس في مائه لأوجاع الأرحام. وعصارة أصل الوج تجلو ظلمة البصر. والوج ينفع من وجع الأسنان ومن السحج الكائن من البرد شربا، ويجفّف المفاصل الرّطبة، ويصفي اللون، ويزيد في

ورد

الباه. والوج جيّد لثقل اللسان، وينفع من البهق والبرص، وينفع من التشنج نطولا ومشروبا، وينفع من بياض العين وخاصة عصارته، وينفع من الفتق، وينفع وجع المعى، ويسخّن المعدة، ويحلل ما يتولد فيها من البلغم، ويسخّن الدّم البلغمي، ويتمادى عليه، فينفع العصب ويسخنه. وينفع المفلوجين والمجذومين، وإذا أمسك في الفم ينفع من لثغة اللسان من البلغم، وخاصة طرد الرياح، وتنقية المعدة، وتقوية الكبد. ورد معروف. هو صنفان أبيض وأحمر، يقال فيه أسود بالعراق، والورد اليابس أشد قبضا من الطري، وينبغي أن يؤخذ من الطري وتقرض أطرافه البيض بمقراض، ويدقّ الباقي ويعصر وتسحق عصارته في الظل على صلاية إلى أن يثخن ويخزن لتلطخ به العين. وقد يجفّف الورد في الظل ويحرك كثيرا لئلا يتكرح. وعصارة الورد اليابس إذا طبخ بشراب كان صالحا لوجع الرأس والعين والأذن واللّثة إذا تمضمض به، والمقعدة إذا لطخ بها بريشة، وللرحم وللمعى المستقيم. وأن طبخ ودق ولم يعصر وضمد به الأورام الحارة في المراق «1» ونفعها، ونفع من الحمرة وبله المعدة. وقد يقع اليابس في أخلاط القمح والذرائر وأدوية الجراحات والمعجونات. وقد يحرق ويستعمل في الإكحال المحسّنة لهدب العين (34) . وأما البزور التي في وسط الورد فإذا ذرّ يابسا على اللثة التي نقضت إليها المواد «2» كان صالحا. وإذا شربت أقماع الورد قطعت الإسهال ونفث الدم،

ويقوّي الأعضاء هو وماؤه ودهنه، ويبرّد أنواع اللهيب الكائنة في الرأس، ولا سيما الأحمر منه، والأبيض دون ذلك. والورد جيد للمعدة، والكبد، يفتح السدد من الكبد الحارة، جيد للحلق إذا طبخ مع العسل وتغرغر به، ويهيج العطاس لمن كان حار الدماغ والمعدة، ويسكّن الحمّى ويهيّج الزكام. والنوم عليه يقطع الباه، ويسهل إسهالا كثيرا، وهو مفتّح جدا، ويسكّن حركة الصفراء. ويقال إنه يقطع الثآليل كلها إذا استعمل مسحوقا. وينفع من القروح السحجة بين الأفخاذ والمغابن «1» ، وينبت اللحم في القروح العتيقة. وادّعى قوم أنه يخرج الشوك والسلّي مسحوقا ضمادا. وطبيخ يابسه صالح لغلظ الجفون، وهو بعطريته ملائم لجوهر الروح، وخصوصا إذا سخّن مزاجه فينفعه ببرده ويمسّه بقبضه. وكذلك هو نافع من الغشي والخفقان الحارّين إذا تجرع ماؤه يسيرا، وهو نافع للأحشاء. والورد ينفع القلاع والبثر في الفم. وإذا ربّب الورد بالعسل جلا ما في المعدة من البلغم وأذهب العفونات من المعدة والأحشاء، وإذا ربّب بالسكر فعل دون ذلك. والجلنجبين «2» صالح للمعدة التي فيها رطوبة إذا أخذ على الريق وأجيد مضغه وشرب عليه الماء الحار، ولا ينبغي أن يأخذه من يجد حرارة والتهابا- وخاصة في القيظ- فإنه يسخّن ويعطش إلّا أن يكون سكريا. وإذا ضمدت العين بورقه الطري نفع من انصباب المواد إليها، وإذا

ياسمين

طبخ طريّا كان أو يابسا وضمدت به العين نفع من الرمد وسكن وجعه، ولا سيما إن جعل معه شيء من الحلبة. وإذا سحق الورد اليابس جدا وذرّ في فراش المجدورين والمحصوبين «1» نفعهم جدا وخفف قروحهم بصنع ذلك عند سيلان المواد من قروحهم ونضجها. وشراب الورد المكرّر يطلق الطبيعة بأخلاط صفراوية، وينفع الحمّيات الصفراوية. وشراب الورد كيف كان إذا تمودي عليه قوّى الأعضاء الباطنة كلها إذا شرب بالماء عند العطش، وإذا اتخذ الجلاب بماء الورد والسّكّر الطّبرزد نفع من الحمى الحارة والعطش والتهاب المعدة. ياسمين «2» معروف، وألوانه معروفة. قال ابن البيطار: قوته حارة تنفع المشايخ ومن مزاجه بارد، ويصلح لوجع الرأس الكائن من البلغم والسوداء الحادثة عن عفنة «3» ، جيد لوجع الرأس من برد ورياح غليظة، ويقوّي الدماغ، ويحلّل الرطوبات البلغمية، (35)

يبروح

وينفع من اللّقوة ومن الشقيقة. وإذا دق رطبا ويابسا ووضع على الكلف أذهبه، والأصفر منه محلّل مسخّن لكل عضو بارد، ونافع للمزكومين، مصدّع للمحرورين. ويصلح استعمال دهنه في الشتاء، وإذا سحق زهره وشرب ثلاثة أيام من مائه كل يوم مقدار أوقية قطع نزف الأرحام، مجرّب. وإذا سحق يابسا وذرّ على الشعر الأسود بيّضه. يبروح «1» قال ديسقوريدوس في الرابعة: هو صنفان أحدهما يعرف بالأنثى ولونه إلى السواد، ويقال له يرنوفس أي الخنثى «2» ، في ورقه مشاكلة لورق الخس إلّا أنه أدق من ورق الخس وأصغر، وهو زهم ثقيل الرائحة، ينبسط على وجه الأرض. وعند الورق ثمر شبيه بالغبيراء وهو اللّفاح، طيّب الرائحة، وفيه حب شبيه بحب الكمّثرى، وله أصول صالحة العظم، اثنان أو ثلاثة، يتصل بعضها ببعض، ظاهرها أسود وباطنها أبيض وعليها قشر غليظ. وهذا الصنف من اليبروح لا يكون له ساق. والصنف الآخر يعرف بالذّكر، وهو أبيض، يقال له: موريون، وله ورق ملس كبار عراض، شبيه بورق السّلق. ولونه ولفاحه ضعف لفاح الصنف الأول، ولونه يشبه لون الزّعفران، طيّب الرائحة مع ثقل، ويأكله الرّعاة فيعرض لهم سبات يسير. وله أصل شبيه بالأول إلّا أنه أكبر منه وأشد بياضا، وليس له ساق أيضا.

ومنه صنف آخر له ساق، ويذكر إن شاء الله تعالى في الكلام عليه. قال ابن البيطار: يطبخ أصل اليبروح بشراب إلى أن يذهب الثّلث ويصفّى ويرفع، ويأخذ منه مقدار أوثولوس «1» ، ويستعمل للسهر، فيسكّن الأوجاع. وإذا أردت أن يبطل حس من احتاج إلى أن يقطع منه عضو، أو احتاج إلى الكي، بأن يشرب من هذا الدواء مقدار أوثولوسين «2» بماء لقراطن «3» قيأ بلغما ومرّة كما يفعل الحربق. وإن أخذ مقدارا أكثر قتل. وقد يقع في أدوية العين والأدوية المسكنة للأوجاع والفرزجات «4» المليّنة، فإن أخذ منها قدر نصف أوثولوس واحتمل أدرّ الطمث وأخرج الجنين، وإذا صيّر في المقعدة في شكل الفتيلة أقامت، وإذا طبخ الأصل مع العاج مقدار ست ساعات ليّنه أيّ شكل أردت أن تشكّله. وورقه إذا تضمّد به طريا مع السويق وافق الأورام العارضة في العين، والأورام الحارة العارضة للقروح. ويحلّل الأورام الجاسية والدبيلات والخنازير والجراحات. وإذا دلك به البرش «5» وما (36) أشبهه دلكا رقيقا خمسة أيام أو ستة ذهب به غير أن يقرح الموضع، ويجفّف الورق ويستعمل لما يستعمل فيه. وهو رطب وإذا دق الأصل دقا ناعما وخلط بالخل أبرأ [القروح من] «6» الحمرة، وإذا خلط بالعسل والزيت كان صالحا للسع الهوام، وإذا خلط بالماء حلل الخنازير

والجراحات، وإذا خلط بالسويق سكّن وجع المفاصل. ويهيأ منه شراب بقشر الأصل ويسقى منه ثلاث أوثولوسات من به حاجه أن يقطع منه عضو أو يكوى، فإنه إذا شربه لم يحس بالألم للسّبات العارض له. ولفاح هذا الأصل إذا أكل واستنشقت رائحته عرض منها سبات، وكذلك يعرض من عصارته إذا أكثر منها السكتة. وبزر اللفاح إذا شرب نقّى الرحم، وإذا خلط بكبريت «1» لم تمسه النار واحتمل قطع نزف الدم من الرحم. واللفاح يثقل الرأس ويسبت، وإن أكل غثى وقيّأ وأسبت، وربما قتل. وأكلت منه جارية خمس لفاحات فسقطت مغشيا عليها واحمرت، فصبّ عليها رجل ماء الثلج على رأسها حتى أفاقت. ومن الناس من يشرب أصله ليسمّنه فيصير بحال من خرج من الحمّام أو شرب شرابا كثيرا من حمرة الوجه والبدن وانتفاخهما. واللفاح يسكّن الصداع المتولّد من الدم الحار والمرة، مخدّر إن أكل أو شم، وإن أكثر من أكله عرض منه الاختناق وحمرة الوجه وإذهاب العقل. وينفع منه أن يسقوا سمنا وعسلا ودهنا ويقيئوا، وقيل علاجه التقيؤ بالأفسنتين المطبوخ بالماء والعسل

يتوع

وأكل الفلفل وشرب الجندبادستر «1» والسذاب والخردل. يتّوع «2» قال الرازي: كل ما كان له لبن حار يقرح البدن مثل السّقمونيا «3» والشّبرم «4» واللاعية «5» فهو المسمى باليتّوع. وقال ديسقوريدوس في الرابعة: طينومالص «6» هو نبات يقال إنه سبعة أصناف، منه صنف معروف بالذكر، يقال له خاراقياس «7» ويسمى قوميطس «8» ، ويسمّى أمغطاليطس، ويسمى قوبيوص «9» . ومنه صنف آخر معروف بالأنثى ويقال له لينيطس «10» ، ويسمى قاروبيطس «11» . ومنه صنف آخر يسمى فاراليوص «12» ، ويسمى طينومالص «13» ، ويسمى متقن. ومنه

صنف آخر يقال له أسوسيرينون «1» . ومنه صنف يقال له فوقارساس «2» . ومنه صنف يعرف بديدروس «3» . ومنه صنف يعرف بقلاطويلص «4» . فالصنف (37) الأول المسمى خارقياس «5» المعروف بالذكر «6» له قضبان طولها أكثر من ذراع وفي لونها حمرة مملوءة من لبن حاد وورق على القضبان يشبه ورق الزيتون إلّا أنه أطول منه وأدق، وأصل [غليظ] «7» خشبي، وعلى أطراف القضبان جمّة من قضبان دقاق شبيهة بقضبان الإذخر «8» ، وعلى أطرافها رؤوس إلى التجويف [شبيهة بالصنف الذي يقال له نواليس] «9» ، وفي هذه الرءوس ثمرة هذا النبات، وينبت في أماكن خشنة ومواضع جبلية. قال ابن البيطار «10» : وجميع أنواعه قوتها قوة حادة حارة وفيها مرارة، وأقوى شيء فيها لبنها وبعده بزرها وورقها، وفي أصولها شيء من هذه «11»

القوى وليس ذلك في الجميع متساويا «1» ، فأصول اليتوع إذا طحنت بالخل أذهبت وجع الأسنان وشفته، ولا سيما الوجع الحادث في الأسنان المتآكلة. ولبن اليتوع قوته أشد، ولهذا يوضع في جوف السن المأكول، فأما سائر الفم فإنه إن قرّب إلى موضع منه أحرقه على المكان وأحدث فيه قرحة، وإذا وضع لبن اليتوع على موضع من البدن فيه شعر حلق الشعر، ولكنه لشدة قوته يخلط معه زيت، وإن فعل ذلك مرارا كثيرة بطلت به أصول الشعر، ولم ينبت، لأنها تحترق ويصير ذلك الموضع أو البدن إن طلي به عديم الشعر. وبسبب هذه القوة يقلع الثآليل المتعلقة والمنكوسة والخيلان «2» واللحم الزائد النابت إلى جانب الأظفار (والتوت) «3» ويجلو القوابي والجرب، لأن فيه قوة تجلو المكان بمرارته. وبسبب شدة إسخانه يمكن فيه أن يبرئ القروح المتآكلة والقروح الحمريّة والقروح المتعفنة متى استعمل في الوقت الذي ينتفع به فيه وبالمقدار النافع منه، وبهذه القوة صار لبن اليتوع يقلع الصلابة التي تكون حول النواصير. والورق والبزر يستعمله الناس في صيد السمك الذي يكون في ماء قائم مجتمع أيّما كان لأن السمك يصير بذلك إلى حال سكر يطفو فوق الماء.

ينبوت

ينبوت «1» هو عند أهل الشام المعروف بخرنوب المعزى. قال أبو حنيفة «2» : هو ضربان أحدهما هذا، وهو الشّوك القصار الذي يسمى الخرنوب النّبطي، له ثمر [ة مدورة] كأنه تفاحة فيها حب أحمر، وهو عاقل للبطن، يتداوى به. والضرب الثاني شجرة عظيمة تكون مثل شجرة التفاح. ورقها أصغر من ورق التفاح، ولها ثمرة أصغر من الزّعرور، سوداء شديدة السواد، شديدة الحلاوة، ولها عجمة توضع في الموازين وهي تشبه الينبوتة في كل شيء إلّا أنها أصغر ثمرة، وهي عالية كبيرة، والأولى تنفرش على الأرض، ولها شوك. وقد يستوقد به الناس إذا لم يجدوا غيره. وقال في موضع آخر: هو الخرنوب النبطي، وهو هذا الشوك الذي يستوقد به، يرتفع قدر الذراع، ذو (38) أفنان وحمل أحمر خفيف كأنه تفاح يشبع ولا يؤكل إلّا في المجهدة ويسمى الفس، وفيه حب صلب زلال مثل حب الخرنوب الشامي إلّا أنها أصغر منه. وقال الرازي: الينبوت بارد يابس يمنع الخلفة إذا شرب ماؤه. وقال عيسى ابن

ماسة «1» : الخرنوب النبطي ينبغي أن يؤكل منه ويفرط إذا أفرط الطّمث. وقيل إن قشره يفتّت الأسنان العفنة، وينفع من وجعها ويقلعها بلا حديد «2» . قال ابن البيطار: قد كثر اختلاف الأطباء والعشّابين في الينبوت، فمنهم من زعم أنه شوك القتاد وليس ذلك بصحيح، لأن شوك القتاد هي شجرة الكثيراء. وقال الرازي في الحاوي «3» : إن الينبوت هو شجرة الحاج «4» ولم يصب في ذلك، لأن شجرة الحاج «5» هو العاقول. وقال الرازي في الكافي «6» : إن الينبوت هو العوسج، وقال في موضع آخر: قيل إنه القوشيرا «7» وهو الطّباق بالعربية، ومن أجل ذلك ما نسوا ما قاله ديسقوريدوس وجالينوس في الدواء المسمى قوشيرا وهو الطّباق للينبوت، وهذا كله غلط عظيم، والصحيح فيه ما قاله أبو حنيفة في الينبوت، ولا يلتفت إلى قول غيره فيه.

(وأما الشرقي فمنه أبو فانس «1» وهو الغاسول الرومي. قال ابن البيطار: شاهدت نباته ونبات الدواء الذي يذكر بعده ببلاد أنطاليا، ورأيت أهل تلك البلاد يغسلون بأصولها الثياب، كما يفعل أهل الشام بأصول العرطنيثا. قال ديسقوريدوس في الرابعة «2» : ومن الناس من يسميه أبو فانس «3» وهو شيء تقصر به الثياب، وهو نبات ينبت على ساحل البحر ومواضع رطبة «4» ، و [هو] هش، ويستعمل في وقود النار؛ وهو نبات مخصّب وله ورق صغار شبيه بورق الزيتون والبن، وفيها بين الورق شوك يابس لونه إلى البياض مر «5» ، يفرق بعضه عن بعض، وزهر شبيه بزهر قسوس «6» كأنه عناقيد يتراكم بعضه على (39) بعض إلا أنه أصغر، وهو ليّن، وفي لونه شيء من الحمرة مع البياض، وأصل غليظ مملوء دمعة «7» مر «8» الطعم، وتستخرج دمعته مثلما تستخرج دمعة نامسيا «9» ، وقد تخزن الدمعة وحدها، وتخزن أيضا مخلوطة بدقيق الكرسنة. وتخزن «10» والدمعة وحدها إذا أخذ منها مقدار أوثولوس أسهلت البطن مرارا وبلغما ورطوبة مائية.

وأما المخلوطة بالكرسنة فإنه يؤخذ منه مقدار أربع أوثولوسات بالشراب المسمى ماء لقراطن، وقد يؤخذ أيضا من هذا النبات كما هو بأصله فيجفّف ويدق ويعطى منه مدقوقا مع نصف قوطولي «1» من الشراب المسمى مالقراطن، وقد يستخرج أيضا عصارته من أصل هذا النبات مثلما يستخرج من نافسيا، ويعطي منه للإسهال مقدار درخمي. وأما أبو قسطس «2» فإنه نبات ينبت في الأماكن التي ينبت فيها أبوفايس «3» ، وهو صنف أيضا من الشوك الذي تقصر به الثياب، وهو نبات لاط مع الأرض «4» ، [له] رؤوس رخوة ورؤوس صغار فقط، وليس له زهر ولا ساق، وله أصل غليظ ليّن. فخذ ورق هذا النبات ورؤوسه وأصله، واستخرج عصارتها، ثم جفّفها وأعط منها مقدار ثلاث أوثولوسات مع الشراب الذي يقال له مالقراطن من أردت «5» أن تسهّل بدنه رطوبة مائية وبلغمية؛ والإسهال بها يوافق خاصة من كان به عسر النفس الذي يحتاج معه الانتصاب والصرع وأوجاع الأعصاب) «6» .

أسترغار

أسترغار «1» تأويله بالفارسية شوك «2» الجمال. قال ديسقوريدوس في الثالثة: هو أصل نبات البلاد التي يقال له لينوي، شبيه بأصل الأنجدان «3» . وقال ابن عبدون «4» : هو أصل نبات ينبت بخراسان، يطبخ مع اللحم بحسب التوابل، ويشبه الأنجدان. وقال مسيح «5» : وقوة الاسترغار أحرّ وأيبس من الأنجدان وأبطا في المعدة وأقل هضما للطعام من أصل الأنجدان، وأصل الأنجدان أحدّ منه، وخاصة أن يغثي ويقيئ بتلذيعه

للمعدة إذا أكثر منه. وينبغي أن يستعمل منه خلّه، ولا يتعرض بجسمه. وقال البصري «1» : خاصة الاسترغار النفع من حمى الرّبع، الكائنة من عفونة البلغم، والقول في قوّته مثل القول في الأنجدان. وقال الرازي «2» : الاسترغار المحلّل لا يخلو من إسخان وهو يغشي ويهيج شهوة الطعام. وقال غيره: والكامخ (40) المتّخذ منه يهضم الطعام ويفتّق الشهوة. وقال ابن رضوان «3» في حانوت الطبيب «4» : الاشترغاز «5» يسخّن المعدة ويجلو الرطوبات منها، فيجود «6» بذلك الاستمراء للأطعمة، ويدفع مضار السموم، وإذا جعل في الخل صيّره قريبا من خل العنصل. وقال ابن سينا «7» : خل الاشترغاز جيد للمعدة ينقّيها ويقويها.

بيش

بيش «1» قال ابن سمجون «2» : البيش ينبت ببلاد الصين بقرب السّند، ببلد يقال لها هلاهل، لا يوجد بشيء من الأرض إلّا هناك، ويقوم نبته على ساق ويعلو قدر ذراع، وورقه يشبه ورق الخس والهندبا، ويؤكل وهو أخضر بتلك البلاد، وإذا يبس كان من أقوات أهل ذلك البلد ولم يضرّهم، فإذا بعد عن بلد السند ولو بمائة ذراع وأكله آكل مات من ساعته. قال حبيش «3» : ينبت في أقاصي الهند ويقتل الناس كثيره وقليله، ولا يقتل صنفا واحدا من الحيوان، ويرعاه طائر يقال له السّلوى «4» ، ويأكله الفأر فيسمن عليه. وقال عيسى بن علي «5» : البيش ثلاثة ألوان، فلون يشبه القرون التي توجد في السّنبل الهندي، عليه بياض كأنه سحيق الطلق «6» أو الكافور، وله بصيص، وله عود كقدر نصف الإصبع، ولون آخر أغبر يضرب إلى صفرة منقّط بسواد

يشبه عروق الماميران «1» ، ولون آخر عود طويل معقّد كأنه أصول «2» القصب الفارسي كقدر الإصبع، ولونه يضرب إلى الصفرة، وهو أرداها وأخثها، وهو حار جدا، وإذا طلي على ظاهر الجسد أكل اللحم، وإذا سقي منه زنة نصف مثقال قتل شاربه ونفخ جسمه، وهو أسرع نفوذا في البدن من سم الأفاعي والحيّات. وقال أهرن القس «3» : البيش أسرع الأشياء قتلا، وربما صرع ريحه من يشمّه من غير أن يشربه، وربما جعل من عصيره على النشّابة «4» ثم رمي بها فلا تصيب إنسانا إلا قتلته. وعلامة من شربه أن تورم شفتاه ولسانه ويصرع مكانه، وقلّ من رأينا يفلت منه، وربما أخذه الدوار والصرع فالغمرة والغشي والرّعاف أو يقتله فجأة.

بيش موش بيشا

وقال الرازي «1» : من شرب البيش أخذه الدوار والصرع وتجحظ عيناه، فينبغي أن يقيّأ مرات بعد أن يسقى في كل يوم طبيخ بزر السّلجم بسمن البقر العتيق، فإذا تقيأ مرات طبخ البلّوط بالشراب، وسقي منه أربع أواق «2» مع نصف درهم من دواء المسك، وقد يسحق فيه قيراط مسك فائق. ومما يعظّم نفعه سمن البقر والبازهر الأحمر والأصفر الخالص الممتحن وترياق الأفاعي والمثروديطوس «3» . وقد ذكر عدة من القدماء أن أصول الكبر كالبازهر للبيش. وقال ابن سينا «4» : البيش حار في الغاية من الحرارة واليبوسة، (40) يذهب بالبرص طلاء، وكذلك إن شرب من معجونه الذي نفع فيه وهو البزرجلي «5» ، وكذلك ينفع من الجذام، وترياقه فأرة البيش وهي فأرة تغتذي به. بيش موش بيشا «6» قال ابن سينا: هي حشيشة تنبت مع البيش، وأي بيش جاورها لم يثمر، وهي أعظم ترياق للبيش، ولها جميع المنافع التي للبيش في البرص والجذام، وهي ترياق لكل سم من الأفاعي والحيات والله أعلم. تنبل «7» قال أبو حنيفة: هو من اليقطين، ينبت نبات اللوبيا، ويرتقي في الشجر أو ما

ينصب له، وهو مما يزدرع ازدراعا بأطراف بلاد العرب من نواحي عمان، وطعم ورقه طعم القرنفل، ورائحته طيبة، والناس يمضغون ورقه فينتفعون به في أفواههم. وقال المسعودي «1» : ورق التانبول كصغار ورق الأترج عطري، إذا مضغ طيّب النكهة وأزال الرطوبة المؤذية منها، ويشهّي الطعام، ويبعث على الباه، وحمّر الأسنان، وأحدث في النفس طربا وأريحية، وقوّى البدن. وقال الغافقي: له قوة قابضة مجفّفة، ولذلك يمنع من النزف وورم اللهاة، ويلصق الجراحات، ويقطع الدم السائل منها. وقال ماسرجويه «2» : فيه حدّة، ويمضغه أهل الهند فيقوّي اللثّة والأسنان والمعدة، [ويقوي الكبد] «3» . وقال الشريف «4» : التنبل حار في الأولى يابس في الثانية، يجفّف بلة المعدة ويقوي الكبد الضعيفة ويقوي الغمور «5» . وإذا أكل ورقه وشرب بعده الماء طيّب النفس، وأذهب الوحشة ومازج العقل قليلا. وأهل الهند يستعملونه بدلا من الخمر، يأخذونه بعد أطعمتهم، فيفرح نفوسهم ويذهب بأحزانهم، وأكلهم له على هذه الصّفة: إذا أحب الرجل أكله أخذ الورقة ومعها زنة ربع درهم

تربد

كلسا «1» وقطعة قرنفل «2» . ومتى لم يؤخذ الكلس معه لم يحس طعمه ولم يخامر العقل، وآكله يجد عند أكله منه سرورا وطيب النفس، ويتم الانتعاش عنه بعطريته وتفريح آكله، وينشو قليلا، وهو خمر أهل الهند، وهو بها كثير مشهور. وقال الرازي: وبدله وزنه قرنفل يابس. قال ابن البيطار: التنبل قليل ما يجلب إلينا من بلاده لأن ورقه إذا جفّ يضمحل ويتلاشى، وإنما يتحفظ ما يجلب منه لبلاد اليمن وغيره إذا جني من شجره وحفظ (41) بعسل، وقد غلط من ظن أن ورق التنبل هو هذا الورق الموجود اليوم بأيدينا، الشبيه بورق الغار في شكله ورائحته، وهو معروف عند أهل التبصرة من باعة العطر بورق القماري، لأنه يجلب من بلاد يقال لها القمر «3» فيما أخبرت به الأطباء، ومن الأطباء في زماننا من يعتقد أن هذا الورق المذكور هو ورق السادج الهندي، ويستعمله مكانه، وهو خطأ. تربد «4» قال أبو العباس الحمصي «5» : التربد بالعراق، وعلى الصفة التي يجلب إلينا،

وهو إليهم مجلوب أيضا من وادي خراسان وما هناك. وأخبرني الثقة العارف بالعقاقير أبو علي البلغاري ببغداد، أنه بحث عنه في البلاد الخراسانية عن صفته وهيئته وورقه، فأخبره الجلّابون له أن ورقه على هيئة ورق اللبلاب الكبير إلا أنه محدد الأطراف، له ساق قائمة وأصوله طوال على الصورة المجلوبة، وهم يقطعونه وهو أخضر قطعا على القدر الموجود. وذكر لي الثقة: أن كل ما يجلب من التربد في البحر يسرع إليه التآكل بخلاف المجلوب منه في البر. ولما كان المتأخرون من المتطببين لم يبحثوا عن صفته وذكروه مهملا في كتبهم وجد المدلّسون السبيل إلى تدليسه بغير ما نوع من الكلوخ «1» واليتوع «2» وغير ذلك مما يجب التوقف فيه والحذر منه. قال ابن ماسويه «3» في إصلاح الأدوية المسهلة «4» : خاصة التربد إصلاح البلغم إلّا أنه يورث البشاعة في النفس لفظاعة مطعمه، وإن أراد مريد أخذه فليتقدم قبل ذلك في إصلاحه فيلتّه بدهن اللوز الحلو فإنه يمنع ضرره، ثم يأخذه. والمختار منه ما كان حديثا جوفه شديد البياض، أملس الظاهر، دقيق العيدان غير متآكل، ليس بذي شظايا. والشّربة منه ما بين درهم إلى درهمين. وقال حبيش «5» : أجوده ما كان أبيض «6» في لونه، ملتفا في شكله مثل

أنابيب القصب، ودق جسمه وأنبوبه، فإذا كسرته أسرع إلى التفتيت ولم يكن غليظا رزينا، وإذا سحقته أسرع إلى ذلك وكان عند السّحق أبيض، وما كان على خلاف ذلك فلا خير فيه. والتّربد إذا طال عليه الزمان عمل فيه القادح كما يفعل في الخشب فيضعف فعله، والدليل على ذلك أنه تراه مثقبا كأنه ثقب رأس إبرة، وإصلاحه أن يحك قشره الخارج الرقيق حتى يبلغ إلى البياض، ويدق وينخل، فإن استعمل في المعجونات الكبار نخل بحريرة، وإن استعمل في الأدوية المسهلة مثل الحب والمطبوخ نخل بشيء واسع ليكون فيه جراشة يسيرة فلا يلزق بخمل المعدة. وإن استعمل لمن به بلغم لزج في معدته دقّه ونخله ليلزق بالبلغم فيقلعه. وقدر الشربة منه من درهم إلى درهمين، وإن طبخ مع الأدوية فوزن أربعة دراهم. ولا ينبغي (42) أن يستعمل منه إلّا الأبيض السليم من السّوس، وشرّه المستاس، فإنه مؤذ لفم المعدة ومكرب معطّش غير مسهل. والمختار منه يخرج البلغم اللزج وينقي المعدة وطبقاتها منه. وينفع من أوجاع المفاصل والعضل المتولّد من البلغم، ويخرج الخلط الفاعل لها وينقّي الأرحام تنقية بالغة مشروبا ومحتقنا به ويفتح سددها، وينفع من أوجاعها عند إقبال الحيض. وينفع [من]

حزاء

أوجاع المعدة والظهر «1» وتنقيته للدماغ من البلغم ينفع من الفالج والصّرع، وبذلك ينفع من النزلات والسعال المتولد عن رطوبات في فم المعدة، ومن علامته أنه لا يسكن عنهم حتى يتقيّأوا «2» طعامهم أو يتقيّأوا خلطا لزجا. وإذا خلط بالكابلي «3» كان دواء نافعا للمصروعين. وقال بعض الأطباء: وبدل التربد إذا عدم ولم يوجد وزنه من قشور أصل التوت والله أعلم. حزاء «4» قال أبو العباس النباتي: الحزاء اسم لنبتة جزرّية الورق إلى البياض [ما هي] جزري الشكل إلى الطول، في طعمه يسير حرافة، وساقه في غلظ الإصبع يتفرق في أعلاه [إلى] أغصان دقاق متشعبة عن أكلّة كزبرية الشكل إلى الصفرة، يشابه أكلّة الجزر البري «5» ، يخلف بزرا لاطئا عدسي الشكل مع طول، حريف الطعم فيه عطرية، وطعم ورقه وأصله طعم الجزر والرازيانج معا بيسير حرافة. رأيته بأرض بابل من أعمال قرى الكوفة، ورأيت البزر منه ببغداد معروف بهذا الاسم. قال الرازي في [دفع مضار] الأغذية «6» : يسخّن المعدة ويهضم الطعام، ويطرد الرياح الغليظة، وينفع أصحاب البلغم وأصحاب الجشأ الحامض، فإن أخذه المحرورون فليشربوا عليه سويقا وسكّرا.

وقال ابن ماسويه: هو نافع من لسع الهوام، ويدر البول، ويعطّش كثيرا. وقال البصري «1» : كامخ الحزاء رديء للرأس «2» ، [و] يورث السدد ويصلح لبرد المعدة والبخر ونتن الفم، ويهيّج المرار، ويظهر الجرب والبثر في البدن. ومن الحزاء صنف آخر. قال الغافقي: بقلة ورقها مثل ورق الكرفس أو ورق الكمّون، ولها أصل كالجزر، ويظهر منه شيء على الأرض، تنبت مسلطحة ثم تتشعب أغصانها إذا استلقت. قال صاحب الفلاحة: الحزاء بقلة ورقها دقاق متفرّق ومتشعب، فيه ورق الجزر يطلع كالكرفس من أصله. وفي طعمه حرافة وحدّة طيّبة غير مكروهة، يضرب طعمها إلى شبه طعم الرازيانج، وهي هشّة ليس فيها شيء من اللزوجة، مستطابة، ولها في رؤوسها بزر أخضر طيب الريح والطعم طارد للرياح جيد للمعدة. وهي مسخّنة إسخانا يسيرا على مزاج الكبد البارد لهضم الطعام، ويزيل الخمار ويصلح مزاج البدن والأحشاء (43) ، ويزيل «3» إدمانها الصفرة من الوجه وسائر البدن، ويفتح سدد الكبد والطحال؛ وتشوبها قبض مع عطرية، ويسخّن الكلى ويسمنّها، وتنقي المياه ومجاري البول، وتشفي من الرياح «4» وتنفع الدماغ

ريباس

وتحلل منه الرطوبات، وهي أشد الأشياء موافقة للبواسير وتنفع من نتوئها «1» ، وتسكن وجعها بالتضميد وإدمان أكلها. ريباس «2» ليس منه شيء لا بالمغرب ولا بالأندلس البتة، وهو كثير بالشام وبالبلاد الشمالية. وهو كأضلاع السّلق، ولها خشونة. قال إسحاق بن عمران: بقلة ذات عساليج «3» غضّة، حمراء إلى الخضرة، ولها ورق كبار عراض مدوّر، طعم عساليجها حلو بحموضة، وهو بارد يابس في الدرجة الثانية، ويدل على ذلك حموضته وقبضه، فلذلك صار مقوّيا للمعدة دابغا لها وقاطعا للعطش والقيء. وربّ الريباس صالح للخفقان والقيء والإسهال الكائن من الصفراء، مقو للمعدة مشّه للطعام. وربّه فيه حلاوة وحموضة غير مضر منه، وإنما يستخرج من عسالة «4» هذه البقلة بأن تدق وتعصر وتطبخ حتى يصير له قوام وهو بارد يابس.

سنبل

وقال سندشهار «1» : جيد للبواسير وللخمار أكلا. وقال المنصوري: «2» ينبت في الجبال الباردة المفردة ذات الثلوج، وهو جيد للحصبة والجدري والطاعون، وربّه مثل ربّ حماض الأترج. وقال الشريف: إدمان أكله يبرئ من كثرة الدماميل. وقال الرازي: ويطفئ الصفراء والدم. وقال ابن سينا «3» : عصارته يحد البصر كحلا، وهو نافع من الوباء «4» . سنبل «5» هو ثلاثة أنواع، هندي ورومي وجبلي. قال ديسقوريدوس في الأولى: ناردوس «6» وهو الناردين، وهو جنسان أحدهما يقال له الهندي، والآخر يقال له السوري، لا لأنه يوجد بسوريا «7» بل لأن (44) الجبل الذي وجد فيه ما يلي

سوريا. ومنه ما يلي بلاد الهند، وأجود السوري ما كان حديثا جدا، وافر الجمّة، أشقر طيب الرائحة، وفيه رائحة السّعد. سنبلته صغيرة، يجفف اللسان ويمكث طيب رائحة الفم إذا مضغ طويلا. وأما الذي يقال له الهندي فمنه ما يسمى غنغيطس «1» باسم نهر يجري إلى جانب الجبل الذي ينبت بالقرب منه، وهو أضعف قوة لرطوبة الأماكن التي ينبت فيها، وهو أطوله وأكثره سنبلا، ويخرج سنبله من أصل واحد، وجمام «2» سنبله وافرة، ويلتف بعضه ببعض، زهم الرائحة. ومنه ما هو داخل الجبل، وهو خير من الذي وصفنا وأطيب رائحة، قصير السنبل، ورائحته شبيهة برائحة السّعد، كما وصفنا في الناردين السوري. وقد يوجد نبات يسمى ناردين سقاريطيقي باسم الأماكن النابت فيها، كثير السّنبل، أشد بياضا من الذي وصفنا، وربما كان في وسطه ساق رائحته كرائحة البيش، فينبغي أن يرفض هذا النوع. وربما بيع الناردين وقد نقع في الماء، ويستدل على ذلك ببياض السنبل. وقد ينبغي أن ينقّى عند الحاجة إليه إن كان في أصوله شيء من الطين وينخل ويؤخذ ترابه فإنه يصلح لغسل اليد.

قال ابن البيطار: ينفع الكبد وفم المعدة إذا شرب، وإذا وضع من خارج ويدر البول ويشفي اللذع الحادث في المعدة ويجفّف المواد المنصبّة إلى المعدة والأمعاء والمواد المجتمعة في الرأس والصدر. وإذا شرب عقل البطن، وإذا عمل منه فرزجة «1» واحتملتها المرأة، قطعت النزف، وجففت الرطوبات السائلة من القروح. وإذا شرب بماء بارد سكّن الغثيان ونفع من الخفقان والنفخ، ومن اعتلت كبده ومن به يرقان ومن كانت بكلاه علّة. وإذا طبخ بالماء، وتكمد به النساء وهنّ جلوس فيه، أبرأهن من الأورام الحادة العارضة في الأرحام. وهو صالح لسقوط الأشفار لقبضه وإنباته إياها، وقد يدر على الأجساد لكثرة العرق، ويقع في أخلاط بعض الأدوية المعجونة، ويحتاج إليه في أدوية العين؛ وقد يستحق ويعجن بالخمر في إناء جديد ليس بمقيّر، واستعمل في أدوية العين. والسنبل الرومي وهو المنتجوشة «2» إذا شرب بخمر نفع من أورام الطحال وأوجاع المثانة والكلى ونهش الهوام، ويقع في أخلاط المراهم وأشربة ولطوخات حارة. والشراب الذي يتخذ بالسنبل الرومي وهو المنتجوشة وبالسادج «3» فإنه يشرب منه مقدار قراثوس «4» ممزوجا بثلاثة أضعافه، فإنه ينفع من العلل التي تكون في الكلى واليرقان وعلل الكبد وعسر البول وفساد اللون وعلل المعدة. والسنبل يفتح لسدد الرأس، مذكّي الذهن مقوّ للمعدة والكبد، مسخن لها ولسائر الأعضاء، محسّن للّون ويذهب بعسر النفس، وينفع من الاستسقاء

طاليسفر

اللحمي «1» منفعة بالغة، ويمسك الطبيعة ويقوي القوة الماسكة في داخل البدن كله، ويقطع القيء البلغمي، ويحلل الرياح المتولدة في المعدة. قال ديسقوريدوس: وصفة شرابه أن يؤخذ أصل السنبل البري- وهو طري- فيسحق وينخل ويلقى منه ثمانية مثاقيل في مقدار كوز من العصير ويترك شهرين فينفع من علل الكبد وعسر البول وعلل المعدة والنفخ. طاليسفر «2» قال الغافقي: هو الداركيشت «3» ، وأكثر الناس على أنه البسباسة، ولست أرى ذلك صحيحا. وحنين يسميه ماقوقي «4» . وزعم ابن جلجل «5» : أنه لسان العصافير. وقيل إنه عروق العشبة التي يعلق بها دود الحرير. وقال ديسقوريدوس: هو قشر نبات يؤتى به من بلاد الهند، لونه إلى الشّقرة، غليظ قابض جدا، وقد يشرب لنفث الدم وقرحة الأمعاء وسيلان الفضول إلى البطن، ويجفف ويقبض وينفع من الاستطلاق، وخاصة النفع من البواسير والأرواح «6» الظاهرة،

قرنفل

وينفع من وجع الأسنان إذا طبخ بالخل، وماؤه المطبوخ فيه ينفع القلاع الأبيض إذا أمسك في الفم. قرنفل «1» قال إسحاق بن عمران: القرنفل أصل وعيدان وثمر، يؤتى به من بلاد الهند، وفيه العيدان وفيه الرءوس ذوات الشعب، وهو أجوده وأجوده أصهبه، ومنه دقاق وجلال «2» ، والمقطوع يقطع سلس البول والتقطير عن برد، ويسخّن أرحام النساء، وإن أرادت المرأة أن تحمل شربت في كل طهر نصف درهم قرنفلا، وإن أرادت أن لا تحمل تأخذ كل يوم حبّة قرنفل ذكر فتزدرها. وأن شرب من القرنفل نصف (46) درهم مسحوقا مع لبن حليب على الريق قوى على الجماع. ويستعمل في الأدوية والطبيخ، وينفع أصحاب السوداء ويطيب النفس ويفرحها وينقي القيء والغثيان. ويستعمل في الأكحال التي تحد البصر ويذهب الغشاوة وينفع السبل، ويشجّع القلب، ويقوّي المعدة والكبد والأعضاء الباطنة وينقي البلل

كاشم رومي

العارض فيها، ويعين على الهضم ويطرد الرياح المتولدة عن فضول الغذاء في المعدة. ويقوّي اللثة ويطيّب النّكهة ويسخّن الكبد والمعدة، ويزيل قرع المتلحن «1» ، وينفع زلق الأمعاء عن رطوبات باردة، وينفع الاستسقاء اللّحمي، ويقوي الدماغ ويسخّنه، ويزيد في الجماع كيفما استعمل. كاشم رومي «2» قال ديسقوريدوس: ينبت في البلاد المجاورة لكيش «3» ، ويسمى عندهم قامافس «4» ، وينبت في الجبال الشاهقة الخشنة الظليلة بالأشجار، وخاصة المواضع المجوفة، وله ساق صغير رقيق شبيه بساق الشّبت ذو عقد، عليه ورق كورق إكليل الملك «5» إلّا أنه أنعم منه. طيّب الرائحة، والورق الذي عند أعلى الساق أدق من سائر العروق وأكثر تشقّقا، وعلى طرف الساق إكليل فيه ثمر أسود مصمت إلى الطول، يشبه بزر الرازيانج «6» ، حرّيف المذاق، فيه عطرية، وله أصل أبيض طيب الرائحة. قال ابن البيطار: أصله وبزره يسخنان ويحدران الطّمث، ويدران البول، ويطردان الرياح، ويحللان النفخ، ويهضمان الغذاء، وينفعان أوجاع الجوف والأورام البلغمية، وخاصة العارضة في المعدة، ولسع الهوام. وإذا احتملت المرأة

كنهان

أصله أدرّ الطمث والبول. وينفع من السدد العارضة في الكبد. ويسقي منه درهم بشراب ممزوج للحيّات في البطن للمستسقين درهمين بماء حار. والكاشم يعين على تلطيف اللحوم الغليظة إذا استعمل مع الخل، ولذلك يستعملونه في التهرية «1» كثيرا. ولا يتولد منه كثير إسخان إذا وقع مع الخل، وخاصة إذا بردت مرقته وانحل بخاره، وأما وهو حار فيسخن بحرارته ويصدع أصحاب الرءوس الحارة صداعا غير دائم، بل يسكن سريعا بشم ماء الورد والكافور. كنهان «2» بالفارسية. قال في الفلاحة» : ورقها يشبه ورق الحبّة الخضراء، ولونها وحدّتها مثلها، ولها أغصان تتفرع على ساق خشن غليظ ويعرق عروقا طوالا، وصورتها كشجرة صغيرة، ويزرعها أهل بلد نينوى بابل «4» وهي أصغر من شجرة الخضراء وأرطب ورقا وأغصانا.

وخشيزق

قال ابن البيطار «1» : خاصيته عجيبة لطرد العقارب حتى لا يكاد يرى عقرب واحدة في الموضع الذي يكون فيه. قال: وقد أخذنا من ورقها فطرحناه في طشت «2» ، وأخذنا ثلاث عقارب فألقيناها «3» على الورق (47) فنفرت نفورا عظيما، وجعل بعضهن ينهش بعضا ثم كففن عن الحركة ودبّين. وقد يدخلها الأطباء في الضمادات المسخّنة، وإذا أكثر شمّها وجد منها رائحة الدّخان. وهي تؤكل وتسخّن البدن شديدا إذا أكثر منها، وتسخن الكبد والطحال. وخشيزق «4» قال الغافقي: قيل إنه نبات يشبه الأفسنتين الرومي «5» ، أصفر اللون، سهك «6» الرائحة، يؤتى به من (جزائر) «7» خراسان، ويعرف بالحشيشة

الخراسانية. أجودها ما كانت خضراء وطعمها مر ورائحتها ساطعة. وهي حارة يابسة، تخرج الدود وحب القرع بحرارتها. وقال غيره: هو شيح خراسان، وبدله- إذا عدم- شيح أرمني. والشربة منه مثقال. وأما الغربي فمنه أآطريلال «1» هذا اسم بربري وتأويله رجل الطير، ويعرف في الديار المصرية برجل الغراب، وبعضهم يعرفه بحرز الشيطان أيضا. وهو نبات يشبه الشّبت في ساقه وحمّته وأصله، غير أن حمّة الشّبت زهرها أصفر وهذا النبت زهره أبيض، ويعقد حبّا على هيئة ما صغر من حب المقدونس، أو كبزر النبات الذي يعرف بمصر أيضا بالأخلّة، غير أنه أطول منه قليلا وفيه حرارة وحرافة ويبس، وعند ذوقه يحلو اللسان. وهو حار يابس في آخر الثالثة، وبزره هو المستعمل منه خاصة في المداواة. ينفع من البهق والوضح «2» نفعا بينا شربا. وأول ما ظهرت منفعة هذا الدواء (48) واشهرت بالمغرب الأوسط من قبيلة من البربر تعرف ببني وجهان من أعمال بجاية «3» ، وكان الناس يقصدونهم للمداواة، وكانوا يضنّون بها ويخفونها عن الناس ولا يعلمونها إلا خلفا عن سلف، إلى أن أظهر الله سبحانه تبارك وتعالى عليها بعض الناس فعرفها وعرّفها لغيره فانتشر ذكرها، وعرف بين الناس عظيم نفعها.

وهي تستعمل على أنحاء شتى، فمنهم من يسقي منه بمفرده، ومنهم من يخلطه بوزن درهم منه ووزن ربع درهم عاقر قرحا «1» ، يسحق الجميع ويلعق بعسل نحل، ويقعد الشارب له في شمس حارة مكشوف المواضع البرصة «2» للشمس ساعة أو ساعتين حتى يعرق، فإن الطبيعة تدفع الدواء بإذن خالقها- جلّ وتعالى- إلى سطح البدن فيصل إلى المواضع البرصة فينفّطها ويقرحها ولا يصيب لك سائر البدن السليم من ذلك المرض أصلا، فإذا تفقأت تلك النّفّاطات وسال منها ماء أبيض إلى الصفرة قليلا فيترك شربها إلى أن تندمل تلك القروح، ويبدو لك تغير لون البرص الأبيض إلى لون الجلد الطبيعي، وخاصة ما كان من هذا المرض في المواضع اللّحمية، فإنه أقرب إلى المداواة وأسهل انفعالا منه مما يكون في مواضع عرية من اللحم، وقد جرّبته غير ما مرة، فحمدت أثره في هذا المرض، وهو سر عجيب فيه. وقد رأيت تأثيره مختلفا. ففي بعض يسرع انفعاله في أول دفعة من شربة أو شربتين أيضا، وفي بعض أكثر من ذلك، ولا يزال يسقى العليل منه كما قدمنا آنفا، ويقعد في الشمس مرة وثانية وثالثة، إلى أن ينفعل بدنه ويتبين لك صلاحه. وخير أوقات شربه بعد ما يجب تقديمه من استفراغ الخلط الموجب لهذا المرض في أيام الصيف، أو وقت تكون الشمس فيه حارة.

وقال الشريف «1» : بزر الحشيشة المسماة أآطريلال إذا أخذ منه جزء ونصف ومن سلخ الحيّة وورق السذاب جزء جزء، [و] يسحق الجميع ويسف منه خمسة أيام في كل يوم ثلاثة دراهم بشراب عنب ينقّي من البرص، مجرب، لا سيما إذا وقف شاربه في الشمس حتى يعرق. وإذا سحق بزر هذه الحشيشة ونخل وعجن بعسل منزوع الرّغوة ويستعمل لعوقا وشرب منه كل يوم مثقالان بماء حار خمسة عشر [يوما] متوالية أذهب البرص لا محالة. وإن سحق هذا البزر ونفخ في الأنف أسقط الجنين. قال الزهراوي «2» : بزر هذه الحشيشة ينفع المغس «3» شربا. قال ابن البيطار «4» : وزعم الشريف أن أآطريلال هذا هو بزر أحد النبات المسمى باليونانية دوقس «5» ، وليس هو كذلك فاعلمه. وقالت جماعة من أهل

أرجيقنه

صناعتنا أيضا: إنه بزر النبات المسمى رعي الإبل، وعندي فيه نظر، لأن ديسقوريدوس يقول في رعي الإبل أن ساقه مزوّى «1» ، والحشيشة المسماة أآطريلال (49) ساقها مدوّر فلينظر ذلك. أرجيقنه «2» قال أبو العباس النباتي «3» : الأرجيقنة هو المعروف عند (النباتيين) «4» والصباغين بالأرجيقن، يجلب إليهم بالمغرب من أجواز «5» بجّاية، وأطيبه عندهم ما كان من سطيف «6» ، وهو معروف بأفريقية أيضا. وجرّب منه النفع من الاستسقاء، ويذهب اليرقان مطبوخا بالزبيب ومعجونا بالعسل. وهو دواء مألوف طعمه بيسير مرارة يشبه طعم أصل الحرشف بعض شبه، وكذلك يشبه أيضا بعض شبه للنبات المعروف عند الشّجّارين بالأرز في هيئة أصوله وورقه وزهره وطعمه، إلا أن ورق الأرجيقن يميل إلى البياض وهو أرغب. ومنه ما هو صغير «7» مقطّع الورق إلا أنه أعرض [منه] قليلا. ويخرج في تضاعيف الورق ساق قصيرة في أعلاها رؤوس مستديرة عليها زهر أبيض «8» يشاكل في هيئتها وقدرها رؤوس العصفر البرّي والزّهر، ولها شوك قليل ليّن.

أنتلة سوداء

قال الشريف: هو بارد يابس، إذا شرب من ماء طبيخه كانت له قوة تجلو وتنقّي أوساخ البدن، وإن شرب منه ثلاثة أيام متوالية، في كل يوم نصف رطل نفع من اليرقان، مجرّب، وإذا عجن بماء طبيخه دقيق الشعير وضمّدت به الأورام الحارة نفع منها «1» منفعة بليغة. أنتلة سوداء «2» هي الجذوار الأندلسي، من الأسماء العجمية بالأندلس. وهو نبات له ورق شبيه بورق النبات الذي يعرفه عامة أهل المغرب [ي] خير من ألف، وهو كزبرة الثعلب. منابته الجبال، وله أصول كثيرة ومخرجها من أصل واحد، كالتي للخثنى» إلّا أنها أصغر بكثير. وسماه إسحاق بن عمران بلّوط الأرض. ولونه

إلى السواد، وطعمه يشبه طعم نوى الخوخ مرارة مع عفوصة يسيرة. قال ابن الكتاني «1» : أخبرني من أثق به أن في ثغر سرقسطة حشيشان يخيّل لمن رآهما أن منبتهما واحد من أصل واحد لشدة تقاربهما، لا تكاد تنبت إلّا مزدوجة، إحداهما تسمى الطرّارة، وهي من السموم (50) القاتلة، والأخرى تسمى الأنتلة، وهي درياق عجيب يقوم مقام الترياق الفاروق «2» ، ولا سيما في أوجاع البطن وأوجاع الأرحام، وقد جرّبناها في ذلك. قال: فربما رعت الأغنام الحشيشة السّمية لأنها حلوة والأخرى مرّة، فإذا أحسّت بسمها أسرعت إلى الحشيشة الثانية وهي الأنتله فرعت منها فتخلصت من ذلك. ومن أصناف الأنتله نبات تسميه عامة الأندلس بالفيهق وهو تمنش، ورقه يشبه ورق السّنا «3» ، ولونه أصفر وفي رائحته عطرية مع حدّة يسيرة، والمستعمل منه المورق خاصة. وهو حار يابس، يحلّل النفخ، ويطرد الرياح، ويسكّن أوجاع الجوف الباردة، وينفع من لسع الهوام كلها.

أوقيموبداس

قال أندراسيون «1» : هو النبات المسمى باللّطينية، وهي [ب] عجمية الأندلس، يريطور وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى. أوقيموبداس «2» ومعناه الشبيه بالباذروج «3» ، وهذا النبات معروف عند الشجّارين بأفريقية باللّسعة، [و] كثيرا ما ينبت عندهم بجبل ماكوض. قال ابن البيطار «4» : ومن هناك جمعته أيام كنت بها. قال ديسقوريدوس في الرابعة: ومن الناس من يسميه أخيون وقد يسمونه أيضا فيلاطاريون «5» . وهو نبات له ورق شبيه بورق الباذروج وأغصان طولها نحو من شبر عليها زغب، وغلف شبيهة بغلف البنج، مملوءة بزرا أسود «6» يشبه الشونيز «7» . قال: وبزر هذا

سقولوفندريون

النبات إذا شرب بالشراب أبرأ من نهش الأفاعي ونهش سائر ذوات السموم، وقد يسقى منه بالمر والفلفل «1» من به عرق النسا، وله أصل دقيق لا ينتفع به أصلا. سقولوفندريون «2» يعرفه شجّارو الأندلس بالعقربان، وباعة العطر بالديار المصرية بكف النّسر. قال ديقوريدوس في الثالثة: له ورق شبيه بالدّود الذي يقال له أسقولوفندريا، كثيرا منبتة من أصل واحد، وينبت من صخور مبنية بحصا ظليلة «3» . ولا ساق له ولا زهر ولا ثمرة، وورقه مشرف مثل البسبايج «4» ، والناحية السفلى عليها زغبة والناحية العليا خضراء. قال جالينوس في السادسة «5» : هذه (51) الحشيشة لطيفة ولكنها ليست حارة، ولذلك صارت تفتت الحصى التي تكون في الكلى، وتحلّل صلابة الطّحال. وقال ديسقوريدوس «6» : وإذا طبخ بخل وشرب أربعين يوما حلّل ورم الطّحال. وينبغي أيضا أن يضمد به الطحال وقد سحق وخلط بشراب، وهو نافع

سليخة

في تقطير البول والفواق واليرقان، ويفتّت الحصا الذي يكون في المثانة. وقد يظن قوم أنه يمنع من الحبل إذا علق وحده أو مع طحال بغل. ويزعم من يظن هذا الظن أن من يستعمله لمنع الحبل أن يعلقه في يوم لم يكن في ليلته الماضية قمر والله أعلم. سليخة «1» قال ديسقوريدوس في الأولى: مساو «2» هي السليخة أصناف كثيرة تكون في بلاد المغرب، ولها ساق غليظة القشر، وورق يشبه ورق السّوسن المسمى أيرسا «3» ، وأجودها الياقوتي الحسن اللون الشبيه بلون البسذ «4» ، دقيق الشّعب، أملس طويل، غليظ الأنابيب، ممتلئ، يلذع اللسان ويقبضه، عطر الرائحة، يشبه رائحة الخمر. ويسميه أهل الأندلس أآخوا «5» ، ويسميه تجّار الإسكندرية

داقيطس «1» ، ويفوقه صنف آخر أسود، وفيه فرفيرية، يقال له خربز «2» ، ويشبه رائحة الورد، نافع جدا. والصنف الثالث بعد هذين يقال له نقطس «3» . والأصناف الباقية رذلة، وهي سود كريهة الرائحة، دقيقة القشر. ويدل من طعمه أنه ليس بحريف ولا عطر، وقشره لاحق بشحمه، وقد يكون من الرّذل ما لونه أبيض أحرف، ويشبه رائحة الكرّاث، وما كان دقيق الأنبوبة. قال جالينوس في الرابعة «4» : هذا دواء يجفّف ويسخّن في الدرجة الثالثة، وهو مع هذا كثير اللطافة، وفي طعمه حرافة كثيرة وقبض يسير، فهو لهذه الخصال كلها يقطع ويحلّل ما في البدن من الفضول وفيه مع هذا تقوية للأعضاء، وهو نافع من احتباس الطّمث إذا كان لا يدر ويستفرغ بالمقدار الكافي بسبب كثرة الأخلاط الزائدة وغلظها. وقال ديسقوريدوس: السّليخة مسخّنة ميبّسة مدرّة

عاقر قرحا

للبول، قابضة قبضا رقيقا، وهي صالحة إذا خلطت بالعسل ولطخ بها الرطوبة اللّينة [التي تكون في الوجه] «1» قلعتها، وتدر الطّمث، وتنفع من نهش الأفعى إذا شربت، ومن الأورام الحارة كلها العارضة في الجوف إذا شربت، ومن أوجاع الكلى، وتنفع من اتّساع الرّحم إذا جلس النساء في مائها وتدخنّ بها، فإن لم يوجد سليخة جعل بدلها من الأدوية من الدارصيني ضعف ما يجعل منها. وهي كثيرة المنافع جدا. وقال ابن سينا «2» : تحلل الرياح الغليظة، وفيها قبض قليل مع حرافة أكثر، ولطافته يسيرة، وهو يقطع الحرافة، وبقبضه يعين القابضة، وبتحليله يعين المسهلة «3» . وبما فيه من التحليل والقبض واللّطافة يقوّي الأعضاء. وقال مهراريس «4» : يطرح (53) الولد بقوة قوية. وقال في التجربتين «5» : يسخّن الأعضاء الباطنة ويفتح سددها، ويسقط الأجنة الأحياء والموتى والمشيمة، وينفع من أوجاع الصدر والجنبين «6» المتولّد عن أخلاط لزجة، أو عن نفاخ غليظة، ويسهّل النّفث. وإذا دهن به الرّحم نقته من الرطوبات الفاسدة العفنة، وحسنّت رائحته. ويجب أن يضاف إليها في أدوية الصدر عرق السّوس، وإذا وضعت على مقدّم الدماغ منثورة بعد السّحق أو ضمادا نفعت من النزلات. عاقر قرحا «7» قال ديسقوريدوس في الثالثة: قوريون هو نبات له ساق وورق كالدّوقو «8»

[الذي ليس ببستاني أو النبات الذي يقال له] «1» ماراين «2» ، وإكليل يشبه إكليل الشّبت، وزهر كالشعر، وعرق في غلظ إصبع الإبهام. قال ابن البيطار: العاقر قرحا نبات مشهور ويسمى بالبربرية بيغدست، وهو خلاف ما ذكره ديسقوريدوس هنا وفسّرته التراجمة بالعاقر قرحا، نبات لا يعرف اليوم بغير بلاد المغرب خاصة، ومنها يحمل إلى سائر البلاد، وأول ما وقفت عليه، وشاهدت نباته بأعمال إفريقية بظاهر مدينة قسنطينة «3» بالجانب القبلي منها، بموضع يعرف بضيعة لواتة «4» ، ومن هناك جمعته، وعرّفني به بعض العربان. وهو نبات يشبه في شكله وقضبانه وزهره وورقه البابونج «5» الأبيض الزّهر المعروف بمصر بالكركاش، إلا أن قضبان العاقر قرحا عليها زغب أبيض، وهي ممتدة على وجه الأرض، وهي كثيرة، مخرجها من أصل واحد على قضيب منه رأس مدوّر كشكل رأس البابونج المذكور، أصفر الوسط وله أسنان دائرة بالوسط منها، باطنها مما يلي الأرض أحمر، وظاهرها إلى فوق أبيض، وله أصل في طول فتر، في غلظ إصبع حار حرّيف محرق، فهذه صفة العاقر قرحا على الحقيقة. فأما الدواء الذي ذكره ديسقوريدوس، وسماه قوريون «6» ، وفسّرته التراجمة بالعاقر قرحا فهو دواء اليوم أيضا، معروف عند أهل صناعتنا بدمشق بعود القرح الجبلي، ويعرفون الباغندست بعود القرح المغربي. وهذا الدواء

المعروف بعود القرح الجبلي معروف كثيرا بأرض الشام، يشبه نباته ما عظم من نبات الرازيانج، وله ثمر. وقد رأيته وجمعته بظاهر دمشق في رأس وادي بردا «1» بموضع [يعرف] ببابل «2» السوق على يسرى الطريق وأنت طالب الزبداني، على الصورة الذي وصفه به ديسقوريدوس فاعلم ذلك فإني قد عرفته وتحققت أمره والحمد لله على ذلك. وقال جالينوس في الثامنة: أكثر ما يستعمل من هذا أصله، خاصته وقوته محرقة، ولذلك صار يسكّن وجع الأسنان من البرد، وينفع من النافض (54) والاقشعرار الكائن بأذوار إذا دلك به البدن كله قبل نوبة الحمى مع زيت. وينفع من به خدر في أعضائه، ومن به استرخاء قد أزمنه. وقال ديسقوريدوس: يحذو «3» اللسان إذا ذيق حذوا شديدا، ويجلب بلغما، فلذلك إذا طبخ بالخل وتمضمض به نفع من وجع الأسنان. وإذا سحق وخلط بزيت وتمسّح به أدرّ العرق، ونفع من الكزاز «4» إذا كان يعرض للإنسان كثيرا.

ويوافق الأعضاء التي قد غلب عليها البرد، والتي قد فسد حسّها وحركتها ونفعها نفعا بيّنا. وقال ابن سينا «1» : هو شديد التفتيح لسدد المصفاة والخشم، وإذا طبخ بالخل وأمسك في الفم شدّ الأسنان المتحركة. وقال في التجربتين: إذا دقّ وذرّ على مقدّم الدماغ سخّنه، ونفع من توالي النزلات والمفلوجين والمصروعين الذين صرعهم من خلط غليظ في الدماغ. وإذا مضغ مع المصطكي «2» جلب بلغما كثيرا لزجا. وإذا أخذ منه معجونا بعسل لعقا ذوّب بلغم المعدة، ويزيد في الجماع، وفي أمزجة المبردين والمرطوبين جدا. وإذا سحق وخلط بدقيق الفول وملئت به خريطة وحصل فيهما الذّكر مع الأنثيين «3» ويتركان كذلك يوما كاملا أعان على الجماع للمبرودين، ولا سيما لمن يجد في أنثييه بردا ظاهرا. وقال إسحاق بن عمران «4» : إذا طبخ بالخل وتمضمض به نفع من سقوط اللهاة واسترخاء اللّسان العارض من البلغم. قال الشريف «5» : إذا خلط بكثيراء ولطخ على (55) الكلف جلاه. وقال أبو الصّلت «6» : إذا شرب منه وزن درهمين أسهل البلغم. قال

فروقوديلاون

الشريف: دهنه ينفع من اللّقوة والاسترخاء والفالج وإذا دهن به القضيب قبل الجماع بعث على الشهوة وأعان على سرعة الإنزال، وصفة دهنه يدق من أصله قدر أوقية ويطبخ في رطل ماء حتى يرجع إلى أوقيتين ويلقى عليه مثلهما زيتا، ويطبخ الجميع حتى ينضب الماء ويبقى الزيت، ثم يصفّى ويرفع لوقت الحاجة إليه. وقال الغافقي: إذا دق وعجن بالعسل نفع من الصرع ونيئه يفعل ذلك أيضا. فروقوديلاون هو الشوك المعروف بالتّميق والمتميّط أيضا ببلاد الأندلس، ويعرف أيضا برعي الحمير. قال ديسقوريدوس في الثالثة: هو نبات يشبه الخامالاون الأسود وينبت في جبال ذوات شجر ملتفّ، وله أصل طويل خفيف إلى العرض ورائحته كرائحة الحرف. وأصله إذا طبخ بالماء وشرب أحدث رعافا شديدا، وقد ينفع المطحولين نفعا شافيا بيّنا. قال جالينوس في السابعة: هو نبات حرّيف عطري ويحدر الطمث وقوته حادة تحلل وتخفف والعصارة المتخذة من قضيبه وبزره كذلك نافع لمن به علّة في كليتيه، وأما أصله فينفع في نفث الصدر والبلغم

فشغ

منفعة قوية، وذلك لأنه أقلّ حدّة وحرافة من بزره، وليس هو بدونه من المرارة، وهو يرعف وينفع من القولنج. فشغ «1» هي الريّولة «2» بعجمية الأندلس، وثمرها الأحمر المعروف عند عامة المغرب بحب النّعام. قال ديسقوريدوس في الرابعة: فليقص «3» طراخيا، ومعناه الحشيشة «4» ، نبات له ورق كورق [النبات الذي يسمى] ناره لوماين «5» ، وقضبان كثيرة دقيقة مشوّكة مثل شوك العلّيق «6» ، ويلتف على ما قرب منه ويبسط في العلو أو في الأسفل، وله حمل كالعناقيد إذا نضج كان لونه أحمر ويلذع اللسان لذعا يسيرا، وأصل غليظ صلب. وينبت في آجام ومواضع حسنة. قال جالينوس في السابعة: وورقه يجد من يذوقه حدّة وحرافة، ومن استعمله أسخنه.

وقال ديسقوريدوس: ورقه وثمره ينفعان من الأدوية القتّالة إذا تقدم شربه عليها، ويأمن بعد أن يشربه منها، وإن فرك وبلعه الطفل لم يضره دواء قاتل، ويستعمل في بازهرات «1» السموم. وأما فليقص ليا «2» ومعناه الأملس، فشبيه بنبات قسوس «3» لكنه ألين منه، وله قضبان مثل مليقص «4» الخشنة إلّا أنها ليست مشوّكة [وهي] ملس، ويلتف بما قرب منها «5» ، وله ثمر كالترمس «6» أسود صغير، وزهره كبير أبيض مستدير في الشجرة كلها. وقد يعمل من هذا النبات أكواخ في الصيف ويطرح في الخريف ورقه. وقيل إنه إن أخذ من ثمره وثمر دروقيون «7» من كل واحد ثلاث أولوسات «8» وخلطا «9» وشربا فإنه يعرض منهما أحلام كثيرة مشوشة.

قرثمن

قرثمن «1» يعرف بمالقة «2» من بلاد الأندلس بقرن الأيل «3» . قال ديسقوريدوس في الثانية: هو نبات حسن، طوله نحو ذراع، ينبت بين الصخور في سواحل البحر، وورقه حسن الاجتماع غير متفرّق، وفيه لزوجة، ولونه إلى البياض، وورقه كورق البقلة الحمقاء «4» إلّا أنه أكبر منه وأطول وأعرض، وطعمه إلى الملوحة، وزهره أبيض، وحمل يشبه نورلينا قوطس «5» ، رخو طيّب الرائحة، مستدير. إذا جف يقلع ويظهر من جوفه بزر يشبه الحنطة أحمر وأبيض، وله في أصله ثلاثة عروق أو أربعة غليظة كالإصبع، طيب الرائحة طيب الطعم. وقال في الفلاحة «6» : ومنه [صنف] ثان أكثر ارتفاعا من الأول، وأغصانه أكثر من أغصانه وورقه كورق الباذروج، وهو أصغر بكثير، وكلاهما مجتمع الورق (56) كثير الأغصان، وأغصانها تتشظّى كالقصب إذا جفّت، وثمره كالأول إلّا أنه مستطيل، وزهرهما واحد.

كبيكج

وقال جالينوس: هذا مالح الطعم وفيه مرارة، ولذلك صارت قوته تجلو وتجفّف، إلّا أنه فيهما ضعيف. وقال ديسقوريدوس: وإذا طبخ الثمر والورق والأصل بشراب وشرب، نفع من عسر البول واليرقان، ويدر الطّمث. ويؤكل مطبوخا وغير مطبوخ، وقد يعمل بالماء والملح، والله أعلم. كبيكج «1» هو كف السّبع عند شجّاري الأندلس، وتعرفه أهل مصر بالتازه غللت «2» وهو اسم بربري. قال ديسقوريدوس في الثانية: بطراخيون «3» ، ومن الناس من يسميه سالس أغريلي «4» ، وهو أصناف كثيرة، وقوته حارة مقرّحة جدا. ومنه صنف يشبه ورقه ورق الكزبرة إلّا أنه أعرض منه، ولونه إلى البياض، وفيه رطوبة لزجة وزهر أصفر، وربما كان لونه إلى الفرفيرية. وله ساق ليس بغليظ، طوله نحو ذراع، وأصل صغير أبيض مرّ الطعم، ويتشعب منه كشعب الخربق، وينبت

بالقرب من المياه الجارية. ومنه صنف حرّيف جدا. وصنف ثالث صغير جدا رديء الرائحة، وزهره شبيه بلون الذهب. وصنف رابع يشبه الثالث إلّا أن لون زهره كاللبن. قال جالينوس في السادسة: أنواع هذا النبات أربعة، وكلها قوية جاذبة حرّيفة شديدة، حتى إذا وضعت من خارج أحدثت قروحا مع وجع. وأما إن استعملها الإنسان بقدر فإنها تقلع الجرب في العلّة التي يتقشّر معها الجلد والأظفار التي يظهر فيها البياض، ويحلّل الآثار، وينثر الثآليل المتعلقة والمركوزة التي يحدث فيها إذا لقيها برد الهواء وجع شبيه بقرص النّمل. وينفع من داء الثعلب إذا وضعت عليه مدة يسيرة، وذلك أنها إن أبطأت وطال مكثها، كشطت الجلد، وأحدثت في الموضع قرحة، وهذه الأفعال كلها أفعال ورق هذه الأنواع وقضبانها «1» ، «2» ما دامت طرية، فإن هي وضعت من خارج كالضّماد قرحت، وأما أصلها إن هو

لوسيماخيوس

جفّف صار دواء نافعا لتحريك العطاس كمثل جميع الأدوية التي تسخن إسخانا قويا، وتجفف وتنفع أيضا من وجع الأسنان، مع أنها تفتتها لأنه يجفف تجفيفا قويا. وبالجملة أنواع الكبيكج كلها، مع أصولها وقضبانها وورقها، يسخن ويجفف أسخانا وتجفيفا. وقال ديسقوريدوس: وإذا تضمد بأغصانه وورقه طرية أقرحت بألم ولذلك يقلع تقشير الأظفار والجرب والنّمش والثآليل المسماة افروحودس. وإذا تضمد به وقتا يسيرا لداء الثعلب قلعه، وإذا طبخه وصب طبيخه فاترا على الشقاق العارض من البرد نفع منه. وأصله إذا جفّف ودق ناعما وقرب من المنخرين حرّك العطاس. وإذا علّق في الرّقبة خفّف من وجع الأسنان ولكنه يفتتها. لوسيماخيوس «1» يعرفه بعض شجّاري الأندلس بالقصب الذهبي، وبالخويخة تصغير خوخة، وخوخ الماء أيضا، وبعود الريح أيضا. قال ديسقوريدوس في الرابعة: «2» هو

مورفا

نبات له قضبان نحو من ذراع وأكثر، رقاق شبيهة بقضبان التمنش من النبات، معقّدة، وعند كل عقدة ورق ثابت شبيه بورق الخلاف «1» ، قابض في المذاق، وزهر أحمر شبيه بالذهب في لونه. وينبت في الآجام وعند المياه. وقال جالينوس في السابعة: الأغلب على طعم هذا الدواء الطعم القابض، ولهذا يدمل الجراحات، ويقطع الرعاف إذا ظهر به، وهو مع هذا يقطع كل دم من حيث كان [من] نفس جرمه وعصارته، إلا أن عصارته أبلغ فعلا منه، ولذلك صار متى شرب ومتى احتقن به (63) شفى قروح الأمعاء. وهو أيضا ينفع لمن ينفث الدم. وقال ديسقوريدوس: وعصارة ورق هذا النبات توافق بقبضها نفث الدم من الصدر وقرحة الأمعاء، مشروبة كانت أو محتقنا بها. وإذا احتملته المرأة قطع سيلان الرطوبات المزمنة دما كان أو غيره من الرحم. وإذا سدّ المنخران بهذا النبات قطع الرّعاف، وإذا وضع على الجراحات ألحمها وقطع عنها نزف الدم، وإذا دخن به خرج له دخان حاد جدا، حتى إنه يبلغ من حدّته أن يطرد الهوام ويقتل الفأر. مورفا «2» قال الغافقي: هو نبات ينبت كثيرا ببلاد البربر وببلاد السودان، وقد ينبت أيضا بغرب الأندلس بجهة شبانيا، وهي إشبيلية، وأهل هذه البلاد هم الذين يسمونه المورفا، والبربر يسمونه أيضا أيسمامن، ومن الناس من يسميه سنبلا بريا، وقوم يظنون أنه المرو «3» وذلك غلط منهم. وهو نبات صغير له ورق ثلاث

يربطون

أو أربع، يخرج من أصل واحد، صغار طوال متشقّقة، تشبه ورق المرو في تشققها، وفيه ملاسة، وله سويقة مدوّرة في غلظ الميل، يعلو نحو شبر، عليها جمّة صغيرة مثل جمّة الثوم، فيها نوى أبيض مائل إلى الحمرة قليلا، ولها أصل في غلظ الخنصر، أبيض لزج طيّب الرائحة جدا، فيها حرافة يسيرة، ويتحول إلى طعم الزّنجبيل، إلّا أنه أقل حرارة، ويستعمل في لخالخ الطّيب «1» ، ويشفي الأوجاع وأرياح البلغم، ويحل [القولنج الرّيحي ويزيد في الباه] «2» يربطون «3» اسم لطني «4» ، وهو بعجمية الأندلس واليونانية بوقادابق. قال ديسقوريدوس في الثالثة: هو نبات له ساق رقيق شبيه بساق الرازيانج، وله جمّة وافرة متكاتفة على الأصل، وزهر لونه أصفر وأصل أسود، ثقيل الرائحة، عليه رطوبة، وينبت في جبال مظللة بالشجر. وقد يشرط الأصل بسكّين وهو طري وتستخرج الرطوبة التي فيه وتوضع في ظل، لأن قوتها تضعف في الشمس، وفي وقت ما تخرج الرطوبة يعرض لمن يتولى ذلك صداع (64) وظلمة في البصر، إلّا أن تتقدم فليطخ «5» منخريه بدهن ورد، ويضع على رأسه أيضا منه. وإذا استخرجت من الأصل لم ينتفع به حينئذ، وقد يستخرج أيضا رطوبة عصارة الأصل كما يستخرج رطوبة أصل السروح «6» إلا أن فعل العصارة أضعف من

فعل الرطوبة التي تستخرج بالشّرط، وفعلها في الإنسان إذا استعملها أكثر تحليلا وأسرعه، وربما أصيب صمغه لاصقة بالأرض «1» . والأغصان شبيهة بالكندر. وأجود ما يكون من دمعة هذا النبات ما كانت ثقيلة الرائحة، في لونها حمرة، تلذع اللّسان في الذوق. وقال جالينوس في الثامنة: أكثر ما يستعمل من هذا النبات أصله خاصّة، وقد يستعمل لبنه وعصارته، وجميع هذه نوع واحد بعينه، إلّا أن لبنه أكثر قوة من الجميع وذلك أن يسخّن إسخانا شديدا ويحلّل، من أجل ذلك صار الناس ينتفعون منه، بأنه ينفع من علل العصب. وهو نافع أيضا من العلل الحادثة في الصدر والرئة من قبل أخلاط لزجة إذا ورد إلى داخل البدن بالشراب، وإذا بخّر به العليل واستنشق رائحته التي ترتفع بالنار، وذلك أنه يقطع ويلطّف. وإذا وضع أيضا في الموضع المأكول من الأسنان سكّن وجعها مرارا كثيرا من ساعته لتلطيفه وإسخانه. وهو أيضا يشفي الطحال الصلب لأنه يقطع الأخلاط الغليظة ويحللها ويلطّفها. وأما أصلها فقد يمكن فيه أن يستعمل في هذه الوجوه كلها وإذا وضع على عظم يريد أن يسقط قشرته براها منه وأسقطها سريعا، وذلك لأنه يجفّف تجفيفا قويا شديدا، إلا أن هذا الأصل أقل إسخانا من لبنه، وهو نافع أيضا للقروح الخبيثة الرديئة إذا جفّف وسحق ونثر عليها، وذلك أنه ينقّيها ويملأها ويدملها. وقال ديسقوريدوس: دمعته إذا طلي به الرأس بالخل ودهن الورد وافقت المرض الذي يقال له (65) لترغس «2» ، والمرض الذي يقال له فرانيطس «3»

والسّدد والصرع والصداع المزمن والفالج العارض ببطلان حس بعض الأعضاء وحركتها، وعرق النّساء، ومن كان به اصمصوص «1» . وبالجملة إذا تمسّح بها بالخل والزيت وافقت الأعصاب، وقد تستنشق رائحتها للوجع من وجع الأرحام والسبات «2» . وإذا تدخّن بها طردت الهوام، وإذا خلطت بدهن ورد وقطّرت في الأذن وافقت وجعها، وإذا وضعت في التآكل العارض في الضرس نفعته، وإذا استعملت بالبيض كانت نافعة للسّعال، وتوافق عسر البول والمغص والنّفخ، وتليّن الطبيعة تليينا رقيقا، وتليّن أورام الطحال، وتنفع منفعة عظيمة في عسر الولادة. وإذا شربت نفعت من وجع المثانة والكلى والتمدد العارض فيها، وقد تفتح فم الرّحم، وقد ينتفع بالأصل في كلما ينتفع فيه بالرطوبة، وإذا شرب طبيخه إلّا أنه أضعف فعلا من الرطوبة، وإذا دقّ بالأصل وهو يابس وسحق سحقا ناعما وعولجت به القروح نقّى وسخها، ونقّى قشور العظام منها، وأدمل القروح العتيقة. وقد يخلط في المراهم والقيروطات «3» المسخّنة. وينبغي أن تختار منه ما كان حديثا وليس بمتآكل، صلب، ساطع الرائحة، وقد تحلّل رطوبته بلوز مرّ وسذّاب أو خبز حار، ويستعمل فيما يشرب. وقال في التجربتين: أصله يذهب كل رائحة منتنة من أي موضع كانت، وكذلك ينفع من الوباء الحادث من الملاحم، وينفع من ضروب الوباء كلها بقطعه الروائح الصاعدة من أجساد الموتى، ويسهل الطلق مبخرا به الأنف. وفي رائحته إكراب النفوس في أصحاب الأمزجة الضعيفة الحرارة، فيجنب تبخرهم، أو يقترن به ما يدفع ذلك. وإذا أحرق وخلط بالزّفت والسّمن وطليت به قروح الرأس اليابسة والرّطبة جفّفها، وإذا قطّرت دمعته المستخرجة بالنار في الأذن فتحت

بربه شانه

سددها، ونفعت من ثقل السّمع. وإذا أحرق (66) وعجن بخل نفع من السّعفة. وإذا استنشق دخّانه نفع من النّزلات منفعة بالغة، وفتح سدد الخياشيم، وجفّف رطوبة الدماغ، ونفع من جميع أنواع الوباء منفعة بالغة بإصلاحه الهواء. وإذا سحق أصله وذرّ، أو حشي به الجراحات العسرة الاندمال من سوء مزاج رطب أدملها. بربه شانه «1» ومعناه بعجمية الأندلس العشبة الصحيحة، وهو له نبات له ورق في طول ذراع أو أكثر، وعرضه دون الشّبر، وهو مشقّق، مشرّف «2» جعد، أملس، أخضر إلى السواد بريق. وهو كثير نابت من الأصل، وأطرافه منحنية مائلة إلى الأرض وله ساق خارجة من بين الورق في غلظ الإبهام، طويلة مدوّرة جوفاء، عليها ورق صغار من نصفها إلى أعلاها، فيها تشويك، وفيما بينها غلف كثيرة بعضها فوق بعض في شكل مناقير البط، عليها زهر فرفيري مائل إلى البياض، وداخله ثمر كالبلّوط مملوء رطوبة لزجة، وله أصل طويل معقد رخو يشبه أصل الخطمي، مملوء رطوبة لزجة، غائر في الأرض، فيه شيء من حلاوة مع حرارة قوية كقوة الهمن «3» الأبيض، يزيد في الباه، ويبرد الرحم إذا نتأ «4» ، ويبرئ من فسخ العضل، ويخصب البدن، ويدر البول، وينفع من وجع الخاصرة والمثانة. وبعض الناس يسمّي هذا النبات عشبة النّجار، ونباته في المواضع الرطبة من الجبال والخنادق، وقد يتخذه بعض الناس في البساتين والمنازل. وقد يبيع الشجّارون بالأندلس أصل هذا النبات على أنه الهمن الأبيض لقربه منه، ويظنون

أن قوته كقوته. وأما المصري فمنه أفيون، وهو لبن الخشخاش الأسود «1» . قال التميمي: لم يعرف على حقيقته في البلدان الشرقية ولا الغربية أيضا إلّا بديار مصر، وخاصة بالصعيد، فإنه به يستخرج، ومنه يحمل إلى سائر البلدان. قال ديسقوريدوس: وصمغة هذا الخشخاش (67) وعصارته تبرّد أشد من تبريد البزر وتغلظ وتجفف، فإذا أخذ منه شيء مقدار الكرسنة سكّن الأوجاع وأرفر «2» وأنضج، ونفع من السّعال المزمن. وإذا أخذ منه شيء كثير أنام نوما شديد الاستغراق جدا مثل ما يعرض للذين بهم المرض الذي يقال له لتبرعن «3» ثم يقتل. وإذا خلط بدهن اللوز والزعفران والمر وقطّر في الأذن كان صالحا لأوجاعها. وإذا خلط بلبن امرأة وزعفران كان صالحا للنقرس. وإذا خلط بدهن ورد ودهن به الرأس كان صالحا للصداع. وإذا خلط بصفرة بيض مشوي وزعفران كان صالحا للنقرس. وإذا احتمل في المقعدة فتيلة أرقد. وأجود ما يكون من صمغه ما كان كثيفا رزينا وكانت رائحته سبت «4» من الطعم هيّن الذّوب بالماء، أملس أبيض ليس بخشن ولا محبّب، ولا يجمد إذا أذيف بالمامرّ «5» . وإذا وضع في الشمس ذاب، وإذا قرّب من السراج أوقد، ولم يكن لهب النار فيه لهيب مظلم، وإذا أطفئ كانت رائحته قوية. وقد يغش بأن يخلط فيه ساق ماميثا «6» أو عصارة ورق الخس البري، أو

بصمغ. والذي يغش بساق ماميثا إذا أذيف بالماء كان في رائحته شيء شبيه برائحة الزّعفران. والذي يغش بعصارة الخس البري إذا أذيف بالماء كانت رائحته ضعيفة، وكان حسنا في اللمس. والذي يغش بالصمغ ضعيف القوة صافي اللون. ومن الناس من يبلغ به الخبث أن يغشه بالشحم. وقد يغلى على حرقه إلى أن يلين، ويميل لونه إلى الحمرة الياقوتية، ويستعمل في الأكحال. ودياغورس «1» يحكي أن سيسراطيس «2» ما كان يستعمله في علاج الرّمد ولا في وجع الأذن لأنه كان عنده أن يضعف البصر ويسبت. واندراآس «3» يزعم أنه لولا يغش لكان يعمى الذين يكتحلون به. ومستديمس «4» يزعم أن ينتفع برائحته لينوّم فقط، وأما (68) سائر الأشياء فإنه ضار. ولقد- لعمري- غلطوا، ما نعرفه بالتجارب يدل على حقيقة ما أخبرنا من فعله، والأفيون هكذا يستخرج. ومن الناس من يأخذ رؤوس الخشخاش وورقه ويدقّها ويستخرج عصارتها بلولب وجباب «5» ، وتصير العصارة في صلّاية «6» ويسحقها، ثم يعمل منها أقراصا، ويسمى هذا الصنف من الأفيون ميوفنوبنون، وهو أضعف قوة من الأفيون. وللأفيون الذي هو صمغه الخشخاش. هكذا يستخرج إذا حضر الوقت الذي يجف فيه الندى الذي على النبات من النهار، فينبغي أن يشق بسكين حول رأس الخشخاشة المشعب شقا رقيقا بقدر ما ينثقب ويشرط جوانب

الخشخاشة شرطا ابتداؤه من هذا الشق مارا على أسفله، ولا يعمق الشرط فينفذ. وتؤخذ الصمغة بالإصبع وتجمع في صدفة، فإذا جمعت فينبغي أن تترك وقتا ما ثم يعاد إليها، ويجمع ما يظهر أيضا في ذلك الثاني ويجمع. وينبغي أن تؤخذ هذه الصمغة وتسحق على صلاية ويعمل منها أقراص وتخزن. وقال ابن سينا: «1» الأفيون فيه تجفيف للقروح، وشربه مما يبطل الفهم والذهن، وإذا شرب وحده من غير جندبادستر «2» أبطل الهضم جدا. وقال ابن زهر «3» في خواصه: الأفيون إن حل بخل وطلي به أنف الحمار دمعت عيناه وأخذه النهيق. وقال الرازي: يقتل منه وزن درهمين فصاعدا، ومن سقيه عرض له الكزاز والسبات، وربما عرضت له خلول شديدة في بدنه، وشم من نكهته رائحة الأفيون. وربما شمّ ذلك من رائحة بدنه كلها إذا حكّه، وربما غارت عيناه «4» وانعقد لسانه وتكمد أطرافه وأظفاره وينصب منه العرق البارد ويتشنج بأخرة عند قرب الموت. وإذا «5» . وأخص العلامات به السّبات واشتمام رائحة الأفيون من بدنه. وقال ديسقوريدوس: وينفعهم من القيء شرب الدهن، والحقن الحارة، وشرب السّكنجبين مع الملح، أو شرب العسل مع دهن ورد يغلى وطلاء صرف

بشنين

كثير من أفسنتين ودار صيني، مع خل مغلي وبورق مع ماء فوتنج مع بزر الفيجن البري وهو السّذاب مع فلفل، وطلاء وحناء وفلفل مع جنديادستر وسكنجبين وصعتر وفوتنج مطبوخ مع طلاء. وينبغي أن يوقظه بأدوية ويدنيها من منخريه، ويحمّه بماء سخن، ويكمد به جسده، لكثرة الحكة التي يجدها. ومن بعد الاستحمام ينبغي أن يستعمل الأمراق الدسمة بالشراب أو الطلاء، ويدره ثلاثة امثا [له] بزر بنج، وضعفه من بزر اللفاح، أو قشر عروقه، أو عصارة. بشنين «1» قال ديسقوريدوس في الرابعة: لوطوس «2» الذي يكون بمصر ينبت في الماء إذا أطبق على أرض مصر. وهو نبات له ساق كساق الباقلّى، وزهر أبيض شبيه بالشّعر. ويقال: إنه ينبسط إذا طلعت الشمس وينقبض إذا غربت، وإن رأسه إذا غربت غاص في الماء، وإذا ظهرت ظهر على الماء، ورأسه يشبه العظيمة «3» من رؤوس الخشخاش. وفي الرأس بزر شبيه بالجاورس، ويجففه أهل مصر ويطبخونه ويعملون منه خبزا. وله أصل شبيه بالسفرجلة. ويؤكل نيّئا ومطبوخا، وطعمه مطبوخا يشبه طعم صفرة البيض. وقال ابن البيطار: البشنين كثير الوجود بالديار المصرية، معروف بها جدا، إذا أطبق عليها ماء النيل كأنه [و] نبات النّيلوفر سواء «4» ، وهو عندهم صنفان،

صام ثوما

منه ما يسمى الخنزيري «1» ، والآخر يسمى الأعرابي، وهو أفضل عندهم وأجود، ويصنع من زهره دهن، كما يتخذ دهن السوسن والنيلوفر. وهو عندهم محمود في البرسام سعوطا به مجرب، وأما أصله فيعرف بالبيارون. وأصل الأعرابي أفضل أيضا، وأصل النوع الآخر «2» وفيهما أدنى عطرية، وفيهما شبه من رائحة السعد، ويطبخ مع اللحم فيأتي في لونه شبه صفرة البيض التي يميل إلى يسير بياض، وفي طعمه وفيه بعض مشابهة بطعم الكمأة إلا أنه يميل إلى الحرارة يسيرا. وقيل إنه يزيد في الباه، ويسخّن المعدة، ويقطع الزّحير. وقال ابن رضوان في مفرداته «3» : (70) يقوي المعدة، وقد اعتبرته فوجدته غذاء ليس بالرديء. صام ثوما «4» اسم سرياني، وهو الطّرنشول «5» بعجمية الأندلس، ويعرف بالديار المصرية بحشيشة العقرب، وبالعنبر أيضا. وهو بها كثير، ينبت في المقابر «6» وينبت كثيرا ببركة الفيل من القاهرة ومصر إذا جف عنهما الماء. وقال ديسقوريدوس في آخر الرابعة: غينتو طرونيون طوماغا «7» ومعناه

المستحيل المتغير المنتقل مع الشمس، ومعنى طوماغا «1» الكبير. ومن الناس من يسميه سقرسوس «2» ومعناه ذنب العقرب، وسموه [بهذا الاسم] لشكل زهره، وهو نبات له ورق يشبه ورق الباذروج إلا أنه أكثر زغبا منه وأميل إلى السواد. وله ثلاثة قضبان، وأربعة نابتة من أصل يتشعب منها شعب كثيرة. وعلى طرف هذا النبات زهر أبيض، مائل إلى الحمرة، منجعي «3» مثل العقرب، وأصل دقيق لا ينتفع به في الطب. وينبت في مواضع خشنة، وإذا أخذ منه مقدار حزمة واحدة وطبخ بالماء وشرب أسهل البطن بلغما ومرة، وإذا شرب بالشراب، أو تضمد به، وافق الملسوعين من العقارب. ومن الناس من يعلق على من لسعته العقرب أصل هذا النبات لتسكين الوجع. وقد يقول بعض الناس: إنه إن أخذ من ثمر هذا النبات أربع حبّات، وشرب بالشراب قبل أخذ حمى الرّبع بساعة، ذهبت. وإنه إن أخذ منه ثلاث حبات ذهبت [مثل الحمى] «4» المثلّثة، وإذا تضمد به جفف الثآليل التي تسمى مرسيا «5» ، والمسمى أفروخوروذن «6» ، واللحم الزائد المسمى ثومن، وما يظهر في الجلد ويسمى أسقطيدس. وورق هذا النبات يضمد به النقرس ولالتواء العصب والأورام العارضة في حجب أدمعة الصبيان والأورام سويا فينتفع به وإذا احتمل مسحوقا أدر الطمث وأحدر الجنين وأما الصغير فهو نبات ينبت عند المياه

قضاب

القائمة وله ورق شبيه بورق النبات الذي قبله غير أنه أشد استدارة منه وثمره مستدير معلق مثل الثآليل المسماة أفروخودوس. ولهذا (71) النبات إذا شرب مع ثمره، ومع النطرون، ومع الزوفا «1» والحرف «2» والماء، يخرج الدود [المسمى] حب القرع والدود المستبطن «3» . وإذا تضمد به مع الملح قلع الثآليل المسماة أفروخوروذن «4» . قضّاب «5» قال في كتاب الرّحلة: والقضاب اسم عربي، وله قاف مضمومة، ثم ضاد معجمة مفتوحة مشدّدة، ثم ألف، ثم باء موحدة، اسم لنوع من عصا الراعي بأرض مصر، وقضبانه طوال، وتحمر إذا جفت، وهو أكثر حطب الأفران بمصر والقاهرة. قال ابن البيطار: القضاب بالديار المصرية ليس هو عصا الراعي كما ذكر بعض الناس، بل هو النبات المذكور في أول المقالة الرابعة من ديسقوريدوس المسمى باليونانية فلطماطس «6» . قال ديسقوريدوس: من الناس من يسميه مرسينه بداس «7» ، ومعناه الشبيه

كتان

بالآس، ومنهم من يسميه بولوغيداس «1» ومعناه الشبيه بعصا الراعي. وهو نبات ينبت على وجه الأرض، وله قضبان طوال رقاق تشبه قضبان الإذخر، وورق صغار كورق الغار، غير أنه أصغر منه بكثير. إذا شرب ورق هذا النبات مع قضبانه بالشراب قطع الإسهال وينفع من قرحة الأمعاء. وإذا خلط باللبن ودهن الحناء واحتملته المرأة أبرأ أوجاع الأرحام، وإذا مضغ سكّن وجع الأسنان، وإذا وضع على شيء من ذوات السموم نفع منها. وقد يقال: إنه إذا شرب بالخل نفع من نهشة الثعبان. وينبت في أرض متعطلة من العمارة. وقال جالينوس في السابعة: وأما الدواء المسمى قلياطس ويسمى الشبيه بالغار، ويسمى الشبيه بالآس، ويسمى الشبيه بالبطباط «2» ، فليس بحاد حرّيف، [و] لا هو محرق، بل هو نافع من استطلاق البطن وقروح الأمعاء إذا شرب بشراب، وإذا مضغ يسكّن وجع الأسنان، وإذا احتمل من أسفل نفع من وجع الأورام. كتّان «3» قال أبو حنيفة «4» (72) : الكتّان مفتوح الكاف مشدّد التاء وهو معروف. وقال بولس «5» : إذا أحرق الكتان نفسه يكون له دخان لطيف يفتح سدد

الزّكام، ويصلح الرحم الذي يتقلّص ويصير «1» إلى فوق. وقال ماسرجويه «2» : والثياب تختلف قواها بقدر الأصل التي تصنع منه، وثياب الكتان معتدلة في الحر والبرد والرطوبة واليبس، وهي أجدى أن تستعمل في الدواء وخاصة للقروح فإنها تجففها وتنشف البلة والعرق من الجسد. وقال عيسى بن ماسه «3» والرازي: الكتان أبرد الملابس على البدن وأقلها لزوقا به وتعلقا، ولذلك هو أقلها احتمالا «4» ، ومن أراد ضمار بدنه فليشعره في الشتاء الجديد الناعم، وفي الصيف الغسيل الناعم، وإن أراد استبقاه، فبالعكس، لأنه ليس يلصق بدنه جدا فيحميه، وهو أفضل لملابسة «5» الأبدان من ثياب القطن. وأما بزره فقال جالينوس في السابعة: بزر الكتان إن أكل وحده ولّد نفخة، ولو كان مقلوا، وإذا كان ذلك فهو يمتلئ من الرطوبة الزائدة الداخلة في جنس الفضول بحسب ذلك، وهو مع هذا حار في الدرجة الأولى، وسط فيما بين الرطوبة واليبس. وقال في كتاب أغذيته: بزر الكتّان رديء للمعدة عسر الانهضام، والذي يناله البدن منه من الغذاء مقدار يسير، وليس لنا بذلك أن نمدحه ولا أن نذمه في إطلاق البطن، ويخالطه أيضا شيء يسير من القوة المدرّة للبول، وإذا أكله

إنسان بعد أن يقلى كان حابسا للبطن. وأهل القرى المصرية كثيرا [ما] يستعملونه بعد أن يقلوه ويطبخوه «1» بالعسل. وقال ديسقوريدوس في الثانية: بزر الكتان قوته شبيه بقوة الحلبة، وإذا خلط نيئا بالعسل والزيت والماء حلّل الأورام الحارة وليّنها، ظاهرة كانت أو باطنة. وإذا تضمد به مع النطرون قلع الكلف والبثر اللبني. وإذا خلط بالماء حلّل الأورام العارضة في أصول الأذن والأورام الصلبة. وإذا طبخ مع الشراب (73) قلع النملة والصنف من القروح السهرة «2» ، وإذا خلط به جزء مساو له من الحرف ومع العسل نفع من تشقق الأظفار وتقشرها، وإذا خلط بالعسل والفلفل واستعمل بدل الناطف وأكثر منه حرك شهوة الجماع. وقد يحقن بطبيخه للذع المعى «3» والرحم ولإخراج الفضول. وإذا جلس النساء في طبيخه نفع من الأورام العارضة في الأرحام، كما ينفع طبيخ الحلبة «4» . وقال أبو جريج «5» : إنه نافع لقروح الكلى والمثانة، وينضج الجراحات، [و] إذا «6» ضمدت به الأظفار المبيضة مع الموم «7» والعسل أصلحهما، وهذا الفعل خاصية. وهو زائد في المني، نافع من وجع الصدر.

كصنثيون

وقال ماسرجويه: طبيخ بزر الكتان يضرب مع الدهن ويحقن به لقروح الأمعاء فيعظم نفعه. وقال الرازي: هو جيد لتسكين الوجع واللذع. وقال الإسرائيلي «1» : إذا خلط بالبورق والرماد وعمل منه ضماد أقلع الثآليل. وقال الشريف: إذا سحق وعجن بماء حار وخضب به الرأس ثلاث ليال نفع من الصداع الحار، وبدله مثله حلبة. وقال الغافقي: بزر الكتان يجلو وينضج وينفع من وجع الرئة إذا شرب منه وزن ثلاثة دراهم، ويسكّن الأوجاع قريبا من تسكين البابونج. وهو رديء للبصر وضماده ينضج الأورام ويحللها، وينفع من القوباء والقروح. كصنثيون «2» هو الباذنجان البري، ورأيته بالديار المصرية بظاهر قليوب في البركة التي قبل الضيعة التي قبل مناقع الكتان من الجانب القبلي. قال ديسقوريدوس في الرابعة: هو نبات في أرضين وغدران قد جفّت، وله ساق طوله نحو ذراع، عليه رطوبة تدبق باليد مزوّاة «3» ، ويتشعب منه شعب كثيرة، وله ورق يشبه السّربج «4» منقسم ورائحة هذا النبات شبيهة برائحة الحرف، وله ثمر مستدير في

قدر زيتونة عظيمة مشوّكة شبيهة (74) بجوز الدلب «1» تتعلق بالثياب إذا ماستها «2» . قال جالينوس في السابعة: بزر هذا النبات قوته محللة. قال ديسقوريدوس: وثمره إذا جني قبل أن يستحكم جفافه ودق ورفع في إناء من خزف، ثم أخذ منه مقدار طروملين «3» ، وأذيب بماء فاتر، وضمّد به الشعر، وقد تقدم ذلك غسله بالنطرون أفاد الشعر شقرة. ومن الناس من يدقه ثم يخلطه بشراب ثم يرفعه، وقد تضمد بالثمر الأورام البلغمية. وقال الشريف: زعم قوم أن ورقه إذا جفّف وسحق واكتحل به لبياض العين نفع بإذن الله. قال ابن البيطار: كحلت به أناسا كثيرة فرأيته يحد البصر ويحدر الدموع. نهاية.

[الكلام على المعادن]

[الكلام على المعادن] «1» فنقول لابد من تقديم مقدمة قبل الكلام على المعادن تكون كالتوطئة لما سنتكلم عنه من بعد. لا شك أن الأجسام المتولدة إما أن تكون نامية أو لا تكون، فإن لم تكن فهي المعدنيات، وإن كانت نامية فإما أن يكون لها قوة الحس والحركة أو لا؛ فإن لم تكن فهي النبات، وإن كانت فهي الحيوان. وزعم كثير من الحكماء أن أول ما يستحيل إليه الأركان الأبخرة والعصارات، والبخار هو ما يصعد من لطائف مياه البحار والآبار والآجام من تسخين الشمس، والعصارات تنجلب في باطن الأرض من مياه الأمطار، وتختلط بالأجزاء الأرضية وتغلظ، وتنضجها الحرارة المستنبطة في عمق الأرض فتصيرها مادة للمعادن والنبات والحيوان، وقد مضى بعض ترتيب ذلك، وهي متصلة بعضها ببعض بترتيب عجيب ونظام بديع لا يعقله إلا العالمون بالله. فتعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا. فأول مراتب الكائنات تراب وآخرها نفس ظاهرة مليكة، فالمعادن أولها متصل بالتراب والماء، وآخرها بالنبات، متصل أوله بالمعادن وآخره بالحيوان، والحيوان متصل أوله بالنبات وآخره (75) بالإنسان [والإنسان] متصل أوله بالحيوان وآخره بالملائكة. بيان ذلك: إن أول المعادن هو الجص، [والجص] مما يلي التراب أو الملح، [والملح] مما يلي الماء. والجص تراب رملي حصل به بلل من الأمطار فانعقد فصار جصا، والملح ما امتزج بأجزاء سبخة من الأرض فانعقد ملحا، وآخر المعادن مما يلي النبات الكمأة وما شاكلها، وهو يتكون في التراب كالمعدن وينبت في مواضع ندية أيام الربيع من الأمطار وأصوات الرعد كما ينبت النبات، ففيها شبه

من المعدنيات لكونها لا ورق لها ولا ثمر، وتشبه النبات لكونها نامية كما ينمو النبات. وأما النبات فأوله متصل بالمعدنيات وآخره بالحيوان، أما أوّله وأدونه مما يلي التراب فخضراء الدمن والكمأة، وآخرها وأشرفها مما يلي الحيوان النخل لأن خضراء الدمن ليس إلا غبار يتلبد من الأرض، تصيبها بلل الأمطار، فتصبح بالغدوات خضراء كأنها حشيش. فإذا أصابها حر الشمس جفّت، ثم تصبح من الغد مثل ذلك من نداوة الليل وطيب النسيم. ولا تنبت الكمأة ولا خضراء الدمن إلا في زمن الربيع، فأحدهما نبات معدني، والثاني معدن نباتي. وأما النخلة فإن أحوالها مباينة لأحوال النبات لأن أشخاص الفحولة منه مباينة لأشخاص الإناث، ولفحولته في إناثه لقاح كما في الحيوان، وإذا قطع رأس النخلة يبست وبطل نموها كالحيوان. وبهذا الاعتبار، وما تقدم في صفة النخلة، وكونها تشبه الآدمي من الوجوه المتعددة المتقدمة، بأن النخلة نبات حيواني. وأما الحيوان فأوله يشبه النبات، لأن أدنى الحيوان ما ليست له إلّا حاسة واحدة من الحواس الخمس، وهي اللمس، [و] هو الحيوان المسمى بالحلزون وهو دودة في جوف أنبوبة حجرية توجد في السواحل، وتلك الدودة تخرج نصف بدنها من جوف تلك الأنبوبة وتنشط يمنة ويسرة تطلب مادة تتغذى بها، فإذا أحست برطوبة أو لين انبسطت، وإن أحست (76) بصلابة انقبضت ودخلت في جوف الأنبوبة حذرا من مؤذ لجسمها، وليس لها سمع ولا بصر ولا ذوق ولا شم إلا اللمس فقط، وهذا حال أكثر الديدان المتولد [ة] من الطين، فهذا حيوان نباتي لأنه ينبت جسمه كما ينبت النبات. وأما مرتبة الحيوان الذي يلي الإنسان فالقرد، لأن شكل جسده قريب من جسد الإنسان، ونفسه تحاكي أفعال النفوس الإنسانية؛ وكذلك الفرس الجواد،

فإن الخيل الأصايل لها ذكاء وحسن أدب وكرم أخلاق، فربما لا تروث ما دام الملك راكبا عليها، ولها إقدام في الهيجاء وصبر على الطعن. وكذلك الفيل فإنه يفهم الخطاب، ويمتثل الأمر والنهي على ما سبق وصفه «1» كالإنسان العاقل. وأما مرتبة الإنسانية التي تلي الحيوان، فإن أدنى مرتبة الإنسان رتبة الذين لا يعلمون من الأمور إلا المحسوسات، ولا يرغبون إلا في زينة الدنيا ولذاتها من الأكل والشرب والنكاح. قال تعالى في تشبيههم بالحيوان (إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا) فهم يرتعون في الدنيا كالخنازير والحمر، ويدخرون ما يحتاجون إليه كالنمل، ويتهارشون على حطام الدنيا كالكلاب على الجيف، فهؤلاء وإن كانت صورهم صور الإنسان فإن أفعال نفوسهم حيوانية. وأما مرتبة الإنسان «2» التي تلي الملائكة، فهي مرتبة الذين انتبهت نفوسهم من الغفلة، وانفتحت منهم أعين البصيرة حتى نظرت بأنوار قلوبها ما غاب عن حواسها، وشاهدت بصفاء جواهرها عالم الأرواح الملائكة، وتبين لها سرورهم ونعيمهم، فرغبت في ذلك، وزهدت في نعيم الدنيا، وأقبلت على تحصيل الآخرة، فهم من أصناف الملائكة مع خلطتهم لأبناء جنسهم من الآدميين، فإذا علمت هذه المقدمة وفهمتها علمت أن ذلك بتقدير حكيم عليم، رتبها ترتيبا حكيما، وأبرزها إبرازا عليما، ذلك تقدير العزيز العليم. أما أقسام المعدنيات (77) فهي كما ذكرنا أجسام متولدة من الأبخرة والأدخنة المحتبسة في الأرض إذا اختلطت على ضروب من الاختلاطات، مختلفة في الكم والكيف؛ وهي إما قوية التركيب أو ضعيفة التركيب. والقوية التركيب إما متطرفة وغير متطرفة؛ والمتطرفة هي الأجساد السبعة التي يقال لها

الفلزات، وهي الذهب والفضة والنحاس والرصاص والحديد والأسرب والخارصيني؛ وغير المنطرقة فقد يكون في غاية اللين كالزئبق، وقد تكون في غاية الصلابة كالياقوت. وهي إما تنحل بالرطوبات، وهي الأجسام الملحية كالزاج والنوشاذر، وإما أن لا تنحل فهي الأجسام الدهنية كالزرنيخ والكبريت. والأجساد السبعة إنما تتولد من اختلاط الزئبق والكبريت على اختلاف اختلاطهما في الكم والكيف. والزئبق يتولد من أجزاء مائية أرضية، فإذا أنضجتها الحرارة القوية صار كالدهن. وأما الأجسام الصلبة الشفافة فإنها تتولد من مياه عذبة وقفت في معادنها بين الحجارة الصلدة زمانا طويلا حتى غلظت وصفت وأنضجتها الحرارة في المعدن بطول مكثها، وأما غير الشفافة فمن الماء والطين إذا امتزجا وكانت فيهما لزوجة وأثرت فيهما حرارة الشمس في المدة الطويلة. وأما الأجسام المنحلة بالرطوبات فمن مياه مختلطة بأجزاء أرضية محترقة يابسة اختلاطا شديدا. وأما الأجسام الدهنية فمن الرطوبات المحتقنة في باطن الأرض إذا احتوت عليها حرارة المعدن حتى تحللت واختلطت بتربة البقاع فازدادت غلظا وصارت كالدهن. وزعموا أن الذهب لا يتولد إلا في البراري الرّملة والجبال والأحجار الرخوة، وأما الفضة والنحاس والحديد وأمثالها فإنها لا تتولد إلا في أجواف الجبال والأحجار المختلطة بالتراب اللين. والكبريت لا يتولد إلا في الأراضي الندية والرطوبات الدهنية والأملاح فيتولد في الأراضي السبخة والبقاع المالحة. والجص (78) لا يكون إلا في الأراضي اللينة السبخة. والأسفيداج لا ينعقد إلا في الأرض الرملة المختلط ترابها بالجص. والزاجات والشبوب لا تتكون إلا في التراب العفن الناشف، وعلى هذا القياس حكم سائر الجواهر والأحجار، وكل واحد منهما ببقعة من البقاع، وتولد من خواص تلك البقعة. وهي مع كثرة أفرادها داخلة تحت ثلاثة أنواع، الفلزات والأحجار والأجسام الدهنية. فلنأت بالكلام

النوع الأول: الفلزات

في كل نوع منها مبسوطا إن شاء الله تعالى. تنبيه! اعلم أن السياق الذي بنينا عليه هذا الكتاب من النسبة إلى المشترك والمختص، بين المشرق والمغرب، متعذر تحقيق النسبة فيه على ما أصلناه؛ وذلك لأن من المعلوم أن المعدن مغيب تحت الأرض لا يظهر للعين الباصرة إلا بعد البحث، وما ظهر من المعادن وعلم به الناس إنما كان على سبيل الاتفاق أو البحث من أهل ذلك الموضع، والاحتمال واقع في غير تلك الأرض أن يكون بها مثل ذلك المعدن لكنه لم يظهر في الخارج، فحينئذ يكون الكل مشتركا إلا ما ظهر من الأحجار على وجه الأرض. وهاهنا ينبغي أن نذكر أصلا لذلك على حسب ما ظهر لئلّا يخل بقاعة السياق، وأيضا فإن تقسيم المعادن إلى ما ذكرناه تخل به التفرقة فلا يحصل الغرض، فنقول: إن الذي اشتهر أن الياقوت والماس واللعل والعقيق والفنزوح «1» والجزع واللازورد والفيروزج شرقي، وأن الذهب والفضة والحديد والنحاس والرصاص والقصدير والزئبق والزبرجد والدهنج عربي «2» ، وأن الزمرد «3» مصري. وأما الأحجار فغالبها مشتركة، مع وجود الاشتراك في غالب ما ذكر عند البحث والنظر، فليعلم ذلك وحينئذ نبدأ ونقول: النوع الأول: الفلزات زعموا أن تولدها من اختلاط الزئبق والكبريت، إن كان الزئبق والكبريت (79) صافيين واختلطا اختلاطا تاما، وشرب الكبريت رطوبة الزئبق كما تشرب الأرض نداوة الماء، وكانت فيه قوة صباغة ومقدارها متناسبان،

الذهب

وحرارة المعدن تنضجهما على اعتدال، ولم يعرض لها عارض من البرد واليبس قبل إنضاجهما، فينعقد ذلك على طول الزمان ذهبا إبريزا. وإن كان الزئبق والكبريت صافيين، وأنضج الكبريت والزئبق إنضاجا تاما، وكان الكبريت أبيض، انعقد ذلك فضة. وإن وصل إليه قبل استعمال النضج برد عاقد يولد الخارصيني. وإن كان الزئبق صافيا والكبريت رديئا، وفيه قوة محرقة، تولّد النحاس. وإن كان الكبريت غير جيد المخالطة مع الزئبق، تولد الرصاص. وإن كان الزئبق والكبريت رديئين، وكان الزئبق أرضيا متخلخلا، والكبريت محترقا، تولد الحديد. وإن كانا مع رداءتهما ضعيفي التركيب، تولد الأسرب. فبسبب هذا «1» الاختلاف في الاختلاطات اختلفت أجناس الجواهر المعدنية، وهي العوارض التي تعرض لكيفيتها مفرطة أو قاصرة، ودل على ذلك كله تجربة أهل الصناعة. ولنذكر بعض ما ذكر في كل واحد منها وعجيب خواصها. الذهب حار «2» لطيف، أشد «3» اختلاط الأجزاء به الترابية والمائية، والترابية لا تحترق بالنار، لأن النار لا تقدر على تفريق أجزائه؛ ولا يبلى بالتراب، ولا يصدى على طول الزمان. وهو لين أصفر برّاق حلو الطعم طيب الرائحة، ثقيل رزين «4» . أما صفرة لونه فمن ناريته، ولينه من دهنيته، وبريقه من صفاء مائيته، وثقله من ترابيته «5» .

وهو أشرف نعم الله تعالى على عباده، إذ به قوام أمور الدنيا ونظام أحوال الخلق، لاضطرارهم إليه في حاجاتهم، فإن كل إنسان محتاج إلى أعيان كثيرة من مطعمه ومشربه وملبسه ومسكنه وسائر حاجاته، ولعله [لا] «1» يملك ما يستغني عنه كمن يملك (80) الثياب، فلا بد من متوسط يرغب فيه كل أحد، فخلق الله الدراهم والدنانير متوسطين الأشياء حتى يبذلا «2» في مقابلة كل شيء، ويبذل في مقابلتهما كل شيء، كالقاضيين بين الناس يقضيان حوائج كل من لقيهما. ولهذه العلة فخّم الله تعالى أمر كنزهما وإخفائهما، فقال وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ «3» الآيات. لأن المقصود منها تداولها بين الناس لقضاء حوائجهم، فمن كنزهما فقد أبطل الحكمة التي خلقا لها. وذكر بعض العلماء أن عزة الذهب ليس لقلة وجوده فإن الذهب أكثر من النحاس والحديد، وكيف لا؟ وأنه دائما يستخرج من المعادن ولا يتطرق إليه القوى والتلف بخلاف النحاس والحديد، فإنهما يتلفان بطول المكث، بل السبب في ذلك أن من ظفر بشيء منه دفنه، فالذي تحت الأرض أكثر من الذي يتعامل عليه الناس. ومن خواصه ما ذكر أرسطاطاليس أنه يقوي القلب، ويدفع الصرع إن علق على إنسان، ويمنع الفزع؛ ومن اكتحل بميل ذهب جلا عينيه وقواها، وحسّن النظر؛ وإن ثقبت شحمة الأذن بإبرة من ذهب لم يلتحم، وأن كوي به مكان جرح لم ينفط «4» وبرأ سريعا. وقال ابن سينا «5» : إمساكه في الفم يزيل البخر، وينفع من أوجاع القلب والخفقان وحديث النفس.

الفضة

قال ابن البيطار «1» : معتدل لطيف، سحالته تدخل في الأدوية السوداوية، وأفضل الكي وأسرعه برءا ما كان بمكوى ذهب، وإمساكه في الفم يزيل البخر «2» ، وتدخل سحالته في أدوية داء الثعلب وداء الحية طلاء وفي مشروباته؛ ويقوى العين كحلا، وينفع من أوجاع القلب والخفقان وحديث النفس وخبثها «3» . وأن كويت به مقادم أجنحة الحمام ألفت أبراجها. وإن طرح منه وزن حبتين في وزن عشرة أرطال زئبق غاص إلى قعره، وإن طرح في هذا القدر ما به درهم أو غيرها من الأجساد الثقيلة (81) عام فوقه ولم ينزل فيه. وإن ثقبت شحمة الأذن بإبرة ذهب لم تلتحم، وإن علق الإبريز منه على صبي لم يفزع ولم يصرع، مجرب. وإن لبس منه خاتما من في إصبعه داحس «4» خفّف وجعه، مجرب. الفضة أقرب «5» الفلزات إلى الذهب، ولولا البرد الذي أصابها قبل النضج لكادت أن تكون ذهبا، وهي تحترق بالنار، وتبلى في التراب بطول الزمان. (قال أرسطو: إن للفضة وسخا بخلاف الذهب) «6» ، وإذا أصابتها رائحة الزئبق والرصاص تكسرت عند الطّرق، وإن أصابتها رائحة الكبريت اسودّت.

النحاس

ومن خواصها تقطيع الرطوبات اللزجة إذا خلطت سحالتها بالأدوية المشروبة. وتنفع أيضا من البخر، وهي نافعة جدا للحكة والجرب وعسر البول، وتدخل في أدوية الخفقان، وتنفع من الزئبق طلاء لدفع البواسير «1» . قال ابن البيطار: والشرب في آنية الفضة يسرع السّكر. وإن سحلت الفضة وخلطت بالأدوية المشروبة نفعت من كثرة الرطوبات من البلغم اللزج ومن العلل الكائنة من العفونة، وذكر نحو ما تقدم. النّحاس قريب «2» من الفضة، ليس بينهما تباين إلّا في الحمرة واليبس؛ أما حمرته فمن كثرة حرارته الكبريتية، وأما يبسه وغلظه ووسخه فغلظ مادته، فمن قدر على تبييضه وتبيينه فقد ظفر بحاجته. قال أرسطو: أصناف النحاس كثيرة، أجودها الشديد الحمرة، وأردأها المشوب بالسواد. وإذا أدني النحاس من الحموضات أخرج زنجارا؛ ومن اتخذ من النحاس آنية ليأكل فيها أطعمة، إن فعل، فإنه يتولد في جسمه أمراض صعبة لا دواء لها كداء الفيل والسرطان ووجع الكبد والطحال وفساد المزاج، لا سيما إن أكل فيها الحموضات، أو شرب فيها الشراب، أو أكل فيها الحلواء، وإن نزل المأكول فيها يوما وليلة كان أسرع للقتل. وقال ابن البيطار «3» : حذّر الحكماء كثيرا من الأكل والشرب في آنية

الحديد

النحاس، وخاصة (82) ما فيه [حلاوة أو] «1» حموضة أو دسومة، لما يعرض لمزيد من ذلك من داء الفيل والسرطان [والنحاس] «2» ووجع الكبد والطحال وفساد المزاج. وقد تسحق الأكحال المائعة في صلّاية «3» من نحاس بفهر من نحاس فتوافق غلظ الأجفان والجرب ويقوى العين وتجفف رطوبتها وتحد النظر. قال وأما النحاس المحرق وهو الروسختج فيقبض ويجفف ويلطف ويشد ويجذب، وينقّي القروح ويدملها، ويجلي العين، وينقص غشاوة اللحم الزائد، ويمنع القروح الخبيثة من الانتشار في البدن، و [إذا] يشرب ب [الشراب الذي يقال له] «4» أدرومالي «5» ، أو يلعق بالعسل، هيّج القيء. الحديد تولده كتولد الأجساد المذكورة، إلا أنه بعيد عن الاعتدال لكدرة مادته الكبريتية والزئبقية، وسواد لونه لإفراط حرارته، وهو [أكثر] فوائد «6» من جميع الفلزات وإن كان أقل ثمنا، ولذلك منّ الله تعالى به على عباده حيث قال وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ «7» . قيل ما من صنعة إلا وللحديد في أدواتها مدخل.

وهو ثلاثة أصناف: الشّابورقان والأنيث والذّكر «1» ، فالشابورقان هو الفولاذ المعدني «2» ، ومن خواصه العجيبة ما ذكر أرسطو «3» : أن برادة الحديد إذا علقت على إنسان يغط في نومه فإنه يزول عنه ذلك «4» . قال غيره «5» من استصحب شيئا من الحديد قوّى قلبه، ودفع عنه المخاوف والأفكار الرديئة، ويسر النفس ويطرد عنه الأحلام الرديئة، ويزيد هيبته في أعين الناس. وصدأه يأكل أوساخ العين اكتحالا، ويبرئ الرّمد وجرب الأجفان والسّبل، وينفع النقرس. وإن احتمل من صدأه نفع البواسير. والماء المطفأ «6» فيه الحديد ينفع من أورام الطحال وضعف المعدة. وإن أخذ مسمار وحمي الحديد إذا طفئ بالماء والخمر، وشرب ذلك «7» الماء، أو ذلك الخمر، وافق الإسهال المزمن وقرحة الأمعاء وورم الطحال والهيضة واسترخاء المعدة. والماء الذي يطفئ فيه الحدادون الحديد (83) المحمى يسقى لمن يخاف من الماء عضة الكلب، من غير أن يعلم، فإنه أنفع دواء في ذلك. وينفع المعدة التي فسدت من قبل المرة، ويهيّج الباه، وينفع المبطونين «8» .

الرصاص

وإذا ألقيت برادة الحديد في شراب مسموم مصّت كل ما فيه من السم، ولم يضر ذلك الشراب أحدا. ومن سقي سحالة الفولاذ فينبغي أن يسقى من حجر المغناطيس درهمين بالماء البارد، فإنه يجمعه ويخرجه من البطن. ويعرض لمن سقي برادة الحديد وجع في البطن ويبس في الفم ولهيب وصداع. وينبغي أن يسقى اللبن الحليب مع بعض المسهلات القوية، ثم يسقى السمن والزبد إلى أن تسكن تلك الأعراض. وزنجار الحديد قابض فإذا احتملته المرأة قطع نزف الدم، وإذا شرب منع الحمل، وإذا خلط بالخل ولطخ على الحمرة المنتشرة والبثور أبرأها [سريعا] «1» . وينفع من الداحس والظفرة وخشونة الجفون والبواسير النابتة في المقعدة، ويشد اللثة. وإذا لطخ على النقرس نفع منه، وينبت الشعر في [المواضع التي استولى عليها] «2» داء الثعلب. الرصاص قال أرسطو «3» : إنه ضد الفضة، دخلت في مادته ثلاث آفات: نتن الرائحة، والرخاوة، والصرير، فدخلت في مادته عليه هذه الآفات في بطن الأرض، كما دخلت على الجنين في بطن أمه. وقال «4» : من اتخذ منه طوقا وطوّق به شجرة عند أصلها من الأرض لم يسقط من ثمرتها شيء، ويزيد فيها. ومن شدّ منه صفيحة على البطن أو الظهر سكن عنه الإنعاظ والاحتلام. وإن ألقي منه شيء في القدر لا ينضج اللحم.

الأسرب

والرصاص يذوب من حرارة الشمس، ويدلك الرصاص بالملح والدهن دلكا قويا، ويؤخذ السواد الحاصل منه، ويطلى به السيف، فإنه لا يصدأ. قال ابن البيطار «1» : قوة الرصاص المغسول قابضة مبرّدة مغرية ملينة، وقد يملأ القروح الغائرة، لحما ويقطع سيلان الرطوبات إلى العين، ويذهب اللحم الزائد في القروح ونزف الدم. وإذا خلط بدهن الورد صلح للقروح العارضة في المقعدة والبواسير (84) التي يخرج منها الدم، والقروح التي يعسر اندمالها، والقروح الخبيثة. وفعله شبيه بفعل التوتيا «2» . وإذا كان الرصاص على وجهه ودلك على لدغ العقرب البحري، وتنين البحر، نفع منها. وقوة الرصاص غير المغسول شبيهة بقوة المغسول، إلا أنها أشد وأفضل. وإذا لطخ الإصبع بدهن أو شحم ودلك به رصاص ولطخ به الحاجبان قوّى شعرهما وكثّرهما ومنع من انتثاره. والرصاص المحرّق يصلح الجراحات والقروح إذا وقع في المراهم، ويوافق قروح العين إذا وقع في أدويتها. ومن لبس خاتما منه نقص بدنه. وإن طرح في القدر قطعة رصاص لم ينضج اللحم ولو أوقد عليه لمدة، وإن اتخذ منه طوق لشجرة وطوقت به زاد ثمرها ولم يسقط منه شيء «3» وإن دهن ذلك الرصاص [بدهن] حتى يصدأ، ثم أخذ ذلك الدهن وطلى به حديدا لم يصدأ. الأسرب «4» تولده كتولد الرصاص، وهو صنف رديء منه، لأن مادته أكثر وسخا. ومن

الخارصيني

خاصيته تكليس الذهب وتسكين «1» فإن الماس إذا وضعته على السّندان وضربته بالمطرقة لا ينكسر، ويدخل إما في السندان أو في المطرقة؛ ولو وضعته على الأسرب تكسر بأدنى ضربة «2» . قال الشيخ الرئيس «3» : يتخذ من الأسرب صحيفة، وتشد على الخنازير والغدد «4» وقروح المفاصل تذوبها، وتشد منها صحيفة على البطن تسكن قوة الباه. ويمنع الاحتلام المتواتر. الخارصيني «5» تولده كتولد الأجساد المذكورة، ومعدنه بأرض الصين، ولونه أسود يضرب إلى الحمرة، يتخذ منه النصول فتكون مضرتها عظيمة، لا سيما إذا أسقيت السم. ويتخذ منه كلاليب فتصطاد بها الحيتان العظيمة لأنها إذا تشبثت «6» بشيء لا تنفصل منه إلا بعد تعب وشدة، ويتخذ منه مرآة ينتفع بها صاحب اللقوة إذا جلس في بيت مظلم وأدام النظر إليها، فإنها أنفع ما يعالج به صاحب اللقوة. ويتخذ منه منقاش ينتف به الشعر، ويدهن موضعه، ويداوم على ذلك مرارا، فإنه لا ينبت الشعر أبدا (85) .

النوع الثاني في الأحجار

النوع الثاني في الأحجار «1» وهي أجسام متولدة من مياه الأمطار والأنداء التي احتبست في جوف الأرض إن كانت شفافة، أو من امتزاج الماء بالأرض إن كان في الأرض لزوجة وأثرت فيها حرارة الشمس تأثيرا شديدا. أما القسم الأول، فاعلم أنه إذا احتبست مياه الأمطار والأنداء في المغارات والكهوف والأهوية «2» ، ولا يخالطها شيء من الأجزاء الأرضية، وأثرت فيها حرارة المعدن، وطال وقوفها هناك، فإنها تزداد صفاء وثقلا وغلظا فتنعقد منها الأحجار الصلبة التي لا تتأثر من الماء والنار، كأنواع اليواقيت وما شاكلها؛ فذهب قوم إلى أن اختلاف ألوانها بسبب حرارة المعدن وكثرتها وقلتها، وذهب آخرون إلى أن ذلك بحسب أنوار الكواكب إلى أن يدل على ذلك النوع من الجواهر ومطارح شعاعاتها على تلك الأماكن، فزعموا أن السواد لزحل، والخضرة للمشتري، والحمرة للمرّيخ، والصفرة للشمس، والزرقة للزهرة، والمتلون لعطارد، والأبيض للقمر. وأما القسم الثاني، فيتولد من امتزاج الماء والأرض إذا كانت فيها لزوجة، وأثرت فيها حرارة الشمس مدة طويلة، كما ترى أن النار إذا أثرت في اللبن كيف تصلّبه وتصيره آجرا، فإن الآجر صنف من الحجر تختلف باختلاف أماكنها، فإن كانت في بقاع سبخة تولدت منها أنواع الأملاح والبوارق والشبوب «3» ، وإن كانت في بقاع وأماكن غضّة «4» رطبة تولد فيها أنواع الزاجات الأحمر والأصفر

والأخضر، وإن كانت في بقاع ترابية وطين حر انعقد حجرا مطلقا. وقد ينعقد الحجر في بعض المواضع من الماء، أو من خاصية ذلك الموضع. «1» وترى في بعض المواضع أن الماء (86) يتقاطر من السقف فإن أخذ قبل أن يقع على الأرض يبقى ماء، وإن نزل حتى يقع على الأرض فإنه يصير حجرا صلدا، فعلم أن في ذلك الموضع خاصية في عقد ذلك الماء حجرا. وحكي أن في بعض المواضع مسخ الله الحيوان والنبات حجرا صلدا، وأخبر عن ذلك المسافرون، ورأوه عيانا، فجاز أن يكون بهذا الطريق، وهو أن الله تعالى أفاض على تلك الأرض قوة عند غضبها لغضبه عليهم- سبحانه- فظهرت تلك القوة من جوف الأرض إلى وجهها، فصيّرت كل شيء فيه مائية حجرا صلدا ليكون عبرة للحاضرين وتذكرة للغائبين، وأثرا لسخط الله وغضبه على العاصين. وحكى الشيخ الرئيس «2» : أنه كان على الجبل الذي بجاجرم «3» فرأى جردقا «4» من الخبز أطرافها ناتئة ووسطها مقعّر، كما يكون بجرادق الخبز، وعلى ظهرها خطوط كما يكون للخبز من آثار شق التنور، فبواسطة هذه العلامات يغلب على الظن ولا شك الناظر إليه إن كان خبزا فمسخه الله حجرا. فالجواهر

المعدنية كثيرة لا يعرف الناس منها إلا القليل، ولا بد من إيراد ما وصلت القدرة الإنسانية إليه على قدر التحصيل، وما ذاك من عجائب صنع الله فيه إلا القليل، فنقول: إن الأحجار- كما قلنا- منها ما هو صلب لا يذوب بالنار، ولا يعمل فيه الفؤوس، كأصناف اليواقيت، ومنها ما هو تراب رخو يذوب في الماء كالأملاح والزّاجات، ومنها ما هو نبات كالمرجان «1» ، ومنها ما يخرج من الحيوان كالدّر واللآلئ، ومنها ما يتولد في الهواء كأحجار الصواعق، ومنها ما ينعقد في الأرض بواسطة الماء للعلل المذكورة أولا، ومنها ما هو مصنوع كإقليميا «2» الذهب والفضة والزنجفر والزنجار، ومنها ما بينهما ألفة كالذهب والماس، فإن الماس إذا قرب من الذهب تشبث به حتى إنه يقال أن الماس لا يوجد إلّا في معادن الذهب، ومنهما ما بينهما مجاذبة شديدة (87) حتى إن كل واحد منهما يجذب الآخر إليه كالعاشق والمعشوق، كالحديد والمغناطيس، فإن بين هذين المعدنين ميلا شديدا، فإذا شمّ أحدهما رائحة الآخر سرى إليه وأمسكه إمساكا شديدا، ولم يفارقه إلا بجاذب يجذبه، ومنهما ما بينهما مخالفة كالسنبادج وسائر الأحجار، فإنه يحكها ويجعلها ملساء، وكالأسرب والماس فإن الماس يقهر سائر الأحجار، والأسرب يقهره، ومنها ما فيه قوة منظفة كالنوشاذر فإنه ينظف سائر الأحجار من الوسخ، وجميع ما قلناه ليس جامعا لخواص الأحجار ولكن أوردناه على سبيل التعجب والمثال ليكون لحكمة الله تعالى في إيجاده الوجود على سبيل الأنموذج، وإلّا فالأمر أعظم مما ذكر، وإلا فما وصل الناس كلهم إلّا إلى قليل من كثير، وهذا حين نذكر الأحجار مرتبة على حروف المعجم على ما

إثمد

وصلت قدرتنا إليه. إثمد «1» قال أرسطو: هو حجر له أصناف كثيرة، وأجود أصنافه الأصفهاني «2» ، وهو حجر يخالطه الرصاص، وينفع العيون اكتحالا ويحسّنها، ويدفع عنها نزول الماء، ويقوي أعصابها، ويدفع عنها كثيرا من الآفات والأوجاع، سيما للعجائز والمشايخ الذين ضعفت أبصارهم. عن جابر بن عبد الله الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم (أن [هـ] قال: عليكم بالإثمد فإنه ينبت الشعر، ويحد البصر «3» ) . وإذا جعل مع الإثمد شيء من المسك فإنه يكون غاية. وقيل إنه ينفع من حرق النار طلاء بالشحم. قال ابن البيطار: هو حجر الكحل الأسود، قوته مغرية قابضة مبردة، ويذهب باللحم الزائد في القروح ويدملها، وينقي أوساخها وأوساخ قروح العين، ويقطع الرّعاف العارض من الحجب التي فوق الدماغ «4» . وإذا خلط ببعض الشحوم الطرية، ولطخ على حرق النار، لم تعرض فيه الخشكريشة «5» من قروح النار. والإثمد يقوي أعصاب العين، ويدفع الآفات عنها، (88) وإذا لم تعتده «6» العين وكحلت منه رمدت وقذيت، وينفع العجائز والمشايخ الذين ضعفت أبصارهم من الكبر إذا جعل معه شيء من المسك. وينفع من الحرارة والرطوبة

أرميون

العارضة للعين كحلا. ويقطع سيلان دم الطمث إذا احتمل به. ويجفف القروح في مثل الذكر والأعضاء اليابسة المزاج. أرميون «1» هو حجر يوجد بأرض الروم مخمّسا، فإذا كسّرته قطعا كثيرة لا يكون شيء منها إلا مخمسا؛ من اكتحل منه لا يصيبه رمد البتّة، ومن استصحبه أكسبه هيبة في أعين الناس، (وهو حجر أبيض مخطط بخطوط زرق) «2» . إسفيداج «3» هو رماد الرصاص القلعي والآنك، ينفع من الرمد إذا خلط بأدوية العين، وإذا أفرط حرقه صار إسرنجا «4» ، والإسفيداج الرصاصي إذا دلك به لسعة العقرب أو لدغة التنين، بريّا كان أو بحريا، نفع. ورائحته عند إحراقه مضرة جدا. (قال بليناس «5» في كتاب الخواص) «6» : إن نقعت الإسفيداج مع شيء من قثاء الحمار في ماء وملح، ورشت به البيت، خرجت عنه جميع البراغيث «7» .

وقال أرسطو «1» : الإسفيداج الذي يوجد في الأسرب إذا سحق بالخل صلح لبياض عيون الناس إذا كان حادثا «2» ، ويأكل اللحم العفن، وينبت اللحم الطري إن اتخذت منه المراهم، وينفع من حرق النار إذا طلي ببعض الأدهان، ولا يكاد موضع الحرق يستحيل إلى البياض بل يبقى على لون الجسد. قال أرسطو: إنه يوجد في معادن الزرنيخ. من أخذ من هذا الإسفيداج وكلسطه «3» حتى يبيض ويصير إسفيداجا، وألقى منه مثقالا على خمسين مثقالا من النحاس الأحمر، فإنه يبيضه ويلين جسمه. وهو إذا خلط مع الكلس حلق الشعر، وهو في الحدّة أقوى من الزرنيخ. وإذا سحق وطلي به الورم سكّنه. وقال ابن البيطار: قوته مبردة مغرية ملينة تملأ القروح لحما مطلقا وتقلع اللحم الزائد في القروح قلعا رقيقا (89) وتدملها إذا وقع في القيروطي «4» [والمراهم التي يقال لها لسار «4» أو في [بعض] «5» الأقراص، وهو من الأدوية القتالة. والإسفيداج يصلح لبياض عيون الحيوان الحادثة عن الأوجاع «6» ، وينفع القروح التي يكون فيها إذا خلط بنطرون، وينفع الجروح إذا صنعت منه المراهم، ويأكل اللحم المتغير، وينبت اللحم الجيد، وينفع من حرق النار إذا طلي ببعض الأدهان، ولا يستحيل موضع الحرق إلى البياض. وإذا حلّ بخل وطليت به الجبهة

نفع من الصداع، وإذا خلط بهما دهن ورد كان أنجح. وينفع من رمد العين ضمادا من خارج أو مستعملا مع الأدوية المقطرة فيها. وإذا غسل غسلا بليغا بالماء العذب ثم سقي بماء الورد أياما متوالية في شمس حارة نفع وحده من الرمد الحار. وإذا اكتحل به أو حلّ في لبن النساء أو رقيق البيض وقطّر في العين، وإذا حلّ في ماء عنب الثعلب أو ما أشبهه نفع من الحمرة ومن حرق النار والماء والأورام الحارة كلها. ومن شرب الإسفيداج يعرف من لونه، لأنه يبيض الحنك واللثة واللسان، ويعتري منه الفواق والسعال ويبس اللسان، ويبرد الدماغ ويعرّق ويسبّت ويكسل ويرخّي. وينتفع من شربه بالعسل بالماء المطبوخ بالتين والخيار «1» ولبن حار أو سمسم مقشور، مع طلاء أو رماد الكرم، أو زهر الأقحوان، أو زهر السّوسن المسمى إيرسا. وينفعهم أيضا شرب حب الخوخ بطبيخ دهن السوسن أو شرب الكندر أو شرب صمغ الأجاص، أو الرطوبة التي تكون في شجرة النبق، كل واحد من هذه بماء فاتر، ويتقيأون «2» بعد شرب كل واحد مما ذكرنا. وينفعهم أيضا شرب عصارة ثافسيا «3» ولبن السّقمونيا «4» إذا شرب مع ماء العسل. وقد ذكرنا أن الإسفيداج إذا أحرق واستحال صار منه [خبث الرصاص] «5» .

الإسرنج

الإسرنج «1» وهو نافع أيضا من الجراح إذا خلط بالمراهم، وإذا غلي بالزيت أو ببعض الأدهان الطيبة، وصيّر منه مرهم. وهو مجفف لازوقي، ينقّي القروح، ويذهب باللحم المتغير (90) . وإذا احتقن به مع شحم أو ماء لسان الحمل نفع قروح الأمعاء، وإذا طبخ بالزيت مرهما أنبت اللحم في الجراحات ونقّاها من الوضر «2» . إقليميا الذهب «3» قال أرسطو: الذهب إذا خلط بغيره من الأحجار، ثم أدخل النار للخلاص، خلص جسمه، ثم علاه حجر مشوب بسواد، وبعضه على لون الزجاج، وهو الحجر المسمى إقليميا الذهب. ينفع من وجع العين، ويذهب عنها البياض الحادث فيها، وينفع من البلة التي تنحدر من العين. وقال غيره: ينفع من ابتداء نزول الماء في العين، ويدمل القروح الخبيثة وينقّي أوساخها، ويأكل لحومها الزائدة، ويجففها بغير لذغ. إقليميا الفضة قال أرسطو: إن الفضة إذا دخلت النار للخلاص لتتخلص من الأجساد التي خالطتها ثم يعلوها جسم يسمى إقليميا الفضة، وهو نافع من القروح والجرب

أكتمكت

والسّعفة «1» طلاء مع بعض الأدهان. وقال غيره: إنه ينفع من وجع العين ذرورا، وإذا جعلته في المراهم ينبت اللحم في الجراحات. أكتمكت «2» هو حجر هندي، يعرف بحجر الولادة، ويسمى حجر العقاب، وحجر النسر؛ إذا حركته سمعت لحجر آخر في جوفه حركة. وهو يسهل الولادة وما عرف ذلك إلا من النسور، لأن الأنثى منها إذا أرادت البيض، واشتد عليها ذلك، أتى الذكر بهذا الحجر وجعله تحتها، فيسهل البيض عليها ويذهب الوجع عنها، وكذلك يفعل بالنساء وسائر الحيوان فيسهل الولادة عليهن «3» . وإذا جعل في صرة وشدّ على فخذ المرأة الحامل أسرعت الولادة، مجرب «4» . وكذلك إن علّق في جلد أديم «5» وشدّ على الساق اليسرى سهل الولادة. ويسحق أيضا ويطرح في لبن النساء ويغمس فيه صوفة، وتحملها المرأد التي لا تحبل، فتحبل بإذن الله عز وجل. ويمنع الإسقاط وخروج الأجنة قبل كمالها، ويجعل في جلد خروف رائحته ذكية ويلزم به العانة والحقوين إلى وقت الولادة، وعند التمخض (91) للطّلق يرفع عن المرأة وإلّا انصدعت في الولادة. ومن خواص هذا الحجر أنه إذا أمسكه مخاصم في يمينه لم يغلبه خصم،

بادزهر

وإن علق على شجر تسقط حملها لم يسقط. بادزهر «1» ألوانه كثيرة، وتفسيره حجر السم، وأجوده الأصفر ثم الأغبر. وقيل: إنه يوجد بمعادن الزّمرّد. قال ابن البيطار: وقال بعض أطبائنا البادزهر يقال على معنيين، يقال على كل شيء يمنع «2» من شيء آخر ويقاوم قوته ويدفع ضرره بخاصية فيه. ويقال على حجر معلوم ذي عين قائمة، ينفع بحمله جوهره من السموم الحارة والباردة إذا شرب أو علّق. وقال أرسطاطاليس: ألوان حجر البادزهر كثيرة، فمنه الأصفر والأغبر والمنكّت والمشرب بخضرة والمشرب ببياض، وأجوده الأصفر، ثم الأغبر، وما أتي به من خراسان؛ وهناك يسمى بالبادزهر وتفسيره حجر السم، ومعادنه ببلاد الصين وببلاد الهند والمشرق. وله في شبهه أحجار كثيرة ليست لها خصوصيته، ولا تدانيه في شيء من فعله، من ذلك العبوري «3» والمرمري، وحجر لا يحك عنه شيئا، وقد يغالط به كثيرا، وهو ليّن المجسّة، غير مفرط، وحرارته غير مفرطة، دقيق المذاهب. خاصته: النفع من السموم الحيوانية والنباتية، ومن عض الهوام ولدغها ونهشها. وإذا شرب منه مسحوقا أو مسحولا وزن اثنتي عشرة شعيرة خلّص من

الموت، وأخرج السم بالعرق والرشح. وإن تقلد منه إنسان، أو تختم به، ثم وضع ذلك الخاتم على موضع لدغ العقرب والهوام والطيارات ذوات السموم، مثل الذراريح والزنابير، نفع منها نفعا بليغا. وإن سحق ونثر على موضع لسع الهوام الأرضية حين تلسع أو تنهش اجتذب السم بالرشح، وإن عفن الموضع قبل أن يتدارك بالدواء، ثم نثر عليه من هذا الحجر، وهو مسحوق، أبرأه. وإن أمر هذا الحجر على خمسة «1» العقرب بطل لسعها. وإن سحق منه وزن (92) شعيرتين وذيف بالماء، وصب في أفواه الأفاعي والحيات، خنقها وماتت. وقال الرازي: البادزهر حجر أصفر، رخو، لا طعم له، ينفع من السموم؛ وقد رأيت منه مقاومة عجيبة لدفع ضرر اليبس، وكان هذا الذي رأيته إلى الصفرة والبياض، وكان مع ذلك رخوا، منه مشظيا كشظى الشب اليماني «2» . وإني رأيت من هذا الحجر في قوته ومقاومته اليبس ما لم أر مثله من الأدوية المفردة ولا الترياقات المركبة أصلا. وقال [أحمد بن] «3» يوسف «4» : هو نافع من سم العقرب إذا لبس في خاتم ذهب، ونقشت فيه صورة عقرب، والقمر في العقرب في وتد من الطالع، ثم طبع به في كندر ممضوغ، والقمر في العقرب. وقال عطارد بن محمد «5» : حجر البادزهر إذا وضع قبالة الشمس عرق وسال

باهت

منه الماء. وهو نافع من تلهب الحمى الشديدة والرمد إذا امتص عرقه، وإذا سقي منه ضعيف القلب من شدة الهم مقدار سدس مثقال نفعه وقوى قلبه. وقال ابن جميع «1» : والحيواني منه وهو الموجود في قلوب الأيائل أفضل من جميع هذه الأصناف، حتى إنه إذا حل بالماء على مسن، وسقي منه كل يوم وزن نصف دانق للصحيح على طريق الاستعداد، والتقدم بالحوطة، قاوم السموم القتالة وحفظ من مضارها، ولم تخش منه غائلة ولا إثارة وخلط. حام، (كما خشي من الإبروديطوش «2» ) «3» ، ولا يضر بالمحرورين ولا المنحفين، لأنه إنما يفعل ذلك بخاصية جوهره. باهت «4» هو حجر أبيض على لون المرقشيثا «5» البيضاء، يتلالأ حسنا إذا وقع نظر الإنسان عليه يضحك حتى يموت. وزعموا أنه مغناطيس الإنسان، وله قصة في

بسد

مدينة النحاس، وهو أن من علاها يضحك وينجذب إلى داخلها. وذكروا أن في وسط هذه المدينة عمودا «1» من حجر باهت من علاها يجذبه إليه. وزعموا أن من وقع نظره على هذا الحجر يغلبه الضحك، (93) . وزعموا أن طائرا يقال له الفرفير أصغر من العصفور، ولونه أسود وله طوق أحمر، وعيناه حمراوان، ورجلاه كذلك، زعموا أنه إذا وقع على هذا الحجر بطل تأثيره وفعله. بسّد هو «2» أصل المرجان، ينبت في البحر. وهو حجر ينبت كما ينبت الشجر في البر، وهو أبيض وأحمر وأصفر وأسود. ينفع من نزف الدم، ويقوّي العين اكتحالا، وينشف الرطوبات الفضلية، ويقوّي القلب، وينفع من عسر البول. وإذا علّق على المصروع نفعه نفعا بيّنا، والأولى أن يعلّق في رقبته. وقال ابن البيطار «3» : هو المرجان. قوته قابضة مبردة باعتدال، [وقد] يقلع اللحم الزائد في القروح، ويجلو آثار قروح العين، و [قد] يملأ القروح العميقة لحما، وينفع من نفث الدم، ويوافق من به عسر البول، وإذا شرب بالملء حلل ورم الطحال. ومنه صنف أسود اللون قوته مثل قوته «4» .

بلور

والبسّد والمرجان حجر واحد، غير أن المرجان أصل والبسد فرع. والبسد والمرجان يدخلان في الأكحال فينفعان من وجع العيون، ويذهبان الرطوبة منها إذا اكتحل بهما، ويجعلان في الأدوية التي تحل دم القلب الجامد، فينفعان من ذلك. ويقوي العين بالجلاء، خصوصا محرقا مغسولا. ويصلح الدمعة، ويعين على النفث، وكذلك الأسود، لا سيما محرقه المغسول. وهو من الأدوية المقوّية «1» للقلب، النافعة من الخفقان، وفيه تفريح بخاصية فيه بعينها تنشيه وتمتّنه «2» بقبضه. وهو حابس للدم، ويصلح لمن به دوسنطاريا، وتجلو الأسنان جلاء صالحا. وإن علّق البسد في عنق المصروع أو في رجل المنقرس نفعهما، وإن استيك به قطع الحفر من الأسنان، وقوى اللثة. وإن أخذ من البسّد المحرق وزن ثلاثة دوانيق، فخلط معه دانق ونصف من الصمغ العربي، وعجنا ببياض البيض، وشرب بالماء البارد، نفع من نفث الدم؛ فإذا خلط البسد المحرق بالأدوية التي تحبس الدم من أي (94) عضو ينبعث، قواها وأعانها على حبسه. وينفع في أدوية العين مسحوقا للبثور والجلاء في مثل الظفرة وما أشبهها. وإذا سحق وقطّر في الأذن مذابا بدهن بلسان نفع من الطرش. بلّور «3» قال أرسطو: البلور نوع من الزجاج إلّا أنه أصلب، وهو مجتمع الجسم في المعدن، بخلاف الزجاج، فإنه متفرق الجسم يجمع بالمغنيسيا. والبلور أحسن أنواع الزجاج، وأشد صلابة، وأحسن بياضا، وأشد صفاء؛ ويصنع بأنواع الياقوت فيشبه الياقوت. والملوك يتخذون منه أواني بناء على أن لها فوائد. وإذا قابل

بورق

البلور الشمس، وأدنيت منه خرقة سوداء، أو قطن، تأخذ منه النار، ومن أراد أن يشعل من ذلك النار فعل. ومن البلور نوع آخر أقل صفاء من الأول، وأشد صلابة، وإذا نظرت إليه حسبته ملحا، وإذا قرعت بهذا الحجر الحديد المسقّى خرجت النار بسهولة، وذلك مقدحة غلمان الملوك. وقيل: إن البلور الأغبر إذا علق على من به وجع الضرس سكن. بورق «1» أجزاء سبخة كالملح «2» ، إلا أن البورق أقوى. وأنواعه كثيرة كالنطرون وهو الأرمني «3» ، وبورق الصاغة، وهو شبيه بالنورة، والتّنكار. قالوا: إنه يجلب من بلاد الهند، من الأرض التي يحرق فيها الموتى، وهذا عزيز كثير الفائدة، وبورق الخبازين، والبورق الراوندي يميل إلى الحمرة، والبورق الكرماني، والبورق المغربي. قالوا: يحصل من شجر الغرب، ومن خواصه أنه يطلى على الكلف في الحمام ويصبر عليه زمانا فإنه يزيله. وإذا تشبث العلق بحلق إنسان، فيخلط البورق بالخل، ويتغرغر به، يسقط في الحال. وإذا قلب الخل على البورق وترك البيض فيه، فإنه يصلق. وقال أرسطو: البورق أنواع كثيرة، منها ما يتكون في الماء الجاري، ومنها ما

يتكون من الحجر في معدنه، ومنها أبيض وأحمر وأغبر وألوان كثيرة «1» ، فإذا جعلته في إناء وصببت عليه خلا حامضا غلى غليانا شديدا من غير نار. والبورق (95) يذيب الأجساد كلها ويليّنها للسبك، ويمنع منها حرق النار ويسرع انحلالها. وقال غيره: البورق «2» ينفع الجرب والبرص طلاء، وينضج الدماميل، وينفع الصمم، ويضمد به الاستسقاء مع التين، ويجلو البياض العتيق من العين، ويمنع من الحمى التي تنوب بأدوار. [و] إذا مرّخ به البدن قتل الدود بسرعة، والإكثار من أكله يسوّد البدن. وقال الشيخ الرئيس: إنه يرق الشعر نثرا عليه، وإذا ضمّد به جذب الدم إلى ظاهر البدن، ويحسّن اللون، وينفع من الهزال؛ وكثرة أكله ربما يسوّد اللون، وينفع من الحزاز «3» . وقال ابن البيطار «4» : البورق جامد مجتمع، وهو الذي يستعمله الناس في كل يوم ليغسلوا به أبدانهم في الحمام لأنه له قوة تجلو، فهذه بها يغسل الوسخ ويشفى الحكة لأنه يحلل الرطوبات الصديدية التي تحدث عنها تلك الحكة. والبورق الإفريقي «5» متى لم يضطرنا إليه أمر شديد لا يعطاه الإنسان يزدرده، لأنه يغثي ويهيج القيء. وقد يستعمله قوم في مداواة من أكل فطرا فخنقه. والبورق المحرّق وغير المحرق يستعمله أيضا في مداواة هذا الاختناق.

والنطرون وإن كان من جنس البورق فله أفاعيل غير أفاعيل البورق «1» . قال «2» : ومن البورق صنف يقال له النطرون يؤتى به من الواحات، وهو ضربان أحمر وأبيض. وقوة النطرون وقوة الدواء الذي يقال له أقرويطون «3» شبيهان بقوة الملح، إلا أن النطرون يفضل عليه بأن يسكن المغس إذا سحق مع الكمون وشرب مع أدرمالي، أو ببعض الأدوية التي تحلل الرياح، مثل طبيخ الزوفا أو السذّاب أو الشبث، وقد يخلط ببعض الأدهان ويتمسح به لبعض الحميات الآخذة بأدوار قبل وقت أخذها، ويكون بالقرب من النار، ويخلط في بعض المراهم المحللة والجاذبة والمتخذة للجرب المتقرح والحكة والبرص. وإذا خلط بالماء والخمر (96) وقطر في الأذن أبرأها من أوجاعها، ومن شدة الريح العارض فيها، ومن الدوي «4» والرطوبة السائلة منها. وإن خلط بالخل وقطّر فيها نقى وسخها. وإذا خلط بشحم الحمار مع الخل أو شحم الخنزير أبرأ من عضة الكلب. وإذا خلط بصمغ البطم فتح أفواه الدماميل. ويضمد به مع التين من به استسقاء. وإذا اكتحل به مع العسل أحدّ البصر، وإذا شرب بالخل مع الماء نفع من مضرة الفطر القتال. وإذا شرب مع الماء نفع من مضرة [الضرب من] الذراريح «5» . وإذا شرب مع الأنجدان «6» نفع من مضرة دم الثور «7» . ويعمل منه ضماد نافع للهزال، ويخلط بقيروطي، ويضمد به، ينفع الفالج الذي يميل الرقبة إلى خلف في انحطاط العلة

والتواء العصب. ويخلط بالعجين ويخبز لمن عرض له استرخاء في لسانه. والنطرون نافع لأرحام النساء اللواتي في أرحامهن رطوبات ينشفها ويقويها إذا استرخت [أعضاؤها] . والبورق إذا سحق وذرّ على الشعر الغليظ أرقّه. وهو نافع أصحاب البلغم. والبورق يقع في بعض الحبوب المسهلة والمعجونات والحقن، ومقدار ما يلقى منه في الحقن ليسهل الطبيعة وزن درهمين. وإذا طلي الجسد من خارج بالبورق الأرمني مع دهن البابونج عرّق البدن. وإذا سحق مع خل خمر وتغرغر به أسقط العلق المتعلق في الحلق، وإذا تضمد به جذب الدم إلى ظاهر البدن، فيحسن؛ لكنه ربما سود كثرة أكله اللون، وينفع من الحزاز في الرأس غسلا به، ويشرب مع بعض الأدوية القاتلة للدود فيخرجها. «1» وكذلك إذا مسح به البطن والسرة، ويجلس بقرب النار فيقتلها، فبهذا ومثله يفوق الملح. وهو رديء للمعدة مفسد لها، ورغوته مع العسل ينقي ويفتح، وينفع من الصمم في الأذن قطورا. وإذا سحق منه درهمان بثلاثة دراهم دهن زنبق، ويدلك به الذكر، وتلطخ به (97) المذاكير، فإنه أقوى ما يهيج به الإنعاظ. وإذا أنعم سحقه وأذيف بعسل وطلي به القضيب والشّرج والعانة أنعظ إنعاظا مضجرا. وإذا أخذ منه نصف أوقية وحل في نصف رطل ماء على نار هادئة، وخلط معها إذا انحلت أربع أواقي زيت عذب، واستعمل شربا في علة القولنج الحادث للسبّاكين في معادن الفضة [ينفعهم] ، «2» مجرب.

بيجادر

بيجادر «1» قال أرسطو: إنه حجر أحمر اللون، وحمرته غير حمرة الياقوت، ومعدنه بلاد المشرق، فإذا أخرج من معدنه أصابته ظلمة، وإذا قطعه الصّنّاع زال نوره وحسنه، فمن تختم به وزن عشرين شعيرة يدفع عنه الأحلام الرديئة المفزعة، ومن أدمن النظر إليه وهو مستقبل الشمس فإنه يقل نور عينيه. تدمر «2» قال أرسطو: إنه حجر يوجد بأرض المغرب على شاطئ البحر، وليس يوجد إلا في هذا الموضع. وهو حجر أبيض مثل الرخام، وخاصيته أن الإنسان إذا شمه جمد دمه، ومات من ساعته. تراب صيدا وهو تراب الجبر «3» يحتفر عليه [من مفازة] في بعض ضياع صيدا في معادن، مجرب في النفع من كسر العظام، ويجبرها في أسرع وقت، لا يشبهه في ذلك غيره. إذا شرب منه وزن مثقال مسحوقا في بيض نيمرشت «4» ، وإذا شربه المصدوع دفعته الطبيعة بإذن خالقها جل وتعالى إلى ذلك الموضع المصدوع فتجبره وتلحمه سريعا، وهذا مجرّب.

تراب الشاردة

تراب الشاردة «1» وهي جزيرة من جزائر [بحر] الروم، له خاصية في قتل العلق المتعلّق بالحلق عجيبة، وإذا أخذ منه يسير وحلّ في ماء، وقطّر في أنف المعلوق، أسقط العلق للوقت من حلقه، حتى إن شعير هذه الجزيرة الذي يزرع فيها إذا علق على رأس الدابة المعلوقة أسقط علقها، مجرب. قال ابن البيطار: ويوجد أيضا في جزيرة (98) في أقاصي بحر شرق الأندلس «2» ، وليس فيها شيء من الهوام ولا من الوحش البري أعادها الله إلى الإسلام بكرمه وقدرته. تنكار «3» قال أرسطو: هو حجر من جنس الملح، يوجد فيه طعم البورق. ومعدنه ساحل البحر، وهو يعين على سبك الذهب ويلينه، وينفع من تآكل الأسنان، ويسكن ويقتل دودها، ويسكن ضربانها، ويجلوها. وله في تسكين وجع الأسنان خاصية عجيبة. وقال ابن البيطار كذلك، لكنه قال: وتستعمله الصاغة لأنه يعين على سبك الذهب ويلينه، ويسبكه في رفق، ولا يحمل النار على جسم الذهب إذا كان معه.

توبال

توبال «1» قال ابن البيطار: قال ديسقوريدوس في الخامسة: ما كان منه من النحاس في الأتون، وفي الغيران التي يقلع منها النحاس الأحمر بقبرس، وما كان منه من المعادن القبرسية فهو جيد ثخين، يقال له أمنيطس. وأما توبال النحاس الأبيض، فإنه رقيق ضعيف القوة، ونحن نرذّل هذا الصنف من التوبال، ونختار منه ما كان لونه براقا ثخينا في لونه حمرة، وإذا رشّ عليه الخل تزنجر. والتوبال يقبض ويعصر ويلطف ويعفن، ويمنع القروح الخبيثة من الانتشار، ويدمل القروح. وإذا شرب بالشراب الذي يقال له ماء لقراطن أسهل كيموسا مائيا، ونفع من الحبن لأنه ينزل الماء. ومن الناس من يسقيه بعد أن يعجنه بدقيق الحنطة، يعمل منه حبا، ويسقى منه. وقد يقع في أخلاط أدوية العين، ويجفف القروح الحادثة في العين، ويحلل الخشونة العارضة في الجفون، وقد يغسل على هذه الصفة: ينقى منه نصف من «2» ، ويلقى في صلّاية مجوفة، ويصب عليه من ماء المطر، ويحرك تحريكا شديدا حتى يرسب التوبال من ماء المطر مقدار قواثوس «3» واحدة، ثم يدلك على الصلاية بالراحة دلكا شديدا (99) فإذا بدت تظهر منه لزوجة يصب عليه

من الماء قليلا قليلا «1» إلى ست قوانوسات، ويدلك دلكا شديدا، ثم يؤخذ التوبال ويدلك على جانب الصلاية دلكا شديدا، ثم يعصر من الماء ويؤخذ ماؤه، ويوضع في حق نحاس أحمر، فإن هذا الماء هو قلب التوبال ولطيفه وقوته الذي يصلح للاستعمال في أدوية العين. فأما باقيه فضعيف القوة، وينبغي أيضا أن يغسل ثانية ويدلك، حتى لا يبقى فيه شيء من اللزوجة، ثم يغطى بخرقة يومين ولا يحرك، وبعد اليومين يصب عليه الماء، ويجفف ويترك في حق نحاس أحمر. وقال جالينوس في التاسعة «2» : قوة توبال النحاس قوة لطيفة ألطف من قوة النحاس المحرق، وألطف أيضا من قشور النحاس، ولذلك صار خفيفا بأن يكون الشياف الواقع فيه يجلو ويقلع من الأجفان الخشونة الكبيرة، التي يقال لها باليونانية سوقوسمن. «3» وقال ابن سرابيون «4» : توبال النحاس القبرسي إذا أخذ منه نصف مثقال، وخلط مع علك الأنباط «5» مثقال، وأخذ وعمل منه حب أسهل البلغم بقوة. قال: ويجب أن يتحسّى بعد قليل خلا «6» لئلا يقذفه.

توتيا

توتيا «1» قال ابن وافد «2» : التوتيا منها ما يكون في المعادن، ومنها ما يكون في الأتانين التي يسبك فيها النحاس، كما يكون الإقليميا، وهي المسماة باليونانية بمقولس «3» . أما المعدنية فهي ثلاثة أجناس، منها بيضاء، ومنها خضراء، ومنها صفراء تشرب بحمرة. ومعادنها على سواحل بحر الهند والسند وأجودها [البيضاء] «4» التي يراها الناظر كأن عليها ملحا، وبعدها الصفراء. فأما الخضراء فإن فيها جروشة، وهي مثقبة ويؤتى بها من الصين. والبيضاء ألطف أجناس التوتيا، والخضراء أغلظها. وأما التي في الأتانين، فقال ديسقوريدوس في الخامسة: بمقولس وهو التوتيا، وهو صنفان: أحدهما شديد البياض خفيف جدا، والآخر دونه في ذلك، وأجودها (100) ما كان من قبرس. وإذا خلط بالخل فاحت منه رائحة النحاس، وكان لونه شبيها بلون الهواء. وقد يغش المتخذ من جلود البقر وبتراب البحر وبالتين الفج «5» محروقا ويابسا.

جالب النوم

وقال جالينوس في التاسعة: التوتيا إذا غسل صار منه دواء أشد تجفيفا من كل شيء، مجفف من غير أن يلذع، فهو كذلك موافق نافع للقروح السّرطانية ولغيرها من القروح الخبيثة. وقد يخلط أيضا في الشيافات التي يعالج بها العين إذا كان يتحدر إليها شيء من المواد، وفي الأدوية التي يداوى بها النفاخات الحادثة في العين، أو في المذاكير والعانة. وقال في الميامر «1» : التوتيا المغسولة تجفف الرطوبات السائلة إلى العين، وتمنعها من النفوذ والمرور في نفس طبقات العين. وقال الرازي «2» : جيدة لتقوية العين قاطعة للصنان، وبدل التوتيا إذا عدمت وزنه من الشاذنة «3» ، ونصف وزنه من التوبال. جالب النوم «4» قال أرسطو «5» : هو حجر شديد الحمرة، صافي اللون، يرى بالنهار كأنه يخرج منه شبه البخار، وبالليل يسطع ضوؤه حتى يضيء به كل ما حوله؛ فلو علّق منه على إنسان ولو قدر درهمين أورثه نوما ثقيلا، وإن جعل تحت رأس نائم لا يستيقظ حتى يحول رأسه. وإن طليت به موضع الحمرة أبراها بإذن الله تعالى.

جبسين

جبسين «1» هو الجصّ، يخلط في الأدوية اليابسة التي تنفع من انفجار الدم، لأنه إن استعمل وحده صار عندما يجمد صلبا حجريا، فيخلط معه بياض البيض الرقيق الذي يستعمل في مداواة العين، ويخلط معه أيضا غبار الرّحا المجتمع من دقيق الحنطة على حيطان بيوت الرحا. وينبغي أن يوجد الضماد المتخذ على هذه الصفة في وبر الأرنب البري، أو في شيء آخر ليّن على ذلك المثال. وإذا أحرق الجبسين كان في اللطافة والتجفيف أكثر منه إذا لم يحرق، ويكون أيضا مائعا (101) دافعا، ولا سيما إذا عجن بالخل. والجبسين له قوة قابضة مغرية، يقطع نزف الدم، ويمنع العرق. وإذا شرب قتل بالخنق، وإذا عجن بالخل وطلي على الرأس حبس الرعاف، وتطلى به الجبهة أو يغلّف به الرأس فيحبس الرعاف، لا سيما مع الطين الأرمني والعدس والهوقسطيداس بماء الآس وقليل خل، وتخلط ببياض البيض لئلّا يتحجر، ويوضع على الرمد الدموي. وإذا شرب الجبسين تحجّر في البطن، وعرض منه خناق. وكذلك ينبغي أن يستعمل في علاج من شربه ما يستعمل في علاج من شرب الفطر «2» ، ويعرض لشاربه يبس شديد في الفم وخناق وجحوظ العينين مع نسيان، فإن لم يتدارك العلاج هلك.

جزع

جزع «1» قال أرسطو: الجزع أنواع كثيرة، وهو حجر يؤتى به من الصين أو اليمن، واليمني أحسن. وهو حجر ذو ألوان كثيرة، سواد وبياض؛ وأهل الصين يكرهون أن يقربوا معدنه، وإنما استخرجه من معدنه قوم مارتون «2» لا معاش لهم غير ذلك، ويبيعونه في غير بلاد الصين. وأما أهل اليمن فإن ملوكهم لا يرون أخذ شيء منه ولا يدخل خزائنهم، ولا يتختمون به ولا يتقلدونه، فمن فعل كثرت همومه وغمومه، ويرى أحلاما مخوفة رديئة، ويعسر عليه قضاء حوائجه ولا يفلح لابسه في الأمور كلها، وإن علق على صبي كثر سيلان لعابه وكثر بكاؤه وفزعه، ومن سحق منه شيئا وشربه قلّ نومه وكثر فزعه وساء خلقه وثقل لسانه. وإن سحق وجلي به الياقوت حسّنه وصيره مشرقا منيرا. وقال غيره: إذا أدمن النظر إليه أورث الهم وضيق الصدر. وإذا وضع بين قوم ولا علم لهم به وقعت بينهم عداوة شديدة، ويبقى ما دام ذلك الفص بينهم وإن علّق على المرأة سهلت ولادتها، وإن وضع بقربها خفف وجعها بإذن الله تعالى.

جمست

جمست «1» قال الكندي (102) في كتاب الأحجار «2» : أما الجمست فهو حجر بنفسجي، وصبغه مركب من حمرة وردية «3» وسماوية. وهو حجر كانت العرب تستحسنه وتزين به آلاتها. ومعدنه من القرية التي يقال لها الصفراء «4» على مسيرة ثلاثة أيام من مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، أعظم ما يخرج منه قدر الرطل أو ما قرب من ذلك فيما أخبر به من يعالجه، وأما نحن فلم نر منه شيئا عظيما؛ وعلاجه في قطعه وجلائه علاج الزّمرد «5» . زعموا أن من شرب من إناء منه لم يسكن بعد أن يكون الإناء كبيرا، ولابسه يأمن من النّقرس، ومن وضعه تحت وسادته أمن من الأحلام السيئة بإذن الله تعالى.

جوزجندم

جوزجندم «1» كلمة فارسية، ويقال جوزكندم، ويقال له شحم الأرض، ويعرف بالرّقّة «2» بخرء «3» الحمام، وهو تربة العسل عند أهل شرق الأندلس «4» . قال إسحاق بن عمران: هي تربة متحببة كالحمّص، بيضاء إلى الصّفرة، وهي التي يبتل بها العسل، ويقال لها التّربة. قال ابن جلجل: ويربو بها العسل حتى تصير الأوقية منه إذا ربب رطلا، وتغثي [وتقيئ] «5» إذا شربت وحدها. وقال الرازي: حار رطب، يزيد في المني، ويسمن، ويمنع الطين أكلا. وقال علي بن ربن «6» : يهيج الباه. وفي كتاب الطلسمات: هذه التربة تسمى بالرقة خرء الحمام وببغداد جوزجندم. إذا طرح منها ربع كيلجة في عشرة أرطال عسل، وثلثين رطل ماء حار، وضرب ناعما، وغطى رأس الإناء أدرك شرابا من ساعته. وقال بولس «7» : له قوة مطفئة.

حجر

وقال ابن سينا: فيه قوة منقية، وذلك أنه يبرئ من القوباء، ويطفئ الحرارة ويقطع الدم والنزف. حجر «1» قال بليناس: إذا كان الجمل كثير الرغاء، وشد في ذنبه حجر، فإنه لا يرغو البتة. وقال صاحب الفلاحة: الحجر الذي لقبه خلفه إذا علقته على شجرة يكثر ثمرتها ولا يصيب ثمارها آفة ولا شيء من الآفات. حجر أبيض «2» قال أرسطو: إذا كان الحجر أبيض، فحكّيته «3» (103) فخرج محكّه أصفر، فمن استصحبه فإذا تكلم بشيء صادقا أو كاذبا قبل، وإن خرج محكه أحمر فكل شيء يفعله أو يقوله يقع سريعا، وإن خرج أغبر، على لون الأرض، فكل من استعان به في شيء من علمه يقع له ويصح، وما قال يسمع منه، وإن خرج محكه إسمانجونيا فلا يزال من استصحبه طيب النفس، وإن خرج محكه أخضر فإن علق على بستان أسرع خروج غرسه وتعظم أشجاره سريعا، وإن خرج أسود أبرأ من السم القاتل ومن لسع الحية والعقرب، إذا سقي من حكة أو من علق عليه.

حجر الباه

حجر الباه قال أرسطو «1» : إن الإسكندر أصاب بأفريقية معدن هذا الحجر، وخاصيته أنه إذا أدني من الإنسان أو الحيوان اشتهى الجماع فمنع الناس من حمله إلى معسكره مخافة افتضاح النساء؛ وكسر بعض هذه الأحجار فوجد في جوفه عقربا وصورتها في جانبي الحجر، فمن أمسك من هذا الحجر تحت لسانه أمن العطش. وبأرض مصر حجر من شدّه على ظهره ثارت به شهوة الوقاع وقويت، ولا تزال تقوى حتى ينحيه. حجر النحر قال أرسطو «2» : هذا الحجر يوجد على سواحل البحر، يتولد من لطيف أجزاء الأرض وبخار البحر. وهو حجر أسود، حسن «3» المجس، مثل الرحا إلا أنه خفيف، لا يغوص في الماء. وخاصيته أنه إذا استصحبه إنسان وركب البحر أمن من الغرق، وإذا ألقي في القدر وأوقد تحتها لا يسخن البتة. حجر البحيرة قال جالينوس في التاسعة «4» : هي حجارة سود دقاق، إن وضعت على النار تولد منها لهب يسير. توجد في بلاد الغور، وذلك التل المحيط بالبحيرة من شرقها حيث يكون قفر اليهود. استعملته أنا في مداواة الأمراض التي تتولد عن الريح في الركبتين، وإذا كان برؤهما يعسر، بأن يخلط مع المراهم، قد جربتها في ذلك فنفعت، حتى قد وقعت منه بذلك؛ وخلطته أيضا في المراهم المسماة

حجر البرام

بارياس (104) فصارت أشد تجفيفا ونفعا وبرءا تاما والله أعلم. حجر البرام «1» إذا سحق واستن به كان نافعا للأسنان مبيضا لها. حجر البسر قال أبو العباس الحافظ: يقال بالباء المضموم والسين والراء؛ اسم لحجر أبيض على شكل ما عظم من الدر الكبير، وينفع من الحصى، يوجد في بحر الحجاز. وزعم قومه أنه يدر البول إذا علّق على موضع المثانة من خارج، ويقوي القلب. ومنه ما يكون إلى الزرقة، ويوجد ببحر جدة، متكونا في صدفة كبيرة مستديرة على شكل الصدف المعروف بالحافز إلا أنه أكثف منه بكثير. حجر البقر «2» ويقال له بالديار المصرية خرزة البقر، وأهل المغرب والأندلس يسمونها بالورس، وهو على الحقيقة غيرها «3» . قال ابن البيطار: قال بعض علماء هذا الحجر: يوجد في مرارة البقر عند امتلاء القمر، وهو حجر ذو طبقات، مدور صلب، لونه مائل إلى الصّفرة، وكثيرا ما يستعمله النساء بالديار المصرية للسّمنة، بأن تشرب المرأة منه وزن حبتين في الحمّام، أو عند خروجها من الحمّام، بجلّاب «4» ، ثم تتحسّى في إثره مرق

حجر أحمر

دجاجة سمينة مصلوقة «1» ، وهذا مجرب عندهم في أمر السّمنة. وقال غيره: هو شيء يتكون في مرارة البقر رطوبة لدنة تجمد وتخرج من المرارة، وهي لزجة لدنة في لدونة «2» مخ البيض المطبوخ، ثم تجف وتصلب حين تصير في قوام النّورة المكلسة تتهيأ عندما تفرك بالأصابع؛ وقد يكون من هذه الرطوبة ما إذا جف كان فيه بعض صلابة، تشبه بذلك بعض الحجارة السريعة التفتت، ولهذا سماه المترجمون بحجر البقر. وقال الغافقي: وزعم بعض الأطباء أنه حار يابس في الدرجة الرابعة، وقد نفع في أكحال العين، فيحد البصر. وزعم بعضهم: أنه إذا سحق وطلي به بماء بعض البقول على الحمرة والنّملة يقع، وأظنه النملة الساعية «3» وشبهها من القروح، وإذا سقط منه مقدار (105) عدسة مع ماء أصول السلق، نفع من نزول الماء في العين. وزعم بعضهم: أنه إذا سحق وعجن بشراب وطلي به موضع البياض خرج الشعر أسود، وقال بعضهم: إنما يكون ذلك في علّة داء الثعلب والبرص، وأما في الشعر الأبيض فلا. حجر أحمر «4» قال أرسطو: إذا كان الحجر أحمر فحكّيته «5» فخرج محكه أبيض فمن استصحبه نجح في كل شيء يعمله. وإذا كان أسود فكلما أحدثته به نفسه قدر

حجر الحبارى

عليه. وإن كان أصفر فمن ربطه على عضده أحبه كل من نظر إليه، وإن كان أغبر، فكلما دخل في عمل نجح فيه. وإن كان أخضر منع وصول السلاح إلى حامله. حجر الحبارى «1» هو حجر يوجد في حوصلة الحبارى، يشد على إنسان فلا يحتلم ما دام عليه، وإن كان به إسهال ينقطع. حجر الحبش «2» يجلب من بلاد الحبشة، يضرب إلى الصفرة، حكاكته لاذعة للسان، ينقي غشاوة العين، وينفع آثار القروح. حجر الحصاة «3» قال أرسطو: هو حجر فيه رخاوة يخرج بأرض المغرب، ترمي به الأمواج إلى الساحل، فيوجد كأنه الفلك التي تغزل بها النساء. إذا شرب من هذا الحجر وزن عشر حبّات فتت حصى المثانة بإذن الله تعالى. حجر الحمّام قال الغافقي «4» : الحجر المتولد في قدور الحمامات، إذا عمل منه ضماد، وجعل على السرطان عند ابتدائه أذهبه، وهو أقوى ما يعالج به السرطان المتولد في الرحم.

حجر الحوت

حجر الحوت قال الغافقي «1» : هو حجر يوجد في رأس حوت، يقوم مقام دماغه. وهو أبيض، صلب، يشرب فيفتت الحصى المتولد في الكليتين. وفعله على ما ذكرت الأوائل في ذلك قوي جدا. حجر الحيّة يقال له بالفارسية مهرمار» . في حجم بندقة صغيرة، توجد على رأس بعض الحيات. وخاصيته أن العضو الملدوغ يوضع في اللبن الحليب، أو الماء الحار، ويلقى هذا الحجر فيه فإنه يلتصق بموضع (106) اللدغ ويستخرج منه السم. وقال الشيخ الرئيس «3» : إنه ينفع من نهش الحيات تعليقا على المنهوش. وقال ديسقوريدوس في الخامسة «4» : هو فيما زعم بعض الناس صنف من الحجارة الذي يقال له تاسفس «5» ، أي الزّبرجد. ومنه ما هو صلب أسود اللون، ومنه مثل الحجر القمري، ومنه شيء رمادي اللون فقط، ومنه ما في كل واحد منه ثلاثة «6» خطوط بيض؛ وكل هذه الأصناف إذا علقت على البدن نفعت من نهشة الأفعى والصداع، وأما الذي فيه الخطوط فإنه يقال إنه ينفع من المرض الذي

حجر أخضر

يقال له ليترغش «1» ومن الصداع. قال جالينوس «2» : أخبرني رجل صدوق موثوق به أنه ينفع من نهش الأفاعي إذا علق. حجر أخضر «3» قال أرسطو «4» : إذا كان الحجر أخضر فخرج محكّه أبيض، فمن أمسكه معه، وغرس شجرة، أو زرع زرعا، ودفن هذه الحجر معه في خرقة أو قطنة نبت أحسن النبات. وإن خرج أسود فمن أمسكه معه حصل له خير كثير، وإن خرج أصفر فكل دواء يعطيه إنسانا يوافقه. وإن خرج أحمر أكرمه كل من رآه، وبذل له ما يريد من ماله، وإن خرج أغبر فإنه لا يعالج مريضا إلا ويبرأ. حجر الخطّاف «5» حجران يوجدان في عشّه «6» ، أحدهما أحمر، والآخر أبيض؛ فإن علّق الأحمر على من يفزع في نومه يدفع ذلك عنه، وإن علق الأبيض على من به صرع يزول صرعه.

حجر أرمني

حجر أرمني «1» فيه أدنى لازوردية (ورملية) «2» ، وربما يستعمله النقّاشون بدل اللازورد، وهو ليّن المس، يسهل السوداء إسهالا قويا. ومن خواصه مغسوله لا يغثي «3» وغير المغسول منه يغثي. قال ابن البيطار: ويسهل السوداء إسهالا أقوى من اللازورد، وقد اقتصر عليه، وترك الخربق «4» الأسود لما ظفر به لأمراض السوداء، وهو يقوي القلب من الخلط الأسود. حجر الرّحاء «5» قال ابن سينا «6» : بخار الخل منه يمنع النزف ويمنع الأورام الحارة. وقال في كتاب العجائب «7» : يشد (107) على المرأة من الأسفل «8» فلا

حجر إسفنج

يسقط جنينها وينحى عنها [الطلق] عند الوضع [لكيلا] «1» تعسر ولادتها. وإذا رش عليه الخل بعد أن يحمى ويجلس [عليه] قطع [البواسير و] رمي الدم ويحلل الأورام الحارة. حجر إسفنج قال الشيخ الرئيس «2» : الإسفنج جسم رخو بحري متخلخل كاللبد، ويقال إنه حيوان يتحرك في الماء، ويتشبث بما يلصق به «3» . يوجد فيه حجر خاصيته تفتيت الحصى من المثانة. وهو حجر عزيز جدا. وقال ابن البيطار «4» : الحجر الموجود «5» في الإسفنج إذا شربت بالخمر فتت الحصى المتولد في المثانة، وقيل «6» : إنها لا تبلغ ذلك بل تفتت الحصى المتولد في الكليتين. حجر آسمانجوني «7» قال أرسطو «8» : إذا كان الحجر آسمانجونيا، [فحككته] فخرج محكه أبيض، فمن حمله صار مزّاحا، وطاب خلقه، وشفاه من الجرب. وإن خرج محكه أسود فمن حمله لم ينجح له عمل. وإن خرج أصفر فهو صالح لكل عمل، وإن طرح

حجر أسود

في بئر أو نهر قل ماؤها، وربما انقطع. وإن خرج أحمر رأى حامله كل خير. وإن خرج أخضر واستصحبه أحد فلا يزرع زرعا إلا وينبت أحسن نبات. وإن خرج أصفر نجح كل عمل يعمله بإذن الله تعالى. حجر أسود قال أرسطو «1» : إذا كان الحجر أسود فحكّيته «2» فخرج محكّه أبيض نفع من سم الحية والعقرب، وإذا شرب الملدوغ محكه وعلق عليه الحجر. وإن خرج أصفر فمن حمله لم يعي كثيرا، والذي هو في منزله يصح أهله من الأدواء والأمراض، وإن خرج أسود فمن صحبه قضيت حوائجه وزاد عقله، وإن خرج أخضر لم تلسع الهوام حامله بإذن الله. حجر السامور «3» حجر يقطع الأحجار كلها! ذكر أن سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام لما أراد بناء بيت المقدس أمر الشياطين بقلع الأحجار، فشكا الناس من صوت قطع الأحجار، فجمع سليمان علماء بني إسرائيل وعفاريت الجن، وقال: هل تعلمون شيئا يقطع الأحجار بلا صوت؟ قالوا: يا نبي الله! ما لنا بذلك من علم غير أن ماردا لم يدخل في طاعتك يقال له صخر ربما يكون عنده علم. فأمر سليمان بإحضاره في قصة طويلة (108) ، فقال: يا نبي الله! أعلم حجرا له هذه الخاصية، ولكن لا أعرف مكانه، وعندي حيلة في تحصيله، عليّ بعش العقاب

حجر السلوان

وبيضها، فجاء بها العفاريت سريعا، فدعا بجام «1» من قوارير شديد الصفاء، غليظه؛ وجعل وكر العقاب فيه، وتركه في مكانه، فعادت العقاب إلى وكرها فوجدته مغطى، فضربته بمخلبها فلم يعمل فيه شيئا، فطارت وعادت إليه من الغد وفي منقارها حجر، فألقته على الجام فانشق نصفين من غير صوت، فدعا سليمان العقاب، وقال: أخبرني عن الموضع الذي حملت منه هذا الحجر. فقال: يا نبي الله، من جبل بالمغرب يسمى السامور، فبعث سليمان الجن فحملوا إليه مقدار كفايته، فكان بعد ذلك يقطع الأحجار ولا يسمع لها صوت. حجر السلوان» يشرب للسلو، مجرب. ولأمراض كثيرة، ومنه نوع قاتل. حجر السّم «3» حجر كالجزع، لكنه ليس بجزع. يوجد بخزائن الملوك. خاصيته: أنه يتحرك عند حضور السم. حكى الوزير نظام الملك الحسن بن علي «4» - قدس الله روحه- في كتابه سير الملوك: أن سليمان بن عبد الملك قال ذات يوم: مملكتي ليست تقصر عن مملكة سليمان بن داود عليهما السلام، إلّا أن الله سخّر له الجن والريح والطير؛ وليس لأحد من الملوك على وجه الأرض مثل مالي من الأموال والعدة. فقال بعض الحاضرين: أهم شيء يحتاج [إليه] الملوك ليس عندك يا أمير المؤمنين.

فقال: وما هو؟ قال: وزير يكون وزيرا ابن وزير كما أنك خليفة بن خليفة بن خليفة. فقال: هل تعرف وزيرا هذه صفته؟ فقال: نعم جعفر بن برمك، فإنه ورث الوزارة أبا عن جد إلى زمن أزدشير، ولهم كتب مصنفة في الوزارة يعلمونها لهم، لا يصلح لوزارتك غيره. فكتب سليمان إلى والي بلخ وأمره بإرسال جعفر إلى دمشق بالإعزاز والتجمّل، وإن احتاج إلى مائة ألف دينار. فلما وصل إلى دمشق، ودخل على سليمان وقبّل الأرض، رأى سليمان صورته فاستحسنها، (109) وتحرك له، وأمره بالجلوس بين يديه؛ فما كان إلا يسيرا حتى عبس سليمان وجهه، وقال: لا حول ولا قوة إلا بالله! قم من عندي، فأقامه الحاجب، وخرج به من عنده. ولم يعرف أحد سبب ذلك، حتى خلا سليمان بندمائه، فقال بعضهم: يا أمير المؤمنين! طلبت جعفر من خراسان بإعزاز فلما حضر أبعدته! قال: لولا أنه جاء من أرض بعيدة لضربت عنقه، لأنه حضر بين يدي ومعه السم القاتل. قال ذاك القائل: أتأذن لي يا أمير المؤمنين أن أكشف هذا؟ فأذن له، فذهب إلى جعفر، وقال: إنك لما حضرت عند أمير المؤمنين كان معك شيء من السم؟ قال: نعم! وهو معي الآن تحت فص خاتمي هذا، لأن آبائي احتملوا من الملوك مشاقّ كثيرة لما طلبوا منهم الأموال وعذبوهم بأنواع العذاب، فإني خشيت أن أكلف شيئا مما كلفوا أولئك ولا يكون لي به طاقة، فعند ذلك أمص خاتمي هذا واستريح من إهانتهم وعذابهم.

فرجع النديم إلى سليمان وأخبره بما سمع من جعفر، فتعجب سليمان من حزمه وفطنته ونظره في العواقب، فأمر بإحضاره مرة أخرى بطريق الإجلال، وأقعده إلى جنبه، وخلع عليه خلعة الوزارة، ووضع الدواة بين يديه، حتى وقع بحضور سليمان عدة توقيعات. فلما أتى على ذلك مدة وانبسط جعفر في خدمة سليمان سأله في بعض الأيام، وقال: كيف عرف أمير المؤمنين السم مع العبد؟ فقال له: معي خرزتان شبيهتان بالجزع لا أفارقهما أبدا، من خاصيتهما أنهما يتحركان من السم إذا حضرتا في مكان فيه سم، فلما دخلت عليّ تحركتا، وحين قعدت بين يديّ اضطربتا، فكانت تقع إحداهما على الأخرى، فلما قمت من عندي سكنتا. ثم أخرجهما وعرضهما على جعفر، وكانتا خرزتين كالجزع. قلت «1» : أما هذا جعفر بن برمك فمنكور عندي، وإنما جعفر هو ابن يحيى ابن خالد بن برمك، ولم يكن تلك الأيام أبوه موجودا فضلا (110) عنه. والمشهور أن خالد بن برمك هو الذي خدم بني أمية. وأما هذا الحجر فلا نعرفه في زماننا، وإنما المشهور أن قرنا يعرف بالخرتون «2» هو الذي يتحرك للسموم. وحكى لي والدي: أنه رأى في يد إسماعيل بن العلم ناظر الصاغة نصاب سكين منه. وحكى: أنه كان نصاب سكين عند الصاحب تاج الدين بن حنا.

حجر بارقي

وقلت مرة لفرج الله بن صغير الطبيب: ما هو حجر السم؟ فقال هو البادزهر الحيواني لأنه يخلص من السم بإذن الله. حجر بارقي «1» وجد في ذخائر المصريين، وله خواص عجيبة، [ومن خواصه] إن وضع على من به استسقاء يمصّ الماء من بطنه حتى يبرأ بإذن الله تعالى. حجر بولس «2» يغلى بزيت، ويدهن بالزيت بدن التّعب «3» فيذهب الإعياء بإذن الله. حجر الأثداء «4» يقبض ويجفف ويجلو ظلمة البصر، وإذا خلط بالماء ولطخ به الثدي والحصى والقروح سكّن الأورام العارضة لها، وينقي الحدقة، ويشفي الأورام الحارة في الثديين والأنثيين إذا ذيف بالماء. حجر الدجاج «5» يوجد في قانصة الدجاج، وهو حجر أسمانجوني، إذا شد على المصروع يزول عنه الصرع، ويزيد في قوة الباه إذا علق على الإنسان، وينفع من العين السوء، ويترك تحت رأس الإنسان أو الصبي فلا يفزع في نومه.

حجر الديك

حجر الديك «1» يوجد في بطون الدّيكة، قدر الباقلاء أو أصغر، ينفع من العطش الشديد إذا غسل بالماء، ويدفع أحزان النفس وهمومها. حجر أصفر قال أرسطو «2» : إذا كان الحجر أصفر فحكّيته «3» فخرج أبيض، أو سحق فخرجت سحاقه بيضا، فإن سحق على اسم إنسان واكتحل به أحبّه ذلك الإنسان وأشفق عليه، وكل شيء يطلبه من الناس يحصل له، وإن كان محكه أخضر فأي شيء وضع عليه من الأعمال نفعه، وإن كان أحمر لقّن جوابه عن كل شيء يسأل عنه، وإن خرج أسود فمن أخذه وذكر اسم من يريده يتبعه ولا ينقطع ما دام الحجر معه. حجر أغبر قال أرسطو «4» : إذا كان الحجر أغبر (111) فخرج محكّه أبيض، واكتحل به على اسم إنسان أحبه، وإن كان أسود، أكرمه الناس. وإذا اكتحل به النساء أحبهن أزواجهن ولم يعصوا لهن أمرا. وإن خرج أصفر أثنى على حامله كل من يراه، وإن خرج أحمر فحيثما ذهب بسط عليه الرزق والمعاش، وإن خرج فإذا جلس إلى قوم أكرموه، وإن خرج أسمانجونيا فإنه يعد حكيما حامله وإن لم يكن كذلك.

حجر حبشي

حجر حبشي «1» [صنف من الزّبرجد] «2» إذا حكّ صار لونه شبيها بلون اللبن، يلذع اللسان لذعا شديدا. وله قوة منقّية، وقد يجلو ظلمة البصر، ويستعمل في المواضع المحتاجة إلى الجلاء والتنقية، وإذا كان في العين انتشار الحدقة فيظلم لها البصر من غير أن يكون هناك ورم حار، والأثر القريب العهد- أعني البياض الحادث قريبا- فهذا الحجر شأنه أن يلطّف كل شيء ويرققه. وهو يجلو ويذهب الظفرة الحادثة إذا لم تكن صلبة. حجر خزفي «3» يستعمل مكان القيشور «4» في قلع الشعر، وإذا حكّ منه مقدار درهمين وشرب بالخمر قطع الطّمث، وإن شربت المرأة منه مقدار درهمين بعد التطهر من العلّة في كل يوم أربع «5» مرات لم تعلق. وإذا خلط بالعسل ووضع على الأثداء الوارمة، وعلى القروح الخبيثة، سكّن ورم الشدي، ومنع القروح الخبيثة من الانتشار. حجر الشياطين «6» قال أرسطو: إنه حجر أحمر اللون، أملس، لونه لون الياقوت، وكسره كسر الياقوت، وليس له شفاف. إذا غمسته في الماء اصفرّ مثل الزرنيخ، وإذا كلس

حجر الصرف

ثلاث مرات احمرّ وصار مثل الزّنجفر «1» . وإن ألقي جزء منه على أربعة «2» أجزاء من فضة صبغها ذهبا «3» أحمر بإذن الله تعالى. حجر الصرف من أرض كرمان، ويسمى أيضا حجر الحمار، يسقى من أضرّ به النبيذ أو أصابه صداع الحمار يستريح في الحال، وربما يحل ويكتب كما يكتب الزنجفر. ولونه أحمر مائل إلى السواد. حجر الصنوبر «4» قال أرسطو «5» : حجر (112) الصنوبر صالح لدفع اليرقان، يؤخذ بالحيلة من عش الخطاف. وقال غيره: الحيلة في ذلك أن تؤخذ فراخ الخطاف وتطلى بالزعفران، وتترك مكانها، فإذا عادت أمها ترى عليها الصفرة، فتحسب أن به اليرقان، فتأتي بهذا الحجر، وتدلك به الفرخ، وتتركه في العش. حجر عاجي قال الشيخ الرئيس «6» : يمنع نزف الدم من الجراحات والقروح.

حجر غاغاطيس

حجر غاغاطيس «1» ينسب إلى واد في الشام يسمى الآن وادي جهنم «2» . إذا وضع على النار فاحت منه رائحة القرن المحرق. المختار منه ما كان سريع الالتهاب، ورائحته تشبه رائحة القفر إذا بخّر به صرع من به صرع، وأنعش المرأة من الغثى العارض لها من وجع الأرحام. وإذا دخن [به] طرد الهوام، ونفع من أخلاط أدوية النقرس «3» . حجر عراقي «4» خاصيته النفع من البياض في القرنيّة، بأن يحد على مسن أخضر بلبن امرأة ترضع ولدا بكر أبويه، وينقي من وجع الكلى، ويبرئ من النسمة، ويسهل النفس (العسر) «5» . حجر عسلي قال الشيخ الرئيس «6» : إنه حجر حكاكته مفرطة الحلاوة. وهو في قوة الشادنج «7» ، والشادنج يذر على اللحم يضمره، ويدمل قروح العين، خصوصا

حجر العقاب

ببياض البيض، ويحفظ صحة العين، ويمنع الدم المنبعث في القروح. قال ابن البيطار «1» : وهو شبيه في جميع حالاته بالحجر اللبني. حجر العقاب «2» حجر يشبه نوى التمر هندي «3» ، إذا حرّك يسمع منه صوت، وإذا كسر لا يرى فيه شيء. يوجد في عش العقاب «4» ، (والعقاب) «5» يجلبه من أرض الهند. وإذا قصد الإنسان عشه يأخذ هذا الحجر ويرميه إليه ليأخذه، ويرجع كأنه عرف أن قصدهم إياه لهذا الحجر. وإذا علّق هذه الحجارة على من عسرت ولادتها وضعت. ومن جعله تحت لسانه يغلب الخصم في المقاولة، ويقضي حوائجه. وربما يوجد هذا الحجر في عشّ النسر أيضا. حجر فرامي «6» منف «7» لجميع الحيوان المساب. وينفع من وجع الرحم، ويعلق على المصروعين (113) فينفعهم، وإذا رش عليه الماء التهب، وإذا صبّ عليه من الزيت انطفأ، ولا نفع له في الطب، خلا أنه نتن الرائحة يطرد الهوام إذا بخّر به.

حجر الفأر

حجر الفأر «1» يوجد بأرض المغرب يشبه الفأر، يتركه الناس في بيوتهم يجتمع عليه الفأر بحيث يسهل أخذها، والناس هناك يدفعون الفأر بهذا الحجر، لأن تلك الأرض خالية من السنانير. حجر قبطي «2» هو بمصر، يستعمله القصّارون في تبييض الثياب. وهو رخو ينماع سريعا مع الماء. ويوافق نفث الدم، والإسهال المزمن، ووجع المثانة إذا شرب بالماء، وإذا احتملته المرأة نفع من الطمث الدائم، ونفع في أدوية العين المغرية لأنه يملأ القروح ويقطع السيلان منها. وإذا خلط بقيروطي نفع من انتشار القروح الخبيثة، ويدمل الجراحات الحادثة في الأبدان الرخصة اللحم. حجر القمر ويقال أيضا «3» : بزاق القمر «4» . وهو حجر خفيف، خاصيته أن يشفي من الصرع إذا علق على المصروع، وإذا علق على الشجر. وقال غيره: إنه حجر عسلي اللون، شفّاف، في وسطه من داخله بياض يزداد بزيادة القمر وينقص بنقصانه، ويخفى عن المحاق.

حجر القير

وعند الهند حجر إذا خسف القمر يقطر منه ماء، يقال حجر القمر. وقال ابن البيطار «1» : قد يحك ويسقى ما يحك منه من به صرع، وقد يلبسه النساء في التعويذ ويقال إنه إذا علق على الشجر ولد فيها الثمر. حجر القير قال أرسطو «2» : هذا الحجر بأرض المغرب بقرب المدينة «3» التي بناها الإسكندر. وهو أسود في لون القير، إذا لمسه لامس أصابه خشونة، وإذا ألقي جزء منه على ألف جزء من القير غلى كما يغلي على النار، وإذا ألقي في عين [الماء] «4» الجاري المسرع [في جريانه] حاد عنه الماء. حجر القيء «5» هذا الحجر يوجد بأرض مصر. إذا أخذ الإنسان بيده غلبه الغشى وتقيأ جميع ما في بطنه بحيث «6» لو لم يلقه لخيف عليه التلف. حجر الكرك «7» يقذف به بحر الهند، ونساء (113) الهند ورجالهم يتختّمون به، ونساؤهم يتسورون به. ويزعم أهل السند والهند أن خاصة هذا الحجر دفع السحر وإبطاله

حجر الكلب

ودفع العين ونظر العدو. وإذا سحق واكتحل به جلا بياض العين حديثه وقديمه ومحا آثار القرحات وقلعها وأزالها. ويقول [أهل] الهند: إن من تختم بفص منه قلّ الكذب عليه، وأحبه كل من يراه. وفعله إذا اكتحل به محمود حسن، وملوك الهند والسند يتخذون منه أواني وأقداحا يستعملونها في مجالسهم، ويشربون بها ويزعمون أنه يدفع الشر «1» والصخب من مجالسهم، وأنه يزيد في أفراحهم، ويجلب لهم السرور. وإذا سحق واستيك به بيّض الأسنان ونقّاها من القلح والحفر والأعراض العارضة للأسنان. والهند والسند يعلقونه في شعورهم وشعور نسائهم، ويزعمون أنه يطيل الشعر، ويخرطون منها خرزا يلبسونها فيأتي في كبار اللؤلؤ البراق الكثير الماء، ويكتسب الرجال بلبس هذا الحجر الحظوة عند نسائهم. وقال أرسطو: هو حجر أبيض إذا خرج من الحرص «2» يشبه العاج، يؤتى به من ساحل السند؛ ينفع لحكة العين اكتحالا، وأهل السند والهند يتختمون به لدفع العين والسحر والشياطين. وكانت الفلاسفة تضعه عندهم كيلا تقربهم الأرواح المؤذية «3» . حجر الكلب «4» يوجد في الكلاب صنف إذا رمي بالأحجار وثب إليها وعضّها وأمسكها في فيه. وللسّحرة في هذا الحجر سر عجيب في التباغض، وهو أن يأخذ حجارة

حجر لبني

سبعة باسم من يريد تباغضهما، ويقصد بهما إلى الكلب، فيرمي بها واحدا واحدا، ويؤخذ من تلك الأحجار اثنان وترمى في الماء الذي يشربون منه، فإنه يقضي عجبا في التباغض. وإذا طرح في برج حمام طرد منه ما اجتمع فيه منها؛ وإن طرح في شراب وقع الشر بين كل من يشرب منه وعربدوا. حجر لبني «1» إذا حك خرج منه شبيه باللبن، وإذا اكتحل به وافق سيلان الفضول إلى العين. والقروح العارضة فيها، (115) وإذا احتيج إلى استعماله سحق بالماء وتصير عصارته في حق من رصاص وترفع لما فيها من التدبق «2» . حجر المثانة «3» هو الحجر الذي يتولد في مثانة الإنسان، إذا اكتحل به مسحوقا فإنه يزيل بياض العين. حجر مشقّق «4» أجوده ما كان سريع التفتت والتشقق، قوته شبيهة بقوة الشادنج، إلا أنها أضعف منها. ويذاف بلبن امرأة فيملأ القروح العميقة في العين، ويعمل عملا قويا إذا عولج به انخراق «5» العين ونتوئها، والخشونة العارضة في الجفون.

حجر المطر

حجر المطر «1» يجلب من بلاد الترك، وهو أصناف بألوان مختلفة. إذا وضع شيء منه على الماء تغيم الجو وتمطر مطرا خفيفا، وربما يقع الثلج أو البرد. ولقد حكى من شاهد هذا أنه كان في مجلس عماد الدين الساوي الوزير، وجرى ذكر هذا الحجر، فأنكر ذلك بعض الحاضرين، فقال الوزير اطلبوا فلانا، فحضر رجل تركي، فقال له بلغة الترك: اعمل لنا يب «2» ! فدعا بطاس وجعل فيها ماء وألقى فيها حجرا، فما كان إلا يسيرا حتى رأينا غيما مقطعا ونزل منه المطر. حجر النار هو حجر الزّناد. وهو أنواع، متى» علّق على فخذ المرأة عند الولادة مشدودا في خرقة سهلت ولادتها بإذن الله، وينزع بعد الولادة مسرعا. وإذا سحق، وصيّر غبارا، وذرّ منه في الخنازير، جففها وأنقاها وألحم أجزاءها «4» . وكذلك يفعل إذا ذرّ على القروح «5» العسرة الاندمال [في] أي مكان كانت. حجر الناقة «6» يوجد هذا الحجر في الموضع الذي تتمرغ فيه الناقة، فإن ترك هذا الحجر على

حجر الإنسان

خوان فكل من أكل عليه لم يجد طعم المأكول ما دام ذلك الحجر على الخوان، وإن علق على العاشق الهائم فإنه يسلو في الحال ويزول عنه الهيجان والمقة «1» . حجر الإنسان قال أرسطو: إذا سحق هذا الحجر مع الكحل فإنه يقطع البياض من العين إذا اكتحل به. حجر هندي (116) قال أرسطو «2» : هو حجر متخلخل الجسم مثقب كله، منه أبيض وأصفر خفيف الجسم إذا وضع على بطن المستسقي، فإنه ينزع منه الأصفر ويشفيه. وإذا وزن ذلك الحجر يوجد فيه ذلك الماء وإن سحق وطلي به الموضع الذي لا ينبت عليه الشعر [أنبت] نباتا حسنا بإذن الله تعالى. حجر يهودي «3» قال الشيخ الرئيس: هو حجر كالجوز الصغير، على طول يسير، تقطعه خطوط تأتي من طرفه، وخطوط أخرى معارضة له متوازية، فتتقاطع. وربما يكون مدورا ومفرطحا، زيتوني الشكل، ينفع من حصى الكلى والمثانة شربا. وينفع من عسر البول وضعف المعدة وسقوط الشهوة.

حجر يتولد في الماء الراكد

وقال غيره: يوجد على طرف بحر مرباط حجر يتحرك جميع الأيام غير يوم السبت، فلذلك سمي حجر اليهود. ومن خاصته أنه يلقى في الماء ويشرب فإنه يفتت حصى المثانة، ولو ترك عدد كثير منها في موضع زمانا، ثم يرجع إليها بعد الأربعين، فإنه يجدها قد زاد عددها. وقال بعض العلماء: هو زيتون بني إسرائيل بأرض حطين من صفد. قال ابن البيطار «1» : هو ينماع بالماء، لا طعم له، إذا أخذ منه مقدار حمصة وحك على مسن الماء كما يحك الشيافة، وشرب بثلث أونولوسات ماء حارا، نفع من عسر البول وفتت الحصى المتولد في المثانة؛ وهو ينفع الحصى المتولد في الكليتين أكثر. حجر يتولد في الماء الراكد «2» قال أرسطو: هذا الحجر يسحق ويسعط به، ينفع من الصّرع والجنون بإذن الله تعالى. حجر يقوم على الماء وضدّه قال أرسطو: هذا الحجر خفيف الجسم، يقوم على الماء، وإذا كان الليل خرج أكثر جسمه حتى لا يبقى منه في الماء إلا القليل، وإذا كان وقت طلوع الشمس أخذ في الغوص قليلا قليلا حتى لا تبلغه أثر الشمس، ثم يقف، فإذا أخذت الشمس تغيب قليلا قليلا حتى إذا غابت، استوى على وجه الماء، فمن أخذ

خبث الطين وغيره

هذا (117) الحجر وعلقه على الخيل لم تصهل. وإن علق على شيء من الحيوان لم يصح حتى ينزع منه. وكان الإسكندر إذا أراد أن يوقع بعدوه بياتا علق من هذا الحجر على خيل معسكره فلم يسمع لخيلهم صهيل حتى يوافيهم. وأما ضده، فقال أرسطو: هذا الحجر، والحجر السابق، في موضع واحد، وهذا خلاف الأول، لأنه إذا بدأت الشمس تطلع بدأ يخرج قليلا قليلا حتى يقف على وجه الماء؛ وفي أيام الغيم التي تظهر فيها الشمس مرة وتغيب أخرى، لا يزال هذا الحجر يطفو ويرسب، وخاصيته ضد الحجر الأول إذا علق على الخيل لم تسكت من الصهيل ليلا ونهارا. خبث الطين وغيره قال أرسطو: إن الطين إذا عمل منه آنية أو قوالب للبناء ثم أدخل النار فإنه يسكب شيئا مثل العسل ثم يتحجر، فليستعمل في الأصباغ. والصباغون يسودون به الثياب بعد ما ينقعونه في الخل وهو نافع لدبر الدواب إذا سحق عليها. قال ابن البيطار «1» : كل خبث يجفّف تجفيفا شديدا، وخبث الحديد أشد تجفيفا؛ وإن سحقته مع خل الخمر وطبخته صار منه دواء يجفف القيح الجاري من الأذن زمانا طويلا. وخبث الفضة يخلط في المراهم التي تجفف وتختم القروح. وخبث النحاس يغسل كما يغسل النحاس المحرّق، وقوته شبيهة بقوته إلا أنه أضعف من النحاس المحرق.

خرسواسون

وإذا شرب خبث الحديد بالسكنجبين منع مضرة الدواء القتال خانق النمر «1» . وخبث الرصاص أشد قبضا، وخبث الحديد يحلل الأورام الحارة، وينفع من خشونة الجفن، ويقوي المعدة، وينشف الفضلة، ويذهب باسترخائها إذا سقي في نبيذ عتيق، أو شرب بالطلاء. ويمنع نزف البواسير، وخصوصا إذا نقع في نبيذ. ويمنع الحبل، ويقطع نزف الحيض. وخبث الحديد يزيد في الباه، ويحلل ورم الطحال. وإذا دق وغسل عشرين مرة (118) أو أكثر، وجعل في قدر، وجعل عليه من الزيت العذب ما يعمره بثلاثة أصابع، ويطبخ حتى يذهب الثلث، ويجعل فيه أوقية من خزف مدقوق منخول، ولعق منه كل غداة، فإنه يصفي اللون، ويذهب بفضول البدن. خرسواسون «2» قال أرسطو: هذا الحجر يكون أصفر وأحمر وأخضر وأسود، وأحمده ما كان فيه هذه الألوان الأربعة، فالأصفر يوجد في معدن الذهب والفضة؛ والأحمر يكون بلون الياقوت، ولكن ليس فيه شفاف الياقوت، ويوجد في معدن الذهب وحده، والأخضر يوجد في معدن النحاس، والأسود في معدن الفضة، وأفضل هذه الأنواع ما يكون فيه ذهب وفضة ونحاس، فيكون متولدا من بخار هذه الأجساد، فإذا سحق منه سبع شعيرات، وسقي بمرارة ديك، أفرق، ولطخ به مواضع العظم المعوج رده إلى الاستواء. وإذا طرح عليه وزن سبع شعيرات من الزئبق المكلس، وألقي على النحاس، فإنه يبيضه ويذهب برائحته، ويصيره فضة بإذن الله.

خزف

خزف «1» قوة الخزف تجلو وتجفف، وخاصة خزف التنور، لأنه قد ناله [من السّجر] «2» يبس أكثر ولهذا صار يقع في المراهم، ويكون المرهم الذي يقع فيه دواء نافعا في ختم الجراحات وإدمالها. وإذا خلط بالخل وتلطخ [به] نفع من الحكّة والبثور، ونفع من النقرس، ويخلط بقيروطي فيحلل [الأورام الجاسية المسماة] «3» الخنازير، ويجفف من غير لذع، وينفع من القروح المترهلة، وقروح الأعضاء اليابسة المزاج، ومن انسلاخ الجلد؛ ويجلو الأسنان. خماهان «4» وهو الصندل الحديدي، وهو قسم من الحديد. وهو حجر أسود حالك، كثير الماء «5» ، شفاف، ثقيل، بارد المزاج؛ وهو صنفان: ذكر وأنثى، فالذكر يخرج محكه أصفر كلون الزرنيخ، والأنثى يخرج محكه أحمر شديد الحمرة، وخاصة محكه «6» أنه إذا طلي منه ما يخرج على الورم والحمرة بريشة، نفع وفشّ الأورام، وأطفأ الحرارة، وسكن الضربان، وكلاهما (119) إذا حكا نفع ما يخرج من محكهما لهذه العلل [الحادثة] الدموية والصفراوية، غير أن ما يخرج من محك

خصية إبليس

الأنثى أشد تبريدا أو تسكينا من محك الذكر. وقد يحك على المسن ويحجر به العينان عند الورم الكائن في الأرماد الحارة. ومحكه ينفع من وجع البطن الهائج من قبل مغس، أو من قبل شرب المسهل. وإذا لعق محكه من أضرّ به شرب النبيذ الصّرف أذهب ذلك عنه. وقيل إنه هذا هو حجر الصرف المقدم ذكره والله أعلم. خصية إبليس قال أرسطو «1» : هو حجر يوجد بأرض الصين من صحبه لا يدور اللص حوله، ولا حول متاع فيه ذلك الحجر، ويزيد حامله وقارا في أعين الناس. خوساي «2» هو خبث الحديد وقد تقدم. خوص «3» قال أرسطو: هو حجر أصفر اللون، مشرّب ببياض وخضرة، وهو خفيف لين المجس. معدنه ناحية المغرب، وخاصته أنه ينفع من لسع الهوام وجميع ذوات السموم بإذن الله تعالى. درّ قال البحر الخضم أرسطو «4» : أن البحر المسمى أوقيانوس هو البحر المحيط بالدنيا، ويتصل به البحر المسلوك، يضرب في أوقات فصل الربيع من هبوب

الرياح فيهيج هيجانا شديدا، فيطلبه أرسطوروس وهو الصدف في هذا الوقت، ولا يطلب أرسطوروس أوقيانوس إلا في ريح عطوس، وهي التي تلقح البحر، فإذا أصفقته ريح عطوس ارتفع الصدف من قعر البحر الذي يسلكه الناس، وهيجت الريح أمواج أوقيانوس، فيقع في البحر المسلوك منه رشاشات فيلقمه الصدف كما يلقم الرحم النّطفة، ثم يرجع الصدف إلى أسفل البحر فتتركب تلك النطفة من الماء واللحم في جوف الصدف؛ فربما وقع في فمها قطعة كبيرة فينعقد درّة كبيرة، وربما وقع صغيرة فينعقد أجزاء صغارا، كما ترى في أكثر الأصداف. ثم أن الصدفة إذا وقعت في فمها القطرة خرجت من قعر الماء إلى ظاهره عند هبوب الشمال وطلوع الشمس وغروبها، (120) ولا يخرج في وسط النهار فإن شدة الحر ووهج البحار يفسد الدر. وإذا خرجت الصدفة انفتح ماؤها ليقع الريح الشمال على الدر، فينعقد من أثر الشمال وحرارة الشمس كما ينعقد الجنين في الرحم من حرارتها. ثم إن جوف الصدف إن خلا من الماء المر يكون الدر في غاية الصفاء والجلاء وحسن الهيئة. وإن خالط جوف الصدف شيء من الماء المر فإن الدر يكون أصفر اللون، أو كدرا غير مهندم، وكذلك إن استقبل الصدف الهواء في غير هذين الوقتين كانت الدّرّة كدرة. وإذا كان فيها دودة أو كانت مجوفة غير مصمتة كان سببها استقبال الصدف للهواء الرديء، وهو الليل وأنصاف النهار. ثم إن الصدف إذا تجسد الدر في جوفها تجسدا مستويا، هبط إلى قعر البحر حتى يرسخ فيه ويتشعب منه العروق فيه، ويصير نباتا بعد أن كان حيوانا ذا نفس، بفعل الله خالقها وخالق كل شيء. فإن تركت مدة طويلة تغيرت وفسدت مثل الثمر في الشجرة إذا لم يقطف وقت بلوغها فإنها يذهب «1» حسن لونها، وطيب طعمها.

وقال غيره: إن في بحر أوقيانوس ماء لزجا شبيها بالزئبق، فالقطرة التي يتولد منها الدر من رشاشات ذلك الماء، فإذا تمّ الدر في جوف ذلك الصدف ينتقل إلى موضع آخر وينبت في ذلك الموضع، فإذا انتقل الصدف من موضعه إلى موضع آخر من البحرين يهنئ الناس بعضهم بعضا بوصول الصدف. والغواص إذا نزل لإخراجه يقلعه من الأرض، فما أخرج لوقته يبقى طريا صقيلا، وما أخرج قبل وقته أو بعده لا يبقى على لونه بل يتغير. قال في كتاب الأحجار «1» : الدر طبعه الاعتدال في الحر والبرد واليبوسة والرطوبة؛ ويجب أن تختار منه ما كان زيتونا ليست فيه خشونة ولا تضريس، متناسب الأجزاء، مشرق اللون جدا. وأصناف هذا الحجر ثلاثة، وهو نوع واحد، وذلك در وجوهر (121) ولؤلؤ. ولهذا الحجر أشباه قلائل تقارب لونه وجسمه ولا تبلغ مبلغه. والفرق بينه وبين أشباهه بالنظر إليه وشديدة البياض «2» مع درّية المخبر. وحجر الدر يؤتى به من بلاد بحر الظلم، من أقصى بلاد العراق والهند. ومنه يمني، وهو أخف وزنا ولونا «3» من العراقي، وأطفأ نورا، وأجرس جسما «4» . قال أرسطو «5» : من خاصة الدر أنه ينفع لدفع الخفقان والخوف والفزع اللذين يعرضان من المرة السوداء، ويصفي دم القلب، وإنما تخلطه الأطباء بالأدوية لهذا المعنى، ويستعملونه في الأكحال ليشد أعصاب العين. ومن وقف

على جعل الدر واللآلئ ماء رجرجا فإنه إذا طلي به البياض الذي يكون في الجسد كالبرص أذهبه بأول مرة. وقال في خواص الأحجار «1» : من حكّه وطلى به موضع البرص والبياض في البدن أزاله ليومه وأذهبه بإذن الله تعالى. وإن سحق منه شيئا لم يمسه الحديد مع شراب الحماض نفع من خفقان القلب وضعفه، ورجفان الفؤاد، والفزع الذي يعرض من استيلاء المرة السوداء. وإذا جعل في الأكحال من المذكور أيضا نفع من البخار العارض، وقوى منظرها، وقوى أعضاءها من الاسترخاء. ومن تسعط من مائه بعد حله، أذهب بالصداع الذي يكون من قبل العين. وأيضا فإن الإكثار من شربه يصفي دم القلب. وقال ابن البيطار: ينفع ظلمة العين وبياضها ووسخها، ويدخل في الأدوية التي تحبس الدم، ويجلو الأسنان، وخاصة النفع من خفقان القلب والخوف والفزع الذي يكون من السوداء، ويجفف رطوبة العين. ومن حل الدر حتى يصير ماء رجرجا، وطلى به بياض البرص، أذهبه في أول طلية يطليه به. ومن كان به صداع قبل انتشار أعصاب العين، وسعط بذلك الماء، أذهب عنه ما به وشفاه في أول سعطة. وحلّه بأن يسحق ويلث بماء حماض الأترج، ويجعل في إناء حتى يغمره، (122) ويعلق في دن فيه خل، ويدفن الدن في زبل رطب أربعة عشر يوما، فإنه ينحل؛ وإمساكه في الفم يقوي القلب عموما.

دهنج

دهنج «1» قال أرسطو «2» : إنه حجر أخضر في لون الزبرجد، لين المس» . قال هرمس «4» : إنه يتولد من معدن النحاس، وذلك أن النحاس في معدنه إذا طبخته بخارات الأرض، ارتفع منه دخان من كبريت الأرض الذي يتولد فيها، فيرتفع ذلك البخار، ويتكاتف بضم بعضه إلى بعض، فإذا ضربه وعقده وصيّره حجرا يكون دهنجا. وهو أجناس كثيرة، الأخضر الشديد الخضرة، والموشّى، وعلى لون ريش الطاووس. وربما توجد هذه الألوان في حجر واحد، فيخرطه الخرّاط فيخرج فيه ألوان كثيرة. ونسبة الدهنج إلى النحاس كنسبة الزبرجد إلى الذهب، فإنهما يتولدان من بخار معدنهما. وهو حجر يصفو بصفاء الجو «5» ، ويتكدر بكدورته، (ويصفو أيضا بالغدوات والعشيات) «6» . وقال هرمس: إن هذا الحجر طبعه النداوة والبرد، ويجب أن يكون المختار منه

ما كان فرنديا، أخضر شديد الخضرة، بصّاصا، شرقا «1» ، معرّق اللون، سبط الجسم، ليس فيه تحجير ولا جروشة «2» . إذا حكّ على مرآة حديد ومسح، رؤي مكان أثره ومحكه شيئا شبيها بالنحاس. وأصناف هذا الحجر ستة، وهو نوع واحد، أخضر شديد الخضرة، وريحاني، وزمرّدي، وشيء منه مائل إلى البياض. وهو يوجد في جبال بحر النعام، وفي أعالي جبال الطور، ومنه ما يؤتى به من بلاد الصين والتركمان. وإن سحق وأذيف بمسك وأسعط [به] مصروع لا يعرف حاله ثلاث مرات، وبخّر، فإنه يبرأ. ومن كان على بصره بياض حادث، فحك منه على حجر المسن شيئا، وأدمن الاكتحال به مرارا بميل ذهب خالص، جلا البياض عن نظره. ومن حك منه على مسن بخل خمر، وشربه من به الطحال الكبير، بماء الكراث، نفعه. وقال صاحب العجائب «3» : ومن خواصه أنه إذا مسح به لدغ العقرب سكن وجعه، ومن سقي منه (123) عمل فيه السم، (وإن أخذ من الزبانات في الباقلى خمسة أو سبعة، وشدخت بالدهنج، ووضعت على لسع الزنبور، فيزول ألمه في الحال) «4» . وإن سحق منه شيء بالخل، وطليت به القوابي، ذهبت. وينفع من سعفة الرأس، وقرون البدن جميعا. ويدخل في أدوية العين ويشد أوصالها. وإن طلي بحكاكته بياض البرص أزاله، وإن علّق على إنسان يغلبه قوة الباه، أو يزيد على ما كان عليه.

ديفروحس

وقال ابن البيطار: إن سقي من سحالته أو محكه شارب السم نفعه، وإن سقيته «1» لمن لم يشرب سما كان سما مفرطا ينفط «2» الأمعاء، ويلهب البدن، فإما يبرأ أو يعفن فلا يكاد يبرأ سريعا. ومصّ مائه «3» بعد إمساكه في الفم رديء لمن فعله، وإذا مسح به موضع لدغ العقرب سكّنه، وإذا سحق منه شيء وذيف بالخل ودلك به القوابي الحادثة من السوداء ذهب بها ويذهب السعفة في الرأس وجميع الجسد، وإذا سحق وأذيف بمسك، فهو أجود أدوية الصرع، لمن يصرع ولا يعرف حاله، يسعط منه ثلاث مرات، ويبخر به، فيبرأ. ديفروحس «4» هو ثلاثة «5» أصناف، يختار منه ما كان في طعمه شيء من طعم النحاس، وطعم الزنجار، وكان قابضا، يجفف «6» اللسان، [فهو] دواء نافع للجراحات الخبيثة الرديئة، نافع في علاج القروح في الفم، إذا استعمل وحده، أو مع العسل المنزوع الرغوة. وينفع في مداواة الخوانيق إذا استعمل بعد ما منع وقطع ما كان يجري وينصب إلى تلك الأعضاء. وقد استعمل لما قطعت اللهاة فدواؤها به «7» ساعة قطعها، وأعيد مرارا إلى أن اندملت «8» . وهو دواء يدمل ويختم [إدمالا وختما شديدا] «9» وينفع من هذا العضو خاصة في جميع الأعضاء التي تحدث

ديماطي

فيها الجراحات. وينفع القروح الحادثة في الدبر. واستعماله في هذه الأعضاء مثل استعماله في الفم، وقوته تجلو وتقلع «1» اللحم الزائد في القروح. ويدمل القروح الخبيثة المنتشرة في البدن. (124) وإذا خلط بصمغ البطم أو بقيروطي حلل الأورام الدبيلات، وينشف قروح الرأس الرطبة. ويسحق بالخل ويطلى به الجرب والحكة فيبرئها. وإذا سحق ونثر على الشعر الغليظ دقّقه وليّنه. ديماطي «2» قال أرسطو: إنه حجر أسود جدا مثل السخام. يوجد في البحار إذا أحرق وسحق مع الزئبق عقده، وإذا طرح على الطّلق «3» وعرض على النار، صيّره ماء رجراجا. رخام حجر أبيض معروف. قال أرسطو: إذا أردت [أن] لا تحبل المرأة فاسقها وزن درهم رخاما مسحوقا. وقال بليناس في كتاب الخواص «4» : وقد يوجد في الرخام دود فيؤخذ منها اثنان أو ثلاثة وتشد في خرقة وتعلق على عضد المرأة فإنها لا تحبل. وقال ابن البيطار «5» : المخصوص منه باسم الرخام ما كان أبيض، وأما الأصفر

رمل

والأسود وغيره «1» ، فكلها داخلة في جنس الأحجار. بارد يابس إذا شرب منه ثلاثة أيام، كل يوم مثقال، مسحوقا معجونا بعسل نفع من كثرة الدمامل عن هيجان الدم. وإذا أحرق وسحق وذرّ على الجراحات بدمها قطع دمها وحيا ومنع ورمها. والرخام الذي على القبور، المكتوب عليها التواريخ، إن سحق منه إنسان شيئا على اسم من يعشقه وشربه نسيه وسلاه، وإذا سحق جزء منه بجزء قرن ماعز [محرق] «2» ، وطلي به حديد، ثم حمي في النار، وسقي في ماء وملح، كان منه حديد ذكر. رمل «3» الرمل الذي على ساحل البحر، إذا حمي بحرارة الشمس وانطمر فيه الرّطب البدن جففها. وينبغي أن تطمر «4» الأعضاء كلها خلا الرأس، وقد يقلى وتكمد به الأعضاء مكان الجاورس «5» ومكان الملح. وهو مجفف اللحم المترهل الشبيه بالماء، إذا صير فيه صاحب هذه العلة، والرمل سخن، حتى يغطيه كله.

زاجات

زاجات «1» يتولد جميع أصناف الزاجات من أجزاء أرضية محرقة، ومن أجزاء مائية، إذا خلط بعضها ببعض اختلاطا شديدا، وبسبب الحرارة الزائدة (125) التي توجد في دخانيتها، إذا اختلطت بالأجزاء المائية، تحدث فيها دهنية، فتصير قابلة للذوبان، ولهذه يوجد في الزجاج ملحية كبريتية وحجرية، فمن حيث وجد في الأجزاء المائية والأجزاء الأرضية المحترقة وجد فيها ملحية؛ من حيث إن الحرارة أنضجتها، حتى حدثت فيها دهنية، وجدت فيها كبريتية؛ ومن حيث إن الماء والتراب انعقد بحرارة الشمس وجد فيها حجرية. وأما اختلاف ألوان الزاجات بحسب اختلاف المعادن، فما كان في معدنه قوة الحديد أغلب والحمرة والصفرة غلبتا عليه، وإن كان في معدنه قوة النحاس فالغالب عليه الخضرة. ومنهم من قال: تتولد الزاجات من الزئبق الميت، والكبريت الأخضر، وألوانها الأحمر والأصفر والأسود والأبيض. أما الأبيض فيسمى السوري «2» وهو أعز الأنواع، يجلب من نواحي قبرس، والأخضر يسمى القلقطار «3» والقلقند «4» ، وهو حلو الطعم، والأصفر زاج الحبر، وهو إذا كسر وسطه كالصمغ «5» ، وهذا أجود الأنواع، وزاج الصباغين والأساكفة، والذي تظهر فيه عيون. وأحسن الأنواع الأبيض الشب الذي يجلب من بلاد جيلان» وطبرستان وأرض اليمن.

قال: وخاصية الزاج أن ينفع من السّعفة والجرب «1» والناصور والرعاف وتآكل اللسان، وإذا بخّر بالزاج هرب من رائحته الذباب والفأر «2» . وقال ابن البيطار، وأطال في وصف أصنافه ومعادنه، وقال «3» : أما السوري «4» وهو الزاج الأحمر زهم الريح يغثي ويقيئ. قال: وأما القلقديس والقلقيت ففيه قبض شديد، يخالطه حرارة ليست باليسيرة، وهذا يدل على أنه يجفف اللحم الزائد الرطب أكثر من سائر الأدوية الأخرى، فيفني رطوبة هذا اللحم بحرارته، ويجمع جوهره بقبضه، ويخرج شيئا من ذلك اللحم، ويشد ويصلب جميع الجوهر (126) اللحمي، ويجمعه إلى نفسه. والقلقطار فيه قبض وحدّة، ويبلغ من شدة حرارته أنه يحرق اللحم، ويحدث فيه قشرة محرقة. وإذا أحرق هذا الدواء فتلذيعه يكون أقل، ونقص تجفيفه أيضا نقصا ليس باليسير إذا أحرق، وكذلك القلقطار المحرق، أفضل وأجود مما لم يحرق. والزاج الأخضر والقلقطار يذوّبان اللحم، وينحلان كلاهما إذا طبخا بالنار. والزاج الأحمر لا يذوب ولا ينحل. وأما المليطرنا «5» وهو صنف من الزاج يجمد فوق المعادن، فهو يقبض قبضا شديدا مع أنه يلطف أكثر من جميع الأدوية القابضة، ويبرئ وجع الأسنان والأضراس والأسنان المتحركة. وإذا احتقن به مع الخمر نفع من عرق النسا، ويخلط بالماء، ويلطخ به البثور «6» اللبنية «7» ، فيذهب

به. ويدخل في الأدوية المسوّدة للشعر. والقلقنت «1» يقلع الآثار، وإذا ابتلع منه مقدار درهمين أو لعق بعسل قتل الدود الذي يقال له حب القرع، ويشرب بالماء فيحرك القيء. ويبلغ من مضرة الفطر القتال. وإذا أذيف وشرّب به صوفة وعصر وقطر في الأنف نقّى الرأس. والقلقطار له قوة قابضة محرقة، ينقّي العيون والمآقي، وقد يصلح للحمرة والنملة. وإذا خلط بالكرّاث قطع نزف الدم من الرحم، وقطع الرعاف. وإذا استعمل يابسا نفع من أورام اللثة والقروح الخبيثة فيها، ومن ورم النّغانغ «2» . وإذا أحرق وسحق واكتحل به مع العسل نفع من غلظ الجفون وخشونتها. وإذا عملت منه فتيلة وأدخلت في النواصير «3» قلعتها. والزاج المصري [فإنه] «4» في كلّما استعمل أقوى من القبرصي، ما خلا أمراض العين، فإنه في علاجها أضعف من القبرسي «5» بكثير. وخاصة القلقطار الأخضر إذا أخذ مع السّورنجان «6» ، ووضع تحت اللسان، نفع من الضفدع. والقيروطي المتخذ منه، وخصوصا الأحمر، ينفع من الآكلة في الفم والأنف وقروحهما. وشربه مجفف (127) لديه، وربما قتل، ويقطع الدم المنبعث من ظاهر البدن، كما هو محرق وهو أقوى فيه. ويجب أن لا يكثر منه متى كانت

زبد البحر

الجراحات كبارا، وأن لا يوضع على جراحات العصب بوجه، فإنه يحدث التشنج، ولا سيما في العصب القليل اللحم في مثل عصب الصّدغين والحاجب، وينفع في سائر الأدوية النافعة من الحكّة والجرب. وأجناس الزاجات كلها تنفع من الدم السائل فتقطعه من البدن والجراحات والرّعاف، غير أنه يسوّد أماكن الجراحات، ويفسد الأعصاب، ويشدد الأماكن المسترخية. وإذا أدمن الاغتسال في ماء الزاج أورث الحمّيات الطويلة. وذكر في كتاب العجائب «1» : إن القلقنت يلقى في الماء، ويرش به البيت، يموت ما في البيت من البق والبرغوث من رائحته. وينبغي أن يضم إليه الكبريت والشونيز «2» فيكون أقوى فعلا، ويقتل الفأر أيضا. وإذا دلك به السن فإنه يبقى فيه قوة عجيبة في استخدام ما يجد به وحلقه الشعر، وإذا دلك به منخر إنسان فإنه لا ينام أبدا حتى يلطخ موضعه بزيت، فإنه يذهب عنه ذلك. زبد البحر «3» قال الشيخ الرئيس «4» : زبد البحر منه فطري «5» ينفع في حلق «6» الشعر، وينفع من البهق. ومنه إسفنجي شديد الجلاء للأسنان، ومنه وردي نافع للنّقرس والطحال والاستسقاء.

وقال غيره: ينفع من داء الثعلب مع النطرون والخل. ومن عجيب خواصه أنه ينبت الشعر وهو يحلقه أيضا، وينفع من البهق والكلف والآثار، ويجلو الأسنان، وينفع من الخنازير والاستسقاء وعسر البول. وزعم بعضهم أن زبد البحر إذا علّق على من أضر بها الطّلق سهلت ولادتها، وإذا ألقي منه درهم على عشرة أرطال من الماء المالح بعد ما يغلى غليانا شديدا فيصير عذبا. وقال ابن البيطار «1» : هو أصناف خمسة أحدها كثيف شكله شكل الإسفنجة، وهو رزين زهم الرائحة. والثاني (128) شبيه بظفرة العين، رائحته كريهة كرائحة الطّحلب. والثالث يشبه شكل الدّود، وفي لونه فرفيرية «2» . والرابع يشبه الصوف الوسخ مجوّف، خفيف. والخامس شبيه بالفطر وليس له رائحة، وظاهره أملس، وهذا النوع [أحدّ] «3» من سائر أنواعه، حتى إنه يحلق الشعر. والنوعان الأولان ينفعان من الجرب والقوابي والبهق والعلّة التي يتقشر معها الجلد، ويصفيان البشرة لاعتدال قوتهما، ويستعملان فيما يغتسل فيه النساء وينقين أبدانهن، ويقلعان البثور اللبنية والنمش والكلف والبرص والآثار العارضة في الوجه وفي سائر البدن. والصنف الثالث يصلح لمن به عسر البول، وينفع من الحصى والرمل في المثانة، ووجع الكلى والاستسقاء ووجع الطحال، وإذا خلط محرقا بالخمر ولطخ به داء الثعلب أبرأه. والصنفان الباقيان يقبضان اللسان ويستعملان فيما يجلو وينقّي ويجلو الأسنان وينبت الشعر إذا خلط بالملح. قال: والنوع الذي هو الآخر ليس يجلو ما يجده من الوسخ وغيره في ظاهر

زبد البحيرة

الجلد فقط، بل يقشّر الجلد نفسه ويكشطه ويغوص فيه حتى يحدث القروح. زبد البحيرة «1» يصلح لقلع الجرب المتقرح والكلف والقوابي والبثور اللبنية وعرق النّسا، وينقل المزاج الرديء العارض للأعضاء إلى المزاج الجيد، ويجلو البصر، وينفع من ورم الثديين إذا طليت به مدقوقا مذافا بماء. زجاج «2» قال أرسطو: الزجاج أنواع كثيرة، منه متحجر، ومنه رمل، يوقد تحته ويرمى عليه حجر المغنيسيا «3» فيجتمع جسده «4» بالرصاصية التي فيه. وقد يتّخذ من الحصى والقلي «5» المطحونين يسبك في قبّة مصنوعة لذلك، ويوقد عليه كثيرا حتى يختلط ويجري. والزجاج إذا أصابته النار ثم أخرج إلى الهواء من غير أن يدخّن يتكسر ولا ينتفع به. وهو يتلون بألوان كثيرة لأنه من ألين الأحجار، ويعد في الأحجار كالمائق «6» بين الناس (129) لأنه يميل إلى كل صبغ يصبغ به، وهو يخرج اللحم. وقال الشيخ الرئيس «7» : يجلو الأسنان وينبت الشّعر إذا طلي بدهن

زرنيخ

الزّنبق «1» ، ويجلو العين ويذهب ببياضها. وقال بليناس في كتاب الخواص: إذا سحقت الزجاج وألقيته في قنينة فيها ماء وخمر، فإن الماء ينفصل فيها عن الخمر، وهو عجيب جدا سهل التجربة. وقال ابن البيطار «2» : الزجاج يفتّت الحصى المتولد في المثانة تفتيتا شديدا إذا شرب بشراب أبيض رقيق. والزجاج المحرّق يجفف من غير لذع. والزجاج يدخل في أكحال العين، ويقلع الحزاز، ويبسط اللحية والشعر كله، ويجلو الأسنان، وينبت الشعر إذا طلى بدهن زنبق، ويجلو العين ويذهب ببياضها. والمحرّق نافع جدا لحصى المثانة والكلية إذا سقي بشراب، ورماد الزجاج أجود. زرنيخ «3» قال أرسطو: هو حجر معروف، ألوانه كثيرة، فمنه أحمر، ومنه أصفر، ومنه أغبر. فأما الأحمر والأصفر فهما ذهبية المنظر، إذا جمع مع الكلس حلق الشعر، وهو سم قاتل. ومن كلّس الزرنيخ حتى يبيضّ وسبك النحاس وألقى عليه شيئا من البورق، بيّضه وذهب برائحته النتنة. وإذا حرق بالنار، ودلك به الأسنان أذهب بحفرها ونفعها. وقال غيره «4» : الزرنيخ يجعل على الجراحات والسّعفة والجرب الرطب ينفع من جميع ذلك. وإذا جعل مع شيء من الزيت قتل القمل، وإذا جعل مع دهن الورد نفع البواسير، وإذا طلى الإنسان به بدنه لإزالة الشعر حدث به كلف فليطل بعده بالأرز والمعصفر يدفع غائلته. والزرنيخ الأصفر يقتل الذباب برائحته فإن

جعل في دبس أو نحوه ليأكله مات هو. وقال ابن البيطار «1» : قوته قوة محرقة محرّقا كان أو غير محرّق، ومتى أحرق صار ألطف ما كان، والناس يستعملونه في حلق الشعر من طريق أنه يحرقه، وإن طال مكثه أحرق البدن أيضا. وقوته معفنة منضجة مفتحة منقية للصديد، يلذع لذعا شديدا، ويقلع اللحم الزائد في القروح، ويحلق الشعر. وقوة الزرنيخ الأحمر مثل قوة الأصفر، وإذا خلط بالراتينج أبرأ داء الثعلب، وإذا خلط بالزفت قلع الآثار البيض في الأظفار، وإذا خلط بالزيت ودهن به نفع من القمل، وإذا خلط بالشحم طلى الجراحات. ويوافق قروح الأنف وسائر القروح، وإذا خلط بدهن ورد، وافق البثور والبواسير النابتة في المقعدة. ويخلط بادرومالي «2» ويسقى لمن في صدره قيح مجتمع فينتفع به، ويدّخن به مع الراتينج ويجتذب دخانه بإنبوبة من قصب في الفم للسعال المزمن، ويلعق بالعسل فيصفّي الصوت، ويخلط بالراتينج ويعمل منه حب ويسقى من به ربو وعسر نفس، فينتفع به. ومنه صنف أبيض قاتل. والأصفر جيد للضرب بالعصا والسياط والخدوش، وإذا طلي به آثار الدم الميت أذهبها، وإذا سحق الزرنيخ الأصفر وجعل في اللبن لم تقع عليه ذبابة إلّا ماتت. والأحمر إذا طلي به تحت الإبط بعد أن يعجن بعصارة البنج الأخضر وينتف الشعر من الإبط لم ينبت فيه شعر أبدا. والقيروطي المتخذ من الزرنيخ الأحمر نافع لقروح الفم والأنف والأكلة فيهما، وإذا خلط بوزنه من الجير قبل طفيه وعجنا بعسل أو بماء الصابون وأحرقا في أنبوب قصب نفع من الآكلة ومن حفر اللثة ومأكلها. وإذا خلط منه اليسير

زفت

بسائر أدوية اللثة أنبت اللحم الناقص منها، وإذا عجن بمثله لب الجوز واللوز وقلب الصنوبر أو الميعة ووضع من مجموعها في النار مقدار نصف درهم وابتلع دخانه من أنبوب نفع من السعال البارد وأبرأه، ومن الربو وضيق النفس إذا قدمت هذه الأعراض وتوالى التدخين به أياما على الريق حتى يبدو تأثيره. وينبغي أن يتحسّى على إثر استعماله [حساء] متخذا من لوز حلو ونخالة بزبد لئلا يضر الأعضاء التي يمر عليها. ومن (131) سقي الزرنيخ المضعف حدث له مغس شديد وقروح في الأمعاء فليشرب ماء حارا مع جلاب مرات كثيرة حتى ينغسل أكثره، ثم يسقى ماء الأرز وماء الشعير ونحوهما مما ينفع قروح الأمعاء ويحتقن بها، فإن حدث عنها سعال مؤذ عولج بالأشياء اللينة. زفت هو أقرب إلى الحجر من النبات فلهذا ذكرنا [هـ] هنا. قال ابن البيطار: ويسخن [أكثر مما يجفف] «1» وفيه شيء من اللطافة بها ينفع من به ربو، ولمن يقذف المرّة «2» . وحسب من يعالج به أن يلعق منه مقدار قواثوس «3» واحد، وهو أوقية ونصف، بعسل. والزفت الرطب يصلح الأدوية القتالة، وإذا لعق منه أوقية ونصف بعسل كان صالحا لمن به قرحة في رئته، ولمن في صدره ورئته قيح، وللسعال والربو. وإذا تحنّك به [بالعسل] كان صالحا لورم العضل عن جنبي طرف الحلقوم والمريء ولورم اللهاة والورم المسمى خناقا. وإذا استعمل بدهن لوز نفع الآذان التي تسيل

منها الرطوبة. وإذا تضمد به بملح مسحوق كان صالحا لنهش الهوام، وإذا خلط به من الموم جزءا مساويا له قلع الآثار البيض في الأظفار، وقلع القوابي، وحلّل الجراحات الصلبة، وصلابة الرحم والمقعدة. وإذا طبخ بدقيق شعير وبول صبي فتّح الخنازير. وإذا خلط بالكبريت أو بقشر التوتيا «1» والنخالة ولطخ به النّملة منعها أن تسعى في البدن. وإذا خلط بدقاق الكندر ومرّ ألحم القروح العميقة، وإذا لطخ به مفردا على الرّجل والمقعدة وافق الشقاق الذي فيها. وإذا خلط بالعسل نقّى الجراحات والقروح، وبنى فيها اللحم. وإذا خلط بالزيت والعسل قلع الخشكريشة من القروح التي تسمى الحمر «2» والقروح العميقة. وينتفع به لعلل المعدة والكبد. وإذا أعطي منه أوقية واحدة فعل مثل ذلك وينتفع به، وإذا خلط في المراهم العفنة والزفت اليابس [فإن] «3» قوته مليّنة مفتّحة محلّلة للجراحات، ويبني اللحم في (132) القروح، وينتفع به في مراهم الجراحات. والنوعان من الزفت يدبغان «4» الأظفار إذا حدث فيهما البياض عند ما يخلطان من الشحم، ويذهبان القوابي، وينضجان الأورام الصلبة التي لا تنضح إذا وقعا في الأضمدة وأقواهما في ذلك كله الزفت الرطب، واليابس في هذه الخصال قليل الغناء، وهو في إدمال مواضع الضرب أدمل وأنفع. ويكون من الزفت الرطب شيء يقال له قسالاون وهو دهن إذا نزعت عنه مائيته كما يظهر ماء الجبن على الجبن. ويجمع في طبخ الزفت على الزفت بأن يعلق صوف نقي

زفتي

على الزفت فإذا ابتلّ من البخار المتصاعد يعصر في الإناء، ولا يزال يفعل ذلك والزفت يطبخ فينفع مما ينفع منه الزفت. وإذا تضمد به مع دقيق الشعير أنبت الشعر في داء الثعلب. والقسالاون والزفت الرطب يبريان قروح المواشي وجربها إذا لطخت عليها، وينفعان لتمدد الأعصاب والأوتار، ولعرق النّسا. وقد يجمع من الزفت الرطب دخان قوته حارة قابضة مثل قوة دخان الكندر. وينبغي أن يستعمل في الأكحال التي تحسّن هدب العين، وفي الأكحال واللطوخات النافعة لنبات الأشفار المتناثرة والعيون من ضعفها ودمعتها وقروحها. وإذا احتقن بالزفت الرطب نفع من سم العقرب وحيا، وإذا حلق وسط رأس من ابتلع علقة ودهن الموضع المحلوق بقطران أخرج العلقة وحيا، مجرّب. زفتي قال أرسطو: إنه حجر أسود مثل الزفت، إذا كسرته انكسر مثل الزجاج، يوجد ببجاية «1» المغرب. خاصته «2» أنه إذا سحق واستعط بالدهن يذهب بالجذام والماء الأصفر، ويفجّر الجراحات.

زمرد

زمرّد ويقال أيضا زبرجد «1» . قال أرسطو «2» : هو حجر يتكون في معادن الذهب، أخضر اللون شديد الخضرة شفّاف، وأشده خضرة أحمده وأصفاه جوهرا من كمده في الخاصية والعلاج. وقال في كتاب الأحجار «3» : (133) إن حجر الزبرجد طبعه اليبس والبرد، ويجب أن تختار منه ما كان أخضر شديد الخضرة وفي لون الكرّاث الصافي، متناسب الأجزاء ليست فيه كدورة، مشرق اللون. وأصناف هذا الحجر ثلاثة وهي «4» : نوع واحد أخضر شديد الخضرة، وأسود، وأصفر. ولهذا الحجر أشباه كثيرة تقارب لونه وجسمه ولا تبلغ منفعته، والفرق بينهما أن الزبرجد إذا طرح في الماء ردّ الماء إلى لونه، وإن مسح به على مسيل دم من البدن قطعه، وأشباهه لا تفعل هذا الفعل. ويؤتى به من بلاد الهند، ومن صعيد مصر، ومن بلاد أطراعلا «5» ، ومن جزائر قبرص. قال «6» : ومن خواصه أنه يشرب للسع الهوام ونهشها ومن السم القاتل، وذلك إذا سحل منه

وزن ثلاث شعيرات أو شعيرتين «1» قبل أن يبلغ منه السم فشربها فإنه يخلّصه من الموت. وإذا أدمن النظر إليه أذهب كلال البصر. ومن تقلد به أو تختّم أذهب عنه الصرع، وكان واقيا له من الأذى، جالبا له كل مسرّة، ولأجل ذلك فإن الملوك تعلّق الزمرد على أولادهم وأهاليهم ليدفعوا بذلك داء الصرع. وإن سحق بعسل ودهن ورد ولطخ به الرأس سكّن الصداع القوي، وإن قطّر من مائه في الأذن الوجعة أسكنها، وإن علّق على من به نفث الدم أذهب عنه ذلك. قال ابن ماسويه: جربته كذلك فوجدته حقا «2» . وقال الرازي «3» : الزمرد الفائق إذا وقعت عليه عين الأفعى سالت من وقتها. قال ابن البيطار «4» : الزمرد الفائق حجران لهما اسمان وهما جنس واحد. جبل الزمرد من جبال البجاة موصول بالمقطّم جبل مصر خاصة «5» . قال: ومن شرب من سحالته وزن ثمان شعيرات قبل أن يعمل فيه السم خلّصه من الموت، ولم يسقط شعره، ولم ينسلخ جلده. وهو نافع من الجذام إن شربت حكاكته، وإذا سحق وخلط بأدوية السعفة العسرة البرء نفعها نفعا بينا. وذكر في خواصه نحو ما (134) تقدم.

زنجار

زنجار «1» قال أرسطو «2» : هو حجر يستخرج من النحاس والصّفر بالخل، ويدخل في كثير من أدوية العين كالسلاق والجرب ورفع الأجفان عند استرخائها «3» . وفيه قوة السم إذا شرب، وهو يبرئ النواصير إذا حشّيت به، ويأكل اللحم الميت من الجراح. وقال غيره: هو معدني ومعمول، فالمعدني يتولد من معادن النحاس، وهو ينفع [إذا خلط معه شيئ يسير] «4» من القيروطي للجرب والبهق والبرص. إذا نفخ في الأنف نفع من نتنها ولكن بعد أن يملأ الفم ماء لئلا يصل إلى الحلق، وينفع لبياض العين مع أدويته، وينفع البواسير. وقال الشيخ الرئيس «5» : هو تكريج النحاس «6» بأن تكب آنية على أخرى فيها خل. وينفع من البواسير بأن يتخذ منه، ومن الأشق، «7» فتائل، وتحشى به البواسير. وقال ابن البيطار «8» : له كيفية حادة، وهو يحلل أو ينقص اللحم ويأكله

نقطة «1» سوداء، نقص سوادها. والأصفر منه أقل صبرا على النار من الأحمر، فأما الكحلي فلا صبر له على النار البتة. وجميع أنواع اليواقيت لا تعمل فيها المبارد [الفولاذ] «2» . ويقال إن الياقوت يمنع جمود الدم إذا علّق [على من به ذلك] «3» . وقال في كتاب الأحجار: (200) إن الياقوت طبعه الحرارة واليبس، ويجب أن يختار منه ما كان مشرق اللون، شديد الصبغ جدا، متناسب الأجزاء، ليست فيه كدورة ولا نكتة ولا زجاجية ولا تضريس. وأصنافه خمسة، أحمر ورماني وأصفر وأكحل وأبيض. ولهذا الحجر أشباه كثيرة تقارب لونه وجنسه، ولكن ليس تبلغ مبلغه، والفرق بينه وبين أشباهه أن الياقوت إذا دخل النار ازداد حسنا، ولم تضره النار شيئا. وإن سحل بالمبارد، لم تؤثر فيه، وأشباهه ليست كذلك. وذكر أرسطاطاليس في بعض كتبه: إن من الياقوت ما يكون أخضر، وطبعه مثل طبعهم، وفعله مثل فعلهم، ويؤتى [به] من أقصى جبال الهند. وقال الشيخ الرئيس في كتابه الأدوية القلبية: أما طبعه فيشبه أن يكون معتدلا. وأما خاصيته في تفريح القلب وتقويته، ومقاومة السموم، فأمر عظيم. ويشبه أن تكون هذه الخاصية قوة غير مقتصرة على جزء فيه، بل فائضة منه، كفيضانها من المغناطيس في جذبه الحديد من بعيد. قال: ومما يقنع به في هذا الباب في أمر الياقوت، أنه يبعد أن نقول «4» إنّ

زنجفر

من لبن امرأة، وقطرة من عسل غير مدخر، ثم يسحق ذلك في الصلاية بالفهر حتى يثخن ويسود، فإذا اكتحلت به العين أحدّ النظر وجلا الغشاوة وقلع البياض. (والزنجار المتخذ بالنوشادر والشب والخل إذا سحق ونفخ في الأنف وملئ الفم ماء لئلا يصل إلى الحلق فإنه ينفع من نتن الأنف) «1» ومن القروح الملتهبة الرديئة فيه. والزنجار إذا خالطه أدوية الرأس الشّهدية والمتعفنة نفع منها. وإذا خلط بأدوية العين النافعة من الظفرة والسبل «2» وبياض العين والمحدّة للبصر والمجففة لرطوباته فعل فعلا عجيبا. وإذا عجن مع العسل أو طبخ به مع الخل نفع من قروح الأعضاء اليابسة المزاج كلها، كقروح الفم وبثوره، واسترخاء اللثة، وقروح الأنف والأذن. وعلى الجملة فهو مضر في كل ما ذكرنا متى لم يجعل منه المقدار القصد بحسب المزاج وبحسب العلل المعالجة، فيجب أن يتفقد فعله في كل مرة، ويزداد فيه أو ينقص بحسب ما يظهر منه. زنجفر «3» قال أرسطو: إن الزئبق إذا طبخ في الزجاج على النار واستوثق من رأس الآنية كيلا يطير الزئبق حدث «4» الزنجفر واستحال بياضه إلى الصفرة «5» حتى يصير

زهرة الملح

كأحمر شيء يكون، فإن انشقّت هذه الآنية وأصاب بدن صاحبها شيء من الزئبق أو من دخانه صار مرضا صعبا وربما يقتل. وقال غيره: إن من الزنجفر معدنيا ومصنوعا، فالمعدني يتولد من إسالة شيء من الكبريت إلى معدن الزئبق فيستحيل زنجفرا، والمصنوع ما ذكره أرسطو. وهو يدمل الجراحات، وينبت اللحم في القروح، وينفع من حرق النار، وتآكل الأسنان. وهو من السموم (136) القاتلة. وقال ابن البيطار: قوة [الزنجفر] حادة شبيهة بقوة الشاذنج «1» ، وفيه قبض ويصلح للاستعمال في أدوية العين، ويقطع الدم، ويخلط بالقيروطي فيبرئ حرق النار والبثور، ويدمل الجراحات، وينبت اللحم في القروح، ويمنع تآكل الأسنان. ويقع في المراهم المدملة والقروح العفنة، ويستعمل ذرورا على الآكلة «2» ، وعلى كل ما فيه من القروح عفونة. زهرة الملح «3» قوته تحلل تحليلا شديدا، يصلح للقروح الخبيثة، والآكلة، والقروح التي تتقشر، والرطوبة السائلة من الأذن، والغشاوة التي في البصر، والآثار العارضة عن اندمال القروح في العين. ويقع في أخلاط بعض المراهم والأدوية، والأدهان ليصبغها، مثل دهن الورد. ويدر العرق، وإذا شرب بالخمر والماء أسهل البطن.

زهرة النحاس

وهو رديء للمعدة، ويقع في أدهان الإعياء، وفيما يدلك به البدن ليرقق به الشعر. وهو في الحدة والتلذيع مثل الملح. زهرة النحاس قابضة، تنقص اللحم الزائد، وتحلل الأورام، وتجلو غشاوة البصر مع لذع شديد. و [إذا] يشرب منها مقدار أربعة «1» أوثولوسات أسهل كيموسا غليظا، ويذيب اللحم الزائد في باطن الأنف وفي المقعدة، وإذا خلطت بالخمر أذهبت البثر. وما كان من زهرة النحاس أبيض وسحق ونفخ بمنفخة في الأذن نفع من الصمم المزمن، وإذا خلط بالعسل وتضمد به حلل أورام اللهاة والنغانغ. وزهرة النحاس ألطف من النحاس المحرّق، وهو منقّ غسّال محلّل لخشونة الأجفان، وهو من الأدوية المدملة المنشّفة النافعة من القروح الخبيثة والقروح العفنة. زنوس قال أرسطو: هذا الحجر يوجد بقرب البحر الخضم الأخضر «2» . من خواصه: أن الإنسان إذا تختّم به كان يزول عنه الهم والغم بإذن الله. شادروان «3» قال ابن وافد «4» : (137) معناه بالفارسية سواد العصاة. وهو شيء أسود

يصبغ به العود بعمان، ويدخل في الطيوب والغوالي «1» ولا رائحة له. وقال التميمي «2» : هو شيء شبيه بالصمغ الأسود، شديد سواد اللون مثل حصى السبج «3» ، يكون في التجويفات الترابية الكائنة في أصول أشجار الحور «4» الكبار العتيقة التي قدّمت ونجرت أصولها، فإذا قطعت الشجرة وجد الشاذروان في دواخل تلك التجويفات. والنحر الجيد إذا كسرته كان له بصيص، فإذا أنقعته في الماء الحار انحل، ويؤدّي لونه محلولا إلى الشّقرة، ويشبه كسره كسر الأقاقيا صافيا بصّاصا، وفي طعمه يسير مرارة. وإذا سحق منه وزن درهم وشرب بماء لسان الحمل قطع نفث الدم وحبس الطبيعة وقطع الإسهال، وذلك لأن فيه قبضا وتغرية. وقد يدخل في السفوفات الحابسة للدم في كثير من الأضمدة القابضة الممسكة القاطعة لانبعاث الدم من الأعضاء. وإذا تحملته المرأة في فرجها «5» بعد عجنه بالخل قطع النزف وقوى عروق الرحم وأوردتها، وكذلك إذا سقي بعصير لسان الحمل، وإذا حقنت الرحم به أيضا، وقد يحل الأخضر منه في ماء ورق الآس، وزن مثقالين، ويسكب عليه من دهن الآس وزن ثلاثة دراهم أو خمسة وتغلّف به المرأة شعرها إذا كان يتساقط. ويسقى أصول الشعر به محلولا بماء الآس فيقوّي أصول الشعر ويمنعه من السقوط والتناثر. وقال الرازي في الحاوي «6» : ينفع من ورم الخصى والذّكر، إذا طلي عليهما

سبج

بخل خمر. وقال ديغورس «1» : خاصته تقوية الشعر. سبج «2» قال أرسطو: هو حجر يؤتى به من الهند، وهو أسود شديد السواد، برّاق شديد البريق، رخو ينكسر سريعا من بين الأحجار، وإذا أصاب الإنسان ضعف في بصره من الكبر نفعه دوام النظر إليه، وكذلك ينفع لمن بدا الماء في عينيه، وعلامته رؤية دخان قدّام عينيه، أو شبه ذبّان (138) يطير قدّام عينيه، فيديم النظر في السبج، فيدفع ذلك عنه بإذن الله. ومن لبس منه خاتما أمن غائلة عين السوء. وقال غيره: إذا نظر الشيخ إلى السبج أحدّ نظره، وإن سحق واكتحل جلا البصر، وإذا علّق على الرأس نفع من الصداع. سرطان بحري «3» قال ابن سينا «4» : إذا قيل سرطان بحري فليس نعني به كل سرطان في البحر،

بل ضرب منه خاص، حجري الأعضاء كلها. وقال التميمي في كتاب المرشد «1» : هذا السرطان مستحجر بارد، ليس في الدرجة الثالثة بل أزيد، ويدخل في الاكحال محرقا وغير محرق، والمحرق أفضل وأقوى لفعله. وفيه أيضا قبض وجلاء، ينشّف الرطوبات المنصبة إلى طبقات العين، وفيه تقوية لطبقاتها وعضلاتها وأعصابها، ويزيد في جلاء العين، وإذا حرق بالنار زاد لطافة وتقوية. وقال ابن التلميذ «2» : يستعمل هذا السرطان في المركبات البيمارستانية في الكحل العزيزي، وفي أخلاط التوتيا الهندي. وقال المجوسي «3» : يجلو آثار العين من القروح «4» ، ويحد البصر، ويجلو الأسنان إذا سحق واستن به. قال ابن البيطار: يقال إنه يكون سرطانا في البحر ببلاد الصين، فإذا خرج من البحر ولقيه الهواء تصلّب وتحجّر مكانه، وكذلك تجده سرطانا مكملا خلقته «5» ، حجريا، ولم يذكره ديسقوريدوس ولا جالينوس في بسائطهما البتة. وأما الحيوان الذي سماه حنين في مفردات جالينوس بالسرطان البحري فليس هو بسرطان كما قال، وإنما هي السمكة المسماة بالرومية سبتا «6» ، وهي معروفة

سلسيس

مذكورة، وتعرف في بعض سواحل البحر بالقنّاطة «1» بالقاف والنون المشددة، وتؤكل مشوية ومطبوخة، ويستعمل منها في الطب خزفتها التي في باطنها وهي الخزفة المعروفة عند الأطباء بلسان البحر فافهمه. سلسيس قال أرسطو: هذا الحجر خفيف متخلخل، إذا لمسته ظننت أن الريح تخرج منه، وإذا عصفت الريح على (139) أهل البحر وأقبلت الأمواج ومرّ ماء البحر منصرفا مع الريح، أقبل هذا الحجر مع الريح والماء، فمن استصحب من هذا الحجر ولو وزن قيراط وأقل، لم يظفر به عدو أبدا. سنباذج «2» قال إسحاق بن عمران: قال أرسطاطاليس: طبع حجر السّنباذج البرد في الدرجة الثانية، واليبس في الدرجة الثالثة. ومعدنه في جزائر بحر الصين. وهو حجر كأنه مجتمع من رمل خشن، ويكون [منه] «3» حجارة متجسّدة كبار وصغار. وخاصته أنه إذا سحق فالسحق كان أكثر عملا منه إذا كان عليه تخشنه، ويأكل أجسام الأحجار إذا حكّت به يابسا ومرطبا بالماء، والمرطب بالماء أكثر فعلا، وفيه جلاء شديد وتنقية للأسنان، وله حدة يسيرة، ويستعمل في الأدوية

شاذنه وشاذنج وحجر الدم

المحرقة والمجففة والمبرئة لترهل اللثة وتغير الأسنان. وإن أحرق بالنار وسحق وألقي على القروح والبثور والعفن الذي قد طال مكثه أبرأه. وقال جالينوس في التاسعة: قوته تجلو جلاء شديدا، والدليل على ذلك أن النقّاشين والخرّاطين يستعملونه في المواضع التي يحتاجون معها إلى ذلك، وقد جرّبناه نحن «1» في أنه ينقّي الأسنان ويجلوها. وفيه قوة حادة ولذلك صار بعض الناس يخلط منه في الأدوية المجفّفة التي تنقّي اللّثة المترهلة. وقال ديسقوريدوس في الخامسة: هو حجر يستعمله نقّاشو الخواتم في جلاء الفصوص، وقد يخلط في أخلاط المراهم المعفنة والمحرقة، وينفع اللّثة المسترخية، ويجلو الأسنان. قال ابن البيطار: زعم ابن وافد في مفرداته أن حجر السّنباذج هو حجر الماس، وأضاف ما قاله ديسقوريدوس وجالينوس في السنباذج إلى قول غيرهما في الماس، ولم يعلم- رحمه الله- أن حجر الماس لم يذكره ديسقوريدوس ولا جالينوس. شاذنه وشاذنج وحجر الدم «2» قال ديسقوريدس في الخامسة: أجود ما يكون منه ما كان سريع التفتت إذا قيس على غيره من الشاذنة، وما كان صلبا مشبع «3» اللون مستوي (140) الأجزاء، وليس فيه شيء من وسخ، وليس فيه عروق. وقال جالينوس في التاسعة: الشاذنة تخلط في أشياف العين، [وقد تقدر أن] «4» وحده في مداواة خشونة الأجفان، فإن كانت الخشونة مع أورام حارة فحل الشاذنة وأذفها بالماء المذاف فيه

شب

الحجر، وزد في ثخنه دائما، واجعله في آخر الأمر من الثخن في حد يحمل على الميل، وأكحل به العين من تحت الجفن، أو يقلب الجفن وتكحله به. وهذا الحجر إذا حك على المسن نفع من نفث الدم ومن جميع القروح، فإن سحق يابسا حتى يصير كالغبار ضمر القروح التي ينبت فيها اللحم الزائد. وإذا قطّر محكوكا بالميل أدمل وختم القروح. وقال ديسقوريدوس: وقوة الشاذنة قابضة مسخنة إسخانا ملطفا، يجلو الآثار التي في العين، ويذهب بالخشونة التي في الجفون إذا خلط بالعسل، وإذا خلط بلبن امرأة نفع من الرمد والدموع والحرق التي تعرض في العين المدمية إذا طلي به. وقد يشرب بالخمر لعسر البول والطمث، ويشرب ماء الرمانين «1» لنفث الدم. ويعمل منه أشيافات إذا خلط بأقاقيا صالحة لأمراض العين والجرب فيها، وقد يحرق كما يحرق غالب الأحجار، ولكن مقدار إحراقه إلى أن يصير وسطا في الخفّة، وشبيها بالتفاحات. شبّ «2» قال ديسقوريدوس في الخامسة: أصنافه كلها إلّا القليل توجد في معادن بأعيانها بمصر، ومنها ما يكون باليمن ونينوى وأرمينية، والمستعمل منها في الطب ثلاثة، أحدها المستدير، والثاني الرطب، وأجودها المشقّق. وأجوده ما كان حديثا أبيض شديد البياض شديد الحموضة ليس فيه حجارة، [مثل الذي يقال طرحيلي] «3» ومعناه الشعري، ويكون بمصر. ويوجد صنف من الحجارة تشبهه جدا ويفرق بينهما أن الحجر لا يقبض والشب يقبض. وأما المستدير [ف] ينبغي

ألا يستعمل، ويستدل عليه من شكله لأنه مستدير بالطبع. ومنه شبيه بالتوتيا لونه (141) إلى البياض يقبض قبضا قويا وبه شيء من صفرة ذهبية، وليس فيه شيء من الحجارة، سريع التفتت، وليكن من مصر. وأما الصنف الرطب فينبغي أن تختار منه ما كان صافيا شبيها باللبن، متساوي الأجزاء، كل أجزائه رطبة سيّالة، ليس فيها حجارة، وتفوح منه حرارة رائحة نارية. وقوة هذه الأصناف مسخّنة قابضة تجلو غشاوة البصر، وتقلع البثور اللبنية، وتذيب اللحم الزائد في الجفون. وينبغي أن يعلم أن الشب المشقق هو أقوى من المستدير، وقد تحرق هذه الأصناف وتشوى كما يفعل بالقلقطار، وقد يمنع القروح الخبيثة من الانتشار، ويقطع نزف الدم ويشد اللّثة التي يسيل منها اللعاب. وإذا خلط بالخل أمسك الأسنان المتحركة، وإذا خلط بالعسل نفع من القلاع، وإذا خلط بالحشيشة المسماة برشان داروا «1» ، وأنفع من البهق «2» ومن سيلان المواد التي في الأذن. وإذا طبخ بورق الكرم وماء العسل وافق الجرب المتقرح. وإذا خلط بالماء، وصب على الحكّة والآثار البيض في الأظفار والداحس «3» والشقاق العارض من البرد، نفع. وإذا خلط بدردي «4» الخل «5» مع جزء مساو له من العفص نفع من الآكلة «6» . وإذا خلط جزء منه وجزء من الملح،

نفع من القروح الخبيثة المنتشرة. وإذا لطخ على الرأس بماء الزّفت قلع النخالة، وإذا لطخ بالماء قتل القمل والصّئبان، ونفع من حرق النار. وقد يلطخ به الأورام البلغمية والآباط المريحة فيقطع رائحتها. وإذا صير منه في فم الرحم بصوفة قبل الجماع قطع نزف الدم، وقطع الحبل، وقد يخرج الجنين. وهو صالح لورم اللثة واللهاة والنغانغ والفم، وقد يصلح لأوجاع الأذن وأوجاع القروح والأنثيين. وقال جالينوس في التاسعة «1» : فيه قبض كثير جدا، وجوهره غليظ إلّا أنه ألطف ما فيه الشب المعروف باليماني، وبعده المستدير. وأما (142) الرطب والصفائحي فشديد الغلظ. قال الرازي في خواصه: إذا طرح الشب في الماء الكدر والنبيذ صفّاه وروّقه في أسرع زمان وأقربه. وقال في كتابه في الأدوية الموجودة: إذا وضع الشب تحت الوسادة أذهب الفزع والغطيط الكائن في النوم. وقال أرسطو: هذا الحجر حجر أبيض مشوب بعضه بشيء من الحمرة، إذا أراد الصباغون صبغ شيء من الثياب غمسوه في الشب قبل أن يغمسوه في الصبغ، فإن الصبغ لا يفارقه أبدا، أو يدخل أيضا في عمل الصنعة لتنقية الجسد وصبغه. قال: وذكر أن الشب اليماني يقطر من جبل اليمن، وهو ماء فإذا صار إلى الأرض استحال شبّا، يمنع من كل نفث دم وقذفه، وهو مع دردي الخل يجفف القروح العسرة المتآكلة، وطبيخه يتمضمض به، ينفع من وجع الأسنان والحمّيات العفنة خصوصا في الصبيان.

شك

شك «1» هو التراب الهالك عند أهل العراق، وهو سم الفأر أيضا، وعند أهل المغرب رهج الفأر. قال الرازي في خواصه «2» : الشك شيء يؤتى به من خراسان من معادن الفضة، وهو نوعان أبيض وأصفر. إن جعل في عجين، وجعل في زيت، وأكل منه الفأر، مات ومات كذلك كل فأرة تجد ريح تلك الفأرة حتى يمتن أجمع، وهو صحيح، وقد وقفت عليه. وقال في المنصوري «3» : الزنجفر والشك يعرض من شربهما مثل ما يعرض من الزئبق المقتول إلا أن الشك قوي جدا قاتل لا يتخلص منه، وعلاجه مثل «4» علاج من سقي الزئبق المقتول. سنج قال التميمي في المرشد «5» : هو الحلزون الكبار البحري المتقرّن الجوانب، وهو نوع من الحلزون، عظيم غليظ الوسط، مستدق الطرفين، مملوء الجوانب بقرون له ثابتة، وجوفه خال، وقد يجلب من بلاد الهند، وبحر الحبش، وبحر اليمن. ولون باطنه (143) أبيض غليظ الجسم، وربما يعلو ظاهره صفرة ورقطة. وزعموا أن البحر يقذف به مع الزّلف «6» وقد يوجد في بعضه حيوان لزج على شكل البزّاقات «7»

صدف

يسمى الحلزون، وهو إذا أحرق يدخل في كثير من أكحال العين الجاسية في كثير من أشيافاتها وأدويتها وتحجيراتها، وذلك أنه إذا حرق وسحق وأنعم سحقه وغسل واكتحل به غير محرق كان أقوى لجلائة، وإذا اكتحل به محرقا كان أقوى لتنشيفه وتجفيفه، وإن غسل بعد إحراقه كان تنشيفه من غير لذغ، وقد يقوّي حسن البصر، وينشف رطوبة البيضة. وفيه قوتان نشافة وجلاية. صدف «1» حجر معروف، منه ما يتكون في الماء العذب وهو أجود، ومنه ما يتكون في الماء الملح. قال ابن البيطار «2» : ليس يستعمل الصدف غير محرق، فإذا أحرق صار يجفّف تجفيفا بليغا. وينبغي أن يسحق سحقا ناعما، وهذا باب عام لجميع الأشياء التي جوهرها حجري، وإذا استعملت وحدها كانت نافعة للجراحات الخبيثة لأنها تجفّف من غير لذع، فإن عجنت بخل أو عسل أو بشراب نفعت الجراحات المتعفنة. أما الصدف الذي داخله الحيوان المسمى أو سطراون فقوتها مثل هذه إلا أنه ألطف في جميع هذه الأجزاء، فإذا أحرقت سلخت ذلك عنها بالإحراق وصار لها قوة مخالفة لهذه، فإن غسل بعد الحرق وصارت غسالتها تسخّن إسخانا لطيفا حتى ربما يحدث عفونة ويصير الباقي أرضيا لا يلذع، وهذا يكون نافعا للجراحات الرّطبة لأنه يبني اللحم فيها ويختمها. وخزفة أو سطراون خاصة إذا أحرقت تستعمل في مداواة الجراحات الغائرة العتيقة التي يعسر نبات اللحم فيها بسبب مائية تنصب إليها، وفي جراحات قد صارت نواصير وغارت،

صدف البواسير

فيضع حولها من خارج «الخم» خنزير عتيق، ونصنع في نفس الجراحات من داخل الأشياء التي تبني اللحم في (144) هذه القروح ورماد أوسطراون وفروفس وفرفروا، يجلو ويبرق الأسنان، لا بقوة فقط لكن بخشونة أيضا، ولكن يضطر في هذه المواضع إلى سحقها كثيرا، وإن خلط معها الملح، كان جلاؤها أقوى، حتى يجفف اللثة المترهلة، وينفع الجراحات المتعفنة. وأما امنافس، وأجوده ما كان من نيطس، فإذا أحرق فعل مثل ما يفعل فروفس وإذا غسل مثلما يغسل الرصاص، وافق أوجاع العين؛ وإذا خلط مع العسل أذاب غلظ الجفون، وجلا بياض العين، وسائر ما يظلم البصر، ولحم الصدف الداخل، يوضع على عضة الكلب الكلب فينفع منها. وأما الطلينس فإذا أكل طريا لين البطن ولا سيما مرقه. وأما ما كان منه عتيقا وأحرق وخلط بقطران وسحق وقطّر على الجفون لم يدع الشعرة أن تنبت في العين. وصدف الفرفير إذا طبخ، وأدهن به، أمسك الشعر المتساقط وأنبته، وإذا شربت بخل أدملت ورم الطحال. وإذا بخر به وافق النساء اللواتي عرض لهن اختناق من وجع الأرحام، وإخراج المشيمة. قال أرسطو: خاصته أنه يجذب السلى والعظام، ويسكن وجع النقرس والمفاصل إذا ضمد به، وإذا سحق بالخل قطع الرعاف، وإذا أخذ منه قطعة صافية، وتشد في خرقة تعلق على الصبي، فإن أسنانه تنبت بلا وجع. صدف البواسير قال في كتاب الرحلة «1» : هو نوع من الصدف يوجد كثيرا في ساحل بحر

صمغ البلاط

القلزم وغيره من أماكن أخر من بحر الحجاز، جرّب منه النفع من البواسير، دخّنه من أسفل، فيسقطها ويحرق أيضا، ويعجن بعسل فيقطع الثآليل، وينفع من الزحير أيضا. وشكلها شكل ما عظم من الحلزون الكبير، لكنها ذات طبقات، وهي كريهة، لونها فرفيري، يميل لونها إلى السلوان «1» . قال ابن البيطار: تعرف هذه الصدفة بالقلزم بالركبة. صمغ البلاط (145) قال ديسقوريدوس في الخامسة «2» : ليثرقلا «3» ومعناه غراء الحجر، وهو شيء يعمل من الرخام، ومن الحجر الذي من بلاد دوسا «4» ، إذا خلط بالغراء المتخذ من جلود البقر بقي كالحجر. وقد ينتفع به في إلزاق الشعر النابت في العين. وقال سليمان «5» بن حسان: وزعم غير ديسقوريدوس أنه إذا ذرّ على الجراحات بدمها، ألحمها ومنعها من القيح. وهو يصلح القروح الرطبة، وهو معدوم جدا، قليل الوجود، وأكثر ما يكون ببلاد الروم، ويوجد منه شيء قديم لا يعرف كثير من الناس مصنوع هو أم مخلوق، لشدة جهلهم، وقلة معرفتهم به. طارد النوم قال أرسطو «6» : هذا الحجر أبيض إلى السواد، ثقيل الوزن جدا، في وزن

طاليقون

الرصاص، وفي مسّه خشونة، وربما يكون على لون الطحال. من أخذ منه وزن عشر حبات أو أقل، وعلّقه على إنسان، لا ينام ليلا ولا نهارا، يبقى شاخصا لا يطبق أجفانه، ولا يحس بتعب السهر، بخلاف من سهر ليلا، فإنه يصيبه بسبب ذلك تعب وكلال؛ وإذا نزع هذا الحجر من ذلك الإنسان يبقى أيضا بعد نزع الحجر أياما قليل النوم. وإذا سعط المجذوم وزن ثمان شعيرات من هذا الحجر، برأ بإذن الله تعالى. طاليقون هو نحاس طرحت عليه الأدوية حتى صار صلبا، ويسمى بالعجمية هفتجوش. قال أرسطو: هذا من جنس النحاس، غير أنهم ألقوا عليه الأدوية الحادة «1» حتى أحدثت فيه سمّية، فإذا جرح «2» الحيوان، أو خالط لحمه أضرّ به. ويتخذ منه صنانير للسمك الكبار العظيمة في البحر، فلا تخلص السمك منه إذا نشبت به، وإن عظم خلق الحوت وصغرت الصنارة، لما في الطاليقون من شدة وجع يناله من سمه. ومن أصابه اللقوة فأدخل بيتا لا يرى فيه الضوء، ويديم النظر في مرآة الطاليقون أمن فساد اللقوة. ومن حمّى الطاليقون، وغمسه في ماء، لم يقرب ذلك الماء شيء من الذباب. وإذا حمّى الطاليقون، وغمسه في ماء، لم يقرب ذلك الماء شيء من الذباب. وإذا لطخ الطاليقون (146) بالعسل، وترك في الشمس لم تقربه ذبابة. ومن اتخذ من الطاليقون منقاشا، ونتف به الشعر مرة بعد أخرى، في أي موضع كان، لم ينبت بعد ذلك أبدا. وقال محمد بن علي «3» : الطاليقون نحاس يدبّر بتوبال النحاس المنقّع في أبوال البقر وماء الأشنان الرطب، فيحدث فيه سمية حادة قوية.

طلق

وقال غيره «1» : هو صنف من أصناف النحاس الأصفر، والفرق بينه وبين أنواع الأصفر، أن هذا وحده إذا حمّي في النار، وضرب عند خروجه من النار، تمدد وصار أصفر، وينكسر حتى يبرد. طلق «2» قال محمد بن عبدون: الطلق حجر براق، يتحلل إذا دقّ إلى طاقات صغار دقاق، ويعمل منه مضاوئ الحمامات «3» ، يقوم مقام الزجاج، ويسمى كوكب الأرض، وعرق العروس. وقال الرازي في كتاب المدخل العليمي «4» : الطّلق بأنواع بحري ومائي وجبلي، وهو يتصفح إذا دقّ صفائح بيضا دقاقا لها بصيص وبريق. وقال في كتاب علل المعادن: الطلق جنسان جنس متصفح، وجنس من حجارة، ويكون بقبرص. وقال ديسقوريدوس: الطلق حجر بقبرص يشبه الشب اليماني يتشظى، ويتفسخ شظايا فسخا، ويلقى ذلك الفسخ في النار، ويلهب ويخرج متقدا، إلا أنه لا يحترق. وقال الغافقي: هذا الجنس هو الجبسين، وهو الطلق الأندلسي.

وقال علي بن محمد: الطلق ثلاثة أصناف، يماني وهندي وأندلسي، فاليماني أرفعها، والأندلسي أوضعها، والهندي معتدل بينهما. فأما اليمني فهو صفائح دقاق مثل صفائح الفضة، غير أن لونها لون الصدف. والهندي مثله لكونه في الفعل دونه. والأندلسي يتصفح أيضا غير أنه غليظ متجبس «1» ، ويعرف بعرق العروس. وقال أرسطوطاليس: خاصته أنه لو دقّه الداق بالحديد والمطارق والهاون، فكل شيء يدق فيه الأجسام لم يعمل فيه شيئا، وإن أمرّ عليه حجر الماس كسره كسرا صحيحا كما وصفنا، وليس له حيلة يسحق (147) بها إلا بأن يجعل معه أحجار صغار، ويجعل في مسح شعر أو ثوب خشن جدا، ثم يحرك مع تلك الأحجار دائما حتى يتحنت جسمه، ويأكله أولا فأولا. وقال علي بن محمد: حلّ الطلق أن يجعل في خرقة مع حصوات، ويدخل في الماء الفاتر، ثم يحرك برفق حتى ينحل ويخرج من الخرقة في الماء، ثم يصفى عنه الماء، ويترك في الشمس حتى يجف، ويبقى في أسفل الإناء كالدقيق المطحون. وقال الرازي: يطلى بالطلق المواضع التي تدني من النار كي لا يعمل النار فيها. وقال ابن سينا: قال بعضهم في سقيه خطر، لما فيه من تشبثه شظايا المعدة وخملها «2» ، وبالحلق والمري. وهو بارد في الأولى، يابس في الثانية، قابض حابس للدم، وينفع من أورام الثديين، والمذاكير، وخلف الأذنين، وسائر اللحم الرخو ابتداء، ويحبس نفث الدم من الصدر بماء لسان الحمل وطلاء. وينفع من دوسنطاريا.

طوسوطوس

وقال الغافقي: جيد للقروح التي تهيج بأطراف المجذومين، ينقيها ويجبرها. وقال أرسطو «1» : هو حجر شريف، يلقى على الرصاص والنحاس والحديد فيجعلها فضة بإذن الله تعالى. وقال الإسكندر: إنا لما علمنا أن الذهب يحتاج إلى لون له بريق، فلوناه بالطلق. وهو يدخل في كثير من العلاجات الطبية والطّلسم والتبريح. طوسوطوس «2» قال أرسطو «3» : هذا الحجر تولده في معدن الفضة والنحاس «4» وهو حجر أخضر فيه طبع الدهنج والتوتيا لما ذكرنا أن التوتيا لا يكون إلا في معدن الفضة؛ والدهنج لا يكون إلا في معدن النحاس وخاصيته أنه إذا نقع في ماء وشرب يقتل وقد فعل هذا قوم بعسكر الإسكندر نقب مثانتهم فماتوا، وهو يفعل فعل الدهنج، وإن ألقي في الكحل ذهب بالبياض العتيق، وإن لم يكن البياض عتيقا أضر بالعين. طين مختوم لم يتكلم عليه أحد كجالينوس فإنه قال في التاسعة: الطين المختوم المجلوب من جزيرة (248) لميوس «5» ويسمى مغرة طينية «6» ، ويسمى خواتيم طينية

بسبب الطابع الذي تطبعه به المرأة الموكلة بالهيكل المنسوب إلى أنطامس «1» ، فإن هذه المرأة تأخذ هذا الطين بضرب من الإجلال والإكرام من غير ذبيحة، لكنها تقرّب قرابين توصلها «2» إلى ذلك الموضع، ثم تأتي بما تأخذه من ذلك التراب إلى المدينة فتبله بالماء وتعمل منه طينا رقيقا، ولا تزال تضربه ضربا شديدا، ثم تدعه بعد ذلك، حتى يرسب، فإذا رسب صبّت ما فوقه من الماء، وتأخذ ما منه سمين لزج، وتترك ما [هو] حجري رملي مما لا ينتفع به. ثم إنها تجففه حتى يصير كالشمع اللين، وتجعله قطعا صغارا وتختمها بخاتم منقوش عليه صورة أنطامس، وتضعها في الظل حتى تجف، فيصير منها هذا الدواء المعروف عند جميع الأطباء بالخواتيم اللمنية، وهي «3» خواتيم البحيرة، والطين المختوم للخاتم الذي يطبع به، وبالمغرة للونه؛ والفرق بينهما أنه لا يلطخ يد من [يقلبه و] «4» يمسه كالمغرة. وذلك التل المأخوذ منه التراب المذكور أحمر اللون، وليس فيه شجر ولا نبات ولا حجارة سوى التربة وحدها، وهي ثلاثة أصناف: أحدها هذا، ولا يقربه سوى تلك المرأة، والثاني المغرة وهي التي يستعملها النجارون في ضرب الخيط على الخشب، والثالث تراب أرض ذلك التل، وهو تراب يجلو، ويستعمله كثير ممن يغسل الكتان والثياب. قال جالينوس «5» : فلما قرأت كتاب ديسقوريدوس، وكتب غيره، ووجدت

فيها أنه يخلط في ذلك المذكور دم التيوس، تاقت نفسي إلى مباشرة ذلك بأن أعرف مقدار الخلط، كما دعتني إلى السفر إلى قبرص بسبب المحتفرات هناك، والى [الغور ب] «1» فلسطين بسبب قفر اليهود وغيره، مما هناك من الأشياء التي تحتاج إلى المباشرة والنظر، فلم أكسل عن السير إلى جزيرة لميوس «2» . فلما خرجت من أنطاكيا، ووصلت «3» إلى ماقدونيا، ثم انحدرت (149) إلى البحر القريب منها «4» ثم بعد ذلك وصلت إلى قاسوس «5» نحوا من مائتي ميل، ثم إلى جزيرة لميوس نحوا من سبعمائة ميل «6» . ثم رجعت إلى إسكندرية نحو سبعمائة «7» ميل أخرى، ثم رجعت إلي اسكندرية ولم أذكر ذلك جزافا، بل غرضي أنه إذا أراد أحد أن يسافر إلى ذلك المكان «8» ليستعد له عدته «9» . وفي الوقت الذي وصلت فيه إلى الجزيرة المذكورة، خرجت مع المرأة المذكورة إلى التل المذكور، فألقت هناك عددا معلوما من الحنطة والشعير، وفعلت أشياء أخر كعادتهم في دينهم، ثم حملت من التربة وقر عجلة كما هي وصارت بها

إلى المدينة، وعجنت ذلك الطين، وعملت منه طينا مختوما على العادة. فلما نظرت إلى ذلك، رأيت أن أسأل: هل كان فيما مضى من الدهور أحد خلط في هذا الطين دم التيوس أو المعز؟ فلما سألت ضحك مني جميع من سمع سؤالي ذلك وأنكروه إنكارا عظيما. ثم أحضر لي رجل من أهل تلك الجزيرة كتابا وضعه رجل كان في بلدهم من قديم الدهر، يذكر فيه وجوه استعمال هذا الطين المذكور ومنافعه، فدعاني ذلك الاجتهاد في تجربة هذا الدواء، وترك التكاسل عنه، وأخذت منه عشرين ألف قرص مختوم؛ وكان ذلك الرجل يداوي به الجراحات فيدملها، والقروح العتيقة العسرة الاندمال، ويداوي به نهش الأفاعي وغيرها من الهوام. وكان يسقي من يخاف عليه أن يسقى شيئا من الأدوية القتالة، ويسقى منه بعد شرب السم فينفعه. وكان يزعم أن الدواء المتخذ بحب الغار هو الذي يقع فيه الطين المختوم مقدارا ليس باليسير، قد امتحنه فوجده يهيج القيء إذا شربه الإنسان والسم الذي يتناوله في معدته بعد. ثم جربت أنا أيضا ذلك فيمن شرب أرنبا بحريا، وفيمن شرب الدراريج، بالحدس مني عليهم أنهم قد شربوه، فتقيؤا من ساعتهم السم كله من بعد شربهم الطين المختوم. (150) وقد يعرض لهم شيء من الأعراض اللاحقة لمن يتناول أرنبا بحريا أو دراريج، ولما تقيؤا تبين في القيء ما كان قد شربوه من الأدوية القتالة. ولم يكن عندي علم من الدواء المتخذ بحب الغار «1» في الطين المختوم، هل معه دفع الأدوية القتالة؟ وقد ضمن ذلك الرجل المذكور عن تجربة له. وزعم أيضا أنه سقي من قد عضه الكلب الكلب بشراب ممزوج؛ وكان يزعم أنه يطلى على

القرحة الحادثة عن العضة من هذا الطين إذا أذيف بالخل الثقيف. وكذلك زعم أنه إذا أذيف بالخل يشفي نهش الهوام بعد أن يوضع من فوقه، أو يطلى به ورق بعض العقاقير، التي قوتها تضاد العفونة، وخاصة ورق سقرديون وورق القنطريون الدقيق وورق الفراسيون. وأما الجراحات الخبيثة المتعفنة فإنا لما استعملنا في مداواتها هذا «1» الطين المختوم، نفعها نفعا بينا. وينبغي أن يكون استعماله بحسب رداءة الجراحة وخبثها، لأن الجراحة المنتنة المترهّلة الوسخة جدا يحتمل أن يطلى عليها الطين المختوم مذافا بخل ثقيف، ثخنه، مثل ثخن الطين المبلول، على مثال ما تداف الأقرصة المسماة بولويداس، وأقرصة قاسيون، وأقرصة أندرون «2» وغيرها، فإنها لما كانت تجفف تجفيفا شديدا، صارت تنفع الجراحات الخبيثة، لذلك بعد أن تذاف، إما بشراب حلو، أو بعقيد العنب، أو بالشراب المعسّل، أو بالأبيض أو بالأحمر، على حسب ما تدعو الحاجة إليه، وعلى هذا المثال يكون هذا الطين المختوم فيذاف بكل واحد من هذه الأنواع، فيكون منه دواء نافع في إلزاق الجراحات الطرية والمتقادمة والخبيثة والعسرة الاندمال. وقال ديسقوريدوس في الخامسة: هذه التربة تستخرج من معادن ذاهبة في الأرض تشبه السّرب «3» ، وتخلط بدم عنز، والناس (151) الذين هناك يطبعونها بخاتم فيه تمثال عنز، يسمونه سفراحيس «4» ، ومعناه علامة الخاتم في الشيء المختوم. وإذا شرب ففيه قوة يضاد بها الأدوية القتالة؛ له مضادة قوية، وإذا تقدم

شربه وشرب الدواء القتال أخرجه بالقيء. ويوافق لدغ ذوات السموم القاتلة من الحيوان ونهشها. وقد نفع في أخلاط بعض الأدوية المركبة. وقال ابن سينا في الأدوية القلبية: الطين المختوم معتدل المزاج في الحر والبرد، ومشاكل لمزاج الإنسان إلا أن يبسه أكثر من رطوبته، وفيه رطوبة شديدة الامتزاج باليبوسة، فلذلك فيه لزوجة وتغرية، لأن اليبوسة فيه أكثر، ففيه مع ذلك نشف، وفيه خاصية عجيبة في تقوية القلب وتفريحه، ويخرج إلى حد الترياقية المطلقة حتى يقاوم السموم كلها. وإذا شرب بعد السم أو قبله حمل الطبيعة على قذفه؛ ويشبه أن يكون خاصية تنوير الروح وتعديله، ويعينها ما فيه من اللزوجة والقبض، فيزيد الروح مع ذلك متانة، فيجتمع إلى التفريح التقوية. وقال ماسرجويه: إذا سحق وخلط بالخل ودهن الورد والماء البارد وطلي على الورم الحار نفعه وأبرأه، ويحبس الدم من حيث خرج. وقال مسيح: وينفع شرب سحيقه، [وشرب نقيعه] «1» وينفع من الوباء في زمنه. وقال: الخوزي «2» أجوده «3» الذي ريحه مثل ريح الشبث «4» ، وإذا ذرّ به على فم الجرح السائل منه الدم قطعه. وقال بولس: إذا حقن به الدوسنطاريا المتآكل بعد أن يغسل المعي قبل ذلك بماء العسل، ثم بماء مالح، أبراه.

طين مصر

طين مصر «1» وهو الأبليز «2» . قال جالينوس: وطين الأرض الشمسية الدسمة، فإني رأيت أهل الإسكندرية ومصر يستعملونه، ولقد رأيت بإسكندرية مطحولين ومستسقين كثيرا يستعملون طين أرض مصر، وخلق كثير يطلون (152) منه على سوقهم وأفخاذهم وسواعدهم وأعضادهم وظهورهم وأضلاعهم فينتفعون به منفعة بينة، ولذلك ينفع الأورام العتيقة والمترهلة الرخوة. وإني لأعرف قوما ترهلت أبدانهم كلها من كثرة استفراغ الدم من أسفل فانتفعوا بهذا الطلاء نفعا بينا، وقوم آخرون شفوا بهذا الطين أوجاعا مزمنة كانت متمكنة من بعض الأعضاء تمكنا شديدا فبرأت وذهبت أصلا. وقال ديسقوريدوس في الخامسة: كل أصناف الطين التي تستعمل في الطب لها قوة تقبض، وتنفع «3» في التبريد والتّغرية، وتختلف بأن لكل واحد منها خاصية في المنفعة [من] شيء دون شيء آخر، قد ينفع منه غيره من جنسه. ومنها صنف يقال له أرطوماس «4» ، ومعناه طين الأرض المحروثة. وهذا

طين شاموس

الصنف منه شيء أبيض شديد البياض فيه خطوط، وفيه شيء كلون الرماد، وهو أجوده إذا كان لينا جدا، وإذا حل على شيء من النحاس خرج شبيها بلون الزنجار؛ وقد يغسل مثل ما يغسل إسفيداج الرصاص على هذه الصفة، فيدق ويسحق، ويصب عليه ماء، ويفعل به ذلك النهار كله، فإذا كان بالعشي ترك حتى يصفو الماء، فإذا كان في السحر صفا الماء عنه وسحق الطين في الشمس وعمل أقراصا، وإلّا فليؤخذ أمثال الحمص، ويصير في إناء فخار مثقب بثقب كثيرة، ويسد فمه، ويستوثق منه، ويصير في جمر، ويروح عليه دائما، فإذا صار لون الطين كالرماد الأسود، رفع عن النار. قال جالينوس ما معناه: إنه ينفع جدا للقروح التي لا تجيب إلى نبات اللحم فيها بسهولة لعسر اندمالها؛ وهو نوعان: رمادي وأبيض، وأجوده الرمادي. وقال ديسقوريدوس: وقوته قابضة مبردة ملينة تليينا يسيرا، يملأ القروح لحما، ويلزق الجراحات في أول أمرها ويدملها. طين شاموس «1» قال ديسقوريدوس: ومنه صنف يقال له (153) صاماعي ومعناه طين شاموس. وينبغي أن يختار منه ما كان أبيض، مفرط البياض، خفيفا. وإذا ألصق باللسان كان كالدّبق، وإذا بل بالماء انماع، وكان لينا سريع التفتت مثل قولوريون، فإنه صنفان: أحدهما ما وصفناه، والآخر يسمى أسطو أي الكوكب، وهو كوكب الأرض؛ وكوكب شاموس «2» ، وهو ذو صفائح، كثيف، بمنزلة المسن.

وقال جالينوس: نحن نستعمل النوع المسمى كوكب شاموس في مداواة نفث الدم حيث كان، وفي مداواة قروح الأمعاء من قبل أن تتعفن، بأن تحقن به بعد غسل القرحة بماء العسل الذي له فضل صروفة، أي قليل الماء، ثم ماء الملح بعد ذلك. ثم يحقن بماء لسان الحمل «1» ويسقى منه أيضا بخل ممزوج مزاجا كثير الماء، وهو نافع للأورام الحارة، ولا سيما إذا كانت الأعضاء لها فضل رطوبة، وكانت رخوة بمنزلة الثديين والبيضتين وجميع اللحم الرخو المعروف بالغدد. وإذا عرض ذلك فاستعمل هذا الطين من بعد أن تسحقه وتعجنه بالماء، ثم تخلط معه من دهن الورد الفائق بمقدار ما يمنع الدواء المخلوط من أن يجف، فينفع الأورام الحارة وأورام الحالبين عند ابتدائها، والنزلة التي تنصب إلى الرجلين في علل النقرس، وبالجملة في جميع المواضع التي تريد أن تبردها تبريدا معتدلا وتسكنها. قال ديسقوريدوس: وقوة هذا الطين في حرقه وغسله شبيه بطين أرطياس «2» . وقد يقطع نفث الدم ويسقى بجلنار الرمان البري للطمث «3» الدائم. وإذا خلط بالماء ودهن الورد ولطخت به الخصى والثدي الوارمة ورما حارا، سكن ورمها. وقد يقطع العرق، وإذا شرب بالخمر نفع من نهش الهوام، ومن الأدوية القتالة. وقد يوجد في شامنا «4» حجرا تستعمله الصاغة في التمليس، وأجوده الأبيض الصلب، وقوته قابضة مبردة، وينفع شربا من وجع المعدة، وقد يغلظ الحواس. (154) وينفع من البياض، والقروح العارضة في

طين جزيرة المصطكي

العين، إذا استعمل في اللبن. وقيل: إنه إذا علّق على المرأة الحامل الماخض «1» أسرع ولادها، وعلى الحامل منعها إسقاط الجنين. طين جزيرة المصطكي «2» قال ديسقوريدوس: وينبغي أن يختار منه الأبيض المائل إلى لون الرماد، وهو رقيق ذو صفائح وقطع مختلفة الأشكال. وقوته تشبه قوة الطين المسمى ساماعا «3» . وقد يغسل به في الحمام مكان النطرون. والطين المسمى ساليوما «4» يفعل فعل الطين المسمى حيّا «5» ، وأجوده الشديد البياض السريع التفتت، وإذا بلّ أسرع التفتت وانماع سريعا. وقال جالينوس التربة المنسوبة إلى ساليوما «6» والى كيوس «7» فيها قوة تجلو جلاء يسيرا، ولذلك كانت تستعمل في العين على وجهين، وهما من أفضل الأدوية للقروح الحادثة عن حرق النار، وهما ينقصان عن طين شاموس «8» من طريق أنهما لا ينفعان الأورام الحارة التي تكون في اليدين والقدمين والبيضتين

طين قيموليا

مثل ذلك. طين قيموليا «1» قال ديسقوريدوس: هو نوعان أحدهما أبيض والآخر فيه فرفيرية، وهو دسم، وإذا لمس كان بارد المجسة، وهو أجود النوعين. وقال جالينوس: قوته مركبة، لأن فيه بردا وتحليلا، ولذلك إذا غسل خرج عنه [هذا] الجزء من التحليل «2» وإلّا فعل بالقوتين كلتيهما. وإذا خلط بخل وطلي على [موضع] حرق النار نفع من ساعته، وإن كان الخل ثقيفا «3» جدا فيخلط معه ما يعتدل حمضه. وكذلك كل طين خفيف الوزن، يعني نافع لحرق النار، ومانع من أن يحدث فيه نفاخات. وقال ديسقوريدوس: وإذا ذيف كلا النوعين بخل، ولطخ به الأورام العارضة في أصول الأذنين وسائر الجراحات حللها؛ وقد يحلل كل واحد منهما الأورام الجاسية العارضة في الأنثيين وجميع أعضاء البدن والحمرة. وبالجملة ما كان من هذا الطين خالصا فإنه كثير المنافع. وقال (155) ابن حسان «4» : أهل البصرة يسمون طين قيموليا الطين الحر، وأصنافه كثيرة، ومنه الأرمني، ومنه سجلماسي «5» ، وأندلسي، والأرمني، لم نره بعد، وهو أجوده كله، وبعده السجلماسي، وهو أفضل في العلاج من

الأندلسي، وهو أبيض شديد البياض، صلب الجرم، مكتنز الأجزاء، لا ينكسر بسرعة، ولا ينحل بالماء إلا بعد برهة، غير أنه إذا انحل ففيه من اللزوجة أكثر مما في غيره. والأندلسي صنفان: أبيض وأسود، والأبيض الشديد البياض هو المستعمل في العلاج، والأسود رديء لا يتصرّف في شيء [منه] . وقال محمد بن عبدون «1» : الطين الحر هو الطين العلك الخالص من الرمل والحجارة. وقال علي بن محمد: الطين الحر هو الخالص من الرمل، وربما خص بهذا الاسم طين سيراف «2» لنقائه وتداخل أجزائه، وهو طين عفص «3» شديد الرطوبة، لونه أخضر شنع الخضرة أكثر من الطفل، قريب من خضرة الزنجار، وإذا دخّن بقشور اللوز ليؤكل، احمرّ لونه، وطاب طعمه، وقل ما يؤكل غير مدّخن. وقال علي بن رزين «4» : الطين الحر بارد يابس في اعتدال جيد لجميع أنواع الحرارة إذا نقع ووضع على موضعها. وقال في كتاب الجوهرة: الطين الحر يطلى بالخل على لسعة الزنابير فيسكّنه. وقال ابن سمجون: قال بعض الأطباء: وبدل طين قيموليا، إذا عدم، وزنه من طين مصر.

قال ديسقوريدوس: ومن أصنافه صنف يقال له سليس عمى «1» ، وهو باليونانية الطين الحامي «2» ، ويشبه لون الطين المسمى أرطيوناس «3» ، وهو عظيم المدر، بارد المجس؛ وإذا لزق باللسان تعلق به. وهو مثل العسل، وقوته كقوة قيموليا، لكنه أضعف منه قليلا. ومن الناس من يدلس به الطين المسمى أرطوناس «4» . وقال جالينوس: قوته كقوة القيموليا، ولونه بعيد من لونه، لأنه أسود مثل الطين الكرمي، وله (156) من اللزوجة مثلما لطين شاموس أو أكثر. قال ديسقوريدوس: والطين الذي في حيطان الأتانين، الذي قد اشتد واحمر، قوته مثل قوة خزف التنور. ومنه صنف يقال له مليلياعي، ولونه شبيه بالرماد، وفيه خشونة، وإذا فرك بالأصابع يسمع له صرير مثلما يعرض من القيشور إذا فرك. وقوته تشبه قوة الشّب، لكنه أضعف؛ ويستدل على ذلك من مذاقه، وقد يجفف اللسان قليلا. وهو ينقي وسخ البشرة، ويجلو ظاهر البدن، ويحسن اللون، ويبرق الشعر، ويقلع البهق والجرب المتقرح. ويستعمله المصورون في الأصباغ ليطول مكثها في الصور، ولا يندرس سريعا. وينبغي أن يختار من جميع أصناف الطين ما ليس فيه حجارة، وكان قريب العهد بالمعدن الذي خرج منه، وكان لينا سريع التفتت والانمياع، وإذا خلط بشيء من الرطوبات انماع. قال جالينوس: وأما الطين المجلوب من إقريطش، فيشبه أنواع الطين، لكنه

طين كرمي

أضعف منها بكثير، والأكثر فيه الحر الهوائي، وفيه جلاء، ولذلك صار تجلى به آنية الفضة إذا اتسخت، فبهذه الأشياء ينبغي أن تستعمل هذه التربة في الأشياء التي تجلو. طين كرمي «1» قال ديسقوريدوس: ومن الطين صنف يقال له أناليطس «2» ومعناه الكرمي، ويسمى قومانيطس «3» ومعناه الدواء، ويختار منه [ما كان منه] أسود اللون، الشبيه بالفحم المستطيل، وفيه من شكل الحطب المشقق صغارا، ومتساوي الصقال، ليس يبطئ بالانمياع إذا سحق وصب عليه ماء، فأما ما كان منه أبيض رمادا بالانمياع فينبغي أن يعلم أنه رديء. قال جالينوس: سميت هذه التربة كرمية «4» لأنها تصلح لغارس الكروم وذلك أنها إذا طليت على الأعضاء من الكرم قتلت الدود «5» الذي يتولد في مبدأ الربيع عندما يورق الكرم، فيأكل عين الكرم (157) ويفسده، فيطلي الفلاحون هذه التربة عند أصول تلك العيون، ويسمونها تربة كرمية، وتراب دوائي، وقتلها هذا الدود يدل على مقدار ما فيها من قوة هذا الدواء، وهي بعيدة جدا من جميع الأنواع الأخر من أنواع الأرض التي تستعمل في علاج الطب، لأنها قريبة من جوهر الأحجار. وقال ديسقوريدوس: وقوة هذا الطين قابضة ملينة مبردة، وقد يستعمل في

طين أرمني

الأكحال التي تنبت الأشفار، وفي موضع الشعر، وقد يلطخ به الكرم حين يبتدئ نبات ورقه وأغصانه ليمنع الدود أن يأكله ويقتله. طين أرمني «1» قال جالينوس: الطين الأرمني يجلب من أرمينية القريبة من قبادوقيا «2» . وهو طين يابس جدا، يضرب لونه إلى الصفرة، ويسحق بسهولة كما يسحق النؤورة، ولا يوجد فيه شيء من الرمل، وفيه من الاستواء والملاسة «3» وعدم الحجارة الصغار مثل ما في النؤورة والطين المعروف بكوكب الأرض، لكن كوكب الأرض أخف منه، فهو أشد اكتنازا منه، وليس فيه من الهوائية مثلما لكوكب الأرض، ولذلك يخيل لمن نظر إليه أنه حجر، وكان [الرجل] «4» الذي أعطانا إياه في الطاعون والوباء «5» يسميه «6» حجرا ولا يسميه طينا لثقله واكتنازه. (ويستنقع بالرطوبة التي تصب عليه) «7» ، وهو نافع جدا للقروح الحادثة في الأمعاء، ولاستطلاق البطن، ولنفث الدم، ونزف الطمث، ونوازل الرأس، والقروح المتعفنة في الفم. وينفع من ينحدر من رأسه إلى الصدر مادة نفعا عظيما، ولذلك صار عظيم المنفعة لمن يضيق عليه نفسه من قبل هذا السبب ضيقا متواليا. وينفع أصحاب السّل، وذلك أن يجفف الجرح الذي في رئتهم،

حتى لا يسعلوا بعد ذلك، إلا أن يقع في تدبيرهم خطأ عظيم، ويتغير الهواء دفعه إلى حالة رديئة، والذين إذا أصابهم الربو وضيق النفس مرارا متوالية في هذا الموتان العظيم، (158) لما شربوا من هذا الدواء برأوا بسرعة. وأما من لم ينفعهم ذلك شيئا فكلهم ماتوا ولم ينتفع أحد منهم بشيء آخر مما عولجوا به. وهذا الطين يشرب مع شراب لطيف رقيق القوام، وممزوج مزاجا معتدلا متى لم يكن العليل محموما، وكانت حمّاه يسيرة أما إذا كانت الحمّى شديدة فالشراب ممزوج مزاجا مكسورا بالماء؛ على أن الحمّيات التي تكون في وقت الموتان لا تكون صعبة ولا شديدة. فأما الجراحات التي تحتاج إلى تجفيف فلا أحتاج أن أصف قوة نفع هذا الطين وفعله فيها. وقال إسحاق بن عمران: الطين الأرمني لونه أحمر إلى السواد، طيب الرائحة، ومذاقته ترابية، وله تعلق باللسان، وهو بارد يابس في الأولى. ينفع أصحاب الطواعين إذا شرب منه أو طلي عليها، وبدله وزنه من الطين الحجازي المسمى بالأندلس الخيار «1» . وقال الدمشقي «2» : يخرج من المقعدة قشور البواسير، ويجبر الكسر. وقال غيره: أجوده المورّد الناعم. والطين اللامي قريب منه في الفعل، وهو نافع من كسر العظام إذا طلي عليها بالأقاقيا «3» .

طين نيسابوري

طين نيسابوري وهو طين الأكل. قال ابن سمجون: قال الرازي: الطين المتنقل به هو الطين النّيسابوري. وقال ثابت بن محمد: الطين النيسابوري من الطين الحر، ولونه أبيض شديد البياض في لون إسفيداج الرصاص، لين المذاق، يلين الفم من شدة لينه؛ وفي طعمه ملوحة، فإذا دخّن نقصت ملوحته وطاب طعمه. ومن الناس من يصوّله ويعجنه بماء الورد المفتوق «1» وبشيء من الكافور، ويتخذ منه أقراصا وطيورا وتماثيل. وقوم آخرون «2» يصنعونه بالمسك والكافور وغيرهما من الطيب، حتى يأخذ ريحه، ويتنقلون به على الشراب فيطيّب النكهة، ويسكن ثوران المعدة. وقال محمد بن زكريا [الرازي] : وطين الأكل بارد مقوّ للمعدة، يذهب بالغثي. وقال في دفع (159) مضار الأغذية «3» : الطين النيسابوري المتنقل به يذهب بالغثى ووخامة الأطعمة الحلوة والدسمة، إذا أخذ منه بعد الطعام شيء يسير، لا سيما إن كان مربى بالأشنان والورد والسعد والإذخر «4» والكبابة «5» والقاقلة «6» .

وينبغي أن يجتنب الطين أصحاب الأكباد الضعيفة المجاري، ومن يتولد الحصى في كلاهم، وهم أصحاب الأجساد النحيفة السمر أو الصفر أو الخضر. وقال في مقالته في الطين: الطين النيسابوري خاصيته يشد «1» فم المعدة، وينفع من الغثى والهيضة، ومن يتقيأ «2» طعامه دائما وهو رهل المعدة، ويكثر سيلان الريق من فمه في حال النوم، ومن به الشهوة الكلبية مع انطلاق الطبيعة. قال «3» : وقد خلصت به رجلا من هيضة صعبة شديدة، وكان قد أشرف منها لشدة القيء وتواتره على الهلاك، وبدأ به التشنج، ولم ينفع فيه دواء، بأن سحقت منه وتعمدت لموضع المقلو والسواد والملح وزن ثلاثين درهما «4» فسقيته إياها ثلاث مرات، مرتين بماء التفاح المز «5» ومرة بطبيخ السعد، فسكن عنه غثيه وكربه أسرع تسكين. وأعجب من ذلك أنه قوّاه وبسطه حتى كأنه قد غذّاه. واعتمدت أيضا عليه في علاج الممعودين «6» ، ولعلّ من يعتريه غثى وكرب عقيب طعامه، وأشرت على من يعتريه ذلك أن يتناول منه قليلا بعد طعامه، فكان يسكّن عنهم وخامة الطعام ورعدة المعدة والتّشوّف إما إلى القيء، وإما إلى نزول الطعام إلى أسفل البطن، لأنه يخصف المعدة ويشد أعاليها، حتى يجف بسرعة، ويبطل الغثى والكرب. وعالجت به أيضا قوما كانوا يتأذون كثيرا بكثرة سيلان اللعاب، وجماعة من أصحاب الشهوة الكلبية فبرءوا برءا تاما.

عقيق

عقيق «1» قال أرسطاطاليس «2» : العقيق أجناس كثيرة، ومعادنه كثيرة، وأجوده ما يجلب من اليمن وسواحل بحر رومية (160) ، (وقد يوجد على ساحل البحر بالأردن) «3» ، وأحسنه ما اشتدت حمرته وأشرق لونه. وفي العقيق جنس أقلها إشراقا وحسنا كلون الماء المتحلّب من اللحم إذا ألقى عليها الملح، وفيه خطوط بيض خفيفة، فمن تختّم به سكّن روعه عند الخصام، وانقطع عنه خروج الدم من أي موضع كان، وخاصة في النساء [اللواتي يدمنّ الطمث] «4» . ومن دلك أسنانه بنحاتته أذهب الصدأ والحفر عنها، وبيّضها، ومنع الأسنان أن يخرج من أصولها الدم. وقال غيره: محرّقه يمسك الأسنان المتحركة ويثبتها «5» ، ويقوي العين والقلب وينفع من الخفقان.

وقال في كتاب الأحجار «1» : إن الحجر- أعني العقيق- طبعه حار رطب، مائل إلى [لون] الدم، والمختار منه ما كان أحمر شديد الحمرة، أو أصفر معرق بحمرة لون غسالة اللحم، شرق اللون، ليس فيه كدورة ولا نكتة، صقل الوجه. وأصنافه ثلاثة وهو نوع واحد، أحمر وأصفر وأسود. ولهذا الحجر أشباه كثيرة تقارب لونه وجسمه، ولكن ليس تبلغ مبلغه، والفرق بينه وبين أشباهه أن هذا الحجر في جسده شعرة ملتفة كشعرة العود، وإن دخل إلى النار خرج أبيض، ومتى نثر على الجراح التي تنزف الدم قطعه، ويزداد في النار حسنا حتى يبيض. وإن ألقي إلى الوزن كان خفيف الوزن، وسائر الأحجار ليست كذلك، ولا تفعل كذلك. ويؤتى بهذا الحجر من بلاد رومية واليمن وحضرموت. وخاصيته أن لابسه تسكن حدة غضبه منه، ويكون سليم الصدر، غير حنق ولا غضوب عند الخصام، هادئ الروع. أما الذي منه على غسالة اللحم، وفيه خطوط بيض خفيفة «2» فلابسه ينقطع عنه نزف الدم والرعاف وسيل الجراح، وأي امرأة لبسته انقطع طمثها. ومن دلك أسنانه بسحالته نفع حفرها، وجلا صداها، ومنع خروج الدم من أصولها. ومن لبس من أصفره حجرا، أكان امرأة أو صبيا أو رجلا، كان محفوظا. ومن سحل منه شيئا وألقاه في دهن زئبق، مع شيء من مسك وشيء من كافور قد سم «3» ، ثم أدهن به، ودخل على سلطان، كان له قبول بليغ، ولا يراه أحد إلا أحبه الحب الشديد وهابه.

عنبر

قلت: روي عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه قال (من تختم بالعقيق لم يزل في بركة «1» ) «2» . وعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال (تختموا بالعقيق فإنه ينفي الفقر) «3» . عنبر «4» قال ابن حسان: هو شيء يخرج من قعر البحر فيأكله بعض دواب البحر لدسومته، فيقذفه رجيعا، فيوجد كالخشب العظام، والحجارة الكبار، دسم خوار [دهني] ، يطفو على الماء، فيدفعه «5» الريح إلى الساحل، أو يبقى طافيا، فيأخذه رجال السفن. ومنه ما لونه إلى السواد جاف، قليل النداوة، عطر الرائحة، يقوي القلب والدماغ، نافع من الفالج واللقوة والبلغم الغليظ. وهو سيد الطّيب، واختباره بالنار. وقال ابن سينا: العنبر فيما نظن طين يخرج من عين في البحر، والذي قال إنه زبد البحر أو روث دابة بعيد. وأجوده الأشهب القوي السلاهطي «6» ، ثم الأزرق ثم الأصفر، وأردؤه الأسود. ويغش من الجبس «7» والشمع واللادن «8» والمندل «9»

وهو صفة الأسود الرديء. قال: وكثيرا ما يوجد في أجواف السّمك التي تأكله وتموت. وهو حار يابس حار في الثانية، ويابس في الأولى، ينفع المشايخ بلطف تسخينه. ومن المندل «1» صنف يخضّب اليد، ولسع نصول الخضاب، وينفع الدماغ والحواس. وقال في الأدوية القلبية: فيه متانة ولزوجة، وخاصية شديدة في التقوية والتفريح «2» معا، تعينها العطرية القوية، فلذلك هو مقو لجوهر كل روح في الأعضاء الرئيسة، مكثر له وأشد اعتدالا من المسك. [وقد عرفت موجب الخصال التي هي] «3» عطرية مع تلطيف ومتانة ولزوجة. وقال ابن رضوان: العنبر نافع من أوجاع الباردة، ومن الرياح الغليظة العارضة في المعي، ومن السدد إذا شرب وإذا طلي به من خارج، ومن الشقيقة والصداع الكائن عن برد، وإذا تبخر به، وإذا طلي. ويقوّي الأعضاء، ويقاوم (162) الهواء المحدث للموتان إذا أدمن شربه، والبخور منه. وقال التميمي: وقد تضمد به المفاصل المنصب إليها الرطوبات ورياح البلغم فينفع نفعا بينا ويقوي رباطاتها ويحلل ما انصب إليها من الرطوبة، وقد يسعط منه محلولا ببعض الأدهان المسخّنة كدهن المزرنجوش «4» أو دهن البابونج أو دهن الأقحوان أو دهن الجماجم، فيحلل علل الدماغ الكبار العارضة من البلغم والرياح، ويفتح ما عرض في لفائفه من السّدد، ويقويه على دفع الأبخرة والرطوبة

عنبري

المتراقية إليه. وتتخذ «1» منه شمامات على مثال التفاح، يشمها من عرض له الفالج واللقوة والكزاز، فينفعهم. ويدخل في كثير من المعاجن الكبار والجوارشنات «2» الملوكية. وقال في التجربتين: دخنته نافعة من النزلات الباردة، مقوية للدماغ، وإذا حل في دهن البان نفع جميع أوجاع العصب والخدر «3» . إذا دهن به فقار الظّهر. وهو مقو لفم المعدة إذا غمّست فيه قطنة ووضعت عليها. وينفع من استطلاق البطن المتولد عن برد وعن ضعف المعدة إذا أكل. وبالجملة فهو مقو للأعضاء العصبية كلها. وإن طرح منه شيء في قدح شراب وشربه سكر سريعا. عنبري «4» قال أرسطو: هذا الحجر يضرب لونه إلى الغبرة والخضرة التي ليست بالمشرقة، وفيه نقط سود وصفر وبيض، يشم منه رائحة العنبر؛ وإن ملوكنا استحسنوه فاتخذوا منه أواني كثيرة واشتهوا طيبها. وأول من استخرج هذا الحجر إبليس اللعين، لأن من أدمن الشرب فيه أورثه العلل السّوداوية، فيحتاج إلى علاج شديد وتعب، كما أصاب هؤلاء الملوك، حتى عن الشرب منها نهيناهم وعالجناهم من الأمراض التي أصابتهم. فرسلوس «5» قال أرسطو: هو حجر يوجد في الظلمات أخرجه الإسكندر وكان في خزائنه

قرطاسيا

وهو حجر أسود ثقيل الجسم إذا وقع في النار تلاشى واضمحل وإذا طرح على الزئبق (163) وعرض النار عقد الريبق وضبط بعضه بعضا فيصير جسدا واحدا فضة لينة يصبر على النار وطرق المطارق وإذا علق على إنسان لا يزال يتكلم بالحكمة ولا ينسى ذكر الله تعالى وإذا جامع زوجته وعليه هذا الحجر رزق ولدا ميمونا حكيما وينفع أيضا من عين السوء وإذا سحق بلبن البقر وطلي به موضع البرص برئ بإذن الله تعالى. قرطاسيا «1» قال أرسطو: هو حجر يوجد في أسافل الجبال الشواهق، إذا كان الليل أشعل كالسراج، فإذا سحق بماء الكرفس صار سما قاتلا لجميع الحيوانات، نعوذ بالله منه!. فيروزج «2» قال في كتاب الأحجار: الفيروزج حجر أخضر تشوبه زرقة، يصفو لونه مع صفاء الجو، ويتكدر بكدورته، في جسمه رخاوة. ومعدنه بأرض خراسان، وينفع العيون إذا سحق مع الأكحال؛ وليس من لباس الملوك، لأنه ينقص من هيبتهم. وقال ابن ماسويه «3» : بارد يابس، يجلب من نيسابور، القطعة من درهم إلى

خمسة أساتير «1» ، يدخل في الكيمياء وأدوية العين، وإذا سحق وشرب نفع من لسع العقارب. وقال ديسقوريدوس في الخامسة «2» : إذا شرب نفع من لسع الهوام والقروح العارضة في الجوف، ويقبض نتوء الحدقة، وينفع من غشاوة البصر، ويجمع حجب العين المحترقة «3» . وقال جالينوس في التاسعة: وقد وثق الناس بأنه إذا شرب نفع من لسعة العقرب. ومنه نوع يقال له التيفاشي «4» : يجلب من معدن بجبل نيسابور، ومنه يحمل إلى سائر البلدان. ومنه نوع آخر [يوجد بنيسابور] «5» ، إلا أن النيسابوري خير منه، ونوعاه سحاقي ولحمي «6» ، والخالص منه هو العتيق السحاقي، وأجوده الأزرق، الصافي اللون المشرق الصفاء، الشديد الصقال، المستوي الصبغ، وأكثر ما يكون فصوصا. وذكر الكندي أنه رأى حجرا منه زنته أوقية ونصف، وهو يقبل «7» الجلاء أكثر من اللازورد، ويحسن صفاؤه (164) عليه، وإذا أصابه شيء من الدهن غيّر لونه، وكذلك العرق يفسده ويطفئ لونه بالكلية، وكذلك المسك إذا باشره.

فيلقوس

وذكر أرسطاطاليس: أن كل حجر يستحيل عن لونه فهو رديء للابسه. وروي عن جعفر الصادق- عليه السلام-: ما افتقرت يد تختمت بفيروزج «1» . فيلقوس «2» قال أرسطو: تفسير فيلقوس المتلون بألوان كثيرة. وهذا الحجر يتلون في يوم واحد، فيكون تارة أحمر، وتارة أخضر، وتارة أصفر، ولا يزال يتلون بالأصباغ، فإذا كان الليل لمع بضوئه كالمرآة. والإسكندر لما ظفر بهذا الحجر في معدنه أمر أعوانه بحمل شيء كثير منه، ففعلوا، فلما كان الليل أخذهم الرجم من كل ناحية، لا يرون من يفعل ذلك، فتوهموا أن هذه الأحجار تغلب عليها الشياطين، وفيها خاصية لا يجوز أن يعرفها الأنس؛ فأمر الإسكندر بإمساكها، فما مر بها بموضع إلا وهرب الجن منه، وما كان يقربها شيء من السباع والهوام، فجعلها في خزائنه. فيهار «3» قال أرسطو: هو حجر يوجد بناحية المشرق في معدن الذهب، لونه لون الياقوت الأحمر، يشف كالزجاج. خاصيته أنه يدفع غائلة السحر عن حامله، وإذا سقي منه وزن شعيرتين أزال الخبل والجنون بإذن الله.

قرياطيسون

قرياطيسون «1» قال أرسطو: هو حجر يوجد بأرض الهند، خاصيته أنه ينفع من سيلان الدم، وإن مسك في الفم، ووضع على الأخدعين «2» المحاجم «3» لم يخرج من الدم شيء أصلا. قروم «4» قال أرسطو: هذا حجر يخرج من بحر يدعى القروم «5» ، يخرجه الغواصون، وهو حجر متلون بالبياض والحمرة والصفرة والخضرة والدّكنة. وخاصيته أنه إذا علق على إنسان تكلم بالصواب والصدق، وهربت منه الشياطين! وإذا شرب منه وزن شعيرة مسحوقا بشيء من العود، نفع من أوجاع المفاصل والعظام (والعروق) «6» . قفر «7» ويقال كفر اليهود «8» . قال التميمي في المرشد: فأما القفر اليهودي فقد يختص به أحد النوعين من القفر المستخرجين من بحيرة يهودا، وهي البحيرة المنتنة «9» التي في عمل فلسطين، بالقرب من البيت المقدس، التي هي فيما بين

الغورين، غور زغر «1» وغور أريحا. وهو القفر المحتفر عليه، المستخرج من برية ساحل هذه البحيرة، وهو أفضل نوعي القفر اليهودي. وهذا الصنف هو الذي يدخل في أخلاط الترياق الأكبر المسمى بالفاروق، والمعول عليه، وذلك لأن القفر اليهودي المسمى بتلك الناحية الخمر، لأجل أنه يخمّرون به كرومهم. ومعنى التخمير أن تحل «2» أحد «3» نوعي هذا القفر المستخرج من هذه البحيرة بالزيت، فإذا زبّروا كرومهم، أي قنّبوها «4» عند نفس الكرم، وبرزت عبوته، أخذوا هذا القفر المحلول في الزيت، ثم جاءوا إلى كل عين من عيون الكرم، فيغمسون «5» في ذلك القفر المحلول بالزيت، عمودا «6» في غلظ الخنصر، ثم حكوا به تلك العين أو تحتها بالقرب منها «7» ، فجعله «8» دائرة على ساق الغصن والقضيب أو ساق الكرم، ليمنع الدود من الترقي إلى عيون الكرم وأكلها؛ فإذا فعلوا ذلك سلمت لهم كرومهم من فساد الدود، وإن هم أغفلوا ذلك صعد الدود إلى عيون الكرم فرعاها وأفسد الثمر والورق جميعا؛ فمن القفر اليهودي هذا الصنف المحتفر عليه، المسمى بالشام أقرطايون «9» . ومنه صنف ترمي به البحيرة في الأيام الشاتية إلى ساحلها، وهو في منظره

أحسن لونا من أقرطايون، وأشد بصيصا وبريقا، وأشد رائحة [وذلك أن رائحة هذا الصنف الذي ترمى به البحيرة] «1» كرائحة النّفط الشديد الرائحة، ينبع من قرار هذه البحيرة، ويخرج من عيون الصخور التي في قرارها، كما ينبع العنبر في قرار البحر، ويركب بعضه بعضا، فإذا كان في أيام الشتاء، واشتدت الرياح، وكثرت الأمواج، وكبر «2» البحر، واشتدت حركته، انقلع ذلك القفر الجامد اللاصق بالصخور، فيطفو فوق وجه الماء، فترمي به الريح إلى (166) ساحل البحيرة. وليس للقفر اليهودي في جميع بلدان الأرض معدن غير هذه البحيرة. وأما الصنف المسمى أقرطايون «3» ، وهو القفر اليهودي بالحقيقة، فإنه يحتفر عليه في ساحل البحيرة المنتنة بالقرب من الماء، ومن تكسر أمواجها نحوا من ذراع أو ذراعين من الأرض، فيجدونه مجتمعا في بطن الأرض، متولدا في نفس تلك البرية قطعا مختلطا بالملح والحصى والتربة، فيجمعون معه شيئا كثيرا، ويصفّونه بما فيه من الحصى والتراب بالنار والماء الحار كمثل ما يصفى الشمع والزفت «4» . ثم يستخرجونه بعد التصفية، فيأتي لونه مطفأ كمدا، ليس له شديدة بصيص القفر الذي ترمي به البحيرة، وليس له أيضا روائح النفط الموجود فيما يرمى به، بل تكون رائحة هذا الذي يحتفرون عليه ويصفونه تضرب إلى رائحة القير «5» العراقي. وقال ديسقوريدوس في الأولى: القفر اليهودي بعضه أجود من بعض، وأجود القفر ما كان لونه شبيها بلون الفرفير، برّاقا، قوي الرائحة، رزينا؛ والأسود

منه الوسخ فرديء لأنه يغش بزفت يخلط فيه. قال: وقد يكون في بلاد صقلية رطوبة تطفو على مياه العيون، يستعملها الناس في السراج عوض الزيت، ويسمونه دهنا صقليا، ويغلطون في ذلك، إنما هو نوع من القفر الرطب «1» ، ويدعى سطالاطس «2» . وقال جالينوس في الحادية عشرة: القفر اليهودي هو أحد الأنواع المتولدة في ماء البحر وغيره، وكذلك صار يوجد طافيا على مياه الحمامات «3» وما دام فوق الماء، فهو رطب سيّال، ثم إنه يجف بعد ذلك حتى يصير أصلب من الزفت اليابس، وقد يتولد منه مقدار كثير جدا في البحيرة المنتنة بغور الشام. وقوته تجفف وتسخن في الثانية، ولذلك يستعمله الأطباء في إلزاقات الجراحات الطرية بدمها، وفي سائر ما يحتاج إلى التجفيف مع الإسخان اليسير. (167) وقال حنين «4» : قفر اليهود، وهو الخمر، وهو أرفع ما يكون من المومياء. إذا كان خالصا نفع بإذن الله من رضاض «5» اللحم، ومن الكسر إذا ضمد به من خارج، ويغلى بالزيت الخالص، ويسقى للمرضوض اللحم، ويؤخذ المشاقة «6» وشيء منه، ويوضع عليه من خارج فيبرأ. وقال ديسقوريدوس: ولكل قفر قوة مانعة من تورم الجراحات، ملزقة للشعر النابت في الجفون، ملّينة محلّلة، وإذا احتمل أو اشتم أو تدخن به كان صالحا

للأوجاع العارضة في النساء اللواتي يعرض لهن الاختناق، ولخروج الرحم. وإذا تدخن به صرع من به صرع، وإذا شرب بجندبادستر «1» وخمر أدرّ الطّمث، ونفع من السعال المزمن، وعسر النفس، ونهش الهوام، وعرق النسا، وأوجاع الجنب. وقد يحبّب ويعطى لمن به إسهال مزمن. وإذا شرب ذوّب الدم «2» المنعقد، وقد يحتقن به مع الشعير لقرحة الأمعاء. وإذا استنشق [دخانه] «3» نفع من النزلات، وإذا وضع على السّن الوجعة سكن وجعها. واليابس من القفر إذا سحق واستعمل ألزق الشعر النابت من العين، وإذا تضمد به مع دقيق الشعير ونطرون نفع المنقرسين «4» ، ووجع المفاصل. وقال التميمي: يحلل الأورام الحلقية «5» الباردة، ويحلل القروح، ويلين ويمدد، ويجلو البياض من العين، ويجفف رطوبات القروح الرطبة تجفيفا شديدا ويدملها، مع فضل حرارة فيه، وقوة قوية [ويبس] . ويقتل الديدان في الشجر، ويمنعها من أكل عيون الكرم أول ما تعيّن، ويقتل ما في الآبار والصهاريج من الديدان الصغار الحمر، ويدخل في كثير من المراهم المنبتة للحم المدملة للقروح. وهو طرّاد للرياح الغليظة الكائنة في المعدة والشراسيف «6» ، حتى إنه يخرجها بالجشأ. ويدخل في سفوفات الأطفال ووجوراتهم «7» ، وفي سفوفات «8» الرجال

قلى

والنساء، المعينة على هضم الطعام، المحللة للنفخ والقراقر. وقوم (168) يدخلونه في الدخن، وإذا بخّر به المنزل طرد الحيات والعقارب وسائر الهوام المؤذي، ويسميه الصيادلة الإسقرطم «1» . وقال ابن سينا: يقوي الأعصاب، وينفع من بياض الأظفار لطوخا، وينضج [ويفتح] «2» الخنازير، ويطلى على القوابي، [وينفع من قروح الرئة ويعين على النفث وبخرج المدة من الصدر] » وينفع من أمراض اللوزتين، [و] من الخناق، وصلابة الرحم. قلى «4» قال أبو حنيفة: القلى يتخذ من الحمض، وأجوده ما يتخذ من الحرض وهو قلى الصبّاغين وسائر ذلك للزجّاجين. وقال مسيح: القلى حار في [الدرجة] «5» الرابعة، ومنافعه كالملح، إلا أنه أحدّ من الملح. ينفع من البهق والقروح، وينفع من الجرب، ويأكل «6» اللحم الزائد «7» . وقال في كتاب العجائب «8» : يدق مع الثوم، ويعجن بالنفط الأبيض، ويطلى به لدغ العقرب، فإن وجعه يسكن في الحال بإذن الله تعالى.

قيراطير

قيراطير «1» قال أرسطو: هو حجر مدور مثل الحصى، يخرج من البحر، شبيه بالبنادق «2» . خاصيته أنه إذا سحق وشربه من به الحصى في المثانة أخرجه قطعا كالرمل. قيشور «3» قال أرسطو «4» : القيشور حجر خفيف متخلخل، يقوم على الماء، ولا يغوص. وله معادن كثيرة في بلاد سقلية «5» وبلاد أرمينية، ويسمى أيضا حجر الدفاتر لأن المكتوب في الدفاتر إذا حك به محاه. وقال ديسقوريدوس في الخامسة: وينبغي أن يختار منه ما كان خفيفا جدا، كثير التجفيف «6» ، مسفقا «7» ليس له كثافة ولا صلابة الحجارة، هشا أبيض. وينبغي أن يحرق على هذه الصفة، [بأن] يؤخذ [منه] أي مقدار كان، ويدفن [في] جمر، فإذا حمى أخذ وطفىء في خمر ريحاني؛ ثم يدفن ثانية، فإذا حمى

كرسيان

أخرج عن النار، وترك حتى يبرد من تلقاء نفسه، ثم يرفع ويستعمل وقت الحاجة. وله قوة تقبض اللثة، وتجلو غشاوة البصر والآثار مع إسخان. وقد يملأ القروح الغائرة ويدملها، ويقطع اللحم الزائد فيها. وإذا سحق ودلكت به الأسنان جلاها، (169) ويسحق ويستعمل في حلق الشعر. وزعم أوليطس «1» أنه إن ألقي في خابية خمر تغلي سكّن غليانها على المكان. وقال جالينوس في التاسعة: قد يقع في الأدوية التي تبني اللحم، وفي الأدوية التي تجلو الأسنان، إذا كان على مثال الأدوية التي تحرق، ولكنه يكتسب في الإحراق شيئا حارا حادا يخرج منه إذا غسل، وهو عند الناس يجلو «2» الأسنان ويجعلها براقة، لا بقوته فقط بل بحسب خشونته أيضا، كالساذج والخزف وغير ذلك وما أشبهه من جلاء الأسنان. ونفعه ذلك للخلّتين «3» جميعا، أعني لأن فيه شيئا «4» من الجلاء والخشونة، وعلى هذا النحو صارت القرون إذا أحرقت صار منها دواء يجلو الأسنان. كرسيان «5» قال أرسطو: هو حجر يوجد بأرض الهند، أخضر اللون، شفاف صاف، ثقيل الجسم في ثقل الرصاص. إذا أخذ هذا الحجر وكلّس حتى يبيض، وحمّر

كرسباد

حتى يحمر، ويصير في وزان الزنجفر، فإذا انحل، ألقى عليه مثله مغنيسيا «1» ، وأذيب البلور بالنار، وألقي عليه من هذا الكرسيان المدبر عشر شعيرات على عشرة أساتير صبغه وجعله في لون الياقوت. وإذا علق على إنسان منه، ولو وزن قيراط، أمن من الحمّى وغائلتها. كرسباد «2» قال أرسطو: هو حجر يوجد بأرض الهند «3» . أسود اللون، يجتمع عليه الحيتان. وهو خفيف، خشن «4» المس، شديد السواد، صلد لا يعمل فيه المبرد. إذا كلّس تكلس في سبع مرار، ويصير كلسه أبيض. [و] إذا خلط مع هذا الكلس شيء من نشاذر، وألقي منها جزء على سبعة أجزاء زئبقا، عقده وصيره حجرا يصبر على المطارق. كرماني «5» قال أرسطو: هو حجر أسود تشوبه كمودة، يصاب في الآجام والدحل «6» ، وقد يكون على لون الطحال، إذا سحق منه بالشب واللبن وأسعط المجذوم (170) برأ من جذامه بإذن الله تعالى.

كدامى

كدامى «1» قال أرسطو: هو حجر يوجد على سواحل البحر، أخضر يشوبه سواد، وهو خشن خفيف إذا سحق أو برد على المبرد، وطرح على الرصاص القلعي المنقّى أذهب ضرره ونتن رائحته وصيّره صابرا. كلس «2» هي الجير «3» والنؤورة أيضا. قال ديسقوريدوس في الخامسة: قد يعمل على هذه الصفة، [بأن] يؤخذ صدف الحيوان الذي يقال له قروقش «4» البحري فيصير في نار أو تنور محمّى، ويترك فيه ليلة، فإذا كان من غد، نظر إليه فإن كان مفرط البياض أخرج من النار، أو من التنور، وإلّا فليبرّد ثانية، ويترك حتى يشتد بياضه، ثم يؤخذ فيغمس في ماء بارد في فخّارة جديدة، ويستوثق من تغطيته لخرق «5» ويترك في الفخار ليلة، ويخرج منها غدا وقد تفتت غاية التفتت، فيرفع. وقد يعمل أيضا من الحجارة التي يقال فوخلافس، وهي فيما زعم قوم حجارة مستديرة بالطبع مثل الفهور «6» ، ويعمل أيضا من رديء الرخام. والذي يعمل من رخام يقدّم على سائر الكلس.

كهرباء

وقوة كل كلس ملهبة ملذعة محرقة تكوي. وإذا خلط بمثل الشحم أو الزيت يقدم على سائر الكلس الحديث «1» الذي لم يصبه ماء أقوى من الحديث الذي أصابه ماء. وقال جالينوس: أما النؤورة التي لم يصبها ماء فتحرق إحراقا شديدا حتى إنها تحدث في المواضع قشرة محرقة. وأما النؤورة المطفأة فهي في ساعة تطفأ تحدث قشرة، ثم من بعد يوم أو يومين يقل إحراقها ويقل إحداثها القشرة المحترقة إذا مرت عليهما؛ فإن غسلت النؤورة مرارا أزالت تلذيعها في الماء، وصار ماؤها المعروف بماء الرماد، وصارت هذه تجفف بلا لذع، فإن غسلت مرة ثانية أو مرارا شتى صارت لا لذع لها أصلا، وصارت تجفف تجفيفا شديدا من غير أن تلذع «2» . وقال ابن سينا: النؤورة تقطع نزف (171) الدم من الجراحة، وإذا نقعت بالماء مرارا كثيرة نفعت من حرق النار» . كهرباء «4»

فائدة: اعلم أن التراجمة لمتن كتاب ديسقوريدوس وجالينوس زعموا أن عندهما أن الكهرباء هو صمغ الحور «1» الرومي، وليس كما زعموا وغلطوا عليهما في ذلك، والدليل على ما أقوله أن الفاضل جالينوس لما ذكر الحور الرومي قال فيه ما هذا نصه: ورد هذه الشجرة قوته حارة في الدرجة الثالثة، وصمغتها أيضا قوتها شبيهة بزهرتها، وهي أسخن من الزهرة. وأما ديسقوريدوس فإنه قال: وصمغ الحور الرومي إذا فرك فاحت منه رائحة طيبة. هذا قول الرجلين الفاضلين في صمغ الحور الرومي، وليس في الكهرباء شيء من هذه الأوصاف التي وصفناها، لا في المائية «2» ولا في القوة، ولا من طيب الرائحة، ولا من الإسخان أيضا؛ فقد ظهر من كلام التراجمة ما أوردته أنهم يقولون «3» على ديسقوريدوس وجالينوس ما لم يقولاه فتأمل ذلك. وقال الغافقي: والكهربا صنفان، منه ما يجلب من بلاد الروم والمشرق، ومنه ما يوجد بالأندلس في غربيها، عند سواحل البحر تحت الأرض، وأكثر ما يوجد عند أصل الدوم «4» . ويزعم جهّال الناس أن تلك المواضع كانت قبورا في القديم، وأن ملوك الروم كانوا يذيبونها ويصبونها على موتاهم، لأنها تحفظ جثة الميت، وتبدي صورته

بأشفافها، وهذا القول كذب! لأن المواضع التي توجد فيها آثار القبور أكثر ما تصاب في البراحات «1» وهذه يجمعها الحرّاثون، وتوجد قطرات كالصمغ، وهو أحسن وأصفر وأصلب من المشرقية وأقوى فعلا. وأخبرني بها الخبير أنها رطوبة تقطر من ورق الدوم [لأنه هناك] «2» في هذه الناحية عند طلوعه من الأرض يقطر منه رطوبة شبيهة بالعسل، يكون منها هذا الدواء، وقد يوجد في داخلها الذباب والنتن والمسامير والحجارة (172) والنمل. وقال ابن سينا: هو صمغ كالسّندروس مكسره «3» إلى الصفرة والبياض، شفاف «4» ، وربما كان إلى الحمرة، يجذب التبن والهشيم من النبات، ولذلك يسمى كاه ربا أي سالب التبن بالفارسية. وقال في الأدوية القلبية: لها خاصية في تقوية القلب وتفريحه معانة بتعديلها وتمتينها «5» الروح. وقال إسحاق بن عمران: الكهرباء بارد يابس، وإذا شرب منه وزن نصف مثقال بماء بارد حبس الدم الذي ينبعث من انقطاع عرق في الصدر، ويحبس نزف الدم من أي موضع خرج من الجسد، وينفع من سيلان البطن والمعدة. وقال علماء الخوز وثاوفرسطس الحكيم «6» : إذا علق الكهرباء على صاحب

الأورام الحارة نفعه منها، وإذا علّق على الحامل حفظ جنينها، وإن علّق على صاحب اليرقان نفع منه جدا، وإن سحق ولطخ به حرق النار، نفعه جدا. وقال ماسرجويه: وإذا شرب منه مثقال حبس التحلب من الرأس والصدر إلى المعدة. وقال أنطليلس الآمدي «1» : إنه يبرئ من عسر البول. وإذا شرب معه المصطكي نفع من أوجاع المعدة. وقال أبو جريج «2» : له خاصية في إمساك الدم، وخاصة الزحير. وقال الرازي: جيد لسيلان الدم من الطمث والبواسير والخلفة شربا، وإذا شرب منه نصف مثقال بماء ورد حبس القيء، ونفع من الكسر والرّض. وقال بديغورس «3» : وبدل الكهربا إذا عدم وزنه مرتين من الطين الرومي، وثلثا وزنه من السليخة «4» ، ونصف وزنه من البزرقطونا «5» المقلية. وقال سادوق «6» : بدله وزنه من السندروس.

لازورد

لازورد «1» قال ديسقوريدوس: في الخامسة: أرمانيا، وينبغي أن تختار منه ما كان لينا، لونه لون السماء، مشبعا، وكان مستويا ليس فيه خشونة من حجارة، هين التفتت، يتفتت سريعا، وقطعه كبار. واعلم أن أرمانيا «2» هذا ليس هو اللازورد على ما ظنه (173) غالب المتأخرين وفهموه من كلام ديسقوريدوس، وإنما هو الحجر الأرمني، لأن اللازورد حجر صلب، وهذا رخو؛ ويدل على صحة هذا القول، أن صاحب كتاب الأحجار قال ما لفظه: هذا الحجر طبعه البرد واليبس، ويجب أن يختار منه ما كان أرزق شديد الزرقة، معتدلا، وفيه تعريق الذهب، قوي الجسم صلب، ليست فيه جروشة ولا تفتيت، أملس. وأصناف هذا الحجر اثنين «3» ، شديد وصاف. قال: ولهذا الحجر أشباه كثيرة تقارب لونه وجسمه ولا تبلغ درجته، والفرق بينه وبين أشباهه، أن اللازورد إذا وضعت منه قطعة على جمر ليس له دخان، خرج منه لسان نار صابغ محرق ما يلقاه. ويؤتى به من بلاد العراق وهمدان

وبلاد الموصل. وقال جالينوس في التاسعة: وقوة هذا الحجر تجلو مع حدة يسيرة وقبض شديد جدا، فلذلك صار يخلط مع أدوية العين، وقد يسحق وحده ويستعمل ذرورا، فتربى به الأشفار التي انبترت من الأخلاط الحادة، وبقيت لا تزيد ولا تكثر، وكانت دقاقا صغارا. فاللازورد في هذا الموضع يفني رطوبات الأخلاط الحادة، فيرد العضو إلى مزاجه الأصلي الذي يكون فيه نبات الأشفار، فيزيد نماها وتقويتها. وقال ديسقوريدوس: قوته شبيهة بقوة لزاق الذهب إلا أنه أضعف منها وقد ينبت شعر الأشفار. وقال ديسقوريدوس: قوته شبيهة بقوة لزاق الذهب إلا أنه أضعف منها وقد ينبت شعر الأشفار. وقال الغافقي: واللازورد أشبع لونا من الحجر الأرمني، وقوته شبيهة بقوته، إلا أن اللازورد أضعف منه. وهو مسهل للمرة السوداء، وكل خلط غليظ مخالط للدم، وينفع أصحاب المالنخوليا وأصحاب الربو. والشربة منه أربع كرمات «1» . ويدر الطمث إدرارا صالحا، وينفع من وجع المثانة، ويقطع الثآليل، ويحسن الأشفار، ويجعد الشعر. وقال بعض علماء الأحجار: إن حجر اللازورد الذي فيه عيون الذهب إذا سحق مع سحيره بخلّ «2» فهو أجود ما يكون (174) للقرحة التي تأكل اللحم، وتجري في الجسد. وإذا طلي مسحوقا بالخل على البرص أبراه. وقال أرسطو «3» : ومن تختم به نبل «4» في أعين الناس.

لاقط الذهب

لاقط الذهب «1» قال أرسطو: والحجر الذي يلقط الذهب معدنه بالمغرب في بعض جباله. وهو حجر أصفر، مشوب بغبرة قليلة، أملس، ليّن المجس، من نظر إليه ظنه تبرا. وخاصيته أنه إذا برد الذهب بالمبرد، واختلطت برادته بالتراب، وأمر عليها هذا الحجر لقطها وأخرجها من التراب، حتى لا يبقى في التراب منها شيء. لاقط الرصاص «2» هو حجر سمج اللون، منتن الرائحة، مشوب بشيء من البياض. والرصاص مع ثقل جسمه فإن هذا الحجر يجذبه ويعلقه، فإذا وقع في موضع تشم منه رائحة الحلتيت «3» ، وإن ألقي في النار حتى يصير كالفحم وألقي عليه «4» الزئبق صبر على السبك والطرق بالمطارق، ويكون منه فضة جيدة. لاقط الشّعر «5» قال أرسطو: الحجر يلقط الشعر. وهو حجر متخلخل الجسم، وليس في جميع الأحجار أخف جسما منه، ولا أقل وزنا. إذا أمرّ «6» على بدن الحيوان تحلق الشعر منه مثل الكلس والزرنيخ. وإذا أمر على شعر مطروح على الأرض لقطه، وإن سحق وطلي به الموضع الذي حلق شعره يبقى أملس مثل (عضو) »

لاقط الصوف

صاحب داء الحية والثعلب، فإن أصاب رائحة هذا الحجر الذهب المسبوك أفسده وفتته عند الطرق كما يتفتت الزجاج، ولا حيلة في إصلاح ذلك. لاقط الصوف «1» قال أرسطو: هذا الحجر أخضر، يشوبه عروق خضر وصفر. وهو خفيف الجسم، مائل «2» إلى البياض، مدور صغار وكبار. إذا أدني منه الصوف التف عليه حتى يغوص فيه. وسحوقه يذهب البياض العتيق من العين اكتحالا، وإذا كلس وعقد معه زبد البحر، عقد الزئبق عقدا شديدا. لاقط الظّفر «3» قال أرسطو: هذا الحجر أبيض مشوب بغبرة «4» ، لين جدا أملس، لا يصاب فيه نقطة (175) ولا شق ولا ثقب، وإن أمرّ على ظفر سلخه وذهب به، وإن أمر على القلامات التي قصت وألقيت على الأرض جمعها، وإن أمر على الماس هشمه، وإن نضح على هذا الحجر دم الحائض فتته حتى يصير كالرمل، وإن شرب شارب من مائه تمعط لحمه وفتت مثانته وكبده. لاقط العظم «5» قال أرسطو: هذا الحجر خشن المجس، أصفر. يجلب من بلاد بلخ إذا أدني من العظام لقطها.

لاقط الفضة

لاقط الفضة «1» قال أرسطو: هو حجر أبيض مشوب بغبرة «2» ، إذا غمز عليه بالمسن صرّ كما يصرّ الرصاص القلعي. إن أخذ إنسان من هذا الحجر قدر أوقية، ووضعه من الفضة على خمسة أذرع، انجذبت إليه، وإن كانت مسمّرة انقلع المسمار، وليس من المغناطيسات أقوى من هذا. لاقط القطن «3» قال أرسطو: هذا الحجر يوجد على سواحل البحر، وهو حجر أبيض إذا أدني من القطن أو الخرق اختلسها. ومن خواصه أنه إذا حل «4» في الزبل وألقي على النحاس صبغه كالفضة، وإن كان مع إنسان برأ من الماء. لاقط المسن «5» قال أرسطو: هذا حجر يلقط النحاس والصفر، وفي لونه يسير غبرة. وإذا أخذ منه زنة دانق «6» ، وألقي عليه عشرة دراهم فضة محلولة بعد سبكها، وقبل أن تجمد، أحدث فيها صفرة ذهبية، فإن أعيدت إلى السبك لم تنتزع عنها زمانا طويلا، إلا أنها لا تكون ذهبا. وإذا سعط صاحب الصرع منه وزن شعيرة مسحوقا مذابا بماء العنب، نفعه ذلك بإذن الله تعالى.

لحاغيطوس

لحاغيطوس «1» قال أرسطو: هو حجر أسود اللون تشم منه رائحة القار «2» ، شديد اليبس، يلحم الجراحات الشديدة الغور، وينفع أصحاب الصرع، ويطرد الهوام. لحام الذهب «3» ولحام الصاغة أيضا. قال ديسقوريدوس في الخامسة: أجوده ما كان من أرمينية، وكان لونه شبيها بلون الكرّاث، وكان مشبع اللون؛ وبعده ما كان ببلاد ماقدونيا «4» وبعده (176) ما كان بقبرص، ولنختر من هذه الأصناف كلها ما كان نقيا، وأرذله ما كان فيه حجارة وتراب. قال: وقد يغسل لزاق الذهب على هذه الصفة، بأن يؤخذ ويدق، ويلقى في صلّاية، ويصب عليه ماء، ويدلك باليد على الصلاية مع الماء دلكا شديدا، ويودع الماء حتى يصفو، ثم يصب عليه ماء آخر ويدلك أيضا، ولا يزال يفعل ذلك به إلى أن ينقى، ثم يؤخذ ويجفف في الشمس ويستعمل. وقد يحرق بأن يؤخذ ويسحق ويقلى على الجمر «5» ويعمل فيه ما وصفنا من الكلام في غيره. وقال جالينوس في التاسعة: وهذا الدواء أيضا من الأدوية التي تذوّب اللحم، ولكنه ليس يلذع لذعا شديدا. وأما تحليله فيحلل تحليلا شديدا، وكذلك تجفيفه. وفي الناس قوم يسمّون بهذا الاسم الدواء الذي يتخذ في هاون من

لوفقرديس

نحاس ودستج «1» من نحاس، تبول فيه الأطفال. وقوم آخرون يدخلون هذا الصنف في عداد الزنجار، ويجعلونه نوعا من أنواعه. والأجود أن يتخذ المتخذ له في وقت الصيف، والأجود أن يكون الهاون والدستج نحاسا أحمر، فإنه إذا كان كذلك كان ما ينحل منه جيد للجراحات الخبيثة، إن استعمل وحده، أو مع غيره. وقال ديسقوريدوس: وله قوة تجلو بها اللثة، ويقلع اللحم الزائد في القروح وينقيها، ويقبض ويسخن ويعفن تعفينا برفق، مع لذع يسير. وهو من الأدوية التي تهيج القيء وتغثي «2» . تنبيه «3» : اعلم أن لحام الذهب عند كثير من الناس هو تنكار الصاغة الذي يلحمون به الآن «4» ، لكن اللحام الذي تقدم القول فيه عن ديسقوريدوس وجالينوس ليس هو التنكار، بل هو دواء غيره، فاعلم ذلك. لوفقرديس «5» قال الشيخ الرئيس: إنه حجر مصري يستعمله القصّارون لتبييض الثياب. وهو حجر رخو ينماع «6» في الماء سريعا، وهو جيد لنفث (177) الدم.

لينج

لينج «1» قال ديسقوريدوس في الخامسة: قرايص «2» قد يكون بعضه في معادن النحاس القبرسية بقبرس، وبعضه وهو أكثره يعمل من الرمل الموجود في مغائر وحفر البحر، وأكثره يوجد في جوف البحر، وهو أجوده. ولتختر منه ما كان مشبع اللون جدا. وقد يحرق كما يحرق القليميا، ويغسل كما يغسل. وقال جالينوس في التاسعة: قوته حادة تنقص وتحلل أكثر من الزّنجفر، وفيها أيضا بعض قبض. [و] قال ديسقوريدوس: وله قوة تقلع به اللحم، وتعفن تعفينا يسيرا، وتحرق وتقرح. ماس «3» قال في كتاب الأحجار «4» : أنواع الماس أربعة، أولها الهندي، ولونه إلى البياض، وعظمه في قدر باقلاء، وفي قدر بزر الخيار والسمسم، وربما كان بقدر الجوزة إلا أن هذا قليل الوجود، ولونه قريب من لون النشادر الصافي.

والثاني الماقدوني، لونه شبيه اللون الذي قبله، لكنه أعظم منه وأكبر. والثالث المعروف بالحديدي، لأن لونه يشبه لون الحديد، وهو أثقل من الحديد، يوجد بأرض اليمن، وفي بلاد سوقه يشبه المغنيسيا «1» . والرابع القبرسي، موجود بالمعادن القبرصية، ولونه كلون الفضة، إلا أن سوطافوس الحكيم لا يرى هذا النوع من الماس، لأن النار تناله. ومن خاصية هذا الحجر أنه لا يلصق به حجر إلا هشّمه، فإذا ألح عليه كسره، وكذلك يفعل بجميع الأجساد الحجرية المتخذة إلا الرصاص، فإن الرصاص يفسده ويهلكه. ولا يعمل فيه النار ولا الحديد، وإنما يكسره الرصاص. وقد يسحق هذا الحجر بالرصاص، ثم يجعل سحيقه على أطراف المثاقب من الحديد ويثقب به الأحجار واليواقيت والدر. وزعم قوم أنه يفتت حصى المثانة، إذا ألزقت حبة منه في حديدة بعلك البطم، وأدخلت في الاحليل حتى يبلغ إلى الحصاة فيفتتها، وهذا (178) خطر. وإن أمسك هذا الحجر في الفم كسر الأسنان «2» . قال أرسطو: إن الإسكندر كان معجبا بخواص الأحجار، وسببه أنه أوتي بإنسان كان في مجرى بوله حجر، فأخذت قطعة من الماس وألصقتها بقليل مصطكي وأدخلته في إحليله فجذبه وفتته بإذن الله. وقال: والموضع الذي فيه الحجر لا يصل إليه أحد من الناس، وهو واد بأرض الهند لا يلحق البصر أسفله، وفيه أصناف من الأفاعي، فلما انتهى الإسكندر إلى هذا الموضع، أراد أن يخرج منه، فامتنع الناس من النزول، فراجع رأي الفلاسفة

مانطس

فأمروه أن يرمي فيه قطاع اللحم حتى يلزق فيها الحجر، والطير ينزل فيأخذه ويخرجه من الوادي، فيأخذ ما لزق باللحم منه. فأمر الإسكندر بذلك، ثم أمر باتباع الطير، والتقاط ما يتناثر من الماس؛ وأكثر ما يوجد بقدر الباقلاء، لأن هذا المقدار يتشبث باللحم فيخرجه النسور «1» . وذكر أن في الوادي قطعا كبارا جدا لكن لا وصول لأحد إليها، ولا خلاف في أنه يكسر الأسنان إذا أخذ في الفم، وإنه سم قاتل جدا، ومن لبسه كان موقى من الأعداء وكيدهم، ولا يقدر أحد على الوصول إليه بأذى، وتهابه العامة، ولا تعدو عليه الخاصة، ويدفع عنه السحر والسوء وما أشبه ذلك. مانطس «2» قال أرسطو: هو حجر هندي لا يخاف الحديد إذا ضرب به، وإذا وضع في موضع بطل عمل الشياطين والسحر فيه، وإذا علق على إنسان أمن من الجن. قال: والإسكندر لما ظفر به أمر عسكره باستصحابه لدفع الجن والسحرة، ففعلوا ذلك فأمنوا. ماهاني «3» قال أرسطو: هو حجر أبيض وأصفر. يوجد بأرض خراسان. ينفع من السكتة، وإن أحرق بالنار وجعل على البواسير أبرأها، ومن تختّم به أمن من الرّوع والهم والغم والجزع.

ماورز

ماورز قال أرسطو: هذا حجر إذا خلط بالإثمد المشوي أذهب بياض العين (179) . مراد قال أرسطو «1» : حجر عجيب يوجد بناحية الجنوب، إن أخذ من معدنه والشمس في الجنوب كان طبعه حارا يابسا، وإن كانت في الشمال، كان حارا رطبا «2» . وهو أحمر اللون والشمس جنوبية، وأخضرها وهي شمالية «3» . ويسمى باليونانية سروطاطيس، وتفسيره الحجر الطيار، وذلك أن الحجر يتولد في الهواء من لطيف البخار الصاعد من الأرض، فتقلعه الرياح وتدفعه من جهة إلى جهة، وهو يدور في الهواء. ولونه مثل لون النيل الذي يصبغ به، وإذا كثرت رياح الجو كثرت حركات تلك الحجارة، وإذا غربت الشمس سكنت، فتسقط بعض تلك الحجارة إلى الأرض فتصاب. وهو أبدا مصعد منحدر، فمن أخذ حجرا منها واستصحبه معه تبعته الشياطين وعلّموه ما كان يريد أن يتعلم منهم. مرجان «4» قال في كتاب الأحجار: المرجان طبعه اليبس والبرد، ويختار منه ما كان أحمر شديد الحمرة، متناسب الأجزاء، غليظ الأغصان والشّعب، حسن اللون، براق. وأصنافه خمسة، وهي نوع واحد، أحمر وأبيض وسيركوني وزنجفري

وقرمزي، والفرق بينه وبين أشباهه، أن المرجان له رائحة كرائحة حشيش البحر زهمة زفرة، وأغصان مثل أغصان الشجر ونباته. قال أرسطو: إذا كلّس عقد الزئبق. يستخرج من موضع يسمى مرسى الحرز، وهو بقرب ساحل مدينة أفريقية، يجتمع البحار بها، ويستأجرون الغواصين لاستخراج المرجان من قلع البحر؛ وليس في ذلك الموضع على مستخرجه ضريبة ولا للسلطان فيه حصّة، فيتخذ الغواص صليبا من خشب طوله نحو ذراع، ويشد فيه حجرا، ويبعد عن الساحل نصف فرسخ، ويرسل الصليب إلى القعر، ثم يمر بالصليب وفيه معلق ركوة يمينا وشمالا، ليعلق المرجان بدوالب الصليب، ثم يقلعه بقوة ويرقيه، فيخرج وقد تعلق بالصليب جسم مشجّر أغبر اللون، فإذا حك (180) زال عنه الغبرة، وخرج أحمر اللون. وقيل: إن الغواصين ينزلون إليه ويستخرجونه، وفي بحر الطور منه شيء ولكن ليس بنافع. قال في كتاب الأحجار: إذا سحل منه شيء، وذرّ على موضع نزف الدم قطعه. ومن سحقه وأذابه بدهن بلسان «1» ، وقطّر منه في أذن مسحور أفاق وبرئ بإذن الله. ومتى علق على مولود كان له وقاية من العين والنظرة. وهو يزيل الصّمم من الأذن، ويحفظ الأطفال من أرواح السوء. ومن استنّ بسحالته نفعه من نزف الدم والحفر في أسنانه وأوجاع اللثة. وإن سقي منه إنسان قطع نزف الدم، وإن اكتحل به جلا الغشاوة المتولدة من البخار، وجلا البياض العارض في العين. ومن شرب منه وزن درهم بماء بارد نفع من نفث الدم من الصدر، ومن لطخ بسحيقه داء الثعلب «2» أبرأه، ومن شرب منه نصف مثقال بماء، من أي

مرداسنج

شراب كان نفع من ورم الطحال والحمرة، ويفعل ذلك مرارا، ويداوم عليه يبرأ بإذن الله تعالى. وقد ذكرنا خواص أخر في حرف الباء، في ترجمة السيد، فلينظر هناك، وإنما ذكرناه هنا لأن المرجان هو النبات نفسه، والبسد هو أصول ذلك النبات المغيبة في قعر البحر. والمرجان يظهر على وجه أرض البحر مشعّبا كما ذكرنا. مرداسنج «1» وهو المرتك «2» . قال ديسقوريدوس في الخامسة: منه ما يعمل من الرمل الذي يقال له موليدانيطس، ومعناه الرصاصي. ومنه ما يعمل من الفضة، ومنه ما يعمل من الرصاص، وقد يكثر منه ما يعمل من الرصاص المحرق، ومنه ما لونه أحمر ويقال له حورنيطس، ومعنى هذا الاسم الرمدي «3» ، وهو أجود أصناف المرتك، وبعده الفضي. وقال جالينوس في التاسعة: هذا أيضا يجفف، كما يجفف جميع الأدوية المعدنية الأخر، وجميع الأدوية الحجارية والأرضية، إلا أن تجفيفه قليل جدا، وهو في كيفياته وقواه الأخر كأنه منها في الوسط، (181) وذلك أنه ليس يسخن إسخانا بينا، ولا يبرد. وجلاؤه أيضا وقبضه يسيران، فهو لذلك دون الأدوية التي

تجلو جلاء معتدلا، ودون الأدوية التي تجمع وتقبض. وهو دواء نافع للسحج الحادث في الفخذين. وقال ديسقوريدوس: وقوة جميع المرداسنج قابضة ملينة مسكنة مبردة «1» ، تملأ القروح العميقة لحما، وتذهب اللحم الزائد في القروح وتدملها. وقد يحرق على هذه الصفة، فيؤخذ فيرض حتى يصير كقطع «2» الجوز، ثم يصير على جمر، ثم ينفخ عليه إلى أن يصير نارا، ثم يؤخذ ويترك حتى يبرد، ثم ينقى من الوسخ، ويرفع. ومن الناس من يطفئه في الخل والخمر، يفعل ذلك مرارا، وقد يغسل كما يغسل الإقليميا. وقد يقال بأن المرداسنج المغسول يستعمل في الأكحال، وإنه يجلو الآثار السمجة العارضة من القروح التي في الوجه، من الكلف وما أشبه ذلك. وقالت الخوز: المرداسنج المبيض «3» يقطع رائحة الإبط ويحبس العرق. وقال بليناس: إن طرح في الخل أبدل الحموضة حلاوة، وإن طرح في نؤورة الحمام سوّد الجلد. وقال إسحاق بن عمران: يدخل في بعض الحقن التي تقطع الخلفة. وإذا أخذ مرتك وكبريت أصفر بالسوية، وسحقا مع خل ودهن الآس حتى تكون كثخن العسل، ولطخ به الشرى والنفاخات نفع منها. وقال ابن سينا: والنساء في بلادنا يسقينه للصبيان للخلفة وقروح الأمعاء، وقد يلقينه في كيزان الماء ليقل ضرره. وهو قاتل، يحبس البول، وينفخ البطن

والحالبين، ويقبض اللسان، ويخنق ويضيق النفس. وقال في التجربتين: المرداسنج ينفع من حرق النار وحرق الماء منفعة بالغة، ولا سيما من حرق النار. وإذا نثر على القرحة المتولدة بين أصابع القدمين من قلة غسلهما، ومن انضمامهما على الوسخ المجتمع بينهما، أزالها ونفع منها. وإذا خلط بسائر أدوية الجرب والحكّة نفع منهما. وإذا طلي الرأس بمرتك مع خل (182) وزيت نفع من القمل، وإن سحق وطبخ بأربعة أمثاله في زيت حتى يصير في قوام الزّفت الرطب، وقطّر وهو حار في الشقاق المزمن الواغل في اللحم، نفع منه. وقال ديسقوريدوس: إن شرب المرتك كثيرا حصل منه ثقل في البطن والمعدة مع مغس شديد وربما انشق المعي من ثقله «1» وانتفخ الجسم كله، ويجعل لونه مثل لون الأبار، وينفع صاحبه بعد التقيؤ ببزر أرمنين «2» بري ومر زنة ثلاثة عشر مثقالا وافسنتين وزوفا وبزر الكرفس، أو فلفل وفاغية الحنّا «3» مع طلاء، وذرق الحمام البري اليابس مع ناردين طلاء. وقال الرازي في الحاوي: يجب أن يقيّأوا بماء الشبت المطبوخ والتين، ويسقوا من المر وزن ثلاثة دراهم بماء فاتر، والزمهم لحوم الخرفان، واسقهم خل خمر أسود وأدر «4» عرقهم.

مرطيس

وقال أرسطو: إن اتخذ منه مرهما أبرأ القروح وألحم الجروح، وأذهب الرائحة الزفرة من جميع الجسد. وقال الشيخ الرئيس: إنه يطيب رائحة البدن والإبط ويجلو الكلف والآثار السود والدم الميت وآثار الجدري ويمنع الفزع ويجلو العين. وهو قاتل يحبس البول. وقال بعض الحكماء: من خواصه أنه إذا طرح على الخل حلا، وإذا طلي به شيء من البدن سوّده، وإذا طلي به الإبط أزال رائحته، لكن يرد الفضلة إلى القلب، فينبغي أن يخلط بدهن الورد حتى يأمن غائلته. مرطيس «1» قال في كتاب الأحجار: هذا حجر فيه خشونة الصخور، ولونه اللازورد وليس به. يوجد بمصر وبنواحي بلاد المغرب. إذا سحق خرج منه شيء شبيه برائحة الخمر، وإن شرب منه وزن ثلاث شعيرات بماء بارد نفع من وجع الفؤاد. مرقشيثا «2» قال في كتاب الأحجار: من المرقشيثا ذهبية ومنها فضية ومنها نحاسية ومنها حديدية، وكل صنف منها يشبه الجوهر الذي نسب إليه في لونه، وكلها يخالطها الكبريت، وهي تقدح النار (183) مع الحديد النقي. وقال ديسقوريدوس في الخامسة: هو صنف من الحجارة يستخرج منه

النحاس؛ وينبغي أن تختار منه ما كان لونه كلون النحاس، وكان خروج شرر النار منه هيّنا، وينبغي أن يؤخذ فيحرق على هذه الصفة، يؤخذ فيغمس في عسل، ويوضع على نار جمرلينة، ويروح دائما إلى أن يحمر ويخرج. ومن الناس [من] يضعه مغموسا بالعسل في نار كثيرة، فإذا بدأ يحمر لونه أخرج عن النار، ونفخ عنه الرماد، ثم أعاده إلى النار، نار الجمر، وقد غمسه أيضا بالعسل، ولا يزال يفعل ذلك به إلى أن تصير أجزاؤه هشة. وربما احترق ظاهره دون باطنه، فإذا احترق على هذه الصفة وجفف «1» ، فإن احتيج إليه أن يغسل فليغسل كما يغسل الإقليميا. وقال جالينوس في التاسعة: هو واحد من الحجارة التي لها قوة شديدة جدا، ونحن نستعملها بأن نخلطها بالمراهم المحللة، ونلقي معها أيضا من الحجر المسمى سخطيوس «2» . وقد حلل هذا المرهم مرارا كثيرة القيح والرطوبة الشبيهة بعلق الدم، إذا كان كل واحد منهما مجتمعا في المواضع التي بين «3» العضل. وقال ديسقوريدوس: وقوته محرّقا كان أو غير محرّق مسخنة محللة تجلو غشاوة البصر، منضجة للماء وللأورام الجاسية إذا خلطت بالراتينج. وقد يقلع اللحم الزائد في القروح، مع شيء من تسخين وقبض. ومن الناس من يسمي هذا الحجر إذا أحرق دياقروخس «4» . وقال الرازي في المنصوري: يقوي العين مع جلاء يسير «5» .

مرمر

وقال في الحاوي: إنه إذا علّق على الصبي لم يقرع «1» ، وإنه يجعد الشعر، وإن سحق بالخل وطلي به البرص أبرأه. وقال غيره: يحلل المرة الكائنة في العين، ويقوي البصر. ويطلى بالخل على النمش فينفعه. وقال ابن ماسة البصري: المرقشيثا فيه تنشيف للقيح والرطوبة الشبيهة بعبيط الدم، الحادثة بين العضل، ويتلوه في القوة حجر الرحى «2» مرمر «3» قال (184) الغافقي: قيل إنه صنف من الرخام أبيض، أكثر ما يوجد في معادن الجزع، وهو أفضل أصنافه، ويسمى باليونانية الأشطريش. وزعم قوم أن الأشطريش هو الجزع. وقال نوفرسطس: الأشطريش «4» حجر يوجد في أرض الشام ودمشق، وهو أبيض، في لونه خطوط كمناطيق، يؤخذ فيحرق، ويجعل معه ملح دراني «5» ، وسحق سحقا ناعما، ويدلك به الأسنان واللثة فينفعها، ويشد اللثة، وينفع من حرق النار أيضا. وربما يوجد بمصر.

مرهيطس

وقال جالينوس في التاسعة: إذا أحرق هذا الحجر نفع في الطب. وقوم يسقون منه من هو عليل فم المعدة. وقال ديسقوريدوس في الخامسة: إذا أحرق هذا الحجر وخلط بالراتينج والزيت «1» حلّل الأورام الصلبة، وإذا استعمل بقيروطي سكّن وجع المعدة وهو يشد اللثة. مرهيطس «2» قال في كتاب الأحجار: هذا حجر أسود رخو، عليه خطوط ثابتة. وهو يبرئ من النملة التي تخرج في الرأس إذا حمله الإنسان معه، وكذلك يبرئ أيضا من العجر القبيحة «3» التي تكون في أطراف الأصابع. مسن «4» قال ديسقوريدوس في الخامسة: مسن الماء إذا سن عليه الحديد، وأخذ ما ينحل منه، ولطخ على داء الثعلب، أنبت فيه الشعر. وإذا لطخ على ثديّ الأبكار منعها من أن تعظم. وإذا شرب بالخل حلل ورم الطحال، وينفع من الصرع. وقال جالينوس في التاسعة: ومحكه ينفع ثدي البكر من أن يعظم قبل وقته، ويمنع خصى الصبيان من ذلك من طريق أن قوته تبرّد. وقال الغافقي: قال بعض القدماء مسن الماء الأغبر الذي يفنى سريعا من حكه

مسحقونيا

بنحاس قبرصي، وأخذ ما خرج من مائه، ولطخ به القروح التي تكون بالأسنان فجأة، جففها «1» وأبراها. وأما مسن الزيت الأخضر، فإنه إذا كسر ثم شوي بالحجر، وسحق بالخل والنطرون، فإنه نافع للحكة والقوباء والخنازير والسرطان والآكلة. (185) وإذا سحق هذا الحجر واكتحل به نفع من البياض في العين. وقال في التجربتين «2» : حكاكته تحد البصر وتقوي العين، ولذلك يجب أن تحك الشيافات عند عملها عليه. وإذا سحق ونثر على قروح حرق النار جففها. مسحقونيا «3» قال الرازي في كتاب القرى «4» والدساكر: هو ماء الزجاج، أو ماء الجرار الخضر. وقال في الحاوي: هو ماء الزجاج. وقال في كتاب أهرن «5» القس: إنه ماء الجرار الخضر حين تعمل. وقال سليمان بن حسان: المسحقونيا هي الشحيرة، وهو خلط يقوم مع الملح والآجر يعرفه أهل صنعة تخليص الذهب. وغيره زعموا: أن المسحقونيا حار جدا، وكذلك يقلع البياض من العين،

مسهل الولادة

ويجفف الرطوبة، وقد ينفع من الحكة والجرب إذا طلي به الجسم في الحمام. مسهل الولادة «1» قال أرسطو: هذا حجر هندي، إذا حركته سمعت في وسطه حجرا آخر. ومعدنه بأرض الهند، في جبل بين البحر وبين مدينة قمار «2» . وإنما عرفت خاصيته في تسهيل الولادة من النسر، إذا جاءت وقت بيضها تبلغ الموت مع غاية العسر، وربما ماتت، فعند ذلك يذهب النسر الذكر إلى ذلك الجبل، ويأخذ من ذلك الحجر ويجعله تحتها، فعرفت الهند ذلك من النسر، فإذا وضع هذا الحجر تحت المطلقة سهلت ولادتها، وكذلك تحت كل حيوان. مغرة «3» قال ديسقوريدوس في الخامسة: أجودها ما كان كثيفا ثقيلا. ولونه شبيه بلون الكندر، وليست فيه حجارة، ولا مختلف اللون، وإذا بلّ ربا. وله قوة قابضة مجففة مغرية، فلذلك يقع في أخلاط المراهم المليّنة، وفي أخلاط أقراص مجففة. يحبس البطن. وإذا تحسّي ببيضه أو احتقن بها عقلت البطن، وقد تسقى لوجع الكبد. وأما المغرة الذي يستعملها النجارون فهي أضعف من الأولى، وأجودها المصرية. قال ابن سينا: باردة (186) في الأولى، يابسة في الثانية. وقال البصري: تدخل في أدوية لزجة لاصقة، وتقتل حب القرع.

مغناطيس

وقال في التجربتين: إذا حلّت في الخل، وطلي بها الجمرة والأورام الحارة «1» كلها، مع تقرح أو بغير تقرح، وعلى حرق النار، ردع المادة، وأضمر الورم، وجفف التقرح. وإذا سحقت وخلطت بالبيض النيمبرشت «2» وتحسّيت قطعت الدم من أي موضع انبعث. وكذلك إذا أخذت مع لسان الحمل نفعت من قروح الأمعاء والمثانة، وأمسكت الطبيعة والمأخوذ منها من درهمين إلى نحوهما «3» ، ويتمادى عليها بحسب الشكاية في الضعف والقوة. وكذلك إذا احتقن بها بماء لسان الحمل وما أشبهه قطع إفراط الدم من الحيض. وكذلك إذا احتقن بها لقرحة الأمعاء، والدم المنبعث من المعى السفلى، قطعه. مغناطيس «4» وهو الحجر الذي يجذب الحديد. وقال ديسقوريدوس في الخامسة: أجوده ما يكون منه قوي الجذب للحديد، وكان لونه لازورديا كثيفا، ليس بمفرط الثقل. وهذا الحجر إن سقي منه مقدار ثلاثة أوثولوسات بالشراب الذي يقال له مالقراطن «5» أسهل كيموسا غليظا. ومن الناس من يحرق هذا ويتبعه بحسيات «6» الشاذنه «7» .

وقال جالينوس في التاسعة: قوته مثل قوة الشاذنة. قال البصري: قال الأنطيلس «1» الآمدي عن بعض الناس إنه قال: إذا أمسك بالكف نفع من وجع اليدين والرجلين، وينفع من الكزاز. وقال الطبري: حجر المغناطيس يابس جدا، وهو جيد للذي في بطنه خبث الحديد، نافع لعسر الولادة إذا ما وضع على المرأة النفساء أو أمسكته. وقال بعضهم: يذهب بالإسهال من شرب خبث الحديد، وإن ذرّ على جرح بحديد مسموم أبرأه. وقال في كتاب الأحجار: قال هرمس: إن هذا الحجر طبعه الحرارة واليبس. ويجب أن يختار منه ما كان فيه سواد مشرب بحمرة مثل المغرة الصافية «2» . وأصنافه (187) ثلاثة، لازوردي، ومشرّب بحمرة، ورمادي منقّط بسواد. والفرق بينه وبين أشباهه أن المغناطيس إذا مرّ بشيء من الحديد مسموم جذبه إليه، وإن كان الحديد مختلطا بشيء من الأجسام وأشباهه لم يفعل ذلك. ويؤتى به من بلاد الهند، وإن أخذ منه حجر جسيم قوي الفعل ومرّ به على قفل فتحه. وكذلك يخرج النصول والحديد من الأجسام من غير أذية ولا تعب. وإن سحق بخل وملح وورس «3» ودهن ورفعه ولطخ به مكان الخنازير المتولدة «4» في جسد الإنسان أزالها بإذن الله تعالى. وزعموا أن السفن التي تعبر في البحر إذا قربت من جبل الحجر، طارت

مغنيسيا

كالطير وتطبقت بالجبل، ولهذا المعنى لا تسمر سفن البحر إلا بمسامير خشب. ومن عجيب شأن هذا الحجر أنه إذا أصابته رائحة الثوم أو البصل بطل فعله، ولا يجذب الحديد حتى ينقع في الخل أو دم التّيس طريا. وإذا علّق على إنسان نفعه من وجع المفاصل، فإذا أمسك باليد نفع من الكزاز. ومن علقه في عنقه زاد في ذهنه، ولم يكد أن ينسى شيئا. مغنيسيا «1» قال الرازي: المغنيسيا أصناف، فمنها تربة سوداء وفيها عيون بيض لها بصيص، ومنها قطع صلبة وفيها تلك العيون، ومنها مثل الحديد، ومنها حمراء. وقال غيره: وهو حجر لا يتم عمل الزجاج إلا به، وهو ألوان كثيرة، وقد يستعمل في الأكحال. وقوته تقبض وتبرد وتجفف وتأكل الأوساخ. ملح «2» قال ديسقوريدوس في الخامسة: أقوى ما يكون منه المعدني. وزعم بعض الناس أن المعدني الأندراني. وأقوى المعدني ما كان متحجرا صافي اللون كثيفا متساوي الأجزاء، وأقوى ما كانت فيه هذه الصفة ما كان من المواضع التي يقال لها أمونيا «3» ، وكان يتشقق، وكانت عروقه متساوية. قال حنين: ملح أمونيا هو النوشادر المعدني، (188) والماء الملح البحري،

فإنه ينبغي أن يستعمل منه ما كان أبيض «1» متساوي الأجزاء؛ وقد يكون منه شيء جيد بقبرص الذي يقال له سالامنتي «2» ، والموضع الذي يقال له ماغرا. وقد يكون منه شيء جيد بصقلية، [و] بالبلاد التي يقال لها لينوي منه شيء جيد، إلا أنه دون الأول. وينبغي أن يختار منه ما كان موجودا في مواضع المياه القائمة. وقال جالينوس في الحادية عشرة: الملح المحتفر والملح البحري قوتهما واحدة [بعينها] في نفس الجنس، وإنهما يختلفان في أن جوهر الملح المأخوذ من الأرض لا يعرض له ذلك. والملح المتولد في البحيرات، والنقائع التي فيها ملوحة، نوعه شبيه بنوع الملح البحري، وهذا الملح المتولد في البحيرات والنقائع إنما يكون عند ما يفنى الماء في الصيف فيها كأنه تحترق [مياهها، فتتحجر الحمأة الشديدة الحرارة] «3» بمنزلة الملح الذي يكون في طراغيسون بالقرب من منيس، وذلك أنه يجتمع هناك من مياه الحماءات الشديدة الحرارة شيء كثير، ومجتمعها واستنقاعها في موضع ليس بالواسع كثيرا، ولا يزال هذا الماء في جميع أوقات الصيف يفنى ويجف بحرارة الشمس أولا فأولا، ولأن في الموضع نفسه ملوحة طبيعية تصير جميع ما يبقى من الماء هناك ملحا يسمى باسم مشتق من اسم الموضع، ومن اسم ذلك الماء ملح طراغيسي، لأن الماء الذي في ذلك الموضع من الحماءات يسمى ماء طراغيسيا، وقوته قوة مجففة جدا، والأطباء يستعملونه في ذلك البلد للتجفيف. وقد كنت قلت في الملح الذي بسدوم، وفي البحيرة المعروفة بالمنتنة، في

المقالة الرابعة من هذا الكتاب «1» ، قولا لا يحتاج معه من كان قد نظر فيه نظر عناية واهتمام إلا إلى التذكرة فقط، فمتى وصفت لك كيفية الملح في المذاقة والطعم وعرفتك «2» قوته على المكان. ومن شأن الكيفية المالحة أن تجمع وتحل مع «3» جوهر الجسم الذي تدنو منه. وإنما (189) الخلاف بين الملح وبين البورق الإفريقي، أن البورق الإفريقي إنما الغالب عليه طعم واحد فقط، وهو الطعم المر البين فيه، وقوة ما هو من قوة محللة، وليس له قوة تجمع جوهر الجسم الذي يلقاه فيما هو منه رطب، حتى لا تدع فيه شيئا البتة «4» منه، ويجمع باقي جوهره الصلب بقبضه، ولذلك صار الملح يجفف الأجسام التي تعفن، وإنما تعفن من قبل رطوبة فيها فضل، وجوهرها جوهر منحل غير كثير «5» ، وبهذا السبب صارت الأجسام التي فيها رطوبة فضل بمنزلة العسل الفائق، والأجسام التي جرمها كبير «6» ، بمنزلة الحجارة ليس يمكن أن تعفن. والملح بهذا السبب ليس يمكن أن يستعمل في هذه الأجسام، لكن في الأجسام التي يخاف عليها أن تعفن. فأما المحرّق من الملح فله من التحليل أكثر ما للملح الذي لم يحرق، وجرمه أيضا يصير ألطف بسبب القوة التي اكتسبها من النار، كما يعرض لسائر ما يحرق من جميع الأشياء على ما بينا، ولكنه ليس يمكن فيه أن يجمع، ويكثر جوهر الجسم الصلب الذي يلقاه كما يفعل الملح الذي لم يحرق.

وقال في موضع آخر قبله: وأما الملح المتولد في البحيرة المنتنة المعروفة ببحيرة الزفت، وهي بحيرة مالحة في غور «1» بلاد الشام، ويسمى ملح سدوم باسم الجبال المحيطة بالبحيرة، وهي بلاد سدوم، فقوته قوة تجفف أكثر من تجفيف سائر أنواع الملح، وهي مع ذلك ملطّفة، وذلك أن هذا الملح قد ناله من إحراق الشمس أكثر مما نال غيره من أنواع الملح، وليس هو مر الطعم فقط، لكنه مر المذاق، وذلك لأن موضع هذه البحيرة موضع غائر تحرقه الشمس «2» ، وهو لهذا السبب في الصيف أشد مرارة منه في الشتاء، فإن ألقيت في ماء هذه البحيرة ملحا لم يذب، لأن الذي قد خالط ذلك الماء من الملح مقدار كثير، وإن انغمس فيه إنسان تولد على بدنه عند خروجه (190) منه غبار رقيق من غبار الملح كالسورج «3» ، ولذلك صار ماء هذه البحيرة أثقل من كل ماء في مياه البحار، ومقدار ثقله على مياه البحار كمقدار ثقل ماء البحر على مياه الأنهار، ومن أجل ذلك إن أنت وقعت في ماء هذه البحيرة ثم رمت أن تغوص فيه إلى أسفل لم تقدر، وإن أنت أخذت حيوانا فربطت يديه ورجليه، وألقيته في ماء تلك البحيرة، لم يغرق ولم يرسب، لكثرة ما يخالط ماء هذه البحيرة من جوهر الملح الذي هو أرضي ثقيل. وقال ديسقوريدوس: وقوة الملح قابضة تجلو وتنقّي وتحلل وتقلع اللحم الزائد في القروح وتكوي، وقد يمنع القروح الخبيثة من الانتشار، وقد يقع في أخلاط أدوية الجرب. وقد تقلع اللحم النابت [في العين] «4» وتذيب الظفرة، وقد

يصلح للحقن. وإذا خلط بزيت وتمسح به أذهب الإعياء والحكّة. وهو صالح للأورام البلغمية العارضة للذين بهم الاستسقاء، وإذا تكمّد به سكّن الوجع، وإذا خلط بالزيت والخل وتلطخ به أحد بقرب النار إلى أن يعرق سكّن الحكة؛ وكذلك يفعل أيضا بالجرب المتقرح وغير المتقرح والجذام والقوابي. وإذا خلط بالخل والعسل والزيت وتحنك به سكن الخنّاق، وإذا خلط بالعسل نفع ورم اللهاة والنغانغ. وقد يتضمد به مع الشعير محرقا بالعسل للآكلة والقلاع واللثة المسترخية. وقد يتضمد به أيضا مع بزر الكتان للدغة العقرب، ومع فوتنج الجبل والزوفا «1» لنهشة الأفعى الذكر، ومع الزفت والقطران أو العسل لنهشة الحية التي يقال لها قرسطس «2» ، وهي حية لها قرنان، ومع الخل والعسل لمضرة الحيوان المسمى أم أربعة وأربعين، ولدغ الزنابير، ومع شحم العجل للبثور التي يقال لها سورداقيا إذا خرجت في الرأس، أو اللحم الزائد في ظاهر البدن الذي يقال له يوميا، وإذا تضمد به مع الزبيب والعسل حلل الدماميل، وإذا خلط (191) بفودنج الجبل وخل أنضج الأورام البلغمية العارضة في الأنثيين. وقد ينفع من نهشة التمساح الذي يكون في نيل مصر، وإذا سحق وصيّر في خرقة كتان وغمس في خل حاذق، وضرب «3» به ضربا رقيقا العضو المنهوش من بعض الهوام نفع من النهشة، وإذا استعمل بالعسل نفع من كمنة «4» الدم التي تحت العين، وقد ينفع من مضرة الأفيون والفطر القتال إذا شرب بالسكنجبين، وإذا خلط بالعسل والدقيق نفع من التواء العصب، وإذا خلط بالزيت ووضع على حرق النار لم يدعه ينفط، وقد يوضع على النقرس على صفة ما ذكرنا فينتفع به،

ويستعمل بالخل لوجع الأذن، وإذا تضمد به مع الخل ولطخ به مع الزوفا منع الحمرة والنملة من الانتشار في البدن. وقد يحرق على هذه الصفة، يؤخذ فيصير في إناء من فخار جديد، ويستوثق من تغطية الإناء ليلا يندر الملح منه إذا أصابته حرارة النار، ويطمر الإناء في جمر، ويترك إلى أن يحمى الملح، ثم يخرج من النار. ومن الناس من يأخذ الملح المعدني ويضعه في عجين، ويضعه على الجمر ويتركه إلى أن يحترق العجين. وقد يستقيم بأن يحرق سائر الملح على هذه الصفة: يؤخذ الملح فيغسل بالماء غسلة واحدة ثم يترك حتى يجف ثم يصير في قدر، ويغطى القدر، وتوقد تحته النار، ويجعل حول القدر من الجمر، ولا يزال الملح يحرك إلى أن يسكن من حركته «1» . وقال أبو جريج: الملح يابس إذا خلط بالأغذية الباردة، كالجبن والسمك والكواميخ، أحالها عن طباعها حتى تصير حارة يابسة. ويعين على الإسهال والقيء، ويحلل الرياح، ويقلع البلغم اللزج من المعدة والصدر، ويغسل الأمعاء، ويهيج القيء ويكثره، ويعين الأدوية التي تقلع السوداء على قلعها من أقاصي البدن. وقال الرازي في المنصوري: الملح يذهب بو خامة الطبيخ، ويهيج الشهوة ويشحذها، والإكثار منه (192) يحرق الدم، ويضعف البصر، ويقلل المني، ويورث الحكّة والجرب. وقال في [دفع مضار] «2» الأغذية: الملح يعين على هضم الطعام، ويمنع سريان العفونة إلى الدم، ويذهب بوخامة الدسم؛ وهو لأصحاب الأبدان الكثيرة

الرطوبة موافق، وأما النحفاء فضار لهم. وقال غيره: الملح أنواع، فمنه ملح العجين، ومنه نوع يحتفر من معدنه، ومنه الأندراني الشبيه بالبلور، ومنه أسود نفطي، سواده من أجل نفطية فيه، وإذا دخن حتى طارت عنه النفطية صار كالأندراني «1» . ومنه أسود ليس سواده لنفطية فيه، بل في جوهره، ومنه الهندي الأحمر اللون. وقال البصري: ملح العجين حار في الدرجة الثالثة، وأما الملح الأسود الذي ليس سواده شديدا، ولا [له] رائحة النفط حار في المثانة، يسهّل البلغم والسوداء. وأما النفطي فيسهل الماء والسوداء والبلغم العفن، والأندراني فحار يابس في الثانية، وأما المر فحار يابس في الثالثة، وهو مسهل للسوداء بقوة. وأما الهندي الأحمر فحار يابس في الثالثة، مسهل للكيموسات المختلفة. وقالت الخوز: الملح الهندي يسهّل الماء الأصفر، ويطرد الرياح، ويلين البطن، ويذهب البلغم، ويحد الفؤاد، وينفع من وجعه، ويشهي الطعام، ويذهب بالصّفرة من الوجه. وقال غيره: الملح الأندراني يحد الذهن، والملح المرّ يسحق بشيء من صمغ الزيتون، ويحشى به الجرح الغض من ساعته فيلحمه. وقال في التجربتين: الملح إذا حلّ بالخل وتمضمض به، قطع الدم المنبعث من اللثات «2» ، والمنبعث أيضا بعد قلع الضرس، وإذا سخنا وأمسكا في الفم نفعا من وجع الضرس، وإذا تغرغر بهما جلبا بلغما، ونقّيا الدماغ وورم النغانغ. (وإذا غمست فيه صوفة ووضعت على الجراحات الطرية قطعا دمها المنبعث) «3» ، وإذا

مها

غسل بالخل والملح المذكورين كل يوم الآكلة والنملة الساعية وبتور «1» الأعضاء وتمودي على ذلك أبرأها، وإذا خلط بالملح وحده (193) مع الأدوية المسهلة قطع الأخلاط وسهلها للاندفاع، وإذا خلط الصافي في القوام منه جدا، وهو الأندراني في أدوية العين، أحدّ البصر، وأضعف الظفرة، ورقق البياض الحادث على العين، ونفع من السبل. وإذا خلط بالصبر ووضع على الدماغ نفع من النزلات، وإذا سحق وسخّن ووضع على الفسخ والونى «2» والرّض في أول حدوثها، بعد أن يدهن الموضع بزيت أو عسل، ويعصب عليه، سكّن وجعها. وإذا حلّ في الخل، نفع من الورم والرخو، ومن تهيج الأطراف إذا كمدت بهما حارين، وإذا حل في شراب السكنجبين، أو شرب في الماء وحده، فتح السدد حيث كانت، وقلع البلغم اللزج. ويؤخذ منه من درهمين إلى نحوهما لذلك. مها «3» قال في كتاب الأحجار: هو صنف من الزجاج، غير أن يصاب في معدنه مجتمعا بالمغنيسيا، ويوجد في البحر الأخضر، وقد يوجد أيضا بصعيد مصر. وهو حجر أبيض بهي جدا لا يخالطه لون غير البياض. ومنه صنف أقل صبغا وحسنا وأشد صلابة، إذا نظر إليه الناظر ظن أنه من جنس الملح، وإذا قرع به الحديد الصلب أخرج نارا كثيرة. والصنف الأول هو البلّور، يستقبل به عين الشمس، فينظر إلى عين الشعاع الذي خرج من الحجر مما شفته النفس بضوئها،

مولوبدانا

فيستقبل بذلك الموضع خرقة «1» سوداء، فيأخذ فيها النار حتى يحرقها، ومن أراد أن يشعل من ذلك نارا فعل. وقال كسوفراطيس «2» : المها نافع من الرعدة والارتعاش والسل العارض للصبيان، ويمسح به ثدي المرأة إذا عسر عليها لبنها [ويقوي] . ويقول دواوسطوس الجوهري: إن دم التيوس إذا كان سخنا، وصير فيه، أذابه وحلّه. وذكر هرمس: إنه جيد لمن ثقل لسانه وكاد كلامه يفسد، [و] إذا سحق بخل وملح ومر وزعفران ونشادر، وحلّ بعسل، وعرك به اللسان مرارا، أزاله. وقال أبو طالب (194) ابن سليمان: يسهل الولادة بخاصة، وإن علقته المرأة في حين الطلق على وركها سهل الولادة بإذن الله. وقال التميمي: وإذا سحق وصوّل بالماء قلع البياض من العين. مولوبدانا «3» قال ديسقوريدوس في الخامسة: أجود ما يكون ما كان لونه شبيها بلون المرداسنج، وكان إلى الحمرة ما هو، وكانت له صقالة. وإذا سحق كان لونه ياقوتيا، وإذا طبخ بالزيت كان لونه شبيها بلون الكندر. وأما ما كان لونه شبيها بلون الهواء ولون الرصاص، كأنه الدخان، فإنه رديء، وقد يكون منه أيضا شيء من الذهب والفضة. ومنه ما يخرج من المعادن هو حريف. [و] جوهره معدني

موميا

موجود في المكان الذي يقال له سرسطي «1» ، والمكان الذي يقال له قوروفس «2» . وأجود هذا المعدني ما لم [يشبه] خبث الرصاص ولم يكن متحجرا، وكان لونه أحمر، وكانت له صقالة. وقال جالينوس في التاسعة: قوة هذا شبيهة بقوة المرداسنج، وهو بعيد قليلا عن المزاج الوسط، مائل إلى البرودة، لأن فيه أيضا قوة تجلو، وهذان الدواءان كلاهما يذوبان وينحلان، وليس ما ينحل ولا يذوب، كالحجارة والقليميا والرمل. وأسرع ما ينحلان ويذوبان متى وقعت في الزيت الذي يذوبان وينحلان به «3» ، وفيما يذوبان وينحلان أيضا [متى طبخا بالماء] أفضل طبخ. وقال ديسقوريدوس: وقوة المولوبدانا أصلح لأن يخلط بالمراهم التي تجلو «4» . موميا «5» قال ديسقوريدوس في الأولى: ويكون بالبلاد التي يقال لها أقولونيا «6» ، ينحدر من الجبال التي يقال لها الصواعقية مع الماء، ويلقيها الماء إلى الشواطئ وقد جمدت وصارت قارا تفوح منه رائحة الزفت المخلوط بالقفر مع نتن.

وقوة الموميا مثل قوة الزّفت والقفر إذا خلط. قال ابن البيطار: الموميا يقال على هذا الدواء المقدم ذكره، وعلى الدواء المعروف بقفر (195) اليهود، وعلى الموميا القبوري «1» ، وهي موجودة بمصر كثيرا، وهو خلط كانت الروم قديما تلطخ به موتاهم حتى تحفظ أجسادها بحالها لا تتغير. ويقال على حجارة تكون بصنعاء اليمن، وهي حجارة سود، وفيها أدنى تجويف، وهي [إلى] «2» الخفة ما هي، تكسر فيوجد في ذلك التجويف شيء سيال أسود، وتقلى هذه الحجارة إذا كسرت في الزيت فتقذف جميع ما فيها من الرطوبة السيالة. وأكثر «3» ما يوجد منها متوفرة إذا كانت السنة عندهم كثيرة المطر، وهذه جميعها تجبر الكسر، وهي مجربة في ذلك. وقال الرازي في الحاوي: حكى لي بعض الأطباء عن منافع الموميا، قال: هو نافع للصداع البلغمي والبارد من غير مادة، والشقيقة والفالج واللقوة والصرع والدوار، يسعط لهذه العلل بحبة منه بماء مرزنجوش. ولوجع الأذن تذيب منه حبة بدهن ياسمين ويقطر فيها. ولوجع الحلق يذاف منه قيراط بربّ التوت أو بطبيخ العدس والشونيز «4» . ولسيلان القيح من الأذن يذاب شعيرة بدهن ورد وماء حصرم، ويجعل فيها فتيلة. ولثقل اللسان يذيب «5» منه قيراط بماء قد طبخ فيه صعتر فارسي «6» ، وللسعال بماء عناب، أو بماء الشعير وسبستان «7» ، ويسقى

ثلاثة أيام على الريق. وللخفقان قيراط بماء سوسن «1» أو بماء النعنع. وللريح والنفخة في المعدة قيراط بماء كمون أو كراويا «2» ، أو بماء النانخواه «3» . وللصدمة الواقعة بالمعدة والكبد قيراط مع دانقي طين أرمني، ودانق زعفران بماء عنب الثعلب، أو خيار شنبر «4» . وللفواق حبة تطبخ «5» ببزر الكرفس وكمون كرماني. ولوجع الرأس العتيق يؤخذ منه حبة ومسك وكافور، وجندبادستر حبة بدهن، بأن يسعط. وللخناق قيراط بالسكنجبين. ولوجع الطحال قيراط بماء الكزبرة. وللسموم حبتان «6» بماء طبيخ الحسك والأنجدان. وللعقارب قيراط بخمر (196) صرف، ويوضع على الموضع بسمن بقر. وقال أبو جريج: إنه يصلح للكسر [والرّض] «7» والوهن داخل البدن وخارجه، وينفع الصدر والرئة. وهو قريب من الاعتدال، إلا أنه له خصوصية في تسكين أوجاع الكسر إذا شرب أو تمرّخ به أو حقن به. وينفع قروح الإحليل والمثانة إذا سقي منه قيراط باللبن. وقال الطبري «8» : الموميا حار لطيف، جيد للسقطة والضربة والرياح. وخبّرت أن رجلا نفث الدم فلم ينقطع بشيء من أدويته، وكان قد سقيها كلها،

نطرون

حتى سقيناه موميا ثلاث شعيرات، زعموا «1» بنبيذ فانقطع ذلك عنه. وقال: إنه أبلغ دواء في نفث الدم، وإنه إن حلّ بزئبق، وتحمل به، نفع من قلة الصبر على البول. وقال غيره: ويسقى للفالج واللقوة والبرد والرياح، ويتمرخ به لذلك، نافع. والخلع والهتك في الأعصاب الباطنة. ويشرب مع طين مختوم بشراب قابض للسقطة الشديدة. وقال ابن سينا في الأدوية القلبية: الموميا حار في آخر الثانية، يابس كما أظن في الأولى، أما خاصيته فتقوية الروح كله، وتعينها لزوجة «2» الممتنة. نطرون «3» قال أرسطو: إن النطرون وإن كان من جنس البورق فإن فعله غير فعل البورق، فإنه يغسل الأجسام من الوسخ، ويقيم أودها، ويحسّن وجوهها، وينورها. وهو نافع لأرحام النساء المرطبة، ينشفها ويقويها. والبورق الأرمني ينفع من القولنج الشديد المبرّح، ويقلع بياض القرنية. وإذا ألقيته في العجين يبيض الخبز ويطيبه، وإذا ألقيته في القدر يهري اللحم وينضجه. وقد تقدم في ذكر البورق ما فيه كفاية.

نفط

نفط «1» قال ديسقوريدوس في الأولى: هو صفوة القير «2» البابلي، ولونه أبيض، وقد يوجد أيضا ما هو أسود. وللنفط قوة تسلب بها النار، فإنه يستوقد من النار وإن (197) لم يمسها. وهو نافع من الماء النازل في العين والبياض. وقال مسيح [ابن الحكم] «3» : النفط حار في الدرجة الرابعة، يدر الطمث والبول، وينفع من السعال العتيق والبهر واللهب ووجع الوركين ولسع الهوام طلاء. وقال الطبري: النفط لونان أسود وأبيض، وكلاهما حارّ، والأبيض قوي فعلا، وهو صالح للشقيقة من الديدان الكائنة في الشرج إذا استعمل بفرزجة، والأسود أضعف. وقال في موضع آخر: إنهما محللان نافعان من برد المثانة والأعضاء ورياحها. وقال ابن سينا: النفط لطيف وخصوصا الأبيض، محلل مذيب مفتح للسدد، نافع من أوجاع المفاصل، ويسكّن المغص، ويكسر من برد الرحم ورياحها. والنفط الأزرق ينفع من أوجاع الأذن الباردة قطورا «4» . وقال غيره: يخرج المشيمة والأجنة الموتى، ويدخّن به لاختناق الرحم. وقال الرازي: وبدلهما ثلثا وزنهما دهن بلسان، وثلثا وزنهما من حب الصنوبر، ووزنه من صمغ الجاوشير «5» .

نؤورة

نؤورة «1» من الأجسام الحجرية المحترقة، تقطع نزف الدم إذا جعلت على الموضع، وينفع من حرق النار جدا، وإذا طلي في الحمّام لإزالة الشعر، أبرزت ما تحت الشعر والجلد، فينبغي أن يدهن بعدها بدهن البنفسج والماء ورد. وقد حكي أن إزالة الشعر بالنؤورة مما علم من الجن، وذلك أن سليمان بن داود- عليهما السلام- لما تزوج بلقيس ملكة اليمن، وجدها كاملة الصورة، إلا أن ساقيها كانتا كثيرتي الشعر، فسأل الجن: هل من ذلك من حيلة؟ فذكروا له استعمال النؤورة. وإذا فرشت النؤورة في مكان لم يقربه البراغيث البتة، وقد ذكرنا في الكلس ما فيه كفاية «2» . نوشادر «3» قال ابن التلميذ: النوشادر نوعان، طبيعي وصناعي فالطبيعي ينبع من عيون حمئة في جبال بخراسان يقال إن مياهها تغلي غليانا (198) شديدا، وأجود النوشادر الطبيعي الخراساني، وهو الصافي كالبلور. وقال الغافقي: هو صنف من الملح منه محتفر يستخرج من معدنه حصى صلبا، ومنه شديد الملوحة يحذي اللسان حذيا شديدا، أو منه ما يكون من

نوني

دخان الحمامات التي يحرق فيها الزبل خاصة. وأصناف النوشادر كثيرة، فمنه المنكت بسواد وبياض، ومنه الأغبر، ومنه الأبيض الصافي التنكاري الذي يعرف من شبه المها، وهو أجودها. والنوشادر حار يابس في آخر الثالثة، ملطف مذيب، ينفع من بياض العين، ويشد اللهاة الساقطة إذا نفخ في الحلق. وينفع من الخوانيق، ويلطف الحواس. وخاصته الجذب من عمق البدن إلى ظاهره، فهو لذلك لا يجلو ظاهر البدن ولا يغسله، وإذا حلّ بماء ورشّ في بيت لم تقربه حية، وإن صبّ في كوّها «1» ماتت، وإذا سحق بماء السذاب وتجرع منه قتل العلق. وقال الشريف الإدريسي: وإذا أذيب بدهن ولطخ به على الجرب السوداوي في الحمّام جلّاه وأذهبه، وإذا مضغ النوشادر وتفل في أفواه الحيات والأفاعي قتلها وحيا «2» . وإذا خلط بدهن البيض ودهن به البرص بعد الإنقاء أبرأه ونفع منه نفعا بينا لا سيما إذا أدمن عليه. قال الرازي: وبدله وزنه شب «3» ، ووزنه بورقا، ووزنه ملحا أندرانيا. نوني «4» قال أرسطو: إنه حجر لين المجس، ومعنى النوني النافي للجسم. وهو نافع من سائر السموم، إلا انه يعمد إلى القلب والكبد فيذوبهما، وإلى العروق فيفسد كيفية ما فيهما من الدم. وقد يسد مجاري الروح الحيواني فيغشى على الإنسان

هادي

إلا انه يدفع غائلة السم قبل نفشها في البدن نفعا بينا، وإن كان بعد ذلك أضر، والله أعلم. هادي «1» قال أرسطو: هذا الحجر يوجد بناحية الجنوب والشمال (199) جميعا، ولونه لون الطحال، إذا علق على إنسان لم تنبح «2» عليه الكلاب، وإذا كلس وألقي عليه زاج منقى عقد الزئبق، ولم يدعه أن يفر من النار. ودع «3» قال الخليل بن أحمد: الودع واحده ودعة، وهي مناقف صغار يخرج من البحر يزين بها العثاكيل «4» ، وهي بيضاء في بطونها مشق كمشق «5» النواة، وهي جوفاء، يكون في جوفها دودة كلحمة. وقال بعض الأطباء: الودع صنف من المحار يشبه الحلزون الكبير، إلا أن خزفه أصلب، وكلاهما يدخل في علاج الطب محرقا وغير محرق. وبعض الناس يسمي الودع سوار السّند «6» . وقال مسيح بن الحكم: الودع والحلزون إذا أحرقا جففا البلّة، ونفعا من قروح

ياقوت

العين، وقطعا الدم. وقال البصري: لحم الودع صلب عسر الانهضام، فإذا انهضم غذّى [غذاء] «1» جيدا وليّن الطبيعة. وإذا أحرق الودع تولدت فيه مرارة ويبوسة، وحلّل البهق والقوابي وجلا البياض من العين «2» وفي الأعضاء المترهلة، وهو [صالح] لأصحاب الحبن. ولرماده تجفيف كثير، وتسخين يسير. وإذا شرب بشراب أبيض نفع القروح الكائنة في الأمعاء قبل أن يحدث فيها عفونة. قال ابن البيطار: والسّبج «3» أيضا من جملة الودع. ياقوت «4» لم يذكره ديسقوريدوس ولا جالينوس. وقال أرسطاطاليس: الياقوت ثلاثة أجناس، أصفر وأحمر وكحلي، فالأحمر أشرقها وأنفسها. وهو حجر إذا نفخ عليه بالنار «5» ازداد حسنا وحمرة، وإن كانت فيه نكتة شديدة الحمرة، وأدخل النار انبسطت في الحجر، فسقته من تلك الحمرة وحسّنته، وإن كانت فيه

نقطة «1» سوداء، نقص سوادها. والأصفر منه أقل صبرا على النار من الأحمر، فأما الكحلي فلا صبر له على النار البتة. وجميع أنواع اليواقيت لا تعمل فيها المبارد [الفولاذ] «2» . ويقال إن الياقوت يمنع جمود الدم إذا علّق [على من به ذلك] «3» . وقال في كتاب الأحجار: (200) إن الياقوت طبعه الحرارة واليبس، ويجب أن يختار منه ما كان مشرق اللون، شديد الصبغ جدا، متناسب الأجزاء، ليست فيه كدورة ولا نكتة ولا زجاجية ولا تضريس. وأصنافه خمسة، أحمر ورماني وأصفر وأكحل وأبيض. ولهذا الحجر أشباه كثيرة تقارب لونه وجنسه، ولكن ليس تبلغ مبلغه، والفرق بينه وبين أشباهه أن الياقوت إذا دخل النار ازداد حسنا، ولم تضره النار شيئا. وإن سحل بالمبارد، لم تؤثر فيه، وأشباهه ليست كذلك. وذكر أرسطاطاليس في بعض كتبه: إن من الياقوت ما يكون أخضر، وطبعه مثل طبعهم، وفعله مثل فعلهم، ويؤتى [به] من أقصى جبال الهند. وقال الشيخ الرئيس في كتابه الأدوية القلبية: أما طبعه فيشبه أن يكون معتدلا. وأما خاصيته في تفريح القلب وتقويته، ومقاومة السموم، فأمر عظيم. ويشبه أن تكون هذه الخاصية قوة غير مقتصرة على جزء فيه، بل فائضة منه، كفيضانها من المغناطيس في جذبه الحديد من بعيد. قال: ومما يقنع به في هذا الباب في أمر الياقوت، أنه يبعد أن نقول «4» إنّ

حرارتنا الغريزية تفعل في الياقوت المشروب إحالة وتخليطا وتمزيجا بجوهره «1» بجوهر البخار «2» الروحي كما تفعل في الزعفران وغيره. وبالجملة فبعيد أيضا أن نقول إن الياقوت ينفعل في صورته عن الحار الغريزي، ثم يحدث منه فعله، فإن جوهره- كما يظهر- جوهر بعيد جدا عن الانفعال، فيشبه أن يكون فعل الحرارة الغريزية غير مؤثر في جوهره، ولا في أعراضه اللازمة لصورته، ولا في أعراضه اللازمة، ولكن في آنيته «3» ومكانه العرضيين، أما في آنيته فبأن ينفذه مع الدم إلى ناحية القلب، فيصير أقرب من المنفعل، فيفعل فعلا أقوى. وأما في كيفيته فتسخّنه، ومن شأن السخونة أن تثير الخواص، وتنبه «4» القوى كالكهرباء «5» ، فإنه إذا قصّر في جذب التبن حكّ «6» حتى يسخن، ثم قوبل به التبن فيجذبه، فيشبه أن يكون غاية تأثير طبيعتنا (201) في الياقوت. هذا ويكون فعله زيادة إفاضة لما يفيض منه طبعا وزيادة تقريب. وما شهد به الأوّلون من تفريح الياقوت إمساكا في الفم دليل على أنه ليس يحتاج في تفريحه إلى استحالة في جوهره وأعراضه اللازمة، ولا إلى مماسة المنفعل عنه، بل قوته المفرحة قابضة عنه إلا أنا نقوي «7» فعلها بالتسخين والتقريب كما في سائر الخواص. ويشبه أن تعلل «8» هذه الخاصية بما فيه من التنوير بشفّه والتعديل بمزاجه «9» .

يشب

وقال أرسطو «1» : إن الياقوت حجر صلب، شديد اليبس، رزين «2» صاف، شفّاف، مختلف الألوان؛ وأصل ذلك كله ماء عذب صاف وقف في معادنها بين الحجارة الصلدة زمانا طويلا، فغلظ وصفا وثقل، وأنضجته حرارة المعدن بطول وقوفه، فيصير صلبا لا تذيبه النار لقلة دهنيته، ولا يتفتت لغلظ رطوبته، بل يزداد لونه حسنا وصفاء، ولا تعمل فيه المبارد لصلابته ويبسه، إلّا الماس والسّنباذج. ومعدنه بالبلاد الجنوبية عند خط الاستواء. وزعموا أن من تختّم به، ووقع في بلده طاعون ووباء، لم يتعلق به، وسلم منه، ونبل في أعين الناس، وسهلت عليه أمور المعاش. وقيل إنه يمنع الماء من الجمود. [و] من ترك تحت لسانه حجرا من الياقوت الأرزق أمن من العطش في شدة هيجان الحر الشديد، خاصية فيه، لتبريده الكبد. يشب «3» ويقال يشف. قال ديسقوريدوس في الخامسة: أناسيس «4» زعم أنه جنس من الزبرجد، ومنه ما لونه شبيه بلون الزبرجد، ومنه ما [يكون] لونه شبيه بلون الدخان، كأنه شيء مدخّن. ومنه ما فيه عروق بيض صقيلة؛ ويقال له

أسطروس «1» ومعناه الكوكبي. ومنه ما يقال له طرمينون، ومعناه الشبيه في لونه بالحبة الخضراء. قال: وقد يظن أن هذه الأصناف كلها تصلح أن تعلّق على الرّقبة أو على العضد للتعويذ، أو على الفخذ لعسر (202) الولادة. وقال جالينوس في التاسعة: وقد شهد قوم بأن في الحجارة خاصيّات مثل هذه الخواص التي في حجر اليشب الأخضر، لأنه ينفع المريء وفم المعدة إذا علق في الرقبة. وقوم ينقشون عليه ذلك النقش الذي له شعاع على ما وصف تاجاسيوس «2» . وقد امتحنت أنا هذا الحجر واختبرته بالتجربة اختبارا شافيا «3» ، وذلك أني (اتخذت مخنقة «4» من حجيرات حالها هذه الحال، وعلقتها في العنق) «5» ، وجعلت طولها طولا معتدلا، لا يبلغ إلى فم المعدة، فوجدته ينفع نفعا ليس بدون ما ينفع إذا كان منقوشا عليه. تاجاسيوس. وقال الغافقي: زعم قوم أن حجر اليشب هذا هو الدّهنج. وزعم قوم: أنه ياقوت حبشي ملوّن، ويسمونه أبو قلمون، وقوم يصحفونه فيقولون حجر البسذ «6» وهو خطأ. وقال أرسطو «7» : هو حجر أبيض مشهور، قيل إنه شفاء لأمراض المعدة، وهو

يقظان

حجر الغلبة، من استصحبه لم يغلب في الحرب ولا بالحجّة، ولهذا المعنى يجعله الملوك في مناطقهم. وزعموا: أن العطشان إذا أمسكه في فمه سكّن عطشه «1» . وقال في كتاب الأحجار: قال هرمس إن هذا الحجر طبعه الحرارة والرطوبة، مائل إلى الحر، ويجب أن يختار منه ما كان معتدل البياض، حسن البريق، متناسب الأجزاء، ليست فيه كدورة. وأصناف هذا الحجر أربعة، أبيض، وأخضر فيه سواد، ورمادي وزمردي. قال: ولهذا الحجر أشباه كثيرة تقارب لونه وجسمه، ولا تبلغ مبلغه، والفرق بينه وبين أشباهه أن اليشب له رائحة كرائحة الدخان، وإن علّق على امرأة سهلت ولادتها. ويؤتى به من بلاد الهند، ومن بلاد قبرص، وأفضله القبرصي. ومن خواصه أن من لبسه هيّج عليه الجماع، وحرك شهوة العشق، ومن وضعه تحت رأسه جامع ما شاء، ولم ير في منامه ما يكره قلبه، ويضيق صدره. يقظان «2» قال أرسطو: هو حجر يتحرك ولا يهدأ، حتى يمسه (203) إنسان فعند ذلك يسكن. وهو صالح لخفقان [القلب و] ، الفؤاد والارتعاش واسترخاء المعدة والأعضاء «3» . وإذا علّق على إنسان لم ينس شيئا. والفلاسفة قد رمزوا إليه، وستروه عن العامة.

فائدة

فائدة اعلم أن العزيز من هذه الأحجار الغالي الثمن، القليل الوقوع، قد يعرض له ما يفسده، فيحتاج إلى إصلاحه، وتدبير مرضه، ليرجع إلى الصحة والحسن. أما اليواقيت جميعا، فإذا تغيرت ألوانها، وفسدت أفعالها، فإنها تترك في النار لحظة يسيرة، لكل حجر منها على قدر ثبوته في النار، ولا ينفخ عليه نفخا شديدا، لكن لينا يسيرا، في نار لينة غير قوية. وأقواها على النار الأحمر، ثم الرماني، ثم الأصفر، ثم الأكحل، ثم الأبيض. فأما أشباه الياقوت، فإنها إذا شمّت النار تفتت لساعتها، وأما إصلاح ما يفسد من الجوهر أجمع، إذا استحالت ألوانها، وضعفت أفعالها، فإنها تؤخذ وتترك في بصلة بيضاء، ثم تجعل البصلة في شيء من خمير، وتلصق في تنور حتى تحمر، ثم يخرج، فهو برؤه وصلاحه. وأما الدّر فإنه إذا تغير، فانه ينقع في ماء النطرون، ثم يخلّى في خرقة صوف خشنة بيضاء مرارا، فإنه ينصلح. وأما البادزهر والزّمرّد والزّبرجد والدّهنج والفيروزج، فإذا استحالت ألوانها، وضعفت أفعالها، فإنها تزفّر بلحوم الضأن والمعز والدجاج، صغيرة وكبيرة، ثم تغسل «1» على العادة. وأما الماس، فإنه إذا فسد فعله، وضعف لونه، فإنه يلقى في دم إنسان حار، ويبقى فيه أياما، فإنه ينصلح. وأما المغناطيس، فإنه إذا تغير لونه، وفسد وضعف عمله، فإنه يلقى في دم

النوع الثالث في الأجسام الدهنية

تيس كبير حين النحر لوقته، يفعل به ذلك مرارا، فإنه ينصلح. وأما الذهب، فإنه إذا تغير لونه وفسد، وضعف فعله، واضطرب حاله، فإنه يدخل النار، ويلقى عليه التنكار والزاج والكبريت، فإنه إصلاحه. النوع الثالث في الأجسام الدهنية «1» زعموا (204) أن الرطوبات المحتقنة «2» تحت الأرض تسخن في الشتاء وتبرد في الصيف، بسبب أن الحرارة والبرودة ضدّان، فلا يجتمعان في مكان واحد؛ فإذا جاء الشتاء وبرد الجو فرّت الحرارة، وأسخنت باطن الأرض (وكهوف الجبال) «3» ، فاكتسبت الرطوبات المنصبة إلى تلك المواضع بواسطة الحرارة دهنية، فإذا أصابها نسيم الهواء، أو برودة الجو، فربما انعقدت، وربما بقيت على ميعانها، فتصير كبريتا أوزئبقا أو قيرا أو نفطا أو ما شاكل ذلك، بحسب اختلاف البقاع وتغيرات الأهوية. وزعموا أن أول هذه القوى- أعني الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة- في تكوين المعادن، الزئبق، وذلك أن الرطوبة المخفية التي في باطن الأجسام الأرضية، والبخارات المحتبسة فيها، إذا تعاقب عليها حر الصيف وحرارة المعدن، لطفت وخفت وتصاعدت إلى سقوف الأهوية «4» والمغارات، وتعلقت هناك زمانا، فإذا تعاقب عليها برد الشتاء، غلظت وجمدت وتقاطرت إلى أسفل تلك المغارات

والأهوية، واختلطت بتربة تلك البقاع، ومكثت زمانا هناك، وحرارة المعدن تعمل دائما في إنضاجها وطبخها وتصفيتها، فتصير تلك الرطوبة المائية بما تخلّط بها من الأجزاء الترابية، وما يكتسب من ثقلها وغلظها بطول الوقوف وإنضاج الحرارة لها، كبريتا محرقا. فإذا اختلط الزئبق والكبريت مرة ثانية وتمازجا، والتأثير بحالة تركب من امتزاجهما «1» الجواهر «2» المعدنية وأنواعها، كما ذكرنا من قبل، فلا نعيده. أما الزئبق، فإنه يتولد من أجزاء مائية، اختلطت بأجزاء أرضية لطيفة كبريتية، اختلاطا شديدا، حيث لا يتميز أحدهما من الآخر، وعليه غشاء ترابي «3» ، فإذا اتصلت إحدى القطعتين بالأخرى، انفتح الغشاء وصارت القطعتان واحدة، والغشاء محيط بها كقطرة الماء، (إذا وقعت على التراب فإنها قد تبقى (205) مدورة، وتحيط بها الأجزاء الترابية، وربما أصاب تلك القطرة قطرة أخرى، وانشق ذلك الغلاف «4» ، وصارت القطرتان [قطرة] واحدة، وأحاط بها الغلاف البرّاني) «5» . وأما بياضه فبسبب صفاء ذلك الماء، ونقاء التراب الكبريتي الذي ذكرناه. قال أرسطو: الزئبق من جنس الفضة إلا أن الآفات دخلت عليه في معدنه، والآفات ما ذكرناه في الرصاص. وقال في بعض كتبه «6» : حجر الزئبق حجر ينحل في تركيبه، ويكون في

معدنه كما تكون سائر الأحجار. وهو جنس من الفضة لولا آفات دخلت عليه في أصل تكوينه، منها تخلخله، وأنه شبيه بالمفلوج. وله أيضا صرير ورائحة ورعدة، وهو يحمل «1» أجسام الأحجار كلها إلا الذهب، فإنه يغوص فيه. وقال الطبري: الزئبق من آذربيجان من كورة تدعى السين «2» . وقال المسعودي: وبالأندلس معدن للزئبق ليس بالجيد. وقال ابن سينا: منه ما يسقى من معدنه، ومنه ما هو مستخرج من حجارة معدنه بالنار، كاستخراج الذهب والفضة. وحجارة معدنه كالزنجفر. قال: ويظن ديسقوريدوس وجالينوس أنه مصنوع كالمرتك، لأنه يستخرج بالنار، فيجب أن يكون الذهب مصنوعا أيضا. وقال ديسقوريدوس: الزئبق يصنع من الجوهر الذي يقال له متينون على هذه الصفة: يؤخذ طبخهارة «3» من حديد ويصير في قدر من نحاس، ويجعل في أتون في الطبخهارة فساماراى «4» ، ويركب عليه إنبيق، ويطين حول الأنبيق، وتوضع القدر على جمر، فإن الدخان الذي يتصاعد إلى الأنبيق إذا اجتمع يكون زئبقا. وقد يوجد أيضا زئبق «5» في سقوف معادن الفضة، مدورا جامدا، كأنه قطر الماء إذا تعلق. ومن الناس من يزعم أنه يوجد في الزئبق في معادن له خاصة. وقد يوعى

الزئبق في أوان متخذة من الزجاج والرصاص والآنك والفضة، (206) فإنه إن أوعي في أوان غير هذه الجواهر، أكلها وأفناها. وقال جالينوس: لم أجرّبه أنه يقتل إذا شرب أم لا، ولا ما الذي «1» يفعل إذا وضع من خارج البدن. وقال الرازي: الزئبق بارد مائي غليظ، فيه حدة وقبض، ويدل على ذلك جمعه للأجساد، وأنه يصلح ريحه، فإذا صعّد استحال فصار حارا حريفا محللا مقطعا، والدليل على ذلك إذهابه للجرب والقمل. وقال ماسرجويه: تراب الزئبق ينفع من الجرب والحكة، إذا طلي عليها مع الخل. وقال أرسطاطاليس: تراب الزئبق يقتل الفأر إذا عجن له في شيء من طعامه. ودخان الزئبق يحدث أسقاما رديئة مثل الفالج ورعدة الأعضاء وذهاب السمع والعقل والغشاوة وصفرة اللون والرعشة وتشبيك الأعضاء وبخر الفم ويبس الدماغ. والموضع الذي يرتفع فيه دخانه تهرب منه الهوام، من الحيات والعقارب، وما أقام منه قتلها. والزئبق له خصوصية في قتل القمل والقردان المتعلقة بالحيوان. وقال بلوس: أما الزئبق فقلّما يستعمل في أمور الطب لأنه من الأشياء القتّالة. ومن الناس من يحرقه حتى يصير كالرماد، ويخلط [هـ] مع أنواع أخر، ويسقيه أصحاب القولنج وأصحاب العلّة التي تسمى إبلاوس «2» . وقال ديسقوريدوس: وإذا شرب قتل بثقله، لأنه يأكل ما يلقاه من الأعضاء

الباطنة بثقله، وقد ينفع من مضرته اللبن إذا شرب منه مقدار كثير يقيء، والخمر أيضا ينفع من مضرته إذا شرب بالأفسنتين وبزر الكرفس أو بزر النبات الذي يقال له أرمنين. وإذا شرب الخمر أيضا مع الفوذنج «1» الجبلي، أو مع الزوفا «2» ، ينفع من مضرته. وقال الرازي: أما الزئبق العبيط فلا أحسبه كثير مضرة، إذا شرب أكثر من وجع شديد في البطن والأمعاء ثم يخرج كهيئته، لا سيما إن تحرّك الإنسان. وقد سقيت منه فردا كان (207) عندي فلم أره عرض له إلّا ما ذكرت، وعلمت ذلك من تلويه وقبضه بفمه، ويديه على بطنه. وقد ذكر بعض الأطباء أنه يعرض [منه] «3» مثل أعراض المرتك، فإنه ينبغي أن يعالج بعلاجه. وأما إذا صبّ منه في الآذان، فإنه له نكاية شديدة. فأما المفتول «4» منه والمتصاعد «5» خاصة، فإنه قاتل رديء، حادّ جدا، يهيّج منه وجع شديد في البطن ومغس «6» وخلفه الدم. قال أرسطو: من صب في أذنه زئبق فإنه يختلط عقله، ويحس بثقل عظيم في جانبيه، وربما أدى إلى الصرع والسكتة. وطريق إخراجه أن يعجل على فرد رجل «7» يميل رأسه إلى الشق الذي فيه الزئبق. وأما الكبريت «8» ، فإنه يتولد من أجزاء مائية وهوائية وأرضية، إذا اشتد

اختلاط بعضها بالبعض، بسبب حرارة قوية ونضج تام، حتى يصير مثل الدهن، وينعقد بسبب برودة حرسه «1» . قال: الكبريت له ألوان، فمنه الأحمر الجيد الجوهر، وليس هو بصافي اللون، ومنه الأبيض الذي هو كالغبار. فأما الأحمر فمعدنه في مغرب الشمس، لا ساكن في موضعه، بقرب بحر أقيانوس، على فراسخ؛ (فإذا أخذ من موضعه لم تر «2» له خاصية في الحال) . وهو نافع من الصرع «3» والسكتات والشقيقة، ويدخل في أعمال الذهب. والأبيض منه يسوّد الأجسام البيض، وقد يكون كامنا في العيون التي يجري منها الماء الجاري مشوبا بالماء، ويوجد لتلك المياه رائحة منتنة، فمن اغتمس في هذه المياه في أيام معتدلة الهواء، برأ من الدماميل والجراحات كلها، والأورام والجرب والسّلع «4» التي تكون من المرّة «5» السوداء، وينفع من رياح الأرحام. وقال الشيخ الرئيس: إن الكبريت من أدوية البرص ما لم تمسه النار، وإذا خلط بصمغ البطم قلع الآثار التي على الأظفار، وبالخل على البهق، ويجلو القوباء، خصوصا مع علك البطم. وهو دواء النقرس مع النطرون والماء، (208) ويحبس الزكام بخورا، وتهرب من رائحته البراغيث والحيات والعقارب، سيما مع شيء من الدهن وحافر حمار. وهو يبيض الشعر بخورا، وإذا دخّن به تحت شجرة الأترج يسقط الأترج كله من الشجرة «6» .

وقال ابن سمجون: قال الخليل بن احمد: الكبريت عين تجري فإذا جمد ماؤها صار كبريتا أصفر وأبيض وأكدر. ويقال إن الكبريت الأحمر هو من الجواهر في وادي النمل الذي مرّ به سليمان بن داود- عليهما السلام- وتلك النمل أمثال الدواب تحفر أسرابا، فتمر «1» على الكبريت الأحمر. وقال أرسطاطاليس: الكبريت ألوان «2» كثيرة، فمنه الأحمر الجيد الحمرة الذي ليس بصاف، ومنه الأصفر الشديد الصفرة الصافي اللون، ومنه الأبيض القليل البياض الحاد الريح، ومنه المختلط بألوان كثيرة. والكبريت يكون كامنا في عيون يجري منها ماء حار، يصاب في ذلك الماء رائحة الكبريت. والكبريت الأحمر يسرج بالليل في معدنه كما تسرج النار، يضيء ما حوله على فراسخ، وإذا أخذ من معدنه ارتفعت تلك الخاصية. ويدخل في أعمال الذهب كثيرا، أو يحمّر البياض جدا ويصبغه. وقال ماسرجويه: هو ثلاثة ضروب، أحمر وأبيض وأصفر، وكلها حار يابس لطيف. وقال إسحاق بن عمران: هو أربعة ضروب، أحمر وأسود وأبيض، وهو حجر رخو من جواهر الأرض، والمطبوخ منه أغبر إلى السواد، والمحترق منه أسود. وقال الرازي: الكبريت حار يتولد من البخار اليابس الدخاني إذا ماس شيئا من البخار الرطب، لأن البخار بخاران، بخار رطب، وبخار حار لطيف يابس، فيطبخ البخار الرطب كطبخ حرارة الشمس لرطوبة الماء، حتى يحيله قارا أو نفطا أو ما أشبه ذلك. والكبريت من البخار الدخاني والرطب امتزجا وطبخهما حر

الشمس حتى صار ما فيه من الرطوبة دهنا لطيفا حارا خفيفا، ولذلك أسرع إيقاده «1» لأنه شديد الحر «2» ، فتسرع إليه النار بمرة، لأن النار تطلب من الرطوبة آخرها لقربها منه بطريق واحد، والدليل على ذلك أن الأشياء الرطبة الباردة اليابسة لا تحرق لمضادتها النار بطرفيها، والأشياء الباردة لا تحرق لأنها لا رطوبة فيها، وإنما غذاء النار الرطوبة لأنها صاعدة لا تقيم في أسفل إلّا معلقة بماء يجذبها إلى أسفل، كما لا يقيم الحجر في الجو إلّا بما يعمده. وقال جالينوس في كتاب الأدوية الموجودة بكل مكان: الكبريت النهري هو كبريت القصّارين. وقال مرة أخرى: كبريت القصارين هو كبريت الماء. وقال في المقالة السابعة من مفرداته: كل كبريت قوته قوة جلائه، لأن مزاجه وجوهره لطيف، ولذلك صار يقاوم ويضاد سم ذات السموم والهوام. واستعماله بأن يسحق ويذر على موضع اللسعة، أو يعجن بالدقيق، ويوضع عليه؛ أو يعجن بالبول أو بزبل أو عسل أو علك البطم. وقد يسقى منه للجرب وللعلة التي يتقشر معها الجلد، والقوابي إذا عولجت به مع علك البطم يشربها «3» مرارا كثيرة، فإنه يجلو، ويقلع هذه العلل كلها من غير أن يدفع شيئا منها إلى عمق البدن. وقال ديسقوريدوس في الخامسة: يعلم أن أجوده ما لم يقرب من النار، وكان صافي اللون صقيلا، ليس بمتحجر، وأما إذا قرب من النار فينبغي أن يختار منه الأحمر الذي فيه دهنية. وقد يكون كثيرا في المواضع التي يقال لها موم

ملصق «1» والمواضع التي يقال لها لينارا «2» . والصنف الأول يسخّن ويحلل وينضج السعال ويخرج القيح الذي في الصدر سريعا، وإذا صيّر في بيضة وشرب أو تدخن به نفع من الربو، وإذا تدخنت به المرأة طرح الجنين، وإذا خلط بصمغ البطم قلع الجرب والقوابي والبهق، وإذا خلط بالراتينج أبرأ لسعة العقرب، وإذا خلط بالنطرون وغسل به البدن سكن الحكة العارضة فيه. (210) وإذا أخذ منه مقدار فوجلياريوس «3» وشرب بماء، أو بيضة حسوا، نفع من اليرقان. ويصلح الزكام والنزلة، وإذا ذرّ على البدن قطع العروق «4» ، وإذا لطخ على النقرس مع النطرون والماء نفع منه، وإذا تدخن به نفع من الطرش، وقد يقطع النزيف. وإذا خلط بالعسل والخمر ولطخ على شدخ «5» الآذان أبرأه. وقال أرسطوطاليس: والكبريت الأحمر ينفع من داء الصرع والسكتات والشقيقة إذا أسعط به. وقال الدمشقي: وقوة الكبريت في الحرارة واليبوسة من الدرجة الرابعة يذهب بالبرص ويجلو الكلف ويذهب بضربان الآذان. وقال في التجربتين: الكبريت إذا خلط بأدوية قروح الرأس العتيقة جلاها وأدملها، وإذا حلّ في زيت قد غلي فيه إشقيل «6» ، وغلّظ «7» بشيء من الشمع،

نفع من نوعي الجرب الرطب واليابس، ومن الحكة، منفعة بالغة. وإذا خلط بالطفل «1» وحل بالخل، أو بحماض الأترج، وطلي على السعفة العتيقة «2» حللها «3» وأدملها، إذا واظب عليها، وإذا عجن بالحناء، أو بسائر أدوية القوابي، جلاها وأذهبها؛ وكذلك إذا خلط بعصارة ورق المر، ثم فعل ذلك فعلا قويا، وإذا خلط بالقطران نفع من القروح الوسخة جدا والمترهلة [والأواكل] «4» ، وإذا خلط بالعاقر قرحا وعجنا بعسل، ثم حل بالخل، وطليت به القروح المتولدة في أجسام بدت بها العلة الكبرى، وفي قروح تشبه القوابي [خشنة] «5» يخدر بها الجلد، ويذهب حسه «6» ، نفع منها منفعة عجيبة. وأما القفر «7» ، فقد ذكرنا فيما تقدم ما فيه كفاية، وذكرنا أن منه ما ينبع في بعض الجبال، ومنه ما ينبع في الماء، فيفور مع الماء الحار في العين، ويطفو كالدهن، فما دام مع الماء يكون لينا، فإذا فارق الماء وجف فيغرف بالقفاف ويطرح على الأرض، ثم يطرح في القدر، ويطرح عليه من الرمل مقدار معلوم ليختلط به، كما ذكر، ويحركونه تحريكا شديدا (211) متداركا، فإذا بلغ حد استحكامه «8» ، صب على وجه الأرض قطعا، فيجمد وتقيّر به السفن والحمّامات.

واما النفط «1» ، فقد ذكرنا قريبا أنه يطفو على الماء، وأن منه أبيض «2» ، ومنه أسود. قيل: وقد يصاعد «3» الأسود بالقرع والأنبيق، فيخرج أبيض، وينفع إذ ذاك من أوجاع المفاصل واللقوة والفالج وبياض العين والماء النازل فيها. وإذا شرب منه نصف مثقال نفع من المغص والرياح «4» ، ويخرج الأجنة الموتى والمشيمة، ويقتل الدود وحب القرع، وينفع الملسوع طلاء، فلينظر ما قيل فيه قبلا. واما الموميائي «5» ، فقد ذكرناه فيما تقدم، وهو شبيه بالزفت والقفر، إلا أنه عزيز جدا. قيل: ومعدنه بأرض الموصل وبأرض فارس بأرّجان «6» ، فيما زعم بعضهم. وقد ذكرنا أنه ينفع من الكسر والوهن والخلع والوهن «7» والضربة والسقطة والفالج واللقوة، شربا وتمريخا، ومن الشقيقة والصداع البارد والصرع والدوار سعوطا بماء المرزنجوش، ويشرب قيراط منه لثقل اللسان والخنّاق والخفقان. وزعموا: أنه يخلط بالسمن ويجعل على موضع اللسع فيبرئه. وأما العنبر «8» ، فقد ذكرناه أيضا، وذكرنا الخلاف فيه. وقد زعم بعض التجار أن بحر الزّنج قذف في بعض السنين قطعة عظيمة شبه تل. وأكثر ما يرى قدر الجمجمة، أكبرها زنة ألف مثقال. وكثيرا ما يبتلعه الحيتان «9» فتموت، وتلك الدّابة تدعى العنبر «10» . وقد ورد ذكر هذا الحوت في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وهو معروف.

خاتمة تتعلق بما تقدم

خاتمة تتعلق بما تقدم اعلم أن الأرض جسم بسيط قام البرهان على أن طبعها بارد يابس، وهي كما زعموا متحركة إلى الوسط. وزعموا أن شكل الأرض قريب من الكرة، والقدر الخارج (212) محدّب، لأنهم اعتبروا خسوفا واحدا، فوجدوا في البلاد الشرقية والغربية في أوقات مختلفة، فلو كان طلوعه وغروبه دفعة واحدة، لما اختلف بالنسبة إلى البلاد. وإنما خلقت باردة لأجل الغلظ والتماسك، إذ لولاهما لما أمكن قرار الحيوان على ظهرها، وحدوث المعادن والنبات في بطنها. وزعموا أنها ثلاث طبقات: طبقة قريب من المركز، وهي الأرض الصرفة، وطبقة طينية، وطبقة انكشف بعضها وأحاط البحر بالبعض الآخر وهي مركز الأفلاك واقفة في الوسط بإذن الله تعالى. والهواء والماء يحيطان بها من جميع الجهات. والإنسان في أي موضع وقف على سطح الأرض يكون رأسه مما يلي السماء ورجلاه مما يلي الأرض، وهو يرى من السماء نصفها، وإذا انتقل إلى موضع آخر ظهر له من السماء مقدار ما خفي له من الجانب الآخر، لكل تسعة عشر فرسخا درجة. ثم إن البحر المحيط أحاط بأكثر وجه الأرض، والمكشوف منها قليل ناتئ عن الماء على هيئة بيضة غاطسة في الماء، خرج من الماء محدّبها، وليست منظمة ملساء، ولا مستديرة، بل كثيرة الارتفاع والانخفاض. أما باطنها فكثير الأودية والأهوية والكهوف والمغارات، ولها منافذ وخلجان كلها ممتلئة مياها وبخارات ورطوبات دهنية ينعقد منها الجواهر المعدنية. وتلك الأبخرة والرطوبات دائما في الاستحالة والتغير والكون والفساد. أما ظاهرة فإنها كثيرة الجبال والأودية والجداول والبطائح والآجام والدحال «1» والغدران، وفيها منافذ

تتمة لا تقطع السياق

وخلجان تجري بعضها إلى بعض في دائم الأوقات، والرياح والغيوم والأمطار لا تنقطع عنها في شيء من الأوقات، ولكن في أماكن مختلفة البقاع شرقا وغربا وجنوبا وشمالا، مثل الليل والنهار (113) والصيف والشتاء، وفي بلدان شتى. والمعادن والنبات والحيوان قائم في الكون والفساد، فما في الأرض موضع إلا وهناك معدن أو نبات أو حيوان، باختلاف صورتها ومزاجها وأجناسها وألوانها وأنواعها لا يعلم تفصيلها إلا الله، وهو صانعها ومدبرها، وعنده مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا هو، ويعلم ما في البر والبحر، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها، ولا حبّة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس، إلّا في كتاب مبين. تتمة لا تقطع السياق فالذي يعتمد عليه جماهيرهم، أن الأرض مدورة كالكرة موضوعة في جوف الفلك كالملح في البيضة، وأنها في الوسط، ولا ينكر هذا إلّا جاهل بالبرهان والعقل، هكذا وضعها الحكيم العليم، وبعدها في الفلك من جميع الجوانب على التساوي، هذا هو الحق. وزعم هشام بن الحكم المتكلم «1» أن تحت الأرض جسما من شأنه الارتفاع. قال: وهو المانع للأرض من الانحدار، وهو ليس محتاجا إلى ما يعمده، لأنه ليس يطلب الانحدار بل الارتفاع. وقال أبو الهند: إن الله وقفها بلا عماد. وعلّله ديمقراطيس بأنها تقوم على الماء، وقد حصر الماء تحتها حتى لا تجد مخرجا فتضطر إلى استقلال، وهذا الرأي قريب من رأي هشام بن الحكم. وقال بعض المتكلمين

إنها واقفة على الوسط، على مقدار واحد من كل جانب، والفلك يحد بها من كل وجه، فلذلك لا تميل إلى ناحية من الفلك دون أخرى، لأن قوة الأجزاء مكافئة؛ مثال ذلك حجر المغناطيس وجذبه الحديد، فإن الفلك بالطبع مغناطيسيّ للأرض، فهو يجذبها، فإذا كان كذلك فهي واقفة في الوسط كقنديل النصارى. ومنهم من قال إنها واقفة في الوسط، وسبب وقوفها سرعة تدوير (214) الفلك ودفعه إياها من كل جهة إلى الوسط، من ذلك أنك إذا جعلت ترابا أو حجرا في قارورة، وأديرت بقوة في الحرط «1» والتدوير، فإن التراب والحجر المذكورين يقوم في الوسط. وقال محمد بن أحمد الخوارزمي «2» : الأرض في وسط السماء، والوسط هو السفل بالحقيقة «3» ، وأنها مدورة مضرّسة من جهة الجبال البارزة والوهاد الغائرة، وذلك لا يخرجها عن الكرة إذا اعتبرت جملتها، لأن مقادير الجبال، وإن شمخت، يسيرة بالقياس إلى كرة الأرض، فإن الكرة التي قطرها ذراع أو ذراعان، إذ نتأ منها شيء أو غار فيها، لا يخرجها عن الكرة ولا هذه التضاريس، لإحاطة الماء بها من جميع جوانبها وغمرها، بحيث لا يظهر منها شيء، فحينئذ تبطل الحكمة المودعة في المعادن والنبات والحيوان، فسبحان من لا يعلم أسرار حكمه إلّا هو.

إشارة غير مقصودة

إشارة غير مقصودة قال وهب بن منبه «1» : كانت الأرض كالسفينة تذهب وتجيء، فخلق الله ملكا في نهاية العظم والقوة، أمره أن يدخل تحتها ويجعلها على منكبه، فأخرج يدا من المشرق، ويدا من المغرب، وقبض على أطراف الأرض فأمسكها، ثم لم يكن لقدميه قرار، فخلق الله تعالى صخرة مربّعة من ياقوتة خضراء، في وسطها سبعة آلاف ثقبة، يخرج من كل ثقبة بحر لا يعلم عظمه إلا الله. ثم أمر الصخرة حتى دخلت تحت قدمي الملك، ثم لم يكن للصخرة قرار، فخلق الله تعالى نورا عظيما له أربعون ألف عين، ومثلها آذان وأنوف وأفواه وألسنة وقوائم، ما بين كل اثنين منها مسيرة خمسمائة عام. فأمر الله تعالى هذا الثور فدخل تحت الصخرة فحملها على ظهره وقرونه، واسم هذا الثور كيونان. ثم لم يكن للثور قرار، فخلق الله تعالى حوتا عظيما لا يقدر أحد أن ينظر إليه، (215) لعظمه وبريق عينيه وكبرهما، حتى قيل لو وضعت البحار كلها في إحدى مناخره لكانت كخردلة في فلاة. فأمر الله تعالى الحوت أن يكون قواما لقوائم الثور، واسم هذا الحوت بهموت. ثم جعل قراره الماء، وتحت الماء هواء، وتحت الهواء ماء، وتحت الماء ظلمات، ثم انقطع علم الخلائق عما تحت الظلمات، هذا آخر كلامه. وينبغي أن يعلم أن هذا من الإسرائيليات على تقدير صحته عن وهب، وعلى تقدير أن وهبا نقله عمن يوثق به، لكن البراهين تقتضي ترجيح أحد القولين في رده، بدليل نص القرآن في قوله تعالى وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ

تَمِيدَ بِكُمْ «1» ونحوه من الآيات الكريمة التي تدل على أن الأرض إنما كان «2» سبب ثباتها على الحال التي عليه من السكون وعدم الاضطراب والحركة، هو أن الله تعالى أرسى فيها الجبال فسكّنها عن الاضطراب. نعم إن التحقيق أقرب في قوله إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ «3» . وإذا كان قد قال سبحانه خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها «4» فالأرض كذلك، وإنما دخل الداخل بين المسلمين مما نقلته اليهود، وتلقاه من [في] قلبه مرض ممن يعتقد أن الله في جهة، فانشرح صدره لمثل هذه الأحاديث ونقلها عند المسلمين، فتقبلها العامة حتى النساء والصبيان ينقلون معتقدين صحتها، فنسأل الله العفو والعافية من البدع المضلة. عاد الكلام ورجع إذا تقرر ما تقدم، فقد زعموا أن الأبخرة والأدخنة الكثيرة إذا اجتمعت تحت الأرض فلا تقاومها برودة، حتى يصير ما قد تكون مادتها كثيرة لا تقبل التحليل بأدنى حرارة، ويكون وجه الأرض صلبا لا يكون فيه منافذ ولا مسام، فالبخارات إذا قصدت الصعود (216) لا تجد المسام والمنافذ، فتهتز منها بقاع الأرض وتضطرب، كما يرتعد بدن المحموم من شدة الحمى، بسبب رطوبات عتيقة اختبأت في خلل أجزاء البدن، فتشتعل «5» بها الحرارة الغريزية، فتذيبها وتحللها وتصيرها دخانا وبخارا، فتخرج من مسام جلد الإنسان فيهتز من ذلك البدن ويرتعد، ولا يزال كذلك إلى أن تخرج تلك المواد كلها، فإذا خرجت سكن البدن ورجع إلى حال الصحة، فهكذا حركات بقاع الأرض

بالزلازل، فربما ينشق وجه الأرض فيخرج من ذلك الشق المواد المختنقة المختبئة دفعة واحدة، وقد يكون خروجها ببلدة فتخسفها، وذلك بأن تكون تحت الأرض تجاويف، فعند انشقاق الأرض ينزل فيها الجبال والبلاد الظاهرة على وجه الأرض مما يشاء الله تعالى. قالوا: وإذا امتزج الماء بالطين، وفي الطين لزوجة، وأثرت فيه حرارة الشمس مدة طويلة، صار حجرا كما ترى أن النار إذا أثرت في الطين جعلته آجرا، والآجر ضرب من الحجر، وكلما كانت النار فيه أكثر كان أصلب، وأشبه بالحجر. فزعموا أن تولد بعض الجبال من الماء والطين وحرارة الشمس. وأما سبب ارتفاع بعضها وشموخه على تقدير أن يكون مما ذكر فهو أنه يجوز بسبب زلزلة فيها خسف، فينخفض بعض الأرض ويرتفع بعضها، ثم ذلك البعض المرتفع يصير حجرا لما ذكرنا. وجاز أن يكون بسبب أن الرياح تنقل التراب إلى مكان فتجذب تلال ووهاد، ثم تتحجر بسبب ما قلنا. ثم قد زعم صاحب كتاب المجسطي «1» أن في كل ستة وثلاثين ألف سنة تنقل أوجات «2» الكواكب ويدور في البروج الاثني عشر دورة واحدة، فإذا انتقلت من الشمال إلى الجنوب تختلف مسافات الكواكب ومطارح شعاعاتها على بقاع الأرض (217) ، فيختلف بها الليل والنهار، والشتاء والصيف، والحر والبرد، وتتغير أرباع الأرض، فيصير العمران خرابا، والخراب عمرانا، والبراري بحارا، والبحار براري، والجبال سهولا، والسهول جبالا.

أما صيرورة الجبال سهولا، فإن الجبال من شدة إشراق الشمس والقمر وسائر الكواكب عليها، بطول الزمان، تنشف رطوبتها، وتزداد جفافا ويبسا، وتتكسر عند الصواعق خاصة، فتصير أحجارا وصخورا ورمالا، ثم السيول تحمله إلى بطون الأودية والأنهار، ولشدة جريان الماء تحملها إلى البحار، فتنبسط في قعر البحار جبال وتلال، كما يتولد من هيوب الرياح دعاص «1» الرمال في البر. وكذلك قد يوجد في أجواف الأحجار إذا كسرت، أنواع من الأصداف والعظام، وذلك بسبب اختلاط طين هذا الموضع بالصدف والعظم؛ وأيضا فقد يوجد بعض الجبال ذو أطباق، بعضها فوق بعض، وسبب ذلك وصول السيول إليه بالطين مرة، فإن ماء السيل إذا انتقل من موضع إلى موضع يحمل طين الموضع الذي مرّ عليه، فتصير كل طبقة من ذلك بمرور الزمان حجرا بالسبب الذي قلنا، ولا تزال السيول تأخذ من الجبال وتحط حتى ترتفع من البحر الوهاد وتنخفض في البر الجبال والله أعلم بالحقائق. وأما كيفية صيرورة البحار يبسا، واليبس بحرا، فإنه كلما انضمت من البحر قطعة على الوجه الذي ذكرناه، فالماء يرتفع يطلب الاتساع على سواحله، يغطي البر بالماء، ولا يزال ذلك دأبها بطول الزمان حتى تصير مواضع البر بحرا، وهكذا لا يزال الجبال تتكسر وتصير حصى ورمالا تحمله السيول إلى قعر البحار مع طين ممرها، وينعقد فيها كما ذكرنا، حتى يستوي مع وجه الأرض فتجف وتنكشف، فينبت فيها العشب والأشجار، فتصير (218) مكانا للوحوش والسباع، ويقصدها الناس لطلب الصيد والعشب والحطب، فتصير مسكنا للناس وموضعا للزرع والغرس والقرى والمدن، فسبحان من لا يعتريه التغير والزوال، وكل ما سواه يتغير من حال إلى حال.

واعلم أن هذا المذكور إنما هو في بعض الجبال والأماكن المكتسبة ما ذكرنا، أما الجبال الأصول التي قال الله تعالى في حقها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ فتلك أصول وقواعد لا تتغير للحكمة المودعة فيها، التي لولاها لكانت الأرض متحركة. وقال بعضهم: لولا الجبال لكان وجه الأرض مستديرا، وكان ماء البحار يغطيها من جميع جهاتها، وأحاط بها الهواء بالماء، وبطلت الحكمة في المعادن والنبات والحيوان. وقال بعضهم: الجبال سبب لوجود الأنهار السائحة على وجه الأرض الذي هو مادة حياة النبات والحيوان، وذلك لأن سبب هذا الماء هو انعقاد البخار في الجو سحابا. والجبال الشامخة الطوال الأصول على بسيط الأرض شرقا وغربا ويمينا وشمالا تمنع الرياح أن تسوق البخار، بل يجعلها منحصرة بينها، حتى يحلقها برد الشتاء، فيصير مطرا وثلجا، فلو فرضت الجبال غير مرتفعة عن وجه الأرض لكانت الأرض كرة لا غور فيها ولا نتوء، فالبخار المرتفع لا يبقى في الجو «1» منحصرا إلى وقت يضربه البرد، بل يتحلل ويستحيل هواء، فلا يجري الماء على وجه الأرض إلا قدر ما ينزل من المطر، ثم تنشفه الأرض، فكان يعرض من ذلك أن النبات والحيوان يعدم لعدم الماء في الصيف عند شدة الحاجة إليه، كما في البوادي البعيدة والمغارات المعطشة، فاقتضى التدبير الإلهي وجود الجبال لحصر البخار المرتفع من الأرض بين أغوارها، ويمنعه من السيلان، ويمنع الرياح أن تسوقها كما يمنع السّكر «2» الماء فيبقى فيها محفوظا إلى أن يلحقه البرد زمان

الشتاء، فيجمده (219) ويعصره فيصير ماء، ثم ينزل مطرا وثلجا. والجبال في أجرامها مغارات وأهوية وأوشال وكهوف، فتقع على قللها الأمطار والثلوج، فتنصب إلى تلك المغارات والأوشال، فتبقى مخزونة، ويخرج من أسافلها ضيقة، وهي العيون، فيسيح منها الماء على وجه الأرض، فيحيي به العباد والبلاد، وما فضل ينصب إلى البحر. فإذا فني ما في الجبال من المياه النازلة فيها من الأمطار لحقها نوبة الشتاء فعادت إلى ما كانت، ولا تزال هكذا دائبا إلى أن يبلغ الكتاب أجله، فسبحان من لا يطلع على دقائق حكمته ومصنوعاته إلا هو. فإذا وقعت الأمطار والثلوج على الجبال تنصب الأمطار إلى المغارات، وتذوب الثلوج، وتفيض إلى الأودية التي في الجبال، فتبقى مخزونة فيها وتمتلئ الأوشال منها في الشتاء، فإذا كان في أسافل الجبال منافذ ضيقة تخرج المياه من الأوشال في تلك المنافذ، فيحصل منها جداول، وتجتمع بعضها إلى بعض، فيحصل منها أودية وأنهار، فإن كانت تلك المياه في أعالي الجبال يستمر جريانها أبدا، لأن مياهها تنصب إلى سفح الجبال، ولا تنقطع ماديتها لوصول مددها من الأمطار، وإن كان في أسافل الجبال فتجري منها الأنهار عند وصول مددها، وتنقطع عند انقطاع المدد، وتبقى المياه فيها واقفة كما ترى من الأودية التي تجري في بعض الأيام وتنقطع عند انقطاع مادتها. قال صاحب جغرافيا «1» : إن في هذا الربع المسكون مقدار مائتين وأربعين نهرا طوالا، منها ما طوله من خمسين فرسخا إلى مائة فرسخ، إلى ألف فرسخ، فمنها

تتميم لما سبق

ما يجري من المشرق إلى المغرب، ومنها ما يجري من المغرب إلى المشرق، ومنها ما يجري من الجنوب إلى الشمال، ومنها ما يجري من الشمال إلى الجنوب، وكل هذه الأنهار تبتدئ من الجبال وتنتهي إلى البحار وإلى البطائح، وفي ممرها المدن والقرى، وما فضل (220) ينصب إلى البحار، وتختلط بالماء المالح، ثم يرق ويلطف ويتصاعد في الهواء بخارا، وتتراكم منه الغيوم، فتسوقه الرياح إلى الجبال والبراري وينزل هناك، ويجري في الأودية والأنهار ويسقي البلاد، ويرجع فاضلها إلى البحر، ولا يزال هذا دأبها، وتدور كالدولاب بتقدير العزيز العليم إلى أن يبلغ «1» الكتاب أجله. ثم لا يشك في أن في جوف الأرض مسام ومنافذ، وفيها إما ماء وإما هواء، على ما قدمنا ذكره، فإن كان هواء فإنه يصير ماء، ويسير ويلحقه، أو بغير ذلك من الأسباب، أو ماء على حاله ومائيته مدد صلبة، فتمنعه من جهة أخرى، فلا يسع ذلك الأرض، فيشقها ويظهر على وجهها إن أمكن، وله قوة الخروج وليست للأرض. تتميم لما سبق ذكر أبو الريحان الخوارزمي «2» في كتابه الآثار الباقية «3» : أن باليمن ربما حفروا فبلغوا صخرة عرفوا أن تحتها ماء، فنقروها نقرة يعرفون بصوتها مقدار الماء،

ثم ينقبونها نقبا صغيرا ويرونها، فإن كانت سليمة قوّروها، وإن كانت مجوفة عجلوا سدّها بالجص والكلس، فإن منها ما يخشى منه مثل سيل العرم، وإن لم يكن لها قوة الخروج. أو كانت الأرض صلبة فتحتاج إلى العلاج، وهو أن ينحى عنه التراب حتى يظهر كماء الآبار والقنوات، هذا إذا لم تكن مادتها كما ذكرنا من الأوشال بطريق النز «1» ، فسببها ظاهر. أما سبب اختلاف العيون التي في جوف الأرض وكهوف الجبال، من الملوحة والعفوصة والكبريتية والنفطية، فعلّة حرارتها أن المياه تسخن في الشتاء تحت الأرض وتبرد في الصيف، بسبب أن الحرارة والبرودة ضدّان، فلا يجتمعان في مكان واحد، في زمان واحد. فإذا جاء الشتاء، برد الجو، وقرت الحرارة، وأسخنت باطن الأرض وكهوف الجبال، فإن كانت مواضعها كبريتية بأن تنصب إليها رطوبات دهنية، كما قدمنا ذكره، بقيت الحرارة فيها دائمة (221) بواسطة تلك الرطوبات الدهنية، فلو جاز بهذه المواضع مياه أو جداول أو عروق نافذة، تسخن لمرورها هناك، وجوازها عليها، ثم تخرج على وجه الأرض حارّة حامية. وان أصابها نسيم أو برد الجو فربما جمدت، أو كانت غليظة، وانعقدت فصارت زئبقا أو قيرا أو نفطا أو كبريتا أو ملحا أو بورقا أو ما شاكل ذلك، بحسب اختلاف تربها، وتغيرات أهوية أماكنها، كل ذلك بتدبير الحكيم العليم.

فهرس المحتويات

فهرس المحتويات مقدمة 5 نماذج المخطوطات 11 كزبرة 15 كزبرة الثعلب 18 كشوت 19 كمأة 20 كمافيطوس 22 كمادريوس 24 كمّون 25 كندس 27 لبلاب 29 لبسان 30 لحية التّيس 31 لسان الحمل 32 لسان الثور 35 لوبيا 35 لوسيما خوس 36

لوف 37 لينابوطس 40 ماهوبدانه 43 ماهيزهره 44 مازريون 45 ماميثا 48 ماش 52 مثنان 54 مخلّصة 56 مزرنجوش 57 مرو 59 مزمار الراعي 62 نانخواه 63 ناركيوا 65 نرجس 66 نسرين 68 نعنع 69 نمّام 71

نيلوفر 72 هايسمونا 74 هليون 75 هندبا 77 هيوفاريقون 79 وجّ 81 ورد 82 ياسمين 84 يسبروح 85 يتّوع 88 ينبوت 91 أسترغار 95 بيش 97 بيش موش بيشا 99 تنبل 99 تربد 101 حزاء 104 ريباس 106

سنبل 107 طاليسفر 110 قرنفل 111 كاشم رومي 112 كنهان 113 وخشيزق 114 أرجيقنه 118 أنتلة سوداء 119 أوقيمويداس 121 سقولوقندريون 122 سليخة 123 عاقر قرحا 125 فروقوديلاون 128 فشغ 130 قرثمن 132 كبيكج 133 لوسيماخيوس 135 مورفا 136

يربطون 137 بربه شانه 140 بشنين 144 صام ثوما 145 قضّاب 147 كتّان 148 كصنيثون 151 الكلام على المعادن 155 النوع الأول: الفلزات 159 الذهب 160 الفضة 162 النّحاس 163 الحديد 164 الرصاص 166 الأسرب 167 الخارصيني 168 النوع الثاني: الأحجار 169 إثمد 172

أرميون 173 إسفيداج 173 الإسرنج 176 إقليما الذهب 176 أكتمكت 177 بادزهر 178 باهت 180 بسّد 181 بلّور 182 بورق 183 بيجاور 187 تدمر 187 تراب صيدا 187 تراب الشاردة 188 تنكار 188 توبال 189 توتيا 191 جالب النوم 192

جبسين 193 جزع 194 جمست 195 جوز جندم 196 حجر 197 حجر أبيض 197 حجر النحر 198 حجر البحيرة 198 حجر البرام 199 حجر البسر 199 حجر البقر 199 حجر الحبارى 201 حجر الحبش 201 حجر الحصاة 201 حجر الحمّام 201 حجر الحوت 202 حجر الحيّة 202 حجر أخضر 203

حجر الخطّاف 203 حجر أرمني 204 حجر الرّحاء 204 حجر إسفنج 205 حجر آسمانجوني 205 حجر أسود 206 حجر السامور 206 حجر السلوان 207 حجر السّم 207 حجر بارقي 201 حجر بولس 210 حجر الأثداء 210 حجر الدجاج 210 حجر الديك 211 حجر أصفر 211 حجر أغبر 211 حجر حبشي 212 حجر الشياطين 212

حجر الصرف 213 حجر الصنوبر 213 حجر عاجي 213 حجر غاغاطيس 214 حجر عراقي 214 حجر عسلي 214 حجر العقاب 215 حجر فدامي 215 حجر الغار 216 حجر قبطي 216 حجر القمر 216 حجر القير 217 حجر القيء 217 حجر الكرك 217 حجر الكلب 218 حجر لبنى 219 حجر المثانة 219 حجر مشقّق 219

حجر المطر 220 حجر النار 220 حجر الناقة 220 حجر الإنسان 221 حجر هندي 221 حجر يهودي 221 حجر يتولد في الماء الراكد 222 حجر يقوم على الماء وضده 222 خبث الطين وغيره 223 خرسواسون 224 خزف 225 خماهان 225 خصية إبليس 226 خوساي 226 خوص 226 در 226 دهنج 230 ديفروحس 232

ديماطي 233 رخام 233 رمل 234 زاجات 235 زبد البحر 238 زبد البحيرة 240 زجاج 240 زرنيخ 241 زفت 243 زفتي 245 زمرد 246 زنجار 248 زنجفر 250 زهرة الملح 251 زهرة النحاس 252 زنوس 252 شادروان 252 سيج 254

سرطان بحري 254 سلسيس 256 سنباذج 256 شاذنه وشاذنج وحجر الدم 257 شبّ 258 شل 261 سنج 261 صدف 262 صدف البواسير 263 صمغ البلاط 264 طارد النوم 264 طاليقون 265 طلق 266 طوسوطوس 268 طين مختوم 268 طين مصر 274 طين شاموس 275 طين جزيرة المصطكي 277

طين قيموليا 278 طين كرمي 281 طين أرمني 282 طين نيسابوري 284 عقيق 286 عنبر 288 عنبري 290 فرسلوس 290 قرطاسيا 291 فيلقوس 293 فيهار 293 قرياطيسون 294 قروم 294 قفر 294 قلى 299 قيراطير 300 قيشور 300 كرسيان 301

كرسباد 302 كرماني 302 كرامى 303 كلس 303 كهرباء 304 لازورد 308 لاقط الذهب 310 لاقط الرصاص 310 لاقط الشّعر 310 لاقط الصوف 311 لاقط العظم 311 لاقط الفضة 312 لاقط القطن 312 لاقط المسن 312 لحاغيطوس 313 لحام الذهب 313 لوفقرديس 314 لينج 315

ماس 315 مانطس 317 ماهاني 317 ماورز 318 مراد 318 مرجان 318 مرداسنج 320 مرطيس 323 مرقشيثا 323 مرمر 325 مرهيطس 326 مسحقونيا 327 مسهّل الولادة 328 مغناطيس 329 مغنيسيا 331 ملح 331 مها 338 مولوبدانا 339

موميا 340 نطرون 343 نفط 344 نؤورة 345 نوشادر 345 نوني 346 هادي 347 ودع 347 ياقوت 348 يشب 351 يقظان 353 فائدة 354 النوع الثالث: في الأجسام الدهنية 355 خاتمة تتعلق بما تقدم 366 تتمة لا تقطع السياق 367 إشارة غير مقصودة 369 تتميم لما سبق 375.

الجزء الرابع والعشرون

[الجزء الرابع والعشرون] المقدمة هذا هو السفر الرابع والعشرون من موسوعة كتاب (مسالك الأبصار في ممالك الأمصار) لابن فضل الله العمري، ويتألف الكتاب من سبعة وعشرين سفرا سجل فيه تراث الأمة على مدى سبعمائة عام أو يزيد، فقد حفظ وسجل الجوانب الحضارية والعلمية والاجتماعية والسياسية، وتحدث عن الدول التي قامت ثم اندثرت وترجم لرجالها وعلمائها من الفقهاء والقراء والمحدثين والفلاسفة والأطباء والمؤرخين والشعراء والأدباء والمغنين، وتحدث فيه عن البلدان والمواضع وعادات الشعوب والأديان والنحل والفرق الإسلامية وغير الإسلامية. واختص هذا الجزء بتاريخ الدول العربية الإسلامية من بني هاشم وبني أمية في الشام والعراق ومصر والأندلس، مصورا حياة الدول في جوانبها السياسية والإدارية والحضارية، في أحوالها الزاهية المزدهرة في عهود تقدمها، وكذلك أحوالها في حال تخلفها وتضعضعها وانحدارها نحو السقوط بسبب التناحر على السلطة واقتطاع الممالك وتجزيئها ثم اندثارها، وقد امتدت حياة هذه الدول قرابة سبعة قرون ابتداء من حكم معاوية بن أبي سفيان وانتهاء بسقوط الدولة العباسية على يد التتار سنة 656 هـ

مؤلف الكتاب:

مؤلف الكتاب: مؤلف مسالك الأبصار هو ابن فضل الله العمري «13» القاضي شهاب الدين أبو العباس أحمد بن يحيى بن فضل الله بن المجلي دعجان بن خلف، يتصل نسبه بعمر بن الخطاب رضي الله عنه، وصفه خليل بن أيبك، وكان صديقه وأهم من ترجم له ترجمة مستفيضة، بقوله: (هو الإمام الفاضل البليغ المفوّه الحافظ حجّة الكتّاب، إمام أهل الأدب، أحد رجالات الزمان كتابة وترسلا، وتوصلا إلى غايات المعالي وتوسلا) . ولد بمدينة دمشق في شوال سنة سبع مائة، وسمع بالقاهرة ودمشق من جماعة، وتخرج في الأدب بوالده، وبالشهاب محمود، قرأ العربية أولا على الشيخ كمال الدين ابن قاضي شهبة، ثم على قاضي القضاة شمس الدين بن مسلم، والفقه على قاضي القضاة شهاب الدين ابن المجد عبد الله، وعلى الشيخ برهان الدين، وقرأ الأحكام الصغرى على الشيخ تقي الدين ابن تيمية، والعروض والأدب على الشيخ شمس الدين الصايغ، وعلاء الدين الوداعي، وقرأ جملة من المعاني والبيان على العلامة شهاب الدين محمود، وقرأ عليه جملة من الدواوين وكتب الأدب، وقرأ بعض شىء من العروض على الشيخ كمال الدين

علمه وأدبه:

ابن الزملكاني، والأصول على الشيخ شمس الدين الأصبهاني، وأخذ اللغة عن الشيخ أثير الدين: سمع عليه (الفصيح) ، و (الأشعار الستة) ، و (الدريدية) ، وأكثر (ديوان أبي تمام) ، وغير ذلك، وسمع بدمشق من الحجار وست الوزراء وابن أبي الفتح، ورحل إلى بلاد كثيرة طلبا للعلم، فسمع في الحجاز ومصر والإسكندرية وبلاد الشام، وأجاز له جماعة. شغل أعمالا كثيرة وتقلب في وظائف الدولة، فباشر كتابة السير للسلطان الناصر محمد بن قلاوون بالقاهرة، نيابة عن والده محيي الدين الذي ولي كتابة سر دمشق، ثم لما ولي والده كتابة السر بمصر أيضا، صار هو يقرأ البريد على الملك الناصر محمد بن قلاوون، وينفذ المهمات، واستمر كذلك في ولاية والده الأولى والثانية، ثم إنه فاجأ السلطان بكلام غليظ، فقد كان قوي النفس، وأخلاقه شرسة، فتغير عليه السلطان فأبعده، وصادره وسجنه بالقلعة سنة ثمان وثلاثين وسبع مائة، ثم ولي كتابة السر بدمشق، وعزل ورسم عليه أربعة أشهر، وطلب إلى مصر، فشفع فيه أخوه علاء الدين، فعاد إلى دمشق، واستمر بطّالا من أعمال الدولة، ولكنه انصرف إلى التأليف والتصنيف إلى أن مات. علمه وأدبه: انتهت إليه رياسة الإنشاء، وكان يشبه القاضي الفاضل في زمانه، كان حسن المحاضرة والمذاكرة، سريع الاستحضار، جيد الحفظ، فصيح اللسان، جميل الأخلاق، يحب العلماء والفقراء، يقول الصفدي: (رزقه الله أربعة أشياء، لم أرها في غيره، وهي: الحافظة، قلّما طالع شيئا إلا وكان مستحضرا لأكثره، والذاكرة التي إذا أراد ذكرى شىء من زمن متقدم كان ذلك حاضرا، كأنه مرّ به بالأمس، والذكاء الذي تسلط به على ما أراد، وحسن القريحة في النظم والنثر،

أما نثره فلعله في ذروة كان أوج الفاضل لها حضيضا، ولا أرى أحدا يلحقه فيه جودة وسرعة عمل لما يحاوله في أي معنى أراد، وأي مقام توخاه، وأما نظمه فلعله لا يلحقه فيه إلا الأفراد، وأضاف الله تعالى إلى ذلك كله حسن الذوق الذي هو العمدة في كل فن) «1» . كان ابن فضل الله العمري ذا ثقافة واسعة، قل أن يتحصل عليها غيره في شتى العلوم والفنون، كان علمه بالتاريخ منقطع النظير، فهو على دراية واسعة بتواريخ ملوك المغول من لدن جنكيز خان وهلمّ جرا، وكذلك بملوك الهند والأتراك، فضلا عن ملوك العرب من الخلفاء والأمراء، وكان متفردا بمعرفة المسالك والممالك وخطوط الأقاليم، ومواقع البلدان وخواصها، يشهد على ذلك كتابه (مسالك الأبصار) هذا، وكذلك علمه بمعرفة الاسطرلاب وحل التقويم وصور الكواكب، وبخطوط الأفاضل وأشياخ الكتابة. انصرف العمري إلى الكتابة والتأليف، وترك وظائف الدولة، وأتيحت له حياة مستقرة مرفهة، فقد رتبت له مرتبات كثيرة بعد تركه عمل السلطان، وعاش في نعمة، وعمّر دارا هائلة بسفح قاسيون بالقرب من الركنية في شرقيها، ليس بالسفح مثلها. ولو امتد به العمر لأعطى عطاء كثيرا فوق عطائه الغزير، فقد توفي وهو في أوج نضجه الفكري والعلمي في الخمسين من العمر، وكانت وفاته بالطاعون، فقد وقع الطاعون بدمشق سنة تسع وأربعين وسبع مائة، ففرق من ذلك وعزم على الحج، واشترى الجمال وبعض الآلات، ثم إنه ترك ذلك وتوجه بزوجته ابنة عمه إلى القدس ومعهما ولداه، وصاموا هناك، فماتت زوجته بالقدس في شهر رمضان، وحضر إلى دمشق وهو طائر العقل، فيوم وصوله برد وحصل له حمّى أضعفته، فتوفي رحمه الله يوم عرفة سنة تسع وأربعين وسبع

مائة، ودفن عند والده وأخيه بدر الدين محمد بالصالحية. صنف العمري كتبا كثيرة، وترك تراثا ضخما جليلا بلغت بعض كتبه مجلدات ضخام، ومن أهم كتبه وأوسعها كتابه هذا (مسالك الأبصار في ممالك الأمصار) ، في عشر مجلدات كبار، وفي سبعة وعشرين سفرا في التقسيم الأخير الذي منه هذه المصورات، وصنف: (فواضل السمر في فضائل آل عمر) في أربع مجلدات، و (الدعوة المستجابة) في مجلد، و (صبابة المشتاق) وهو ديوان كامل في المدائح النبوية، و (سفرة السفر) ، و (دمعة الباكي) ، و (يقظة الساهر) ، و (نفحة الروض) ، و (مختصر قلائد العقيان) ، و (النبذة الكافية في معرفة الكتابة والقافية) ، و (الشتويات) وهو مجموع رسائل، و (الدائرة بين مكة والبلاد) ، و (ممالك عبّاد الصليب) ، و (التعريف بالمصطلح الشريف) ، وأنشأ كثيرا من التقاليد والمناشير والتواقيع ومكاتبات الملوك، وغير ذلك، ونثره وأسلوبه واضح في كتاب مسالك الأبصار، وخاصة حين يترجم لعلم أو يعلق ويفسر. أما شعره، فقد نظم أشعارا كثيرة منها ما ذكرها في تضاعيف كتبه وفي هذا الكتاب خاصة، ومنها في كتابه صبابة المشتاق، وما ذكرته كتب التراجم التي ترجمت له، ومن أهمها كتاب الصفدي: الوافي بالوفيات والصفدي معاصره وصديقه، نظم العمري القصائد والأراجيز والمقطعات والدوبيت والموشح والزجل، ومن مختار شعره قصيدة في المديح النبوي، نقتطف منها هذه الأبيات: جنحت إليّ مع الأصيل المذهب ... والركب ممتدّ الخطى في المذهب واليوم مبيضّ الإزار وإنّما ... جنب الإزار مطرّز بالغيهب وعلى الأصائل رقّة فكأنّما ... لبست نحول العاشق المتلهّب هذي المدينة أشرقت أعلامها ... يهنيكم فزتم بأشرف مطلب

وصف مخطوطة الكتاب:

هذي القباب كأنّهنّ عرائس ... مجلوّة سفرت ولم تتنقّب هذا رسول الله جدّوا نحوه ... تجدوا النّوال الجمّ والخلق الأبي هذا رسول الله هذا أحمد ... هذا النقيّ الجيب هذا مطلبي هذا صباح المهتدي هذا ربي ... ع المجتبي هذا شفيع المذنب هذا النّبيّ الهاشميّ المجتبى ... من نسل إبراهيم أكرم من أب هذا المصفّى من سلالة آدم ... الطيّب بن الطيّب بن الطيّب شرفت به آباؤه وأتت به ... أبناؤه والكلّ مثل الكوكب واختاره الله المهيمن ربّه ... وحباه بالقربى وعزّ المنصب وصف مخطوطة الكتاب: يتألف هذا الجزء من 169 ورقة في 338 صفحة، في الصفحة 23 سطرا، وفي السطر حوالي 9- 11 كلمة، خطها نسخ واضح مقروء، والعنوانات بخط كبير، بعض الكلمات غير معجمة، فيها شكل قليل، يكثر فيها التحريف والتصحيف واللحن، مما يدل على أن الناسخ غير ضليع بالعربية، أو أنه متعجل فيقع في الوهم والخطأ، ليس في هذا الجزء صفحة العنوان ويبدأ الجزء في الصفحة الثانية بعد البسملة بقوله: (على الله توكلت، وهذا ذكر من تنبّه من أهل هذا البيت، وملك ملكا، وإن كان القليل المنقص، والحقير المنغص، وكيف يرثون الأرض وما ترك جدهم لهم تراثا، أو تعطف عليهم الدنيا وقد طلقها أبوهم، وما ضرهم أن يكون لغيرهم الدنيا وتكون لهم الآخرة، وفيهم النبوة الدائمة، ولسواهم الدول الدابرة، وأول ما نبدأ بالحسنيين ثم بالحسينيين، ثم بمن تعلق بهما) . وينتهي الجزء في الصفحة 338 وفيها نقص إذ لم ترد فيها الخاتمة ولا اسم الناسخ ولا تاريخ النسخ، وختامها بقطعة من شعر المستظهر عبد الرحمن بن هشام بن عبد الجبار بن عبد الرحمن الناصر، وهي قطعة غزل يقول

فيها: طال عمر الليل عندي ... مذ تولعت بصدّ يا غزالا نقض الود ... د ولم يوف بعهد أنسيت العهد إذ ... بتنا على مفرش ورد واجتمعنا في وشاح ... وانتظمنا نظم عقد وتعانقنا كغصني ... ن وقدّانا كقدّ ونجوم الليل تحكي ... ذهبا في لازورد وفي آخر الصفحة تعقيبة تقول (وقد تقدم) مما يدل على أن هناك حذفا والكلام موصول. المخطوطة كاملة من الداخل ليس فيها حذف أو بياضات إلا بعض الكلمات في مواضع قليلة، وفي الصفحة 219 بياض بقدر نصف الصفحة، هناك بعض الخرجات والتصويبات في الحواشي وليست كثيرة. وعلى الرغم من جودة الخط وجماله ووضوحه، إلا أن الناسخ كان متعجلا، وهو قليل الدراية باللغة العربية، فقد جاء في المخطوطة شكل قليل، إلا أن كثيرا منه غير صحيح فلم نعتمده، وكلماتها معجمة ولكن هذا الإعجام غير مضطرد، ففيها كثير من الكلمات المهملة، والإعجام فيها لا يعتمد عليه ففيه كثير من التضليل فقد يكتب الياء ويريد التاء، ويكتب النون ويريد الباء، وهكذا، أما الأخطاء النحوية فكثيرة كثرة ملفتة للنظر، وقد نبهنا إلى بعضها وصححنا البقية دون تنبيه، وكثير من الأشعار المستشهد بها فيها نقص أو تحريف أو خلل في الأوزان، وكذلك أسماء الأعلام فيها المحرف والمغيّر.

الكتاب ومنهج مؤلفه:

الكتاب ومنهج مؤلفه: تناول هذا الجزء الدول التي قامت في المشرق والمغرب، وبدأ بذكر دول الهاشميين وأولها دولة الحسنيين والحسينيين وتبدأ بدولة المهدي محمد بن عبد الله بن الحسن، وأخيه إبراهيم بن عبد الله بن الحسن، ثم دولة بني طباطبا العلويين، وتداول الحكم من خلفاء هؤلاء اثنا عشر خليفة، ثم الدولة الطبرستانية من أولاد الحسن وأولاد الحسين بن علي بن أبي طالب، وهم ثلاثة خلفاء، ثم دولة الأدراسة بالمغرب، وأول خلفائها إدريس المغرب ابن عبد الله بن الحسن المثنى، وهم خمسة عشر خليفة، ثم الدولة العبيدية الفاطمية في مصر وأولهم المهدي بالله عبيد الله بن محمد الفاطمي، وتداول الحكم من الفاطميين في مصر أربعة عشر خليفة، ثم خليفتان من الحسينيين في الكوفة والحجاز وهما محمد بن محمد بن زيد بن علي بن الحسين بالكوفة، ومحمد بن جعفر الصادق بالحجاز، وذكر بعد ذلك دولة الزنجي علي بن محمد العلوي الذي ظهر في البصرة، أما القرامطة فقد ذكر حركتهم وصفاتهم ومن ولي الأمر منهم وهم سبعة ظهروا بسواد الكوفة، وكل هؤلاء الخلفاء هم من بني هاشم، واستكمالا للهاشميين، بدأ بعد هؤلاء بذكر دولة بني العباس الهاشميين، وهم سبعة وثلاثون خليفة أولهم أبو العباس السفاح عبد الله بن محمد، وآخرهم المستعصم بالله عبد الله بن منصور المستنصر العباسي الذي به انتهت الدولة العباسية وقد قتله المغول واحتلوا البلاد وسبوا العباد، ثم يتسلل من بقي من العباسيين إلى مصر، وينشئون الدولة العباسية في مصر، وكان الخلفاء تحت إمرة الولاة الحاكمين وليس للخلفاء إلا الاسم والرسم، وهم خمسة خلفاء أولهم المستنصر بالله أحمد بن محمد الظاهر العباسي، وبسقوط الخلفاء العباسيين في العراق ومصر تنتهي الدولة العباسية الهاشمية.

أما بقية الخلفاء الذين جرى ذكرهم في هذا الجزء، فهم خلفاء الدولة العربية الأموية القرشية في الشام وفي الأندلس، وتبدأ الدولة الأموية بالفرع السفياني وهم ثلاثة خلفاء، أولهم معاوية بن أبي سفيان وآخرهم معاوية بن يزيد، ثم تنتقل الخلافة إلى الفرع المرواني من بني أمية، وأولهم مروان بن الحكم، وآخرهم مروان بن محمد، وعدد من حكم من الأمويين بالشام أربعة عشر خليفة، يقضي على آخرهم بنو العباس. ثم ينتقل بنو أمية إلى الأندلس، وتقوم لهم دولة يشيّدها صقر قريش عبد الرحمن الداخل بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان، ويتوالى على الحكم خمسة عشر خليفة آخرهم المعتد بالله هشام بن محمد بن عبد الملك بن عبد الرحمن الناصر، الذي انتهت حياته سنة 428 هـ، وبموته انتهت الدولة الأموية بالأندلس. لقد حوى هذا السفر تراجم لأكثر من 127 خليفة، عرض المؤلف لظروف قيام كل دولة، وسير الخلفاء وحياتهم الخاصة والعامة، والأحداث التي جرت في كل دولة، وعرض للجوانب السياسية والاجتماعية والحضارية، وأسباب ازدهار الحكم، وعوامل سقوط الدول، والمؤلف في كل ذلك يروي الأخبار ويصور السير والأحداث، ويستشهد بالأشعار التي قيلت، ويبين خصائص كل دولة وصفات كل حاكم، مصورا الجوانب الرفيعة المشرقة، وكذلك الجوانب الفاسدة الهابطة من انحراف بعض الخلفاء وميلهم إلى اللهو والمجون والعنف والفساد، وعلى الرغم من كثرة الجوانب السلبية، وفساد الحكم، والصراع على السلطة والقتل والغدر بين الأقارب والأباعد، على الرغم من كل ذلك، فقد تجلى لدى بعض الخلفاء الميل إلى الخير والعدل والزهد والتقوى، وكان منهم من يتأسى ويتابع عمر بن عبد العزيز في زهده وورعه وعدله، سواء من الخلفاء الأمويين أم من العباسيين

مثل يزيد بن الوليد بن عبد الملك من الأمويين، وعبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن الحكم من الأمويين بالأندلس، والمهتدي بالله محمد بن هارون الواثق بن محمد المعتصم بن هارون الرشيد، من العباسيين على الرغم من تأخر عهدهم وضعف دولتهم. إن هذا السّفر صورة صادقة للحياة العربية في ازدهارها وحضارتها وغناها وانتشارها، وصورة لحياة الأمم وسقوطها وتشتتها وانهيارها، وللمؤلف ابن فضل الله العمري منهج متميز في دراسته وعرضه للأحداث والأخبار، فهو يبدأ كل ترجمة بمقدمة يعرض فيها ملخصا لسيرة صاحب الترجمة، وأهم مميزاته، والظروف والأحداث التي مرت به، بأسلوب أدبي يغلب عليه السجع، وهو أسلوب جميل رفيع يدل على ثقافة عالية ودراية واسعة ومحفوظ كثير، من الأشعار والأمثال والخطب، التي يستعير بعضها ويضمّنها في أسلوبه، ثم بعد هذه المقدمة التي قد تطول وقد تقصر، يذكر أهم صفات الخليفة وسيرته، والأحداث التي شغلته، وبعض رجال عصره، ينقل ذلك من المصادر التي سبقته أو التي عاصرته، ينقل أحيانا ما يختاره نقلا حرفيا، ويلخص في أحيان أخرى، ويصوغ بعضها بأسلوبه، ويشير في كل ذلك إلى الكتب التي أفاد منها، ونقل عنها، وقد ينفرد بمعلومات لا نجدها في كتب التاريخ والأدب، وهو في كل ذلك يلتزم جانب الحياد والموضوعية دون ميل أو تعصب، إلا في الحالات التي يرى أن الفساد قد عمّ فيها وطمّ، وهو في منهجه هذا مثال الباحث الفذ الأصيل الذي يصلح قدوة لكثير من الباحثين المحدثين الذين تنقصهم الأمانة والعدل والموضوعية.

منهج التحقيق:

منهج التحقيق: على الرغم من سعة هذا السفر وضخامته، وما فيه من تراجم كثيرة ونصوص وأشعار غزيرة، وأعلام بعضهم مغمور أو مجهول، لم أجد لهم ترجمة في المصادر المتاحة، وعلى الرغم من الصعوبات التي تعترض كتابا كهذا يتعلق بالتاريخ ورجاله وأحداثه وأزمانه، على الرغم من كل ذلك، فقد وجدت في هذا الكتاب متعة في قراءته وتحقيقه وجلاء غامضه، لما فيه من جيد الأخبار، وجميل الأشعار وجودة المختار من تراجم الأعلام، وقد سرت في التحقيق على الوجه الذي يخدم النص تصويبا وتقويما، وغايتي في ذلك أن أحرّر نصا هو أقرب إلى ما أراده مؤلفه، وقد سرت في التحقيق على الوجه الآتي: 1- صحّحت النص وقوّمت ما فيه من أخطاء لغوية ونحوية ووهم وتصحيف وتحريف، وقد جاء كثير من الألفاظ والعبارات محرفة أو خالية من الإعجام، أو أن إعجامها غير صحيح، أو كان فيه لحن أو سهو أو خطأ أو نقص، فاستدركت كل ذلك، وأشرت لبعض التصويبات، وقد صححت الأخطاء وأشرت إلى التصويب في الهامش، وقد أغفل الإشارة حرصا على عدم إثقال الهوامش بالتصويبات المتشابهة، وهي كثيرة، ويبدو أن الناسخ كان قليل الدراية بالعربية، وقد تعزى بعض الأخطاء إلى السهو والعجلة، وقد وضعت كل إضافة أو استكمال أو تصويب بين عضادتين [] . 2- ضبطت الشعر بالشكل وكذلك أسماء الأعلام والكلمات التي بحاجة إلى الضبط دفعا للوهم واللبس، وقد جاءت بعض الكلمات مضبوطة في الأصل وخاصة في الشعر، ولكن بعضها غير صحيح الضبط، وقد يكون ضبطه

مدعى إلى اللحن. 3- أكثر الكلمات في الأصل معجمة، وبعضها مهمل، ولكن الإعجام في كثير من الكلمات غير صحيح، فأعجمت المهمل وصوبت المحرف والمصحف. 4- في بعض الأشعار نقص أو خلل في الوزن، فأتممت النقص وصححت الوزن، وأشرت إلى الأبيات التي لم أهتد إلى وجه الصواب فيها. 5- خرّجت الشعر بالرجوع إلى الدواوين والمصادر بالقدر الذي أسعفت فيه المصادر، وبينت بحور الشعر لكل قصيدة أو قطعة أو بيت. 6- بيّنت معاني الكلمات الغامضة والعبارات التي تحتاج إلى شرح وتوضيح. 7- ترجمت للأعلام الذين لهم صلة بالمضمون، وقد جاءت بعض أسماء الأعلام محرفة، فصحّحتها بالرجوع إلى كتب التراجم. 8- ترجمت للمواضع والبلدان، وعرفت بالجماعات أو الشعوب حين تدعو الضرورة لذلك. 9- هناك نقص في بعض نصوص الكتاب نتيجة للاختصار أو التلخيص أو السقط، فأكملت النقص بالرجوع إلى كتب التاريخ المنقول عنها، وقد ترد عبارات هي خلاف المعنى المراد، فصحّحت ذلك وأرجعت العبارات إلى أصلها ووجّهتها الوجهة الصحيحة بالرجوع إلى المصادر، وقد نبّهت إلى كل ذلك في الهامش. وبعد، فبتوفيق من الله تعالى، لم آل جهدا، ولم أدخر وسعا في سبيل خدمة هذا السفر الجليل، وقد انصرفت إليه بكلي، وأعطيته عزيز وقتي وبقية

عمري، مقرنا ليلي بنهاري، راجيا أن أكون قد أدركت بعض ما سعيت إليه من خدمة تراث الأمة الجليل، فإذا بلغت الغاية أو بعضها فلله الحمد على ما أعان ووفق، وإن قصرت وضللت، فسبحان من له الكمال وحده، ومن الله العون، وبه التوفيق. والحمد لله أولا وآخرا. 3 جمادى الآخرة 1422 هـ 22 آب (أغسطس) 2001 حقّقه يحيى وهيب الجبوري

صور من الأصل المخطوط

صورة الصفحة الثانية من بداية الكتاب

صورة الصفحة 92 وفيها الدولة العباسية

صورة الصفحة 220 وفيها الدولة الأموية

الصفحة 338 وهي الأخيرة من الكتاب

دولة حسنيين

[دولة حسنيين] بسم الله الرحمن الرحيم [ص 2] على الله توكلت وهذا ذكر من تنبه من أهل هذا البيت، وملك ملكا، وإن كان القليل المنقص، والحقير المنغص وكيف يرثون الأرض، وما ترك جدهم لهم تراثا، أو تعطف عليهم الدنيا وقد طلقها أبوهم ثلاثا، وما ضرهم أن يكون لغيرهم الدنيا، وتكون لهم الآخرة، وفيهم النبوة الدائمة ولسواهم الدول الدائرة، وأول ما نبدأ بالحسنيين ثم بالحسينيين، ثم بمن تعلق بهما. فدول الحسنيين أولها، وفيها من تقدم في النسب ذكرهم. 1- ذكر دولة المهديّ محمد بن عبد الله «1» بن الحسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب، تقدم

ذكره في موضعه من النسب، وكان يلقب النفس الزكية، وكان أبو جعفر المنصور قد بايعه في الدولة الأموية، وأعطاه يمينه، وأعطاه في عقد المبايعة يمينه، وكان برّا تقيا طاهرا زكيا، ولهذا كان يسمّى النفس الزكية، ولم يقدر له ظهور في تلك الأيام الأول، ولا على عهد السفاح، فلما قبض المنصور على أبيه خرج عليه بالمدينة، واحتج عليه بمبايعته المتقدمة، ودارت بينهم كتب بديعة في إقامة الحجج، وكان المنصور فيها الألد الخصم والأشد عقدا لا ينفصم، وكان محمد بن عبد الله أيّدا «1» ، شرد لأبيه جمل فعدا جماعة خلفه فلم يلحقه أحد سواه، فأمسك بذنبه، فلم يزل يجاذبه حتى انقلع، فرجع بالذنب في يده، وكان يطلب الخلافة أيام بني أمية ويزعم أنه المهديّ المبشّر به، وكان نهاية في العلم والزهد والشجاعة، وأقام سنين مستترا في جبال طيء «2» ، مرة يرعى الغنم ومرة يعمل في المهن، وأمسك المنصور أباه وعمه وطائفة من أهله لاحضاره وإحضار أخيه إبراهيم فجحدوا معرفتهما، فحبسهم عليه، ويقال إن المنصور كان قد بايع أباه عبد الله ومحمدا ابنه بعده، وكانت له جارية معها ابن له صغير برضوى «3» ولد له في حال تستره [ص 3] فردّى «4» نفسه من الجبل، فقال فيه أبوه: [السريع] منخرق الخفين يشكو الوجى ... تبكيه أطراف مرو حداد

شرودة الخوف وأزرى به ... كذاك من يكره حرّ الجلاد قد كان في الموت له راحة ... والموت حتم في رقاب العباد رواها له ابن مسكويه، وقد رويت لغيره، ولمّا أتاه جيش المنصور تقدمه عيسى بن موسى «1» ، خندق عليه الخندق النبوي، وكان يبرز ويرتجز، وهو يقول: [الرجز] لا عار في الغلب على الغلّاب ... والليث لا يخشى من الذئاب فلما رأى تضاؤل أمره أقال الناس بيعته، وكسر ذا الفقار «2» وكان قد صار إليه، وأحرق الكتب التي كانت ترد عليه بالبيعة خوفا عليه من المنصور، ثم قاتل حتى غدا حجار الزيت، وحزّ رأسه وحمل إلى المنصور، وقال المنصور لإسحاق بن منصور العقيلي، وكان ذا تجريب لا يكهم «3» ، وتدريب له يلهم: أشر عليّ في خارجي خرج عليّ؟ قال: صف لي الرجل؟ فقال: رجل من ولد فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذو علم وزهد وورع، قال: من تبعه؟ قال: ولد علي، وجعفر، وعقيل، وعمر بن الخطاب، والزبير بن العوام، وسائر قريش، وأولاد الأنصار، فقال: صف لي البلاد التي خرج فيها، فقال: بلد

2 - ذكر دولة أخيه إبراهيم بن عبد الله بن الحسن

ليس فيه زرع ولا ضرع ولا تجارة واسعة، قال: يا أمير المؤمنين، اشحن البصرة بالرجال، فقال المنصور: هذا شيخ قد خرف، أسائله عن خارجي المدينة فيقول: اشحن البصرة بالرجال، فلم يكن إلا يسيرا حتى أتاه الخبر بخروج إبراهيم بن عبد الله بالبصرة، فقال المنصور: عليّ بالعقيلي، فذكّره بما كان قال، ثم قال له: هل كان عندك من هذا علم؟ قال: لا، ولكني لما ذكرت لي خروج رجل إذا خرج مثله لم يتخلف عنه أحد، ثم ذكرت البلد الذي خرج به، فإذا هو لا يحتمل الجيوش، فعلمت أنه سيطلب غير [ص 4] بلده، ففكّرت في مصر، فوجدتها مضبوطة، وفي الشام والكوفة فوجدتهما كذلك، ثم فكرت في البصرة فوجدتها خالية، فخفت عليها، فقال له المنصور: أحسنت، وقد خرج بها أخوه، فما الرأي في صاحب المدينة، قال ارمه بمثله، إذا قال هذا: أنا ابن بنت رسول الله، قال الآخر: أنا ابن عم رسول الله، فقال المنصور لعيسى بن موسى: أما أني أخرج إليه أو أنت، فقال: بل أنا أفديك بنفسي، فخرج فنصر عليه، كما تقدم ذكره. 2- ذكر دولة أخيه إبراهيم بن عبد الله بن الحسن «1» وكان خروجه بالبصرة، وكان لعيسى بن موسى عليه النصرة، وكان

مدره «1» خصام، وبدرة صمصام «2» بقلب قلّب، ولسان ليست عارضته بخلّب «3» ، وجبل يدق على الكيد، ويقوى على الأيد، لولا إفراط شغفه بالنساء، وكلفه بذوات السناء، وما اقتفاه «4» من سنة مصعب بن الزبير في المغالاة في مهورهن، وترك بوارق السيوف لإيماض ثغورهنّ، وإلا فقد كان طعم علقم إذا غضب، ومس أرقم «5» إذا وثب، ومن كنوز المطالب أنه كان تلو أخيه في شدة البدن والعبادة، وحب العزلة وطلب العلم، وهو أشعر من أخيه، وظهرت له شجاعة وطول صبر على الاغتراب برا وبحرا، حتى إنّه دخل على المنصور في هيئة منتصح، وقد أخفى شكله، وقال له: مالي عندك إن جئتك بإبراهيم بن عبد الله، فوعده بإحسان جزيل، فطلب منه أن يكتب إلى ولاة البحر الفارسي بالإعانة في مقاصده حيث توجه، فكتب له الكتب وأوصى الولاة به فتمكن بذلك من الهرب، وبث الدعوة إلى أن أحكم أمره، ثم أتى البصرة، حتى أبطل بناء بغداد، وأعد الجهازات للهرب إلى خراسان، لما رأى من إفراط إقبال الناس عليه وإعراضهم عنه، إلى أن هزمه عيسى بن موسى، وقتله في المعركة، فعاد المنصور إلى بناء مدينته، وقال: الآن عرفت رأسي أنه لي، ولم يخطب له بإمرة أمير المؤمنين إلا بعد مقتل [ص 5] أخيه، وكان خروجه وخروج أخيه في سنة خمس وأربعين ومائة. ومن كتاب تجارب الأمم أنه قاسى شدائد في اختفائه، حتى إنه أكل على موائد المنصور، ووجد في بيت مال البصرة ألفي ألف درهم، فتقوّى بها، وصارت له فارس والأهواز، وكان الملتقى بينه وبين

جيش المنصور على باخمرا «1» من بلاد الكوفة، فانهزم حميد بن قحطبة، وناشده عيسى بن موسى في الثبات، فلم يثبت، ولم يبق معه إلا ثلاثة، واتفق من الحديث الغريب أن المنهزمين من جيش المنصور رأوا قدامهم نهرا لم يقدروا على خوضه، فرجعوا فظن أصحاب إبراهيم أنهم قد ردوا عليهم، فانهزموا بعد أن حصلوا على الظفر، ومن شعره قوله في رقية بنت الديباج العكانية وكان قد تزوج بها، وكان كلفا بها: [الطويل] رقيّة همّ النفس لا ذقت فقدها ... فها أنا ذا شوق لها وهي حاضر وقالوا غدت شغلا له عن أموره ... ولو أبصروها لم يردوا معاذر وقوله وقد اعتلّ أخوه: [الطويل] شكوت فعمّ السّقم من كان مؤمنا ... كما عمّ خلق الله نائلك الغمر فيا ليتني كنت العليل ولم تكن ... عليلا وكان السّقم لي ولك الأجر وقوله في رثاء أخيه: [البسيط] أبا المنازل ما هلك الفوارس من ... يفجع بمثلك في الدنيا فقد فجعا الله يعلم أنّي لو خشيتهم ... أوانس القلب من تلقائهم فزعا

لم يقتلوك ولم أسلم أخي لهم ... حتى نعيش جميعا أو نموت معا وقوله فيه: [الطويل] سأبكيك بالبيض الرقاق وبالقنا ... فإنّ بها ما يدرك الواتر الوترا وإنّا أناس لا تفيض دموعنا ... على هالك منّا وإن قصم الظّهرا ولسنا كمن يبكي أخاه بعبرة ... يعصّرها من جفن مقلته عصرا [ص 6] ولكنني أشفي فؤادي بغارة ... تلهب في قطري كتائبها جمرا ومن نثره قوله: «وقد قيل لقد تهتكت في النساء، حبّ النساء سنّة نبوية، لم تعطّل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إدراك الظفر، ولم تحل بينه وبين بلوغ الوطر، وإنّ أعجز الناس من قعدت به لذات الدنيا عن البلوغ إلى مراقي العليا، و [ما] انهضم من جمع بين إدراك لذاته والفوز بالبلوغ إلى غاياته، عقد الله عنا ألسنة العوام، وأغمد عنهم سيوفنا بالطاعة وحسن الالتئام» . وقوله في خطبة خطبها يوم عيد: «اللهمّ إنّك اليوم ذاكر أبناء بآبائهم، فاذكرنا عندك بمحمد صلى الله عليه وسلم، يا حافظ الآباء في الأبناء احفظ ذرية نبيك» ، قال: فلم يقلها حتى اشتد بكاء الناس. وقوله وقد قيل له حين أشرف على القتل: ألا تفر وأمامك فارس والأهواز، وهما تحت طاعتك؟ فقال: «من فرّ من أهل بيتي حتى أفرّ، أتريدون أن أكون أول من فتح هذا الباب على الفاطميين؟ لا والله، إن خلقت إلا لسلّ السيوف، وشقّ الصفوف، وتجرع الحتوف، والمعاد إلى الله، وهو أعدل الحاكمين» .

وقوله: «كلّ منطق ليس فيه ذكر فهو لغو، وكلّ نظر ليس فيه عبرة فهو غفلة، وكلّ سكوت ليس فيه تفكّر فهو سهو، فطوبى لمن كان منطقه ذكرا، ونظره عبرا، وسكوته تفكّرا، ووسعه بيته، وبكى على خطيئته، وسلم المسلمون منه» .

ذكر بني طباطبا

ذكر بني طباطبا ومنهم الأئمة باليمن، وليس بغير اليمن إلا الخارج بالكوفة، وهو المبدا بذكره: 3- محمّد بن إبراهيم العلويّ بهذا يعرف، وهو أبو عبد الله محمد بن إبراهيم «1» طباطبا بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، بويع بالخلافة يوم الخميس العاشر من جمادى الأولى سنة تسع وتسعين ومائة، وكان إمام صدق لو قام، وغمام ودق لو دام، أزهد من أويس «2» ، وأحلم [ص 7] من

قيس «1» ، وأكرم من حاتم «2» ، وأشجع من قاسم «3» ، وأشبه بآبائه من الغراب بالغراب، وفي آبائه من الناب بالناب، عليه من سيماء سلفه شمائل، ومن بقايا سيف جده ذي الفقار مثله، إلا أنه لم يعلق بحمائل، إلا أنه كان غرا شابا برونق شبابه مغرى، ما عركته الأيام عرك الأديم، ولا عرفته كيف يخادع اللئيم، حتى يحذر من يأمن، ويتشاءم بمن يتيامن، فلا يدخل عليه داخل، ولا يغتال من داخل. قال الطبري: ووافاه في ذلك اليوم أبو السرايا السري بن منصور «4» ، ولقبه

الأصفر، فقام بحربه وتدبيره، وكان سبب قيامه ومبايعة أهل الكوفة إياه، أن المأمون عزل طاهر بن الحسين «1» عما كان عليه من أعمال البلدان التي افتتحها، وصرفها إلى الحسن بن سهل «2» ، فتحدث الناس بأن ابن سهل غلب على المأمون، وحجر عليه، واستبد عليه بالأمور، فهاجت الفتنة بالأمصار، وكان أول من خرج وثار ابن طباطبا، فبايعه أهل الكوفة، واستوسق له «3» أمرها، وأتته الوفود، وكثرت له الجموع، وكان عامل الكوفة من قبل سليمان بن جعفر «4» ،

وخليفته عليها خلاد بن محجن الدؤلي، فلما سمع ابن سهل بثورة ابن طباطبا، كتب إلى سليمان المذكور يعنفه ويضعفه، وجهز جيشا من عشرة آلاف فارس وراجل، وأمّر عليهم زهير بن المسيب «1» وأمره بقتال ابن طباطبا، فسار زهير بجيوشه حتى نزل قرية ساهي، قريبا من الكوفة، فخرج إليه محمد ابن طباطبا، ومعه أبو السرايا، واقتتلوا قتالا شديدا، أذابوا فيه جندلا وحديدا، ثم انهزم زهير هزيمة شنيعة، واستباح ابن طباطبا عسكره جميعه، وأخذ ما كان معه من مال وسلاح وكراع، ثم إن أبا السرايا ندم على إقامة ابن طباطبا فسمّه، فأصبح ميتا، ومن كنوز المطالب أنه مرض وأتاه أبو السرايا يعوده، وقال له: أوصني، فأوصاه وصية بليغة «2» ، وذكرها وذكر له شعرا منه قوله: [الوافر] أينقص حقّنا في كلّ وقت ... على قرب ويأخذه البعيد [ص 8] فياليت التقرب كان بعدا ... ولم تجمع مناسبنا الجدود قال الشريف الغرناطي «3» : ثم قام من بعده رجل من بني الحسين يأتي ذكره

إن شاء الله تعالى. وقال مؤلف كنوز المطالب، وقد ذكر بني الحسن المثنى، فذكر منهم إبراهيم الغمر، قال: ولقّب بهذا لسعة جوده، وكان فيمن حمل مصفدا بالحديد من المدينة إلى الأنبار، وكان يقول لأخويه عبد الله والحسن: أعوذ بالله من منى طبهن منايا، تمنينا ذهاب سلطان بني أمية، واستبشرنا بسلطان بني العباس، ولم يكن قد انتهت بنا الحال إلى ما نحن عليه، والعقب منه، فمنى ابنه إسماعيل الديباج، ولقّب بهذا لجماله، كما لقّب محمد بن عبد الله «1» بن عمرو بن عثمان بن عفان، وكذلك كان يقال لمحمد بن عبد الله بن الحسن، والعقب منه في رجلين، وهما: إبراهيم طباطبا، والحسن تج «2» . فأما طباطبا ففي بنيه كان طلب الإمامة والنباهة، والعلم والشعر والأدب، وذكر بنيه فقال: أصل هذه الشجرة أبو محمد القاسم الرسي بن طباطبا «3» ، والرس «4» ضيعة كانت له بالمدينة، لم يسمح له المنصور بالمقام بها، في كفاف

من العيش، حتى طلبه ففر إلى السند «1» وقال: [البسيط] لم يروه ما أراق النعي من دمنا ... في كل أرض ولم يقصد من الطلب وليس يشفي غليلا في حشاه سوى ... ألا ترى فوقها ابنا لبنت نبي وكتب صاحب السند إلى المنصور يخبره أنه وجد في بعض خانات الموليان مكتوبا بقول القاسم بن إبراهيم طباطبا العلوي: انتهيت إلى هذا الموضع بعد أن مشيت حتى انتعلت الدم، وقد قلت: [الطويل] عسى منهل يصفو فيروي ظميه ... أطال صداها المنهل المتكدر عسى جابر العظم الكسير بلطفه ... سيرتاح للعظم الكسير فيجبر عسى صور أمسى لها الجور دافنا ... سيبعثها عدل يجيء فيظهر عسى الله لا ينأى من الله إنه ... ييسّر منه ما يعزّ ويعسرا [ص 9] فكتب إليه المنصور: قد فهمت كتابك، وأنا وعليّ وأهله كما قيل: [الطويل] يحاول إذلال العزيز لأنه ... بدأنا بظلم واستمرت مرائره ولما أنشد مؤلف الكنوز للقاسم بن طباطبا قوله: [الوافر] أرقت لبارق ما زال يسري ... ويبكيني بمبسم أمّ عمرو فلم يترك وعيشك لي دموعا ... بأجفاني ولا قلبا بصدر

4 - الهادي يحيى بن الحسين بن القاسم بن طباطبا

قال: والعقب منه في ثمانية، أولاهم بالتقدم: الحسين الزاهد ومن نسله أئمة صعدة، قلت: هم الأئمة باليمن إلى زماننا، وأصل شجرتهم المباركة: 4- الهادي يحيى بن الحسين بن القاسم بن طباطبا «1» خطب له بإمرة المؤمنين في حال أبيه، وكان يقال له في الدعاء على المنبر: اللهم اهد لطاعتك وأقم بالعدل في بريتك الإمام الهادي أمير المؤمنين يحيى بن الأمير الزاهد العالم الحسين بن أبي محمد القاسم، ثمرة الشجرة النبوية، وبركة الذرية الفاطمية. وبويع بعده لثمان بقين من المحرم سنة ثمان وثمانين ومائتين، والخليفة إذ ذاك المعتضد «2» ، وكان أول ما عرف من أدبه، وعلم من شرف مطلبه أن أهديت إليه جارية تليق به، فقال: [الكامل] كفّي لحاظك ليس هذا وقتها ... بل وقت كلّ مهنّد وسنان أمطاعن الآساد في غاباتها ... حاشا ترود مرابض الغزلان ثم أعادها إلى سيدها، وقال له: هذه بضاعتك ردت إليك، وهذا نظير ما

5 - محمد المرتضى

رمته من الفائدة في إهدائها، وله مصنفات في الفقه وأدب طائل، قال وهو يخطب: من كمال «1» إيمانك أن تكون مأموما لرجل اجتمعت فيه شروط الإمامة، التي أولها النسب العلوي، فما استحقنا من قبلنا إلا بما رووه عن جدنا صلى الله عليه وسلم: «قدموا قريشا ولا تقدموها» «2» فكيف لا تقدم قريش أبناء بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل غمطوهم حقهم، ومنعوهم فيئهم، وتقدموا بهم عليهم [ص 10] ، وله شعر، منه قوله: [الطويل] بني حسن إني نهضت بثأركم ... وثأر كتاب الله والحقّ والسنن وصيّرت نفسي للحوادث عرضة ... وغبت عن الإخوان والأهل والوطن لأدراك ثأرا أو لأقمع ظالما ... أشدّ على الإسلام من عابد الوثن فإن يك خيرا فهو خير لكلكم ... وإن تكن الأخرى فإنّا ذوو محن «3» وتوفي بصعدة «4» في ذي الحجة سنة ثمان ومائتين. وولي بعده ابنه: 5- محمّد المرتضى «5» وكان خطيبا شاعرا، ولما قام بالأمر اضطرب عليه الناس، ومن شعره قوله:

6 - أحمد الناصر ابن الهادي

[الرمل] كدر الورد علينا والصدر ... فعل من يدرك حقا وكفر «1» أيها الأمة عودي للهدى ... ودعي عنك أحاديث السّمر عدمتني البيض والسمر معا ... وتبدلت رقادي بسهر لأجرّنّ على أعدائنا ... نار حرب بضرام وشرر وتوفي في عاشوراء سنة عشرين وثلثمائة. وولي بعده أخوه: 6- أحمد النّاصر ابن الهادي «2» وله شعر فائق، منه قوله يخاطب أسعد بن يعفر التبعي ملك صنعاء: [الطويل] أعاشق هند شفّ قلبي المهنّد ... به أبصرت عيني المعالي تشيّد إذا جمعت قحطان أنساب مجدها ... فيكفي معدّا في المعالي محمّد به استبعدت أقيالها في بلادها ... وأصبح فيها خالق الخلق يعبد وسرنا لها في حال عسر ووحدة ... فصرنا على كرسي صعدة يصعد فإن رجعوا للحقّ قلنا بأنّنا ... لدين الهدى وجه ومنهم لنا يد

ولكن أبوا إلا لجاجا وقد رأوا ... بأنّ عليهم كلّ حين نسوّد ولا منبر إلا لنا فيه خطبة ... ولا عقد ملك دوننا الدهر يعقد وتوفي في صفر سنة ثلاث وعشرين وثلاث مائة، وولي بعده ابنه الحسين [ص 11] المنتجب، ومات سنة تسع وعشرين وثلاثمائة، وولي بعده أخوه القاسم المختار بن الناصر، وقتله أبو القاسم ابن الضحاك الهمداني في شوال سنة أربع وأربعين وثلاث مائة، وولي بعده أخوه محمد الهادي، ثم أخوه العباس الرشيد، ثم استولى عليهم بنو حمزة الآتي ذكرهم، وشردوا هؤلاء إلى جبل قطابة «1» باليمن، ولم يزل لهم به إمام قائم، وبنو حمزة تحاربهم، حتى قام منهم أحمد بن الحسين «2» المرطي سنة خمس وأربعين وست مائة، وأخذ صعدة كرسي آبائه، وأذهب دولة بني حمزة، واستولى على قريب [من] عشرين حصنا، وخطب خطبة عاب فيها بني العباس لتعطيلهم الحج على سعة ما لهم وملكهم، ثم قالوا: إنّا لا نملك إلا هذه الرقعة القريبة، وقد علت همّتنا لأن نقيم مسار الإسلام، ونعزم على الحج في هذا العام، فاستعدوا له كل الاستعداد،

7 - ذكر دولة القائم بالمدينة أبي عبد الله محمد بن الحسن

فاحتاج المظفر بن رسول «1» صاحب اليمن إلى مداراته، وكتب إلى المستعصم، يحركه على إقامة الحج، وله شعر منه قوله: [الكامل] ولقد أقول لهم غداة المنحنى ... والخيل تعثر بالقنا المتحطّم أنا أحمد سأقيم سنّة أحمد ... ووصاته بين الحطيم وزمزم 7- ذكر دولة القائم بالمدينة أبي عبد الله محمّد بن الحسن «2» ابن محمد بن إبراهيم بن الحسن بن زيد بن علي بن الحسن بن علي بن أبي طالب ثار بالمدينة وتغلب عليها، وبويع بها، وسوّد السيرة وأساء في قبح الفعال مسيره، وقتل كثيرا من أهل المدينة، وسبى نساءها، ونهب أموالها، وأظهر الفسق والفجور، وأنواع اللهو وشرب الخمور، وتظاهر بهذه الفضائح في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم نهارا وزنى فيه، وما تخفى استتارا، وأباد الناس بالسيف والجوع، ولم يدع إلا من بان أنه الموجوع، ومنع الجماعة والجمعة، ودنس شرف تلك البقعة، ولم ير في أيامه صلاة قائمة في المسجد تؤدى نافلة ولا فرضا، ولا من يذكر الصاحبين [ص 12] رضي الله عنهما إلا بما

8 - ذكر دولة السفاك إسماعيل

لا يرضي، فضاق الخلق ذرعا، ولم يطيقوا له دفعا، فغزاه المعتمد «1» ، فظفر به وقتله، وكانت مدته في هذا النسق سنة وأشهرا، فسبحان من لا يعجل بمؤاخذة من اجترأ، وفي الحديث: (إن الله ليمهل الظالم حتى إذا أخذه لم يكن يفلته) «2» ، ولهذا كل ظالم يطرقه ضحى، إن لم يبيته. 8- ذكر دولة السّفّاك إسماعيل «3» ابن يوسف بن إبراهيم بن موسى الجون، ذكره مؤلف الكنوز، وحل في ذكره

9 - ذكر دولة الكبير ومنهم أهل الينبع

الرموز، قال: كان يلقب نفسه السفاك، ويرضى هذا الاسم لنفسه، ويقول: ابتديت دولة بني العباس بالسفاح، ويبتدي دولة بني علي بالسفاك، وكان يرحل وينزل في أكناف الحجاز، وثار في جموع جمعها، وجنود معه أطمعها، وزحف على المدينة ليطرد عنها ولاة المعتز، فحموها، فأتى مكة وملكها، وخطب لنفسه بها بالخلافة، وسفك الدماء، ومنع الحجاج الوقوف، ووقف بالمأزمين «1» ، وقال: من تبرأ من العمين وسب بني العباس وبني أمية خلّي، وإلا فالسيف، وقيل له أسرفت في قتل المسلمين، فقال: لو اعتقدت أنهم مسلمون ما قتلت منهم أحدا، ثم كان ينشد شعرا منه: [الوافر] بنو العباس لو أني بسيفي ... قتلت جميعهم لم أشف نفسي 9- ذكر دولة الكبير ومنهم أهل الينبع وسنذكر من أين نمي أصلهم، وهم من ولد أبي الكرام عبد الله بن موسى «2» الجون بن عبد الله الكامل بن الحسن المثنى، وكان عبد الله هذا له

صيت بالحرمين، فلما حج الرشيد وزار، أبصر ميل الناس إليه فحمل، حقد هذا عليه، ثم أتى الرشيد قبر النبي صلى الله عليه وسلم، قال كالمتكبر على رؤوس الأشهاد: السلام عليك يا ابن عمّ، فعارضه لوقته أبو الكرام، وقال: السلام عليك يا أبة، فكاد الرشيد يتميز من الغيظ، وقال: بهذا ارتكبنا من بني علي ما ارتكبناه، ثم طرده، فمات لا يعرف له مكان. ومن بنيه الكراميون [ص 13] ، ومنهم الصالحيون، وصالح وابنه شاعران جليلان، فأما صالح بن أبي الكرام، فهو الجوّال، وسمّي بذلك لأنه جال أقطار الأرض لخوفه، ونشأ بالمدينة والإمامة في رأسه والدعا [ة] تأتيه، ولم يمكنه الخروج لجزيرة العرب، فخرج بخراسان، فحمل إلى المأمون، فلما دخل عليه لامه، وقال: ما حملك على الخروج عليّ، وأنت القائل: [الطويل] إذا كان عندي قوت يوم وليلة ... وخمر تقضّي همّ قلبي إذا اجتمع فلست تراني سائلا عن خليفة ... ولا عن وزير للخليفة ما صنع ثم حبسه. وأما ابنه محمد بن صالح، فهو شاعر مذكور، وبطل مشهور، وكان يعرف بالأعرابي للزومه البادية، ومن شعره:

[الكامل] طرب الفؤاد فعاده أحزانه وكان قد أخذ أيام المتوكل لخروجه، فحبس ثم أطلق، لقصيدة عرضها له الفتح بن خاقان، ومما كتب به من حبسه إلى امرأته، قوله: [الطويل] لو انّ المنايا تشترى لاشتريتها ... لأمّ حميد بالغلاء على عمد ولكنّ بي أني أعيش بغبطة ... وقد متّ أن يحظى بها أحد بعدي وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكره في الشعراء، وفي هؤلاء الصالحين ملك متوارث بغابة «1» وقد ذكرناه مكانه. ومنهم السليمانيون، من ولد سليمان بن أبي الكرام المذكور، ومنهم الهواشم من ولد أبي هاشم محمد بن الحسين بن محمد الأكبر بن موسى الثاني بن أبي الكرام، ومن هؤلاء السليمانيين والهواشم ملوك مكة والينبع «2» ، ومنهم- أعني بني أبي الكرام- العمقيون من ولد علي العمقي بن أحمد بن أبي الكرام، ومنهم الحرانيون من ولد القاسم والحسن ابني محمد بن أبي الكرام،

10 - أبو عزيز قتادة بن إدريس

ومنهم الأحمديون من ولد أحمد بن موسى الجون، ومنهم الإدريسيون من ولد إدريس بن أبي الكرام، وقد ذكروا، ومنهم المترفيون من ولد علي المترف بن أحمد بن أبي الكرام، ومنهم الفاتكيون، من ولد الفاتك بن سليمان بن عبد الله الكامل [ص 14] ، ومنهم المصحفيون، من ولد محمد المصحفي بن سليمان المذكور، ومنهم الحنظليون، من ولد أبي حنظلة محمد بن يحيى بن عبد الله الكامل. فأما أصحاب الدول من السليمانيين والهواشم فسنذكرهم، فأما السليمانيون، فأول مذكور من أمرائهم: 10- أبو عزيز قتادة بن إدريس ابن مظاعن «1» بن عبد الكريم بن موسى بن عيسى بن سليمان المذكور، وهو أساس البيت، جوار البيت المحرم، ومبتني المجد بفناء الحرم المكرم، قال الشريف الإدريسي النسابة: لا أعرف من يساوي أبا عزيز في القعدد «2» إلى أبي طالب، ورث دولة القواسم وليس منهم، إلا من جهة النساء، وكلهم إلى أبي الكرام، وساد الكراميين، وملك معظم الحجاز، واقتنى مماليك من الأتراك رماة أذل بهم

العرب، وذكر الريحاني: أن العرب لما فتكت بالركب العراقي سنة ثلاث وستمائة بنجد لما «1» بين الحرمين، كتب الإمام الناصر إلى أبي عزيز كتابا بخط ابن زيادة: «وغير خفي عن سمعك، وإن خفي عن بصرك فتك الأجاودة في آرام بكل ريم، وعيث بني حرب بين الحرمين حين غمّوا قلب كل محرم بالغميم» ، فأعجب هذا أبا عزيز فقال: [الوافر] [أ] يا رام فتنت بكل ريم ... كما غمّوا فؤادي بالغميم وفي وادي العقيق رأوا عقوقي ... كما حطموا ضلوعي بالحطيم ثم بدت الوحشة بين أبي عزيز والناصر، وأسرّها البغاددة «2» ، فلما أتى أمير الركب إليه بالخلع، سامه التوجه معه، فقال له: حتى أنظر، فلما نكر عليه، فأنشده: [الطويل] ولي كفّ ضرغام أصول ببطشها ... وأشري بها بين الورى وأبيع «3» تظلّ ملوك الأرض تلثم ظهرها ... وفي بطنها للمجدبين ربيع أأجعلها تحت الرحى ثم أبتغي ... لها خلصا إني إذا لرقيع وما أنا إلا المسك في كلّ بلدة ... يضوع وأما عندكم فيضيع [ص 15] فقال له أمير الركب: هذا لا أبلّغه عنك، وأشار عليه بتجهيز ولد له في مشايخ من الشرفاء، يدخلون بغداد، وأكفانهم بأيديهم منشورة، وسيوفهم مسلولة، ويقبّلون العتبة، ويتوسلون برسول الله صلى الله عليه وسلم في

الصفح، فلما دخلوا على هذه الهيئة، والخلائق تضج بالبكاء، فعوملوا بكل حسنى، فلما بلغ ذلك أبا عزيز، كان يقول: لعن الله أول رأي عند الغضب، وتوفي أبو عزيز في عز سلطانه بمكة، سنة سبع عشرة وست مائة، وكانت مدته نحو تسع عشرة سنة، وهي السنة التي استولى فيها المسعود بن الكامل على مكة، وفر منها أمامه إمامها حسن بن أبي عزيز «1» ، وكان قد واطأ جارية لأبيه، حتى أدخلته إليه فخنقه، وأعانته الجارية، لأنها كانت قد طمعت منه بمال وعدها، وآمال جحدها، وخرج فقعد مكان أبيه والقلوب منه نافرة، والنفوس له عن البغضاء سافرة، وأكبّ عليه أخوه راجح بن أبي عزيز ووجوه الأشراف، أمير الركب العراقي، في حين قدم وقال كل منهم فيه بما علم، فغلق أبواب مكة وجمع للامتناع، ثم انسلّ من الجمع فريدا ونسل من جناح بني أبيه في البر المقفر طريدا، وأتى بغداد فمرض بها، وكان لا يزال يرى أباه يتردد إليه في منامه، ويضع يده في خناقه، فينتبه مذعورا، ويسمعه من معه في البيت يصيح وهو كالمتخبط، ويقول: بالله لا تفعل، ومات سنة ثلاث وعشرين وست مائة، وقام بعده أخوه راجح بن أبي عزيز «2» ، وكان لوفور عقله راجحا، ولحسن فعله حيث

يمم ناجحا، أخذ نفسه بسلوك الطاعة، ولزوم الجماعة، ثم ولي أبو سعيد الحسين بن علي بن أبي عزيز، وكان جوادا أبيا شهما وفيا أديبا فصيحا عربيا، ثم أتى دمشق جماز بن حسن بن أبي عزيز، وأبوه حسن المتقدم الذكر، وقد طن في رأسه طلب ملك أبيه بعد كلام [ص 16] شجر بينه وبين قريبيه، وكان قد انحمل على ابن عمه أبي سعيد الحسين بن علي بن أبي عزيز، وكان قد امتد أمره إلى مكة «1» ، وطلب من الناصر بن العزيز أن يجهزه بمال وعسكر ليخطب له بمكة، فامطله حتى ضجر، ثم بعثه مع الركب، فأفسد حال ابن عمه أبي سعيد، ثم آل الأمر إلى أنه وثب عليه فقتله واستولى على مكة، وخطب بها للناصر سنة إحدى وخمسين وست مائة، ثم كان يقول: كنت أود لي بملك أبي سعيد، مثل قوله: [الطويل] إلى الخيف من وادي منى والمحصب ... أحنّ بقلب فوق جمر مقلب وأشتاق من أرض الحجون معالما ... ببطحائها والسوق مذ كنت مذهبي وبي رشأ أحلى بقلبي من الغنى ... لدى قلب ذي بخل [وحرص] مجرب «2» وأما الهواشم فأول مذكور منهم محمد بن جعفر بن أبي هاشم «3» ، وهو

سيّد سادة، ورأس سيادة، ومثقف رأي لم يعدم سدادة، ومسدد سهم لم يحظ حظه سعادة، قال ابن الحصين: دخلت مكة سنة أربع وخمسين وأربع مائة، والفتنة قائمة بين الحسنيين والسليمانيين منهم، ولم يكن للسليمانيين رأس يقوم بهم بعد الأمير شكر، فتقدم محمد بن جعفر، وأوقع بين بني سليمان، واستولت الهواشم على مكة، وطردوا السليمانيين إلى اليمن، واستقلّ بالأمر وخطب للمستنصر الفاطمي، ثم خطب للقائم العباسي، وأبدل بياض الشعار الفاطمي بسواد الشعار العباسي «1» ، وقال وهو يخطب: الحمد لله الذي هدانا أهل بيته للرأي المصيب، وعوض بيته بلبسه السواد بعد لبسه المشيب، وأمال قلوبنا إلى الطاعة، ومبايعة إمام الجماعة، ثم تكلم بعد هذا بما يناسب، فلما انتهى قام محمد بن إبراهيم الأسدي «2» أمام قبة العباس وأنشد: [الوافر] بني العباس عاد الأمر فيكم ... وإرث أبيكم أضحى مستقيما فزمزم ليس تروي غير تال ... مديحكم وفخركم القديما

فأظهر له القبول، ثم طلبه خفية، وقال له: ما يدخلك بين بني فاطمة وبني العباس، ثم طرده، ثم هجم المدينة وأخذها وخطب للقائم بها، وسمّي أمير الحرمين، وتوفي سنة سبع وثمانين وأربع مائة وكانت مدته ثلاث وثلاثين سنة، ثم قام بعده ابنه قاسم، قال مؤلف الكنوز: فزاد في الاضطراب في الخطبة على أبيه، وقطع مدته بما أسأل الله مسامحته فيه، ومات سنة ثمان عشرة وخمس مائة بعد عمر متّع به في القصف والتقلب بلغ إحدى وثلاثين سنة، ثم قام بعده أبو فليتة، فأحسن السياسة، وأحسب «1» في الرياسة، وأسقط المظالم، وأسخط بمراضي الله الظالم، وكان جوادا لا يحتجب، وشجاعا لا يغفل عما يجب، وقال يوما: اعلموا يا بني حسن، إني وجدت الرقاب ثلاثا، رقبة ملكتها بالمنن، ورقبة ملكتها بالصفع، ورقبة لم ينفع فيها إلا السيف، فقالوا: والله إنك لأعرف بما تقول وتفعل، وتوفي قتيلا بسكاكين الباطنية سنة ست وخمسين وخمس مائة، ومدته عشرون سنة، ثم قام بعده ابنه عيسى، كان صديقا للملك الناصر بن أيوب صداقة لا ينفصم عراها، ولا يوقظ كراها، وفي أيامه كان أخذ الأصطول الناصري لأصطول صاحب الكرك الفرنجي، الذي قصد ما رده الله بغيظه دونه، وأخذ ونحر من فيه بجمرة العقبة حيث تنحر البدن، ثم عزله الإمام الناصر لتقصيره في خدمة أمّه لمّا حجّت، وولى أخاه المكثر، ولم يتقدم في أهل بيته أجلّ منه ولا أجل سنا فما يؤثر عنه، هذا على قصر مدته، وتخاذل زمانه، وبنى قلعة مكة على جبل أبي قبيس «2» ، قال الريحاني: كان ذا شهامة بعيد الصيت والغور، وشعره كثير،

11 - الناهض بأمر الله محمد بن سليمان بن داود

ومن حر الكلام قوله: [ص 18] [الكامل] لا تصبحنّ أخا يريد لنفسه ... ما لا تريد ولا يعاد قديرا إلا إذا أبصرته متجنبا ... فاركب له حدّ الحسام طريرا وتوفي سنة تسع وثمانين وخمس مائة، قال الريحاني: وبموته انقرض ملك الهواشم، وصار في بني مظاعن من السليمانيين المذكورين من قبل، فأما من ملك قبل هؤلاء، فمن بني داود بن الحسن المثنى، وهم أول من ملك، ثم الهواشم، ثم السليمانيون. وأول قائم من بني داود: 11- النّاهض بأمر الله محمّد بن سليمان بن داود «1» نهض لملك أدركه، وبلد ملكه، ظهر بالحجاز وخطب لنفسه بالإمامة بالموسم على رؤوس الأشهاد، وقال: الحمد لله الذي أعاد الحق إلى نظامه، وأبرز زهر الإيمان من كمامه، وكمل دعوة خيرة الرسل بأسباطه «2» لبني أعمامه صلى الله عليه وسلم وعلى آله الطاهرين، وكف عنهم ببركته أيدي المعتمدين، وجعلها كلمة باقية في عقبه إلى يوم الدين: [المجتث] لأطلبنّ لسيفي ... ما كان للحقّ دينا وأسطونّ بقوم ... بغوا وجاروا علينا

12 - أبو الفتوح الحسن بن جعفر

يهدون كلّ بلاء ... من العراق إلينا ثم: 12- أبو الفتوح الحسن بن جعفر «1» ابن الحسن بن محمد بن سليمان، كان جميل الوفاء، جليل القدر في الشرفاء، كتب إليه القادر سنة إحدى وثمانين وثلاث مائة بولاية مكة، فأنفذ كتابه إلى العزيز فوقّع له العزيز بولاية مكة، وأرسل له بمال وخلع للشرفاء، فحضرتهم عند الكعبة، وقسم فيهم المال، وقال عندما ألبس الكعبة الكسوة البيضاء: الحمد لله يا بني فاطمة الزهراء، وأصحاب السنة الغراء، على أن زيّن بيته بلبسه السرور بعد لبسه الحزن، وجعل ملك الحرمين لبني بنت رسوله من بني [ص 19] الحسين وبني الحسن، فأرضى الفريقين، واتصلت إمارته، وأتاه كتاب الحاكم بالبراءة ممن غصب وصي رسول الله صلى الله عليه وسلم ميراثه في الخلافة، ومنع فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم حقها في فدك «2» ، فغضب أبو الفتوح وقال: قوم قام بهم منار الإسلام بعد نبيّه عليه السلام، يذكرهم بما لا يجب، أهكذا فعلت النصارى بالحواريين «3» ، بل جعلوا قبر كل واحد منهم مزارا لحج وعبادة، والله لو أمرني أن

ألعن قوما على غير الملّة لما ارتضيت أن أكون لعّانا وو الله إن من حقوق جدنا علي بن أبي طالب وصفه بالعجز، قام بهذا وخطب على رؤوس العلوية، فقام إليه رجل منهم وقال: أيها الأمير، هذا مقال من يجب عليه أن لا يرجع عما قاله، قال صدقت، ثم شرع في مباينة الحاكم، وأتاه الوزير أبو القاسم يحرضه على طلب الخلافة، فخطب لنفسه بها وتلقب بالراشد، وأتى الرملة «1» فبايعه بنو الجراح أمراء طيء، ودعي أمير المؤمنين، فما زال الحاكم يتحيل على العرب بالرغبة والرهبة، حتى انفردوا عنه، فرجع إلى مكة، ولم يجد بدّا من إعادة الخطبة للحاكم، فقيل له أترضى بأن تكون تابعا بعد أن كنت متبوعا، فقال: ما أحب أحد الحياة في عافية إلا رضي ببعض الدرجة، وامتد عمره إلى سنة ثلاثين وأربع مائة، وإمارته مدتها ستة وأربعون سنة، وهو القائل: [المجتث] أهوى الكؤوس فمنها ... إلى السرور أسير عجبت منها شموسا ... حفّت بهنّ بدور عجبت منها خدودا ... لاحت عليها ثغور حكي أنّ الوزير أبا القاسم كانت عنده محاككة «2» وموافقة، فقال يوما لأبي الفتوح بمحضر من الأشراف وأمراء العرب: ما رأيت أشعر منك في قولك، وأنشد هذه الأبيات، فخجل أبو الفتوح، وعلم أنه أراد إعلامهم أنه يشرب الخمر، فقال لأحد حجابه: عليّ بالمصحف، فلما حضر فتحه [ص 20] وقال:

وحق ما احتوى عليه، ما شربتها قط، ولا حضرت عليها، وتوحش لأبي القاسم، ففر منه، ولأبي الفتوح شعر كثير، منه ما أنشده الباخرزي في الدمية وهو: [الخفيف] وصلتني الهموم وصل هواك ... وجفاني الرقاد مثل جفاك حكى لي الرسول أنّك غضبى ... كفى الله شرّ ما هو حاكي ثم ولي بعده ابنه شكر «1» ، وكان نصلا لا يثلمه الضراب، ورمحا لا يحطمه الحراب، وجرت له خطوب ملك في أثنائها المدينة، وجمع بين الحرمين، ولما وقعت الحرب بينه وبين عمّه من بني موسى الجون، الذين كرهوا دعوة المصريين، وأرادوا الخطبة لبني العباس، وعاضدهم بنو الحسين وبنو جعفر، قال: [الطويل] بني عمّنا الأدنين قربا تأمّلوا ... غرايب ما يأتي به البغي في الأهل نسيتم دماء بالمدينة أهدرت ... وما كان في فجّ من الأسر والقتل فميلوا لهم لا درّ لله درّكم ... وعاطوهم كأس المودّة والوصل وخلّوا بني بنت النّبيّ بجانب ... ولا تقصروا حتى تروا فرقة الشّمل وتأخذكم أيدي الشتات وتخرجوا ... من الحرم الشامي والحرم القبلي وأمّا أنا ما دام للسيف قائم ... فلا أشتري عزّ العشيرة بالذلّ ولا أرتقي إلا ذرى كل منبر ... ولا أرتضي إلا الذي يرتضي مثلي

ذكر الدولة الطبرستانية

أمهّد للأبناء ما يتبعونه ... وأتبع آبائي الذين مضوا قبلي ثم لما خاف غلبة الرجال أسلم الحجاز ذاهبا إلى مصر، وقال: [البسيط] قوّض خيامك عن أرض تضام بها ... وجانب الذّلّ إنّ الذّلّ مجتنب وارحل إذا كانت الأوطان منقصة ... فالمندل العرف في أرجائه حطب «1» [ص 21] ولم يزل في خطوب وحروب تنوب إلى أن مات في رمضان سنة ثلاث وخمسين وأربع مائة، ومدته نحو ثلاث وعشرين سنة، وبه انقرضت دولة الداوديين بالحجاز، وفر بيت أهل الإمارة منهم إلى اليمن، ولها منهم أمراء. ذكر الدّولة الطّبرستانيّة «2» تداولها ستة رجال، منهم ثلاثة من بني الحسن، وثلاثة من بني الحسين، فأما الدولة الحسنية، وهي كانت الأولى بها أسست الوطاة «3» العلوية هنالك، وأولها: 13- الدّاعي إلى الحقّ «4» أبو محمد الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن الحسن بن زيد الجواد

بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وكان أمضى من صارمه، وأخلع للدعة من خاتمة، نهض للملك حتى أخذه، وأمسك بطرف ردائه وجبذه «1» ، ومنّى نفسه بالعراق وشمّر لها اضبعه «2» ونغر لأجلها فاه «3» وحرش سبعه، وسلّ لها عزمه، من حد باتكة «4» ، وأعمل فيها خدعة ناسكة لا فاتكة، حتى لولا ميل المقادير، وإن كل بتقدير، لأطاحها عن بني العباس وابتزها، وألبسهم ذلها ولبس عزها، وخطب له بالخلافة في أول خلافة المستعين «5» سنة خمس ومائتين بالري والديلم، وكان مهيبا عظيم الخلق عطس يوما عطسة ففزع رجل وهو في المنارة قائما يؤذن فيها، فوقع منها فمات، وكان أقوى البغال لا تحمله أكثر من فرسخين، وغيل «6» في آخر عمره بدنه، حتى كان يشق بطنه ويخرج منه الشحم، ثم يخاط، وكان أول أمره بالعراق في ضيق حال، وكان كثيرا ما يسأل عن البلاد الممتنعة الوعرة التي أهلها أهل سلامة وقبول لما يدعون إليه، فدلّ على بلاد الديلم وطبرستان، فأتاها وفيها قوم لم يكونوا أسلموا،

14 - القائم بالحق

فأسلموا على يده، وتمذهبوا [ص 22] بمذهبه، حتى أسس التشيع هناك، وكان جوادا ممدّحا، وله شعر فائق، فمنه قوله: [الوافر] وما نثر المشيب عليّ إلا ... مباشرة السيوف لذا الصفوف فأنت إذا رأيت عليّ شيئا ... فمكتسب من الوان السيوف وله فطنة مليحة في الانتقاد على الشعراء، وحكي أنّ رجلا من بني أمية أتى إليه وهو في مجلسه فسأله عن نسبه، فقال له: رجل من بني أمية، فقال رجل من أهل المجلس: لا أهلا بك ولا بمن أنت منهم، ثم لم يبق أحد حتى أخذ في سبه، وسب بني أمية، وقال رجل: دعني وإياه فلأضربن عنقه، فقال الداعي إلى الحق: لبئس الجلساء أنتم، ثم التفت إلى القائل وقال: دعني وإياه، وقال له يا هذا أتظنك بقتله تدرك ثأر من سلف؟ لا والله لا على هذا ولا علينا مما شجر بين أولئك، ثم قال للأموي: أيها الرجل، ماذا تريد؟ فقال: وفاء ديني وكفاف أهلي، فقال: حبّا وكرامة، كم دينك؟ وكم كفاف أهلك؟ فقال: ألف دينار وخمس مائة لهذا وخمس مائة لهذا، فقال: بل لكل منهما ألف دينار، ثم أمر له بألفي دينار، فأخذها وكساه وحمله وجهزه إلى مأمنه. ثم قام بعده أخوه: 14- القائم بالحقّ «1» أبو عبد الله محمد، وكان ممن يحمد، ظهر بحلية تنسك، ووقوف مع الحق

وتمسك، وكان يهب على ضيق ذات يده، ومضيق رقعة ملكه وبلده بدرا وألوفا، ويرهب أعداء وصفوفا، كان يغزو وهو في الوطن، ويسكن وتحت سكونه حركات الفطن، وكان قائما بالحق قائلا له وقائلا في ظله، لا يفارق ظله، وأوت الرعايا منه إلى أب برّ تميل على جوانبه، وإمام عادل لا يكف عن الأرض مطر سحائبه، فكأنما كانوا في أيامه لمنّها في الحلم، ولأمنها في الأشهر الحرم، هذا مع شراسة خلق، وشكاسة عضب لا ينجاب لها أفق يحتاج من حضره وقد حضره ذلك الخلق الشرس والغضب اليبس [ص 23] أن يغيب عنه وجهه مقدار حلب لقاح، أو ما يجف الندى عن الإقاح، وقد تجلت تلك الغيابة العارضة، وهدأت شقاشق تلك الغمامة العارضة، وعاد إلى أحسن خلقه، وأعاذ بإحسان نبته من أساءة خرقه، وتسفر تلك الرياض الدمائث، ويتضوع كالمسك في ند مائث «1» ، ومن كنوز المطالب أنه وصل إلى الري في جموع عظيمة هال أمرها، وآل الأمر إلى أن هزمه كوبكين صاحب الري، ثم جلس كوبكين لضرب أعناق الأسرى، فوثب منهم ديلمي على السياف فاستلب سيفه من يده وعلاه به فقتله، ومر هاربا، فلم يلحق وكوبكين ينظر إليه ويضحك، ثم هبّت للقائم بالحق سعادة ملك بها جرجان وبعض خراسان، وظهرت أشعته في تلك الأقطار، ثم هزمه عسكر السامانية، فقتلوه سنة ثمان وثمانين ومائتين، ثم كانت بعده ثمّ حروب يطول شرحها، وللقائم هذا أدب، ومن شعره قوله: [الخفيف] إن يكن نالك الزمان بصرف ... أضرمت ناره عليك فجلّت فاخفض الجأش واصبرنّ رويدا ... فالرزايا إذا تجلّت تجلّت

15 - المهدي أبو محمد

ولما كسر أسر ابنه أبو الحسن زيد، ولم يزل مكرما عند إسماعيل، وكتب إليه المكتفي يحمله إليه فدافعه، وله شعر منه قوله: [الكامل] ولقد تقول عصابة ملعونة ... ضوضاء ما خلقت لغير جهنّم من لم يسبّ بني النبيّ محمد ... ويرى قتالهم فليس بمسلم عجبا لأمّة جدنا يجفوننا ... ويجيرنا منهم رجال الدّيلم وتوفي ببخارى سنة أربع عشرة وثلاث مائة. ثم قام بعده ببرهة ابن ابنه: 15- المهديّ أبو محمّد «1» الحسن بن زيد بن محمد القائم بالحق، وقام من بني الحسين من قاومه ودان بحربه وداومه، واشتجرت بينهما حروب، وخطوب على ضروب، صرّح فيها السيف وما ورّى «2» ، وروى فيها السهم كبد قوسه [ص 24] الحرّى وتصاول فيها الفحلان، وكان أن ينصرعا، وتناضل النصلان وما بقي إلا أن يتقطّعا، ثم دالت الدولة للقائم من بني الحسين، وقال القائل ما بعد غائب نقل إلى القلب من العين، وذلك بعد حروب تلاقى بها مرج البحرين، ومرّ جلم «3» الحديد على

ذكر دولة الأخضريين

النحرين، وذبحت الرجال ذبح الغنم، وأشارت أطراف الرماح بالعنم، ومرّت الأعلام على كل شاهق كالعلم، وخلفت حوافر الخيل وجود الأرض كالعدم، ثم تولى البيت الحسني بإحسان أنساهم مصابهم وألهاهم عن عظيم ما أصابهم، وأجري لكل منهم ما كان له في دولتهم الماضية، ولم يبق منهم إلا راض أو راضية، وسنذكر دولة هؤلاء الحسينيين مع بني أبيهم، ومن شعبة هؤلاء الحسينيين الذين ذكرناهم فرقة ثمانية ما هذا موضع ذكرهم، وأنشد له البيهقي هجاء في أهل الري، وأنشد له في الغزل قوله: [الكامل] كفي لحاظك إنهنّ سهام ... رمت الفؤاد وكان ليس يرام ما ذلّ مثلي قطّ مذ خلق الورى ... إلا لمثلك والغرام إمام ذكر دولة الأخضريّين وهم من ولد إبراهيم بن موسى الجون بن عبد الله الكامل بن الحسن المثنى، وهم قوم توارثوا الإمامة باليمامة، ولم تلم بي من تفضيل أخبارهم إلمامة، وصار لهم بقم وقاشان «1» ذكر نابه، ووصف متشابه. ذكر دولة الأدراسة ببلاد المغرب وأول من هبّت له بها ريح، ونشبت مصابيح، حتى وسعت اللجج قربها، وقطعت الحجج قضها، ووثبت ببقايا بني أمية بقيتها، وفلت الأرض حتى

16 - إدريس المغرب

حصلت لقيتها هو: 16- إدريس المغرب «1» ابن عبد الله بن الحسن المثنى بن الحسن بن علي [ص 25] ابن أبي طالب، وإليه تنسب الأدراسة وهو الجد الأكبر والعقاب المحلق الأكدر، حلّق فانتهز فرصة، وحصل قنصه، وقد تقدم ذكر دخوله المغرب وبهذا عرف، فرّ من وقعة فج وقال: [السريع] غرّبت كي أغرب في ثورة ... أشفي بها كلّ فتى ثائر لا خير في العيش لمن يغتدي ... في الأرض جارا لأذى جائر والأرض ما وسّعها ربّها ... إلا لتبدو همة السائر لا بلغت لي مهجة سؤلها ... إن لم أوفّ الكيل للغادر

17 - إدريس بن إدريس

فسار حتى أتى بلاد البربر، فتابعوه وبايعوه، فقال فيهم: [الطويل] وأصبحت في شمّاء بالغرب عند من ... يذبّون عنّي بالمثقّفة الملد «1» رعوني لمّا ضيّعتني أقاربي ... وما اطّرحوا ما كان أوصى به جدّي فلم يزل الرشيد يستطلع علمه، فدسّ عليه حجّاما سمّه في سنون «2» استنّ به، فسقطت أسنانه ومات في سنة ثمانين ومائة، وعمره ثمانية وخمسون سنة، وإلى ميتته هذه أشار أشجع السلمي في قوله: «3» [الكامل] أتظنّ يا إدريس أنّك مفلت ... كيد الخليفة أو يقيك حذار هيهات إلا أن تكون ببلدة ... لا يهتدى فيها إليك نهار ثم قام بعده ابنه: 17- إدريس بن إدريس «4» وهو الغر الذي ختل ودسّ عليه الكيد حتى قتل، وكان قد علا أمره،

وأضاء جمره، وتهمّم يغزو أفريقية، وكان مؤيّدا بجده لأمه راشد «1» مولى أبيه، وهلول بن عبد الله رأس ثقاته، فعمل إبراهيم بن الأغلب على راشد، حتى هلك واستفسد باطن هلول، وقال: [الطويل] ألم ترني بالكيد أوديت راشدا ... وإني بأخرى لابن إدريس راصد تناوله عزمي على نأي داره ... بمختومة في طيّهنّ المكايد ثم لم تزل مكايد ابن الأغلب تخب إليه وتضع، حتى قتله ثقاته وبعثوا رأسه [ص 26] إليه، فبعثه إلى الرشيد، فكتب لابن الأغلب بإفريقية، فتوارثها بنوه، ولإدريس المثنى شعر: بان الأحبّة واستبدلت بعدهم ... سقما وشملا غير مجتمع وما استرحت إلى ناس ليسلبني ... إلا تحول لي يأسي إلى الطمع

18 - القاسم بن إدريس

وكيف يصبر من ضمّت أضالعه ... على وساوس همّ غير منقطع إذا الهموم توافت بعد هد أتها ... عادت عليه بكأس مرّة الجزع وترك إدريس عشرة بنين كان كلّ واحد منهم يخالف الآخر وينازعه سلطانه، وكان أجلهم القاسم، وفي القاسميين كان معظم الإمامة فيهم، وكان: 18- القاسم بن إدريس القائم بعد أبيه، خطب له ببلد سبتة وما يليه، وجرت بينه وبين عمال بني أمية حروب، وتساهم هو وإياهم غمرات كروب، وإليه ينسب الحوطيون شرفاء فاس، والكريون وبنو فنون جلة كومية، وأشهرهم في القديم جنون بن أبي العيش عيسى بن جنون بن محمد بن القاسم، صاحب بصرة المغرب «1» ، وكان له خمسة وعشرون ذكرا، منهم الحسن الأعور، وادعى النبوة في بلاد البربر، وعظم أمره فيهم، وذكر ابن حيان وقائعه مع عسكر المستنصر الأموي «2» حتى

امتنع بحصن الكرم، وبويع المستنصر ثم آل الأمر إلى أنه وفد على المستنصر طائعا بقرطبة، واحتفل له المستنصر وتلقاه، وجلس له، وأنشدت الشعراء، ومنهم ابن شخيص، وقال: [الطويل] أمية قد عادت بنو حسن لكم ... كما كان فيما قد مضى حين سلموا فعودوا عليهم بالذي قد تعودوا ... من الحلم والرحمى فذلك أكرم قال: وكان معه جمع من الحسنيين فيهم صبي لم يبلغ الحلم فلما رأى ما عوملوا به من الإكرام، بكى فقال له بعض أقاربه: ما يبكيك [ص 27] وأنت ترى هذه النعم؟ فقال: النقم في عزنا حيث كنا، خير من هذه النعم في ذلنا لبني أمية، قال: وافترقت الأدراسة فرقتين، فالمحمديون من ولد محمد بن إدريس المثنى، مالوا إلى ابن عمهم المهدي عبيد الله بأفريقية، والعمريون من ولد عمر بن إدريس، مالوا إلى الناصر الأموي، وكتب إليه رئيسهم كتابا قال فيه: وقد أنعم الله علينا يا أمير المؤمنين بأن صرف همّتك إلى ناحيتنا، ووكل عزمك بعدوتنا، ولقد كنا نتمنّى ذلك ونستبطئه منك إلى أن تمم الله عزمك، ويسرك إلى توفيقه، مما نرجو أن نرتقي فيه بك إلى أفضل المحطّ «1» وأشرف المنازل، وقال فيه: إن بلد البربر تغلّب عليه قوم ملكوا أنفسهم من زمن عمر بن عبد العزيز وجرت عادتهم بجحد السلاطين، ودفع الأئمة، إلى أن دخل إليهم جدنا إدريس بن عبد الله، هاربا من عبد الله الملقب المنصور، بعد أن قتل أخويه محمدا وإبراهيم، وشرّد أهلهم، فلما صار إليهم جدنا، واستجار بهم، أجاروه ورعوا

حقه، ووضعوا له ببلدهم فرضا من غير أن يضبطهم ضبطا بسلطان، وقد تناسلنا منه، وقمنا بعده، وسلكنا سبيله، فالبربر إلى اليوم على عادتهم الأولى، إن هممنا بتشديد السلطان عليهم هربوا عنا، ونفروا منا، واتخذوا الحصون علينا، فمرة نذهب إلى محاربتهم، وتارة نعدل إلى مداراتهم، ولا نطمع مع الأيام في ضبطهم وكف عاديتهم، ونحن مستبشرون بما خاطبنا به أمير المؤمنين، من أنه قد فرغت أسبابه من الأندلس، وأنه على عزم التوجه لرد ما كان لآبائه، ثم كتب في آخره: [الطويل] إليك أمير المؤمنين رفعناها ... رؤوسا تروم الأمن والمنّ والجاها نفتنا بنو العباس عن شرق أرضها ... وآل حسين [قد] قلتنا بقرباها «1» ولم يبق إلا أن تكرّ أميّة ... بأحلامها لا أبعد الله مثواها ثم قدر الله أن كان خراب دولة بني أمية على أيدي هؤلاء الأدراسة [ص 28] العمريين، على ما هو مذكور في موضعه، وكان السبب أن ولي أحمد بن حمود سبتة «2» وقبائل العدوة «3» ، فتلقفها تلقف الأكياس وقال: (وتلك الأيام نداولها بين الناس) «4» ، لأمر أريد بظهور الدولة الحمودية، وأولها:

19 - دولة الناصر علي بن حمود

19- دولة النّاصر عليّ بن حمّود «1» ابن ميمون بن أحمد بن علي بن عبد الله بن عمر بن إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وقال الشريف أبو العباس أحمد بن الحسن الحسني الغرناطي: هو علي بن حمود بن ميمون بن حمود بن علي بن أبي العيش بن عبيد الله بن عمر بن إدريس بن إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب القرشي الهاشمي الطالبي الفاطمي الإدريسي السرغيني، وهو الصحيح وميمون بن حمود هو ثا [ئر] سرغين، وأمه البيضاء القرشية، واسمها حيونة بنت عم أبيه، ولد سنة أربع وخمسين وثلاث مائة، كان هو وأخوه القاسم من جند سليمان بن الحكم، فنهضا عليه فقتلاه في المحرم سنة تسع وثلاثين وثلاث مائة، وانقطعت الدولة الأموية بالأندلس بمقتله، وخلا وشيجها من منبت أسله «2» ، وبويع له يوم تغلبه بالبرابر على قرطبة وذلك في يوم الجمعة الحادي والعشرين من المحرم سنة سبع وأربع مائة، وقولنا الأول عن صاحب بلغة الظرفاء «3» ، والثاني عن الغرناطي، قال: وتسمى بالناصر،

وتوفي قتيلا في حمام القصر بقرطبة صبيحة يوم الأحد ثاني ذي القعدة سنة ثمان وأربع مائة، وهو ابن تسع وأربعين سنة، وكانت مدته سنة وأحد عشر شهرا، غير أيام، وكان أسمر أعين تلفاعة «1» ، لا ينظر شيئا بعينه إلا أسرعت الآفة إليه، انتهى كلامه. قلت: وكان غشوما ظلوما سفاكا للدماء، نهّابا للأموال، منتهكا للحرمات، فاشتد على أهل قرطبة [ص 29] البلاء، فلزموا البيوت، وتغيبوا في المطامير «2» ، وتعلقوا بذوائب الجبال، إلا اليسير، وانبسطت أيدي البربر على الخلق، واتسع الخرق، فأغلقت الحوانيت، وانقطعت الطرق والسباريت «3» ، حتى وثب عليه الصقالبة في الحمام، فعجلوا له الحمام، فقتله الله بأضعف خلقه، في وسط داره، بأقرب فتيانه، من غير روية ولا تدبير، إلا ما ألقى الله في نفوسهم، واجتمع في قتله ثلاثة مرد من المقربين إليه، كان قد عشق أحدهم وراوده عن نفسه، فامتنع ورد عن نفسه ودفع، فأبى إلا أن يعتلجه «4» ، وذاك إلا أن يجزيه أجر ما صنع، فتقدم واحد منهم اسمه منجح، فضربه على دماغه بكوب نحاس، فصرعه، وابتدره الاثنان: لبيب وعجيب، فوجأوه بخناجرهم وقطعوه فباد الزاجرهم «5» ، وكف الله عاديته، وصرف رائحته وغاديته، وذلك يوم الأحد غرة ذي القعدة سنة ثمان وأربع مائة، وفرّ قتلته ونجوا، وقيل قتلوا، وقد ذكر ابن بسام، أن المستعين الأموي «6» لما تمالأ عليه بنو عمه، وأمل علي بن حمود

20 - المأمون

ليستجيش به، وجعل له العهد بعده، ثم قال: وولاه طلب دخله هيج الحفائظ القرشية، وحرك الطوائل الطالبية فرماهم يمنى بنى عمه من هذا على ثالثة الأثافي، طوى كشحه منها على مستكنّة «1» أرجأها لوقتها، قلت: فهذا كان سبب ثورته واستشاطه غضب سورته، وبقي تلك المدة، ثم قام أخوه: 20- المأمون «2» أبو محمد القاسم، وبويع بعد أخيه، وما «3» أقدره العجز عن شد

21 - ذكر دولة المعتلي أبي إسحاق يحيى بن علي بن حمود

أواخيه «1» ، قال الغرناطي: وأمه أم أخيه البيضاء، وكان أسمر أعين أكحل مصفرّ الوجه، خفيف العارضين، قلت: وكان سيفا مخذما وصلا أرقما، ونسرا قشعما، مشمرا عن ساق، مشددا بعزائم لا يحل عليها نطاق، وكان وقورا حسن السمت، محسن التكلم والصمت، حنكته التجارب، وحركته لبلوغ المآرب، وتسويغ للشارب، [ص 30] كان بأشبيلية، فأرسل إليه بعد مقتل أخيه، فجاء فعقدوا له البيعة يوم الثلاثاء، ثاني عشر ذي القعدة سنة ثمان وأربع مائة، فأقام ثلاث سنين وأربعة أشهر وعشرين يوما، ثم خلعه ابن أخيه يحيى بن علي بن حمود وكان سبب خلعه أن يحيى بن علي، كان ولي عهد أبيه، وكان أبوه قد ولاه المغرب، فلما مات أبوه بقرطبة، دعا البربر أخاه القاسم بن حمود، وأدخلوه إلى القصر وبايعوه، فأنف ولي العهد يحيى من ذلك وتظافر هو وأخوه إدريس واتفقا على أن يعبر يحيى إلى الأندلس، طالبا لحقه راغبا في التلطف له بحذقه، فعبر البحر إلى أشبيلية سنة أربع عشرة «2» وأربع مائة، ثم سار إلى قرطبة ففرّ منها القاسم والمأمون، ودخل يحيى قرطبة، وبويع له بعهد أبيه، وخطب له بها، ثم اضطرب عليه البربر، ففر من قرطبة إلى مالقة، ورجع عمه القاسم إلى قرطبة وجدّدت له البيعة، ثم رجع يحيى ففرّ أمامه القاسم من قرطبة إلى أشبيلية، فأقام بها إلى [أن] أخرجه منها أبو القاسم محمد بن عباد إلى شريش فملكها، فأتاه يحيى وحاصره، وظفر به وسجنه بها وتخلص الأمر ليحيى. 21- ذكر دولة المعتلي أبي إسحاق يحيى بن عليّ بن حمّود «3» وقيل يكنى بأبي محمد، وأمه لبونة بنت محمد بن الحسن بن فنون

الفاطمية، ولدته بقرطبة سنة ست وثمانين وثلاث مائة، وبويع له بقرطبة بعد عمه القاسم يوم السبت الثامن من ربيع الآخر سنة أربع عشرة وأربع مائة، وكانت مدته سنة وسبعة أشهر، ثم بويع عمه القاسم، كما تقدم ذكره، ثم رجع إليه يحيى وبويع، واستوسق» له [ص 31] الأمر، واستوثق له عهد البيعة وأمر بعز قاهر، وعزم تتخازر له طرف الرق الشاهر، وبأس لو صك به الماء للفح، أو حيا الصخر بأمر منه لجرح، ثم قتل عند قرمونة وترك فأكله السباع، وشبعت بطون ليست بجياع. قال الغرناطي: كان سمينا معكن البطن بارز الثديين صابي البياض، خيرا من مخدرة، وعادت دولة بني أمية إلى قرطبة، وفاضت في الأندلس، وسيأتي ذكر هذا في ذكر أوائل القروم الشّمس.

22 - ذكر دولة المتأيد أبي العلى

22- ذكر دولة المتأيّد أبي العلى «1» إدريس بن علي بن حمود، وكان أبوه قد ولاه سبتة وأعمالها، فلما مات أخوه المعتلي، ثار بسببه ودعا إلى نفسه على بغتة، وأخذ الناس بالبيعة، فأخذتهم بهتة، وأعطوه أيمانهم البتة، وعبر البحر إلى مالقة، فاجتمع عليه أهلها، وبايعوه وعقدوا له ولاء هم، وتابعوه وخطب له، وخوطب بالخلافة، وتسمى بالمتأيّد وبايعه أهل المرية ورندة والجزيرة الخضراء، وكان شهما سريا، سهما يفري فريا، كريما معطاء عظيما، يوسع الناس عطاء، حسن الرأي والسيرة بالرعية، وقافا مع الأحكام الشرعية، ولم يزل على أحسن أحواله مستقلا، ولطود ما حمل مقلا، إلى أن مات في السادس عشر من المحرم سنة إحدى وثلاثين وأربع مائة، وجعل في تابوت وحمل إلى سبتة، فدفن بها، وغيّب كوكبه الدري في تربها، وكانت مدته أربع سنين وشهرا وأياما. 23- ذكر دولة القائم أبي زكريّاء «2» يحيى بن إدريس بن علي بن حمود، بويع له بالخلافة في اليوم الذي

24 - ذكر دولة المستنصر أبي محمد

مات [ص 32] فيه أبوه المتأيّد، وكان غير مسدد، ولا مشدد، خفيف الحصاة مخوف النادرة، ولا يضع سيفه ولا عصاه، طائش الثبات في حركاته، طائر الأناة في شكاته، تقدم بتقديم وزير أبيه وكاتبه أبي جعفر بن أبي موسى، يوم الاثنين سادس عشر المحرم سنة إحدى وثلاثين وأربع مائة، وتمّت له البيعة، وخطب له بمالقة وأعمالها، وسائر أعمال أبيه، وكان رأيه لا تعلو به قوادم، ولا يقرع سن نادم، فنازعه عمه الحسن، فحاصره حصارا ضيّق عليه مهب أنفاس الهواء، وضيّع صبره في طول الثواء، فطلب منه الصلح على أنه ينخلع ويبايعه، ويسلم له منبر الخلافة ولا ينازعه، وذلك في جمادى الأولى «1» من السنة المذكورة، وكانت مدة القائم أربعة أشهر إلا أياما، ثم بقي يحيى بن إدريس خاملا لا يرفع له رأس، ولا يجتمع عليه ناس، إلى أن توفي في ربيع الآخر سنة أربع وثلاثين وأربع مائة. 24- ذكر دولة المستنصر أبي محمّد «2» الحسن بن يحيى المعتلي بن الناصر علي بن حمود، صاحب سبتة، لما وصله التابوت بأخيه إدريس دفنه من ساعته، وأخذ على البيعة أيدي جماعته، ثم ركب البحر في يومه إلى مالقة، فملكها وضبطها بعد ما انخلع له ابن أخيه يحيى القائم، واستوزر كاتب أخيه أبي جعفر [بن] أبي موسى بن بقية

[وكانت ضغينة] على أخيه «1» في صدره منه يجدها، ومحنة تقدمت له به لا يجحدها، فإنه كان هو المقدم لابن أخيه، فأسرّها له في نفسه ضغينة حقدها، ونيّة أقبرها له في باطنه وألحدها، وطاوله بها إلى السنة الثالثة، ثم قتله، وأنزل به الحادثة، وكان ذلك في يوم عيد الفطر سنة ثلاث وثلاثين وأربع مائة [ص 33] فأشام عيده، وشام من بارق المهند وعيده، بعد أن استخرج منه أموالا بسط عليه في المطالبة فيها أنواع العذاب المهين، وأبرز له فيها كوامن الداء الدفين، ثم بايعه أهل غرناطة، وبلاد أخرى من الأندلس، وانقادت له بطاعة قلوبها، وعقد نياتها التي بين جنوبها، فثبّت المملكة وشد أواصرها، ورفع قصورها ومقاصرها، ورد كيد عدوها في نحره، وأغرق راكب ثبج العزاء «2» في نحره، وعدل في أحوال الرعية، وجبى الأموال وقسمها بالسوية، ثم توفي في جمادى الأولى «3» سنة أربع وثلاثين وأربع مائة، وكانت مدتها أربع سنين كأنها يوم واحد، لأسف الناس على قصر مدتها وطيبها، وأوقاتها التي كأنما غربت شمس النهار بغروبها، ولم يترك من ورثته إلا ولدا صغيرا «4» ، فاعتقله نجا الصقلبي، وغلب على مالقة وأعمالها، واستبد بتدبير المملكة، إلى أن شحط بها قتيلا في دمه، ووضع رأسه الشامخ تحت مواطئ قدمه. حكي أن بعض ندماء المستنصر حضر إليه، واليوم قد طرّ بالليل شارته، والأصيل قد كرع في الراح شاربه، والشمس قد اعتلت وما بها سقم لشلوه، والنهار قد قارب وحضر عود النجوم ليبكوه، فدام عنده في جنة تنعم في وطوفها، ومنة تكرم بصنوفها، حتى أقبل الليل ثم ذهب، وأطوله كاللمح

25 - ذكر دولة أخيه العالي

بالبصر، وأبعده قمر نشر بين العشاء والسحر، فما كان بأسرع من أن أصبح، وطرحت العين لحظها كل مطرح، فلما أراد المقام، دعا بالصبوح فسقاه، وفدّاه بأبويه ووقّاه، فقال: دامت لك الدنيا ودمت لأهلها، ثم أرتج عليه فقال المستنصر: حتى تجود لهم بما تحويه، فقام النديم ثم قال: ماذا أقول وهذه نية صدق ظهرت، وبارقة بر ستكون لما بعدها [ص 34] فقال له حسبك، لقد أبلغت، ثم أمر له بألف دينار، وحمله على بغلة من مراكيبه، وصرفه مكرما إلى منزله، مكررا له فضل تطوله. 25- ذكر دولة أخيه العالي «1» أبي العلى إدريس بن يحيى بن علي بن حمود، وهو الذي سجنه نجا الصقلبي، وغصبه من أصل جده النبي، ونسبه الأبوي مشتق من فعله الأبي، ومحتده الأصيل، يعرف بعطائه الذهبي، وكرمه العلوي ينطق به لسان قراه اللهبي، وأنه يصحح طرف النجم السقيم، ورايته تدمر كل شيء أتت عليه كالريح العقيم، برقه لا يخلف وعدا ولا وعيدا، وأفقه يمطر تارة فضة وذهبا، وتارة حجارة وحديدا، وبويع في اليوم الذي قتل فيه السطيفي وذلك أن نجا لما اعتقل هذا العالي، واستبد بالأمر، خرج من مالقة في جنوده، واستخلف عليها رجلا من خاصته يعرف بالسطيفي، وقصد الجزيرة الخضراء ليقبض على محمد والحسن ابني القاسم بن حمود ولم يظفر بهما، فرجع إلى مالقة خائبا وقد حان حينه أن يزور ثرى الأرض دفينه، فاغتاله ليلا في خبائه بعض عبيد القاسم بن

26 - ذكر دولة المهدي

حمود، فقتله واحتز رأسه، ورفعه على عود وأطيف به في تلك البلاد كأنه هدي تزف، لا يمل بالتشفي رؤيته طرف، ثم أدخل مالقة فثارت العامة على السطيفي فقتلوه، ونصبت رؤوسهما وعلقت، وركبا على خشبتين، وركبا منهما مطيتين بوارك لا تسير بهما، ولا تدني نوى مغتربهما، إلا أنهما من جذوع الرواحل، لا تطوى بها المراحل، أو قواعد وعمد، إلا أنها ليست ممدودة كأنهما عليها خشب مسندة، قيدت لهما من مرابط النجار [ص 35] ، ونيطت بهما لما يجمع بينها وبينهما من قرب النّجار، وأخرج إدريس العالي من السجن، وبويع يوم الخميس سادس إحدى شهري جمادى سنة أربع وثلاثين وأربع مائة، ثم بويع بغرناطة قرمونة وما بينهما من البلاد، أنارت بالعدل مشارق زمانه، وأنالت من الفضل بوارق إحسانه، ثم أمطرتهم ديمة دراكا، وأرتهم غرّ الثنايا، فما استسقوا بشاما ولا أراكا «1» . قال الشريف الغرناطي: وكان عدلا خيّرا، لم يزل على أحسن الأحوال، إلى أن ثار عليه ابن عمه محمد المهدي، فجرت بينهما حروب، كان الظهور فيها لابن عمه، فانخلع له، فسلم له الأمر، وذلك في رجب سنة ثمان وثلاثين وأربع مائة، وكانت مدته ثلاث سنين وستة أشهر، ومات بعد ذلك بيسير. 26- ذكر دولة المهديّ «2» أبي عبد الله محمد بن إدريس المتأيّد، بويع له بمالقة يوم خلع ابن أخيه

27 - ذكر دولة الموفق

العالي، وكان نبيه المعالي، وكانت بيعته في رجب سنة ثمان وثلاثين وأربع مائة، فتمت له الأمور، وتابعته البلاد فضبطها وكف عن أطرافها جور العدى وشططها، وأحسن تدبيرها، وكان سنوسيا نبيلا، رئيسا جليلا، فطنا بالصواب، لا يخطئ مواقعه، ولا يخلي من صفو المناهل مشارعه، أذكى قلبا من السراج، وأشف بصرا من الزجاج، محصنا للملك، مسكنا للفتن، مؤثرا للخير، مثمرا للجاني [أي مصلحا له] معمرا للنواحي، مصلحا لأمور الجند، منجحا لمقاصد الأمل، كانت أيامه هادئة مطمئنة، لا تنجم في دولته فتنة، ولم يزل كذلك إلى أن مات بمالقة، سنة أربع وأربعين وأربع مائة، وكانت مدته ست سنين وستة أشهر، وكلها محمودة ممدوحة ممنونة ممنوحة، كأنها أعياد، أو في جفون الزمن الوسنان رقاد، ينهل نداها سلكبا، ويجل قدر [ص 36] دولتها فلا يمر بها السحاب إلا راحلا لا راكنا. 27- ذكر دولة الموفّق أبي علي إدريس بن علي بن إدريس بن علي بن حمود بن أخي المهدي، وكان ندي الندى، يفوت كربة كل سخي، وعيش زمانه كل رخي، وعزم ضاربه كل نخي، لا يتأخر جوابه عن المصطرخ، ولا تأفل أهلة شهوره الحسان ولا تنتسخ، إلا أنّ الأقدار لم تسعده بمطلعها، ولم تبعده من اجتذاب منازعتها، بويع سنة أربع وأربعين وأربع مائة، ولم يخطب له خطيب، ولا هتف باسمه داع في بعيد ولا قريب، وبقي أشهرا كان زمانه فيها بالطاعة والعصيان مستمرا، ثم ثار عليه إدريس العالي بن يحيى بن علي بن حمود المخلوع المقدم ذكره، فخلعه وقسره عليه كالليث القسورة وما خدعه، وانتزع الملك، ثم عادت دولة العالي، وما بقيت إلا أياما وليالي، ثم أتاه الموت، وأجاب الصوت، فترك منبره، ونزل المقبرة. ثم كانت:

28 - دولة المستعلي

28- دولة المستعلي «1» أبي عبد الله محمد بن إدريس المتأيد بن الناصر علي بن حمود، وكان ممن يسود ولا يسود، يتساقط ضعفا، ويتقدم خلفا، بويع سنة ست وأربعين وأربع مائة، وخطب له بمالقة ومرية وزبدة وغيرها من البلاد، فتمهّد له الأمر وما كاد، وأراد التشبه بسيرة أبيه فما أطاق، ولا قدر أن يفتح بها فما، ولا يشد له بها نطاق، وضيق عليه باديس بن حيوس الصنهاجي صاحب غرناطة، فقهره وخلعه، وابتزه ملكه وما جمعه، وذلك في سنة تسع وأربعين وأربع مائة، وكانت مدته سنة واحدة، تنبّه عيونها وهي راقدة، ثم سار إلى المرية، قال [ص 37] الغرناطي: فأقام سنة أذلّ من سائل، وأحقر من جاهل، فاستدعاه أهل مليلة ليملكوه، فعبر البحر فبايعوه في شوال سنة تسع وخمسين، ثم بايعه بنو ورتيدي وقلوع حاره ونواحيها، وأقام بها مملكا إلى آخر سنة ستين، ومات، وكانت مدته بها سنتين وثلاثة أشهر، وانقرضت دولتهم، وفني ملكهم، فسبحان من لا يفنى ملكه، بيده أخذ كل شىء وتركه. 29- ذكر دولة المهدي محمّد بن تومرت «2» ويكنى بأبي عبد الله، وهو المدعو له على منابر الغرب وبإفريقية خاصة إلى

الآن، تقول الخطباء: الإمام المعصوم، المهدي المعلوم، وقال لي الإمام أبو عبد الله محمد بن الصايغ القرشي: إنه ربما دعي له إلى اليوم على منابر الأندلس، ولكن لا يزاد على قول المهدي المعلوم، وهو حسني من ولد الحسن بن علي عليهما السلام، ومن الكنوز: أنه إدريسي، قال مؤلفه: هو من بني إدريس بن إدريس، وقال: وبنو عبد الله بن إدريس بن إدريس في السوس، عدد وخلق، قلت: ولم أقف على نسبه الموصول، ولا عرفت فرعه اليانع من أي الأصول. وكان ابن تومرت داهية لا يعد معاوية بن أبي سفيان تربه، ولا مثله المغيرة بن شعبة، يقصر عنه دهاء عمرو، وسميّه ابن العاصي في آخر الأمر، أو قيس به زياد لما زاد، أو أبو جعفر المنصور لخاف على جعفره من مكاثرة الأمداد، وكانت

همّته لا تحدثه بما دون النجم، وعزمته لا يلين عودها بالعجم، أبصر بمقاصده [من] زرقاء اليمامة، وأجدى على مؤمّله من أنواء الغمامة، وكان قد ساح في الأرض ورأى دنسها، وشمّر ذيله لما عرف نجسها، فأورد [ص 38] خيله المجرّة «1» ، وصعد أبنية البروج المشمخرّة، ونازع النجوم في رتبها، ونصل سها «2» بشهبها، وافترس الأسد بالأسد، واقتبس جمرة المريخ في سنان ذابله وقد وقد، وكان قد قدم الصعيد في الدولة العبيدية، والرفض «3» قد ملأ الملا واعتلى العلى، وعم الديار المصرية، حتى طبق مفاصلها وطرّق بالبدعة الشنيعة مواصلها، فنزل بمسجد هناك، رأى مكتوبا عليه: (لعن الله الصحابة) رضوان الله عليهم، فنزله، وهو من الحق تغلي مراجله، وود لو قد يساور كاتبه ويعاجله، فكتب عليه: [البسيط] إني وفي النفس أشياء مخبّأة ... لألبسنّ لها درعا وجلبابا حتى أطهّر هذا الدين من نجس ... وأوجب الحقّ للسادات إيجابا والله لو ظفرت كفّي ببغيتها ... ما كنت عن ضرب أعناق الورى آبى ثم قام وهو لا يتهدّى ولا يعرف أي بحر يجاوره ويتعدّى، ثم أتى مكة وشهد الموسم بمنى، وشاهد من فيه الغناء لا الغنى، واتخذ لعبة من الزجاج المذهب ووضعها على جمرة العقبة «4» ، وقعد أيامها وعينه مرتقبة، وبقي كلّ ما

مرّ به مارّ قال له: هذه صورة فاكسرها، فلا يجيبه، ويقول: لعل لهذه صاحبا إذا كسرتها طالبني بثمنها، إلى أن مرّ به مغربي من أهل الجبل الذي آوى إليه، فلما قال له ما تأبّى أن كسرها وما تأتّى، فقال ابن تومرت: هؤلاء أريد لسرعة تلقيهم لما يقال لهم بالقبول، وترك القائل لهم وما يقول، وقضيته معروفة لم يخل منها مجالسة جليس، ولا مؤانسة أنيس، ولا سمع مرءوس ولا رئيس لما فيها من دقائق التلطف في المراد، والتوصل إلى ما في النفس والتهيؤ «1» للاستعداد، بهمة تقسر المآرب، وتعتذر على المطالب، وكان ابن تومرت واحد زمانه، وفريد عصره حتما وحزما وعزما وجزما وعلما [ص 39] وحلما وعدلا، لا يدع ظلما ولا جورا، إلا ما يسمى في عيون الغيد حورا، ويدعى في ريق الغواني ظلما، مع الزهد والورع والقنع، ولو شاء لما اقتنع، والعفاف وما تلبس منه وادّرع، وكان لا يمل صاحبه ولا يسأمه، ولو تركه مغيرا لوجه ساحبه. قال مؤلف الكنوز: كان ربعة قصفا «2» أسمر عظيم الهامة حديد النظر، كثير الإطراق سجّاعا عالما، مقبلا على العبادة، لا يصحبه من متاع الدنيا إلا عصا وركوة «3» ، ومن الأشعار لابن العديم قال: لحق إلى المشرق ولقي الغزالي «4» وأخذ معه فيما يرومه فصعّبه عليه، وقال له: لو كان هذا أمرا ممكنا لما سبقت إليه، فلما خرج الغزالي رحمه الله لوداعه قال ابن تومرت فيه:

[المتقارب] أخذت بأعضادهم إذ نأوا ... وخلّفك القوم إذ ودّعوا فكم أنت تنهى ولا تنتهي ... وتسمع وعظا ولا تسمع فيا حجر الشحذ حتى متى ... تسنّ الحديد ولا تقطع قال: وأقام بمكة مدة يلاحظ أقدام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتمثل طريقته، وينسج على منواله، فأخذ نفسه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان قد اطلع على الجفر «1» ، وعلوم أهل البيت، وأتى مراكش فرأى زينب بنت أمير المسلمين علي بن تاشفين «2» ، وحولها جوار لها يرفلن بالحلي والحلل، وهن حاسرات، فأنكر عليهن وضربهن بعصاة، فلما بلغ هذا أباها، عقد له مجلسا، وجمع فيه العلماء وأحضره، فتكلم بكلام أنكى به ابن تاشفين، فأشار عليه مالك بن وهب بسجنه، وقال: هذا لا يجري منه خير على الدولة، فقام الوزير وقال: هذا أضعف من أن يخاف منه، فخلصه الله منه، فقال لأصحابه: إن ابن وهب لا يبرح يضرب الأمثال فينا لعلّي حتى يبدو له رأي آخر، والرأي أن يعتصم بالجبل، فصعدوا إلى درن «3» وبايعه أصحابه على أنه

المهدي المبشّر به، وذلك سنة [ص 40] خمس عشرة وخمس مائة، فلما صعد الجبل رأى زرقة في أبنائهم، فقال: من أين هذه الزرقة في بنيكم؟ قالوا علوج ابن تاشفين، تأتينا فتأخذ النساء وتنهب الأموال، فقبّح هذا وأكبره، وأمرهم بمنع ما كانوا يؤدونه، وقتل من أبى منهم، وظهرت على يده خوارق، يقول أولياؤه إنها كرامات، ويقول أعداؤه إنها مخاريق ميز في أهل الجبل المنافقين، وقال: قد عرّف بهم، يعني يكشف، ثم أخذ يضرب عنق كل متلو عليه فيشتد له أمر الجبل، وطفق يغزو بهم بلاد ابن تاشفين، وكانت عليه أول مرة، فطيّب قلوب أصحابه، وعرّفهم أن الكرّة لهم. قلت: وله التصانيف المفيدة النافعة لمن تعلم الجامعة، في بعضها محاسن ما تقدم، واستفسد بالغرب أمما، بل استصلح واستبهم أمره بالكتمان حتى استصبح، ثم حارب لمتونة «1» ، واستحوذ على ملكهم بلا مؤونة، لكنه مات وما فتح بلدا شهيرا، ولا معقلا منيعا اتخذه ظهيرا، وكان قد عهد إلى عبد المؤمن بن علي القيسي الكومي «2» ، وكان أخص أصحابه المعتبرة لصحابته، وأقرب

مكانهم منه إلى ظل سحابته، وكان إذا رآه مقبلا قال، إما له وإما متمثلا، شعر: [البسيط] تكمّلت فيك أوصاف خصصت بها ... فكلنا بك مسرور ومغتبط السنّ ضاحكة والكفّ مانحة ... والصدر متسع والوجه منبسط فاستخفه الطيش وتسمّى بأمير المؤمنين، وما هو من قريش، وتداول بنو عبد المؤمن ملكا سموه الخلافة، وعظم شأنهم، وملكوا من حدود مصر إلى البحر المحيط في نهاية المغرب وجزيرة الأندلس، وإنما أجهد ابن تومرت نفسه، وركب الأخطار، حتى سبّب لهم هذا الملك العتيد، ونظم لهم هذا السلك الفريد، أذاعوا عنهم تلك السمعة التي أحوجت السلطان صلاح الدين رحمه الله، إلى أنه كاتبهم وراود كاتبه الفاضل بأن يخاطب قائمهم إذ ذاك بإمرة المؤمنين، فتأبّى عليه وامتنع، وقال: مثل [ص 41] هذا ما وقع ولا يقع، وقال: متى كتبنا لهم بهذا حتى قرئ الكتاب على منبر من منابر الغرب، جعلونا لهم خالعين، ولهم لا لبني العباس طائعين، واقتصر على أنه كتب نسخة إلا موضع هذه الكلمة، وخاطبهم وما أطلق ولا أمسك قلمه، بل هو في الرتبة الوسطى، لا يتمحّص فيها أنه أصاب ولا أخطأ، ثم توسل إلى صلاح الدين بأن لا يكون الكتاب بخطه، وقال له والخادم يستجير هو وذريته بالمولى من هذا، وكان مضمون الكتاب الاستنجاد بابن عبد المؤمن، وطلب الإمداد على الفرنج بما يمكن، ثم جهّز على يد ابن منقذ، فما كان بمنقذ، فاستصرخ به وما هو بمصرخه، ولا بواضع وزر همّه، ولا مفرخه، وإن كان هذا ما هو موضع ذكر بني عبد المؤمن، وإنما ذكر ابن تومرت اقتضاه، وهو الذي سلمهم السيف وانتضاه. فهذه مشاهير دول بني الحسن بن علي عليهما السلام، سوى من تقدم

30 - فأما دول بني الحسين بن علي

ذكره فيما تقدم من ذكر ولد الحسن، أو من لا يؤبه إليه، ولا امتد لملكه رسن، وأمراء مكة هم أمراء لا خلفاء ولا ملوك، وما لذكرهم في هذه الطريق سلوك، وسيأتي في ذكر مملكة مصر والشام من التلميح بحديثهم ما فيه مقنع، ولمن أمال إليه صغوه مسمع. 30- فأما دول بني الحسين بن عليّ كرم الله وجههما، فمنها دولة زيد بن علي بن الحسين بن علي «1» ، وهو الخارج على هشام، ثم دولة ابنه يحيى الخارج على أثره، وكلاهما قتل، أما زيد فقتل وصلب، وأما يحيى فقتل ثم أحرق هو وجثة أبيه، كما تقدم ذكره، وأما بقية دولة الحسينيين فأبعدها صيتا، وأوقدها سهاما، كانت لنار الحرب كبريتا هي الدولة العبيدية، التي طاولت الأيام، وحاولت عمر الدوام، واستولت على الغرب ومصر والشام والحجاز [ص 42] واليمن إلى أطراف العراق، ولزّت الدولة

ذكر الدولة العبيدية

العباسية منها بضرة، إلا أنها غير حسناء، وابتزت بصفيحة صقيل إلا أنها ليست بخشناء، فأما المغرب إلى آخر حدود مصر، فما زعزع لهم فيها سرير، ولا نزع لهم فيها طاعة أمير، وأما الحجاز واليمن والشام فكانت تكون بينهم وبين الدولة العباسية، أو الناجمين فيها دول الأيام، ثم أصحب اليمن لدعاتهم، وسهّل ما استصعب لدعاتهم، وكانوا في أول الحال ملوك استقلال، ثم غلبت عليها الوزراء، ورمت حينها من الاعتلال، ونحن نذكر دول الحسينيين ممن اشتهر وتراءى فجر ملكه وظهر، ولا أقول إلا موجزا، ولا أعد من أخبارهم إلا بما أؤمّل أن أكون له منجزا، وأبدأ بالدولة العبيدية، وها أنا أذكرها وأصفها، وإن كنت لا أشكرها، وأصف بعض أيامها وإن لم يبق منها إلا تذكرها، وبالله التوفيق ومنه المدد، والهدى إلى الجدد. ذكر الدّولة العبيديّة نشأت بالغرب، ثم كانت بمصر، ولبثت أحقابا، وعبثت عفوا وعقابا، وعطلت فيها الشرائع، وبطلت الذرائع، وشدد فيها على المحدثين والمؤرخين وعلماء الأنساب، لئلا يظهر بهرج نسبهم الدعي، وزيف مذهبهم غير الشرعي، نسبوا علم الرفض، ودعوا الناس إلى هذا الشنار، وادعوا أنهم أئمة ولكنهم يهدون إلى النار، فلقد كانت ظلامات رفض، وظلمات بعضها فوق بعض، على أن من ردد في معتقدهم النظر، علم أنما غاب عنه منهم أكثر مما حضر، فإنهم طائفة ممن يعتقد الحلول «1» ، وتعتضد بما لا يعقد عليه من المعتقد المحلول، ممن تقول بتناسخ الأرواح «2» ، وتناسي بعض النفوس لهياكل الأشباح، ولهم على

زعمهم أئمة خفاء وظهور، وإن الزمان في كل سبعة يدور، وقد صنف [ص 43] القاضي أبو بكر الباقلاني كتاب كشف الأسرار وهتك الأستار «1» في سوء معتقدهم ومرادهم، ووقفت على سجلات وتواقيع عن بعض أئمتهم، بعضها يحط صلوات، وبعضها بإقطاع في الجنة، أو رفع درجات، ولكثرة كلام الناس فيهم، نقنع باليسير، ولا حاجة إلى التفسير. فأما نسبهم، فللناس فيه اختلاف كثير، فأما هم فادّعوا أنهم من ولد إسماعيل بن جعفر الصادق، وأما الناس، فمنهم من أفرط حتى قال إنهم من ولد رجل يهودي من أهل سلمية، ومنهم من قال: إنهم من ولد رجل خياط من بعض عامة المسلمين، وقال بعضهم: كان الداعية لهم داعيا لرجل شريف من آل البيت، فمات وقد اجتمعت زمر الشيعة، ولم يبق إلا الظهور، فلم يمكنه إطلاعهم على موت ذلك الشريف، لئلا تتقلل عزائمهم، وينفض جمعهم، فأخذ صبيا أراهم إياه، وقال لهم: إن الإمام مات وهذا ابنه، وقد أوصى إليه، ثم من قال إن ذلك الصبي ابن امرأة كان الداعية قد تزوج بها، وثبت في بغداد محضر بأنهم أدعياء، وأتي به إلى الشريفين المرتضى والرضي الموسويين «2» ، فأبيا أن يشهدا فيه، وكان هذا أقوى حجج العبيديين على دعواهم، وكذلك لهم

شهادة صريحة شهد بها الشريف الرضي في قوله: [الخفيف] ما مقامي بأرض بغداد رشد ... وبمصر الخليفة العلويّ من أبوه أبي ودعواه دعواي ... ومن جده وجدي النبيّ ألبس الذّلّ في ديار الأعادي ... وابن عمّي له المكان العليّ إن عرقي بعرقه سيد النا ... س جميعا محمد وعليّ وأما حجة الخصم عليهم، فامتناع آل أبي طاهر من تزويج المعز أبي تميم معد، وكان السبب «1» في خطبته إليهم أنهم أعرق بيت في أهل مصر شرفا، فلما قدم المعز مصر ألقيت إليه ورقة فيها: [ص 44] [السريع] إن كنت من أبناء أهل العبا ... فاخطب إلى آل أبي طاهر فان رآك القوم كفؤا لهم ... في باطن الأمر وفي الظاهر و «2» ...... فخطب إليهم فاعتذروا إليه، وقالوا إنه لا بنت لنا، فسكت على مضض يتجرعه ولا يكاد يسيغه، وجرد كان لا يتوقعه ولا يزيغه، ثم ألقيت إليه بعدها أوراق فيها مذمة وعار وملمّة، لا يعرف لها شعار، ومن جملة [ذلك] : [السريع] إن كنت فيما تدّعي صادقا ... فانسب لنا نفسك كالطائع

فإنّ أنساب بني هاشم ... يقصر عنها طمع الطامع وأنت فيما تدعي عاجز ... فاذكر أبا بعد الأب الرابع أو فدع الأنساب مستورة ... وادخل بنا في النسب الواسع فصعد المنبر، وأخذ في إحدى يديه سيفا وفي الأخرى دينارا، ثم قال: أما بعد فقد كتبت لنا ورقة، يسأل فيها عن نسبنا، وهذا نسبي، وأشار إلى السيف، وهذا حسبي، وأشار إلى الدينار، فمن أقر بنسبي أدخلته حسبي، ومن لم يرد حسبي قتلته بنسبي، والسلام، ثم نزل. وكانوا يكرمون الغرباء، وينعمون إنعاما يعمّ الناس، ويخصون الأدباء مع ما كان فيهم من احتقاب إفك «1» ، واختضاب سيف بسفك، واتخاذ شيعة تسترك عقود الأنام، وتأخذ بالألباب أخذ النعاس بعين النيام، وفيهم يقول ابن قادوس «2» ، ويعرّض بالعباسيين وشعارهم، وهو: [الكامل] أنتم بنو الزهراء أوضح نوركم ... للناس بهجا نائل ورشاد وهم لما خوّلتم في مأثم ... جمعوا العبوس إلى لباس حداد [ص 45] وقد ذهب بعض الناس إلى أن هذه الدولة من بني أبي لهب بن عبد المطلب بن هاشم، وقيل بل هم من حمير ثم من صنهاجة، والخلاف فيهم كثير، وها أنا

أذكر أمر هؤلاء من أوله: كان ابتداء أمرهم على يد أبي عبد الله الشيعي الملقب بالمحتسب «1» ، واسمه: الحسين بن أحمد بن محمد بن زكريا الداعي ببلاد المغرب، والقائم بدولتهم، أصله من الكوفة، وقيل من رام هرمز من كور الأهواز، قال الشريف أبو العباس أحمد بن الحسن الحسني الغرناطي: وكان رافضيا خبيثا ذا عقل ودين صليب، وعلم بارع، وورع حاذق، كدهن على ورم، وكان [له] أخ اسمه أحمد، أسن منه وأعلم وأورع، يقال له أبو العباس المخطوم وكان بدء أمره بمكة، وتمامه بأيكجان من بلاد كتامة، حجّ فالتقى في مكة بقوم من كتامة سبعة، كانوا يتشيعون للحواني داعية المغرب قبله بأزيد من مائة سنة، فلما سمعوا كلامه أحبوه وتقربوا إليه واتبعوه، فخرج معهم إلى بلادهم أيكجان نصف ربيع الأول سنة ثمانين ومائتين، فقال لهم: أين فج الأخيار؟ «2» فعجبوا من علمه، فقالوا له: عند بني سكان، فقال: لهم نقصد وعندهم ننزل، فلما قارب المكان قال لهم: هذا فج الأخيار، وقال له موسى بن حريث: من أين علمته ونحن ما

ذكرناه لك؟ فقال: أنتم الأخيار وبكم سمّي، فلما نزل به تسامع به الناس ودخلوا إليه، فكان يخبرهم بفضائل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب والأئمة من ولده عليهم السلام، فكثر جمعه، وجيّش جيشا، وقاتل أهل أفريقية، فافتتح ميلة ثم سطيف ثم طيبة ثم بلزمة ثم دار ملوك ثم بيحس؟ ثم باغاية ثم قسطيلة ثم قفصة ثم الاربس «1» ، وهرب زيادة الله بن الأغلب من رقادة «2» ، فدخلها الشيعي يوم الاثنين السادس والعشرين من جمادى الآخرة سنة ست وتسعين ومائتين، ثم جمع جموعه [ص 46] وعبّأ عساكره، وخرج يريد سجلماسة «3» يوم الخميس العشرين من رمضان منها، واستخلف على رقادة وسائر أفريقية أخاه المخطوم وأبا زاكي تمام بن معارك الأيكجاري، وكان هذا أبو زاكي تمام بن معارك أول من لاقى الشيعي، فقال له ما اسمك يا فتى؟ فقال: تمام، [فقال] : بك تتم أمورنا، فما اسم أبيك؟ قال: معارك، فقال الشيعي: لكن بعد عرك عظيم، فلما أتى سجلماسة أرسل يقول لصاحبها اليسع بن مدرار: إننا ما جئنا لقتال، ولكن بحاجة ولك الأمان والبر والإنعام، فرمى اليسع الكتاب، وضرب

أعناق محضريه، فكتب إليه ثانيا، ثم ثالثا، ففعل كفعله الأول فيهما، فناجزه الحرب، فانهزم اليسع ودخل المدينة مهزوما، ثم خرج منها فارا، فدخلها الشيعي، وأخرج المهدي، وأطلق الخيل في طلب اليسع، فأدركوه فأخذوه هو ومن كان معه، وأتوه به، فأمر باليسع فضرب بالسياط، وطيف به في العسكر، ثم أمر به وبمن كان معه فضربت أعناقهم، وذلك في ذي الحجة من السنة المذكورة، ثم أقعد المهدي وأخذ له البيعة على الناس، وقدم به دار الملك رقادة، فدخلها في جمادى الآخرة سنة سبع وتسعين ومائتين، وأقام بها الشيعي إلى أن قتل هو وأخوه العباس المخطوم، قال: وكان سبب قتلهما أنهما ندما على إقامة المهدي وأرادا خلعه. قلت: ولنذكر هنا ما قاله الغرناطي، وقد ذكر فرق الشيعة بعد قتل الحسين عليه السلام، فقال: تفرقوا أربع فرق، هم الأصول: علوية، وفاطمية، وحسنية، وحسينية، فالعلوية رأت الإمامة في ولد علي عموما دون تخصيص، وهم الكيسانية، وهم القائلون بإمامة محمد بن الحنفية، كما نبهنا عليه، والفاطمية رأت الإمامة في ولد الحسن والحسين ولدي فاطمة عليهما السلام، وهم الزيدية، والحسنية: وهم الذين رأوا الإمامة في الحسن ثم في ولده، ثم في عبد الله [ص 47] بن الحسن بن الحسن والد إدريس صاحب المغرب، ثم في الأدارسة بنيه أبدا، والحسينية: وهم الذين رأوا الإمامة في ولد الحسين، ثم في ولده علي زين العابدين، ثم في ولده محمد الباقر، ثم في ولده جعفر الصادق، ثم افترقوا، فرأت فرقة أن الإمامة في ولد موسى الكاظم، ثم من بعده في ولد علي الرضا، ثم في ولده علي الجواد، ثم في ولده علي بن علي الهادي، ثم في ولده الحسن العسكري، ثم في ولده محمد المنتظر، وكان حينئذ في بطن أمه، وهم الإمامية، ورأت فرقة: أن الإمامة في إسماعيل بن جعفر الصادق، وهم الإسماعيلية، وأهل هذه الدولة منهم، وها أنا أذكرهم، فأولهم: هذا القائم بالمغرب:

31 - المهدي بالله

31- المهديّ بالله «1» أبو محمد عبيد الله بن محمد بن جعفر بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وكان رجلا حازما عازما عارفا عالما، أتقن جانبا من علم الأوائل، وأجاد في فن الروحاني، وحذا شعبة من السحر، وأورثه بنيه، وكان لا يودع إلا الأئمة منهم، وكان يشبّه في أمره بالسفاح، لقيامه بدولة أقامها بالصفاح، وكان أبو عبد الله الشيعي داعيته وساعيته حتى حاز الملك وكاده «2» ، وكان رجلا حازما بريئا من التكلف، غنيا بما يظهره من التعفف، لا يتعمق في متاع الحياة الدنيا، ولا يتعرض إلى زايد عما يحتاج إليه مدة ما يحيا، وكان يجلس على اللبود، ويأكل الخشن من الطعام، ويكتفي بجارية واحدة وغلام، وكان يظهر مظاهر الزهاد، ويقف مع ظاهر النساك على رؤوس الأشهاد، مع ما في باطنه من الداء الدوي، والمعتقد البئيس الردي، والإعلان بالسب، والإمعان في الطعن فيمن دب، وإظهار الإيمان، وإبطان الكفر، وتمزيق أهل جلدة الإسلام بالناب

والظفر، مع عدل بسط بساطه، وكان به فتور [ص 48] فكأنما حلّ من عقال نشاطه، وكانت الكتب لا تنفذ في أيامه إلا باسم ولده محمد القائم، وكان لا يسمى المهدي فيها، وبعث دعاته إلى الأرض، وبث فيها عقاربه، وبعث أقاربه، بل أراقمه، ونفث سمه من سوء الاعتقاد أو ما قاربه. قال ابن سعيد: وعبيد الله المهدي أول خلفائهم، تشبه بالسفاح أول خلفاء بني العباس، فإن السفاح خرج من الحميمة بالشام «1» طالبا للخلافة، والسيف يقطر دما من أصد «2» ، وأبو سلمة الخلال «3» يؤسس له الأمن، ويثبت دعوته، وعبيد الله المهدي خرج من سلمية بالشام «4» ، وفي رأسه طلب الأمر، والعيون قد أذكيت عليه، وأبو عبد الله الشيعي يسعى في تمهيد دولته، وكلاهما تم له الأمر، وبايعه صاحب دعوته، وقتل عبيد الله أبا عبد الله الشيعي القائم بدولته، وأصبح أبو سلمة مقتولا في حضرة السفاح، فنسب قتله إليه، قلت: بل هو الصحيح أنه دسّ عليه من قتله، ونصب له المكيدة حتى ختله، وذكر الشريف أبو العباس أحمد بن الحسن الحسني الغرناطي خلافا كبيرا في أمر المهدي المذكور، في تاريخه، ثم قال: ولد بسلمية، وقيل ببغداد سنة ستين

ومائتين، وبويع له برقادة يوم الخميس الموفي بعشرين من ربيع الآخر سنة سبع وتسعين ومائتين، وهو ابن سبع وثلاثين سنة، وهو باني المهدية وغيرها، ولما ظهر أمر الشيعي القائم بالمغرب بدعوته، جعل الخليفة عليه عيونا بمصر، فوقع المهدي بمصر في زي التجار بيد صاحبها عيسى النوشري «1» ، فقال له: أنت الذي طلبه أمير المؤمنين؟ فقال: إنما أنا رجل تاجر، فاتق الله في دمي، فخلى سبيله، فخرج في قافلة يريد أفريقية، ثم أنه فقد كلبا كان يصيد به، فرجع في طلبه، وإن صاحب مصر ندم على تخليته، فخرج في طلبه فاذا [هو] راجع في طلب كلبه، فقال: لو كان هذا هو المطلوب لطلب النجاة لنفسه، ولم يرجع في طلب كلب، فانصرف وتركه، فسار حتى نزل [ص 49] طرابلس، وكان زيادة الله بن الأغلب قد أرصد عليه عيونا، فخاف عبيد الله على نفسه، فأخذ طريق قصطيلية حتى أتى سجلماسة في يوم الأحد السابع من صفر ستة وتسعين ومائتين، ومعه ابنه أبو القاسم محمد القائم، فوشى به واش إلى صاحبها اليسع بن مدرار، فأحضره بين يديه واستفهمه عن حاله، فقال: أنا رجل تاجر، فقال له: لا إنما أنت المهدي الذي يدعو إليه هذا الشيعي، فأظهر البراءة منه، وأنكر ذلك، فجعله في دار ورسم به، وأجرى عليه الأرزاق، وبلغ الشيعي خبره، فبعث أبا زاكي بمال وطرف من طرف الملوك، فأوصلها إليه مستخفيا، وسلم عليه ثم رجع إلى الشيعي فأعلمه بصحة الخبر، فسار إلى سجلماسة بجيوشه حتى استخرجه منها، كما تقدم ذكره، ثم ما زال يكلأه حتى تم أمره، وانقاد له الملك عنوة، وركب من منابره الغارب والذروة، وأطاعه الناس رهبا ورغبا، وبايعه

32 - القائم بأمر الله

الخلق والسيف على عنق من أبى، ثم ما برح جده يعلو، وورده يحلو، حتى كان قائم دولة شاطرت المعمور، وشارطت السنين لا الشهور، ثم كان والد أملاك، وقاعدة ممالك باهرت الأفلاك، ولولا علم الله السابق ولطفه، لبلغت دولتهم أقصى الشرق في مذهبها، وعجلت الآية الكبرى بطلوع الشمس من مغربها. وذكر القرطي في تاريخ القوم أن المهدي فيما كتب إلى القرامطة قبل انفراقهم عنه: وأنا أحلف أيها المؤمنون بأجل مما يحلف به لما اتبعته مما أطعنا الله عليه من غيبه الذي استأثرته، وآثر بعلمه أولياءه الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، أنه لابد من أن يحل ولاتنا بخضراء بني أمية بالشام، وبخضراء بني العباس بالعراق ويكون لنا من الخلفاء مثل من كان لبني أمية، قال: فقد والله إن كان جميع ما ذكره هو ما دوّن من كلامه ما وقّع به لقاضي قضاته أبي المنهال، وقد أعاده إلى القضاء بعد عزله، وهو: إنما عزلتك للينك ومهانتك، ورددتك لدينك وأمانتك، وتوفي نصف ربيع الأول سنة [ص 50] اثنتين وعشرين وثلاث مائة، ثم ابنه: 32- القائم بأمر الله «1» أبو القاسم محمد، وكان لا يرضى إلا قائم السيف صاحبا، ولا يعدل عن

الليل والخيل والبيداء مصاحبا، بعزم لا يقصف سمهريّه، ولا يقصى عن عاتقه مشرفيّه، وكان قد وجّه إلى بغداد قصيدة يفخر ببيته، ويسمع بها مبلغ صوته، ويذكر فيها ما فتح من البلاد التي ملك، وقدح بسنابك جياده في كلما سلك، فأجابه الصولي بقصيدة على وزنها ورويها، بصّر بحسنها ووريها، وصبر القائم على منافذ طعانها، ومآخذ لعانها، وكان منها قوله: [الطويل] ولو كانت الدنيا مثالا لطائر ... لكان لكم منها بما حزتم الذّنب وسيأتي ذكر هذا البيت في موضعه من الإنصاف بين المشرق والمغرب، فحرّك هذا همّة القائم بالله على قصد جهة المشرق، [وقال] : والله لا أراك حتى أملك صدر الطائر ورأسه إن قدرت، وإلا أهلك دونه، فكابد على مصر من الحروب أهوالا، وجاهد فيها رأيه وأنفق أموالا، ومات ولم يظفر بحضرتها، ولا اقتات طرفه بنظر نضرتها، مع كونه عاث في أطرافها، وعام في بحرها العباب وما التحف بطرفها. حكى مؤلف الكنوز: أنه اشتد حزنه على موت أبيه، وأقام مدة يخفيه، ولم يرق بعده شهرا، ولا ركب من قصره مذ صار إليه الأمر إلا مرتين، مرة صلى على جنازة، ومرة صلى بالناس العيد، وبدأ أمره بأن أمر عماله بعمل السلاح، والاستعداد للقاء، وجهز بعوثه إلى بلاد فاس وما حولها من بلاد المغرب، فدوّخها، ومولده بسلمية سنة ثمان ومائتين، وبويع يوم أبيه، وتوفي يوم الأحد ثالث عشر شوال سنة أربع وثلاثين وثلاث مائة، وكانت خلافته اثنتي عشرة سنة وسبعة أشهر. ثم ابنه:

33 - المنصور بالله

33- المنصور بالله «1» أبو الطاهر إسماعيل، وكان قد أوصى إليه أبوه بقصد مصر واستضافتها، وإعداد القرى لقري إضافتها، فشغلته الفتن التي قامت بأفريقية واستأصلت [ص 51] لولا عوارضها المستبقية، فإنها ثارت ثوايرها في كل قطر، وطارت بواترها في ظل السيوف البتر، وكان جهد المنصور أن يرقع خروقه، ويخيط بإبر الرماح فتوقه، ولم تعدّ همّته قدر الاستصلاح، ولم تعل عزمته على الدفع بالراح، وكان أقصى اجتهاده أن يذود عن حوضه الغرائب، ويذوب خوفا يخرج من بين الصلب والترائب، إشفاقا على ملكه من تجاذب الأطراف وتجابذ الأطراف، خشية أن ينتزع، وحذرا من قاصد بسيفه أن يزع. قال ابن سعيد: وهذا المنصور مشبّه بالمنصور، لأن كلا منهما اختلت عليه الدولة، وأصفقت عليه الحروب، وكان يسلّ من الخلافة، فهبّ له ريح النصر، وتراجع له أمره حتى لم يبق مخالف، وحين [أراد] لبنيه ختانا لم تسمو همّة ملك إليه «2» ، أمر بأن يكتب له أولاد قواده وأجناده، وسائر رجاله وعبيده وأهل بلاده، وكساهم وكانو زهاء مائة ألف، ثم فرّق فيهم أموالا جزيلة وبدأ بالختان

34 - المعز لدين الله

لست بقين من ذي الحجة سنة أربعين وثلاث مائة، ودام إلى سابع المحرم من السنة المقبلة، والجزر تنحر وسائر الذبائح والولائم تعمل، ويقال إنه أنفق نحو ألف ألف دينار في هذه الأيام، ولم ير كصبره يوم القيروان وهو يعامل أبا يزيد النكاري، وقد ذكر حسن موقفه شاعره محمد بن الحارث «1» ، فقال: [الطويل] ولم أر كالمنصور بالله ناصرا ... لدين وأحمى منه ملكا وأمنعا ألم تر يوم القيروان وقوفه ... وقد كادت الأكباد أن تتقطّعا وأبرز عن وجه من الصبر أبيض ... يقابل وجها للكريهة أسفعا إذا استقبل الأبصار وهي طوامح ... ثناها فلم تستكمل اللحظ خشّعا وولد بالمهدية سنة اثنتين وثلاث مائة، وولي وله اثنتان وثلاثون سنة [ص 52] ، وتوفي يوم الجمعة سلخ شوال سنة إحدى وأربعين وثلاث مائة، وله من العمر تسع وثلاثون سنة، وكانت ولايته سبعة أعوام. ثم كانت خلفاؤهم بمصر، وأولهم: 34- المعزّ لدين الله أبي تميم معد «2» بن أبي الطاهر إسماعيل المنصور، وهو الذي ظفر بحضرة

مصر وملكها، وحصل له حظوة ملكها وأدركها، ووصلت إليه جيوشه، وحصلت على معاقد شرفاتها عروشه، وقدم أمامه القائد جوهر فاختلط القاهرة وبنى له بهما القصرين، وإلى الآن بعض آثارهما الظاهرة، وقسم بناء المدينة على من كان في جملة المعز من القبائل، واتخذ الكافوري بستانا ترق به الجداول، وتزف الخمائل، وشرع أبواب المدينة، ولم يكمل لها سورا يدور بنطاقها، ولا أقام لها جدرا يستند إليه ظهور أسواقها، ثم مدنت بعد ذلك التخطيط، وأدير بها سور اللبن المحيط، وذلك لما أناخت القرامطة بساحتها، وأنامت المعز وهو يعتقد أن روحه في راحتها، ثم بنى في الأيام الصلاحية السور الحجر الدائر، وضرب عليها مثلها الساير، ثم لما كمل القائد جوهر بناء ما شرعه، أتم قصر المعز وموضعه، استخلف المعز بالمغرب بعض أشياعه، وقدم مصر وقد شرق صدر البر والبحر بأتباعه، وأتى الإسكندرية وخيّم بظاهرها، وجثم أسده الهصور يزأر، إلا على زائرها، وتلقاه إليها أهل مصر من القواد والوزراء والقضاة والعلماء ووجوه الناس، فبسطهم بالإيناس، وتلقاهم بالرحب والسعة، وأمر لهم بالخلع والأنزال الموسعة، ثم سار حتى أتى مصر ودخل القاهرة، ونزل بقصره بها في يوم الثلاثاء لتسع عشرة ليلة خلت من شعبان سنة ثمان وخمسين وثلاث مائة، وتوفي في يوم الجمعة الحادي عشر من شهر ربيع الآخر سنة خمس وستين وثلاث مائة. وذكر ابن الأثير: أن ملك الروم كان أرسل إلى المعز رسولا بالمهدية، ثم كان

35 - العزيز بالله

يتردد إليه، فأتاه وهو بمصر فخلا به بعض الأيام، فقال له المعز: [ص 53] أتذكر إكرام [ي لك إذ] «1» أتيتني رسولا وأنا بالمهدية، فقلت لك: لتدخلنّ عليّ بمصر وأنا خليفة؟ فقال له الرسول: إن أمنتني على نفسي ولم تغضب قلت لك ما عندي، فقال له المعز: قل وأنت آمن، فقال له: لما بعثني الملك إليك ذلك العام، وأنت من عظمتك في عيني وكثرة أصحابك ما كدت أموت منه، ووصلت إلى قصرك فرأيت عليه نورا عظيما «2» أشخص بصري، ثم دخلت عليك فرأيتك على سرير (....) «3» ، فلو قلت لي إنك تعرج إلى السماء لظننت ذلك، ثم جئت إليك الآن فما رأيت من ذلك شيئا، وأشرفت على مدينتك فرأيتها مظلمة، ودخلت عليك فما وجدت لك من المهابة ما وجدته ذلك العام، فقلت: كان ذلك أمرا مقبلا، وهذا أمر مدبر، ولا أخالك إلا ميتا، فلم تلبث بعدها المعز الحمى ومات، وقد كان المعز احتفر له سردابا، وقال لأصحابه: إن بيني وبين الله عهدا، وإني ماض إليه، وقد استخلفت عليكم ابني نزارا، ثم تغيب سنة في السرداب ثم ظهر وهو متعلل، فمات، وكان أحد المغاربة إذا رأى سحابا نزل وأومأ إليه بالسلام، ظنا منه أن المعزّ فيه، وكانت ولايته ثلاثا وعشرين سنة وخمسة أشهر وعشرة أيام. ثم ابنه: 35- العزيز بالله أبي المنصور نزار «4» ، وكانت أيامه أيام دعة، وتمام سعة، والناس فيها في

هدوء لا يقلقل له مضجع، ولا يساء به قلب ولا مسمع، وما برح أهل مصر في كل جيل يضرب به المثل، فيقول لما يستطيب من الأيام: كأنها أيام العزيز، لأنه كان لين الجانب يعنيه، حسن المناقب عن خشن المقانب يغريه، كرم سجيته بالندى الغمر، ويعزه في الندى هزة الخمر، ووقفت على تاريخ ضبط له، فما رأيت في رسوم ما يحيي من الرعايا مثل عدل أمر به، وظلم بطله، وأمن أراح سيفه، وأنام بطله، وتفسح العزيز في بلاده، وتلقح على العراق ليوطئه سنابك جياده، ودعي له على منابر الشام، وذكر له على منابر المساجد، وحيي بالسلام، وبلقبه لقّب السلطان الدّين ابنه العزيز عثمان، ترجّيا [ص 54] أن تكون أيامه شبيهة بأيامه في الرخاء والأمان، فكانت مثلها في الأمان لا في الرخاء، ونظيرها في الامتنان والسخاء، فإن في أيام العزيز عثمان حدث بمصر غلاء، وارتفع السعر وكان له علاء، ثم عظم أيام عمه العادل، مما ليس هذا بموضع ذكره، ولا تشويش هذا التصنيف بنكره. قال ابن سعيد: وسفرته من أفريقية إلى مصر وما ظهر منه من حسن التدبير، وهبوب النصر والحزم في الاستيلاء. كسفرة المأمون من خراسان إلى بغداد. قال الروذباري في تاريخهم: حضرت الخطبة للحاكم ابن العزيز، فما قدر أحد يفهم ما يقول الخطيب، لضجيج الناس وبكائهم على العزيز، كان محسنا إلى الخاص والعام، شاملا بالبر للقريب والبعيد، مبذول اليد بالكرم، مسبل الذيل بالفضل، كثير العفو، قليل الانتقام، عوادا بالجميل، منيبا إلى الحق، غير متظاهر بما يذم،

36 - الحاكم بأمر الله

ولا داع إلى ما يكره، وتوفي سنة ست وثمانين وثلاث مائة، وولد بالمهدية يوم الخميس الرابع عشر من المحرم سنة أربع وأربعين وثلاث مائة، وولي العهد بمصر يوم الخميس عاشر ربيع الآخر سنة خمس وستين وثلاث مائة، وولي الخلافة في اليوم الثاني، وله اثنان وأربعون سنة وثمانية أشهر وأربعة عشر يوما، وكانت مدة خلافته إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر ونصف شهر. ثم ابنه: 36- الحاكم بأمر الله أبو علي المنصور «1» ، ولي وكان صغيرا، وأوتي ملكا كبيرا، ولما طلب للبيعة [كان] قد صعد شجرة جميز في داره بالقصر يلعب فيها مع الصغار، وملك وما كلف خيله اضطراد ولا جشّمها المغار، ثم كبر وظهرت منه أمور ينكرها العاقل، ويكرهها الناقل، لكثرة ما كان عليه أمره من الاختلال، وفكره السقيم من الاعتدال، فإنه كان في كل حين يحدث حكما محدثا، وعلما كأنما كان بها محدثا، فانه كان مع إفراطه في التهور، وخباطه في أموره التي تدل على

عدم التصور، ربما حدث بأنواع من [ص 55] الحدثان، وتكلم بأسجاع مثل سجع الكهان، وعبدة الأوثان، وبلغ مدة في الكبرياء، ثم بقي مدة لا يأنف من مخالطة الأدنياء، وكان يركب حمارا له ويدور، وقدامه عبدان بأيديهما حربتان، ويشق القاهرة ومصر، ويخالط العامة، ويخرج إلى الحاجر، ويطلع إلى الجبل، ثم ربما ردّ العبدين وسار وحده، وغاب اليوم واليومين والمدة، ثم يلاقيه الموكب إلى مكان يكون قد واعد إليه العبدين، في وقت يوقته، وميعاد لا يفوته، ثم كشف الغطاء وباح، وقال علوه واستراح، وادّعى فيه الألوهية، وقال مقالة فرعون، ونصب نفسه للناس طاغوتا، وأخذ بعض الناس بالقول أخذا مبغوتا، وأمر بعض أشياعه بأن يحتال له في إظهار هذه المقالة، وضم إليه قوما من الرجال القالة، فأتى ذلك الداعي الشيطان الرجيم، وأمر بأن يكتب: (بسم الله الحاكم الرحمن الرحيم) ، وجرى في هذا من الفتن ما ذهبت به نفائس ونفوس، وانتهبت به أموال ورؤوس، ودارت به دوائر سعود ونحوس، وأماير نعيم وبؤس، مما هو ملء التواريخ، وتتضع له غرّ الذرى الشماريخ، تبارك الله وتعالى جده، ولا إله غيره، وتقدس اسمه عما يقول الظالمون، ويجهل الجهال، أو يزل العالمون، ثم لما عظم البلاء به، فتفاقم وسقم به الملك أو تساقم، خافت أخته أمة العزيز المعروفة بست الملك، أن يقفر منهم دست الملك، فتلطفت في تلك الحيلة، وأكمنت له رجالا حتى قتلته غيلة، وكان قد خرج في بعض مخارجه، وتعرض في نواحي حلوان، وطلب جهة برّ لا يأنس بها آنس ولا غيره من الحيوان، ثم طالت غيبته، وخالف عادته في ملاقاته، في الوقت الذي كان يوقته، فتعهد المكان الذي واعد فيه للملتقى، وتفقّد ففقد إلى يوم اللقا، ووجد هناك حماره وجبابه مزررة، كأنها عليه وما فكّت أزراره، إلا أن فيها آثار ضربات بالسكاكين، ولا عليها دم ولا [ص 56] آثار لوث يبين، فقال الناس مات، وقال أهل شيعته غاب وهو آئب. قلت: وإلى يومنا هذا، وأظن إلى يوم النشور، ثمّ من يقول بغيبة

الحاكم، وإنه لابد أن يرجع ويكون له ظهور، وفيما بين البقاع وبيروت أمم تدين بهذا الدين، وتعتقد ألوهية ذاك اللعين، وكان الحاكم كريما سفاكا، لا يمنع مورده عن الظماء، ولا مهده عن الدماء، لكنه في جميع أموره ثارات، ومرة في اختلاف الأحوال ينفذ فيها العبادات، وولد بمصر في ليلة الخميس الثامن والعشرين من ربيع الأول سنة خمس وسبعين وثلاث مائة، وولي بعهد من أبيه، وبويع يوم الخميس سلخ رمضان سنة ست وثمانين وثلاث مائة، وله أحد عشر سنة، وكانت خلافته إلى أن فقد خمسا وعشرين سنة. قال صاحب بلغة الظرفاء: وسبب عدمه أنه خرج في ليلة الاثنين السابع والعشرين من شوال، بعد أن طاف ليلته كلها على رسمه، وأصبح عند قبر الفقّاعي، ثم توجه إلى شرقي حلوان، ومعه ركابيان، فأعاد أحدهما مع تسعة من العرب السويديين، وأمر لهم بجائزة، ثم أعاد الركابي الآخر، ولما عاد ذكر أنه خلفه عند القبر والمقصبة، وبقي الناس على رسمهم يخرجون يلتمسون رجوعه بدواب الموكب كل يوم خميس، إلى سلخ الشهر المذكور، ثم خرج يوم الأحد ثاني ذي القعدة مظفر صاحب المظلة، وحظي الصقلبي، ونسيم متولي السير، وابن سبكتكين التركي صاحب الرمح، وماضي القرشي، مع جماعة كلهم من خواص دولته، فبلغوا دير القصير، والموضع المعروف بنسيوان؟ ثم أمعنوا في الدخول في الجبل، فبينما هم كذلك، إذ بصروا بالحمار الذي كان راكبه على قرنة الجبل، وقد ضربت يداه بالسيف، فأثر فيهما، وعليه سرجه ولجامه، فتتبّع الأثر، فاذا أثر الحمار في الأرض، وأثر راجل خلفه، وراجل قدامه، فما برحوا في طلب الأثر إلى أن انتهوا إلى البركة التي في شرقي حلوان، فنزلها [ص 57] راجل من الرجالة، فوجد فيها ثيابه، وهي سبع جبب، وجدت مزررة لم تحل، وفيها أثر السكاكين، فأخذها ماضي وجاء بها إلى القصر، فلم يشك في قتله.

37 - الظاهر بإعزاز دين الله

قلت: وقد قيل إن أخته لما خافت على ذهاب الملك لاختلال الأحوال به رتبت له رجالا تقتله، ثم رتبت رجالا لتقتل قتلته، ثم رتبت رجالا لتقتل قتلته، هكذا سبعة أدوار، لتخفي قتله فخفي، [وكانت] امرأة حصيفة وافرة العقل، رأت الهلاك في الأعضاء، فقطعت عضوا لحفظ سائر الأعضاء. ثم ابنه: 37- الظّاهر بإعزاز دين الله أبو الحسن علي «1» ، وكان صغيرا، قدّمته عمّته، ورأت أن تحفظ لأبيه نعمته، فبدأت به قبل كبار بيته، ورعت للحي حق ميته، ثم كان له الاسم، ولها التصرف الوافر القسم، وكانت ذات رأي سؤوس «2» وحفظ لما تدبر وتسوس، فقامت قيام أردشير، ونهضت نهوض خاقان صاحب السرير، وأفكرت فكر بلقيس، وفعلت ما يعجز عنه إبليس، حتى مشت الأمور، ومرت أخلاف «3» الدهور، ثم كان الظاهر من ذوي السياسات المحمودة، والرياسات المشهودة، والمنافسات على الهمم التي أفنت ماله، وأبقت جوده.

قال مؤلف الكنوز: كان حسن السيرة، كريم النفس، إلا أنه يخلي بلدانه، وولي وهو يحاكي البدر صورة، وكانت الأمور أولا بيد عمّته ست الملك، وهي التي عدلت بالخلافة إليه عن ولي العهد أبي هاشم العباس بن داود بن المهدي، وجىء إليه بأبي هاشم، فبايع والسيف على رأسه، ثم حبس وكان آخر العهد به، وكان يشار بالخلافة إلى عبد الرحيم بن الياس بن أحمد بن المهدي، فأدخل عليه الشهود وهو يتشحط في دمائه، فأشهد عليه أنه فعل ذلك بنفسه، ثم قضى نحبه، واستند ابن دواس «1» وعمار بن محمد الوزير «2» ، وهما عن رأي ست الملك، حتى خرج من القصر خصي بسيف مسلول، فدعا بوجوه الدولة، والوزير

38 - المستنصر بالله

قاعد، وابن [ص 58] دواس، إلى أن جاء فقال: أمر مولانا أن يقتل بهذا السيف قاتل مولانا الحاكم، فنادوه بالسمع والطاعة، ثم صبّه علي بن دواس فلم يختلف فيه اثنان، وتفرّد الوزير بالأمور والخاطر معمور به، ثم استدعي به للعادة وقد رتب له في دهليز القصر من قتله. وتحدث حسن بن موسى الكاتب، والأمر لست الملك، ولسانها ويدها أبو القاسم علي بن أحمد الجرجرائي الأقطع «1» ، داهية الأرض، ثم استقل لما ماتت، وعمّر حتى وزر للمستنصر، وولد بمصر يوم الأربعاء لعشر خلون من رمضان سنة خمس وتسعين وثلاث مائة، وبويع يوم عيد النحر سنة إحدى عشرة وأربع مائة، وله من العمر ثلاثون سنة، وكانت خلافته ست عشرة «2» سنة، قال صاحب بلغة الظرفاء: كانت خمس عشرة سنة «3» [في الأصل: خمسة عشر سنة] وثمانية أشهر إلا أياما. ثم ابنه: 38- المستنصر بالله أبو تميم معد بن الظاهر «4» ، وهو الذي تباينت أحواله وتناوبت أفراحه

وأهواله، وطالت مدته، فكانت ستين سنة، وتنوعت سنين سيئة وسنين حسنة، ولم يسمع بمثلها لخليفة ولا لملك مشهور في هذه الملة، ولا امتدت لأحد ممن كان بعده ولا قبله، وكاد في وقت تملك الأرض كلها، وتكفل البلاد وأهلها، وخطب له ببغداذ، وكان نصيبه إرقال وأغذاذ، حتى كان يعدّ مع الاسكندر، ويحسب أنّه تبّع حمير، ثم ضعف أمره حتى كاد لا تطيعه أمته، ولا تجاب برجع الصدى كلمته، وكان كالطيف له وجود ولا حقيقة له، وكالعدم هو شىء وما قدر أحد أن يمثله، ولما ملّكت له بغداد، ونسخ براياته البياض السواد، قال أبو دلف الخزرجي: دار السلام مشاء بدعوة ابن الرسول ... جاء النهار وولّى ظلام تلك الذحول ما إن رأيت خضابا جماله في النصول ... نور من الله وافى يهدى لكل جهول وجاءه الحسن بن الصباح القائم بالدعوة الراديّة؟ من خراسان، في زي [ص 59] التجار، ودخل عليه فقرر معه ما يمثل، وقال له في آخر كلامه: ومن ولي عهد المسلمين؟ فقال: ولد في نزار، فمضى ابن الصباح إلى بلاد العجم، وأقام الدعوة التي دامت إلى عصرنا هذا، وقامت بعد ذلك بالشام بقلاع الدعوة. قال ابن سعيد: إنه جاوز في أمد الخلافة ستين سنة، ولم يبلغ هذه المدة خليفة بالمشرق، وكانت له من خزائن الأموال، وعظم الأمر ونفوذه، واتساع

39 - المستعلي

الخطبة وفيضها على أقطار المشرق والمغرب ما يطول ذكره، ثم انعكس عليه ذلك، فاقتنصت البلاد منه واضطرمت الفتن بحضرته بالقاهرة، وافتقر وضعف أمره، وآل حاله إلى أن قال لشخص من خواصه طالبه بشىء: والله لقد أصبحت لا ينفذ لي أمر [من] مكاني إلى باب قصري، ولا أملك مالا إلا ما تراه عليّ وتحتي، ورأيت بخط قاضي القضاة أبي العباس أحمد بن خلكان «1» ، أن المستنصر كان في الغلاء قد صار لا يملك إلا فرسا واحدا، وقنيت دوابه الناس، وكان إذا أراد الركوب استعار بغلة صاحب الإنشاء ليركبها حامل المظلة معه. قال صاحب بلغة الظرفاء: ولد سادس عشر جمادى الآخرة سنة عشرين وأربع مائة، وبويع له في نصف شعبان سنة سبع وعشرين وأربع مائة، وهو في سن التمييز، وتوفي ليلة الخميس الثامن عشر من ذي الحجة سنة سبع وثمانين وأربع مائة، وله من العمر تسع وستون سنة وخمسة أشهر. ثم ابنه: 39- المستعليّ أبو القاسم أحمد «2» ، وهو قد كان مستعليا ببذل نشبه، لا بأصل نسبه،

40 - الآمر بأحكام الله

قيل: إنه دعيّ في أولئك الأدعياء، ومدخول النسب في أولئك الأشقياء، قيل في أمّه قولا، وإن كان لا يصرّح بمثله، ولا يلوّح به، إلا ليتحرز من قبح فعله، وكان الحجر عليه مضروبا، وليس بيتيم ولا سفيه ومضرورا، وله من الملك محق ما يكفيه، لكنه لغلبة الوزراء وعزل بصيرته في دفع الضراء، وولد في العشرين من المحرم سنة سبع وستين [ص 60] ، سنة كأنما كانت بأنواع الضوائق مئين. ثم ابنه: 40- الآمر بأحكام الله أبو علي المنصور «1» ولي وهو ابن خمس، وبويع وما أنزل أبوه الرمس، وقام

بدولته الأفضل ابن أمير الجيوش «1» وزير أبيه، وكان هو وزيره والذي يربيه، وكان أبا برا، إلا أنه أبى أن يفك عنه حجرا، ولم يزل يربيه على الشهامة، ويرتبه ترتيب الإمامة، إلى أن اشتدت ساعده، فرماه وأصابه من حيث لا يرى فأصماه، وكان الآمر أسمر «2» شديد السمرة، شهما لا تخمد له جمرة، عليّ الهمة، بليّ العزمة، لا يبعد عليه منال، مهما رام نال، وكان الأفضل مدة وزارته له، قد عامل الرعية بإحسان، وأبرز أيامه فيما يروق من الاستحسان، وكان من قلوب الرعايا بمحل، ما ثوى في غيره ولا حل، فلما مات وجدت لفقده، وجدّت في البكاء عليه والوقوف على لحده، وخلف من خزائن الأموال المملوءة ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة، وكذلك وجد له من الجواري وحلى النساء، ما لو كوشف به الليل لمحا آية المساء، ويحكى من حسن اهتمامه بعمارة الأرض وتغليقها، ببذل البذار وتنميقها، بما لا يزال ولاة الأعمال منه على جانب الحذار، أنه استجلب أردبين قمحا غرائب الزريعة، أراد أن يجعلهما للاختبار الذريعة، فأخرهما حتى فرغ أوان الزرع، ولم يبق لمحراث في الأرض قرع، ثم بعث بالأردبين أحدهما إلى الصعيد، والثاني إلى أسفل مصر، وكتب إلى والي كل عمل منهما، بأن يبذر إردبّه ويستكمل زرعه، ولا يؤخر منه حبة، فأجابه أحدهما بأنه قد فعل، وأجابه الآخر بأنه اجتهد على تحصيل أرض فارغة لبذارها فما حصل، فعرف اهتمام الأول بتغليق عمله، وإهمال الثاني، حتى

وجد لذلك الأردب مكانا من معطله، فأنعم على الأول وشكره، وقبض على الثاني وسمّره، ثم لما مات وزّر الآمر المأمون بن البطائحي، وأقامه وفوّض إليه الزعامة، وكان هو المتقلد [ص 61] بالتفويض، وبه نجز الأمر يزجر ويغيض، وهو يراجع في الأمر الآمر، ويرجع إلى ما يأمر به ويستأمر، والآمر يركب وينزل ويتصيّد، ويتخلّى عن موضعه ويتفرّد، وكان يتحدث في أمور ما يكون، وما يتجدد من الحركات والسكون، وحكى بعض من كان له به اجتماع، أنه أراه كتابا فيه صور مصورة، ومنيّات مختلفة، وفيها صورته قد قتل وهو على فرس أشهب، وألقي إلى جانب جسر أكهب «1» ، ثم قال لي أتعرف هذه الصورة؟ فقلت: لا، فقال: بل تعرف هذه الصورة، وما أظنه إلا وقد آن الوقت، فما مضت سنة حتى رأيت الآمر راكبا بالجيزة على فرس أشهب مارّا مع الجسر كأنه ذلك المصور ثم تفرد، وانقطع عنه الموكب، فخرج عليه جماعة رجال في سلاح كانوا قد اتّعدوا على قتله، فرقبوه حتى تفرد عنه جسر الجيزة وقطعوه بأسيافهم. قال الحاكي: فجئت حتى كنت فيمن وقف عليه على تلك الصورة، ما أخطأ منها شيئا، وحكي أن الآمر بينا هو في موكبه قبلي بركة الحبش «2» ، إذ تقدّمهم، فمرّ رجل على باب بستان له، وحوله عبيد وموال له، فاستسقاه ماء، فسقاه، فلما شرب قال: يا أمير المؤمنين، قد أطمعتني في السؤال، فان رأى أن يكرمني بنزوله لأضيفه، فقال: ويحك، معي الموكب، فقال: وليكن يا أمير المؤمنين، فنزل فأخرج الرجل مائة بساط، ومائة نطع، ومائة وسادة وفرشها، فصارت مدّ البصر، ثم أخرج مائة طبق بوارد، ومائة طبق فاكهة، ومائة جام

حلوى، ومائة زبدية أشربة سكرية كلها، فبهت الآمر، ثم قال له: أيها الرجل خبرك عجيب، فهل علمت بهذا فأعددت له؟ فقال: لا والله يا أمير المؤمنين، وإنما أنا رجل تاجر من رعيتك، لي مائة حظية، فلما أكرمني أمير المؤمنين بنزوله عندي أخذت من كل واحدة شيئا من فرشها، ورأيت أكلها وشربها [ص 62] ولكل واحدة في كل يوم طبق طعام، وطبق بوارد، وطبق فاكهة، وجام حلوى، وزبدية شراب، فسجد الآمر شكرا وقال: الحمد لله الذي في رعايانا من يسع حاله هذا، ثم أمر له بما في بيت المال من الدراهم، ضرب تلك السنة، فكان ثلاثة آلاف ألف وسبع مائة ألف درهم، ثم لم يركب حتى أحضرها فأعطاها للرجل، وقال له: استعن بهذه على حالك ومروأتك، ثم ركب وانصرف. ومن الكنوز قال: وحكاياته مع البدوية التي عشقها وتزوج بها عند أهل مصر شبيهة بالخراف، قال ابن الفوطي: هي العالية، وكانت قد وصفت للآمر، فتزيّا بزي العرب حتى رآها، ثم أرسل لها خاطبا لها إلى أهلها وتزوج بها، فلما وصلت إليه صعب عليها فراق البرّ، فبنى لها بالجزيرة البناء المعروف بالهودج، وكانت متعلقة الخاطر بابن عم لها ربيت معه يعرف بابن ميّاح، فكتبت إليه: [الرمل] يا بن ميّاح إليك المشتكى ... من مليك بعدكم قد ملكا كنت في حبّي مطاعا آمرا ... نائلا ما شئت منكم مدركا فأنا الآن بقصر موصد ... لا أرى إلا حبيسا ممسكا كم تثنينا بأغصان اللوي ... حيث لا يخشى علينا دركا وتلاعبنا برملات الحمي ... حيثما شاء طليق سلكا

41 - الحافظ لدين الله

فكتب إليها: [الرمل] بنت عمرو والتي عذبتها ... بالهوى حتى علا واحتنكا بحت بالشكوى وعندي ضعفها ... لو غدا ينفع منا المشتكى مالك الأمر إليه يشتكى ... هالك وهو الذي قد أهلكا شأن داود غدا في عصرنا ... مبديا يا ليته قد ملكا فبلغت الآمر، فقال: لولا أنه أساء الأدب في البيت الرابع [ص 63] لرددتها إلى حيّها وزوجتها به. وولد الآمر يوم الثلاثاء ثالث عشر المحرم سنة تسعين وأربع مائة، وقتل يوم الثلاثاء ثالث ذي القعدة سنة أربع وعشرين وخمس مائة، وله من العمر أربع وثلاثون سنة، وكانت خلافته تسعا وعشرين سنة، ولم يعقب. ثم ابن عمه: 41- الحافظ لدين الله أبو الميمون عبد المجيد «1» بن أبي القاسم محمد بن المستنصر معد، وأبوه لم

ينل، وعلى كاهل المنبر لم يعتل، وبويع له في اليوم الذي مات فيه الآمر بولاية العهد، ولم يصرح له بالخلافة ليروا رأيهم فيما بعد، واستولى على ملكه أبو علي أحمد بن الأفضل أمير الجيوش، وارتقى منه مرتقى عليّا، وكان إماميا لا إسماعيليا، فأسقط اسم الحافظ عن المنابر ودعا لأئمة الإمامية والمهدي المنتظر، وأرى الإسماعيلية الموت وكل سرب محتضر، ثم تقدم إلى المؤذنين بأن لا يذكر أحد آل إسماعيل في الأذان، ويبطلوا ما كان زاد فيه من قولهم: محمد وعلي خير البشر، ثم قتل أحمد بن الأفضل ورجع الأمر إلى الحافظ، وسلّم الملك منه إلى الحافظ، وبويع البيعة العامة، وصرح باسم الخلافة، ولقّب ذلك اليوم بالحافظ، وسلّم عليه بإمرة المؤمنين، وهو أول يوم لقب بهذا اللقب، وسلم عليه ذلك السلام، وأنجز له منه أمله المرتقب، وكان الحافظ لا قدر عنده لمال، ولا صدر بعض بآمال، لأنه كان يسابق بداية الأمل، فبدأ به على كل عمل بما نقل له كل كثير المواهب، ويصغر كبير النعم الذواهب، ولما استقل أعاد الدعوة الإسماعيلية، وشد حبلها المنتكث، وقوي سم أفعوانها المنبعث، وأزال دعوة الإمامية وما طيب سميه إلا بسميه. ومن الكنوز قال: كان موصوفا بالبطش والتيقظ حتى إنه سطا على ولده وولي عهده، قال: وللشعراء [ص 64] فيه أمداح فيها غلو لا يحل سماعه، ولا روايته، وكان لهم نفاق «1» في مدته، وجعل لهم صناعا ورواتب، وأنزلهم في مراتب على قدر أقدارهم. قال القوطي: كان شديد المنافسة لا يريد لأحد فعلا غيره، كان وهم بما رده الله دونه من نقل ساكن المدينة الشريفة زادها الله به تشريفا، فخسف الله بمن جهّز لذلك في سرابهم «2» الذي حفروه، وقيل بل

42 - الظافر بأمر الله

هلكوا بريح خرجت عليهم، وأنشد أمثلة مما قيل فيه أكثرها لأبي الحسن الأخفش المغربي وأقربها قوله: [الرمل] فترى الناس جميعا خلقوا ... من ضلال وهو من نور الهدى فادخلوا الباب وقولوا حطّة ... سمع الله لمن قد حمدا وولد في سنة سبع وستين وأربع مائة، ومات في نصف جمادى الآخرة سنة ثلاث، وقيل أربع وأربعين وخمس مائة، وكان في سنة موته قد بلغ النيل في زيادته الباب الحديد، فطولع بذلك، فقال: أعدوا لي الأكفان، ثم أخرج كتابا عنده من كتب الحدثان فيه: إذا وصل الماء إلى الباب الحديد فليتجهّز إلى الله الإمام عبد المجيد، وكان الأمر هكذا، لم يلبث أن مات. ثم ابنه: 42- الظّافر بأمر الله أبو الطاهر إسماعيل «1» ، وكنّاه مؤلف الكنوز أبا منصور، وهكذا كناه الجليس في شعر ذكره فيه، وكان في ميعة الشباب مغرى بمتعة الشباب، مولعا بحب الأحداث، وموضعا لا يبالي بغرة الأحداث، ووزر له علي بن السلار،

وحمله أوق أثقاله «1» ، وقلده طرق أعماله، وسوّغه فوق ما في احتماله، ثم قتله على يد ابن امرأته عباس بن تميم الصنهاجي واستبدله عوضه، وألقى إليه أمر الملك وفوّضه، ثم كلف الظافر بابن وزيره وشغف به شغفا حل في شغاف ضميره، فكان لا يرى السرور إلا في مداناته، ولا الراحة إلا في الوجد به ومعاناته، ثم حفر سرابا «2» [ص 65] بين داريهما، وكانا فيه يلتقيان ويفعلان وما يبقيان، وشاع خبرهما، وبقي الوزير منكس الرأس لا يرفع طرفا حياء، ولا يجد الدنيا عليه إلا ظلاما لا ضياء، فأعمل في اغتياله الحيل، وأسرع إليه، وما طالت به الطّيل، وتوصل إليه بابنه فقتله، واتخذ ذلك السراب موضع دفنه. ومن الكنوز: إنه لما تم لعباس الأمر في قتل الظافر ركب القصور وقال: بلغني أن أخوي الظافر يوسف وجبريل، وابن أخيه أبا البقاء بن حسن بن الحافظ قتلوه بمواطأة مفلح زمام القصر، ثم أحضرهم وضرب أعناقهم، وحمل من القصر ما أراد، ولم يخف عن الناس أنها من فعلاته، وصنعت المراثي فيهم واستنجد بابن رزّيك وهو يمنيه ابن خصيب، وممن كتب إليه في هذا الجليس بن الحباب. وحكي أن عباسا جلس للمنادمة، فلما أخذت الكأس منه قال: تبّا لمن يعتقد إمامة هؤلاء، ويقول إنه لا يكون إمام إلا بوصية، والله لقد قتلت الظافر ولا علم عنده بذلك حتى يوصي، ولقد استعرضت أقاربه كالغنم إهانة وذبحا، وقدمت هذا الملقب بالفائز وعمره خمس سنين، وعلى يدينا ذهبت دولتهم بالمغرب، وكذلك تذهب بالمشرق، فقتله الله وقتل ولده بالظافر، وكان قتله في نصف المحرم سنة تسع وأربعين وخمس مائة، ومدة خلافته خمس سنين وستة أشهر وأيام.

43 - الفائز بنصر الله

ثم ابنه: 43- الفائز بنصر الله أبو القاسم عيسى «1» وكان لا يخب إلى غاية قلوصا ولا عنسا «2» ، لا يخرج به ولا يوسى، ولا يزجر بطير سعودا ولا نحوسا، وبويع بعد أبيه، فطلب الوزير عباس بن تميم قاتله وسن شفاره، وقصد مقاتله فهرب قدّامه، فقتله الفرنج وطلب النجاة، فلم ينج، واستوزر الفائز أبا الغارات طلائع بن رزيّك «3» ، وخاطبه بالتمليك، وسمّاه الملك الصالح، وأنزله منه بمكانة لا يؤثر فيها قدح

القادح [ص 66] ، وكان له اسم الملك، وهو المالك الحائز، وله لا لأمرة الأمر الجائز، والغنى والغناء، وسواه العائز، وكان الفائز معه كالظل كيف ما مشى يتبعه، وكالجليس مهما قال يسمعه، أطوع له من الشراك، وأسرع من فيه الظبى في الأشراك، وكان ابن رزيك من أجل وزراء تلك الدولة، وأسبغهم إنعاما، لا يقصّر طوله، وكان عارفا بالأدب، مكرما لأهله، منعما عليهم بفائض سجله، وله شعر لا يؤخر جواد قريحته، ولا يشم دخان الند «1» إلا من ريحته، ولا تتفجر المعاني إلا من فجر صبيحته، ولا تصاب المفاصل إلا بصقال صفيحته «2» ، ووفد في زمانه الفقيه عمارة اليمني «3» ، ونوّله ما يرتجيه من غاية الأماني، وفيه يقول: [الطويل] دعوا كل برق شمتم غير بارق ... يلوح على الفسطاط بارق نشره وزوروا المقام الصالحي فكلّ من ... على الأرض ينسى ذكره عند ذكره ولا تجعلوا مقصودكم طلب الغنى ... فتحنو على مجد المقام وفخره

ولكن سلوا منه العلى تظفروا بها ... فكلّ امرئ يرجى على قدر قدره وأراده الصالح على الدخول في مذهبهم للدخول، وراوده من يلزمه به أن يقول، وكتب إليه: [الكامل] قل للفقيه عمارة يا خير من ... أضحى يؤلّف خطبة وخطابا أقبل إلينا لا تحد عن هدينا ... قل حطّة وادخل علينا البابا «1» تجد الأئمّة شافعين ولا تجد ... إلا لدينا سنّة وكتابا وعليّ أن يعلو محلّك في الورى ... وإذا شفعت إليّ كنت مجابا وتعجّل الآلاف وهي ثلاثة ... ذهب وحقّك لا تعدّ ثوابا وكان الفقيه عمارة شافعي المذهب، لا يحول عنه ولا يذهب، فكتب إليه ما يدلّ على حسن معتقده، ونفض ذلك الزخرف من يده: [الكامل] يا خير أملاك الزمان نصابا ... حاشاك من هذا الخطاب خطابا [ص 67] لكن إذا ما أخربت علماؤكم ... معمور معتقدي فصار خرابا فاشدد يديك على قديم مودّتي ... وامنن عليّ وسدّ هذا البابا فسكت عنه لسان إكراهه، وسكن مثل هذا القول وأشباهه، وبقي عمارة أدنى جليس إلى رتبهم، وأنيس على مباينته لمذهبهم، وأتى يوما إلى حضرة الصالح بن رزيّك فأسدى إليه صنيعا قبّل به يده، ثم خرج فرأى ممّن يؤمله من قبّل ومجّده، فقال:

44 - العاضد لدين الله

[الكامل] ملك إذا قابلت نور جبينه ... فارقته والنور فوق جبيني وإذا لثمت يمينه وخرجت من ... أبوابه لثم الملوك يميني ولمّا طال بعمارة العمر، وذاق طعم عيشها المر، رثى بني رزيّك بمراث عوتب عليها، فقال إيها وأنشد: [البسيط] زالت ليالي بني رزيك وانصرمت ... والحمد والذمّ فيها غير منصرم كان صالحهم يوما وعاد لهم ... في صدر ذا الدست لم يقعد ولم يقم ولم يكونوا عدوا لان جانبهم ... وإنما غرقوا في سيلك العرم فلو فتحت فمي يوما بذمهم ... لم يرض برّك إلا أن تسدّ فمي ولو ذكرت لياليهم ونضرتها ... وحسنها لم يكن بالدهر من قدم ثم ابن عمّه: 44- العاضد لدين الله أبو محمد عبد الله بن يوسف «1» ابن الحافظ عبد المجيد، بويع له بعد الفائز سنة خمس وخمسين وخمس مائة، ولم يك أبوه [في] الخلافة، ولا دارت في

جلده، ولا كان يظنها تصل إليه ولا إلى ولده، وبايعه الناس وهو طفل لا قدر عليه ولا كفل، وقام بأمره الصالح طلائع، وقرر له المصالح الروائع، ودام على مراعاة حاله ونهايته في التدبير نهاية العمل عليه في التدمير، وقيل إن العاضد لما فعل كان كالمتعاضد «1» حتى أكمنت له المنايا كمون الشجاع، ووثبت له وثبة الأسد المفترس إذا جاع، وغالته [ص 68] حيث لا يقدر على الارتجاع، ولا يقتدر على الانتجاع، ولبدت له في دهليز قصره، وفي موضع حصره، فقتل في الدهليز، وقيل: من أين أتي في هذا الكنف الحريز، وما أتي إلا من ذلك الكنف، ولا لحقه لولا تلك الحياة التلف، ولا خطّ طائره إلا من موضع أسف، وأظهر عليه العاضد الأسف، وكمدوا لبدره كيف انخسف، ثم استوزر العاضد ابنه رزيك بن طلائع «2» ، ولقّبه بالملك العادل، وقال: هذا لهذا يعادل، ثم قتل رزيك بعد سنتين، وكان هو وأبوه بالنسبة إلى ملوكهما حسنتين لا سيئتين فإنهما كانا ممن يتوسع في العطايا، ويترفع عن المؤاخذة بالخطايا، وكان قتله بأيدي العرب لما أخرجه شاور قريبا من القاهرة، وأسف العاضد عليه، وخاف أن يتكلم إن تكلّم، فوزّر شاور «3» ولقّب أمير الجيوش، وكان داهية ثلّالا للعروش،

فلّالا للعزائم ولم يخل الفروش، قلّابا للدول غلّابا على الملوك والخول، إلا أنه كان قصير الباع في الدفاع، حقير الرباع في اليفاع، لكنه كان ذا كيد ينصب أشراكه، ويلقي له عمامته وشراكه، لم يخف نقيصة تنسب إليه فيما فعل، ولا فيما وضع له نفسه وجعل، ومدحه عمارة على كرهه له ولأيامه، وأنفته منه ومن أنعامه، ولكنه خافه فداراه، وكان يود ألا يراه وما تراه، ومما قال فيه: [الكامل] ضجر الجديد من الحديد وشاور ... في نصر دين محمد لم يضجر هانت عليه النفس حتي إنه ... باع الحياة فلم يجد من يشتري حلف الزمان ليأتينّ بمثله ... حنثت يمينك يا زمان فكفّر وكان بعد ذلك في تقريب عمارة، ويخصه بمحل القرب والإشارة، ثم غلب ضرغام بن سور على الوزارة وابتزها وقطع دونها غلاصم المطامع واحتزّها، وأخرج شاور من القاهرة يتعثر بأذياله ويتخيّر [ص 69] طريق احتياله، ولقب ضرغام بالملك المنصور، وكتب له السجل الأشرف المنشور، ووجّه شاور وجهه إلى الحضرة النورية، فوفد عليها وفادة حسان «1» على أهل جلّق، ورأى نورها رؤية الحطيئة لنار الملحق «2» ، ثم خرج في الصحب الأسدية الشير كوهية إلى

مصر، وخرج ضرغام وتلاقيا على بلبيس «1» وأجلت الوقعة عن قتل ضرغام وانتصار الأسد الهمام، وانهزم جيش ضرغام إلى القاهرة، ودخل شاور القصر ووزر الوزارة الآخرة، وذلك في جمادى الآخرة سنة تسع وخمسين وخمس مائة، ونكث عهود شيركوه ومواثقه وساسي تجشمه المشقة وطريقه، ثم خاف شاور فراسل الفرنج مستنصرا، فجاءه الملك مري في خلق كبير، فتحصن شيركوه في قلعة بلبيس، واجتمع شاور ومري عليه، وأحدق به العدو وحصره، وأنجز الله وعده وأيد شيركوه «2» ونصره، وخرج سالما إلى دمشق، ثم لم يعلم به حتى وصل إلى إطفيح «3» وعدّى إلى الجيزة، وأقام بها مدة وأنفذ شاور إلى مري واستصرخه، وملأ زقه الفارغ ونفخه، وبذل له مالا عظيما ووعده بمشاطرة

البلاد، فحمى لأجله ووافاه بخيله ورجله، ثم عدّى إلى الجيزة واندفع شيركوه إلى الصعيد «1» فلحقوه في الناس قريب منية ابن خصيب، ووقف لهم شيركوه وواقفهم، فانكسر شاور والفرنج، وأخذ صاحب قيسارية أسيرا، ووصل إلى شاور بالفرنج إلى القاهرة مهزومين، وسار شيركوه إلى الاسكندرية فدخلها وأقام بها مدة، وسمع بها شاور والملك مري، فجيّشوا جيوشا عظيمة وأتوا الإسكندرية في طلبه، فنزل بها ابن أخيه صلاح الدين في شرذمة قليلة وأصعد هو وعسكره إلى الصعيد، فجبى منه مالا جليلا، وأقام شاور على الإسكندرية خمسة وسبعين يوما، ثم رجع شيركوه حتى نزل على [ص 70] القاهرة ونازلها، وضيق على من فيها، فصالحوه على أنه يرتفع عنها، ويرتفع شاور عن الإسكندرية، ثم خرج صلاح الدين واجتمع بعمه شيركوه، وأتى شاور القاهرة وأقام مدة فوافاه الملك الرومي صاحب الشام والسبتار في جمع عظيم، فنزلوا على بلبيس وفتحوها عنوة وقتلوا رجالها وعجلوا آجالها، وسبوا نساءها وأطفالها، وأبكوها بكاء التوجع والتوعج فعدت آمالها، وسمع شاور فخرج إلى مصر وأحرقها ونهبها، ونكر محاسنها وأذهبها، وترك الرومي على القاهرة وعوّل على فتحها، ثم عدل على صلحها، فبذل له أهلها مائتي ألف دينار، فما قنع بها، وطلب ألفي ألف، فرأى العاضد ووجوه دولته أن يستعينوا بشيركوه، فأتى هو وجيوشه العاضد وأدركوه وراسلوا نور الدين فأمدهم بجيوش ما سمعوا بخبرها، حتى رأوا طلائع عسكرها، فلما سمع به الفرنج ارتحلوا لا يلوون على شىء، ودخل شيركوه القاهرة، وخلع عليه العاضد خلعا سنية، وأضافه ضيافة تامة، وأقام له الأتراك، ونزل بظاهر القاهرة، ثم كان شاور يتردد إليه، فخرج إليه يوما مسلما فأوقع به صلاح الدين ومن معه، وقتل ابنه شجاع الملقب بالكامل، وكان خيرا

من أبيه يأمره بالخير، وأشار عليه ألا يستنجد بالفرنج، فقال: دعني من رأيك فإنني أخاف ألا أملك، فقال له: أن تهلك وأنت وحدك خير من أن تهلك أهل مصر كلهم، وكذلك قتل ابنه احرطي الملقب بالمعظم، وأخوه فارس المسلمين، وطيف برءوسهم على الرماح، وخلع على شيركوه بالوزارة في سابع عشر جمادى الأولى سنة أربع وستين وخمس مائة، وتوفي يوم الأحد الثالث والعشرين من رجب منها، ثم وزر بعده صلاح الدين يوسف، ثم قطع خطبة [ص 71] العاضد بعدها، وخطب للمستضىء، ولم يعش العاضد بعدها إلا أياما يسيرة ثم مات، ومشى صلاح الدين وعليه طيلسان وعمامة في الجنازة، وقعد للعزاء وبكى بكاء لم يشف به الحزازة، فانه ندم على ما كان من خلع رداء تلك الدولة خوفا من نور الدين لا يقصده ويطلب ما يحتج به فلا يجد ما كان يجد بالعبيديين من الحجة في ملاواته «1» والتستر بهم من سهام مناواته، ثم كان يقول: لو علمت بسرعة أجله ما روعته بالخلع، واختلف في موته، فقيل: إنه علم بالخلع فسمّ نفسه، والجمهور على أنه كان عليلا وأخنى عنه ضر الخلع، ومات حتف أنفه، وأخذ أهل القصر وحبسوا، وفرّق بين الرجال والنساء قطعا لنسلهم واجثاثا «2» لشجرتهم الخبيثة من أصلهم، وكانت مدة ملكهم منذ فتحوا مصر إلى أن خلع العاضد مائتين وخمس عشرة سنة، وكان صلاح الدين يشكر العاضد ويصف كرمه ويقول: استمددته بمال لسداد دمياط فأمدني بألف ألف دينار من العين والعروض، وكان لا يزال يتذكره ويتندم على فعله، حيث لا يمكنه استدراك الفارط، ولا يقدر على استرجاع الفائت، ومرّ عمارة بالقصر «3» فرآه خاوي الأركان خالي الأقطار من السكان، وكان يعهده لسجود

الجباه قبلا، ولعقود الشفاه ينظم قبلا، وتذكر سالف إحسانهم، وتبصر طائف طيف زمانهم، فما ملك عبرته ولا مل حسرته، وقال: [البسيط] رميت يا دهر كفّ المجد بالشلل ... وجيده بعد حسن الحلي بالعطل سقيت في منهج الرأي العثور فإن ... قدرت من عثرات الدهر فاستقل خدعت مارنك الأقنى بأنفك لا ... ينفك ما بين أمر الشين والخجل [ص 72] هدمت قاعدة المعروف عن عجل ... سقيت مهلا أما تمشي على مهل «1» لهفي ولهف بني الأملاك قاطبة ... على فجيعتها في أكرم الدول قدمت مصر فأولتني خلائفها ... من المكارم وما أربى على أملي قوم عرفت بهم كسب الألوف ومن ... تمامها أنّها جادت ولم أسل وكنت من وزراء الدست حيث سما ... رأس الحصان بهاديه على الكفل ونلت من عظماء الجيش مكرمة ... وخلّة حرست من عارض الخلل يا عاذلي في هوى أبناء فاطمة ... لك الملامة إن قصّرت في عذل بالله جز ساحة القصرين وابك معي ... عليهما لا على صفّين والجمل وقل لأهليهما والله ما التحمت ... فيكم جراحي ولا قرحي بمندمل ماذا ترى كانت الإفرنج فاعلة ... في نسل آل أمير المؤمنين علي وقد حصلتم عليها واسم جدكم ... محمّد وأبوكم غير منتحل مررت بالقصر والأركان خالية ... من الوفود وكانت قبلة القبل فملت عنها بوجه خوف منتقد ... من الأعادي ووجه الودّ لم يمل أسبلت من أسفي دمعي غداة خلت ... رحابكم وغدت مهجورة السّبل

أبكي على خضرات من مكارمكم ... حال الزمان عليها وهي لم تحل دار الضيافة كانت أنس وافدكم ... فالآن أوحش من رسم ومن طلل وفطرة الصوم إن أضحت مكارمكم ... تشكو من الدهر حيفا غير محتمل وكسوة الناس في الفصلين قد درست ... ورثّ منها جديد عندهم وبلي وموسم كان في يوم الخليج لكم ... يأتي تجملكم فيه على الجمل وأول العام والعيدين كم لكم ... فيهنّ من وبل جود ليس بالوشل والأرض تهتز في يوم الغدير كما ... تهتزّ ما بين قصريكم من الأسل والخيل تعرض في وشي وفي شبه ... مثل العرائس في حلي وفي حلل وما حملتم قرى الأضياف من سعة ... الأطباق إلّا على الأكتاف والعجل [ص 73] وما خصصتم ببرّ أهل ملّتكم ... حتّى عممتم به الأقصى من الملل كانت رواتبكم للوافدين ولل ... ضيف المقيم وللطاوي من الرسل ثم الطرار بتنّيس التي عظمت ... من الصّلات لأهل الأرض والدول وللجوامع من أخماسكم نعم ... لمن تصدّر في علم وفي عمل وربّما عادت الدنيا فمعقلها ... منكم وأضحت لكم محلولة العقل والله لا فاز يوم الحشر مبغضكم ... ولا نجا من عذاب النار غير ولي ولا سقي الماء من حرّ ومن ظمأ ... من كفّ خير البرايا خاتم الرّسل أئمّتي وهداتي والذخيرة لي ... إذا ارتهنت بما قدّمت من عملي تالله لم أوفهم في المدح حقّهم ... لأنّ فضلهم كالوابل الهطل ولو تضاعفت الأقوال واستبقت ... ما كنت فيهم بحمد الله بالخجل باب النجاة فهم دنيا وآخرة ... وحبّهم فهو أصل الدين والعمل نور الهدى ومصابيح الدجى ومحل ... الغيث إن وثب الأنواء في المحل

أئمّة خلقوا نورا فنورهم ... من نور خالص نور الله لم يغل والله لا زلت عن حبّي لهم أبدا ... ما أخّر الله لي في مدّة الأجل وذكر ابن الأثير أنه لما اشتد مرض العاضد، أرسل إلى صلاح الدين يستدعيه ليوصيه، فظن أن ذلك خديعة، فلم يمض إليه، فلما توفي علم صدقه فندم عليه وعلى تخلفه عنه. وحكى مؤلف الروضتين قال: اجتمع بي الأمير أبو الفتوح ابن العاضد وهو محبوس مقيّد سنة ثمان وعشرين وست مائة، فأخبرني أبو الفتوح قال: إن أبي لما مرض استدعى صلاح الدين فحضر، ثم جمعنا وأحضرنا، يعني أولاده، ونحن صغار، فأوصاه بنا، فأكرم إكرامنا واحترامنا، قال قاضي القضاة جمال الدين محمد بن واصل لما جرى لمؤتمن الخلافة ما جرى، وقيل: وكل صلاح الدين بالقصر قراقوش الأسدي «1» ، وجعله بزمام [ص 74] القصر مقامه، فرتب في القصر، فما كان يدخل إلى القصر شىء ويخرج إلا بمرأى منه ومسمع، فضاق خناق أهل القصر بسببه، فلما مات العاضد، عرض صلاح الدين من بالقصر من الجواري والعبيد، والعدد والآلات، والذخائر النفيسة، فأطلق من ثبتت حريته، ووهب الباقي، وأخلى الدور، وأغلق القصور، وأخذ ما صلح له

ولأهله وأمرائه وخواص مماليكه وأصحابه من نفائس الذخائر والجواهر والملابس، ومن جملة ذلك الدرة اليتيمة والياقوتة الغالية القيمة، والمصوغات العنبر، والأواني الفضية، والصواني الصينية، والمنسوجات المغربية، والممزوجات الذهبية، وغير ذلك مما لم يقع عليه الإحصاء، وأسرف في العطاء والبذل، وأطلق البيع بعد ذلك فيما دون ذلك، واستمر البيع مدة عشر سنين، وكانت خزانة الكتب تزيد على مائة ألف وعشرين ألف مجلدة، وفيها من النفائس التي لا يكاد يوجد مثلها، ومنها ما هو مكتوب بالخطوط المنسوبة التي لا توجد في خزانة أحد من الملوك، فتملك صلاح الدين الأملاك التي كانت لهم، وضربت الألواح على رباعهم ودورهم، ثم ملك بعضها خاصته وأمراؤه، وبعضها أذن ببيعه، ووهب الفاضل من الكتب عن آخرها، وأزال مبسم تلك الأنام، ومحا رسوم تلك البنية، فتكدرت مواردهم المشرعة، وتعفّت آثارهم بالكليّة، إن في ذلك لموعظة وذكرى لأولي الألباب. قال ابن مماتي «1» : ولم تشهد التواريخ بانقضاء دولة كانقضاء دولتهم على حالة سكون وأحمد قضية تكون، قال: واتفقت بعدهم غرائب، فمنها أن بعض أمراء المصريين صار نوّابا على باب داره في خدمة من أعطيت له، وآخر صار أمينا في بعض ما كان في إقطاعه، قال ابن مماتي: وجرى [ص 75] يوما

حديث المصريين في مجلس القاضي الفاضل، فسألته: كم كانت عدتهم في عرض ديوان الجيش لما كان متوليه أيام رزيك بن صالح؟ فقال: كانت أربعين ألف فارس ونيّفا وثلاثين ألف من السودان. وحكى أن الأمير الكبير باركوج اشترى من الديوان السلطاني عدة آدر وخرابات بمصر ليستعين بأنقاضها على عمايره، وكان من جملتها دار كبيرة وصفت له وذكرت عنده، فتوجه إليها، وتسرع الغلمان لإزعاج من فيها، فسمعهم يبكون فسئل عن ذلك، فقيل له: هؤلاء بعض عيال المصريين، فلما أخرجوا من دورهم بالقاهرة آووا إلى هذه الدار، وهم لا يعرفون أين يذهبون إذا خرجوا، فبكى واستدعى بعضهم برفق وأطاب قلوبهم ووهبهم الدار، وكتب لهم خطة بها، وجعلهم على ثقة من التصرف فيها، وما فسح لهم في بيعها أن آثروا الانتفاع بها، وانصرف عنهم معتذرا. وقال ابن مماتي: حدثني الشريف النسابة النقيب أسعد بن الحواتي، قال: سكنت في مصر بدار عتيقة الأشرف، وكانت لي زوجة كنت أبات أنا وإياها في بادهنج بها، فاستيقظت ليلة فقالت: رأيت في النوم قائلا يقول لي: احفروا تحت الطيلسان الرخام الذي تحتكم وخذوا ما تجدونه من المال تنفقوا به، فقد آن ظهوره، فقلت لها أنا رجل فقير، وهؤلاء الأشراف لا يطاقون، وأخاف أن ينكسر الطيلسان في قلعه ولا نصيب شيئا فأتعجل الغرامة، ومنعتها منه بكل حيلة، ثم رأت المنام بعينه مرة أخرى، وجريت على العادة في الامتناع، ثم رأت المنام ثالثا وكأنه يقول لها: أنتم محرومون، وما مضت إلا أيام يسيرة حتى أحرقت مصر، فما شعرت إلا وجماعة كبيرة من السودان قد هجموا الدار وقصدوا البادهنج فقلعوا الطيلسان واستخرجوا من تحته سماوية نحاس يكون فيها قدر مائة ألف [ص 76] دينار فأغمي عليّ وكدت أقتل نفسي غيظا لما فاتني من الغنى، وسألتهم أن يعطوني ولو مائة دينار، فما فعلوا، وخرجوا كأنهم دخلوا دارهم وأخذوا مالهم.

وقال ابن مماتي: ومن غريب ما جرى في حريق مصر أن رجلا عمد إلى برنية «1» صير، فجعل فيها ألف دينار لتسلم من الريب، فما لبث أن هجم الغوغاء عليه بيته، فلم يكن له همّ إلا النجاة بنفسه، فتحامل إلى باب زويلة «2» ، فبينا هو قاعد يستريح، وإذا ببعض من كان هجم عليه ومعه برنية الصير، فاشتراها منه بدر همين، ثم ذهب فاستخرج منها الذهب، وشرى به جميع ما أخذ له، ولم يزل يضارب فيه حتى نما وارتزق به. وقال ابن مماتي: حدثني القاضي الفاضل قال: كان من أهل مصر رجل وله ابنة مستحسنة، فلما أحرقت مصر ونهبت أموال أهلها، خرج إلى البر العربي، وسكن في بعض الضياع، وقعد في حانوت، واتفق لنائب القطع أن رأى الابنة فهويها فتعلق قلبه بها فضيق عليها وتعرض لها، فما ظفر بمقصوده، وخطبها من أبيها فما رضي أن يكون زوجا لها، فتسلط عليه وقصده وآذاه، ولم يزل يدقق عليه الحيل إلى أن كتب عليه وثيقة بعشرة دنانير إلى أجل مسمى، وقدر أنها تتعذر عليه، فجدّ «3» السبيل إلى أخذ البنت، قال: فلما كان في اليوم الذي يجب عليه فيه المبلغ، وقد أيس الرجل من نفسه، وأيقن بالشر، جاء إليه شاب فاشترى منه بدرهم عسلا وانثنى عنه، فسقطت منه خرقة مشدودة، فأخذها وحلها فوجد فيها عشرة دنانير، فأخفاها معه وقال: أخلّص بها نفسي من هذا الظالم، وأجتهد في تحصيل العوض وإيصاله إلى صاحبها، فلما كان غير ساعة حتى حضر إليه الخصم وطالبه، ورفعه إلى القاضي، فأعطاه العشرة دنانير التي وجدها، وأخذ الشهادة عليه بها، وعاد إلى حانوته وقد كفاه الله ما كان

[دولة الحسينيين]

يخشاه [ص 77] من أذاه، فما استقر جالسا حتى جاء إليه الشاب الذي وقعت منه الخرقة، فقال: اجعلني في حل، فإنني كنت اشتريت منك العسل ووقعت مني خرقة فيها عشرة دنانير، فظننت أنك أخذتها، ولما جئت إليك وجدتها الساعة مرمية في طريقي، فعجب الرجل، وحضر الخصم فقال له: اجعلني في حل فقد تبت إلى الله من الظلم والذهب الذي أخذته منك وقع مني لأنه كان حراما، وكنت فيه ظالما، فأقبل الرجل على شكر الله تعالى، وذكره وشاع في أهل الناحية أن الله سبحانه وتعالى أعانه على ما فك به نفسه، ثم أعاده إلى صاحبه، عناية منه به، وكانت وفاة العاضد سنة سبع وستين وخمس مائة. [دولة الحسينيين] 45- ذكر دولة الزّيّديّ القائم بالكوفة وهو أبو عبد الله محمد بن محمد «1» بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أقامه أبو السرايا «2» بالكوفة بعد ابن طباطبا،

وأقامه على منبر الخلافة خاطبا، غلب على الكوفة وسادها، واستوثق له أمر رعيتها وأجنادها، وقام أبو السرايا ينفذ الأمور بأمره، ويعمل لمكايد الحرب جهد فكره، ثم إن الحسن بن سهل «1» لما بلغه هزيمة زهير، وعزيمة أبي السرايا على قذفه بموج الضير، جهز إليه جيشا أمّر عليه عبدوس بن محمد، وأمره بقتاله، فأقبل حتى نزل قرب الكوفة، وزحف إليه أبو السرايا واقتتلوا قتالا شديدا فأسر عبدوس وقتل جميع من كان معه، وأحضر أبو السرايا عبدوس «2» وضرب عنقه،

وملك جميع ما كان معه وفرقه، ثم أقبل أبو السرايا حتى نزل قصر ابن هبيرة، وبث عساكره إلى البصرة وواسط ودخلوها واستباحوهما، فوجه إليه ابن سهل هرثمة بن [ص 78] أعين «1» في جيش عظيم، وبلغ أبا السرايا قدوم هرثمة، فسار بمن معه حتى نزل صرصر «2» ، وجاء هرثمة حتى نزل من العدوة الأخرى والنهر بينهما، وكان علي بن سعيد معسكرا بكلواذا «3» ، فخرج منها ثاني شوال، فقاتل أصحاب أبي السرايا وهزمهم، ورجع أبو السرايا إلى قصر ابن هبيرة، وهرثمة في اتباعه، فأدرك جماعة كثيرة من أصحابه فقتلهم وبعث رؤوسهم إلى الحسن بن سهل، ثم نزل على أبي السرايا بقصر ابن هبيرة فقاتله، وقتل كثيرا من أصحابه، فلما رأى أبو السرايا أنه لا طاقة له بهرثمة، خرج إلى الكوفة فدخلها، وقد كان هذا الزيدي ومن معه من العلويين قد وثبوا على من بالكوفة من العباسيين ومواليهم، فنهبوهم وأحرقوا ديارهم بالنار وجلوهم عن

الكوفة، وأتوا أمورا قبيحة ثم إن أبا السرايا لما دخل الكوفة وجّه حسين الأفطس «1» الآتي ذكره إلى مكة ليقيم للناس الحج، ثم إن ابن هرثمة ناشب أبا السرايا الحرب بقرية شاهي» ، حيث حاربه زهير بن المسيب «3» ، فدارت الهزيمة أول النهار على هرثمة، ثم دارت آخره على أبي السرايا، فقتل أصحابه وفلّ عزمه، ودخل هرثمة الكوفة ليلة الأحد السادسة عشرة من المحرم، ومضى أبو السرايا هاربا إلى القادسية «4» ، ولم يتعرض هرثمة لأهل الكوفة بمكروه، بل أمنهم وأقام بالكوفة يوم الأحد إلى العصر، وخرج إلى عسكره، واستعمل عليها غسان بن الفرج «5» ، فنزل إلى دار أبي السرايا، ثم إن أبا السرايا خرج من

القادسية متوجها إلى واسط، فعبر دجلة أسفل منها ثم توجه إلى السوس فنزل بها، وأقام بها أربعة أيام، وأعطى الجند أرزاقهم، ألف للفارس، وخمس مائة للراجل، فلما كان اليوم الرابع، أتاه من الحسن بن علي المعروف بابن المأموني «1» ، أن اخرج من عملي، فأبى أبو السرايا إلا قتاله، فتقاتلا، فانهزم أبو السرايا واستبيح عسكره، وجرح جراحا كثيرة، ففر يريد رأس العين «2» ، فأخذه حماد الكندغوسي «3» بجلولاء «4» ، وأخذ معه رجلين من أصحابه، أحدهما [ص 79] محمد بن محمد الزيدي «5» ، والآخر رجل يقال له أبو الشرك، وحملهم إلى الحسن بن سهل، فأمر بضرب عنق الزيدي فضربت عنقه بالنهروان «6» يوم

46 - ذكر دولة محمد بن جعفر الصادق

الخميس عاشر ربيع الأول سنة مائتين، فكانت مدته ثمانية أشهر وعشرة أيام، ثم قدم بعده أبو السرايا ليضرب عنقه، فخرج جزعا شديدا، واضطرب اضطرابا عظيما، ثم ضربت عنقه، وبعثت برءوسهما إلى المأمون، وحملت أجسادهما إلى الجسر، فصلبا على الجسر، فكانت أيامه عشرة أشهر. 46- ذكر دولة محمّد بن جعفر الصّادق ابن محمد الباقر «1» علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، ويكنى بأبي عبد الله، بويع بمكة في ربيع الآخر سنة مائتين لما زاد اجتراء الحسين بن الحسن الأفطس بن علي بن الحسين بالناس، وافتراء من حوله من سفالة الأجناس، وكان هذا محمد بن جعفر شيخا صالحا فاضلا عالما، يحدث عن أبيه، وقد روى من منهله، وتضوّأ بكوكبه، وكان قد تأبى وامتنع حتى ألزمه بها بنوه وأهله، ومن ملّ سيرة الجور وغلب عليه ابنه علي، وما كان كأبيه ولا له مثل هديه، وكان حوله من ذوي قرابته من يبعد بينه وبينهم تباين الأخلاق، ثم إن الحسن بن

سهل أغزاه جيشا عليه إسحاق بن موسى «1» ، فخندق محمد بن جعفر على مكة، وحشد الأعراب وقاتلهم إسحاق بن موسى أياما، ثم كره قتالهم، فرحل عائدا إلى العراق، فلقيه ورقاء بن جميل «2» في أصحابه، وأصحاب الجلودي، فقالوا له: ارجع ونحن نكفيك قتالهم، فرجع معهم حتى نزلوا المشاش «3» ، وجمع محمد بن جعفر جمعه، ونهد بهم إلى بئر ميمون «4» ، وتلاقوا، ثم انهزم محمد بن جعفر، وجمع جمعا زحف به إلى المدينة المشرفة، فخرج إليه واليها هارون بن المسيب، فاقتتلوا، فأصيبت عين محمد بن جعفر بنشابة، فكر راجعا إلى مكة، واستأمن إلى [ص 80] واليها عيسى بن زيد الجلودي «5» ابن عم ابن سهل، فأمّنه وصعد المنبر فخلع نفسه وبايع المأمون، ثم خرج الجلودي إلى العراق، فأسلمه إلى الحسن بن سهل، وكان آخر العهد به.

47 - ذكر دولة الزنجي

47- ذكر دولة الزّنجيّ وعزيز عليّ والله أن أذكره في هذا النسب الشريف، وإن كان من شىء في هذا البيت فهو الكنيف، حاشى لله أن يكون هذا الرجس من أولئك، أو يعد فيهم، إلا كما يعد إبليس في الملائك، عجبا لهذه القعدة بالأرض كيف يطول، وكيف يكون هذا الرجس من أهل البيت، والله يقول: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً «1» أما هو فادّعى أنه علي بن محمد «2» بن جعفر بن الحسن بن طاهر بن الحسين بن علي بن أبي طالب، ويكنى أبا الحسن. وقال نسابتهم أنه من ولد العباس بن علي عليه السلام، والصحيح أنه من عبد القيس، ولا يبعد أن يكون من ولد الشيطان الرجيم، وإبليس الأثيم، لفعله الذميم، وعقله السقيم، راصدا لله بكل مرصد، وعقد الخلاف للقرآن في كل مقصد، وأراد مناقضة الإسلام ومناقلة المشرع عليه أفضل الصلاة والسلام، وشبّ لهذه الأمة نارا على كل ثنية، وصب إلى كفران هذه الملة كل عقد ونية، وقعد كالشيطان للدين صراطه المستقيم، واقتحم بأتباعه نار

الجحيم، فله في الدنيا خزي، وله في الآخرة عذاب عظيم، فكبكب فيها هو والغاوون، وجنود إبليس أجمعون، أضل جبلّا كثيرا، وظل للبلايا مثيرا، وأصله من قرية من أعمال الري، ومولده بطبرستان، ثار على المهدي سنة ست وخمسين ومائتين، وكان يرى رأي الأزارقة، ويستبيح الدماء والأموال والفروج، ولا يردّ القتل عن صغير ولا كبير ولا بهيمة، ويرى الذنوب كلها شركا، ويلعن المتشرف بالادعاء إليه عليا عليه السلام، ومعاوية بن أبي سفيان [ص 81] وعائشة أم المؤمنين، وطلحة والزبير، وكل من شهد الجمل «1» وصفين، ويتعدى هذا إلى جميع الصحابة رضي الله عنهم، ثم يتعرض إلى الجناب الشريف زاده الله شرفا، ويتعرض في أمور، وكان أموره وقيامه في اثني عشر رجلا من الزنج، كانوا يعملون في غابة البصرة نفوسهم، وانضاف إليه أهل الفساد، وكان بالبصرة ثلاثون ألف جنان «2» في كل جنان أسود وأسودان وثلاثة وأكثر، فاجتمعوا إليه، فلهذا سمي الزنجي، فتتبع الخلق بالقتل والفتك في الحرمة وافتضاض الأبكار، حتى بلغ القتل مائتي ألف، وخلت الديار من أهلها، وتخفّى من سلم في الآبار والسروب «3» ، وكانوا يخرجون بالليل يطلبون الكلاب والسنانير ليأكلوها، ومن مات منهم أكله أهله، ومن قدر على أحد قتله وأكله، حتى إن امرأة قاربت الموت فاستبطأ أهلها موتها، فقطعوها وأكلوها، فخرجت أختها برأسها تغسله في الفرات، فقيل لها ما هذه الرأس «4» فقالت رأس أختي، أهلي ظلموني لم يعطوني منها إلا هذه الرأس، ومن مثل هذا كثير. قال الشريف الغرناطي: وكانت المرأة الشريفة من ذرية الحسن أو الحسين أو

العباس، ينادى عليها في السوق: هذه فلانة الحسنية أو الحسينية أو العباسية بدرهمين أو ثلاثة، فيشتريها الزنجي برسم النكاح، وكان الزنجي الواحد يكون له من هذه النسيبات نحو العشرة والعشرين والثلاثين، والأقل والأكثر يخدمن الزنجيات، فجهز المعتمد لحربه جيشا كثيفا مع قائد اسمه مفلح، فقاتله قتالا كثيرا، فظهر مفلح عليه، ثم أصاب سهم صدغ مفلح فقتله، ثم جهز المعتمد أخاه الموفق «1» في جيش آخر، فقاتله مرات، وواقفه مواقفا كثيرة، وأصاب الموفق سهم في صدره، فكتمه أياما، وعالجه حتى أخذ في البرء، ثم خرج لمحاربة الزنجي، ولم يزل الموفق إلى أن قتله في صفر سنة سبعين ومائتين، وكانت مدة هذا الزنجي الخبيث [ص 82] أربع عشرة سنة وأربعة أشهر، وأدخل رأسه بغداد في جمادى الآخرة من هذه السنة، وأراح الله من كفره وفتنته وطائفته اللعينة وفتنه، واختلف الناس في مقدار ما قتل في مدة فريه «2» ، فمنهم المكثر والمقلل، قال الغرناطي: فأما المقل فقال: أفنى خمس مائة ألف ألف وخمس مائة، ألف، وأما المكثر فقال: أفنى ما لا يعلم عدده إلا الله تعالى، فسبحان الحكيم الذي له في كل مقدر حكمة قد تلتبس على البصير وتنعمي، وكل شىء عنده إلى أجل مسمى، لا إله إلا هو عليه توكلنا وإليه المصير.

48 - ذكر دولة القرامطة وأولهم ذكر فرية قرمط

48- ذكر دولة القرامطة وأوّلهم ذكر فرية قرمط وهم أضر طائفة «1» خرجت على بني العباس، بل شر دولة أخرجت للناس، أخذهم الله بمكرهم، وأخذهم بكفرهم، ولكن بعد حروب شمرت عن ساقها، وأثمرت برءوس لم تتصل بأعناقها، هم الكفرة الملاعين، والأعادي الطواعين، بئس الملة وسوس الأمة، كانوا على ذهاب هذه الملة أحرص من حوافي النمل، وفي تعطيل منابتها أشد من سوافي الرمل، ما زالوا في مسارب الملك كالأفاعي ساعين، وإلى غير كلمة الحق، كالنواقيس داعين، وألصقوا بهذا البيت الطاهر دعوتهم، وألفوا في هذا الفناء الشريف عقوتهم «2» ، وبينهما من البون مثل ما بين الفساد والكون، وإنما ذكرتهم هنا، لادعائهم، كما ذكرت الزنجي، على أنهما كسراب بقيعة، أو كظلمات في بحر لجيّ، كان ظهور هؤلاء بسواد الكوفة سنة ثمان وتسعين ومائتين في السنة التي مات فيها الموفق، اسمه الفرج زكرويه بن يحيى ويدعى بقرمط «3» ، أصله من بصرى من الشام، وإنما قال الخراساني،

ويكني بأبي زكرياء، منهم بالنهروان، فأظهر الزهد والتقشف وأكثر الصلاة، وكان يأكل من عمل يده، وإذا جلس إليه إنسان زهده في الدنيا وأعلمه أن المفترض عليه خمسون صلاة في اليوم والليلة [ص 83] وأنه يدعو إلي إمام من أهل البيت، فاستهوى خلقا كثيرا، وكانت لرجل معروف يقال له الهيصم ضياع، فأعلم أن القائمين عليها اشتغلوا عنها برجل صفته كذا ويقول كذا، وأخبر خبر الرجل، فسار إليه وأخذه، وحلف ليضربن عنقه، ثم جعله في بيت ورمى عليه قفلا، وألقى المفتاح تحت وساده، وشرب فلما سكر ونام، أخذت جاريته المفتاح وفتحت البيت وأخرجت الرجل وأطلقته، وردت المفتاح في موضعه، فلما قام من سكره وفتح البيت فلم يجد الرجل، فأصابه وهم، وقال: هذا الرجل صالح، وأشاع الأمر، فتسارع الناس إلى الرجل، فعظم شأنه، واستفحل أمره، وصنع لهم دينا وقرآنا أوحاه إليه شيطان، ومما تضمنه قرآنه: يقول الفرج بن عثمان وهو من قرية يقال لها بصرى إنه داعية المسيح عيسى بن

مريم، وهو الكلمة وهو المهدي، وهو أحمد بن محمد بن الحنفية، وهو جبريل، وإن المسيح تصور له في صورة إنسان فقال له: أنت الداعية وأنت الحجة، وأنت روح القدس، وأنت يحيى بن زكريا، وأن الصلاة ركعتان «1» قبل طلوع الشمس، وركعتان قبل غروبها، وأن الأذان: الله أكبر الله أكبر أربعا، أشهد أن لا إله إلا الله أربعا، أشهد أن محمدا رسول الله أربعا، أشهد أن موسى رسول الله أربعا، أشهد أن رسول الله، «2» أشهد أن محمد بن الحنفية رسول الله أربعا، والقراءة في الصلاة بسورة الافتتاح المنزلة على محمد بن الحنفية، وهي الحمد لله بكلمته تعالى، باسمه المستحمد لأوليائه، والأهلّة مواقيت للناس ظاهرها، لتعلموا عدد السنين والحساب، وباطنها لأوليائي الذين عرفوا عبادتي، واتقون يا أولي الألباب، فأنا الذي أسأل عما أفعل، وهم يسألون، وأنا العليم الحكيم، وأنا الذي أبلو عبادي، وأمتحن خلقي، فمن صبر في بلائي ومحنتي واختياري، ألقيته في جنتي، وأدخلته في نعمتي، ومن مال عن أمري وكذب رسلي، ألقيته مهانا في عذابي، وأنا الذي أتممت أجلي، وأظهرت أمري على ألسنة رسلي، وأنا الذي لم يعل عليّ جبار، إلا وضعته، ولا عزيز إلا أذللته، وليس [ص 84] مثوى الذي أصرّ على أمره، ودام على جهالته، وقال لن نبرح عليه عاكفين إلا في النار أولئك هم الكافرون، ثم يركع فيقول في ركوعه: سبحان رب العزة تعالى عما يقول الظالمون، يقولها مرتين ثم يسجد، فيقول في سجوده: الله أعظم، الله أعظم، يقولها مرتين، ومن أحكامهم أن القبلة إلى بيت المقدس، وإليه حجهم، وأن الصيام يومان في السنة، وهما يوم النيروز» ،

49 - يحيى بن قرمط

ويوم المهرجان «1» ، وأن لا غسل من الجنابة إلا الوضوء فقط، وإن الخمر والزنا واللواط حلال، والنساء كلهن أمهات وبنات وأخوات حلال، وبويع هذا زكرويه بأنه الخليفة القائم بالحق سنة ثمان وسبعين ومائتين، ويسمى القائم بالحق، وكان يرى رأي الخوارج والأزارقة «2» ويلعن الصحابة، ويرى قتل المسلمين رجالهم ونسائهم وصبيانهم وشيوخهم وزمناهم، فعتا في الأرض، وسفك الدماء، وسبى الذرية، ونهب الأموال، واشتد بلاؤه على المسلمين، وكان يقول لأعوانه وأجناده: من لم يتبعني فاقتلوه، واسبوا أهله، وكان ابتداء أمره في أيام المعتمد، ثم قاتله جيش المعتضد، فقتل في حدود سنة أربع وثمانين ومائتين. ثم قام بعده ابنه: 49- يحيى بن قرمط وكنيته أبو القاسم، وبويع يوم قتل أبيه، وكان قتل الأمة المحمدية كلها، وسار بسيرة أبيه، وأصاب شكلها، وكان هو وشياطينه المردة في الأرض، وعقاربه المبددة في البلاد، إذا علوا على قرية قتلوا أهلها حتى البهائم، كالحمير والقطط والكلاب، وحاصر دمشق فصالحه أهلها على مال يؤدونه، وأي أمر جاءه منهم يعتمدونه، وكان يقول: لا أشير بيدي إلى ناحية إلا فتحت، ولا تكر جنودي على صفقة بلاد إلا خسرت وربحت، فلما ولي المكتفي خرج إليه في جنوده

50 - الحسين بن قرمط

وعساكره، فقتل رجاله وفرق أحزابه أيدي سبأ، وأخذ اللعين أسيرا، وسيق إلى بغداد خاسئا حسيرا. ثم قام بعده أخوه: 50- الحسين بن قرمط زكرويه [ص 85] ويلقب بالمهدي «1» ، وتكنى بأبي علي، ثم تسمى بأحمد بن عبد الله، وتكنى بأبي العباس، قاله الطبري، بويع بالخلافة بوصية أخيه يحيى، وكان شرا منه، وكان يقول: أنا المدثر الذي في القرآن، وحاصر مدينة هجر أربع سنين إلى أن دخلها عنوة بالسيف، وقتل منها ثلاث مائة ألف، وعتا في الأرض، يقتل هو وأشياعه يمينا وشمالا، وينكحون الأبكار، ويذبحون النساء والأطفال والشيوخ والبهائم، فقاتلهم المكتفي كرّة أخرى، فقتلهم وكسر

مهديهم الضال، وأمسك جماعة من شيعة أهل الضلال، وأدخلهم مقرنين في الأصفاد، والمهدي على فيل لتراه الناس، ثم قطع يديه ورجليه وضرب رقبته ورقاب أصحابه، سنة إحدى وتسعين ومائتين، وفي ذلك يقول ابن المعتز يمدح المكتفي ويذكر جميل فعله، يقول: «1» [مجزوء الرمل] لا ورمان النهود ... فوق أغصان القدود وعناقيد من أصدا ... غ وورد من خدود وبدور من وجوه ... طالعات بالسعود «2» ورسول جاء بالمي ... عاد من بعد الوعيد وبشير بوصال ... قد نفى طول الصدود ما رأت عينيّ كظبي ... زارني في يوم عيد في قباء فاختيّ ال ... لون من لبس الجدود كلما قاتل جنديّ ... بسيف وعمود قتل الناس بعيني ... ن وجفنين وجيد قد سقاني الراح من في ... هـ على غيظ الحسود وتعانقنا كأني ... وهو في عقد شديد نقرع الثّغر بثغر ... طيّب عذب الورود [ص 86] مرحبا بالملك القا ... دم بالجدّ السعيد يا مذلّ البغي يا قا ... تل حيّات الحقود

51 - أحمد بن الحسين

عش ودم في ظلّ عزّ ... خالد باق جديد فلقد أصبح أعدا ... ؤك كالزرع الحصيد ثم [قد] صاروا حديثا ... مثل عاد وثمود جاء هم بحر حديد ... تحت أعلام البنود فيه عقبان خيول ... فوقها أسد جنود وردوا الحرب فهدّوا ... كلّ خطيّ مديد وحسام شره الحدّ ... إلى قطع الوريد فاحمد الله فإنّ الحم ... د مفتاح المزيد ثم قام بعده ابنه: 51- أحمد بن الحسين الملقب زكرويه «1» ، ويكنى بأبي غانم، قام بقرية يقال لها زابوقة «2» من سواد

الكوفة، وكان معلما للصبيان، ودعا إلى نفسه، وبايعه خلق كثير، فسار بسيرة أبيه في العتو والاستكبار، ثم قتل وحمل رأسه إلى كيداح عامل المكتفي سنة أربع وتسعين ومائتين، ومن سخافاته وتمويهه وشعوذته وتشبيهه، ما كتب به إلى بعض عماله: من عبد الله أحمد بن عبد الله حسين المهدي المنصور بالله، الناصر لدين الله، العالم بأمر الله، الحاكم بحكم الله، الداعي إلى كتاب الله، الذاب عن حريم الله، من ولد رسول الله، أمير المسلمين، وإمام المؤمنين، ومذل المنافقين، وخليفة الله على العالمين، ومبيد الظالمين، وقاصم المعتدين، ومهلك الملحدين، وقاتل القاسطين، وسراج المتبصرين، وضياء المستضيئين، صلى الله عليه وعلى أهل بيته الطيبين، وسلم كثيرا، إلى جعفر بن محمد الكردي، سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، وأسأله أن يصلي على جدي رسول الله، أما بعد، فإنّه نمي إليّ ما حدث [ص 87] قبلك من أخبار أعداء الله الكفرة، وما فعلوه بناحيتك، وأظهروا من الظلم والعنت، فأعظمنا ذلك، وأردنا أن ننفذ ما هنالك من جيوشنا، من ينتقم الله من أعدائه الظالمين، الذين يسعون في الأرض فسادا، وقد أنفذنا جماعة من المؤمنين إلى مدينة حمص، وأمددناهم بالعساكر، ونحن في اثرها، ونرجو أن يجزينا الله في أعداء الله على أفضل عوائده عندنا في أمثالهم، فشد قلبك وقلوب من معك من أوليائنا، وبادر إلينا بأخبار الناحية كل حين، إن شاء الله، سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام، وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على جدي رسول الله، وشرّف وكرّم وحيّا وسلّم. ثم قام:

52 - الحسن بن بهرام الجنابي القرمطي

52- الحسن بن بهرام الجنّابيّ القرمطيّ أبو سعيد «1» ، ثار بمدينة الأحساء «2» واستوطنها، وعتا وأفسد وسفك الدماء، وخرّب البلاد، وأباح قتل كل من خالف مذهبه، وكان ظهوره سنة ست وتسعين ومائتين، وغلب على بلاد اليمن، وحبّبت إليه الأموال، وكثرت جموعه، وعظمت جيوشه، وأباح الزنا واللواط والخمر، وكان يتعشق غلاما خصيا، وهو الذي قتله سنة إحدى وثلاث مائة، وكانت مدته ست سنين. ثم قام ابنه: 53- سليمان بن الحسن بن بهرام الجنّابيّ القرمطيّ ويكنى بأبي طاهر «3» ، وكان أحد المفسدين في الأرض، وأسرع من المقراض

في القرض، بويع بالأحساء يوم موت أبيه، ثم جددت له البيعة سنة سبع عشرة وثلاث مائة، وكان أظلم وأغشم وأجور وأفسق ممن تقدّمه، ولم يزل يطوي البلاد طيّا، يقتل ويسبي وينهب إلى أن صار من بغداد على ستة أميال، فخافه أهلها، ثم دخل، فدخل الرحبة وغيرها من البلاد الفراتية سنة خمس عشرة وثلاث مائة، ثم عاود ما وراءه من البلاد فدمّرها وأخذ منها [ص 88] أموالا عظيمة، أوسق «1» منها مائتين من الإبل وأوقرها ثم دخل مكة المعظمة سنة سبع عشرة وثلاث مائة، فقتل في الحرم وجوانب مكة من الحاج وغيرهم زهاء ثلاثين ألفا، واستحر القتل في الشعاب وقنن الجبال، وبطون الأودية والظواهر، حتى قتل أكثر من مائة ألف، وسبى النساء والصبيان، وردم زمزم بجثث ورؤوس القتلى، وفرش المسجد بأجسادهم، وأخلى جمعا ومعرّفا ومكة، حتى لم يكن من الحجون إلى الصفا «2» ، ووقف على الكعبة وأنشد:

54 - الأعصم

[الرمل] أنا لله ولله أنا ... يخلق الخلق وأفنيهم أنا وذلك يوم الأحد سابع ذي الحجة، ثم رحل عنها في المنتصف، وحمل معه الحجر الأسود وقناديل الكعبة، وكانت من ذهب وفضة، وقرن كبش الذبيح، وكان مغشى بالذهب، مكللا بالجواهر والياقوت، وميزاب الرحمة، وكان وزنه ثلاثة قناطير من الفضة، والدرة اليتيمة، وكان وزنها أربعة عشر مثقالا، وكانت في جوف الكعبة، ثم لم يرجع من ذلك كله شىء إلا الحجر الأسود، فإنه أعيد إلى مكانه على ما أشير إليه، وكانت إعادته في خامس ذي القعدة سنة تسع وثلاثين وثلاث مائة، وكانت مدة غيبته عن البيت الحرام اثنتين وعشرين سنة، ثم توجه هذا القرمطي اللعين بجيوشه من مكة إلى البحرين، فنزل الأحساء، وما أبقى فيما أساء، ثم ابتلاه الله بداهية في جسده فتقطت أعضاؤه، ومات في السابع والعشرين من رمضان سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة، وهو ابن ثلاثين سنة. ثم قام بعده: 54- الأعصم وهو الحسن بن أبي منصور «1» أحمد بن أبي سعيد الحسن بن بهرام الجنّابي،

ويكنى بأبي محمد، ثار بالأحساء وزحف لقتال المصريين وطردهم من المقام سنة ستين وثلاث مائة، فخرج إليه من مصر [ص 89] جعفر بن فلاح الكتامي «1» ، فالتقيا يوم الأربعاء الخامس من ذي القعدة سنة ستين وثلاث مائة، فقتل جعفر وكثير ممن معه به، وملك الأعصم الشام كله، إلا يافا، ثم زحف إلى مصر ونزل الحب غرة ربيع الأول سنة إحدى وستين وثلاث مائة، فهلك من المصريين خلق كثير حتى أشرفوا على الهلاك، فغدرت العرب بالأعصم، وأخذوا فساطيطه، فانهزم راجعا إلى الأحساء، ثم عاد على أثره إلى الشام، ولم يزل بها إلى أن وصل المعز من القيروان إلى القاهرة يوم الأربعاء سادس رمضان سنة اثنتين وستين وثلاث مائة، فخرج لحرب الأعصم بنفسه، فهزمه الهزيمة الشنعاء التي شردهم بها عن المقام، وذلك يوم الخميس سادس شعبان سنة ثلاث وستين وثلاث مائة، ومات الأعصم في طريق الأحساء في هذا الشهر، فحمل ودفن بالأحساء، وحل بجهنم، وقيل له اخسأ. فهذه مشاهير الدول المنسوبة إلى الحسين بن علي رضي الله عنهما، تشتمل على حملة النسب، والدعي، والسقيم المائل، والصحيح السوي، وبها ثم ما

أشد من العصابة العلوية وقدمتهم على بني العباس لما تقتضيه الأولوية. فأما خلافة الاجماع والإمامة التي ختمت كالشمس، ومدت أطناب الشعاع، فهي بعد خلافة الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي والحسن رضي الله عنهم، الدولة الأموية، ثم الدولة العباسية، وما سواهما كالشذوذ، وكل عقد إلا لهما فهو في حقيقة الحال منبوذ. وأول ما نبدأ بذكر الدولة العباسية، فإنها وإن كانت المعقبة لبني أمية والآتية بعدها على ما قد كان، فأبتدئ بالأقرب مخرجا من النبعة النبوية، والأدنى إلى مناسبها الزكية، ونحن نذكر إن شاء الله تعالى دولها الشهيرة ثم نصلها بما وصل إلى مصر في أيام ملوك الأتراك وتعلل فيها دماؤهم حتى مات وقبر هناك، ثم نذكر الدولة الأموية [ص 90] ونصلها بمن دخل الأندلس وكان بها، حتى انكدر أفقهم، وطمس وهوى منهم الرفيع ودرس، إن في ذلك لعبرة، وإن فيه لما يجري للعبرة، وهي عوائد عوادي النوب، أخمدت نار كسرى، ورمت تاج قيصر قسرا، وأماتت افراسياب على شاطئ النهر قهرا، أذلت عزة بني عبد المدان، وحطت تخت تبّع من رأس غمدان «1» ، وكان الأول في ذكر سكان الأرض أن تقدم في صدر الملة الإسلامية هاتان الدولتين، ونعزل مما أناف لآل عبد المناف الذروتين، لأن أهل هاتين الدولتين من بني أمية ثم من بني العباس هم الخلفاء حقا بعد الراشدين وصدقا، لولا كذب ادعاء المعاندين، وقد ذكرنا سكان الأرض، وهذا الاسم أصدق ما أطلق على الخلفاء، لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم لسان) «2» ، فهذا نص على أنهم ولاة

أمر الناس، وجميعهم لهم أتباع، وإذا كان هذا الأمر لقريش فلابد أن يكون منهم واحد يجمع أمرهم، وهو الإمام، وما من البشر مطيعهم وعاصيهم في مشارق الأرض ومغاربها إلا مأموم به، وإن كان منهم عصاة أو خالع لربقة الطاعة، فإنه يلزمهم حكمه بشريعة الدين وعقيدة الإسلام، ولا يقدر يخالف في هذا أحد من المسلمين ولا ينازع مؤمن أنه داخل في إمرة أمير المؤمنين، فحينئذ الأئمة هم سكان الأرض وبقية من فيها ضميمة لهم أو كالضميمة، وعلى هذا الرأي بنينا هذا القسم من أوله، وبيّنا كثيرا من تفاصيله وجمله، فذكرنا ما نقل إلينا مما كان من بداء الخلق، ومن كان في زمان كل من الأنبياء صلوات الله عليهم والملوك المؤمنين والكفار، فإن قال قائل: فلم ذكرت الملوك قبل الإسلام مع وجود الأنبياء، ومن أولئك الملوك كفار، لا بل غالبهم، ولم نذكرهم مع الخلفاء، والأنبياء أعلا درجة من الخلفاء، وملوك الإسلام خير من ملوك الكفار؟ الجواب: أن النبي كان يبعث إلى قومه خاصة، ولا [ص 91] تتعدى دعوته مكان بعثته، والأرض مملوءة بالملوك، ومنهم من لم يرسل في ذلك الوقت إليه، ولا إلى قومه، فاحتجنا إلى أن نذكر الملوك لهذا السبب، إذ كنا بصدد ذكر سكان الأرض، وليس في أولئك الأنبياء من له دعوة عامة، فإذا ذكر هو أو خليفة اكتفي به عن سائر الناس، ونبينا صلى الله عليه وسلم دعوته عامة، فإذا ذكر هو أو خليفته اكتفي به عن سائر الناس، كما قال تعالى مخاطبا عنه: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً «1» ، فلما كانت دعوته عامة، كانت دعوة خلفائه عامة، فلهذا لم يبق مقتض لذكر أحد معهم، فإن قال: كيف تتكلم في سكان الأرض، وإنما أنت تتكلم في واحد منهم؟ فالجواب: إنّا لو أردنا ذكر الناس رجلا رجلا، لأردنا ما ليس في الإمكان، وإنما إذا ذكرنا الخلفاء نكون كأنا ذكرنا

وهذه الدولة العباسية

كل سكان الأرض لأنهم نواب الله في أرضه وخلفاء نبيه صلى الله عليه وسلم في أمته، وهو المبعوث إلى الأسود والأحمر، والقاصي والداني، وهم القومة بدينه، والدعاء بدعوته العامة، وجميع أهل الأرض ملزمون بها، من آمن منهم أو كفر، فلهذا وجب إفرادهم بالذكر، وأطلق على الجزء منهم اسم الكل، وبالله التوفيق. وأما الملوك شكر الله عن الإسلام سعيهم، وبوّأهم المغفرة والرضوان، فإنه سيأتي ذكرهم في قسم التاريخ وهو أمسّ بهم، لأنه أكثر ما دار على ذكر أيامهم، ونوب الدهر بيّنة، وفيهم من جاهد في الله وقاتل في سبيله، وسهّد جفونه في جهاد أعدائه، وأغضّ الكفر وأماته بدائه، وضارب حتى ملّت السيوف مضاربها، وكرهت الخيل الماء وعافت بالدماء مشاربها، وحامى عن رأيه وإمامه، وواصل طلائع راياته وآرائه، وأعملوا سيوفهم وأقلامهم في تمهيد البلاد، وتوطيد الملك فناضلوا وناظروا وجالدوا وجادلوا، وفعلوا ما قدرت عليه مكنة هممهم، وظفرت به أيدي مطالبهم، وسروا السرايا لإفاضة هذه الدعوة النبوية، وإفاءة الأرض بظلال [ص 92] عصائبها المحمدية، وسنذكر من هذا مما نثبته في موضعه ونبينه في مواضعه، ونبيع زهره لمطالعه، وزهره بمطالعه، ونشرح به صدر رائيه وقاريه وسامعه، فأما ما ذكرنا من بني إسماعيل، فإنما أردنا به في النسب الشريف النبوي زاده الله شرفا اتصال سببه وإيضاح كيف كان نور مظهره، ليعرف تقدم آبائه في النسب اللباب، وخروج درته اليتيمة من قرارة ذلك البحر العباب. وهذه الدّولة العبّاسيّة سقاها الله صوب رحمته، ولقاها نضرة نعمه، وأول ما نبدأ بذكر العباس بن

عبد المطلب «1» كان رحمه الله بهيا جميلا رئيسا في الجاهلية، كريما مهيبا، وكان لا يرفع مائدته حتى تأكل منها الطير والسباع، وكانت له ثياب للعاري، ومائدة للجائع، وسوط للسفيه، وجاء الإسلام وهو على ذلك، وكان جهوري «2» الصوت، ربما صاح بالأسد فتفطر مرارة كبده، وصاح يوما: وا صباحاه، فأسقطت الحوامل، وفي الحديث (عم الرجل صنو أبيه) ، وكان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما إذا رأياه نزلا له إلى الأرض وسلّما عليه، واستسقى به عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان أسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعامين، وقيل: من أكبر أنت أم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: أنا أسن وهو أكبر مني، وقال أكثم بن صيفي «3» : حججت سنة فرأيت بني عبد المطلب كأنهم بروج فضة، فقلت: من هؤلاء؟ قيل: بنو عبد المطلب، فقلت: هؤلاء غرس الله لا غرس البشر، وكان أجلّ بنيه حبر هذه الأمة عبد الله بن العباس

رضي الله عنهما، وفي الحديث: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل) «1» ، والبيت في ولده علي، وسماه علي بن أبي طالب باسمه وكناه بكنيته، وكان يدعى زين العابدين، وكان مجتهدا في العبادة، وكان عبد الملك [ص 93] بن مروان يكرمه ويعظمه، ثم البيت في ولده محمد بن علي، وهو الذي أصار عليه ابن الحنفية الأمر، ثم ظهرت شيعة بني هاشم بخراسان، ووجه محمد بن علي مولى له اسمه سلام بن العاري، وأمره أن يبثّ خبرهم هناك ففعل حتى تحدث به الكبير والصغير، ولم يسم الإمام ولا أين هو، وكان بالحميمة «2» ، فتبع سلاما كثير منهم، ثم مات سلام، فلم يعرفوا أين الإمام، فأتوا جعفر الصادق «3» فقال: أخطأتم المقصد، اقصدوا الحميمة فيها شيخنا وابن عمنا، وهذا الأمر فيه وفي عقبه، فأتوه فأكرمهم وقال: أنا ضالتكم المنشودة، وبغيتكم المقصودة، ثم تأملهم فلم يجد فيهم صفة أبي مسلم، فعلم أنه سيأتي، ثم بعث معهم أبا عكرمة بن زياد بن دوهم داعيا، ثم أتى أسد بن عبد الله القسري واليا على خراسان لبني أمية، فقبض عليه وقتله وتتبّعهم بالقتل والعقاب، وهم لا يزدادون إلا غلوا، وكتبوا إلى الإمام بمقتل أبي عكرمة، فبعث مكانه كثير بن سعد، ثم أقدمه وبعث مكانه عمار بن داود فغير اسمه فتسمى خداش بن زيد، فأخذه

أسد القسري وقطع لسانه، وسجن سليمان بن كثير، فانفلت من السجن، ولحق بالإمام، فبعث عليهم بكر بن وائل، ثم أخذه القسري في قوم من أصحابه وقررهم على الإمام، فلم يقروا، ثم قدّم الإمام أبا سلمة الخلال، واسمه حفص بن سليمان، ثم قدمت الشيعة وفيهم أبو مسلم، فلما عرفه بصفته، وكان اسمه عبد الرحمن بن عثمان العجلي السراج «1» ، وكان يعمل السروج، وسنه يومئذ ثمانية عشر سنة فقال لهم الإمام: هذا سيدكم والقائم مقامي فيكم، ثم استخلف ابنه إبراهيم وأوصاه بأخويه أبي العباس وأبي جعفر، وأخبره أنه ميت، وأن إبراهيم يموت بعده، وأن علامة القائم مع أبي مسلم، ثم خلا به وعرفه بما يكون، فما استقر بهم القرار بخراسان حتى بلغهم موت الإمام، يقال إن هشاما أدخل رأسه في جراب نورة حتى مات، فأقاموا العزاء، فصبّرهم أبو مسلم، وجمع مالا عظيما وطرفا جليلة [ص 94] وقدم بها على الإمام إبراهيم بن محمد، فقرر أمره، ثم عاد وعزل أسد بن عبد الله القسري وولى نصر بن سيار، فوقع إليه كتاب من أبي مسلم إلى الإمام فبعث به مع حامله إلى مروان فاستصلح مروان حامل الكتاب وأمره بأن يذهب به إلى الإمام إبراهيم، ثم يأتيه بجوابه، فأتاه بجوابه إلى أبي مسلم ويحثه فيه على الحرب، والأخذ بالجد، ثم كتب فيه: [الرجز] دونك أمرا قد بدت أشراطه إن السبيل واضح سراطه لم يبق إلا السيف واختراطه فبعث مروان من أتى به فحبسه بحراب وبقي مسجونا سنتين، ثم لما أيقن

مروان بزوال أمره، قتله نحو قتلة أبيه سنة ثلاثين ومائة، ثم لما سمع أبو مسلم بحبس الإمام، جمع شيعته وخطبهم وقال: لا خفاء بعد اليوم، فعقد اللواء المسمى بالسحاب، وكان أسود مكتوبا عليه بالذهب: (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وأن الله على نصرهم لقدير) «1» ، وكان الإمام محمد بن علي «2» أعطاه له، وجنّد الجنود وأظهر الدعوة ولبس السواد هو وشيعته، ثم ظهر بمرو «3» في يوم عيد وصلى بالناس، وخطب ولعن بني أمية، ودعا لعلي رضي الله عنه، ودعا لبني العباس، وكانت أول خطبة أقيمت لهم، ثم وجه قحطبة بن شبيب، وبث جنوده في البلاد، ثم جهز نصر بن سيار جيشا إلى أبي مسلم، وكتب إلى مروان بن محمد كتبا آخرها قال فيه «4» : [الوافر]

أرى خلل الرماد وميض جمر ... ويوشك أن يكون له ضرام فإن النار بالعودين تذكى ... وإن الحرب أولها الكلام فإن لم يطفها عقلاء قوم ... يكون وقودها جثث وهام أقول من التعجب ليت شعري ... أأيقاظ أميّة أم نيام فإن لم يطفئوها تجن حربا ... مثمرة يشيب لها الغلام [ص 95] فلم يفد هذا بني أمية تيقظا ولا هاج لهم حفيظة ولا تحفظا، ثم إن أبا مسلم جهّز مالكا الخزاعي للقاء نصر بن سيّار «1» ، فسار في عدة قليلة، والنصر يقدمه، والسعود تخدمه، فالتقوا قريب سمرقند «2» ، فما كان إلا أن تراءى الجمعان، فولّى جيش ابن سيار الأدبار قتلا ذريعا، وأخذ قائد الجيش أسيرا، وحمل إلى الخزاعي، فحمل إلى أبي مسلم، فمنّ عليه وأعاده إلى ابن سيار مكرما، فجعل يتحدث بمحاسن أبي مسلم، فمال إليه أكثر الناس، ثم خرج على ابن سيار رجل بكرمان، وكان سببا لتمام أمر [أبي] مسلم، لأنه اشتغل به عنه، فكتب يستمد مروان، فكتب إليه: إن حاجتنا بأهل الشام، فاكتف «3» بما

عندك، فأيقن نصر بالخذلان، وقال: ذهبت والله خراسان، وسيذهب مروان، ثم خرج أبو مسلم إلى مرو لقتال ابن سيار، حتى إذا قاربها فتح خزائنه، وفرق أمواله على رجاله تفريقا خرق به عادته، فسمع بذلك جند ابن سيار فتساقطوا عليه تساقط الفراش، وتسارعوا إليه لطلب المعاش، فأعطاهم مثل ما أعطى رجاله، وبسط يده بالإعطاء، واستدعى بكرمه حركات البكاء، ثم قدم عليه ابن الكرماني، وكان نصر قد قتل أباه، ثم إنه كان مختصا به اختصاص الكف بالبنان، والنطق باللسان، فضاقت بنصر الأرض بما رحبت، وجزم بأن طائفته غلبت، وقدّم أبو مسلم ابن الكرماني، وأمره بمحاربة ابن سيار لأخذ ثأر أبيه، فحاربه محاربة فات معها نصرا النصر، ثم جاء أبو مسلم فدخل مرو على حين غفلة، وأخذ البيعة على أهلها، ورتب وظائف الملك، وأما ابن سيار فإنه فرّ إلى الجبال واستوطنها، ثم إن أبا مسلم قتل ابن الكرماني، وجهز قحطبة لقتال نصر، فأخرج عامله من طوس «1» وقتل مقاتلتها، ثم طلب ابن سيار فأخرج له ابنه تميما في جيش عظيم، فلما رآه جزع، فلما تلاقت الجيوش قتل، وخرج ابن سيار هاربا إلى قومس «2» ، ثم إلى جرجان «3» ، ولقاه قحطبة «4» فهزمه [ص 96] ، وهرب ابن

سيار إلى الري «1» ، وأتبعه قحطبة بن الحسن، فكتب ابن سيار إلى مروان: [السريع] كنّا نرجّيها وقد مزّقت ... فاتّسع الخرق على الراقع كالثوب إذ أنهج فيه البلى ... أعيا على ذي الحيلة الصانع ثم مات ابن سيار بعد كتابة هذا بيومين وتفرّق أصحابه، ودخل الحسن بن قحطبة الري، فخرج إليه ابن هبيرة، وكان على العراق. هذا ما كان من هؤلاء. وأما ما كان من بني العباس، فإنهم لما أمسك الإمام، فروا إلى أحياء العرب، فمروا بماء لهم متجسسين فإذا هما «2» بامرأتين مقبلتين، فوقفتا عليهم، وقالتا: ما رأينا أكرم ولا أصبح من خليفة وأمير، فانتهرهما عبد الله بن علي، فقالتا: لا وأبيكم، إن هذا لخليفة، وأشارتا إلى السفاح، وهذا الأمير، وأشارتا إلى المنصور، فانتهروهما، وساروا إلى الكوفة، فلقيهما داود بن علي وابنه موسى، وهما متفرقان في موال لهما من العراق إلى الحميمة، فأخبروه أنهم يريدون الكوفة للوثوب عليها، فقال داود: فكيف ومروان بن محمد في جنوده مطل على العراق، وشيخ العرب يزيد بن عمرو بن هبيرة عامل العراق، فقال له: يا عم، من أراد الحياة ذل، فقال داود لموسى: يا بني صدق ابن عمك، ارجع بنا معه، فانصرفا معهم، فلما أتوا الكوفة سألوا عن أبي سلمة، وأتوه، فأخلى لهم دارا وأنزلهم فيها في صفر سنة اثنين وثلاثين ومائة، وأجرى عليهم الأرزاق، ومنعهم من التصرف، فكانوا إذا أرادوا الظهور منعهم، وقال لهم: ابن هبيرة قريب منا،

وأمير المؤمنين واصل إلينا مكرا بهم، لميله إلى الطالبيين. وأما أبو مسلم «1» ، فإنه بعث أبا النجم إلى الكوفة ليتعرف له خبر السفاح، فأتاها، وأتى أبا سلمة عنه فأنكره ليدير في صرف الأمر إلى عبد الله بن الحسن بن الحسن، فتوسل أبو النجم ابن السفاح وأعلمه أن أبا محمد مسلم كتب إلى قحطبة أن يسير إلى الكوفة ويسأل عن الصغير من ولد الإمام محمد الذي اسمه عبد الله وكنيته أبو العباس، فإذا وجده يبايع له بالخلافة، فهو الإمام، أحب أبو مسلم أو كره [ص 97] فجهزه السفاح إلى ابن قحطبة، فسارع في خمسة آلاف، فدخل الكوفة ليلا، وأتى الدار فقال: أيكم أبو العباس، فقالوا: كلنا أبو العباس، وكان كل منهم طامع فيها لنفسه، فقال: أيكم «2» بنو محمد بن علي، فيئس منها جميعهم وطمع فيها بنوه الثلاثة: السفاح والمنصور

ويحيى، فقالوا: نحن، فقال: من منكم عبد الله؟ فيئس يحيى وطمع الاثنان، فقالا: كلانا عبد الله، فقال: أيكما ابن الحارثية؟ فيئس منها المنصور، وقال: هذا ابن الحارثية، وأشار إلى أخيه، فقال: أكشف لي عن ظهرك حتى أرى العلامة التي فيه، فكشف له عن ظهره فرآها وقبلها، ثم قال له: امدد يدك أبايعك، فمد يده فبايعه إخوته وأهل بيته ورجاله، ثم ألبسه السواد، وركبه فرسا أشهب، وأركب أهله الخيل ملتئمين «1» بالسلاح، ثم أتى به المنبر يوم الجمعة، فمنع الخطيب الصعود، وصعد أبو العباس السفاح، ومعه عمه داود دونه بدرجة، فلما أراد السفاح الكلام أرتج عليه، فخطب عمه داود خطبة بليغة، ثم أخذ الناس بالمبايعة، وأهله حوله بالسيوف مسلولة بأيديهم، ثم أقام ثلاثة أيام، وخرج في جيش عظيم، فنزل الهاشمية، ثم فرّق جيشه، فأرسل أخاه أبا جعفر مع الحسن بن قحطبة إلى واسط لقتال ابن هبيرة، ووجه موسى بن عيسى إلى المدائن مع حميد بن قحطبة، واستخلف عمه داود على الكوفة. وأما ما كان من مروان، فإنه لما أتاه الخبر خرج من حرّان «2» ، فنزل منزلا سأل ما اسمه؟ فقالوا: بلوى، فتطير منه، فقال: بل بشرى، ثم سار حتى أتى الموصل، فأتى السفاح الخبر، فجمع أهله وقال: من يلقى مروان دوني؟ فقال له عمه عبد الله بن علي: أنا له كفء، فقال: صدقت وبذلك أخبر الإمام إبراهيم، فعقد له لواء أسود، وألبسه السواد، وأنهده إليه، ثم أنشد السفاح مرتجلا: [البسيط] يا آل مروان إن الله مهّلكم ... ومبدل منكم خوفا وتشريدا [ص 98]

لا عمّر الله من أنسابكم أحدا ... وبثّكم في بلاد الله تطريدا ودفعها إلى رجل حصيف، وقال له: تحيّل في إنشادها في عسكر مروان من حيث لا يعلمون، كأنك هاتف، وسار عبد الله بن علي، وجرت بينهم حروب، ثم إن ذلك الرجل الذي حمّله السفاح البيتين، تحيّل في سرب «1» احتفره حتى نفذه إلى قرار شجرة في معسكر مروان، واتخذ منها حروفا خفية يخرج الصوت، ثم قام بهما ليلا ينشدهما، وظنوه هاتفا هتف بهم، فتفللت عروتهم، وكان ذلك مع تقدير الله سبب الهزيمة، ويقال: إن مروان لما رأى المسودة خارت عزائمه، فقال له كاتبه عبد الحميد بن يحيى: ما هذا الذي أراه منك؟ أطربت للقاء أم جزعت من الموت؟ فقال له: والله لوددت أني في قلهم ويكون لي سعدهم، وما يغني هذا العسكر العظيم مع الإدبار، ولئن قاتلونا بعد الزوال، فهي لنا، وإن قاتلونا قبل الزوال، فهي لهم، فناجزهم عبد الله بن علي القتال، وكانت له، وانهزم مروان إلى الجسر، فغرق أكثر من معه، وانهزم مروان، فعقد عبد الله بن علي على الجسر، وعبر النهر، وهو يقرأ: وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ «2» ، ثم أتى مضارب مروان فنزلها، واستولى على ما فيها، ثم كتب إلى السفاح بالخبر، وكتب فيه: [البسيط] لجّ الفرار بمروان فقلت لهم ... عاد الظلوم ظليما همّه الهرب «3» أين الفرار وترك الملك إذ ذهبت ... بك الهوينى فلا دين ولا حسب شبيه فرعون في ظلم وفي غرق ... وفي بذاءة كلب ما [به] كلب «4»

ثم سار يريده، وما مرّ ببلد إلا وأطاعه، وأتى دمشق، فخرج إليه عاملها الوليد بن معاوية بن عبد الملك، في وجوه أهلها، فبايعوه، وامتنع من كان بها من بني أمية، فقاتلهم ودخلها بالسيف، واعتقل الوليد بن معاوية ومن كان خرج معه من بني أمية، وقتل العصاة وصلبهم، ثم سار في طلب [ص 99] مروان، وما مر ببلد إلا وفتحه، حتى أدركه ببوصير قوريدس «1» من صعيد مصر، فبينا هو نازل إذا بالمسودة قد غشيته، فسير مروان يقول لعبد الله: الله الله في حرمي، فقال: قل له، لنا الحق في دمك، وعلينا في حرمك، وكان مروان إذ ذاك في جند كثيف، فأسلموه وفروا، فقاتل فيمن بقي معه حتى قتل، وخرج من سرادق مروان شيخ مسن فقال: أيكم الأمير؟ فأرشد إليه، فأتى بهم موضعا في الرمل بعيدا من القرية، فاحفروه فأخرجوا منه القضيب والبردة والقعب والمخضب، واحتز رأس مروان «2» ، وجهر به وبمكان دفنه إلى السفاح، ثم أحسنت

55 - دولة السفاح

حياطة أهله وحرمه، فلما أتى السفاح رأس مروان، سجد شكرا، ثم أنشأ يقول: [الطويل] تناولت ثأري من أميّة عنوة ... وحزت تراثي اليوم عن سلفي قسرا وألقيت ذلّا عن مفارق هامهم ... وألبستها عزّا ولم آلها فخرا فهذه جملة جميلة من أخبار هذه الدولة حتى قامت، وهذا ذكر خلفاء هذه الدولة واحدا واحدا، إلا إبراهيم بن المهدي وعبد الله بن المعتز، فإني لا أذكرهما إلا في أخبار المأمون والمقتدر، إذ كان وثوبهما في ذينك الخليفتين، وأولها: 55- دولة السّفّاح أبي العباس «1» عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، وهو أول

خلفاء بني العباس، وهو أول من تلقى بصدره الباس، ولبس الشعار العباسي، فزرر ليله على قمره، وعقد ظفائر أعلامه السود على فرسان عسكره، وكشف كما ذكرنا قناعه لمجاهرته لبني أمية، وثار وقد توقدت به الحمية، وخرج فيمن قل من عمومته وأهله في شفق نهار، والشمس قد فتحت في ساعة الأصيل وردتها في خده الأسيل، وسار حتى أتى الكوفة وصعد منبرها، وأرتج عليه فخطب عمه داود- وهو واقف دونه بدرجة- خطبة بليغة، اقتضبها بديها، ثم وافت عساكر أبي مسلم [ص 100] الخراساني تنسف رمل الأرض جيادها، ويخطف بصر البرق ومض حدادها، وصرّح الشر فأمسى هو عريان «1» ، وأصبح ومقل أسنته ترمق وجه العدو وهو خزيان «2» ثم كانت وقعة الزاب «3» ، وغلب الشيطان وانهزمت تلك الأحزاب، وولى عسكر الشام، وقد تفلل مضاؤه، وتفلل جمعه وضو ضاؤه، وحاق بمروان بن محمد مكره، وحار فكره، ورأى الأرض أضيق عليه من مفحص القطاة، وأقصر عن مدى خطاه، وأدرك كما ذكرنا مروان ببوصير، واستقر به فيها

المصير، ثم لم تحوجه الأقدار بعدها إلى تجهيز جيش، ولا استعمال أناة ولا طيش، وكان السفاح يسفح نوالا، ويرى ألا يرد سؤالا، مع ما كان فيه من وفاء جرى إليه سيوقا، وشمخ غصنه الرطيب سموقا مع مكارم أخلاق فاقت أشباهها، وراقت أمواهها، فما شاءه طلب بلوغا، ولا لاواه نزوغا، ولا بدأ بأمر إلا وأتمه فروغا، ولا أهمه مهم إلا وعاجل نجمه بزوغا، وقد كانت ملوك بني أمية ترى أنه سيكون الأمر في رجل من بني العباس أمه من بنات الحارث بن عبد المدان، فكانت تمنعهم من الزواج إليهم، حتى كان عمر بن عبد العزيز، فاستأذنه علي بن عبد الله في التزوج بريطة، فقال له: تزوج بمن شئت، فأولدها أبا العباس السفاح. وحكى ابن ظفر: أن أبا سلمة الخلال وسلمان بن كثير كانا يفدان في كل عام على إبراهيم الإمام، فيأتيانه بهدايا أهل الدعوة وبكتبهم ويستأمرانه، ولم يكن أحد من أهل بيته يعرفهما ولا يعرف الأمر الذي يأتيان فيه، فقدما سنة من السنين فرأيا أبا العباس وأبا جعفر أخوي إبراهيم الإمام، وهما إذ ذاك غلامان، فأعجباهما، فقال سليمان بن كثير لأبي سلمة: إني مسر إليك أمرا مهما، فاحلف لي على كتمانه، فحلف له أبو سلمة بأيمان رضيها، فقال له سليمان بن كثير: إني أرى عند هذين الصبيين من إمارات الاستقلال ما لا كفاء له، فقال له أبو سلمة: هما والله أولى من صاحبنا، يعني إبراهيم [ص 101] الإمام «1» ، فقال

له سليمان: ما منعني من ذكر هذا إلا التقية والتستر، وبينا هما يتفاوضان في هذا مرّ أبو العباس وأبو جعفر وهما يضربان كربا «1» ، فدعاهما أبو سلمة، فأتياه فقال لهما: إني أنشدت صاحبي شعرا أنا به معجب، فلم يرضه، وقد رضينا بحكمكما فيه، فقالا: انشده، فأنشدهما: [الطويل] أمسلم فاسمع يا ابن كل خليفة ... ويا فارس الهيجا ويا جبل الأرض شكرتك إن الشكر حبل من التقى ... وما كل من أوليته نعمة يقضي ونوهت من ذكري وما كان خاملا ... ولكن بعض الذكر أنبه من بعض فقال له أبو جعفر: من يقول هذا؟ قال: يقوله أبو نخيلة «2» ، قال: فعض أبو جعفر على اصبعه وقال: أأمن هذا العبد أن تدول لبني هاشم دولة فيولغوا

الكلاب دمه، فقال له أبو العباس: مه يا أخي، فإنه كان يقال: من أظهر غضبه ضعف كيده، ثم أقبل أبو العباس على أبي سلمة، فقال له: هذا شعر أحمق في أحمق، كيف يقول لرجل هو في سلطان غيره وتابع له: يا جبل الأرض مرسيها وممسكها، فلا يصح أن يقال هذا لمن هو في سلطان غيره وتابعا له، وأين يقع تعظيمه وتفخيمه من نقص اسمه، وانطلق أبو العباس فقال له أبو جعفر: هلمّ يا أخي نلعب، فقال أبو العباس: هل أو لغت الكلاب دم أبي نخيلة؟ قال: لا، ولكنك آذيتني فتأذيت، وذهبا، فقال أبو سلمة لسليمان: بمثل هذا يطلب الملك ويدرك الثأر، وما زالا بإبراهيم الإمام حتى عهد إلى أبي العباس، ويقال إنه وعدهما أن يعهد إليه ولم يفعل حتى قبض عليه مروان فأمضى العهد لأبي العباس. قال: ثم إن أبا نخيلة وفد على أبي العباس السفاح عندما أفضت الخلافة إليه، فلما مثل بين يديه استأذنه في الإنشاد، فقال له: من أنت؟ قال: عبدك وشاعرك أبو نخيلة، فقال أبو العباس: لا قرب الله من أبعد نوى ولعنه، ألست القائل: آمسلم فاسمع يا بن كل خليفة. وأنشده الأبيات، فقال أبو نخيلة: [الرجز] كنّا أناسا نرهب الأملاكا ... ونركب الأعجاز والأوراكا من كل شىء ما خلا الإشراكا ... وكلما قد قلت في سواكا زور فقد كفّر هذا ذاكا ... إنّا انتظرنا زمنا إياكا ثم انتظرنا بعده أخاكا ... ثم انتظرنا لهما أباكا فكنت أنت للرجاء ذاكا فعفا عنه أبو العباس السفاح ووصله.

وعن سعيد بن سالم البابلي قال: حدثني من حضر مجلس السفاح، وهو أحفل ما يكون بوجوه قريش وبني هاشم والشيعة، وأعيان الناس، فدخل عبد الله بن حسن «1» وبين يديه مصحف، فقال: يا أمير المؤمنين، اعطنا حقّنا الذي جعله الله لنا في هذا المصحف، قال: فأشفق من أن يعجل السفاح بشىء إليه، فلا يريدون ذلك في شيخ من بني هاشم، أو يعيى بجوابه فيكون ذلك نقصا له وعارا عليه، فأقبل السفاح عليه غير مغضب ولا مزعج وقال له: إن جدك عليّا «2» عليه السلام، وكان خيرا مني وأعدل، ولي هذا الأمر فأعطى جديك الحسن والحسين وكانا خيرا منك شيئا؟ وكان الواجب أن أعطيك مثله، فإن كنت فعلت فقد أنصفتك، وإن كنت زدتك فما هذا جزائي منك، فما رد عليه عبد الله جوابا وانصرف، والناس يعجبون من حسن جوابه. وذكر الغرناطي قال: كان السفاح أبيض «3» طويلا جميلا معبل الجسم» أقنى الأنف أكحل العينين، كث اللحية مستديرها، سريع الغضب، قريب الرضى، كثير الجود، سديد الرأي، وصولا للرحم شجاعا، تقصّى في قتل بني أمية، قتل منهم ومن أتباعهم أربعين ألفا، وأما جملة من قتل أبو مسلم فألف

ألف وست مائة ألف، وأخذ السفاح نفسه بمحو «1» آثار بني أمية وهدم ديارهم، ونبش عبد الله بن علي قبورهم، إلا قبر عمر بن عبد العزيز، وكان السفاح يقول: [ص 103] ما أبالي بالموت متى طرقني، وقد نلت أملي في بني أمية، أحرقت هشاما بابن عمي زيد بن علي، وقتلت مروان بأخي الإمام إبراهيم، ثم ينشد: «2» [البسيط] لو يشربون دمي لم يرو شاربهم ... ولا دماؤهم للغيظ ترويني ثم كان إذا ذكرهم أنشد قول جده العباس بن عبد المطلب: [الطويل] أبى قومنا أن ينصفونا [فأنصفت] ... قواطع في أيماننا تقطر الدما «3» إذا خالطت هام الرجل تركتها ... كبيض نعام في الوغى قد تحطّما وأمر يوما بجمع من بقي من بني أمية فجمعوا، وفيهم عمر بن عبد الملك بن مروان، فأكرمه وأجلسه معه على سريره، فغاظ ذلك أبا مسلم، فأمر سديفا «4» فأنشده شعرا منه: [الخفيف] لا يغرّنك ما ترى من رجال ... إنّ تحت الضلوع داء دويّا

فضع السيف وارفع الصوط حتى ... لا ترى فوق ظهرها أمويّا «1» فتنفس السفاح الصعداء ثم التفت إلى عمر بن عبد الملك وقال له: كيف رأيت هذا الشاعر، فأنطقه الحين فقال: شاعرنا أشعر منه حيث قال فينا: [البسيط] شمس العداوة حتى يستقاد لهم ... وأرجح الناس أحلاما إذا قدروا فغضب السفاح وكل من حضره من أهل بيته، وقالوا: تحدثهم أنفسهم بالأمر، فألقى السفاح قلنسوة الأموي، وأمر العبيد فوضعوا فيهم السيوف وقتلوهم عن آخرهم، ثم التفت إلى عمر وقال له: ما أظن الأمير يحب البقاء بعدهم، فقال: لا، فأمر بإقامته، فأقيم، وضربت عنقه، وجروا بأرجلهم حتى ألقوا في رحبة القصر، وعليهم سراويلات الوشي، ثم إن سليمان بن هشام قدم على السفاح، وكان قد فرّ منه إلى السند، فأكرمه وأعظمه وقربه وصيّره في جلسائه، لظرفه [ص 103] وعقله وآدابه وفصاحته ودماثة خلقه، فحسده أبو مسلم، فأمر سديفا فأنشده: [الخفيف] أظمأتنا بنو أمية حتى ... ما غبطنا مسوغا للحياة كيف بالعفو عنهم وقديما ... قتلونا بالضرب والمثلات أين زيد وأين يحيى بن زيد ... يا لها من مصيبة وترات والإمام الذي أصيب بحرّان ... إمام التقى ورأس الهداة لا تزال الصدور آلمة ما ... لم تنل من أميّة الثارات فتنفس السفاح الصعداء، ثم أمر بسليمان وابنيه فقتلوا، ثم إن شاعرا من

56 - دولة المنصور

بني أمية صنع هذه الأبيات، وتلطف في إيصالها إليه، وهي: [الرمل] ولقد أبصرت لو تنقضي عبرا ... والدهر يأتي بالعجب أين زرقاء عبد شمس أين هم ... أين أهل الباع منهم والحسب كلّ سامي الجد محمود الجدا ... واضح الغرّة بدر منتجب لم يكن أندبهم عندكم ... ما فعلتم يالعبد المطلب إن تجدّوا الأصل منهم سفها ... يا لقومي للزمان المنقلب إنّ هذا الدهر لابد له ... بخيار الناس يوما ينقلب فغض السفاح من فعله وألان جانبه وفلّ غرب سطوته، ومولده سنة خمس ومائة، وتوفي بالجدري سنة ست وثلاثين ومائة، وعمره واحد وثلاثون سنة، ومدته أربع سنين وتسعة شهور وأيام، وقبره بالأنبار. ثم: 56- دولة المنصور أخيه أبي جعفر عبد الله بن محمد «1» ، وكان منصور اللواء، مقصور الرأي

على دفع اللأواء، لا ينثني عوده بالالتواء، ولا يستحوذ عليه بالاحتواء، لا يمل طول الثواء ولا يلم برده على تأخير الدواء، لا تزعجه تظافر الأشياء والأسواء، ولا تردعه تغاير الأهواء، أوقع على مقاصده من مواطن [ص 105] الأنواء، وأبصر بمصالحه من نواظر الصحة عداوة الأدواء، لا يفكر في عباد يهلكها، لبلاد يملكها، ولا يستأثر بدماء يسفحها لنعماء يمنحها، حتى توطدت قواعد ملكه، وتوطنت فرائد الأقاليم في سلكه، فما أعجزه مرام، ولا أعجزه حافز أمر عن تمام، ولم يكن في بيته أقوى منه شكيمة، ولا أورى زناد عزيمة، ولا أغزر علما، ولا أوفر حلما، إلا أنه كان مبخلا لا يرشح له صلد تبدى، ولا يفيض له بحر بجدا، ونجمت في مدته خوارج فرماها بغوائله، وماراها حتى شفى منها صدور مناهله، فاستقام له غويها، ودخل في ذمام طاعته عصيّها، ومن نأت عليه أنهد إليها جيوشه فأوطاها أحداثا، وأوطنها أجداثا، ثم بعث إلى الأطراف فسدد ثغورها، وشد سعورها، وبنى المدن ومدنها، وسجن المعاقل وحصنها، وكان لا يطمع في اهتبال غرته، واحتلال أسرته، فما لانت حصاته لماضغ، ولا هانت حصانته على رائغ، فلم يتخلص من قبضته نازغ، ولا قصده إلا من عاد بقلب ملآن فارغ، ودام الملك في بيته تتوارثه، وينتقل إليهم عنه موارثه، وهاهم إلى اليوم في بقايا نعمه التي أحرزها، وذخائره وهي الخلافة التي في بيته أكثرها، وهو داهية القوم وقلّبته الأحوال أكثر من كل بني أبيه، واضطر في دولة بني أمية إلى أنه قصد شيعتهم بالعراق، فمر في طريقه بقصر خالد بن عبد الله القسري «1» ، فلما رآه خالد لم

يكن يعرفه، طالبه وسأله عن نسبه وأين يريد، فأخفى نسبه وقال: إني أريد العراق لدين عليّ، وحقوق لزمتني، فأمر له بمال جليل وأعاده، فراعاها له أبو جعفر، فلما أفضت إليه الخلافة رد على آل خالد بن عبد الله نعمتهم «1» ، وألجأته الضرورة إلى أنه تزوج امرأة من الأزد، وأكرى نفسه مع الملاحين، يمد في الحبل، وأولد تلك الامرأة ولدا كتب في دولة أبي جعفر عند أبي أيوب المورباني، وهو [ص 106] لا يدري ولا الصبي أنه ابن أبي جعفر، فرآه أبو جعفر، فهفت إليه نوازعه، فسأله عن أبيه فقال: رجل شريف تزوج بأمي، فسأله عن أمه وأهله ومكانه، فعرفه وعرف أنه ابنه، فأمره بحمل أمه وأهله إليه، فلما سافر لهذا، بعث أبو أيوب من تتبعه وقتله غيلة، خوفا منه لما كان اطلع عليه من معابثه؟ وأمسك أبو جعفر المنصور في آخر سلطان بني أمية بسبب مال، وضربه عامل البصرة بالسياط، وكان أبو أيوب المورياني يكتب لعامل البصرة، فقام وأكب على أبي جعفر وخلصه، وكان أبو جعفر يرعى له هذا الود، ثم كان منه ما كان إليه، على ما يأتي في موضعه، ولما مات السفاح خرج عليه عبد الله بن علي «2» بالشام، وكان ليه من قبل السفاح، وقال إن السفاح عهد قبل موته إن

الأمر لقاتل مروان، وأنا قاتله، فقالوا صدقت وبايعوه، فبعث إليه المنصور أبا مسلم، فالتقوا ببلاد نصيبين، وكانت بينهم حروب عظيمة دامت شهورا، ثم انهزم أصحاب عبد الله بن علي إلى البصرة، وكان عليها أخوه سليمان بن علي، فأنزله وأخبر المنصور فأمره بحبسه، ثم كان آخر العهد به، ثم إن أبا مسلم شمخ بنفسه فأرسل إليه المنصور يقطين بن موسى ليقبض ما أصاب، فرده ردا قبيحا، ثم سار أبو مسلم من الجزيرة وقد أزمع على الخلاف، وبلغ الخبر المنصور وهو بالمدائن فاغتم لذلك، وسار إلى مدينة رومية، وكتب إليه أني أريد أن أشاورك في أمر لا أستطيع أن أكتمه، فأتني مسرعا، فلم يلتفت على الكتاب، فدس عليه صاحبا له، فأتى به فقتله على الصورة المعروفة، ولما قتله التفت إليه، ثم قال يرحمك الله أبا مسلم، لقد بايعتنا وبايعناك، وعاهدتنا وعاهدناك، ووافيتنا ووفينا لك، وإنا بايعناك على أن لا يخرج علينا أحد في هذه الأيام إلا قتلناه، فخرجت علينا فقتلناك. وحكي أن أبا مسلم كان يجد خبره في الكتب [ص 107] السابقة وأنه مميت دولة ومحيي دولة، وأنه يقتل ببلد الروم وهي من المدائن من العراق، ولما ضربه المنصور أول ضربة، قال له: استبقني يا أمير المؤمنين لأعدائك، فقال: لا أبقاني الله إن أبقيتك، وأي عدو أعدى لي منك، وكان مقتله سنة سبع وثلاثين ومائة، وهو ابن إحدى وثلاثين سنة، ذكره الغرناطي، ولما رآه المنصور طريحا بين يديه قال:

[السريع] زعمت أنّ الدّين لا يقتضى ... فاستوف بالكيل أبا مجرم واشرب بكأس كنت تسقي بها ... أمرّ في الحلق من العلقم فاضطرب أصحاب أبي مسلم، فنثرت «1» عليهم الأموال وأعلموا بقتله، فأمسكوا رغبة ورهبة، ومضى أبو مسلم لسبيله لم يغن عنه كثرة قبيله، ولا توقد بصر كان يسري بقنديله، ولا نجاة بعد غور كانت السفن تغرق في ضحضاحه، وتدلج ولا تظفر بصباحه، فلم ينفع بحذار، ولم يدفع بحذر لمقدار، وحكت سلامة أم منصور قالت: رأيت حين حملت به أسدا خرج من قبلي فأقعى وزأر وضرب الأرض بذنبه، فاجتمعت إليه الأسود، وكان كلما جاءه أسد سجد له، وكان المنصور فقيها عالما حافظا، قال مالك بن أنس: ما اجتمعت قط بأبي جعفر المنصور إلا احتقرت نفسي، وادّعت الراوندية «2» فيه الألوهية، وخرج لدفعهم، فأرادوا قتله، وقالوا: نريد يخرج الجزء الإلهي من هذا الناسوت، فخافهم، فاختط مدينة بغداد وانتقل من الهاشمية إليها، وقد تقدم ذكر بغداد في موضعه من تقسيم الأقاليم، وكان أبو حنيفة ممن على عملها. وعن عمير المديني قال: قدم علينا المنصور المدينة ومحمد بن عمران الطلحي على قضائه، وأنا كاتبه، فاستعدى الحمالون عليه في شىء ذكروه، فأمرني أن أكتب إليه كتابا

بالحضور معهم وإنصافهم، فقلت: تعفيني [ص 108] من هذا فإنه يعرف خطي، فقال: اكتب، فكتبت ثم ختمه، فقال: لا يمضي به والله غيرك، فمضيت به إلى الربيع «1» ، وجعلت إليه اعتذر، فقال «2» : لا عليك، فدخل عليه بالكتاب، ثم خرج الربيع فقال للناس: أمير المؤمنين يقول لكم: إني قد دعيت إلى مجلس الحكم، فلا أعلمن أحدا قام إلىّ إذا خرجت أو بدأني بالسلام، ثم خرج والمسيب بين يديه، والربيع وأنا خلفه، فسلم على الناس، فما قام إليه أحد، ثم مضى حتى بدأ بالقبر فسلم ثم التفت إلى الربيع وقال: يا ربيع ويحك، أخشى إن رآني عمران أن يدخل قلبه لي هيبة فيتحول عن مجلسه، وتالله إن فعل لا ولي لي ولاية أبدا، فلما رآه وكان متكئا، أطلق رداءه عن عاتقه ثم احتبى به، ودعا بالخصوم وبالحمالين، ثم دعا بالمنصور فسوّى بينهم، ثم ادعى عليه القوم، فقضى لهم، فلما دخل الدار قال للربيع: اذهب فاذا قام وخرج من عنده الخصوم فادعه، فقال: يا أمير المؤمنين، إنه ما دعا بك الا بعد أن فرغ من أمور الناس، فمضى ودعاه، فلما دخل عليه سلم فقال له: جزاك الله عن دينك وحسبك وعن خليفتك أحسن الجزاء، قد أمرت لك بعشرة آلاف دينار فاقبضها، فكانت عامة أموال محمد بن عمران من تلك. وحكى البلاذري قال: ما كان المنصور يستصبح إلا بالزيت في القناديل،

وإنما خرج إلى المسجد ومعه من يحمل سراجا بين يديه، ثم إنه حمل بين يديه ما فيه الرطل والمن، وكان إذا أراد قراءة الكتب أو كاتبها أحضر شمعة في تور «1» ، ثم إذا فرغ رفعها، وكان لا يرى إلا الاقتصاد في كل أموره، والاقتصار على الضروري الذي لابد منه، وكان أبو عبيد الله الكاتب يقول: كان المنصور يعطي الناس في حق، وأعلمهم «2» بحرمه، وأشدهم شكيمة على عدو، وكان أمره جدا كله، وسمع المنصور جلبة في داره، فقال: ما هذا؟ فاذا خادم له قد جلس وغلمة حوله وهو يضرب لهم بطنبور «3» وهم يضحكون منه، فأخبر بذاك، فقال: وما الطنبور؟ فوصفه [ص 109] له عماد التركي، فقال له: وما يدريك به؟ فقال: رأيته بخراسان، فقال: نعم، ودعا بنعله وقام يمشي رويدا حتى أشرف على الغلمان، فلما أبصروه تفرقوا، فقال: خذوا الخادم فاكسروا ما معه على رأسه، ثم قال: يا ربيع، أخرجه من قصري، وابعث إلى حمران النخاس حتى يبيعه، فوجه به الربيع من ساعته فبيع. وعن رجل من حشم المنصور قال: كان المنصور يقسم علينا الأرزاق وما في الخزائن حتى القانيد «4» والدرياق «5» ، وركب المنصور يوما نحو باب قطربل «6» حتى دخل من ناحية باب حرب «7» ، فأساء بعض أحداث مواليه، وسار في ناحية

مثيرا، لا يسير فيها أحد كراهة للغبار، فالتفت إلى عيسى بن علي وهو يسايره، فقال: والله ما ندري يا أبا العباس ما نصنع بهولاء الأحداث، إن حملناهم على الأدب وأخذناهم بما نحب ليقولن جاهل لم يحفظ أباهم فيهم، وإن تركناهم وركوب أهوائهم ليفسدنّ علينا غيرهم وسئل عنه إسحاق بن مسلم [قال] : لقد سبرت «1» أبا جعفر فوجدته بعيد الغور، وعجمت عوده فوجدته صلب المكسر، ولمسته فوجدته خشن الملمس، وذقته فوجدته مر المذاق، وإنه وما حوله لكما قال ربيعة: «2» [الطويل] سما بي فرسان كأنّ وجوههم ... مصابيح تبدو في الظلام مزاهر يقودهم كبش أخو مصمئلة ... حليف سرى قد لوّحته الهواجر «3» وقال: يقول للمهدي: يا بني استدم النعمة بالشكر والقدرة بالعفو والطاعة بالتألف، والنصر بالتواضع لله، والرحمة للناس، ولما أتاه مخرج محمد بن عبد الله «4» بالمدينة سن عليه درعه، وتقلد سيفه، ولبس خفّه، وصعد المنبر، فحمد

الله وأثنى عليه، ثم قال: [البسيط] ما لي أدافع عن سعد ويشتمني ... ولو شتمت بني سعد لقد سكنوا «1» جهلا عليّ وجبنا عن عدوهم ... لبئست الخلتان الجهل والجبن [ص 110] أما والله، لقد عجزوا عمّا قمنا به، فما عضدوا الكافي، ولا شكروا المنعم، فماذا حاولوا، أأشرب رنقا على غصص، وأبيت منهم على مضض، كلا والله، إني لا أصل ذا رحم بقطيعة نفسي، وإن لم يرض بالعفو مني ليطلبن مالا، يوجد عندي، ولأن أقتل معذورا أحبّ إليّ أن أحيا مستذلا، فليبق ذو نفس على نفسه قبل أن يقضي نحبه، ثم لا أبكي عليه، ولا تذهب نفسي حسرة لما ناله، ثم دقّ بيده على صدره، وأنشد:

[الوافر] فكم من غارة ورعيل خيل ... تداركها وقد حمي اللقاء فردّ رعيلها حتى ثناها ... بأسمر ما يرى فيه التواء ثم أنشد: [الكامل] ونصبت نفسي للرماح دريئة ... إنّ الرئيس لمثل ذاك فعول «1» ثم لم يلبث أن أتاه الخبر بمخرج إبراهيم بن عبد الله «2» إثر أخيه، جمع المنصور بني أبيه وقال: ما ترون؟ فقالوا: توجه موسى بن عيسى، فقال: يا ولدي على ما أنصفتم وجهت إياه وأوجه ما يجوز، قالوا: فوجه عبد الله بن علي واصطنعه، قال: هيهات، أبعث عليّ حربا أخرى، إن خافني مالأ عدوي عليّ، وإن ظفر أعاد الحرب بيني وبينه خدعة، وقد سمعتكم تذكرون أن له أربعة آلاف مولى يموتون تحت ركابه، فأي رأي هذا، والله لو دخل عليّ إبراهيم بسيف مسلول لكان أهون عليّ من تقبيل عبد الله بن علي رأسي، ثم جهز إليه موسى بن عيسى «3» .

وحكى المنصور قال: رأيت كأني حول الكعبة، فنادى مناد من جوف الكعبة: أبا العباس، فنهض أخي فدخل الكعبة، ثم خرج وبيده لواء، فمضى فنادى مناد: يا عبد الله، فنهضت أنا وعمي عبد الله بن علي نبتدر، فلما استوينا على الدرجة العليا دفعته عن الدرجة فهوى، ودخلت الكعبة، فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، فعقد لي لواء طويلا على قناة، وقال: خذها حتى تقاتل بها [ص 111] الدجال. وحكى عنه شبيب بن شبة الأهتمي التميمي قال: حججت في العام الذي ولد فيه الوليد بن يزيد، فبينا أنا مريح ناحية من المسجد، إذ طلع من بعض أبوابه فتى كأن عينيه لسانان ناطقان، يخلط أبّهة الأملاك بزي النساك، فما ملكت نفسي أن نهضت في إثره سائلا عن خبره، فسبقني فتحرم بالطواف، فلما سبّع «1» قصد المقام فركع، ثم نهض منصرفا، فكأنّ عينا أصابته، فكبا كبوة ذهب لها إصبعه، فقعد لها القرفصاء، فدنوت منه متوجعا له، أمسح عن رجله التراب فلا يمتنع، فشققت حاشية ثوبي فعصبت بها إصبعه، فما تأفف، ثم نهض متوكئا عليّ، حتى أتى دارا بأعلى مكة، فابتدره رجلان تكاد صدورهما تنفرج من هيبته، ففتحا له الباب، فاجتذبني، فدخلت بدخوله، ثم خلى يدي وأقبل على القبلة، فصلى ركعتين أوجزهما في تمام، وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم أتم صلاة وأطيبها، ثم قال: لم تخف عني مكانك بعد اليوم ولا فعلك بي، فمن تكون يرحمك الله؟ فسميت له نفسي، فرحّب وقرّب، ووصف قومي بخير، فقلت له: أنا أجلّك يرحمك الله عن السؤال،

وأحبّ المعرفة، فتبسم وقال: لطف أهل العراق، أنا عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، فقلت له: بأبي أنت وأمي، ما أشبهك بنسبك، وأدلك على منصبك، ولقد سبق إلى قلبي من محبتك ما لا أبلغه بوصفي لك، قال: فاحمد الله يا أخا بني تميم، إنما يسعد الله من أحببنا بحبه، ويشقى ببغضنا من أبغضه، ولن يصل الإيمان إلى قلب أحدكم حتى يحب الله ورسوله وأهل بيته، ومهما ضعفنا عن جزائه قوّى الله على أدائه، قلت إن أيام الموسم ضيقة، وشغل أهل مكة كثير، وفي نفسي أشياء أحب أن أسأل عنها أتأذن فيها؟ فقال: نحن من أكثر الناس مستوحشون، وأرجو أن يكون للسر موضعا وللأمانة واعيا، فإن كنت كما رجوت فافعل [ص 112] ، فقدمت من وثيق القول والأيمان ما سكن إليه، وتلا قوله تعالى: (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) » ، ثم قال: سل عما بدا لك، قلت: ما ترى فيمن على الموسم؟ وكان محمد بن يوسف الثقفي «2» ، فتنفس الصعداء، وقال: أعن الصلاة خلفه تسألني؟ أم كرهت أن يتأمر علينا أهل البيت؟ قلت: عن كلا الأمرين، قال: إن هذا عند الله لعظيم، فأما الصلاة ففرض الله تعبد بها خلقه، فأدّ ما فرض عليك في كل وقت مع كل أحد، فإنه لو كلفك أن لا تؤدي نسكا إلا مع أكمل المؤمنين إيمانا، لضاق عليك الأمر، فاسمح يسمح لك، ثم سألته عن أشياء من أمور ديني، فما

احتجت أن أسأل أحدا بعده، ثم قلت: يزعم أهل العلم أنه سيكون لكم دولة، قال: لا شك فيها تطلع طلوع الشمس وتظهر ظهورها، فنسأل الله خيرها، ونعوذ بالله من شرها، فخذ بحظ لسانك ويدك منها إن أدركتها، قلت: وإنه يبتلى بكم من أخلص المحبة، قال: قد روي أن البلاء أسرع إلى محبينا من الماء إلى قراره، قال: فقلت له إني لأخاف ألا أراك «1» بعد اليوم، قال: أرجو أن أراك وتراني كما تحب إن شاء الله، قلت: عجل الله ذلك، قال: آمين، فقلت: ووهبني السلامة منكم، فإني من محبيكم، قال: آمين، وتبسم، ثم قال: لا بأس عليك ما أعاذك الله من ثلاث، قلت: ما هن؟ قال: قدح في الملك، دهنك في الدين، أو تهمة في حرمه، ثم قال: احفظ عني: لا تجالس عدونا وإن أخطبناه، فإنه مخذول، ولا تخذل ولينا فإنه منصور، واصحبنا بترك المماكرة، وتواضع إذا رفعوك، وصل إذا قطعوك، ولا تخطب الأعمال، ولا تتعرض للأموال، وأنا رائح من عشية، فهل من حاجة، فنهضت لوداعه، فلما خرجت أتبعني مولى له بكسوة، وافترقنا، فوالله ما رأيته، إلا وحرسيان قابضان عليّ يدنياني منه في جماعة من قومي لأبايعه، فلما نظر إليّ قال: خليا عمّن صحت مودته، وتقدمت [ص 113] خدمته، وأخذت قبل اليوم بيعته، ثم قال: أين كنت عني أيام أخي العباس، فذهبت أعتذر، فقال: أمسك فإن لكل شىء وقتا لا يعدوه، فاختر بين رزق يشغلك، أو عمل يرفعك، قلت: أنا حافظ لوصية أمير المؤمنين، قال: إنما نهيتك أن تخطب الأعمال، ولم أنهك عن قبولها، قلت: الرزق مع قبول أمير المؤمنين أحب إليّ، قال: هو أجمّ لقلبك، وأحب إليّ لك، ثم قال: قد ألحقنا عيالك بعيالنا، وخادمك بخادمنا، وفرسك بأفراسنا، ثم ضمه إلى المهدي، فكان معه.

ورأى المنصور قبل موته بيسير أعاجيب كثيرة مؤذنة بهلاكه، منها أنه لما دخل آخر منزل نزله من طريق مكة، نظر في صدر البيت الذي نزله، فاذا فيه مكتوب: [الطويل] أبا جعفر حانت وفاتك وانقضت ... سنوك وأمر الله لا بد واقع أبا جعفر هل كاهن أو منجم ... لك اليوم من حر المنية مانع فأقرأ متولي المنزل البيتين، فقال: ما أرى شيئا فأقرأ حاجبه فقال كذلك، قال: اقرأ آية من كتاب الله تشوقني إلى الغاية، فقرأ: وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ «1» فقال له: أما وجدت آية غيرها، قال: والله لقد محي القرآن من قلبي غيرها، وهتف به هاتف قبلها بهذه الأبيات: [البسيط] أما وربّ السكون والحرك ... إنّ المنايا كثيرة الشّرك ما اختلف الليل والنهار ولا ... دارت نجوم السماء في الفلك إلا لنقل السلطان من ملك ... قد انتهى ملكه إلى ملك ثم رأى بعد ذلك كأنّ منشدا ينشده: [مجزوء الكامل] أأخي حفص من مناكا ... فكأنّ يومك قد أتاكا ولقد أتاك الدهر من ... تصريفه ما قد أتاك [ص 114] وإذا رأيت الناقص ... العبد الذليل فأنت ذاكا ملّكت ما ملّكته ... والأمر فيه إلى سواكا

وذكر عنه أنه كان في مجلس من أعلا باب خراسان إذ جاء سهم عائر «1» فسقط بين يديه، فذعر وجعل يقلبه، فاذا بين الريشتين مكتوب: [الوافر] أتطمع في الحياة إلى المعاد ... وتحسب أنّ مالك من نفاد ستسأل عن ذنوبك والخطايا ... وتسأل بعد ذاك عن العباد ثم قرأ عند الريشة الثانية: [البسيط] أحسنت ظنّك بالأيام إذ حسنت ... ولم تخف سوء ما يأتي به القدر وسالمتك الليالي فاغتررت بها ... وعند صفو الليالي يحدث الكدر ثم قرأ عند الريشة الثالثة: [البسيط] هي المقادير تجري في أعنّتها ... فاصبر فليس لها صبر على حال يوما تريك خسيس الناس ترفعه ... إلى السماء ويوما تخفض العالي وإذا على جنب السهم: رجل من همدان مظلوم في حبسك، فبعث من فوره، ففتش عليه، فوجده، فأنصفه وأزال ظلامته، ولما رأى ما رأى من العجائب المنذرة بهلاكه، قال لحاجبه الربيع: إني أتخوف على هذا الأمر، قال له: من يا أمير المؤمنين؟ تعني عيسى بن موسى «2» وهو معك بالحضرة، فأمرني فيه بأمرك حتى أنفذه، فقال: كلا يا ربيع، رجل ما أعطى الله عهدا إلا وفى به،

وإنما أتخوف صاحب الشام عبد الوهاب بن إبراهيم الإمام «1» ، ثم رفع يديه إلى السماء فقال: اللهم اكفني عبد الوهاب، قال الربيع: فلما مات المنصور ودليته في القبر، وعرضت عليه الحجارة، سمعت هاتفا يهتف من القبر: مات عبد الوهاب وأجيبت الدعوة، قال الربيع: فهالني ذلك الصوت، وجاء الخبر بعد سابعة بوفاة عبد الوهاب، ومولده «2» سنة خمس وتسعين، وتوفي في ذي الحجة لست خلون منه سنة ثمان وخمسين ومائة، وعمره ثلاث وستون سنة، ومدته [ص 115] نحو اثنتين وعشرين سنة، وقبره ببئر ميمون قرب مكة المعظمة. ويروى له من الشعر قوله: [مجزوء الكامل] المرء يهوى أن يعي ... ش وطول عيش قد يضره تفنى بشاشته ويب ... قى بعد حلو العيش مرّه وتصرف الأيام حت ... ى ما يرى شيئا يسرّه

57 - دولة المهدي

كم شامت بي إن هلك ... ت وقائل لله درّه ثم: 57- دولة المهديّ أبي عبد الله محمد بن المنصور «1» ، وكان أبوه قد قرر أموره، وقرّب له مد الخلافة، وما مات حتى أكد له البيعة، ووثق له أسباب الملك، وكان مما بالغ فيه من التمهيد له، أنه آثره دونه بحسن السمعة، وخلاص الذمة، فإنه أخذ أموالا حسنة من الناس وأودعها «2» بيت المال في أكياسها، وكتب على كل مال اسم صاحبه، ثم لما عزم على الحج، قال له: يا بني، إذا أنا متّ ردّ كل مال على صاحبه ليحبّوك، فلما مات رد الأموال على أهلها. وقالوا: ظلمنا أبوه وأنصفنا هو، فأحبّوه وتيمنوا بأيامه، ولما ولي نفّس خناق الناس، وحل عقد أبيه، وأزال تشدده، وأطلق ما أمسك به يده، ولم يحرم طالب ثواب ولا آخذ بطائل عقاب، وكانت أيام هدوء وأعوام خصب، رقت بها حواشي الحنو، وردت الأمة مناهلها صفوا، وردت نقمها عفوا، وورفت ظلال حلمها، فلم يدع هفوا،

وأكثر نقلة الأخبار على أنه كان لا يرتضع كأسا، ولا يكاثر لهوا، ولا يقبل فيما ينشد لغوا، يربأ بنفسه أن يتشاوس نظره زهوا، ويأبى أن يقارف عزيمته، وكان قويا مهيبا متوسطا في أموره، متناسبا في أحواله، وفي المهدي يقول ربيعة الرقي: «1» [السريع] قد بسط المهديّ كفّ الندى ... للناس والعفو عن الظالم [ص 116] فالراحل الصادر عن بابه ... مبشّر للوارد القادم وكان المنصور يريد أن يجعل العهد إليه، وكان إلى عيسى بن موسى، فتحيّل له بأنواع الحيل حتى جعله إليه، وعوض عيسى بن موسى بعشرة ألف ألف درهم، وجعله بعد المهدي (........) «2» : [الرجز] قل للأمين الواحد الموحد ... إنّ الذي ولّاك ربّ المسجد ليس وليّ عهدنا بالأسعد ... عيسى فردها إلى محمد فرواها الخدم والبطانة وبلغوها بإذنه المنصور، فدعي به في مجلس حافل وفيه عيسى بن موسى، فاستنشده فأنشده إياها، وكان فاتحة لكلام المنصور، ثم إن عيسى بن موسى دسّ على أبي نخيلة من قتله وسلخ وجهه. وعن سوّار قال: انصرفت يوما من دار المهدي إلى منزلي، فدعوت بالغداء،

فجاشت نفسي، فدعوت بالنرد، فلم تطب نفسي، فدخلت القائلة، فلم يأخذني النوم، فنهضت فركبت بغلة لي وخرجت، فاستقبلني وكيل لي بألفي درهم، فقلت دعها معك واتبعني، ثم خليت رأس البغلة حتى انتهيت إلى باب دار لطيف عليه شجرة، وعليه خادم، فوقفت وقد عطشت، فقلت للخادم: أعندك ماء؟ قال: نعم، وقام فأخرج قلّة نظيفة طيبة الرائحة، عليها منديل، فشربت، وحضرت العصر، فدخلت مسجدا هناك، فصليت فيه، فلما قضيت صلاتي، إذا أنا بأعمى يلتمس، فقلت: ما تريد يا هذا؟ قال: إياك أريد، فقلت: وما حاجتك؟ فقال: أرأيت باب هذا القصر؟ قلت: نعم، قال: هذا قصر كان لأبي فباعه وخرج إلى خراسان، وخرجت معه، فزالت عنا النعم، فأتيت صاحب الدار لأسأله شيئا يوصلني إلى سوّار فإنه كان صديقا لأبي، فقلت: ومن أبوك؟ قال: فلان، فعرفته، فقلت: إن الله قد أتاك بسوار، منعه الطعام والنوم حتى جاء به إليك، ثم أخذت الدراهم من الوكيل [ص 117] فدفعتها إليه، وقلت له: إذا كان غد فصر إلى المنزل، ثم أتيت المهدي، فطرفته بحديثه، فأعجبه، وأمر له بألفي دينار، فنهضت فقال لي: أعليك دين؟ قلت: نعم، قال: كم؟ قلت: خمسون ألف دينار، فأمسك، وجعل يحدثني ساعة، ثم أتيت منزلي، فإذا خادمه معه خمسون ألف دينار، قال: يقول لك أمير المؤمنين، اقض بها دينك، ثم لما كان الغد أبطأ عليّ الأعمى، وأتاني رسول المهدي يدعوني، فجئته، فقال: فكرت في أمرك، فقلت: يقضي دينه ثم يحتاج إلى العوض، وقد أمرت لك بخمسين ألف دينار أخرى، فقبضتها وانصرفت، فأتاني الأعمى، فقلت له: قد رزق الله بكرمه بك خيرا كثيرا، فأعطيته صلة المهدي، ومن عندي مثلها. وعن هشام الكلبي قال: طلبني المهدي فلما صرت إليه، أقرأني كتابا،

فألفيته يتضمن شتمه وسبّه، فألقيته من يدي، ولعنت كاتبه، وقلت: من كاتب هذا الملعون الكذاب؟ فقال: هذا الأموي صاحب الأندلس، فقلت: فهو وآباؤه وأمهاته، والله أهل لذلك، فسرّ بقولي، ثم قال: أقسمت عليك لما أمللت مثالهم كلهم على هذا، وأشار إلى كاتب من كتاب السر فأمللته، ولم أبق شيئا، فلما فرغت منه عرضته عليه، فأظهر السرور، ثم ختم الكتاب وجعله في خريطة، ودفعه إلى صاحب البريد، وأمره بتعجيله إلى الأندلس، ثم أمر لي بألفي دينار وعشرين ثوبا وبغلة شقراء بسرجها ولجامها من مراكبه، وأقطعني أرضا بالبصرة، ثم قال: اكتم ما سمعت. وعن عبد العزيز بن الماجشون «1» قال: سألني المهدي فقال: ما قلت حين فقدت أصحابك، يعني الفقهاء، قال قلت: [البسيط] يا من لباك على أصحابه جزعا ... قد كنت أحذر ذا من قبل أن يقعا فليصنع الدهر بي ما شاء مجتهدا ... فلا زيادة شيء فوق ما صنعا فقال: والله لأعيننك، فأجازه بعشرة آلاف دينار، فقدم بها [ص 118] المدينة فأنفدها في السخاء والكرم. وعن واضح قهرمان المهدي قال: كنت معه بما سبذان «2» ، فلم أزل معه إلى بعد العصر، ثم انصرفت إلى مضربي، فلما كان وقت السحر الأكبر، ركبت

لإقامة الوظائف، فسرت منفردا من غلماني، فلقيني أسود عريان على فرد رجل، فدنا مني ثم قال: أعظم الله أجرك في مولاك المهدي، فهممت أن أعلوه بالسيف، فغاب عني، فلما انتهيت لقيني مسرور، فأعلمني بموته، فدخلت فإذا به مسجى، وقيل: مات لأنه طرد ظبيا، فاقتحم خربة، فدخلها ورآه، فدق ظهره باب الخربة فمات، ومولده سنة سبع وعشرين ومائة، ووفاته في المحرم سنة تسع وستين ومائة، وعمره اثنتان وأربعون سنة، ومدته عشر سنين «1» وشهر وأيام، وقبره بما سبذان من (.....) «2» ولما قارب دنو أجله، رأى قائلا ينشده، يسمع صوته ولا يشهده: [الطويل] كأني بهذا القصر قد باد أهله ... وأوحش منه ربعه ومنازله وصار عميد القوم من بعد بهجة ... وملك إلى قبر عليه جنادله ولم يبق إلا ذكره وحديثه ... ينادى عليه معولات حلائله فما بقي إلا عشرة أيام ومات، واختطفه عقاب الملمات، كنّ حظاياه قد بكرن في الوشي وقت الصبوح، ثم عدن قبل الظهيرة وعليهن المسوح، فقال أبو العتاهية: «3» [مجزوء الرمل] رحن في الوشي وأقبل ... ن عليهن المسوح كلّ نطّاح من الدن ... يا له يوم نطوح لست بالباقي ولو عم ... رت ما عمّر نوح

58 - دولة الهادي

فعلى نفسك نح إن ... كنت لابدّ تنوح ثم: 58- دولة الهادي أبي محمد «1» موسى بن محمد المهدي [ص 119] ، كان كريما غيورا حاد المزاج، شرس الخلق، له بادرة لا تؤمن، وإقدام لا يطمئن به، وقد أراد الرشيد على خلع نفسه من ولاية العهد، وراود في ذلك يحيى بن خالد غير مرة، وهو ممتنع عليه، ويقيم له الأدلة على زيف رأيه في ذلك، على ما سيأتي ذكره في مواضعه من هذا الكتاب، ولم يطل بالهادي فسيح أجل، ولا تراخى به عنان مهل، حتى ساورته المنون، وسارعته الشهور لا السنون، فمال عرشه في أقرب وقت، ومات وأبقى له المقت، واختلف في موته بأي سبب كان، فقيل: أكل رمانا فشرق منه بحبة فمات، وقيل: وقع على قصب فارسي فدخل في دبره فمات، وقيل: مرض أياما ومات، وقيل: غمّته أمّه الخيزران «2» لإفراط تحجره عليها، وتبرمه من

شفاعاتها، ولما أراد عليه أخاه هارون الرشيد، وكان هارون أحبّ إليها وأكرم منه عليها، فطلبت في الحال يحيى بن خالد ونعته إليه، نعي غير ثكلى ولا فاقد، وكان يحيى عنده محبوسا، فبادر إلى هارون بخبر موسى، فصادف خادما يريد يبشره بولادة مولود ذكر، ولد له تلك الليلة، وهو المأمون، فسابقه في الدخول عليه وبادره بالسلام وقال: أهنيك بالخلافة وغلام. وعن الحسن بن معاذ بن مسلم وكان رضيع الهادي، قال: رأيتني أخلو مع موسى الهادي ولا أجد له هيبة في قلبي، لما كان يبسطني، وربما صارعني فأصرعه غير هائب له، وأضرب به الأرض، فاذا ابليس لبسه الخلافة، ثم جلس مجلس الأمر والنهي، قمت على رأسه، فوالله ما أملك نفسي من الرعدة والهيبة. وقال إبراهيم المؤذن إن الهادي كان يثب على الدابة وعليه درعان، لا يضع رجله في الركاب، وكان مقتفيا لآثار أبيه في تطلب الزنادقة والإيقاع بهم، لأن أباه أوصاه بذلك، وكان كريما خرقا، وذكر الطبري في حكاية طويلة أنه وهب عبد الله بن مالك، وكان على شرطته أربع مائة بغل دراهم، وعن أبي محمد اليزيدي، قال: دخلت على الهادي فإذا بين يديه سيف عريض كأنه بغلة «1» ، فقلت يا أمير المؤمنين، ما هذا؟ [ص 120] قال هذا سيف عمرو بن معديكرب «2»

الصمصامة، فاستحسنته، فقال لي: قد كنت سألت المهدي أن يهب لي هذا السيف، فضن به عني ومنعنيه، فآليت إن بلغني الله أملي أن أمتحنه، وقد عزمت على أن أدعو غلامي طرخان الخزري، وهو جيد الذراع أن يحضر لي صخرة سوداء طولانية من حجارة القصارين، فأتقدم إليه أن يجمع يديه في السيف ثم يضرب به الرأس الدقيق من الصخرة، فإن سلم سلم، وإن يقطع تقطع، قال: فلم أزل أسأله إعفاء السيف من الامتحان، وأقول شرف من شرف العرب، وسيف لا يوجد مثله، فأبى ودعا غلامه طرخان، فجاء بالصخرة، فقلت: يا أمير المؤمنين، فإذا لم تطعني فاعمل له ما تبقي على الدهر، تدخل من بالباب من الشعراء حتى يحضروا امتحانه، فإن سلم وصفوه، وإن تقطع رثوه، فأمر بإحضارهم، ثم أمر طرخان بامتحانه، فحسر عن ذراعيه وهزه، وجمع يديه في قائمه، ثم ضرب به الصخرة فمضى فيها، حتى قطعها، ولم يصبه شىء، فلم يقل أحد أرضى من قول أبي الغول، قال: [الخفيف] حاز صمصامة الزبيدي عمرو ... من جميع الأنام موسى الأمين سيف عمرو وكان فيما علمنا ... خير ما أغمدت إليه الجفون أخضر اللون بين حدّيه برد ... من دباج تميس فيه المنون أوقدت قومه الصواعق نارا ... ثم شابته بالذعاف القيون

وكأنّ الفرند والرونق الجا ... ري في صفحتيه ماء معين ما يبالي إذا الضريبة خانت ... أشمال سطت به أم يمين فوصله بعشرة آلاف درهم، وخلع عليه وحمله، ثم أمر لكل واحد من الشعراء خمسة آلاف درهم. وأدخل عليه رجل جعل يقرره بذنوبه ويتهدده، فقال الرجل اعتذاري مما تقول رد عليك وإقراري به يوجب عليه ذنبا، ولكني أقول: إن كنت ترجو في العقوبة رحمة فلا تزهدنّ عند [ص 121] المعافاة في الأجر، فأمر بإطلاقه. وعن علي بن يقطين قال: إني لعند الهادي مع جماعة إذ أتاه خادم، فساره بشىء، فنهض سريعا وقال: لا تبرحوا، ومضى، ثم جاء وهو يتنفس، فاستلقى على فراشه، ثم قال لخادم معه، على يده طبق مغطى بمنديل: ضع ما معك، فوضع الطبق وكشف المنديل، فاذا رأسا جاريتين، لم أر والله أحسن من وجوههما، ولا من شعورهما، وإذا على رؤوسهما الجوهر المنظوم على الشعر، وإذا رائحة الطيب تفوح، فأعظمنا ذلك، فقال: تدرون ما شأنهما؟ قلنا: لا، قال: بلغنا أنهما يتحابان، فوكلت هذا الخادم بهما ينهي إليّ أخبارهما، فجاءني فأخبرني أنهما قد اجتمعا، فجئت فوجدتهما في لحاف واحد، فقتلتهما، ثم قال: يا غلام، ارجع بالرأسين، قال: ثم رجع في حديثه كأن [لم] يصنع شيئا. وعن عمر بن شبّة أن علي بن الحسين بن الحسن بن علي، تزوج رقيّة بنت عمرو العثمانية، وكانت تحت المهدي، فبلغ ذلك الهادي، فأرسل إليه فحمله، فقال: أعياك النساء إلا امرأة أمير المؤمنين، فقال: ما حرم الله على خلقه إلا نساء جدي صلى الله عليه وسلم، فأما نساء غيره فلا ولا كرامة، فشجه بمخصرة كانت في يده، وأمر بضربه خمس مائة سوط، فضرب، وأراده أن يطلقها، فلم يفعل، فحمل في نطع وألقي ناحية، وكان في يده خاتم كسرى، فرآه بعض

الخدم، وقد غشي عليه من الضرب، فأهوى إلى الخاتم، فقبض على يد الخادم فدقها، فصاح فأتى موسى فأراه، فاستشاط وقال: أتفعل هذا بخادمي مع استخفافك بأبي وقولك لي، فقال: سله ومره أن يضع يده على رأسك وليصدقك، ففعل فصدقه الخادم، فقال: أحسن والله، وأنا أشهد أنه ابن عمي، ولو لم يفعل لانتفيت منه، ثم أمر بإطلاقه ووصله. وذكر سعيد بن سالم قال: كنت مع الهادي بجرجان، فأتاه نعي المهدي والخلافة، فركب البريد إلى بغداد في قوم معه، فسرنا بين بساتين جرجان، فسمع صوتا فيها من رجل يتغنى، فقال لصاحب شرطته: عليّ بالرجل [ص 122] الساعة، قال: فقلت ما أشبه قصة هذا الخائن بقصة سليمان بن عبد الملك، بينما هو في متنزه له ومعه حرمه، فسمع في بستان آخر صوت رجل يتغنى، فدعا صاحب شرطته، فقال: عليّ بصاحب الصوت، فأتي به، فلما مثل بين يديه، قال: ما حملك على الغناء، وأنت إلى جنبي ومعي حرمي، أما سمعت أن الرماك «1» إذا سمعت صوت الفحل حنت إليه؟ يا غلام جبه، فجبّ الرجل، فلما كان في العام المقبل، رجع سليمان إلى ذلك الموضع فجلس مجلسه الذي جلس فيه، فذكر الرجل وما صنع به فقال: عليّ بالرجل الذي كنا جببناه، فأحضروه، فلما مثل بين يديه قال: إما بعت فوفيناك، وإما وهبت فكافأناك، قال: فو الله ما دعاه بالخلافة، ولكنه قال: يا سليمان، إنك قطعت نسلي، وذهبت بماء وجهي، وحرمتني لذتي، ثم تقول: إما وهبت فكافأناك أو بعت فوفيناك، لا والله حتى أقف بين يدي الله، فقال الهادي: يا غلام، ردّ صاحب الشرطة، فرده، فقال: لا تعرض للرجل. وولد الهادي سنة ست وأربعين ومائة، وتوفي سنة سبعين ومائة، وعمره أربع

59 - دولة الرشيد

وعشرون سنة «1» ، وكانت مدته سنة وأربعة أشهر، وقيل دونها، وقبره ببغداد. ثم: 59- دولة الرّشيد أبي جعفر هارون بن محمد المهدي «2» ، وهو الذي لم يستقص لأحد من الخلفاء مثله، ولا شاع نظيره، حتى إن العامة تنسب إليه كل حكاية تحكى عن الخلفاء الأمويين والعباسيين، وتنتحل له ما فعله غيره، وتتمحل له ما لا فعله هو ولا أحد سواه، وما ذاك إلا لكثرة محاسن أيامه، ومن كان فيها من أفاضل الناس، كالبرامكة في الكرماء ومالك والشافعي وأحمد ونظرائهم في العلماء، وغير هؤلاء مما لا يسع هذا الموضع استقصاؤهم، ولا يدع عددهم الجم أن يمكن إحصاؤهم، من أعيان الكبراء وحذاق الشعراء والمجودين في الغناء والمجدين من أهل النجدة والغنى، وكانت أيام دولته مجمع الأفاضل [ص 123] ومطلع نجم كل

فاضل، وكان أول من سنّى الجوائز، وسنّ عوائد الكرم، وقسم للخير زمانه، ووسم في غرر الدهر إحسانه، كان لا يزال في حج أو جهاد، ولا يزل عن ذرى مطية أو جواد، قد ضرب بسهم في كل فضيلة، وقسم من كل جميلة، وقد ذكر ابن عبدوس أن الكلف كانت قليلة في أيامه، فإنه ما زاد المقررات كبير زيادة على ما كان، إلا أنه كان يهب هبات لا ينهض بها عبء إمكان، فإذا أعطى استوصلت البحار، واستبسلت بعجزها الأمطار، ووسع عقود المنن، ووسّع برود دولته بمحاسن السنن، وآثاره في غزو بلاد الروم ظاهرة، وأخباره فيها لوامع في أيامه الزاهرة، وكذلك لم يخل الترك من غزوات سلت في وجوههم السيف، وسلطت عليهم حتى الطيف، إلا أن قضية البرامكة جرحت القلوب ونفّرتها، وقرحت العيون وأسهرتها، ثم ندم عليهم ندما أكل عليه يديه، وقرع سنّه مما جرى بسببهم عليه، على أن الندم لا يرد به فائت، ولا يصح به من هو في القبور بائت. وذكر أن الرشيد كان يصلي في كل يوم مائة ركعة إلى أن فارق الدنيا، إلا أن تعرض له علة، وكان يتصدق من صلب ماله في كل يوم بألف درهم بعد زكاتها، وكان إذا حج أحج معه من الفقهاء وأبنائهم، فإذا لم يحج أحج ثلاث مائة رجل بالنفقة السابغة، والكسوة الطاهرة، وكان يقتفي أخلاق المنصور، إلا في بذل المال، فإنه لم ير خليفة قبله كان أعطى منه لولي، ثم المأمون بعده، وكان لا يضيع عنده إحسان محسن، ولا يؤخر ذلك في كل ما يحب ثواب، وكان يحب الشعراء والشعر، ويميل إلى أهل الأدب والفقه، ويكره المراء في الدين، ويقول: هو شىء لا نتيجة له، وبالأولى أن لا يكون فيه ثواب، وكان لا يحب إلا المديح، ولا سيما من شاعر فصيح، ويشتريه بالثمن الغالي الربيح، ودخل عليه مروان بن أبي حفصة فأنشده شعره الذي يقول فيه: «1» [ص 124]

[الطويل] وسدّت بهارون الثغور فأحكمت ... به من أمور المسلمين المرائر وكلّ ملوك الروم أعطاه جزية ... على الرغم قسرا عن يد وهو صاغر لقد ترك الصفصاف هارون صفصفا ... كأن لم يدمّثه من الناس حاضر تسوق يداه من قريش كرامها ... وكلتاهما بحر على الناس زاخر أمور بميراث النبي وليتها ... فأنت لها بالحزم طاو وناشر عليّ بني ساقي الحجيج تتابعت ... أوائل من معروفكم وأواخر فأصبحت قد أيقنت أن لست بالغا ... مدى شكر نعمائكم وإني لشاكر حصون بني العباس في كل مارق ... صدور العوالي والسيوف البواتر فطورا بهارون القواطع والقنا ... وطورا بأيديهم تهزّ المخاصر بأيدي عظام النفع والضر لا يني ... بهم للعطايا والمنايا بوادر ليهنكم الملك الذي أصبحت بكم ... أسرته مختالة والمنابر أبوك ولي المصطفى دون هاشم ... وإن رغمت من حاسديك المناخر فأعطاه خمسة آلاف دينار، وكساه خلعة، وأمر له بعشرة من رقيق الدوم، وحمله على فرس من خاص مراكبه. وذكر أنه كان مع الرشيد ابن أبي مريم المدائني، وكان مضحكا له محادثا فكها، كان لا يصبر عنه، ولا يمل محادثته، وبوّأه منزلا من قصره، فجاء ذات ليلة وهو نائم وقد طلع الفجر، وقام الرشيد إلى الصلاة، فألفاه نائما، فكشف اللحاف عن ظهره وقال: كيف أصبحت؟ وقال: يا هذا ما أصبحت بعد، اذهب إلى عملك، قال: ويلك قم إلى الصلاة، قال: هذا وقت صلاة أبي الجارود، وأنا من أصحاب أبي يوسف القاضي، فمضى وتركه نائما، وتأهب الرشيد للصلاة، فجاءه غلامه فقال: يا أمير المؤمنين قد قام إلى الصلاة، فقام

وألقى عليه ثيابه ومضى نحوه، فإذا الرشيد يقرأ في صلاة الصبح، فانتهى إليه وهو يقرأ: (وما لي لا أعبد الذي فطرني) «1» فقال ابن أبي مريم: لا أدري والله، وقد ملكك الدنيا كلها، فما تمالك الرشيد أن ضحك في صلاته [ص 125] ، ثم التفت إليه وهو كالمغضب وقال: يا ابن أبي مريم، في الصلاة أيضا، قال: يا هذا وما صنعت، قال: قطعت عليّ صلاتي، قال: والله ما فعلت، وإنما سمعت منك كلاما غمني حين قلت: وما لي لا أعبد الذي فطرني، وقد ملكك الدنيا، فقلت لا أدري والله، فضحك الرشيد، ثم قال له: إياك والقرآن والدين، ولك ما شئت بعدهما. وذكر زيد بن علي الحسيني أن الرشيد [أراد] أن يشرب دواء فقال له يا بن أبي مريم هل لك أن تجعلني حاجبك إذا أخذت الدواء وكل شىء أكتسبه بيني وبينك، فقال: أفعل، وبكر ابن أبي مريم ووضع له الكرسي، وأخذ الرشيد الدواء، فجاء رسول أم جعفر يسأل عنه، فأوصله إليه، وعرفه حاله وانصرف بالجواب وقال: اعلم السيدة بما فعلت في الإذن لك قبل الناس، فأعلمها فبعثت إليه بمال كثير، ثم جاء رسول يحيى بن خالد، ففعل به مثل ذلك، ثم جاء رسول جعفر والفضل، ففعل ذلك، فبعث إليه كل واحد من البرامكة بصلة جزيلة، ثم جاء رسول الفضل بن الربيع فرده، وجاءت رسل القواد والعظماء، فما سهل إذن أحد منهم، إلا بصلة جزيلة، فما صلى العصر حتى صار إليه ستون ألف دينار، فلما نقي الرشيد، فقال له: ما صنعت في يومك هذا؟ قال: يا سيدي، كسبت ستين ألف دينار، فقال: أين حاصلي، قال: معزول، قال: لا وقد وهبته لك، ولكن اهد لي عشرة آلاف تفاحة. وذكر مصعب بن عبد الله الزبيري، عن أبيه: أن الرشيد قال له: ما تقول

في الذين طعنوا على عثمان؟ قال: قلت يا أمير المؤمنين، طعن عليه ناس، وكان معه ناس، فأما الذين طعنوا عليه فتفرقوا عنه، وأما الذين كانوا معه، فهم أهل الجماعة إلى اليوم، فقال لي: ما أحتاج أن أسأل بعد اليوم عن هذا، وذكر عنه قال: سألني الرشيد: كيف كانت منزلة أبي بكر وعمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال فقلت: كانت منزلتهما منه في حياتهما منزلتهما [ص 126] في مماته، فقال:، كفيتني فيما أحتاج إليه، وسئل مالك بن أنس عن هذا أيضا فقال له مثل هذا القول: منزلتهما منه في حياته مثل منزلتهما منه في مماته، فقال له: شفيتني يا مالك شفيتني يا مالك. وذكر الليث بن عبد العزيز الجوزجاني عن بعض الحجبة، أن الرشيد دخل الكعبة، وقام على أصابعه وقال: اللهم يا من يملك حوائج السائلين، ويعلم ضمير الصامتين، فإن لكل مسألة منك ردا حاضرا، وجوابا عتيدا، وبكل صامت منك علم محيط ناطق بمواعيدك الصادقة، وأياديك الفاضلة، ورحمتك الواسعة، صلّ على محمد وعلى آل محمد، واغفر لنا ذنوبنا، وكفّر عنا سيئاتنا، يا من لا تضره الذنوب، ولا تخفى عليه العيوب، ولا تنقصه مغفرة الخطايا، يا من كبس الأرض على الماء، وسد الهواء بالسماء، واختار لنفسه الأسماء الحسنى، صلّ على محمد وعلى آل محمد، وخر لي في جميع أموري، يا من خشعت له الأصوات بأنواع اللغات، يسألونك الحاجات، إن من حاجتي عندك أن تغفر لي إذا توفيتني، وصرت في لحدي، وتفرق عني أهلي وولدي، اللهم لك الحمد حمدا يفضل كل حمد، كفضلك على جميع الخلق، اللهم صلّ على محمد صلاة تكون له رضى، وصلّ على محمد صلاة تكون له جزاء وأجزه عنا الجزاء الأوفى، اللهم أحينا سعداء، وتوفنا شهداء، واجعلنا سعداء مرزوقين، ولا تجعلنا أشقياء محرومين، وكان يقول: والله إني لأعرف في عبد الله، يعني

المأمون حزم المنصور، ونسك المهدي، وعز نفس الهادي، ولو شئت أنسبه إلى الرابع لفعلت، يعني نفسه، وفي ذلك يقول: [الطويل] لقد بان وجه الرأي لي غير أنني ... غلبت على الأمر الذي كان أحزما وكيف يردّ الدّر في الضرع بعدما ... توزع حتى صار نهبا مقسما أخاف التواء الأمر بعد استوائه ... وأن ينقض الحبل الذي كان أبرما واصطبح الرشيد قرب رمضان وقد قرب أن يرسي به زورق هلاله، فكتب إلى جعفر بن يحيى: [ص 127] [الخفيف] سل عن الصوم ابن يحيى تجده ... راحلا نحونا من النهروان فأتنا نصطبح ونله جميعا ... لثلاث بقين من شعبان فأجابه في رقعة كتبها، ثم ركب إليه واستصحبها، فلما قرأها الرشيد استطار قلبه، واستبشر بها ساعفه «1» (ساعة) قربه، وكان فيها: [الخفيف] إنّ يوما كتبت فيه إلى عب ... دك يوم يسود كلّ زمان فاغتبق واصطبح فقد صانني ... الله إذا صنتني من الحدثان وكان الرشيد بعد هذا يقول لما قتله تلك القتلة التي شوّه بها الجود، ونبه بها دمه للطلول بسلاف العنقود، والله ما صانه الله لي من الحدثان، بل كمنت له كمون الأفعوان في أصول الريحان، فلما تعرض للشم قابله بالسم، وسيأتي ذكر جعفر في موضعه، وكان الرشيد قد حبس أبا العتاهية وجعل عليه عينا يأتيه

بما يقول، فأخبره يوما أنه كتب على الحائط: «1» [الوافر] أما والله إنّ الظلم لوم ... وما زال المسيء هو الظلوم إلى ديّان يوم الدين نمضي ... وعند الله تجتمع الخصوم فاستحضره الرشيد واستحله وأعطاه ألف دينار، ثم أمر بمجلس فزخرف، وبالطعام فأحضر، وأحضر أبا العتاهية فقال له: صف ما نحن فيه من نعيم هذه الدنيا، فقال: «2» [مجزوء الكامل] عش ما بدا لك سالما ... في ظل شاهقة القصور يسعى عليك بما اشتهيت ... لذي الرواح وفي البكور فقال: ثم ماذا، فقال: وإذا النفوس تقعقعت ... في ضيق حشرجة الصدور فهناك تعلم موقنا ... ما كنت إلا في غرور فبكى الرشيد، فقال الفضل بن يحيى: بعث إليك أمير المؤمنين لتسره فأحزنته، فقال: يا فضل، دعه، وإنّا في عمى، فكره أن يزيدنا. وعن القاضي [ص 128] أبي يوسف «3» قال: بينا أنا البارحة قد أويت إلى

فراشي، فإذا هرثمة بن أعين «1» يدق الباب دقا شديدا، فكلمته فقال: أجب أمير المؤمنين، فسألته الإمهال إلى غد، فقال: ما إلى هذا سبيل، فاغتسلت وتحنطت، ثم صرنا إلى الرشيد، وإذا بعيسى بن جعفر بن المنصور على يمينه، فسلمت، فرد السلام، ثم قال: أظننا روعناك، قلت: إي والله وكذلك من خلفي، قال: اجلس، فجلست حتى سكن روعي، ثم التفت إليّ فقال: أتدري لم دعوتك؟ فقلت: لا، قال: دعوتك لأشهدك على هذا، إني سألته جارية عنده أن يهبها لي فامتنع، فسألته أن يبيعها فأبى، وو الله لئن لم يفعل لأقتلنّه، فالتفت إلى عيسى وقلت: وما تبتغي بجارية تمنعها أمير المؤمنين؟ فقال: عجلت عليّ قبل أن تعرف ما عندي، قلت: فما الذي عندك؟ قال: إنّ عليّ يمينا بالطلاق والعتاق وصدقة ما أملك أن أبيع هذه الجارية ولا أهبها، فقلت: تهب له نصفها وتبيعه نصفها فتكون لم تهب ولم تبع، فقال: أشهدك أني وهبته نصفها وبعته نصفها بمائة ألف دينار، ثم أتى بالجارية وأخذ المال، فقال الرشيد: بقيت واحدة، فقلت: ما هي يا أمير المؤمنين؟ قال: إنها مملوكة ولابد لها من الاستبراء، وو الله إن لم أبت معها ليلتي، إني أظن أنّ نفسي ستخرج، قلت: يا

أمير المؤمنين، تعتقها وتتزوجها، فإنّ الحرة لا تستبرأ، قال: قد أعتقتها، فمن يزوجنيها؟ قلت: أنا، قال: افعل، فدعا بمسرور وحنين الخادمين، فخطبت فحمدت الله ثم زوجته بها على عشرين ألف دينار، ودفع إليه المال، ثم قال: انصرف الآن، وأمر لي بمائتي ألف درهم، وعشرين تختا ثيابا، فحمل ذلك معي، فالتفت إليّ هرثمة وقال: فأين حقي؟ فقلت: خذ العشر، ثم إذا بعجوز فدخلت فقالت: يا أبا يوسف، إن ابنتك تقرئك السلام وتقول: لك ما وصل إليّ من أمير المؤمنين إلا المهر، وقد حملت إليك النصف وتركت الباقي لما تحتاج إليه، فو الله لا قبلته، أخرجتها من الرق وزوجتها [ص 129] أمير المؤمنين وترضى لي بهذا، فلم تزل بي الجماعة حتى قبلت، وأمرت لهرثمة منها بألف دينار أخرى. وذكر محمد بن علي، عن أبيه قال: دخلت على الرشيد في دار عون العبادي، فإذا هو في هيئة الصيف في بيت مكشوف، وليس فيه فرش وغلالة رقيقة عليه وإزار عريض الأعلام، وكان لا يجلس في بيت الخيش، لأنه كان يؤذيه إفراط الهواء، ولكنه كان يجلس ظاهره فيأتيه برد الخيش، وكان له تغار من فضة يعمل فيه الطيب والزعفران والأفاويه وماء الورد، ثم يدخل إلى بيت مقيله، ويدخل سبع غلائل قصب رشدية تقطيع النساء تغمس الغلالة في ذلك الطيب، ويؤتى في كل يوم بسبع جوار، فيخلع عن الجارية ثيابها ثم يخلع عنها غلالة، ويجلس على كرسي مثقب، فيرسل الغلالة على الكرسي متحللة، ثم يبخر من تحت الكرسي بالعود المدرج في العنبر ابدا حتى يجف القميص عليها، يفعل ذلك بهن ويغلق البيت فيعبق بالبخور والطيب. وذكر بعضهم أنهم كانوا مع الرشيد بالرقة، فخرج يوما إلى الصيد، فعرض له رجل من النساك، فقال: يا هارون، اتق الله، فقال لابن نهيك: خذه إليك حتى أنصرف، فلما رجع هارون أمر أن يطعم الرجل من خاص طعامه، فلما أكل

وشرب، دعا به فقال: يا هذا، انصفني في المخاطبة والمسألة، قال: قل ما تحب، قال: فأخبرني أيما أشر «1» وأخبث، أنا أم فرعون، قال: بل فرعون قال أنا ربكم الأعلى، وما علمت لكم من إله غيري، قال: صدقت، قال: فأخبرني فمن خير أنت أم موسى بن عمران، قال: موسى كليم الله وصفيه اصطنعه لنفسه، وائتمنه على وحيه، وكلمه من خلقه، قال: صدقت، أفما تعلم أنه لمّا بعثه الله وأخاه إلى فرعون قال لهما: فقولا قولا لينا، وهذا في عتوه وجبروته «2» على ما قد علمت، وأنت جئتني وأنا بهذه الحال التي تعلم أكثر فرائض الله أؤديها ولا أعبد سواه، أقف عند أكثر حدوده [ص 130] فوعظتني بأغلظ الألفاظ وأبشعها، وأخشن الكلام وأفظعه، فلا بأدب الله تأدبت، ولا بأخلاق الصالحين أخذت، فما كان يؤمنك أن أسطو بك، فإذا أنت قد عرضت نفسك لما كنت عنه غنيا، فقال الزاهد: أخطأت يا أمير المؤمنين وأنا استغفر الله، قال: قد غفر الله لك، وأمر له بعشرين ألف درهم، فقال: لا حاجة لي بالمال، فزجره هرثمة، فقال له الرشيد: أمسك عنه، ثم قال له: لم نعطك المال لحاجتك إليه، ولكن من عادتنا ألا يخاطب الخليفة أحد إلا وصله، فاقبل من صلتنا ما شئت، فضعها حيث أحببت، فأخذ من المال ألفي درهم، وفرقها على من حضره. وذكر ابن بختيشوع «3» قال:

كنت مع الرشيد بالرقة «1» ، وكنت أول من يدخل عليه فأتعرف خبره في ليلته، ثم ينبسط فيحدثني بخبر جواريه ومجلسه وشربه، ثم يسألني من أخبار العامة وأحوالها، فدخلت عليه في غداة يوم، فرأيته عابسا مفكرا مغموما، فوقفت بين يديه مليا وهو على تلك الحال، فلما طال ذلك أقدمت عليه فقلت: يا سيدي، جعلني الله فداك، ما حالك هكذا، فأخبرني بها، فلعله يكون عندي دواؤه، فقال: ويحك يا جبريل، ليس غمي وفكري لشىء مما ذكرت، ولكن لرؤيا رأيتها في ليلتي هذه فأفزعتني، وملأت صدري، وأقرحت قلبي، فقلت: فرّجت عني يا أمير المؤمنين، فدنوت فقبلت رجله وقلت: هذا الهمّ كله لرؤيا، والرؤيا إنما تكون في خاطر أو من بخارات ردية من تهاويل السوداء، وإنما هي أضغاث أحلام بعد هذا كله، فقال: أنا أقصها عليك، رأيت كأني جالس على سريري إذ بدت من تحتي ذراع أعرفها، وكف أعرفها، لا أفهم اسم صاحبها، وفي الكف تربة حمراء، فقال لي قائل أسمعه ولا أرى شخصه: هذه التربة التي تدفن فيها، فقلت: وأين هذه التربة، فقال: بطوس وغابت اليد، وانقطع الكلام، فقلت «2» : يا سيدي أحسبك لما أخذت مضجعك فكرت في خراسان، وما ورد عليك من انتقاضها، قال: قد [ص 131] كان ذلك، قال فقلت: فلذلك رأيت هذه الرؤيا، وما برحت أطيب نفسه بضروب من الحيل حتى سلا وانبسط، وأمر بإعداد ما يشتهيه ذلك اليوم في لهوه، ومرت الأيام، فنسي ونسينا تلك الرؤيا، فما خطرت لأحد منا ببال، ثم قدر مسيره إلى خراسان حين تحرك رافع، فخرج فلما صار في بعض الطريق ابتدأت به العلة، فلم تزل تزيد

حتى دخلنا طوس، فنزل في منزل لحميد بن عبد الحميد، في ضيعة له تعرف بسر آباد، فبينا هو يمرض في البستان في ذلك القصر، إذ ذكر تلك الرؤيا، ووثب متحاملا، يقوم ويسقط، فاجتمعنا إليه، كل يقول له: يا سيدي ما حالك، وما دهاك، فقال: يا جبريل، تذكر رؤياك بالرقة في طوس، ثم رفع رأسه إلى مسرور، فقال: جئني من تربة هذه الأرض، فجاءه بها في كفه، حاسرا عن ذراعيه، فلما نظر إليه قال: هذه والله الذراع التي أريتها في منامي، وهذه والله الكف بعينها، وهذه والله التربة الحمراء، ما خرمت شيئا، وأقبل على البكاء والنحيب، ثم مات بعد ثالثة، ودفن في ذلك البستان. وذكر علي الربعي عن أبيه قال: لما وصل الرشيد إلى طوس قال: احفروا لي قبرا قبل أن أموت، فحفر له، فقال: احملني، فحملته في قبّة أقود به، حتى إذا نظر إليه قال: يا بن آدم، تصير إلى هذا، قالوا: ولما فرغ من حفر القبر أنزل فيه قوما فقرأوا فيه القرآن، حتى ختموا، وهو في محفة على شفير القبر. قال الطبري: ومات هارون وفي بيت المال تسع مائة ألف ألف ونيّف، وقال أبو الشيص يرثي الرشيد: «1» [مجزوء الرمل] غربت في الشرق شمس ... فلها العينان تدمع ما رأينا قطّ شمسا ... غربت من حين تطلع وقال أبو نواس: [مجزوء البسيط] جرت جوار بالسعد والنّحس ... فنحن في مأتم وفي عرس [ص 132]

60 - دولة الأمين

القلب يبكي والسنّ ضاحكة ... فنحن في وحشة وفي أنس يضحكنا القائم الأمين وتبكينا ... وفاة الرشيد بالأمس بدران بدر أضحى ببغداد ... وبدر بطوس في الرمس ومولده سنة خمسين ومائة، وتوفي سنة ثلاث وتسعين ومائة، وعمره أربع وأربعون سنة، ومدته اثنتان وعشرون سنة، وأربعة أشهر، وقبره بقرية سناباد من طوس. ثم: 60- دولة الأمين أبي موسى محمد «1» بن هارون الرشيد، وما قدمه أبوه إلا لإرضاء أمه أم جعفر «2» وخؤولته على أنه يكلف أخاه حمل مؤونته، وكان من

نوكى «1» القوم، وأولى أهل بيته باللوم، لا يقيل رأيه من عثراته، ولا يجمّ جفنه لمقيل عبراته، فانهمك في اللذات، وانتهك حرمة الملك واللدات، وحفر لأخيه المأمون قليبا «2» وقع فيها قريبا، وكان ذا أيد وقوة، حكي أنه وثب على أسد فصرعه وقرب مصرعه، ولكنه لم يؤيد بحزم يحوط به تدبيره، ويحول بينه وبين ما قضى تدميره، ولكن الله إذا أراد أمرا بلغه، ومن قصد أخاه بسوء دمر الله عليه ودمغه، وكان كريما يهب البدر بالمئين، ولا يسمح أن يمد إلى مائدته يمين، وكان يبخل بالطعام، وينحل في الشح أخلاق الطغام، وكان عنده رغيف الخبز كرغيف الأسد، لا يطاق مهاجمته، ولا يستطاع أن يقتحم أجمته. وقال علي بن إسحاق: لما أفضت الخلافة إلى الأمين وهدأ الناس، أصبح صبيحة السبت بعد بيعته بيوم، فأمر ببناء ميدان حول قصر أبي جعفر في المدينة للصوالجة واللعب، وأمر جواريه بأن تهدي إليه غزلان تسيّب فيه، فأهديت له، فقال شاعر من أهل بغداد: [السريع] بنى أمين الله ميدانا ... وصيّر الساحة بستانا

فكانت الغزلان فيه بأن ... تهدى إليه فيه غزلانا وذكر محمد بن يحيى النيسابوري قال: لما نعي علي بن عيسى «1» وقتله إلى الأمين [ص 133] وكان في وقته ذلك على الشط يصيد السمك [في الأصل: الضمد، ولم أجد لها معنى] فقال للذي أخبره، ويلك فإن كوثرا قد أصاب سمكتين، وأنا ما صدت شيئا بعد، وذكر أن أحمد بن مزيد لما أراد الشخوص للقاء جيش المأمون، دخل على الأمين فقال: ليوصني أمير المؤمنين، قال: أوصيك بخصال عدة، إياك والبغي فإنه عقال النصر، ولا تقدم رجلا إلا باستخارة، ولا تشهر سيفا إلا بعد إنذار، ومهما قدرت عليه باللين فلا تنفذه إلى الشدة، وأحسن صحابة من معك من الجند، وطالعني بأخبارك في كل يوم، ولا تخاطر بنفسك طلب الزلفة عندي، ولا تستبقها فيما يتخوف رجوعه علي، وكن لمن تقدمك أخا، ولا تخذله إذا استنصرك، ولا تبطئ عليه إن استصرخك، ولتكن أيديكما واحدة، وكلمتكما متفقة، ثم قال: سل حوائجك وعجل السراح إلى عدوك، فدعا له أحمد بن مزيد وقال: يا أمير المؤمنين، بكر لي في الدعاء ولا تقبل فيّ قول باغ، ولا ترفضني قبل المعرفة بذنبي، ولا تنقص على ما استجمع من رأي، ومنّ عليّ بالصفح عن ابن أخي عبد الله بن حميد، وكان قد أمره الأمين بالخروج فتشرط فحبسه. وحكي أنه لما كان محصورا، خرج يوما خادمه كوثر، وكان مضنى به حبا

كلفا به غراما، فأصابته جراحة أدمت حر وجهه، ونثرت ورد دمه على ياسمين خده، فقال: [مجزوء الرمل] ضربوا قرة عيني ... ومن أجلي ضربوه أخذ الله لقلبي ... من أناس جرحوه وكان أبو نواس قد اعتقله الرشيد على كلمة قالها تعرض فيها إلى النقص بقريش، فلما ولي الأمين وكانت لأبي نواس به ذمة قديمة، فقال: [الطويل] تذكر أمين الله والعهد يذكر ... مقامي وإنشاديك والناس حضّر ونثري عليك الدرّ يا درّ هاشم ... فيا من رأى درا على الدر ينثر أبوك الذي لم يملك الناس مثله ... وعمك موسى عدله متخيّر [ص 134] وجدك مهدي الهدى وشقيقه ... أبو أمك الأدنى أبو الفضل جعفر وما مثل منصوريك منصور هاشم ... ومنصور قحطان إذا عدّ مفخر فمن ذا الذي يرمي بسهمك في العلى ... وعبد مناف والداك وحمير فغنت جارية بهذه الأبيات بين يدي الأمين، فقال: لمن هذه الأبيات، فقيل له: لأبي نواس، قال: وما فعل، فقيل له: محبوس، قال: ليس عليه بأس، قال: فبعث إليه رجل من المجلس يعلمه بما قال، وقال: [الوافر] أرقت وطار عن عيني النعاس ... ونام الساهرون ولم يواسوا أمين الله قد ملّكت ملكا ... عليك من التقى فيه لباس كأنّ الخلق في تمثال روح ... له جسد وأنت عليه راس أمين الله إن السجن بأس ... وقد أرسلت ليس عليك باس

61 - دولة المأمون

فلما أنشدته قال: صدق والله، عليّ به، فجيء به في الليل، فكسرت أقياده وأخرج حتى أدخل عليه، فأنشده: [الخفيف] مرحبا مرحبا بخير إمام ... صيغ من جوهر الخلافة نحتا يا شبيه المهدي بذلا وجودا ... وشبيه المنصور هديا وسمتا ثم كان في صحبته حتى أخذ من السفين، وأودع أحشاء الأرض منه الدفين. وذكر عمر بن شبة أن أحمد بن محمد الهاشمي حدثه أن لبابة بنت علي بن المهدي قالت حين قتل الأمين وكانت تحته ولم يكن دخل بها ولا ضمها فراش حظي فيه بقربها ووضعت له سجوف نقبها: [البسيط] أبكيك لا للنعيم والغرس ... بل للمعالي والرمح والفرس أبكي على هالك فجعت به ... أرملني قبل ليلة العرس وولد في شوال سنة إحدى وسبعين ومائة، وتوفي في المحرم سنة ثمان وتسعين ومائة، وعمره سبع وعشرون سنة، ومدته أربع سنين وتسعة أشهر، وقبره ببغداد. ثم: 61- دولة المأمون أبي العباس [ص 135] عبد الله «1» بن هارون الرشيد، هو أجمع القوم

لفضل، متنوع من العلم والحلم، والكرم والشجاعة والوفاء، والنظم والنثر والآداب، إماما مقدما في كل هذه الفضائل، ومعظما في علوم المتأخرين والأوائل، مع ما طبع الله عليه من كرم الأخلاق، وخصه به من تمام السعادة، ومضاء المهابة، لا يعدله في القوم نظير فيما جمع من المناقب الثاقبة، والخلائق الجميلة، أربى علمه على اليونان، وحلمه على ثهلان، وكرمه على ابن مامة، وشجاعته على فارس النعامة، ووفاؤه على السموأل، وشعره على جرول، ونثره على سحبان، وآدابه على ملوك آل ساسان، وقد صفح عن عمه إبراهيم بن المهدي «1» ، وقد واثبه في خطواته، وابتز الخلافة من لهواته، ولما ظفر به تغمده

بحلمه، وتعهده بالعفو على علمه، وعمل في هذا ما لم يسمع مثله قبله ولا بعده، وخلد له ذكرا لا يبلى لديباجة جده، وكذلك عامل أم جعفر بإكرام برّد حرارة حزنها، وخفف حزازة شجنها، حتى سلّ سخيمة صدرها، وحل عقدة الحزن عن فكرها، وألهاها ببره لها عن ابنها، ونهاها نهى حلمه عن تشويش الدموع في جفنها، فأسلاها مصاب ولدها، وأنساها ذهاب قطعة من كبدها، فأخذها في أمره بالمغالطة، واستدرك لها بالمجالسة مهجته الفارطة، فتسلت به سلوة الحزين، وتعوضت ببقاء المأمون عن الأمين، فعاودت مقلتها هجوع الكرى، وقالت: وفي الحي بالميت الذي غيّب في الثرى، وسارت سيره وصارت لا يمل منها مطالعها، ولا يحل بأنه كلما فارقها نظره يراجعها، يصبح حيث أمسى في سطورها المحبرة، وصدورها المجوهرة، ويرود منها روضة أدبية تتحير فيها من مشارق التصنيف حتى الأنوار، ويتحير بها لؤلؤ الطل في حدق النوار، وعهد إلى علي الرضا، وأصارها علوية، ثم عاجله الموت، وما كان في سعادة الناس تمام تلك القضية، إلا أنه أبلى الناس بالمحنة [ص 136] في القول بخلق القرآن، ولم تطهر منها أيامه، ولها قرؤ ولا قرآن، وذلك عن نظر نظره، ورأي نبه على نفسه خطره، ومن أخباره أنه لما خرج من خراسان شيعه حميد الطوسي «1» ، فسار معه فراسخ، فالتفت إليه المأمون وقال: ارجع أنا غانم:

[الكامل] عجبا لقلب متيّم أحبابه ... ساروا وخلف كيف لا يتضرع ارجع فحسبك ما تبعت ركابنا ... إن المتيم لا محالة يرجع وشكى اليزيدي «1» إلى المأمون دينا لحقه فقال له ما عندنا في هذه الأيام ما إن أعطيناكه بلغت ما تريد، فقال: يا أمير المؤمنين إن غرمائي قد أرهقوني، قال: انظر لنفسك أمرا تنال به نفعا، قال: يا أمير المؤمنين، إن لك ندماء فيهم من إن حركته نلت به نفعا، قال: أفعل، قال: إذا حضروا إليك مر فلانا الخادم يوصل إليك رقعتي، فإذا قرأتها فأرسل إليّ دخولك في هذا الوقت متعذر، ولكن اختر لنفسك من أحببت، قال: أفعل، فلما علم اليزيدي بجلوس المأمون مع ندمائه بعث إليه مع خادم رقعة فيها: [السريع] يا خير إخواني وأصحابي ... هذا الطفيلي على الباب فصيّروني واحدا منكم ... أو فأخرجوا لي بعض أترابي فقرأها المأمون عليهم، فقالوا: ما ينبغي يدخل علينا على هذه الحال، فأرسل إليه المأمون: دخولك متعذر فاختر لنفسك من أحببت، فقال: ما أريد إلا عبد الله بن

طاهر «1» ، فقال له المأمون: قد اختارك فصر إليه، فقال: يا أمير المؤمنين، أكون شريك الطفيلي، فقال المأمون: ما يمكنني رد أبي محمد عن أمرين، فإن أحببت أن تخرج إليه، وإلا فافتد نفسك منه، فقال: عشرة آلاف درهم، قال: لا تقنعه، فما زال يزيد عشرة عشرة، والمأمون يقول: لا تقنعه، حتى بلغ مائة ألف، فقال له: عجلها، فكتب بها إلى وكيله ووجّه معه رسولا، وأرسل إليه المأمون: اقبض هذه الدراهم في هذه الساعة فهي أصلح لك [ص 137] من منادمته وأنفع لك. وعن محمد بن عمر الواقدي «2» قال: أوصلت إلى المأمون رقعة أشكو فيها الدين فوقّع عليها: فيك خلتان، الحياء والسخاء، فأما السخاء فهو الذي أخرج ما في يديك، وأما الحياء فهو الذي قطعك عن إطلاعنا على حالك، وقد أمرت لك بمائة ألف درهم، فإن كانت فيها بلغة فذاك، وإن يكن غير ذلك، فهذه ثمرة ما جنيت على نفسك، فأنت حدثتني وأنت قاض للرشيد، عن محمد بن

إسحاق عن الزهري، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: مفاتيح الرزق بها متوجهة نحو العرش، فينزل الله تعالى على الناس أرزاقهم على قدر نفقاتهم، فمن كثر كثر له، ومن قلل قلل له، قال الواقدي: وكنت قد أنسيت هذا الحديث حتى حدثني به المأمون، فكان أحظى عندي من الصلة. وألّف سهل بن هارون «1» كتابا يمدح فيه البخل ويذم الكرم، ليظهر قدرته على البلاغة «2» ، ورصع درته في ألطف الصياغة، ثم قدمه إلى المأمون على يد الحسن بن سهل، فوقّع عليه: لقد مدحت ما ذمه الله، وحسّنت ما قبح، وما يقوم صلاح لفظك بفساد معناك، وقد جعلنا نوالك عليه قبول قولك فيه. وقال ظفر: وبلغني أن الرشيد أمر جماعة من العلماء بمبايعة المأمون وهو غلام، ليقتبس من آدابهم وعلومهم، فبات عنده ليلة الحسن بن زياد اللؤلؤي، فبينا هو يحادثه نعس المأمون، فقال له اللؤلؤي: نمت أيها الأمير، فاستيقظ وقال: سويقي ورب الكعبة، يا غلام خذ بيده، وأخرجه، فبلغ ذلك الرشيد فأعجبه، وقال متمثلا: [الطويل] وهل ينبت الخطيّ إلا وشيجه ... وتغرس إلا في منابتها النخل

قال محمد: إنما فعل ذلك المأمون لسوء أدب اللؤلؤي، ووجه الأدب مع الرئيس إذا نام أن يتنحى عنه جلساؤه، فيكونوا بموضع يقرب منه. قال ابن ظفر: ومما قيل إن الكسائي كان لا يفتح على ولد الرشيد إذا غلطوا، إنما كان ينكس طرفه، فاذا غلط أحدهم نظر إليه، وربما ضرب الأرض [ص 138] بخيزرانة في يده، فإن سدد القاري للصواب مضى، وإلا نظر في المصحف، فافتتح المأمون عليه يوما سورة الصف، فلما قرأ: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ «1» ، نظر إليه الكسائي، وتأمل المأمون، فإذا هو مصيب، فمضى في قراءته، ولما انقلب إلى الرشيد، قال: يا أمير المؤمنين، إن كنت وعدت الكسائي وعدا فإنه يستنجزه، قال: إنه كان استوصلني للقراء فوعدته، فهذا هو الذي قال لك، فقال المأمون: إنه لم يقل لي شيئا، وأخبره بالأمر، فتمثل الرشيد بقول القائل في ثابت بن عبد الله بن الزبير بن العوام: [الطويل] ورثت أبا بكر أباك ثباته ... وسيرته في ثابت وشمائله وأنت امرؤ ترجى بخير وإنما ... لكل امرئ ما أورثته أوائله وقيل: إن الرشيد ناظر يحيى بن خالد فيمن يعهد إليه من ولده أولا، وعلم يحيى ميله إلى زبيدة أم الأمين، وأنه يؤثر هواها، فحطب في حبلها، فأحضر الرشيد الأمين والمأمون وهما صبيان، فأغرى بينهما، فأسرع الأمين إلى المأمون فنال منه، وكان المأمون أحلمهما، ثم إنه أمرهما أن يتصارعا، فوثب الأمين ولزم المأمون مكانه، فقال له الرشيد: ما لك لا تقوم يا عبد الله، أخفت ابن الهاشمية، أما إنه أيّد، فقال المأمون: وهو على ما ذكره أمير المؤمنين، ولكني لم أخفه،

وإنما قبض يدي عنه ما قبض لساني حين أسمعني، فقال له الرشيد: فما الذي قبض يدك ولسانك عنه، قال: قول الأموي لبنيه يوصيهم: [الكامل] اتقوا الضغائن بينكم وتواصلوا ... عند الأباعد والحضور الشّهد فصلاح ذات البين طول بقائكم ... ودماؤكم بتقطّع وتفرّد فلمثل ريب الدهر والكف بينكم ... بتعاطف وترحم وتودد حتى تلين جلودكم وقلوبكم ... لمسوّد منكم وغير مسوّد إن القداح إذا جمعن فرامها ... بالكسر ذو حنق وبطش أيّد عزّت فلم تكسر وإن هي بددت ... فالوهن والتكسير للمتبدد [ص 139] فرقّ الرشيد رقة شديدة، واغرورقت عيناه بالدموع فكفكفها، ثم أقبل على الأمين فقال: يا محمد، ما أنت صانع إن صرف الله إليك أمر هذه الأمة؟ فقال: أكون مهديا يا أمير المؤمنين، فقال الرشيد: إن تفعل فأهل ذاك أنت، ثم أقبل على المأمون فقال: يا عبد الله، ما أنت صانع إن صرف الله إليك أمر هذه الأمة، فابتدرت دموع المأمون، وفطن الرشيد لما أبكاه ولم يملك عينيه، فأرسلهما، وبكى يحيى، فلما قضى من البكاء إربا عاد الرشيد لمسألة المأمون، فقال: اعفني يا أمير المؤمنين، قال الرشيد: عزمت عليك أن تقول، فقال: إن قدر الله ذلك جعلت الحزن شعارا، والحزم دثارا، واتخذت سيرة أمير المؤمنين مشعرا لا تستحل حرماته، وكتابا لا تبدل كلماته، فأشار الرشيد إلى الأمين والمأمون بالانصراف، ثم ذهبا، ثم أقبل على يحيى وأنشده بيت صخر بن عمرو: [الطويل] أهم بأمر الحزم لو أستطيعه ... وقد حيل بين العير والنزوان

فقال له يحيى: قد هيّأ الله لأمير المؤمنين من أمره رشدا، وكان محبا في لعب الشطرنج، وكان يقول: هو فكري يشحذ الذهن، ولم يكن فيه حاذقا، وكان يقول: أدير أمر الدنيا فأتسع فيه وأضيق في تدبير شبرين في شبرين، وفيه يقول: [البسيط] أرض مربعة حمراء من أدم ... ما بين إلفين مخصوصين بالكرم تذاكرا الحرب فاحتالا لها مثلا ... من غير أن يأثما فيها بسفك دم وأما خروج عمه إبراهيم بن المهدي عليه، فكان سببه أن المأمون لما أراد أن يصرف الخلافة إلى علي بن موسى الرضا «1» ، وبدّل السواد بالخضرة، نقم عليه بنو أبيه، فلما كان بخراسان خلع أهل بغداد طاعته وبايعوا ابن المهدي، ولقبوه بالمبارك، فلما تمهد له الأمر أساء إلى الجند ومنعهم أرزاقهم، فاضطربوا عليه وخلعوه يوم الجمعة سنة ثلاث ومائتين، وكانت [ص 140] مدته نحو سنة، واختفى، وبلغ المأمون الخبر فأتى بغداد فدخلها يوم السبت سادس عشر صفر سنة أربع ومائتين، ولم يزل ابن المهدي مختفيا إلى أن خرج متنقبا على هيئة امرأة بين امرأتين ليلة السابع عشر من ربيع الآخر سنة عشرة ومائتين، فأخذه

الحرس على أنهم عواهر، فأعطاهم خاتما من ذهب فصه ياقوت يساوي مالا عظيما فأنكروا ذلك وحملوه إلى صاحب الشرطة فعرفه، وحمله إلى المأمون فأمر به، فجعل في مكان، فلما كان من الغد أخرج وأظهر للناس على ما أمسك عليه، فقال له المأمون: هيه يا إبراهيم، فقال: يا أمير المؤمنين، إن ولي الثأر محكم في القصاص، والعفو أقرب للتقوى، وقد جعلك الله فوق كل ذنب، كما جعل كل ذنب دونك، فإن عاقبت فبحقك، وإن عفوت فبفضلك، فقال له المأمون: بل نعفو يا إبراهيم، فكبّر، ثم خرّ ساجدا، فلما رفع رأسه أنشده: [الطويل] يا خير من وخدت به شدنية ... بعد الرسول لآيس أو طامع متيقظا حذرا وما يخشى العدى ... يقظان من وسنات يوم الهاجع ملئت قلوب الناس منك مخافة ... وتبيت تكلؤهم بقلب خاشع نفسي فداؤك أن تضيق معاذري ... والود منك بفضل حلم واسع أملا لفضلك والفضائل شيمة ... رفعت ثناءك بالمحل النافع فبذلت أفضل ما تضيق ببذله ... وسع النفوس من الفعال البارع وعفوت عن من لم يكن عن مثله ... عفو ولم يشفع إليك بشافع إلا العلو عن العقوبة بعد ما ... ظفرت يداك بمستكن خاضع ورحمت أطفالا كأفراخ القطا ... وعويل عانسة كقوس النازع الله يعلم ما أقول فإنها ... جهد الألية من حنيف راكع ما إن عصيتك والغواة تقودني ... أسبابها إلا بنية راجع حتى إذا علقت حبائل شقوتي ... بردا إلى حفر المنية هانع [ص 141] لم أدر أنّ لمثل جرمي غافر ... فوقفت أنظر أي حتف صارعي ردّ الحياة عليّ بعد ذهابها ... ورع الإمام القادر المتواضع

أحياك من ولّاك أطول مدة ... ورمى عدوك في الوتين بقاطع أسمام ما أدلى إليك بحجة ... إلا التضرع من مقر خاضع كم من يد لك لم تحدثني بها ... نفسي إذا ثابت إليّ مطامعي أسديتها عفوا إليّ هنيئة ... فشكرت مصنعها لأكرم صانع إن الذي قسم الخلافة حازها ... في صلب آدم للإمام السابع جمع القلوب إليك جامع أمرها ... وحوى رداؤك كل خير جامع فلما فرغ منها قال له: (لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين) «1» ، ثم أمر بالخلع فخلعت عليه، وصرف عليه أمواله وضياعه، فأنشده: [البسيط] رددت مالي ولم تبخل عليّ به ... وقبل ردّك مالي قد حقنت دمي فبؤت عنك وما كافأتها بيد ... هما حياتان من موت ومن عدم البرّ منك وطّا العذر عندك لي ... فيما أتيت فلم تعدل ولم تلم وقام علمك بي فاحتج عندك لي ... مقام شاهد عدل غير متهم تعفو بعدل وتسطو إن سطوت به ... فلا عدمناك من عاف ومنتقم ثم شفعت فيه بوران، فقربه ونادمه، ولم يزل مكرما مبرورا إلى آخر عمره. وكان سبب موت المأمون أنه كان على نهر البذندون «2» مدليا ساقيه في الماء،

قال: ما رأيت أبرد من هذا الماء، ثم ذاقه وقال: ما أطيب طعمه، ثم التفت إلى سعيد بن الصلاف قال: أي شىء يصلح أن يؤكل عليه، قال: أمير المؤمنين أعلم، قال: الرطب الأزاد، قال: أنّى لنا به في بلاد الروم، فما تم كلامه حتى سمع لجم البريد، فالتفت فرأى على أعجازها أحقاب فيها ألطاف، ومنها رطب أزاد، فحمد الله هو ومن كان معه، فما قام أحد ممن أكله إلا محموما، فكان ذلك أول علته، ثم ظهرت له في رقبته نفخة، كانت تعتاده، فأخطأ [ص 141] الطبيب في فتحها قبل النضج فهلك، ويقال إنه لما خرج في تلك الغزاة، صاح في أحد تلك الليالي لغلام اسمه سقير، وقال له: ويلك من يغني، قال: ما يغني أحد، قال: ثم تسمعت فلم أسمع شيئا، فقلت: ما أسمع حسا، قال: بلى والله إنه كان يغني: [الوافر] ألم تعجب لمنزلة ودور ... خلت بين المشقر والحرور كأنّ بقيّة الآثار فيها ... بقايا الخطّ من قلم الزبور ثم اعتل في الليلة الثالثة. وحكى ابن المهدي قال: رأيت في منامي كأن جارية من جواري الرشيد، وفي يدها عود، وهي على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تنشد: [الخفيف] سوف يأتي الرسول من بعد شهر ... بنعيّ الخليفة المأمون قال: فقلت هذه مفسرة، فجاء نعيه بعد شهر، وولد سنة سبعين ومائة، وتوفي سنة ثمان عشر ومائتين، وعمره ثمان وأربعون سنة وشهور، ومدته عشرون سنة وستة أشهر، وقبره على البذندون بطرسوس من بلاد الروم.

62 - دولة المعتصم بالله

ثم: 62- دولة المعتصم بالله أبي إسحاق محمد «1» بن هارون الرشيد، عهد إليه أخوه المأمون وشهد بأهليته هو والمسلمون، ونطقت أسنة السنة فما كذبت، وصدقت مضارب سيوفه فما نبت، وكان فارسا شجاعا بطلا مناعا، راميا محاميا بصيرا بمواقع الحرب، وترتيب الجيوش، وقتل الأعداء، وحملهم من رماحه على النفوس، وكان كما يوسم اخوه مخيلة عارضه الهتون، وخميلة أرضه الهرون، واستكثر من الغلمان الأتراك، وأحل كبراء هم منه بمكان الاشتراك، حتى حدث بعده منهم ما حدث، وأحدثوا ما لو شعر به لقام لا يواريه حدث، فإنهم فعلوا ما كانوا دون قدره، وقتلوا من بنيه من يلوث بدمه الصباح وهاطراطيشه «2» على شفق فجره، فأما في زمان المعتصم، فإنهم كانوا في مزيد الاستطاعة

عبيد [ص 143] الطاعة، إلا أن منهم من قسا ووكل السيف في عقابه لما أسى، ويكفي المعتصم نوبة عمورية «1» ، وما ظهر فيها من عزيمته المصممة، وشكيمته المهيمنة، وأنه لما هتفت باسمه تلك المرأة مرة، هفت إليها طلائع الممرة، وقال: لا يكشف الغمى إلا ابن حرة، وقاد إليها عسكرا يتشكى الشتاء البارد حره، فأتى عمورية وهو يرى غمرات الموت، ثم يزورها وقاسم أهلها سيوفه، فكانت في عساكره غواشيها، وفيهم صدورها، حتى يسر الله له فتحها، وقدر له منحها، ويقال إنه افتر في يوم شديد البرد من أيامه عليها أربعة آلاف قوس، ورمى على كل قوس منها سهما، وكان يوما يود بياض نهاره لو كان لوقود النار فحما، ولم يكن المعتصم يعاب إلا بأمية فيه، وبأنه عمل في المحنة بوصية أخيه، فأخذ الناس بها، وواخذ من امتنع ودعاهم إليه بالسيف والسوط، وجرى زمانه كله لا يني على هذا الشوط، حتى ألزم بكلمتها، وشوه وجوه أيامه البيض بظلمتها، على أنه لم يكن إذا علم عمل به فاتبعه، وعلم أنه الحق فشرعه، إلا أنه سمع قولا ظنه الصدق فأيده، وتلقى وصيته عن أخيه فعمل بها وقلده، وسئل أحمد بن حنبل «2» فأيده الله بالقول الثابت، وأبلاه بأنواع البلاء وهو بمواجهته بالإنكار لقوله متكلم لا ساكت. وكان مغرى بالاستكثار من الأتراك، ما مات حتى كمل ثلاثين ألفا منهم، وكان معظما لهم موفرا نصيبهم، حكي أنه أجلس مملوكه أشناس إلى جانبه على كرسي، وتوجه بتاج من ذهب، ووشحه بوشاحي ذهب مرصعين بالجواهر، وطوّقه بطوق ذهب مجوهر بقطع يواقيت أصغرها زنة عشرة مثاقيل، وسؤّره بسواري ذهب، وعقد له ثلاثة ألوية، وحمله على فرس أدهم أغر من مراكيب

الخلافة بسرج ثقيل ذهب مرصع بالجوهر واللؤلؤ الثمين، وقاد خلفه سبعة أفراس، وعمل له موكبا يحمل فيه السلاح والعمد والطبرزينات «1» والتراس والخزانة، وغير ذلك من شعار الملوك، وخاطبه بملك الأمراء [ص 144] ، وكذلك صنع ببابك الخرمي في التعظيم والتكريم، حتى اطلع على سوء معتقده، فجعله همّه، حتى أصاره إلى ما صار، وأحله وبعض ما يستحق دار البوار. وعن محمد بن القاسم قال: دخل المعتصم يوما إلى خاقان يعوده، فرأى ابنه الفتح وهو صغير لم يتعد، فمازحه ثم قال: أيما أحسن دارنا أم داركم، فقال الفتح: يا سيدي، دارنا إذا كنت فيها أحسن، فقال المعتصم: لا أبرح أو ينثر عليه مائة ألف درهم، فأحضرت ونثرت عليه. وحكى علي بن الحسين بن عبد الأعلى: أن عبد الله بن طاهر أهدى إلى المعتصم شهرس «2» ملمع من ذكران خراسان لم يخرج مثلهما، فسأله بغا «3» أن يحمله على أحدهما، فأبى وقال: تخيّر غيرهما ما شئت فخذه، قال: فخرجنا ولم نأخذ شيئا، فلما صرنا بطبرستان «4» عرض له قوم من أهلها، فقالوا له: إن في بعض هذه الغياض سبعا قد استكلب على الناس وأفناهم، فقال: إذا أردت الرحيل غدا كونوا معي حتى أقف على موضعه، فأخذوه في عشرين فارسا من

غلمانه، ومعه قوسه ونشابتان في منطقته، فصاروا به إلى مكانه، وثار السبع في وجهه، فحرك فرسه من بين يديه، وأخذ نشابة من النشابتين فرماه في لبّته، فمرّ السهم فيها إلى الريش، وركب السبع رأسه، قال: وعاد بغا إليه فما اجترأ أحد على النزول إليه، حتى نزل بغا فوجده ميتا، قال: فشبرناه فكان من رأسه إلى رأس ذنبه ستة عشر شبرا، ووجدناه أحص الشعر «1» ، إلا معرفته «2» ، قال: فكتبنا بخبره إلى المعتصم، فلحقنا جواب كتابنا بحلوان «3» يذكر فيه أنه قد تفاءل بقتل السبع أن يكون من علامات الطف ببابك، ووجه إلى بغا بالشهرس وسبعة أفراس من خاصة مراكيبه بمراكب يقال من الذهب، وسبعة خلع من خاصة خلعه، وخمس مائة ألف درهم صلة له وجزاء على قتله السبع. قال زنام الزامر «4» : أفاق المعتصم في علته التي مات فيها [ص 145] فركب في الزلال «5» في دجلة، وأنا معه فمر بإزاء منازله، فقال: يا زنام ازمر لي: [السريع] يا منزلا لم تبل أطلاله ... حاشا لأطلالك أن تبلى

63 - دولة الواثق بالله

لم أبك أطلالك لكنني ... بكيت عيشي فيك إذ ولّى والعيش أولى ما بكاه الفتى ... لابد للمحزون أن يسلى قال: فما زلت أزمر هذا الصوت وأكرره، وقد تناول المعتصم منديلا بين يديه، فما زال يبكي وينتحب حتى كاد بدموعه ينتقب، ثم رجع إلى منزله فاحتضر، وجاءه من الموت أمر قد قدر، وجعل يقول: ذهبت الحيلة، ليست حيلة، إلى أن مات لثمان عشرة مضت من ربيع الأول سنة سبع وعشرين ومائتين بسامراء، ومدته ثمان سنين وثمانية أشهر ويومان، ومولده سنة سبع وتسعين ومائة، ولما مات صنع للواثق لحنا وغنى به فيه وهو: [الوافر] أبت دار الأحبّة أن تبينا ... أجدك ما رأيت بها معينا تقطّع حسرة من حبّ ليلى ... نفوس ما أثبن وما جزينا ثم: 63- دولة الواثق بالله أبي جعفر هارون «1» بن محمد المعتصم، ولما ولي استمر بعوائد أبيه وعمه

المأمون، ولاب على موارد المحنة، ولاث مفارق من خالفه بعصائبه المهينة، واشتد في التحرج بهذا المذهب، والتولج في ظلمة هذا الغيهب، وكان كريما جوادا وله اعتلاء في الأدب واعتناء به، ينسل إليه أهله من كل حدب، وكان له صنعة في الموسيقى، وروي له فيها أعمال تحرك الصخور، وتحرض سامعها على اغتنام أيام السرور، وكان مع هذا مهيبا موقرا في الصدور، موقى بمهابة أمنع من النسور، وكانت له على الأتراك حرمة خطرت على خواطرهم الخطرات، وقصرت لواحظهم تحت سجف العبرات، وكان إذ اذكر لهم تريع بهم أوهامهم وترتعد [ص 146] مفاصلهم فما تقلهم أقدامهم. وحكى ابن أبي داود «1» عنه كلاما معناه: حضرته وهو قاعد يتنفش، وبيد بعض الغلمان مرآة كأنها درهم في كف مرتعش والغلام يتجلل فرقا، ويتكلل جبينه عرقا، كأنه في عقابيل حمّى، أو في وبيل حمّى سقي به سما، قد نكس إلى الأرض كأنه راعف، أو كأنه ينظر موضع مصرعه وهو واقف، وحكي أنه مات وأكلت السنور عينه، وغلمانه صفوف وقوف على بعد منه، فما منهم من تجاسر أن يتقدم إليه ويكشف خبره، ولا يرفع إليه طرفه ويتحقق نظره. وعن أبي مالك جرير بن أحمد بن أبي دواد قال: قال الواثق يوما لأبي تضجرا بكثرة حوائجه، يا أحمد، قد اختلت بيوت الأموال بطلباتك للائذين بك، والمتوسلين إليك، فقال: يا أمير المؤمنين، نتائج شكرها متصلة بك، وذخائر أجرها مكتوبة لك، وما لي من ذلك إلا عشق إيصال الألسن بحلو المدح فيك، قال: يا أبا عبد الله، والله لا يمنعك ما يزيد في عشقك، ويقوي من

64 - دولة المتوكل على الله

همتك فينا ولنا، ثم لم يتضجر بعدها بحاجة يعرضها عليه. وحكي أنه لما ثقل في علته التي مات فيها خيّل إلى الأتراك وقد أغمي عليه أنه قضى، فدنا منه تركي يقال له إيتاخ ليعلم هل مات أم لا، فلما دنا منه فتح عينيه ونظر إلى إيتاخ فرجع القهقرى، فانتشب طرف سيفه بالباب فاندق وسقط إيتاخ على قفاه لما نظره هيبة له، ورعبا لما داخله من النظر إليه، ثم لم يمر على الواثق إلا ساعة حتى مات، فأخذ وجعل في بيت، فما أقام إلا يسيرا فوجد وقد أخرجت الفارة عينه، فسبحان القادر الفعال لما يريد، لا إله إلا هو، ثم كان بموته قوة شوكة الأتراك. ثم: 64- دولة المتوكّل على الله أبي الفضل جعفر «1» بن محمد المعتصم، بدأ أمره بكشف المحنة، ودحا مجاري سبيلها، ومحا آية ليلها، وأطلق من ضاقت بهم السجون من المصرّين على إنكارها، والمصرحين [ص 147] بسوء آثارها، ونزه القرآن الكريم، وقال: إنه منزل غير مخلوق، وصفة من صفات الله القديمة سابقا، غير مسبوق، فأيد

الحق ونصره، وسدد إليه رأيه وبصره، إلا أنه كان مزورا عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ويرمى ببغضه، ويغري من لا خلاق له بحط مقداره وغضه، حتى قيل إنه كان يأمر مخنثا كان عنده اسمه عبادة، أن يصنع له بطنا تشبها بعلي رضي الله عنه، ثم يأمره بأن يرقص ويغني له بما ننزه كتابنا عن ظلمه، وندع قائله وما باء بإثمه، وكان يتمضمض بذكره بكذب يضعه، واختلاق يرفعه الله به، كلما أراد أنه يضعه، حتى قيل إن ابنه المنتصر كان يحرج قلبه هذا الاستهتار، ويقدح عنده نارا طار منها ذلك الشرار، وأنه دخل عليه يوما وذلك الممسخر قد تلبس بهذه الحال، ونمق وقته بزخرف ذلك المحال، والمتوكل قد استغرب ضحكا، واستعذب بذوقه السقيم ما يحكى فنهى الممسخر وزجره، ثم تقدم إلى أبيه ولامه وما عذره، وقال له: يا أمير المؤمنين، إنما هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، ولو لم يكن له ما له من الفضل لكان ابن عمك، وإنما تأكل قطعة من لحمك، ثم وعظه ونهاه ونصحه، لو قبل نصحه، أو وعاه فما صبر إلا ريثما ولى، ثم أمر ذلك الممسخر الطرف الوضيع الساقط، أن يغني ويقول: [مجزوء الكامل] غضب الحبيب لابن عمّه ... رأس الفتى في كس أمه قد قال تأكل لحمه ... فأجبته يا طيب لحمه وأمره أيضا أن يغني ويقول: غار الفتى لابن عمه ... رأس الفتى في حرّ أمه فلما قتل المتوكل والفتح بن خاقان، قتل معهما ذلك الساقط الحقير، وعجل بروحه إلى النار وبئس المصير، وكان المتوكل مغرى بالبناء، وأنفق [ص 148] فيه خزائن آبائه، وأسرع فيه دبيب الفناء، فبنى من المنازل قصورا تتضاءل لها المنازل قصورا، ولما أزال المحنة جمع الناس على مذهب مالك بن أنس رحمه الله، وإنما

65 - دولة المنتصر بالله

كان في الانحراف عن علي كرم الله وجهه في الغاية التي ما بعدها، وأمر بهدم قبر السيد الحسين بن علي عليهما السلام، وخراب ما حوله من المساكن، وأن تحرث وتزرع، فعمل فيه الناس أشعارا، من أحسن قول بعضهم: [الكامل] تالله إن كانت أمية قد جنت ... قتل ابن بنت نبيها مظلوما فلقد رماه بنو أبيه بمثلها ... أضحى حسين قبره مهدوما أسفوا على ألا يكونوا شاركوا ... في قتله فتتبعوه رميما ولد في (............) «1» وقتل ليلة الأربعاء لأربع خلون من شوال سنة سبع وأربعين ومائتين بالسيوف في مجلس الشراب، باتفاق مع ابنه المنتصر وبغا التركي. ثم: 65- دولة المنتصر بالله أبي جعفر محمد «2» بن جعفر المتوكل، انتصر لابن عم نبيه، وانتصب له انتصاب حمي الأنف أبيّه، وانتصف لذي قرابته من أبيه، وأرتعه في وبيل

المرعى وبيّه «1» ، وانتضى له سر العهد والعمد، وطوقه بجنيه، وأوطى عليه صوارم الأتراك، ووالى إليه عزائم الإدراك، حتى قتل تلك القتلة، وبرد غيظه، وشفى الغلة، لهذا منّي بالهلك بعده، وما هنّئ بالملك ولا طالت له مدة، فكانت قضيته شبيهة بقضية شيرويه «2» ، كلاهما قتل أباه، فما قبل الملك بملكه وأباه، فما سعى إلى السرير السرير حتى قصرت خطوة أجله، وقصرت سطوة المنايا على عجله، فحقرت كتب التهاني بالتعازي، ووسمت سمة فعله بالمحاسن والمخازي، فمن حمله على أنه غار لله لابن عم رسوله شكره، ومن حمله على أنه غال أباه للملك لم يكفر له ذنوبه المعذرة، ومن يوم مدت الأيدي بالمبايعة إليه قال الناس: هذا لا تزيد أيامه على مدة [ص 149] شيرويه، وكان من غريب الاتفاق أنه بسط في ذلك اليوم بساط، جاءت قدام مقعد المنتصر صورة مصورة، وحولها أسطر مسطرة، فأحضر من قرأ له ذلك الخط وعرّبه، فوجد مضمون أحرفه المكتتبة، هذه صورة شيرويه قتل أباه، فما دامت أيامه، ولا هنّئ بالملك بعده، فتطير المنتصر من ذلك، وتقرر عنده أنه هالك، فلما هلك، عجب الناس من ذلك الوفاق، حتى ظن بعضهم أن هذا وقع بالقصد لا بالاتفاق. وحكى أحمد بن الخصيب، خرج يوما مسرورا، فقال: إن أمير المؤمنين رأى كأنه صعد درجة، حتى انتهى إلى خمس وعشرين مرقاة، ثم قيل له قف، هذا آخر عمرك، فتأولها ابن الخصيب الخلافة، وإنما كانت جميع عمره، فعاش بعد

66 - دولة المستعين بالله

ذلك أياما ومات، وحسب عمره فكان قد أكمل خمسا وعشرين سنة حصل له ورم حار فيه البتة من نزلة حادثة، فمات بعد ثلاثة أيام، وذلك يوم الجمعة لخمس خلون من ربيع الأول سنة ثمان وأربعين ومائتين، وكانت خلافته ستة أشهر ويومين، وعمره خمسا وعشرين سنة ونصفا، وكان أعين أقنى قصيرا مهيبا، عظيم الجثة من حدوثها، وقيل، وهو الأكثر، إنه وجد حرارة ففصد بمبضع مسموم، فمات، ومن العجب أن الطبيب الذي فصده احتاج إلى الفصد، فأمر تلميذه بفصده، فأخرج له مباضع، وفيها ذلك المبضع المسموم، وقد نسيه، ففصده به فمات، وقيل: بل أصابته علة في رأسه فقطر الطبيب ابن طيفور في أذنه دهنا، فورم رأسه ومات، وقيل: غير هذا، وكان ينشد لما اشتدت به العلة: [الطويل] فما فرحت بدنيا أخذتها ... ولكن إلى الرب الكريم أصير وما كان ما قدمته رأي فلتة ... ولكن بفتياها أشار مشير ويروى أنه قال لابنه لما أحس بالموت: عالجت فعولجت. ثم: 66- دولة المستعين بالله أبي العباس أحمد «1» بن محمد المعتصم [ص 150] ولي بالمشاورة، وبلي

بالمساورة، وغالبه المعتز حتى غلبه، وناصبه حتى ابتز منه الملك وسلبه، وكان ألثغ اللسان لا ينعش الألفاظ من عثراتها، ولا ينعم النظر في تجنب معراتها، وكان يجعل الشين ثاء، وزبد كلامه الغث كله زبدا غثاء، وكان من سفلة الخلفاء، لا يصعد به جده هاشم، ولا جده الذي هو لمعاطس الأعداء مرغم ولوجوههم هاشم، لا يطاوعه على الحزم الرأي الرائن «1» والعزم الخائب الحائن «2» ، وكان أردى في هذا من الأمين حالا، وأكدى محالا، واستوزر وزيرا ناسبه في هذه الأحوال، وحاسبه على فعله حالا فحال، حتى انحل سياج دولته، وانفل جيش صولته، وآل أمر المستعين إلى ما آل، ومال إلى سوء رأيه في سوء مآل، وكان مع هذا غير مقبول الصورة، ولا مأمول السورة، إلا أنه لم يخل من مجالس أنس، وندمان ونفس تبادر ببذل المال صرف الزمان، فكان يهب البدر «3» ، ويعد بأمثالها إذا قدر، وكان لا يمل ود الصديق، ولا يميل إلى من وشى به إصغاء التصديق، فكان فيه مما يحمد هاتان الخلتان، والحسنتان الحسنتان، وكان ينظم الشعر، إلا أنه من سقط المتاع، ويجيء به بلا كلفة، إلا أنه مما تجود به الطبيعة، وكان قد بويع بالخلافة يوم الاثنين لست خلون من ربيع

67 - دولة المعتز بالله

الآخر سنة ثمان وأربعين ومائتين، ثم بايع الأتراك أخاه المعتز، فأرسل المعز أخاه الموفق، فنزل بغداد وحاصرها، فلم يزل أمر المستعين يضعف، وأمر المعتز يقوى، فبعث إلى المعتز. يسأله أن يعطيه خمسين ألف دينار، ويقيم حيث شاء، وعلى أن يكون بغا ووصيف اللذين كانا صنيعة له أحدهما على الحجاز وما والاه، والآخر على الجبل وما والاه، ثم خلع سنة اثنتين وخمسين، وأراد أن ينزل البصرة، فقيل: إنها حارة، فقال: أتراها أحر من فقد الخلافة، ثم اختار نزول واسط، فلما صار بقرب سر من رأى، تلقاه سعيد الحاجب، فباتا بها، فأصبح المستعين ميتا [ص 151] ولا أثر به، وقيل غير هذا، فقال جنيد الكاتب المعروف بباذنجانة: [الكامل] إيها بني العباس إنّ سبيلكم ... في قتل أعبدكم سبيل ممنع رقّعتم دنياكم فتمزقت ... بكم الحياة تمزقا لا ترقع ثم: 67- دولة المعتزّ بالله أبي عبد الله الزبير «1» بن جعفر المتوكل، وقد أشرنا في ذكر المستعين إلى أن

المعتز ناصبه حتى ابتز منه الملك، واهتز له اهتزاز سيف لا يعوقه المسك، ناصبه على الأمر حتى قوم أوده، ونصبه وقدم مدده إليه ونصبه، وجهز إليه أخاه الموفق فكسر، ثم أجهز عليه فنصر بعد حروب أفنيا فيها الأعمار، وبنيا فيها صروحا تسلق عليهما منها الأغمار، لكثرة ما طاح بينهما من جائل مهج، وطاف من حائل رهج، وطيّب المعتز سقام الملك، وشفى وصبه، وكفى عصبه، فاستعاد سلطانه ممن غصبه، واستقاد شيطانه المريد ورجمه بشهب نباله وحصبه، ورجمه فأنفاه، ثم بدا له فشفى غليله، وإن كان قد قطع عصبه، وكان المعتز أحسن خليفة رئي كأن البدر طالع من طوق قبائه، والظبي راتع حول خبائه، برز يوما في ثوب أخضر مذهب، فأشبه غصنا وريقا تلص إليه الأصيل، ولم يذهب، وكان يتعشق يونس بن بغا، وكان مثله في حسنه وحسناه، ونظيره في سنه وسناه، حتى كان يقال إنه ما رأى أحد مثلهما عاشقا ومعشوقا، توافقا جمالا وتناسقا كمالا، وتقارضا شغفا وتقاربا كلفا، فكانا غصنين سمقا، وبدرين اتسقا، وكلف المعتز به حتى كان لا يقدر يصبر عنه لحظة، ولا يضيع مع غيره لفظة، واشتغل به عن كل ما سواه، وجد به وجدا قل من قاربه فيه أو ساواه، وغاب عنه ساعة يرى فيها أمه وهي تموت، فقال: [مجزوء المتقارب] تغيب فلا أفرح ... فليتك لا تبرح [ص 152] وإن جئت عذبتني ... بأنك لا تسمح فأصبحت ما بين ذين ... ولي كبد تجرح على ذلك يا سيدي ... دنوك لي أصلح وقد قيل إن اسمه الزبير، وكان يوصف بالحزم والعزم على صغر سنه، فلما

68 - دولة المهتدي بالله

ولي الخلافة صغيرا استقل بأعبائها، وكان قد بويع بعده لأخويه المؤيد ثم الموفق، ثم اجتمع الأتراك عليه وطالبوه أن يخلع نفسه، ولم يزالوا يضربونه «1» حتى أجاب إلى الخلع، وكتبوا بذلك كتابا على نفسه، ثم أدخلوه على المهتدي، فقال له أخلعت نفسك، قال: بل خلعت، فوجئ في قفاه حتى سقط، ثم أقيم فقال: خلعت نفسي وسلمت ورضيت، ثم أخرج في الحر حافيا، فطلب نعلا فلم يعطاه، فأرخى سراويله ومشى عليه، ثم عذب بأنواع العذاب، وأدخل حماما وهو عطشان، ثم أخرجوه فطلب ماء فجىء بماء مثلوج فشربه فمات، وذلك يوم الأربعاء لثلاث بقين من رجب سنة خمس وخمسين ومائتين، ومدة خلافته أربع سنين وسبعة أشهر، وكان عمره أربعا وعشرين سنة، وكان أبيض اللون أسود الشعر جميل الصورة. ثم: 68- دولة المهتدي بالله أبي عبد الله محمد «2» بن هارون الواثق، وكان كلقبه مهتديا، وبالسلف الصالح مقتديا، وللعفاف تابعا، وبالكفاف قانعا، نحا منحى عمر بن عبد

العزيز، وسلك مسلكه الحريز، فما تكثر من الدنيا ولا تكبر بالعليا، وأقبلت عليه الأيام فما اغتر بخداعها، ولا اعتز بمتاعها، ولا أصباه بديع رونقها، ولا سباه صنيع تأنقها، وأخرج ما اكتنز الخلفاء من آنية الذهب والفضة وضربها نقودا، وفرقها حقوقا لا جودا، وأمر بالعدل، ورجع إليه قضاياه، وطبع عليه سجاياه، فلم يوافق صلاحه زمانه الفاسد، ولا نفّق إصلاحه سوقه الكاسد [ص 153] ، ولم يكن من أرباب الدولة إلا منهمك في فساد، ومنسلك في سلك لا يطمئن به الوساد، فكرهوا أيامه، وودوا لو انقضت وأنها لا تكون قد أقبلت حتى مضت، فعابوه بما فعل مما يمدح، وقالوا إنه لا يستصلح، وقد حكى عنه بعض العلماء قال: حضرت المهتدي يوما من رمضان بعد العصر، وطال مجلسي عنده، فلما أردت القيام قال: قد حانت المغرب وآن فطور الصيام، فهل لك في أن تفطر عندي الليلة، فما وسعني إلا أن أجبت قوله، فلما أذّن المؤذن أجابه، ثم دعا بكوز ماء فشرب منه وسقاني، ثم قمنا إلى الصلاة فأديناها وأعقبناها بركعتي السنة، وذيلناها، ثم قال: يا جارية العشاء، فجاءت بسكرجتين «1» في إحداهما جريش ملح، وفي الأخرى زيت وخل، ومعهما رغيفان، فتقدم وقال: كل ثم قال: باسم الله، ثم أكل وأكلت، وأنا أظنه شيئا قدمه قبل طعامه، فرفعت يدي، فقال لي: ألست كنت صائما، فقلت: نعم، فقال: أولست تصبح غدا صائما، فقلت: بلى، قال: فما هذا الأكل، فقلت: يا أمير المؤمنين، أوهذا هو طعامك، فقال: نعم، فإن الحلال المحض لا يحتمل أكثر من هذا، فدعوت له وأكلت، ثم انصرفت، وقد استحوذ على قلبي استحواذا، ثم أذنت العشاء الآخرة، فقمنا إلى الصلاة، فصلينا المكتوبة، وما معها، ثم قمنا بالتراويح، فكملناها أجمعها، ثم أخذت مضجعي، ثم بقيت أنتبه الفينة بعد الفينة،

69 - دولة المعتمد على الله

فأجده قائما في مكانه يصلي، فوالله ما زال هكذا حتى أصبح. قال عبد الله بن إبراهيم الإسكافي: حبس المهتدي للمظالم، فاستعداه رجل على ابن له، فأمر بإحضاره، فأحضر، وأقامه إلى جانب خصمه ليحكم بينهما، فقال الرجل للمهتدي: والله ما أنت إلا كما قال القائل: [السريع] حكمتموه فقضى بينكم ... أبلج مثل القمر الزاهر لا يقبل الرشوة في حكمه ... ولا يبالي عنت الخاسر [ص 154] فقال له المهتدي: أما أنت أيها الرجل، فأحسن الله مقالتك، وأما أنا فما جلست حتى قرأت: وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ «1» ، قال: فما رأيت باكيا أكثر من ذلك اليوم، وكان يقول: ألا يستحي بنو العباس أن [لا] يكون فيهم مثل عمر بن عبد العزيز، ولما ولي اطرح الملاهي وحرّم الغناء والشراب، ومنع أصحاب السلطان عن الظلم، رحمه الله. ثم: 69- دولة المعتمد على الله أبي العباس أحمد «2» بن جعفر المتوكل، وكان أخوه

الموفق «1» أبو أحمد طلحة بن المتوكل الملقب بالناصر قائما بأمر الدولة كلها، قائلا في برد ظلها، والمعتمد ليس له من الأمر شىء، كأنه ميت وهو حي قد وطئه الموفق على أم رأسه، وغلب على ملكه وناسه، وغل يده على ما أشغلها به نكل [في الأصل الكلمة غير معجمة ولعلها النكل بمعنى القيد] جواريه وكاسه، وكان هم الموفق جيوشا يجهزها، وممالك يحرزها، وأمور لا يكنزها، وأعمالا ملوكية يرقم بها السير ويطرزها، وهم المعتمد تنميق بناء وتأنيق غناء، وارتياد روضة غناء، واعتقاد كأس مدام وجارية حسناء، ثم ندم المعتمد حيث لا ينفعه الندم، وعلم أن وجوده كالعدم، فبقي يتنفس تنفس المصدور، ويتأوه تأوه المحرور، ويهم بأمر الحزم لو يستطيعه، ويحاول حالا ولا يجد من يطيعه، وكتب سرا إلى ابن طولون وإلى صاحب أفريقية يشكو إليهما حاله مع أخيه، ثم مع ابن أخيه، ويصف لهم سوء حاله وما هو فيه، فهموا بما حالت بينهم وبينه عوارض القدر وشقة البعد، وكان الموفق لا يفك عنه وثاق حجره، ولا يرفع يد قهره، وذكر ابن الأثير عنه، أنه احتاج إلى ثلاث مائة دينار فلم يجدها، فقال: «2» [الوافر] أليس من العجائب أن مثلي ... يرى ما قل ممتنعا عليه

70 - دولة المعتضد بالله

ويوكل باسمه الدنيا جميعا ... وما من ذاك شىء في يديه [ص 155] إليه تحمل الأموال طرا ... ويمنع بعض ما يجنى إليه قال: وكان آخر من سكن من الخلفاء بسر من رأى، ثم لم يسكنها بعده أحد منهم. قلت: دام على ما به مدة أيام أخيه الموفق، ثم مات الموفق، وقام ابنه المعتضد، فكان أشد شجى في حلق المعتمد، وما مضت سنة حتى سمّه وكفاهم همّ الدنيا، واكتفى همّه، يقال: إن المعتضد سمّه، وقيل بل أفرغ في حلقه رصاصا مذابا، وقيل: لا، بل ملأ له حفرة من ريش، ورماه فيها، فمات غما. ثم: 70- دولة المعتضد بالله أبي العباس أحمد «1» بن الموفق أبي أحمد طلحة بن المتوكل، كان أبوه في

خلافة المعتمد قد اعتقله لما خافه واعتمده حذرا أن يسابقه إلى الخلافة، وذلك لسعي إسماعيل بن بلبل الوزير بينهما بالنمائم، ووعى قلب الموفق عليه بالسمائم» ، وما شعر أن أمامه منصب الإمامة، وإن الخلافة لا ينبغي خلافه، وأن الملك معصم لا ينزل منه بغير سوار، ومعقل لاعلى منه بلا أسوار، فلبث في الاعتقال مضيقا عليه، في مكان أقصر من طول العقال، وبيض له المعتقل ليبهر نظره البياض، ويخطف بصره بالإيماض، حتى تحيل له مشرف العماير، فلبس سراويل أخضر «2» ، ودخل المعتقل على أنه يتفقد العمارة، فتفقدها، ثم دخل الطهارة فنزع ذلك السراويل وخرج، فلما وجده المعتضد سر به وابتهج، فكان يدعه على عينيه، ويعده بينه وبين الحائط، وينظر إليه، فوجد بحوة «3» لونه حفا لصحوة عينيه، ولم يكن عنده إلا فرد غلام لا يغني في رد كلام، وكان المعتضد يشغل وقته بمصحف يقرأ منه القرآن العظيم، ودعاء يقرع به باب السميع الكريم، ودخل عليه الوزير ابن بلبل يوما، والمعتضد يقرأ، فوضع إلى جانبه المصحف، وأخذ بأنه يخضع للوزير [ص 156] ويتلطف، وكان يدخل عليه ليجد ما ينم به، وينمي أحاديث كذبه، وكان الموفق قد خرج إلى الجبل فزاد خوف المعتضد من غرّة فيه تهتبل، وكان يتخوف دخوله عليه على غفلة، ويشفق لا يكاتب أباه عنه بكذب يعجل نقله، ويجعل نظره إليه نسله، ويخلي به مثله مثلة، فيأمر بقتله ولا يكشفه، ولا يجد من يثنيه عنه ولا يصرفه، قال المعتضد ما معناه: وكان ابن بلبل يجيئني في كل يوم مراعيا خبري، وساعيا في قص أثري، ويظهر أنه يتردد إليّ خدمة يؤديها، وإنما يردد نقمة يردّيها، فلما دخل عليّ ذلك اليوم قال: إيها، أعطني المصحف لأتفاءل لك إن كنت تبلغ مؤملك،

فلم أجبه بشىء، ولم أجبه بموافقة ولا لي، فأخذ المصحف وفتحه فكان أول سطر تصفحه: عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ «1» فاسودّ وجهه واربد حتى كان كالليل أو شبهه، ثم أطبق المصحف وفتحه ثانيا، فخرج منه باديا: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ «2» ، فازداد قلقا واضطرابا واضطر أن يفتح بابا، ثم فتح المصحف ثالثا فوجد عاجلا لا نائيا: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً «3» ، فوضع المصحف والخوف قد جلله، وألحف ثم قال: أيها الأمير، أنت والله الخليفة بلا شك، فما حق بشارتي وحال قبولك لإشارتي، فقلت: الله الله في دمي، وما عليك ألا تكون السبب في عدمي وأسأل الله أن يبقي أمير المؤمنين، والأمير الناصر الموفق، وما أنا وهذا، ولم أزل به أوثق وأقول: مثلك في عقلك لا يطيق القول بمثل هذا الاتفاق، وأنا أحوج منك إلى غير هذا من الارتفاق فأمسك عني، وقد كان يأخذني منى، ثم ما زال يحادثني ويخرجني من حديث ويدخلني في آخر إلى أن جرى حديث ما بيني وبين أبي، وأنه ربما كان يؤاخذه بسببي، ثم أقبل يحلف بالأيمان الغليظة [ص 157] أنه ما سعى عليّ بمكروه، وأنه ممن لم يحرجوا صدره عليّ، ولم يغروه، فصدقته خوفا أن تزيد وحشته مني فيسرع إلى التدبير في تلفي، وأريته من الود ما لم يكن له في، ثم صار كلما جاء أخذ معي الاعتذار والتنصل، كأنما أبلغه مني الإنذار، وإنما أظهر له التصديق وأبسط معه مباسطة الصديق حتى سكن قلق راحته، وما

شك أني أعتقد براءة ساحته، وما كان بأسرع من أن جاء الموفق من الجبل وقد اشتدت به علته، ومات، وأخرجني الغلمان من الحبس وأروني مكانه، وأورثوني سلطانه، وقاد الله الخلافة إليّ، ومكنني من ابن بلبل، فأخذت ثأري بيدي، وكان المعتضد ملكا مهيبا، إذا اغتاظ توقد لهيبا، وبويع بالخلافة وقد تمزقت كل ممزق، وتوزع ملكها وتفرق، وقد صار كل طرف بيد ثائر، وكل إقليم تحقق عليه نبذ كل ملك جائر، واضمحلت الحرمة كأنها لم تكن، وصعبت الأمة كأنها لم تهن، فقام حتى جمع شلوها المبدد، ومنع أديمها المقدد، وكان في الغنية مثل موافقه في الكنية أبي العباس السفاح في تعريض وجهه للكفاح، وكل منهما أقام دولة أبي العباس، وأقاد لها أنف كل ذي باس، وكلاهما كانت خلافته للخلافة العباسية بانية، ذاك أوله وهذا ثانيه، وكانت له على الأتراك وأرباب دولته سطوة تخاف بها أبصارهم أن تختطف، وأعمارهم أن تقتطف، حذرا من ضيغمة المفترش المفترس، وأرقمة المنتهش المنتهس، وعقابه الخطوف الكاسرة، وعقابه الممثل بعذاب الآخرة، فإنه كان أليم العذاب، عقيم العقاب، وكان يدلي عليهم الحرس، ويذكر لهم من أمورهم وبيوتهم ما يلجمهم بالخرس، وما عرف أحد بعد المعتصم أخف منه إلى العدو ركابا، ولا أمد على بلد انسكابا، ولا يحط له سرج، ولا يحل له عن موكب طوق ورهج، وقد حكى ابن ظافر في سياسة الملوك أنه كان لا يبرز إلا مخفا، ولا [ص 158] يستصحب ثقلا ولا خفا، وقرر النوروز «1» ، وأقر عليه رزق الجند المفروز، وتبعه عليه من بعده من الخلفاء ووفوه حسابه، وما قدروا على الوفاء، وكان غاية في الحزم والعزم، حكى شارح العبدونية قال: لم تزل الأتراك مذ مات الواثق يتحكمون عليهم في

خلافتهم، يعني تحكم الرجال على صبيانهم، حتى كان أيام المعتضد فغلبهم الغلبة التي يجب أن تكون لمثله على مثلهم وأذلهم وردهم إلى مراتبهم من العبودية، وكان المعتضد مهيبا لا يقدم أحد على أمر من أموره إلا مغرورا، وكان يسمى السفاح الثاني، لأنه جدد ملك بني العباس ووطده بعد أن كانت أخلقته الأتراك، وفي ذلك يقول ابن الرومي: «1» [الطويل] هنيئا بني العباس إن إمامكم ... إمام الهدى والجود في ذاك يشهد كما بأبي العباس أسس ملكهم ... كذا بأبي العباس أيضا يجدد ولقد اتفق في أيامه أمر فظيع «2» كشفه الله له فعظم في نفوس أتباعه، فإنه كان لا يتجرأ أحد منهم أن يكتمه ما في نفسه مخافة صولته، وكان أحد كبراء دولته قد بنى بناء عاليا مشرفا على منازل جيرانه، فلم يقدر أحد يعارضه، فأشرف منه فرأى جارية بارعة الجمال، فسأل عنها، فقيل: ابنة تاجر، فخطبها إلى أبيها، فأبى أن يزوجها من تاجر مثله، فلم يزل يغريه «3» ويأبى، فزوّر كتاب تزويج بشهادة عشرة من المعدلين، ثم أخذها بظاهر الشرع، فتحيّل أبوها حتى دخل في زي فعلة البناء في قصر كان المعتضد قد شرع فيه، فأتاه يوما يشرف عليه، فوقف له وذكر له حاله، فأرسل في طلب الزوج والشهود، وسألهم كيف كان الحال، فما استطاع أحد منهم أن ينكره، فوضع ذلك الزوج في جلد ثور طري، وضرب بالأرازب «4» حتى اختلط لحمه ودمه، ثم أمر به فأفرغ بين يدي

نمور عنده، ثم [أمر] بالشهود فصلبوا، وأمر لذلك الرجل بالبيت وبجميع ما تركه زوجها [ص 159] من صامت وناطق، وكان بما لا يحصر. وحكى ابن ظفر: أن قطر الندى «1» بنت خمارويه بن أحمد بن طولون، لما زفت إلى المعتضد أغرم بها، فوضع رأسه في حجرها يوما فنام، فأزالته عن فخذها بلطف، ووسدته وخرجت من البيت، فاستيقظ المعتضد فذعر وناداها فأجابته من قرب، فقال لها: أسلمت إليك نفسي فذهبت عني، فقالت: لم أذهب عن أمير المؤمنين، ولم أزل كالئة له، قال: فما أخرجك؟ قالت: إن مما أدبني به أبي أن لا أجلس مع النيام، ولا أنام مع الجالسين، فاستحسن ذلك منها. وحكى صافي الحرمي: أنه لما مات المعتضد كفنه في ثوبين قوهي «2» قيمتها ستة عشر قيراطا وولد، ولما حضرته الوفاة قال، وأراه له: [الطويل] تمتّع من الدنيا فإنّك لا تبقى ... وخذ صفوها ما إن صفت ودع الرّنقا ولا تأمننّ الدهر إني أمنته ... فلم تبق لي حالا ولم ترع لي حقّا قتلت صناديد الرجال فلم أدع ... عدوّا ولم أمهل على ظنّة خلقا فلما بلغت النجم عزّا ورفعة ... وصارت رقاب الخلق أجمع لي رقّا رماني الردى سهما فأخمد جمرتي ... فها أنا ذي في حفرتي عاجلا ألقى «3»

71 - دولة المكتفي بالله

فياليت شعري بعد موتي ما أرى ... إلى نعمة لله أم ناره ألقى ثم: 71- دولة المكتفي بالله أبي محمد علي «1» بن أحمد المعتضد، وكانت له مما أبقى أبوه جيوش تضيق بها جيوب العراق، وتضيع بها هبوب النسيم في الآفاق، خلا أنه كان عقير عقار، وسمير دفوف وأوتار، وأليف ندمان، وحليف إدمان، لا يخلع عنه ثوب عناق، ولا يخدع عن النفاق ساق بساق، لم يؤخذ الملاح من مقلتيه ولا كؤوس الراح من شفتيه، دأبه في هوى، وآدابه في جوى، لا يقصر عن حبّ أغيد وغيداء، وأجيد وجيداء، فلهذا ما عسكر إلى الأعداء رأيا ولا راية [ص 160] ، ولا أثر جنانا ولا جناية، على كثرة الفتوق في جيب ملكه، والانفراط في جيب سلكه، فتسلطت القرامطة، وتبسطت في البلاد بلا رابطة، وصرخت تلك الدعوة في أذان الأنام، وزادت في أذان الإسلام، ثم فعلت تلك الفعلة في الحجر الأسود، وابتزت خاله من وجنة البيت الحرام، مع أنه قاتل القرامطة مرتين، وكرّ عليهم جيشه الحويل كرتين، وعاد بالنصر في كل مرة، لكنه لم يجتثهم، ولا قطع نسلهم وحرثهم.

72 - دولة المقتدر بالله

ثم: 72- دولة المقتدر بالله أبو الفضل جعفر «1» بن أحمد المعتضد، بويع صغيرا، وتوبع أمره وهو غرير «2» ، وكانت أمه هي التي تصدر الأمور، والقهرمانة أم موسى تدبر المعمور، وجلست في دار العدل، وقرئت عليها القصص، وأوقرت الصدور بالغصص، وكان الوزير إذا قيل له في شىء، قال: حتى أراجع السيدات، والتواقيع تخرج إليه عنهن، وأكثرها بالسيئات، فكانت أيامه دولة النساء، ودولة السفلة لا الرؤساء، فكان الناس كأنهم فوضى لا يعرف خليفة، تتبرض له ثمدا ولا حوضا، لا تجد إلا ضياعا، ولا تردّ يد تملكت أرضا ولا ضياعا، أعراض موهوبة، وأعراض منهوبة «3» ، وشكايا «4» مرقوعة، وبلايا موضوعة، وخلائق تتظلم،

وخلائف سلف كريم تتألم، وكان المقتدر عقله عقل أمثاله من الصغار لا ينتخي لملكه ولا يغار، مشغولا وراء حجبه، مشغوفا بلعبه، يتشبه في ملكه العقيم بالسوقة، ويتخذ له من جوارية معشوقة، ويقف تحت طاقتها يغمزها، ويترقب لها غفلات رقباء ينتهزها، وربما وقف اليوم الكامل وهي لا تجيبه، ورأى جارية فاختفى كأنه وافى إليه رقيبه، فمرة تصله، ومرة تهجره، وآونة تتعرف به، وآونة تنكره، وتارة تتعذر بزوجها، وتارة يتستر بأوجها، كل هذا شىء افتعله، وظنه لذة له ففعله، وكان ربما ركب حمارا وأردفها وراءه، ومر بسوق عمله في قصره، وأسكنه الجواري وأوطنه كواعب كالدراري، وجعل عندهن أنواع الطعام، ومنهن الخباز والطباخ واللحام [ص 161] والخمار، وعنده الخمارة والمدام، فيقف على الحانوت ويشتري قدر ما يحتاجه من القوت، وكذلك ما يريد من الخمر، فإذا اكتفى حمل الكل في الخرج ومر، ثم ينطلق إلى مكان اتخذه في القصر شبيها بالقرية، ونزل به، وقضى معها يومه كله في أكله وشربه، ثم إما تجئ جارية على أنها عاشق لتلك الجارية الأخرى التي يتعشقها، يريد ما أراده منها، فيقوم يدرأ عنها، فتارة غلب، وتارة يغلب، وتارة تجىء جارية على أنها صاحب الشرطة، فيأخذهما ويذهب، ثم يأمر بالمقتدر بأن يطاف به في شوارع بغداد، فيطاف به في رحاب القصر، وينادى عليه: هذا جزاء من يتظاهر بالمحرمات، في مثل هذا العصر. وكان المقتدر منقطعا إلى أمثال هذا اللعب، ما اجتهد في سواه ولا رغب، ولهذا اختلت حاله مرات، وخلع ثم عاد كرات، لكنه مع هذا اللهو المفرط، واللعب وهو ما بلغه منبسط، ولا لحقه بعده منتهك، ولا سبقه إليه قبله سوقة ولا ملك، كان سعيدا محظوظا، شديدا أدرك من المرام حظوظا، وكان واسع النفقات، شائع الصدقات، ودانت له الآفاق شرقها وغربها، وبعدها وقربها، ولم يبق شىء مما كان في ملك الخلفاء الأول إلا مذعنا لأمره، ممعنا للتأهب لنصره، لا تحمي أطرافها إلا بعسكره، ولا تشمخ أسرّة ملوكها إلا بالخضوع

لمنبره. واتفق في أيامه عجائب وغرائب، منها أنه بعث له من مصر طرائف، منها تيس يحلب منه اللبن، وبعث إليه من عمان طائر صيني أسود يتكلم بالهندية والفارسية أفصح من الببغاء، وورد عليه البريد الدينور يذكر أن بغلة له وضعت فلوة، ونسخة الكتاب: «الحمد لله الموقظ بعبره قلوب الغافلين، والمرشد بآياته بصائر العارفين، الخالق ما يشاء بغير مثال، ذلك الباري المصور، له الأسماء الحسنى، ومما قضاه الله المصور في الأرحام ما يشاء، أن الموكل بخبر التطواف ذكر أن بغلة لرجل يعرف بأبي [ص 162] بردة، وضعت فلوة، ووصف اجتماع الناس لذلك وتعجبهم مما عاينوه، فوجهت من أحضرني الفلوة والبغلة، فوجدتها كميتا، ورأيت الفلوة سرية الخلق، تامة الأعضاء، منسدلة الذنب، يشبه ذنبها أذناب الذئاب، فسبحان الذي لا معقب لحكمه، وهو سريع الحساب» «1» قال شارح القصيدة العبدونية «2» : وقد حكي أنه اتفق مثل هذا سنة خمسين وخمس وأربع مائة بطليطلة «3» ، وكانت البغلة شهباء، كانت لإنسان سقّاء، وفلوها إلى الصفرة. قلت: وحكى لي صهرنا الصاحب شمس الدين محمد بن الشيرازي، أن مثل هذا اتفق في بعض بلاد حلب، وسمى لي المكان وأنسيته، قال: ورأيت ذلك بعيني، وأثبت به محضر على الحاكم، ومما اتفق في زمان المقتدر أنه وجد بمصر كنز قديم ومعه ضلع إنسان طوله أربعة عشر شبرا، وعرضه شبر.

73 - وأما خروج عبد الله بن المعتز عليه

73- وأمّا خروج عبد الله بن المعتزّ عليه وكان سببه «1» أنه لما ولي المقتدر، استصغر، فجاء محمد بن داود الوزير فأخرجه من داره إلى دار إبراهيم الماذرائي، ووجهوا إلى القاضي محمد بن يوسف، يوم السبت العشرين من ربيع الآخر سنة ست وتسعين ومائتين، وحضر جماعة العلماء والقواد، فخلعوا المقتدر وبايعوا ابن المعتز إلا بعضهم، ولقب بالمنتصف بالله، المنتصف بالله، فلما أذنت المغرب ضربت الدبادب «2» له، وضربت من قصر المقتدر، واشتغل الوزير بكتب الكتب إلى النواحي، وكاد الأمر أن يتم لو أراده الله، فنقض العزائم وأبطل التدبير، لأن سوسن الحاجب كان قد عاقد ابن المعتز على أن يكون حاجبه ويمكنه من المقتدر، فبلغه في تلك الليلة أن ابن المعتز استخلص يمنا الكيفوني فجاء به، فانتقض سوسن عليه، وأحكم الأمر للمقتدر، فلما أصبح ابن المعتز خرج قاصدا قصر المقتدر، فلما بلغ الحسنى خرج عليه العبيد والرجالة فمنعوهم، وأعانهم العامة، فرجع ابن المعتز إلى داره، وعلم من أين أصيب، ثم أن المقتدر جهز جيشا غريبا في الخيل والرجال، فأحاطوا [ص 163] بدار ابن المعتز، ففر من كان فيها، وبقي ابن المعتز وحده، فتسلل هو ووزيره، وثبت الحسين بن حمدان «3» ، فقاتلهم إلى الظهر، فأصابه سهم، ففر إلى

داره، وأخذ منها ما يريد، ثم خرج إلى سر من رأى، وأما ابن المعتز فإنه هرب، وأتى دار ابن الجصاص الجوهري، وكان ممن بايعه، فعرف خادم، فنمّ به، فأخذ وألقي في صهريج ثلج فمات به، وهو ذو الأدب الغض والتشبيه المصيب، ومن بدائعه قوله: «1» [الطويل] وجردت من أعمال كلّ مرهف إذا ما ... انتضته الكفّ كاد يسيل ترى فوق متنيه الفرند كأنما ... تنفس فيه القين وهو صقيل وقوله: «2» [البسيط] ظبي مخلّى من الأحزان ودعني ... ما يعلم اللهف من حزن ومن قلق كأنه وكأنّ الكأس في يده ... هلال أول شهر غاب في شفق وقوله: «3» [المنسرح] قد انقضت دولة الصيام وقد ... بشّر سقم الهلال بالعيد

يتلو الثريا كفاغر شره ... يفتح فاه لأكل عنقود وقوله: «1» [المتقارب] إذا ما طعنا بطون الدنا ... ن سال دم الكرم منهنّ سورا كأنّ خراطيمها في الزجاج ... خراطيم نحل ينقّين نورا وقوله: «2» [الطويل] ولما تلاقينا وهزت رماحنا ... وجرّد منها كلّ أبيض باتر رأوا معشرا لا يبصر الموت غيرهم ... فما برحوا إلا برجم الحوافر ولما بويع ابن المعتز، دخل على أبي جعفر الطبري، فقال له: كيف تركت الناس؟ قال: بويع عبد الله بن المعتز، قال: فمن رشح للوزارة؟ فقال: محمد بن داود الجراح [ص 164] ، قال: فمن ذكر للقضاء؟ قال: الحسن بن المثنى، فأطرق قليلا ثم قال: هذا أمر لا يتم ولا ينتظم، فقيل له: وكيف؟ قال: لأن كل واحد من هؤلاء متقدم في معناه على أبناء جنسه، والزمان مدبر، والدنيا مولية، وكان هذا على ما قال، ولم يكن في ابن المعتزما يعاب به سوى نقص حظه، وكمال أدبه. وكان سبب قتل المقتدر بموضع يعرف بالتل، فجعل يوجه نحو باب الشماسية «3» أن يأتيه جنده منها والناس في ذلك يتسللون نحو

74 - دولة القاهر بالله

مؤنس» ، وكان مؤنس قد جاء ليصرفه المقتدر في مهماته، غير أنه من كان يحسبه مؤنسا، أغروه به، وقالوا له: إنما جاء ليقتلك، ولكن غلب عليه عبيده، وكانوا قد غضوا بمؤنس، وقالوا له إما أن تخرج لقتاله، وإلا أخذناك وسلمناك إليه، فخرج وهو مكره، وقد كانت أمه تمنعه، فلما لم ير بدّا من الخروج ودع أمه، وتمثل بقول ابن الرومي: «2» [الكامل] طامن حشاك فانّ دهرك موقع ... بك ما تحبّ من الأمور وتكره وإذا حذرت من الأمور مقدرا ... فهربت منه فنحوه تتوجه فلما خرج إليه جعل أصحابه يتسللون منه، حتى بقي وحده، فقصده عبد أسود، فضربه على عاتقه، فصاح: ما هذا ويلك، ثم تعاوده حتى قتله بالضرب، ثم أمسك مؤنس قاتله وقتله، إذ لم يكن غرض مؤنس قتله، وإنما غرضه أن يكون صاحب أمره، وإنما المقادير تنفذ أحبّ العبد أم كره. «3» ثم: 74- دولة القاهر بالله أبي المنصور محمد «4» بن أحمد المعتضد، كان [لا] يستقل لسانه من

عوج، ولا زمانه من هوج، ولم يكن له يوم بويع ما يلبس، حتى ألبسه جعفر بن ورقاء «1» ثيابه، وقدمه للمبايعة، وتقدم، وطفق الناس في المتابعة، وكان أحط رتبة من إخوته [ص 165] وأرفع رتبة في نخوته، لولا طيش لا ترفع معه منار، وتهافت أوقع به من الفراش على النار، قدام مدة خلافته وأيامه سنون، وأحكامه جنون، وتصديقه ظنون، وتحقيقه منون، لا يقف مع تدبير سوس، ولا يتوقف في تدمير نفوس، وكان يتطاول إلى فعل آبائه بهمة خانها الرأى الثاقب، وعزمة أنها لا تفكر بالعواقب، فعاجل أقواما ما كان لو طاولهم، وأكمن لهم حتى استأصلهم، لكنه كان خائر العزيمة، خائف الفوات على أول ما يظفر به من الغنيمة، يورطه عظيم تهوره، وتسلطه على ما يريد سقيم تصوره، فأدى به تفريطه إلى أنه خلع وسمل، ثم الحق بسخط الراضي وشمل، ثم عطف عليه فتعرض لأمر اطّرح به وأهمل، وكان في داره ماله رزق يقيته، ولا رزء يميته، فقام يستعطي في المسجد الجامع، حتى أعطي ما لو أنه الحياة لما أمسكت بها الأرماق، أو الدمع لما بلّت به الآماق. ثم:

75 - دولة الراضي بالله

75- دولة الرّاضي بالله أبي العباس محمد «1» بن جعفر المقتدر، وكان مطاعا صؤولا، قطاعا وصولا، وهو آخر من جمع من الخلفاء شعره في ديوان، وجلس لهم جلوسا عاما في إيوان، وقام خطيبا على المنبر، وفعل أفعال من برّ، وحاضر الندماء، وسامره منهم كواكب ثقلها الأرض لا السماء، وكان يتحرى عوائد سلفه في ترتيب الخلائف، وتبويب الوظائف، وكان عارفا بلغة العرب، عاكفا على ما لا حرج فيه من الأرب، مولعا بالأدب، ولوع القشيري «2» بريّا، والمغيري «3» بالثريا، وجميل بن معمر ببثينة، ومصعب بن الزبير بسكينة «4» وله فيه تفنن ينسي به حبيب، وينسج نظرته ما ذكر عن عريب، مما لو يوصف بأكثر منه علي بن جريج، ولا صنف في أحسن منه إسماعيل بن سريج، وكان جوادا طلق اليمين، يهب الآلاف الذهب لا المئين، مع ما أوتي من خلق وصبى، وخلق رضى، وكان الراضي لا يرى بسخط أحد ساخطا [ص 166] ، ولا لضغن بين

جنبيه ضاغطا فلا يشوب له نعماء، ولا يزال الراضي راضيا بموهبة من أفاد المعاني لأسماء. وحكي عن أبي الحسن العروضي مؤدب الراضي أنه قال: غدا عليّ الراضي يوما وفي يده درج، فوضعه، وأقبل على ما كنت وظفته له، فأسرع يحصله، ثم انحاز عني، وأخذ ذلك الدرج يتصفحه، فقلت له: ما درجك أيها الأمير، فقال: حكمة من حكم الفرس مما ترجم لأمير المؤمنين أبي جعفر المنصور، وانتسخته، فقلت: أسمعني ما فيه، فقرأ عليّ أنه لا يضر فساد الملك مع صلاح وزرائه، كما لا ينفع مع فساد وزرائه كبير نفع، وينبغي للملك أن يسوس وزراءه بثقة يكمن فيها احتراس لا يوجد معه حذر، وليس «1» تسوء به هيبته، وليحذر كل الحذر من اختصاص بعضهم دون بعض، وتفضيل بعضهم على بعض، فالوزراء للملك كالطبائع للجسم، صلاح الجسم باعتدال طبائعها وتساويها في القوة، كما أن عطبها في قوة بعضها على بعض. قال العروضي، فقلت: أيها الأمير إنك اليوم غير محتاج إلى هذا وشبهه، فقال: كلا إني إليه لمحتاج، وإن كان عندك علم منه فأفدناه، وإن لم يكن عندك فاستفده لكي تفدناه. قال: فعلمت بذلك سمو همته، وثقوب فطنته. وحكي عن العروضي أنه قال: أمليت على الراضي في صباه كلاما لقتيبة «2» ، وهو أن قتيبة شاور أصحابه في رجل يؤّمره على جيش أراد أن يبعث به لمحاربة بعض من جاور خراسان من الكفار، فقيل له: هل لك في فلان؟ فقال: ذاك رجل ذو كبر، ومن تكبر أعجب برأيه، ومن أعجب برأيه لم يؤامر نصحاءه، ومن تحلى بالإعجاب، ودبر بالاستبداد، كان مع الصنع بعيدا، ومن

76 - دولة المستكفي بالله

الخذلان قريبا، ومن تكبر على عدو احتقره، ومن احتقر عدوه [قل] احتراسه منه، ومن قل احتراسه كثر عثاره، وما رأيت محاربا قط تكبّر على عدوه، إلا كان مخذولا مهزوما مفلولا، لا والله حتى يكون أسمع من فرس، وأبصر من عقاب، وأهدى من [ص 167] قطاة، وأحذر من عقعق، وأجرأ من أسد، وأوثب [من] فهد، وأحقد من جمل، وأزوغ من ثعلب، وأسخى من ديك، وأشح من صبي، وأخرس من كركي، وألح من كلب، وأصبر من ضب، وأحمل من نمل، فإن النفس إنما تسمح بالعناية على مقدار الحاجة، وإنما نعني بالتحفظ على مقدار الخوف، وقد قيل: على وجه الدهر ليس لمعجب رأي، ولا لمتكبر صديق، ومن أحب أن يحبّ تحبب. قال العروضي: فكتب الراضي ذلك بخطه، وعكف على دراسته حتى حفظه في مجلسه ذلك، فلما حصله ارتاح وطرب، وأقبل عليّ وقال: لعل الزمان أن يبلغ بي إلى أن أتأدب بهذه الآداب. ثم: 76- دولة المستكفي بالله أبي القاسم عبد الله «1» بن علي المكتفي بن المعتضد، كان لا يكف ذيله عن فجور، ولا يعف ليله عما لا يصح له ديجور، لا ينفك في غيابة ظلام، ولا

77 - دولة المطيع لله

ينتقل عن بطن جارية، إلا على ظهر غلام، ولا تزال يده مقرّطة بمنديل، متوجة بكأس، إلا أنها غير سلسبيل، وكان مجلسه معمورا بالقيان مغمورا بالدنان، كأنه حانة نباذ، أو في قطربل «1» لا بغداد، وكان ربما لم يكتف بمن عنده، فيطلب له من نساء المدينة العواهر، ومن أبناء أهلها من يكلفه عمل النساء الفواجر، لا يعرف برا ولا حنثا، ولا يخف محمله عن ذكر ولا أنثى، هذا مع عدم قدرة على حكم ولا سماع لأمره، إلا إذا سمعت الصم البكم، وكان في جميع أموره، كأنه لم يرعه واعظ دين، ولم يردعه من له معتقد به بدين، حتى كان شبّه من بني أمية بالوليد بن يزيد «2» ، وما ينقص عما يريد بل يزيد، وتلاشت في أيامه الخلافة واضمحلت، وانتكثت عقدتها الوثيقة وانحلت، فأصبحت واهية القوى، ضعيفة لا تتماسك من شدة الجوى، أما قمرها فسقط، وأما نجمها فهوى. ثم: 77- دولة المطيع لله أبي القاسم «3» الفضل [ص 168] بن جعفر المقتدر، ولم يكن له من الأمر

78 - دولة الطائع لله

شىء، ولا له فيها ممتد ظل ولا فيّ، لم يكن له من الخلافة إلا رسمها، ولا من الممالك إلا أن يضاف إليه اسمها، قد شبع مما لا يستطيب، وقنع باسمه على سكة نقاش ومنبر خطيب، وكان في الخلافة كأنه سر مخفي، وعلى المنابر اسم شىء غير مرئي، ما فرح بأن ينفذ له أمر وراء بابه، ولا حكم حتى ولا في أسبابه، فما له ذكر خارج حجابه، ولا شىء يتحدث به عند حجابه، قد جعل قصره محبسه، وقيده مجلسه، وأكثر ما يتحصل له من أجل بلاده، مقدار ملء خاصرته من زاده، بل كان في بعض الأوقات ربما راجع من حجر عليه في نزر به يتوسع، ونزر منه يتجرع، فوقتا يعطى، ووقتا يمنع، سوى أنه ما منح في العطاء، ولا فسح له في كثرة الخلطاء، وكان عليه مما يعد ولا يستطيع، ولا يمكنه إلا أن يكون لما يقال له السامع ولما يؤمر به المطيع، إلا أنه طالت مدته وهو على هذه الحال المقضي، والأمر غير المرضي، ولا عير له ولا نكير، ولا توسيع له في مجال الحيلة ولا تفكير، ثم كانت آخرته أن خلع نفسه وولى ابنه، وخلى فكره مما كان فيه، وأخلى ذهنه، ثم ما عاش إلا أياما، وخلف أولاده أيتاما، ونساءه أيامى. ثم: 78- دولة الطّائع لله أبي بكر عبد الكريم «1» بن الفضل المطيع، ولم يكمل السنتين، ولم يعمل

79 - دولة القادر بالله

بأمره إلا فيما وقعت عليه نواظر المقلتين، وكانت دولته بعد دولة أبيه ثانية اثنتين، وهو وأبوه سواء في الحالتين، فما قطع ولا وصل، ولا اتصل به أحد ولا انفصل، وكان يحدث بأساه أنه يهم ثم يحدث له أنه لا يتم، وكان المتبوع التابع، والمطاع الطائع، لا يكلف حمل عبء، ولا يكفل إخراج خبء، بل هو معهم على قدره الكبير كالبعير، كيف ما صرفوه انصرف، ومهما قارفوه به اقترف، إن وقفوه لا يتهمم للحرك، وإن مشوه مشى [ص 169] وإن برّكوه برك، وكان شاهدا كأنه غائب، وزاهدا إلا أنه راغب، ثم خلع وسمل وسجن، ومكث نحو عشرين سنة في داره حيّا قد دفن، إلى أن أتاه الموت المريح، ونقلوه من قبر إلى آخر، من داره إلى الضريح. ثم: 79- دولة القادر بالله أبي العباس أحمد «1» بن إسحاق بن جعفر المقتدر، بويع بالمشاورة وأبوه

80 - دولة القائم بأمر بالله [ص 170]

حي، وأومئ إليه بالإشارة وما أقفر حي، وكان لما أجمعت عليه الشورى وحنت إليه الآراء إربا وشورى، قد لبس بالبطائح ثياب طائح، فجهز إليه الشعار الخليفيّ، وأتاه بالسواد في حلية الشباب الفتيّ، ومما بعث إليه من الإرث الأبوي، والأثر النبوي، فلما قدم تلقي بإجلال الخلفاء، وحمالة المواكب بالسادات والشرفاء، حتى إذا دخل القصر من سعة الفضاء إلى ضيق الحصر، وطالت سني ملكه، حتى جاوزت إحدى وأربعين، وتغيرت دول الملوك ولا يجد من على الأرب يعين، فكان كلما أتى آت سلك سبيل من كان قبله من التضييق، وتركه من قبله في قصره المتسع في مضيق، وكان في صباه مقصورا على جوب وهيام، وحور مقصورات في الخيام، له كلف بالجواري والعذارى الهيف، ذات كل ردف ثقيل وخصر لطيف، وله بكؤوس المدام اهتمام، وبكوب السابقين إلى حل الغرام التيام، وبما ينفق من عمره من غير الندام اغتمام، فكان لا يبرح صريع جام ملآن، أو في استجمام لرحيق ريق فلانة أو أم فلان، فما نهضت له قط كلمة، ولا قط بالسيف رأس عدوه ولا قلمه، فكان مدة ولايته لا يضر ولا ينفع، لا ولا يرشح، لأنه يأمر لا ولا أن يشفع، فما كان على شىء كما قال قادرا، ولا وفيا ولا غادرا، ثم مات حتف أنفه، ولا شكر الناس من لينه، ولا شكوا من عنفه «1» . ثم: 80- دولة القائم بأمر بالله [ص 170] أبي جعفر عبد الله «2» بن أحمد القادر، ولي بعد أبيه القادر، وعهد زمانه

يعد فيه أمور كلها في النادر، ولي مرتين، وسار فيها سيرتين، فأما الأولى: فكان فيها لصيد وقنص، وأما الثانية فكان فيها لقصيد «1» وقصص، وامتدت أيامه أكثر من أبيه، وكثر فيها تخليط أعدائه ومحبيه، وكان أرضى من أبيه نبا، وأمضى سنا، وأهب صبا، وأشب إلى العلو على صبى، وكانت همته ملوكية، وإن لم يجد سبيلا إلى اقتداح زنادها، ولا رسيلا إلى قراح عهادها «2» ، وكان لا يقنع إلا بما كان عليه أوله، ويقرع باب عزائمه، والأقدار لا تنوله، وكان لا يزال يشم من نفسه دخان أواره، ويظهر على وجهه شعاع ما لم يواره، ويكتم حاله والله مبديه، ويخاف الناس والله أحق أن يخافه ولا يخفيه، وكان ربما ألم بهبة من الطرب ونغبة «3» لا ترويه من ماء العنب، فكان ربما بسطه المدام فتحدث، ونشطه من عقال المداراة فعجل ولم يتلبث، وكانت عليه عيون موكلة بما ترى، ومسامع لا تكذب خبرا، فأغرى به قلب من كان في يديه موقرا كالمرتهن، ولديه موفرا كالممتهن، وأعان عليه حاشية سوء كانوا حوله، وأعوان سيئة لا تطيق قوته ولا حوله، وكان منهم ابن رئيس الرؤساء، وكان عدوا لأرسلان البساسيري «4» ، وهما للخلافة فالا قفي أو سيري، فظفر ابن رئيس الرؤساء

بأرسلان البساسيري، وملك فلم يسجح، وأفسد ولم يصلح، وكان الأولى بمثله وهو رب القلم، وذاك رب السيف، أن يعفو إذا قدر، ويصفو إذا كدر، إلى ما هو به جدير، ولا عاقب إلا معاقبة ضعيف لا قدير، فنكل به أشد التنكيل، ومثّل به أقبح التمثيل، وبسط عليه العذاب الأليم، وسلط العقاب على الحريم، وفعل في ذلك فعل من طنخ «1» ونوّخ بعيرا فلم ينخ، فما قنعت تلك الشوكة إلا بخلع الخليفة، والقبض عليه وإرجافه بالخيفة، وتعويقه من سما عليه في دار بالحديثة، [ص 171] وسعت في أعضاء خوله تلك الشوكة الخبيثة، وخطب ببغداد والعراق للمستنصر «2» أبي تميم معد بن الطاهر العبيدي، خليفة مصر، وحمل على أعناق المنابر ثقل ذلك الإصر «3» ، إلى أن تقضّت سنة، وما غمضت مقلا سنة «4» ، ثم انتحى له ملوك المشرق، وردوا زمانه المشرق، ومدوا ظل عصره الموفق، فتوجوا رؤوس المنابر والمرفق وأعيد إلى بغداد وأعلامه تثنّى ارتياحا وترسل للبشرى بين يديها رياحا، فدخل إلى قصره، وتوقل «5» رتبته، وخل في صدرها، وحلّى جيده بدررها، وجل به منصب الخلافة، على ما كان أو أسنا، وجدّ حتى ظفر بأعدائه، وبلغ ما تمنى، وانقرضت في أيامه دولة العجم، وانقضت بغير عود من النصال عجم، فطلع طالع الخلفاء ونجم، وصار مستقلا لو أراد الولوج على الأسد لهجم، أو العروج إلى السحاب لصار وصاب وانسجم،

81 - دولة المقتدي بأمر بالله

وأما ابن رئيس الرؤساء، فإنه أكل مما طبخ، وأرق بما نفخ، هذا قبل أن يدال القائم، ويدار له الدور على الظالم، لكن البساسيري لم يلج في تقاضي دينه، ولا كفر بهلاكه ريب رينه «1» ، بل قنع بالاقتدار بأنه أظهره، ولبّسه طرطورا «2» وركبه على جمل وأشهره، ثم لما ثبت ملك القائم، عهد إلى ابنه ذخيرة الدين أبي العباس محمد، فعجل الزمان بإنفاق الذخيرة، وقدر بانتقالها إلى الله الخيرة، فأودع القائم ربه من الذخيرة ما كان ذخر، وودع إلى الضريح قلبه وما كان به قد فجر، ورجع البكاء ثم استرجع من ابنه المقتدي لين الذخيرة أشياعه الأخر، وعهد إليه وعقد، لنجم سما، وغيث همى، وبحر زخر. ثم: 81- دولة المقتدي بأمر بالله أبي القاسم عبد الله «3» بن محمد الذخيرة بن القائم، وكان تحت كنف بني بويه، كأنه صبي ضرب الحجر عليه، مع ما كان فيه من عقل وسكينة، وفضل يصلح دنياه ودينه، وكان لإفراط التضييق عليه، لا يأخذ لقلبه فضاء، ولا ينفذ حكما ولا قضاء، ثم غضّى على ما تكره عينه، ولم يدر كيف يتقاضى دينه، إلا [ص 172] أنه استروح بمراسلة يوسف بن تاشفين، وبرد حرقه بمكاتباته وما

شفين وهيهات، بينهما عرض الأرض، ومر البر، ونحر البحر، وملوك العبيديين بمصر بين بحريهما حاجز، وحائل بينهما لا يزيله عاجز، وإنما كان يعلل نفسه بالمنى، ويؤمل مدد النصر من هنا ومن هنا، فلم تنقطع بينهما المكاتبات، ولا حجبت أرواح الابتداآت والمجاوبات، ولا يرغد عيشنا بعلالتها، ويتملأ ريا ببلالتها، وربما كتب إلى ملوك ما وراء النهر، فعومل الرسول بالرد والنهر، وقيل له: لو قمتم بأمور الدين، وتركتم أباطيل السفه، وأقاويل الشبه، وأخذتم بما تبين لا بما اشتبه، وبما تحتم من الحق أو الخير لما تسلطت عليكم حكام الجائرين، ولا سطت بكم أيدي الحكام المجاورين، لكنكم فعلتم وفعلتم، وعلمتم وحهلتم، وعدّد عليهم قبائح ما ارتكبوا وفضائح ما احتقبوا، وكان المقتدي ممن يرتاح للندى، ويلتاح نجم هدى، وله هدي مأثور، يفاوح أرج المنشور، كأنه بالعنبر نسخ، وبرشاش ماء الورد نفخ، يؤثر الخير ولا يلتقي عليه مساعدا، ويؤثر الجود ولا يخلف عليه مواعدا، ويقارب حال السلف ولا يكون مباعدا، ويقارن هام الغمام ولا يقدم راعدا، وكان أبوه أبو العباس محمد الذخيرة قد مات، كما ذكرنا في زمان أبيه القائم، وتلقى من رضوان ربه تحية القادم، فلم يكن للقائم دأب إلا تأديب المقتدي، وقراءة سير الخلفاء الصالحين عليه، كعمر بن عبد العزيز، والمهتدي، وإعلامه بأحوال الدول، مسيئها ومحسنها، وأمره بتصفحها، والأخذ بأحسنها، حتى كان لو تمكن ناذره، وخاتمة لأول الغيث أو بادره، وقد ذكر ابن الأثير «1» أنه مات فجأة، قال: كان قد أحضر عنده تقليد السلطان بركياروق ليعلم فيه، فقرأه وتدبره وعلم [بما] فيه، ثم قدم إليه طعام، فأكل منه وغسل يديه، وعنده قهرمانته شمس النهار، فقال لها: ما لهؤلاء الأشخاص [ص 173] الذين قد دخلوا عليّ بغير إذن؟ قالت: فالتفت فلم أر شيئا، ورأيته

82 - دولة المستظهر بالله

قد تغيرت حالته، واسترخت يداه ورجلاه، وانحلت قوته، وسقط إلى الأرض، فظننتها غشية لحقته، فحللت ثوبه فوجدته عليه إمارات الموت، فتماسكت وقلت لجارية عندي: ليس هذا وقت إظهار الجزع والبكاء، فإن صحت قتلتك، فأحضرت الوزير فأعلمته الحال، فشرعوا في البيعة لولي العهد، وكانت أيامه كثيرة الخير، واسعة الرزق، وعمرت محال بغداد، وتوفي في [يوم السبت خامس عشر المحرم سنة سبع وثمانين وأربع مائة] «1» ثم: 82- دولة المستظهر بالله أبي العباس أحمد «2» بن عبد الله المقتدي، ولم يكن مثل أبيه في تأبّيه، بل كانت له يقظة نبيه، وكان مقبلا على لهوه، مشتملا على زهوه، يميل إلى الخمر، ويميل به سكرا، ويميد بمعطفه، فيسجد ثملا لا شكرا، لا يعرف راحة إلا موصولة براح، ولا اقتداح مسرة إلا بأقداح، فلا يعطل حبب الكؤوس، ولا حبب عقد العجوز العروس، أوقاته كلها طرب وانتشاء، وحرب في كؤوس تدور بها أيدي بدور بكرة وعشاء، وكان ذا حظ من الأدب، وحضّ إليه وندب، وباسمه ألف أبو محمد القاسم بن محمد الحريري كتاب المقامات، بأمر وزيره

شرف الدين أبو شروان بن خالد، وكان ابن جهور يقول: إن الذي أشار عليه بها في قوله، فأشار من إشارته حكم، وطاعته غنم، إنه المستظهر، قال ابن الشريشي: وكان للمستظهر رعية في الطلب، وعناية بأهل العلم، قال: وحدث ابن جهور أنه دخل بغداد في أيامه، وبها ألف وخمس مائة رجل حامل علم، وكلهم قد أثبت أسماءهم السلطان في الديوان، وأجرى على كل واحد من المال بقدر حظه من العلم، قال: وكان ابن جهور يحدث أن الحريري ألف المقامات كلها على الركاب، وذلك أن المستظهر لما أمره بصنعها، خرج كالحافظ على العمال، وكان يخرج في الأبردين، يتشهى [ص 174] في ضفتي دجلة والفرات، يصقل خاطره بنظر الخضرة والمياه، فلم ينقض فصل العمل إلا وقد اجتمع له مائتا مقامة، فخلص منها خمسين وأتلف الباقي، وصدر الكتاب ورفعه، فبلغ عنده أعلا المراتب، انتهى كلامه. قلت: وفي أيام المستظهر أخذت الفرنج بيت المقدس وأكثر بلاد الشام، وظهر التهتك بالقبائح وقلة الاحتشام، وفشا أمر الربا وشرب الخمر والزنا، فكثرت الملاهي، وقلت النواهي، وعظمت تلك الدواهي، فعجل لهم العقاب، وعذبوا بأخذ البلاد منهم، وهو أخف العذاب، وكان المستظهر ذا نادرة، كتب إليه الأبيوردي «1» قصة، وكتب على رأسها: الخادم المعاوي، فكشط الميم، فصارت العاوي. ثم:

83 - دولة المسترشد بالله

83- دولة المسترشد بالله أبي منصور الفضل «1» بن أحمد المستظهر، وكان مع الملوك كشأن الخلفاء قبله، وعلى ما كان عليه من كان مثله، وكان الغالب عليه جمال الدولة سنجر عليه من يحجب ويحجز، والمسترشد يظهر إعراضا في ابتغاء، ويسر حسوا في ارتغاء «2» ، كأنه زند النار، ظاهره حجر، وباطنه أوار، وبقي يتربص بسنجر الدوائر، ويوقد له النوائر، وسنجر لا يقع في حبالته، ولا يلين له جانب حالته، إلى أن قدر لسنجر أجل أجله وأتيح، وألقي في مرط أمله وأطيح، فخفّ عن صدر المسترشد ثقل ذلك الطود، وأمن تحطم ذلك العود، وقام نور الدولة مسعود بن سنجر، ولم يكن المسترشد ممن يتقيه ولا يخافه، ويجد في توقيه، فطمح إلى الوقوف على أمر مملكته، وعمل على موت مسعود وهلكته، ليخلو له الجو، ويتبع الأسد الذاهب بالبو «3» قال الشريف الغرناطي: فصنع المسترشد دعوة عظيمة لنور الدولة مسعود بن

سنجر، ووجوه الدولة، وينوي قتلهم، ففطن لذلك مسعود، فدخل عليه في [ص 175] رجلين من قرابته، وأومى إلى تقبيل يده، فجبذه بها جبذة شديدة ألقاه بها عن السرير إلى الأرض، وألقى عمامته في عنقه، وأراد خنقه، ثم كف عنه وخرج، وفي قلبه منه ما فيه. قلت: وبقيا على ازورار البغضاء، وانحراف يقلهما على مثل الرمضاء، ثم قتل بعد ذلك بأيدي الباطنية، «1» وأورد أجل المنية، قتل بأرض الأعاجم، ودخل عليه الأجل الهاجم، وكانت قتلته بحي أصفهان القديمة، وثوت بها ركائبه المقيمة، وكان يمنّي نفسه الاستقلال بالخلافة من غير تشريك، ولا مزاحمة تكون لمليك، وكان المسترشد ينشد عند تزايد كربه، وترافد الرجال في حربه: [الطويل] أنا الأشقر الموعود بي [في] الملاحم وكان هكذا أشقر أبيض، كأنّ لؤلؤا على صفحاته ترقص، وأتى نعيه بغداد، فأظلم جوّها لملمّ مماته، وأظل أهلها غم وفاته، وارتجت لمهلكه أكناف العراق، وفاضت دجلة بالدموع التي تراق، ولم يبق بها ناحية، إلا وبها نائحة، ولا جارحة إلا وفيها جارحة، لما فقدت من بعد سوقه، وعدل أمات العدو بخوفه. وحكى مؤيد الدولة أسامة بن منقذ قال: كان المسترشد يلحق بالصدر الأول من سلفه، في علو الهمة وحسن السيرة والإقدام العظيم، فإنه لما التقى هو وعماد الدين زنكي بن آقسنقر في المصاف بعقرقوب «2» ، وأنا حاضر المصاف، ضرب له

خيمة من أطلس أسود «1» ، ووضع له فيها تخت، وجلس عليه، والخيل تطرد فكسر عسكر زنكي في يوم الاثنين السابع والعشرين من رجب سنة ست وعشرين وخمس مائة، فاستولى على ما فيه، وانهزم زنكي إلى الموصل، وذلك الإقدام سبب تلفه، وأنشد القاضي جمال الدين محمد بن واصل للمسترشد: [الطويل] أنا الأشقر الموعود بي في الملاحم ... ومن يملك الدنيا بغير مزاحم [ص 176] ستبلغ أرض الروم خيلي وتنتضي ... بأقصى بلاد الصين بيض صوارمي ثم إن المسترشد حاصر في العشرين من رمضان سنة سبع وعشرين وخمس مائة مدينة الموصل، فقصد باب المسترشد جماعة من الأمراء السلجوقية وخدموه وقوي بهم، واتفق اشتغال السلاطين بالحلف الواقع بينهم، فأرسل المسترشد أبا الفتوح الأسفراييني الواعظ، إلى جمال الدين زنكي، برسالة فيها خشونة، وزادها أبو الفتوح زيادة في الخية «2» ، ثقة بقوة الخليفة، وناموس الخلافة، فقبض عليه عماد الدين زنكي وأهانه، ثم دام الحصار على الموصل نحو ثلاثة أشهر، فلم يظفر منها بشىء، فعاد إلى بغداد. وحكى الأمير سديد الدولة أبو محمد بن الأنباري، كاتب الإنشاء، قال: وقع بين السلطان محمود بن محمد بن ملكشاه، وبين المسترشد خلف، وخرج المسترشد لقتاله مرتين وكسر، فلما مات السلطان محمود، وولي أخوه السلطان مسعود بن محمد، استطال نوابه بالعراق، وعارض الخليفة في خاصه، فوقعت بينهما وحشة، وتجهز المسترشد للخروج، وجدّ في ذلك، فدخل إليه الوزير شرف الدين علي بن طراد الزينبي، وكمال الدين صاحب المخزن، وأنا معهما،

وكان المسترشد قد طرد نواب السلطان عن البلاد، ورتب صاحب المخزن للنظر في المظالم، فلما دخلنا قال له الوزير: يا مولانا، في نفس المملوك «1» شىء، فهل يؤذن له في المقال؟ فقال: قل، فقال: إلى أين نمضي وبمن نعتضد، وإلى من نلتجئ، ومقامنا ببغداد أمكن لنا، ولا يقصدنا أحد، والعراق ففيه لنا الكفاية، فإن الحسين بن علي عليهما السلام، لما خرج إلى العراق، جرى عليه ما جرى، ولو أقام بمكة، ما اختلف عليه أحد من الناس، فقال لي الخليفة: ما تقول يا كاتب؟ فقلت يا مولانا، الصواب المقام، وليت العراق يبقى لنا، فقال لصاحب المخزن: يا وكيلي، ما تقول؟ فقال ما في نفسي، وأنشد الخليفة قول المتنبي: «2» [الخفيف] [ص 177] وإذا لم يكن من الموت بدّ ... فمن العار أن تموت جبانا وخرج، وخرجنا معه، فلما قاربنا همذان وقع المصاف بين الخليفة والسلطان مسعود بن محمد، بمكان يسمى داي مرك قرب همذان، فلما اصطفت العساكر فر من معسكرنا جميع الأتراك إلى ناحية السلطان، ثم وقع القتال، فانهزم الخليفة وأرباب المناصب، وحمل الوزير وصاحب المخزن وأنا ونقيب العلويين إلى قلعة سرجهك قريب قزوين، وبقي الخليفة مع السلطان، وسار معه في بلاد أذربيجان، إلى أن وصلوا إلى مراغة، فهجم على الخليفة ثلاثة نفر من الملاحدة والباطنية، وهو في خيمته، فقتلوه، وقتلوا معه ابن سكينة، وكان يصلي به، وذلك في يوم الخميس لأربع بقين من ذي القعدة سنة تسع وعشرين وخمس مائة، فلما قتل الخليفة أظهر السلطان مسعود الجزع العظيم والحزن الكثير، ودفن

الخليفة بمراغة، ووصل الخبر بذلك إلى العراق، فحزن الناس عليه حزنا عظيما، وبويع بالخلافة ولده الراشد «1» ببغداد، واستقرت خلافته بها. وذكر الشريف الغرناطي أن المسترشد عهد إلى الراشد حين بلغ، وإنه بلغ لتسع سنين، وإنه لو كان يمكن أعادها سفاحية منصورية. قلت: ثم قدم السلطان مسعود «2» وضرب عنق دبيس بن مزيد صاحب الحلة. قال ابن الأنباري: لما قتل المسترشد أحضرنا السلطان مسعود وقال: ما التدبير في أمر الخلافة، وبمن ترون؟ فقال الوزير: الخلافة لولي العهد، يعني الراشد، وقد بايعه الناس ببغداد، وجلس واستقر، وبويع له من قبل قتل أبيه بولاية العهد، وبويع له الآن بالخلافة، فقال السلطان: ما لي إلى هذا سبيل أبدا، ولا أقره عليها، فإنه تحدثه نفسه بالخروج مثل أبيه، كان قد خرج على أخي محمود مرتين، وعليّ مرة، وهذه أخرى، فتم عليه ما تم، وبقيت علينا شناعة عظيمة، وسبّة إلى [ص 178] آخر الدهر، فإنه يقال: قتلوا الخليفة وهم كانوا السبب في عود الخلافة إلى هذا البيت، ولا أريد أن يلي الأمر إلا رجل لا يدخل في غير أمور الدين، ولا يجند، ولا يجمع، ولا يخرج عليّ، ولا على أهل بيتي، وفي دار الخلافة جماعة، فاعتمدوا على شيخ منهم صاحب عقل ورأي وتدبير، يلزم نفسه ما يجب من طاعتنا، ولا يخرج من داره. قال ابن الأنباري: وأرسل السلطان مسعود إلى عمه السلطان سنجر بن ملكشاه يستشيره فيمن يولي الخلافة، فأرسل إليه يقول: لا تولي الخلافة إلا من يضمنه الوزير صاحب المخزن، وكاتب الإنشاء، فلما وصل السلطان همذان، اجتمع بنا، وأشار بهارون بن المقتدي، وعرفنا بما أمره به عمه السلطان سنجر، فقال الوزير: إذا كان الأمر

84 - دولة الراشد بالله

يلزمنا فنحن نولي من نريد، وهو الزاهد الدّيّن الذي ليس في الدار مثله، فقال السلطان: من هو؟ فقال: الأمير أبو عبد الله محمد بن المستظهر، فقال: وتضمن ما يجري منه، فقال الوزير: نعم، وكان الأمير أبو عبد الله صهر الوزير على ابنته، وأنها دخلت يوما الدار في خلافة المستظهر، فرآها الأمير أبو عبد الله فطلب من أبيه تزويجها، فزوجه بها، فدخل بها، وبقيت عنده، ثم توفيت، فقال السلطان: ذلك إليكم، وكتموا الحال لئلا يشتهر الأمر فيقتله الراشد، ثم رحل السلطان والجماعة نحو بغداد، فأما الراشد فإنه لما بويع ببغداد بالخلافة بعد مقتل أبيه المسترشد بالله، أرسل إلى الأمير عماد الدين زنكي آقسنقر يستدعيه ليحدثه، وضمن له أن تكون السلطنة والملك للملك ألب أرسلان بن محمود بن محمد بن ملكشاه الذي عند أتابك، وأن تكون أتابكة السلطنة والخلافة بحكم عماد الدين. ثم: 84- دولة الرّاشد بالله أبي جعفر منصور «1» بن الفضل المسترشد، وكان بأبيه يسترشد، وعلى نحو ما قرره يحل ويعقد [ص 179] ويعد وينقد، ووجد لمهلك أبيه مالا قدر بملك

ناره، ونسب إلى مسعود بن محمد قتلته، وأنه الذي قرر غيلته، وهو لا يجد سبيلا، ولا يستجد قبيلا، خشية أن يتفطن لمرامه فيعاجل قبل إبرامه، ثم صرفه القدر عما أراد، وأبكى السيف والنجاد، وبويع بعد أبيه المسترشد، وكان لتأبّيه لم ينشد، وضلالته لا تعان بولي مرشد، وضالته لا تعرف لناشد ولا ينشد، فكان يبيت على مثل حسك السعدان، ويتململ كلما حضر الأبردان، وفطنت الملوك لما تتناجى به وساوسه، وتتنادى به ضمائره وهواجسه، وكان طائشا عجولا، يركب معارف وهجولا «1» ، فخافت ابتداره، وخشيت إذا تمكن اقتداره، لأنه أسد أهيج، وأرقم حرك لأمر مريج، فما تمكن ولا تفرغ، لأن يساور ولا يلدغ، بل خلع خلع الرداء، وألقى إلقاء الذراع للأمة الحصداء «2» ، وأثبت عليه محضر بأنه فسق، ولولا الملة لقالوا إنه مرق، وفارق الدين وقطع حبله من حيث رق، وقد تقدم في ترجمة أبيه المسترشد الخبر الغريب في سرعة البلوغ مبالغ الرجال، وما كان من مبايعته بعد مقتل أبيه، وإباء السلاجقة له، لإفراط خوفهم منه، وجرأة الراشد وتسرعه وحدة نفسه، وأهمّ السلاجقة أمره، وجعلوه نصب عينهم، ومن الغرائب أن المسترشد كان أعطاه عدة جواري، فحملت منه جارية حبشية صفراء وهو إذ ذاك ابن تسع سنين، فأنكر المسترشد هذا، ثم أمر بأن يطأ جارية حمّلت قطنا، فوطئها فلما قام عنها أخرج القطن وعليه المني، فأرى المسترشد، ثم أمر بأن يفعل كذلك في جارية أخرى، فكان الأمر كذلك، فحينئذ أيقن ببلوغه، وألحق الولد. ثم:

85 - دولة المقتفي بأمر بالله

85- دولة المقتفي بأمر بالله أبي عبد الله محمد «1» بن أحمد المستظهر، وكان ممن يبطن، خلاف ما يظهر، كان يظهر قبل مصير الخلافة إليه [ص 180] الانقطاع والعبادة، وملازمة السجود والسجادة، مع سوء معتقد وطوية، وقبح عقد ونية، وظلم لا يأمن معه برىء، وتسلط كالأسد الجرىء، لم يكن فيه ثراء للمعتفي، ولا كان لأمر الله المقتفي، بل كان يتخفى ببوائقه ولا يختفي، ويخرج ويشره إلى خارج قصره ولا يكتفي، وهو مع ذلك يصانع ويداري، ويستر العار بالعواري، ولا يظهر له من ريبة ثوبا، ولا ينتظر له بتوبة أوبا، بل هو في دنس لا ينقى، وذنوب لا توقى، وملازمة زخارف لا تبقى، وسماع ملاه لا تلقى، بين ضروب ملاح بريقهنّ يستقى، ولهيب راح لا يصلاها إلا الأشقى، هذا إلى ما فيه من نكوب عن الرشاد، ونكول عما شيّد سلفه وشاد، ولم يكن بعيدا من أبيه المستظهر في مواصلة اللهو ومواقيته، والخمر وترصيع أوانيه بيواقيته، لكنه كان يزيد عليه بأنه كان ظالما عسوفا، حاكما جائرا عنيفا، طالت مدته وثقلت، وقطعت أعمار الخلق حتى انفصلت، هذا كله وعارضه أشيب، وقد آن له على أنه أيّد من عون

الدين أبي المظفر يحيى بن هبيرة بوزير لا يصادمه شيئان، رأيه وصارمه، وشتان مواصله ومصارمه، ما قرر مثله أبو مسلم في خراسان، ولا فعل نظيره في الأندلس عبد الرحمن، ولا قام مثله في أول الدولة فتى شيبان، ولا في مملكة الفرس رستم بن دستان، ولا سلك إلا سبيل آصف تبع سليمان، فكان نعم العون، في منع الصون، فقد كان يجهد ولا يعيى، ويميب الأعداء وهو يحيى، فستر عوار المقتفي وواراه، وقدح زناد سعادته وأوراه، حتى وطئ ملوك آل سلجوق، ووطد ملوك الدول ودوّخها، ومحا بصباح رأيه آية ليلها ونسخها، فأعاد إلى رؤوس الدولة العباسية نخوتها وأعزها شيما، وبقية قريش احوتها، ثم لما مات المقتفي، وقام بعده ابنه أبو عبد الله محمد، وتلقب بالمأمون، فما تمت بيعته ولا سالمته المنون، عاش بعده [ص 181] نحو شهر وما كمله، ولا تمّ له منذ ذكر ما أمّله، بل لم يزل الحبل محمولا «1» على غاربه، طرفه بيده والطرف الآخر بيد جاذبه، حتى بويع أخوه المستنجد، ودفع الأمر إلى المنجد. قال ابن الأنباري: ولما كان يوم الأحد سابع عشر ذي القعدة سنة ثلاثين وخمس مائة، مضينا مع الوزير ابن طراد الزينبي «2» إلى دار السلطان مسعود بن محمد، ونحن معه، فأخذ السلطان خطوطنا بالضمان، ثم أصبحنا فحضرنا عند الأمير أبي عبد الله محمد بن المستظهر، وشرطنا عليه مطاوعة السلطان على ما

ضمناه عليه، فرضي به، ثم مضينا إلى السلطان فأعلمناه بما كان، فأمر بمبايعته، فلما كان من الغد، صعدنا إلى الدار فأخرجنا منها أشياء لآلات الغناء وما لا يليق، وشهد جماعة من أهل الدار أن الراشد كان يشرب الخمر، فأفتى الفقهاء بخلعه، وحكم القضاة بذلك فخلعوه، ودخلت إلى الأمير أبي عبد الله محمد، أنا والوزير وصاحب المخزن، وتحدثنا معه، وناولته رقعة فيها ما يلقب به، فكان فيها: المقتفي لأمر الله، والمستضىء بنور الله، والمستجير بالله، فقال الخليفة: ذلك إليكم، ثم قال لي الخليفة: ماذا ترى؟ فقلت: المقتفي لأمر الله، فقال: مبارك، ثم مد يده، فأخذها الوزير وقبلها، وقال: بايعت سيدنا ومولانا الإمام المقتفي لأمر الله أمير المؤمنين، على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم واجتهاده، ثم أخذها صاحب المخزن، وقبلها وبايعه على مثل ذلك، ثم أخذت يده وقبلتها، ثم قلت: بايعت سيدنا ومولانا الإمام المقتفي لأمر الله أمير المؤمنين، على ما بايعت عليه آباءه وأخاه وابن أخيه في ولاية عهده، ثم قمت من عنده، ودخل الأمراء والقضاة والعلماء وأكابر الناس فبايعوه، ثم حضر السلطان مسعود عنده، وكلمه المقتفي بكلام وعظه فيه، ثم عرفه ما يلزمه من طاعة الخليفة، وأمره بالرفق [ص 182] بالرعية والإحسان إليهم، وخوّفه عاقبة الظلم، فبايعه السلطان، وقبّل يد الخليفة، ورجع إلى دار السلطنة، وأما الراشد فإنه أقام بالموصل مع عماد الدين أتابك زنكي، ثم أرسل زنكي إلى بغداد القاضي كمال الدين محمد بن الشهرزوري، فلما حضر قيل له: بايع أمير المؤمنين، فقال: أمير المؤمنين عندنا بالموصل، وله في أعناق الخلق بيعة متقدمة، وطال الكلام، ثم عاد إلى مثله، فلما كان الليل، جاءته امرأة عجوز سرا وأبلغته رسالة عن المقتفي مضمونها عتابه، فقال: غدا أخدمه خدمة يظهر أثرها، فلما كان الغد، أحضرت إلى الديوان، وقيل لي في معنى البيعة، فقلت:

أنا رجل قاض، ولا يجوز لي أن أبايع إلا بعد أن يثبت عندي خلع المتقدم، فأحضروا الشهود، وشهدوا عنده بما أوجب خلعه، فقال: هذا قد ثبت، ولكن لابد لنا في هذه الدعوة من نصيب، لأن أمير المؤمنين قد حصلت له خلافة الله في أرضه والسلطان فقد استراح ممن كان يقصده، فنحن بأي شىء نعود، فرفع الأمر إلى الخليفة، فأمر بأن يقطع عماد الدين زنكي صريفين «1» ودرب هارون، وجرى ملكا وهي من خاص الخليفة، وأن يزاد في ألقابه، وقال: هذه قاعدة لم يسمح بها لأحد من زعماء الأطراف أن يكون له نصيب من خاص الخليفة، وعاد وقد حصل على جملة صالحة من الأموال والتحف، وكان المقتفي من ذوي الهمم العالية والآراء السديدة، والسياسة الوازعة من رجال بني العباس الأفراد، مكث في الخلافة أربعا وعشرين سنة، بها سبع عشر سنة في مداراة الملوك السلجوقية وسبع سنين وشهورا، مستندا بنفسه مقارعا للسلاطين، قامعا لمردة أولئك الشياطين، مدوخا للبلاد، قامعا للخوارج عليه، وحضر مصافاة عدة، وثبت في حصار بغداد، وكان ذلك شهورا يجري في كل يوم منها مصافاة، وهو رابط الجأش ثابت الجنان، منشرح الصدر، منبسط الأمل، وكان في [ص 183] نفسه قساوة وغلظة، وأيد بوزيره عون الدين أبي المظفر يحيى بن محمد بن هبيرة، وزره رابع ربيع الأول سنة أربع وأربعين وخمس مائة، وهذا وزير لو كان كالوزراء لذكرته كأحدهم، ولكنه كان أجل، وفعله دليل عليه، وما ذكرته مع الوزراء في الإنصاف لا أسوة لهم للسميّة، ولكنه يعد من عظماء الخلفاء وكبراء الملوك، لعظيم ما فعل، وجليل ما صنع، وهو الوزير الذي أنطق الدولة العباسية

بعد الخرس، وأجرى في عودها الماء بعد اليبس: [الكامل] ومعرّف الخلفاء أن حظوظهم ... في حيّز الإسراج والإلجام فورى به زناد المقتفي وشد أزره فيما كان يعتلج في صدره، ويتمناه من علو قدره، ولم يزل يشخت «1» الدولة السلجوقية سحب المبادرة، ويدلف لها في أري النحل سم الأساود، وينبه ولاة الأطراف على ما فرض الله عليهم من نصر الأئمة، ويوقظ مصابيح بصائرهم في كشف ليالي الفتن المدلهمة، وتوبيخهم على ما قنعت به هممهم الدنية، وما نشبهم من الذل والصغار في طاعة السلجوقية، حتى شذب عن دولة العجم من كان ينصرها على الخلفاء، ويفعل في تفريق تلك الجموع، ولا فعل قصير مع الزباء «2» حتى صار كل من كان للسلجوقية على الخلافة عونا، قد أصبح للخلافة على من عاداها عينا، وهو يسلك في ذلك إلا المسالك المرضية، ولا يدعو إلا بالنصائح الوعظية، ولا يحض على نصر كتاب الله وسنة نبيه المثلى، ولا يبعث الهمم إلا لتكون كلمة الله هي العليا، ولا يخضع بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض «3» ، ولا يرسل سهم قول فيقنع بما دون الغرض إلا لانتهاك محارم الله وتعدي حدوده، ولا ينهى عن منكر إلا محذرا لمرتكبه من عذاب الله ووعيده، ولا ينجح له سعي فينسب النعمة إلى غير الله تعالى، ولا يقوم مقاما فينسب له مع التبرير مقالا ولا [ص 184] فعلا، ولا رئي، ولا سمع برجل ولي عظائم الأمور الدنيوية، والممالك السلطانية،

وحزم الجيوش خائضا لغمراتها، معرضا وريده لاستنهاء وطباتها، كان أشد تبريا إلى الله من حول نفسه وقوتها، ولا أكثر اعترافا لفعل الله فيه فيما يصدر بالمباشرة عنه، فما ادعى لنفسه فعلا ولا قولا، ولا اعتقد لها قوة ولا حولا، لكنه يذكر كفاية الله التي جبرت نقصه، وقومت خطاه، وقدمت على المشرفية سطاه ويقول: ما رأيت في هذا الأمر الذي لابسته أنفع من دعاء وجدته في مجموع لابن سمعون، ولا أبلغ من ذكر رأيته في كتاب فضائل الأعمال لابن أبي الدنيا «1» ، ولا كان في قلبي أوثق من ركعات تعلمتها من فلان المجاور بجامع المهدي، وذكره الوزير أبو غالب عبد الواحد بن مسعود الشيباني بهذا وقال: لقد كان لهذه المحاسن من أفعاله وأقواله هيئة وصنعة، لا تنهض العبارة بأدائها، ولا تؤدي الحكاية جزءا من أجزائها، وللصدق عليها شواهد من جنس ما تسميه الصوفية ذوقا لا يدركه إلا من خالطه، ورأى هديه وسكينته وخضوعه لله واستكانته، وإعزازه بالله في كل مقام تتخاذل فيه القوى، وتنفصم فيه إلا من استمسك بالله العرى: [الكامل] وهو مع الله على علاته ... ماض مضاء المشرفيّ الصارم وقصد السلطان مسعود بن محمد بغداد سنة خمس وأربعين وخمس مائة، وتلقاه ابن هبيرة بالنهروان، وأبلغه سلام الخليفة واستبشاره بمقدمه، وانتظاره لتقدمه، ثم عاد وقد ملأ الصدور بما شاهده أرباب الدولتين من قوة جنانه، وطلاقة لسانه، ومهابته التي ظهرت على السلطان مسعود إعظامها، وهان عليه

ملك ممالك أهل بيته ونظامها. قال أبو الفضل: [الطويل] ولما رأى السلطان عزتك التي ... هي السعد أغشاه عن اللحظ نورها وما زال من فرط المهابة مطرقا ... بعينيه حتى ما يكاد يديرها [ص 185] ثم باكر إليه ثاني يوم دخوله مهنيا بالاستقرار والإياب الذي قربه القرار، ثم خطب خطبة أبلغ فيها موعظة السلطان وتذكيره بآخرته، وتمثيل مقامه بين يدي الله عز وجل ومساءلته، وعدد ما له فرض الله عليه لخليفته وخليقته، وما طوقه من فخار الملك دون حقيقته، وشرح له المظالم التي تلزمه إثمها، وإن غاب عنه علمها، ويناط به وزرها، وإن خفي عنه أمرها، وختم ذلك بدعاء له بالصلاح والهداية، والنجاح والكفاية، فظن كل من حضر ذلك الموقف أنه لا يسلم من بطشه، ولا يسام من إثارة البلاء له ونبشه، حتى توهم قوم أن موجدته منه سيتعدى إلى الخليفة ضررها، ويستطيل في الدولة شررها، فلما استتم كلامه، رفع السلطان طرفه وقال: (عهدي بعيد بسماع هذا الكلام، وأرجو أن يظهر على بركتك، فلا تقطع عني تذكيرك في كل وقت) ، وانصرف، وأتبعه السلطان بحلل وقماش وخيل ومماليك أتراك، وجارية تركية، فوصلت إليه الهدية وهو جالس في داره، بين سمّار مجلسه وحضاره، وفرقها كلها عليهم، ولم يمسك لنفسه شيئا سوى الجارية، ثم بعث إليه هدية يسيرة لا يكون لبعضها مجازية، وقصد البقش كونخر في أمراء السلجوقية فسأل المقتفي، فخرج إليهم ومعه ابن هبيرة، وبان فيها من هذا الوزير وإقدامه، وزئير ضرغامه، لا صرير أقلامه، ما أقام الهيبة في صدور الأعداء، وحسم الداء بالداء، فإنه خاض تلك الحروب، وتلقى الأسنة بنحره، يرتب الميامن والمياسر، ويبوّئ مقاعد الحرب بين

يديه تلك العساكر، شاهرا سيفه بجأش رابط، وعزم ضابط، وطليعة كل نجم صاعد لا هابط، بتدبير صائب، وتدمير على الأعداء لا يرعى صحبة صاحب، وكانت النصرة للخليفة وعساكره، وتردت برد التهاني ببشائره، ونهب عسكر الخليفة مالا يتناوله الحصر ولا يتأوله [ص 186] إلا النصر. قال الوزير أبو غالب: حتى كان الفرس الجيد يباع ببغداد بدينار، والبغل الجيد بدينارين، فأما الغنم فبلغت كل عشرين شاة بدينار، ودامت بهذا الرخص والكثرة نحو شهرين، ثم عاد الخليفة وقد خشع بصر الأعداء لمهابته، واتسع أمله باعتزازه على العدو وإهانته، ثم في سنة خمس وخمس مائة، وصل سليمان شاه بن محمد شاه إلى خدمة المقتفي، ملتجئا إليه، فأكرمه ووسع ضيافته، وصدق في قبوله بفراسته وعيافته «1» ، ومال الخليفة إلى تمليكه، ولم يكن ذلك من رأي ابن هبيرة، وعاود الخليفة فيه مرارا، وقال: هذا أمر دفع الله عن الخليفة شره، وكشف عنهم ضره، فلا تجدد ما اطمأنت النفوس على تعطيله، وسكنت إلى ما جهدت في تبطيله، فقال الخليفة: هذا قد لجأ إلينا، وسلك غير مذاهب أهل بيته، في الاستكانة والخضوع، ولو أراد جمع عسكرا وفسادا في الأرض لقدر عليه، وحيث قد أتى الأمر من بابه، فلا بد من إجابته، فاستدعي إلى باب الخلافة، وجلس له الخليفة جلوسا عاما في مجلس عظيم، حضره أرباب الدولة والمناصب، والأمراء والخدام والقراء والفقهاء، كلهم متأهبون بالسواد، وجلس الخليفة من وراء شباك، وقام ذلك الجمع بين يديه سماطين طويلين، ووقف الوزير ابن هبيرة على كرسي بين يدي الخليفة، وحضر سليمان شاه، فقبل الأرض ثم عدل به إلى بيت أفيضت عليه الخلع فيه بالطوق والسوارين والتاج والخلع التامة،

وقدم له فرس الخليفة بمركبه، وقلد بسيفين، وعقد له لواء ان، وأقيمت له الخطبة على منابر ولاية الخليفة كلها، وبعث بغياث الدنيا والدين قسيم أمير المؤمنين، وعاد إلى دار السلطنة التي بأعلى بغداد، وحمل الخليفة إليه من الثياب والمال، والخيل والبغال، والأعلام والسلاح، ما لا حدّ له، وكذلك حمل إليه الأمراء. وكانت وفاة المقتفي بعلة التراقي، وهو خراج من كتفيه، مكث [ص 187] به خمسة عشر يوما، ومات في يوم الأحد، ثاني ربيع الأول سنة خمس وخمسين وخمس مائة، ودفن ثاني يوم، وصلى عليه ابن هبيرة. ومما يحكى أنه كان قد أخرج عشر حبات أطلس لتطرى من المخزن المقتفوي، فسلمت إلى المطري ولم تثبت في دساتير الديوان، وسهوا عنها، حتى طلبت في السنة التالية، فأحضر المطري وتوعد وهدّد، فاعترف أنه باعها، وجهز بها بنتين له، فكتب إلى المقتفي، فوقع لهم: لا ذنب للذيب حيث افترس، وإنما الذنب للراعي حيث نعس، والذي صرفها المطري في حقه، أحق من أربابها، فيفرج عنه ولا يتعرض إليه، والسلام. قال ابن واصل: كان المقتفي فاضلا حسن العقيدة، وله شعر حسن، من جملته: [السريع] قالت أحبك قلت كاذبة ... غرّي بذا من ليس ينتقد قالت فمن أدراك قلت لها ... الشيخ ليس يحبه أحد ثم:

86 - دولة المستنجد بالله

86- دولة المستنجد بالله أبي المظفر يوسف «1» بن عبد الله المقتفي، كان أبوه احتفر أوزارها، واحتقب سلمتها وإزارها، لم يهب أن هجر الفحشاء أوزارها، ولا خاف مهاجمة الأسود أو زارها، تحلى بالعدل ولزمه، وتجلى في الوبل كالازمة، فلم يزل يكفّر سيئات تلك الذنوب، ويغسل أدناس تلك العيوب بالذنوب، إلى أن نسيت القروح، وأسيت الجروح، وتداول الناس شكر المستنجد، وتحدث به المغير والمنجد، فكأنما بعث للأدواء مسيحا، ومن اللأواء «2» مريحا، وللآلاء مميحا، وكان يتأمل القصص ويوقع عليها بيده، لحق يحقه بكلماته، وباطل يبطله بإزالة ظلاماته، يقوم الليل ويحييه بتهجده، ولا ينتقل إلا من موضع سريره إى مسجده، لا يعدو يمينه، ولا يعد ما ملكت يمينه مع اقتصار، وقصر طمع واختصار، لا يطلب الدنيا إلا لبذلها [ص 187] ، ولا يجمع الأموال إلا لتشتيت شملها، وهو في هذا كله بقدر محدود، وظل لا ينقبض ولا ممدود، بل لا يأخذ شيئا إلا من حلّه، ولا يصرفه إلا في أهله، لا جرم أنه ضرب به المثل الشرود، وسحب له أمثل البرود، مع أنه استفاد من عدوه وانتقم، وشرب دمه والتقم، إلا أنه كان يغلب حلمه على غضبه، وجده على لعبه، فلهذا قيل إنه فريد وقته، ولم يمثل بعد سمت ذي وقار إلا بسمته، بويع يوم موت أبيه، فقبض على

87 - دولة المستضىء بأمر بالله

جماعة من أهل الظلم، وأسقط ما استجد من المكوس، وأذهب لسعود أيامه النحوس، وكان المستنجد قد نشأ مع الأتراك وتكلم بلغتهم، ولعب معهم الصوالجة، وبعد خلافته بشهرين اصطدم في الميدان هو وقائماز الأرجواني أمير الحاج، فوقع قائماز وفرسه ميتين، وتوفي ابن هبيرة سنة ستين بالفالج، واستولى عضد الدين أبو الفرج بن المظفر بن رئيس الرؤساء بعده على الدولة، وأجرى على إقطاعه، وكان مائة ألف دينار، وتوفي على فراشه يوم السبت تاسع ربيع الآخر سنة ست وستين وخمس مائة، قيل مات على فراشه، وقيل إن بعض من كان أحفظهم من الأمراء بإمساك من كان أمسك من أصحابهم لتمهد دولته وتسلط ابن البلدي في ظلم الناس، راقبوا المستنجد حتى مرض، فهجموا عليه، وحملوه بفراشه إلى حمام وأغلقوها عليه وأوقدوها، فمات، ثم أخذ ابن البلدي ومثّل به، وألقيت جثته في دجلة. ثم: 87- دولة المستضىء بأمر بالله أبي محمد الحسن «1» بن يوسف المستنجد، دولة أضاءت الأيام بإشراقها، وصحت الدنيا بأفراقها، وانجابت الظلماء لدعوتها، وأجابت مصر وجميع

الأمصار لدعوتها، وقومت عوج اليماني، وأقامت ميل الرديني، وغزت الأعداء بغير كتائب، وركبت إلى الهيجاء سوى الجنائب، وعاجت على الديار لإبلاء صدور الركائب، وما قنعت هممها بالشرق وممالكه الفساح [ص 189] والعراق وسكانه الفصاح، وما في بلاده من جنوب وشمال، واتساع ما فيه من كور أعمال وعمال، وما حواه البحران، ودنا دونه النهران، حتى استعاد بالتقدمات النورية إخذته، واسترد ذخيرته وخيرته، وفتح مصر واسترجع منها ما كان في أيدي العبيديين، ونسخ بالدين المحمدي ذلك الدين، وغلب منها على ما لاوت عليه الدهور، حتى فنيت مددها، وبليت على الجدين جددها، وقهر الخليفة السوء وزراؤه، ورزي بملكه، وسر الناس إرزاؤه، وكان صلاح الدين إذ ذاك الوزير، وحل في لبدته أسد مزير، فخلا القصر من شياطينه، وبدل رعاعه بسلاطينه، وغلب الدست لانحصار شاته بفرازينه «1» ، وظهور الحق على تسويل إبليسه وتزيينه، وذهبت تلك الدولة ببقايا السقم وقد أضنت، وبلايا النقم وقد عنت، وانتقم الله ممن جاذبه رداء كبريائه، وخلص الخلاص الهاشمي من وضر أدعيائه، ورميت عن سلافة العصر حثالة ذلك العصر، وطفئت لأهل القصر نار ترمي بشرر كالقصر، وتجردت العزيمة النورية لكشف لمم يلمها، وكشط غمائم غمّها عار، فأزالت عنها غمّ ذلك النسب حتى كفت الدولة العباسية أمرهما، ونفت ما نسب من الدناءة إلى ابن عمها، فأزالت عنها عار ذلك النسب المدخول، والحسب المعروف المجهول، وأصبحت مصر في حلل الشعار العباسي ترفل إلى أقاصيها، وتخطر في حلية الشباب ما شاب من لمم نواصيها، ثم شرع التصميم الصلاحي في بلاد الفرنج، وسرة فم قوسه لاكل بلادهم، واستعد منجل سيفه لحصادهم، وتنازل رمحه لحمل رؤوسهم لا أجسادهم، وتحطمت

88 - دولة الناصر لدين الله

قروم مجانيقه لدك أطوادهم، ولو كان هذا موضع استقصائه لأتينا العجائب في قصّه، وبيّنا على الهلال مقدار زيادتها ونقصه، وبويع المستضىء بالله ثاني يوم موت أبيه، واستوزر عضد الدين بن رئيس الرؤساء بعد عظائم جرت بسببه، ثم أراد عضد الدين الحج فقفز عليه شيخ متصوف [190] فقتله، وقفز آخر على صاحب الباب فقتله، وقتل ابن عضد الدين بيده قاتل أبيه، وفي سنة سبع وتسعين أتته البشرى بقطع خطبة العاضد العبيدي بمصر، وإقامة الخطبة له، ومات المستضىء في أواخر شوال سنة خمس وسبعين وخمس مائة. ثم: 88- دولة النّاصر لدين الله أبي العباس أحمد «1» بن الحسن المستضىء، وهو الذي شد الخلافة وقوّاها، وعدّل الدولة وسوّاها، وتداركها وهي رمق فأنعشها، ولحقها وهي دفين فنبشها، وخاشن الملوك ونابذهم في الحفاظ، وواخذهم حتى بالألفاظ، وناقشهم

في لقب، ونافسهم وما ارتقب، وأظهر قوة من ضعف، ورسم خلافه كأنه لم يعف، وكان قد أخذ الناس بالأرصاد، وتعمد أخبارهم بالاقتصاد، فكان يكاد لا يخفى عليه بواطن أمورهم، وما يخفى بحيطان دورهم، ثم يحدثهم بها كأنه يكاشف، أو كأنه بخبايا أسرارهم عارف، لكنه كان طامح النظر إلى الحريم، لا تقنعه ظباء الحريم، ولا يرده حور الخلدان بحور في بغداد حور، وولد مع تشيع، إلا أنه ليس برفض وتسبّع، لو خلي لأكل الأرض، وكان بادي الرأي، له في كل يوم عزل وولاية، وبه عزّ وذل إلى غاية، وعهد إلى ولده الظاهر أبي نصر محمد، ثم عزله، ورفع اسمه على المنابر، ثم أنزله، وكان السبب في هذه، تميزه عليه خلقا وخلقا، وعلما وعدلا ورفقا، وبأسا صارع به بحضرة أبيه الجاموس، وضارع لو شاء الليث العبوس، كان قد خرج الناصر وهو معه إلى البطائح، فرأى جاموسا عصّب رأسه الهوى وهو طائح، وقد أوى إلى بطيحة اشتبك شجرها، واحتبك ماؤها ومحجرها، فقال لا يعرض أحد إلى هذا الجاموس، فإنه لا يخلو من بادرة وبوس، وكان جاموسا قد تأسد، لو عاث لأفسد، فنزل إليه الظاهر غير مكترث، وأبرم له عزما، غير منتكث، فلما رآه [ص 191] الجاموس، صوّب إليه روقيه، وطأطأ ينطحه بقرنيه، فجرد الظاهر سيفه وتقدم إليه، وضربه ضربة قطع بها عنقه إلى ظلفيه، فحقدها عليه الناصر ونقمها، وأراده بها، ودفع الله نقمها، مع ما كان يؤثره الناصر من تقديم ابنه الثاني عليّ عليه، والله يؤخره ويهيئ الأمر للظاهر ويدخره، ومع هذا فما قدر الناصر على شىء أكثر من أنه عزله عن ولاية العهد وصرفه، ثم أحوجه الله إليه فولاه وصرفه، ثم تذكر بقية حال الناصر تفنّى وتفقه في هذا وأفتى، ووضع ترتيب الرفاق، ورضع معهم كؤوس الوفاق، ولبّس السراويل ولبّسه لأهل ذلك الجيل، ورمى البندق وبرز له، واختط الخطة ورمى الوجهين، ووضع له في أحكامه المقترح، واستباح في تشريعه ما لم يبح، وادعى

في الرمي وادعي له، وسلك مدة في هذا سبيله، لا يخلي الطير حينا من الحين، ولا يزال قسي بندقه ينظرها طائرة في السماء، فيصيبها بالعين، قد جعل الجلاهق «1» حد سلاحيه، لا يدع الصباح والعشاء من اغتباق راحيه، لا يريح الرفاق من رواحيه، ولا طائرا يطير بجناحيه، وقصد السرداب «2» المعد عليه النوبة للمنتظر، ووقف عليه ونادى لو أسمع، وقال: أنا ابن عمك بغير مدفع، ودينك ديني، وما بعد اقتداري في الأرض وتمكيني، فهذا أوان ظهورك، فاخرج فأنا القائم بأمورك، فلما لم يجب، ولا قام من غير قلبه بما وجب، علم بطلان ما كان يخيل له من خرافات تلك المخاريق، وضلالات ما خرج به عن الطريق، فترك سوء ذلك التشيع، وتقلل من التكثر في التروي بها والتشيع، ثم ما كان إلا متسننا، وفي مذاهب أهله متفننا، ومات ولده عليّ، ووجد عليه وجدا كاد يذهب بحبله، وينتزع من صدره سويداء قلبه، وأعاد الظاهر إلى ولاية عهده، وقدم من صهوة المنبر ما لا يصلح إلا للبده، بويع يوم موت، ونثرت الدنانير والدراهم يوم [ص 192] بيعته، ومدحه الشعراء، فممن أجاد ابن التعاويذي بقوله: [الحفيف] ورأى الغانيات شيبي فأعرضن ... وقلن الشباب خير لباس كيف لا يفضل السواد وقد أضحى ... شعارا على بني العباس أمناء الله الكرام وأهل الجود ... والعلم والتقى والباس ولقد رتبت الخلافة منهم ... بإمام الهدى أبي العباس

كم بذي الدوح أثلة من قضيب

ملك جلّ قدسه عن مثال ... وتعالت آلاؤها عن قياس يا لها بيعة أجدت من الإسلا ... م بالي رسومه الأدراس ولي الله أمرها فله المنّ ... ة فيها عليه لا للناس ثم أخذ أمره بالحزم، إلا أنه كان له اختلاط بالعوام، لبس الفتوة من عبد الجبار مقدم الفتيان، وله رفاق، كان متدينا صالحا، وبنى له صومعة بباب كلواذى «1» ، ومضى قاصدا الحج، فدرج «2» ، ودفن في المعلّا «3» ، ورمى الناصر البندق وخالط قدماه، ووضع في أيامه: المقترح «4» في تشريع الرمي والرماة، وكان الناصر بصيرا بالأدب، له اليد الطولى إن نظم أو كتب، كتب إليه سعد الدين بن شبيب صاحب المخزن، يذكر حال مجد الدين ابن الصاحب، قبل أن ينقم عليه، وقال: إنه صبي يجهل الأمور لعدم خبرته بها، والدول تحتاج إلى الشيخ الحول القلب وما يناسب هذا المعنى، فوقع الناصر عليها: [المديد] كم بذي الدوح أثلة من قضيب ثم أوقع بعد ذلك بابن الصاحب، ثم استوزر جلال الدين بن يونس، وخلع عليه، ومشت القضاة وأرباب الدولة في خدمته، وكتب إليه...... «5»

الأنصاري: إن المملوك قديما ولي أمير المؤمنين، وقد تاب على يد ابن الجوزي، وترك الخدمة، فوقع عليها: (ما يصلح للمولى على العبد حرام) وكتب إليه رجل يسأل المساواة بابن ساوا، فوقع عليه: (ابن ساوا لا يساوى) ، ثم إنه نقم عليه، وقتله شر قتلة، وكتب إليه عن السلطان [ص 193] صلاح الدين: [المديد] الفتى في لظى فإن أحرقتني ... فتيقن أن لست بالياقوت كل من جاءك يدّعي النسج لكن ... ليس داود فيه كالعنكبوت فكتب جوابه: [المديد] نسج داود لم يفد صاحب الغا ... ر وكان الفخار للعنكبوت وبقاء السمند في حومة النا ... ر مزيل فضيلة الياقوت «1» واستبصر في بعض أوقاته بمن أجابه إلى موعد أخلفه في ميقاته، فكتب إليه بيتي أسامة بن منقذ: [الكامل] ومماذق رجع النداء جوابه ... فاذا عرا خطب فأقعد من دعي «2» مثل الصدى يخفى عليّ مكانه ... أبدا ويملأ بالإجابة مسمعي وقد ذكره ابن واصل قال: كان الناصر عظيم الهيبة، عالي الهمّة، وافر العقل، حسن السياسة، متيقظا لا يفوته أمر مما يجري في بلاده وغيرها من بلاد الإسلام، وكان له أصحاب أخبار يطالعونه بما يحدث من الأمور في كل صقع،

فخافه الناس خوفا شديدا وهابوه، وكان الإنسان في العراق، لا يجسر أن يجري في بيته وخلوته ما يخاف الإنكار عليه منه، حتى كان يتوهم من أهل بيته وأخص الناس به، أن ينقل خبره إلى الخليفة، وفتح في أيامه فتوحات كثيرة، واتسع ملكه جدا، واستولى على خوزستان والجبل، وفتح كثيرا من بلاد العجم، وقامت للدولة العباسية حشمة لم يكن مثلها موجودا إلا في الزمن القديم قبل استيلاء الملوك على العراق، لكن الفقهاء أهينوا في زمانه، إهانة بالغة، لاستظهار الشيعة به عليهم، فقال صاحب المخزن: [الكامل] أحبابنا نوب الزمان كثيرة ... وأمرّ منها رفعة السفهاء هل يستفيق الدهر من سكراته ... وأرى التهوّد بذلة الفقهاء وفي جمادى سنة اثنتين وثمانين وخمس مائة، حكم أهل النجامة أنه يكون هواء [ص 194] عظيم يهلك أكثر الناس فيه، وترمى الجدران، لاقتران الكواكب في برج الميزان، فدخل للناس منه رعب عظيم، واستعد بعض الملوك لعمل سراديب تحت الأرض، وأعد فيه الأقوات والعطر لأجل وخم الهواء، فقضى الله بأن الهواء انقطع تلك الليالي البتة، حتى إن ضوء الشمع ما كان يميل، فقال ابن المعلم شعرا منه: [البسيط] قل لأبي الفضل قول معترف ... مضى جمادى وجاءنا رجب وما جرت زعزع كما حكموا ... ولا بدا كوكب له ذنب يقضي عليها من ليس يعلم ما ... يقضي عليه هذا هو العجب فارم بتقويمك فالاصطر ... لاب خير من صفره الخشب

89 - دولة الظاهر بأمر الله

ثم: 89- دولة الظّاهر بأمر الله أبي نصر محمد «1» بن أحمد الناصر، وتقدم له في ذكر أبيه أرج لا يركد نسيمه، وتحرك روض لا يمل شميمه، ووصف طود لا يرقى صاعده، وبحر لا يتعب وارده، وسحاب لا يعيى رائده، ومقسط يأتي يوم القيامة على منبر من نور، ومنصف لو أبهم عليه وجه الحق، لشق عن سنا فجره قلب الديجور، كان إمام عدل، وغمام وبل، وقيم دين، وضيغم عرين، وكافلا بإزالة كل شنيعة، وكاسرا لصولة بدع الشيعة، وكل شيعة، كشف على تمويهات المذاهب ونقب، وأتي على ما أخّر أبوه من رقيق غيمها وعقب، برأي رام لا تخطئ صوائبه، وذكاء فطن لا تلتبس مذاهبه، وكان لله منه جانب لا يضيعه، وسر كالمسك يجتهد في كتمانه فيذيعه، وقد أومينا بطرف الإشارة إلى ما كان من مصارعته بحضور أبيه الجاموس، حتى أكمن له هذا في قلب أبيه غلّا من الحقد، وأمكن لأجله من ساقه قيدا كالخلخال، ومن عنقه كالعقد، مع ما كان في نفس أبيه من تقديم أخيه عليّ على هواه، ومباينته [ص 195] في المعتقد، لما طواه،

لأن الظاهر كان على خلاف الباطن من عقيدة أبيه، كان كل منهما في طرف لا يخادع فيما عرف، فأما الابن فاستقام على الطريقة، وأما أبوه فانحرف، فأمسكه وكبّله بالحديد، وثقفه وألقى عن عاتقه نجاد ولاية العهد، ونزع مطرفه، ثم لما مات أخوه عليّ، وأقفر بيت أبيه من ولد له يلي، وارجحنّ عقله الذاهب، وكان أثرا لمصائب، كأنه قد كان بلي بذهاب لبه، وأصيب بكل عقله، لا ببعض قلبه، أعاد تقليد ولده الظاهر ولاية العهد، وأعد له المنبر كمينة النهد هىء له، والسرير ما لم يكن إلا له، من حين فارق حجور المراضع، وقاطع ذروة المهد، وخطب له ببغداد، ثم صار إلى الأمصار، وضرب اسمه على السلك، وأنار وجه الدرهم والدينار، وهو مع هذا كله مرتهن عند أبيه في التعويق، مثقّف في الحديد بالقيد الوثيق، موكلا به في دار ترك عنده جارية، ورتب له فيها كفاية جارية، قد أيقظ عليه عيونالا تهجع، حتى توقظ أخرى، ورقيا لا تغفل شفقا ولا فجرا، حتى شاء الله أن يشق صدفته عن درتها، وتتصدع صخرته عن زبرتها، وتنفرج أفنان غابته عن قسورتها، وتتمحّص مدرة أرضه ليخرج مدرتها، فمات أبوه ورغم معطس من كان يأباه، يريد أن لا يكون أخوه، وخرج من معتقله خروج الأسد من وجاره «1» ، والكوكب الدري من حجب أفوله، والبدر التمام من خدور سراره، وانتضى انتضاء المشرفي المرهف، وخلص من السقيف خلوص السمهري المثقف، وأصفقت الأيدي على مبايعته بالإمامة، ورقى ذروة المنبر وعليه لواء الكرامة، وهيّأ الله له ما أراده من الخير، وأحسن له الحسنى، وأحل الغير بالغير، وأعادها عمرية ليس فيها جناح، وقمرية خدم فيها البدر من العشاء إلى الصباح، ولم يكن في حظ زمانه أن تدوم وأن تتم، وعدله قمرها المنبر، وعيون أخباره النجوم، فكنت [ص 196] لا ترى في مدته إلا سنّة

وكتابا، وإماما ومحرابا، وسيئة محيت وبدلت ثوابا، وعدلا فتح له بابا، وظلما سد له بابا، وقائلا يهدي وقائلا «1» كان في حر الهجير أطل عليه ندى، ورفقا أرأف بالأمة من الوالدات على الفطيم، ولطفا يصد سموم الشمس فيأذن للنسيم، وشكرا يروع العذارى فيلمس جانب العقد النظيم، وقد ذكر الوزير أبو غالب نسخة من كتب عن الناصر بخلع ولده الطاهر لما خلعه، بخط المكين ابن العلقمي «2» ، ومنه: (وقد كان أمير المؤمنين قلّد ولده أبا نصر محمدا ولاية عهده، ورشحه من بعده، مؤملا منه التخلق بشريف أخلاق أمير المؤمنين التي هي من أخلاق آبائه مقتبسة، وعلى أساس التقوى مبنية ومؤسسة، فلما أن وقت بكامل رشده، رأى من نفسه القصور عن التزام شروط هذا الأمر، واستقال منه، وسئل أمير المؤمنين نزع لباسه عنه، وكتب خطه عن ذلك وتركه، وحل ما عقد له منه وفكه، وتيقن من حاله وأمره، أنه لا يصلح لخلافة المسلمين في الحاضرة، ولا في بقية عمره، وأشهد بذلك عليه، وخلع نفسه عما كان فوّض إليه، وأمير المؤمنين لم يخل في كل وقت باعتبار طرائقه واستقرائها، وتتبع خلائقه واستبرائها، إلى أن استبان ما كان من أحواله يلوح، وتألق نجمه من مراصد الوضوح، فلم يسع أمير المؤمنين إلا استخارة الله في إقالته، وطلب رضاه سبحانه في حل عقد ولايته، وأقال ولده، وحل ماله من ولاية العهد في المسلمين عقده، ونقض ما إليه عهده، وأسقط ذكره من الخطب، ومحا اسمه من السكك، اجتنابا من تقلد أوزاره، وتحمل أثقال إثمه وآصاره «3» ، وأمير المؤمنين قد شهد لله بما علمه، وإن كان على ولده، ولم تأخذه لومة لائم في لزوم منهج الحق وجدده، «4»

90 - دولة المستنصر بالله

قال الله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) «1» ، وحيث أقال أمير المؤمنين أبا نصر محمدا وخلعه، ونضا عنه جلباب [ص 197] ولا [ية] عهده ونزعه، لم ير أن يعين على أحد يعينه تحوبا لاحتساب ما تحمل الأوزار، وتوخيا لما هو أسلم من الأخطار) . ثم: 90- دولة المستنصر بالله أبي جعفر المنصور «2» بن محمد الظاهر، جهد في طريقة أبيه وما بلغها، وحام على مناهله وما سوغها، لكنه قارب معناها، وقام حتى داناها، وأسغب شهواته من المظالم وفطمها، وزمّ نظراته عن المحارم وخطمها، وأظهر السنّة وأقامها، وسمك في أعلا السماء مقامها، فكان لا يكبر رأس متشيّع إلا رضّه، ولا يتشاوس نظر مبتدع إلا غضّه، ولا يستكثر رافضي إلا رفضه، وحل عقد سبعه وفضه، سوى أنه أفرط في كبرياء الحجاب، وخالف أباه لا آباءه في فرط الإعجاب، وكانت الملوك تحب المستنصر وتستطيل أمد عوارفه ولا تستقصر، وكأنما جاء عقيب جده الناصر، لأن أيام آبائه كانت كأن لم تكن، لأنه ما بزغ

91 - دولة المستعصم بالله

قمره حتى غاب، ولا أصحر ضيغمه حتى واراه الغاب، فأراح من تجني الناصر تعب خواطرهم، ومن تعني الرسل بينهم وبينه نظر نواظرهم، وكان قد أمر بوظائف الرسل، ورتب لطائف الأنزال في السبل، فسارت إليه بهم ركائبهم الذلل الصعاب، وتحدرت إليه قصاده بطون الأودية وشعاف الشعاب، ثم انتقل إلى الله مبوّأ في لحده الكرامات، ممرضا بعده الصبر والكرى مات. ثم: 91- دولة المستعصم بالله أبي أحمد عبد الله «1» بن المنصور المستنصر، وهو آخر الخلفاء في بغداد، بل آخرهم في سائر البلاد بالاستبداد، وكان محدثا سنيّا، محمدا سنيّا، تفقه على مذهب أحمد، وتشبّه في أوله في كل ما هو أحمد، وكان من ذوي العقول، إلا أنّ باريه كاده، والبصائر إلا أن الله أعماه ليمضي مراده، وأغري باللعب [ص 198] بالحمام، فجلب على المسلمين جالب الحمام، جمع منها

عشرين ألف طائر، إلا أنها كانت مياشيم أكثرها قلابات، قلبت الدولة، وانتهكت الحريم، ومني بوزير بل كلب خنزير، رافضي خبيث، غير مأمون حتى ولا على حديث، فرتع في سوام المال ذيبه، ونفق على الخليفة كذبه لا تكذيبه، وجلب بمواطأته التتار ما أضر بالأمم قتله لا تعذيبه، ولم يجد حمد كمده ريح فطنة تحلله ولا تذنبه، فغطى على بصر الإسلام تلبيس تدليسه، وغط دماء آلامه تسليط أباليسه، فكان في دبيبه أرقما، وسقى كؤوس الضراء لطعم أبيه علقما، فلا كان العلقمي «1» وما ولد، لقد ولد أفعى، وألقى عصا قلمه فإذا هي حية تسعى، لقد أتى شيئا نكرا، وأطعم الناس من طعامه العلقمي مرّا، فحسّن للخليفة جمع المال، وكاتب التتار سرا ومد لهم الآمال، وبقي يقطع ألفا فألفا من الجند ويوفر مالهم للديوان، وإنما يريد إضعاف جانب الخليفة، وإرجاف جوانب الأرض، يوهن قوته الضعيفة، فلما فلّ حدّ العسكر، وقلّ عديدهم الأكثر، استقدم عسكر العدو وترسله وتكتبه، واستدعى بره الفسيح بوهاده وكثبه، فجاء من لا قوة للبلاد بحمل بعضهم، ولا طاقة للتخوم بمثار ركضهم، ففرق جدول الإسلام في تيارهم، وأحرق نور الإيمان بنارهم،

وبدأت الخلافة «1» بعبد الله السفاح، وختمت بعبد الله المستعصم، ولم تدر الملة لمن تستخصم، وأخذ رحمه الله وقتل، وهو جمت بغداد، وقتل الرجال، وسبي النساء والأولاد، وألقت الهاشميين في دجلة بأرواحها، وارتجت النواحي بنواحها، وكاد الإسلام يذهب بجملته، والدين المحمدي يطوي ملاءة ملته، وانقرضت الدولة العباسية، إلا بقية أتت مصر، ونويض «2» سراجها ثم انطفى، وأومض بريقها في أخريات الليل ثم اختفى، وكان المستعصم يسكن إلى وزيره المؤيد ابن العلقمي ويسيل بضبعه ويميل إلى اعتلاء قدره ورفعه، ولا يزال يلاطفه [ص 199] ويهاديه، ولا يقطع مكاتباته، إما يجاوبه أو يباديه، أهدى إليه مرة قصب أقلام، وكتب معها: بعثنا إلى الوزير أعزه الله بقصب يراع، مؤذنة بأنه لدينا في المحل الأقصى لا يراع، فليكتب بها مشرفا، وفي الأرض وسكانها على رغم من يشناه مصرفا، فلما أتت ابن العلقمي، قام لها وقبّل الأرض وقبّلها، واعتقل خطيها المتفقة وأسلها، ثم كتب: (قبل المملوك شكرا للإنعام عليه بأقلام قلمت أظفار الحدثان، وقامت له في حرب صرف الزمان، مقام عواسل المران «3» ، وأجنته ثمار الأوطار من أغصانها، وحازت له قصبات المفاخر يوم رهانها، فيالله كم عقد ذمام في عقدها، وكم بحر سعادة أصبح من مدادها ومددها، وكم منآد خط استقام بمثقفاتها، وكم صوارم خطوب قلت مضاربها بمطروف مرهفاتها، فالله تعالى ينهض المملوك بمفروض دعائه، ويوفقه للقيام بشكر ما أولاه من جميل رأيه وجزيل حبائه) . وكانت آفته بل آفة الإسلام وزيره، ولما قدم هولاكو لإزاحة الباطنية عن

[الخلفاء العباسيون في مصر]

قلاعهم، امتد إلى استكمال البلاد ووطأه ذلك الوزير الذميم، حتى طوى البلاد إلى العراق، ثم أوهم المستعصم أنه قد أكد له سبب الصداقة معه، فخرج لملتقاه في الفقهاء والأدباء وأهل الشرف في يوم الاثنين، سابع عشر صفر سنة ست وخمسين وست مائة، فلما رآه أمر به فرفس حتى مات، فديس بحوافر الخيل، ثم وقع السيف، وعظم الخطب، وامتهنت المصاحف حتى عملت للخيل معالف، وهدمت المساجد، ولم يبق متظاهر بالصلاة إلا حائط جدار ساجد، وخلت المنابر والأسرة، وخلع الخلافة خلع النعل، وطفي نور الحق، وطمس معلم الهدى، وكور الليل على النهار، وغال خوف الشموس والأقمار، ولو شاء ربك ما فعلوه، وولد المستعصم «1» [سنة تسع وست مائة] ، وقيل في [ص 200] [......] وكان عمره [إحدى وثلاثون سنة] ، ومدته [ست عشرة سنة] ، ثم لم يبق للخلافة بقية ذكر، إلا لمن وصل منهم إلى مصر، واتصل بالظاهر بيبرس البندقداري بها، وها أنا أذكرهم. فأولهم [الخلفاء العباسيون في مصر] 92- المستنصر بالله أبو القاسم أحمد «2» بن محمد الظاهر بن أحمد الناصر، وصل إلى مصر

93 - الحاكم بأمر الله

وبايعه قاضي القضاة، تاج الدين عبد الوهاب العلامي المعروف بابن بنت الأغر، ثم الظاهر بيبرس، ثم عامة العلماء، وأهل الشرف، ووجوه قريش، وعامة أرباب الدولة، وكان شهما لا يطاق، وشيهما ما لسمه درياق، وراميا رام أن يصمي بسهمه من مصر من بالعراق، وضاق الظاهر به لما رأى منه ومن وقاره المبثوث في نفوس الخلق، فما صدق أن وردت على المستنصر كتب أهل العراق باستقدامه، فجهزه في جيش استخدمه له، وخرج معه إلى دمشق، وكان الظاهر يركب إلى خدمته في كل يوم، ثم سار إلى العراق في دولة كاملة، بأرباب الوظائف، والشعار الكامل، ففتح كثيرا من البلاد الفراتية، حتى أتى العراق، فجاءه أهلها، وتلك شميتهم من قديم، ونصرهم لكل قائم بدعوة حق، وخرج له التتار فقاتلهم وثبت حتى قتل، واستحر القتل في عسكره، إلا من عجل الهزيمة، وكان قدومه مصر [سنة 659 هـ] ...... «1» ومبايعته في [العام نفسه] ...... «2» ثم: 93- الحاكم بأمر الله أبو العباس أحمد «3» بن محمد بن الحسن علي بن الحسن بن الراشد بن

94 - المستكفي بالله

المسترشد، ومن هناك يلتقي بعمود النسب المستعصمي، وكان غاية في الخير، والفضل والثبات، ولما قدم أتى الحسام البرؤلي وقد تملك البيرة، فبايعه واستخدم له، ثم أتى عيسى بن مهنا أمير آل فضل، فقام في ناصره، وقاد له جمهور عسكره، فخاف الظاهر بيبرس عاقبته، وخال أنه يجتثّ باقيته، فلاطف عيسى بن مهنا، وراسله في تجهيزه إلى مصر ليبايعه، وأنه [ص 201] لا يجد حرجا في صدره أن يطاوعه، وكان للظاهر على عيسى بن مهنا يد يرعاها، ولكتبه عنده نجاح لا يخيب مسعاها، ورأى في هذا صلاحا للناس وجمعا لكلمة الإسلام، فعمل على هذا، وقدم الحاكم مصر وبايعه الظاهر بيبرس، إلا أنه يحجر عليه، وبعد مدة أسقط اسمه من السكة، وأبقاه في الخطبة، ودام مكرما إلا أنه ممنوع، وموسعا عليه، إلا أنه مضيق له بالنسبة إلى ما يستحق، فلما أتى اللهب الدولة الشريفة الملكية الأشرفية الصلاحية، سقى الله عهدها، فسح له، وأخلى له قصر الكبش، وبوّأه منزله، وكان العزم الأشرفي كله مصروفا إلى استفتاح العراق وإعادة الخلافة إلى مقرها في صدر ذلك الرواق، وتصريف حكم الحاكم في البلاد وإقامة الدولة العباسية على ما كانت عليه، بالأمراء والوزراء والأجناد، ثم توفي. ثم قام ابنه: 94- المستكفي بالله أبو الربيع سليمان «1» ، [قام] بعهد أبيه، وكان حسن الجملة، لين الحملة،

مع فروسية كانت فيه، لو وجد لها حين إبراز، أو أضفي حد لإحراز، إلا أنه لم يجد لغصته مساغا، ولا لقصته بلاغا، فكان لا يرى لسهولة الجانب، ومداهنة المجانب، إلا أوطأ من رمله، وأضعف من نمله، وأكثر توقيا ممن عرفت عليه عمله، عهد إليه أبوه الحاكم بالخلافة بعد ابنه المستمسك، الأمير أبي عبد الله محمد، حين توفي المستمسك وتجرع أبوه صاب مصابه، وطوى حوائجه على داء أوصابه، ثم جعل بعده العهد إلى إبراهيم ولد المستمسك، ظنا أنه يصلح لأن يصرح باسمه على المنابر، ويجيء على أذيال آبائه الأكابر، فلما توفي الحاكم وخرج سلار كامل الممالك، فمن دونه في جنازته، وقاموا نحو كرامته وغرارته، بويع المستكفي بيعة طوقت الرقاب، وطولت له ذيل الخلافة على الأعقاب، وكان هو وسلطاننا كأنهما أخوان، لما بينهما من إلفة جامعة، ومودة لفراق الأعداء قامعة، وحضر نوبة مرج الصفر، وكان [ص 202] على عهد الله المظفر، سار سلطاننا به فأيّد الله بهما هذه العصابة، وكان يومهما بمرج الصفر باني يوم الصحابة، كل منهما هدّ أركان العدو، وهدم بنيان أهل العتو، ثم لم يزل به لدم الخلافة آثار باقية، وشىء يحفظ به تلك البقية المتلاشية، حتى كان من نزول السلطان عن الملك سنة ثمان وسبع مائة ما كان، وحصل الاجتماع على المظفر بيبرس، فقلده المستكفي وسوّره، وصيّره حيث صيره، فنقمها عليه

95 - الواثق بالله

السلطان، وأسرّها، ثم لما قام السلطان لاسترجاع ضالته، وإنباه المظفر من كرى ضالته، استجاش المظفر بالمستكفي يجدد له الولاية، ونسبت في السلطان أقوال إليه، حملت السلطان على التحامل عليه، فلما عاود الزمان عقله، وحل من الحظ الناصري عقله، وعاد السلطان سنة تسع وسبع مائة إلى تخته، وعاد ما ألّف من بخته، أعرض عن المستكفي كل الإعراض، ودبّت بينهما الأمراض، فلم يزل يكدر على المستكفي المشارب، ويقف دونه في وجوه المآرب، حتى تركه في برج في القلعة، في بيته وحرمه، وخاصة من يلوذ بحرمه، وبقي على هذا مدة، حتى قام قوصون، ورجل آخر معه لا أسميه، ولم يزالا يلاطفان السلطان حتى أنزله إلى داره، وأطلع هلاله، نضوا من سراره، ثم نسب إلى ابنه صدقة، التعلق ببعض خاصة السلطان، وتردد ذلك الغلام إليه، فنفي الغلام، وأصعد بالخليفة إلى قوص، فقدمت إليه مطايا السفين، وأنزل معه بعض حرمه وقد حفين، ثم أقلعت بهم تلك السواري، وعادوا أجنة في بطون تلك الجواري، إلا أنه لم ينقص من روايته، ولا أسقط اسمه عن المنابر، وغبر عن هذا مدة، يعلل فيها نفسه، إلى أن علقت بابنه صدقة أشراك المنون، وجالت في منيته الظنون، فجزع عليه جزعا شديدا، استخف وقاره، وحركه بل أطاره، ثم لم تطل به المدة، ولا بقي إلا قليلا بعده، وكانت وفاته سنة أربعين وسبع مائة، ودفن بقوص، وذلك بعد أن أذن إلى ابنه الحاكم أبي العباس، لكنه لم يجد عهده راعيا، ولا [ص 203] ابنه بعده لوصيته واعيا. ثم قام ابن أخيه: 95- الواثق بالله إبراهيم «1» بن المستمسك، أبي عبد الله محمد بن الحاكم، وقد تقدم القول

فيما أصاره إليه جده، من العهد بعد المستكفي، ظنا أن يكون صالحا، أو يجيب لداعي الخلافة صالحا، فأنشأ إلا في تهتك، ولا دان إلا بعدم تنسك، أغري بالقاذورات، وفعل ما لم تدع إليه الضرورات، وعاشر السفلة الأراذل، وهان عليه من عرضه ما هو باذل، وزين له سوء عمله فرآه حسنا، وعمي عليه فلم ير مسنا إلا محسنا، وغوي باللعب بالحمام، ومشترى الكباش للنطاح، والديوك للنقار، والمنافسة في المعز الزرابية الطوال الآذان، وأشياء من هذا ومثله، ما يسقط المروءة، ويثل عرش الوقار، إلى أن صار لا يعد [إلا] في سفلة الناس، هذا إلى سوء معاملة، ومشترى سلع لا يوفي أثمانها، واستيجار آدر لا يقوم بأجرها، وتحيل على درهم يملأ به كفه، وسحت يجمع به فمه، وحرام يطعم منه ويطعم حرمه، حتى كان عرضه عرضة للهوان، وأكله لأهل الأوان، فلما توفي المستكفي، والسلطان عليه في حدة غضبه، وتيّاره المتحامل عليه في شدة غليه، طلب هذا الواثق المعتر، والمائق إلا أنه غير المضطر، وكان ممن يمشي إلى السلطان في عمه بالنميمة، ويعقد مكايده على رأسه عقد التميمة، فحضر إليه، وأحضر معه عهد جده فتمسك السلطان في مبايعته بشبهته، وصرف وجه الخلافة إلى جهته، وكان قد تقدم بعض ذلك العهد ونسخ ذلك العقد، وقام قاضي القضاة أبو عمرو بن جماعة، في صرف رأي السلطان على إقامة الخطبة باسم الواثق، فلم يفعل، فاتفق الرأيان على ترك الخطبة للاثنين، واكتفى فيها بمجرد اسم السلطان،

96 - الحاكم بأمر الله

فترجل بموت المستكفي اسم الخلافة عن المنابر، كأنه ما علا ذروتها، وخلا الدعاء للخلفاء من المحاريب، كأنه ما فرغ بابها ومروتها، فكأنما كان آخر خلفاء بني العباس، وشعارها عليه لباس الحداد، وعمود تلك [ص 204] السيوف الحداد، ثم لم يزل الأمر على هذا، حتى حضرت السلطان الوفاة، وقرع الموت صفاه، فكان مما أوصى به، رد الأمر إلى أهله، وإمضاء عهد المستكفي لابنه، وقال: الآن حصحص الحق، وحنا على مخلفيه ورقّ، وعزل إبراهيم وهزل، وكان قد رعى رعي الهمم، وستر اللوم بثياب أهل الكرم، وتسمن وشحمه ورم، وتسمى بالواثق، وأين هو من صاحب هذا الاسم، الذي طالما سرى رعبه في القلوب، وأمنت هيبته العيوب، وهيهات لا يقد من النسر التماثيل، ولا الناموسة وإن طال خرطومها كالفيل، وإنما سوء الزمان قد ينفق ما كسد، والهر يحكي انتفاخا صولة الأسد، وقد عاد الآن بعضّ يديه، ومن يهن يسهل الهوان عليه. ثم قام: 96- الحاكم بأمر الله أبو العباس أحمد ابن المستكفي «1» ، إمام غصنها، وغمام مصرنا، قام على غيظ العدى، وعرف بفيض الندى، صارت به الأمور إلى مصائرها، وسبقت أمل مصابرها، فأحيا رسوم الخلافة، ورسم بما لم يستطع أحد خلافه، وسلك

[صورة المبايعة للحاكم]

مناهج آبائه وقد طمست، وأحياها بمناهج أنبائه وقد درست، وجمع شمل بني أبيه وقد طال بهم الشتات، وأطال غرزهم وقد اختلفت الشيات، ورفع اسمه على ذرى المنابر، وقد غبر مدة لا تطلع إلا في آفاقه تلك النجوم، ولا يسح من سحبه تلك الغيوم والسجوم، طلب بعد موت سلطاننا تغمده الله برحمته، وأنفذ حكم وصيته في تمام مبايعته، والتزام متابعته، وكان أبوه قد أحكم له بالعهد المتقدم عقدها، وحفظ له عند ذوي الأمانة عهدها، ثم سلطن الملك المنصور أبا بكر بن السلطان، وعمّر له من تحت الملك الأوطان. قلت: وقد كان حين طار الخبر إلى مصر بموت أبيه، أشيع أنه لم يعهد إليه، وإنما الناس قد يقع اجتماعهم عليه، فكتب صورة مبايعة له، وهي: [صورة المبايعة للحاكم] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ، إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ، يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ، فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ، وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً «1» ، هذه بيعة [ص 205] رضوان، وبيعة إحسان، وجمعة رضى، يشهدها الجماعة، ويشهد عليها الرحمن، بيعة يلزم طائرها العنق، وتحوم بشائرها، وتحمل أنباءها البراري والبحار، مشحونة الطرق، بيعة يصلح الله بها الأمة، ويمنح بسببها النعمة، وتتجازى الرفاق، ويسري الهناء في الآفاق، وتتزاحم زمر الكواكب على حوض المجرة الدفاق، بيعة سعيدة ميمونة، بيعة شريفة بها السلامة في الدين والدنيا مضمونة، بيعة صحيحة شرعية، بيعة ملحوظة مرعية، بيعة تسابق إليها كل نية، وتطاوع كل طوية، ويجمع عليها شتات البرية، بيعة يستهل بها الغمام، ويتهلل البدر التمام، بيعة متفق على الاجماع عليها، والاجتماع لبسط الأيدي إليها، انعقد عليها الاجماع، فاعتقد

صحتها من سمع لله وأطاع، وبذل في تمامها كل امرئ ما استطاع، حصل عليها اتفاق الأبصار والأسماع، ووصل بها الحق إلى مستحقه، وأقر الخصم وانقطع النزاع، يضمها كتاب مرقوم، يشهده المقربون، وتلقاه الأئمة الأقربون، و (الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله) «1» ، ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس، والينا ولله الحمد وإلى بني العباس أجمع على هذه البيعة أرباب العقد والحل، وأصحاب الكلام فيما قل وجل، وولاة الأمور والحكام، وأرباب المناصب والأحكام، وحملة العلم والأعلام، وحماة السيوف والأقلام، وأكابر بني عبد مناف، ومن انخفض قدره وأناف، وسروات قريش، ووجوه بني هاشم، والبقية الطاهرة من بني العباس، وخاصة الأئمة، وعامة الناس، بيعة ترى بالحرمين خيامها، وتخفق بالمأزمين أعلامها، وتتعرف عرفات بركاتها، وتعرف بمنى، ويؤمن عليها يوم الحج الأكبر، ويؤم ما بين الركن والمقام والقبر، ولا ينبغي بها إلا وجه الله الكريم......... «2» بيعة لا يحل عقدها، ولا ينبذ عهدها، لازمة جازمة، دائبة دائمة، تامة عامة، شاملة كاملة، صحيحة صريحة، متعبة مريحة، [ولا من يوصف بعلم] «3» ولا قضاء ولا من يرجع إليه في إيقاف ولا إمضاء، ولا إمام مسجد ولا خطيب، ولا [ص 206] ذو فتوى يسأل فيجيب، ولا من جنبي المساجد، ولا من تضمهم أجنحة المحاريب، ولا من يجتهد في رأي فيخطئ أو يصيب، ولا محدث بحديث، ولا متكلم في قديم أو حديث، ولا معروف بدين وصلاح، ولا فرسان حرب وكفاح، ولا راشق بسهام، ولا طاعن برماح، ولا ضارب بصفاح، ولا ساع بقدم، ولا طائر بجناح،

ولا مخالط للناس، ولا قاعد في عزلة، ولا جمع كثرة ولا قلة، ولا من يستقل بالجوزاء لواؤه، ولا من يقل فوق الفرقد ثواؤه، ولا باد ولا حاضر، ولا مقيم ولا سائر، ولا أول ولا آخر، ولا مسرّ في باطن، ولا معلن في ظاهر، ولا عرب ولا عجم، ولا راعي أبل ولا غنم، ولا صاحب أناة ولا بدار، ولا ساكن في حضر وبادية بدار، ولا صاحب عمد «1» ولا جدار، ولا ملجلج في البحار الزاخرة، والبراري القفار، ولا من يتوقل صهوات الخيل، ولا من يسبل على العجاجة الذيل، ولا من تطلع عليه شمس النهار، ونجوم الليل، ولا من تظله السماء وتقله الأرض، ولا من تدل عليه الأسماء على اختلافها، وترفع درجات بعضهم على بعض، حتى أمن بهذه البيعة وأمّن عليها، وأمن بها، ومنّ الله عليه وهداه إليها وأقرّ بها وصدق، وغضّ له بصره خاشعا، وأطرق ومد إليها يده بالمبايعة، ومعتقده بالمتابعة، ورضي بها وارتضاها، وأجاز حكمها على نفسه، وأمضاها، ودخل تحت طاعته، وعمل بمقتضاها، وقضى بينهم بالحق، وقيل الحمد لله رب العالمين. وإنه لما استأثر الله بعبده سليمان أبي الربيع الإمام المستكفي بالله، أمير المؤمنين، كرم الله مثواه، وعوضه عن دار السلام، بدار السلام، ونقله مزكّي يديه عن شهادة الإسلام، بشهادة الإسلام، حيث آثره بقربه ومهد لجنبه، وأقدمه على ما قدمه من مرجو عمله وكسبه، وخار له في جواره فريقا، وأنزله مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا، الله أكبر ليومه يوما لولا محلفه، كانت تضيق الأرض بما رحبت، وتجزى كل نفس بما كسبت، وتنبّأ كل سريرة ما ادخرت [ص 207] وما جنت، لقد اضطرم سعير، إلا أنه في الجوانح، لقد اضطرب منبر وسرير، لولا خلفه الصالح،

لقد اضطر مأمور وأمير لولا الفكر بعده في عاقبة المصالح، لقد غاضت البحار، لقد غابت الأنوار، لقد غالت البدور وعوارض ما يلحق الأهلة من المحاق، وتدرك البدور من السرار، نسفت الجبال نسفا، وخبت مصابيح النجوم وكادت تطفى، وجاء ربك والملك صفا صفا، لقد جمعت الدنيا أطرافها، وأزمعت على المسير، وخضت الأمة لهول المسير، وزاغت يوم موته الأبصار، إنّ ربّهم يومئذ لخبير، وقفت الألباب حيارى، وتوقفت تارة تصدق وتارة تتمارى، لا تعرف قرارا، ولا على الأرض استقرارا، إن زلزلة الساعة شىء عظيم، يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، ولم يكن في النسب العباسي، ولا في جميع من في الوجود، ولا في البيت المسترشدي، ولا في غيره من بيوت الخلفاء من بقايا آباء لهم وجدود، ولا من بلدة أخرى الليالي وهي عاقر غير ولود، من تسلم إليه أمة محمد صلى الله عليه وسلم عقد نياتها، وسر طوياتها، إلا واحد، وأين ذاك الواحد، هو والله من انحصر فيه استحقاق، ميراث آبائه الأطهار، وتراث أجداده، ولا شىء هو إلا ما اشتملت عليه رداء الليل والنهار، وهو ولد المنتقل إلى ربه، وولد الإمام الذاهب لصلبه المجمع على أنه في الأيام، فرد هو الأنام، وواحد وهكذا في الوجود الإمام، وإنه الحائز لما زرت عليه جيوب المشارق والمغارب، والفائز بملك ما بين المشارق والمغارب، الراقي في صفح السماء، هذه الذروة المنيفة، الباقي بعد الأئمة الماضين، ونعم الخليفة المجتمع فيه شروط الإمامة، المتضع لله، وهو ابن بيت لا يزال الملك فيهم إلى يوم القيامة، الذي يفضح السحاب نائله، والذي لا يغره عاذره، ولا يعيره عاذله، والذي ما ارتقى صهوة المنبر، بحضرة سلطان زمانه، إلا قال ناصره، وقام قائمه، ولا قعد على سرير الخلافة إلا وعرف أنه [ص 208] ما خاف مستكفيه، ولا غاب حاكمه، نائب الله في أرضه، والقائم مقام رسوله صلى الله عليه وسلم، وخليفته وابن عمه، وتابع عمله الصالح،

ووارث علمه، سيدنا ومولانا عبد الله ووليه أبو العباس الإمام الحاكم بأمر الله، أمير المؤمنين أيد الله ببقائه الدين، وطوق بسيفه الملحدين، وكبت تحت لوائه المعتدين، وكتب له النصر إلى يوم الدين، وكبّ بجهاده على الأذقان طوائف المفسدين، وأعاذ به الأرض مما لا بدين، وأعاد بعدله أيام آبائه الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين، الذين قضوا بالحق، وبه كانوا يعدلون، وعليه كانوا يعملون، ونصر أنصاره، وقدر اقتداره، وأسكن في القلوب سكينته ووقاره، ومكن له في الوجود، وجمع له أنظاره. ولما انتقل إلى الله ذلك السيد، ولقي أسلافه، ونقل إلى سور الجنّة عن سرير الخلافة، وخلا القصر من إمام يمسك ما بقي من نهاره، وخليفة يغالب مزيد الليل بأنواره، ووارث نبي بمثله ومثل آبائه، استغنى الوجود بعد ابن عمه، خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم، عن نبي يقفي على آثاره، ونسي ولم يعهد، فلم يبق إذ لم يوجد النص إلا الإجماع، وعلته كانت الخلافة، بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا نزاع، اقتضت المصلحة الجامعة عقد مجلس كل طرف به معقود، وعقد بيعة عليها الله والملائكة شهود، وجمع الناس له، وذلك يوم مجموع له الناس، وذلك يوم مشهود، فحضر من لم يعبأ بعده بمن تخلف، ولم يربأ معه وقد مدّ يده طائعا، لمن مدها، وقد تكلف، وأجمعوا على رأي واحد، استخاروا الله فيه فخار، وأخذ يمين تمد لها الأيمان، وتشدّ بها الإيمان، وتعطى عليها المواثيق، وتعرض أمانتها على كل فريق، حتى تقلد كل من حضر في عنقه هذه الأمانة، وحط على المصحف الكريم يده، وحلف بالله وأتم أيمانه، ولم يقطع ولا استثنى، ولا تردد، ومن قطع عن غير قصد أعاد وجدد، وقد نوى كل من حلف، أن النية في يمينه، نية من عقدت له هذه البيعة، ونية من [ص 209] حلف له وتذمم بالوفاء له في ذمته، وتكفله على عادة أيمان

البيعة وبشروطها، وأحكامها المرددة، وأقسامها المؤكدة، بأن يبذل لهذا الإمام المفترض الطاعة، ولا يفارق الجمهور، ولا يظهر عن الجماعة، وغير ذلك مما تضمنته نسخ الأيمان، المكتتب فيها أسماء من حلف عليها، مما هو مكتوب بخطوط من يكتب منهم، وخطوط العدول والثقات، عن من لم يكتبوا وأذنوا أن يكتب عنهم، حسبما يشهد به بعضهم على بعض، ويتصادق عليه أهل السماء والأرض، بيعة تم بمشيئة الله تمامها، وعم بالصوب المغدق غمامها، وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن، ووهب لنا الحسن، ثم الحمد لله الكافي عبده، الموافي لمن يضاعف على كل موهبة حمده، ثم الحمد لله على نعمة يرغب أمير المؤمنين في ازديادها، ويرهب ألا يقاتل أعداء الله بأمدادها، ويرأب بها من أثر في منابر ممالكه، ما بان من مباينة أضدادها، نحمده والحمد لله، ثم الحمد لله، كلمة لا نمل من تردادها، ولا يخل بما يفوت السهام من سدادها، ولا يطل إلا على ما يوجب تكثير أعدادها، وتكبير أقدار أهل ودادها، وتصغير التحقير لا التحبيب لأندادها. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تتقايس دماء الشهداء وإمداد مدادها، وتتنافس طرر الشباب، وغرر السحاب على استمدادها، وتتجانس رقومها المدبجة وما تلبسه الدولة العباسية من شعارها، والليالي من دثارها، والأعداء من حدادها، صلى الله عليه وعلى جماعة أهله، ومن سلف من أبنائها، وسلف من أجدادها، ورضي الله عن الصحابة أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد، فإن أمير المؤمنين لما أكسبه الله من ميراث النبوة، ما كان لجده، ووهبه من الملك السليماني، ما لا ينبغي لأحد من بعده، وعلمه منطق الطير، بما يتحمله حمائم البطائق من بدايع البيان، وسخّر له من البريد على متون

الخيل، ما سخره [ص 210] من الريح لسليمان، وآتاه من خاتم الأنبياء، ما امتد به أبوه سليمان وتصرف، وأعطاه من الفخار به، ما أطاعه كل مخلوق ولم يتخلف، وجعل له من لباس بني العباس ما يقضي له سواده بسؤدد الأجداد، وينفض على كحل الأهداب ما فضل عن سويداء القلب، وسواد البصر من السواد، ويمد ظله على الأرض وكل مكان حله، دار ملك وكل مدينة بغداد، وهو في ليله السجاد، وفي نهاره العسكري، ومن كرمه جعفر وهو الجواد، يديم الابتهال إلى الله في توفيقه، والابتهاج بما يغص كل عدو بريقه. ونبدأ يوم هذه المبايعة بما هو الأهم من مصالح الإسلام، وصالح الأعمال، فيما تتحلى به الأيام، ويقدّم التقوى أمامه، ويقرر عليها أحكامه، ويتبع الشرع الشريف ويقف عنده، ويوقف الناس، ومن لا يحمل أمره طائعا على العين، يحمله غصبا على الرأس ويعجل أمير المؤمنين بما تستقر به النفوس، ويرد به كيد الشيطان وإنه يؤوس، ويأخذ بقلوب الرعايا، وهو غني عن هذا، ولكنه يسوس، وأمير المؤمنين يشهد الله وخلقه عليه بأنه أقرّ ولي كل أمر من ولاة أمور الإسلام على حاله، واستمر به في مقيله، تحت كنف ظلاله، على اختلاف طبقات ولاة الأمور، وطرقات الممالك والثغور، برا وبحرا وسهلا ووعرا، وشرقا وغربا، وبعدا وقربا، وكل جليل وحقير، وقليل وكثير، وصغير وكبير، وملك ومملّك وأمير، وجندي، يبرق له سيف شهير ورمح ظهير، ومع من هؤلاء من وزراء وقضاة وكتاب، ومن له تدقيق في إنشاء، وتحقيق في حساب، ومن يتحدث في بريد وخراج، ومن يحتاج إليه، ومن لا يحتاج، ومن في التدريس والمدارس، والربط والزوايا والخوانق، ومن له أعظم التعلقات وأدنى العلائق، وسائر أرباب المراتب، وأصحاب الرواتب، ومن له من مال الله رزق مقسوم، وحق مجهول أو معلوم، استمرارا بكل أمر على ما هو عليه، حتى يستخير الله تعالى، ويتبين له ما

[ص 211] بين يديه، فمن ازداد تأهيله، زاد تفضيله، وإلا فأمير المؤمنين لا يريد إلا وجه الله، ولا يحابي أحدا في دين، ولا يحابي في حق، فإن المحاباة في الحق مداجاة على المسلمين، وكل ما هو مستمر إلى الآن، مستقر على حكم الله، مما فهمه الله له، وفهّمه سليمان، لا يغير أمير المؤمنين في ذلك، ولا في بعضه مغيرا، شكرا لله على نعمه، وهكذا يجازي من شكر، ولا يكدر على أحد موردا نزه الله نعمه الصافية به عن الكدر، ولا يتأول في ذلك متأول، إلا من جحد النعمة أو كفر، ولا يتعلل متعلل، فإن أمير المؤمنين نعوذ بالله، ونعيذ أيامه من الغير، وأمر أمير المؤمنين، أعلى الله أمره، أن يعلن الخطباء بذكره وذكر سلطان زمانه على المنابر في الآفاق، وأن يصرف باسمهما النقود وتسير بالإطلاق، ويوشح بالدعاء لهما عطف الليل والنهار، ويصرح منه بما يشرق وجه الدرهم والدينار، وتتهيأ به وتتناهى المنابر ودور الضرب هائل يرفع اسمهما على أسرة مهودها، وهذه أعلا أسارير يقودها، فالخطب والذهب معدنهما واحد، وبهما يذكر الله، فهما مساجد، وهذه تقام بسببها الصلاة، وتلك تدام بها الصلات، وكلاهما مما تستمال به القلوب، ولا تلام على ما تعيه الآذان وتوعيه، وما منهما إلا ما تحذف بجواهره الأحداق، وتميل إليه الأعناق، وتبلغ به المقاصد، وكلاهما أمر مطاع، وإذا لمعت بارقة الخطب، طار للذهب شعاع، ولولا [هـ] ما اجتمع جمع ولا انضم، ولا عرف الإمام ممن يأتم، ولولا الأعمال ما رتبت الأموال، ولولا الأموال ما وليت الأعمال، ولأجل ما بينهما من هذه النسبة، قيل إن الملك له السكة والخطبة، وقد أسمع أمير المؤمنين في هذا المجمع المشهود ما يتناقله كل خطيب، ويتداوله كل بعيد وقريب، ومختصره أن الله أمر بأوامر، ونهى بنواه، وهو رقيب، وستفرع الألباب لها [ص 212] السجايا، وتفرع الخطباء لها شعوب الوصايا، وتتكمّل بها المزايا، وتخرج من المشايخ الخبايا من الزوايا، ويسمر بها السمار، ويترنم الحادي والملاح، ويرق

سحرها في الليل المقمر، ويرقم على جبين الصباح، وتعطر بها مكة بطحاءها، ويحيا بحدائها قباه، ويلقنها كل أب فهّم ابنه، ويسأل كل ابن يجيب أباه، وهو لكم أيها الناس من أمير المؤمنين مرشد وعليكم بيّنة، وإليكم ما دعاكم به إلى سبيل ربه من الحكمة والموعظة الحسنة، ولأمير المؤمنين عليكم الطاعة، ولولا قيام الرعايا ما قبل الله أعمالها، ولا أمسك بها البحر، ودحا الأرض، وأرسى جبالها، ولا اتفقت الآراء على من يستحق، وجاءت إليه الخلافة تجر أذيالها، وأخذها دون بني أبيه، ولم تك تصلح إلا له، ولم يك يصلح إلا لها. وقد كفاكم أمير المؤمنين السؤال بما فتح الله «1» لكم من أبواب الأرزاق، وأسباب الارتزاق، وأجراكم على وفاقكم، وعلمكم مكارم الأخلاق، وأجراكم على عوائدكم ولم يمسك خشية الإملاق، ولم يبق لكم على أمير المؤمنين إلا أن يسير فيكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ويعمل بما يسعد به من يحيا «2» أطال الله بقاء أمير المؤمنين من بعده، ويزيد على من تقدم، ويقيم فروض الحج والجهاد، ويقيم الرعايا بعدله الشامل في مهاد أمير المؤمنين، يقيم على عادة آبائه موسم الحج في كل عام، ويشمل ببره سكان الحرمين الشريفين، وسدنة بيت الله الحرام، ويجهز السبيل على ضاله، ويرجو أن يعود على حاله الأول في سالف الأيام، وتتدفق في هذين المسجدين «3» بحره الزاخر، ويرسل إلى ثالثهما في البيت المقدس ساكب الغمام ويقيم بعدله «4» قبور الأنبياء، صلوات الله عليهم أين ما كانوا، وأكثرهم في الشام، والجمع والجماعات هي فيكم على

قديم سننها، وقويم سننها، وستزيد في أيام أمير المؤمنين لمن يضمّ إليه، وفيما يتسلم من بلاد الكفار، ويسلم منهم على يديه. وأما الجهاد فكفى باجتهاد القائم عن [ص 213] أمير المؤمنين بمأموره، المقلد عنه جميع ما وراء سريره، وأمير المؤمنين قد وكّل منه- خلد الله ملكه وسلطانه- عينا لا تنام، وقلد سيفا لو أغفت بوارقه ليلة واحدة عن الأعداء سلت خياله عليهم الأحلام، فإنه حقه، وسيؤكد أمير المؤمنين في ارتجاع ما غلب عليه العدى، وانتزاع ما بأيديهم من بلاد الإسلام، فإنه حقه، وإن طال عليه المدى، وقد قدم الوصية بأن يوالي غزو العدو المخذول برا وبحرا ولا يكف عمن ظفر به منهم قتلا وأسرا، ولا يفك أغلالا ولا إصرا، ولا ينفك يرسل عليهم في البر من الخيل عقبانا، وفي البحر غربانا، يحمل كل منهما من كل فارس صقرا، ويحمي الممالك ممن يتخوف أطرافها بإقدام، ويتجول أكنافها بأقدام، وينظر في مصالح القلاع والحصون والثغور، وما يحتاج إليه من آلات القتال، ويحتاج به الأعداء، وتعجز حيلة المحتال، وأمهات الممالك التي هي مرابط البنود، ومرابض الأسود والأمراء والعساكر والجنود، وترتيبهم في الميمنة والميسرة والجناح الممدود، وتفقد أحوالهم بالعرض، بما لهم من خيل تعقد ما بين السماء والأرض، وما لهم من زرد موصوف، وبيض مسها ذائب ذهب، فكانت كأنها بيض مكنون، وسيوف قواضب، ورماح بسيب دوامها من الدماء خواضب، وسهام تواصل القسي وتفارقها، فتحنّ حنين مفارق، وتزمجر القوس زمجرة مغاضب. وهذه جملة أراد أمير المؤمنين بها إطابة قلوبكم، وإطالة ذيل التطول على مطلوبكم، ودماؤكم وأموالكم وأعراضكم في حماية إلا ما أباح الشرع المطهر، ومزيد الإحسان إليكم، على مقدار ما يخفي منكم ويظهر، وأما جزئيات الأمور فقد علمتم بأن من بعد عن أمير المؤمنين غني عن مثل هذه الذكرى، ومنى حقا

لا تستغل بتطلب شىء نكرا، وفي ولاة الأمور، ورعاة الجمهور لمن هو سداد عمله، ومزاد أمله، ومراد من هو منكم معشر [ص 214] الرعايا، وأنتم على تفاوت مقاديركم عندهم وديعة أمير المؤمنين، ومن خوله، وأنتم وهم فما منكم من سيعرف أمير المؤمنين ويمشي في مراضي الله على خلقه، وينظر ما هو عليه، ويسير سيرته المثلى في طاعة ولي خلقه، وكلكم سواء في الحق عند أمير المؤمنين، وله «1» عليكم أداء النصيحة وإبداء الطاعة بسريرة صحيحة، فقد دخل كل منكم في كنف أمير المؤمنين وتحت رقّه، ولزمه حكم بيعته، والتزم طائره في عنقه، وسيعمل كل منكم في الوفاء بما أصبح به عليما، ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا [عظيما] . هذا قول أمير المؤمنين، وقال: وهو يعمل في ذلك كله بما تحمد عاقبته من الأعمال، وتحمل منه ما يصلح له به المال، وعلى هذا عهد إليه وبه يعهد، وما سوى هذا فجور لا يشهد به عليه ولا يشهد، وأمير المؤمنين يستغفر الله على كل حال، ويستعيذ به من الإهمال، ويسأل أن يمده لما يحب من الآمال، ولا يمد له حبل الإمهال، ويختم أمير المؤمنين قوله بما أمر الله به من العدل والإحسان، والحمد لله، وهو من الخلق أحمد، وقد آتاه الله ملك سليمان، والله ممتع أمير المؤمنين بما وهبه، ويملكه أقطار الأرض، ويورثه بعد العمر الطويل عقبه، فلا يزال على سدّة العلياء قعوده، ولدست الخلافة به أبهة الجلالة، كأنه ما مات منصوره، ولا أودى مهديه، ولا ذهب رشيده...... «2» . [ص 215] أدام الله أيام الديوان العزيز المولوي السيدي النبوي الإمامي الحاكمي، ونصر به جمع الأيمان، وبشر به بأيامه الزمان، ومتعه بالملك السليماني الذي لا ينبغي لأحد من بعده،

بما ورثه من سليمان، ولا زال يخضع لمقامه كل جليل، ويعرف لأيامه كل وجه جميل، ويعترف بشرفه كل معترف بالتفضيل، ويشهد بنفاذ أوامره من ذي نسبه الشريف كل أخ وخليل، ولا كان إلا كرمه المأمول، ودعاؤه المقبول، وعدوه المصروع، ووليه المحمول، ولا برحت طاعته يعقد عليها كل جمع، ومراسمه ينصت إليها كل سمع، وطوائف الذين كذبوا لا يتلى عليهم آياته، إلا تولوا وأعينهم تفيض من الدمع..... «1» المماليك يقبلون الأرض بالأبواب الشريفة، التي هي خطة شرفهم، ومكان تعبد القدماء منهم ومن سلفهم، ويلوذون بذلك المقام، ويعودون بذلك الحزم الذي لا يبعد نسبه من البيت الحرام، ويؤملون ذلك الكرم الذي ما منهم إلا من سعد به طائره، وجاءته به في وجه الصباح أشايره، وفي وجه العشاء بشائره، فنالوا به أقصى المرام، وقضوا به من العمر ما إذا قالوا يا سعد لا يعنون إلا تلك الأيام، وينتهون إلى ما ورد به المرسوم الشريف الذي ما من المماليك إلا من ثبت لديه تقديم عبوديته ورقه، وسارع إلى طائره الميمون وحمله بسيفه، فتح له عينه، وظن أنه حاكم، وامتثلوا أمره، وكيف لا تهتبل الرماة أمر الحاكم، لا سيما ابن عم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الإمام الحاكم، وأجلوه عن رفعه على العين، إذ كانت تلك منزلة الحاجب، وقدموا إليه خوافق قلوبهم الطائرة، وما علموا إن كانوا قاموا بالواجب، ووقفوا على أحكام حاكمه، فما شكوا أن زمان هذا الفتى بحياة ناصره في بغداد قد عادوا مثاله الممثل في سواد الحدق، مما حملته أيامه العباسية من شعار السواد، وعلموا ما رسم به في معنى محمد بن الحمص الذي [ص 215] ما نورت الليلة الظلماء أكاريخه، ولا بعدت في الإقعاد له تواريخه، بل أخمدت دموع ندمه نيرانه المشعلة، وأصبح به لا يحمل القوس في يده، إلا على أنه مشعلة، وما كان أنهاه

بالديوان العزيز ما لم يذكر الخواطر الشريفة بأنه فيه المقتدري، وأنه صاحب القوس إلا أنه ماله سعادة المشتري، وأنه موه تمويه الجاحد، وتلون مثل قوس قزح، وإلا فقوس البندق قوس واحد، وأدلى بغروره وعرض المحضر الذي حمله على تغريره، وذلك في غيبة الأمير بهاء الدين أرسلان البندقدار الحاكمي، الذي لو كان حاضرا لكان نبّأ بخبره وأحسن بالإعلام بسوء محضره، وتحيل لأخذ الخط الشريف الذي لو عقل لكان حجة عليه، ومؤكد الأبطال رميه وقوسه وبندقه في يديه، لما تضمّنه الخط الشريف المقيد اللفظ بعد الاسوله «1» المكتتب على المصطلح الساحب ذيل فخاره على المقترح، الذي هدي إلى الخير، وبدا به ما وهب من الملك السليماني الذي أوتى من كل شىء، وعلم منطق الطير، فإنه لم يلبث إلا بأن يرمى على الوجه المرضي، واستبقى شروط البندق، والخروج من جميع الأشكال، عملا بقواعده، وهذا الذي كتب له يكتب ويستمر قعوده، ويبكت ويعلم به أنه ما رعي حق قدمته، ولا فعل في الباب العزيز ما يجب من التحلي بشعار الصدق في خدمته، وأنه خالف عادة الأدب، وأخطأ في الكل لكنه ندب، وذلك بعد أن عمل جمع برماة البندق، وسئل فأجاب بأنه سالم من كل إشكال يشكل، وأنه بعد أن أقعد رمى، وحمل وحمل فشهد عليه السادة الأمراء ولاة العهد إخوة أمير المؤمنين، ومن حضر وكتبوا خطوطهم في المحضر، وما حصل الآن عند عرض قصة المماليك بالمواقف المقدسة، ووضوح قضيته المدنسة من التعجب من اعتراف المماليك، لكونهم زموا معه بعد أن رأوا الخط الشريف، وهو لفظ مفيد، وأمر أيد فيه رأي الإمام الحاكم بأمر الله، المسترشد بالله والمؤيد، وكل ما أمر به أمير المؤمنين لا معدل عن صرفه، ولا جدال إلا به، إذا ألزم كل [ص 217] أحد طائره في عنقه، وأمر أمير المؤمنين بحر لا مدد إلا

من علمه، وهو الحاكم، ولا راد لحكمه، وإنما ابن الحمص المذكور عدم السداد، وخالف جاري العادة، فإنه الذي سلق في الافتراء بألسنة حداد، ولم يوقف المماليك من الخط الشريف إلا على بعضه، ولا رآهم من برقه المهلك غير ومضه، والذي أوقفهم عليه من أن يرمي محمد الحمص، ويرمى معه، وكلمة أمير المؤمنين مسمعة، ومن اسمه متبعة، وإذا تقدم كان كل الناس تبعه، غير أن المذكور بدت منه أمور قطع بها الأمير صارم الدين صارجا الحاكم في البندق، كان في حقه، وأقعده عن قدمته التي كان يمت فيها بسيفه، وانتقل عنه غلمانه، وثقل عنه زمانه، ونودي عليه في جمع كبير يزيد على تسعين قوسا، وخرج بخطإ بندقه جرحا لا يوسى، ثم بعد مدة سنين توسل لولد الأمير المرحوم سيف الدين تنكز إلى أبيه، وتوصل به إلى مراميه، فأمر بأن يرمى معه، وهدد المخالف بالضرب ولم يرم معه أحد برضاه، إلا خوفا أن توقد عليه نار الحرب، فلما مضت تلك الأيام وانقضت تلك الأحلام، جمع مملوك الأبواب العالية الأمير علاء الدين أبي الأبوبكري الحاكم الآن في البندق من رماة البندق جمعا كثيرا، واهتم به اهتماما كبيرا، وذكر أمر المذكور، وأحضر محضره المسطور، فلم يكن عليه تعويل، ولا في حكم الحاكم المتقدم تعليل، ولا عند هذا الحاكم الذي ادعى له، وادعى عنده بحور الأباطيل، وتحقق أن الحق فيما حكم به عليه فسمع، وترجح أن لا يقام معه من أقعد، ولا يوصل ما قطع، فنفذ حكم الحاكم المتقدم واستمر بقعوده المتحتم، ووافقه على هذا سائر الرماة بالبلاد الشامية وحكامها، ومن يرجع إليه في الرماية وأحكامها، وبطلت قدمة المذكور التي ذهب فيها عمره ضائعا، وزمانه الذي لو اشتريت منه ساعة بالعمر لم يكن بائعا، ولما ورد الآن هذا المرسوم الشريف، زاده الله شرفا، قبلوا الأرض لديه، وأوقفوا عليه حاكمهم المسمى، فوقف له وعليه، وجمع له [ص 218] جمعا لم يدع فيه من الرماة

معتبرا، ولا من يلقم القوس وترا، ولا من إذا فقد كالعين جرى ما جرى، ثم قرأ عليهم ما تضمن، ودعوا لأمير المؤمنين ولم يبق منهم إلا من دعا أو أمّن، وتضاعف سرورهم بحكمه الذي دفع الخلل، وقطع الجدل، وقالوا لا عدمنا أيام هذا الحاكم الذي أنصف، والإمام الذي عدل، وبقي ابن الحمص مثلة، ونودي عليه أنه من رمى معه كان متخطيا مثله، ووقرت هذه المناداة في كل مسمع، وقرت استقرارا انفصل عليه المجمع، وذلك بما فهم من أمير المؤمنين، ونص كتابه المبين، وبما قضى الله به على لسان خليفته الحاكم، والله أحكم الحاكمين، وطالعوا بها، وأنهوا صورة الحال، ووجهوا في إمضائه الآمال، لا زالت سعادة أمير المؤمنين منزهة عن الشبه، آخذة من خير الدارين كل اثنين في وجه، تحصل كل رمية عن كثب، ولا يرى في كل أمنية إلا كل مصطحب، ما عبّ في السماء المرزم، ووقع العقاب على ثنية، يقرع سنه ويتندم، وعلا السن الطائف، والواقع على آثاره، وسائر طيور النجوم الحوّم..... «1» [ص 219] ، يقبل اليد الشريفة، لا زال اعتناؤها أحد النجاحين، وأحد السلاحين، وأقوى القوادم، إذا جنى الحين حص «2» الجناحين، وتقدم شكرا يعجله لما يؤمله من نواله قبل سؤاله، ويرجوه بإمامه بجاهه، أو بما له بسبب ناصر الدين محمد بن الحمص أحد قدماء البندق، فقد علم ما جرى له مع رفاقه وكساده عندهم بعد نفاقه، وأنهم نتفوا ريشه، ثم عادوا عليه ورشقوه، وأوقدوا له النار، ثم جابوا الحمص الحزين وسلقوه، ثم إنهم لما سلقوه، أكلوه بألسنتهم الحداد، وطحنوه بسواعدهم الشداد، وهو المعتر الآن بينهم في غاية الإضامة، وقد تنقّلوا بعرضه وجعلوه قضامة، وما تكلم في الجمع الذي جمع له، حاشا مولانا الا فشّروه، وقالوا نحن

أخبر بك يا حمص، ثم إنهم قشّروه، وعملوا معه عمل رماة البندق، حتى رموه في وسط الموجلة، وقرعوا من كل أحد وخلّوه لهم مشغلة، وما رئي من الريحة الحمص إلا الصارخ، ولا عرفوا قدره إلا بالكسرة فحصّلوا القدرة، وقدموا النافخ، وقد مضى عليه زمان وهو كبير الجماعة وجائل القدر بينهم، قبل أن يأكلوا الحمص بينهم هذا الأكل من المجاعة، وما فطن لهم، وقد حطبوا عليه هذا التحطيب فرّط، وأوقدوا جمرته وغطوا عليه القضية حتى طخوا «1» قدرته، وصادفوا كل الطير بمعاداته، واستراحوا من الملق بابطال عاداته، وقد زمن المسكين من طول القعود، وندس لما لم يخرج إلى البرزات في الربيع، وقد دب الماء في العود، وقد قتله طول الاختشاء، وذهب عمره وما سرّ له قلب في وجه صباح، ولا وجه عشاء، وكلما أراد أن ينطق، قيل له اسكت لا تتكلم، واستمرّ قاعدا مكانك لا تتقدم، والمذكور له منذ طار بجناح المولى نجاح، وقد أصيب وله سوابق، فيحمل بالسبق وبالجناح، وقد آن لهذا الزّمن المقعد أن يقف على قدمه، ولهذا الطير المذبوح بلا سكين أن يسكن مما يتخبط في دمه، وسيقف مولانا على ما يرد من الجواب، وما فيه وارد، ويرى كيف [ص 220] تجمعت الرماة عليه ورموه عن قوس واحد «2» ، ويعوزه عناية تمد لها هذه الطيور أعناقها، وتعجل له من أحواله المسترقة أعناقها، وذلك بجمع يجمع بالديار المصرية، بحضرة الإمامة، ومكان لا يغمّ على أحد فيه إلا أوقات الهجير ظل الغمامة، فقد ضجر هذا الذاهب المهجر في حب البندق، مما يصبر ومما يؤجر، وقد يبس قوسه، وصار حطبة مما هو مفكوك ما يوتر، وهو مما لا ينقلب من غير مرامي البندق إلى أهله مسرورا، وممن يهون عليه إذا أخذ قوسه أن يفقد عينيه ويكون موتورا، وقد قنع من المملوك بالشفاعة، وبان يتلطخ بندقه بالدم ويقنع

بالشناعة، فقد شكا في هذه المدة لعدم الحمل كمندانه «1» وقعوده وقد برز إلى البر جماعة أخدانه، وهو الآن مما طحنوه مثل هشيم المحتضر، وقوسه قد التوى عنقه، لكن إلى صوب مولانا لما ينتظر، وفي الحديث: (استعينوا على كل صنعة بصالح أهلها) ، وهذا في صنعة البندق هو الصالح الفاسد، وله في كثرة رمي البندق ما لا تنكره الحاسة، وأعجب الأشياء أن اللحم بعده قد قل، ومع هذا الحمص كاسد، وعلى هذا فقد طالت على هذا الشيخ الصالح كما تقدم الخلوة، فقد نضج الحمص، وأما السلق الذي دقوا به قفاه، فبعد عليه غلوه، وقد مزقوا جلده أضعاف ما قدّ لعلائق جراوته من السيور، ودقّ دقا ناعما مثل القضامة «2» وجعل في معالف الطيور، ولا يرد المولى له الشفيع المشفع، ويخفف ما به، فكله حتى عين قوسه بكاء ما يجف لها مدمع.

وهذه الدولة الأموية

وهذه الدولة الأموية وانساق فيها ذكر ابن الزبير، لأن أيامه تخللتها وشغلتها مدة ما أخلتها، وأتينا بهذه الدولة الأموية مؤخرة هنا، وهي مقدمة [ص 221] في الزمان على حسب النسب، والكل من جوهر منه ما طفا، ومنه ما رسب. 97- دولة معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية «1» ، الأمية الأصغر بن عبد شمس بن عبد مناف، وزعم قوم أن لهم ألقابا مثل ألقاب بني العباس، يجري إلقاؤها بينهم على القياس، وهذا لمن كان منهم بدمشق، ولا يدعي في هذا قول حق، فأما من كان منهم في الأندلس، فإنهم تعرفوا بعواري أعلامها، وتشرفوا بطوارق أحلامها، ونحن لا نذكر معهم أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه، إذ لم يكن لذكره هنا معنى، ولا مع الخلفاء الراشدين مجنى، وإنما نذكر دولة بني حرب

ومروان من لدن معاوية إلى آخر أوان. كان معاوية صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكاتب الوحي منذ أسلم، ثم كانت له منزلة قريبة وصلة بأم حبيبة، أسلم يوم فتح مكة، وفتّ في مهاب الكفر شركه، وكان يقول إنه أسلم من قبل، وإنما كان يكتم إسلامه ويظهر لأبيه مطاوعته واستسلامه، وإنما هي دعوى الله أعلم بغيبها، وأحكم بما فيها جلاء ريبها، وإنما إجماع المحدثين والقديمين والمحدّثين على أنه هو وأبوه وأخوه وذووه من مسلمة الفتح قولا ثبتا، وقطعا بتا، طلقاء الفتح، وعتقاء الصفح، أخذ العباس رضي الله عنه لأبي سفيان الأمان، وأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقبل إسلامه على ما كان، وكرّمه بأمور منها أنه كل من دخل دار أبي سفيان على ما تقدم من السيرة، ثم كانت إلى الله السريرة، فأما الظاهر فإنهم من المؤلفة قلوبهم، والمؤلّبة على أول الإسلام وآخره حروبهم، وكان معاوية رضي الله عنه كثير السؤدد لا يخف كالجبل القردد «1» بحر لا يدرك قراره، وطود لا يدهك «2» وقاره، وفحل لا يرد نفاره [ص 222] ، ومنصل لا يحد غراره، طبع الحلم فيه غريزة، ووضع السداد فيه نحيزة «3» ، ولم يكن أوسع منه بطانا ولا أمنع منه سلطانا، لا يؤثر ذنب في غزير حلمه، ولا يؤاخذ مسيئا بكبير جرمه، لو أن أمله في النجم لبلغه، أو في اليم لسوغه، بحيل أصيد من الفخاخ، وأجول في الفضاء من الرخاخ «4» ، بتلطف لو أراد لتشرب في مسام الزجاج، وعذب به مذاق البحر الأجاج، أمّره أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه

بعد أخيه يزيد، وقرره على الشام كما يريد، فقرت بها قرارته، وأقمرت فيها دارته، وتحبّب إلى أهلها حتى كأنه بينهم ربي، أو لهم خبي، لتألفه لأهوائهم، وتعرفه لأدوائهم، بما دخل به على قلوبهم، لسد خلل مطلوبهم، فاستحمل طوياتهم، واستعبد نياتهم، حتى اتخذهم شيعة، وأنفذهم سهاما في كل وقيعة، واستمر حتى قتل أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه، فقام يطلب بدمه، ويبدي التغصص بندمه، وشهر بالبكاء دمعته، وشهر بالانتكاء سمعته، وقال: أنا ولي عثمان، لا أرجع بأربع ولا بثمان، لا أبيع دمي بالأثمان، ولا أتبع قدمي إلا المضرج بدمه ذلك الجمان، وذلك دين لم يقره أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه على الشام واليا، ولم يقله للإسلام كاليا. قال ابن عباس رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين، ولّه شهرا واعزله دهرا، فقال: (وما كنت متخذ المضلين عضدا) «1» ، وكذلك قد كان، قال له المغيرة «2» ، وهو أحد العرب دهاء، وأحق بحد لا يطرف عنه عينه التهاء، فأجابه بنحو فحوى ذلك الجواب، وكان سوى ما قصد الصواب، فلما رأى المغيرة أنه لا يقبل رأيه، تركه وصوب له رأيه وهو مهلكه، فأتاه ابن عباس والمغيرة قد خرج

من عنده وما حرج نار رأيه من زنده، فلما دخل عليه قال له: ما قال لك المغيرة وما أجبته؟ فلما قص عليه القصص، قال: ولم خالفته وقد [ص 223] نصحك والله أولا، وغشك ثانيا، وقرب له الرأي فلم يكن له مدانيا، فلما أتى كتاب عليّ معاوية ألقاه، وقبله صدر الحيل ولقاه، وأيّد بعمرو بن العاص رضي الله عنه، وأدرج طلب الخلافة في أمر القصاص، فنشاب تلك الحروب السجال، والحرور المتلفة لمهج الرجال، حتى كادت تأتي على الإسلام، وتحوي في حضانه السيوف من لم يبلغ الاحتلام، وبإجماع العلماء أن حزب الشام هم البغاة الناطق كتاب الله بحربهم المصيب عليّ رضي الله عنه في قتال حزبهم، ولا يعدّ أهل الحق لمعاوية خلافة، إلا منذ سلم إليه الحسن، فسلم من الفتن. وكانت أمه هند «1» بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس عند الفاكه بن المغيرة المخزومي، وكان له بيت للأضياف يغشاه الناس فيه بغير إذنه، فقعد فيه يوما ومعه هند، ثم خرج عنها وتركها به نائمة، فجاء بعض من كان يغشى البيت فدخل عليها، وخرج فجاء الفاكه ونبهها وقال لها: من هذا الذي خرج من عندك؟ قالت له ما انتبهت حتى نبهتني، فقال لها: الحقي بأهلك، فخاض الناس في أمرهم، فقال لها أبوها: أتبيني شأنك؟ فقالت: والله يا أبة إنه لكاذب، فخرج

به وهند معه ليحاكمه إلى بعض كهان اليمن، فلما قاربوه تغير وجه هند، فقال أبوها: ألا ذلك قبل أن يشتهر خروجنا في الناس، قالت: والله ما ذلك لمكروه قبلي، ولكنا نأتي بشرا يخطئ ويصيب، ولعله يسمني بميسم يبقى عليّ، قال: صدقت، وسأختبره، فأصفر لفرسه فأدلى، فعمد إلى حبّة برّ فأدخلها في إحليل الفرس، ثم أوكأ «1» عليها، فلما نزلوا على الكاهن قال له: إنّا قد أتيناك في أمر وقد خبّأت لك شيئا أختبرك به، فما هو؟ قال: ثمرة في كمرة، قال: أبن «2» ما هذا؟ قال: حبة بر في إحليل مهر، قال: صدقت، فانظر في أمر هؤلاء النسوة، فجعل يمسح على رأس كل امرأة منهن ويقول: قومي لشأنك، حتى بلغ هندا [ص 223] مسح على رأسها وقال: قومي غير رشحاء ولا زانية، وستلدين ملكا اسمه معاوية، فلما خرجت أخذ الفاكه بيدها، فأزالت يدها من يده وقالت: والله لأحرصن أن يكون من غيرك، فتزوجها أبو سفيان فولدت له معاوية. وعن أبي السائب قال: كان رأس معاوية كبيرا، فقال أبو سفيان: والله ليسودنّ قريشا، فقالت هند: ثكلته إن لم يسد «3» العرب قاطبة، وحكي أن هندا لما فارقها الفاكه ورآها الكاهن اليمني، قالت لأبيها: إنك زوجتني ولم تؤامرني في نفسي، فعرض ما ترى، فلا تزوجني أبدا زوجا حتى تعرض عليّ خصاله، فخطبها بعد ذلك سهيل بن عمرو وأبو سفيان بن حرب، فدخل عليها أبوها فقال:

[الطويل] أتاك سهيل وابن حرب وفيهما ... رضى لك يا هند الهنود ومقنع فما منهما إلا كريم مرزّأ ... وما منهما إلا أغرّ سميدع فدونك فاختاري، فأنت بصيرة ... ولا تخدعي إن المخادع يخدع قالت: فسّر لي خصالهما، فبدأها بذكر سهيل، فقال: أما إحداهما ففي ثروة وسيطة من العشيرة، إن تابعته يأتيك، وإن ملت عنه حط إليك تحكمين عليه في ماله وأهله، وأما الآخر فموسع عليه، منظور إليه في الحسب الحسيب، والرأى الأريب، مدره أرومته، وغرّة عشيرته شديد الغيرة كثير النظرة، لا ينام عن ضبعه، ولا يرفع عصاه عن أهله، قالت: أما الأول، فسيد مصناع للحرة، فما عست أن تلين بعد إبائها، تابعها بعلها فأشرت، وخافها أهلها فأمنت، فساءت عند ذلك وقبح هناك دلالها، فإن جاءت بولد من هذا أجمعت، وإن نجبت فعن خطأ ما أنجبت، فاطو ذكر هذا عنّي، وأما الآخر فبعل الفتاة الخريدة الحرة العفيفة، وإني التي لا تريب له عشيرة فتغيره، ولا يصيبه مذعر فيضيره، فزوجنيه، فزوجها من أبي سفيان، ويقال إنه أهديت [ص 225] للكعبة جزر من أحد ملوك الهند، وقال: لا ينحرها إلا أعز من بمكة، فقالت له هند وهو في سابعها، اخرج لئلا يسبقك أحد إلى هذه الكرامة، فقال لها: دعيني وشأني، والله لا ينحرها أحد إلا نحرته، فربطت الجزر بفناء الكعبة حتى خرج أبو سفيان من سابعه فنحرها. وأما ما كان بين عليّ ومعاوية رضي الله عنهما، فلا حاجة لنا إلى ذكره لشهرته، إلا أن الإجماع على أن عليا رضي الله عنه، قاتل الفئة الباغية حزب معاوية، ولما استثبت له الأمر، دخل عليه سعد بن أبي وقاص «1» رضي الله عنه،

فقال: السلام عليك أيها الملك، فضحك معاوية وقال: ما كان عليك يا أبا إسحاق رحمك الله، لو قلت يا أمير المؤمنين، فقال: أتقولها جذلان ضاحكا، والله ما أحب أني وليتها بما وليتها به. وقال معاوية: لو وزنت بالدنيا لرجحت بها، ولكني وزنت بالآخرة فرجحت بي، ويقال إنه [أول] من حول الخلافة ملكا، وأول من ترك حدا من حدود الله، ترك رجلا وجب عليه القطع، وأما بعد غوره، فقد حكي أنه قال لعمرو بن العاص «1» : أينا أدهى، قال: أما في البديهة فأنا، وأما في الأناة فأنت، قال معاوية: اصغ لي أسارك بشىء، فأدنى رأسه، وكانا خلوين يتساران، فقال له معاوية غلبتك. أيها الداهية، هل هاهنا أحد أسارّك دونه، وقال له يوما: ما بلغ

من دهائك؟ فقال: لم أدخل في أمر إلا خرجت منه، قال معاوية: لكني لم أدخل في أمر فاحتجت إلى طلب الخروج منه، وحكي أنه أسر رجل من قريش فحمل إلى صاحب القسطنطينية، فكلمه ملك الروم، فأجابه بجواب لم يوافقه، فقام إليه رجل من بطارقته فوكزه، فقال القرشي: وا معاويتاه فقد أعقلت أمورنا وأضعتنا، فأتاه الخبر، فطوى عليه، حتى احتال في فدائه، فلما وصل سأله عن اسم البطريق، فلما عرفه أرسله إلى رجل من قواد صور، وكان من قواد البحر المشاهير بالنجدة والبأس، وقال له: أنشئ مركبا يكون له مجاذيف [ص 226] في جوفه وسافر إلى بلاد الروم، على أنك سافرت مستترا منا، وتوصل بملك الروم ومكّنه، واحمل الهدايا إلى جميع أصحابه، ولا تعرض لفلان، يعني الذي لطم القرشي، واعمل كأنك لا تعرفه، فإذا كلمك وقال لك: لأي معنى تهادي أصحابي وتتركني، اعتذر إليه وقل له، أنا رجل أدخل إلى هذه المواضع متسترا ولا أعرف إلا من عرفت به، فلو عرفت بك لهاديتك كما هاديت أصحابك، ولكني إذا انصرفت إليكم مرة أخرى سأعرف حقك، فلما انصرف إليهم ثانية هاداه وألطفه، وأربى في هديته على أصحابه، حتى اطمأن إليه البطريق، ثم قال له: كنت أحب أن تجلب إليّ من بلاد المسلمين بساط ديباج يكون على ألوان الزهر، فقال له: نعم، ثم رجع إلى معاوية فأخبره بما طلب، فأمر أن يشترى له بساط على ما وصف له، وقال له: إذا دخلت وادي القسطنطينية أخرج البساط وابسطه على ظهر المركب، وتربص حتى يصل إليه الخبر، لعله يحمله الشره على الدخول إليك، فاذا حصل عندك، عرّفت رجالك بالإمارة ليخرجوا المجاذيف المخبأة وتكر به راجعا إلى بلاد الإسلام، ففعل ما أمره به، فلما بسط ذلك البساط على مركبه، وأتى البطريق الخبر، فحمله الحرص والنشاط إلى أن دخل إليه، فلما حصل في المركب أظهر الإمارة التي كانت بينه وبين رجاله، وكرّ به راجعا إلى بلاد الإسلام، حتى وصل به إلى معاوية، فأحضر معاوية القرشي، وقال له: هذا

صاحبك؟ قال: نعم، قال: فقم فاصنع به مثل ما صنع بك ولا تزد، فقام القرشي فوكزه كما كان فعل به العلج، ثم قال معاوية للعلج: ارجع إلى ملكك وقل له: تركت ملك الإسلام يقتص ممن حولك، ثم قال للذي أتى به انصرف به إلى أول أرض الروم واتركه واترك له البساط، وكل ما سألك أن تحمله إليه من هدية، فانصرف به إلى فم وادي القسطنطينية فوجد ملك الروم قد صنع [ص 227] سلسلة على فم الوادي، ووكل بها الرجال، فلا يدخل أحد الوادي إلا بإذنه، فأخرج به العلج وكل من كان معه ومن معه، فلما وصل إلى ملكه وصف له ما صنع به معاوية، قال: هذا ملك كثير الحيلة، فعظم معاوية في أعينهم، وفي نفوسهم، فوق ما كان. ومن حيله التي انعكست عليه أمر زينب بنت إسحاق زوج عبد الله بن سلام القرشي، وكان واليا على العراق لمعاوية، وكانت زينب مثلا في نساء زمانها، جمالا ومالا وشرفا وأدبا، وكان يزيد بن معاوية قد سمع بما هي عليه، ففتن بها، فلما عيل صبره فاستراح بالحديث إلى بعض خصيان أبيه، وكان ذلك الخصي خاصا بمعاوية، فذكر له ذلك، فبعث معاوية إلى يزيد، فسأله، فبث له حاله، فقال: مهلا يا يزيد، فقال: أتأمرني بالمهل وقد عيل الصبر، فقال: اكتم يا بني أمرك، فإن البوح به غير نافعك، والله بالغ أمره فيك، ثم أخذ معاوية في الحيلة ليزيد، فكتب إلى عبد الله بن سلام أن أقبل حين تنظر كتابي هذا لأمر فيه حظك، فلما قدم عليه ابن سلام، أمر معاوية أن ينزل منزلا قد هيأه له، وأعد فيه نزله، ثم قال لأبي هريرة وأبي الدرداء، وكانا يومئذ عنده: إن الله قد قسم بين عباده نعما أوجب عليهم فيها شكرها، وحتم عليهم حفظها، فحباني منها بأتم الشرف ليبلوني، أشكر أم أكفر، وأول ما ينبغي للمرء أن ينفّذه أمر من لا غناء به عنه، وقد بلغت لي ابنة أريد إنكاحها، وقد رضيت لها عبد الله بن سلام القرشي، لشرفه ودينه وفضله، ثم قال لهما، ألا فاذكرا ذلك له، وكنت قد

جعلت لها في نفسها شورى، غير أني أرجو أن لا تخرج من رأيي، فأتيا ابن سلام، فذكرا ذلك له، ثم دخل على ابنته فقال لها: إذا دخل إليك أبو هريرة وأبو الدرداء، فعرضا عليك أمر ابن سلام، قولي لهما: عبد الله كفء كريم، وقريب حميم، غير أن تحته زينب [ص 227] بنت إسحاق، وأنا خائفة أن يعرض لي من الغيرة ما يعرض للنساء، فأتناول منه ما يسخط الله فيه، ولست بفاعلة حتى يفارقها، فلما ذكرا ذلك لابن سلام قال لهما: حبذا ذلك، ومن لي به، فجاءا معاوية فذكرا له ما قال، [قال] : فدخلا إليها فاستأمراها، فلما دخلا إليها، قالت لهما ذلك القول، فقال: اذهبا فأعلماه، فلما أتياه فأعلماه، ظن أنه لا يمنعها منه إلا فراق زينب، أشهدهما بطلاقها وبعث بهما إليه خاطبين، فلما أتياه أظهر الكرامة لفعله، وقال: ما كنت لأستحسن له طلاق امرأته، فانصرفا إلى غد ثم استأذناها، ثم كتب إلى ابنه يزيد بالخبر، ثم شرع في مطل ابن سلام والأخذ به من يوم إلى يوم، ثم أبت بنت معاوية إلا المنع، فعلم أنه إنما خدع، فقال: ليس لأمر الله راد، ولا لما لابد منه صاد، فإن المرء وإن كمل له حلمه، واجتمع له عقله، واستد «1» رأيه ليس بدافع عن نفسه قدرا برأي ولا كيد، ولعل ما سولوا به، واستجدلوا به «2» ، لا تدوم لهم سروره، ولا يصرف عنهم محذوره، فلما انقضت أقراؤها، وجه معاوية أبا الدرداء «3» إلى العراق خاطبا

لزينب على ابنه يزيد، خرج حتى قدمها، وبها يومئذ الحسن بن علي رضي الله عنهما، فبدأ أبو الدرداء بزيارته، فلما رآه قام إليه وصافحه إجلالا لصحبته، ثم قال له: ما أتى بك يا أبا الدرداء؟ قال: وجهني معاوية خاطبا على ابنه يزيد، زينب بنت إسحاق، فقال له الحسن، لقد كنت أريد نكاحها، وما أخرته إلا لينقضي إقراؤها، فاخطب رحمك الله عليّ وعليه، وابذل لها من المهر مثل ما بذل لها معاوية عن ابنه، فقال: أفعل، فلما دخل عليها أعلمها بما كان، فقالت: يا أبا الدرداء، لو أن هذا الأمر جاءني وأنت غائب، لأشخصت فيه الرسل إليك واتبعت فيه رأيك ولم أقطعه دونك، فأما إذا كنت أنت المرسل، فقد فوضت أمري بعد الله إليك، وجعلته في يديك، فاختر لي أرضاهما لديك، والله شاهد عليك، فاقض في قصدي بالتحري ولا يصدّنّك اتباع هوى، فليس أمرهما عليك خفيا، ولا أنت عما طوقتك [ص 229] غنيّا، فقال أبو الدرداء: أيتها المرأة، إنما عليّ إعلامك، وعليك الاختيار لنفسك، قالت: عفا الله عنك، إنما أنا ابنة أخيك، ولا غنى لي عنك فلا يمنعك رهبة أحد من قول الحق فيما طوقتك، فقد وجب عليك أداء الأمانة فيما حملتك، والله خير من روعي وخيف، إنه بنا خبير لطيف، فلما لم يجد بدّا من القول قال: أي بنية، ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إليّ، والله أعلم بخيرهما لك، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واضعا شفتيه على شفتي حسن، فضعي شفتيك حيث وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم شفتيه، قالت: قد اخترته، فتزوجها الحسن عليه السلام، وساق لها مهرا عظيما، وبلغ معاوية ما فعل أبو الدرداء فتعاظمه جدا، ولامه شديدا، وقال: من يرسل ذا بله وعمى ركب خلاف ما يهوى، وكان عبد الله بن سلام قد استودعها مالا قبل شخوصه إلى الشام، مالا عظيما، فلما طال مكث ابن سلام بدمشق، جفاه معاوية لقوله فيه إنه خدعه، فشخص إلى العراق، وهو لا يظن إلا جحودها الوديعة لطلاقه لها من

غير ما سبب، وبقي لا يعرف ما يصنع، فأتى الحسن رضي الله عنه، فأخبره بخبر الوديعة ليقول لها، فلما أتاها قال لها إن ابن سلام أتاني فذكر لي أنه كان استودعك مالا فأد إليه أمانته، فإنه لم يقل إلا صدقا، ولم يطلب إلا حقا، قالت: لعمري لقد صدق، ولقد أودعني مالا لا أدري ما هو، فادفعه إليه بطابعه، فأثنى عليها الحسن خيرا، ثم قال لها: ألا أدخله عليك حتى تبرئي إليه منه كما دفعه إليك، ثم لقي عبد الله وقال له ما قالت، فادخل عليها وتوفّ مالك منها، ثم أخذه ودخل به عليها، فأخرجت إليه المال، فشكر وأثنى، ثم أعطاها بعضه وقال: خذي فهذا مني، فبكيا حتى علت أصواتهما بالبكاء أسفا على ما ابتليا به من الفراق، فرقّ الحسن لهما ثم قال: اللهم [ص 230] أنت تعلم أني لم استنكحها رغبة في مالها، ولا جمالها، ولكن أردت إحلالها لبعلها، وأنا أشهدك أنها طالق ثلاثا، فشكراه، فسألته زينب أن تعيد إليه ما كان ساق إليها، فأبى، فلما انقضى إقراؤها تزوجها ابن سلام، ثم بقيا زوجين متصافيين إلى أن فرّق الموت بينهما، وحرمها الله يزيد بن معاوية. وكان معاوية يقول: لا أضع سيفي حين يكفيني سوطي، فإذا لم أجد بدا من السيف ركبته، ومما روي من حلمه أنه كلّم الأحنف «1» يوما كلاما عاتبه

فيه، فقال له الأحنف: مهلا يا أمير المؤمنين، فإن القلوب التي أبغضناك بها بين جنوبنا، وإن السيوف التي قاتلناك بها لفي عواتقنا، وإن الخيل التي طاردناك بها لعلى مرابطنا، وإن الرجال الذين دهمناك بهم لحول بيوتنا، فإياك وما يردها فتية، فقال: عذرا يا أبا بحر. وبعث معاوية إلى رجل من الأنصار بخمس مائة دينار فاستقلها، فأقسم على ابنه أن يأتي معاوية فيضرب بها وجهه، فانطلق حتى أتاه، فقال: ما جاء بك يا ابن أخي، قال: يا أمير المؤمنين، إن لأبي طرّة، وقد قال لي كيت وكيت وعزمة الشيخ على ما قد علمت، فوضع معاوية يده على وجهه، وقال: افعل ما أمرك به أبوك، وارفق بعمك، فرمى بالدنانير، وأمر معاوية للأنصاري بألف دينار، وبلغ الخبر يزيد، فدخل على معاوية مغضبا، فقال: لقد أفرطت في الحلم حتى خفت أن يعدّ ذلك منك ضعفا، فقال: أي بني، إنه لا يكون مع الحلم ندامة ولا مذمة. وذكر [أبو] عمرو بن العلاء أن جابر بن عبد الله الأنصاري، وفد على معاوية فاستأذن، فأبطأ عليه الأذن، ثم أذن له، قال له: ويلك يا معاوية، أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من حجب ذا حاجة وفاقة حجبه يوم حاجته وفاقته) ، فقال له معاوية: وأنت [أما] سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ستلقون بعدي يا معاشر الأنصار أثرة) ، فلم لا صبرت يا جابر [ص 231] ، فخرج جابر مغضبا، فركب ناقته يريد المدينة، فأقبل يزيد على أبيه وقلّ ما تكلم بخير، قال: بعيد الشقة أتى للزيارة أتاك فحجبته

وتجهمته، قال: لم أصبر عندما سمعت كلامه، قال: الحقه، فأعطه خمس مائة دينار، فلحقه يزيد، فقال له: إن أبي يقرأ عليك السلام ويقول لك: استعن بهذه على بعض سفرك، فقال له جابر، ارددها عليه وقل له: [الطويل] وإني لأختار الحياء على الغنى ... إذا اجتمعا والصبر بالبارد المحض وأنزع أثواب الغنى ولقد أرى ... مكان الغنى ألا أهين لها عرضي فجاء يزيد فأخبر أباه بشعره فقال: ارجع إليه فارددها عليه، وقل له: سأمنحكم عرضي ولو شئت مسكم ... قوارع تبري العظم من كلم مضّ ولا أحرم المعترّ إن جاء طالبا ... ولا البخل فعل من سمائي ولا أرضي فعاد يزيد فأخبر جابرا بشعر أبيه، فقال: ارددها عليه وقل له: ما كنت أرى يا بن آكلة الأكباد في صحيفتك حسنة أنا سببها. وبلغ معاوية أن يزيد ضرب غلاما له، فقال: يا بني كيف طوعت لك نفسك قتل من لا يستطيع امتناعا منك. ولما قدم عبد الرحمن بن حسان على معاوية، طال مقامه، فقال شعرا شبّب فيه بأخت معاوية، فغضب يزيد بن معاوية، فقال لمعاوية: يا أمير المؤمنين، اقتل عبد الرحمن بن حسان، قال: ولم يا بني؟ قال: لأنه شبّب بأختك، قال: وما قال، قال قال: [الخفيف] طال ليلي وبتّ كالمحزون ... ومللت الثواء في جيرون قال: وما علينا من طول ليله وحزنه أبعده الله، قال: إنه يقول: ولذاك اغتربت بالشام حتى ... ظنّ أهلي مرجمات الظنون قال: وما علينا من ظن أهله، قال: إنه يقول [ص 232]

وهي زهراء مثل لؤلؤة الغوّا ... ص ميزت من جوهر مكنون قال: صدق يا بني، وإنها لمن جوهر مكنون، قال: وإنه يقول: وإذا ما نسبتها لم تجدها ... في سناء من المكارم دون قال: بحمد الله هي كذلك، قال: إنه يقول: ثم خاصرتها إلى القبّة الخضرا ... ء تمشي في مرمر مسنون قال: ولا كل هذا، وضحك، وقال: ما قال أيضا، قال قال: فيه من مراجل ضربوها ... عند برد الشتاء في قيطون «1» عن يساري إذا دخلت من البا ... ب وإذا كنت خارجا عن يميني تجعل النّد والألوة والمس ... ك صلاء لها على الكانون وقباب قد أسرجت وبيوت ... يطيفوها [كذا] بالآس والزرجون قال: يا بني، لا يجب القتل في هذا، والعقوبة دون القتل تغريه فيزيد في قوله، ولكن نلقه بالتجاوز والصلة، فوصله وصرفه. وعن زيد بن عياض قال قال معاوية: الأرض لله، وأنا خليفة الله، فما أخذت فلي، وما تركته للناس فالفضل منّي، قال صعصعة بن صوحان: «2» بل أنت وأقصى الأمة سواء، ولكن من ملك استأثر، فغضب معاوية وقال:

لهممت بك، فقال صعصعة: ما كل من همّ فعل، قال: ومن يحول بيني وبينك، قال: الذي يحول بين المرء وقلبه، قال له: صدقت. ولم يعرض له. ودخل عليه أبو الأسود الدؤلي «1» ، فإنه ليحدثه إذ حبق، فقال: يا أمير المؤمنين، أنا عائذ بالله وبسترك، ثم خرج، ودخل عمرو بن العاص فحدثه، فبلغ أبا الأسود، فأتاه فقال: يا معاوية، إن الذي قد كان مني قد كان مثله منك ومن أبيك، ومن لم يؤمن على ضرطة لجدير أن لا يؤمن على أمر الأمة. وأتى معاوية رجل، فسأله بالرحم، فقال معاوية: ذكرتني رحما بعيدة [ص 233] ، فقال: يا أمير المؤمنين، إن الرحم شنّة إن بللتها ابتلّت، وإن تركتها تقصفت، ثم أخذ يغلظ القول، فقال له معاوية: دع عنك هذا وسل حاجتك، قال: مائة ناقة متبع، وألف شاة ربيّ، فأمر له بذلك. وعن عنبر القسيم قال معاوية: ما شىء أعجب إليّ من غيظ أتجرعه، أرجو بذلك ثواب الله عز وجل. وزوّج معاوية ابنته رملة من عمرو بن عثمان بن عفان، فسمعت مروان بن الحكم يقول له وقد عاده: إنما ولي معاوية الخلافة بذكر أبيك، فما يمنعك من النهوض لطلب حقك، فنحن أكثر من آل حرب عددا، فما أظهرت «2» أنها

تسمع، ومكثت إلى أن خرج عمرو بن عثمان حاجا، فاستأذنته في زيارة أبيها، فأذن لها، فأتته فقال لها: ما لك، أطلقك زوجك؟ قالت: الكلب أضنّ بشحمته، وحدثته حديث مروان واستكباره إلى آل أبي العاص، واستقلاله آل حرب، فكتب معاوية إلى مروان: [الطويل] أواضع رجل فوق رجل تعدّنا ... كعدّ الحصا ما إن نراك تكاثر وأمكم تزجي تؤاما لبعلها ... وأمّ أخيكم نزرة الولد عاقر ثم لم يحقدها عليه. ودخل أعرابي المسجد ومعاوية يخطب، فقال: أيها المتكلم اسكت أنشد جملي، فسكت معاوية، فقال الأعرابي: أيها الناس، أيها الناس، من دعا إلي جمل عليه قتب، فردد القول مرارا، فقال معاوية: أيها الأعرابي، حله حلية سوى القتب، فلعل القتب قد ضاع، ثم مضى في خطبته. ودخل على معاوية عدي بن حاتم «1» ، وعنده ابن الزبير، فقال ابن الزبير: إن عند هذا الأعور جوابا فأحركه؟ قال: نعم، فقال له: يا عدي، أين ذهبت عينك؟ قال: يوم ذهب أبوك هاربا، وضربت أنت على قفاك موليا، وأنا يومئذ مع الحق [ص 234] ، وأنت على الباطل.

وعن حبيب بن مسلمة الفهري قال: ركب معاوية وأنا معه، فبينا نحن نسير إذ طلع علينا رجل جميل الهيئة، فلم أره أكبر معاوية ولا اكترث له، وأكبره معاوية وأعظمه إعظاما شديدا، ثم قال: أجئت زائرا أم طالب حاجة، قال: لم آت لشىء من ذلك، ولكني جئت مجاهدا، وأرجع زاهدا، فمضى معاوية عنه، فقلت: من هذا يا أمير المؤمنين، قال: هذا عقبة بن عامر الجهمي، قلت: ما أدري ما أراد بقوله، خيرا أم شرا، قال: دعه، فلعمري إن كان أراد الشر إن الشر لعائد بالسوء على أهله، قلت: سبحان الله، ما ولدت قرشية أذل منك، فقال: يا حبيب أأحلم عنهم ويجتمعون خير، أم أجهل ويتفرقون، قلت: بل تحلم ويجتمعون، ثم قال: امض، قلما ولدت قرشية قرشيا له مثل قلبي، قلت: إني أخاف أن يكون ما تصنع ذلا، قال: وكيف وقد قاتلت عليا فصبرت على مناوأتهم وبغضهم. وعن سحيم بن حفص قال: كانت لعبد الله بن الزبير أرض إلى جانب أرض معاوية، فاقتتل غلمان معاوية وغلمان ابن الزبير، فكتب ابن الزبير إلى معاوية: أما بعد، فقد غلبتنا بحمرانك وسودانك، ولو قد التقت حلقتا البطان «1» ، فاستوت بنا وبك الأقدام، علمت أن حمرانك وسودانك لا يغنون عنك شيئا، فقرأ معاوية الكتاب ثم رمى به إلى ابنه يزيد فقال: ما عندك؟ قال: تبعث إليه من يقتله فتستريح من حمقه وعجبه، قال: يا بني، له بنون وعشيرة تمنعه إن بعثت بمائة رجل، أعطيت كل رجل ألفا، فبلغ ذلك مائة ألف، ولا أدري على من تكون الدائرة، فإن غلبوا بعثت ألفا وأعطيتهم ألف ألف، ولكنني أكتب إليه: من معاوية أمير المؤمنين إلى عبد الله بن الزبير، أما بعد، فقد جاءني

كتابك، تذكر أنّا غلبناك بحمراننا وسوداننا [ص 235] ، وأنه إن التقت حلقتا البطان واستوت بنا وبك الأقدام، علمت أن حمراننا وسوداننا لا يغنون عنا شيئا، وإني قد وهبتك ذلك المال بحمرانه وسودانه، فخذه خضرا نضرا، والسلام. فكتب إليه: لعبد الله معاوية أمير المؤمنين من عبد الله ابن الزبير، أما بعد، فقد غلبتنا بحلمك، وجدت لنا بمالك، فجزاك الله يا أمير المؤمنين خيرا، فلما أتى الكتاب معاوية قال ليزيد: يا بني، أهذا خير، أم ما أردت. وأنشد معاوية رجل شعرا قاله عبد الله بن همام السلولي: «1» [الوافر] حشينا الغيظ حتى لو سقينا ... دماء بني أمية ما روينا لقد ضاعت رعيتكم وأنتم ... تصيدون الأرانب غافلينا فقال: ما ترك ابن همام شيئا، وذكر أنه لو شرب دماءنا ما اشتفى، اللهم اكفناه. وعن المدائني قال، قال معاوية: إني لأرفع نفسي عن أن يكون ذنب أعظم من عفوي، وجهل أكبر من حلمي، وعورة لا أواريها بستري، وإساءة لا تمحوها حسناتي. وكان يقول: لو أن بيني وبين الناس شعرة لما انقطعت، قيل له كيف؟ قال: إن جبذوها أرسلتها، وإن خلوها جذبتها.

ومما يؤثر عنه أنه قال لابنه يزيد: اتخذ المعروف عند ذوي الأحساب، لتستميل به مودتهم، وتعظم به في أعينهم، ويكف به عنك عاديتهم، وإياك والمنع فإنه مفسدة للمروءة، وإزراء بالشرف. ونظر معاوية إلى الهجار العدوي في عباءة فازدراه، فقال: يا أمير المؤمنين، إن العباءة لا تكلمك، وإنما يكلمك من فيها. وقال يوما: أعنت على عليّ بكتمان سري، وفشي أسراره، وبطاعة أهل الشام لي، ومعصية أصحابه له، وبذلي المال، وإمساكه إياه. وكان معاوية أكولا نهما، وهو أول من نوّع في [ص 236] هذه الأمة المطاعم. وحج معاوية، فلما كان بالأبواء «1» ، خرج يستقري مياه كنانة، حتى إذا صار إلى عجوز، فقال لها: من أنت، فقالت: من الذين يقول فيهم الشاعر: [الطويل] هم منعوا جيش الأحابيش عنوة ... وهم نهنهوا عنهم غزاة بني بكر فقال لها معاوية: فإذن أنت دؤلية، قالت: فإني دؤلية، قال: أعندك قرى؟ قالت: عندي خبز خمير، وحيس «2» كثير، ولبن حزير «3» ، وماء نمير، فأناخ وجعل يأخذ الفلذة من الخبز فيملؤها من الحيس فيغمسه في اللبن ثم يأكل، حتى إذا فرغ قال: حاجتك؟ قالت: حوائج الحي، فنودي فيهم فأتاه الأعراب فرفعوا حوائجهم فقضاها، وامتنعت العجوز أن تأخذ شيئا لنفسها،

وقالت: لا آخذ لقراي ثمنا. وكان معاوية يجوع في رمضان جوعا شديدا، فشكا ذلك إلى ابن أثال الطبيب، فاتخذ له الكنافة، فكان يأكلها في السحور، فهو أول من اتخذها. وحكي أن أبا هريرة رضي الله عنه حضر صفين، فكان يصلي خلف عليّ، ويأكل على سماط معاوية، فاذا قامت الحرب اعتزل الفئتين، وقعد على تل هناك ينظر إليهما، فقيل له: ما رأينا رجلا يصنع مثل صنيعك، فقال: الصلاة خلف عليّ أفضل، وطعام معاوية أدسم، والقعود فوق التل أسلم وكان يقال: إنه على سعة كرمه ربما بخل على الطعام. حكي أن رجلا أكل معه فنظر معاوية إلى الرجل فرأى شعرة في لقمة تناولها من الطعام، فال له: أزل الشعرة، فألقاها من يده، ثم أبى أن يأكل، وقام وهو ينشد: [الطويل] وللموت خير من زيارة باخل ... يلاحظ أطراف الأكيل على عمد وأكل معه صعصعة بن صوحان، فتناول شيئا بين يديه، فقال له معاوية: لقد أبعدت النجعة، فقال: من أجدب انتجع. وتغدى [ص 237] معه يوما عبيد الله بن أبي بكر، ومعه ابنه بشير، فأكثر ابنه من الأكل، ومعاوية يلحظه، فلما خرج ابن عبيد الله لامه أبوه على ما صنع، ثم عاد عبيد الله وليس معه ابنه، فقال له معاوية: ما فعل ابنك التلقامة، قال: قد علمت أن أكله سيورثه داء. ولد قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس سنين، وتوفي في رجب سنة ستين، ومدة عمره ثمان وسبعون سنة تقريبا، ومدة خلافته تسع عشرة سنة وأشهر، وقبره خارج باب الصغير بدمشق.

98 - دولة ابنه يزيد بن معاوية

ثم 98- دولة ابنه يزيد بن معاوية أبي خالد «1» فتى ألف صباه، وكلف بنجد وصباه، ونام على فراش الرفاهة، ونادم أهل الفكاهة، وهام بما يهيم به الكلف، ويدوم عليه الشعف «2» ، لا يرد عن جماع غوايته، ولا يرتد عن طماح غايته، وعمر أيام الشبيبة بالمام الحبيبة، وتيم قلبه بالنساء، تتيم ذي الرمة بالخنساء «3» ، ووجد بكل غانية سمع بها وجد الفرزدق بنوار، وعمرو بعرار، وكان من دمشق في عرايش الكروم، وعرائس الدوم، من جني أعناب كأنّ عصارتها جني عنّاب، فعكف عليها مثواه، وعطف إليها هواه، وثوى يهتصر قطوفها، ويعتصر صنوفها، وزفّها أوقات أنسه عروسا، وحفّها حول مجلسه شموسا، وأقام لا يريم بين كأس وريم، لا يرى إلا بنانا مخضوبا بالعنم، أو بحمراء صافية كالعلم، ويروى له شعر أكثره لا يصح له بكبره من جهله، وكان أبوه يؤثره، ويعظم قليله ويكثره، يتوسم مخايل نجابته،

ويتسم لدلائل أجابته، فمهد له في تقدمه، ووطد أكناف السرير لقدمه، ولما خاف ألا يتم له ما أراد، ولا يلم فيه رأيه بالمراد، بذل له جهد سيفه ودرهمه، فكفّ جهل عذاله ولوّمه، ولم يبق إلا ثلاثة قريش شرفا وسؤددا، وسلفا يخرس لددا، الحسين بن عليّ، وعبد الله بن عمر [ص 238] وعبد الله بن الزبير، فجدّ في مداراتهم فما قدر، وجهد على إرادتهم وما قسر، فنصب مصايد حيله، ومكايد طيله، وأمر بأن يجمع الناس بالمدينة وفيهم أولئك الأماجد، وأوقف على رؤوسهم رجالا بأيديهم السيوف جرايد ثم أمر بأخذ البيعة ليزيد، وأخذ من خالف الأخذ الشديد، وقال: من كلّم هؤلاء، وأشار إلى الثلاثة، واضرموا بحدوة السيف حنقه، فلما اجتمع الناس قام فيهم مروان وقال: «1» أيها [الناس] إن هؤلاء رؤوسكم وسادتكم، وقد أعطوا البيعة، فقوموا فبايعوا، فما منهم إلا من بايع ومن تابع، إلا أولئك النفر، إلا أنهم ما استطاعوا أن يتكلموا، ولا استطالوا إلى أكثر من أن يتألموا، ثم كان من خروج الحسين وابن الزبير ما كان، هذا إلى العراق وهذا إلى مكة، وما فينا فيما يزعزع ملكه، إلا أن الحمام عاجل سيد الشهداء الحسين، وأدلى له الحين، وفزع ابن الزبير لمنابذته، وقرع ظبة الحرب لمؤاخذته، ثم لم يتمكن من قتاله، ولم يتبين له وجه احتياله، فأخرها إلى أوانها، وادخرها إلى إبّانها، ثم وثب إليها وثوب الفهد، ودأب لها دؤوب الفرس النهد، وأما ابن عمر، فدخل فيما أجمع الناس عليه وبايع، وجمع أطراف قومه وما نازع، ثم كان من مصرع الحسين ما صرع الدموع، وصدع الضلوع، وكسر القلوب كسرا لا يجبر، وأمات للإسلام ميتا لا يقبر، فآها لها رزية فتّت العضد، وفلّت السيف والغمد، لقد أنضبت

الثّمد، وأنضت بطلاب مثلها المهرية الأجد «1» ، فيا لها فجيعة، ويالها من مصيبة وجيعة، لعمر أبيه لقد نبذ غير مليم، ولقد عكفت الطير منه على لحم كريم، وقد تقدم منه طرف في ذكره وهذا الآن موضع شرحه، وسنذكر منه ما يزيد القلب قرحا على قرحه، ويتبعه وما اندمل الأول جرحا على جرحه [ص 329] وصفا الأمر ليزيد، ليته ما صفا، واشتفى ليته لو كان أصبح على شفا، فكم أساء على قصر مدة أيامه مرة، وأذاب القلوب وأسال عن المدامع الحرة، فأما كربلاء، فتلك كرب وبلاء، وبالطف ما طف، وكم بوارق بات يوقدها، وبوائق مات وهو يحقدها، هذا كله من وراء تخلف لا كفاية، وتعسف لابد راية، كان يلعب بالنرد، وينادم القرد، ويشتري لهو الحديث بمال الله لا بماله، ويسخط الله بعمله هذا وسائر أعماله، ودام على قبيح فعلاته، وفضوح ضلالاته، حتى مات، وليته لا ولد ولا ولا عرف، فلا ذم ولا حمد، أتاه وهو بحوارين «2» [نعي] أبيه معاوية، فجاء وقد دفن، فقال: «3» [البسيط] جاء البريد بقرطاس يحثّ به ... فأوجس القلب من قرطاسه فزعا قلنا لك الويل ماذا في صحيفتكم ... قال الخليفة أمسى مثبتا وجعا فمادت الأرض أو كادت تميد بنا ... كأن أغبر من أركانها انقلعا ثم ابتعثنا على خوص مزممة ... نرمي العجاج بها لا نأتلي سرعا

وما نبالي إذا بلّغن أرحلنا ... ما مات منهن بالبيداء أو ظلعا لما انتهينا وباب الدار منصفق ... لصوت رملة ريع القلب فانصدعا ثم ارعوى القلب منّي بعد طيرته ... والنفس تعلم أن قد أثبتت جزعا أودى ابن هند وأودى المجد يتبعه ... كانا جميعا خليطا قاطنين معا أغرّ أبلج يستسقى الغمام به ... لو قارع الناس عن أحسابهم قرعا ثم صعد الضحاك بن قيس الفهري «1» المنبر، وفي يده أكفان معاوية، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إن معاوية أمير المؤمنين، كان عود العرب، وحدها ونابها، قطع الله به الفتنة، وجمع به الكلمة، وملّكه حرايم العباد، وفتح له البلاد، إلا أنه قد مات، وهذه أكفانه، ونحن مدرجوه فيها، ثم مدلجوه قبره، ومخلون بينه وبين ربه، ثم هو الهرج «2» إلى يوم [ص 240] القيامة، فمن كان يريد أن يشهده فليحضر عند الظهر، ثم أتى يزيد بن معاوية قبر معاوية وترحم عليه، ثم أتى المنبر فخطب، ثم قال: إن معاوية كان عبدا من عبيد الله، أنعم عليه، ثم قبضه إليه، وهو خير ممن بعده، ودون من قبله، ولا أزكيه على الله، فهو أعلم به، فإن عفا عنه فبرحمته، وإن عاقبه فبذنبه، وإني لن آبى عن طلب، ولا أعتذر

من تفريط، وعلى رسلكم، إذا أراد الله شيئا كان. فقام إليه عطاء بن أبي صيفي الثقفي فقال: يا أمير المؤمنين، إنك رزيت الخليفة، وأعطيت الخلافة، قضى معاوية نحبه، فغفر الله ذنبه، ووليت الرياسة، وأنت أحق بالسياسة، فاحتسب عند الله عظيم الرزية، واشكره على حسن العطية، أعظم الله على أمير المؤمنين أجرك، وأحسن على الخلافة عونك. ثم أتاه عبد الله بن همام السلولي فقال: يا أمير المؤمنين، أعظم الله أجرك في الخليفة، وبارك لك في الخلافة، ثم أنشد: [البسيط] اصبر يزيد فقد فارقت ذا ثقة ... واشكر عطاء الذي بالملك أصفاكا أصبحت لا رزء في الأقوام تعلمه ... كما رزيت ولا عقبى كعقباكا أعطيت طاعة أهل الأرض كلهم ... فأنت ترعاهم والله يرعاكا وفي معاوية [الآتي] لنا خلف ... إذا قعدت ولا نسمع بمنعاكا «1» وأرسل يزيد إلى الوليد بن عقبة «2» بأخذ البيعة على الحسين وابن عمر وابن الزبير، ثم سائر الناس، فقال لمروان: ما عندك في هذا؟ قال: اطلبهم ليلا

وخذهم بالبيعة، فإن بايعوا وإلا فاضرب أعناقهم، فطلبهم ليلا فأتوه، فطلبهم بالبيعة، فخاف ابن الزبير أن يهنأ، فبدر فقال: ما عندنا خلاف، ولكن يقال إنما بايعوا خوفا، وإنما ادعوا الناس إلى المسجد لنبايع، تشهد الناس وبايع الناس، فقال: أفعل، فأوتي إليه مروان أن اضرب أعناقهم، فأبى، وخرجوا من عنده، فقال له مروان: والله لا أصبح منهم بالمدينة أحد [ص 241] ، فكان هكذا، خرجوا ليلتهم تلك من المدينة، فأما ابن عمر فذهب إلى مال له، وبعث يقول: إذا اجتمع الناس بايعت، فتركوه لعلمهم بزهده، وأما ابن الزبير فانطلق إلى مكة، وأما الحسين فألهاهم عنه طلبهم لابن الزبير، ثم سار الحسين يريد مكة، فقال: ما كنت لأنطلق على مكان به ابن عمر ولا أراه، فأتاه فأعلمه أن أهل العراق بعثوا له كتبا وقر جمل، فقال: إياك وهم، فهم أهل غدر، ولقد كان أبوك أكرم عليهم منك وما وفوا له، فلما أتى عانقه وقال: استودعك الله من قبيل، ثم أتى الحسين عبد الله بن مطيع العدوي، فقال له نحو قول ابن عمر، فأبى وأتى مكة، فرأى ابن الزبير انه لا يتم له مع وجود الحسين، فحسّن له قصد العراق، حتى ذهب فقتل كما تقدم في ذكره «1» ، ثم قام ابن الزبير يذكر مقتله، ويلعن قتلته، ويدعو إلى الشورى، ويستر أمره ويقول: أنا عائذ بهذا البيت، ثم باح ومد يديه للمبايعة فبويع. واعر له يريد الحيس «2» ، ثم لم تحن منيته إلا في زمن عبد الملك، على ما يأتي ذكره. وحكى البلاذري عن يزيد أنه أول من أظهر شرب الشراب، والاشتهار بالغناء والصيد، واتخاذ القيان والغلمان، والتفكه بما يضحك منه المترفون من القرود والمعاقرة بالكلاب والديكة، ثم جرى في زمنه قتل الحسين ابن علي

عليهما السلام، وقتل أهل الحرة، ورمي البيت وإحراقه، وكان مع هذا صحيح العقيدة، ماضي العزيمة، لا يهمّ بشىء إلا ركبه، ووقع بين غلمانه وغلمان عمرو بن سعيد الأشدق فأغضبه ذلك وأمر بإحضار أولئك الغلمان، فلما أتي بهم قال: خلوا سبيلهم، ثم قال: إن القدرة تذهب الحفيظة. وأخطأ يزيد في شىء وهو صغير، فقال له مؤدبه: أخطأت يا غلام، قال يزيد: الجواد يعثر، قال المؤدب: اي والله ويضرب، قال يزيد: اي والله ويرمح سائسه فيحطمه. وكان يزيد على علاته جوادا كريما، فيما روي أنه أجار عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما أربعة آلاف ألف درهم، وكان لا يعد وعدا بكرم إلا أنجزه، وفيه يقول [ص 242] عبيد بن حصين الراعي: «1» [البسيط] راحت كما راح أو تغدو بغدوته ... عنس وخود عليها راكب يفد تنتاب آل أبي سفيان واثقة ... بسيب أبلج منجاز لما يعد وكان أيام أبيه معاوية خير من يحضره من جلسائه. حكي أن عقيل بن أبي طالب «2» دخل يوما على معاوية وقد كفّ بصره،

فأجلسه إلى جانبه على سريره، ثم جاء بعده عتبة «1» أخو معاوية، فأجلسه بينه وبين عقيل، فلم يره، فقال له معاوية: أنتم يا معشر بني هاشم لم تصابون في أبصاركم، فقال عقيل: كما تصابون يا معشر بني أمية في بصائركم، فتنحنح عتبة ليتكلم بشر، فأومأ إليه معاوية أن اسكت، فقال عقيل: من هذا الذي أجلسته يا معاوية إلى جانبي، فقال معاوية: هو أخوك وابن عمك عتبة، فقال عقيل: لئن كان أقرب مني إليك، فإني أقرب منه ومنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنتم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت سماء، وكان يزيد غلاما واقفا في الشبيبة، فابتدر فقال: يا عم، أنت كما وصفت، ورسول الله صلى الله عليه وسلم فوق ما ذكرت، وأمر أمير المؤمنين عالم بحقك، ولك عندنا مما تحب أكثر مما لنا عندك مما تكره، فأسكت عقيلا، وكان لسان قريش. وولد يزيد [سنة خمس أو ست وعشرين] «2» ، وركب «3» فرسا فرداه، فمات يوم الاثنين لأربع عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول سنة أربع وستين، ومدة عمره تسع وثلاثون سنة، وقيل ست وثلاثون، ومدة ولايته ثلاث سنين وتسعة أشهر تقريبا، وقبره بحوارين، وقيل إنه نقل إلى مقبرة دار الصغير بدمشق.

99 - دولة معاوية بن يزيد بن معاوية

ثم: 99- دولة معاوية بن يزيد بن معاوية أبي عبد الرحمن، «1» ويعرف بأبي ليلى، وهو در تكشف عنه صدف، وفجر تكشط عنه سدف، وتبر أخرجه رغام، وزهر أنبته ركام [ص 243] ، أتى وبنو حرب قد أسرت على الرقاب ظباهم، وعقدت على الملك حباهم، فما أهمّه زخرفهم، وما أعظمه أن أعرضوا مصرفهم، فكان عجبا في أولئك، وعجلا إلى الاتكاء على الأرائك، زهد فيما رغب فيه بنو أمية، وغرب نجمه وما طلع على ما كانوا فيه، أتته الدنيا منقادة فردها، وجاءته مواصلة فصدها، فما غرّه بردها القشيب، ولا سرّه وردها قبل المشيب، عصمة من الله، وقته سهام عواديها، وكفته سهام أعاديها، وكان أجله قصيرا، ما أجله إلا يسيرا، أقام أربعين يوما، ثم انتقل وتزوّد شكرا، ولا لوما، ومات ولم يعهد، ومال سريره ولم يشهد، ولقد قالت له أمه: يا بني اعهد، فبالغ في ردّها، وقال: ما كنت لأذهب بحرّها، ويذهب بنو حرب ببردها، فأبى أن يتطوق بها، لا حيا ولا

ميتا، أو يتعلق بها لا منجزا ولا موقنا، وبموته انقضت دولة بني حرب، ونقضت حبالها في كل شرق وغرب، ثم لم تقم لهم قائمة إلا من نجم وما طلع، وتحامل فأعجزه الظلع، إلا ما وضعه خالد بن يزيد، أن سيكون لهم دولة يقوم بها قائم يسمى السفياني، أراد بهم أن لا تنقطع منهم الأماني، ولقد خرج منهم بأطراف الشام من تسمّى بهذا، ثم ما طار حتى وقع، ولا أسفر محياه حتى امتقع، ولا أشرف رأسه حتى خضع، ولا أسرف حتى بطل، ما خلد خالد وما وضع. ذكر البلاذري أن أباه يزيد بن معاوية، كان قد مرض بعد ولايته بسنتين من كبده، فلما برئ واستقل، أتاه ابنه معاوية، وأمه أم هاشم بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس عنده، وكانت امرأة برزة عاقلة، فقالت له: لو عهدت إلى معاوية، فقال: هكذا أفعل، ثم قال لحسان بن مالك بن بحدل: إني أريد البيعة لمعاوية بن يزيد [ص 244] ، فقال: افعل، فدعاه يزيد فصافقه «1» بولاية العهد، وبايع له حسان بن مالك والناس، وهو كاره، وكان معاوية بن يزيد فتى صالحا متألها، كثير الفكر في أمر معاده، ولا يكاد يلتفت إلى أمر الدنيا، ولا يبالي كيف تقضت به، وإنما كني أبا ليلى للينه، وهي كنية كل ضعيف، ثم جدد يزيد له البيعة حين احتضر، فلما مات بايعه الناس، وأتته بيعة الآفاق، إلا ما كان من ابن الزبير، ولما أفضى الأمر إليه، قام خطيبا فقال: أيها الناس، إن يكن هذا الأمر خيرا فقد استكثر منه آل أبي سفيان، وإن يكن شرا، فما أولاهم بتركه، والله ما أحب أن أذهب إلى الآخرة وأدع لهم الدنيا، ألا فليصل بكم حسان بن مالك، وتشاوروا في أمركم، عزم الله لكم الرشد، والخيرة في قضائه، ثم نزل فأغلق بابه وتمارض فلم ينظر في شىء، ولم يعزل معاوية أحدا من عمال أبيه، ولا حرّك شيئا، ولا أمر ولا نفى، وكان حسان يصلي بالناس، وهم منكرون

100 - عبد الله بن الزبير رضي الله عنه

لأمرهم حتى مات، ولما مرض قيل له: لو بايعت لأخيك خالد بن يزيد، فإنه أخوك لأبيك وأمك، فقال: يا سبحان الله، كفيتها حياتي وأتقلدها بعد موتي، يا حسان بن مالك، اضبط ما قبلك، وصل بالناس، إلى أن يرضى المسلمون بإمام يجتمعون عليه، واخلعوني فأنتم في حل من بيعتي. فقالت له أمه أم هاشم: لوددت يا بني أنك كنت نسيا منسيا، قال: وددت والله أني كنت نسيا منسيا ولم أسمع بذكر جهنم، ثم دخل عليه مروان بن الحكم، وكان قد قدم من دمشق، فقال له: لقد أعطيت من نفسك ما يعطى الذليل المهين، ثم رفع صوته فقال: من أراد أن ينظر في حالته إلى حرب بن أمية فلينظر إلى هذا، فقال له معاوية: يا بن الزرقاء اخرج عني، لا قبل لك عذرا يوم القيامة. ويقال: إنه لما مات، قام مروان على قبره وقال: أتدرون من دفنتم؟ [ص 245] قالوا: نعم، معاوية بن يزيد، قال: بل دفنتم أبا ليلى، فعرف فيما بعد بها. ثم كانت لبني أسد بن عبد العزّى دولة قام بها: 100- عبد الله بن الزّبير رضي الله عنه وكانت دولة صلاح «1» ، ومدة فلاح، وزمان ملك شجاع، غير كريم، زنده شحاح، وعهده ما فيه سوى صوب دم سحاح، وهو أول مولود ولد في الإسلام بالمدينة للمهاجرة، وضجت بالتكبير لمولده أرجاء تلك الحاضرة، وقد كانت يهود زعمت أنه لا يولد لهم ولا ينتج طير طيبة نسلهم (كذا) ، وكان [الزبير] زعيم يوم الجمل، وكان هو الذي يصلي عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في مدة تلك الوقيعة الدائرة بمحنها والنوبة التي أشابت نواصي الليالي أيام فتنتها،

101 - دولة مروان بن الحكم

ثم كانت مقدمة لبلية صفين، وشفاء صدور قوم ما شفين، ودامت مدته ثم لم تزل إلا على يد الحجاج زمان عبد الملك بن مروان، ستذكر عند انتهائها في ذلك الأوان، ثم لما انقضت دولة بني حرب، وفرغت منها الأيام، ونزعت في صدور الزمان شياطين أنصارها اللئام، أعقبتها الدولة المروانية، تنزوا قردتهم على المنابر، ويعلوا صغارهم مكان الأكابر، إلا فرد رجل واحد غلب عليه شيمة خاله لا عمه، وما مال إلى جده لأبيه إلا لأمه. وأولها: 101- دولة مروان بن الحكم ابن أبي العاص «1» بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، أبو عبد الملك،

كان أبوه الحكم طريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى أن تلقى عثمان الأمر وتسلم، وهو أحد ما انتقد على عثمان، وحقد على أبي سفيان، كان معاوية [ص 246] يعاقب بينه وبين سعيد بن العاص، ويراقب منه سطوة الأسد على القناص، خوفا من توثبه، وخوضا في حديث كان يخشى تسببه، فكان يداريه ويدرأ حده بشبهة أنه يوليه، ولم يزل مذ كان عيبه عناد وغيبة، ما توارى في زناد يقدح كل شر، ويجدح حماه كل ضر، ويقسو في موضع اللين، ويعتو في متبع الدين، إلا أنه كان من رجال قريش حزما لا يغلط، وعزما لا يغمط، ملقح حرب حيال، وملحق ترح بحي حلال، يلف آخر الخيل بأولها، ويدير مدبرها على مقبلها، تعرض للحرب حتى صلي بها، وبلي لما بلي عجم عيدانها بصليبها، أخرجه عمال ابن الزبير على المدينة في بني أمية، وأحوجه الاستعجال إلى الخروج على عمّيه، فخرج أجرأ من ابن سميّة «1» ، وأجرأ من عمرو بن أمية، قال منتهكا وآب ملكا، ما برح يسول له القيام ويناجي ضمائره، وينادي سرائره، حتى أخرج هذا المخرج، خرج لضائقة المخرج، فسار يريد الشام، وهو لا يعرف كيف يسير، ولا على رشد يمشي أم تغرير، فلما كان بالطريق، وهن لقلة ناصره، وذلة أهل أواصره، فهمّ أن يعطي بالمبايعة يده، ويعرى من لبوس المقارعة حسده، فقال له رجال: أو مثلك وأنت شيخ بني عبد مناف ترضى أن تكون لفتى من بني أسد مربوبا، ومعه هذه الرماح ما قصف من صلبها أنبوبا، وهذه الأسنّة تتقد ولا تدع جمر الحرب مشبوبا، فحينئذ ألوى بأنفه الشمم، وبعطفه التيه على منابت اللمم، ودعا إلى نفسه، وسعى كالأرقم بكشر أنيابه لنهشه،

وكان الأمر قد كاد يتم لابن الزبير ويدوم من أجمع على خير، ومما دان له دمشق وسائر الشام، إلا حمص، ولم يكونوا على نزاعه أهل حرص، إلا أن عامل بني أمية كان بها متماسكا، وبزمام حزبها ماسكا، هذا مع ما كان قد اجتمع له من طاعة أهل الحجاز والعراق، وقلة [ص 247] طماعه من تظاهر له بالشقاق، وإنما مروان قام غير متكل، بسير ولا ضجر ولا وكل، وعضده من ذوي قرابته، رجال بل نصال، لا مجال معها لانفصال، وقامت اليمانية معه على القيسية، وصوب كل قبيل إلى الآخر سهامه وقسيه، وكانت اليمانية أموية، والقيسية زهرية بلا مثنوية، ودخل مروان دمشق، ثم أتى تل راهط، يحاشي حل كل رابط، هنالك كان موعد اللقاء، ومورد عدم البقاء، وشبت الحرب العوان، وشبّت بعد المشيب همّة مروان، حتى أحرز من الملك ما ورثه بنوه بعده، ومات وأورثه ولده، وأمه آمنة بنت علقمة الكناني، وأمها الزرقاء التي يعيرون بها، وهي مارية بنت موهب الكندي، وكان موهب قينا، وكان مروان يسمى خيط باطل لطوله ودفّته، شبّه بالخيط الأبيض الذي يرى في الشمس، وكان قارئا للقرآن حازما حزما. كان كما قلنا رأس كل هوى، وأسّ كل بلوى، ولما نهضت سمعة ابن الزبير، كتب إلى عبد الله بن مطيع «1» ، وكان عامله على المدينة، في نعي بني أمية، ومروان يومئذ شيخهم، وابنه عبد الملك ناسكهم وموضع رأيهم، وكان بعبد

الملك جدري، قد ظهر به، فوجدوا مشقة عظيمة لمخرجهم، فحمل عبد الملك على جمل شدّ عليه شدا، وأكبر قريش هذا على ابن الزبير، وقالوا له: إنما بعثت عليك أراقم لا يرقى سليمها، فكتب إلى ابن مطيع بإقرارهم بالمدينة، فبعث يردهم، فأبوا أن يردوا، وقد سول لمروان الأمر، فأتوا الشام وقد بايع الناس لمعاوية، وهو كاره لذلك، ثم لم يلبثوا أن مات معاوية، وظن ابن الزبير أن قد صفا له الأمر، وبث ولاته، وأطاعه أكثر أهل الشام، إلا حسان بن مالك بن بحدل «1» وقوما معه، فإنهم دعوا لخالد بن يزيد، فقال له ابن غضاة الأشعري: أراك تريد هذا الأمر لخالد بن يزيد [ص 248] وهو حديث السن، فقال: إنه معدن الملك، ومقر السياسة والرياسة، فأتى ابن غضاة خالدا فوجده نائما ضحى نهار، فقال: يا قوم، أنجعل نحورنا أغراض للأسنة والسهام لهذا الغلام وهو نائم في هذه الساعة، وإنما صاحب هذا الأمر المجد المشمر الحازم المتيقظ، فأتى مروان بن الحكم، فألفاه في فسطاط، وإذا درعه إلى جنبه، وعليه سيفه والرمح مركوز بفنائه، وفرسه مربوط إلى جانب الفسطاط، والمصحف بين يديه، وهو يقرأ القرآن، فقال ابن غضاة: يا قوم هذا صاحبنا الذي يصلح له الأمر، فرجعوا إلى حسان بن مالك، فأخبروه بخبر خالد ومروان، وأعلموه أنهم مجمعون على مروان، فقال ابن بحدل: رأيي لرأيكم تبع، إنما كرهت أن تخرج الخلافة من أهل هذا البيت، ثم قام حسان خطيبا، فحمد الله، ثم ذكر مروان وأثنى عليه، وقال: قوموا فبايعوا، فقاموا فبايعوه، وأقبل الضحاك حتى نزل مرج راهط «2»

داعيا إلى ابن الزبير، وقد اجتمعت بنو أمية بالجابية «1» ، فقال مالك بن هبيرة «2» للحصين: هلم نبايع لخالد بن يزيد، فقد عرفت مرتبتنا كانت من أبيه، فقال الحصين: لا والله، لا يأتينا الناس بشيخ ونأتيهم بصبي، فقال مالك: ويحك، إن مروان وآل مروان يحسدونك على سوطك وشراك نعلك وظل شجرة تظل بها، وهو أبو عشرة وأخو عشرة وعم عشرة فإن بايعتموه كنتم عبيدا لهم، فقال: مروان شيخ قريش ومن يديرنا ويسوسنا، خير ممن نديره ونسوسه، فأجمعوا على مروان على أن يكون بعده خالد بن يزيد، ثم عمرو بن سعيد، فبويع مروان ولم يقع لهما اسم معه، فلما دان لمروان أصحابه، سار بهم يريد تل راهط، وعلى ميمنته عمرو بن سعيد، وعلى ميسرته عبيد الله بن زياد، وجعل الضحاك على ميمنته زياد بن عمرو العقيلي، وعلى ميسرته زحر بن أبي شمر الهلالي، وثار يزيد بن أبي اليمن على دمشق، فغلب عليها [ص 249] ، ودام القتال بين مروان والضحاك «3» عشرين ليلة، وكان مروان يرتجز فيها ويقول:

[الرجز] لما رأيت الأمر أمرا صعبا ... سيرت للقوم سراة غلبا لا يأخذون الملك إلا غصبا ... فإن دنت قيس فقل لا قربى ثم كانت آخر تلك الأيام ونهاية ذلك القتال اللزام، أن انجلت سحابة الحرب العوان عن تبلج النصر على قسمات مروان، ودخل دمشق فبايع له أهلها، واستوسق له الشام والجزيرة، وأنشده بعض الأنصار: [السريع] الله أعطاك التي لا فوقها ... وقد أراد الملحدون عوقها عنك ويأبى الله إلا سوقها ... إليك حتى قلدوك طوقها وأنشده زياد الأعجم: «1» [الوافر] رأيتك أمس خير بني لؤي ... وأنت اليوم خير منك أمس وأنت غدا تزيد الضعف خيرا ... كذاك تكون سادة عبد شمس فأجازه ألف دينار، وقيل بل كان إنشاده إياهما بالمدينة، ولما انجلت نوبة تل راهط عن نصرة مروان، فرّ زفر بن الحارث «2» إلى قرقيسياء «3» ، فدخلها وجعل

يرثي قتلى راهط، فمن ذلك قوله: [الطويل] لعمري لقد أبقت وقيعة راهط ... لمروان صدعا بيننا متساويا أتذهب كلب لم تنلها رماحنا ... وتترك قتلى راهط هي ما هيا وقد ينبت المرعى على دمن الربى ... وتبقى حزازات النفوس كما هيا أبعد ابن صقر وابن عمرو تتابعا ... ومصرع همّام أمنّا الأمانيا فأجابه ابن مخلاة الكلبي: [الطويل] لعمري لقد أبقت وقيعة راهط ... على زفر فردا من الداء باقيا تبكّي على قتلى سليم وعامر ... وذبيان معروفا تبكّي البواكيا [ص 250] ومما قال زفر أيضا: [الطويل] ويوم ترى الرايات بيضا كأنها ... حوائم طير مستدير وواقع مضى أربع بعد اللقاء ورابع ... وثول أطلته السيوف القواطع «1» طعنا زيادا باسته وهو مدبر ... وقد جدّ من يمنى يديه الأصابع ونجّى حبيبا ملهب ذو غلالة ... وقد جدّ من يمنى يديه الأصابع وقد شهد الصفّين عمرو بن مخدم ... فضاق عليه المرج والمرج واسع ثم استخلف مروان ابنه عبد الملك بدمشق، فسار إلى مصر، وكان عليها عامل ابن الزبير، فافتتحها، ثم تزوج أم خالد ليغضّ من ابنها خالد بن يزيد، وكان هو وعمرو بن سعيد يدعيان أن الأمر لهما بعد مروان، فكلم حسان بن

مالك في ذلك وقال: إني أريد أن أعهد إلى ابني عبد الملك ثم عبد العزيز، فقال: أنا أكفيك هذا الأمر، فلما اجتمع الناس عند مروان، قام ابن بحدل فقال: إنه يبلغنا أن رجالا يتمنون أماني، ويدعون أباطيل، فقوموا فبايعوا لعبد الملك ابن أمير المؤمنين بالعهد، ولعبد العزيز من بعده، فقام الناس مسارعين من عند آخرهم، وكان مروان قال لحسان: بلغني أنك تقول أنك اشترطت على مروان أن يولي خالد بن يزيد الخلافة بعده، فحداه ذلك على الجد، وتبعه عبد الملك ما أبلغ مروان عنه، ثم عقد مروان لعبيد الله بن زياد على العراق والجزيرة، ووجهه فقتل بالموصل قتله إبراهيم بن الأشتر، وبعث إلى ابن الزبير جيشا عليه يوسف بن الحكم الثقفي، ومعه يومئذ ابنه الحجاج، فأتوا وادي القرى «1» ، فهرب عامل ابن الزبير عليها، ووضعوا عليها ضريبة أدوها إليهم، ثم نزلوا بذي المروة «2» فلقي أهلها منهم عنتا، وبلغ أهل المدينة ما نابهم، فبعث بشر من الصالحين، وقيل لسعيد بن المسيب «3» : لو تغيبت أو أتيت البادية، فقال: فأين فضل الجماعة، والله لا رآني الله والناس أخوف عندي منه، ثم ساروا [ص 251] حتى أتوا المدينة، ثم صعد يوسف بن الحكم الثقفي المنبر، فقال: يا أهل المدينة، يقول الله تعالى: (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ

والمرجفون في المدينة لنغرينّك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا) «1» ، فكيف رأيتم ما صنع الله بكم، والله لا يتكلم أحد منكم بكلمة إلا ضربته بسيفي هذا، ثم لاقوا بالربذة «2» جيشا كان قد أقدمه ابن الزبير من البصرة، وكانت الدائرة على جيش مروان، وفر يوسف الثقفي ورديفه ابنه الحجاج على فرس، وكان الحجاج يقول: ما أقبح الهزيمة، لقد كنت ورجل آخر- يعني أباه- فانهزمنا على فرس، فركضنا ثلاثين ميلا، حتى قام بنا الفرس، وإنه ليخيل إلينا أن رماح القوم في أكتافنا، وجعل ابن الزبير لمن يأتيه بيوسف الثقفي وابنه جعلا، فلم يقدر عليهما. ثم كان بين مروان وبين خالد بن يزيد «3» كلام، فقال له يا ابن الرطبة، فقال خالد: والله لقد أضعت الأمانة، وفضحت الستر، ثم دخل عليها فقال: يا أماه، ماذا ألحقت بي من العار، قالت: وما ذاك يا بني، فقال لها ما كان من قول مروان، فقالت: أما والله لا تسمع منه شيئا تكرهه بعدها أبدا، فلما دخل عليها «4» مروان، قال لها: قد كان مني إلى خالد كلام، فهل قاله لك، فقالت: أنت يا أمير المؤمنين أجل في صدر خالد وأكبر في عينه من ذلك، ثم تركته

102 - دولة ابنه عبد الملك بن مروان

حتى نام، وعمدت إلى مرفقة محشوة ريشا، فجعلتها على وجهه وجلست عليها حتى مات غمّا، ثم صرخت وجواريها وقلن: مات أمير المؤمنين فجأة، وقيل: بل كان يعجبه اللبن فجاءته بلبن مسموم، فقال: ايتوني به إذا أفطرت، فلما أفطر أتوه به فشربه، فاعتقل لسانه، وصرخ جواريها، وأقبل يشير إلى من اجتمع إليه من ولده وغيرهم، أنها قتلتني، وجعلت هي تقول: أما ترونه يوصيكم بي ويشير إليكم بحفظي [ص 252] . وولد مروان لثلاث من الهجرة، وتوفي في رمضان سنة خمس وستين، وهو في ثلاث وستين سنة، ومدة خلافته تسعة أشهر وأيام، وقبره بدمشق. ثم: 102- دوّلة ابنه عبد الملك بن مروان ابن الحكم «1» ، أبو الوليد، الفحل الذي لم يخطم، والرمح الذي لم يحطم، سهم لا تعدله خطا، وسيف لا يحدث لنبوته نبا، ثارت عليه ثوار فوطئهم بميسمه، وأبكاهم دما بدوام تبسمه. كان ابن الزبير بمكة، وأخوه مصعب بالعراق، وخرج عليه عمرو بن

سعيد «1» بدمشق، وكاد يصيبه الرشق، ويصل إليه من تغريق الخطبة المشق، وأحاط به البلاء، وادّاركت عليه النّوب الولاء، وظن أنه قد أخذ، وأن ملكه قد تمزق، وهو مع هذا جمل تحمل ما حمل، وجبل لو تقسمه أهل الأرض ما حوّل، فجثا على ركبتيه، وجفا المنام مقلتيه، وادّكر تحيف القوم لممالكه، وتحيّن الأوقات لمهالكه، فشمر لطلابها، وضمّر خيله لغلابها، وبدأ بالعود إلى دمشق وخادع عمرو بن سعيد حتى استنزله عن سريرها، واستقلّه أن يبيت ضجيع سرورها، وما زال به حتى استدعاه خاليا، واستدناه مماليا، حتى إذا كان قريبا منه وثب عليه، وبث سر حنقه إليه، ثم أشرف فهاله تجمع أصحابه بداره ليوقع ما به وبداره، وكان لا طاعة له على جمعهم، ولا طاقة له بدفعهم، فوجد الحيلة أنصر له وأقدر على هدر دم من قتله، فكأنما كان سكر أصحابه، فألقى رأسه إلى أصحابه، مقرونا بنثار من الذهب، شغلهم لقطه عن أخذ ثأر من ذهب، فراح دمه مطلولا، وطاح لا يجد عنه سائلا ولا مسئولا، ثم يطلب الاثنين ولم يبد اكتراثه، ولا قال: وما شر الثلاثة «2» ، فوجه الحجاج نحو ابن

الزبير، يمحو بقية ذلك الخير، ففعل تلك القبائح [ص 253] وأكثر بمكة لا بمنى تلك الذبايح، من دماء محرمات سفكها، وحرمات انتهكها، ورمى بخطارة المنجنيق، حجارة البيت العتيق، نصبها على أبي قبيس وقيقعان «1» ، ورمى الكعبة فتحامتها الحجارة، ورامتها فما أومى إليها بناؤها بإشارة، وحمت الملائكة حماها، وصانت عن تقبيل ثغور تلك الحجارة لماها، ففطن أن الملائكة تدفع عن أركانها، وتمنع من مكانها، فلطخ الحجارة بالعذرة، وألقاها إذ كانت الملائكة تتوقاها، فأصاب جدارها، وأصار إلى الأرض أحجارها، فأحل من الحرم ما لم يحل، واستحل ما لا يجوز لمستحل، وبث الأضاليل، ونصب حبائل الأباطيل، وقصد بيت الله بأشد مما قصده إبرهة عام الفيل، إلا أن حرمة تسميته بالإسلام، دفعت عنه عاجل البلاء، وأخّرته وما تقول إنها سامحته، ولكنها أنظرته، ثم لما قتل ابن الزبير، أمر له بجذع فنصب، ومنّ به إليه فصلب، وكانت أمه قد قالت له: يا بني لأن تقتل خير من أن تختل «2» ، فقال: أخشى أن يمثلوا بي، فقد نمي إليّ أنهم تقبّلوا له بصلبي، فقالت: يا بني لا يضرك هرير النبح، فالشاة لا يؤلمها السلخ، بل الذبح، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: جنبوني خشبة ابن الزبير وتجنّبها، ويحس بها ولا يقربها، فعبر ليلة عليها فوقف عليه مترحما، وقال: والله لقد عهدتك صوّاما قوّاما، وإنما أعجبتك بغلات معاوية، وولى ودموعه هاوية. وذلك بعد أن نهد عبد الملك إلى مصعب، ونهض كأنه جمل مصعب، فسار يتقدم فرسانه، ويتخطم في أرسانه، ولم يثن همّته فيما يصان به عرينها حصان عليها عقد در يزينها، إذ كان من قوم من عهد لؤي بن غالب، ما لوى به

غالب، إذا حاربوا شدوا دون النساء مآزرهم، وشد بصدق الحفيظة موازرهم، وأعمل الحيلة على مصعب، بكتب إلى أصحابه كتبها، وأعاجيب كذب كذبها [ص 254] وكان الملتقى، فخذل مصعبا أصحابه، وخزل جمعه حتى خلت منهم رحابه، فتركوه وأسلموه، وخلوه لمضارب السيوف وسلموه، وكان عبد الملك يكنى بأبي الذباب لبخره، كانت لثته تدمى دائما فيتغير ريحها، وكان مظفرا على أعدائه، فإنه غلب في أيامه على عدة رجال أكابر كلهم كانوا في زمانه يبارونه في السلطان، مثل عبد الله بن الزبير، والمصعب أخوه، وعمرو بن سعيد الأشدق، وعبد الرحمن بن الأشعث، فكل واحد منهم ما قام له معه قائمة، وكلهم قتل وحكم قاضية، ومع هذا فلم ينفعه ولا أغنى عنه شيئا، حتى تمت أيامه، وأتاه حمامه، ويؤيد هذا خبر الرجل الذي ورد على معاوية وكان من أهل الكتاب والعلم بالحدثان، فقال له معاوية، أتجدني في شىء من كتاب الله، قال: أي والله، حتى لو كنت في أمة من الأمم لوضعت يدي عليك من بينهم، قال: فكيف تجدني، قال: أول من يحول الخلافة ملكا، والخشونة لينا، ثم إن ربك من بعدها لغفور رحيم، قال له معاوية: ثم يكون ماذا، قال: ثم يكون منك رجل شرّاب للخمر، سفّاك للدماء، يصطنع الرجال، ويحتجن الأموال، ويجنب الخيول، ويبيح حرمة الرسول، قال: ثم ماذا، قال ثم تكون فتنة تتشعب تقوم حتى يفضى الأمر إلى رجل أعرفه بعينه، يبيع الدار الآخرة الدائمة بحظ من الدنيا مخسوس فيجتمع عليه من آلك، وليس منك، لا يزال لعدوه قاهرا، وعلى من ناوأه ظاهرا، ويكون له قرين أمين مبين، قال: أفتعرفه إن رأيته، قال: أشد ما أراه من بني أمية بالشام، قال: ما أراه هاهنا، فوجهه إلى المدينة مع ثقات من قومه، فبينما هو يمشي في أزقة المدينة إذ رأى عبد الملك يلعب بطائر على يده، قال: ها هو ذا، ثم صاح به، أبو من، فقال: أبو الوليد، فقال: يا أبا الوليد، إن بشّرتك ببشارة تسرك ما [ص 255] يكون لي عندك، فقال: وما

مقدارها حتى أرى ما يكون مقدارها من الجعل، قال: أن تملك الأرض، قال: مالي من مال، ولكن أرأيت إن تكلفت لك جعلا أتاني ذلك قبل وقته، قال: لا، قال: إن حرمتك أيؤخر ذلك عن وقته، قال: لا، قال: فحسبك. وكان عبد الملك من أكثر الناس علما وأبرعهم أدبا، وأحسنهم ديانة في شبيبته، وكان يواضب المساجد حتى سمي حمامة المساجد، وكان لا يعيى بجواب إلا إن كلم أخاه عبد العزيز. حكي أن عبد الملك استقبل أخاه عبد العزيز حين رجع من مصر على ألف جمل، فقال له: على كم كانت البدأة، فقال: على مائة، فقال عبد الملك: ما عير أحق بأن يقال لها: (أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ) «1» من عيركم هذه، فقال له عبد العزيز: (إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) «2» . وحكي عن عبد الملك أنه لما أراد الخروج إلى مصعب، تعلقت به عاتكة بنت يزيد بن معاوية، وجعلت تبكي، حتى بكى لبكائها حشمها، فقال: قاتل الله كثيرا، كان يرى موقفنا هذا حيث يقول: «3» [الطويل] إذا همّ بالأعداء لم يثن همّه ... حصان عليها عقد درّ يزينها نهته فلما لم تر النّهي عاقه ... بكت فبكى مما شجاها قطينها ثم خرج يريد مصعبا وكثيّر في موكبه، فقال: يا أبا جمعة، ذكرتك الساعة بيتين من شعرك، فإن أصبتهما فلك حكمك، قال: نعم، أردت الخروج فبكت عاتكة بنت يزيد، وبكى حشمها، فذكرت قولي، وأنشده البيتين، قال:

نعم، وأعطاه ما طلب، ثم نظر إليه في عرض الناس مفكرا، فقال: عليّ بأبي جمعة، فجىء به، فقال: إن عرفتك بفكرتك فيم هي فلي حكمي؟ قال: نعم، قال: قلت في نفسك: أنا في شر حال، خرجت مع رجل من أهل النار، وليس على نحلتي، وربما أصابني سهم غرب «1» فأتلفني لغير معنى، قال: والله يا أمير المؤمنين، ما أخطأت ما في نفسي، قال: فاحتكم، قال: حكمي أن آمر لك بعشرة آلاف درهم [ص 256] وأردك إلى منزلك، ففعل به ذلك، فمدح كثير عبد الملك، فمما قال فيه: «2» [الطويل] يجيئون بسّامين طورا وتارة ... يجيئون عبّاسين شوس الحواجب من النفر البيض الذين إذا انتجوا ... أقرّت لنجواهم لؤي بن غالب كريم يؤول الراغبون ببابه ... إلى واسع المعروف جزل المواهب إمام هدى قد سدد الله رأيه ... وقد أحكمته ماضيات التجارب والتقى عبد الملك ومصعب «3» بالجاثليق، فبقي مصعب كلما قال لرجل:

احمل في خيلك، اعتل عليه، ولحق غالبهم بعبد الملك وبقي مصعب في شرذمة قليلة، وحمل عليه عبد الله بن زياد بن ظبيان، فرفع يده ليضربه، فبدره مصعب فضربه على البيضة، فنشب السيف في البيضة، فجاء غلام لعبيد الله فضرب مصعبا فقتله، ثم جاء عبيد الله برأسه إلى عبد الملك، فخرّ ساجدا، فقال عبيد الله: ما ندمت على شىء ندمي على عبد الملك حين سجد، إذ لم أضرب عنقه، فأكون قد قتلت ملكي العرب في يوم واحد، وفي ذلك يقول: [الطويل] هممت ولم أفعل وكدت وليتني ... فعلت فأدمنت البكا لأقاربه فأوردتها في النار بكر بن وائل ... وألحقت من قد خرّ شكرا بصاحبه وأما حديث قتل عمرو بن سعيد الأشدق، وأبوه سعيد بن العاصي، وكان يقال لعمرو لطيم الشيطان، فهو أن مروان لما قام بطلب الأمر عضده عمرو بن سعيد، واتفق معه على أن يكون له الأمر بعده، فلما كبر أمر مروان، صيّر الأمر لابنيه عبد الملك ثم عبد العزيز، على أن يصير الأمر لعمرو بعدهما، فلما كاتب أهل العراق عبد الملك خرج نحوهم، وكان في العراق مصعب، فقال له عمرو: إن الأمر كان لي بعد مروان، ثم صيّره لك، ولكن اكتب لي أنت به بعدك، فسكت عنه عبد الملك، وخرج لوجهه نحو مصعب، فلما كان من دمشق على ثلاث مراحل، كرّ عمرو راجعا في الليل إلى دمشق، وغلق أبوابها في وجه عبد الملك، وتسمى بالخلافة، فرجع عبد الملك [ص 257] حتى نزل على دمشق وحاصرها، فصالحه عمرو على أن يكون له الأمر من بعده، وأله مع كل عامل عاملا، ففتح دمشق، وكان بيت المال بيد عمرو، فأرسل إليه عبد الملك، أن أخرج أرزاق الحرس، فقال عمرو: إن كان له حرس، فإن لنا لحرسا، قال: وأخرج لحرسك أيضا، فلما كان ذات يوم، أرسل عبد الملك إلى عمرو أن ايتني يا أبا

أمية حتى أدبر معك أمرا، فقالت له امرأته: لا تذهب إليه، فإني أخافه عليك، فقال: أبو ذبّان، والله لو كنت نائما ما أيقضني، فقالت: والله ما آمنه عليك، وإني لأجد ريح دم، فما زالت به حتى ضربها بقائم سيفه فشجها، وقام فلبس درعه تحت ثيابه، فلما أراد الخروج عثر بالبساط، ثم مضى، وكان معه أربعة آلاف في السلاح، وكان عمرو عظيم الكبر، لا يلتفت وراءه ولو انطبقت الأرض إعجابا وزهوا، فلما وصل القصر الذي فيه عبد الملك، غلّقت الأبواب، فلم يدخل معه إلا غلام، وهو لا يدري، فلما حصل لعبد الملك قال لغلامه: اذهب للناس ما به بأس، فقال عبد الملك: تريد أن تخدعني، خذوه، فلما أخذوه، قال له عبد الملك: إني أقسمت أن أعمل في عنقك جامعة، وهذه جامعة من فضة، أريد أن أبر بها قسمي، فطرحها في عنقه، ثم جذبه إلى الأرض بيده، فضرب فمه في جانب السرير، فانكسرت ثنيته، فجعل عبد الملك يتأملها، فقال عمرو: لا عليك يا أمير المؤمنين، عظم انكسر، ثم قال له: سألتك بالله يا أمير المؤمنين لا تخرجني إلى الناس على هذه الحالة، فقال له: مكرا أبا أمية، وأنت في الحديد، فبينما هو في ذلك، إذ جاءه المؤذن يؤذنه بالصلاة، فقام إليها، وقال لأخيه عبد العزيز: اقتله، فقال عمرو: يا عبد العزيز، لا تكن أنت من بينهم قاتلي، فتركه، فلما رآه عبد الملك جالسا، فلام عبد العزيز، ثم أخذ الحربة بيده وقال: قربوه إليّ، فقال عمرو: فعلتها يا بن الزرقاء [ص 258] ، فقال له عبد الملك: لو علمت أنك تبقى ويسلم لي ملكي لفديتك بدم النواظر، ولكن قلّ ما اجتمع فحلان على مذود «1» إلا بغى أحدهما على صاحبه، ثم ضرب بالحربة في صدره فلم تغن شيئا، فضرب بيده على عاتقه، فأصاب الدرع تحت ثيابه، فقال: لقد كنت معتدا أبا أمية، اضربوا به الأرض، فصرع له، ووقف على صدره فذبحه، ولما

103 - عبد الله بن الزبير رضي الله عنه

لم يخرج عمرو إلى الصلاة، قاتل أصحابه البوابين، وشج الوليد بن عبد الملك، فلما رأى ذلك قبيصة بن أبي ذؤيب، قال لعبد الملك: ارم لهم بالرأس وانثر الدنانير عليهم ليشتغلوا ويتفرقوا، ففعل، وكان الأمر على ما قال ابن أبي ذؤيب، وذهب دم عمرو هدرا. ويحكى أنه لما قتل عمرو بن سعيد وتسمى بالخلافة سلم عليه «1» أول تسلمه، فالمصحف في حجره، فأطبقه وقال: (هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ) «2» ، وكان في عنفوان نسكه، صديق من أهل الكتاب يقال له يوسف، وكان قد أسلم، فقال له عبد الملك يوما، وقد مضت جيوش يزيد بن معاوية مع مسلم بن عقبة المري يريد المدينة الأخيل عدو الله، كيف يقصد حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له يوسف: حسبك والله إلى حرم الله أكبر من جيشه إلى حرم رسول الله، فقال عبد الملك: عياذا بالله، «3» ، فقال له يوسف: والله ما قلت شاكا ولا مرتابا، وإني لأجدك بجميع أوصافك، قال عبد الملك: فيكون ماذا، قال: يتداولها رهطك إلى أن تخرج الرايات السود من خراسان. وأما: 103- عبد الله بن الزّبير رضي الله عنه وكان يكنى أبا بكر «4» ، ويكنيه من ذمه أبا خبيب، فإنه لما قتل أخوه

مصعب، وبايع الناس عبد الملك، ودخل الكوفة، قال له لحجاج: يا أمير المؤمنين، إني رأيت في المنام كأني أسلخ ابن الزبير من رأسه إلى قدمه، فقال له عبد الملك: أنت [ص 259] صاحبه، فأخرج معه الجيوش، فسار بها حتى نزل على مكة، ونصب المجانيق على أبي قبيس وعلى قيقعان، وما زال يحاصره ويضيق عليه، فلما كان في الليلة التي قتل في صبيحتها، جمع القرشيين، فقال لهم: ما ترون؟ فقال رجل من بني مخزوم: والله لقد قاتلنا معك حتى لا نجد مقتلا، والله لئن صرنا معك ما نزيد على أن نموت، وإنما هي إحدى خصلتين، إما أن تأذن لنا فنأخذ الأمان لأنفسنا ولك، وإما أن تأذن لنا فنخرج، فقال له رجل: اكتب إلى عبد الملك، قال: كيف أكتب، من عبد الله أمير المؤمنين إلى عبد الملك بن مروان، فو الله لا يقبل هذا أبدا، أو أكتب لعبد الله عبد الملك بن مروان أمير المؤمنين، من عبد الله بن الزبير، فو الله، لئن تقع الخضراء على الغبراء أهون عليّ من ذلك، فقال له عروة بن الزبير، وهو جالس معه على السرير: يا أمير المؤمنين، قد جعل الله لك أسوة، قال: ومن هو، قال: الحسن بن علي، خلع نفسه وبايع معاوية، فرفع عبد الله رجله وركضه في رجله أرماه عن السرير، وقال: يا عروة، قلبي إذا مثل قلبك، والله لو قلتها ما عشت إلا قليلا، وقد أخذتني الدنية، ولئن أضرب بسيف من عز، خير من أن ألطم في ذل، فلما أصبح دخل على امرأته أم هاشم بنت منظور، وهي التي يقول فيها الفرزدق، إذ نافرته زوجته النوار إلى عبد الله بن الزبير، فنزل الفرزدق على حمزة بن عبد الله بن الزبير، ونزلت زوجته النوار على بنت منظور بن زبان، فكان كلما أصلح

حمزة من شأن الفرزدق عند أبيه نهارا، أفسدته زوجته أم هاشم ليلا، حتى غلبته النوار، ففي ذلك يقول: [البسيط] أما البنون فلم تقبل شفاعتهم ... وشفّعت بنت منظور بن زبّانا ليس الشفيع الذي يأتيك مؤتزرا ... مثل الشفيع الذي يأتيك عريانا [ص 260] فلما دخل ابن الزبير على أم هاشم قال لها اصنعي لي طعاما، فلما صنعت له ذلك، أخذ منه لقمة فلاكها ثم لفظها، وقال: اسقوني لبنا ثم اغتسل وتحنط وتطيّب، ثم أتى أمه أسماء ذات النطاقين، فقال: ما ترين يا أماه، فقد خذلني الناس، فقالت: لا يلعب بك صبيان بني أمية، عش كريما، ومت كريما، قال لها: إني أخشى أن يمثّل بي بعد الموت، فقالت: إن الشاة لا تألم بالسلخ بعد الذبح، فقبّل بين عينيها وودعها وخرج، وأسند ظهره إلى الكعبة، وجعل يقاتل، فلا يؤم جمعا إلا هدّه، فقال رجل شامي اسمه خليوب: ألا يمكنكم أخذه إذا ولّى، قيل له: فخذه أنت إذا ولّى، قال: نعم، وهو يريد أن يحتضنه من خلفه، فعطف عليه فقطع ذراعيه، فصاح فقال: اصبر خليوب، ثم جعل يقول: «1» قد جدّ أصحابي ضرب الأعناق ... وصارت الحرب بينهم على ساق فبينا هو يقاتل جاءه حجر من حجارة المنجنيق [وهم] يرتجزون: خطّارة مثل الفنيق المزبد ... يرمى بها عوّاذ أهل المسجد ولما صرعه حجر المنجنيق، اقتحم عليه أهل الشام، فحملوه فذهبوا به إلى

الحجاج «1» ، فدعا بالنطع وحزّ رأسه بيده، وبعث به إلى عبد الملك، ثم أتى الحجاج أمه ليعزيها فيه، قالت له: يا حجاج أقتلت عبد الله، قال لها: يا بنة أبي بكر، إني قاتل الملحدين، قالت له: قاتل الموحدين، قال لها: كيف رأيتني صنعت بابنك، قالت: رأيتك أفسدت عليه دنياه، وأفسد عليك آخرتك، ولا ضير إن الله أكرمه على يديك، وقد أهدي رأس زكريا إلى بغي من بغايا بني إسرائيل. وروى هشام بن عروة عن أبيه قال: كان عثمان بن عفان قد استخلف عبد الله بن الزبير على الدار، فبذلك ادّعى الخلافة. ثم لما صلب ابن الزبير كان عبد الله بن عمر يقول لقائده: جنبني خشبة ابن الزبير، فوقف ودعا له وقال: إن علتك رجلاك- وكان [ص 261] منكسا- لطالما وقفت عليهما في صلاتك، وإن قوما كنت شرهم لقوم كلهم أخيار، ثم قال لأصحابه: أما والله، ما عرفته إلا صوّاما قوّاما، ولكن ما زلت أخاف عليه مذ رأيته أعجبته بغلات معاوية الشهب، وكان معاوية قد حج، فدخل المدينة وخلفه خمس عشرة بغلة شهباء عليها رحائل الأرجوان، فيها الجواري، عليهن الحلي والمعصفرات، ففتنت الناس. وإذا انتهينا في ذكر ابن الزبير، فلنعد إلى تتمة أخبار عبد الملك بن مروان:

قال المدائني: دخل عبد الملك على يزيد بن معاوية فقال له: يا أمير المؤمنين، إن لك أرضا بوادي القرى لا غلة لها، فإن رأيت أن تأمر لي بها، فقال يزيد: إنا لا نخدع عن صغير، ولا نبخل بكبير، قال: فإنها تغل كذا وكذا، قال: هي لك، فلما ولّى قال يزيد: هذا الذي يقال إنه يلي بعدنا، فإن كان ذلك باطلا، فقد وصلناه، وإن كان حقا، فقد صانعناه. وعن ذكوان قال: كان فقهاء المدينة يعدون أربعة منهم عبد الملك بن مروان. وعن نافع قال: لقد رأيت المدينة وما بها شاب أشد تشميرا، ولا أملك لنفسه، ولا أظهر مروءة، من عبد الملك، قال: وكان يقال لعبد الملك حمامة المسجد لعبادته. وشكى بعض العمال إلى ابن عمر، وعبد الملك يصلي إلى سارية، فقال ابن عمر: لو وليهم عبد الملك هذا ما رضوا به، يضرب به المثل في الفضل والصلاح. قال الشعبي: دخلت على عبد الملك فقلت: أنا الشعبي يا أمير المؤمنين، فقال: لو لم نعرفك لم نأذن لك، فلم أدر ما أقول، ثم قال: علّم بني الشعر، فإنه ينجدهم ويمجدهم. وقال: وفدت على عبد الملك، فما أخذت بحديث أرى أنه لم يسمعه، إلا سبقني إليه، وربما غلطت في الشيء وقد علمه، فيتغافل عني تكرما. وقال عبد الملك: شممت الطيب حتى ما أبالي رائحة ما وجدت، وأتيت النساء [ص 262] حتى ما أبالي أرأيت امرأة أم حائطا، وأكلت الطعام، حتى ما أبالي ما أكلت، وما بقيت لي لذة إلا في محادثة رجل ألقي التحفظ بيني وبينه. وأوصى أهل مكة فقال: يا بني مروان، ابذلوا معروفكم، وكفوا أذاكم، واعفوا إذا قدرتم، ولا تبخلوا إذا سئلتم، ولا تلحفوا إذا سألتم، فإنه من ضيّق ضيّق عليه، ومن وسّع وسّع عليه.

وقيل له: لقد شبت يا أمير المؤمنين، فقال: وكيف لا أشيب وأنا أعرض عقلي على الناس في كل جمعة، يعني الخطبة. وقال وقد قيل له هذا مرة أخرى: لقد شيبتني قعقعة لجام البريد، وصرير أعواد المنابر. وعن جويرية بن أسماء قال: كان لعبد الملك بيت مال لا يدخله إلا مال طيب، لم يظلم فيه مسلم ولا معاهد، قد عرف وجوهه، فكان يصدق منه النساء، ويشتري منه الإماء اللاتي يتخذهن أمهات أولاد، ويقول: لا أستحل أنكح إلا طيّبا، فإن ذلك في الأولاد. وحكى البلاذري أن عبد الملك كان يشتو بالصنبرة «1» من الأردن، فاذا انسلخ الشتاء نزل الجابية «2» ، فإذا مضت أيام من آذار دخل دمشق، حتى إذا حان حمّارة القيظ أتى بعلبك، فأقام بها، حتى تهيج رياح الشتاء، فيرجع إلى دمشق، فإذا اشتد البرد، خرج إلى الصنبرة. وعن المدائني قال: رأى عبد الملك كأنه بال في الكعبة، فبعث إلى سعيد بن المسيب من سأله عنه، وقال له: لا تخبره أنني رأيته، فقال له الرجل: رأيت كذا، فقال له سعيد: مثلك لا يرى هذه الرؤيا، فرجع إلى عبد الملك فأخبره فقال: ارجع إليه فأخبره أني رأيتها، فرجع إليه فأخبره، فقال: يخرج من صلبه من يلي الخلافة. وعن حبيب بن منيع قال: جلست إلى سعيد بن المسيب يوما، والمسجد خال، فجاء رجل فقال: يا أبا محمد، رأيت في النوم كأني أخذت عبد الملك بن مروان، فوتدت في ظهره أربعة أوتاد، وتدا بعد وتد، فقال: ما أنت [ص 263]

رأيت هذه الرؤيا، فأخبرني من رآها، قال: ابن الزبير، قال: الآن صدقت، وإن صدقت الرؤيا قتل عبد الملك عبد الله بن الزبير، وخرج من صلب عبد الملك أربعة كلهم يكون خليفة، قال: فرحلت إلى عبد الملك فدخلت عليه، وهو في الخضراء بدمشق، فأخبرته الخبر، وسألني عن ابن المسيب، ثم سألني عن ديني، فقلت: أربع مائة دينار، فأمر لي بها من ساعته، ومائة دينار أخرى، وإبل أحملني عليها، وحمّلني طعاما وزيتا وكساء، فانصرفت راجعا إلى المدينة. وقال عبد الملك بن مروان لسعيد بن المسيب: يا أبا محمد، صرت أعمل الخير فلا أسرّ به، وأفعل الشر فلا أسأله، قال: الآن تكامل فيك موت القلب. وكان يقال: معاوية أحلم، وعبد الملك أحزم، وكان على ديوان الصدقة حتى كانت الفتنة. وذكر البلاذري أنه لما ورد كتاب الحجاج على عبد الملك في أمر ابن الأشعث «1» ، نزل عن سريره، وبعث إلى أبي هاشم خالد بن يزيد، فأقرأه

الكتاب، فلما رأى ما به من الجزع والارتياع قال: إنما نخاف الحدث من خراسان وهذا الحدث من سجستان فلا تخفه، ثم خرج عبد الملك على الناس، فقام خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن أهل العراق قد استطالوا عمري، فاستعجلوا قدرتي، فسلّط اللهم عليهم سيوف أهل الشام حتى تبلغ رضاك. وصار الحجاج إلى البصرة فأقام بها، وعزم على لقاء ابن الأشعث، وجعل فرسان أهل الشام يأتونه أرسالا، في اليوم المائة والعشرة وأقل من ذلك وأكثر، وسار الحجاج فنزل الأهواز، وتلاقت المقدمتان، فانتصرت مقدمة الحجاج، فلما رأى ابن الأشعث ما فعل بأصحابه، عبر إلى أصحاب الحجاج، فاقتحم الناس خيولهم في دجيل «1» ، حتى صاروا إلى موضع الوقعة في يوم ضباب، لا يكاد الرجل يتبين فيه صاحبه، فهزم ابن الأشعث أصحاب الحجاج، ودخل ابن الأشعث البصرة، ونزل الحجاج الزاوية «2» ، ثم اقتتلوا، وكان النصر لأصحاب الحجاج، وفقد ابن الأشعث [ص 264] ، فأمر الحجاج فرفعت راية أمان، فأتوه طائعين، ودخل البصرة، وخطب خطبة قال فيها: إن الله عز وجل لم ينصركم بأهل الشام على عدوكم، ولكنكم كنتم أهل الطاعة، وهم أهل المعصية، فنصركم

بغير حول منكم ولا قوة، فاحمدوا الله على نعمه، ولا تبغوا ولا تظلموا، وإياكم وأن يبلغني أن رجلا منكم دخل بيت امرأة، فلا يكون له عندي عقوبة إلا السيف» ، ثم أتى الحجاج بآل الأشعث، فلم يقتل إلا عبد الرحمن بن محمد الأشعث وابن عمه عبد الله بن إسحاق. ودخل البراء بن قبيصة الثقفي على عبد الملك، وكان الحجاج قد طلبه لخروجه مع ابن الأشعث، فأنشده قوله: [الطويل] أرى كل جار قد وفى بجواره ... وجار أمين الله في الأرض يخذل فما هكذا كنتم إذا ما أجرتم ... وما هكذا كانت أمية تفعل فقال عبد الملك: صدقت، وأمر الحجاج أن يمسك عنه. وكان عبد الله بن أنس قد قتل مع الجارود، وكان شجاعا شديد البطش، حمل بخراسان بدرة بفمه فعبر بها نهرا، فلما بلغ الحجاج خبر مقتله، قال: لا أرى أنسا إلا بعين عليّ «1» ، فلما دخل البصرة استصفى مال أنس، فلما دخل عليه قال: لا مرحبا ولا أهلها إيها يا شيخ ضلالة، جوال في الفتن مع أبي تراب مرة، ومرة مع ابن الزبير، ومرة مع ابن جارود، أما والله لأجردنّك جرد القضيب، ولأعصبنّك عصب السّلمة، ولأقلعنّك قلع الصمغة، فقال أنس: من يعني الأمير؟ قال: إياك، أصمّ الله صداك، فرجع أنس فأخبر [عبد الملك] بما لقي من الحجاج، فأجابه عبد الملك جوابا لطيفا، وكتب إلى الحجاج: «أما بعد، يا بن أم الحجاج، فإنك عبد طمّت بك الأمور حتى عدوت طورك، وتجاوزت قدرك، وأيم الله يا بن المستعجمة بالزبيب، لأغمرنّك غمرة كبعض غمرات الليوث للثعالب، ولأخطبنّك خطبة تود لها أنك رجعت في مخرجك من بطن أمك، أما تذكر

حال آبائك بالطائف [ص 265] حيث كانوا ينقلون الحجارة على ظهورهم، ويحتفرون الآبار بأيديهم في أوديتهم ومناهلهم، أم نسيت حال آبائك في اللؤم والدناءة في المروة والخلع، وقد بلغ أمير المؤمنين الذي كان منك إلى أنس بن مالك جرأة وإقداما، وأظن أنك أردت أن تسبر ما عند أمير المؤمنين في أمره، فتعلم إنكاره أو إغضاءه عنه، فإن سوّغك ما كان منك مضيت عليه إقداما فعليك لعنة الله من عبد أخفش «1» العينين، أصك الرجلين، ممسوح الجاعرتين «2» ، ولولا أن أمير المؤمنين يظن أن الكاتب كثر في الكتاب من الشيخ إلى أمير المؤمنين فيك، لأتاك من يسحبك على ظهرك وبطنك، حتى يأتي بك أنسا فيحكم فيك، فأكرم أنسا وأهل بيته، واعرف له حقه، وخدمته رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تقصر في شىء من حوائجه، ولا يبلغنّ أمير المؤمنين عنك خلاف ما تقدم فيه إليك من أمر أنس وبرّه وإكرامه، فنبعث إليك من يضرب ظهرك، ويهتك سترك، ويشمت بك عدوك، والقه في منزله متنصلا إليه، وليكتب إلى أمير المؤمنين برضاه عنك إن شاء الله، والسلام» . وبعث بالكتاب مع إسماعيل بن عبد الله مولى بني مخزوم، فأتى إسماعيل أنسا بكتاب عبد الملك إليه فقرأه، ثم أتى الحجاج بالكتاب إليه، فجعل يقرأه ووجهه يتغير ويتمعر» ، وجبينه يرشح عرقا وهو يقول: يغفر الله لأمير المؤمنين، فما كنت أظنه يبلغ مني هذا كله، ثم قال لإسماعيل: انطلق بنا إلى أنس، قال إسماعيل، فقلت: يأتيك، قال: فقم أذا، فأتى أنسا، فأقبلا جميعا حتى دخلا على الحجاج، فرحب به الحجاج وأدناه، وقال: يا أبا حمزة، عجلت يرحمك الله باللائمة والتنكية «4» إلى أمير المؤمنين قبل أن يعلم كل الذي لك عندي، إن

الذي فرط مني إليك عن غير نية ولا رضى بما قلت، ولكني أردت أن يعلم أهل العراق إذ كان من ابنك ما [ص 266] كان إذا بلغت منك ما بلغت كنت بالغلظة والعقوبة أسرع، فقال أنس: ما شكوت حتى بلغ الحقد، وقد زعمت أننا الأشرار، وسمانا الله جل وعز الأنصار، وزعمت أنا أهل النفاق، ونحن الذين تبوّءوا الدار والإيمان، وسيحكم الله بيننا وبينك، فهو أقدر على العز لا يشبه الحق عنده الباطل، ولا الصدق الكذب، وزعمت أنك اتخذتني ذريعة وسلما إلى مساءة أهل العراق باستحلال ما حرم الله عليك مني، ولم يكن لي عليك قوة، فوكلتك إلى الله وإلى أمير المؤمنين، فحفظ من حقي ما لم تحفظه، فوالله إن النصارى على كفرهم، لو رأوا رجلا خدم المسيح عيسى بن مريم عليه السلام يوما واحدا، لعرفوا من حقه ما لم تعرفه من حقي، وقد خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، وبعد فإن رأينا خيرا حمدنا الله عز وجل عليه، وإن رأينا غير ذلك صبرنا والله المستعان، فرد الحجاج عليه ما كان قبض من أموالهم. وأراد عبد الملك أخاه عبد العزيز على أن يخلع نفسه، فأبى، فكتب إليه يعتبه ويقول: احمل إليّ خراج مصر، فكتب إليه: يا أمير المؤمنين، إنّا قد بلغنا سنا لم يبلغها أحد من أهل بيتك إلا كان بقاؤه بعدها قليلا، وإنّا لا ندري أينا يأتيه الموت أولا، فإن رأيت ألا تغثت «1» عليّ بقية عمري فافعل، فرق له عبد الملك وقال: لعمري لا فعلت ذلك ولا سؤت أخي، وقال لبنيه: إن يرد الله يعطكم إياها، ثم لم يلبث أن أتاه نعي عبد العزيز، فاسترجع وبكى، ووجم ساعة ثم قال: رحم الله عبد العزيز، فقد مضى لسبيله، ولابد للناس من علم يسكنون له وقائم يقوم بالأمر بعدي، وكان مؤثرا للوليد من بنيه على حبه لكلهم، وكان الحجاج يكتب إليه بأن يعهد إلى الوليد، فعهد إلى الوليد ثم إلى

سليمان، وكتب ببيعته إلى المدينة وسائر الآفاق [ص 267] . ثم مرض عبد الملك مرض موته، فقال بعض الأطباء إن شرب الماء مات، فاشتد عطشه، فقال: يا وليد اسقني، قال: لا أعين عليك، فقال: يا فاطمة اسقني، فقامت لتسقيه فمنعها الوليد، فقال للوليد «1» لتدعنها أو لأخلعنك، فقال: لم يبق بعد هذا شىء، فسقته، فخمد، وكان عبد الملك قد كرب للموت، فقال: اصعدوا بي أعلا الدار، فصعد، فرأى من كوة فيها قصّارا وحوله حمار له يرتع، فقال: يا ليتني كنت قصارا، يا ليتني كنت حمار القصار، فأتى الوليد يسأل عنه، وفاطمة بنت عبد الملك تبكي، ففتح عبد الملك عينه وأنشد: [الطويل] ومستخبر عنّا يريد لنا الردى ... ومستخبرات والدموع تسيل ثم طلب ابنه الوليد وقال له: إذا أنا مت فضعني في قبري ولا تعصر عينيك عصر الأمة، ولكن شمّر وابرز والبس للناس جلد نمر، فمن قال برأسه كذا، فقل بسيفك هكذا، فقلّ ما اجتمع فحلان في ذود «2» إلا بغى أحدهما على الآخر، فكن أنت الباغي، ثم بقي بمنتبهه يقول: إنه لا يجتمع فحلان في ذود، ولا سيفان في غمد. ولد عبد الملك في رمضان سنة عشرين، وتوفي في نصف شوال سنة ست وثمانين، وعمره ثلاث وستون سنة، ومدة ولايته بعد مقتل ابن الزبير، وهي الخلافة المجمع عليها، ثلاث عشرة سنة، وثلاثة أشهر، وخمسة عشر يوما، وكانت الفتنة نحو تسع سنين، وقبره خارج باب الجابية بدمشق. وقال شاعر يرثيه:

104 - دولة ابنه الوليد بن عبد الملك

[الطويل] سقاك ابن مروان من الغيث مسبل ... أجشّ سماحيّ يجود ويهطل فما في حياة بعد موتك رغبة ... لحر وإن كان الوليد يؤمّل ثم: 104- دوّلة ابنه الوليد بن عبد الملك أبي العباس «1» ، عمّر بيوت الله التي أذن أن ترفع، وسطر في صحفه من أجرها [ص 268] ما ينفع، عمّ المساجد الثلاثة التي تشدّ لها الرحال، ولمّ شعثها في أيسر حال، وعني بمسجد دمشق، حتى انتاش من أيدي النصارى شطره، وكمل بالمساجد قطره، فقوّم شقه المائل، واستسلم كافره المتحايل، فقام المؤذن لا يشوش عليه صوت ناقوس، والإمام لا يخلط عليه ترنم قسوس، وحسم في الشق المائل منه العلة، ونصب وجه المذبح إلى القبلة، وأصبح الدين كله لله من بعد ما أعرض ونأى بجانبه، وساء كفره جهد مناصبه، وعوض النصارى بما كان للمسلمين من نصف كنيسة مريم، وعوّل على ما رآه، وصمم ثم أغرب بناءه، وأغرب سماءه، حتى رفع على السماك سمكه، ووضع بإزاء السماء حبكه، ولو

كان هذا موضع القول لأطلت وأطنبت وأمللت، إلا أن الوليد كان يعاب لبه بالفراغ، ورأسه بخفة الدماغ، كان أخف من خطرة نسيم، وأطيش من نار في هشيم، وكان يتلجلج لحنا، ويتحرج ولا يقول كلاما لا معنى لغالبه، مثل كلام النائم أو السكران، هي ألفاظ إلا أنه لا يفهمها الإنسان، فكان خفيفا لحّانا، لا يقيم لسانه خطاء، ولا عقله امتحانا، وكان على هوجه الشديد، وعوجه عن النهج السديد، شديد المهابة مجيد الإصابة، سعادة أخدمته بها الأقدار، وقدمته إليها أضعاف المقدار، وكان معظما لجانب الحجّاج، حتى إنه كان أمكن عنده بما كان عند أبيه عقدة، وأقرب مكانا ومودة، وإمكانا في رخاء وشدة، وكان الوليد إذا ذكره قال: هو الذي مهّد لمنابرنا، وسهّد جفونه لنوم أكابرنا، يعدد صنعه السالف، وردعه المخالف، ويرى أنه من أكرم زلفه، وأعظم ما جاءه الدهر به من تحفه، وكذلك كان الحجاج له صدق ولاء لا يكذب، وإجماع لا يشذب، حتى إنه لما احتضر كتب إليه كتابا أودعه، ما فارقه به وودعه، زعم فيه أن رضى الوليد سبب مفازه، وموجب دخوله إلى الجنة وجوازه، وقال فيه: [ص 269] [الطويل] إذا لقيت الله عني راضيا ... فإنّ سرور النفس فيما هنالك ولما رجع الوليد من جنازة أبيه، صعد المنبر، فحمد الله واثنى عليه، ثم قال: «لم أر مثلها مصيبة، ولم أر مثله ثوابا، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون، لعظم المصيبة، والحمد لله على حسن العطية، إني قد كفيت ما كانت الخلفاء قبل تتكلم به، فمن كان في قلبه خبّ «1» فليمت بدائه، ومن مال أدبه أملنا رأسه» . وولى عمر بن عبد العزيز المدينة، وأمره أن يبني مسجدها ويجعله مائتي

ذراع، وبعث بالفعلة من الشام، وكتب إلى ملك الروم بأن يعينه في بنائه، فبعث إليه بمائة ألف مثقال ذهب، ومائة فاعل، وأربعين حملا فسيفساء «1» مذهبة، وبعث إلى عامله بمكة في عمل الفسيفساء، وترخيم الجدر بالمسجد، وبعث في عمارة المسجد الأقصى، وشرع هو في عمارة مسجد دمشق، وقال لأصحابه: أقسمت عليكم لما أتاني كل واحد منكم بلبنة، فجعل رجل من أهل العراق يأتيه بلبنتين، فقال له: ممن أنت؟ قال من أهل العراق، فقال: يا أهل العراق، تفرطون في كل شىء حتى في الطاعة. وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة أصبغ بن محمد بن محمد بن لهيعة السكسكي، أن الوليد حين بنى مسجد دمشق، مر برجل ممن يعمل فيه وهو يبكي، فقال: ما قصتك؟ فقال: يا أمير المؤمنين، كنت رجلا جمّالا فلقيني يوما رجل فقال لي: أتحملني إلى مكان كذا، وذكر لي موضعا في البرية، فقلت: نعم، فلما سرنا بعض الطريق التفت إليّ فقال: إن بلغنا الموضع الذي ذكرته لك وأنا حي أغنيتك، وإن متّ فاحمل جثتي إلى حيث أصف لك، فإن ثمّ قصرا خرابا، فإذا بلغته فامكث إلى ضحوة نهار، ثم عد سبع شرفات من القصر، واحفر تحت ظل السابع قدر قامة، تجد بلاطة، فاقلعها تجد مغارة، ترى فيها سريرين على أحدهما رجل ميت، فاجعلني على السرير الآخر، واحمل ما معك مالا من المغارة وارجع إلى بلدك، فمات الرجل في الطريق، ففعلت ما أمرني به، وكان معي أربعة جمال وحمارة، فأوسقتها كلها مالا [ص 270] من المغارة، وسرت بعض الطريق، وكانت معي مخلاة، نسيت أملأها، وداخلني الشره، فرجعت بها، وتركت الجمال والحمارة، فلم أجد المكان، ورجعت فلم أجد الدواب، فبقيت أدور أياما، فلما يئست رجعت إلى دمشق، ولم أحصل على

شىء، واضطرني الأمر إلى ما ترى أعمل في التراب كل يوم بدرهم، وكلما ذكرت حالي لم أملك نفسي أن أبكي، فقال الوليد: لم يقسم الله لك من تلك الأموال شيئا، وإليّ صارت وبنيت بها هذا المسجد. وعزل المجذمين في مكان، وأعطاهم، وقال: لا يسألوا الناس، وأعطى كل مقعد خادما، وكل ضرير قائدا، وكان صاحب بناء واتخاذ مصانع، وكان عند أهل الشام من أفضل خلفائهم. قال ابن الأثير: وفتح في ولايته فتوحات عظام، منها الأندلس وكاشغر والهند، ثم قال: يمر بالبقال فيقف عليه يأخذ حزمة بقل فيقول: بكم هذه، فيقول: بفلس، فيقول: زد فيها. قلت: وقد قيل إنه أول من تجبّر من الخلفاء، وقال الوليد: أنا أنفق على الكعبة وأكسوها وأطيبها، فعلام يأخذ بنو شيبة هداياها، لأمنعنّهم إياها العام فأرمضهم، وخرج الوليد حاجا، فخرجوا يتلقونه، فوجدوا الحجاج معه، فقالوا له: أنت وإن كنت معزولا عنا، فإنك محمود عندنا، وحرمتنا ما لا تنكر، وقد بلغنا كذا، ففزعنا إليك، فقال: إذا دخلتم على أمير المؤمنين فتجنبوني عنده، ثم سلموا عليه خالي الوجه، ودعوني أكفيكموه، ففعلوا، فلما خرجوا قال الحجاج: على ما يدع هؤلاء وهدايا الكعبة، قال: قد أجمعت على أخذها، قال: فافعل، فاني أشرت بهذا على أمير المؤمنين عبد الملك فقال: أنا أبرأ إلى الله من هذا، فقال الوليد: أنا أبرأ مما برأ منه أمير المؤمنين عبد الملك، وتركها لهم. واستعمل عاملا له فأتاه رجل بنصيحة، قال: إن كانت لك رددناها عليك، وإن كانت لنا، فلا حاجة لنا فيها، قال: جار لي أخلّ بمركزه، فقال: بئس الجار أنت، نحن ناظرون فيما ذكرت، فإن كنت صادقا [ص 271] مقتناك، وإن كنت كاذبا عاقبناك، وإن أحببت أن نعفيك عفيناك، قال: اعفني، قال: قد فعلت. وعن عامر بن عبد الأعلى، قال: حدّث الوليد أن جمع بين هند بنت الحسن

العميلقي، وبين جمعة بنت عابس الإيادي، فقيل لجمعة: أي الرجال أحبّ إليك، [قالت] : الغليظ الكتد «1» ، الظاهر الجلد، الشديد الحدب المسد، ثم قيل لهند: أي الرجال أحب إليك، قالت: القريب الأمد، الواسع البلد، الذي يوفد إليه ولا يفد، فقال الوليد: من هذا الرجل، فقال له هشام بن عبد الأعلى الفزاري: أنت يا أمير المؤمنين. وحكى المدائني قال: مرض الوليد بن عبد الملك فرهقته غشية، فمكث عامة يومه عندهم ميتا، فبكي عليه، وخرجت البرد بموته، فقدم رسول على الحجاج بذلك، فاسترجع ثم أمر بحبل فشد في يده، ثم أوثق إلى اسطوانة، ثم قال: اللهم لا تسلط عليّ من لا رحمة له، فطالما سألتك أن تميتني قبل أمير المؤمنين، فبينا هو كذلك، إذ قدم عليه بريد بإفاقته، فخرّ ساجدا، وأعتق كل مملوك له، وتصدق بصدقة كبيرة، ولم يكن أحد أسرّ بعافيته من الحجاج، وبعث إليه كتابا بالتهنئة، ومعه من تحف الهند وخراسان، ثم لم يمت الحجاج، حتى ثقل على الوليد، فقال خادم للوليد: إني لأوضّيه يوما لصلاة الغداة، إذ مد يده، فجعلت أصب عليها الماء وهو ساه، والماء يسيل، ولا أقدر أن أتكلم، ثم نضح الماء في وجهي وقال: أناعس أنت، ثم رفع رأسه إليّ فقال: ويلك، أتدري ما جاء الليلة؟ قال: ويلك مات الحجاج، فاسترجعت، فقال: اسكت، فما يسر مولاك أن في يده تفاحة يشمها، وأنه لم يمت، ثم قال: رحم الله الحجاج، لقد كان منا أهل البيت. وحج الوليد فوافاه محمد بن يوسف أخو الحجاج من اليمن، وحمل هدايا للوليد، فقالت أم البنين بنت عبد العزيز امرأة الوليد: اجعل لي هدية محمد بن يوسف، فأمر [ص 272] بصرفها إليها، فجاءت رسل أم البنين إلى محمد بن

يوسف بقبض الهدايا، فأبى وقال: لا أسلمها حتى يراها أمير المؤمنين، فغضبت ودخلت على الوليد فقالت: [لا حاجة] «1» لي في هدايا محمد، فإنه بلغني أنه أخذها من الناس ظلما وغصبا، وإنه يسخرهم لعملها، فلما حملها إلى الوليد قال له: بلغني أنك اغتصبتها الناس وكلفتهم عملها وظلمتهم، فقال: معاذ الله، فأحلفه خمسين يمينا بين الركن والمقام أنه ما ظلم أحدا، ولا أصابها إلا من طيب، فحلف فقبلها الوليد، وبعث بها إلى أم البنين. ومات محمد بن يوسف باليمن، أصابه داء انقطع منه. واستند [الوليد] إلى حائط يلي زمزم، والفضل بن عباس بن أبي لهب يستسقي من زمزم ويقول: [الرجز] يا أيها السائل عن عليّ ... تسأل عن بدر لنا بدريّ مردد في المجد أبطحيّ ... زمزم يا بوركت من طويّ بوركت للساقيّ والمسقيّ ... أسقي على مأثرة النبيّ ثم أتى الوليد منها بماء فشربه ومسح منه على وجهه، ولم ينكر عليه قوله، إلا أنه لم يصله حتى كلّم فيه. وعن مدرك بن حجوة، أن قوما دخلوا على الوليد وعنده أخوه مسلمة، فشكوا أمرا من أمرهم، فلم يبينوا ولا أحسنوا العبارة، فتكلم رجل منهم فأفصح وأوضح، وعبر عن نفسه وعن القوم، فقال مسلمة: ما شبهت كلام هذا الرجل إلا بسحابة لبدت عجاجا. ولما مرض الوليد بن عبد الملك ذكر له موسى بن نصير طبيبا قدم معه من المغرب روميا، فأدخله عليه، وعنده ابن رأس البغل، ويقال:

105 - دولة سليمان بن عبد الملك بن مروان

ابن رأس الحمار «1» طبيب عمه عبد العزيز بن مروان، وكان من أهل الإسكندرية، فتراطنا بالرومية، فقال أحدهما لصاحبه: ما تؤوّله؟ قال: السلّ، قال: صدقت، ودعا له صاحب موسى بفرخ، فطبخ، وألقى عليه مرقة دواء، وحشّاه منه جرعا، فلم يثبت في جوفه وقاءه، وقال: لا أرى هذا وافقك، وعندي [ص 273] ما هو أسهل منه، وأنا آتيك به غدا، فخرج من عنده وقال: والله لا يصبح حيا، فمات في السحر، وتوفي سنة ست وتسعين، وهو ابن تسع وأربعين، وملك تسع سنين، ودفن خارج باب الصغير بدمشق، وكان نقش خاتمه: اذكر الموت يا وليد، وقيل: بل كان: يا وليد إنك ميت. ثم: 105- دوّلة سليمان بن عبد الملك بن مروان أبي أيوب «2» ، وكان ألذ من غفوة النّوم، وحفوة اللّوم، لطيب زمانه، ووطي المخاوف بأمانه، وكان مفرط الغيرة، يؤاخذ بالظنون، وينابذ بريب المنون، سمع رجلا يرجّع في الغناء فتوجّع وقال: هذا رائد الزنا، وأمر بأن يخصى فجذ أنثييه، وبذ السوابق بما جنى عليه، وكان مدة أبيه عبد الملك، وأخيه

الوليد مغرى بعيب الحجاج، معنّى منه بما يكثر ريب اللجاج، وكان ينوي إن صارت إليه نوبة الخلافة، له نومة كل آفة، فمات قبل ذلك الحجاج، وفات الحجاج، فسبقت نية سليمان فعله، وسيفه عدله، وكان سليمان نهما لا يشبع، ملتهما يأكل مع اللقمة الإصبع، حتى استأسد واستسبع، وأكل ما طار بجناح أو مشى على أربع، وأمه وأم الوليد ولادة بنت العباس بن جزي العبسي، نشأ في أخواله بني عبس، ونأى في أحواله عن اللبس، وكان أبيض جعدا، كاد محياّه يندى، نظر يوما إلى المرآة وقد لبس حلة خضراء، رفل في سندسها، ونحل نوار الخمائل من أنواره ضوء مشمسها، فقال: أنا الملك الفتى، أو قال: أنا الملك الشاب، لما داخله بالملك الإعجاب، ومرّ في خروجه إلى مصلاه بجارية له كان بها كلفا، وبحبها شغفا، فلما قال لها هذا القول قالت: [الخفيف] أنت نعم المتاع لو كنت تبقى ... غير أن لا بقاء للإنسان [ص 274] ليس فيما علمته فيك عيب ... كان في الناس غير أنك فان فتطير من قولها وتشاءم، وراجع الفكر في هذا وداوم، ثم أتى المنبر فخطب فأسمع، ثم تقدم إلى المحراب، وصوته لا يتعدى له خرق مسمع، فعاد إلى منزله ساكنا يتوجع، وطلب تلك الجارية كالمنكر عليها، فأقسمت أنها لم تره ذلك اليوم أجمع، فعلم أنه نعي، وأنه إنما خرج ليودع، وكان ملك حسن وإحسان، وخليفة يمن وأمان، ولي سنة ست وتسعين، فجاء جميل المذهب، كأنما أيامه الطراز المذهب، أبقى من حسن السيرة ذكرا لا يبلى، وأثرا لا يذهب، ملك أمره فما شعّث ولا تشعب، وأنصف من الظالم فأخمد سورة من تشغب، وأخرج من الحبوس، ونزع عن المستورين لباس البوس، وكساهم حلل الكرامة، وأنساهم بعدله ما مسّهم من السآمة، ورد عنه بردهم الملامة، وأخذ الظلامة، وراقب الله

كأنما يتمثل وقوفه بين يديه يوم القيامة. وكان الوليد أخوه ولاه فلسطين فأحدث مدينة الرملة، وبنى مسجدها، وأتاه نعي الوليد، وكان ولي العهد بعده، فخرج من فلسطين إلى دمشق، فكانت ولايته سنتين وثمانية أشهر، فأسف الرعايا على ملكه القصير، وزمانه الغض النضير، ولكن ليالي الوصل فيهن تقصير، ومات بدابق، ودفن بها وكفّن، ثم وسّد في مضاجع تربها، وذلك في سنة تسع وتسعين، وكان يوم مات ابن خمس وأربعين، وحسبه من حسن الخاتمة في الدنيا والإمارة الدالة على تنقله في الدرجات العليا، أن صلى عليه الرجل الصالح عمر بن عبد العزيز رحمه الله، ورحل من حرم الخلافة المستباح، إلى حرز الله الحريز، وكان له أولاد، منهم أيوب المكنى به، وكان من قريش عفافا وأدبا، وكان أبوه قد بايع له بالعهد، وكان مؤدبه وحاضنه عبد الله بن عبد الأعلى الشاعر، وقال فيه جرير: [البسيط] إن الإمام الذي ترجى فواضله ... بعد الإمام ولي العهد أيوب [ص 275] وهلك في حياة أبيه، ورثاه عبد الله بن عبد الأعلى، بقصيدة يقول فيها: [الكامل] قد بان أيوب الذي لفراقه ... سرّ العدوّ غضاضتي وتخشّعي أيوب كنت تجود عند سؤالهم ... وتظل منخدعا وإن لم تخدع قال البلاذري: خرج سليمان إلى دابق «1» ليغزي منها، فأغزاهم وعليهم ابنه أيوب، ومعه مسلمة بن عبد الملك، وكان أيوب ولي عهده، فلما احتضر

سليمان قال: إن ابني أيوب بإزاء عدو، ولا أدري ما يحدث به، فإن أهمل الأمر إلى قدومه ضاع وانتشر، ولم تؤمن الفتنة على الناس في جميع الأقطار، ولعل الحدثان أن يكون قد غاله، على أني قد وليته العهد وأنا أظن أن عمري يطول وهو حدث، فولى عمر بن عبد العزيز، ولقد وفق في نظره الوجيه ورأيه الوجيز، فارق الناس على وجه جميل، واختار لهم إماما لا يمين مع الهوى ولا يميل، عمر وما أدراك ما عمر، نزع من جده عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمير المؤمنين، إلى أحسن السير، وعهد سليمان بعد عمر بن عبد العزيز إلى يزيد بن عبد الملك ثم أيوب إن كان بعد يزيد، وكره أن يخرجها من ولد عبد الملك فيختلفوا، وصوّب رجاء بن حيوة «1» رأيه في ذلك، وقوّى عزمه وهو هالك، وتوفي أيوب في غزاته، وقيل إن أباه علم بمماته قبل وفاته، ففعل ما فعل، وما عسى يغني قول ليت أو لعل. وقال المدائني: دخل رجل على سليمان بن عبد الملك فتكلم، فإذا أن يسبر عقله، فإذا هو مضعوف، فقال سليمان: زيادة منطق على عقل خدعة، وزيادة عقل على منطق هجنة، وأحسن ذلك ما زان بعضه بعضا، ومن كلامه: الحسود لا يسود. وقال سليمان ليزيد بن أبي مسلم: ما تقول في الحجاج، قال: يأتي يوم القيامة بين أبيك وأخيك، فضعه حيث شئت. وقال المدائني: دخل أيوب بن سليمان على أبيه فقال: ما لك يا بني، قال: خدرت رجلي، فقال: يا بني اذكر أحب الناس إليك، فقال: صلى الله [ص 276] على محمد، فقال سليمان:

ابني سيد، وإني عنه لفي غفلة، فولاه عهده. وتذاكر هو ورجل كان يأنسه الملاذ، فقال سليمان: والله لقد أكلنا الطيب، ولبسنا اللين، وامتطينا الصافن، وأتينا العذراء، فلم يبق من لذتي إلا صديق أطرح فيما بيني وبينه مؤونة التحفظ. وضم سليمان عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود إلى ابنه أيوب، فأتاه فحجبه، فجلس في بيته، فعتب أيوب عليه، فعاتبه عون، فغضب وشكاه إلى أبيه ولامه، فقال: ضممتني إلى رجل إن أتيته حجب، وإن جلست عنه عتب، وإن عاتبته غضب. وكان سليمان يؤتى في كل يوم صلاة الغداة بعشر رقاقات وخروفين عظيمين ودجاجتين سمينتين، فيأكل ذلك كله [لم] يخل فيه مرى. وحجّ سليمان، فقال لقيّمه على طعامه: اطعمني من خرفان المدينة، أو قال من جدائها، ودخل الحمام ثم خرج، وقد شوي له أربعة وثمانون خروفا، أو جديا، فجعل القيّم يأتيه بواحد واحد فيتناول جرما جزّه، ويضرب بيده إلى شحم كليته، فأكل أربعة وثمانين جرما زجه بشحم أربعة وثمانين كلية، ثم قال: ادع يا غلام عمر بن عبد العزيز، وأذن للناس، ووضع الطعام فأكل معهم كما أكلوا. وأتى الطائف، فلقيه ابن أبي زهير الثقفي، رجل من أهلها، فسأل أن ينزل عليه، قال: إني أخاف أن أنهمك، قال: قد رزق الله خيرا كثيرا، فنزل عليه، فجعل يأتيه من حائطه وهو فيه بخمس رمانات خمس رمانات، حتى أكل مائة وسبعين رمانة، ثم أتي بخروف وست دجاجات، فأكل، ثم أتي بمكوك «1» زبيب فأكله ثم وضع الطعام فأكل وأكل الناس، وفتح ابن أبي زهير أبواب الحيطان، فأكل الناس من الفاكهة، فقال سليمان: قد أضررنا بالرجل، وأقام بالطائف سبعا ثم صار إلى مكة، فقال: الحقني، فلم يفعل، فقيل له لو لحقته، قال: أقول ماذا،

أعطني ثمن طعامي. وأتاه وهو بدابق رجل نصراني كان منقطعا [ص 277] إليه من قبل الولاية، فقال له: هل أهديت لي شيئا، قال: نعم، وأتاه بزنبيل مملوءا بيضا مطبوخا، وزنبيل ملؤه تينا، فجعل يقشر له البيض، فيأكل بيضة بتينة، حتى أتى على الزنبيلين، ثم أتوه بقصعة مملوءة مخا مخلوطا بسكر، فأكل ذلك ومرض فمات. وقال سليمان وقد ذكر عنده تشقيق الخطب والإسهاب: من أكثر القول وأحسن، قدر على أن يقل فيحسن، وليس من قصر فأحسن بقادر على أن يطيل فيحسن. وقام إليه رجل وهو يأكل فقال: إني زوجت ابني، وليس عندي ما أجمع به أهله إليه، فاسلفني من بيت المال، فقال: ما يزال ماص لبظر أمه يقوم إلينا فيفسد علينا طعامنا، فتنحى الرجل وجلس، فلما فرغ من طعامه قال: قلت ماذا لله أبوك، فرد عليه مسألته، فقال: فكم عطاؤك؟ قال: مائتا دينار، فقال: يا قسامة، أعطه مائتي دينار، ومائتي دينار، ومائتي دينار، وطوّل نفسه وطوّل نفسه حتى انقطع، فنظر فاذا جميع ذلك قيمة اثنين وسبعين ألف درهم، ثم قال: أيا رجل رضيت؟ قال: نعم، فرضي الله عنك يا أمير المؤمنين، فقال: يا قسامة، اضعفها له، فأخذ مائة ألف وأربعين ألف درهم. وحدّث محمد بن سعد عن الواقدي قال: انصرف سليمان من صلاة الجمعة، فأكل شحم كلي أربعين جديا، وصحيفة مملوءة مخا، وغير ذلك ثم جامع، فقام «1» عن الجارية موعوكا، فمات بدابق. وقال جرير: فياقوم، ما بالي

وبال ابن نوفل وبال بكائي نوفل بن مساحق «1» ، ولكنها كانت سوابق عبرة على نوفل من كاذب غير صادق: [الطويل] فهلا على قبر الوليد سفحتها ... وقبر سليمان الذي عند دابق قال المدائني: الثبت أن أيوب بن سليمان توفي بالشام، ولم يكن غازيا، إنما كان الغازي مسلمة بن عبد الملك، وكان سليمان أراد أن يغزيه [ص 278] على الجيش فمرض، فلما احتضر أيوب، دخل عليه وهو يجود بنفسه، ومعه عمر بن عبد العزيز ورجاء بن حيوة، فجعل ينظر في وجهه فتخنقه العبرة فيردها، فلما قضى نحبه ودفن، وقف على قبره وقال: [الطويل] وقفت على قبر مقيم بقفرة ... متاع قليل من حبيب مفارق ثم قال: السلام عليك يا أيوب: [السريع] كنت لنا أنسا ففارقتنا ... فالعيش من بعدك مرّ المذاق ثم ركب دابته وقال:

106 - دولة عمر بن عبد العزيز

[البسيط] فإن صبرت فلم ألفظك من جزع ... وإن جزعت فعلق منفس ذهبا [ثم] : 106- دوّلة عمر بن عبد العزيز ابن مروان «1» ، أبي حفص، ناهيك بفرد «2» لا يقرن بتوأم، وملك كانت أيامه كالمنام، ورعاياه نوّم تقابل في منابت أبيه وأمه، وتماثل بمناصب خاله وعمه، تكنّفه من قبل الأبوّة النسب الأموي، ومن قبل الأمومة الحسب العدوي، فطابت تبعته وطافت الأرض بأغضر الأنفاس سمعته، وأخذ نفسه بسلوك سيرة جده لأمه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقارب فعل سميّه، وقارن منهم ذلك الولي بوسميه «3» ، وجدّ فما قصّر، ووجد محاسن ما تبصّر،

وقد كان من آثق بني أبيه تمتعا، حتى شمّر وأنف إخوانه تمنعا حتى تأمّر، فلما ولي ولي بتلك الزخارف، ولوى ورقات تلك المطارف وسئل عن مذاهب الراشدين ثم ما تعداها، وتجلبب تلك الخلائق الطاهرة وترداها، وأول ما بدأ به أمره أن بدّل سبّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه بقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ «1» ، وأبدل تلك السيئة بهذه الحسنة الباقية الإحسان «2» ، وأزال تلك السيئة ومحاها، وأزاح ليلها الداجي بارتفاع ضحاها، فخلصت الذمم من إرهاقها، واستراحت المنابر مما كانت تحمله من إثم [ص 279] الخطيئة في أعناقها، وقنع بالقليل من القوت، طلبا لحلّه، وسببا لتخفيف حمله، وهجر النساء منذ ولي، وقال لزوجته: إن رضيت بهذا وإلا فاعتزلي، ثم أمرها أن تردّ إلى بيت المال ما كان أبوها عبد الملك نحلها، وألزم بمثل هذا سائر بني أمية واستعاد نفلها، وقال: هذه فواضل أموال لبيت المال لا تجوز أن تحتجز، ولا أن يؤخذ بأيديكم عبثا وتكتنز، ولقد أعطاكموها أئمة جور، أعطت ما لم تملك، وأعدت بالهلاك بها ما لم تهلك، وأخلص لله كل عمله، وخلّا كل أمله، وكان يبرد البريد إلى المدينة لإبلاغ سلامه لساكنها عليه أفضل الصلاة والسلام، لا لشغل آخر له غيره خاصة، ولا لعامة الإسلام، ودام حميدا حتى وفي وما بلغ الأربعين، وأنشد باب الخير فلا له فاعل ولا عليه معين، ما طالت مدت، فما سلم حتى ودع، ولا أومض بارقه حتى انطوى، وكأنه لم يلمع، دفن بخناصرة «3» ، وغيب الحق في ذلك الثرى ناصره، ولم يقم بعده ملك لا إمام،

ولم يتم مثله في موضعه سقاه الغمام، وأمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، واسمها ليلى، وأمها بنت الأمراء، التي كانت تمذق اللبن بالماء، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ينهاها فتنتهي بمحضره، ثم تعاود فعلها في مغيبه، وحديث ابنتها معها مشهود، وهو كان سبب تزويج عاصم بن عمر بها برأي أبيه عمر. قال البلاذري: ولّى سليمان بن عبد الملك عمر بن عبد العزيز الخلافة، وكتب كتابا سمّاه فيه ويزيد بن عبد الملك إن كان من بعده، فلما مات سليمان أخرج رجاء بن حيوة الكتاب، وأظهر اسمه، وبايعه الناس بدابق، فقال لرجاء ذبحتموني بغير سكين، وكان عمر بن عبد العزيز أشج، ضربه حمار وهو بمصر، فلما رآه أخوه الأصبغ «1» ، قال: هذا والله أشج بني أمية الذي يملأ الأرض عدلا، وكانت خلافته ثلاثين شهرا، ووفاته وهو ابن تسع وثلاثين سنة، وتوفي في سنة إحدى ومائة، ودفن بدير سمعان «2» ، وكان نزوله بخناصرة من عمل جند قنسرين، وبها وفاته، وصلى عليه رجاء بن حيوة الكندي، ويقال مسلمة

بن عبد الملك، ولما ولي عمر بن عبد العزيز صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «أيها الناس، من صحبنا فليصحبنا بخير، يبلغنا حاجة من لا يستطيع إبلاغها، ويدلنا من العدل على ما لم نهتد له، ويؤدي الأمانة إذا حملها، ويعيننا على الخير ويدع ما لا يعنيه، فمن كان كذلك فحي هلا به، ومن لم يكن كذلك فلا يقربنا» . قال أبو سنان ضرار: فحجبوا والله دونه، قال: وهذا والله أول كلام تكلم به حين استخلف. ولما ترعرع عمر بن عبد العزيز استأذن أباه في إتيان المدينة وقال: أحب أن أكتب العلم، وأحضر قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقرب عليّ الحج، فأذن له في ذلك، فأتى المدينة. وقال الواقدي: أذن له أبوه في إتيان المدينة وقال له: اجتنب آل عبد الرحمن بن عوف، وآل سعيد بن العاص، فإن ثمّ شرارة وشرارة وسوء أخلاق، فكان يجالس أهل الفقه والورع. قال المدائني: أوصى عبد العزيز لعمر بأربعين ألف دينار، ودفعها إلى ابن رمانة، مولى لبعض أهل المدينة، فلما توفي عبد العزيز أتاه المال فقبضه، ثم ذهب ابن رمانة فحدث بذلك أبا بكر بن عبد العزيز، فغضب وكتب إلى عمر: إنك أخذت هذا المال دوننا، ثم شخص عمر من المدينة فقدم الشام، فلما استخلف الوليد بن عبد الملك وهو صهره، كانت أم البنين بنت عبد العزيز عنده، ولاه الوليد المدينة فأحسن السيرة، إلا أنه كان لبّاسا عطرا، وإنما تقشف بعد ذلك، فكان يعمل له ثوب الخز بمائة دينار فيستحسنه، ثم إنه كان يؤتى بالثوب الخشن بأقل من دينار أو بدينار، فيقول: ما أصنع بهذا، ايتوني بأخشن منه وأقل ثمنا، وكان ابن رمانة لمغاضبته إياه يرفع على عماله ويقع فيهم حين عزل عن المدينة، فقال عمر: لو أشاء أن آخذ كتاب الوليد إلى عامل المدينة في ضرب ابن رمانة مائة سوط، وحلق رأسه ولحيته، فقلت: ولكني رأيته يتقي الله منجّى، وفي ولاية عمر المدينة يقول

الأحوص: «1» [ص 281] [الكامل] وأرى المدينة إذ وليت أمورها ... أمن البريء بها وخاف المذنب وقال أيضا: وأرى المدينة حين كنت أميرها ... أمن البرىء بها ونام الأعزل وأراك تفعل ما تقول وبعضهم ... مذق الحديث يقول ما لا يفعل «2» وكان عمر يساير سليمان بن عبد الملك، فرعدت السماء وبرقت، فقال عمر: يا أمير المؤمنين، هذه قدرة الله عند الرحمة، فكيف بها عند العذاب. وقال عمر لرجل: من سيد قومك، فقال: أنا، قال: لو كنت كذلك ما قلته. وقال المدائني: جمع عمر بني مروان، فقال: يا بني مروان، إني أظن نصف جميع مال الأمة عندكم، فأدوا بعض ما عندكم إلى بيت مال المسلمين، فقال هشام: لا يكون والله ذاك حتى تذهب أرواحنا، فغضب عمر وقال: أما والله يا بني مروان، إن لله فيكم ذبحا، ولولا أن تستعينوا عليّ بمن أطلب هذا المال منه لأضرعت خدودكم. وقال المدائني: كتب بعض عمال عمر بن عبد العزيز إليه: إن مدينتنا تحتاج إلى مرمّة، فكتب إليه: «أما بعد، فقد بلغني كتابك، وفهمت ما ذكرت فيه، فحصن مدينتك بالعدل، ونقّها من الظلم، والسلام» . وقال: كتب عمر إلى عبد الحميد «3» بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب عامله على الكوفة:

اجتنب الحاجات عند حضور الصلوات، والسلام. وقيل لعمر: أي الجهاد أفضل، قال: جهاد المرء هواه. وقال المدائني، قال رجاء بن حيوة: كنت عند عمر فكاد المصباح يطفى، فقمت لأصلحه، فقال: مه، إن جهلا بالرجل أن يستخدم ضيفه، ثم قام، فوجد غلامه نائما فلم يوقظه، وتولى صلاح المصباح، ثم عاد، فقال: قمت وأنا عمر بن عبد العزيز، وقعدت وأنا ذاك. قالوا: وكان عبد الملك «1» ابنه زاهدا خيّرا، فقال له: يا بني: لأ [ن] تكون في ميزاني أحبّ إلى أن أكون في ميزانك، فقال: ولأن تكون ما تحب، أحبّ إليّ من أن تكون ما أحب، فلما مات عبد الملك خرج عمر إلى الناس وقد اكتحل، فسئل عنه فقال: [ص 282] قد سكن ورجاه أهله، وما كان في حال أحب إليّ من حاله، ثم علم بموته، فقيل له: فعلت ما فعلت وقد مات، فقال: أحببت أن أرغم الشيطان، وانصرف من جنازته، فرأى قوما ينتضلون، فقال لبعضهم: أخطأت، فافعل كذا، فقيل له في ذلك، فقال: ليس في موت عبد الملك ما يشغل عن نصيحة المسلم، وكان سعيد بن مسعود المازني عاملا لعدي بن أرطاة على عمان، فأخذ رجلا من الأزد مائة سوط في ناقة أرادها منه، فأتى إلى عمر، وشكا إليه، وأنشده قول كعب الأشقري: «2»

[الكامل] إن كنت تحفظ ما يليك فإنّما ... عمّال أرضك بالعراق ذئاب لن يستقيموا للذي تدعو له ... حتى تضرب بالسيوف رقاب بأكفّ منصلتين أهل بصائر ... في رفعهن مواعظ وعقاب لولا قريش نصرها ودفاعها ... أمسيت منقطعا بي الأسباب فقال عمر: لمن هذا الشعر، فقال: لرجل من أزد عمان يقال له كعب فقال: ما كنت أظن أهل عمان يقولون بمثل هذا الشعر، فكتب إلى عدي بن أرطاة «1» : إن استعمالك سعيد بن مسعود قدر من الله قدره عليك، وبلية ابتلاك بها، فإذا أتاك كتابي، فابعث إليه من يعزله، وابعث به إليّ مشدودا موثقا، فعزله واستعمل عبد الرحمن بن قيس، وحمل سعيدا إلى عمر، فلما دخل عليه، كلمه عمر فقال: أصلحك الله، أتكلمني وأنا موثق، أطلق عني حتى أتكلم بحجتي، فأطلق عنه، وقال للأزدي اضربه، فقال قمير بن سعيد: أنا الذي ضربته، ولم يضربه أبي، قال: فاعط الأزدي سوطا، وقال عمر: قم فاجلده كما جلدك، فجلد قميرا مائة سوط، فقال له أبوه: يا قمير اصرر أذنيك إصرار الفرس الجموح، وعضّ على نواجذك، واذكر أحاديث عدو أتاك، وذكر الله فإنه معجزة. وقال المدائني، قال عمر: ما قرن شىء إلى شىء أحسن من علم إلى حلم، وعفو إلى مقدرة. قال، وقال عمر: تعلموا العلم فإنه زين للغني، وعون [ص 283] للفقير، لا أقول إنه يكسب به، ولكنه يدعوه إلى القناعة. وقال البلاذري: قدم

وفد على عمر من العراق، فنظر إلى شاب منهم يتهيّأ للكلام، فقال عمر: ليتكلم أكبركم سنا، فقال الفتى: يا أمير المؤمنين، ليس الأمر بالسن، ولو كان كذلك، لكان في المسلمين من هو أسنّ منك، قال: صدقت، فتكلم، فقال: إنّا لم نأتك رغبة ولا رهبة، أما الرغبة فأتتنا في بلادنا، ودخلت علينا منازلنا، وأما الرهبة فإنّا قد أمناها بعدلك، قال: فما أنتم، قال: نحن وفد الشكر، فنظر محمد بن كعب القرظي إلى وجه عمر يتهلل، فقال: يا أمير المؤمنين، لا يغلبن جهالة القوم، بل معرفتك بنفسك، فإن من الناس ناسا غرهم الستر، وخدعهم حسن الثناء، وأنا أعيذك بالله أن تكون منهم، فبكى عمر رحمه الله. وقال البلاذري: وفد جرير على عمر بن عبد العزيز، فغبر حينا لا يصل إليه، ثم رأى ذات يوم عون «1» بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، يريد الدخول عليه، وقال: وكان قارئا، فقام إليه جرير فقال له: [البسيط] يا أيها القارئ المرخي عمامته ... هذا زمانك إني قد مضى زمني أبلغ خليفتنا إن كنت لاقيه ... إني لدى الباب كالمقرون في قرن فقال له عون: إن أمكنني ذلك فعلت إن شاء الله، فلما دخل عون على عمر، سلم وجلس، حتى فرغ من حوائج الناس، ثم أقبل عون عليه فقال: يا أمير المؤمنين، إن ببابك جرير بن عطية الشاعر، وهو يطلب الإذن، فقال عمر: أويمنع أحد من الدخول عليّ؟ قال: لا يا أمير المؤمنين، ولكنه يطلب إذنا خاصا

ينشدك فيه، فقال: يا غلام، ادخل جريرا، فأدخل عليه، وعون جالس، فأنشد جرير: «1» [البسيط] أأذكر الجهد والبلوى التي شملت ... أم أكتفي بالذي أبليت من خبري كم بالمواسم من شعثاء أرملة ... ومن يتيم ضعيف الصوت والنظر ممّن ترجّى له من بعد والده ... كالفرخ في العش لم ينهض ولم يطر فبكى عمر حتى بلّت دموعه لحيته، وأمر بصدقات تفرق على الفقراء [ص 283] ، فقال جرير: هذي الأرامل قد قضّيت حاجتها ... فمن لحاجة هذا الأرمل الذكر فقال له: يا جرير، أأنت من المهاجرين الأولين؟ قال: لا، قال: أفمن أولاد الأنصار؟ قال: لا، قال: أفمن أولاد التابعين بإحسان؟ قال: لا، قال: أفمن فقراء المسلمين فنجزيك على ما نجزي عليه الفقراء؟ قال: قدري فوق ذلك، فقال: يا جرير، ما أرى لك بين الدفتين حقا، فولى جرير، فقال عون: يا أمير المؤمنين، إن الخلفاء كانت تعوّد الإحسان، وإن مثل لسانه يتّقى، فقال عمر: ردّه، فردّ، فقال: يا جرير، إن عندي من مالي عشرين دينارا، وأربعة أثواب، فأقاسمك ذلك؟ فقال: بل نوفر يا أمير المؤمنين ونحمد، فلما خرج تلقاه الناس فقالوا: ما وراءك، قال: خرجت من عند رجل يعطي الفقراء، ويمنع الشعراء، وإني له لحامد، ولم يذكره بسوء، ورثاه حين مات. وقال البلاذري: كتب عدي بن أرطاة إلى عمر يستأذنه في عذاب قوم من عمال الخراج امتنعوا في أداء ما عليهم، فكتب عليه: «أما بعد، فالعجب كل العجب من استئذانك إياي في عذاب البشر، كأني جنّة لك من عذاب الله، أو

107 - دولة يزيد بن عبد الملك بن مروان

كأنّ رضاي ينجيك من سخط الله، فمن أعطاك ما قبله عفوا فاقبله منه، ومن قامت عليه البيّنة، فخذه بما تثبت البينة عليه، ومن أنكر فاستحلفه، فوالله لأن تلقوا الله بجناياتهم، أحب إليّ من أن ألقاه بعذابهم، والسلام» . وقال كاتبه إسماعيل بن أبي حكيم «1» : ما كتبت له قط في أكثر من شبر، حتى خرج من الدنيا. ودخل عليه مسلمة بن عبد الملك «2» في مرضته التي مات فيها، فقال: ألا توصي بمعروف يا أمير المؤمنين؟ قال: بم أوصي، والله ليس لي مال، قال مسلمة: هذه مائة ألف فمر فيها بما أحببت، قال: أو تفعل؟ قال: نعم، قال: ترد على من أخذت منه ظلما، فبكى مسلمة وقال: رحمك الله، لقد ألنت منّا [ص 285] قلوبا قاسية، وأبقيت لنا في الصالحين ذكرا. [ثم] : 107- دوّلة يزيد بن عبد الملك بن مروان أبي خالد «3» ، عريق في العظام البالية، حقيق بالملك، أبواه مروان ومعاوية، بايعه بالعهد أخوه سليمان، وقد كان همّ بهذا أبوه عبد الملك بن مروان، وقال

سليمان: إذ عهد إليه بعد عمر بن عبد العزيز: لولا إني أخاف اختلاف بني مروان ووقوع الفتنة، ما وليت يزيد، ولاقتصرت على عمر بن عبد العزيز، وقال عمر حين احتضر: لو اخترت للأمة غير يزيد كان ذلك أولى، ولكني أخاف إن أخرجها من بني عبد الملك أن تقع فتنة وفرقة، وأنا أولي سليمان ما تولى «1» ، والمسلمون أولى بالنظر في أمرهم. وهو «2» أول من غالى بالقيان، وعالى بتشييد هذا البنيان، وما منع هواه عن قينة، ولا قطع في غير مناه آونة ولا فينة، وانعكف على اللهو والطرب، والزهو بخرائد العرب، ولبث مدة ملكه بين النساء يجر ذيول الغانيات، ويسرهن باينات ودانيات، عشق سلامة «3» وحبابة «4» ، وطفق على المدامة والصبابة، فظل

يرتشف ثغر قدح أو جارية، لا يطبي شيخ ولا جازية، كأنّ العرب ليسوا من آبائه، أو بالعرب ليسوا على آبائه، وعمد يزيد إلى كلما صنعه عمر بن عبد العزيز مما لا يوافق رأيه، ولا يوافق تنكبه عن الحق ولاءه، فرده إلى ما كان عليه قبل عمر، وعدّه من إحسان ما أمر، ولم يخف فيه إثما في دنيا ولا آخرة، ولا كلما ظلما تبع به أوائله واستلحق أواخره إصرارا على الحنث العظيم، واغترارا بالله الحليم، هذا وهو كريم يقفى على منهجه، ويعفى صنايع السحاب بانصباب خلجه، وله فتوة ما أخلق انهماكه على الطرب بردها، ولا أخلف عهدها، لما خلق في عنصره القرشي طباعا، وأطبق على جوهره الأموي شعاعا. حكى المدائني عن محمد بن خالد، قال: [ص 286] كان لسعيد بن خالد بن عبد الله بن خالد بن أسد قصر بحيال قصر يزيد بن عبد الملك، فكان يزيد إذا ركب إلى الجمعة، توافيا إلى موضع واحد، فقال له يزيد في بعض الجمع: ما أراك تخل في جمعة واحدة، فقال له سعيد: إن قصري بحيال قصرك، فاذا ركبت ركبت فتلاقينا في هذا الموضع، فقال يزيد: فإن لي إليك حاجة، قال: إذا لا يرد عليها أمير المؤمنين، قال: تهبني قصرك، قال: هو لك يا أمير المؤمنين، قال يزيد: فلك به خمس حوائج، قال سعيد: أن تردّ قصري عليّ، قال: نعم قد فعلت، فاذكر الأربع، فذكرها سعيد، فقضاها له يزيد. وها أنا أذكر شيئا من أمره مع سلامة وحبابة: أما سلامة فكانت لرجل من أهل الكوفة اشتراها سهيل الزهري، ثم اتصلت بيزيد، وكان يعرف بسلامة

108 - دولة هشام بن عبد الملك

القس، لأنه كان يهواها صفوان بن أمية الجمحي العابد المسمى بالقس «1» لعبادته، هوى لا يكدره أثام، ولا يغيره إن هواؤه مرت ريحه على حرام، وله فيها شعر منه: [الكامل] ما بال قلبك لا يزال يهيجه ... ذكرى عواقب غيهنّ سقام باتت تعللنا وتحسب أنّنا ... في ذاك أيقاظ ونحن نيام حتى إذا سطع الصباح لناظر ... فإذا وقربك بيننا أحلام قد كنت أعذر في السفاهة أهلها ... فاعجب بما تأتي به الأيام فاليوم أعذرهم وأعلم أنما ... سبل الضلالة والهدى أقام وأما حبّابة فكانت تسمى العالية، كانت لرجل من الموالي بالمدينة، ثم اشتراها يزيد وكان بكل واحدة منها كلفا هائما لا يقبل فيها عاذلا ولا لائما، قد قصر على مجالستهما زمانه، وعلى مؤانستهما بيانه، صادف هواهما قلبه فارغا فتمكن في سويدائه، وتوطن به شغفه بهما حتى صار أكبر دائه. [ثم] 108- دوّلة هشام بن عبد الملك أبي العباس [ص 287] ملك همام «2» ، وفلك لا يطاوله يذبل ولا

شمام «1» ، بعزمة لا يفرى فريها، وهمة لا يقصر عبقريها، هو الأحول الحوّل، المنوّه والمنوّل، وهو واحد القوم ولا لوم، لم يكن في القوم أحوط منه حزما، ولا أحوج إلى أن لا يجد عزما، بما طاوعته المقادير وتابعته، لا يلوي بالمعاذير، ومنه البقية الأموية الداخلة إلى الأندلس أيام السفاح الداخرة، لخوفها في قصوره تحت العمد والصفاح، حتى هبّت ريحها، وذهبت فيحها، وإنما كانت بقية من سعادته ردت على الأعقاب، وردت ملابس الملك الجدد للأعقاب، حتى توقد جمرهم الخامد. وكان هشام فحل بني مروان، عزمة لا يفت في عضدها، وهمة لا يفوت حصول مقصدها، ولقد كان المنصور على اتساع علمه، وإجماع الناس على حزمه، يعظم شأن هشام إذا ذكره، وإذا ذكر في مجلسه شكره، ولا يكشف العوائد إلا من دواوينه، وثوقا بضبطه، ووقوفا في أمور الملك على شرطه، وجمع هشام من الأموال ما طاول جدر الخزائن اعتلاء، وأخرج صدور البيوت امتلاء، وأحوج الشمس أن لا يظهرها اجتلاء، إلا أنه كان مفرطا في البخل، لو تخيّل أن له شبيها في ضنانته بخل، كانت يده مغلولة، ومدده كلها لا يرى له فيها صرّة محلولة، ما عرفت أنامله يوما بسطا، ولا نائله مكانا إليه يتخطى، إلا أن رأيه

كان يصيب المقاتل، ويصيد المخاتل، بتوفيق ما خانه منذ عاهده، ولا حل رأيه بتأييده منذ عاقده، فما حال حائل بينه وبين من عانده، ولا حوّل حتى راجع ما أراده وعاوده. وكانت خلفاء بني العباس تؤامر دواوينه، وتداوم قوانينه، وثوقا بحزمه الذي لم يكن فيه مطمع، وعزمه الذي ما رآه السيف إلا أوى إليه بالسجود وانحنى ليركع. قال البلاذري: كنيته أبو الوليد، وكان أحول بخيلا، وأمه أم هشام بنت الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، ويقال: عائشة بنت هشام، ويقال: مريم بنت هشام، وكانت أمه حمقاء، وكانت تثني الوسادة ثم تركبها [ص 288] وتزجرها، فطلقها عبد الملك، وسار إلى مصعب وهي حامل، فلما قتله، بلغه مولد هشام فسماه منصورا تفاؤلا بذلك، وسمته أمه هشاما باسم أبيها، وولد هشام بن عبد الملك عام قتل مصعب سنة اثنتين وسبعين، وأتته الخلافة وهو بالزيتونة «1» ، ومات بالرصافة التي بقرب الرقة في شهر ربيع الآخر لست خلون منه سنة خمس وعشرين ومائة، وصلى عليه ابنه مسلمة، وكانت خلافته عشرين سنة إلا خمسة أشهر، ومات ليلة الأربعاء لسبع خلون من شهر ربيع الأول سنة خمس وعشرين ومائة، وهو ابن ثلاث وخمسين سنة. قال المدائني: لما خلع يزيد بن المهلب «2» ، وجه إليه يزيد بن عبد الملك

مسلمة بن عبد الملك، والعباس بن الوليد بن عبد الملك «1» ، وقال: أمير الجيش مسلمة، فإن حدث به حدث، فالعباس بن الوليد، فقال العباس: يا أمير المؤمنين، إن أهل العراق قوم غدر كثيرا زحافهم، وأنت توجهني محاربا، والأحداث تحدث، ولا آمن أن يزحف أهل العراق ويقولوا: مات أمير المؤمنين ولم يعهد، فيفت ذلك في أعضاد أهل الشام، ويدخلهم له الوهن والفشل، فلو بايعت لعبد العزيز بن الوليد، قال: غدا إن شاء الله، وبلغ مسلمة ذلك، فدخل على يزيد فقال: يا أمير المؤمنين، أولد عبد الملك أحب إليك، أم ولد الوليد؟ قال: ولد عبد الملك إخوتي وأحب إليّ، قال: أفابن أخيك أحب إليك وأحق بالخلافة من أخيك؟ قال: لا، قال: أفتبايع لعبد العزيز؟ قال: لا، غدا أبايع لهشام أخي، وبعده للوليد ابني، وبلغ عبد العزيز قوله، وأتاه مولى له وهو لا يعرف الخبر، فقال: يا أبا الأصبغ، غدا نبايع لك، فقال عبد العزيز: هيهات، أفسد ذلك علينا مسلمة ونقضه، فلما كان الغد، بايع لهشام، ومن بعده لابنه الوليد بن يزيد، فكان يزيد إذا نظر إلى الوليد قال: الله بيني وبين من جعل هشاما [ص 289] بيني وبينك.

وقال المدائني: كتب سليمان بن هشام إلى أبيه: إن بغلتي عجزت عني، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمر لي بدابة، فكتب إليه: «قد فهم أمير المؤمنين كتابك، وقد ظن أمير المؤمنين أن عجز بغلتك عنك من قلة تعهدك لها، وإن علفها يضيع، فتعهد دابتك وقم عليها، وسيرى أمير المؤمنين رأيه في حملانك إن شاء الله، والسلام» . وقال: كتب بعض عمال هشام إليه: قد بعثت إلى أمير المؤمنين بسلة فيها درّاقن، يعني الخوخ، فليكتب إليّ بوصولها، فكتب إليه: «قد بلغ أمير المؤمنين كتابك، ووصل إليه الدراقن وأعجبه، فزد أمير المؤمنين منه واستوثق من الوعاء الذي توعيه إياه، والسلام» . قال: وكتب إلى بعضهم: «قد أتت أمير المؤمنين الكمأة التي بعثت بها إليه، وهي خمسون، وقد تغير بعضها، ولم يؤت ذلك إلا من قبل حشوها، فاذا بعثت إلي أمير المؤمنين بشىء من الكمأة، فأجد الحشو في طرفه بالرمل حتى لا يضطرب، ولا يصيب بعضها بعضا إن شاء الله» . قال: وقال الأبرش، وهو سعيد بن الوليد بن عبد عمرو، لهشام وكان جليسه وأنيسه: يا أمير المؤمنين، لو ينادي رجل في عرض الناس: يا مفلس، فسمع رجل من جلسائك نداه، ما ظن أنه عني غيره. ودخل أبو النجم العجلي «1» على هشام فقال له: كيف رأيك في النساء؟ قال: ما لي عندهن خبر، ولا لهن عندي خبر فقال: ما ظنك بأمير المؤمنين، قال: مثل ظني بنفسي، فبعث هشام إلى جواريه فأخبرهن بما قال أبو النجم، فقلن: كذب عدو

الله، ما منا جارية تصلي صلاة حتى تغتسل، فوهب لأبي النجم جارية منهن، ثم سأله عما صنع، فأنشده: «1» [الكامل] نظرت فأعجبها الذي في درعها ... من حسنه ونظرت في سرباليا فرأت لها كفلا ينوء بخصرها ... ثقلا وأخثم في المجسة رابيا ورأته منتشر العجان مقلصا ... رخوا حمائله وجلدا باليا [ص 290] أدني له الرّكب الحليق كأنّما ... أدني إليه عقاربا وأفاعيا وهمّ هشام أن يكتب إلى عامله على المدينة بإشخاص أشعب الطامع إليه، فقال له الأبرش: تتحدث الناس بأنك كتبت إلى «2» عاملك بمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأشخص منها مضحكا لتلهو به، فقال: امسكوا امسكوا، فإنها وصمة عظيمة، ثم قال بيتا زعموا أنه لم يقل قط بيتا غيره، ويقال إنه تمثل به: «3» [الطويل] إذا أنت لم تعص الهوى قادك الهوى ... إلى بعض ما فيه عليك مقال فقال المدائني: رأى عبد الملك بن مروان كأن ابن هشام بن إسماعيل فلقت رأسه، فلطعت منه عشرين لطعة، فغمّه ذلك، فأرسل إلى سعيد بن المسيب من قصّها عليه، فقال: تلد غلاما يملك عشرين سنة، فولدت له هشاما. وقال المدائني: كان هشام يتكلم بكلمات في العيدين في خطبة لا يقولهن

في غير هذين اليومين، ثم يخطب بعد ذلك: «الحمد لله الذي ما شاء صنع، وما شاء أعطى، وما شاء منع، ومن شاء خفض، ومن شاء رفع، ومن شاء ضر، ومن شاء نفع» . وقال المدائني وغيره: قال مسلمة بن عبد الملك لهشام، وتلاحيا في شىء: كيف ترجو الخلافة وأنت جبان بخيل، فقال: لأني عفيف حليم. وقال المدائني: كان المنصور يذكر هشاما فيقول: كان رجل القوم. قال: وبعث هشام إلى أبي حازم الأعرج «1» ، فأبطأ عليه، ثم أتاه فقال: ما منعك من إتياني، قال: والله لولا مخافة شرّك ما أتيتك، قال: ما ترى في إنفاق هذا المال، قال: إن أخذته من حلّه ووضعته في حقّه سلمت، وإلا فهو ما تعلم. قال: وكان هشام إذا حدّث قال: القوا عنّي مؤونة التحفظ. قال: وكان المنصور إذا ذكر بني مروان يقول: أما عبد الملك فكان جبّارا، لا يبالي ما أقدم عليه، وأما الوليد فكان مجنونا [ص 291] ، وأما سليمان فكان همّه بطنه وفرجه، وأما عمر بن عبد العزيز فكان أعور بين عميان، ورجل القوم هشام. قالوا: وكان الجعد بن درهم «2» مؤدب مروان بن محمد ومعلمه، وكان

دهريا، ويقال له معتزليا، شهد عليه ميمون بن مهران «1» ، وعدة شهدوا عند هشام على الجعد بن درهم بالكفر، وطلبه هشام فهرب إلى حرّان، ثم إنه ظفر به، فحمل إلى هشام، فأخرجه من الشام إلى العراق، وكتب إلى خالد بن عبد الله القسري، وهو عامله على العراق بأن يحبسه، فلم يزل محبوسا حينا، ثم إن امرأته رفعت إلى هشام في أمره، تعلمه بطول حبسه وسوء حال عياله، فقال: أو حيّ هو، وكتب في خالد في قتله، فقال خالد في يوم أضحى: أيها الناس، انصرفوا إلى أضاحيكم، فإني مضح بعدو الله الجعد بن درهم. قالوا: وكان غيلان يقول: كلمت جعدا فوجدته معطّلا. قال المدائني: وكان عقال بن شبة يقول: دخلت على هشام، فدخلت على رجل محشو عقلا. قال البلاذري: بعث يوسف بن عمر إلى هشام بياقوتة حمراء، يخرج طرفاها من الكف، وحبة لؤلؤ من أعظم ما يكون من الحب، قال الرسول: فدخلت على هشام، فدنوت منه فلم أر وجهه من السرير وكثرة الفرش، فلما تناول الحجر والحبة قال: كتب معك بوزنهما، ومن أين يوجد مثلهما؟ قلت: يا أمير المؤمنين، هما أجل بأن يكتب بوزنهما، ومن أين يؤخذ مثلهما، قال: صدقت، وكانت الياقوتة لرابعة جارية خالد بن عبد الله القسري اشتراها بثلاثة وتسعين ألف دينار.

ومات هشام بالذبحة، فروي عن سالم أبي العلاء أنه قال: خرج علينا هشام يوما وهو كئيب، يعرف ذاك فيه، مسترخي الثياب، قد أرخى عنان دابته، فقال: ادعوا الأبرش، فدعي فسار بيني وبين الأبرش، فقال الأبرش: يا أمير المؤمنين، لقد رأيت منك ما غمّني، قال: ويحك يا أبرش، وكيف [ص 292] لا أغتم وقد زعم أهلي أني ميت إلى ثلاثة وثلاثين يوما، قال الأبرش: فلما انصرفت إلى منزلي كتبت: زعم أمير المؤمنين أنه يسافر يوم كذا، فلما كانت ليلة اليوم الذي كمل الثلاثة والثلاثين، أتاني رسول هشام، فقال: أجب واحمل معك دواء الذبحة، وقد كانت الذبحة عرضت له مرة فتداوى بذلك الدواء فانتفع به، قال: فأتيته ومعي الدواء، فتغرغر به، فازداد الوجع شدة ثم سكن، فقال: قد سكن بعض السكون، فانصرف إلى أهلك، وخلف الدواء عندي، فما استقررت في منزلي حتى سمعت الصراخ، فقالوا: مات أمير المؤمنين، فلما مات أغلق الخزّان الأبواب، فطلبوا قمقما يسخن فيه ماء لغسله فما وجدوه حتى استعاروا قمقما. وكان الوليد شخص عن الرصافة لكثرة عبث هشام به، وخلف عياض بن مسلم مولى عبد الملك بن مروان، وهو كاتبه بالرصافة، وأمره أن يكتب إليه الأخبار، فعتب عليه هشام فضربه وحبسه، وأفاق هشام إفاقة فطلب شيئا، فمنعه، فقال: أرانا إنما كنا خزّانا للوليد، ثم مات من ساعته، فخرج عياض من الحبس وختم أبواب الخزائن، وأمر بهشام فأنزل عن فرشه وحازها فما وجد له كفن، حتى كفنه غالب مولى هشام، فتّبا لدنيا متاعها قليل، وعزيزها ذليل، بينما المرء خليفة فإذا به جيفة. ومن كلام هشام: اثنان يتعجلان النصيب، ولعلهما أن لا يظفرا بالبغية، الحريص في حرصه، ومعلم البليد مالا يبلغه فهمه. [ثم] :

109 - دولة الوليد بن يزيد بن عبد الملك

109- دوّلة الوليد بن يزيد بن عبد الملك الجبار العنيد «1» ، لقبا ما عداه، ولقما سلكه فما هداه، حقيقة تمهجها، وطريقة تهجمها، فرعون ذلك العصر الذاهب، والدهر المملوء بالمعايب، يأتي يوم القيامة يقدم قومه فيوردهم النار، ويرديهم العار، فبئس [ص 293] الورد والمورود، والبرد المودي في ذلك الموقف المشهود، رشق المصحف بالسهام، وفسق ولم يخف الآثام، وكفن وهو يدعى بالإمام، يسعى بما لم يحمده الله ولا الأنام، وأبرز جارية وطئها لتصلي بالناس في زي غلام، ورضيها استخفافا من بذلك المقام، لكنه كان فتى من فتيان قريش، يرتاح للندى، ويلتاح قمرا إذا بدا، لم يكن في بني مروان أفخم منه وسامة، ولا أفخر إذا لبس العمامة، يعطي الألّاف الآلاف، ولا يبالي في التلاف، جودا خلق من عنصره، وخلّق وهو نطفة من عنبره، استنشد طوائف الشعراء وأجازهم، واستقدم أهل الغناء ليكمل به مجلسه، وما عازهم، وما سمع بفتاة ذات جمال إلا هام بها، وهان عليه ما

يبذل بسببها لإفراط ولعه بالقيان، ونزوعه إلى المشاهدة لهن والعيان، هوى سلمى وسعدى، وفني بهما تيتما ووجدا، خطبهما في آل عثمان أختين كلف بكل واحدة منهما كلفا، انتهب خلبه، وشغف شغفا سلب من صدره قلبه، حتى كانت تلك الميتة ميتته، وتلك البيتة التي صبح في غداتها بيتته، ولحب عليه الدار، ولحّت عداته في طلبه بالدمار، فلما علم أن الموت قد أبرز له من خبّ الضلوع دفائنه، وأنشب به من مدى الأعداء براثنه، تاب حين لا متاب، وعتب حين لا ينفع الإعتاب، ولا يسمع العتاب، وأخذ المصحف وقعد يقرأ القرآن، ويدرأ الحد بالتظاهر بالإيمان، وبعد عن نفسه حين لا ينفع نفسا إيمانها، ولا يكفر سيئات إحسانها، ظنا أنه يقيه الإيمان ويقول يوم كيوم عثمان، وهيهات وقد حضرت المنية، ونظرت إلى مواضعها في بيوته الرزية، ونضحت على وريده رشاش البلية، وإنما عوقب بحق واضح، وحوب فاضح، انتهك حرمة الإسلام، فأخذ تلك الأخذة الرابية. وحكى ابن الأثير: أن الوليد هذا قال: الغناء يزيد في الشهوة، ويهدم المروءة، وينوب عن الخمر، ويفعل ما لا يفعل السكر، فإن كنتم [ص 294] ولابد فاعلين، فجنبوه النساء، فإن الغناء فيه الزنى، وإني لأقول ذلك على أنه أحب إليّ من كل لذة، وأشهى لنفسي من الماء إلى ذي الغلّة، ولكن الحق أحق أن يتّبع. حكى البلاذري قال: وكانت عنده ابنة سعيد بن خالد بن عمرو بن عثمان، فزارتها أختها سلمى بنت سعيد، وكانت من أحسن الناس وجها، فبصر بها الوليد فأعجبته، وذلك قبل الخلافة، فطلّق أختها، ثم خطبها إلى أبيها، فامتنع عليه وقال: إنك «1» تريد مني أن أتخذك فحلا لبناتي، فكان يهجوه، ثم ما زال

يشكو حبّها حتى افتضح، وفيها يقول: «1» [الوافر] تذكر شجوه القلب القريح ... فدمع العين منهمل سفوح ألا طوقتك بالبلقاء سلمى ... هدوّا فالمطي بنا جنوح فبتّ بها قرير العين حتى ... تكلّم ناطق الصبح الفصيح وبلغه أن هشاما همّ بخلعه، واجتثاث أصله وقلعه، فقال: «2» [الطويل] خذوا ملككم لا ثبّت الله ملككم ... بيانا يساوي ما حييت قبالا ذروا لي سلمى والطلاء وقينة ... وكأسا ألا حسبي بذلك مالا أبا لملك أرجو أن أعمّر فيكم ... ألا ربّ ملك قد أزيل فزالا إذا ما مضى عيشي برملة عالج ... وعانقت سلمى لا أريد بدالا قالوا: ولما ولي الخلافة بعث إلى سعيد بن خالد، فقسره على أن زوّجه بسلمى ابنته، فلما حملت إليه من المدينة، اعتلّت في الطريق، وماتت ليلة أدخلت عليه، ولم يزل على هذا حتى وثبت اليمانية فقتلوه، وبايعو يزيد بن الوليد بن عبد الملك، وكان على هناته مدره جدال، وندرة رجال، لا يقطع باحتجاج، ولا يقنع بما دون الحجاج. قال له هشام يوما كالعاتب به، المعير بمدامه، اللابث على شربه: ما شرابك يا أبا العباس؟ قال: شرابك يا أمير المؤمنين وقام مغضبا، فقال هشام: أهذا الذي تزعمون أنه أحمق، ما هو والله بأحمق، ولكني أظنه على غير الملة.

ومن حديث المدائني قال: [ص 295] دخل الوليد يوما، فجلس [مجلس] هشام، ثم أقبل هشام، فما كاد الوليد يتزحزح له عن صدر المجلس، فزحل قليلا، وجلس هشام، فقال: كيف أنت يا وليد، قال: صالح، قال: ما فعلت برابطك، قال: معلمه، قال: فكيف ندماؤك؟ قال: لعنهم الله إن كانوا شرا من جلسائك، فغضب هشام، وقال: أوجئوا عنقه، فلم يفعلوا، ودفعوه دفعا رفيقا، فقال الوليد: «1» [البسيط] أنا الوليد أبو العباس قد علمت ... عليا معدّ مدى كري وإقدامي أكون في الذروة العلياء إن نسبوا ... مقابلا بين أخوالي وأعمامي وقال: «2» [الطويل] أنا ابن أبي العاصي وعثمان والدي ... ومروان جدي ذو الفعال وعامر أنا ابن عظيم القريتين وعزّها ... ثقيف وفهر والرجال الأكابر نبيّ الهدى خالي ومن يك خاله ... نبيّ الهدى يعل النهى في المفاخر ولما زاد ضرر هشام به، ونظر إلى ما يغشاه من قطيعته وسبّه، كتب إليه يقول: «3» [الطويل] رأيتك تبني جاهدا في قطيعتي ... فلو كنت ذا عقل لهدمت ما تبني

ستترك للباقين عني ضغينة ... وويل لهم إن متّ من شرّ ما تجني «1» وقال الهيثم بن عدي: كان الوليد يسمى البيطار، لأنه كان يصيد الحمر الوحشية، فيسمها بالوليد، ثم يخليها، فوجدت في أيام السفاح والمنصور موسومة باسمه. وكان يحب دخول الكوفة والحيرة، فخرج كالمسدي «2» ، ثم أتى الكوفة، فنادمه سراعة ومطيع بن إياس، وحماد الراوية، وحماد عجرد، واك «3» عبد الله بن مطيع، وكان ممن سمع بها فأعجبه غناء قينتين لعبد الله بن هلال الهجري، المعروف بصديق إبليس، فقال «4» : [الكامل] يا أهل بابل ما نفست عليكم ... من عيشكم إلا ثلاث خلال خمر العراق وليل قيظ بارد ... وسماع مسمعتين لابن هلال [ص 295] وروى البلاذري عن إسحاق بن محمد قال: دخلت على منصور بن جمهور «5» وعنده جاريتان من جواري الوليد، فقال: اسمع ما يحدثانك به، فقالتا: كنا آثر جواريه عنده، فوطئ هذه، فجاء المؤذن يؤذنه بالصلاة، فأخرجها

وهي جنب متلثمة، فصلت بالناس. وحكى أن نقش خاتمة كان: (أؤمن بالله مخلصا) ، وإنه كان يقول عقب كل حوب: استغفر الله. قال البلاذري: كان الوليد شديد البطش، طويل أصابع اليدين والرجلين، توتد له سكة الحديد وفيها خيط، ويشد الخيط في رجله، ويؤتى بالدابة فيثب عليها، فينزع السكة، ويركب ما يمس الدابة بيده. وروى مسلمة بن محارب، أن أيوب السختياني قال حين بلغه مقتل الوليد: ليتهم تركوا لنا خليفتنا فلم يقتلوه. قلت: وإنما قال ذلك خوفا من الفتنة. وقال المهدي يوما وقد ذكر الوليد رحمه الله، ولا رحم قاتله، فإنه قد كان إماما مجمعا عليه، فقيل له إن الوليد كان زنديقا، فقال: إن خلافة الله عز وجل [أجل] «1» من أن يوليها من لا يؤمن به. قلت: ولئن صح أن المهدي قال هذا، مع سوء رأي القوم في أخبار بني أمية، كيف في شرارهم، فإنما قاله إقامة لحرمة الخلافة أن تنتهك. وللوليد: «2» [الطويل] وأقسم ما أدنيت كفّي لريبة ... ولا حملتني نحو فاحشة رجلي ولا قادني سمعي ولا بصري لها ... ولا دلني رأيي عليها ولا عقلي وأعلم أني لم تصبني مصيبة ... من الدهر إلا قد أصابت فتى مثلي [ثم] :

110 - دولة يزيد بن الوليد بن عبد الملك

110- دولة يزيد بن الوليد بن عبد الملك أبي خالد «1» ، وكان أقبل وأمه ساهقريد بنت فيروز بن يزدجر بن شهريار، مقابل في الملك بين أبيه وأمه، وعربه «2» وعجمه، تطرف بجلبابي تقى ونسك، وخلافة وملك، يحاذيه طرفا شرف، حل فيهما وما حل في طرف [ص 297] وكان يلقب بالناقص، لأنه نقّص في العطاء، وغصّص على البعداء والخلطاء، وما أراد إلا مناقضة الوليد ومعارضة سفاهته بالرأي السديد، فكره على عظيم شرفيه، وكريم فخاره الملتقيين من طرفيه، وما كان موسوما به من الجمال الفائق، ومعلوما منه من الكمال اللائق، ومعروفا به من النسك والتأله، وموصوفا به من التخلق بأخلاق السلف الأول والتشبه، فأداه فعله إلى خلاف ما يريد، وعداه الغرض في الاقتصاد إلى التسديد «3» ، وإفراطه في التواضع، حتى كأنه ما امتاز عن الناس، ولا حاز ما يشمخ بدونه الراس، على أنه تذكر يوما سلفه، فذكر شرفه فقال «4» :

[الرجز] أنا ابن كسرى وأبي مروان ... وقيصر جدي وجدي خاقان قلت: وإنما جعل قيصر وخاقان جديه، لأن أم فيروز بن يزدجرد بن كسرى شرويه أم أبيه، وأمها ابنة قيصر، وأم شيرويه ابنة خاقان ملك الترك، ذكره ابن الأثير «1» ، وكان أبوه الوليد بن عبد الملك يذكر ولده فيقول: «عبد العزيز سيدهم، والعباس أفرسهم، ويزيد ناسكهم، وروح عالمهم، وعمر نجلهم، وبشر فتاهم. ولقي يزيد بن الوليد أيوب السختياني في السنة التي حج فيها، فكتب عنه، وكان كثير الصلاة طول الليل. وقال ابن الأثير عنه: قيل إنه كان قدريا، وكان أسمر طويلا صغير الرأس جميلا، وقال: إنه أول من خرج بالسلاح يوم العيد، خرج بين صفين عليهم السلاح، وقال: وكان آخر ما تكلم به، يعني عند موته، وا حسرتاه وا أسفاه. وكان نقش خاتمه (العظمة لله) . ولما ولي الخلافة عاتبته امرأته هند الكلبية، التي تدعى بنت الحضرمية، فقالت: أوسع علينا، فقال لها: لقد فسدت عليّ فيمن فسد، أما لو علمت أنكم تميلون إلى الدنيا هذا الميل، لكان أن أخرّ من السماء إلى الأرض أحبّ إليّ من أن أتلبّس بما تلبست به، وما لك في هذا المال إلا ما لسوداء أو حمراء من المسلمين، ولكن ايتيني بثيابي، فجاءت تنحب، فقال لها: هذه ثياب كنت أتزين بها، فشأنك فخذيها [ص 298] فإنه لا حاجة لي اليوم بها، فأما مال المسلمين، فلا حق لي ولك فيه إلا مثل ما للمسلمين. ولما ولي خطب الناس فقال: «أيها الناس، إني والله ما خرجت بطرا، ولا

111 - دولة إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك

حرصا على الدنيا، ولا رغبة في الملك، وما أقول هذا إطراء لنفسي، إني لظلوم لها إن لم يرحمني ربي، ولكن خرجت غضبا لله ودينه، وداعيا إلى الله وكتابه، وسنة نبيه، لما هدمت معالم الدين، وعفا أثر الحق فأطفأ نور الهدى، وظهر الجبار العنيد، المستحل لكل حرمة، الراكب لكل بدعة، مع أنه والله ما كان يصدق بالكتاب، ولا يؤمن بيوم الحساب، وإنه لابن عمي في النسب، وكفيّي في الحسب، فلما رأيت ذلك، استخرت الله في أمره، حتى أراح الله منه، بحول الله وقوته، لا بحولي وقوتي، أيها [الناس] إن لكم أن لا أضع حجرا على حجر، ولا لبنة على لبنة، ولا أكري فيكم نهرا، ولا أبني قصرا، ولا أكنز مالا، ولا أوثر به زوجة ولا ولدا، ولا أنقل مالا من بلد إلى بلد، حتى أسد ثغره، وخصاصة أهله بما يغنيهم، فإن فضل فضل، نقلته إلى البلد الذي يليه، مما هو إليه أحوج، وعليكم أن لا أغلق بابي دونكم فيأكل قويكم ضعيفكم، ولا أحمل على أهل جزيتكم ما يجليهم عن بلادكم، وعندي إدرار عطاياكم في كل سنة، وأرزاقكم في كل شهر، حتى تستدر المعيشة بين المسلمين، فيكون أقصاهم كأدناهم، فإن أنا وفيت لكم بما قلت، فعليكم السمع والطاعة، وحسن المؤازرة، وإن أنا لم أفعل، فلكم أن تخلعوني» . ثم لما مات يزيد بن الوليد، انبثقت البيوق «1» ، وكثرت الخوارج، ودعا كلّ إلى نفسه. 111- دولة إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك أبي إسحاق «2» ، وكان مغلّبا لا يغلب، ومضعّفا لا يرغب ولا يرهب، عدما

في ذي وجود، ومعدما في مثل ذي مال وجنود، بايعه الناس لما ولي أخوه يزيد بالعهد بعده، وعقدوا له عقده، وما أحكموا شده، فلما مات يزيد، جدّدت له بيعة ما تمّت، وجنّدت له قلوب ما خصّت مولاتها ولا عمّت، وكان [ص 299] بدمشق ما نفذ له أمر وراء سورها، بل ولا جاز فناء دورها، وكان يخاطب تارة بالخلافة، وتارة بالإمارة، وهو كالبعير لا عير لديه ولا نكير، ولا رمح صرير، ولا سيف شهير، ولا اتباع مأمور، ولا متابعة أمير. وقد كان حين وثب أخوه على الوليد حصاة لا يستلينها نفس بازغ، لكنه مني بعوائق الخذلان، ورمى سوابق الخلّان، خذله أصحابه، وهزله أربابه، فما همّ بأمر، فقدر عليه، ولا قهر سواه، حتى وصل إليه، ولم تكن متابعته إلا شقوة طبع بطابعها، وهفوة ضربت عنقه بأسياف مطامعها، ودام ملك بني أمية على هذا الهوان، حتى ملك مروان ورفع بالسيف هذا العار، ونزع ما جللهم من شبه هذا الرداء المعار. وقال البلاذري، قالوا: بويع إبراهيم- وهو المخلوع، وأمه أم ولد- بالخلافة في أول سنة سبع وعشرين ومائة، بعد موت يزيد أخيه الناقص، وكان نقش خاتمه (إبراهيم يثق بالله) ، وكان مروان بن محمد بن مروان حين قتل الوليد، قدم الجزيرة فدعا إلى نفسه سرا، وسمي الوليد الخليفة المظلوم، وأظهر أنه يطلب بدمه، وقال: إنما قتلته قدرية غيلانية، فبايعه خلق من أهل الجزيرة، ثم أظهر

أمره بعد بيعة إبراهيم بنحو شهر بحرّان «1» ، وقال: أمري شبيه بأمر معاوية، حين طلب بدم الخليفة المظلوم عثمان، ثم إنه سار بأهل الجزيرة وقنسرين وحمص يريد إبراهيم، وبعث إلى الناس أن انهضوا لمحاربة هذا القدري أخي القدري الغيلاني، المبتز لأمور الناس بالبدعة والضلالة، فإن جهاده واجب على كل مسلم، فقد كنت على مجاهدة أخيه، فسبقني به أجله، فوجه إليه إبراهيم أخويه بشرا ومسرورا ابني الوليد، فأسرهما وفض عسكرهما، فوجه إليه إبراهيم بن سليمان بن هشام بن عبد الملك [ص 300] في خيول أهل دمشق، فالتقيا بعين الجر «2» من البقاع من عمل بعلبك، في صفر سنة سبع وعشرين، فتناوشوا يومهم، ثم بكروا على الحرب، فاقتتلوا أشد قتال، فانهزم سليمان ومن معه فلحق بإبراهيم. وكتب مروان إلى وجوه أهل دمشق يعلمهم أن الذين بايعوا يزيد الناقص شرارهم ورعاعهم وغواتهم، ودعاهم إلى طاعته ووعدهم ومناهم على الوفاء والإحسان، فانتقضوا على إبراهيم، ونزل مروان بن محمد الغوطة «3» ، فخرج إليه خلق فبايعوه، فلما رأى ذلك عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك، ويزيد بن خالد بن عبد الله القسري، أخذا عثمان والحكم ابني الوليد فقتلاهما في محبسهما، وخافا أن يتخلصا، فكان الناس يقولون: يا معشر الفتيان أين الحكم وعثمان، وقال الشاعر حين أقبل مروان:

112 - دولة مروان بن محمد

[الرجز] أتاك مروان شبيه مروان ... يجر جيشا غضبا للرحمن بتغلب الغلبا وقيس عيلان ووهن أمر إبراهيم واستخفى، ثم أخذ له الأمان، وظهر فكان مع مروان في طاعته، ولم يزل حيا حتى قتله عبد الله بن علي بن عبد الله بن العباس «1» ، مع من قتل من بني أمية. وكانت أيام إبراهيم أربعة أشهر، ويقال ثلاثة أشهر، وبعضهم يقول: أربعين يوما. ولما دخل مروان دمشق، طلب عبد العزيز بن الحجاج ويزيد بن خالد القسري، فظفر بهما فقتلهما، بعثمان والحكم، وصلبهما على باب الجابية «2» ، أو باب الفراديس «3» . 112- دولة مروان بن محمّد أبي عبد الملك «4» المنبوز بالجعدي، وبالحمار، أما قولهم الجعدي، فنسبة إلى

الجعد بن الدرهم، لأنه كان على مثل رأيه المبهم، وأما قولهم الحمار، فقيل: لشدة في الحرب، تشبيها بحمار الوحش، إذ كان أحمى حام لسربه، ومحام عن أجمة [ص 301] الغرايب له في شربه. وكان مروان بن محمد رجل الدهر، إلا أنه خانه، وبطل الكتيبة، إلا أن الحظ ما أعانه، كان بالجزيرة ورعى كلأها، وهو بأطراف الأسنة وبيل وحمى ملأها، وما لمدارج الرياح إليها سبيل، ثم كان بأرمينية يسد ثغرها، وهو يهتمه ويشد أمرها وهو يهدمه، ثم آب إلى دمشق وفي ظنه لمّ شعثها، ويرمّ منتكثها، حتى تفرقت بها الآراء المجتمعة، وتمزقت الأمراء في طلب الدعة، وقوي هيج الرعايا للرعاع، وموج الثعالب الحقيرة لأكل السباع. وكان أبو جعفر المنصور إذا ذكره شكره وقال: هو فحل القوم، وإنما غلبناه بالجد لا باليد. وكان عبد الملك بن صالح رجل بني العباس، أمه أم ولد، كانت لمروان بن محمد، ثم صارت إلى صالح بن علي، فولدت له عبد الملك، ويقال: إنها حملت به من مروان وولدته على فراش صالح، فلما كان من توهم الرشيد منه ما كان، قال له يوما كالمعير له: أنت لمروان، لست لصالح، فقال: لا أبالي لأي الفحلين كنت، فلما غاب عنه قال الرشيد: لعمري إنه لا يبالي لأيهما كان.

وقدم مروان دمشق، وقد تضرمت فتنها وتضررت بحمل الحقود إحنها، فهدى به اضطرابها، وبالغت به بنو أمية وبدا اقترابها، ولكن بعد دماء طلّها، ودأماء «1» ساوى بالقتلى مطلها، فلما ظن أن السيف له قد دوخ، والمغير عليه قد نوّخ، واطمأنّ به وساده القلق، وعفي بالمسالمة عن جفنه الأرق، ثارت عليه من خراسان تلك الثائرة، وانقلبت عليه تلك الدائرة، وأظلت عليه الرايات العباسية، ليالي تطلع بدورا، ولمم شبيبة تتلألأ بها الوجوه نورا، فتراكم بسواد الشعار العباسي السيل، وأدبر بياض العلم المرواني في النهار، لإقبال الليل. قال البلاذري: أم مروان كردية، أخذها أبوه من عسكر [ص 302] ابن الأشتر، وكان مروان بخيلا، وبويع لأربع عشرة ليلة خلت من صفر سنة سبع وعشرين ومائة. وكان أبيض أحمر أزرق، أهدل الشفة، لا يخضب، ولم يكن بالذاهب طولا، وكنت إذا استدبرته ظننت أن على كتفيه رجلين جالسين، واسع الصدر. وكان يقول: اللهم لا تبلني بطلب ما لم تجعل لي فيه رزقا، وكان يقول في خطبته: اللهم اعلم بولينا وعدونا منا، فكن لنا وليا وحافظا، وكان غيورا جدا، وجد كتابا إلى جارية له من أمها، فقال: من أدخل هذا الكتاب، فقال خصي له: أنا، رحمت أمها لبكائها، فأخذت كتابها، فقطع يد الخصي. وعرض الجند، فشكوا في حلية رجل فأسقطه، فقال: هلا بعين الجر خليتني، لما توافى القوم في الخندق فأجازه، وهو أول من حلى الجند، وفيه يقول الشاعر: [الرجز] يا أيها السائل عن مروانا ... دونك مروان بعسقلانا «2» يجيد ضرب القوم والعطانا ... حتى ترى قتلاهم ألوانا

قال البلاذري: لما سار مروان بجند أهل الجزيرة، وتفرق أصحاب بشر ومسرور من غير قتال، وجه إبراهيم المخلوع سليمان بن هشام «1» ، فنزل بعين الجر في خلق كثير، فنزل مروان بدير الأبرش، في زهاء سبعين ألفا، وبينهما ثلاثة أميال، وكتب مروان كتابا منه إلى أهل فلسطين: «إني نزلت بدير الأبرش، وسليمان بعين الجر، وطالعت عسكره بنفسي، فرأيت جمعا كثيفا، وأنا متوجه إليكم في طريق كذا» ، ودفع الكتاب إلى رجل وقال له: تعرض لهم، ففعل، فأخذ وأتي به سليمان، فلما قرأ الكتاب قال: أنا أبو أيوب، هرب مروان، والله لأحولن بينه وبين ذلك، وقال مروان لابنه: إني مرتحل غدوة، فان ارتحل سليمان من هذا المنزل، فانزله وخلفه في غيضة هناك، كامنا في ألفين، وأصبح مروان يوم الأربعاء قعدا متوجها في طريق العرب، وخرج سليمان زعم يبادره إلى الطريق التي ذكر مروان في كتابه [ص 303] أنه يسلكها، وأقبل ابن مروان فنزل معسكره، وسرح إلى أبيه رسولا يعلمه ذلك، فلما أعلمه الرسول، رجع وقد سار ستة أميال، فصار في عسكر سليمان، فقال سليمان: مكر بنا مروان، وإنما فعل مروان ذلك، لأن عسكر سليمان أخصب وأحصن وأكثر مياها، فقاتلهم مروان فظفر بهم، وقتل منهم مقتلة عظيمة، يقال: عشرة آلاف، ومضى

سليمان منهزما إلى دمشق، فأخذ مالها وقسمه، ثم كان ما كان من انتهاء الأمر من يد المخلوع إبراهيم إلى مروان، وكان دخوله دمشق من باب الجابية، وأتاه إبراهيم وخلع نفسه، فأمّنه، وجاء سليمان بن هشام فأمّنه، ثم حمل مروان ما كان بدمشق من الأموال، وتحوّل إلى الجزيرة، فنزل حران، وأقام بها ثلاثة أشهر أو أربعة، ثم بلغه أن ثابت بن نعيم عامله على فلسطين قد خلع، فسار يريده. قالوا: وكان «1» سبب خلع ثابت بن نعيم، أن عطية بن الأسود «2» قال: [البسيط] يا ثابت بن نعيم دعوة جمعت ... عقّت أباها وعقّت أمها اليمن أتارك أنت مال الله تأكله ... عير الجزيرة والأشراف تمتهن أوقد على مضر نارا يمانية ... تشفي العليل وتحيا بعدها السنن قلت: وأقبل ثابت في زهاء خمسين ألف من لخم وجذام وغيرهم، فحضروا طبرية مدينة الأردن «3» ، وبها الوليد بن معاوية بن مروان بن عبد الملك عامل مروان، فسار إليه أبو الورد، فلما التقوا خرج إليهم الوليد عامل طبرية في أهل الأردن، فهزموا ثابتا وقتلوا أصحابه، وتفرق من بقي منهم عنه، ومضى ثابت إلى فلسطين وأتبعه الورد، ولحق ثابت بجبال الشراة «4» ، فظفرت به خيل

لمروان، قد كان وجهها مادة لأبي الورد، فأخذوه وأتوا به مروان، وهو بدير أيوب، فقتله، وأفلت ابنه رفاعة. ثم كانت من أحوال مروان المتناقضة وأموره المتعارضة، وخلافته المحلولة المعاقد، ومملكته المتجاذبة بأيدي الثواير، وجنوده المختلفة الآراء، وبنوده [ص 304] المنكسة بالخذلان ما كان، حتى ابتزت منه الدولة العباسية الخلافة قهرا بالسيف. وحكى الحسن بن زيد بفرغانة «1» ، قال: بلغني أن مروان بن محمد، مر على راهب في صومعة، وهو هارب من جيش أبي مسلم، فأشرف عليه الراهب، فسلم عليه فقال له: يا راهب، هل عندك علم بالزمان؟ قال: نعم، عندي من تلونه ألوان، قال: هل تبلغ الدنيا من الحر أن تجعله مملوكا؟ قال: نعم، قال: كيف؟ قال: هل تحبها؟ قال: نعم، قال: فأنت مملوك لها، قال: فكيف السبيل إلى العتق؟ قال: تبغضها والتخلي منها، قال: هذا ما لا يكون، قال الراهب: أما تخليها منك فسيكون، فبادر بالهرب منها قبل أن تبادرك، قال: هل تعرفني؟ قال: نعم أنت ملك العرب مروان، تقتل في بلاد السودان، وتدفن بلا أكفان، ولولا أن الموت في طلبك لدللتك على موضع هربك. قلت: ولمروان شعر، يروى منه: «2» [الطويل] وما زال يدعوني إلى الصبر ما أرى ... فآبى ويدنيني الذي لك في صدري

سأبكيك لا مستبقيا فيض عبرة ... ولا طالبا بالصبر عاقبة الصبر ويقال: إن نقش خاتمه كان: (رضيت بالله العظيم) ، وقتل مروان ببوصير «1» ، وصار آخره إلى ذلك المصير على ما هو ملمح في ترجمة أبي العباس السفاح «2» وملمع بخلوق دمه درع ذلك الصباح، وبهزيمة مروان على الزاب «3» زال عن جمهور المعمور ميسم بني مروان، وطالما افترّ بدولتهم مبسم الزمان، إلا أنها الأيام لا يطمئن إلى خداعها، ولا يوثق بعواري متاعها، لا تبقي أحدا ولا تثبت على حالة أبدا، ومهما نوّلت في اليوم، سلبت غدا، فسبحان الباقي بلا زوال. ولما قتل مروان قصد عامر بن إسماعيل قاتله الكنيسة التي فيها حرم مروان، وكان قد وكل بهن مروان خادما له وأمره أن يقتلهن بعده، فأخذه عامر، وأخذ نساء مروان وبناته فسيرهن إلى صالح بن علي، فلما دخلن عليه تكلمت ابنة مروان الكبرى فقالت: يا عم أمير المؤمنين [ص 305] ، حفظ الله من أمرك ما تحب أن تحفظ، نحن بناتك، وبنات أخيك وابن عمك، فليسعنا من عفوكم ما وسعكم من جورنا، قال: إذا لا أستبقينّ منكن واحدة، ألم يقتل أبوك ابن أخي إبراهيم الأشتر، ألم يقتل هشام بن عبد الملك زيد بن علي بن الحسين، وصلبه في الكوفة، ألم يقتل الوليد بن يزيد يحيى بن زيد وصلبه بخراسان، ألم يقتل

الدولة الأموية بالأندلس

زياد الدعي مسلم بن عقيل، ألم يقتل يزيد بن معاوية الحسين بن علي، ألم يخرج إليه بحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا، فوقفهن موقف السبي، ألم يحمل إليه رأس الحسين فقرع دماغه، فما الذي يحملني على الإبقاء عليكن، قالت: فليسعنا عفوكم، قال: أما هذا فنعم، وإن أحببت زوجتك ابني الفضل، قالت: وأي حين عرس هذا، بل تلحقنا بحران، فحملهن إليها مكرمات، فلما دخلنها ورأين منازل مروان، رفعن أصواتهن بالبكاء. قلت: وهيهات البكاء، والبكاء لا يرد الغائب، ولا ينقع الغليل، فأفّ للدنيا، وتبّا لخدع الغرور، مرت ببني مروان ونسفت ملك آل أبي سفيان، وخضبت دما شيب عثمان، وفعلت ببني آمنة ما فعلت وتفعل بسائر أبناء الزمان. وإذا انتهينا إلى آخر دولتهم التي لم يبق لهم بعدها إلا ما برقت لهم به بارقة بالأندلس، فنقول وبالله التوفيق: ثم كانت: الدولة الأموية بالأندلس نهض غدها وهو عاثر، ونظم عقدها وهو متناثر، وأضاء خلل الرماد لها وميض جمر «1» ، وأطل لها نهوض أمر، وذلك بدخول عبد الرحمن بن معاوية بن هشام إلى الأندلس، مصمما، كالمشير بالعضب، متمما رقى ذلك الهضب، بهمّة لو قذف بها البحر لما عبّ زاخره، أو الفلك الأعلى لما دارت دوائره،

113 - دولة عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان

ووجد بالأفق العربي مواليه، ومن مر النسب العزي من يواليه، من صدم بهم صدور الخيل الشزّب، حتى أدفا صدور الرحال العزّب، واجتلى النصر [ص 306] تبرق أسرته، وتحدق مسرته، وتعبق بأطراف الأسنة رائحته، وتعلق بأطراف الأعنة بساتينه، واقتطع من المعمورة، ذلك الإقليم الجليل، وصيّره له دار خلافة، طالت ذوائبها، وصالت كتائبها، ودان له أهل تلك الجهة وذلت له مناكبها، وظلت تقدم لها منابرها، ويعلن باسمه خاطبها، خلافة ابتزّها من بني العباس، قهرا بالأيد وقسرا بالكيد، ونصرا لم تحتج إلى سلم، ولم يحتج إلى زيد ولا عمرو، أخذها غصبا من أفواههم الفاغرة، ونهبا من أيديهم وأعناقهم صاغرة، بعزائم ما فلّت السيوف ضرابها، ولا ملّت السيول غلابها، حتى اجتمعت له دائرتها، وارتفعت به نائرتها، وخشعت الدولة العباسية خوفا لا تهب الدولة الأموية وتثور ثائرتها. وها أنا أذكر هذه الدولة ما زخر به في الأندلس بحرها، وفخر بما تحلى به من مآثرهم نحرها، وأولها الباني لها، وموج المنايا حولها متلاطم، وفوج الرزايا ببابها متزاحم، المنقض بأفقها عقابه القشعم، المنبت بأرضها شجاعه الأرقم. هي: 113- دولة عبد الرّحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان الداخل «1» الحق المطرّف، رجل العالم، وبطل بني آدم، خلص من لهوات

القواضب، وهفوات العدو المغاضب، وعبر الفرات يشقها عوما بذراعه، ثم الفلاة يقطعها فردا من أصحابه وأتباعه، حتى أتى المغرب، وبلغه اختلاف المضرية واليمانية بالأندلس، فبعث بدرا مولاه، ليستميل أي الفريقين والاه، فأتى اليمانية إثر نوبة كانت للمضرية عليهم، فاستمالهم، ووعدهم عنه، ومنّى آمالهم، ولما أراد الحرب عقد نقيبه عبد الله بن خالد لواءه، وكان أبوه خالد عقد لواء مروان بن الحكم يوم المرج، فكشف لأواه فتيمن بتلك النقيبة ولهذا خص بعقد اللواء نقيبه. وخرج يوسف بن عبد الرحمن «1» فيمن بقي من طاعته،

ووفى بأس التفرق من جماعته، وكان الزمان ربيعا [ص 307] جاء إثر جدب، ما مر النسيم على مخلصه، ولا رم شعث الناس إلا ما كل نقله، وسارا على نهر أشبيلية «1» ، كل منهما على ضفة منه، ثم تقابلا مقابلة كادت تكون اجتماعا وتراسلا، لا لشىء إلا خداعا، وكان ذلك يوم عرفة، فبات يوسف بن عبد الرحمن همّه ذبح الجزر وتهيئة الطعام، وعبد الرحمن الداخل همّه في تسوية الصفوف، وإثارة القتام، فلما أصبح يوم الأضحى جازت خيل عبد الرحمن النهر، وجادت بالحديد مثقلة الظهر، وتناوش الفريقان الحرب، يشعبون شعب رماحهم، ويهيجون شعب صفاحهم. وكان عبد الرحمن على فرس سابق، فخاف أهل معسكره أن ينهزم، «2» وحار من كان له بينهم، وقالوا: شاب غر وتحته فرس يرمي به المرامي، نخاف إن عضت الحرب أن يطير عليه على بعض الموامي، فلما نمي إليه هذا الخبر، استدعى بغلا أشهب كان معه، وركب عليه لا يفارق موضعه، فاطمأنوا إلى الثبات، وارجحنوا كالجبال لولا الوثبات، فانهزم يوسف هزيمة لم ير بعدها جدا مقبلا، ولا حدا إلا مقللا، ودخل الداخل قرطبة، وحل بها صدر المرتبة، ثم كان آخر أمر يوسف بن عبد الرحمن مع عبد الرحمن أنه انتظم في جنده، وارتطم بالأرض خضوعا تحت بنده.

قال صاحب المقتبس: ولما كان يوم المضارة واستحر القتل، مشى العلاء بن جابر العقيلي إلى الصميل بن حاتم «1» ، وكلاهما من عسكر يوسف بن عبد الرحمن، فقال له: يا أبا جوشن، اتق الله، فوالله ما أشبه هذا اليوم إلا بيوم المرج «2» ، وإن عاد ذلك لباق علينا إلى اليوم، وإن الأمور لنهتدي إليها بالأشباه والأمثال، أموي وفهري، وقيس ويمن، ووزير الفهري ذلك اليوم قيسي وهو زفر بن الحارث، ووزير هذا اليوم أنت، وأنت قيسي، ويوم عيد في يوم جمعة، ويوم المرج يوم عيد في يوم جمعة، الأمر والله علينا ما أشك فيه، فاتق الله واغتنم بنا تلافيه، فلم يفد كلامه. وفي هذه الوقعة يقول ابن السنبسية: [الكامل] أهداك ربك رحمة لعباده ... لما تضرّمت البلاد وقودا [ص 308] فسلقت أطراف الأسنة في العدى ... حتى روين فما يرون مزيدا والخيل تعثر بالقنا وكأنّما ... فوق السنابك إذ حنين قيودا والمشرفية لن تبيد صقالها ... مثل الكواكب يتّقدن وقودا حتى أطرن جماجما مكنونة ... تحت المغافر فانكفأن سجودا

كان عبد الرحمن يدعو إلى أبي جعفر المنصور، حتى دخل الأندلس عبد الملك بن عمر بن مروان بن الحكم، ووافى عبد الرحمن فآواه وعززه وكرم مثواه، فلما حضر له الجمعة وسمع الدعاء لأبي جعفر المنصور أنكره، وقال: إن من الحكم جهلا، وأي هوادة بيننا وبين هؤلاء عدوا علينا فلم يرقبوا إلا ولا ذمة، واستحلوا منا كلّ حرمة، وأخرجونا من أرض الله الواسعة فألجأوا فلّنا إلى هذه القاصية الشاسعة، ثم ها نحن الآن نسايرهم فيها ونمد لهم خيط باطلهم بالدعاء لهم، أعطي الله عهدا، لئن لم تحول الدعوة لهم إلى البراءة منهم، لأنقلبن على وجهي مبادرا في هذه الأرض العريضة، وقد كان من هوى عبد الرحمن الداخل، إلا أنه آثر الأناة إلى أن استضاء برأي ابن عمه، فترك الخطبة لأبي جعفر وتفرد بالدعاء لنفسه، وذلك بعد سنة من دخوله الأندلس. ثم شرع في تعظيم قرطبة «1» ، فجدد مغانيها وشيد مبانيها، وحصّنها بالسور حتى أشرف بناؤه، وابتنى بها قصر الإمارة والمسجد الجامع، وكان سلف المسلمين قد اقتصروا عند افتتاحهم لقرطبة، حتى اتخاذهم مسجدهم الجامع، فيما خصهم من سطر الكنيسة العظمى بها المعروفة بشنت، بحيث كما كان بدمشق، ودام الأمر على هذا تهالك الولاة بالأندلس على الإمارة، وهويهم في ضلال الشحناء إلى أن جمع شتاتهم عبد الرحمن الداخل، وسمت نفسه إلى ما تسمو إليه أنفس الخلفاء، فصالح النصارى على شطرهم بمواضع مما كان أخذ

بالعنوة من كنائسهم، وذلك سنة تسع وستين ومائة، ثم لما وسع قناءه، ووسع بناءه، تخطى بنظره إلى مساجد الكور بالأندلس، ثم ابتنى منية الرصافة «1» متنزها له، تشبها [ص 309] بجده هشام، واتخذها قصرا حسنا، ودحا بها جنانا واسعة، نقل إليها غرائب الغراس وأكارم الشجر، من كل ناحية مما أتت به رسله من الشام، فمثلت أشجارا معتمة أثمرت بغرائب الفواكه، وعجائب الثمرات، ورأى أول ما نزل هذه الرصافة نخلة فذة ذكرته باغترابها غربته، وبنأيها عن أشباهها أحبته، فقال: «2» [الطويل] تبدّت لنا وسط الرصافة نخلة ... تناءت بأرض الغرب عن بلد النخل فقلت شبيهي في التغرب والنّوى ... وطول انثنائي عن بنيّ وعن أهلي نشأت بأرض أنت فيها غريبة ... فمثلك في الإقصاء والمنتأى مثلي سقتك غوادي المزن من صوبها الذي ... يسحّ ويستمري السماكين بالوبل وحكى صاحب المقتبس ما معناه: أن عبد الرحمن الداخل في سنة ثلاث وستين ومائة، أشاع الرحيل إلى الشام لانتزاعها من يد الدولة العباسية وإدراك ثأره، وذكر أن كتب جماعة ممن بها من أهل بيته ومواليه وشيعته، توالت عليه بضعف المسوّدة، وفتور فورتهم، ونقل ذلتهم على الناس، فعمل على أن يستخلف ابنه سليمان الأندلس في طائفة، ويذهب بعامة من أطاعه وكمل من ضروب المماليك أربعين ألفا، فاخترم دون ذلك.

114 - دولة ابنه هشام بن عبد الرحمن [ص 310]

وتوفي يوم الثلاثاء لستة بقين من ربيع الآخر سنة سبعين ومائة، وهو ابن سبع وخمسين سنة وأربعة أشهر، ومولده قريب تدمر «1» من الشام سنة ثلاث عشرة ومائة، ولبث من يوم بويع إلى أن مات ثلاثا وثلاثين سنة وأربعة أشهر وأربعة أيام، ودفن في القصر، وصلى عليه ابنه عبد الله بن عبد الرحمن المولود ببلنسية «2» ، وكان يقال له صقر قريش، وكان أصهب خفيف العارضين، بوجهه خال، طويل القامة، نحيف الجسم، له ضفيرتان. وحكى الحافظ أنه كان أخشم، لا يشم رائحة. 114- دولة ابنه هشام بن عبد الرّحمن [ص 310] أبي الوليد «3» ، وولد بالأندلس، ووجد أبوه به الأنس، وكان يفضله على ولده الأكبر سليمان، وكان سليمان ممن ولد بالشام، وقدم الشام إلا أنه لم يطال

همّة هشام، ولما مات أبوه عبد الرحمن حتى ذكره، وحني من ورق الحديد الأخضر نصره، ونازعه أخواه، فلم يجدا في قوسه منزعا، ولا في قوله الفصل مطمعا، حتى أتاه الأمر طائعا، ووافاه سرير الملك وقد مد عنقه خاضعا، واستهل ذلك الجو سحابا دوى الأوام، واستقل في ذلك الأفق بدرا ينجاب عنه الظلام، وجرت له أمور، ووجبت عليه نذور لموافقة السعادة لمراده، ومؤازرة النصر لأمداده، ومساررة الصواب لنجوى فؤاده، فكان لا ينقض إبرامه مريرته، ولا ينقل مرامه عن الحسنى سريرته، فكان يعد من خير أملاكهم حظا سعيدا، ولفظا سديدا، تسع الدنيا همّة العوال ويجمع النعماء بعض ما تهبه من النوال، وكان على هذا كله تقي الورع، نقي المجتمع، لا تحضر مجلسه الغيبة، ولا تحل ملبسه الريبة، مع رأي أسد من السهم نفاذا، وأشد من الوهم بالضمير ملاذا، وكان أبوه عبد الرحمن بن معاوية يحضره مشورته، وينظره من الرأى صورته، وربما تكلم بين يدي أبيه فقال صوابا، وقاس الأمور على أشباهها فبرع جوابا، ولهذا كان أبوه يقدمه ويثقفه تثقيف السمهري ويقومه، ويؤاخذه في الأمور وما يريد إلا أنه يبصره ويفهمه. حكى صاحب المقتبس ما مضمونه، أنه كان عند وفاة أبيه عبد الرحمن بمدينة باردة، وكان أخوه بمدينة طليطلة، وكان أخوهما عبد الله البلنسي حاضرا بقرطبة، فشهد موت أبيه دونهما، وشد الأمر بعده، وبادر بالكتابة لأخيه هشام، يعلمه أن أباه مات وعهد إليه، وحثه على البدار نحوه، فخرج من فوره إلى قرطبة، وتسلم الملك، وبويع على الإمارة، وكان أول من بايعه أخوه عبد الله على زعل نواه، وغلّ بين جوانحه طواه. وحكى محمد بن حفص: أنه لما انكشف وجه هشام من غمة حروبه مع أخويه سليمان وعبد الله [ص 311] صفت له الأندلس جميعا، واجتمع له

طاعة أهلها طرّا، وكانت يومئذ أكثر ما كانت، فسما لجهاد عدوهم سموّا استفرغ فيه وسعه، فأعطى فيهم نصرا لا كفاء له، وافتتح مدينة أربونة «1» ، وبلغ من تحكمه فيهم أن اشترط على المعاهدين من أهل جليقية «2» لما سألوه المسالمة، نقل عدد من أحمال التراب من سور أربونة إلى باب قرطبة، فلما أكمل نقل هذا التراب، ابتنى منه مسجدا قدام باب الجنان «3» ، وهو الذي كان يصلي فيه من حضر باب السلطان. قلت: وأربونة كانت فتحت قبل هذا الفتح، ودامت بأيدي بلاد الإسلام حتى عبد الرحمن الداخل، وأقر عليها عبد الرحمن بن علقمة اللخمي، عامل يوسف بن عبد الرحمن الفهري، ثم غلب عليها العدو، واجتذبها من يد الإسلام إلى أن فتحت هذا الفتح. وحكى محمد بن عمر بن القوطية كلاما ما معناه: أن هشاما سأل الضبّى المنجم عما تقتضيه النجامة من أمره، وكان الضبي بطليموس عصره حذقا وإصابة، فسأله الإعفاء، فلم يجبه، فلما لم يجد بدا من إخباره قال له: نعم، أصلح الله الأمير، سوف يستقر ملكك سعيدا، وجدك لمن ناواك إلا أن مدتك تكون ثمانية أعوام، فأطرق هشام ساعة ثم رفع رأسه وقال: يا ضبّي، ما أخوفني أن يكون النذير كلمني بلسانك، والله لو كانت المدة كانت في سجدة واحدة لله لقلّت طاعة له، ووصل الضبي وصرفه، ثم شمّر هشام للعمل

115 - دولة ابنه الحكم بن هشام الربضي

لمعاده، وضمّر بطنه لتحصيل زاده، حتى مضى وهو على جهاده. وكانت وفاته بمرض سوداوي لحقه ليلة الخميس لثلاث عشرة ليلة خلت من صفر سنة ثمانين ومائة، وكان ابن تسع وثلاثين سنة وأربعة أشهر وأربعة أيام، لبث بها خليفة سبع سنين وسبعة أشهر وثمانية أيام. وكان أبيض مشربة حمرة، بعينيه حول، وقال بكر الكتاني يرثيه: [الطويل] لقد فجع الإسلام موت هشام ... نجيب قروم منجبين كرام هشام لعمري كان للدين راعيا ... بعين مراعاة وحدّ حسام [ص 312] إذا صال كان الليث يحمي عرينه ... وغيثا إذا ما كان يوم سلام 115- دولة ابنه الحكم بن هشام الرّبضيّ «1» وكان حميّ الأنف «2» ، عزما يتوقد صرامة ابى الآبقة عدا «3» لا يستسهل

مرامه، لا يستلان له جانب، ولا يستهان به إلا دهيا أو مقانب بصوارم فللت الصفوف «1» ، ومكارم قللت الألوف، فكلما أتاه جمع عدو ولا مال إلا فرّقه، ولا قاواه جلد وطيش، ولا لبس إلا مزّقه، وسعد جده المقبل، وصعد رفده على الغمام المسبل، ولم يبق له معاند إلا احترق بناره، أوصادف جدوله فغرق في تياره، في عدة نوب عدمت البصيرة فيها حذارها ثم قدمت السهام إليها ارتدادها، ثم أقدمت السيوف وأبلت فيها عذارها، وخفقت فيها أعلامها الأموية بريحها التأييد، ويصبحها النصر مستطيرا من برق الحديد، في حروب منها ما باشره، ومنها ما قعد عنه، وعقد له لواء لم يكن سواه ناشره، فما عادت عساكره إلا وقد شفّت مناه، وكفت همة ما عناه، حتى أودع بطون الثرى أعداه، وودع القيام، فما استسقى لمنابت الرماح أنداه، وصفا له الأندلس من شوائب الأعداء، ونوائب الإعداد للأعداء، واستقر سريره لا يقلقل له إلا في دور ملكه مضجع، ولا يقلّب له إلا بين جواريه ذهاب أو مرجع، واستوفد إكرامه طوائف العلماء، واستبيح كرمه قرائح الشعراء، فغصّت أبوابه بالوفود، وقصّت أجنحة زواره، وما قصها سوى الجود، وكان أول أموي باح في الأندلس بمكنون سره، ومضمون ما كان يلجلج في فكره، ولم يخش دولة بني العباس أن ترمي إليه مدنها، أو ترسي عليه سفنها، وما راعه سواد ذلك العلم، ولا أقلقه تبكي ذلك الألم، ولا خاف أن تصيبه من العراق سهم أصاب وراميه بذي سلم «2» كل هذا مع بصيرة بالعواقب، كأنما ناجته بما يكون وسريرة لا تراقب، إلا ما لم يألف من السكون، لكن الأقدار

ما أسعفته بتمام هذا الأمل، ولا [ص 313] كمّلت له، ومن ذا الذي تم أمره أو كمل. وكان ذا دولة خدمتها الأكابر، وما منهم إلا من أغدق كرمه وشرق وغرّب مدحه، فمنهم عبد العزيز بن أبي عبدة، وفيه يقول بكر بن قيس: [الطويل] ألكني إلى عبد العزيز أخي الندى ... ثناء وقولا قلته متعرّقا لعمري لنعم المستغاث وجدته ... لدن جئته صفرا من المال مملقا لأضحى وزيرا للخليفة حاجبا ... ترى رأيه رأيا إذا قال صدّقا فهذا يرى وجه النصيحة قوله ... وهذا يرى قول النصيحة موثقا لفازت بنو حسان منه بسابق ... هنيئا مريئا أن يفوز ويسبقا ومنهم عبد الكريم بن مغيث، وهو الذي أمن طليطلة «1» ، وبذل لأهلها مع القدرة من غير مسألة، إلا أنه اشترط عليهم شروطا خافوا منها العنت، لكتاب جاءه من الحكم، جاريه فيما احتكم، وفيه يقول غربيب بن عبد الله: [البسيط] يا فارس الناس في الهيجا ومعقلهم ... هنّاك ربّك ما أعطى وأولاكا حفظت في نسله قيسا وحطتهم ... كأنّ قيسا بنا إذا مات أوصاكا إن كان سرّك ما جاء البريد به ... فلا لعمر أبي ما سرّنا ذاكا بل سرّنا منك نعماء بدأت بها ... ما كان ضرّك لو أتممت نعماكا وفي أيامه في سنة سبع وتسعين ومائة كانت الشدة التي عمّت أرض

الأندلس أجمعها، ومات منها أكثر الخلق، واجتاز بعضهم البحر إلى العدوة لانتجاع خصبها، وارتجاع ما فاتها بأرض الأندلس من جدبها. قال صاحب المقتبس: وكان المقلّون يطوفون الأيام دون تعلل بطعام، وفي سنة اثنتين ومائتين كانت الوقعة العظمى بقرطبة، وهي المعروفة بوقعة الربض، وهي نوبة كانت من أهل قرطبة، هاجوها يوم الأربعاء لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر رمضان غب أحقاد حملوها على الحكم بن هشام، فحملوا السلاح بغتة، وزحفوا إلى قصره جملة، فلم يتزحزح عن سريره، وإنما بعث مواليه وأهل ولائه فقاتلوهم [ص 314] حتى هزموهم، واستمروا بالطلب لهم ولزموهم، وأمسك منهم خلقا كثيرا «1» ، وصلب منهم ثلاث مائة رجل صفوفا أمام قصره، وأعظم فيهم الحادثة، وأفشى المثلة، ثم أمر بالكف، ونادى فيهم بالجلاء فتفرقوا في بلاد الأندلس أيدي سبأ، وعبر إلى بر العدوة، منهم فل ممن لا قتل ولا سبي، وقال الحكم في ذلك: [الطويل] رأيت صدوع الأرض بالسيف راقعا ... وقدما لأمت الشعب مذ كنت يافعا فسائل ثغوري هل بها اليوم ثغرة ... أبادرها مستنضي السيف دارعا وسائل على الأرض الفضاء جماجما ... كأحقاف شريان الهبيد لوامعا ينبيك أني لم أكن في قراعهم ... بوان وقدما كنت بالسيف قارعا وإني إذا حادوا جزاعا عن الردى ... فما كنت ذا حيد عن الموت جازعا حميت ذماري فاستبحت ذمارهم ... ومن لا يحامي ظل خزيان ضارعا ولما تساقينا سجال حروبنا ... سقيتهم سجلا من الموت ناقعا

وهل زدت أن وفيتهم صاع قرضهم ... فلاقوا منايا قدّرت ومصارعا فهاك سلاحي إنني قد جعلتها ... مهادا ولم أترك عليها منازعا وحكى عامر بن المنبّي النحوي المؤدب قال: قدم علينا بعد الوقعة عباس بن ناصح قرطبة أيام عبد الرحمن بن الحكم، فاستنشدني شعر الحكم بن هشام في الهيج، فأنشدته إياه، فلما بلغت قوله: وهل زدت أن وفيتهم صاع قرضهم البيت قال عباس: لو أن الحكم حوبي للخصومة بينه وبين أهل الربض لقام بعذره فيهم هذا البيت. وقال أبو بكر بن القوطية: لم يتملّ الحكم حلاوة العيش بعد وقعة الربض، وامتحن بعلة صعبة طاولته أربعة أعوام في آخر عمره فلّت غربه، وأطالت ضناه، واحتجب فيها آخر مدته، واستناب ولده عبد الرحمن في تدبير ملكه، فمات أسيفا على توبة من ذنوبه، وندم على ما اقترف، وعرضت له رقّة شديدة ألانت صلابته، وطفق يكثر الذكر ويفزع إلى استقراء القرآن، ويأنس بالتلاوة إلى أن مات على حاله [ص 315] تلك، فكانوا يرجون «1» له خيرا. ولما أحسّ بدنو المنية، عهد إلى ولديه: عبد الرحمن والمغيرة عهدا أشهد عليه الأشهاد، ثم نزل المغيرة لأخيه عبد الرحمن عن طيب نفس وإذعان، ونقل الحكم ابنه عبد الرحمن إلى القصر، وقام بالأحكام معه ودونه. وأول ما أحدثه وأبوه حي أن صلب ربيع بن ندار رأس النصاري بقرطبة، وكان جديرا بالصلب والمثلة، لسوء أثره في المسلمين، فقال في ذلك عبد الله بن

116 - دولة ابنه عبد الرحمن بن الحكم

الشمر النديم: [الرمل] يا ولي الأمر من بعد الحكم ... بك جاد الصنع للخلق وتم خذ بشكر نعمة الله التي ... هي من خير العطايا والفسم واشكر الله على نعمته ... إنّ في الشكر مزيدا للنعم فلقد قربت قربانا به ... تلج الفردوس من طاغي العجم كافرا سلّمه أشياعه ... وبه حلّت من الله النّقم ثم تخلّى له أبوه الحكم عن النظر في أمور الخلافة، وأراد أن يخلي له قصر الإمارة فأبى ابنه عبد الرحمن، وقال: بل أكتفي بالقعود على باب السدة مقعد صاحب المدينة، فاستحسن رأيه، وبدأ بتغيير المنكر، وأمر بهدم الفندق السلطاني المعد لبيع الخمور وسكن المومسات الخواطي، فهدمت بنيته، وصبّت أشربته، وكسرت آنيته، وخليت من العواهر أفنيته، فضجّ الناس بالدعاء له وعلت أصواتهم حتى سمعها الحكم، فارتاع وسأل عما أوجب ضجيج الرعاع، فلما أعلم بما صنع ابنه سكن وقال: هو أعلم بما صنع. وتوفي الحكم يوم الخميس لأربع بقين من ذي الحجة سنة ست ومائتين، ومولده سنة أربع وخمسين ومائة، ومدة خلافته نحو ست وعشرين سنة وشهر ونصف شهر، وسنّه ثلاث وخمسون سنة، وصلى عليه ابنه عبد الرحمن، [وكان] طوالا أشم نحيفا لا يخضب. 116- دولة ابنه عبد الرّحمن بن الحكم أبي المطرف «1» [ص 316] ، كان أثيرا عند أبيه الحكم، كثيرا مما يظهر به من

الحكم أشبه في حكمته بالمأمون، وفي حرمته هارون، وتطلّب الكتب القديمة، وتطبّب بها من عدوى الأفهام السقيمة، وطالع كتب الأوائل، وطالب بإقامة الدلائل، وبعث إلى العراق في طلب الكتب الحكمية، وغالى في أثمانها، ووالى في ذخائر البيوت استخرج جمانها رغبة في إقامة براهينها وإدامة الوقوف على قوانينها، حتى نأى بها إلى الأندلس عن أوطانها، ورأى بالعقل أنه لا ينفذ إلا بسلطانها، فغلب بحججها القاطعة وبلغ الغاية بأنوارها الساطعة. وكان هو أول من أدخل الحكمة، ويثها في أقطارها، ومد إليها بعثها حتى جاس خلال ديارها، فأعاد عصر الأوائل جديدا، وعصر الفضائل زاد ضحى قريبا بعيدا، بل زاد حتى سطا بأرسطاطاليس، وفلّ أفلاطون بجيش لا يفله الخميس، فما جاء معه أبقراط بقيراط، وبطل بطليموس فيما أحاط به علما ومالا أحاط، فذكت قريحته، وزكت صبيحته، وكان أبوه الحكم لما سمع كلامه في هذه الدقائق، وعرف مرامه في معرفة هذه الحقائق، يتضاعف به سروره، ويتماثل لديه أموره، ولهذا انتعش لديه حظه من خاطره، وجاد أفقه صوب ماطره، فكان

لا يبرح يحبوه من الشكر بعاطره، ويجلوه في حلل اغنته عنها فطره، هذا مع استقلال بجنوده، صاب نوؤه وأصاب سدد الظلام ضوؤه. قال الرازي: عبد الرحمن بن الحكم، أول من فخّم الملك بالأندلس من خلفاء بني مروان، وكساه أبهة الجلالة للأعمال، واستوزر الأكفاء، فعظم شأنه، وكاتبته ملوك البلاد، ثم شيّد القصور، واتخذ المصانع وجلب الماء. وحكى معاوية بن هشام: أنه كان يتشبه بالوليد بن عبد الملك في شرف نفسه، وعلاء همّته، وفخامة سلطانه، ودعة أيامه، وما شاد من البناء، وشق من الأنهار، وغرس من الأشجار، وزاد في المسجد الجامع، وفيه قال عبد الله بن الشمر: [الطويل] بنى مسجدا لم يبن في الأرض مثله ... وهل مثله في حوزة الأرض مسجد [ص 317] له عمد حمر وخضر كأنّما ... تلوح يواقيت بها وزبرجد قال الرازي: وفي أيامه أحدث بقرطبة وغيرها من بلاد الأندلس الطرز لأنواع الكسوة والوطاء، واستنبطت فيها الأعمال، وتدرج فيها إلى التجويد في ذلك، وقال الرازي: وفيها اتخذت بقرطبة السكة، وقام فيها ضرب الدراهم، ولم يكن فيها دار ضرب منذ فتحها العرب، وإنما كانوا يتعاملون بما يحمل إليهم من دراهم أهل المشرق. قلت: وهذا أوان صارت الأندلس مصرا، وصارت تعد بستانا، وقصرا بعد أن مضت برهة من الدهر لا يوصف إلا بأنه يصفق في جنباتها النهر. وكان عبد الرحمن أشم أقنى أسود العينين طوالا ضخما مسبلا عظيم اللحية.

117 - دولة ابنه محمد بن عبد الرحمن

117- دولة ابنه محمّد بن عبد الرّحمن وهي المتصرمة «1» عن افتراق الجماعة، المقسمة في آخرها بفراق الطاعة المسلمة من يده إلى الإضاعة المحومة لا إلى منهل عذب، المحولة رداها لا بمنصل عضب، بل يتحوم النفاق بكل جهة، وعدم الوفاق على ما تكون به السرائر مرفهة لقضاء سبق علمه لا لاقتضاء بسوء فعل، إلا أنه قسمه، وقد كان ذا كرم غمر اليدين، وهمم تسع صدر الفرقدين، وبصيرة ثاقبة، وسريرة لله مراقبة، إلا أنها الأقدار لا تعاند، والأسرار لا تبيد ذممها ولا تعاهد. استخلف يوم مات أبوه، ودخل القصر على ملأ من الناس، وحماء ممن يريد هدّ ذلك الأساس، وقيل: بل دخل متخفيا، ثم أصبح على السرير جالسا، ثم علا صهوة المنبر فارسا، وتولى أخذ البيعة له ابن شهيد «2»

بمشهده، واستناب يده له عن يده، وقام لديه مؤمن بن سعيد «1» منشدا: [الطويل] تهلّل بطن الأرض لما ثوى بها ... إمام الهدى الثاوي بها بطن ملحد وزلزلها موت الإمام وفقده ... فقال لها الله اسكني بمحمّد [ص 318] ثم كان من أكثر القوم تأنيا، وأوفر لما في النفوس تمنيا، وصفا العيش في ظل خلافته، وكفى المسىء اعتذارا فضل رأفته، وكان له في مدته الآثار الجميلة، والفتوح العظيمة، والعناية التامة بمصالح المسلمين، والاهتمام بالثغور وحفظ الأطراف، والتحرز من قبل البحر. قال الرازي: كانت لا تجري في بحره جارية إلا عن معرفته. قال: وهو الذي قسم مراتب أهل الخدمة، وإعلاء رتبة الوزارة، ورجّح أهل الشام على أهل الأندلس، وأعلى رتبة الوزراء منهم في الجلوس، انتهى كلامه. قال صاحب المقتبس: وزاد في توسعة الجامع بقرطبة، فقال العباس بن فرناس «2» :

[البسيط] محمد خير مسترعى ومؤتمن ... للمسلمين جميعا حيث ما كانوا بنى لهم مسجدا جلّت عجائبه ... لولا السماء لما ضاهاه بنيان قال: وكان مجبول الطباع على حب البنيان، مسعوفا بتشييد مبانيه، مبالغا في إتقانه، سخيا بالإنفاق عليه، منه قصور قرطبة والرصافة، وفيها يقول أحمد بن عبد ربه: «1» [الطويل] ألمّا على قصر الخليفة وانظرا ... إلى منية زهراء شيدت لأزهرا مزوّقة يستودع النجم سترها ... فتحسبه يصغي إليها لتخبرا بناء إذا ما الليل حلّ قناعه ... بدا الصبح من أعرافه الشّمّ مسفرا ترى المنية البيضاء في كل شارق ... تلبس وجه الشمس ثوبا معصفرا ودونك فانظر هل ترى من تفاوت ... به أو رأت عيناك أحسن منظرا تذكر بالفردوس من كان لاهيا ... وتلهي عن الفردوس من قد تذكّرا كأنّ السماء استوهبت لون أرضها ... وأنجمها من نورها حين نوّرا وكان ممدّحا. ومما قال فيه عمار بن المنبي: [الطويل] غدا في أسارير الأمير محمد ... إمام الهدى بدر وفي كفه بحر

فلو ملّك الله الرعية عمرها ... لكان له من ذلك العمر الشطر [ص 319] إذا ذخر الأملاك مالا فما له ... سوى المجد فالمعروف كنز ولا ذخر مهيب إذا أبصرت غرّة وجهه ... تكاد له من هيبة يصدع الصدر وكان كثير الخروج إلى الصحراء للتنزه في نواحيها، والتوسع في سعة ضواحيها، وكان معجبا بدربد وهو مكان قتلى أشبيلية، مرج أخضر كأنه زمرد شارب، ونهر يتكسر ماؤه كأنه عسل ممزوج لشارب، فابتنى به أبنية رفيعة، إلا أنها خيام، وقرّض هناك قراره إلا أنه هيام، فقال الوزير تمام بن أحمد: [الطويل] لعمري لما يوم من الدهر كله ... بأنعم من يوم حللنا بدربد لدن روضة خضراء ما أن تخالها ... لعمرك إلا معدنا للزمرد ودام في بلهنية من الملك إلى أن ثارت إليه الثواير، ودارت عليه الدواير، وسار إلى مغالبته كل ساير، وطار لمواثبته في البر والبحر كل طاير، ولم يكفه انفتاق الفتوق، وانبثاق البثوق، واختلاف كلمة أهل ملكه، حتى قصدته ملوك الكفار، وأجهدته بالنهود إلى الأسفار، وما رمي بأهل الصليب على انفرادهم، حتى مني بالمجوس من أقصى بلادهم، وكان في هذه النوائب تارة وتارة، ومرة ومرة، آونة حلاوة، وآونة مرارة، وفي بعض غزواته التي أثخن فيها في أهل الخلاف، وأمعن في زيادة الاختلاف، قال مؤمن بن سعيد: [البسيط] دع اللهى يفنها محمدها ... أسنى بني غالب وأمجدها أشياع لب سنابل خشعت ... أعناقها فالسيوف تحصدها دانوا له وهو وارد بهم ... حياض حتف يعاف موردها

كعابد النار وهي تحرقه ... بعدا لمثواه حين يعبدها ساؤوا ملوكا هم لهم خول ... وهل يسامي الملوك أعبدها أضحوا أحاديث للمواسم عن ... ظبى السيوف استفاض مسندها وعارضه محمد بن عبد العزيز القيسي فقال: [ص 320] [البسيط] دع الوغى لمم يزل محمدها ... يوقد نيرانها ويخمدها فليس تروى السيوف إن ظمئت ... إلا إذا علّها محمّدها سيف هدى تشهد السيوف له ... يوم الوغى أنه مهنّدها تقيل في ظله المنون إذا ... هاجرة الحرب حار موقدها فتلك دار العدو خالية ... أو حين نور الأنيس معهدها أطفأ عنا بسيفه فتنا ... أوقدها في البلاد أعبدها ثم طغت الفتنة ومرد النفاق، وانبعث الفساد، ودبّ الوهن في أقطار الدولة، حتى وهت أركانها، وهوت أقمارها، وعمي المبصر، وصم السامع، وخرس الناطق، وعم الأندلس بلاء أطل سحابه، وعظم شتات، لم يدر له امرؤ كيف ذهابه. ثم توفي محمد بن عبد الرحمن ليلة لخميس، ليلة بقيت من صفر سنة ثلاث وسبعين ومائتين «1» ، ومولده في ذي القعدة سنة سبع ومائتين، وبلغ من السن خمسا وخمسين سنة وثلاثة أشهر، منها مدة خلافته نحو أربع وثلاثين سنة وأحد عشر شهرا، وكان أبيض مشربا حمرة، مستدير الوجه، ربعة تام اللحية أصهبها به شىء من وقص «2» ، يخضب بالحناء والكتم.

118 - دولة ابنه المنذر بن محمد

118- دولة ابنه المنذر بن محمّد استفتح خلافته بالإحسان «1» ، واستمنح رأفته كل إنسان، فاستصبح الهلال بجبيته، واستصلح الاختلال بجود يمينه، واستقبح مقابلته العدو خوفا، وما أصحر ليثه من عرينه، زمانه ما طال، وليانه ما جلا فجره الكاذب من مطال على أنه منذ ولي شد نطاقه، واحتزم وجدّ انطلاقه، واعتزم حتى كاد يستقيم الأود، ويستديم صلاح ما فسد، وكان على نقص حظه من الأدب، يكرم أهله الكرام إكراما تتطامن له الأقدار، وتتفاطن به الأغمار، لكرم كان عليه مجبولا، وجود كان به [ص 321] كلفا متبولا. قدم قرطبة بعد موت أبيه، فصح المعتل، وصلح المختل، وخضع من كان رفع رأسه، وخلع نجاده من تقلد السيف، وقرث أفراسه «2» ، وبويع البيعة العامة، وتتبع التبعة الطامة، وبقي ينقب عمن قصد عنادا، وقصّر على البغي مرادا، وكان يتدفق مروّة، أحدق ببني مروان موكبها، وأشرق من عبد شمس لعبد شمس كوكبها، فما ورثها من آبائه الغطاريف الألى، عن كلالة ولا استحقها إرثا بالولا.

119 - دولة أخيه عبد الله بن محمد

قال صاحب المقتبس: وكان سبب وفاته أنه افتصد يوم السبت للنصف من صفر سنة خمس وسبعين ومائتين، وهو يوم العنصرة مهرجان الأندلس، وكتم موته، وأبردوا بريدا إلى أخيه عبد الله بن محمد، فوافى سريعا، وبادر بدفن أخيه المنذر بن محمد، وكانت خلافته سنتين إلا خمسة عشر يوما، وكان سنه ستا وأربعين سنة، وكان أسمر طوالا، جعد الشعر، كث اللحية، بوجهه آثار جدري، يخضب بالحناء والكتم. 119- دولة أخيه عبد الله بن محمّد أتاه نعي أخيه وهو غائب «1» ، ووافاه الطلب بالخلافة وهو آئب، فلما فشا في العسكر موت أخيه الذاهب، تفرقت أهواؤهم، وشقشقت أنواؤهم، ورام كل منهم أمرا قصيا لم يدرك تمامه، وراض صعبا أبيا لم يملك زمامه، ولم يبق إلا من نزا به شيطانه، ونزل بداره سلطانه، ظنا هووا في أوديته، وحووا سوء الذكر في أنديته، حتى أشار عليه بعض نصحائه، بغض برحائه «2» ، ومواراة أخيه

الهالك هنالك، واللحاق بقرطبة مسرعا، والسباق إليها قبل أن لا يجد موضعا، فقال: هيهات أن أتدنّس بهذه الدنيّة، وأتلبّس بقبح هذه المزية، ثم سار ومعه جثّة أخيه على أتانه، واستقام أمره على هناته، ودخل قرطبة وصلى [ص 322] على أخيه بها، وأودع ذهبه المكنوز في تربها، ودفنه في القصر بالروضة مقبرة الخلائف، ومأثرة تلك اللطائف، ثم بويع البيعة التي استقامت له على ظلعها، واستدامت على ولعها، وأخذ في حسم أدواء الخلاف، وحصد رؤوس منهم أينعت لقطاف «1» ، وكان أمر الفتنة قد استحكم واستفحل داؤه فلم، يحسم، وكثرت على مثل أولئك وأشباههم، وكبرت منها كلمة تخرج من أفواههم، فأعيا سقمها الطبيب المداوي وأعدى فيها ذا الرشد الغاوي، ويتيح لها في كل نائحة نائح، إلا أنه العاوي، ونضنض أفعى «2» ، إلا أنه مما لا يدخل في سلة الحاوي. وذكر صاحب المقتبس عن الرازي عن أبيه قال: كانوا يعدون عبد الله من أصلح خلفاء بني أمية بالأندلس، وأمثلهم طريقة، وأتمهم معرفة، وأمتنهم ديانة، كان يتهجد بالليل، ويقوم ليالي شهر رمضان بالنافلة مع الأئمة المرتبين لها بالمسجد الجامع، وكانت نيته في ذلك نية المخبت «3» الورع الراغب في الخير. حكي عن بعض الفتيان الخاصة أنه كان كثير التلاوة للقرآن، متأثرا على درسه، محبا لمن حفظه، قال: وكان لا يقدم أمرا ولا يؤخره، إلا عن مشورة أهل العلم والفقه. قال أبو صالح أيوب بن سليمان: أنه كان متصرفا في فنون العلم، محققا للسان العرب، بصيرا بلغاتها وأيامها، حافظا للغريب، آخذا من الشعر

120 - دولة ابن ابنه عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن محمد الناصر

بنصيب، ولم يسمع أحد مثل إنجازه إذا أمّل، ولا مثل بلاغته إذا [تمثّل] «1» ، وكان على كمال فضائله مسرعا إلى سفك الدماء، حتى من ولديه وأخويه، وخاصة صحبه. وتوفي في مستهل شهر ربيع الأول سنة ثلاث مائة، لبث منها خليفة خمسا وعشرين سنة ونصف. 120- دولة ابن ابنه عبد الرّحمن بن محمّد بن عبد الله بن محمّد النّاصر ولي بعد جده «2» ، ووطئ أسارير مهده، ووافق زمانه زمان المقتدر،

وقد [ص 323] ضعفت الخلافة ببغداد، ووهت قواها، ووهنت الدولة العباسية، حتى طمع فيها من سواها، فابرز عبد الرحمن ما عنده وباح، ومال علوه وكشف الغطاء واستراح، وأظهر التسمية بالخلافة، وسمي بأمير المؤمنين، وهو أول من تسمّى في الأندلس بها، وسما بالتحلي بلقبها، وكان رجل حزم، ورجل عزم، وبارق مضاء، وسابق قضاء، وبطل إقدام، وعطل مقدام، وسيف جلاد، وطيف رعب تجنه ضمائر بلاد، فلهذا قدح لهذا الرأي زنده، وفتح الباب لمن جاء بعده، ولم يكن في سباقه «1» من كشف هذا الغطاء، ولا كف عن ذروة السرير هذا الامتطاء، وإنما كان الواحد منهم، وإن عظم شأنه، وكرم سلطانه، لا يزيد في التسمية على الأمير، ولا يريد أكثر من هذا الخطاب المميز حتى اتخذها هذا الناصر عبد الرحمن عليه معلما، وأنطق بها لسانا وقلما، وسيرها في الآفاق كلما، وصيرها في الأندلس شبيهة بالعراق معلما «2» . وقد ترجم له صاحب المقتبس وقال: ذكر الدلالة على عظم شأن الخليفة الناصر في سلطانه، وإجرائه إلى الإيفاء على من تقدمه من الخلفاء، وجده في جمع الأموال وبذله لها في ابتغاء دول الآمال وتوسعه في إنجاب طبقات الرجال، وانتقائه منهم لجلة الوزراء المشاركين في الحال، وقسره لعويص الأشياء، وتفخيمه لصنائع البناء، وشد الفروج دون الأعداء، وتوقله لقلل الاعتداء، وكان لا يهيب خطرا يركبه، ولا يستكثر شيئا يهبه، وبنى المباني العجيبة، والمنارة البديعة، وشيد الخلافة بقرطبة، وعمل الناعورة «3» المحكمة الصنعة المضروب بها المثل، والبيضاء والزهراء وغير ذلك مما ذكره، وفي ميزة هذه الناعورة قال أبو نهمان

121 - دولة ابنه الحكم المستنصر بن عبد الرحمن الناصر

عبيد الله بن يحيى: [الطويل] تبؤّأ بين الحزن والسهل منزلا ... بأفيح فضفاض البساط على النهر تصعّد في ساحته الخضر ماؤه ... تصعد أنفاس المتيّم بالذكر [ص 324] ترقّى بها في الجو ثم تعيده ... إلى مستقر الأرض ناعورة تجري تردد تغريد الطيور وتارة ... ترجع ترجيع الأهازيج في الزمر وكان ممدحا، فمما قال فيه أبو عثمان هذا، وقد رآه في موقف حرب، أبان فيه قمرا من وجهه يغطي ضوء القمر ويخفيه: [الكامل] أغمامة بين البوارق تهمع ... أم شارق وسط الكتائب يلمع أم غرّة القمر المنير يحفها ... زهر النجوم أم الهصور الأروع لا بل هو الملك الذي في درعه ... ونجاده هذي الصفات الأربع وتوفي الناصر عبد الرحمن في شهر رمضان سنة خمسين وثلاث مائة. 121- دولة ابنه الحكم المستنصر بن عبد الرّحمن النّاصر أبي العاص «1» ، وهو الحكم العادل، والعلم الذي لا تطاوله الجنادل، والكرم

الذي لا يصغي إلى قول العاذل، ولا يبغي طاقة الباذل، ونطق منذ كان صبيا بالحكم، وصدّق فكان في بيته يؤتى الحكم «1» ، ونفقت في أيامه سوق الفضائل، ووثقت بأنعامه الطآيل [كذا] ، ولم يكن فيه عيب إلا قصر أيامه، وقصور مدته عن مرامه، وأهل الأندلس تعده من أصلح خلفائها، وأرجح أهل وفائه بها، ولم يكن من أهل الفضل إلا من يزدلف إليه بما لديه، ويقرب كرمه السابغ عليه من يديه، وكان الناظر لا يكاد يرى إلا عالما ومعلما، أو مقدما أو متقدما، وما بقي من رعاياه إلا من رعاه حرمه، ودعاه كرمه، فلم يدع منهم إلا راضيا عن زمانه، أو قاضيا له منه بأمانه، ثم ما زال مزيدا في الصلاح، ومتجددا به عموم الفلاح، حتى أتاه اليقين، وأراه موضعه في أماكن المتقين، وأجرى مرة خيله للسباق، فأحرز قصباته، وغبر في وجوه السباق، فقال محمد بن حسين الطبني: «2» [الرجز] أعارض عجلان في البحر خفق ... أم نفس الريح تجاري واستبق [ص 325]

أم الجياد أحضرت بلا عنق ... تطلب عند البعد ثارا بحنق وطارت الحصباء عنهن فلق ... وثار مجموع الغبار وافترق يرفع ثوب الصدع من ثوب الغسق ... لو خطرت على لياه لاحترق «1» من لهب الشدّ وحر المنطلق ... حتى إذا ما سكبت ماء العرق وسرن سير الطير ينفضن اللثق ... قد بلغت من زيد أسنى البلق «2» وانغمس الأدهم في لون نهق ... كالورق المنسوج أمثال الورق «3» وماح منهن اللواء والتصق ... وازدحمت فيه عليهن الحدق «4» من زمن لو سابق الريح سبق ... طرف كلحظ الطّرف أوهى فرتق أو لحظة البرق مع الريح برق ... أو خطفة الجني للسمع استرق أو سرعة الطيف إذا الطيف طرق ... من نازح يعدي الكرى على الأرق لعبشمي كان بالسبق أحق ... كأنما غرته نور الفلق نواله في الناس فيض ودفق ... ممسكه من كل نفس برمق للمرتجي أمن وللمال فرق ... وبأسه أشبه شىء بالصعق إذا تدافعن الرماح والدرق ... كأنما ماذيه إذا نطق يبثّ في الناس أفانين العبق ... مستنصر بالله يرعى من خلق لخيله فضل على الخيل نسق ... كفضل ما بين الملوك والسوق وحكى صاحب المقتبس عن المستنصر هذا سعادة فيما يطلبه من الأمور، وما عقد له به لواء الظفر والتأييد، وأنشد كثيرا مما مدح به في وقائعه التي كان له

فيها الغلب، وبان لأعين النظارة له فيها حسن المنقلب، فمنها قول محمد بن المحاسن: [الطويل] أقمت حدود الله حتى تحددت ... معالمه فينا وأشرق نورها وألبست دنياك شبابا وبهجة ... فراق جمالا سوؤها وسرورها نهجت لغاويها الطريق فلم يحد ... ولا ضلّ أعماها فكيف بصيرها [ص 326] وجرّدت سيف الحقّ في كلّ بدعة ... تعفّي على آثارها وتبيرها وثقنا مذ استنصرت بالله إنه ... نصيرك مما تتّقي ونصيرها عن الله ترمي فهو عنك مدافع ... ودائرة السوء على من يديرها ومنها قول سعيد بن عبد الملك: [الطويل] إمام جلا عن أرضنا الظلم عدله ... فعاد إلى معناه من كان جاليا إذا ما بدا يوما لعين فقد رأت ... به كلّ شىء تملأ العين باديا من العبشميين الذين أكفّهم ... سحائب تنسيك السحاب الغواديا لقاؤهم يغنيك إن كنت مملقا ... وبشرهم يرويك إن كنت صاديا ومنها قول محمد بن شخيص: [الطويل] كأنك اليوم المعجل للعدى ... بوضع الحبالى أو تشيب المراضع تواضعت كي تزداد عزّا وإنّما ... يقدم عند الله عز التواضع وقمت بما أدّى عن الله أحمد ... وأدّيت حقا ضائعا غير ضائع ومنها:

رأى ولد الفاروق بيعة جده ... فبايع تبصيرا لمن لم يبايع وقد زمّها مروان في يوم راهط ... برأي لأهواء الجماعة جامع وراية شورى لو أعيدت لما دعت ... لدعوته الآذان دعوى منازع ولا شاع في مصر لصحب محمد ... أذى لم يكن من قبل فيها بشائع ومنها قول يوسف بن هارون الرقاشي ملمحا في بعض أغزاله، وملمحا بها لحلو مقاله، وقد أبرز للقاء جعفر المفارق لمعد صاحب أفريقية جيشا أبرقت مناصله، وبرزت سهامه، كأنها لواحظ أغيد لا تخطي مقاتله، وهو: [الكامل] ولقد عجبت لغفلة المستنصر ... إذ أبرز الجيش الهمام لجعفر ولو أن من أهواه يبرز وجهه ... قامت لواحظه مقام العسكر [ص 327] وقد ذكر صاحب بلغة الظرفاء الحكم المستنصر، وأورد له شعرا ورد به منهل الشعرى، وهو قوله: [الطويل] ألسنا بني مروان كيف تبدّلت ... بنا الحال أو دارت علينا الدوائر إذا ولد المولود منّا تهللت ... له الأرض واهتزت إليه المنابر بويع المستنصر في رمضان سنة خمسين وثلاث مائة، ولد مستهل رجب سنة اثنتين وثلاث مائة، وتوفي في صفر سنة ست وستين وثلاث مائة، وكانت مدته نحو ست عشرة سنة، وكان أبيض طوالا، شثن اليدين جسيما وسيما، أسود العينين، أصهب عظيم اللحية، يخضب بسواد.

122 - دولة ابنه هشام المؤيد بن الحكم

122- دولة ابنه هشام المؤيّد بن الحكم امتدت الأيدي لمبايعته «1» ، وسنه لعشرة أعوام وغصنه ما أميطت من تمائمه الأكام، قوى عزيمة أبيه الحكم على العهد إليه النساء والخدم، فعهد إليه ثم داخله الندم، فما استحسن أن يخلع عن معطفيه ذاك الرداء، ولا أن يقطع عن المنابر من اسمه ذاك النداء، وقد كانت طوائف الشعراء عرّضت بذكر هشام لأبيه تقربا إلى خاطره، وتجنبا إليه أن لا يخرج عنه شطر مشاطره، فمنها قول محمد بن حسين الطنبي، مما يخاطب به أباه: [الكامل] حسّن به دين النبيّ محمد ... وأقم به أود الزمان الأعوج لهجت ببيعته النفوس فأخذها ... من أوجب الأشياء لو لم تلهج عود النبوة والخلافة عوده ... فالفرع من تلك العروق الوشّج

وإذا تبلّج وجه صبح مقبل ... فالشمس تحت ضيائه المتبلّج هو زهرة الدنيا وباب سرورها ... فاعهد وسرّ به البرية وابهج وارم المشارق باسمه فليفتحن ... ما بين مصر إلى بلاد الزّنج يا ربّ بلّغه جميع رجائه ... لأبي الوليد وزده ما لم يرتج «1» [ص 328] ليدم سراج الله في هذا الورى ... فضياؤه من نور [هـ] المسرّج وفيه يقول أيضا: [الكامل] وأشد بذكر أبي الوليد فشد به ... مجدا هشاميا وعزّا أغبطا ما فوق بيعته مدى أمنية ... فيمن تسامى في المنى وتشططا نعم الذخيرة للعزائم ينتضى ... دون الخلافة والمنابر تمتطى نظرت قريش في كريم نظامها ... فرأته منها في القلادة أوسطا هي بيعة الرضوان تحيي كل من ... أصفى ويقبل سعيها من خلّطا اربط به الأيدي فإن قلوبنا ... مكفيّة بودادها أن تربطا شرطت محبّته على أهل النّهى ... ما لا يكاد موثق أن يشرطا ثم لما مات الحكم المستنصر، وبويع ابنه هشام المؤيد، لان جانبه حتى ذلّ، وكثر حلمه حتى قل، وعقد انتقامه بالعفو فحل واستقام بقدمه على منهج المسالمة، فزلّ على أنه أول من بويع بالخلافة، كان يخلط بالعسل صابه، وبالشفاء أوصابه، وفيه قال محمد بن شخيص: [الطويل] وجدنا هشاما للأئمة عاشرا ... إذا كمل التسعين فالملك تاسع

أتانا بتصديق الرواية مذ أتى ... به أوّل الشهب الدراري رابع فسارت بأعراق النجابة إذ سرت ... من الحكم المهدي فيه طبائع يحلّ به نجم على أنجم الدّجى ... منيف ومن شرخ الخلافة طالع ومن فخره أن العبيد بظله ... ملوك كما أن الملوك صنائع وشافع آمال البرية إنها ... إلى عهده المأمول صور نوازع وكان المؤيد هشام مغلبا منذ ولي استحجب المنصور أبا عامر محمد بن عامر «1» ، فحجبه وقام دونه، ثم استحجب ابنه المظفر عبد الملك بن محمد بن عامر، فسلك سبيل أبيه، ثم استحجب أخاه عبد الرحمن، وكان ثالثهما، وغزا أسابيه، وأوغل في بلاد الجلالقة، فلم يقدم ملكها على لقائه، وتحصن منه في رؤوس الجبال، ولم [ص 329] يقدر عبد الرحمن على اتباعه لزيادة الأنهار، وكثرة الثلوج، فأثخن في البلاد التي وطئها، وخرج موقورا، فبلغه في طريقه ظهور محمد بن هشام» بن عبد الجبار بن الناصر بن عبد الرحمن بقرطبة، وأخذه

المؤيد أسيرا، ففرق عنه عسكره، ولم يبق إلا في خاصته، فسار إلى قرطبة ليلاقي ذلك الخطب، فخرج عسكر محمد بن هشام فقتلوه وحملوا رأسه إلى قرطبة، وطافوا به، ثم صلبوه، وكان ظهور محمد بن هشام بن عبد الجبار ومعه اثنا عشر رجلا، فبايعه الناس، وتلقب بالمهدي، وملك قرطبة، وأخذ المؤيد وتركه في محبسه حيث لا جليس سوى رجع نفسه، وقام هذا محمد بن هشام بن عبد الجبار بالأمر مستبدا لرأيه، مستمدا إلى أن قتل تلك القتلة الشنيعة، وكانت مدة استيلائه ستة عشر شهرا بزّ بها سرير الملك قهرا، ونجسه لو لم يجد له نجاء الماضيات طهرا. حكى ابن الأثير «1» : أن محمد بن هشام «2» بن عبد الجبار أخذ المؤيد وحبسه معه في القصر، ثم أخرجه وأخفاه، وأظهر أنه مات، وقد كان مات

إنسان نصراني يشبه المؤيد، فأبرزه للناس في شعبان، وذكر لهم أنه المؤيد، فلم يشكوا في موته، وصلوا عليه ودفنوه في مقابر المسلمين، ثم إنه أظهره على ما نذكره، وأكذب نفسه، وكانت مدة المؤيد هذه إلى أن حبس ثلاثا وثلاثين سنة وأربعة أشهر. وخرج هشام بن سليمان بن الناصر عبد الرحمن، لأن أهل الأندلس أبغضوا ابن عبد الجبار، فأخرجوه من داره وبايعوه ولقبوه بالرشيد، في شوال سنة تسع وتسعين، واجتمعوا بظاهر قرطبة، وأحضروا ابن عبد الجبار، وترددت الرسل بينهم ليخلع ابن عبد الجبار من الملك، على أن يؤمنه وأهله، ثم إن ابن عبد الجبار جمع أصحابه، وأخذ هشاما أسيرا فقتله ابن عبد الجبار، وكان عم هشام، ثم إن سليمان بن الحكم بن سليمان بن الناصر، وهو ابن أخي هشام المقتول، خرج وتلقب بالمستعين، ثم تلقب بالظاهر، وساروا إلى النصارى فأنجدوهم، وساروا معهم إلى قرطبة، فاقتتل هو وابن عبد الجبار بقنتيج «1» وهي الوقعة المشهورة عزوا إليها، وقتل [ص 330] ما لا يحصى، فانهزم ابن عبد الجبار، وتحصن بقصر قرطبة، ودخل سليمان القصر، وبايعه الناس بالخلافة في شوال سنة أربع مائة، وبقي بقرطبة أياما وكان عدة القتلى بقنتيج نحو خمسة وثلاثين ألفا، ثم لما أخفى ابن عبد الجبار سار سرا إلى طليطلة، وأتاه واضح العامري في أصحابه، وجمع لهم النصارى وسار بهم إلى قرطبة، فخرج إليهم سليمان، فالتقوا بقرب عقبة الورق، واقتتلوا أشد قتال، فانهزم سليمان ومن معه منتصف شوال سنة أربع مائة. ومضى سليمان إلى شاطبة ودخل ابن عبد الجبار قرطبة، وجدد البيعة لنفسه، وجعل الحجابة لواضح، وتصرف بالاختيار.

ثم إن جماعة من الفتيان العامرية، منهم عنبر وعمرون وغيرهما كانوا مسلمين، فأرسلوا إلى [ابن] عبد الجبار يطلبون قبول طاعتهم، وأن يجعلهم في جملة رجاله، فأجابهم إلى ذلك، وإنما فعلوا هذا مكيدة به ليقتلوه، فلما دخلوا قرطبة واستمالوا واضحا، فأجابهم، فلما كان تاسع ذي الحجة سنة أربع مائة اجتمعوا بالقصر فملكوه وأخذوا ابن عبد الجبار أسيرا، وأخرجوا المؤيد من محبسه، وأجلسوه في صدر مجلسه، وبايعوه بالخلافة بيعة ثانية، وتابعوه سرا وعلانية، وأحضروا ابن عبد الجبار بين يديه، فعدد ذنوبه عليه، ثم قتله وطيف برأسه في قرطبة، وكان عمره ثلاثا وثلاثين سنة. قلت: وهذه الأخبار شرطها كان أن تذكر مفصلة، وقد ذكرناها الآن مجملة، لتعلق بعضها ببعض، وسأذكر ما تخلل في أنباء دولة هشام المؤيد بتراجم مفردة، ثم ألمّ بذكر هشام المؤيد ثانيا، حيث عادت دولته، وأنبهت إليه في الملك ثانيا نوبته. حكى ابن الأثير في حوادث سنة أربع مائة، وقد ذكر عود هشام المؤيد ما معناه: وكان عوده تاسع ذي الحجة، وكان الحكم في دولته إلى واضح العامري، وأدخل إليه أهل قرطبة، فوعدهم ومناهم، وكتب إلى بربر سليمان بن الحكم، ودعاهم إلى الطاعة فلم يجيبوه، فأمر بالاحتياط، ثم شعر بأن نفرا من الأمويين، قد اجتمعوا فركب هشام إليهم، فعاد البربر واستنجدوا بملك الفرنج، فأرسل يعلم هشاما بذلك ويستنزله [ص 331] عن حصون تجاوره، ففعل، فيئس البربر من إنجاد الفرنج، فنزلوا قرب قرطبة، وجعلت خيلهم تغير يمينا وشمالا، فعمل هشام على قرطبة أمام السور الكبير سورا وخندقا، ثم نازل سليمان قرطبة، ثم الزهراء، فسلمه بعض الحفظة باب الزهراء «1» ، فملكها، واشتد الأمر بقرطبة، وظهر في

123 - دولة محمد المهدي بن هشام بن عبد الجبار بن عبد الرحمن الناصر

هذه المدة بطليطلة عبيد الله بن محمد بن عبد الجبار، وبايعه أهلها، فسير إليهم هشام جيشا، فعادوا إلى الطاعة، وأخذ عبيد الله، وقتل في شعبان سنة إحدى وأربع مائة، ثم قاتل هشام البربر، فقتل منهم أمما، وغرّق في النهر مثلهم، فرحلوا إلى أشبيلية، فجهز هشام جيشا فحماها، فسارت البربر إلى قلعة رباح «1» ، فملكوها وغنموا ما فيها، واتخذوها دارا، ثم عادوا إلى قرطبة فحضروها وملكوها، ودخلها سليمان بن الحكم عنوة، وأخرج هشام من القصر، وحمل إلى سليمان في منتصف شوال سنة ثلاث وأربع مائة. وبويع سليمان، ثم جرت لهشام المؤيد معه قصص طويلة، ثم خرج إلى شرق الأندلس، فكان آخر خبره ونهاية أمره، ثم عمّى الخفاء على أثره، وها أنا أذكر: 123- دولة محمّد المهديّ بن هشام بن عبد الجبّار بن عبد الرّحمن النّاصر المتخللة لدولة المؤيد هشام «2» ، المخلة بشروط الوفاء والذمام، قد كدنا نأتي على المقصود منها في تلك الترجمة، ونجلي بصباح البيان أمورها المظلمة، كان هذا محمد المهدي خفيف العقل طائش الرأي، لا يتمسك بدين، ولا يتنسك كالمهتدين. قال ابن الأثير عنه ما معناه: إنه اتخذ النبيذ في بيته، حتى سمّي نبّاذا، وتصرمت أيامه وهو على هذا، وابتز الملك، وما هني بملبسه، ولا هيء له إلا المأ ثم ليلة عرسه، وبما تقدم اكتفاء لمن أراد الوقوف على خبره، وجلاء البصيرة من لم يره حقيقة ببصره، وكان خليقا أن لا يذكر مستقلا، ولا يذكر إلا في بعض حوادث دولة هشام، بل لا، وأما ما كان بعد هشام المؤيد

124 - دولة سليمان بن الحكم المستنصر بن عبد الرحمن الناصر

فسأذكره بمشيئة الله تعالى، فأقول: [ص 332] 124- دولة سليمان بن الحكم المستنصر بن عبد الرّحمن النّاصر قد قدمنا ما كان «1» بينه وبين هشام من نوب الأيام، ثم لما كانت له هذه الكرة، ودانت له قرطبة هذه المرة، وهي ولايته الثانية، وإيالته الدانية، تلقب بالمستعين، وتغلب بعد ما غلب بعد حين، وكانت ولايته هذه منتصف شوال سنة ثلاث وأربع مائة، وبايعه الناس بيعة عنوة لا عناية، وخافوا تبعة السيف، تصريحا لا كناية، وكان أديبا خطيبا شاعرا، فاتكا باتكا داعرا، خرج إليه أهل قرطبة للسلام عليه، فلما مثلوا لديه، ابتدأ مميلا، وأنشد متمثلا: «2» [الطويل] إذا ما رأوني طالعا من ثنية ... يقولون من هذا وقد عرفوني يقولون لي أهلا وسهلا ومرحبا ... ولو ظفروا بي ساعة قتلوني

ثم تمت له المبايعة، وانقادت له أهل قرطبة بأنفس طائعة، ونخوة أحماها ما كانت بالكف قانعة، وبالصغار تحت غاء الذل مصانعة. وقد حكى صاحب بلغة الرفاء أنه تلقب أولا بالمستعين، ثم تلقب بالظافر بحول الله، وأنشد قول هارون الرشيد رحمه الله: [الكامل] ملك الثلاث الآنسات عناني ... وحللن من قلبي بكل مكان ما لي تطاوعني البرية كلها ... وأطيعهن وهن في عصياني ما ذاك إلا أن سلطان الهوى ... وبه قوين أعز من سلطاني فقال سليمان المستعين: عجبا يهاب الليث حدّ سنان ... وأهاب لحظ فواتر الأجفان وأقارع الأهوال لا متهيبا ... منها سوى الإعراض والهجران وتملكت نفسي ثلاث كالدّمى ... زهر الوجوه نواعم الأبدان ككواكب الظلماء لحن لناظر ... من فوق أغصان على كثبان هذي الهلال وتلك بنت المشتري ... حسنا وهذي أخت غصن البان [ص 333] حاكمت فيهن السلوّ إلى الصبى ... فقضى لسلطان على سلطاني فأبحن من قلبي الحمى وثنينني ... عن عز ملكي كالأسير العاني لا تعذلوا ملكا تذلل في الهوى ... ذلّ الهوى عز وملك ثان إن لم أطع فيهن سلطان الهوى ... كلفا بهنّ فلست من مروان قلت: وخلا المستعين هذا يوما بلذاته، واقتصر على لداته، وقد برز الجو في ممسك طرازه قوس قزح، والنور قد قلد جنده من لؤلؤ الطل سبح، وقد مد الغمام ستارة طرزت رفرفها البروق، وطرفت جانبي يومها كؤوس الصبوح

والغبوق، ثم وافى الليل فصدم جيشه كتائب تلك السحائب فمزقها، ولطم بحره أفواج تلك الأمواج ففرقها «1» ، وتوقدت لوامع النجوم للاقتباس، ولاح الهلال كأنه سطر طوق في جيد زرقاء اللباس، فقال: [الكامل] عرّى النهار الليل ملبس دجنة ... وغزا غمائمه بجيش مقبل عجبا له من سيف يوم مذهب ... لولا الظلام يدوسه لم ينجل أو ما ترى زهر النجوم كأنّها ... هي والهلال أسنّة في قسطل قال ابن الأثير ما ملخصه: إن خيران «2» العامري لم يكن راضيا بولاية سليمان بن الحكم، لأنه كان من أصحاب هشام المؤيد، فلما ملك انهزم، وكاتب له كاتبه، ثم أتى شرق الأندلس، فكثر به جمعه وقاتل البربر، وملك المرية «3» ، وتراسل هو وعلي بن حمود العلوي صاحب سبتة «4» ، ووافقه على أن المؤيد كان قد عهد إليه، ودعا له بولاية العهد، فعبر علي بن حمود إليه، وأتى

مالقة «1» فسلمها إليه عامر بن فتوح، ثم سار خيران إليه، وتلاقيا بالمثلث سنة ست وأربعمائة، وبايعوا علي بن حمود على طاعة المؤيد هشام الأموي، فلما بلغوا غرناطة «2» ، وافقهم أميرها وساروا إلى قرطبة، فخرج [ص 334] إليهم سليمان بالبربر، فالتقوا واقتتلوا، فانهزم سليمان فأخذ أسيرا، فحمل إلى ابن حمود، ودخل ابن حمود قرطبة في المحرم سنة سبع وأربع مائة، وداروا القصور طمعا أن يكون بها المؤيد فلم يجدوه، ورأوا قبرا منبوشا وجدوا به جثة ميت، قالوا إنه المؤيد، ولم يكن به، إنما قالوه خوفا من علي بن حمود، لأنه طمع بالاستقلال، فأخذ ابن حمود سليمان بن الحكم فقتله، واستولى ابن حمود على قرطبة، وبدّلت الخلافة الأموية بالخلافة العلوية «3» ، على ما ذكر في مكانه، ثم أنّه تنكر لخيران، فتنكر له خيران، وأظهر عليه الخلاف، وأرسل يسأل عن بني أمية، فدلّ على عبد الرحمن بن عبد الملك بن عبد الرحمن الناصر، وكان قد خرج إلى حبّان، وكان أصلح بني أمية، فبايعه خيران ولقبه المرتضى، وراسل شرفاء قرطبة «4» والثغر الأعلى وشاطبة «5» وبلنسية وطرطوشة «6» ،

125 - دولة المستظهر عبد الرحمن بن هشام

فأجابوا إلى بيعته، ثم ساروا إلى صنهاجة على قصد غرناطة، وحصل من المرتضى إعراض عن خيران، فتخلى عنه، وانجلى حصارهم لغرناطة عن هزيمتهم، وقتل المرتضى، ثم استقل علي بن حمود، ثم أخوه القاسم، ثم يحيى بن علي ابن حمود، ثم عادت دولة بني أمية على ما نذكره، فكان أولها بعد الدولة العلوية: 125- دولة المستظهر عبد الرّحمن بن هشام ابن عبد الجبار «1» بن عبد الرحمن الناصر، أبي المطرف، وكان سبب ملكه ما قدمناه، وموجب تقديمه التيمن بسناه، وحب أهل قرطبة لبني أمية، الحب الذي تمكن في حشاهم وملأهم به شغفا وحشاهم، فلما غشيهم موج الفتنة وغشّاهم، وأرحل [ص 335] ذلا فوارسهم ومشّاهم، صافحوا بالبيعة يمناه، ونافحوا من حال دون ما تمناه، هوى أمويا علقوه، وجوى خفيا عاهدوا الله عليه لو صدقوه. بويع في شهر رمضان سنة أربع عشرة وأربع مائة، وعمره اثنتان وعشرون سنة، واختان القدر ملكه وما مكنه، وأظن الأدب أدركه بحرفته، وأملكه بذنب معرفته، لأنه كان شاعرا مجيدا رقيق الطبع، لا تبلى بأيدي من دموعه الربع، ولم تتم ولايته، ولم تقم للخلافة حوايته، وكانت مدته شهرا واحدا وسبعة عشر

126 - دولة محمد بن عبيد الله بن عبد الرحمن الناصر

يوما، ثم قتل، ورد عهده بعد أن قتل، وكانت جالبة حمامه، وخالبة روحه باعتلاق سمامه، جهالة أركبه الشيطان غرورها، وأكسبه محذورها، وكان السبب أنه أخذ جماعة من أعيان قرطبة فسجنهم لميلهم إلى سليمان بن المرتضى عبد الرحمن بن محمد بن عبد الملك بن عبد الرحمن الناصر، وأخذ أموالهم، فسعوا عليه من السجن، وصدعوا حباله مزقا كالعهن، وألّبوا الناس عليه، وتأهبوا لاستلال روحه من جنبيه، فأهانهم صاحب شرطته فأهين، وجرّع كأس ردائه في الحين، وكان ممن وافقهم على فعلتهم وواثقهم على مثل مثلتهم أبو عبد الرحمن محمد بن عبد الرحمن الأموي، في جماعة كثيرة، وطاعة جعلت إلى الأمر مصيره. وكان أبيض أشقر أعين العين شثن الكفين رحب الصدر. 126- دولة محمّد بن عبيد الله بن عبد الرّحمن النّاصر أبي عبد الرحمن المستكفي «1» ، ولم يكن من رجال بيته في شىء من الأشياء، ولا كان إلا ميتا في صورة الأحياء، لعدم ضرامه، وعظم خمود

لشهامه [ص 336] كأنه ما مر مروان من أمامه «1» ، ولا قدم عبد الرحمن الداخل قدامه، ولا عدّ من هذا البيت هشامه، عدا عبد الملك فعلا ومعاوية فضلا، وكان همّه فرجه وبطنه، وعزمه عينه وأذنه، لا يفكر في شىء إلا ما يهمه، ولا يلم إلا بما لا يفارقه ملمه، إلا أنه ممن أقامه الحظ السابق على من تقدمه، حتى تأخر لامتداد الأجل وقدمه. بويع في ذي القعدة سنة أربع عشرة وأربع مائة، وبقي سنة وأربعة أشهر وأياما، ثم خلعوه خلع الحذاء، ودفعوه دفع الذباب عن الغداء، فخرج في جماعة ممن حفظ عهده المضاع، ولحظ وده ملاحظة الطفل لأيام الرضاع، فأتى بهم مدينة سالم «2» ، وأقام بها غير مسلّم ولا مسالم، فضجر منه بعض أصحابه ممن هجر، أو أن اتساع رحابه فعمد إلى دجاجة فحمى فشواها، وعمل فيها سمّا رمى بها مهجته فأصاب شواها، فأراح الدنيا من تخلفه وخفف أثقالها بما كانت تحمله من تكلفه. وكانت وفاته في ربيع الآخر سنة سبع وأربع مائة، وكان ربعة أشقر أزرق مدور الوجه ضخم الجسم، قارب في العمر الخمسين سنة، ثم أقيمت الدعوة ليحيى بن علي بن حمود، ثم آل أمره إلى أن قطعت دعوته، ومنعت أن تستجاب لها دعوته، ثم أعيدت الدولة أموية، وحمدت «3» عهودها المذكورة بسحب الدموع الروية، وها أنا أذكرها فأقول:

127 - دولة هشام بن محمد بن عبد الملك بن عبد الرحمن الناصر

127- دولة هشام بن محمّد بن عبد الملك بن عبد الرّحمن النّاصر أبي بكر «1» ، قام بنصرة أبي الحزم جهور «2» ، وقام بالحزم وما تهور، راسل أهل الثغور المتغلبين فوافقوه، ورأوا رأيه وما واقفوه، [ص 337] وكتبوا ببيعتهم إلى هشام بن محمد، وكان مقيما ببعض الثغور منذ قتل أخوه الرضى، وقيل: قد أغمد سيفه المنتضى، ثم أصفقت أيدي الناس ببيعته، وصانت عهده المحفوظ

من ضيعته، ولقّب بالمعتمد، وكان أسنّ من أخيه المرتضى، وأشد منه في كل مقتضى، فنهض إلى الثغور، وطلع فيها نجمه لا يغور، وجرت له فيها فانعقدت بالسماء عنان عجاجتها، وعلقت في مجرى الأسماء بنان مجاجتها، وقوي هنالك هيج الاضطراب، وأخذ موج السيوف في الضراب، ثم ساروا إلى قرطبة وسالوا في تلك الشعاب، سيلان جيش قحطبة، فأتاها مثل أوله، ووافاها حالا في صدر منزله، وأقام منذ بويع نحو خمسين سنة، حتى خلع رداؤه، وقطع عن مسامع المنابر نداؤه، وكان موجب النقمة عليه سوء تدبير وزيره أبي العاص سعيد لأنه أخذ أموال التجار وأعطاه البربر، فنفرت خواطر أهل قرطبة لهذا وأنكروه، ووضعوا عليه أناسا قتلوه، ثم خلعوا هشاما، ونبذ عهده فريق منهم، واتخذ عهده الوثيق ما رفعه قلم التكليف عنهم، وقام ابنه عبد الرحمن بن هشام في جماعة من الأحداث فتسوروا القصر، وعلوا شرفاته، وتصوروا له أمرا أدركه وفاته، وبايعه كثير من سواد الناس، ونهض بهم، فما قام منهم جسد بلا رأس، فقال له بعض أهل قرطبة: نخشى عليك أن تقتل في هذه الفتنة، فإن السعادة قد ولّت عنكم، فقال: بايعوني اليوم واقتلوني غدا، فأنفذ أعيان قرطبة إليه وإلى ابنه المعتمد بالخروج عن قرطبة، فأودع المعتمد أهله، وخرج إلى حصن ابن الشوب، فاعتقلوه، ثم أخرجوه [ص 338] إلى حصن آخر فحبسوه فيه، فتحيّل للخروج حتى خرج منه ليلا، [وولج والخمول يسحب عليه ذيلا] «1» وسار إلى سليمان بن هود «2» ، وبقي عنده حتى مات في صفر سنة ثمان

وعشرين وأربع مائة، ودفن في ناحية لاردة «1» ، وسكن بها صوت سحبه الراعدة، وماتت دولة بني أمية في الأندلس وسائر أقطار الأرض بموته، وخمد حسها بخمود صوته، فسبحان الحي الباقي وكل شىء هالك، الملك الدائم ملكه، بعد ذهاب [ما] ملكه الملوك، والممالك تعوذ به، وتتوكل عليه، ونسأله من خير ما لديه، إنه لا حول ولا قوة إلا به. وقال ابن بسام وقد ذكر قصر مدة المستظهر عبد الرحمن الذي تقدم ذكره: لم تنشر له فيها طاعة، ولا تتامت جماعة، وكان على حدوث سنه ذكيا يقظا لبيبا أديبا حسن الكلام حاد «2» القريحة، يتصرف فيما شاء من الخطاب بذهنه ورويته، ويصوغ قطعا من الشعر مستجادة، بطهارة أثواب وعفة وبراءة من شرب النبيذ سرا وعلانية، وكان نسيج وحده، وبه ختم فضلا أهل بيته الناصريين. ومن شعره: [مجزوء الرمل] طال عمر الليل عندي ... مذ تولعت بصدّ يا غزالا نقض الود ... د ولم يوف بعهد أنسيت العهد إذ بت ... نا على مفرش ورد واجتمعنا في وشاح ... وانتظمنا نظم عقد وتعانقنا كغصني ... ن وقدّانا كقدّ

ونجوم الليل تحكي ... ذهبا في لازورد قال محقق الجزء الرابع والعشرين: انتهى هذا السفر، ويبدو أن هناك صفحة أو صفحات ناقصات بدليل أن نهاية هذه الصفح رقم 338 في آخرها تعقيبة الصفحة التي تليها وهي قوله بداية الصفة المفقودة: [وقد تقدم] ولذلك لا يعرف اسم الناسخ ولا تاريخ النسخ.

مصادر التحقيق

مصادر التحقيق - إتحاف أعلام الناس بجمال أخبار حاضرة مكناس- عبد الرحمن بن زيدان. ط الرباط 1347- 1352 هـ. - اتعاظ الحنفا بأخبار الأئمة الفاطميين الحنفا- المقريزي: تقي الدين أحمد بن علي (ت 845 هـ.. طبع مصر 1367 هـ. - الإحاطة في أخبار غرناطة- ابن الخطيب: لسان الدين محمد بن سعيد (ت 776 هـ) . طبع منه جزآن في مصر 1319 هـ، وأعيد طبع المجلد الأول سنة 1375 هـ/ 1955 م. - أخبار الراضي بالله والمتقي بالله من كتاب الأوراق- الصولي: أبو بكر محمد بن يحيى (ت 336 هـ) طبع مصر 1935. - الأخبار الطوال- الدينوري: أبو حنيفة أحمد بن داود (ت 282 هـ) . ط مصر 1330 هـ. - أخبار القضاة- وكيع: محمد بن خلف بن حيان (ت 306) .. ط مصر 1366- 1369 هـ. - أخبار مصر- ابن ميسر: محمد بن علي بن يوسف) ت 677 هـ) . ط القاهرة 1919 م - أزهار الرياض في أخبار عياض- المقري: أحمد بن محمد (ت 1041 هـ) . ط مصر 1358- 1361 هـ.

- أسد الغابة في معرفة الصحابة- ابن الأثير: علي بن محمد الجزري الشيباني (ت 630 هـ) . مصر 1280 هـ. - أسماء المغتالين من الأشراف- ابن حبيب: محمد بن حبيب البغدادي (ت 245 هـ) . طبع ضمن نوادر المخطوطات تحقيق عبد السلام هارون، القاهرة - الإشارة إلى من نال الوزارة- ابن الصيرفي: علي بن منجب بن سليمان (ت 542 هـ) . ط مصر 1924 م. - أشعار أولاد الخلفاء وأخبارهم- الصولي: أبو بكر محمد بن يحيى (ت 335 هـ) ، وهو جزء من كتاب الأوراق، نشر هيورث دن، ط مصر 1355 هـ/ 1936 م. - الإصابة في تمييز الصحابة- ابن حجر: أحمد بن علي العسقلاني (ت 852 هـ) . ط السعادة مصر 1329 هـ، وتحقيق علي محمد البجاوي، ط مصر 1971 م. - الأعلام- الزركلي: خير الدين بن محمود بن محمد (ت 1396 هـ) . الطبعة الثالثة، بيروت 1389 هـ/ 1969 م. - أعلام المؤلفين الزيدية- عبد السلام بن عباس الوجيه. - أعلام النساء- كحالة: عمر رضا. ط دمشق 1359 هـ.

- أعيان الشيعة- محسن الأمين: محسن بن عبد الكريم بن علي (ت 1371 هـ) . طبع منه 35 جزءا في دمشق ابتداء من 1353 هـ/ 1935 م. - الأغاني- الأصفهاني: أبو الفرج علي بن الحسين الأموي (ت 360 هـ) . ط دار الكتب المصرية، وط ساسي، وط دار الكتب العلمية، بيروت. - ألف باء- البلوي: يوسف بن محمد بن عبد الله بن يحيى (ت 604 هـ) . ط مصر 1287 هـ. - أمالي المرتضى- المرتضى: الشريف علي بن الحسين (ت 436 هـ) . تحقيق أبي الفضل إبراهيم، ط القاهرة 1954 م. - إمتاع الأسماع- المقريزي: أحمد بن علي (ت 845 هـ) . تحقيق محمود محمد شاكر، ط مصر 1941 م. - أمراء البيان- كرد علي: محمد بن عبد الرزاق (ت 1372 هـ/ 1953 م) . ط مصر 1355 هـ/ 1937 م. - إنباه الرواة على أنباه النحاة- القفطي: جمال الدين علي بن يوسف (ت 646 هـ) . ط دار الكتب المصرية 50- 1955 م. - ابن إياس بدائع الزهور - البدء والتاريخ- المقدسي: مطهر بن طاهر (ت 355 هـ) . طبع في شالون 1916 م.

- البداية والنهاية- ابن كثير: الحافظ إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي (ت 774 هـ) . ط السعادة، مصر 1932 م، وط مكتبة المعارف، بيروت 1966 م. - بدائع الزهور في وقائع الدهور- ابن إياس: محمد بن أحمد بن إياس الحنبلي (ت 930 هـ) . - الثلاثة أجزاء الأولى ط مصر 1311 هـ، والرابع والخامس ط في استانبول 31- 1932 م. - بغية الملتمس في تاريخ رجال أهل الأندلس- الضبي: أحمد بن يحيى بن أحمد بن عميرة (ت 599 هـ) ط في مجريط 1884 م، وط دار الكتاب العربي، القاهرة 1967 م. - بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة- السيوطي: جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر (ت 911 هـ) ط مصر 1329 هظ، وتحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، القاهرة 1964 م. - بلغة الظرفاء في ذكر تواريخ الخلفاء- الروحي: علي بن محمد بن أبي السرور ط مصر 1327 هـ. بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب- الآلوسي: محمود شكري (ت 1342 هـ) . بعناية محمد بهجة الأثري، ط القاهرة 1342 هـ/ 1924 م. - بلوغ المرام في شرح مسك الختام، فيمن تولى ملك اليمن من ملك وإمام- العرشي: حسين بن أحمد (ت 1330 هـ) . ختم حوادثه سنة 1318 هـ،

وزاد عليه الأب أنستاس ماري الكرملي فأوصله إلى 1358 هـ، ط مصر 1939 م. - البيان والتبيين- الجاحظ: أبو عثمان عمرو بن بحر (ت 255 هـ) . تحقيق عبد السلام هارون، ط مكتبة الخانجي، مصر 1968 م. - البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب- ابن عذاري المراكشي: محمد بن محمد (ت 695 هـ) . أربعة أجزاء، طبع الأول والثاني في ليدن 48- 1951 م، والثالث في باريس 1930 م، والرابع في تطوان 1956 م. - تاج التراجم- قاسم بن قطلوبغا الحنفي ط ليبسك 1862 م. - تاج العروس من جواهر القاموس- الزبيدي: محب الدين محمد مرتضى الحسيني (ت 1205 هـ) . ط الوهبية، مصر 1286 هـ. - تاريخ الإسلام وطبقات مشاهير الأعلام- الذهبي: شمس الدين محمد بن أحمد (ت 748 هـ) ط السعادة، مصر 67- 1969 م. - تاريخ بغداد- الخطيب البغدادي: أحمد بن علي (ت 463 هـ) . ط مصر 1349 هـ، وط دار الكتاب العربي، بيروت. - تاريخ التراث العربي- فؤاد سزكين. الترجمة العربية، ط جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض

1983 م. - تاريخ ابن خلدون (العبر وديوان المبتدأ والخبر) - ابن خلدون: عبد الرحمن بن محمد (ت 808 هـ) ط مصر 1284 هـ، وط مصر 1355 هـ. - تاريخ الخلفاء- السيوطي: جلال الدين عبد الرحمن بن الكمال أبي بكر الشافعي (ت 911 هـ) . تحقيق مصطفى عبد القادر عطا، ط مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت 1993 م. - تاريخ الطبري- الطبري: محمد بن جرير (ت 310 هـ) . ط الحسينية، القاهرة 1939 م، وتحقيق أبو الفضل إبراهيم، ط دار المعارف مصر 60- 1969. - تاريخ العراق بين احتلالين- العزاوي: عباس بن محمد ثامر (ت 1391 هـ/ 1971 م) . ثمانية أجزاء، ط بغداد 1353- 1376 هـ. - تاريخ الكوفة- البراقي: حسين بن أحمد بن الحسين (ت 1332 هـ) ط النجف 1356 هـ. - تاريخ ابن الوردي (تتمة المختصر في أخبار البشر) - ابن الوردي: عمر بن المظفر (ت 749 هـ) . ط مصر 1285 هـ، وط دار الكتب العلمية، بيروت 1996 م. - تاريخ اليمن- الواسعي: عبد الواسع الواسعي.

ط مصر 1346 هـ. - تذكرة الحفاظ- الذهبي: محمد بن أحمد بن عثمان (ت 748 هـ) . ط حيدرآباد 1333- 1334 هـ. - التعازي والمراثي- المبرد: محمد بن يزيد الثمالي (ت 285 هـ) . تحقيق محمد الديباجي، ط مجمع اللغة الربية، دمشق 1976 م. - التنبيه والإشراف- المسعودي: أبو الحسين علي بن الحسين بن علي (ت 346 هـ) . ط مصر 1357 هـ/ 1938 م. - تهذيب تاريخ دمشق (تاريخ دمشق لابن عساكر) - ابن هبة الله: أبو القاسم علي بن الحسين (ت 571 هـ) بعناية عبد القادر بدران، ط دمشق 1329- 1351 هـ. - تهذيب التهذيب- ابن حجر العسقلاني: شهاب الدين أحمد بن علي (ت 852 هـ) . ط حيدرآباد، الهند 25- 1327 هـ. - تواريخ آل سلجوق- جزء مشتمل على كتاب زبدة النصرة ونخبة العصرة- عماد الدين الأصفهاني اختصار الفتح بن علي البنداري الأصفهاني، ط ليدن 1889 م. الجداول المرضية في تاريخ الدول الإسلامية- دحلان: أحمد بن زين دحلان المكي (ت 1304 هـ)

ط مصر 1396 هـ. - جذوة المقتبس في ذكر ولاة الأندلس- الحميدي: محمد بن فتوح بن عبد الله الأزدي (ت 488 هـ) ط مصر 1372 هـ/ 1952 م. - جزيرة العرب في القرن العشرين- حافظ وهبة ط مصر 1354 هـ/ 1935 م. - جمهرة الأنساب (جمهرة أنساب العرب) - ابن حزم الأندلسي: علي بن أحمد بن سعيد (ت 456 هـ) ط مصر 1948 م، تحقيق عبد السلام هارون، ط دار المعارف، مصر 1971 م. - حسن الصحابة في شرح أشعار الصحابة- الموستاري: علي فهمي. ط الآستانة 1324 رومية. - حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة- السيوطي: جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر (ت 911 هـ) . ط مصر 1299 هـ. - الحلة السيراء- ابن الأبار: أبو عبد الله محمد بن أبي بكر البلنسي (ت 658 هـ) قطعة منه طبعت في ليدن 1837- 1851 م، وحققه حسين مؤنس، ط القاهرة 1963 م. - الحلل الموشية في ذكر الأخبار المراكشية- منسوب للسان الدين ابن الخطيب: محمد بن عبد الله بن سعيد (ت 776 هـ) .

ط تونس 1911 م، وأعيد طبعه في الرباط 1936 م. - حلية الأولياء وطبقات الأصفياء- الأصبهاني: أبو نعيم أحمد بن عبد الله (ت 430 هـ) . ط مصر 1351 هـ. - حلية المحاضرة- الحاتمي: محمد بن الحسن (ت 388 هـ) تحقيق جعفر كتاني، ط بغداد 1979 م. - الحوادث الجامعة والتجارب النافعة في المائة السابعة- ابن الفوطي: عبد الرزاق بن أحمد (ت 723 هـ) . طبع قسم منه في بغداد 1351 هـ. - الحور العين- نشوان الحميري: أبو سعيد نشوان بن سعيد اليمني (ت 573 هـ) . ط مصر 1948 م. - الحيوان- الجاحظ: أبو عثمان عمرو بن بحر (ت 255 هـ) . تحقيق عبد السلام هارون ط مصر 1965 م. - خريدة القصر- العماد الأصفهاني: محمد بن محمد (ت 957 هـ) . قسم شعراء مصر، ط مصر 1951 م، قسم شعراء الشام، ط دمشق 1955 م، قسم شعراء العراق، ط بغداد 1955 م. - خزانة الأدب- البغدادي: عبد القادر بن عمر (ت 1093 هـ) ط السلفية مصر 1347 هـ، وتحقيق عبد السلام هارون ط مصر 1968 م.

- خطط المقريزي المواعظ والاعتبار. - خلاصة تهذيب الكمال في أسماء الرجال- الخزرجي: أحمد بن عبد الله بن أبي الخير (ت 923 هـ) . ط مصر 1322 هـ. - خلاصة الكلام في بيان أمراء البلد الحرام- أحمد بن زيني دحلان المكي (ت 1304 هـ) .. ط مصر 1305 هـ. - الخلاصة النقية في أمراء أفريقية- المسعودي: أبو عبد الله محمد التونسي الباجي (ت ق 3 هـ) . ط تونس 1283 هـ. - دائرة المعارف الإسلامية- نقلها إلى العربية محمد ثابت الفندي، وأحمد الشنتناوي، وإبراهيم زكي خورشيد، وعبد الحميد يونس، توقفوا عند حرف العين، ط مصر 1957 م. - الدر الفريد وبيت القصيد- محمد بن أيدمر (ت النصف الثاني من القرن السابع هـ) . مخطوط، تصوير معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية، فرانكفورت 88- 1989 م. - الدر المنثور في طبقات ربات الخدور- زينب فواز: زينب بنت علي بن حسين (ت 1332 هـ/ 1914 م) . ط مصر 1312 هـ.

- دول الإسلام- الذهبي: محمد بن أحمد بن عثمان (ت 748 هـ) . ط حيدر آباد، الهند 1337 هـ. - الديارات- الشابشتي: علي بن محمد (ت 388 هـ) . تحقيق كوركيس عواد، ط بغداد 1951 م. - ديوان الأحوص الأنصاري- تحقيق عادل سليمان، ط القاهرة 1990 م، وط بيروت 1994 م. - ديوان الأعشى ميمون بن قيس- نشر أدولف هلز هوسن، ط بيانة 1927 م، تصوير بيروت 1993 م. - ديوان جرير بن عطية بن الخطفى- ط دار الكتاب العربي، بيروت 1994 م. - ديوان الحماسة (حماسة أبي تمام الطائي) - تحقيق عبد الله عسيلان، ط الرياض 1981 م. - ديوان زهير بن أبي سلمي- ط دار الكتب المصرية 1944 م. - ديوان الراعي النميري- تحقيق راينهر فايبرت، ط بيروت 1980 م. - ديوان أبي العتاهية- ط دار الكتاب العربي، بيروت 1997 م. - ديوان كثير عزة- تحقيق إحسان عباس، ط دار الثقافة بيروت 1998 م وط دار الجيل، بيروت 1995 م. - ديوان مروان بن أبي حفصة- ط دار الكتاب العربي، بيروت 1993 م. - ديوان ابن المعتز- تحقيق يونس السامرائي، ط عالم الكتب، بيروت 1997 م. - ديوان أبي النجم العجلي- جمع وتحقيق علاء الدين أغا، ط الرياض

1981 م. - الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة- ابن بسام: علي بن بسام الشنتريني الأندلسي (ت 542 هـ) . أقسام منه في ثلاثة أجزاء، ط مصر 58- 1364 هـ، وتحقيق إحسان عباس، ط بيروت 1979 م. - الذريعة إلى تصانيف الشيعة- أغا بزرك الطهراني: محمد بن محسن (ت 1389 هـ/ 1970 م) ط النجف بداية من سنة 1936 بعد توقف ثم واصلت إلى سنة 1971 م ظهرت تسعة أجزاء، ثم وصلت إلى عشرين جزءا. - ذيل الروضتين- أبو شامة المقدسي: عبد الرحمن بن إسماعيل الدمشقي (ت 665 هـ) . ط مصر 1366 هـ. - ذيل المذيل في تاريخ الصحابة والتابعين- الطبري: محمد بن جرير (ت 310 هـ) مختارات منه طبعت في مصر 1326 هـ في آخر كتابه تاريخ الأمم والملوك. - رغبة الآمل من كتاب الكامل- سيد بن علي المرصفي (ت 1349 هـ) . ط مصر 46- 1948 م، وط 2 صورتها مكتبة البيان، بغداد 1969 م. - رقم الحلل في نظم الدول- لسان الدين بن الخطيب: أبو عبد الله محمد بن سعيد (ت 776 هـ) .. ط تونس 1317 هـ.

- الروض الأنف، في تفسير ما اشتمل عليه حديث السيرة النبوية لابن هشام- السهيلي: عبد الرحمن بن عبد الله الخثعمي (ت 581 هـ) . ط مصر 1332 هـ/ 1914 م. - سمط اللآلي- البكري: أبو عبيد عبد الله بن عبد العزيز (ت 478 هـ) . تحقيق عبد العزيز الميمني، ط لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة 1936 م. - السلوك لمعرفة دول الملوك- المقريزي: أحمد بن علي (ت 845 هـ) . طبع الجزء الأول في مصر 34- 1939 م والقسم الأول من الجزء الثاني في مط 1941 م. - سير أعلام النبلاء- الذهبي: محمد بن أحمد بن عثمان (ت 748 هـ) . طبع الجزء الأول والثاني في مصر - السير (في رجال الإباضية) - الشماخي: أحمد بن سعيد بن عبد الواحد (ت 928 هـ) .. طبع على الحجر بقسنطينة، الجزائر. - السيرة الحلبية (إنسان العيون في سيرة الأمين والمأمون) - الحلبي: علي بن إبراهيم بن أحمد (ت 1044 هـ) . ط مصر 1292 هـ. شرح المقامات الحريرية- الشريشي: أحمد بن عبد المؤمن القيسي (ت 619 هـ) . ط مصر 1300 هـ. - شرح المعلقات العشر- الشنقيطي: أحمد بن الأمين (ت 1331 هـ) .

ط دار الكتاب العربي، بيروت 1985 م. - شعر أشجع السلمي- تحقيق خليل بنيان، ط بيروت 1981 م. - شعر ربيعة الرقي- تحقيق يوسف بكار، ط دار الأندلس، بيروت 1984 م. - شعر زياد الأعجم- تحقيق يوسف بكار، ط وزارة الثقافة، دمشق 1983 م - شعر أبي الشيص الخزاعي (أشعار أبي الشيص الخزاعي وأخباره) . - جمع عبد الله الجبوري، ط النجف 1967 م. - الشعر والشعراء- ابن قتيبة: عبد الله بن مسلم الدينوري (ت 276 هـ) ، ط ليدن 1902 م، وتحقيق أحمد شاكر، ط دار المعار، القاهرة 1966 م. - شعر الوليد بن يزيد- جمع حسين عطوان، ط عمان 1979 م. - شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام- الفاسي: محمد بن أحمد التقي (ت 832 هـ) .. ط مصر 1956 م. - صبح الأعشى- القلقشندي: أبو العباس أحمد بن علي (ت 821 هـ) . ط مصر 1331- 1338 هـ. - صحيح مسلم- مسلم بن الحجاج (ت 261 هـ) . تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، ط الحلبي، مصر 1955 م. - صفة الصفوة- ابن الجوزي: أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد (ت 597 هـ) ، ط حيدر آباد، الهند 1355 هـ.

- الصلة في تاريخ أئمة الأندلس- ابن بشكوال: أبو القاسم خلف بن عبد الملك (ت 578 هـ) . ط مجريط 1882 م، وط الدار المصرية للتأليف والترجمة، مصر 1966 م. - صلة تاريخ الطبري- عريب بن سعد القرطبي (ت 369 هـ) . ط مصر 1326 هـ باسم الجزء الثاني عشر من تاريخ الطبري، وط ليدن 1897 م. - طبقات السبكي طبقات الشافعية. - طبقات ابن سعد (الطبقات الكبير) - محمد بن سعد (ت 230 هـ) تحقيق سخاو، ط ليدن 1904 م، صور في بيروت 1957 م. - طبقات الشافعية الكبرى- السبكي: تاج الدين عبد الوهاب بن عليبن عبد الكافي (ت 771 هـ) . ط مصر 1324 هـ. - طبقات الشعراء- ابن المعتز: أبو العباس عبد الله بن المعتز العباسي (ت 296 هـ) . تحقيق عبد الستار فراج، ط دار المعارف، مصر 1956 م. - طبقات فحول الشعراء- الجمحي: محمد بن سلام (ت 232 هـ) . تحقيق محمود محمد شاكر، مطبعة المدني، القاهرة 1974 م. - عريب صلة تاريخ الطبري - العقد الفريد- ابن عبد ربه: أبو عمر أحمد بن محمد الأندلسي (ت 328 هـ) .

ط لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة 1359- 1372 هـ/ 1948- 1950 م. - العقود اللؤلؤية في تاريخ الدولة الرسولية- الخزرجي: علي بن الحسن (ت 812 هـ) . ط مصر 1329 هـ/ 1911 م. - عنوان المعارف وذكر الخلائف- الصاحب: إسماعيل بن عبّاد بن العباس (ت 385 هـ) . ط النجف 1371 هـ/ 1952 م في المجموعة الأولى من نفائس المخطوطات. - العيني المقاصد النحوية. - عيون الأخبار- ابن قتيبة: عبد الله بن مسلم الدينوري (ت 276 هـ) . ط دار الكتب المصرية، القاهرة 1967 م. - الفخري في الآداب السلطانية والدول الإسلامية- ابن الطقطقي: محمد بن علي بن طباطبا (ت 709 هـ) . ط مصر 1340 هـ، وط صادر بيروت 1966 م. - الفهرست- ابن النديم: محمد بن إسحاق (ت 380 هـ) ط فلوجل، ليبسك 1871 م، وط رضا تجدد، طهران 1971 م. - فوات الوفيات- ابن شاكر الكتبي: محمد بن شاكر الحلبي (ت 764 هـ) . تحقيق إحسان عباس، ط بيروت 73- 1974 م. - الكامل في التاريخ- ابن الأثير: عز الدين علي بن محمد الشيباني

(ت 630 هـ) . ط صادر، بيروت 1965، وط دار الكتب العلمية، بيروت 1995 م. - كتاب الروضتين في أخبار الدولتين- أبو شامة: عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم (ت 665 هـ) . ط مصر 1287 هـ. - كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون- حاجي خليفة: مصطفى بن عبد الله كاتب جلبي (1067 هـ) . ط استانبول 1360 هـ/ 1941 م. - الكواكب الدرية في تراجم السادة الصوفية- المناوي: عبد الرؤوف بن تاج العارفين (ت 1031 هـ) ط مصر 1357 هـ. - اللباب في تهذيب الأنساب- ابن الأثير: عز الدين علي بن محمد الشيباني (ت 630 هـ) . ط مصر 56- 1369 هـ. - لسان العرب- ابن منظور: جمال الدين محمد بن مكرم بن علي الأنصاري (ت 711 هـ) ط صادر، بيروت 1968 م. - لسان الميزان- ابن حجر العسقلاني: أحمد بن علي (ت 852 هـ) ط حيدر آباد، الهند 1331 هـ،

- مجمع الأمثال- الميداني: أبو الفضل أحمد بن محمد النيسابوري (ت 518 هـ) . ط السعادة، مصر 1959 م. - المحبر- ابن حبيب: محمد بن حبيب بن أمية الهاشمي (ت 245 هـ) ط دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد، الهند 1361 هـ/ 1942 م. - المختصر في أخبار البشر (ويعرف بتاريخ أبي الفداء) - أبو الفداء: الملك- المؤيد إسماعيل بن علي بن محمود صاحب حماة (ت 732 هـ) . ط مصر 1325 هـ. - مرآة الجنان- اليافعي: عبد الله بن أسعد (ت 678 هـ) ط بيروت 1970 م. - مرآة الزمان في تاريخ الأعيان- سبط ابن الجوزي: يوسف بن قزا أوغلي (ت 654 هـ) طبع المجلد الثامن وهو الأخير في حيدر آباد، الهند 1370 هـ/ 1951 م. - المرزباني معجم الشعراء - مروج الذهب ومعادن الجوهر- المسعودي: أبو الحسن علي بن أبي الحسن (ت 346 هـ) - ط باريس 1930 م، وط محمد محيي الدين عبد الحميد، القاهرة 1958 م. المستقصى في أمثال العرب- الزمخشري: جار الله محمود بن عمر (ت 538 هـ) ط دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد، الهند، صورتها دار الكتب العلمية،

بيروت 1987 م. - مطالع البدور في منازل السرور- الغزولي: علاء الدين علي بن عبد الله البهائي (ت 815 هـ) . ط مصر 1299- 1300 هـ. - مطمح الأنفس ومسرح التأنس في ملح أهل الأندلس- الفتح بن خاقان: الفتح بن محمد بن عبيد الله القيسي (ت 529 هـ) ط الجوائب 1302 هـ، وط بيروت 1983 م.. - المعارف- ابن قتيبة: عبد الله بن مسلم الدينوري (ت 276 هـ) . ط مصر 1934 م - معاهد التنصيص على شواهد التلخيص- العباسي: عبد الرحيم بن عبد الرحمن (963 هـ) . أحمد ط مصر 1376 هـ. - المعجب في تلخيص أخبار المغرب- المراكشي: عبد الواحد بن علي التميمي (ت 647 هـ) ط مصر 1368 هـ/ 1949 م، وط دار الكتاب، الدار البيضاء، 1980 م. - معجم الأدباء- ياقوت الرومي الحموي (ت 626 هـ) . ط دار المأمون، مصر 1936 م، وتحقيق إحسان عباس، ط دار المغرب الإسلامي، بيروت 1993. - معجم البلدان- ياقوت الرومي الحموي (السابق) ط صادر، بيروت 1957 م.

- معجم الشعراء- المرزباني: أبو عبيد محمد بن عمران (ت 384 هـ) تحقيق عبد الستار فراج، ط الحلبي، القاهرة 1960 م. - المعرّب من الكلام الأعجمي- الجواليقي: أبو منصور موهوب بن أحمد (ت 540 هـ) . تحقيق أحمد شاكر، ط القاهرة 1361 هـ. - المغرب في حلي المغرب- ابن سعيد المغربي: أبو الحسن علي بن موسى (685 هـ) . ط الجزآن الأول والثاني في مصر 1953، 1955، وطبع جزء منه وهو السابع في ليدن 1898 م، وطبع جزء منه بمصر 1953 م بعنوان: الجزء الأول من القسم الخاص بمصر تحقيق شوقي ضيف، ط دار المعارف، مصر 1964 م. - مفرج الكروب في أخبار بني أيوب- ابن واصل: محمد بن سالم المازني (هـ 697 هـ) . ط مصر 53- 1957 م الجزآن الأول والثاني. - مقاتل الطالبيين- أبو الفرج الأصفهاني: علي بن الحسين الأموي (ت 360 هـ) . ط النجف 1353 هـ، وتحقيق أحمد صقر، ط مصر 1368 هـ/ 1949 م. - المقاصد النحوية- العيني: محمود بن أحمد (ت 855 هـ) . طبع على هامش خزانة الأدب للبغدادي، مصر 1299 هـ. - المقتبس في تاريخ رجال الأندلس- ابن حيان: حيان بن خلف بن حسين القرطبي (ت 469 هـ) .

ط باريس 1937 م، وطبعت القطعة الثانية منه في بيروت 1973 م. - المنتظم في تاريخ الملوك والأمم- ابن الجوزي: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي (ت 597 هـ) . ط دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد، الهند 1357 هـ. - منهاج السنة- ابن تيمية: أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام (ت 728 هـ) . ط بولاق مصر 1321 هـ. - الموسوعة العربية الميسرة- بإشراف محمد شفيق غربال. ط دار الشعب 1965 م. - المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار (يعرف بخطط المقريزي) - المقريزي: تقي الدين أحمد بن علي (ت 845 هـ) . مطبعة النيل، القاهرة 1325 هـ. - مورد اللطافة- ابن تغري بردي: أبو المحاسن يوسف بن تغري بردي (ت 847 هـ) . طبع جزء منه في كيمبرج 1792 م ميزان الاعتدال في نقد الرجال- الذهبي: أبو عبد الله شمس الدين محمد بن أحمد (ت 748 هـ) . ط البابي الحلبي مصر 1325 هـ. - النبراس في تاريخ خلفاء بني العباس- ابن دحية: عمر بن الحسن بن علي الكلبي (ت 633 هـ) .

ط بغداد 1365 هـ. - النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة- ابن تغري بردي: أبو المحاسن يوسف بن تغري بردي (ت 847 هـ) . ط دار الكتب المصرية 1930 م. - نزهة الألباء في طبقات الأدباء- الأنباري: أبو البركات كمال الدين عبد الرحمن بن محمد (ت 577 هـ) ط مصر 1294 هـ وتحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ط القاهرة 1967 م.. - نزهة الجليس ومنية الأديب الأنيس- الموسوي: العباس بن علي بن نور الدين (ت 1148 هـ) . ط مصر 1393 هـ. - نسب قريش- الزبيري: المصعب بن عبد الله (ت 236 هـ) . ط دار المعارف، مصر 1953 م. - نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب- المقري: أحمد بن محمد التلمساني (ت 1041 هـ) . ط دوزي وآخرين، ليدن 1861 م، وتحقيق إحسان عباس، ط صادر، بيروت 1968 م.. - النقائض (نقائض جرير والفرزدق) - أبو عبيدة: معمر بن المثنى التيمي (ت 210 هـ) . ط ليدن 1905- 1912 م. - نكت الهميان في نكت العميان- الصفدي: صلاح الدين خليل بن أيبك

(ت 764 هـ) . تحقيق أحمد زكي، ط مصر 1329 هـ/ 1911 م. - الوزراء والكتاب الجهشياري: أبو عبد الله محمد بن عبدوس (ت 331 هـ) . تحقيق السقا والأبياري وشلبي، ط مصر 1357 هـ/ 1938 م. - وفيات الأعيان- ابن خلكان: شمس الدين أحمد بن محمد (ت 681 هـ) . ط مصر 1948 م، وتحقيق إحسان عباس، ط دار الثقافة، بيروت 1973 م. - وقعة صفين- نصر بن مزاحم المنقري (ت 212 هـ) . تحقيق عبد السلام هارون، ط مصر 1365 هـ/ 1945 م.. - الولاة والقضاة- الكندي محمد بن يوسف بن يعقوب (ت 350 هـ) . ط بيروت 1908 م. - يتيمة الدهر- الثعالبي: أبو منصور عبد الملك بن محمد النيسابوري (ت 429 هـ) . ط القاهرة 1956 م، وط بيروت 1983 م.

فهرس الموضوعات

فهرس الموضوعات مقدمة التحقيق دولة الحسنيين 25 1- دولة المهدي محمد بن عبد الله بن الحسن 25 2- دولة أخيه إبراهيم بن عبد الله بن الحسن 28 ذكر بني طباطبا: 3- محمد بن إبراهيم العلوي 33 4- الهادي يحيى بن الحسين بن القاسم بن طباطبا 39 5- محمد المرتضى بن يحيى بن الحسين 40 6- أحمد الناصر ابن الهادي 41 7- دولة القائم بالمدينة أبي عبد الله محمد بن الحسن 43 8- دولة السفاك إسماعيل بن يوسف بن إسماعيل 44 9- دولة الكبير ومنهم أهل ينبع 45 10- أبو عزيز بن قتادة بن مظاعن 48 الهواشم: 11- الناهض بأمر الله محمد بن سليمان بن داود 54 12- أبو الفتوح الحسن بن جعفر 55 الدولة الطبرستانية 58

13- الداعي إلى الحق الحسن بن زيد 58 14- القائم بالحق محمد بن زيد 60 15- المهدي أبو محمد الحسن بن زيد 62 دولة الأخضريين 63 دولة الأدراسة ببلاد المغرب 63 16- إدريس المغرب ابن عبد الله بن الحسن المثنى 64 17- إدريس بن إدريس 65 18- القاسم بن إدريس 67 19- الناصر بن علي بن حمود 70 20- المأمون القاسم بن حمود 72 21- دولة المعتلي أبي إسحاق يحيى بن علي بن حمود 73 22- دولة المتأيد أبي العلى إدريس بن علي بن حمود 75 23- دولة القائم أبي زكريا يحيى بن إدريس 75 24- دولة المستنصر أبي محمد الحسن بن يحيى 76 25- دولة العالي إدريس بن يحيى 78 26- دولة المهدي محمد بن إدريس المتأيد 79 27- دولة الموفق إدريس بن علي 80 28- المستعلي محمد بن إدريس المتأيد 81

29- دولة المهدي محمد بن تومرت 81 30- دول بني الحسين بن علي 88 الدولة العبيدية 89 31- المهدي بالله عبيد الله بن محمد الفاطمي 96 32- القائم بأمر الله محمد بن عبيد الله الفاطمي 99 33- المنصور بالله إسماعيل بن محمد الفاطمي 101 34- المعز لدين الله معد بن إسماعيل الفاطمي 102 35- العزيز بالله نزار بن معد الفاطمي 104 36- الحاكم بأمر الله منصور بن نزار الفاطمي 106 37- الظاهر بإعزاز دين الله علي بن منصور الفاطمي 109 38- المستنصر بالله معد بن علي الفاطمي 111 39- المستعلي أحمد بن معد بن علي الفاطمي 113 40- الآمر بأحكام الله منصور بن أحمد بن معد الفاطمي 114 41- الحافظ لدين الله عبد المجيد بن محمد 118 42- الظافر بأمر الله إسماعيل بن عبد المجيد الفاطمي 120 43- الفائز بنصر الله عيسى بن إسماعيل الفاطمي 122 44- العاضد لدين الله عبد الله بن يوسف الفاطمي 125 [دولة الحسينيين]

45- دولة الزيدي القائم بالكوفة محمد بن محمد بن زيد بن علي بن الحسين 137 46- دولة محمد بن جعفر الصادق 142 [دولة الزنجي] 47- دولة الزنجي علي بن محمد العلوي 144 [دولة القرامطة] 48- دولة القرامطة 147 49- يحيى بن قرمط 150 50- الحسين بن قرمط 151 51- أحمد بن الحسين زكرويه 153 52- الحسن بن بهرام الجنّابي القرمطي 155 53- سليمان بن الحسن بهرام الجنّابي القرمطي 155 54- الأعصم الحسن بن أحمد القرمطي 157 الدولة العباسية 161 55- دولة السفاح عبد الله بن محمد العباسي 173 56- دولة المنصور أبي جعفر عبد الله بن محمد العباسي 181 57- دولة المهدي محمد بن عبد الله المنصور العباسي 197 58- دولة الهادي موسى بن محمد بن المهدي العباسي 202

59- دولة الرشيد هارون بن محمد المهدي العباسي 207 60- دولة الأمين محمد بن هارون الرشيد العباسي 219 61- دولة المأمون عبد الله بن هارون الرشيد العباسي 223 62- دولة المعتصم بالله محمد بن هارون الرشيد العباسي 235 63- دولة الواثق بالله هارون بن محمد المعتصم العباسي 239 64- دولة المتوكل على الله جعفر بن محمد المعتصم العباسي 241 65- دولة المنتصر بالله محمد بن جعفر المتوكل العباسي 243 66- دولة المستعين بالله أحمد بن محمد المعتصم العباسي 245 67- دولة المعتز بالله محمد بن جعفر المتوكل العباسي 247 68- دولة المهتدي بالله محمد بن هارون الواثق العباسي 249 69- دولة المعتمد على الله أحمد بن المتوكل العباسي 251 70- دولة المعتضد بالله أحمد بن طلحة بن المتوكل العباسي 253 71- دولة المكتفي بالله علي بن أحمد المعتضد العباسي 259 72- دولة المقتدر بالله جعفر بن أحمد المعتضد العباسي 260 73- خروج عبد الله بن المعتز عليه 263 74- دولة القاهر بالله محمد بن أحمد المعتضد العباسي 266 75- دولة الراضي بالله محمد بن جعفر المقتدر العباسي 268 76- دولة المستكفي بالله عبد الله بن علي المكتفي العباسي 270 77- دولة المطيع لله الفضل بن جعفر المقتدر العباسي 271

78- دولة الطائع لله عبد الكريم بن الفضل المطيع العباسي 272 79- دولة القادر بالله أحمد بن إسحاق بن جعفر المقتدر العباسي 273 80- دولة القائم بأمر الله عبد الله بن أحمد القادر العباسي 274 81- دولة المقتدي بأمر الله عبد الله بن محمد بن القائم العباسي 277 82- دولة المستظهر بالله أحمد بن عبد الله المقتدي العباسي 279 83- دولة المسترشد بالله الفضل بن أحمد المستظهر العباسي 281 84- دولة الراشد بالله منصور بن الفضل المسترشد العباسي 286 85- دولة المقتفي لأمر الله محمد بن أحمد المستظهر العباسي 288 86- دولة المستنجد بالله يوسف بن عبد الله المقتفي العباسي 297 87- دولة المستضىء بأمر الله الحسن بن يوسف المستنجد العباسي 298 88- دولة الناصر لدين الله أحمد بن الحسن المستضىء العباسي 300 89- دولة الظاهر بأمر الله محمد بن أحمد الناصر العباسي 306 90- دولة المستنصر بالله منصور بن محمد الظاهر العباسي 309 91- دولة المستعصم بالله عبد الله بن منصور المستنصر العباسي 310 [الخلفاء العباسيين في مصر] 92- المستنصر بالله أحمد بن محمد الظاهر العباسي 313 93- الحاكم بأمر الله أحمد بن الحسن العباسي 314 94- المستكفي بالله سليمان بن أحمد بن علي العباسي 315

95- الواثق بالله إبراهيم بن محمد المستمسك العباسي 317 96- الحاكم بأمر الله أحمد بن سليمان المستكفي العباسي 319 الدولة الأموية 97- دولة معاوية بن أبي سفيان 337 98- دولة يزيد بن معاوية 358 99- دولة معاوية بن يزيد بن معاوية 366 100- عبد الله بن الزبير رضي الله عنه 368 101- دولة مروان بن الحكم 369 102- دولة عبد الملك بن مروان 378 103- عبد الله بن الزبير رضي الله عنه 386 104- دولة الوليد بن عبد الملك 398 105- دولة سليمان بن عبد الملك 404 106- دولة عمر بن عبد العزيز 441 107- دولة يزيد بن عبد الملك بن مروان 420 108- دولة هشام بن عبد الملك 423 109- دولة الوليد بن يزيد بن عبد الملك 432 110- دولة يزيد بن الوليد بن عبد الملك 438 111- دولة إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك 440

112- دولة مروان بن محمد 443 الدولة الأموية بالأندلس 113- دولة عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان 451 114- دولة هشام بن عبد الرحمن 457 115- دولة الحكم بن هشام الربضي 460 116- دولة عبد الرحمن بن الحكم 465 117- دولة محمد بن عبد الرحمن 468 118- دولة المنذر بن محمد 473 119- دولة عبد الله بن محمد 474 120- دولة عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن محمد الناصر 476 121- دولة الحكم المستنصر بن عبد الرحمن الناصر 478 122- دولة هشام بن المؤيد بن الحكم 483 123- دولة محمد المهدي بن هشام بن عبد الجبار بن عبد الرحمن الناصر 489 124- دولة سليمان بن الحكم المستنصر بن عبد الرحمن الناصر 490 125- دولة المستظهر عبد الرحمن بن هشام 494 126- دولة محمد بن عبد الرحمن بن عبيد الله بن عبد الرحمن الناصر 495 127- دولة هشام بن محمد بن عبد الملك بن عبد الرحمن الناصر 497 مصادر التحقيق 501

الجزء السابع والعشرون

[الجزء السابع والعشرون] [هذا الكتاب] بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد: فهذا هو السفر السابع والعشرون والأخير من كتاب «مسالك الأبصار في ممالك الأمصار» لشهاب الدين أحمد بن يحيى بن فضل الله العمري الدمشقي المتوفى بها سنة 749 هـ/ 1349 م، وهو عبارة عن قطعة من التاريخ تبدأ بسقوط طرابلس الغرب في أيدي الفرنجة (النورمان) في سنة 541 هـ/ 1146 م، وتنتهي بسنة 744 هـ/ 1343 م من أيام السلطان المملوكي الصالح عماد الدين إسماعيل ابن الناصر محمد بن قلاوون، وما بين السنتين المذكورتين تنضوي جملة من تواريخ الدول التي ظهرت إبان تلك الفترة، وغمرت بأحداثها مشرق العالم الإسلامي ومغربه على حد سواء، بحيث يمكن النظر إلى هذا السفر مع ما تميز به من الاختصار، والاختصار الشديد أحيانا كدائرة معارف تاريخية «ميسرة» لتلك الدول، نشوئها وتطورها واضمحلالها.

هذا، ويعد تاريخ أبي الفداء الشهير «المختصر في أخبار البشر» «1» المصدر الرئيس لكتابنا حيث واصل فيه المؤلف النقل عن التاريخ المذكور من سنة 541 هـ/ 1146 م «2» حتى سنة 692 هـ 1293/م، ولولا بعض الإجراءات الشكلية التي أدخلها العمري على التاريخ المذكور من مثل: تناوله تاريخ كل عشر سنوات على حدة (اعتماد نظام العقود) ، وعبارة واحدة (فقط) تعود إليه وتدل عليه «3» ، وحذف بعض الحوادث والتراجم وخصوصا تراجم الفقهاء والعلماء والأدباء، وزيادة في بعض الأشعار والمكاتبات الخاصة بمناسبات معينة «4» ... أقول: لولا ذلك لظن أن الكتاب إنما هو نسخة أخرى من نسخ «المختصر» ، وأن نسبته إلى العمري إنما تمت عن طريق الخطأ، فقد ظل الكتاب- بالرغم مما تقدم- يحتفظ بجميع الوشائج والصلات التي تشده إلى «المختصر» إن على صعيد العبارة الواحدة المشتركة بين الاثنين، وهي عبارة أبي الفداء أولا وأخيرا، أو على صعيد المواقع التي ظل أبو الفداء يحتفظ بها لنفسه داخل السياق وتنطق بحضوره الشخصي فيها، من مثل: - قوله بعد الفراغ من ترجمة نور الدين محمود بن زنكي: «ولا يحتمل هذا المختصر ذكر فضائله» «5» . - وقوله في الاختلاف الواقع في نسب أبي دبوس آخر ملوك بني عبد المؤمن: «فإني وجدت في بعض الكتب المؤلفة في هذا الفن أن أبا دبوس هو ابن إدريس

المأمون، ثم وجدت نسبه في وفيات الأعيان أنه هو نفسه اسمه إدريس بن عبد الله بن يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن ... » «1» . - وحديثه عن دخول الملك المظفر تقي الدين محمود إلى حماه ومضيه إلى دار الوزير المعروفة بدار الإكرام التي قال: «وهي الآن مدرسة تعرف بالخاتونية وقفتها عمتي مؤنسة خاتون بنت الملك المظفر المذكور» «2» . - وقوله: «وفي هذه السنة- 635 هـ- ولد والدي الملك الأفضل نور الدين علي بن المظفر صاحب حماه» «3» . - ويدخل في ذلك أيضا الإحالات نفسها التي أحال بها أبو الفداء القارئ إلى ما تقدم من أجزاء «تاريخه» واحتفظ بها العمري بالرغم من اتصالها بسنوات خارجة عن دفتي الكتاب «4» ، فضلا على الإحالات المبثوثة داخل السياق. ولعل العمري لم يمهل الوقت (بسبب وفاته) لاستخلاص «المختصر» واستصفائه لنفسه، وتنقيته من «البصمات» الخاصة بأبي الفداء تماما كما لم يمهل لاستكمال بعض أجزاء الكتاب. أما لماذا لم يواصل العمري المضي قدما في الاتكاء على تاريخ أبي الفداء حتى نهايته في سنة 732 هـ/ 1332 م، ولماذا آثر الانسحاب من هذا التاريخ بعد أن سلخ منه هذه الصفحات الطوال ومعها هذه السنوات الطوال أيضا (152 سنة) ؟.

لعل الإجابة عن هذا التساؤل تكمن في ظهور شخصية أبي الفداء على مسرح الأحداث وتحوله من ناقل أو ناسخ لما سبقه من التواريخ إلى راو لما عاينه وشاهده أو قام به من أحداث، وتمثل سنة 684 هـ/ 1285 م أول إطلالة تاريخية لأبي الفداء على العالم الخارجي، ففي هذه السنة حضر أبو الفداء مع والده الملك الأفضل نور الدين علي فتح حصن المرقب من فرسان الإسبتارية وكان وقتها في الثانية عشرة من عمره، وقال: «وهو أول قتال رأيته» «1» . كما حضر فتح طرابلس من الصليبيين في سنة 688 هـ/ 1289 م «2» . واشترك أبو الفداء في فتح عكا من الصليبيين أيضا في سنة 690 هـ/ 1291 م، وكان إذ ذاك «أمير عشرة» «3» . وفتح قلعة الروم من الأرمن في السنة التالية «4» ، لتتوالى بعد ذلك مشاركاته في معظم الوقائع الحربية التي دارت على الجبهة الشامية ضد التتار، إضافة إلى الحملات والغارات الإسلامية (المملوكية) على بلاد الأرمن وما والاها من القلاع والحصون الشمالية. وقد تحدث أبو الفداء عن نفسه وعن دوره في هذه الوقائع والحملات، كما تحدث بلسان العسكر الحموي الذي كان يقاتل في عداده وبصورة بات يصعب معها على العمري أو على غيره من المؤرخين فصل السياق عن صاحبه دون أن تلحق أضرار بالغة بأحدهما أو كليهما معا.

أما ما يتصل ببقية سنوات الكتاب (693- 744 هـ/ 1293- 1343 م) فقد سلخها العمري جملة وتفصيلا عن «دول الإسلام» «1» لمعاصره شمس الدين الذهبي (ت 748 هـ/ 1347 م) . ولا شك أن خسارة العمري كانت كبيرة للغاية بعد انقطاعه عن «المختصر» ، وما نظن أن تحوله للتاريخ المذكور قد قلل من هذه الخسارة نظرا للفارق المنهجي الكبير بين التاريخين خاصة إذا علمنا أن «دول الإسلام» لا يعدو أن يكون «تاريخا صغيرا» استله الذهبي من تاريخه الكبير «تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام» ، وقصره على أبرز الحوادث والوفيات، ولعل العمري كان معنيا بالرقي بتاريخه- بأي ثمن- إلى أيامه وذلك جريا على عادة معاصريه من المؤرخين الحوليين الذين اعتادوا أن يكتبوا تواريخهم سنة فسنة حتى آخر أيامهم أو قبيلها بقليل «2» ، ولعل هذا ما يفسر قيام العمري بضم أخبار (حوادث ووفيات) ما نظن أن بصره قد وقع عليها من قريب أو بعيد، وإن وقع فإنه لم يمهل النظر ثانية فيها (بسبب وفاته) ، تماما كما لم يمهل النظر في تاريخ أبي الفداء على ما أسلفنا، وها نحن نراه يتحدث عن وقعة مرج الصّفّر (شقحب) بين المسلمين والتتار (702 هـ/ 1303 م) كمن واقع أيامها بحلوها ومرها في الوقت الذي لم يكن فيه قد تجاوز الثانية من عمره: «وطلع الضوء من بكرة الأحد والمسلمون محدقون بالتتار، فلم يكن ضحوة إلا وقد ركن التتار إلى الفرار وولوا الأدبار، ونزل النصر ودقت البشائر وزين

البلد، فأين غمرة السبت من سرور يوم الأحد، فوالله ما ذقنا يوما أحلى منه ولا أمرّ من الذي قبله» . «1» وتبدو المفارقة كبيرة حينما نمر على ترجمتي عمه شرف الدين عبد الوهاب (ت 717 هـ/ 1317 م) ووالده محيي الدين يحيى (ت 738 هـ/ 1338 م) فلا نلحظ فيهما أي إشارة تند عن قربى أو صلة بين العمري والمترجم لهما، وما ساقه من وصف لهما لا يتعدى الوصف التقليدي الذي يمكن أن يحمل عليهما وعلى غيرهما، وما أكثر ما تحفل به وبمثله المصادر التاريخية المملوكية، فقد كان عمه شرف الدين «كبير القدر، مصونا، دينا، كامل العقل» «2» ، وأما والده محيي الدين فله «رواية عالية ومحاسن وأموال» «3» هذا في الوقت الذي كان يؤمل فيه من العمري أن يفيض في الحديث عنهما وعن مكانتهما في الدولة المملوكية بوصفهما من أعيان الكتاب فيها، وما ذكرناه عن تعاطيه مع عمه ووالده ينسحب على العديد من الشخصيات التي مرّ عليها كأن لم يكن بينه وبينها «مودة» ، هذا مع معرفته الواسعة برجال عصره بحكم منصبه الرفيع كرئيس لديوان الإنشاء في القاهرة، وقربه من الفعاليات المتنفذة في السلطنة، وهو ما أدى في النهاية إلى حرمان القارئ من الانتفاع ب «شهادته» ومن ثمّ النظر إلى تاريخه كصورة مكرورة عن غيره من التواريخ. على أنه من الإنصاف أن نشير إلى أن العمري لم يكن بدعا بين مؤرخي عصره فيما جرى عليه من الجمع والانتقاء والاختصار فهذه الأمور تكاد تكون

من السمات التي تواضعت عليها المدرسة التاريخية المملوكية بجناحيها المصري والشامي. إنّ عبارات من مثل: هذا آخر ما وجدته بخط فلان، أو آخر ما جمعته، أو انتقيته، أو سلخته من تاريخ كذا ... تبدو مألوفة في سياق المجهود التاريخي المملوكي، ولدينا تواريخ ربما لم ينشئ أصحابها فيها صفحة واحدة، وإنما قاموا بتركيبها أو تلفيقها من تواريخ متعددة، بل إن بعض هؤلاء ما كان ليرسل نظره فيما ينقل كما حكى ابن حجر العسقلاني عن معاصره بدر الدين العيني: « ... وذكر أن الحافظ عماد الدين بن كثير عمدته في تاريخه، وهو كما قال، لكن منذ أن انقطع ابن كثير صارت عمدته على تاريخ ابن دقماق حتى كان يكتب منه الورقة الكاملة متوالية، وربما قلده فيما بهم فيه حتى في اللحن الظاهر مثل: أخلع على فلان ... ، وأعجب منه أن ابن دقماق يذكر في بعض الحادثات ما يدل أنه شاهدها، فيكتب البدر كلامه بعينه بما تضمنه، وتكون تلك الحادثة وقعت بمصر، وهو في عينتاب ... » «1» !

منهج التحقيق

منهج التحقيق 1- وصف النسخة المعتمدة اعتمدت في تحقيق هذا الكتاب على مصورة الأستاذ العلامة الدكتور فؤاد سزكين عن نسخة آيا صوفيا باستانبول، رقم: 3439 «1» ، وهي نسخة ملفقة من قطعتين: الأولى: وتقع في (351) صفحة بما فيها صفحة العنوان، وتضم مسطرتها (17) سطرا، وتشتمل على السنوات (541- 680 هـ/ 1146- 1281 م) . والثانية: وتقع في (67) صفحة من الصفحة (352- 418) ، وتضم مسطرتها (21) سطرا، وتشتمل على السنوات (681- 744 هـ/ 1282- 1343 م) ، أما تاريخ نسخها كما يستفاد من الصفحة الأخيرة فيعود إلى سنة 819 هـ/ 1416 م وهو التاريخ نفسه الذي تحمله النسخة المؤيدية لكتاب «المسالك» ، والتي كان الملك المؤيد شيخ بن عبد الله المحمودي (ت 824 هـ/ 1421 م) قد أوقفها على طلبة العلم بجامعه (المؤيدي) في القاهرة، فلعل نسختنا تنتمي إليها. وبالرغم من التباين ما بين القطعتين في صورة الخط (قارن بالنموذجات المصورة) إلا أنه ينبغي أن ينظر إليهما كنسخة واحدة من حيث اشتراكهما- على الغالب- بمجمل السمات العامة لرسوم الكتابة المملوكية السائدة آنذاك، مثل: - إهمال همزة القطع في الأفعال والأسماء والحروف، والهمزة في وسط الكلمة وفي آخرها.

- إهمال الألف المتوسطة في الأسماء ذات الرسم القرآني. - كتابة المئة مائة، والأعداد من (300- 900) موصولة. - إثبات النون في العددين عشرين وثلاثين بالرغم من وقوعهما في حالة الإضافة. - عدم التحري التام في مسألة تذكير العدد وتأنيثه. هذا فضلا على إهمال تنقيط بعض الكلمات والحروف أو وضع النقاط في غير أماكنها الصحيحة. كما اعتمدت في تحقيق الكتاب على «المختصر في أخبار البشر» ، وبخاصة ما يتصل منه بتاريخ السنوات (541- 692 هـ/ 1146- 1293 م) ، واعتبرته نسخة ثانية، ورمزت له على مدار التحقيق باسم صاحبه (أبي الفداء) . ولا شك أن التطابق شبه التام ما بين كتابنا و «التاريخ» المذكور قد أدى دورا بالغ الأهمية في عملية التحقيق. واعتمدت أيضا على «الكامل في التاريخ» لابن الأثير الجزري (ت 630 هـ/ 1233 م) بوصفه المصدر الأم لتاريخ أبي الفداء عن الحقبة- موضوع الكتاب- حتى سنة 628 هـ/ 1230 م، واعتبرته نسخة ثالثة، وغالبا ما كان يتم الاستئناس به في ضبط بعض الأسماء والكلمات، أو توضيح بعض الحوادث التي أخل الاختصار الشديد من جانب أبي الفداء بتفاصيلها. أما ما يتعلق بالسنوات (693- 744 هـ/ 1293- 1343 م) والتي تشكل جزءا

2 - خطة العمل

من القطعة الثانية لنسخة آيا صوفيا المعتمدة في التحقيق، فقد عولت في تحقيقها على «دول الإسلام» للذهبي، واعتبرته نسخة ثانية عن تاريخ هذه السنوات، ورمزت له على مدار التحقيق باسم صاحبه (الذهبي) ، ولا أعدو الحقيقة إذا ما قلت إنه لولا هذا التاريخ لما أمكنني الوصول إلى الصورة الصحيحة للنص، ذلك أن دور الذهبي هنا لا يختلف عن دور أبي الفداء فيما يخص السنوات السابقة، بل إن تأثير الذهبي كان أشد، لأننا لم نلحظ أدنى تدخل للمؤلف في كل ما نقله عنه، وإذا كانت هناك فروق طفيفة في قراءة بعض الكلمات والأسماء ما بين نسختنا وتاريخ الذهبي تصل أحيانا حد التناوب في التصحيف والتحريف وحتى في الخطأ، فالأولى أن يعزى ذلك إلى اختلاف النّسخ والنّساخ. 2- خطة العمل لا تختلف خطتنا في تحقيق هذا السفر عن سابقتيها في تحقيق السفرين الرابع والسادس والعشرين من هذه «الموسوعة» طالما أننا نتجه في النهاية نحو غاية واحدة محددة هي: إثبات ما كان ينوي المؤلف فعلا أن يقوله، كما أن خطواتنا للوصول إلى هذه الغاية تكاد تكون متطابقة في الأسفار الثلاثة على صعيدي الشكل والمضمون. فعلى الصعيد الأول: «1» 1- احتفظت بالترقيم الأصلي للمخطوط، وذلك بتخصيص قوسين داخل السياق لهذا الغرض. 2- كتبت النص على وفق الرسم الكتابي الحديث والمتداول متداركا بذلك ما قد سلف من الرسوم، وهو ما تطلب مني تحقيق الهمز، وإثبات الألف المتوسطة

في الأسماء، وحذف ألف «مائة» والفصل بينها وبين العدد، كما حذفت النون من العددين عشرين وثلاثين لدواعي الإضافة، وضبطت العدد في حالتي التذكير والتأنيث. 3- نقلت الحواشي إلى مواضعها المشار إليها في المتن ووضعتها بين حاصرتين: [] . 4- أصلحت المواضع التي خرج فيها النص عن أحكام الإعراب، ونبهت إليها في الهامش. 5- ضبطت بالشكل ما قد ينبهم على القارئ ضبطه من الأسماء والألفاظ العربية والأعجمية. 6- صوبت الأخطاء الكتابية التي لا يخفى صوابها على أحد، والتي لا يمكن أن تقرأ بغير الوجه الذي أثبتها عليه، ولم أر ضرورة للتنبيه إليها فهي لا تعدو أن تكون نظير الأخطاء الطباعية في وقتنا الحاضر. 7- أضفت إلى السياق ما احتيج إليه من حروف أو كلمات وميزتها من المتن بوضعها بين قوسين مكسورين: () وأما على الصعيد الثاني: 1- فقد قمت بمناظرة الحوادث والأخبار الواردة في النص بما ورد بشأنها في المصادر التاريخية، وأشرت إلى ما بين رواية المؤلف وبين هذه المصادر من فروق واختلافات، ورجحت ما رأيته منها صوابا. 2- رددت النصوص المنقولة إلى مصادرها الأصلية، ونبهت إلى طريقة المؤلف في استخدامها.

3- أصلحت الأخطاء التاريخية الناجمة عن السهو، أو التي دلت قرينة واضحة من النص نفسه أو مصدر آخر على صوابها ووضعتها بين حاصرتين، ونبهت إلى الأصل في الهامش. 4- حاولت ربط القارئ بصورة مستمرة بتطور الأحداث، وذلك بالإحالة إلى مراحلها السابقة، وهي خطوة رأيتها ضرورية للإمساك بوحدة الحدث أو الموضوع في مواجهة المنهج الحولي (ترتيب الحوادث على السنين) الذي يقوم عليه هذا التاريخ. 5- خرجت الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة وما قدرت عليه من الأشعار والبيانات والوثائق الرسمية، وضبتها بالشكل. 6- عرفت أسماء الأعلام والشعوب والجماعات والأمكنة، فضلا عن الألفاظ والمصطلحات الفنية والحضارية التي تعود إلى عصر المؤلف. وأخيرا ... فإذا كانت غاية التحقيق ترمي في النهاية- كما أسلفت- إلى إثبات ما كان ينوي المؤلف فعلا أن يقوله، فإني لأرجو أن أكون قد بلغت هذا القصد، أو شارفته، وبالصورة التي تحقق النفع للآخرين. والله الموفق للصواب، وهو يهدي إلى سبيل الرشاد. د. حمزة أحمد عباس ثغر الحديدة غرة شهر المحرم 1423 هـ 15 آذار (مارس) 2002 م

3 - الرموز المستعملة في التحقيق

3- الرموز المستعملة في التحقيق الأصل: الجزء السابع والعشرون من نسخة آيا صوفيا، رقم: 3439 المؤلف: ابن فضل الله العمري. (أبو الفدا 3- 4/ ... ) : الجزءان الثالث والرابع من «المختصر في أخبار البشر» . (الذهبي 2/ ... ) : الجزء الثاني من «دول الإسلام» . () : هذان القوسان العاديان لحصر أرقام صفحات المخطوطة. () : هذان القوسان لحصر الآيات القرآنية الكريمة. "": هاتان الفاصلتان المزدوجتان لحصر: - الأحاديث النبوية الشريفة. - النقول والاقتباسات الحرفية. - أسماء الكتب. ... : هذه النقاط تستخدم للدلالة على الكلمات غير المقروءة، أو البياض الواقع في الأصل بحيث تدل كل ثلاث نقاط على كلمة واحدة. [] هاتان الحاصرتان تستخدمان لحصر: - ما نقل من حاشية المخطوط إلى المتن. - ما زيد على النص من مصادر أخرى. - ما صوب من أخطاء من قبلنا، أو من مصادر أخرى. () : هذان القوسان المكسوران يستخدمان لحصر كل ما احتيج إليه من حروف أو كلمات اقتضاها السياق.

الصفحة الأولي من المخطوط

الصفحة الثانية من المخطوط

الصفحة ما قبل الأخيرة من المخطوط

الصفحة الأخيرة من المخطوط

سنة إحدى وأربعين [وخمس مئة] إلى سنة خمسين وخمس مئة

بسم الله الرحمن الرحيم صلّى الله على محمد وآله وسلّم سنة إحدى وأربعين [وخمس مئة] «1» إلى سنة خمسين وخمس مئة [ثم دخلت سنة إحدى وأربعين وخمس مئة «13» ] «2» ذكر استيلاء الفرنج على طرابلس «3» وسبب ذلك أنهم نزلوا عليها وحاصروها، فلما كان اليوم الثالث من نزولهم سمع الفرنج في المدينة ضجة عظيمة، وخلت الأسوار من المقاتلة، [وكان] «2» سببه أن أهل طرابلس اختلفوا، فأرادت طائفة منهم تقديم [رجل من الملثمين ليكون أميرهم، وأرادت طائفة أخرى تقديم] «2» بني مطروح، فوقع الحرب بين الطائفتين، وخلت الأسوار فانتهز الفرنج الفرصة، وطلعوا بالسّلالم وملكوها بالسيف في محرم هذه السنة، وسفكوا دماء أهلها، وبعد أن استقرّ الفرنج في طرابلس بذلوا الأمان لمن بقي من أهل طرابلس، وتراجعت إليها الناس، وحسن حالها. وفيها، سار زنكي ونزل على قلعة جعبر وحصرها، وصاحبها عليّ بن مالك

ابن سالم بن بدران بن المقلّد العقيلي «1» ، وأرسل عسكرا إلى قلعة فنك «2» وهي تجاور جزيرة ابن عمر، فحصرها أيضا وصاحبها حسام الدين الكرديّ البشنوي «3» . ولما طال على زنكي منازلة قلعة جعبر أرسل مع حسان البعلبكيّ «4» الذي كان صاحب منبج يقول لصاحب قلعة جعبر، قل لي من يخلصك؟ فقال صاحب جعبر: يخلصني «3» منك الذي خلصك من بلك بن بهرام بن أرتق «5» ، وكان بلك محاصرا لمنبج فجاءه سهم فقتله، فرجع حسان إلى زنكي ولم يخبره بذلك، فاستمر زنكي منازلا قلعة جعبر، فوثب عليه جماعة من مماليكه وقتلوه في خامس ربيع الآخر هذه السنة بالليل، وهربوا إلى قلعة جعبر، وصاح من بها على العسكر وأعلموهم بقتل زنكي، فدخل أصحابه إليه وبه رمق، وكان عماد الدين زنكي حسن الصورة، أسمر اللون، مليح العينين، قد

وخطه الشيب، وكان شديد الهيبة على عسكره عظيمها، كان له الموصل وما معها من البلاد، وملك الشام خلا دمشق، وكان شجاعا، وكانت الأعداء تحيط بمملكته من كل جهة، وهو ينتصف منهم ويستولي على بلادهم. ولما قتل زنكي كان ولده نور الدين محمود حاضرا عنده، وأخذ خاتم والده وهو ميت من إصبعه، وسار إلى حلب فملكها وكان صحبة زنكي أيضا الملك ألب أرسلان بن محمود بن محمد بن ملك شاه السلجوقي، فركب في يوم قتل زنكي واجتمعت عليه العساكر، فحسن بعض أصحاب زنكي الأكل والشرب وسماع المغاني، فسار ألب أرسلان إلى الرّقة وأقام بها منعكفا على ذلك، وأرسل كبراء دولة زنكي (4) إلى ولده سيف الدين غازي بن زنكي «1» ، يعلمونه بالحال، وهو بشهرزور، فسار إلى الموصل واستقر في ملكها، وأما ألب أرسلان فتفرقت عنه العساكر، وسار إلى الموصل يريد ملكها، فلما قرب منها قبض عليه غازي بن زنكي وحبسه في قلعة الموصل «2» ، واستقر ملك سيف الدين غازي للموصل وبلادها. وفيها، أرسل عبد المؤمن بن علي «3» جيشا إلى جزيرة الأندلس فملكوا ما فيها من بلاد الإسلام واستولى عليها.

وفي سنة اثنتين وأربعين [وخمس مئة]

وفيها، بعد قتل عماد الدين زنكي قصد مجير الدين ابن صاحب دمشق «1» حصن بعلبك وحصره، وكان به نجم الدين أيوب بن شاذي «2» مستحفظا، فخاف أن أولاد زنكي لا يمكنهم إنجاده بالعاجل، فصالحه وسلم القلعة إليه، وأخذ منه إقطاعا ومالا وملكه عدة قرى من بلاد دمشق، وانتقل أيوب إلى دمشق و [سكنها] «3» . وفي سنة اثنتين وأربعين [وخمس مئة «13» ] «4» دخل نور الدين محمود بن زنكي صاحب حلب بلاد الفرنج ففتح منها أرتاح «5» بالسيف، و [حصر] «6» مأمولة «7» وبصرفوث 4، وكفرلاثا «8» .

[ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين وخمس مئة]

[ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين وخمس مئة «13» ] «1» وفيها، ملك الفرنج المهدية بأفريقية. كان قد حصل بأفريقية غلاء شديد حتى أكل الناس بعضهم بعضا، ودام من سنة سبع وثلاثين وخمس مئة إلى هذه السنة، ففارق الناس القرى، ودخل أكثرهم إلى جزيرة صقلّية، فاغتنم رجّار «2» الفرنجيّ صاحب «5» صقلّية هذه الفرصة، وجهز أصطولا نحو مئتين وخمسين [شينة] «3» مملوءة رجالا وسلاحا، واسم مقدمهم جرج «4» وساروا من صقلّية إلى جزيرة قوصرة، وهي ما بين المهدية وصقلّية، وساروا منها وأشرفوا على المهدية [ثاني صفر] «5» هذه السنة، وكان في المهدية الحسن بن علي بن يحيى بن تميم بن المعزّ بن باديس الصنهاجي «6» صاحب أفريقيّة، فجمع كبار البلد، واستشارهم، فرأوا ضعف حالهم، وقلة

المؤونة عندهم، فاتفق رأي الأمير حسن على إخلاء المهدية، فخرج منها، وأخذ ما خف حمله، وخرج أهل المدينة على وجوههم بأهليهم وأولادهم، وبقي الأصطول في البحر يمنعه الريح من الوصول إلى المهدية، ثم دخلوا المهدية بعد مضيّ ثلثيّ النهار المذكور بغير مانع ولا مدافع، ولم يكن قد بقي من المسلمين بالمهدية ممن عزم على الخروج أحد، ودخل جرج مقدم الفرنج إلى قصر الأمير حسن فوجده على حاله لم يعدم منه إلا ما خف حمله، ووجد فيه جماعة من حظايا الحسن والذخائر مملوءة من الذخائر النفيسة من كلّ شيء غريب، وسار الأمير حسن بأمواله وأولاده إلى بعض أمراء العرب «1» ممن كان يحسن إليه، وأقام عنده، وأراد الحسن السير إلى الخليفة الحافظ العلوي «2» صاحب مصر، فلم يقدر على ذلك لخوف الطرق فسار إلى ملك بجاية يحيى بن العزيز «3» من بني حمّاد، فوكّل يحيى المذكور على الحسن وعلى أولاده من يمنعهم من التصرف، ولم يجتمع يحيى بهم، وأنزلهم في جزائر بني مزغنّان «4» ، وبقي حسن كذلك حتى ملك عبد المؤمن بن علي بجاية في سنة سبع وأربعين وخمس مئة، وأخذها هي وجميع ممالك بني حمّاد، فحضر الأمير حسن عنده فأحسن إليه عبد المؤمن وأكرمه، واستمر في خدمة عبد المؤمن إلى أن ملك عبد المؤمن المهدية فأقام

حسن فيها، وأمر عبد المؤمن الوالي الذي ولاه على المهدية أن يقتدي برأي الأمير حسن ويرجع إلى قوله، وكان عدة من ملك من بني باديس «1» [من] «2» زيري ابن مناد إلى الحسن تسعة ملوك. وكانت ولايتهم في سنة إحدى وستين وثلاث مئة «3» ، وانقضت في سنة ثلاث وأربعين وخمس مئة. ثم إن جرج بذل الأمان لأهل المهدية، وأرسل وراءهم بذلك، وكانوا قد أشرفوا على الهلاك من الجوع، فتراجعوا إلى المهدية. وفيها، سار ملك الألمان «4» ، والألمان بلادهم وراء بلاد القسطنطينية حتى وصل إلى الشام في جمع عظيم ونزل دمشق وحصرها، وصاحبها مجير الدين أبق

ابن جمال الدين محمد بن بوري، والحكم وتدبير المملكة لمعين الدين أنر «1» مملوك جدّه طغتكين «2» ، وفي سادس [ربيع الأول] » زحفوا على دمشق، ونزل ملك الألمان بالميدان الأخضر «4» ، وأرسل أنر إلى سيف الدين غازي صاحب الموصل يستنجده، فسار بعسكره وسار معه (7) أخوه نور الدين محمود ونزلوا على حمص، ففتّ ذلك في أعضاد الفرنج، وأرسل أنر إلى فرنج الشام يبذل لهم قلعة بانياس فتخلّوا عن ملك الألمان، وأشاروا عليه بالرحيل، وخوفوه من إمداد المسلمين فرحل عن دمشق إلى بلاده، وسلّم أنر قلعة بانياس إلى الفرنج حسبما شرّطه لهم. وفيها، كان بين نور الدين محمود وبين الفرنج مصافّ بأرض يغرى «5» من العمق، فانهزم الفرنج، وقتل منهم جماعة، وأسر جماعة، وأرسل من الأسرى والغنيمة إلى أخيه سيف الدين غازي صاحب الموصل. وفيها، ملك الفرنج من الأندلس مدينة طرطوشة «6» وجميع قلاعها، وحصون

وفي سنة أربع وأربعين وخمس مئة

لاردة «1» . وفيها، كان الغلاء العام من خراسان إلى العراق إلى الشام إلى المغرب. وفيها، قتل نور الدين شاهنشاه بن أيوب أخو صلاح الدين، قتلته الفرنج في منازلتهم لدمشق، فجرى بينهم وبين المسلمين مصافّ قتل فيه شاهنشاه وهو أكبر من صلاح الدين «2» ، وكانا شقيقين. وفي سنة أربع وأربعين وخمس مئة «13» توفي غازي بن عماد الدين أتابك زنكي «3» صاحب الموصل بمرض حادّ في أواخر جمادى الآخرة وكان ولايته ثلاث سنين وشهرا و [عشرين] «4» يوما، وكان حسن الصورة، ومولده سنة خمس مئة، وخلف ولدا ذكرا فرباه عمّه نور الدين، وأحسن إليه وتوفي المذكور شابا، وانقرض بموته عقب (8) سيف الدين غازي. وكان سيف الدين كريما يصنع لعسكره كلّ يوم طعاما كثيرا بكرة وعشيا، وهو أول من حمل على رأسه السّنجق في ركوبه، وأمر الأجناد أن لا يركبوا إلا بالسيوف في أوساطهم، والدبوس «5» تحت ركبهم، فلما فعل ذلك اقتدى به

أصحاب الأطراف. ولما توفي سيف الدين غازي كان أخوه قطب الدين مودود بن زنكي «1» مقيما بالموصل، فاتفق جمال الدين الوزير «2» وزين الدين «3» أمير الجيش على تمليكه فحلفاه، وحلفا له ولطاعة جميع بلاد سيف الدين أخيه، ولما تملك تزوج الخاتون ابنة حسام الدين تمرتاش «4» صاحب ماردين، وكان أخوه سيف الدين قد ملكها، ومات قبل الدخول بها، وهي أمّ أولاد قطب الدين. وفيها، توفي الحافظ العلوي «5» صاحب مصر، كانت خلافته عشرين سنة إلا

خمسة أشهر، وعمره نحوا من سبع وسبعين سنة، ولم [يل] «1» الأمر من الخلفاء العلويين بمصر من أبوه غير خليفة غير الحافظ والعاضد «2» على ما سنذكره. ولما توفي الحافظ بويع بعده ولده الظافر بأمر الله أبو منصور إسماعيل «3» ، واستوزر ابن مصال «4» فبقي أربعين يوما وحضر الإسكندرية العادل بن السّلّار «5» وكان قد خرج ابن المصال في طلب بعض المفسدين، فأرسل العادل ابن السّلّار ربيبه عباس بن أبي الفتوح بن يحيى بن تميم بن المعز بن باديس

الصنهاجي «1» ، وكان أبوه (9) أبو الفتوح «2» قد فارق أخاه علي بن يحيى «3» صاحب أفريقية، وقدم إلى الديار المصرية وتوفي بها، فتزوج العادل بن السّلّار بزوجة أبي الفتوح ومعها ولدها عباس، فرباه العادل، وأحسن تربيته، ولما قدم العادل إلى مصر يريد الاستيلاء على الوزارة أرسل ربيبه [عباسا] «4» في عسكر إلى ابن مصال فظفر به عباس وقتله وعاد إلى العادل بالقاهرة فاستقر العادل في الوزارة وتمكن، ولم يكن للخليفة معه حكم وبقي كذلك إلى سنة ثمان وأربعين وخمس مئة فقتله ربيبه عباس «5» وتولى الوزارة على ما سنذكره «6» . وفيها، حصر نور الدين محمود بن زنكي حصن حارم، فجمع البرنس «7» صاحب أنطاكية الفرنج وسار إلى نور الدين واقتتلوا، فانتصر نور الدين وقتل البرنس، وانهزم الفرنج، وكثر القتل فيهم، ولما قتل البرنس ملك بعده ابنه بيمند «8»

وهو طفل، وتزوجت أمه برجل آخر وتسمى بالبرنس «1» . ثم إن نور الدين غزاهم غزوة أخرى فهزمهم وقتل منهم وأسر وكان فيمن أسر البرنس الثاني زوج أم بيمند فتمكن حينئذ بيمند في ملك أنطاكية. وفيها، زلزلت الأرض زلزلة شديدة. وفيها، توفي معين الدين أنر «2» [نائب أبق] «3» صاحب دمشق، وهو الذي كان ينسب إليه الحكم فيها، وإليه ينسب قصر معين الدين الذي في الغور «4» . وفيها، تولى أبو المظفر يحيى بن هبيرة «5» وزارة الخليفة (10) المقتفي «6»

وفي سنة خمس وأربعين وخمس مئة

يوم الأربعاء رابع ربيع الآخر، وكان قبل ذلك اليوم صاحب ديوان الزمام «1» . وفي سنة خمس وأربعين وخمس مئة «13» في رابع عشر المحرم، أخذت العرب جميع الحجاج بين مكة والمدينة، فهلك أكثرهم، ولم يصل منهم إلى البلاد إلا القليل. وفيها، سار نور الدين محمود بن زنكي إلى فامية «2» ، وحصر قلعتها وتسلمها من الفرنج، وحصّنها بالرجال والذخائر، وكان قد اجتمع الفرنج وساروا ليرحلوه عنها، فملكها قبل وصولهم، فلما بلغهم فتحها تفرقوا. وفيها، سار الأذفونش صاحب طليطلة بجموع الفرنج إلى قرطبة وحصرها ثلاثة أشهر، ولم يملكها ورحل عنها. وفي سنة ست وأربعين وخمس مئة «14» انهزم «3» نور الدين من جوسلين «4» ، ثم أسر جوسلين، وكان جوسلين من

أعظم فرسان الفرنج قد جمع بين الشجاعة وجودة الرأي، وكان نور الدين قد عزم على قصد بلاده، فجمع جوسلين الفرنج وأكثر وسار نحو نور الدين والتقوا فانهزم المسلمون، وأسر منهم جمع كثير، وكان من جملة من أسر منهم السلاح دار، ومعه سلاح نور الدين فأرسله جوسلين إلى مسعود بن قليج أرسلان «1» صاحب قونية وأقصرا، وقال: هذا سلاح زوج ابنتك، وسيأتيك بعده ما هو أعظم منه، فعظم ذلك على نور الدين، وهجر [الملاذ] «2» وأفكر في أمر جوسلين، وجمع التركمان، وبذل لهم الوعود إن ظفروا به إما (11) بإمساك أو بقتل، فاتفق أن جوسلين طلع إلى الصيد فكبسه التركمان وأمسكوه، فبذل لهم مالا فأجابوا إلى إطلاقه، فسار بعض التركمان إلى أبي بكر بن الداية «3» نائب نور الدين بحلب، فأرسل عسكرا كبسوا التركمان الذين عندهم جوسلين، وأحضروه إلى نور الدين أسيرا، وكان أسر جوسلين من أعظم الفتوح، وأصيب النصرانية كافة بأسره. ولما أسر سار نور الدين إلى بلاده وقلاعه وملكها، وهي «4» : تلّ باشر، وعين تاب، ودلوك، وأعزاز، وتل خالد، وقورس، والراوندان، وبرج

وفي سنة سبع وأربعين وخمس مئة

الرّصاص، وحصن البارة، وكفر سود «1» ، وكفر لاثا، ومرعش، ونهر الجوز، وغير ذلك في مدة يسيرة. وكان نور الدين كلما فتح منها موضعا حصنه بما يحتاج إليه من الرجال والذخائر. وفي سنة سبع وأربعين وخمس مئة «13» سار عبد المؤمن بن علي إلى بجاية وملكها، وملك جميع ممالك بني حماد، وأخذها من صاحبها يحيى بن العزيز آخر ملوك بني حماد، وكان يحيى المذكور مولعا بالصيد واللهو ولا ينظر في شيء من أمر مملكته، ولما هزم عبد المؤمن عسكر يحيى هرب وتحصن بقلعة [قسنطينة] «2» من بلاد بجاية، ثم نزل يحيى إلى عبد المؤمن بالأمان، فأمنه وأرسله إلى بلاد المغرب، وأقام بها، وأجرى عليه عبد المؤمن رزقا كثيرا، وقد ذكر في «تاريخ القيروان» «3» أن مسير عبد المؤمن، وملكه تونس وأفريقية إنما كان في سنة أربع وخمسين [وخمس مئة] «4» . (12) وفي هذه السنة [وقيل في أواخر سنة ستّ وأربعين] في أول رجب توفي السلطان مسعود بن محمد بن السلطان ملكشاه «5» بهمذان، ومولده سنة

اثنتين وخمس مئة في ذي القعدة، ومات معه سعادة ألبيت السّلجوقي، فلم تقم لهم بعده راية يعتدّ بها، وكان حسن الأخلاق، كثير المزاح والانبساط مع الناس، كريما، عفيفا عن أموال الرعايا، ولما مات عهد بالملك إلى ابن أخيه ملكشاه بن محمود «1» ، فقعد في السلطنة، وخطب له، وكان المتغلب على الملك أمير يقال له خاص بيك «2» ، وأصله صبيّ تركمانيّ اتصل بخدمة مسعود فتقدم على سائر أمرائه، ثم إن خاص بيك المذكور قبض على السلطان ملكشاه بن محمود وسجنه «3» ، وأرسل إلى أخيه محمد بن محمود «4» وهو بخوزستان فأحضره وتولى السلطنة وجلس على السرير وكان قصد خاص بيك أن يمسكه ويخطب لنفسه بالسلطنة فبدره السلطان محمد ثاني يوم وصوله فقتل خاص بيك وقتل معه زنكي الجاندار وألقى [برأسيهما] «5» فتفرق أصحابهما. وفيها، جمعت الفرنج وساروا إلى نور الدين وهو محاصر دلوك، فرحل عنها،

[ذكر] ابتداء ظهور دولة الغورية وانقراض آل سبكتكين

وقاتلهم أشدّ قتال وهزمهم، وقتل وأسر منهم خلق كثير، ثم عاد نور الدين إلى دلوك فملكها، ومما مدح به في ذلك «1» : (المتقارب) أعدت بعصرك هذا الجد ... يد فتوح النبيّ وأعصارها (13) وفي تلّ باشر باشرتهم ... بزحف تسوّر أسوارها وإن دالكتهم دلوك فقد ... شددت «2» فصدّقت أخبارها [ذكر] «3» ابتداء ظهور دولة الغوريّة وانقراض آل سبكتكين أول من اشتهر من الملوك الغوريّة أولاد الحسين، وأولهم محمد بن الحسين، وكان قد صاهر بهرام شاه بن مسعود «4» صاحب غزنة من آل سبكتين، وسار محمد بن [الحسين] «5» إلى غزنة مظهرا الطاعة لبهرام شاه ويبطن الغدر، فأمسكه بهرام وقتله [ولما قتل ملك بعده أخوه سام بن الحسين فمات بالجدري] «6» ، فتولى بعده في الملوك الغوريّة أخوه سودى» بن الحسين، وسار إلى غزنة طالبا بثأر أخيه، وجرى القتال بينه وبين بهرام شاه، فظفر به بهرام شاه

وقتله، وانهزم عسكره «1» . واستمر بهرام شاه في ملك غزنة، ثم توفي بهرام شاه وتولى بعده ابنه خسرو شاه «2» ، وتجهز علاء الدين (بن) الحسين «3» ملك الغوريّة وسار إلى غزنة في سنة خمسين وخمس مئة فلما قرب (14) [منها] «4» فارقها صاحبها خسرو شاه بن بهرام شاه وسار إلى لهاوور وملك علاء الدين الحسين بن الحسين غزنة ونهبها ثلاثة أيام، وتلقب علاء الدين بالسلطان المعظم، وحمل الجتر على عادة السلاطين السلجوقية، وأقام الحسين على ذلك مدة، واستعمل على غزنة ابني

أخيه غياث الدين محمد بن سام «1» ، و [أخاه] «2» شهاب الدين محمد بن سام «3» ثم جرى بينهما وبين عمّهما علاء الدين حرب انتصرا فيها وأسرا عمهما ثم أطلقاه وأجلساه على التّخت ووقفا في خدمته، واستمر في السلطان، وزوج غياث الدين بابنته، وجعله وليّ عهده، وبقي كذلك إلى أن مات علاء الدين الحسين بن الحسين في سنة ستّ وخمسين على ما سنذكره «4» ، وملك بعده غياث الدين محمد بن سام بن الحسين، وخطب لنفسه بالغور وغزنة بالملك، ثم استولى الغزّ على غزنة وملكوها منه مدة خمس عشرة سنة، فأرسل غياث الدين أخاه شهاب الدين إلى غزنة فهزم الغزّ عنها، وقتل منهم خلقا كثيرا، واستولى على غزنة وما جاورها من البلاد مثل كرمان وسزران «5» وماء السند، ورود نهار وبها خسرو شاه بن بهرام شاه السبكتكيني فملكها شهاب الدين [في سنة تسع وسبعين وخمس مئة بعد حصار] «6» ، وأعطى خسرو شاه الأمان، وحلف له، فحضر خسرو شاه عند شهاب الدين [بن سام المذكور، فأكرمه شهاب الدين وأقام خسرو شاه على ذلك شهرين، ولما بلغ غياث الدين بن سام ذلك أرسل إلى

أخيه شهاب الدين] يطلب منه خسرو شاه، فأمره شهاب الدين بالتوجه، فقال له خسرو شاه: (15) أنا ما أعرف أخاك ولا أسلمت نفسي إلا إليك، فطيّب خاطره، وأرسل معه ولده مع أبيه «1» إلى غياث الدين، وأرسل معهما عسكرا يحفظونهما، فلما وصلا إلى الغور لم يجتمع بهما غياث الدين، وإنما أمر بهما فرفعا إلى بعض القلاع، وكان آخر العهد بهما. وخسرو شاه المذكور هو ابن بهرام شاه بن مسعود بن محمود بن سبكتكين، وهو آخر ملوك سبكتكين، وكان ابتداء دولتهم سنة ستّ وستين وثلاث مئة، وملكوا مئتي سنة وثلاث عشرة سنة تقريبا فيكون انقراض دولتهم سنة ثمان وسبعين وخمس مئة، وقدمنا ذلك لتتصل أخبارهم. وكان ملوكهم من أحسن الملوك سيرة، وقيل: إن خسرو شاه توفي في الملك، وملك بعده ولده ملكشاه «2» على ما نشير إليه في موضعه إن شاء الله تعالى. ولما استقر ملك الغوريّة بلهاوور واتسعت مملكتهم، وكثرت عساكرهم كتب غياث الدين إلى أخيه شهاب الدين بإقامة الخطبة له بالسلطنة، وتلقب بألقاب منها: معين الإسلام، قسيم أمير المؤمنين، ولما استقرّ ذلك سار شهاب الدين إلى أخيه غياث الدين، وسارا إلى خراسان، وقصدا مدينة هراة وحصراها، وتسلمها غياث الدين بالأمان، ثم سار وأخوه بعساكرهما إلى بوشنج فملكاها، ثم إلى باذغيس وكالين وبيوار (16) [فملكاها] «3» ثم رجع غياث الدين إلى بلده فيروزكوه، ورجع أخوه شهاب الدين إلى غزنة.

ولما استقرّ شهاب الدين بغزنة قصد بلاد الهند وفتح مدينة آجر «1» ، ثم رجع إلى غزنة، ثم قصد الهند فذلل صعابها، وتيسر له فتح الكثير من بلادها، ودوخ ملوكها، وبلغ منها كلّ مبلغ، ولما كبر فتوحه للهند اجتمعت الهند مع ملوكهم في خلق كثير والتقوا شهاب الدين، وجرى بينهم قتال عظيم، فانهزم المسلمون، وجرح شهاب الدين وبقي مع القتلى، ثم اجتمعت عليه أصحابه وحملوه إلى مدينة آجر، واجتمعت عليه عساكره، وأقام في آجر حتى اجتمعت عليه أمداد أخيه غياث الدين، ثم اجتمعت الهنود وتنازل الجمعان وبينهما نهر، فكبس عسكر المسلمين الهنود، وتمت الهزيمة عليهم، وقتل المسلمون من الهنود ما يفوق الحصر، وقتلت [ملكتهم] «2» ، وتمكن شهاب الدين بعد هذه الوقعة من بلاد الهند، وأقطع مملوكه قطب الدين أيبك «3» مدينة دلهي وهي من كراسي ممالك الهند، فأرسل أيبك عسكرا مع مقدم يقال له محمد بن بختيار «4» فملكوا من الهند مواضع ما وصلها مسلم قبله، حتى قاربوا جهة الصين. وفيها، توفي حسام الدين تمرتاش بن إلغازي «5» ، صاحب ماردين وميّافارقين، وكانت ولايته نيفا وثلاثين سنة لأنه تولى بعد موت أبيه في سنة ستّ عشرة وخمس مئة (17) حسبما تقدم «6» ، وتولى بعده ابنه نجم الدين ألبي «4» .

وفي سنة ثمان وأربعين وخمس مئة

وفي سنة ثمان وأربعين وخمس مئة «13» في المحرم انهزم السلطان سنجر «1» من الأتراك الغزّ، وهم طائفة من مسلمي الترك كانوا بما وراء النهر فلما ملكهم الخطا أخرجوهم منه، فقصدوا خراسان، وأقاموا بنواحي بلخ مدة طويلة، ثم عنّ للأمير قماج «2» مقطع بلخ أن يخرجهم من [بلاده] «3» [فامتنعوا] «4» فسار إليهم في عشرة آلاف فارس، فحضر إليه كبراء الغزّ وسألوه أن يكفّ عنهم ويتركهم في مراعيهم و [يعطوه] «5» من كلّ بيت مئتي درهم، فلم يجبهم إلى ذلك، وأصرّ على إخراجهم أو قتالهم فقاتلوه وهزموه وتبعوه يقتلون ويأسرون ثم عاثوا في البلاد، فاسترقّوا النساء والأطفال وخربوا المدارس، وقتلوا الفقهاء، فسار قماج إلى السلطان سنجر منهزما، وأعلمه بالحال، فسار إليهم سنجر في عساكره وهم نحو مئة ألف فارس، فأرسل الغزّ يعتذرون إليه مما وقع، وبذلوا له بذلا كثيرا ليكفّ عنهم فلم يجبهم وقصدهم ووقعت بينهم حرب شديد (ة) فانهزم عسكر سنجر وتبعهم الغزّ يقتلون ويأسرون فقتل علاء الدين قماج وأسر السلطان سنجر، وأسر معه جماعة من الأمراء فضربوا أعناقهم، وأما سنجر فإنهم لما أسروه اجتمع رؤساء الغزّ وقبلوا

الأرض بين يديه، وقالوا: نحن عبيدك، ولا نخرج عن (18) طاعتك وبقي معهم كذلك ثلاثة أشهر، ودخلوا معه إلى مرو وهي كرسيّ ملك خراسان فطلبها منه بختيار رئيس من رؤساء الغزّ إقطاعا فقال سنجر: هذه دار الملك ولا يجوز أن تكون إقطاعا لأحد، فضحكوا منه وحبق له بختيار بفمه، فلما رأى سنجر ذلك نزل عن سرير الملك ودخل خانقاه «1» مرو وتاب من الملك. واستولى الغزّ على البلاد فنهبوا نيسابور، وقتلوا الكبار والصغار، وقتلوا القضاة والعلماء [والصلحاء] «2» الذين بتلك البلاد، فقتلوا الحسين بن محمد الأرسابندي «3» ، والقاضي عليّ بن مسعود «3» ، والشيخ محيي الدين محمد بن يحيى «4» الفقيه الشافعيّ الذي لم يكن في زمانه مثله، كان رحلة الناس من الشرق والغرب، وغيرهم من الأئمة والفضلاء، ولم يسلم شيء من خراسان من النهب غير هراة ودهستان لحصانتهما. ولما كان من هزيمة سنجر وأسره ما كان اجتمع عسكره على مملوكه أي به «5» ولقبه المؤيد، واستولى المؤيد على نيسابور، وطوس، ونسا، وأبيورد، وشهرستان، والدامغان، وأزاح الغزّ عنها، وأحسن السيرة في الناس، وكذلك استولى في

السنة المذكورة على الريّ مملوك لسنجر اسمه اينانج» ، وهادى الملوك، واستقرت قدمه، وعظم شأنه. وفيها، قتل العادل بن السّلّار «2» وزير الظافر العلويّ، قتله ربيبه عباس بن أبي الفتوح (19) الصنهاجيّ بإشارة أسامة بن منقذ، وكان العادل قد تزوج أم عباس المذكور وأحسن تربيته، فجازاه بقتله، وولي مكانه، وكانت الوزارة في مصر لمن غلب. وفيها، كان بين عبد المؤمن ملك الغرب وبين العرب حرب شديد (ة) انتصر [فيها] «3» عبد المؤمن «4» . وفيها، مات رجّار الفرنجي «5» ملك صقلّية بالخوانيق وعمره نحو ثمانين سنة وملكه [عشرون] «6» سنة، وملك بعده ابنه غليالم. وفيها، في رجب توفي بغزنة بهرام شاه بن مسعود السبكتكينيّ «7» صاحب غزنة، وقام بالملك بعده ولده نظام الدين خسرو شاه، وكانت مدة ملك بهرام نحو

وفي سنة تسع وأربعين وخمس مئة

ست وثلاثين سنة، وذلك من حين قتل أخاه أرسلان شاه في سنة اثنتي عشرة وخمس مئة، [و] «1» كان ابتداء ولايته من حين هزم أخوه قبل ذلك بثلاث سنين حسبما تقدم ذكره في السنة المذكورة «2» ، وكان بهرام حسن السيرة. وفيها، ملك الفرنج مدينة عسقلان، وكانت لخلفاء مصر، والوزراء يجهزون إليها المؤن والسلاح، فلما كانت هذه السنة قتل العادل بن السّلّار، واختلفت الأهواء بمصر، فتمكن الفرنج من عسقلان وحاصروها وملكوها. وفيها، وصلت مراكب من صقلّية فملكوا مدينة [تنيس] «3» بالديار المصرية. وفي سنة تسع وأربعين وخمس مئة «13» في المحرم، قتل الظافر بأمر الله أبو منصور (20) إسماعيل بن الحافظ العلوي «4» ، قتله وزيره عباس الصنهاجيّ، وسببه أنه كان لعباس ولد حسن الصورة اسمه نصر «5» ، فأحبّه الظافر وما بقي يفارقه، وكان قد قدم من الشام مؤيّد الدولة أسامة بن منقذ الكنانيّ في وزارة العادل، فحسّن للعباس قتل العادل فقتله وتولى مكانه، ثم حسّن له قتل الظافر، لأنه قال له: كيف تصبر على ما أسمع من قبيح القول؟ فقال له عباس: ما هو؟ فقال: إن الناس يقولون إن الظافر يفعل بابنك نصر، فأنف عباس، وأمر ابنه نصرا فدعا الظافر إلى بيته وقتلاه وقتلا

كلّ من معه، وسلم خادم صغير فحضر إلى القصر وأعلمهم بقتل الظافر، ثم حضر عباس إلى القصر وطلب الاجتماع بالظافر، وطلبه من أهل القصر فلم يجدوه، فقال: أنتم قد قتلتموه، وأحضر أخوين للظافر يقال لهما يوسف وجبريل وقتلهما عباس، ثم أحضر الفائز بنصر الله أبا القاسم عيسى بن الظافر إسماعيل «1» ثاني يوم قتل أبيه وله من العمر خمس سنين «2» فحمله عباس على كتفه، وأجلسه على سرير الملك، وبايعه الناس، وأخذ عباس من القصر من الأموال والجواهر النفيسة شيئا كثيرا، ولما فعل عباس ذلك اختلفت عليه الكلمة، وثار عليه الجند. وكان طلائع بن رزّيك في منية ابن خصيب «3» واليا عليها، فأرسل إليه أهل القصر من النساء والخدم يستغيثون به (21) وكان فيه شهامة فجمع جمعه وقصد عباسا فهرب عباس ومن معه إلى الشام بالأموال والتحف التي لا يوجد مثلها، ولما كان عباس في أثناء الطريق خرجت عليه الفرنج فقتلوه وأخذوا ما كان معه، وأسروا ابنه نصرا. وكان قد استقرّ طلائع بن رزّيك بعد هروب عباس في الوزارة، ولقب الملك الصالح، فأرسل إلى الفرنج وبذل لهم مالا، وأخذ [منهم] «4» نصر بن عباس وأحضر [هـ] «4» إلى مصر [وأدخل القصر] «4» فقتل وصلب «5» على باب

ذكر ملك نور الدين محمود دمشق

زويلة «1» . وأما أسامة بن منقذ فإنه كان مع عباس، فلما قتل عباس هرب أسامة ونجا إلى الشام، ولما استقرّ أمر الصالح بن رزّيك وقع في الأعيان بالديار المصرية وأبادهم بالقتل والهروب إلى البلاد البعيدة «2» . وفيها، سار المقتفي لأمر الله بعساكر بغداد وحصر تكريت وأقام عليها عدة مناجيق، ثم رحل عنها ولم يظفر بها. ذكر ملك نور الدين محمود دمشق كان الفرنج قد تغلبوا بتلك الناحية بعد ملكهم عسقلان حتى إنهم استعرضوا كلّ جارية ومملوك بدمشق من النصارى وأطلقوا قهرا كل من أراد منهم الخروج من دمشق واللحوق بوطنه، شاء صاحبه أو أبى، فخشي نور الدين محمود بن زنكي أن يملكوا دمشق، فكاتب أهل دمشق واستمالهم في الباطن، ثم سار إليها وحصرها (22) ففتح له باب الشرقي فدخل [منه] «3» وملك المدينة، وحصر مجير الدين آبق بن محمد بن بوري بن طغتكين في القلعة، وبذل له إقطاعا من جملته مدينة حمص، فسلّم مجير الدين، وأعطاه «4» عوضها بالس «5» ، فلم يرضها مجير الدين وسار عنها إلى العراق، وأقام ببغداد، وابتنى

[ثم دخلت سنة خمسين وخمس مئة

دارا بقرب النظامية «1» وسكنها حتى مات بها. وفيها، أخذ نور الدين قلعة تلّ باشر من الفرنج. «2» [ثم دخلت سنة خمسين وخمس مئة «13» في هذه السنة سار الخليفة المقتفي إلى دقوقاء «3» فحصرها، وبلغه حركة عسكر الموصل إليه، فرحل عنها ولم يبلغ غرضا. وفيها، هجم الغزّ نيسابور بالسيف، وقيل: كان معهم السلطان سنجر معتقلا وله اسم السلطنة ولكن لا يلتفت إليه، وكان إذا قدّم إليه الطعام يدّخر منه ما يأكله وقتا آخر خوفا من انقطاعه عنه لتقصيرهم في حقه] . سنة إحدى وخمسين وخمس مئة إلى ستين وخمس مئة في سنة إحدى [وخمسين وخمس مئة «14» ] «4» ثارت أهل بلاد أفريقيّة على من بها من الفرنج فقتلوهم «5» .

وسار عسكر عبد المؤمن فملك بونة، وخرج جميع أهل أفريقية عن طاعة الفرنج ما عدا المهديّة وسوسة. وفيها، قبض زين الدين علي كوجك نائب قطب الدين مودود بن زنكي صاحب الموصل على الملك سليمان شاه بن السلطان محمد بن ملكشاه السلجوقي «1» ، وكان سليمان المذكور قد قدم بغداد وخطب له بالسلطنة في هذه السنة، وخلع عليه الخليفة [المقتفي] ، وقلده السلطنة على عادتهم، وخرج من بغداد بعسكر الخليفة ليملك به بلاد الجبل فاقتتل هو و [ابن أخيه] «2» السلطان محمد بن محمود بن ملكشاه، فانهزم سليمان شاه وسار يريد بغداد على شهرزور، فخرج إليه [علي] «3» كوجك بعسكر الموصل فأسره وحبسه بقلعة (23) الموصل مكرما إلى أن كان منه ما نذكره في سنة خمس وخمسين «4» [وخمس مئة] «5» . وفيها، (في) تاسع جمادى الآخرة توفي خوارزم أطسز بن محمد بن أنوشتكين «6» ، وكان قد أصابه فالج فاستعمل أدوية شديدة الحرارة، فاشتدّ مرضه وتوفي، وكانت ولادته في رجب سنة تسعين وأربع مئة، وكان حسن السيرة،

وملك بعده ابنه أرسلان «1» . وفيها، توفي الملك مسعود بن قليج بن أرسلان بن سليمان بن قطلومش بن أرسلان بن سلجوق «2» صاحب قونية وغيرها من بلاد الروم، ولما توفي ملك بعده ابنه قليج أرسلان «3» . وفيها، في رمضان هرب السلطان سنجر بن ملكشاه من أسر الغزّ، وسار إلى قلعة ترمذ، ثم إلى جيحون، ووصل إلى دار ملكه مرو، وكانت مدة أسره من سادس جمادى الأولى سنة ثمان وأربعين إلى رمضان سنة إحدى وخمسين. وفيها، بايع عبد المؤمن لولده محمد «4» بولاية العهد، وكانت ولاية العهد بعده لأبي حفص عمر «5» وكان من أصحاب ابن تومرت «6» من أكبر الموحدين، فأجاب إلى خلع نفسه والبيعة لابن عبد المؤمن. وفيها، استعمل عبد المؤمن أولاده على البلاد، فاستعمل ابنه عبد الله «4» على بجاية وأعمالها، وابنه عمر «4» على تلمسان وأعمالها، وابنه عليا على فاس وأعمالها، وابنه أبا سعيد على سبتة والجزيرة الخضراء ومالقة، وكذلك (24)

غيرهم. وفيها، سار الملك محمد بن السلطان [محمود] «1» السلجوقي من همذان بعساكره إلى بغداد، وحصرها، وجرى بينهم قتال، وحصّن الخليفة [المقتفي] «2» دار الخلافة واعتدّ للحصار، واشتدّ الأمر على أهل بغداد، وبينا الملك محمد على ذلك إذ وصل إليه الخبر أن أخاه ملك شاه وإلدكز «3» صاحب بلاد أران ومعه الملك أرسلان بن طغريل بن السلطان محمد «4» ، وكان إلدكز مزوجا بأم أرسلان المذكور قد دخلوا إلى همذان، فسار الملك محمد من بغداد إليهم في الرابع والعشرين من ربيع الأول سنة اثنتين وخمسين وخمس مئة. وفيها، احترقت بغداد، فاحترق درب فراشا، [ودرب الدواب] «5» ، ودرب اللبان، وخزانة ابن جرد «6» ، والظفرية، والخاتونية، ودار الخلافة، وباب الأزجّ، وسوق السلطان، وغير ذلك.

وفي سنة اثنتين وخمسين وخمس مئة

وفيها، قتل مظفر بن حماد «1» صاحب البطيحة «2» في الحمام، وتولى بعده ابنه. وفي سنة اثنتين وخمسين وخمس مئة «13» في رجب كان بالشام زلازل قوية، فخربت بها حماه وشيزر وحمص وحصن الأكراد وطرابلس وأنطاكية وغيرها من البلاد المجاورة لها حتى وقعت الأسوار والقلاع، فقام نور الدين بن زنكي في ذلك القيام الرضيّ من تداركها بالعمارة وإغارته على الفرنج ليشغلهم عن قصد البلاد، وهلك تحت الروم ما لا يحصى، ويكفي أن معلم كتّاب كان بمدينة حماه فارق المكتب، وجاءت الزلزلة (25) فسقط المكتب على الصبيان كلّهم فلم يحضر أحد يسأل عن صبيّ هناك لهلاكهم. ولما خربت [قلعة] «3» شيزر بهذه الزلزلة وسقط سورها بادر إليها «4» [نور الدين محمود بن زنكي، وكان بالقرب منها فصعد إليها وتسلمها وتملكها] «5» ، وعمّر أسوارها. وكانت «6» شيزر لبني منقذ الكنانيين يتوارثونها من أيام صالح بن مرداس «7»

هكذا ذكر ابن الأثير في «الكامل» «1» أن بني منقذ المذكورين ملكوا شيزر من أيام صالح بن مرداس، فكان ملك صالح بن مرداس حلب في سنة أربع عشرة وأربع مئة، وانقضى ملكه سنة عشرين وأربع مئة، وقد ذكر «2» القاضي شمس الدين بن خلّكان «3» ، والقاضي شهاب الدين بن أبي الدم الحموي «4» وغيرهما ما يخالف ذلك، ونحن نذكر ما قالوه مختصرا ثم نرجع إلى ما ذكره ابن الأثير، قالوا: وفي سنة أربع وسبعين وأربع مئة استولى بنو منقذ على شيزر وأخذوها من الروم، قال ابن أبي الدم: وكان فتحها منهم علي بن مقلّد بن نصر بن منقذ «5» ،

قال: وورد كتاب إلى بغداد يشرح قصته، فمنه بعد البسملة «1» : «كتابي من حضرة شيزر حماها الله تعالى، وقد رزقني الله عزّ وجلّ من الاستيلاء على هذا المعقل العظيم ما لم يأت لمخلوق في هذا الزمان، وإذا عرف الأمر على حقيقته علم أني هاروت هذه الأمة، وسليمان الجنّ والمردة، ولأني أفرق بين المرء وزوجه، وأستنزل القمر من محلّه، أنا أبو النجم وشعرى «2» [هذه الأمة] «3» نظرت إلى هذا الحصن فرأيت (26) أمرا يذهل الألباب، يسع ثلاثة آلاف بالأهل والمال، وتمسكه خمس نسوة، فعمدت إلى تل بينه وبين حصن الروم يعرف بالخراص «4» ، ويسمى هذا التلّ تلّ الجسر، فعمرته حصنا، وجمعت فيه أهلي وعشيرتي وقفزت قفزة على حصن [الروم] «5» فأخذته بالسيف من الروم، ومع ذلك فلما أخذت من به من الروم أحسنت إليهم وأكرمتهم ومزجتهم بأهلي وعشيرتي، وخلطت خنازيرهم بغنمي، ونواقيسهم بصوت الأذان، فرأى أهل شيزر فعلي ذلك، وأنسوا بي، ووصل إليهم من الإكرام والإتحاف، فوصل إليّ منهم نصفهم، فبالغت في إكرامهم، ووصل إليّ مسلم بن قريش «6» فقتل منهم

من أهل شيزر نحو عشرين رجلا، فلما انصرف عنهم مسلم سلّموا الحصن إليّ» . هذا خلاصة ما ذكره القاضي شهاب الدين المذكور وبين ما ذكره وما ذكر ابن الأثير من التفاوت أكثر من خمسين سنة. قال الملك عماد الدين «1» : والذي يخطر لي أن ما ذكره ابن الأثير أولى، لأنّ حماة وشيزر فتحتا مع الشام على يد أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، واستمرّ الشام للمسلمين إلى سنة تسعين وأربع مئة، فسار الفرنج إلى الشام، وملكوا غالبه بسبب اشتغال ملوك المسلمين بقتال بعضهم بعضا، ولم يذكر ملكهم لشيزر. قال ابن الأثير: فلما انتهى ملك شيزر إلى نصر بن علي بن منقذ استمرّ فيها إلى أن مات سنة إحدى وتسعين وأربع مئة «2» ، فلما حضره الموت استخلف (27) أخاه مرشد بن عليّ «3» على حصن شيزر، فقال مرشد: والله لا وليته ولأخرجنّ من الدنيا كما دخلتها، ومرشد هو والد مؤيد الدولة أسامة بن منقذ، فلما امتنع

مرشد من الولاية ولاها نصر أخاه الصغير سلطان الدولة بن عليّ «1» ، واستمر مرشد مع أخيه سلطان على أجمل صحبة مدة من الزمان، وكان لمرشد عدة أولاد نجباء ولم يكن لسلطان ولد، ثم جاء لسلطان الأولاد فخشي عليهم من أولاد أخيه مرشد، وسعى المفسدون بين مرشد وسلطان فتغير كلّ منهما على صاحبه، فكتب سلطان إلى أخيه مرشد أبياتا يعاتبه، وكان مرشد عالما بالأدب والشعر، فأجابه مرشد بقصيدة طويلة منها «2» : (الطويل) شكت هجرنا والذنب في ذاك ذنبها ... فيا عجبا من ظالم جاء شاكيا وطاوعت الواشين فيّ وطالما ... عصيت عذولا في هواها وواشيا ومال بها تيه الجمال إلى القلى ... وهيهات أن أمسي لها الدهر قاليا ولما أتاني من قريضك جوهر ... جمعت المعالي فيه [لي] «3» والمعانيا وكنت هجرت الشعر حينا لأنّه ... تولى برغمي حين ولى شبابيا وقلت: أخي يرعى بنيّ وأسرتي ... ويحفظ عهدي فيهم وذماميا فمالك لما أن حنى الدهر صعدتي ... وثلّم مني صارما كان ماضيا تنكرت حتى صار برّك قسوة ... وقربك مني «4» جفوة وتنائيا (28) على أنني ما حلت عما عهدته ... ولا غيرت هذي السنون وداديا وكان الأمر بين مرشد وأخيه سلطان فيه تماسك إلى أن توفي مرشد سنة إحدى وثلاثين وخمس مئة، فأظهر سلطان التغير على أولاد أخيه مرشد،

وجاهرهم بالعداوة، ففارقوا شيزر، وقصد أكثرهم نور الدين محمود بن زنكي، وشكوا إليه من عمّهم سلطان، فغاظه ذلك ولم يمكنه قصده لانشغاله بجهاد الفرنج، وبقي سلطان كذلك إلى أن توفي وولي بعده أولاده، فلما خربت القلعة هذه السنة بالزلزلة لم ينج من بني منقذ الذين كانوا بها أحد، فإنّ صاحبها «1» كان قد ختن ولده، وعمل دعوة للناس، وأحضر جميع بني منقذ في داره، وجاءت الزلزلة فسقطت القلعة والدار عليهم فهلكوا عن آخرهم، وكان لصاحب شيزر ابن منقذ حصان يحبّه، ولا يزال على باب داره، فلما سقطت الدار سلم من بني منقذ واحد وهرب يطلب باب الدار فلما خرج [من الباب] «2» رفسه الحصان المذكور فقتله، وتسلم نور الدين القلعة والمدينة. «3» وفي هذه السنة توفي السلطان سنجر بن ملك شاه بن ألب أرسلان بن داود بن ميكائيل بن سلجوق «4» ، وأصابه قولنج ثم إسهال فمات منه، ومولده بسنجار في رجب سنة تسع وسبعين وأربع مئة، استوطن مدينة مرو من خراسان، وقدم بغداد مع أخيه السلطان محمد (29) واجتمع بالخليفة المستظهر «5» ، فلما مات محمد خوطب سنجر بالسلطان، واستقام أمره، وأطاعته السلاطين، وخطب له على منابر الإسلام بالسلطنة نحو أربعين سنة،

وفي سنة ثلاث وخمسين وخمس مئة

وكان قبلها يخاطب بالملك نحو عشرين سنة، ولم يزل أمره عاليا إلى أن أسره الغزّ، ولما خلص من أسرهم وكاد يعود إليه ملكه أدركه أجله، وكان مهيبا كريما، وكانت البلاد في زمانه آمنة، ولما وصل خبر موته إلى بغداد قطعت خطبته، ولما حضر السلطان سنجر الموت استخلف على خراسان الملك محمود بن محمد بن بغرا خان «1» ، وهو ابن أخت سنجر، فأقام خائفا من الغزّ. وفيها، استولى أبو سعيد بن عبد المؤمن على غرناطة من الأندلس وأخذها من الملثمين، وانقرضت دولة الملثمين ولم يبق لهم غير جزيرة ميورقة، ثم سار أبو سعيد في جزيرة الأندلس وفتح المريّة، وكانت بأيدي الفرنج مدة عشر سنين. وفيها، أخذ نور الدين بعلبك من إنسان كان استولى عليها، يقال له الضحاك البقاعيّ، وكان قد ولاه صاحب دمشق «2» عليها، فلما ملك نور الدين دمشق استولى الضحّاك على بعلبك «3» . وفيها، قلع الخليفة باب الكعبة وعمل عوضه بابا مصفحا بالفضة والذهب، وعمل لنفسه من الباب الأول تابوتا يدفن فيه. وفي سنة ثلاث وخمسين وخمس مئة «13» قصد السلطان ملكشاه بن محمود السلجوقيّ قم وقاشان (30) ونهبهما، وكان أخوه السلطان محمد بن محمود بعد رحيله عن حصار بغداد قد مرض

وفي أواخر سنة أربع وخمسين وخمس مئة

وطال مرضه، فأرسل إلى أخيه [ملكشاه] «1» أن يكفّ عن النهب، ويجعله وليّ عهده فلم يقبل ملكشاه ذلك، ثم سار ملكشاه إلى خوزستان فأخذها من صاحبها شملة التركماني «2» . وفي أواخر سنة أربع وخمسين وخمس مئة «13» نزل عبد المؤمن (بن) عليّ مدينة المهديّة وأخذها من الفرنج يوم عاشوراء سنة خمس وخمسين وملك جميع أفريقية، وكان قد ملك الإفرنج أفريقيّة في سنة ثلاث وأربعين وخمس مئة، وأخذوها من صاحبها الحسن بن عليّ بن يحيى بن تميم الصنهاجي «3» ، وبقيت في أيديهم إلى هذه السنة ففتحها عبد المؤمن، فكان ملك الفرنج للمهديّة اثنتي عشرة سنة تقريبا، ولما ملكها عبد المؤمن أصلح أحوالها واستعمل عليها بعض أصحابه وجعل معه الحسن بن عليّ الصنهاجيّ الذي كان صاحبها، وكان قد سار إلى بني حماد ملوك بجاية ثم اتصل بعبد المؤمن حسبما تقدم، فأقام عنده مكرما إلى هذه السنة، فأعاده عبد المؤمن إلى المهديّة، وأعطاه بها دورا نفيسة وإقطاعا، ثم رحل عبد المؤمن عنها إلى المغرب. وفيها، توفي السلطان محمد بن [محمود] «4» بن محمد بن ملكشاه السّلجوقي «5» في ذي الحجة، وهو الذي حاصر بغداد، ولما عاد عنها لحقه سلّ

وطال به فمات بباب همذان، وكان مولده في ربيع الآخر سنة اثنتين وعشرين وخمس مئة، وكان كريما (31) عاقلا، خلف ولدا صغيرا، ولما حضره الموت سلم ولده إلى آقسنقر الأحمديلي «1» ، وقال: أنا أعلم أنّ العساكر لا تطيعه لأنّه طفل فهو وديعة عندك، فارحل به إلى بلادك، فرحل به آقسنقر إلى بلد مراغة. ولما مات السلطان محمد اختلفت الأمراء، فطائفة طلبت ملكشاه أخاه، وطائفة طلبوا سليمان شاه بن محمد بن ملكشاه بن السلطان ألب أرسلان الذي كان اعتقل في الموصل «2» وهم الأكثر، ومنهم من طلب أرسلان بن طغريل الذي [كان] «3» مع إلدكز «4» ، وبعد موت محمد سار أخوه ملك شاه إلى أصفهان وملكها. وفيها، مرض نور الدين محمود بن زنكي مرضا [شديدا] «3» أرجف بموته [وكان] «5» بقلعة حلب، فجمع أخوه أمير ميران بن زنكي» جمعا وحصر قلعة حلب، وكان شير كوه «7» بحمص، وهو من أكبر أمراء نور الدين، فسار إلى

< ذكر دولة بني مهدي في اليمن >

دمشق ليستولي عليها وبها أخوه نجم الدين أيوب، فأنكر عليه أيوب [ذلك] «1» ، وقال: أهلكتنا، المصلحة أن تعود إلى حلب فإن كان نور الدين حيا خدمته في هذا الوقت، وإن كان ميتا فأنا في دمشق أكفيكها، فعاد شير كوه إلى حلب مجدّدا، وجلس نور الدين في شباك يراه الناس، [فكلمهم] «2» فلما رأوه حيا تفرقوا عن أخيه أمير ميران واستقامت الأحوال. (ذكر دولة بني مهدي في اليمن) وفيها، استقرّ في ملك اليمن عليّ بن مهدي «3» ، وأزال ملك بني نجاح على ما قدّمنا ذكره في سنة اثنتي عشرة وأربع مئة «4» . وعلي «5» بن مهديّ المذكور (32) من حمير من قرية يقال لها العنبرة «6»

من سواحل زبيد، كان أبوه مهديّ رجلا صالحا، ونشأ ابنه على طريقة أبيه في العزلة والتمسك بالصلاح، ثم حجّ واجتمع بالعراقيين، وتضلع من معارفهم، ثم صار واعظا، وكان فصيحا صبيحا حسن الصوت، عالما بالتفسير، غزير المحفوظات، وكان يتحدث في شيء من أحوال المستقبلات فيصدق فمالت إليه القلوب، واستفحل أمره، وصار له جموع، فقصد الجبال وأقام بها إلى سنة إحدى وأربعين وخمس مئة، ثم عاد إلى أملاكه، وكان يقول في وعظه: «أيها الناس! دنا الوقت [وأزف] «1» الأمر، كأنكم بما أقول لكم [وقد] «2» رأيتموه عيانا» ، ثم عاد إلى الجبال إلى حصن يقال له الشرف «3» ، وهو لبطن من خولان فأطاعوه وسماهم الأنصار، وسمى كلّ من صعد معه من تهامة المهاجرين، وأقام على خولان رجلا اسمه سبأ وعلى المهاجرين رجلا اسمه النويتي وسمى كلا [من] «4» الرجلين بشيخ الإسلام وجعلهما نقيبين على الطائفتين فلا يخاطبه [ولا يصل] «5» أحد [إليه] «4» غيرهما، وهما يوصلان كلامه إلى الطائفتين [وكلام الطائفتين] «6» وحوائجهما إليه «7» ، وأخذ يغادي الغارات ويراوحها على

التهائم حتى أخلى البوادي، وقطع الحرث والقوافل، ثم إنه حاصر زبيد (ا) ، واستمرّ مقيما عليها حتى [قتل] «1» فاتك بن محمد «2» آخر ملوك بني نجاح قتله عبيده، وجرى بين ابن مهدي وعبيد فاتك حروب شديدة وآخرها أنّ ابن مهديّ انتصر عليهم (33) وملك زبيد (ا) واستقرّ في دار الملك يوم الجمعة رابع عشر رجب من هذه السنة أعني سنة أربع وخمسين، وبقي ابن مهديّ في الملك شهرين وأحدا وعشرين يوما، ومات عليّ بن مهديّ في السنة التي ملك فيها [في شوال] «3» ، فملك اليمن بعده ولده مهديّ «4» ثم عبد النبيّ بن مهديّ بن عليّ بن مهديّ «5» ، وخرجت المملكة عن عبد النبيّ إلى أخيه عبد الله ثم عادت إلى عبد النبيّ واستقرّ فيها حتى سار إليه توران شاه بن أيوب من مصر في سنة تسع وستين وخمس مئة، وفتح اليمن، واستقرّ في ملكه، وأسر عبد النبيّ، وهو آخر ملوك اليمن من آل مهدي. وكان مذهب عليّ بن مهديّ التكفير بالمعاصي، وقتل من خالف اعتقاده من أهل القبلة، واستباحة وطء سباياهم، واسترقاق ذراريهم، وكان حنفيّ الفروع، وكان أصحابه يعتقدون فيه فوق ما يعتقده الناس في الأنبياء صلوات الله عليهم، ومن مذهبه قتل من يشرب ومن يسمع الغناء.

وفي سنة خمس وخمسين وخمس مئة

وفي سنة خمس وخمسين وخمس مئة «13» [ذكر مسير] «1» سليمان شاه إلى همذان وما كان منه إلى أن مات وسببه أنه لما مات محمد بن محمود بن محمد بن ملكشاه السلجوقيّ أرسلت الأمراء وطلبوا عمه سليمان شاه بن محمد بن ملكشاه ليولوه السلطنة، وكان قد اعتقل في الموصل مكرما فجهزه قطب الدين مودود بن زنكي صاحب الموصل بشيء كثير، وجهاز يليق بالسلطنة، وسار معه (34) زين الدين عليّ كوجك بعسكر الموصل إلى همذان، وأقبلت العساكر إليه، كلّ يوم تلقاه طائفة وأمير، ثم تسلطت العساكر عليه، ولم يبق له حكم، وكان سليمان شاه فيه تهور وخرق، وكان يدمن شرب الخمر حتى [إنه] «2» شرب في رمضان نهارا، وكان يجمع عنده المساخر، ولا يلتفت إلى الأمراء، فأهمل العسكر [أمره] «3» ، وكانوا لا يحضرون بابه، وكان قد ردّ جميع الأمور إلى شرف الدين [كرد بازو] «4» الخادم، وهو من مشايخ خدام السّلاجقة يرجع إلى دين وحسن تدبير، فاتفق أن سليمان قعد يشرب بالكشك ظاهر همذان، فحضر إليه كرد بازو ولامه، فأمر من عنده من المساخر فعبثوا بكرد بازو أيضا حتى إن بعضهم كشفوا له سوءته فاتفق كرد بازو مع الأمراء على قبضه، وعمل كرد بازو دعوة عظيمة،

فلما حضرها سليمان شاه قبض عليه كرد بازو «1» ، وحبسه وبقي في الحبس مدة، ثم أرسل إليه كرد بازو من خنقه، وقيل: سقاه سما فمات في ربيع الآخر سنة ست وخمسين «2» . ولما مات إلدكز بعشرين ألفا ومعه أرسلان شاه بن طغريل بن محمد بن ملكشاه بن السلطان ألب أرسلان، ووصل إلى همذان، فلقيه كرد بازو وأنزله بدار المملكة، وخطب لأرسلان شاه (35) بالمملكة، وكان إلدكز متزوجا لأمّ أرسلان شاه فولدت لإلدكز أولادا منهم البهلوان محمد «3» وقزل أرسلان عثمان «4» ابنا إلدكز، وبقي إلدكز أتابك أرسلان وابنه البهلوان [وهو] «5» أخو أرسلان لأمه حاجبه. وكان إلدكز أحد مماليك السلطان مسعود اشتراه في أول أمره، ثم أقطعه أرّان وبعض بلاد أذربيجان فعظم شأنه، وقوي أمره. ولما خطب لأرسلان شاه بالسلطنة في تلك البلاد أرسل إلدكز إلى بغداد يطلب الخطبة لأرسلان شاه بالسلطنة على عادة الملوك السلجوقية، فلم يجب إلى

ذلك، وقد قدمنا موت سليمان وولاية أرسلان لتتصل الحادثة. وفيها، توفي الفائز بنصر الله أبو القاسم عيسى بن الظافر إسماعيل «1» خليفة مصر، وكانت خلافته ستّ سنين وشهرين، وكان عمره لما ولي [ثلاث سنين، وقيل:] «2» خمس سنين، ولما [مات] «3» دخل الصالح بن رزّيك القصر، وسأل عمن يصلح فأحضر له منهم إنسان كبير السنّ، فقال بعض أصحاب الصالح: لا يكون عباس أحزم منك حيث اختار الصغير، فأعاد الصالح الرجل إلى موضعه، وأحضر العاضد لدين الله [أبا] «4» محمد عبد الله بن الأمير يوسف بن الحافظ «5» ولم يكن أبوه خليفة. وكان العاضد ذلك الوقت مراهقا فبايع له بالخلافة، وزوجه الصالح ابنته، ونقل معها الجهاز ما لا يسمع بمثله. وفيها، في ربيع الآخر توفي (36) الخليفة المقتفي «6» لأمر الله [أبو] «4» عبد الله محمد بن المستظهر أبي العباس أحمد بعلة التراقيا.

خلافة المستنجد بالله بن المقتفي ثاني ثلاثي خلفاء بني العباس رضي الله تعالى عنهم

خلافة المستنجد بالله بن المقتفي «1» ثاني ثلاثي خلفاء بني العباس رضي الله تعالى عنهم وبويع له لما توفي أبوه المقتفي، وبايعه أهله وأقاربه فمنهم عمه أبو طالب «2» ، ثم أخوه أبو جعفر «2» ، وأمّه أمّ ولد يدعى طاوس (؟) ، ثم بايع الوزير بن هبيرة وغيرهم. وفيها، في رجب توفي السلطان خسرو شاه بن بهرام شاه بن مسعود بن إبراهيم بن مسعود بن محمود «3» بن سبكتكين «4» صاحب غزنة، وكان عادلا حسن السيرة، وكانت ولايته في سنة ثمان وأربعين وخمس مئة، ولما مات ملك ابنه ملكشاه، وقيل: إنّ خسرو شاه مات في حبس غياث الدين الغوريّ، وأنه آخر ملوك سبكتكين حسبما تقدم في سنة سبع وأربعين «5» . وفيها، توفي السلطان ملكشاه بن محمود بن محمد بن ملكشاه بن ألب

وفي سنة ست وخمسين وخمس مئة

أرسلان «1» بأصفهان مسموما. وفيها، حجّ أسد الدين شير كوه بن شاذي مقدم جيش نور الدين محمود بن زنكي. وفي سنة ستّ وخمسين وخمس مئة «13» في ربيع الآخر، توفي الملك علاء الدين [الحسين] «2» بن الحسين الغوريّ ملك الغور، وكان عادلا حسن السيرة، ولما مات ملك بعده ابن أخيه غياث الدين محمد «3» ، وقد قدّمنا ذلك في سنة سبع وأربعين «4» . وفيها، تقدم المؤيد أي به السّنجري بإمساك أعيان (37) نيسابور لأنهم كانوا رؤساء للحرامية والمفسدين، وأخذ المؤيد بقتل المفسدين فخربت نيسابور، وكان من جملة ما خرب مسجد عقيل وكان مجمعا لأهل العلم، وكان فيه خزائن الكتب الموقوفة، وخرب من مدارس الحنفية [ثماني مدارس، ومن مدارس الشافعية] «5» سبع عشرة مدرسة، وأحرق ونهب عدة من خزائن الكتب.

وأما الشاذياخ «1» فإن عبد الله [بن] «2» طاهر بن الحسين بناها لما كان أميرا للمأمون على خراسان، وسكنها هو والجند، ثم خربت بعد ذلك، ثم جددت في أيام ألب أرسلان السلجوقي «3» ، ثم تشعثت بعد ذلك، فلما كان الآن وخربت نيسابور أمر المؤيد آي به بإصلاح سور الشاذياخ، وسكنها هو والناس، فخربت نيسابور كل الخراب ولم يبق بها أحد. وفي هذه السنة في رمضان قتل الملك الصالح أبو الغارات طلائع بن رزّيك الأرمني وزير العاضد العلويّ، جهزت عليه عمة العاضد من قتله بالسكاكين وهو داخل في دهليز القصر فحمل إلى بيته وبه رمق، فأرسل يعتب [على] «4» العاضد، فأرسل العاضد يحلف له أنه ما علم بذلك، وأمسك العاضد عمته فأرسلها إلى طلائع فقتلها، وسأل العاضد أن يولي ابنه رزّيك «5» الوزارة ولقب العادل، ومات طلائع، فاستقر ولده العادل رزّيك في الوزارة. وفيها، ملك عيسى «6» مكة شرفها الله تعالى، وكان أمير مكة قاسم بن أبي

فليتة بن قاسم بن أبي هاشم العلويّ [الحسنيّ «1» ، فلما سمع قرب الحاج من مكة صادر المجاورين وأعيان مكة وأخذ أموالهم وهرب إلى البرية] «2» [خوفا من أمير الحاج [أرغش] «3» . فلما وصل أمير الحاجّ إلى مكة (38) رتب عوض قاسم عمه عيسى بن قاسم بن أبي هاشم، فبقي كذلك إلى شهر رمضان، ثم إن قاسم بن أبي فليتة جمع العرب وقصد عمه عيسى، فلما قارب مكة، رحل عنها عيسى، وعاد قاسم إلى ملكها ولم يكن معه ما يرضي به العرب، فكاتبوا عمه عيسى وصاروا معه، وقدم عيسى إليهم وهرب قاسم وصعد إلى جبل أبي قبيس فسقط عن فرسه فأخذه أصحاب عمه عيسى وقتلوه، فغسله عيسى ودفنه بالمعلى «4» عند أبيه أبي فليتة «5» ، واستقرت مكة لعيسى. وفيها، عبر عبد المؤمن بن علي على المجاز إلى الأندلس، وبنى على جبل طارق من الأندلس مدينة حصينة، وأقام بها ستة أشهر وعاد إلى مراكش. وفيها، ملك قرا أرسلان «6» صاحب حصن كيفا «7» قلعة شاتان وكانت

وفي سنة سبع وخمسين وخمس مئة

لطائفة من الأكراد، ولما ملكها خربها وأضاف أعمالها إلى حصن طالب «1» . وفي سنة سبع وخمسين وخمس مئة «13» نازل نور الدين محمود بن زنكي قلعة حارم وهي للفرنج مدة ثم رحل عنها ولم يملكها. وفيها، سارت الكرج في جمع عظيم ودخلوا بلاد الإسلام وملكوا مدينة دوين من أعمال أذربيجان ونهبوها، ثم جمع إلدكز صاحب أذربيجان جمعا [عظيما] » وغزا الكرج وانتصر عليهم وقتل منهم مقتلة عظيمة. وفيها حج الناس، فوقع فتنة وقتال بين صاحب مكة وأمير الحاج، فرحل الحجاج ولم يقدر بعضهم على الطواف بعد (39) الوقوف. قال ابن الأثير: وكان ممن حج ولم يطف جدته أم أبيه، فوصلت إلى بلادها وهي على إحرامها «3» فاستفتت الشيخ أبا القاسم بن البرزي «4» فأفتى أنها إذا دامت على إحرامها إلى قابل وطافت كمل حجها الأول، ثم تفدي وتحل، ثم تحرم

وفي سنة ثمان وخمسين وخمس مئة

إحراما ثانيا، وتقف بعرفات وتكمل مناسك الحج فيصير لها حجة ثانية، فبقيت على إحرامها إلى قابل وفعلت كما قال فتم حجها الأول والثاني «1» . وفيها، مات الكيا الصّبا [حي] «2» الصنهاجي «3» صاحب ألموت مقدم الإسماعيلية، وقام ابنه مقامه فأظهر التوبة «4» . وفي سنة ثمان وخمسين وخمس مئة «13» في صفر، وزّر شاور للعاضد لدين الله العلوي، وكان شاور يخدم الصالح طلائع بن رزّيك فولاه الصعيد، وكانت الصعيد أكبر المناصب بعد الوزارة، ولما جرح الصالح أوصى ولده العادل أن لا يغير على شاور شيئا لعلمه بقوة شاور،

فلما تولى العادل بن الصالح الوزارة كتب إلى شاور بالعزل، فجمع شاور جموعه وسار نحو العادل إلى القاهرة فهرب العادل فطرد شاور وراءه وأمسكه وقتله «1» وانقضت بمقتله دولة بني رزّيك. واستقر شاور في الوزارة وتلقب أمير الجيوش، وأخذ أموال بني رزّيك وودائعهم. ثم إن أبا الأشبال [ضرغاما] «2» جمع جمعا ونازع شاور في الوزارة في شهر رمضان، وقوي على شاور، فانهزم شاور إلى الشام مستنجدا بنور الدين (40) ولما تمكن ضرغام من الوزارة قتل كثيرا من الأمراء المصريين لتخلو له البلاد فضعفت الدولة لهذا السبب حتى خرجت البلاد من أيديهم. وفيها في العشرين من جمادى الآخرة، توفي عبد المؤمن بن علي صاحب بلاد المغرب وأفريقية والأندلس، وكان قد سار من مراكش إلى سلا، فمرض بها ومات. ولما حضر الموت جمع جيوش الموحدين وقال لهم: قد جربت ابني محمدا فلم أجده يصلح لهذا الأمر، وإنما يصلح له ابني يوسف فقدموه وبايعوه، ودعي بأمير المؤمنين، واستقرت قواعد ملكه. وكانت مدة ولاية عبد المؤمن ثلاثا وثلاثين سنة وشهورا، وكان حازما، سديد الرأي، حسن السياسة للأمور، كثير سفك الدم على الذنب الصغير، وكان يعظم أمر الدين ويقويه، ويلزم الناس بالصلاة، بحيث إنه من رؤي في

وقت الصلاة غير مصل قتل، وجمع الناس في المغرب على مذهب الإمام مالك رضي الله عنه في الفروع، وعلى مذهب أبي الحسن الأشعري في الأصول. وفيها، ملك المؤيد آي به السّنجري قومس «1» ، فلما ملكها أرسل إليه السلطان أرسلان بن طغريل بن محمد بن ملكشاه خلعة وألوية وهدية جليلة فلبس ألوية الخلعة، وخطب له في بلاده. وفيها، كبس الفرنج نور الدين محمود (ا) وهو نازل بعسكره في البقيعة تحت حصن الأكراد «2» ، فلم يشعر نور الدين إلا وقد أطلت عليهم صلبان الفرنج، وقصدوا خيمة نور الدين، فلسرعة ذلك (41) ركب نور الدين فرسا، وفي رجله الشّبحة «3» فنزل كردي وقطعها، فنجا نور الدين وقتل الكردي، فأحسن نور الدين إلى مخلّفيه ووقف عليهم الوقوف، وسار نور الدين إلى بحيرة حمص، فنزل عليها، وتلاحق به من سلم من المسلمين. وفيها، أمر المستنجد بإخلاء بني أسد وهم أهل الحلّة المزيديّة فقتل منهم جماعة، وهرب الباقون، وتشتتوا في البلاد، وذلك لفسادهم في البلاد، وسلمت بطائحهم وبلادهم إلى رجل يقال له ابن معروف «4» .

وفي سنة تسع وخمسين وخمس مئة

وفي سنة تسع وخمسين وخمس مئة «13» سير نور الدين محمود بن زنكي عسكرا مقدمهم أسد الدين شير كوه بن شاذي إلى الديار المصرية ومعهم شاور، وكان قد سار من مصر هاربا من ضرغام الوزير، فلحق شاور بنور الدين واستنجده وبذل له ثلث أموال مصر بعد رزق جندها إن أعاده إلى الوزارة، فوصل شيركوه إلى مصر، وهزم عسكر ضرغام [وقتل ضرغام] «1» عند قبر السيدة نفيسة «2» ، وأعاد شاورا إلى وزارته، وكان مسير أسد الدين في جمادى الأولى لهذه السنة، واستقر شاور في الوزارة، وخرجت إليه الخلع في مستهل رجب هذه السنة، ثم غدر شاور بنور الدين ولم يف له بشيء مما شرط، فسار أسد الدين واستولى على بلبيس «3» والشرقية، فأرسل شاور يستنجد بالفرنج ليخرجوا أسد الدين شيركوه من البلاد، فسار الفرنج واجتمع معهم شاور بعسكر مصر، وحصروا شير كوه ببلبيس، ودام الحصار ثلاثة أشهر، وبلغ الفرنج حركة (42) نور الدين وأخذ حارم فراسلوا شير كوه في الصلح، وفتحوا له فخرج من بلبيس بمن معه من العسكر، ووصلوا إلى الشام سالمين. وفيها، في شهر رمضان فتح نور الدين محمود قلعة حارم وأخذها من الفرنج بعد مصافّ جرى بينه وبين الفرنج، فانتصر نور الدين وقتل وأسر من الفرنج عالما

وفي سنة ستين وخمس مئة

كثيرا، وكان في جملة الأسرى البرنس صاحب أنطاكية «1» ، والقومص صاحب طرابلس «2» ، وغنم منهم المسلمون شيئا كثيرا. وفيها في ذي الحجة، سار نور الدين وفتح بانياس وكانت بيد الفرنج من سنة ثلاث وأربعين [وخمس مئة] «3» إلى هذه السنة. وفيها، توفي جمال الدين أبو جعفر محمد بن علي بن أبي منصور الأصفهاني «4» وزير قطب الدين مودود بن زنكي صاحب الموصل في شعبان مقبوضا عليه، وكان قد قبض عليه قطب الدين في سنة ثمان وخمسين [وخمس مئة] «5» . وكان قد تعاهد جمال الدين المذكور وأسد الدين شيركوه أنه من مات منهما قبل الآخر ينقله الآخر إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم فيدفنه بها، فنقله شيركوه، وقد ذكرنا طرفا من أخباره مع الوزراء. «6» وفي سنة ستين وخمس مئة «13» في ربيع الأول، توفي بمازندران شاه رستم بن علي بن شهريار بن قارن «7»

سنة إحدى وستين وخمس مئة إلى سنة سبعين وخمس مئة

وملك بعده ابنه علاء الدين الحسن «1» . وفيها، ملك المؤيد آي به مدينة هراة. وفيها كان بين قليج أرسلان بن مسعود بن قليج أرسلان (43) صاحب قونية وما جاورها من بلاد الروم وبين [ياغي أرسلان] «2» [بن الدانشمند] «3» صاحب ملطية وما يجاورها حروب شديدة انهزم فيها قليج أرسلان، فاتفق موت ياغي أرسلان صاحب ملطية في تلك المدة وملك بعده ابن أخيه إبراهيم بن محمد بن الدانشمند واستولى ذو النون بن محمد بن الدانشمند على قيساريّة، وملك شاهنشاه بن مسعود أخو قليج أرسلان مدينة أنكورية، واصطلح المذكورون على ذلك، واستقرت بينهم القواعد واتفقوا. وفيها، توفي الوزير عون الدين يحيى بن هبيرة «4» في جمادى الأولى. سنة إحدى وستين وخمس مئة إلى سنة سبعين وخمس مئة في سنة إحدى وستين وخمس مئة «13» فتح نور الدين محمود حصن المنيطرة «5» من الشام وكانت بيد الفرنج.

وفي سنة اثنتين وستين وخمس مئة

وفي سنة اثنتين وستين وخمس مئة «13» عاد أسد الدين شير كوه إلى الديار المصرية، جهزه نور الدين بألفي فارس، فوصل إلى ديار مصر واستولى على الجيزة، وأرسل شاور إلى الفرنج واستنجدهم وجمعهم وساروا في أثر شير كوه إلى جهة الصعيد «1» ، والتقوا بموضع يقال له ايوان «2» فانهزم الفرنج والمصريون، واستولى شير كوه على بلاد الجيزة واستغلها، ثم سار إلى الإسكندرية وملكها، وجعل فيها ابن اخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب، وعاد شير كوه إلى جهة الصعيد (44) ، واجتمع عسكر مصر والفرنج وحصروا صلاح الدين بالإسكندرية مدة [ثلاثة] «3» شهور فسار شير كوه إليهم، فاتفقوا إلى الصلح على مال [يحملونه] «4» إلى شير كوه ويسلم إليهم الإسكندرية ويعود إلى الشام، ويسلم المصريون الإسكندرية في منتصف شوال من هذه السنة، وسار شير كوه إلى الشام، فوصل دمشق ثامن عشر ذي القعدة، واستقر الصلح بين الفرنج والمصريين على أن يكون للفرنج بالقاهرة شحنة، وتكون أبوابها بيد فرسانهم، ويكون لهم من دخل مصر كل سنة مئة ألف دينار. وفيها، فتح نور الدين صافيتا و [العريمة] «5» .

وفي سنة ثلاث وستين وخمس مئة

وفيها، عصى غازي بن حسان «1» صاحب منبج على نور الدين بمنبج، فجهز إليه نور الدين عسكرا أخذوا منه منبج، ثم أقطعها نور الدين لقطب الدين ينال ابن حسان «1» [أخي] «2» غازي المذكور، فبقي فيها إلى أن أخذها منه صلاح الدين يوسف بن أيوب سنة [إحدى وسبعين] «3» . وفيها، توفي فخر الدين قرا أرسلان بن داود بن سقمان بن أرتق «4» صاحب حصن كيفا، وملك بعده [ولده] «5» نور الدين محمد «6» . وفي سنة ثلاث وستين وخمس مئة «13» فارق زين الدين علي كوجك بن بكتكين نائب قطب الدين مودود بن زنكي صاحب الموصل خدمة قطب الدين، واستقر بإربل، وكانت في إقطاعه، وكانت له إربل مع غيرها فقنع بها وسكنها «7» ، وسلّم ما كان من ضمن البلاد إلى قطب الدين، وكان زين الدين قد عمي وطرش.

وفي سنة أربع وستين وخمس مئة

وفي سنة أربع وستين وخمس مئة «13» ملك نور الدين محمود قلعة جعبر وأخذها (45) من شهاب الدين مالك ابن علي بن مالك بن سالم بن مالك بن بدران العقيلي «1» ، وكانت بأيديهم من أيام السلطان ملكشاه «2» ، ولم يقدر نور الدين على أخذها إلا بعد أن أسر صاحبها المذكور بنو كلاب، وأحضروه إلى نور الدين فاجتهد به على تسليمها، فلم يفعل، فأرسل عسكرا تقدمهم فخر الدين مسعود بن [أبي] «3» علي الزعفراني «1» وردفه بعسكر آخر مع مجد الدين أبي بكر بن الداية وكان رضيع نور الدين، وحصروا قلعة جعبر فلم يظفروا فيها بشيء، ولم يزالوا على صاحبها مالك حتى سلّمها وأخذ عوضها مدينة سروج «4» مع أعمالها والملّوحة «5» من بلد حلب، وعشرين ألف دينار معجلة، وباب بزاعة. وفيها في ربيع الأول، سار أسد الدين شير كوه بن شاذي إلى ديار مصر ومعه العساكر النورية، وسبب ذلك تمكن الفرنج من الديار المصرية وتحكمهم على المسلمين بها، حتى ملكوا بلبيس قهرا في مستهلّ صفر هذه السنة، وقتلوا كلّ من فيها، ثم ساروا من بلبيس ونزلوا على القاهرة عاشر صفر وحاصروها وأحرق

شاور مدينة مصر خوفا من أن يملكها الفرنج وأمر أهلها وأنقلهم إلى القاهرة فبقيت النار تعمل أربعة وخمسين يوما، فأرسل العاضد الخليفة إلى نور الدين يستغيث به، وأرسل في الكتب شعور النساء، وصانع شاور الفرنج على ألف ألف دينار يحملها إليهم، فحمل إليهم مئة ألف دينار، وسألهم أن يرحلوا عن القاهرة ليقدر على جمع المال، فرحلوا «1» ، وجهز نور الدين العسكر مع شير كوه (46) وأنفق فيهم المال وأعطى شير كوه مئتي ألف دينار سوى الخيل والدواب والأسلحة، وأرسل معه عدة أمراء منهم ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب على كره منه. أحبّ نور الدين مسير صلاح الدين وفيه ذهاب الملك من بيته، وكره صلاح الدين المسير وفيه سعادته وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ «2» ، ولما قرب شير كوه من مصر رحل الفرنج على أعقابهم إلى بلادهم، وكان هذا لمصر فتحا جديدا، ووصل أسد الدين شير كوه إلى القاهرة في رابع ربيع الآخر، واجتمع بالعاضد، وخلع عليه وعاد إلى خيامه بالخلعة العاضدية، وأجرى عليه وعلى عسكره الإقامات الوافرة، وشرع شاور يماطل شير كوه فيما بذله لنور الدين من تقرير المال وإفراد ثلث البلاد له، ومع ذلك [فكان] «3» شاور يركب كلّ يوم إلى أسد الدين شير كوه ويعده ويمنّيه وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً «4» ، ثم إنّ شاور عزم على أن يعمل دعوة لشير كوه

وأمرائه ويقبض عليهم فمنعه ابنه الكامل «1» بن شاور من ذلك، ولما رأى عسكر نور الدين من شاور ذلك عزموا على قتله، واتفق على ذلك صلاح الدين يوسف وعزّ الدين جرديك «2» وغيرهما، وعرفوا شير كوه بذلك فنهاهم عنه، واتفق أن شاور قصد شير كوه على عادته فلم يجده في المخيم وكان قد مضى لزيارة قبر الإمام الشافعي رضي الله عنه فلقي صلاح الدين وجرديك شاورا وأعلماه برواح (47) شير كوه إلى الزيارة، فساروا جميعا إلى شير كوه، فوثب صلاح الدين وجرديك [ومن معهما] «3» على شاور ورموه عن فرسه إلى الأرض، وأمسكوه في سابع ربيع الآخر «4» هذه السنة، فهرب أصحابه عنه وأرسلوا أعلموا شير كوه يطلب منه إنقاذ رأس شاور فقتله وأنفذ رأسه إلى العاضد، ودخل عند ذلك شير كوه إلى قصر العاضد فخلع عليه [خلع الوزارة] «5» ولقبه الملك المنصور أمير الجيوش، وسار بالخلع إلى دار الوزارة وهي التي كان فيها شاور واستقرّ في الأمر، وكتب له منشور «6» بالإنشاء الفاضليّ، وكتب له بعد البسملة:

«من عبد الله ووليّه الإمام العاضد لدين الله أمير المؤمنين إلى السيد الأجلّ الملك المنصور سلطان الجيوش وليّ الأئمة مجير الأمة [أسد الدين] «1» أبي الحارث شير كوه العاضديّ عضّد الله به الدين، وأمتع [بطول بقائه] «2» أمير المؤمنين، وأدام قدرته، وأعلى كلمته، سلام عليك فإنا نحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ونسأله أن يصلّي على محمد خاتم النبيين وسيد المرسلين وعلى آله الطاهرين والأئمة المهديين وسلّم تسليما» . ثم ذكر تفويض أمور الخلافة إليه ووصايا، وكتب العاضد بخطّه على طرة المنشور: «هذا عهد لم يعهد لوزير بمثله، فنقلّد أمانة رآك أمير المؤمنين أهلا لحملها، [فخذ] «3» كتاب أمير المؤمنين بقوة، وأسحب ذيل الفخار، بأن اعتزت (48) خدمتك [إلى] «4» بنوة النبوة [واتخذه للفوز سبيلا] «4» » . ومدحت الشعراء أسد الدين، ووصل إليه من الشام مديح العماد الكاتب قصيدة أولها «5» : (البسيط) بالجدّ أدركت ما أدركت لا اللعب ... كم [راحة] «6» جنيت من دوحة التّعب يا شير كوه بن شاذي الملك دعوة من ... نادى [فعرّف] «7» خير ابن لخير أب

جرى الملوك وما حازوا بركضهم ... من المدى في العلا ما حزت بالخبب تملّ من ملك مصر رتبة قصرت ... عنها الملوك فطالت سائر الرتب قد أمكنت أسد الدين الفريسة من ... فتح البلاد فبادر نحوها وثب وفي شير كوه وقتل شاور يقول عرقلة الدمشقي «1» : (الطويل) لقد فاز بالملك العقيم خليفة ... له شير كوه العاضديّ وزير هو الأسد الضاري الذي حلّ خطبه ... وشاور كلب للرجال عقور بغى وطغى حتى لقد قال صحبه ... على مثلها كان اللعين يدور فلا رحم الرحمن تربة قبره ... ولا زال فيها منكر ونكير فأما الكامل بن شاور، فإنه لما قتل أبوه دخل القصر وكان آخر العهد به. ولما لم سبق لأسد الدين شيركوه منازع أتاه أجله حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً «2» فتوفّي يوم السبت الثاني والعشرين من جمادى الآخرة سنة أربع وستين وخمس مئة، وكانت ولايته شهرين وخمسة أيام «3» . وكان شيركوه وأيوب [ابنا] «4» شاذي من بلد دوين «5» ، قال ابن الأثير: وأصلهما (49) من الأكراد الرواديّة «6» ، فقصدا العراق وخدما بهروز «7»

شحنة السلجوقية ببغداد، وكان أيوب أكبر من شير كوه فجعله بهروز مستحفظا قلعة تكريت، ولما انكسر عماد الدين زنكي من عسكر الخليفة «1» ومرّ على تكريت خدمه أيوب وشير كوه، ثم إن شير كوه قتل إنسانا بتكريت فأخرجهما بهروز من تكريت فلحقا بخدمة عماد الدين زنكي فأحسن إليهما وأعطاهما إقطاعات جليلة، ولما ملك عماد الدين قلعة بعلبك جعل أيوب مستحفظا عليها فلما حاصره عسكر دمشق بعد موت زنكي سلّمها أيوب إليهم عن إقطاع كبير، وبقي أيوب من أكبر أمراء عسكر دمشق، وبقي شير كوه مع نور الدين محمود بعد قتل أبيه زنكي وأقطعه نور الدين حمص والرّحبة لما رأى من شجاعته، وزاده عليهما، وجعله مقدم عسكره، فلما أراد نور الدين ملك دمشق أمر شير كوه فكاتب أخاه أيوب فساعد نور الدين على فتح دمشق، وبقيا معه إلى أن أرسل شير كوه إلى مصر مرة بعد ما جرى حتى ملكها، وتوفّي هذه السنة على ما ذكرناه. ولما توفي شير كوه كان معه صلاح الدين يوسف بن أخيه أيوب، وكان قد سار معه على كره، قال صلاح الدين: أمرني نور الدين بالمسير مع عمي شير كوه، وكان قد قال شير كوه بحضرته لي: تجهز يا يوسف للمسير، فقلت: والله لو أعطيت ملك مصر ما سرت إليها، فلقد قاسيت بالإسكندرية ما لا أنساه أبدا (50) فقال لنور الدين: لا بدّ من مسيره معي فأمرني نور الدين وأنا أستقيل، وقال نور الدين: لابد من مسيرك مع

عمك، فشكوت الضائقة، فأعطاني ما تجهزت به فكأنما أساق إلى الموت. ولما مات شير كوه طلب جماعة من الأمراء النورية التقدم على العسكر وولاية الوزارة العاضدية، منهم عين الدولة الياروقي «1» ، وقطب الدين المنبجي، وسيف الدين علي بن أحمد المشطوب الهكّاري «2» ، وشهاب الدين محمود الحارمي «3» خال صلاح الدين، فأرسل العاضد طلب صلاح الدين وولاه الوزارة، ولقبه الملك الناصر، فلم يطعه الأمراء المذكورون، وكان مع صلاح الدين الفقيه عيسى الهكّاري «4» ، فسعى مع المشطوب حتى أماله إلى صلاح الدين، ثم قصد الحارمي، وقال: هذا ابن أختك وعزه وملكه لك فمال إليه أيضا، ثم فعل بالباقين كذلك، فكلهم أطاع غير عين الدولة الياروقي، فإنه قال: أنا لا أخدم يوسف، وعاد إلى نور الدين بالشام، وثبت قدم صلاح الدين على أنه نائب لنور الدين. وكان نور الدين يكاتبه بالأمير الأسفهسلار «5» ويكتب علامته على رأس

الكتاب تعظيما أن يكتب اسمه، وكان لا يفرده بكتاب بل: الأمير صلاح الدين وكافة الأمراء بالديار المصرية يفعلون كذا وكذا، ثم أرسل صلاح الدين يطلب من نور الدين أباه أيوب وأهله فأرسلهم نور الدين إليه فأعطاهم الإقطاعات بمصر، وتمكن من البلاد، وضعف أمر (51) العاضد «1» . ولما فوّض الأمر إلى صلاح الدين تاب عن شرب الخمر، وأعرض عن أسباب اللهو، وتقمص لباس الجد، ودام على ذلك إلى أن توفاه الله عز وجل. قال ابن الأثير في «الكامل» : رأيت أكثر ما يقع ممن ابتدئ الملك منه ينتقل إلى غير عقبه، فإنّ معاوية تغلب وملك فانتقل الملك إلى بني مروان بعده، ثم ملك السفاح من بني العباس فانتقل الملك إلى بني أخيه المنصور، ثم السامانية «2» أول من استبد بالملك منهم نصر بن أحمد «3» ، فانتقل الملك إلى عقب أخيه إسماعيل «4» ، ثم عماد الدولة ابن بويه «5» ، ملك فانتقل الملك إلى بني أخيه ركن الدولة «6» ، ثم ملك طغرلبك

السلجوقي «1» فانتقل الملك إلى بني أخيه جقر «2» ، ثم شير كوه ملك فانتقل الملك إلى ابن أخيه صلاح الدين، ولما قام صلاح الدين بالملك لم يبق الملك في عقبه بل انتقل إلى بني العادل أبي بكر «3» ولم يبق لأولاد صلاح الدين غير حلب، وكان سبب ذلك كثرة قتل من يتولى أولا وأخذه الملك وعيون أصحابه فيه فيحرم على عقبه ذلك «4» . ولما استقر قدم صلاح الدين في الوزارة قتل مؤتمن الخلافة «5» وهو مقدم السودان، فاجتمعت السودان وهم حفاظ القصر في عدد كبير وجرى بينهم وبين صلاح الدين وعسكره وقعة عظيمة بين القصرين «6» ، فانهزم السودان، وقتل منهم خلق كثير، وتبعهم صلاح الدين فأجلاهم قتلا وتهجيجا، وحكم صلاح الدين على القصر، وأقام فيه بهاء الدين قراقوش الأسدي «7» وكان خصيا أبيض،

وبقي لا (52) يجري في القصر صغيرة ولا كبيرة إلا بأمر صلاح الدين. وفيها، كان بين إينانج السّنجري صاحب الري وبين إلدكز حرب انتصر فيها إلدكز وملك الري وهرب إينانج وانحصر في بعض القلاع فبعث إلدكز، ورغب غلمان إينانج في الإقطاعات إن قتلوا إينانج فقتلوه «1» ولحقوا بإلدكز [فلم يف لهم وقال:] «2» ، فإن مثل هؤلاء لا ينبغي الإبقاء عليهم، فهربوا إلى البلاد، ولحقوا بخوارزم شاه «3» ، فصلب الذي تولى منهم قتل إينانج لخيانته أستاذه. وفيها، توفي ياروق (بن) أرسلان التركماني «4» ، وكان مقدما كبيرا، وإليه تنسب الطائفة الياروقية من التركمان، وكان عظيم الخلقة، سكن بظاهر حلب، وبنى على شاطئ قويق هو وأتباعه عمائر كثيرة، وتعرف الآن بالياروقية «5» مشهورة هناك.

وفي سنة خمس وستين وخمس مئة

وفي سنة خمس وستين وخمس مئة «13» سارت الفرنج إلى دمياط وحصروها، وشحنها صلاح الدين بالرجال والسلاح والذخائر، وأخرج عن ذلك أموالا عظيمة، فحصروها خمسين يوما، وخرج نور الدين فأغار على بلادهم بالشام، فرحلوا عائدين على أعقابهم ولم يظفروا بشيء منها. قال صلاح الدين: ما رأيت أكرم من العاضد، أرسل إلي مدة مقام الفرنج على دمياط ألف ألف دينار مصرية، سوى الدواب «1» وغيرها. وفيها، سار نور الدين وحاصر الكرك مدة ثم رحل عنها. وفيها، كانت زلزلة عظيمة خربت الشام، فقام نور الدين في عمارة الأسوار وحفظ البلاد أتم قيام، وكذلك خربت بلاد الفرنج، فخافوا من نور الدين، واشتغل كل منهم (53) بعمارة ما يليه من بلاده عن قصد بلاد غيره. وفيها، في ذي الحجة مات قطب الدين مودود بن زنكي بن آقسنقر «2» صاحب الموصل، وكان مرضه حمى حادة، ولما مات صرف أرباب الدولة الملك عن ابنه الأكبر عماد الدين زنكي بن مودود بن زنكي «3» إلى أخيه الذي هو

وفي سنة ست وستين وخمس مئة

أصغر منه سيف الدين غازي بن مودود «1» ، فسار عماد الدين زنكي إلى عمه نور الدين مستنصرا به، وتوفي قطب الدين وعمره أربعون سنة، وكانت مدة ملكه إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر ونصفا، وكان من أحسن الملوك سيرة. وفيها، توفي الملك طغرلبك بن [قاورت] «2» بيك صاحب كرمان، واختلف أولاده بهرام شاه وأرسلان شاه وهو الأكبر، واستنجد كل منهما وطلب الملك، فاتفق موت أرسلان شاه في تلك المدة، فاستقر بهرام شاه في ملك كرمان «3» . وفيها، توفي مجد الدين أبو بكر بن الداية «4» رضيع نور الدين، وكانت حلب وحارم وقلعة جعبر إقطاعه، فأقرّ نور الدين أخاه عليا «5» على إقطاعه. وفي سنة ست وستين وخمس مئة «13» في تاسع ربيع الآخر توفي الخليفة المستنجد أبو المظفر يوسف بن المقتفي «6» ، وكان سبب موته أنه مرض، واشتد مرضه، وكان قد خاف منه أستاذ داره عضد

المستضيء بالله [أبا] محمد الحسن بن المستنجد بالله وهو ثالث ثلاثي خلفاء بني العباس رحمه الله

الدين أبو الفرج بن رئيس الرؤساء «1» ، وقطب الدين قيماز المقتفوي «2» وهو حينئذ أكبر أمراء بغداد فاتفقا ووضعا للطبيب على أن يصف له ما يهلكه، فوصف له دخول الحمام، فامتنع منه لضعفه، ثم إنه (54) دخلها وغلق عليه الباب فمات، فلما مات أحضر عضد الدين وقطب الدين: المستضيء بالله [أبا] «3» محمد الحسن بن المستنجد بالله «4» وهو ثالث ثلاثي خلفاء بني العباس رحمه الله وشرطا عليه شروطا أن يكون عضد الدين وزيرا، وابنه كمال الدين أستاذ دار (هـ) ، وقطب الدين أمير العسكر، فأجابهم إلى ذلك، ولم يل الخلافة من اسمه الحسن غيره وغير الحسن بن علي رضي الله عنهما، وبايعوا المستضيء بالله بالخلافة يوم موت أبيه بيعة خاصة، وفي غده بيعة عامة. وفيها، سار نور الدين محمود بن زنكي إلى الموصل وهي بيد ابن أخيه غازي ابن مودود فاستولى عليها نور الدين وملكها، فلما ملكها أطلق المكوس منها،

وقرر أمورها، ثم وهبها لابن أخيه غازي المذكور، وأعطى سنجار لعماد الدين زنكي بن مودود وهو أكبر من أخيه سيف الدين غازي، فقال له كمال الدين الشّهرزوري «1» : هذا طريق إلى أذى يحصل للبيت الأتابكي، لأن عماد الدين كبير لا يرى طاعة أخيه غازي وهو صغير، وسيف الدين غازي هو الملك لا يرى الإغضاء لعماد الدين فيحصل الخلف ويطمع الأعداء. وفيها، سار صلاح الدين عن مصر فغزا الفرنج قرب عسقلان والرملة، وعاد إلى مصر ثم رجع إلى أيلة وحصرها، وهي للفرنج على ساحل البحر الشرقي، ونقل إليها المراكب، وحصرها برا وبحرا وفتحها في العشر الأول من ربيع [الآخر] «2» ، واستباح أهلها وما فيها «3» ، وعاد إلى مصر ولما (55) استقر بمصر كان بها دار للشّحنة تسمى دار المعونة يحبس فيها «4» [من يريد حبسه] «5» فهدمها صلاح الدين وبناها مدرسة للشافعية، وكذلك بنى دار الغزل «6» مدرسة [للمالكية] «7» وعزل قضاة المصريين، وكانوا شيعة، ورتب قضاة شافعية، وذلك

وفي سنة سبع وستين وخمس مئة

في العشرين من جمادى الآخرة. وكذلك اشترى تقي الدين عمر «1» ابن أخي صلاح الدين منازل العز «2» وبناها مدرسة للشافعية. وفي سنة سبع وستين وخمس مئة «13» ثاني جمعة من المحرم قطعت خطبة العاضد لدين الله أبي محمد عبد الله، وكان سبب الخطبة العباسية بمصر أنه لما تمكن صلاح الدين من مصر وحكم على القصر وأقام فيه قراقوش الأسدي وكان خصيا أبيض، وبلغ نور الدين ذلك، فأرسل إلى صلاح الدين يأمره بقطع الخطبة العلوية وإقامة الخطبة العباسية فراجعه صلاح الدين في ذلك خوف الفتنة، فلم يلتفت نور الدين إلى ذلك وأصر عليه، وكان العاضد قد مرض، فأمر صلاح الدين الخطباء أن يخطبوا للمستضيء ويقطعوا خطبة العاضد فامتثلوا ذلك، ولم تنتطح فيها عنزان، وكان العاضد قد اشتد مرضه فلم يعلمه أحد من أهله بقطع خطبته فتوفي العاضد يوم عاشوراء» ، ولم يعلم بقطع خطبته. ولما توفي جلس صلاح الدين للعزاء واستولى على قصر الخلافة، وعلى جميع ما فيه، وكان [من] «4» كثرته يخرج عن الإحصاء، وكان فيه أشياء نفيسة من

الأعلاق والكتب والتحف (56) فمن ذلك الحبل الياقوت، وكان وزنه سبعة عشر درهما [أو سبعة عشر مثقالا] «1» ، قال ابن الأثير في «الكامل» : أنا رأيته ووزنته، ومما حكي أنه كان بالقصر طبل للقولنج إذا ضرب به الإنسان ضرط فكسر ولم يعلموا به إلا بعد ذلك، ونقل [صلاح الدين أهل] «2» العاضد إلى موضع من القصر، ووكل بهم من يحفظهم، وأخرج جميع من فيه من عبد وأمة فباع البعض وعتق البعض ووهب البعض، وخلا القصر من سكانه كأن لم يغن بالأمس، ولما اشتد مرض العاضد أرسل إلى صلاح الدين يستدعيه، فظن ذلك خديعة فلم يمض إليه، فلما توفي علم صدقه، وندم على تخلفه عنه، وجميع مدة خلافتهم من حين ظهر المهدي بسجلماسة في ذي الحجة سنة ست وتسعين ومئتين «3» إلى أن توفي العاضد في هذه السنة سنة سبع وستين وخمس مئة، مئتان واثنتان وسبعون سنة تقريبا، وهذا دأب الدنيا لم تعط إلا واستردت، ولم تحل إلا وتمررت، ولم تصف إلا وتكدرت، بل صفوها لا يخلو من الكدر. ولما وصل خبر الخطبة العباسية بمصر إلى بغداد ضربت البشائر ستة أيام، وسيرت الخلع مع عماد الدين صندل «4» وهو من خواص الخدم المقتفوية إلى نور الدين وصلاح الدين والخطباء، وسيرت الأعلام السود «5» . وكان العاضد قد رأى مناما أن عقربا خرجت من مسجد بمصر معروف ذلك

المسجد للعاضد ولرعيته فاستيقظ العاضد مرعوبا واستدعى ممن يعبر الرؤيا وقصه عليه فعبر له بوصول (57) أذى إليه من شخص بذلك المسجد، فتقدم العاضد إلى والي مصر بإحضار أهل ذلك المسجد فأحضر إليه شخصا صوفيا يقال له نجم الدين [الخبوشاني] «1» ، فاستخبره العاضد عن مقدمه وسبب مقامه بذلك المسجد وأخبره بالصحيح في ذلك، ورآه العاضد أضعف من أن يناله بمكروه فأمر له بمال، وقال: أدع لنا يا شيخ، وأمره بالانصراف، فلما أراد السلطان صلاح الدين إزالة الدولة العلوية استفتى الفقهاء [في ذلك، فأفتاه جماعة من الفقهاء] «2» ، وكان نجم الدين الخبوشاني المذكور من جملتهم فبالغ في الفتيا وصرح بتعديد مساوئهم، وسلب عنهم الإيمان وأطال الكلام فوق ذلك فصح به رؤيا العاضد. وفيها، وقع بين نور الدين وصلاح الدين وحشة في الباطن، فإن صلاح الدين سار ونازل الشّوبك وهي للفرنج، ثم رحل عنه خوفا أن يأخذه ولم يبق ما يعوق نور الدين عن قصد مصر فتركه ولم يفتحه لذلك، وبلغ نور الدين ذلك فكتمه، وتوحش خاطره لذلك، ولما استقر صلاح الدين بمصر جمع أقاربه وكبراء دولته وقال: بلغني أن نور الدين يقصدنا فما الرأي؟ فقال تقي الدين عمر ابن أخيه نقاتله ونصده، وكان ذلك بحضرة أبيهم نجم الدين أيوب، فأنكر على تقي الدين ذلك، وقال: أنا والدكم لو رأيت نور الدين نزلت وقبلت الأرض بين يديه، بل اكتب وقل لنور الدين، لو جاءني إنسان واحد من عندك وربط المنديل في

عنقي وجرني إليك سارعت إليك (58) وانفضوا على ذلك، ثم اجتمع أيوب بابنه صلاح الدين خلوة، وقال: لو قصدنا نور الدين أنا كنت أول من يمنعه ويقاتله، ولكن إذا أظهرنا ذلك يترك نور الدين جميع ما هو فيه ويقصدنا ولا ندري ما يكون من ذلك فإن جميع عسكرنا إنما هم أمراء نور الدين وغلمانه، وإن أظهرنا الطاعة تمادى الوقت بما يحصل به الكفاية من عند الله تعالى فكان كما قال. وفيها، توفي الأمير محمد بن مردنيش «1» صاحب شرقي بلاد الأندلس وهي مرسبة وبلنسية «2» وغيرهما، فقصد أولاده أبا يعقوب يوسف بن عبد المؤمن ملك المغرب وسلموا إليه بلادهم «3» ، فسرّ بذلك يوسف وتسلمها منهم، وتزوج أختهم وأكرمهم، ووصلهم بالأموال الجزيلة، وكان قد قصدهم يوسف المذكور في مئة ألف مقاتل فأجابوا بدون قتال كما ذكرنا. وفيها، عبر الخطا نهر جيحون فجمع خوارزم شاه أرسلان بن أطسز بن محمد ابن أنوش تكين عساكره، وسار إلى لقائهم فمرض ورجع مريضا، وأرسل عسكرا مع بعض المقدمين فقاتلوا الخطا فانهزم عسكر خوارزم شاه، وأسر مقدمهم، ورجع الخطا إلى بلادهم بعد ذلك. وفيها، اتخذ نور الدين بالشام الحمام الهوادي ويسمى المناسيب لنقل البطائق والأخبار. وفيها، عزل المستضيء وزيره عضد الدين بن رئيس الرؤساء مكرها لأن قطب الدين قيماز ألزمه بعزله فلم يمكنه مخالفته.

وفي (59) سنة ثمان وستين وخمس مئة

وفي (59) سنة ثمان وستين وخمس مئة «13» توفي خوارزم شاه أرسلان بن أطسز بن محمد بن أنوش تكين «1» ، وكان قد عاد من قتال الخطا مريضا، ولما مات ملك بعده ابنه الصغير سلطان شاه محمود «2» ، ودبرت والدته «3» المملكة، وكان ابنه الأكبر علاء الدين تكش مقيما بجند قد أقطعه أبوه إياها، فلما بلغه موت أبيه وولاية أخيه الصغير أنف من ذلك، واستنجد بالخطا وسار إلى أخيه سلطان شاه وطرده ثم إن سلطان شاه قصد ملوك الأطراف واستنجدهم على أخيه تكش وطرده، وكانت الحرب بينهم سجالا حتى مات سلطان شاه في سنة تسع وثمانين وخمس مئة، واستقر تكش في ملك خوارزم. وفي تلك الحروب بين الأخوين قتل المؤيد آي به السّنجري «4» ، قتله تكش صبرا، وملك بعده ابنه طغان شاه بن المؤيد أي به «5» . وفيها، سار شمس الدولة توران شاه بن أيوب [أخو] «6» صلاح الدين الأكبر من مصر إلى النّوبة للتغلب عليها، فلم تعجبه تلك البلاد، فغنم وعاد إلى مصر.

وفيها، توفي شمس الدين إلدكز «1» بهمذان وملك بعده ابنه محمد البهلوان، ولم يختلف عليه أحد، وكان إلدكز هذا مملوكا للكمال السّميرمي «2» ، وزير السلطان محمود ثم صار للسلطان محمود، فلما ولي مسعود ولاه وكبره حتى صار ملك أزربيجان وغيرها من بلاد الجبل وأصبهان والري، وكان عسكره خمسين ألف فارس، وكان يخطب في بلاده (60) بالسلطنة للسلطان أرسلان ابن طغريل «3» ولم يكن لأرسلان معه حكم، وكان إلدكز حسن السيرة. وفيها، سارت طائفة من الترك من ديار مصر مع مملوك لتقي الدين عمر ابن شاهنشاه بن أيوب اسمه قراقوش «4» إلى أفريقية، ونزلوا على طرابلس الغرب فحاصروها مدة، ثم فتحها قراقوش واستولى عليها، وملك كثيرا من بلاد أفريقية. وفيها، غزا أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن بلاد الإفرنج من الأندلس. وفيها، سار نور الدين محمود بن زنكي إلى بلاد قليج أرسلان بن مسعود، واستولى على مرعش وبهسنا ومرزبان وسيواس، فأرسل إليه قليج أرسلان يستعطفه ويسأل الصلح، فقال نور الدين: لا أرضى إلا أن ترد ملطية على ذي النون بن الدانشمند، وكان قليج أرسلان قد أخذها منه، فبذل له سيواس واصطلح مع نور الدين، فلما مات نور الدين عاد قليج أرسلان واستولى على

وفي سنة تسع وستين وخمس مئة

سيواس، وطرد عنها ذا النون بن الدانشمند. وفيها، سار صلاح الدين من مصر إلى الكرك وحصرها، وكان قد واعد نور الدين أن يجتمعا على الكرك فخاف صلاح الدين من الاجتماع بنور الدين، وكان نور الدين قد وصل إلى الرقيم وهو بالغرب من الكرك، فرحل صلاح (الدين) عن الكرك عائدا إلى مصر، وأرسل تحفا إلى نور الدين واعتذر أن أباه مرض وهو يخشى موته فتذهب مصر، فقبل نور الدين عذره في الظاهر، وعلم المقصود في الباطن. ولما وصل (61) صلاح الدين إلى مصر وجد أباه نجم الدين أيوب بن شاذي قد مات، وكان سبب موته أنه ركب بمصر فنفرت به فرسه، فوقع وحمل إلى قصره فبقي أياما ومات في السابع والعشرين من ذي الحجة من هذه السنة «1» وفي سنة تسع وستين وخمس مئة «13» ملك توران شاه اليمن، وكان صلاح الدين وأهله خائفين من نور الدين فاتفق رأيهم على تحصيل مملكة غير مصر بحيث إن قصدهم نور الدين قاتلوه، فإن هزمهم التجأوا إلى تلك المملكة، فجهز صلاح الدين أخاه شمس الدولة توران شاه بن أيوب إلى النّوبة فلم تعجبه بلادها، ثم سيره في هذه السنة بعسكره إلى اليمن «2» ، وكان صاحب اليمن حينئذ عبد النبي المقدم ذكره في سنة أربع وخمسين وخمس مئة، فجهز توران شاه ووصل اليمن وجرى بينه وبين

عبد النبي قتال، فانتصر توران شاه وهزم عبد النبي، وهجم زبيد (ا) وملكها، وأسر عبد النبي، ثم قصد عدن وكان صاحبها اسمه ياسر «1» فخرج لقتال توران

شاه فهزمه توران شاه، وهجم عدن وملكها وأسر ياسر (ا) واستولى توران شاه على بلاد اليمن، واستقرت في ملك صلاح الدين، واستولى على أموال عظيمة من عبد النبي، وكذلك من عدن. وفيها، في رمضان صلب صلاح الدين جماعة من أعيان المصريين، فإنهم قصدوا الوثوب عليه وإعادة الدولة العلوية، فعلم بهم وصلبهم عن آخرهم، فمنهم عبد الصمد الكاتب، والقاضي (62) العويرس، وداعي الدعاة، وعمارة بن علي اليمني «1» . وفي هذه السنة توفي الملك العادل نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي ابن آقسنقر صاحب الشام وديار الجزيرة وغير ذلك يوم الأربعاء حادي عشر شوال بعلة الخوانيق بقلعة دمشق المحروسة، وكان نور الدين قد شرع بتجهيز الدخول إلى مصر وأخذها من صلاح الدين وكان يريد أن يخلي ابن أخيه سيف الدين غازي [بن مودود] «2» بالشام، ويسير هو بنفسه إلى مصر فأتاه أمر الله الذي لا يرد، وكان نور الدين أسمر طويل القامة، ليس له لحية إلا في حنكه، حسن الصورة، وكان قد اتسع ملكه جدا وخطب له بالحرمين واليمن لما ملكها توران شاه بن أيوب، وكذلك كان يخطب له بمصر، وكان مولد نور الدين سنة إحدى عشرة وخمس مئة، وطبق الأرض ذكره بحسن السيرة والعدل «3» ، وكان من الزهد والعبادة على قدر عظيم، وكان يصلي غالب الليل كما قيل: (الكامل)

جمع الشجاعة والخشوع لربّه ... ما أحسن المحراب في المحراب وكان عارفا بالفقه على مذهب أبي حنيفة وليس عنده تعصب، وهو الذي بنى أسوار مدن الشام مثل دمشق وحماة وحمص وشيزر وبعلبك وغيرها لما تهدمت بالزلازل، وبنى المدارس الكثيرة الحنفية والشافعية، ولا يحتمل هذا «المختصر» » ذكر فضائله. ولما توفي نور الدين قام (63) ابنه الملك الصالح إسماعيل «2» بالملك بعده وعمره إحدى عشرة سنة، وحلف له العسكر بدمشق وأقام بها، وأطاعه صلاح الدين بمصر وخطب له بها، وضربت له السكة، وكان المتولي لتدبير دولته الأمير شمس الدين محمد بن عبد الملك المعروف بابن المقدم «3» ، ولما مات نور الدين وتولى ولده الملك الصالح سار سيف الدين غازي بن قطب الدين مودود صاحب الموصل وملك جميع البلاد الجزرية.

وفي سنة سبعين وخمس مئة

وفي سنة سبعين وخمس مئة «13» في أولها اجتمع على رجل من أهل الصعيد يقال له الكنز «1» جمع عظيم، وأظهر الخلاف على صلاح الدين، فأرسل إليه صلاح الدين عسكرا فقتل الكنز وجماعة معه، وانهزم الباقون. وفي سلخ ربيع الأول ملك صلاح الدين يوسف بن أيوب مدينة دمشق وحمص وحماة، وسببه أن شمس الدين بن الداية المقيم بحلب أرسل سعد الدين كمشتكين «2» يستدعي الملك الصالح بن نور الدين من دمشق إلى حلب ليكون مقامه بها، فسار الملك الصالح مع سعد الدين إلى حلب، ولما استقر بحلب تمكن كمشتكين وقبض على شمس الدين بن الداية وإخوته، وقبض على الرئيس ابن الخشاب «3» وإخوته وهو رئيس حلب. واستبد سعد الدين [كمشتكين] «4» بتدبير الملك الصالح فخافه ابن المقدم وغيره من أمراء دمشق، فكاتبوا صلاح الدين بن أيوب صاحب مصر، واستدعوه ليملكوه عليهم، فسار صلاح الدين (64) جريدة في سبع مئة فارس، ولم

يلبث فوصل إلى دمشق وخرج كل من بها من العسكر والتقوه وخدموه ونزل بدار والده أيوب المعروفة بدار العقيقي «1» ، وعصت عليه القلعة، وكان فيها من جهة الملك الصالح خادم اسمه ريحان فراسله صلاح الدين واستماله فسلم القلعة إليه فصعد إليها صلاح الدين وأخذ ما فيها من الأموال، ولما ثبت قدمه في دمشق استخلف بها أخاه سيف الإسلام طغتكين بن أيوب «2» . وسار إلى حمص مستهل جمادى الأولى، وكانت حمص، وحماة، وقلعة بارين «3» ، وسلمية، وتل خالد، والرّها من بلد الجزيرة في إقطاع فخر الدين مسعود بن الزّعفراني فلما مات نور الدين لم يمكن فخر الدين مسعود المقام بحمص وحماة لسوء تدبيره مع الناس، وكانت هذه البلاد له بغير قلاعها فإن قلاعها كان فيها ولاة لنور الدين، وليس لفخر الدين معهم في القلاع حكم إلّا بارين فإن قلعتها كانت له أيضا، فنزل صلاح الدين على حمص في حادي عشر جمادى الأولى وملك المدينة، وعصت عليه القلعة فترك عليها من يضيق عليها، ورحل إلى حماة فملك مدينتها مستهل جمادى الآخرة من السنة وكان بقلعتها

الأمير عز الدين جرديك أحد المماليك النورية فامتنع في القلعة، فذكر له صلاح الدين أنه ليس له غرض سوى حفظ بلاد الملك الصالح عليه، وإنما هو نائبه وقصده من جرديك المسير إلى حلب في رسالة فاستحلفه جرديك على ذلك (65) وسار جرديك إلى حلب برسالة من صلاح الدين واستخلف في قلعة حماة أخاه، فلما وصل جرديك إلى حلب قبض عليه كمشتكين وسجنه، فلما علم أخوه بذلك سلم قلعة حماة إلى صلاح الدين فملكها، ثم سار صلاح الدين إلى حلب وحصرها وبها الملك الصالح بن نور الدين فجمع أهل حلب وقاتلوا صلاح الدين وصدوه عن حلب، وأرسل سعد الدين كمشتكين إلى سنان مقدم الإسماعيلية أموالا عظيمة ليقتلوا صلاح الدين، فأرسل سنان جماعة ليقتلوا صلاح الدين ووثبوا على صلاح الدين فقتلوا دونه، واستمر صلاح الدين محاصرا لحلب إلى مستهل رجب، ورحل عنها بسبب نزول الفرنج على حمص، ووصل صلاح الدين إلى حماة ثامن رجب وسار إلى حمص فرحل الفرنج عنها، ووصل صلاح الدين إلى حمص وحصر قلعتها وملكها في حادي عشري شعبان، ثم [سار] «1» إلى بعلبك فملكها. ولما استقر ملك صلاح الدين لهذه البلاد أرسل الملك الصالح إلى ابن عمه سيف الدين غازي [صاحب الموصل] «2» يستنجده على صلاح الدين، فجهز جيشه صحبة أخيه مسعود بن مودود بن زنكي «3» [وجعل] «1» مقدم الجيش عز الدين محمود (ا) المعروف بسلفندار وطلب أخاه الأكبر عماد الدين زنكي بن

مودود ليسير في الصحبة فامتنع مصانعة لصلاح الدين، فسار سيف الدين غازي وحصره بسنجار، ووصل عسكر الموصل صحبة عز الدين مسعود بن مودود وسلفندار إلى حلب، وانضم (66) إليهم عسكر حلب، وساروا إلى صلاح الدين، فأرسل صلاح الدين يبذل حمص وحماة، وأن تفرد بيده دمشق، ويكون فيها نائبا للملك الصالح، فلم يجيبوه إلى ذلك، وساروا لقتاله، واقتتلوا عند قرون حماة، فانهزم عسكر الموصل وحلب، وغنم صلاح الدين وعسكره أموالهم، وتبعهم صلاح الدين حتى حصرهم بحلب وقطع صلاح الدين حينئذ خطبة الصالح بن نور الدين، وأزال اسمه عن السكة، واستبد بالسلطنة، فراسلوا صلاح الدين في الصلح على أن يكون له ما بيده من الشام، ويكون للملك الصالح ما بقي بيده منها، فصالحهم على ذلك، ورحل عن حلب في العشر الأول من شوال هذه السنة أعني سنة سبعين وخمس مئة. وفي العشر الآخر من شوال ملك السلطان صلاح الدين بارين وأخذها من صاحبها فخر الدين مسعود بن الزّعفراني، وكان فخر الدين من أكابر الأمراء النورية. وفيها ملك البهلوان بن إلدكز مدينة تبريز وأخذها من ابن آقسنقر الأحمد يلي. وفيها، مات شملة التركماني «1» صاحب خوزستان وتولى ولده. وفيها، وقع بين الخليفة وبين قطب الدين قيماز مقدم عسكر الخليفة ببغداد فتنة، فنهبت دار قيماز، وهرب إلى الحلّة ثم إلى الموصل، فلحقه في الطريق عطش شديد وهلك أكثر أصحابه، ومات هو قبل وصوله إلى الموصل، فحمل

سنة إحدى وسبعين وخمس مئة إلى سنة ثمانين وخمس مئة

ودفن بظاهر باب العمادي «1» . ولما هرب (67) قيماز خلع الخليفة على عضد الدين «2» ، وأعاده إلى الوزارة. سنة إحدى وسبعين وخمس مئة إلى سنة ثمانين وخمس مئة في سنة إحدى وسبعين وخمس مئة «13» في عاشر شوال كان المصاف بين السلطان صلاح الدين وبين غازي صاحب الموصل بتل السلطان «3» ، فهرب سيف الدين غازي والعساكر التي كانت معه، فإنه كان قد استنجد بصاحب حصن كيفا وصاحب ماردين «4» وغيرهما، وتمت على سيف الدين الهزيمة حتى وصل إلى الموصل مرعوبا، وقصد الهروب منها إلى بعض القلاع فسكنه وزيره، وأقام بالموصل. واستولى صلاح الدين على أثقال عسكر الموصل وغيرها وغنم ما فيها، ثم سار صلاح الدين إلى بزاعة فحصرها وتسلمها، ثم سار إلى منبج فحصرها في آخر شوال وصاحبها قطب الدين ينال بن حسان المنبجي وكان شديد البغض لصلاح الدين، وفتحها عنوة، وأسر ينال وأخذ جميع موجوده ثم أطلقه، فسار ينال إلى الموصل فأقطعه سيف الدين غازي مدينة الرقة، ثم سار السلطان صلاح

الدين إلى أعزاز ونازلها ثالث ذي القعدة وتسلمها حادي عشر ذي الحجة فوثب إسماعيلي على صلاح الدين فضربه بسكين في رأسه وجرحه فمسك صلاح الدين يد الإسماعيلي [وبقي يضرب بالسكين فلا يؤثر حتى قتل الإسماعيلي] «1» على تلك الحال، ووثب آخر عليه فقتله، وثالث فقتل، وجاء السلطان إلى خيمته مذعورا (68) وأعرض جنده وأبعد من أنكره منهم، ولما ملك السلطان أعزاز رحل عنها ونازل حلب في منتصف ذي الحجة وحصرها وبها الملك الصالح بن نور الدين، وانقضت هذه السنة وهو محاصر لحلب فسألوا صلاح الدين في الصلح فأجابهم و [أخرجوا] «2» إليه بنتا صغيرة لنور الدين فأكرمها وأعطاها شيئا كثيرا وقال لها: ما تريدين؟ فقالت قلعة أعزاز وكانوا قد علموها ذلك فسلمها السلطان إليهم واستقر الصلح، ورحل صلاح الدين عن حلب في العشرين من المحرم سنة اثنتين وسبعين. وفيها، نازل طاشتكين «3» أمير الحاج العراقي مكة وكان قد أمره الخليفة بعزل مكثر بن عيسى «4» صاحب مكة فجرى بين الحجاج وبينه قتال، فانهزم مكثر في البرية، وأقام طاشتكين أخاه داود «5» مقامه بمكة.

وفي سنة اثنتين وسبعين وخمس مئة

وفيها في ذي الحجة «1» قدم توران شاه بن أيوب من اليمن إلى الشام، وأرسل إلى أخيه صلاح الدين يعلمه بالحال، وكتب إليه أبياتا من شعر [ابن المنجّم] «2» المصري «3» : (الكامل) وإلى صلاح الدين أشكو أنني ... من بعده مضنى الجوانح مولع جزعا لبعد الدار عنه ولم أكن ... لولا هواه لبعد دار أجزع ولأركبنّ إليه متن عزائمي ... ويخبّ ركب للغرام ويوسع «4» ولأسرينّ الليل لا يسري به ... طيف الخيال ولا البروق اللمّع وأقدّمنّ إليه قلبي مخبرا ... أني بجسمي عن قريب أتبع (69) حتى أشاهد منه أسعد طلعة ... من أفقها صبح السعادة يطلع وفي سنة اثنتين وسبعين وخمس مئة «13» قصد السلطان صلاح الدين بلد الإسماعيلية في المحرم فنهبه وخربه وأحرقه وحصر قلعة مصياف، وأرسل سنان مقدم الإسماعيلية إلى خال صلاح الدين وهو شهاب الدين الحارمي صاحب حماة يسأل أن يسعى في الصلح، فسأل

وفي سنة ثلاث وسبعين وخمس مئة

الحارمي الصفح عنهم فأجابهم صلاح الدين وصالحهم ورحل عنهم، وأتم السلطان صلاح الدين مسيره إلى مصر فإنه كان قد بعد عهده بها بعد أن استقر له ملك الشام. ولما وصل إلى مصر في هذه السنة أمر ببناء السور الدائر على مصر والقاهرة والقلعة التي على الجبل المقطم، ودور ذلك تسعة وعشرون ألف ذراع [وثلاث مئة ذراع] «1» بالهاشمي، ولم يزل العمل فيه إلى أن مات صلاح الدين. وفيها، أمر صلاح الدين ببناء المدرسة التي على قبر الإمام الشافعي بالقرّافة «2» ، وعمل بالقاهرة مارستان «3» . وفي سنة ثلاث وسبعين وخمس مئة «13» في جمادى الأولى سار السلطان إلى الساحل لغزو الفرنج، فوصل إلى عسقلان في رابع عشريه، فنهب وتفرق عسكره في الإغارة، وبقي السلطان في بعض العسكر، فلم يشعر إلا بالفرنج قد طلعت عليه فقاتلهم أشد قتال، وكان لتقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب ولد اسمه أحمد وهو من أحسن الشباب أول ما تكاملت لحيته، فقال له أبوه تقي الدين (70) احمل عليهم فحمل على الفرنج وقاتلهم وأثر فيهم أثرا جميلا وعاد سالما، وأمره أبوه بالعود فقتل رجلا من الافرنج وقتل شهيدا، وتمت الهزيمة على المسلمين، وقاربت حملات الفرنج السلطان فولى منهزما إلى مصر على البرية ومعه من سلم ولقوا في طريقهم مشقة

من العطش، وهلك كثير من الدواب، وأخذت الفرنج العسكر الذين كانوا تفرقوا للإغارة أسرى، وأسر الفقيه عيسى «1» ، وكان من أكبر أصحاب السلطان فافتداه السلطان من الأسر بعد (سنتين) «2» بستين ألف دينار، ووصل السلطان إلى القاهرة نصف جمادى الآخرة، قال ابن الأثير: رأيت كتابا بخط يد صلاح الدين إلى أخيه توران شاه نائبه بدمشق يذكر له الواقعة، و [في] «3» أوله: (الطويل) ذكرتك والخطّيّ يخطر بيننا ... وقد نهلت منا المثقفة السّمر ويقول فيه: لقد أشرفنا على الهلاك غير مرة، وما نجانا الله تعالى منه إلا لأمر يريده سبحانه وتعالى" وما ثبتت إلّا وفي نفسها أمر" «4» وفيها، سار الفرنج وحصروا مدينة حماة في جمادى الأولى، وطمعت الفرنج بسبب بعد صلاح الدين بمصر وهزيمته من الفرنج، ولم يكن غير توران شاه بدمشق ينوب عن أخيه صلاح الدين وليس عنده كثير من العسكر، وكان توران شاه أيضا كثير الانهماك في اللذات مائلا إلى (71) الراحات، ولما حصروا حماة كان بها صاحبها شهاب الدين الحارمي خال صلاح الدين وهو مريض، واشتد حصار الفرنج لحماة وطال زحفهم عليها حتى إنهم هجموا بعض أطراف المدينة وكادوا يملكون البلد قهرا بالسيف، ثم جد المسلمون في القتال وأخرجوا الفرنج إلى ظاهر السور، وأقام الفرنج كذلك على حماة أربعة أيام ثم رحلوا عنها إلى

حارم، وعقيب رحيلهم عنها مات صاحبها شهاب الدين الحارمي «1» ، وكان له ابن من أحسن الناس شبابا فمات قبله بثلاثة أيام. وفيها، قبض السلطان الملك الصالح بن نور الدين صاحب حلب على سعد الدين كمشتكين، وكان قد تغلب على الأمر وكانت حارم لكمشتكين، فأرسل الملك الصالح إليهم فلم يسلموها إليه فأمر لكمشتكين أن يسلمها فأمرهم بذلك فلم يقبلوا منه، فأمر بتعذيب كمشتكين ليسلموا القلعة فعذب وأصحابه يرونه ولا يرحمونه حتى مات في العذاب «2» [وأصرّ أصحابه] «3» على الامتناع. ووصل الفرنج إلى حارم بعد رحيلهم عن حماة وحصروا حارم أربعة أشهر وأرسل الملك الصالح مالا للفرنج وصالحهم، فرحلوا عن حارم وبلغ أهلها الجهد، وبعد أن رحل الفرنج عنها أرسل إليها الملك الصالح عسكرا وحصروها فلم يبق بأهلها ممانعة فسلموها إلى الملك الصالح فاستناب بها مملوكا كان لأبيه اسمه سرخك. (72) وفيها، وفي المحرم خطب للسلطان طغريل بن أرسلان بن طغريل ابن السلطان محمد بن السلطان ملك شاه «4» المقيم ببلاد إلدكز «5» . وكان أبوه

وفي سنة أربع وسبعين وخمس مئة

أرسلان الذي تقدم ذكره قد توفي «1» . وفيها، في ذي الحجة قتل عضد الدين محمد بن عبد الله بن هبة الله «2» وزير الخليفة، وكان قد عبر دجلة عازما على الحج، فقتله الإسماعيلية، وحمل مجروحا إلى منزله فمات به، وكان مولده في جمادى الأولى سنة أربع عشرة وخمس مئة. وفي سنة أربع وسبعين وخمس مئة «13» طلب توران شاه من أخيه صلاح الدين بعلبك، وكان السلطان أعطاها شمس الدين محمد بن عبد الملك (بن) المقدم لما سلّم دمشق إلى صلاح الدين، فلم يمكن صلاح الدين منع أخيه عن ذلك، فأرسل إلى ابن المقدم ليسلم بعلبك فعصى بها ولم يسلمها فأرسل السلطان وحصره ببعلبك فطال حصارها، فأجاب ابن المقدم إلى تسليمها على عوض فعوض عنها «3» وتسلمها السلطان فاقتطعها أخاه توران شاه. وفيها، كان بالبلاد غلاء عام «4» وتبعه وباء عام. وفيها، سير السلطان صلاح الدين ابن أخيه تقيّ الدين عمر بن شاهنشاه إلى حماة وابن عمه محمد بن شيركوه «5» إلى حمص، وأمرهما بحفظ بلادهما،

وفي سنة خمس وسبعين وخمس مئة

فاستقر كلّ واحد منهما بحفظ بلاده. وفي سنة خمس وسبعين وخمس مئة «13» سار صلاح الدين وفتح حصنا كان بناه الفرنج عند مخاضة الأحزان «1» بالقرب من بانياس عند بيت يعقوب، وفي ذلك يقول (73) علي بن محمد الساعاتي الدمشقي «2» : (الطويل) أتسكن أوطان النبيين عصبة ... تمين لدى أيمانها وهي تحلف نصحتكم والنصح للدين واجب ... ذروا بيت يعقوب فقد جاء يوسف وفيها، كانت حرب بين عسكر السلطان صلاح الدين ومقدمهم ابن أخيه تقي الدين عمر وبين عسكر قليج أرسلان بن مسعود صاحب بلاد الروم، وسببها أن حصن رعبان «3» كان بيد شمس الدين بن المقدم، وطمع فيه قليج أرسلان، وأرسل إليه عسكرا ليحصروه، وكانوا قريب عشرين ألفا، فسار إليهم تقي الدين في ألف فارس فهزمهم، وكان يفتخر ويقول: هزمت بألف عشرين ألفا. وفيها، في ثاني ذي القعدة توفي المستضيء بأمر الله أبو محمد [الحسن] «4» ابن يوسف «5» وكان قد حكم في دولته ظهير الدين أبو بكر منصور بن نصر

خلافة الناصر لدين الله بن المستضيء رابع ثلاثي خلفاء بني العباس

المعروف بابن العطار «1» بعد قتل عضد الدين الوزير، فلما مات المستضيء قام ظهير الدين بن العطار وأخذ البيعة لولده الناصر لدين الله «2» . خلافة الناصر لدين الله بن المستضيء «3» رابع ثلاثي خلفاء بني العباس ولما استقرت بيعة الناصر حكم [أستاذ الدار] «4» مجد الدين أبو الفضل «5» ، وقبض على ظهير الدين بن العطار في سابع ذي القعدة ونقل إلى التاج، وأخرج ظهير الدين المذكور ميتا على رأس حمال ليلة الأربعاء ثاني عشر [ذي] «6» القعدة «7» ، (74) فثارت به العامة وألقوه عن رأس الحمال، وشدوا في ذكره

وفي سنة ست وسبعين وخمس مئة

حبلا وجروه في البلد، وكانوا يضعون في يده مغرفة تعني أنها قلم وقد غمست في العذرة، ويقولون: وقّع لنا يا مولانا، هذا فعلهم به مع حسن سيرته وكفه عن أموالهم «1» ، ثم خلص منهم ودفن. وفيها، في ذي القعدة نزل توران شاه، أخو صلاح الدين عن بعلبك، وطلب عوضا عنها الإسكندرية، فأجابه السلطان صلاح الدين إلى ذلك، وأقطع بعلبك لعز الدين فرّخشاه بن شاهنشاه بن أيوب «2» فسار فرّخشاه إلى بعلبك، وسار شمس الدولة توران شاه إلى الإسكندرية وأقام بها إلى أن مات. وفي سنة ستّ وسبعين وخمس مئة «13» في ثالث صفر، توفي سيف الدين غازي بن مودود بن زنكي «3» صاحب الموصل والديار الجزرية وكان مرضه السّل، وطال وكان عمره نحو ثلاثين سنة، وكانت ولايته عشر سنين ونحو ثلاثة أشهر، وكان حسن الصورة، مليح الشباب، تام القامة، أبيض اللون، عاقلا عادلا عفيفا، شديد الغيرة، لا يدخل بيته غير الخدم إذا كانوا صغارا، فإذا كبر أحدهم منعه، وكان عفيفا عن أموال الرعية مع شح كان فيه، و [حين حضره الموت] «4» أوصى بالمملكة بعده إلى أخيه

عز الدين مسعود بن مودود، وأعطى جزيرة ابن عمر وقلاعها لولده سنجر شاه «1» ، فاستقر ذلك بعد موته حسبما قرره، وكان مدبر الدولة والحاكم فيها مجاهد الدين قيماز «2» . وفيها، سار السلطان صلاح الدين (75) إلى جهة قليج أرسلان بن مسعود صاحب بلاد الروم، ووصل إلى رعبان ثم اصطلحوا، فقصد صلاح الدين إلى جهة بلاد ابن ليون الأرمني وشن فيها الغارات، فصالحه ابن ليون على مال حمله وأسرى أطلقهم. وفيها، توفي شمس الدولة توران شاه بن أيوب «3» أخو صلاح الدين الأكبر بالإسكندرية، وكان له معها أكثر بلاد اليمن، ونوابه هناك يحملون إليه الأموال من زبيد وعدن وغيرهما «4» ، وكان أجود الناس وأسخاهم كفا يخرج كل ما يحمل إليه من الأموال اليمنية، ودخل الإسكندرية ومع هذا لما مات كان عليه [نحو مئتي] «5» ألف دينار مصرية دينا فوفاها أخوه صلاح الدين عنه لما وصل إلى مصر هذه السنة في شعبان، واستخلف بالشام ابن أخيه عز الدين فرّخشاه بن شاهنشاه بن أيوب صاحب بعلبك.

وفي سنة سبع وسبعين وخمس مئة

وفي سنة سبع وسبعين وخمس مئة «13» عزم البرنس صاحب الكرك «1» على المسير إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم والاستيلاء على تلك النواحي الشريفة، وسمع بذلك عز الدين فرّخشاه نائب عمه السلطان صلاح الدين بدمشق، فجمع وقصد بلاد الكرك وأغار عليها، وأقام في مقابلة البرنس ففرق البرنس جموعه وانقطع عزمه عن الحركة. وفيها، وقع بين نواب توران شاه باليمن بعد موته اختلاف كثير، فخشي السلطان صلاح الدين [على اليمن] «2» فجهز جيشا مع جماعة من أمرائه «3» فوصلوا إلى اليمن وأسرعوا واستولوا عليه. وكان نائب (76) توران شاه على عدن عز الدين عثمان بن الزّنجيلي «4» ، وعلى زبيد خطّاب «5» بن كامل بن منقذ الكناني من بيت صاحب شيزر.

وفي سنة ثمان وسبعين وخمس مئة

وفيها، في رجب توفي الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين محمود بن زنكي بن آقسنقر «1» صاحب حلب وعمره نحو تسع عشرة سنة، ولما اشتد به مرض القولنج وصف له الأطباء الخمر فمات ولم يستعمله، وكان حليما عفيف اليد والفرج واللسان، ملازما لأمور الدين، لا يعرف له [شيء] «2» مما يتعاطاه الشباب، وأوصى بملك حلب إلى [ابن] «3» عمه عز الدين مسعود بن مودود بن زنكي صاحب الموصل، فلما مات سار مسعود ومجاهد الدين قيماز من الموصل إلى حلب واستقر في ملكها، وكاتبه أخوه عماد الدين [زنكي] «4» بن مودود صاحب سنجار في أن يعطيه حلب ويأخذ منه سنجار، فأشار قيماز بذلك فلم يمكن مسعود إلا موافقته، وأجاب إلى ذلك فسار عماد الدين إلى حلب وتسلمها وسلم سنجار إلى أخيه مسعود، وعاد مسعود إلى الموصل. وفي سنة ثمان وسبعين وخمس مئة «13» خامس المحرم، سار السلطان صلاح الدين من مصر إلى الشام ومن عجيب الاتفاق أنه لما برز من القاهرة وخرجت أعيان الناس لوداعه، أخذ كل [منهم] «5» يقول شيئا في الوداع وفراقه، وفي الجماعة معلم لبعض أولاد السلطان، فأخرج رأسه من بين الحاضرين وأنشد «6» : (الوافر) تمتع من شميم عرار نجد ... فما بعد العشية من عرار

فنظر صلاح الدين وانقبض بعد انبساطه، وتنكد المجلس على الحاضرين (77) فلم يعد بعدها صلاح الدين إلى مصر مع طول المدة. وسار السلطان وأغار في طريقه على بلاد الفرنج وغنم ووصل إلى دمشق في حادي عشر صفر، ولما سار السلطان إلى الشام اجتمعت الفرنج قرب الكرك ليكونوا على طريقه فانتهز فرّخشاه ابن أخي السلطان الفرصة وسار إلى الشّقيف بعساكر الشام وفتحه وغار على ما يجاوره من بلاد الفرنج وأرسل إلى السلطان وبشره بذلك. وفيها سيّر السلطان أخاه سيف الإسلام طغتكين إلى بلاد اليمن ليملكها ويقطع الفتن عنها، وكان بها خطّاب بن منقذ الكناني وعز الدين عثمان الزّنجيلي [وقد عادا] «1» إلى ولايتهما، فإن الأمير الذي كان قد سيره السلطان نائبا إلى اليمن تولى وعزلهما ثم توفي «2» فعاد بين خطّاب وعثمان الفتن قائمة، فوصل سيف الإسلام إلى زبيد فتحصن خطّاب في بعض القلاع، فلم يزل سيف الإسلام يتلطف به حتى نزل إليه فأحسن صحبته. ثم إن [خطّابا] «3» طلب دستورا ليسير إلى الشام فلم يجبه إلا بعد جهد فجهز خطّاب أثقاله قدامه، ودخل خطّاب ليودع سيف الإسلام فقبض عليه وأرسل فاسترجع أثقاله وأخذ جميع ماله، وكان فيما أخذه سيف الإسلام من خطّاب [سبعون غلافا] «4» زردية مملوءة ذهبا عينا، ثم سجن [خطّابا] «2» في بعض قلاع اليمن فكان آخر العهد به «5» .

وأما عثمان (78) الزّنجيلي فإنه لما جرى لخطّاب ذلك خاف وسار نحو الشام وسير بأمواله في البحر فصادفها مراكب سيف الإسلام فأخذوا كل ما لعثمان الزّنجيلي، وصفت اليمن لسيف الإسلام. وفيها سار السلطان صلاح الدين من دمشق في ربيع الأول ونزل قرب طبرية وشن الإغارة على بلاد الفرنج مثل بيسان «1» وجينين والغور فغنم وقتل، وعاد إلى دمشق ثم سار إلى بيروت وحصرها وأغار على بلادها ثم عاد إلى دمشق، ثم سار إلى البلاد الجزرية وعبر الفرات من البيرة فسار معه مظفر الدين كوكبوري بن زين الدين علي كوجك بن بكتكين «2» ، وكان حينئذ صاحب حران وكاتب السلطان صلاح الدين ملوك تلك الأطراف واستمالهم، فأجابه نور الدين محمد بن قرا أرسلان صاحب كيفا وصار معه، وحاصر السلطان الرّها وملكها وسلمها إلى مظفر الدين كوكبوري صاحب حران، ثم سار السلطان إلى الرقة وأخذها من صاحبها قطب الدين ينال بن حسان المنبجي فسار ينال إلى عز الدين مسعود صاحب الموصل، وسار السلطان إلى الخابور وملك فرقيسياء وماكسين وعربان واستولى على الخابور جميعه ثم سار إلى نصيبين وحاصرها وملك المدينة ثم ملك القلعة وأقطع نصيبين أميرا كان معه يقال له أبو الهيجاء السّمين «3» ، ثم

سار عن نصيبين وقصد الموصل، وقد استعد صاحبها عز الدين مسعود (79) ومجاهد الدين قيماز للحصار وشحنوها بالرجال والسلاح فحصر السلطان الموصل وأقام عليها منجنيقا، فأقاموا من داخل المدينة تسعة مناجيق وضايق الموصل فنزل السلطان محاذيا باب كندة، ونزل صاحب حصن كيفا [على] «1» باب الجسر، ونزل تاج الملوك بوري «2» أخو صلاح الدين على باب العمادي، وجرى القتال بينهم وكان ذلك في شهر رجب، فلما رأى حصارها يطول رحل عن الموصل إلى سنجار وحاصرها وملكها واستناب بها سعد الدين بن معين الدين أنر «3» وكان من أكابر الأمراء وأحسنهم صورة ومعنى. ثم سار السلطان إلى حران وعزل في طريقة أبا الهيجاء السمين عن نصيبين. وفيها، عمل البرنس صاحب الكرك أصطولا في بحر أيلة وساروا في البحر فرقتين: فرقة أقامت على حصن أيلة يحصرونه، وفرقة سارت نحو عيذاب يفسدون في السواحل، وبغتوا المسلمين بتلك النواحي فإنهم لم يعهدوا بذلك البحر فرنجيا قط، وكان بمصر الملك العادل [أبو] «4» بكر نائبا عن أخيه السلطان صلاح الدين فعمل أصطولا في بحر عيذاب وأرسله مع حسام الدين لؤلؤ الحاجب «5» وهو متولي الأصطول، بمصر وكان مظفرا فيه شجاعة فسار حسام

الدين مجدا في طلبهم وأوقع بالذين يحاصرون أيلة فقتلهم وأسرهم، وسار في طلب الفرقة الثانية وكانوا قد عزموا على الدخول إلى الحجاز الشريف مكة والمدينة حرسهما الله تعالى، وسار لؤلؤ يقفو أثرهم فبلغ [رابغ] «1» فأدركهم (80) بساحل الحوراء «2» وتقاتلوا في البحر أشد قتال وظفر الله تعالى المسلمين بهم، وقتل لؤلؤ أكثرهم وأخذ الباقين أسرى، وأرسل منهم ألفي رجل إلى منى لينحروا بها «3» وعادوا بالباقين إلى مصر فقتلوا عن آخرهم. وفيها، توفي عز الدين فرّخشاه بن شاهنشاه بن أيوب «4» صاحب بعلبك وكان ينوب عن صلاح الدين بدمشق وهو ثقته من بين أهله، وكان فرّخشاه شجاعا كريما فاضلا وله شعر جيد، ووصل خبر موته إلى صلاح الدين وهو في البلاد الجزرية فأرسل إلى دمشق [شمس الدين] «5» محمد بن عبد الملك (بن) المقدّم ليكون بها، وأقر بعلبك على بهرام شاه بن فرّخشاه «6» المذكور.

وفي سنة تسع وسبعين وخمس مئة

وفي سنة تسع وسبعين وخمس مئة «13» ملك صلاح الدين حصن آمد بعد حصار وقتال في العشر الأول من المحرم وسلمها إلى نور الدين محمد بن قرا أرسلان بن داود بن سقمان بن أرتق صاحب كيفا، ثم سار إلى الشام وقصد تل خالد من أعمال حلب وملكها، ثم سار إلى عين تاب وحصرها وبها ناصر الدين محمد «1» [أخو] «2» الشيخ إسماعيل الذي كان خازن نور الدين محمود بن زنكي، وكان قد سلم نور الدين عين تاب إلى إسماعيل المذكور فبقيت معه إلى الآن، فملكها بتسليم صاحبها إليه فأقره صلاح الدين عليها وبقي من جملة أمراء السلطان، ثم سار السلطان إلى حلب وحصرها وبها عماد الدين زنكي بن مودود بن عماد الدين زنكي بن آقسنقر، وطال الحصار عليه، وكان قد كثرت اقتراحات أمراء حلب وأهلها عليه، وقد ضجر من ذلك، وقد كره حلب لذلك (81) فأجاب السلطان صلاح الدين إلى تسليم حلب على أن يعوض عنها سنجار ونصيبين والخابور والرقّة وسروج واتفقوا على ذلك، وسلم حلب إلى السلطان في صفر هذه السنة، فكان أهل حلب ينادون على عماد الدين: يا حمار بعت حلب بسنجار، وشرط السلطان على عماد الدين زنكي الحضور إلى خدمته بنفسه وعسكره متى استدعاه ولا يحتج بحجة عن ذلك، ومن عجيب الاتفاق أن محيي الدين بن الزكي «3» قاضي

دمشق مدح السلطان بقصيدة منها «1» : (البسيط) وفتحكم حلبا بالسيف في صفر ... [مبشر] «2» بفتوح القدس في رجب فوافق فتح القدس في رجب سنة ثلاث وثمانين وخمس مئة، وكان في جملة من قتل على حلب تاج الدين بوري «3» أخو السلطان الأصغر وكان شجاعا كريما طعن في ركبته فانفكت فمات منها. ولما استقر الصلح عمل زنكي دعوة للسلطان واحتفل فيها فبينما هم في سرورهم إذ جاء إنسان فأسرّ إلى السلطان بموت أخيه بوري فوجد عليه قلبه وجدا عظيما وأمر بتجهيزه سرا، ولم يعلم السلطان في ذلك الوقت أحدا ممن كان في تلك الدعوة كيلا يتنكد عليهم ما هم فيه، وكان السلطان يقول: ما وقعت علينا حلب رخيصة بموت بوري، وكان هذا من السلطان من الصبر العظيم. ولما ملك السلطان حلب أرسل إلى حارم وبها سرخك الذي ولاه الملك الصالح بن نور الدين في تسليم حارم وجرى (82) بينهما مراسلة فلم ينتظم بينهما حال، وكاتب سرخك الفرنج فوثب عليه أهل القلعة وقبضوه وسلموا [حارما] «4» إلى السلطان فتسلمها وقرر أمر بلاد حلب واقطع أعزاز أميرا يقال له سليمان بن جندر «5» .

وفيها، قبض عز الدين صاحب الموصل على نائبه مجاهد الدين قيماز. وفيها، لما فرغ السلطان من تقرير أمر حلب جعل فيها ولده الملك [الظاهر] «1» غازي وسار إلى دمشق، وتجهز منها للغزو، وعبر نهر الأردن تاسع جمادى الآخرة من هذه السنة، وأغار على بيسان وأحرقها، وشن الإغارة على تلك النواحي. ثم تجهز السلطان إلى الكرك، وأرسل إلى أخيه الملك العادل أبي بكر بمصر يأمره أن يلاقيه إليها، فسارا واجتمعا عليها، وحصر الكرك وضيق عليها ثم رحل عنها في منتصف شعبان، وسار معه أخوه العادل وأرسل السلطان ابن أخيه الملك المظفر تقي الدين عمر إلى مصر نائبا له موضع العادل، ووصل السلطان إلى دمشق وأعطى [أخاه] «2» العادل مدينة حلب وقلعتها وأعمالها وسيره إليها في شهر رمضان، وأحضر ولده الظاهر منها إلى دمشق. وفيها، توفي [شاه أرمن سكمان] «3» بن ظهير الدين إبراهيم بن سكمان القطبي «4» صاحب خلاط، وكان عمره لما توفي أربعا وستين سنة. ولما توفي شاه

وفي سنة ثمانين وخمس مئة

أرمن كان بكتمر «1» مملوك أبيه بميّافارقين. فلما سمع بكتمر بموته سار من ميّافارقين إلى خلاط، وكان أهلها يريدونه ومماليك شاه أرمن (83) متفقين معه فأول وصوله تملك خلاط وجلس على كرسي شاه أرمن واستقر في مملكة خلاط حتى قتل سنة تسع وثمانين. وفي سنة ثمانين وخمس مئة «13» سار أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن ملك الغرب إلى بلاد الأندلس وعبر البحر في جمع عظيم من عساكره وقصد بلاد الفرنج وحصر شنترين «2» من غرب الأندلس، وأصابه مرض فمات منه في ربيع الأول وحمل في تابوت إلى مدينة إشبيلية، وكان حسن السيرة واستقامت له المملكة لحسن تدبيره. ولما مات بايع الناس ولده يعقوب بن يوسف وكنيته أبو يوسف وملكوه عليهم في الوقت الذي مات فيه أبوه لئلا يكونوا بغير ملك يجمع كلمتهم لقربهم من العدو، فقام يعقوب بالملك أحسن قيام، وأقام راية الجهاد وأحسن السيرة. وفيها، في ربيع الآخر سار السلطان صلاح الدين من دمشق للغزاة، وكتب إلى مصر فسارت عساكره إليها ونازل الكرك وضيق عليه وملك ربضه، وبقيت

القلعة وليس بين القلعة والربض إلا خندق خشب «1» ، وقصد السلطان أن يطمه فلم يمكنه لكثرة المقاتلة فجمعت الفرنج فارسها وراجلها وقصدوه فلم يمكن السلطان إلا الرحيل، فرحل [عن الكرك وسار] «2» إليهم وأقاموا في أماكن وعرة، وأقام السلطان قبالتهم وسار من الفرنج جماعة ودخلوا الكرك فعلم بامتناعه عليه، فسار إلى نابلس وأحرقها ونهب ما بتلك النواحي وقتل وسبى فأكثر، فسار إلى صبصطية «3» (84) وبها مشهد زكريا فاستنفذ من بها من أسرى المسلمين، ثم سار إلى جينين وعاد إلى دمشق. وفيها، مات قطب الدين إلغازي بن نجم الدين ألبي بن حسام الدين تمرتاش ابن إلغازي بن أرتق «4» صاحب ماردين وقد تقدم في سنة سبع [وأربعين] «5» وخمس مئة ملك ألبي بن تمرتاش» ، وبقى ألبي في ملك ماردين حتى مات وملك ولده قطب الدين إلغازي، ولما مات إلغازي المذكور كان له أولاد أطفال، فأقيم في الملك بعده ولده حسام الدين يولق أرسلان، وقام بتدبير المملكة مملوك والده نظام الدين ألبقش «7» حتى كبر يولق أرسلان، وكان به هوج وخبط فمات يولق «8» وأقام [ألبقش] «5» بعد [5] «5» أخاه [الأصغر] «5» أرتق أرسلان ولقبه

ناصر الدين «1» ولم يكن له الحكم بل الحكم إلى ألبقش وإلى مملوك لألبقش اسمه لؤلؤ كان قد تغلب على أستاذه ألبقش بحيث كان لا يخرج ألبقش عن رأي لؤلؤ المذكور، وبقي الأمر كذلك إلى سنة إحدى وست مئة «2» فمرض النظام ألبقش، وأتاه ناصر الدين صاحب ماردين يعوده، فلما خرج من عنده خرج معه لؤلؤ فضربه ناصر الدين بسكين فقتله وعاد إلى ألبقش فضربه بسكين فقتله أيضا، واستقل ناصر الدين أرتق أرسلان بملك ماردين من غير منازع. وفيها، سار شيخ الشيوخ صدر الدين عبد الرحيم «3» من عند الخليفة إلى صلاح الدين في رسالة ومعه شهاب الدين بشير الخادم «4» ليصلحا بين السلطان صلاح الدين وبين عز الدين مسعود صاحب الموصل فلم ينتظم (85) حالهما، واتفق أنهما مرضا بدمشق وطلبا المسير إلى العراق وسارا في الحر، فمات بشير بالسّخنة «5» ، ومات صدر الدين شيخ الشيوخ بالرّحبة ودفن بمشهد البوق، وكان أوحد زمانه قد جمع بين رئاسة الدين والدنيا. وفيها في المحرم، أطلق عز الدين مسعود صاحب الموصل مجاهد الدين قيماز

سنة إحدى وثمانين وخمس مئة إلى سنة تسعين وخمس مئة

من الحبس وأحسن إليه. سنة إحدى وثمانين وخمس مئة إلى سنة تسعين وخمس مئة في سنة إحدى وثمانين وخمس مئة «13» حصر السلطان صلاح الدين الموصل وهو حصاره الثاني فأرسل إليه عز الدين مسعود والدته [وابنة عمه] «1» وابن عمه «2» نور الدين محمود بن زنكي وغيرها من النساء يطلبون منه ترك الموصل وما بأيديهم فردهم واستقبح الناس ذلك من صلاح الدين لا سيما والشفعاء بنت نور الدين وأخوها «2» ووالدة عز الدين، وحاصر الموصل وضايقها، وبلغه وفاة شاه أرمن صاحب خلاط في ربيع الآخر هذه السنة «3» فسار عن الموصل إلى جهة خلاط وملكها. وفيها، توفي نور الدين محمد بن قرا أرسلان بن داود بن سقمان بن أرتق «4» صاحب حصن كيفا وآمد وملك بعده ولده قطب الدين سقمان «5» وكان صغيرا فقام بتدبيره القوام بن سماقا الإسعردي «6» ، وحضر سقمان إلى السلطان صلاح الدين، وهو نازل على ميّافارقين، فأقره على ما كان بيد والده نور الدين

ملك صلاح الدين ميافارقين

محمد بن قرا أرسلان (86) وأقام معه أميرا من أصحاب والده. ملك صلاح الدين ميّافارقين لما سار السلطان عن الموصل إلى أخلاط جعل طريقه على ميّافارقين، وكانت لصاحب ماردين الذي توفي وبها من يحفظها من جهة شاه أرمن صاحب خلاط المتوفى، ثم إن السلطان رجع عن قصد أخلاط إلى الموصل فجاءته رسل عز الدين مسعود تسأل الصلح، واتفق أن السلطان مرض ورجع من كفر زمار «1» عائدا إلى حران، فلحقته رسل صاحب الموصل بالإجابة إلى ما طلب، وهو أن يسلم صاحب الموصل إلى السلطان شهرزور وأعمالها وولاية القرابلي وجميع ما وراء الزاب، وأن يخطب للسلطان صلاح الدين على جميع منابر الموصل، وأن يضرب اسمه على الدراهم والدنانير، وتسلم السلطان ذلك، واستقر الصلح وأمنت البلاد. ووصل السلطان إلى حران وأقام بها مريضا، واشتد به المرض حتى إنهم أيسوا منه، ثم إنه عوفي وعاد إلى دمشق في المحرم سنة اثنتين وثمانين وخمس مئة. ولما اشتدّ مرض السلطان سار ابن عمه محمد بن شيركوه صاحب حمص إلى حمص وكاتب بعض أكابر دمشق في أن يسلموا إليه دمشق إذا مات السلطان. وفيها، ليلة عيد الأضحى شرب بحمص صاحبها ناصر الدين (87) محمد ابن شير كوه بن شاذي فأصبح ميتا «2» ، قيل: إن السلطان صلاح الدين دسّ عليه من سقاه سمّا فمات لما بلغه مكاتبة أهل دمشق في مرضه، ولما مات أقر السلطان

في سنة اثنتين وثمانين وخمس مئة

حمص وما كان بيد محمد على ولده شير كوه «1» وعمره اثنتا عشرة سنة، وخلف صاحب حمص شيئا كثيرا من الدوابّ والآلات وغيرها، واستعرضها السلطان عند نزوله بحمص في عوده من حران وأخذ أكثرها ولم يترك إلا ما لا خير فيه. في سنة اثنتين وثمانين وخمس مئة «13» أحضر السلطان ولده الملك الأفضل «2» من مصر وأقطعه دمشق، وسببه أن الملك المظفر تقي الدين عمر ابن أخي السلطان كان نائب عمه بمصر ومعه الملك الأفضل، فأرسل الملك المظفر يشتكي من الأفضل: إنني لا أتمكن من استخراج الخراج لأنني إذا أحضرت من عليه الخراج وأردت عقوبته يطلقه الملك الأفضل، فأخرج ولده من مصر، وأقطعه دمشق، وتغير السلطان على تقي الدين في الباطن لأنه ظنّ أنه إنما أخرج الأفضل من مصر ليتملّكها إذا مات السلطان، ثم أحضر أخاه العادل من حلب، وجعل معه العزيز عثمان «3» ولده نائبا عنه بمصر،

وفي سنة ثلاث وثمانين وخمس مئة

واستدعى تقي الدين من مصر فتوقف عن الحضور، وقصد اللحوق بمملوكه قراقوش المستولي على بلاد برقة وأفريقيّة من المغرب، وبلغ السلطان ذلك فساءه، وأرسل يستدعي تقي الدين ويلاطفه فحضر إليه، ولما حضر تقي الدين عند السلطان زاده حماة وعليها منبج والمعرة، (88) وكفر طاب، وميّافارقين، وجبل جور بجميع أعمالها، واستقر العزيز عثمان ولد السلطان بمصر هو والعادل، ولما أخذ السلطان حلب من أخيه العادل عوضه عنها حران والرّها. وفيها، غدر البرنس صاحب الكرك، وأخذ قافلة عظيمة من المسلمين وأسرهم، وأرسل السلطان يطلب منه إطلاقهم بحكم الهدنة التي كانت بينهم على ذلك فلم يفعل، فأنذر السلطان أنه إن ظفره الله به قتله بيده. وفيها، توفي البهلوان محمد بن إلدكز «1» صاحب بلد الجبل همذان والري وأصفهان وأذربيجان وأرانية وغيرها من البلاد، وكان عادلا حسن السيرة، وملك البلاد بعده أخوه قزل أرسلان عثمان، وكان السلطان طغريل [بن أرسلان بن طغريل] «2» بن محمد بن ملكشاه السّلجوقي مع البهلوان، وله الخطبة في بلاده، وليس له من الأمر شيء، فلما مات البهلوان خرج طغريل عن حكم قزل وكثر جمعه واستولى على بعض البلاد، وجرى بينه وبين قزل أرسلان حروب. وفي سنة ثلاث وثمانين وخمس مئة «13» كانت مبادئ غزوات صلاح الدين وفتوحه. ففيها، جمع السلطان العساكر، وسار بفرقة من العسكر وضايق الكرك خوفا على الحجاج من صاحب الكرك، وأرسل فرقة أخرى مع ولده الملك الأفضل

فأغازوا على بلاد عكّا وتلك الناحية وغنموا شيئا كثيرا، ثم سار السلطان ونزل طبرية وحصر مدينتها، وفتحها عنوة بالسيف (89) وتأخرت القلعة، وكانت طبرية للقومص صاحب طرابلس «1» ، وكان قد هادن السلطان ودخل في طاعته، فأرسلت الفرنج إلى القومص القسوس والبطاركة ينهونه عن موافقة السلطان، ويوبخونه فصار معهم، واجتمع الفرنج لملتقى السلطان فكانت وقعة حطين، وهي الوقعة العظيمة التي فتح الله بها الساحل وبيت المقدس. لما فتح السلطان طبرية اجتمعت الفرنج بفارسهم وراجلهم، وساروا إلى السلطان، فركب السلطان من طبرية وسار إليهم يوم السبت لخمس بقين من ربيع الآخر، والتقى الجمعان، واشتدّ بينهم القتال، فلما رأى القومص شدة الأمر حمل على من قبله من المسلمين، وكان هناك تقي الدين عمر صاحب حماة فأفرج له ثم عطف عليه فقتل ألف فارس من أصحابه، ونجا القومص من المعركة، ووصل إلى طرابلس وبقي مدة ومات، ونصر الله المسلمين وأحدقوا بالفرنج من كلّ جانب وأبادوهم قتلا وأسرا، وكان من جملة من أسر ملك الفرنج الكبير «2» والبرنس أرناط صاحب الكرك وصاحب جبيل «3» والهنفري بن هنفري «4»

ومقدم الدويّة «1» ، وجماعة من الإسبتارية «2» ، وما أصيب الفرنج من حين خرجوا إلى الشام وهي سنة إحدى وتسعين وأربع مئة بمصيبة مثل هذه الواقعة. ولما انقضى المصافّ جلس السلطان في خيمته، وأحضر ملك الفرنج وأجلسه إلى جانبه (90) وكان الحرّ والعطش شديدا فسقاه ماء مثلوجا فسقى ملك الفرنج منه البرنس أرناط صاحب الكرك، فقال له السلطان: إن هذا الملعون لم يشرب الماء بإذني فيكون أمانا له، ثم كلم السلطان البرنس ووبّخه وقرّعه على غدره وقصده الحرمين الشريفين، وقام السلطان بنفسه فضرب عنقه «3» بيده فارتعدت فرائص ملك الفرنج فسكّنه السلطان. ثم عاد السلطان إلى طبرية، وفتح قلعتها بالإمان، ثم سار إلى عكّا وحاصرها وفتحها بالأمان ثم أرسل أخاه الملك العادل فحاصر مجدل يابا «4» وفتحه عنوة بالسيف، ثم فرق السلطان عسكره ففتحوا الناصرة وقيساريّة وحيفا وصفّورية ومعليا «5» والفولة وغيرها من البلاد المجاورة لعكّا بالسف، وغنموا وقتلوا وأسروا

أهل هذه الأماكن، وأرسل فرقة إلى نابلس ففتحوا قلعتها بالأمان، ثم سار الملك العادل بعد فتح مجدل يابا إلى يافا وفتحها بالسيف، وسار السلطان إلى تبنين وفتحها بالأمان، ثم سار السلطان الملك الناصر صلاح الدين إلى صيدا فأخلاها صاحبها وتسلمها السلطان ساعة وصوله لتسع بقين من جمادى الأولى هذه السنة، ثم سار إلى بيروت وحصرها وتسلمها في التاسع والعشرين من جمادى الأولى بالأمان، وكان حصرها مدة ثمانية أيام، [وكان صاحب جبيل من جملة الأسرى فبذل [جبيلا] «1» في أن يسلمها ويطلق سراحه، فأجيب إلى ذلك] «2» وكان صاحب جبيل من أعظم الفرنج وأشدهم عداوة للمسلمين ولم تك عاقبة إطاقه (91) حميدة، وأرسل السلطان من تسلم [جبيلا] «3» وأطلقه. وفيها، حضر المركيس «4» في سفينة إلى عكّا، وهى للمسلمين، ولم يعلم المركيس بذلك، واتفق هجوم الهواء فراسل المركيس الملك الأفضل وهو بعكّا يقترح أمانا فكتب له الملك الأفضل أمانا فرده يشترط فيه شروطا فأجيب إليها، فراسل الملك الأفضل يعمله أن يدوس بساطه في يوم معلوم فصبر عليه الملك الأفضل، فاتفق في ذلك اليوم تحرك الهواء فأقلع المركيس إلى صور واجتمعت عليه الفرنج الذين بها وملك صور.

< فتح بيت المقدس >

وكان وصول المركيس إلى صور وإطلاق الفرنج الذين أخذ السلطان بلادهم بالأمان ويطلقهم [إلى صور] «1» من أعظم أسباب الضرر التي حصلت حتى راحت عكّا وقوي الفرنج بذلك. ثم سار السلطان إلى عسقلان وحاصرها أربعة عشر يوما وتسلمها بالأمان سلخ جمادى الآخرة، ثم بث السلطان عسكره ففتحوا الرملة، والدارون، وغزة، وبيت لحم، وبيت جبريل، والنطرون، وغير ذلك. (فتح بيت المقدس) ثم سار السلطان ونازل القدس وبه من النصارى عدد يفوق الحصر، وضايق السلطان السور بالنقابين واشتد القتال بينهم وغلقوا السور. فطلب الفرنج الأمان فلم يجبهم السلطان إليه، وقال: لا آخذها إلا بالسيف مثل ما أخذها الفرنج من المسلمين فعاودوه بالأمان وعرفوه ما هم عليه من الكثرة وأنهم إن أيسوا من الأمان قاتلوا خلاف ذلك فأجابهم السلطان إليه بشرط أن يؤدي كل من بها (92) من الرجال عشرة دنانير، ومن النساء خمسة، ومن الطفل دينارين، ومن عجز عن الأداء كان أسيرا، فأجيب إلى ذلك، وسلمت إليه المدينة يوم الجمعة سابع وعشري رجب، وكان يوما مشهودا ورفعت الأعلام الإسلامية على أسواره، ورتب السلطان على أبواب البلد من يقبض منهم المال المذكور فخان المرتّبون في ذلك ولم يقبضوا منه إلا القليل، وكان على رأس قبة الصخرة صليب كبير مذهب فتسلق المسلمون وقلعوه، وسمع لذلك ضجة عظيمة لم يعهد مثلها من المسلمين للفرح والسرور ومن الكفار التفجع والتوجع، وكان الفرنج قد عملوا في الجامع الأقصى هريا ومستراحا فأمر السلطان بإزالة ذلك، وإعادة الجامع إلى ما كان

عليه. وكان نور الدين محمود بن زنكي قد عمل منبرا بحلب وتعب عليه مدة، وقال: هذا لأجل القدس، فأرسل صلاح الدين من أحضره من حلب وجعله في الجامع الأقصى. وأقام السلطان بعد فتوح القدس بظاهره إلى الخامس والعشرين من شعبان يدبر أمور البلد وأحواله، ويقوم بعمل الربط والمدارس للشافعية، ثم رحل إلى عكّا ومنها إلى صور وصاحبها المركيس قد حصنها بالرجال وحفر خنادقها، ونزل السلطان على صور تاسع شهر رمضان وحاصرها وضايقها وطلب الأصطول فوصل إليه في عشر شوان فاتفق أن الفرنج كبسوهم وأخذوا خمس شوان ولم يسلم من المسلمين إلا من سبح ونجا وأخذ (93) الباقون فطال الحصار عليها فرحل السلطان عنها في آخر شوال وكان أول كانون الأول، وأقام بعكّا وأعطى العساكر الدستور فسار كل واحد إلى بلده وبقي السلطان بعكّا في حلقته وأرسل إلى هونين فتحها بالأمان. وفيها سار شمس الدين محمد بن عبد الملك (بن) المقدم حاجا، وكان هو أمير الحاج الشامي ليجمع بين الغزاة وزيارة القدس والخليل والحج في عام واحد، فسار ووقف بعرفات ولما أفاض أرسل إليه مجير الدين طاشنكين أمير الحاج العراقي بمنعه من الإفاضة قبله فلم يلتفت إليه، فسار العراقيون وارتفقوا مع الشاميين فقتل بينهم جماعة، وابن المقدم يمنع أصحابه من القتال ولو مكنهم لانتصفوا من العراقيين، فجرح ابن المقدم ومات شهيدا ودفن بمقبرة المعلى «1» . وفيها، قوي أمر السلطان طغريل بن أرسلان شاه بن طغريل بن السلطان

وفي سنة أربع وثمانين وخمس مئة

محمد بن السلطان ملكشاه بن ألب أرسلان بن جقربك بن داود بن ميكائيل بن سلجوق وملك كثيرا من البلاد، وأرسل قزل أرسلان بن إلدكز يستنجد الخليفة ويخوفه عاقبة أمر طغريل. وفيها، سار شهاب الدين الغوري [ملك غزنة] «1» وغزا بلاد الهند. وفيها، قتل الخليفة الناصر أستاذ داره أبا الفضل مجد الدين بن الصاحب «2» ولم يكن للخليفة معه حكم، وظهر له أموال عظيمة فأخذت جميعها. وفيها استوزر الخليفة الناصر جلال الدين [أبا المظفّر] «3» عبيد الله بن يونس ومشى أرباب (94) الدولة في ركابه حتى قاضي القضاة «4» . وفي سنة أربع وثمانين وخمس مئة «13» شتّى السلطان في عكّا، وسار بمن معه إلى كوكب وجعل على حصارها الأمير قيماز النجمي «5» ، وسار منها في ربيع الأول ودخل دمشق وفرح الناس

بقدومه، وكتب إلى الأطراف باجتماع العساكر، وأقام في دمشق خمسة أيام، وسار منها في ربيع الأول من السنة ونزل على بحيرة قدس غربي حمص وأتته العساكر بها، فأولهم عماد الدين زنكي بن مودود بن زنكي بن أقسنقر صاحب سنجار ونصيبين، ولما تكاملت العساكر رحل ونزل تحت حصن الأكراد وشن الغارات على بلاد الفرنج، وسار من حصن الأكراد فنزل على انطرطوس سادس جمادى الأولى «1» [فوجد الفرنج قد أخلوا انطرطوس، فسار إلى مرقيّة «2» فوجدهم قد أخلوها أيضا، فسار إلى تحت المرقب «3» وهو للاسبتار فوجده لا يرام، ولا لأحد فيه مطمع، فسار إلى جبلة ووصل إليها ثامن جمادى الأولى] ، وتسلمها ساعة وصوله، فجعل لحفظها الأمير سابق الدين عثمان بن الداية «4» صاحب شيزز، ثم سار السلطان إلى اللاذقية ووصل إليها رابع عشري جمادى الأولى ولها قلعتان فحصر القلعتين وزحف إليها فطلب أهلها الأمان فأمنهم وتسلم القلعتين، ولما تسلمهما سلمهما إلى ابن أخيه الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب [فعمرها وحصن قلعتيها] «5» ، وكان تقي الدين عظيم الهمة في تحصين القلاع والغرامة عليها كما فعل بقلعة حماة.

ثم رحل السلطان عن اللاذقية سابع عشري جمادى الأولى إلى صهيون «1» وحاصرها وضايقها وطلب أهلها الأمان فلم يجبهم إلا على أمان أهل القدس فيما يؤدون، فأجابوا إلى ذلك وتسلم السلطان قلعة صّثيون وسلمها إلى أمير من أصحابه يقال له (95) ناصر الدين منكورس «2» صاحب قلعة أبي قبيس «3» ، ثم فرق عساكره في تلك الجبال فملكوا حصن بلاطنس «4» ، وكان الفرنج الذين به قد هربوا وأخلوه، وملكوا حصن [العيذو] «5» وحصن هونين. ثم سار السلطان عن صهيون [ثالث] «6» جمادى الآخرة، ووصل إلى قلعة بكاس فأخلاها أهلها وتحصنوا بقلعة الشّغر فحاصرها السلطان ووجدها منيعة وضايقها فأرمى الله في قلوبهم الرعب وطلبوا الأمان، وتسلمها يوم الجمعة [سادس عشر] «7» جمادى الآخرة، وأرسل السلطان ولده الملك الظاهر غازي صاحب حلب فحصر [سرمينية] «8» وضايقها واستنزل أهلها على قطيعة قررها

عليهم وهدم الحصن وعفى أثره، وكان في هذه وفي جميع الحصون المذكورة من [أسرى] «1» المسلمين الجم الغفير فأطلقوا وأعطوا الكسوة والنفقة. ثم سار السلطان من الشّغر إلى برزية «2» ورتب عسكره ثلاث فرق وداومها بالزحف وملكها باليف في السابع والعشرين من جمادى الآخرة وسبى وقتل من أهلها غالبهم، قال ابن الأثير في" الكامل": كنت مع السلطان في فتحه لهذه البلاد طلبا للغزاة فنحكي ذلك عن مشاهدة «3» . ثم سار السلطان ونزل على جسر الحديد وهو على العاصي بقرب أنطاكية، فأقام عليه أياما حتى تلاحق به من تأخر من العسكر. ثم سار إلى دربساك ونزل عليها ثامن رجب هذه السنة، وحاصرها وضايقها وتسلمها بالأمان على شرط أن لا يخرج أحد منها إلا بثيابه فقط، وتسلمها تاسع عشر رجب. ثم سار إلى (96) بغراس وحصرها وتسلمها بالأمان على حكم أمان دربساك، وأرسل بينمند صاحب أنطاكية إلى السلطان يطلب منه الهدنة والصلح وبذل إطلاق كل أسير عنده فأجيب إلى ذلك واصطلحوا ثمانية أشهر، وكان صاحب أنطاكية «4» [حينئذ أعظم ملوك الفرنج في هذه البلاد، فإن أهل

طرابلس سلموا إليه طرابلس بعد موت القومص صاحبها على ما ذكرناه «1» فجعل بينمد صاحب أنطاكية] ابنه في طرابلس. ولما فرغ السلطان من أمر هذه البلاد والهدنة سار إلى حلب ودخلها ثالث شعبان «2» ، وسار منها إلى دمشق وأعطى عماد الدين زنكي (بن مودود) دستورا وكذلك أعطى غيره من العساكر الشرقية، وجعل طريقه لما رحل من حلب على قبر عمر بن عبد العزيز فزاره «3» ، وزار الشيخ أبا زكريا المغربى «4» وكان مقيما هناك وكان من عباد الله الصلحاء وله كرامات ظاهرة وكان مع السلطان الأمير أبو فليتة قاسم بن مهنا الحسيني «5» صاحب مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم وشهد معه مشاهده وفتوحاته، وكان السلطان يتبرك برؤيته ويتيمن بصحبته، ويرجع إلى قوله، ودخل السلطان دمشق في [شهر] «6» رمضان، فأشير عليه بتفريق العساكر ليريحوا ويستريحوا، فقال السلطان: العمر قصير والأجل غير مأمون، وكان السلطان لما سار إلى البلاد الشمالية قد جعل على الكرك وغيرها من يحصرها وخلى أخاه العادل بتلك الجهات فباشر ذلك، فأرسل أهل الكرك يطلبون الأمان فأمر الملك العادل المباشرين لحصارها بتسليمها فسلّموها وهي: الكرك والشّوبك وما بتلك الجهة من البلاد. ثم سار السلطان (97) من دمشق المحروسة في منتصف رمضان إلى صفد

وفي سنة خمس وثمانين وخمس مئة

وحصرها وتسلمها بالأمان. ثم سار إلى كوكب وعليها قيماز النّجمي يحاصرها «1» فضايقها السلطان وتسلمها بالأمان في منتصف ذي القعدة وسير أهلها إلى صور، وكان اجتماع أهل هذه القلاع في صور من أعظم أسباب الضرر على المسلمين، ظهر ذلك فيما بعد. ثم سار السلطان إلى القدس فعيّد فيه عيد الأضحى، ثم سار إلى عكّا فأقام بها حتى انسلخت السنة. وفيها، أرسل قزل بن إلدكز يستنجد بالخليفة الإمام الناصر على طغريل بن أرسلان بن طغريل بن محمد بن السلطان ملك شاه السّلجوقي ويحذره عاقبة طغريل، فأرسل الخليفة عسكرا إلى طغريل، والتقوا ثامن ربيع الأول هذه السنة قرب همذان، فانهزم عسكر الخليفة فغنم طغريل أموالهم وأسر مقدمهم الوزير جلال الدين «2» . وفي سنة خمس وثمانين وخمس مئة «13» سار السلطان صلاح الدين ونزل بمرج عيون، وحضر إليه صاحب شقيف أرنون وبذل له تسليم الشقيف بعد مدة عيّنها خديعة منه، فلما بقي للمدة ثلاثة أيام استحضره السلطان وكان اسمه أرناط، وقال له في التسليم، فقال: لا يوافقني عليه أهلي وأهل الحصن، فأمسكه السلطان وبعث به إلى دمشق فحبس.

وفيها، كان حصار الفرنج عكا

وفيها، كان حصار الفرنج عكّا كان قد اجتمع بصور أهل البلاد التي أخذها السلطان بالأمان فكثر (98) جمعهم حتى صاروا في عدد لا يحصى، وأرسلوا إلى البحر يبكون ويستنجدون، وصوروا المسيح وصوروا [عربيا] «1» يضرب المسيح وقد أدماه، وقالوا: هذا نبي العرب يضرب المسيح فخرجت النساء من بيوتهن، ووصل من البحر عالم لا يحصى كثرة وساروا من صور إلى عكّا ونازلوها في منتصف رجب هذه السنة، وضايقوا عكّا وأحاطوا بسورها من البحر إلى البحر، ولم يبق للمسلمين إليها طريق، فسار السلطان ونزل قريب الفرنج وقاتلهم في مستهل شعبان وباتوا على ذلك وأصبحوا، وحمل تقي الدين عمر صاحب حماة من ميمنة السلطان على الفرنج فأزالهم عن موقعهم والتزق بالسور وانفتح الطريق إلى المدينة فأدخل السلطان إلى عكّا عسكرا نجدة، وكان من جملتهم أبو الهيجاء السّمين، وبقي المسلمون يغادون القتال ويراوحونه إلى عشري شعبان، ثم كان بين المسلمين وبينهم الوقعة العظيمة، فإن الفرنج اجتمعوا وحملوا على السلطان في القلب فأزالوه عن موقفه، وأخذ الفرنج يقتلون المسلمين إلى أن بلغوا خيمة السلطان فانحاز السلطان هو وخاصته إلى جانب وانقطع مدد الفرنج واشتغلوا بقتال الميمنة، فحمل السلطان على الفرنج الذين خرقوا الميمنة وعطف الجيش عليهم وأفنوهم قتلا، فقتل في ذلك الوقت من الفرنج قريب الثلاثين ألفا «2» . ووصل المنهزمون من المسلمين بعضهم إلى طبرية وبعضهم إلى دمشق (99) وجافت الأرض بعد هذه الوقعة، ولحق السلطان مرض القولنج وأشار عليه الأمراء بالانتقال من ذلك الوضع فوافقهم ورحل عن عكّا رابع عشر رمضان هذه السنة

وفي سنة ست وثمانين وخمس مئة

إلى الخرّوبة، فلما رحل تمكن الفرنج من حصار عكّا وانبسطوا في تلك الأرض، ووصل أسطول المسلمين في البحر مع حسام الدين لؤلؤ الحاجب فظفر بأصطول الفرنج وأخذه وأخذ من الفرنج أموالا عظيمة ودخل بالكل إلى عكّا، فقوى به قلوب المسلمين وكذلك وصل الملك العادل بعسكر مصر بالسلاح إلى أخيه السلطان فقويت قلوب المسلمين بوصوله. وفي سنة ست وثمانين وخمس مئة «13» بعد دخول صفر رحل السلطان من الخرّوبة وعاد إلى قتال الفرنج بعكّا، وكان الفرنج قد عملوا قرب سور عكّا ثلاثة أبرجة طول البرج ستون ذراعا جلبوا خشبها من جزائر البحر وعملوها طبقات وشحنوها بالسلاح [والمقاتلة] «1» ولبّسوها جلود البقر والطين بالخل لئلا تعمل فيها النار، فتحيل المسلمون وأحرقوا البرج الأول فاحترق بمن فيه من الرجال والسلاح، ثم أحرقوا الثاني والثالث وانبسطت نفوس المسلمين لذلك بعد الكآبة، ووصلت إلى السلطان عساكر البلاد، وبلغ المسلمين وصول ملك الألمان «2» ، وكان قد سار من بلاد وراء القسطنطينية بمائة ألف مقاتل واغتم المسلمون لذلك وأيسوا من الشام بالكلية،

فسلط الله على الألمان الغلاء والوباء فهلك أكثرهم في الطريق، ولما وصل ملكهم (100) إلى بلاد الأرمن نزل في نهر هناك يغتسل فهلك غرقا، وأقاموا ابنه «1» مقامه فرجع من عسكره طائفة إلى بلادهم، وطائفة اختارت أخا ابن الملك المذكور فرجعوا مع ابن الملك «2» ، ووصل مع ابن الملك المتولي أولا إلى فرنج عكّا ألف مقاتل وكفى الله المسلمين شرهم، وبقي السلطان وفرنج عكّا يتناوشون القتال إلى العشرين من جمادى الآخرة فخرجت الفرنج بالفارس والراجل من خنادقهم وأزالوا الملك العادل عن موقفه وكان معه عسكر مصر، فعطف عليهم المسلمون وقتلوا من الفرنج قريب عشرة آلاف فارس فرجعوا إلى خنادقهم، وحصل للسلطان مغص فانقطع في خيمة صغيرة ولولا ذلك كانت الفيصلة، ولكن إذا أراد الله أمرا فلا مرد له. وفيها، لما قوي الشتاء واشتدت الرياح، أرسل الفرنج [المحاصرون عكّا] «3» مراكبهم إلى صور خوفا أن تنكسر فانفتحت الطريق إلى عكّا في البحر، وأرسل السلطان إليها البذل فكان العسكر الذين خرجوا منها أضعاف الواصلين إليها فحصل التفريط لذلك. وفيها، [في] «4» ثامن شوال، توفي زين الدين يوسف بن زين الدين علي كوجك «5» صاحب إربل، وكان مع السلطان بعسكره، ولما مات أقطع السلطان

وفي سنة سبع وثمانين وخمس مئة

إربل أخاه مظفر الدين كوكبوري بن زين الدين علي كوجك، وأضاف إليه شهرزور وأعمالها، وارتجع ما كان بيد المظفر وهو حران والرّها، وسار مظفر الدين إلى إربل وملكها. (101) وفيها، استولى الخليفة الناصر على حديثة عانة «1» بعد أن حصرها مدة. وفيها، [أقطع] «2» السلطان ما كان بيد مظفر الدين وهو حران والرّها وسميساط «3» [والموزر] «4» الملك المظفر تقي الدين عمر زيادة على ما بيده وهو: ميّافارقين ومن الشام حماة والمعرة وسلمية ومنبج وقلعة نجم «5» وجبلة واللاذقية وبلاطنس ومكرابيك. وفي سنة سبع وثمانين وخمس مئة «13» كان استيلاء الفرنج على عكّا واستمر حصار الفرنج لعكّا إلى هذه السنة وكانوا قد أحاطوا بها من البحر إلى البحر، وحفروا عليهم خندقا فلم يتمكن السلطان من الوصول إليهم وكانوا محاصرين لعكّا وهم كالمحصورين من خارج بالسلطان، واشتد حصارهم لعكّا وطال، وضعف من بها عن حفظ البلد، وعجز السلطان صلاح الدين عن دفع

العدو عنهم، فخرج الأمير سيف الدين علي بن أحمد المشطوب وطلب الأمان من الفرنج على مال وأسرى يقومون به للفرنج فأجابوهم إلى ذلك، وصعدت أعلام الفرنج على عكّا يوم الجمعة سابع عشر جمادى الآخرة وقت الظهر، واستولوا على البلد بما فيه، وحبسوا المسلمين في أماكن من البلد، وقالوا إنما نحبسهم ليقوموا بالمال والأسرى وصليب الصلبوت، وكتبوا إلى السلطان صلاح الدين بذلك فحصل ما أمكن تحصيله من ذلك، وطلب إطلاق المسلمين، فلم يجيبوا إلى ذلك (102) فعلم منهم الغدر واستمر أسرى المسلمين بها، ثم قتل الفرنج من المسلمين جماعة كثيرة واستمروا بالباقين في الأسر، وبعد استيلاء الفرنج على عكّا وتقرير أمرها رحلوا عنها مستهل شعبان نحو قيساريّة والمسلمون يسايرونهم ويتحفظون منهم، ثم ساروا من قيساريّة إلى أرسوف «1» ووقع بينهم وبين المسلمين مصاف أزالوا المسلمين عن مواقفهم، ووصلوا إلى سوق المسلمين فقتلوا خلقا كثيرا أكثرهم من السّوقة، ثم سار الفرنج إلى يافا وقد أخلاها المسلمون فملكوها، ثم رأى السلطان تخريب عسقلان مصلحة لئلا يحصل لها ما حصل لعكّا، فسار إليها وأخلاها ورتب الحجارين في تفليق أسوارها وتخريبها، فدكّها إلى الأرض، فلما فرغ من تخريب عسقلان رحل عنها ثاني شهر رمضان إلى الرملة فخرب حصنها وخرب كنيسة لد، ثم سار إلى القدس وقرر أموره وعاد إلى مخيمه بالنطرون ثامن رمضان. ثم تراسل الفرنج والسلطان في الصلح على أن يتزوج الملك العادل أخو السلطان بأخت ملك الانكتار «2» ، ويكون للملك العادل القدس ولامرأته عكّا،

فحضر القسيسون وأنكروا عليها ذلك إلا أن ينتصر الملك العادل فلم يتفق بينهم حال، ثم رحل الفرنج من يافا إلى الرملة ثامن ذي القعدة، وبقي كل يوم يقع بينهم وبين المسلمين مناوشات، ولقوا من ذلك شدة شديدة (103) ، وأقبل الشتاء وحالت الأوحال بينهم. ولما رأى السلطان ذلك وقد ضجرت العساكر أعطاهم الدستور وسار إلى القدس لتسع بقين من ذي القعدة، ونزل داخل البلد واستراحوا مما كانوا فيه، وأخذ السلطان في تعمير القدس وتحصينه وأمر العسكر بنقل الحجارة وكان السلطان ينقل الحجارة بنفسه على فرسه ليقتدي به العسكر فكان يجتمع عند العمالين في اليوم الواحد ما يكفيهم [لعدة] «1» أيام. وفيها، كانت وفاة الملك المظفر تقي الدين عمر «2» . كان تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب قد سار إلى البلاد المرتجعة من كوكبوري التي زاده إياها عمه السلطان من وراء الفرات، وهي حران وغيرها، فامتدت عين الملك المظفر إلى بلاد مجاورة، واستولى على السويداء «3» وحاني «4» واتقع مع بكتمر صاحب أخلاط فكسره وحصره في أخلاط وتملك معظم البلاد، ثم رحل عنها ونازل ملازكرد وهي لبكتمر وضايقها، وكان في صحبته ولده الملك المنصور محمد «5» فعرض للملك المظفر مرض شديد وتزايد

به حتى توفي يوم الجمعة لإحدى عشرة ليلة بقيت من رمضان هذه السنة، فأخفى ولده المنصور وفاته، ورحل عن ملازكرد، ووصل به إلى حماة ودفنه بظاهرها، وبنى إلى جانب التربة مدرسة وهو مشهور هناك. وكان المظفر شجاعا شديد البأس، ركنا (104) عظيما من أركان بيت أيوب، وكان عنده فضل وأدب وله شعر حسن، واتفق أن في ليلة الجمعة التي توفي فيها الملك المظفر توفي حسام الدين محمد بن عمر بن لاجين «1» وأمه ست الشام بنت أيوب «2» أخت السلطان فأصيب السلطان في تاريخ واحد بابن أخيه وابن أخته. ولما مات الملك المظفر راسل ابنه الملك المنصور السلطان صلاح الدين واشترط شروطا نسبه السلطان فيها إلى العصيان فكاد أمره أن يضطرب بالكلية، فراسل الملك المنصور الملك العادل [أخا] «3» السلطان في استعطاف خاطر السلطان، فما برح الملك العادل بأخيه السلطان يراجعه ويشفع في الملك المنصور حتى أجابه وقرر للملك المنصور حماة وسلمية والمعرة وقلعة نجم ومنبج، واسترجع منه البلاد الشرقية وأقطعها أخاه الملك العادل بعد أن شرط السلطان على الملك العادل أن ينزل عن كل ما له من الإقطاع بالشام خلا الكرك والشّوبك والصّلت والبلقاء ونصف خاصّه، بمصر وأن يكون عليه في كل سنة خمسة آلاف «4»

غرارة تحمل من الصّلت والبلقاء إلى القدس، ولما استقر ذلك سار الملك العادل إلى البلاد الشرقية وقرر أمورها، وعاد إلى خدمة السلطان في آخر جمادى الآخرة من السنة القابلة أعني سنة ثمان وثمانين. ولما قدم الملك العادل (105) على السلطان كان الملك المنصور صاحب حماة صحبته، فلما رأى السلطان الملك المنصور بن تقي الدين نهض واعتنقه وغشيه البكاء [وأكرمه] «1» وأنزله في مقدمة عسكره. وفيها، في شعبان قتل قزل أرسلان عثمان بن إلدكز «2» ، ملك أذربيجان وهمذان والري وأصفهان بعد أخيه محمد البهلوان، وكان قد قوي عليه السلطان طغريل السلجوقي وهزم عسكر بغداد كما تقدم ذكره «3» ، ثم إن قزل أرسلان تغلب واعتقل طغريل بن أرسلان شاه في بعض البلاد، وسار قزل أرسلان بعد ذلك إلى أصبهان وتعصب على الشفعوية وأخذ جماعة من أعيانهم فصلبهم وعاد إلى همذان، وخطب لنفسه بالسلطنة، ودخل لينام على فراشه وتفرق عنه أصحابه، فدخل عليه من قتله على فراشه، ولم يعرف من قتله. وفيها قدم معز الدين قيصر شاه بن قليج أرسلان «4» صاحب بلاد الروم إلى السلطان صلاح الدين، وسببه أن والده فرق مملكته على أولاده، وأعطى ولده هذا ملطية ثم تغلب بعض إخوته على أبيه قليج أرسلان وألزمه بأخذ ملطية من أخيه المذكور «5» فخاف من ذلك، وسار إلى السلطان مستجيرا فأكرمه السلطان

وفي سنة ثمان وثمانين وخمس مئة

وزوجه بابنة أخيه الملك العادل وعاد معز الدين إلى ملطية في ذي القعدة وقد انقطعت أطماع أخيه منه. قال ابن الأثير: لما ركب السلطان صلاح الدين ليودع (106) معز الدين قيصر شاه المذكور ترجل معز الدين له فترجل السلطان، فلما ركب السلطان عضده معز الدولة وركّبه، وكان علاء الدين بن عز الدين مسعود «1» صاحب الموصل مع السلطان إذ ذاك فسوى ثياب السلطان، فقال بعض الحاضرين: أما بقيت تبالي يا ابن أيوب بأي موتة تموت، يركبك ملك سلجوقي، ويصلح ثيابك ابن أتابك زنكي «2» ! وفي سنة ثمان وثمانين وخمس مئة «13» سار الفرنج إلى عسقلان وشرعوا في عمارتها والسلطان في القدس. وفيها، قتل المركيس «3» صاحب صور قتله الباطنية، وكان قد دخلوا في زيّ الرهبان إلى صور. وفيها، عقدت الهدنة مع الفرنج، وعاد السلطان إلى دمشق، وكان سبب ذلك أن ملك الانكتار مرض فطال عليه البيكار «4» فكاتب الملك العادل يسأله الدخول على السلطان في الصلح، فلم يجب السلطان إلى الصلح، ثم اتفق

الأمراء عليه لطول البيكار وضجر العسكر فأجاب السلطان واستقر أمر الهدنة يوم السبت ثامن عشر شعبان، وتحالفوا على ذلك يوم الأربعاء الثاني والعشرين من شعبان، ولم يحلف ملك الانكتار بل أخذوا يده وعاهدوه واعتذر بأن الملوك لا يحلفون، وقنع بذلك السلطان، وحلف الكندهري «1» ابن أخيه وخليفته في الساحل، وكذلك حلف غيره من عظماء الفرنج (107) ووصل ابن الهنفري وباليان «2» إلى خدمة السلطان ومعهما جماعة من مقدمي الفرنج فأخذوا يد السلطان على الصلح واستحلفوا الملك العادل أخا السلطان، والأفضل والظاهر ابني السلطان، والملك المنصور محمد بن تقي الدين عمر صاحب حماة، والملك المجاهد شير كوه صاحب حمص، والأمجد بهرام شاه ابن فرّخشاه صاحب بعلبك، والأمير بدر الدين دلدرم «3» الياروقي صاحب تل باشر، والأمير سابق الدين عثمان بن الداية صاحب شيزر، والأمير سيف الدين علي بن أحمد المشطوب وغيرهم من المقدمين الكبار، وعقدت هدنة عامة في البر والبحر وجعلت مدتها ثلاث سنين وثلاثة أشهر «4» أولها [يوافق أول] «5» أيلول الموافق لحادي عشري شعبان وكانت الهدنة على أن تستقر بيد الفرنج يافا وعملها وقيساريّة وأرسوف وحيفا وعكّا بأعمالهم، وأن تكون عسقلان خرابا، وشرط السلطان دخول

صاحب أنطاكية وطرابلس في عقد هدنتهم وأن تكون لد والرّملة مناصفة بينهم وبين المسلمين، فاستقرت القاعدة على ذلك. ورحل السلطان إلى القدس في رابع شهر رمضان، وتفقد أحواله، وأمر بتشييد أسواره، وزاد في وقف المدرسة التي عملها بالقدس، وهذه المدرسة كانت قبل الإسلام تعرف بصندحنة يذكرون أن فيها قبر حنة أم مريم، ثم صارت في الإسلام دار علم قبل أن يملك الفرنج القدس (108) ، ثم لما ملك الفرنج القدس سنة اثنتين وتسعين وأربع مئة أعادوها كنيسة كما كانت قبل الإسلام، فلما فتح السلطان القدس أعادها مدرسة وفوض تدريسها إلى القاضي بهاء الدين بن شداد «1» . ولما استقر أمر الهدنة أرسل السلطان مئة حجار لتخريب عسقلان، وأن يخرج من بها من الفرنج، وعزم على الحج والإحرام من القدس، وكتب إلى أخيه سيف الإسلام صاحب اليمن بذلك. ثم فنده الأمراء، وقالوا: لا نعتمد على هدنة الفرنج خوفا من غدرهم، فانتقض عزمه، ورحل عن القدس لخمس مضين من شوال إلى نابلس، ثم إلى بيسان، ثم إلى كوكب وبات بقلعتها، ثم رحل إلى طبرية، ولقيه بهاء الدين قراقوش الأسدي، وقد خلص من الأسر، وكان قد أسر بعكّا لما أخذها الفرنج مع من أسر «2» فسار قراقوش مع السلطان إلى دمشق ثم [سار منها قراقوش] «3» إلى مصر، ثم سار [السلطان] «3» إلى بيروت، ووصل إلى خدمته بيمند صاحب أنطاكية يوم السبت حادي عشري شوال، فأكرمه السلطان وفارقه غد ذلك اليوم،

وسار السلطان إلى دمشق، ودخلها يوم الأربعاء لخمس بقين من شوال، وفرح الناس به لأن غيبته عنهم كانت أربع سنين، وأقام العدل والإحسان بدمشق، وأعطى العساكر دستورا فودعه الملك الظاهر وداعا لا لقاء بعده، وسار إلى حلب وبقي مع السلطان (109) بدمشق ولده الملك الأفضل والقاضي الفاضل، وكان الملك العادل قد استأذن السلطان، وسار من القدس إلى الكرك لينظر في مصالحه، ثم عاد الملك العادل إلى دمشق طالبا الديار الشرقية التي صارت له بعد تقي الدين عمر، فوصل إلى دمشق حادي عشري [ذي] «1» القعدة، وخرج السلطان إلى لقائه. وفيها، وقف السلطان ثلث نابلس على مصالح القدس، وأقطع الباقي الأمير عماد الدين أحمد بن سيف الدين علي بن المشطوب «2» [وأميرين معه] «1» . وفيها، توفي السلطان عز الدين قليج أرسلان بن مسعود بن قليج أرسلان بن سليمان بن قطلومش بن أرسلان يبغو بن سلجوق «3» ، وكان ملكه في سنة إحدى وخمسين وخمس مئة، وكان ذا سياسة حسنة وهيبة عظيمة وعدل وافر وغزوات كثيرة، وكان له عشرة بنين قد ولى كل واحد منهم قطرا من بلاد الروم، وأكبرهم قطب الدين ملكشاه «4» ، وكان أعطاه أبوه سيواس، فسولت له نفسه القبض على أبيه وإخوته والانفراد بالسلطنة، وساعده على ذلك صاحب أرزنكان، فسار قطب الدين ملكشاه وهجم على والده قليج أرسلان بمدينة

قونية وقبض عليه، وقال لوالده وهو في قبضته أنا بين يديك أنفذ أوامرك، ثم إنه أشهد على والده أنه قد جعله ولي عهده، ثم مضى ملكشاه إلى حرب أخيه (110) نور الدين سلطان شاه «1» صاحب قيساريّة ووالده في القبضة معه وهو يظهر أن ما يفعله إنما هو بأمر والده، فخرج عسكر قيساريّة لقتاله، فوجد أبوه عز الدين قليج أرسلان عند اشتغال العسكر بالقتال فرصة فهرب إلى ابنه سلطان شاه صاحب قيساريّة فأكرمه وعظمه كما يجب عليه فرجع قطب الدين ملكشاه إلى قونية، وخطب لنفسه بالسلطنة، وبقي أبوه قليج أرسلان يتردد في بلاده بين أولاده كلما ضجر منه واحد منهم تنقل إلى آخر حتى حصل عند ولده غياث الدين كيخسرو «2» صاحب برجلو فقوى أباه قليج أرسلان وأعطاه وجمع له وجيّشه وسار [معه] «3» إلى قونيه وملكها وأخذها من ابنه ملكشاه، ثم سار إلى أقصرا فاتفق أن عز الدين قليج أرسلان مات في التاريخ المذكور فأخذه ولده كيخسرو وعاد به إلى قونية فدفنه بها، [واتفق موت ملكشاه بعد موت أبيه قليج أرسلان بقليل فاستقر كيخسرو في ملك قونية] «3» وأثبت أنه ولي عهد أبيه قليج أرسلان. ثم إن ركن الدين سليمان «4» أخا غياث الدين كيخسرو قوي على أخيه كيخسرو وأخذ منه قونية فهرب كيخسرو إلى الشام مستجيرا بالملك الظاهر صاحب حلب، ثم مات ركن الدين سليمان سنة ست مئة وملك بعده ولده

قليج أرسلان «1» فرجع غياث الدين كيخسرو إلى بلاد الروم، وأزال ملك قليج أرسلان بن سليمان، وملك بلاد الروم جميعها واستقرت سلطته ببلاد الروم، وبقي كذلك إلى أن قتل وملك بعده ابنه عز الدين كيكاوس «2» ثم توفي كيكاوس (111) وملك بعده أخوه علاء الدين كيقباذ، وتوفي علاء الدين كيقباذ سنة أربع وثلاثين وست مئة «3» ، وملك بعده ولده غياث الدين كيخسرو بن كيقباذ «4» ، وكسره التتر سنة أربع وأربعين وست مئة، وتضعضع حينئذ ملك السلاجقة ببلاد الروم، ثم مات كيخسرو بن كيقباذ بن كيخسرو بن قليج أرسلان بن مسعود بن قليج أرسلان بن سليمان بن قطلومش بن أرسلان سلجوق، وانقضى بموت كيخسرو المذكور ملك سلاطين بلاد الروم في الحقيقة لأن من صار بعده لم يكن له في السلطنة غير مجرد الاسم، وخلف كيخسرو المذكور صبيين «5» هما ركن الدين «6» وعز الدين «7» فملكا بعده معا

وفي سنة تسع وثمانين وخمس مئة

[مدة] «1» مديدة، ثم انفرد ركن الدين بالسلطنة وهرب أخوه عز الدين إلى قسطنطينية، وتغلب على ركن الدين معين الدولة البرواناه «2» والبلاد في الحقيقة للتتر ثم إن البرواناه قتل ركن الدين، وأقام ابنا لركن الدين «3» يخطب له بالسلطنة والحكم للبرواناه وهو نائب التتر على ما سنذكره «4» إن شاء الله تعالى. وفيها، غزا شهاب الدين الغوري الهند، فغنم وقتل ما لا يحصى. وفيها، خرج السلطان طغريل بن أرسلان بن طغريل من الحبس بعد قتل قزل أرسلان بن إلدكز، وكان قزل قد اعتقله حسبما تقدم ذكره في سنة سبع وثمانين وخمس مئة «5» . وفي سنة تسع وثمانين وخمس مئة «13» كانت وفاة السلطان الملك الناصر صلاح الدين أبو المظفر يوسف بن نجم الدين أيوب تغمده الله برحمته. (112) دخلت هذه السنة والسلطان بدمشق على أكمل [ما يكون

من] «1» المسرّة، وخرج إلى شرقي دمشق متصيدا، وغاب خمسة عشر يوما، وصحبته أخوه الملك العادل، ثم عاد إلى دمشق، وودعه أخوه الملك العادل وداعا لا لقاء بعده، وسار إلى الكرك، وأقام فيه حتى بلغه وفاة السلطان وأقام السلطان بدمشق، وركب يوم الجمعة خامس عشر صفر وتلقى الحجاج، وكانت عادته [أن] «1» لا يركب إلا وعليه الكزاغند، فركب ذلك اليوم وقد اجتمع بسبب اجتماع الحجاج وركوبه عالم كثير، ولم يلبس الكزاغند ثم ذكره وهو راكب فطلبه فلم يجده لأنه لم يحمل معه «2» ، ولما التقى الحجاج استعبرت عيناه كيف فاته الحج، ووصل إليه مع الحجاج ولد أخيه سيف الإسلام صاحب اليمن، ثم عاد السلطان بين البساتين على جهة المنيبع «3» ، ودخل إلى القلعة على الجسر، وكانت هذه آخر ركباته، فلحقه ليلة السبت سادس عشر صفر كسل عظيم وغشيه نصف الليل حمى صفراوية، وأخذ المرض في التزايد، وفصده الأطباء في الرابع «4» فاشتد مرضه، وحدث به في التاسع رعشة وغاب ذهنه، وامتنع من تناول المشروب، واشتد الإرجاف في البلد، وغشي الناس من الحزن والبكاء عليه ما لا يمكن حكايته، وحقن في العاشر حقنتين فاستراح بدنه، وتناول من ماء الشعير مقدارا صالحا ثم لحقه عرق عظيم حتى نفذ من الفراش، واشتد المرض ليلة ثاني عشر مرضه وهي ليلة السابع والعشرين من صفر، وحضر عنده الشيخ أبو جعفر «5» إمام الكلّاسة ليبيت عنده في القلعة (113) بحيث إن

احتضر بالليل لقنه الشهادة، وتوفي السلطان في الليلة المذكورة وهي المسفرة عن نهار الأربعاء ثامن عشري صفر «1» بعد صلاة الصبح سنة تشع وثمانين، وبادر القاضي الفاضل بعد صلاة الصبح فحضر وفاته، ووصل القاضي بهاء الدين بن شداد بعد موته، وغسله الخطيب الدولعي «2» بدمشق وأخرج بعد صلاة الظهر من نهار الأربعاء المذكور في تابوت مسجى بثوب [فوط] «3» وجميع ما احتاجه من ثياب تكفينه أحضرها القاضي الفاضل من جهات حلّ عرفها. وصلى عليه الناس ودفن بقلعة دمشق في الدار التي كان مريضا فيها وكان نزوله إلى قبره بعد صلاة العصر من النهار المذكور. وكان الملك الأفضل ابنه قد حلف الناس له عندما اشتد بوالده المرض، وجلس للعزاء في القلعة، وأرسل الملك الأفضل الكتب بوفاة والده إلى أخيه الملك العزيز عثمان بمصر، وإلى أخيه الملك الظاهر بحلب، وإلى عمه الملك العادل بالكرك، ثم إن الأفضل عمل لوالده تربة قرب الجامع وكانت دارا لرجل صالح، ونقل إليها السلطان يوم عاشوراء سنة اثنتين وتسعين وخمس مئة ومشى الأفضل بين يدي تابوته، وأخرج من باب القلعة على دار الحديث «4» إلى باب البريد،

وأدخل الجامع ووضع قدام النسر «1» وصلى عليه القاضي محيي الدين بن الزكي ثم دفن، وجلس ابنه الأفضل في الجامع ثلاثة أيام للعزاء، وانفقت ست الشام بنت أيوب أخت السلطان في هذه النّوبة أموالا عظيمة. (114) وكان مولد السلطان بتكريت في شهور سنة اثنتين وثلاثين وخمس مئة فكان عمره سبعا وخمسين سنة، وكانت مدة ملكه بالديار المصرية نحو أربع وعشرين سنة، وملكه للشام قريبا من تسع عشرة سنة، وخلف سبعة عشر ولدا ذكرا وبنتا واحدة، وكان أكبر أولاده الملك الأفضل نور الدين علي، ولد بمصر سنة خمس وستين وخمسة مئة، وكان العزيز عثمان أصغر منه نحو سنتين، وكان الظاهر صاحب حلب أصغر منهما، وبقيت البنت «2» حتى تزوجها ابن عمها الملك الكامل «3» صاحب مصر، ولم يخلف السلطان صلاح الدين في خزانته غير سبعة وأربعين درهما وجرم واحد صوريّ، وهذا من رجل له البلاد المصرية والشام واليمن والشرق دليل قاطع على فرط كرمه، ولم يخلف دارا ولا عقارا، قال العماد الكاتب «4» : حسبت ما أطلقه السلطان في مدة مقامه بمرج عكا من خيل عراب وأكاديش

فكان اثني عشر ألف رأس، وذلك غير ما أطلقه من أثمان الخيل المصابة في القتال، ولم يكن له فرس يركبه إلا وهو موهوب أو موعود به، ولم يؤخر صلاة عن وقتها، ولا صلى إلا في جماعة، وكان إذا عزم على أمر توكل على الله ولا يفضل [يوما] «1» على يوم، وكان كثير سماع الحديث النبوي، قرأ مختصرا في الفقه تصنيف سليم الرازي «2» ، وكان حسن الخلق، صبورا على المكاره، كثير التغافل عن ذنوب أصحابه، يسمع من أحدهم ما يكره ولا يعلمه بذلك ولا (115) يتغير عليه، وكان يوما جالسا فرمى بعض المماليك بسر موجه فأخطأ به ووصلت إلى السلطان فأخطأته ووقعت قريبا منه، فالتفت إلى الجهة الأخرى ليتغافل عنها. وكان طاهر المجلس لا يذكر أحدا في مجلسه إلا بخير، وطاهر اللسان فلا يولغ بشتم أحد قط. قال العماد الكاتب: مات بموت السلطان الرجال، وفات بفواته الأفضال، وغاضت الأيادي، وفاضت الأعادي، وانقطعت الأرزاق، وادلهمت الآفاق، وفجع الزمان بواحده وسلطانه، ورزئ الإسلام بمشيد أركانه. ولما توفي السلطان الملك الناصر استقر في الملك بدمشق وبلادها المنسوبة إليها ولده الأفضل نور الدين علي. وبالديار المصرية الملك العزيز عماد الدين عثمان.

وبحلب الملك الظاهر [غياث الدين] «1» غازي. وبالكرك والشّوبك والبلاد الشرقية الملك العادل سيف الدين أبو بكر بن أيوب. وحماة وسلمية والمعرة ومنبج وقلعة نجم الملك المنصور ناصر الدين محمد ابن الملك المظفر تقي الدين عمر. وببعلبك الملك الأمجد مجد الدين بهرام شاه بن فرّخشاه بن شاهنشاه بن أيوب. وبحمص والرّحبة وتدمر الملك المجاهد أسد الدين شيركوه بن محمد بن شير كوه شاذي. وبيد الملك الظافر خضر «2» بن السلطان صلاح الدين بصرى، وهو في خدمة أخيه الملك الأفضل. وبيد جماعة من أمراء الدولة بلاد وحصون منهم: سابق الدين عثمان بن الداية (116) بيده شيزر وأبو قبيس. وناصر الدين منكورس بن خماردكين بيده صهيون وحصن برزية. وبدر الدين دلدرم بن بهاء الدين ياروق بيده تل باشر. وعز الدين [سامة] «3» بيده كوكب وعجلون.

وعز الدين إبراهيم بن شمس الدين بن المقدم «1» بيده بعرين وكفرطاب وفامية. والملك الأفضل هو الأكبر من أولاد السلطان والمعهود إليه بالسلطنة. واستوزر الملك الأفضل ضياء الدين نصر الله بن محمد بن الأثير «2» مصنف" المثل السائر" «3» وهو أخو عز الدين بن الأثير مصنف" الكامل" فحسن للملك الأفضل طرد أمراء أبيه ففارقوه إلى أخويه العزيز والظاهر. قال العماد الكاتب: وتفرد الوزير بوزره، ومد الجزري في جزره، ولما اجتمعت الأمراء بمصر حسنوا للملك العزيز الانفراد بالسلطنة ووقعوا في أخيه الأفضل فمال إلى ذلك، وحصلت الوحشة بين الأخوين الأفضل والعزيز. وفيها، وبعد موت السلطان قدم الملك العادل من الكرك إلى دمشق وأقام فيها وظيفة العزاء على أخيه، ثم توجه إلى بلاده التي هي وراء الفرات. وفي هذه السنة لما مات صلاح الدين كاتب عز الدين مسعود بن مودود ابن زنكي صاحب الموصل ملوك البلاد المجاورة للموصل يستنجدهم، واتفق مع أخيه عماد الدين زنكي بن مودود صاحب سنجار، وسار إلى حران وغيرها فلحق عز

الدين مسعود إسهال قوي، وضعف (117) فترك العسكر مع أخيه عماد الدين وعاد إلى الموصل وصحبته مجاهد الدين قيماز فحلف العساكر عز الدين لابنه أرسلان شاه بن مسعود «1» وقوي بعز الدين مسعود المرض وتوفي في السابع والعشرين من شعبان هذه السنة «2» ، وكانت مدة ما بين وفاته ووفاة صلاح الدين نصف سنة، ومدة ملك عز الدين الموصل ثلاث عشرة سنة وتسعة أشهر، وكان دينا خيرا عادلا كثير الإحسان، أسمر، ميلح الوجه، خفيف العارضين، يشبه جده عماد الدين زنكي بن آقسنقر، واستقر في ملك الموصل بعده ولده أرسلان شاه، وكان القائم بأمره مجاهد الدين قيماز. وفي هذه السنة أول جمادى الأولى، قتل سيف الدين بكتمر «3» صاحب خلاط، وبين قتله وموت السلطان شهران، ولما بلغ بكتمر موت السلطان صلاح الدين أسرف في إظهار الشماتة بموت السلطان، وضرب البشائر ببلاده، وعمل تختا وجلس عليه، [ولقب] «4» نفسه السلطان المعظم [صلاح الدين] «5» ، وكان اسمه بكتمر فسمى نفسه عبد العزيز «6» وكأنه قد فعل ذلك، فلم يمهله الله تعالى. وكان هذا بكتمر من مماليك ظهير الدين شاه أرمن. وكان له

خشداش «1» اسمه هزار ديناري «2» ، واسم هزار ديناري آق سنقر ولقبه بدر الدين، جلبه تاجر جرجاني اسمه علي إلى خلاط فاشتراه منه شاه أرمن بن سكمان بن إبراهيم، وأعجب به شاه (118) أرمن فجعله ساقيا له ولقب هزار ديناري وبقي على ذلك برهة من الزمان، فلما تولى بكتمر وخلّف بكتمر ولدا «3» وأخذ هزار ديناري ولد بكتمر وأمه واعتقلهما بقلعة أرزاس بموش، وعمر ابن بكتمر سبع سنين، واستقرّ بدر الدين آق سنقر هزار ديناري في مملكة خلاط حتى توفي سنة أربع وتسعين وخمس مئة على ما سنذكره «4» إن شاء الله تعالى. وفيها، شتى شهاب الدين الغوري في برشاوور وجهز مملوكه أيبك في عساكر كثيرة إلى بلاد الهند، ففتح وغنم وعاد منصورا. وفيها، توفي سلطان شاه بن أرسلان بن خوارزم شاه أطسز بن محمد بن أنوش تكين «5» ، وكان قد ملك خراسان، ولما مات انفرد أخوه تكش بالمملكة، وقد تقدم ذكرهما في سنة ثمان وستين وخمس مئة «6» .

وفي سنة تسعين وخمس مئة

وفيها، مات الأمير داود بن عيسى بن محمد بن أبي هاشم «1» أمير مكة، وما زالت إمارة مكة له تارة ولأخيه مكثر تارة حتى مات. وفي سنة تسعين وخمس مئة «13» قتل طغريل بن أرسلان بن طغريل بن السلطان محمد بن ملك شاه بن ألب أرسلان بن جقربك داود بن ميكائيل بن سلجوق «2» ، وكان قد حبسه قزل أرسلان بن إلدكز، وخرج طغريل من الحبس سنة ثمان وثمانين وخمس مئة، وملك همذان وغيرها، وجرى بينه وبين مظفر الدين أزبك بن محمد البهلوان (119) بن إلدكز «3» حرب، وقيل: بل هو قطلغ إينانج «4» أخو أزبك المذكور، فانهزم ابن البهلوان، ثم إن ابن البهلوان بعد هزيمته استنجد بخوارزم شاه علاء الدين تكش وخاف منه فلم يجتمع بخوارزم شاه تكش، وملك الري وذلك سنة ثمان وثمانين، وبلغ تكش أن أخاه سلطان شاه قصد خوارزم فصالح طغريل السلجوقي وعاد تكش إلى خوارزم وبقي الأمر كذلك حتى مات سلطان شاه سنة تسع وثمانين، وتسلم تكش مملكة أخيه سلطان شاه وخزانته، وولى ابنه محمد ابن تكش نيسابور، وولى ابنه الأكبر ملكشاه «5» مرو.

ولما دخلت سنة تسعين سار تكش ليحارب طغريل السلجوقي فسار طغريل إلى لقائه قبل اجتماع عسكره، والتقى العسكران بالقرب من الري وحمل طغريل بنفسه فقتل، وكان قتله في رابع وعشري ربيع الأول هذه السنة، وحمل رأس طغريل إلى تكش فأرسل إلى بغداد فنصب بهاد عدة أيام، وسار تكش فملك همذان وتلك البلاد جميعها، وسلم بعضها إلى ابن البهلوان واقطتع الباقي لمماليكه، ورجع تكش إلى خوارزم. وهذا طغريل هو آخر من ملك بلاد العجم من السلاطين السلجوقية، وقد تقدم ذكر ابتداء دولة السلجوقية في سنة اثنتين وثلاثين وأربع مئة «1» وأول من ملك منهم العراق وأزال دولة بني بويه طغرلبك بن ميكائيل بن سلجوق «2» ، ثم ملك بعده ألب أرسلان (120) بن جقربك داود بن ميكائيل «3» ، ثم ابنه ملكشاه بن ألب أرسلان «4» ، ثم ابنه محمود بن ملكشاه «5» ، وكان طفلا، فقام بتدبير الدولة والدته تركان خاتون، ومات محمود وهو ابن سبع سنين، وملك أخوه بركيارق بن ملكشاه «6» ، ثم أخوه محمد بن ملكشاه «7» ، ثم ابنه

محمود بن محمد «1» ، ثم ابنه داود [بن محمود] «2» بن محمد مدة يسيرة «3» ، ثم عمه طغرلبك بن محمد، ثم أخوه مسعود بن محمد، ثم ابن أخيه ملكشاه ابن محمود بن محمد أياما يسيرة، ثم أخوه محمد بن محمود، ثم بعد محمد المذكور اختلفت العساكر، وقام من بني سلجوق ثلاثة أحدهم ملكشاه بن محمود أخو محمد المذكور والثاني سليمان شاه بن محمد بن السلطان ملكشاه الأكبر وهو عم محمد المذكور والثالث أرسلان شاه بن طغريل بن محمد بن السلطان ملكشاه، وكان إلدكز مزوجا بأم أرسلان شاه المذكور فقوي عليهما سليمان شاه واستقر في همذان سنة خمس وخمسين وخمس مئة، ثم قبض سليمان شاه وقتل، وسم ملكشاه بن محمود ومات بأصفهان في سنة خمس وخمسين وخمس مئة، وانفرد أرسلان شاه بن طغريل ربيب إلدكز على السلطنة، ثم ملك [بعده] «2» ابنه طغريل بن أرسلان شاه بن طغريل في سنة [ثلاث وسبعين] «4» وخمس مئة، وجرى له ما ذكرناه حتى قتله تكش في هذه السنة أعني سنة تسعين وخمس مئة، وانقرضت به دولة السلجوقية من تلك البلاد. وفيها، أرسل الخليفة الناصر عسكرا مع وزيره مؤيد الدين محمد بن علي المعروف بابن القصاب «5» (121) إلى خوزستان وهي بلاد شملة وأولاده من

بعده، وكان قد مات صاحبها ابن شملة واختلفت أولاده، فوصل عسكر الخليفة إلى خوزستان وملك مدينة تستر في محرم سنة إحدى وتسعين وغيرها من البلاد، وملكوا قلعة الناظر وقلعة كاكرد وقلعة لا موج وغيرها من البلاد والحصون وأنفذوا بني شملة أصحاب خوزستان إلى بغداد. وفيها، أعني سنة تسعين استحكمت الوحشة بين الأخوين العزيز والأفضل ابني السلطان صلاح الدين، وسار العزيز في عسكر مصر وحصر أخاه الأفضل بدمشق وأرسل الأفضل إلى عمه العادل وأخيه الظاهر وابن عمه المنصور صاحب حماة يستنجدهم، فساروا إلى دمشق وأصلحوا بين الأخوين، ورجع العزيز إلى مصر ورجع كل ملك إلى بلده، وأقبل الأفضل بدمشق على الشرب وسماع الأغاني ليلا ونهارا وأشاع ندماؤه أن عمه العادل حسن له ذلك فكان يعمل بالخفية، فأفسده العادل! «فلا خير في اللذّات ما دونها ستر» فقبل وصية عمه وتظاهر بذلك، وفوض أمر المملكة إلى وزيره ضياء الدين ابن الأثير الجزري يديرها برأيه الفاسد، ثم إن الملك الأفضل أظهر التوبة عن ذلك، وأزال المنكر، وواظب على الصلوات، وشرع في نسخ مصحف بيده.

سنة إحدى وتسعين وخمس مئة إلى سنة ست مئة

سنة إحدى وتسعين وخمس مئة إلى سنة ست مئة (122) في سنة إحدى وتسعين وخمس مئة «13» سار ابن القصاب وزير الخليفة بعد مملكة خوزستان إلى همذان، وملكها وأخذ يستولي على تلك البلاد للخليفة فتوفي مؤيد الدين بن القصاب في أوائل شعبان سنة اثنتين وتسعين. وفيها، غزا يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن ملك الغرب بالأندلس الفرنج وجرى بينهم مصاف عظيم انتصر فيه المسلمون، وقتل من الفرنج ما لا يحصى وولوا منهزمين، وغنم المسلمون ما لا يحصى «1» . وفيها، جهز الخليفة الإمام الناصر عسكرا مع مملوك له اسمه سيف الدين طغريل «2» فاستولى على أصبهان. وفيها، قدّم مماليك البهلوان عليهم مملوكا من البهلوانية اسمه ككجا «3» ، فعظم أمره، واستولى على الري وهمذان.

وفي سنة اثنتين وتسعين وخمس مئة

وفيها، عاود الملك العزيز عثمان قصد الشام ومنازلة أخيه الملك الأفضل، وسار ونزل الفوّار من أرض السواد من بلاد دمشق، واضطرب بعض أمرائه عليه وهم طائفة من الأسدية وفارقوه، فبادر العزيز إلى مصر بمن بقي معه من العسكر، وكان الأفضل قد استنجد بعمه العادل لما قصده أخوه العزيز، فلما رحل العزيز إلى مصر رحل العادل والأفضل ومن انضم إليهما من الأسدية في أثر العزيز طالبين مصر، وساروا حتى نزلوا على بلبيس، وقد ترك العزيز فيها جماعة من الصلاحية، وقصد الأفضل مناجزتهم بالقتال فمنعه عمه العادل، فقصد الأفضل المسير إلى مصر والاستيلاء عليها، فمنعه عمه العادل أيضا، وقال: مصر (123) لك متى شئت، وكان العادل مع العزيز في الباطن، وقال: أرسل لي القاضي الفاضل ليصلح بين الأخوين، وكان القاضي الفاضل قد اعتزل عن ملابستهما لما رأى من فساد أحوالهما، فدخل عليه الملك العزيز وسأله فتوجه من القاهرة إلى الملك العادل واجتمع به واتفقا على أن يصلحا بين الأخوين فأصلحا بينهما، وأقام العادل بمصر عند العزيز على حسب تقرير أمور المملكة، وعاد الأفضل إلى دمشق. وفيها، كان بين يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن وبين الفرنج بالأندلس شمالي قرطبة حروب عظيمة انتصر فيها يعقوب وانهزم الفرنج. وفي سنة اثنتين وتسعين وخمس مئة «13» سار شهاب الدين الغوري صاحب غزنة إلى بلاد الهند وفتح قلعة عظيمة تسمى بهنكر بالأمان، ثم سار إلى قلعة كواكير «1» بينهما نحو خمسة أيام

فصالحه أصحابها على مال حملوه إليه، ثم سار في بلاد الهند فغنم وأسر وعاد إلى غزنة. وفيها، سلّم صدر الدين محمد بن عبد اللطيف الخجندي «1» ، رئيس الشافعية أصفهان إلى عسكر الخليفة فقتله سنقر الطويل «2» شحنة الخليفة بأصبهان بسبب منافرة جرت بينهما. وفيها، نقل الملك الأفضل أباه صلاح الدين من قلعة دمشق إلى التربة بالمدينة، وكان مدة لبثه في القلعة ثلاث سنين، ولزم الملك الأفضل الزهد والقناعة وأموره مسلّمة إلى وزيره (124) ضياء الدين بن الأثير الجزري، وقد اختلفت الأحوال به وكثر شاكوه وقل شاكروه، فلما بلغ العادل والعزيز بمصر اضطراب الأمور على الأفضل اتفق العادل والعزيز على أن يأخذا دمشق [وأن يسلمها العزيز] «3» إلى العادل، وتكون السكة والخطبة للعزيز بسائر البلاد كما كانت لأبيه، فخرجا وسارا من مصر، فأرسل الملك الأفضل إليهما فلك الدين «4» أحد أمرائه، وكان فلك الدين أخا الملك العادل لأمه «5» ، واجتمع فلك الدين بالملك العادل فأكرمه، وأظهر الإجابة لما طلبه، وأتم العادل والعزيز السير حتى نازلا دمشق، وقد حصنها الملك الأفضل فكاتب بعض الأمراء من داخل [البلد] «6» الملك العادل وصاروا معه أنهم يسلمون المدينة إليه، فزحف الملك

العادل والعزيز ضحى يوم الأربعاء سادس عشري رجب هذه السنة، فدخل الملك العزيز من باب الفرج «1» . والعادل من باب توما، فأجاب الملك الأفضل إلى تسليم القلعة وانتقل منها بأهله وأصحابه وأخرج وزيره ضياء الدين بن الأثير [مختفيا] «2» في صندوق خوفا عليه من القتل، وكان الملك الظافر خضر بن السلطان صلاح الدين صاحب بصرى مع أخيه الملك الأفضل ومعاضدا له، فأخذت منه بصرى أيضا فلحق بأخيه الملك الظاهر فأقام عنده بحلب، وأعطى الملك الأفضل صرخد فسار إليها بأهله واستوطنها، ودخل الملك العزيز إلى دمشق (125) يوم الأربعاء رابع شعبان ثم سلم دمشق إلى عمه الملك العادل على حكم ما كان وقع عليه اتفاقهما، وتسلمها الملك العادل ورحل الملك العزيز من دمشق عشية يوم الاثنين تاسع شعبان، وكانت مدة ملك الأفضل لدمشق ثلاث سنين وشهرا، وأبقى الملك العادل السكة والخطبة بدمشق للملك العزيز. ولما استقر الملك الأفضل بصرخد كتب إلى الخليفة الإمام الناصر يشكو من عمه أبي بكر وأخيه العزيز عثمان، وأول الكتاب «3» : (البسيط)

وفي سنة ثلاث وتسعين وخمس مئة

مولاي إنّ أبا بكر وصاحبه ... عثمان قد غصبا بالسيف حقّ علي فانظر إلى حظّ هذا الاسم كيف لقى ... من الأواخر ما لاقى من الأول فكتب الملك الناصر جوابه: (الكامل) وافى كتابك يا ابن يوسف معلنا ... بالصدق يخبر أنّ أصلك طاهر غصبوا عليا حقّه إذ لم يكن ... بعد النبيّ له بيثرب ناصر فاصبر فإنّ غدا عليه حسابهم ... وابشر فناصرك الإمام الناصر وفي سنة ثلاث وتسعين وخمس مئة «13» توفي في نيسابور ملكشاه بن تكش «1» ، وكان أبوه خوارزم شاه تكش قد جعله فيها، وجعل له الحكم على تلك البلاد «2» وجعله ولي عهده، وخلف ملكشاه ولدا اسمه هندوخان «3» ، فلما مات ملكشاه جعل تكش بنيسابور ولده الآخر قطب الدين محمد (ا) وهو الذي ملك بعد أبيه تكش، وجعل لقبه علاء الدين، وكان بين الأخوين ملكشاه ومحمد عداوة مستحكمة. (126) وفيها، توفي في شوال سيف الإسلام ظهير الدين طغتكين بن أيوب «4» صاحب اليمن، ولما مات سيف الإسلام كان ولده الملك المعز «5»

وفي سنة أربع وتسعين وخمس مئة

إسماعيل بالسمرين فبعث إليه جمال الدولة كافور جماعة من الجند فعرفوه بوفاة والده، ومضوا به إلى ممالك أبيه فسلموها إليه. وكانت وفاة سيف الإسلام [بالمنصورة] «1» ، وكان شديد السيرة مضيقا على رعيته، يشتري أموال التجار لنفسه، ويبيعها كيف شاء، وجمع من الأموال ما لا يحصى حتى إنه [من كثرته] «2» كان يسبك الذهب ويجعله كالطاحون ويدخره. وفي سنة أربع وتسعين وخمس مئة «13» في المحرم، توفي عماد الدين زنكي بن مودود بن زنكي بن آقسنقر «3» صاحب سنجار والخابور والرقة، وكان حسن السيرة، متواضعا يحب العلم وأهله إلا أنه كان شديد البخل، وملك بعده ولده قطب الدين محمد «4» ، وتولى تدبير دولته مجاهد الدين [يرنقش] «5» مملوك أبيه. وفيها، في جمادى الأولى، سار نور الدين أرسلان شاه بن مسعود بن مودود

ابن زنكي صاحب الموصل إلى نصيبين فأخذها من ابن عمه قطب الدين محمد ابن زنكي، فأرسل قطب الدين واستنجد الملك العادل فسار الملك العادل إلى البلاد الجزرية ففارق نور الدين أرسلان نصيبين وعاد إلى الموصل، فعاد قطب الدين محمد بن زنكي وملك نصيبين. وفيها، سار خوارزم شاه تكش إلى بخارى وهي للخطا وحاصرها وملكها وكان تكش (127) أعور فأخذ أهل بخارى في مدة الحصار كلبا أعور وألبسوه قباء [وقلنسوة] » ، وقالوا للخوارزمية: هذا سلطانكم ورموه في المنجنيق إليهم، فلما ملكها تكش أحسن إلى أهل بخارى، وفرق فيهم أموالا ولم يؤاخذهم بما فعلوه في حقه. وفيها، وصل جمع عظيم من الفرنج إلى الساحل واستولوا على قلعة بيروت، فسار الملك العادل ونزل على تل العجول «2» وأتته النجدة، ووصل إليه سنقر الكبير «3» صاحب القدس، وميمون القصري «4» صاحب نابلس، وسار الملك العادل إلى يافا وفتحها بالسيف وقتل مقاتلتها وسبى نساءها وصبيانها، وكان هذا الفتح ثالث فتح لها، ونازلت الفرنج تبنين، فأرسل الملك العادل إلى الملك العزيز صاحب مصر، وسار الملك العزيز بعساكره واجتمع بعمه الملك العادل على تبنين فرحل الفرنج على أعقابهم إلى صور، ثم رحل الملك العزيز إلى مصر وترك غالب العسكر مع عمه وجعل إليه أمر الحرب والصلح. ومات في هذه المدة سنقر الكبير، فجعل الملك العادل أمر القدس إلى صارم

الدين قطلق «1» مملوك عز الدين فرّخشاه بن شاهنشاه بن أيوب. ولما عاد الملك العزيز إلى مصر في هذه المرة مدحه القاضي ابن سناء الملك بقصيدة منها «2» : (السريع) قدمت بالسّعد وبالمغنم ... كذا قدوم الملك المقدم «3» أغثت تبنين وخلّصتها ... فريسة من ماضغي ضيغم (128) شنشنة تعرف من يوسف ... في النصر لا تعرف من أخزم مقدّم «4» صار جمادى به ... كمثل ذي الحجة في الموسم «5» ثم طاول الملك العادل الفرنج فطلبوا الهدنة واستقرت بينهم ثلاث سنين، ورجع الملك العادل إلى دمشق. ثم سار الملك العادل من دمشق إلى ماردين وحصرها، وصاحبها حينئذ حسام الدين يولق أرسلان بن ألبي بن تمرتاش بن إلغازي بن أرتق، وليس ليولق من الحكم شيء وإنما الحكم إلى مملوك اسمه ألبقش «6» . وفيها، توفي بدر الدين هزار ديناري صاحب خلاط آقسنقر «7» ، وقد تقدم ذكر تملكه لخلاط سنة تسع وثمانين وخمس مئة «8» .

ولما توفي هزار ديناري استولى على خلاط خشداشه قتلغ «1» ، وكان مملوكا أرمني الأصل من سناسنة فملك خلاط سبعة أيام ثم اجتمع عليه الناس وأنزلوه من القلعة وقتلوه واتفق كبراء الدولة وأحضروا محمد بن بكتمر من القلعة التي كان معتقلا فيها واسمها [أرزاس] «2» وأقاموه في مملكة خلاط [ولقبوه] «3» الملك المنصور وقام بتدبيره شجاع الدين قتلغ الدوادار، وكان قتلغ المذكور قفجاقي الجنس دوادار (ا) لشاه أرمن سكمان بن إبراهيم، واستقر محمد بن بكتمر كذلك إلى سنة اثنتين وست مئة، فقبض على أتابكه قتلغ الدوادار، وحبسه ثم قتله، فخرج عليه مملوك لشاه أرمن يقال له عز الدين بلبان، واتفق العسكر مع بلبان المذكور وقبضوا (129) على محمد بن بكتمر وحبسوه ثم خنقوه ورموه من سور القلعة إلى أسفل، وقالوا: وقع، واستمر بلبان في مملكة خلاط دون سنة، وقتله بعض أصحاب طغريل بن قليج أرسلان صاحب أرزن «4» ، وقصد طغريل أن يتسلم خلاط، فلم يجبه أهلها وعصوا عليه فعاد إلى أرزن، ثم وصل الملك الأوحد أيوب بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب «5» وتسلم خلاط وملكها [قريب] «6» [ثماني] «7» سنين «8» .

وفي سنة خمس وتسعين وخمس مئة

وفي سنة خمس وتسعين وخمس مئة «13» منتصف ليلة السابع والعشرين من المحرم توفي الملك العزيز عماد الدين عثمان بن الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب «1» ، وكان قد طلع إلى الصيد، فركض خلف ذئب، وتقنطر وحمّ في سابع المحرم بجهة الفيوم، فعاد إلى الأهرام وقد اشتدت حمّاه، ودخل القاهرة يوم عاشوراء، وحدث به يرقان وقرحة في الأمعاء، واحتبس طبعه فمات في التاريخ المذكور، وكانت مدة ملكه ست سنين إلا شهرا، [وكان] «2» عمره سبعا وعشرين سنة وأشهرا، وكان في غاية السماحة والكرم والعدل والرفق بالرعية والإحسان إليهم ففجعت الرعية بموته فجعة عظيمة، وكان الغالب على دولة الملك العزيز فخر الدين جهاركس «3» فأقام في الملك الملك المنصور محمد بن الملك العزيز واتفقت الأمراء على إحضار أحد من بني أيوب وعملوا مشورة بحضور القاضي الفاضل فأشار بالملك الأفضل، وهو حينئذ بصرخد فأرسلوا إليه، فسار (130) محثا ووصل القاهرة على أنه أتابك الملك المنصور بن الملك العزيز، وكان عمر الملك المنصور حينئذ تسع سنين وشهورا، وكان مسير الملك الأفضل من صرخد لليلتين بقيتا من صفر في تسعة

عشر نفرا متنكرا خوفا من أصحاب عمه العادل فإن غالب تلك البلاد كانت له، فوصل بلبيس خامس ربيع الآخر، ثم سار الملك الأفضل إلى القاهرة فخرج الملك المنصور بن العزيز للقائه فترجل عمه الملك الأفضل ودخل بين يديه إلى دار الوزارة وهي كانت مقر السلطنة، ولما وصل الملك الأفضل إلى بلبيس التقاه العسكر فتنكر منه فخر الدين جهاركس وفارقه فتبعه عدة من العسكر وساروا إلى الشام وكاتبوا الملك العادل وهو محاصر ماردين، وأرسل الملك الظاهر إلى أخيه الملك الأفضل يشير [عليه] «1» بقصد دمشق وأخذها من عمه الملك العادل وأن ينتهز الفرصة لاشتغال العادل بحصار ماردين، فبرز الملك الأفضل من مصر وسار إلى دمشق، وبلغ الملك العادل [مسيره] «2» إلى دمشق فترك على ماردين ولده الملك الكامل «3» ، وسار الملك العادل وسبق الأفضل إلى دمشق فدخلها قبل نزول الأفضل على دمشق ثالث عشر شعبان هذه السنة، وزحف من الغد على البلد، وجرى بينهم قتال، وهجم بعض عسكره إلى المدينة حتى وصلوا إلى باب البريد ولم يمدهم العسكر، فتكاثر أصحاب الملك العادل وأخرجوهم من البلد ثم (131) تخاذل العسكر فتأخر الأفضل إلى ذيل عقبة الكسوة، ثم وصل إلى الملك الأفضل أخوه الظاهر صاحب حلب، فعاد إلى مضايقة دمشق ودام الحصار عليها وقلت الأقوات عند الملك العادل وعلى أهل دمشق وأشرف الأفضل والظاهر على أخذ دمشق وعزم العادل على تسليم البلد لولا ما حصل بين الأخوين الأفضل والظاهر من الخلف، وخرجت السنة وهم على ذلك، وكان منهم ما سنذكره «4» إن شاء الله تعالى.

وفيها، قصد الملك المنصور محمد بن الملك المظفر تقي الدين عمر صاحب حماة بارين، وبها نواب عز الدين إبراهيم بن شمس الدين محمد بن المقدم وحاصرها، وكان الأمير عز الدين مع الملك العادل محصورا بدمشق، ونصب الملك المنصور عليها المناجيق وجرح حال الزحف، ثم فتحها تاسع عشري ذي القعدة، وأقام ببارين مدة حتى أصلح أمورها. وفيها، في جمادى الآخرة «1» ، توفي أبو يوسف يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن صاحب المغرب والأندلس بمدينة سلا، وكانت ولايته خمس عشرة سنة «2» ، وكان يتظاهر بمذهب الظاهرية، وأعرض عن مذهب مالك، وعمره ثمان وأربعون سنة، وتلقب بالمنصور، ولما مات يعقوب ملك ابنه محمد «3» ، وتلقب بالناصر، ومولد محمد سنة ست وسبعين وخمس مئة، وعبد المؤمن وبنوه جميعهم كانوا يسمون بأمير المؤمنين. وفيها، رحل عسكر (132) الملك العادل مع ابنه الملك الكامل عن حصار ماردين. وفيها، كانت فتنة عظيمة في عسكر غياث الدين محمد ملك الغورية وهو بفيروز كوه، وسببها أن الإمام فخر الدين الرازي محمد بن عمر «4» كان قد قدم

إلى غياث الدين فبالغ غياث الدين في إكرامه، وبنى له مدرسة بغرب جامع هراة فعظم ذلك على الكرامية وهم كثيرون بهراة ومذهبهم التجسيم والتشبيه وكان الغورية كلهم كرامية، فكرهوا الإمام فخر الدين لكونه [شافعيا] «1» وهو يناقض مذهبهم، فاتفق أن فقهاء الكرامية والحنفية والشفعوية حضروا بفيروز كوه عند غياث الدين للمناظرة، وحضر الإمام فخر الدين الرازي والقاضي عبد المجيد بن عمر المعروف بابن القدوة «2» وهو من الكرامية الهيصمية وله عندهم محل كبير لزهده وعلمه، فتكلم الرازي فاعترض عليه ابن القدوة وطال الكلام فقام غياث الدين فاستطال فخر الدين الرازي على ابن القدوة وشتمه وبالغ في أذاه وابن القدوة لا يزيده على أن يقول: لا يفعل مولانا [إلا] «3» وأخذك الله، فصعب على الملك ضياء الدين «2» وهو ابن عم غياث الدين وزوج ابنته، وشكا إلى غياث الدين فخر الدين الرازي ونسبه إلى الزندقة ومذهب الفلاسفة فلم يصغ إليه غياث الدين، فلما كان الغد وعظ الناس [ابن عم المجد] «4» بن القدوة بالجامع، وقال بعد (133) حمد الله والصلاة على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ «5» . أيها الناس: إننا لا نقول إلا ما صحّ عندنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وأما علم أرسطو وكفريات ابن سينا وفلسفة الفارابي فلا نعلمها فلأيّ حال يشتم بالأمس شيخ من شيوخ الإسلام يذبّ عن دين الله وسنة نبيه، وبكى وبكى الكرامية معه واستغاثوا وثار الناس من كل جانب، وامتلأ البلد فتنة وبلغ

وفي سنة ست وتسعين وخمس مئة

ذلك السلطان غياث الدين فبعث جماعة سكّنوا الناس، ووعدهم بإخراج فخر الدين الرازي من عندهم، وتقدم إلى فخر الدين بالعود إلى هراة، فعاد إليها. وفيها، في ربيع الأول توفي مجاهد الدين قيماز «1» بقلعة الموصل وهو الحاكم بدولة نور الدين أرسلان صاحب الموصل، وقيماز المذكور هو الذي كان حاكما على عز الدين مسعود والد نور الدين أرسلان حتى قبض عليه مسعود ثم أخرجه بعد مدة، وكان قيماز عاقلا أديبا فاضلا في الفقه على مذهب الإمام أبي حنيفة وبنى عدة جوامع وربط ومدارس. وفيها، فارق غياث الدين ملك الغورية مذهب الكرامية، وصار شافعيّ المذهب. وفي سنة ست وتسعين وخمس مئة «13» كان في أوائلها الملكان الأفضل والظاهر على دمشق محاصريها، واتفق وقوع الخلف بين الأخوين (134) الأفضل والظاهر وسببه أنه كان للملك الظاهر مملوك يحبه اسمه أيبك ففقد، ووجد عليه الملك الظاهر وجدا عظيما وتوهم أنه دخل دمشق، فأرسل يكشف خبره، واطلع الملك العادل وهو محصور على القضية، فأرسل إلى الظاهر يقول: إن محمود بن السّكّري (؟) أفسد مملوكك وحمله إلى الأفضل أخيك، فقبض الظاهر على ابن السّكّري فظهر المملوك عنده، فتغير على أخيه الأفضل وترك قتال الملك العادل، وظهر الفشل في العسكر فتأخر الأفضل والظاهر عن دمشق وأقاما بمرج الصّفّر «2» إلى أواخر صفر، ثم سارا إلى رأس الماء

ليقيما به إلى أن ينسلخ الشتاء، ثم انثنى عزمهما، وسار الأفضل إلى مصر، والظاهر إلى حلب على القريتين ولما تفرقا خرج الملك العادل من دمشق وسار في أثر الأفضل إلى مصر، فلما وصل العسكر إلى مصر تفرقت عساكره لأجل الربيع وأدركه عمه العادل فخرج الأفضل وضرب معه مصافا، فانكسر الأفضل وانهزم إلى القاهرة ونازل العادل القاهرة ثمانية أيام فأجاب الأفضل إلى تسليمها على أن يعوض عنها ميّافارقين وحاني وسميساط فأجابه العادل إلى ذلك ولم يف له به، وكان دخول العادل إلى القاهرة في حادي عشري ربيع الآخر هذه السنة. قال ابن الأثير: كان دخول العادل إلى القاهرة يوم السبت [ثامن عشر] «1» ربيع الآخر، وتوفي القاضي الفاضل (135) [ليلة سابع ربيع الآخر] «2» ، ثم سافر الملك الأفضل إلى صرخد وأقام العادل بمصر على أنه أتابك الملك المنصور محمد ابن العزيز عثمان مدة يسيرة، ثم أزال الملك المنصور محمد (ا) واستقل العادل بالسلطنة. «3» ولما استقرت المملكة للملك العادل أرسل إليه الملك المنصور صاحب حماة يعتذر إليه مما وقع منه بسبب أخذه بارين من ابن المقدم، فقبل الملك العادل عذره وأمره برد بارين إلى ابن المقدم فاعتذر الملك المنصور عنها بقربها من حماة، ونزل عن منبج وقلعة نجم لابن المقدم عوضا عن بارين فرضي ابن المقدم بذلك لأنهما خير من بارين بكثير، وتسلمهما عز الدين إبراهيم بن شمس الدين

محمد بن عبد الملك [بن] «1» المقدم، وكان له أيضا فامية وكفرطاب وخمس [وعشرون] «2» ضيعة من المعرة، وكذلك كاتب الملك الظاهر صاحب حلب عمه الملك العادل وصالحه وخطب له بحلب وبلادها وضرب السّكّة باسمه، واشترط الملك العادل على صاحب حلب أن يكون خمس مئة فارس من خيار عسكر حلب في خدمة الملك العادل كلما خرج إلى البيكار، والتزم الملك الظاهر صاحب حلب بذلك. وقصر النيل في هذه السنة تقصيرا عظيما حتى إنه لم يبلغ أربعة عشر ذراعا. وفيها في العشرين من رمضان توفي خوارزم شاه تكش بن أرسلان بن أطسز ابن محمد بن أنوشتكين «3» صاحب خوارزم وبعض خراسان والري وغيرها [من البلاد] «4» الجبلية بشهرستانة (136) وولي الملك بعده ابنه محمد بن تكش وكان لقبه قطب الدين محمد فغيره إلى علاء الدين، وكان تكش عادلا حسن السيرة ويعرف الفقه على مذهب أبي حنيفة والأصول، ولما بلغ غياث الدين ملك الغورية موت خوارزم شاه تكش ضربت نوبتشيته ثلاثة أيام، وجلس للعزاء مع ما كان بينهما من العداوة المستحكمة، وهذا خلاف ما فعله بكتمر بعد موت السلطان صلاح الدين «5» . فلما استقر في المملكة محمد بن تكش هرب ابن أخيه هندوخان بن

وفي سنة سبع وتسعين وخمس مئة

ملكشاه بن تكش إلى غياث الدين ملك الغورية يستنصره على عمه، فأكرمه غياث الدين ووعده القيام معه. وفي سنة سبع وتسعين وخمس مئة «13» توفي عز الدين إبراهيم بن محمد بن عبد الملك [بن] «1» المقدم «2» وصارت بلاده بعده وهي منبج وقلعة نجم، وفامية، وكفرطاب لأخيه شمس الدين عبد الملك بن محمد بن عبد الملك [بن] «1» المقدم «3» ، ولما استقر الشمس عبد الملك بمنبج سار إليها الملك الظاهر [صاحب حلب] «1» وحصرها وملك منبج وعصى عبد الملك بن المقدم بالقلعة فحصره ونزل عبد الملك بالأمان فاعتقله الملك الظاهر وملك قلعة منبج، وبعد أن فرغ من منبج سار إلى قلعة نجم وفيها نائب ابن المقدم فحصرها وملكها في آخر رجب هذه السنة، وأرسل الملك الظاهر إلى الملك المنصور صاحب حماة يبذل له منبج وقلعة نجم على أن يصير معه على الملك العادل فاعتذر الملك المنصور باليمين (137) التي في عنقه للملك العادل فلما أيس الملك الظاهر منه سار إلى المعرة وأقطع بلادها، واستولى على كفرطاب وكانت لابن المقدم، ثم سار إلى فامية وبها قراقوش نائب ابن المقدم، وأرسل الملك الظاهر أحضر ابن المقدم من حلب، وكان معتقلا بها، وأحضر معه أصحابه الذين اعتقلهم وضربهم قدام قراقوش ليسلم فامية فامتنع فأمر الملك الظاهر بضرب عبد الملك بن المقدم فضرب ضربا عظيما وبقي يستغيث فأمر قراقوش فضربت النعّارات «4» على قلعة فامية لئلا يسمع أهل البلد صراخه، ولم يسلّم

القلعة، فرحل عنها الملك الظاهر وتوجه إلى حماة وحاصرها لثلاث بقين من شعبان هذه السنة، ونزل شمالي البلد وشعّث التربة للتقوية وبعض البساتين، وزحف من جهة الباب الغربي وقاتل قتالا شديدا، ثم زحف في آخر شعبان من الباب الغربي والباب القبلي وباب العميان وجرى بينهم قتال شديد وجرح الملك الظاهر بسهم في ساقه، واستمر الحرب إلى أيام من رمضان، فلما لم يحصل على غرض صالح الملك المنصور على مال حمله إليه فقيل إنه ثلاثون ألف دينار صورية، ثم رحل الملك الظاهر إلى دمشق وبها الملك المعظم بن الملك العادل «1» فنازلها الملك الظاهر هو وأخوه الملك الأفضل، وانضم [إليهما] «2» فارس الدين ميمون القصري صاحب نابلس ومن وافقه من الأمراء الصلاحية، واستقرت القاعدة بين الأخوين (138) الأفضل والظاهر أنهما متى تملكا دمشق يتسلمها الملك الأفضل ثم يسيران إلى الملك العادل بمصر فيأخذاها منه ويتسلمها الأفضل، وتسلم دمشق حينئذ إلى الملك الظاهر صاحب حلب بحيث تبقى مصر للملك الأفضل ويصير الشام جميعه للظاهر، وكان قد تخلف من الأمراء الصلاحية عنهما فخر الدين جهاركس وزين الدين قراجا «3» ، فأرسل الملك الأفضل وسلم صرخد إلى زين الدين قراجا، ونقل الأفضل والدته وأهله إلى عند

الملك المجاهد «1» بحمص، وبلغ الملك العادل حصار الأخوين لدمشق فخرج بعساكر مصر، وأقام بنابلس ولم يجسر على قتالهما، واشتدت مضايقة الملكين الأفضل والظاهر لدمشق وتعلق النقابون بسورها، فلما شاهد الملك الظاهر صاحب حلب ذلك حسد أخاه الأفضل على دمشق، وقال له: أريد أن تسلم دمشق إلي الآن، فقال له الأفضل: إن حريمي [حريمك] «2» وهم على الأرض [وليس لنا موضع نقيم فيه] «3» وهب هذه المملكة لك فاجعلها لي إلى حين تملك مصر وتأخذها فامتنع الظاهر من قبول ذلك، وكان قتال العسكر والأمراء الصلاحية إنما هو لأجل الأفضل، فقال لهم الأفضل: إن كان قتالكم لأجلي فاتركوا القتال وصالحوا الملك العادل، وإن كان قتالكم لأجل أخي الملك الظاهر [فأنتم وإياه] «4» ، فقالوا: إنما قتالنا لأجلك، وتخلوا عن القتال وأرسلوا صالحوا الملك العادل، وخرجت السنة وقد تفرقت العساكر (139) فرحل الظاهر عن دمشق في أول المحرم سنة ثمان وتسعين، وسار الأفضل إلى حمص. وفيها، توفي العماد الكاتب. وفيها، سار الملك غياث الدين ملك الغورية بعساكره واستدعى أخاه شهاب الدين من غزنة فسار إليه بعساكره أيضا، وسار غياث الدين إلى خراسان واستولى على ما كان لخوارزم شاه بخراسان، ولما ملك غياث الدين مرو سلمها إلى هندوخان بن ملكشاه بن خوارزم شاه تكش الذي هرب من عمه محمد إلى غياث الدين «5» ، ثم استولى غياث الدين على سرخس وطوس ونيسابور وغيرها،

وفي سنة ثمان وتسعين وخمس مئة

ولما استقرت هذه البلاد لغياث الدين عاد إلى بلاده، وتوجه أخوه شهاب الدين إلى بلاد الهند، فغنم وفتح نهر والة [وهي] «1» من أعظم بلاد الهند. وفيها، في رمضان ملك ركن الدين سليمان بن قليج أرسلان مدينة ملطية، وكانت لأخيه معز الدين قيصر شاه بن قليج أرسلان، ثم سار سليمان إلى أرزن الروم وكانت لمحمد بن صليق وهو من بيت قديم ملكوا أرزن الروم، فخرج صاحب أرزن ليصالح سليمان فقبض عليه، وأخذ البلد منه، وهذا محمد آخر الملوك من أهل بيته. وفيها، توفي سقمان بن محمد بن قرا أرسلان بن داود بن سقمان بن أرتق «2» . وفي سنة ثمان وتسعين وخمس مئة «13» بعد رحيل الملكين الأفضل والظاهر عن دمشق قدم الملك العادل، وكان قد سار ميمون القصري مع الملك الظاهر فأقطعه أعزاز. وفيها، خرب الملك الظاهر (140) قلعة منبج خوفا أن تؤخذ منه، وأقطع منبج بعد ذلك لعماد الدين أحمد بن سيف الدين علي بن المشطوب. وفيها، أرسل قراقوش نائب عبد الملك بن محمد بن عبد الملك بن المقدّم بفامية إلى الملك الظاهر يبذل له تسلم فامية بشرط أن يعطى شمس الدين عبد الملك بن المقدم إقطاعا برضاه فأقطعه الملك الظاهر الرّاوندان وكفرطاب ومفردة

المعرة، وهو عشرون ضيعة معينة من بلاد المعرة وتسلم فامية، ثم إن عبد الملك بن المقدم عصى بالرّاوندان، فسار إليه الملك الظاهر وانزله منها وأبعده، فلحق ابن المقدم بالملك العادل فأحسن إليه. وفيها، سار الملك العادل من دمشق ووصل حماة، ونزل على تل صفرون، وقام الملك المنصور صاحب حماة بجميع وظائفه وكلفه، وبلغ الظاهر صاحب حلب وصول عمه إلى حماة بنية قصده ومحاصرته بحلب فاستعد للحصار، وراسل عمه ولاطفه واستعد للصلح فوقع الصلح، وانتزعت [منه] «1» مفردة المعرة، واستقرت للملك المنصور صاحب حماة، وأخذت من الملك الظاهر أيضا قلعة نجم، وسلمت إلى الملك الأفضل، وكان له سروج وسميساط وسلّم الملك العادل حران وما معها لولده الملك الأشرف مظفر الدين موسى «2» وسيّره إلى الشرق، وكان الملك الأوحد بن الملك العادل بميّافارقين والملك الحافظ نور الدين أرسلان شاه بن الملك العادل «3» بقلعة جعبر، ولما استقر الصلح بين العادل والظاهر (141) رجع العادل إلى دمشق، وأقام بها، وقد انتظمت الممالك الشامية والشرقية والديار المصرية كلها في سلك ملكه، وخطب له على منابرها، [وضربت له السكة] «4» فيها باسمه. وفيها، عاد خوارزم شاه محمد بن تكش واسترجع البلاد التي أخذها الغور من خراسان إلى ملكه.

وفي سنة تسع وتسعين وخمس مئة

وفي سنة تسع وتسعين وخمس مئة «13» في المحرم توفي فلك الدين [سليمان] «1» أخو الملك العادل لأمه وهو الذي تنسب إليه المدرسة الفلكية بدمشق. ذكر الحوادث باليمن كان قد تملك اليمن الملك المعز إسماعيل بن سيف الإسلام طغتكين بن أيوب «2» ، وكان فيه هوج وخبط فادعى أنه قرشي، وأنه من بني أمية، ولبس الخضرة، وخطب لنفسه [ولبس ثياب الخلافة في ذلك الزمان] «3» ، وكان طول الكم [نحو عشرين] «4» ذراعا، وخرج عن طاعته جماعة من مماليك أبيه، واقتتلوا معه، وانتصر عليهم، ثم اتفق معهم جماعة من الأمراء الأكراد وقتلوا المعز إسماعيل «5» ، وأقاموا في مملكة اليمن أخا له صغيرا وسموه الناصر «6» ، وبقي مدة وأقام بأتابكيته مملوك والده وهو سيف الدين سنقر ثم مات سنقر بعد أربع سنين «7» ، وتزوج أم الناصر أمير من أمراء الدولة يقال له غازي بن

جبريل «1» وقام بأتابكية الناصر ثم سم الناصر في كوز فقاع على ما قيل، وبقي غازي متملكا للبلاد، ثم قتله جماعة من العرب (142) بسبب قتله للناصر بن طغتكين، وبقيت اليمن خالية بغير سلطان فتغلبت أم الناصر على زبيد وأحرزت عندها الأموال، وكانت تنتظر وصول أحد من بني أيوب لتتزوج به وتملكه البلاد، وكان للملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه ولد اسمه سعد الدين شاهنشاه «2» وكان له ابن اسمه سليمان «3» فخرج بن شاهنشاه بن تقي الدين عمر فقيرا يحمل الركوة على كتفه ويتنقل مع الفقراء من مكان إلى مكان، وكان قد أرسلت أم الناصر بعض غلمانها إلى مكة حرسها الله تعالى في موسم الحجاج ليأتيها بأخبار مصر والشام، فوجد غلمانها سليمان المذكور فأحضروه إلى اليمن فاستحضرته أم الناصر وخلعت عليه وملكته اليمن، فملأ الأرض ظلما وجورا واطّرح زوجته التي ملكته اليمن، وأرسل إلى السلطان الملك العادل وهو عم جده كتابا جعل [في أوله] «4» إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ «5» فاستقل العادل عقله، ثم كان من سليمان المذكور ما نذكره «6» إن شاء الله

تعالى. وفيها، أرسل العادل إلى ولده الأشرف وأمره بحصار ماردين فحصرها وضايقها، ثم سعى الملك الظاهر إلى العادل في الصلح فأجاب على أن يحمل صاحب ماردين مئة ألف وخمسين ألف دينار، ويخطب له ببلاده، ويضرب السّكّة باسمه، ويكون بخدمته متى طلبه، فأجيب إلى ذلك واستقر الصلح عليه. وفيها، أخرج الملك العادل الملك المنصور محمد بن (143) الملك العزيز من مصر إلى الشام، فسار بوالدته وأقام بحلب عند عمه الملك الظاهر. وفيها، سار الملك المنصور صاحب حماة إلى بعرين مرابطا للفرنج وأقام بها، وكتب الملك العادل إلى صاحب بعلبك وإلى صاحب حمص بإنجاده، واجتمعت الفرنج من حصن الأكراد وطرابلس وغيرها وقصدوا الملك المنصور ببعرين، واتقعوا معه في ثالث شهر رمضان هذه السنة واقتتلوا فانهزم الفرنج، وقتل وأسر من خيالتهم جماعة، وكان يوما مشهودا، وفي ذلك يقول بهاء الدين أسعد بن يحيى السّنجاري «1» قصيدة منها: (البسيط) ما لذة العيش إلّا صوت معمعة ... تنال فيها المنى بالبيض والأسل يأيها الملك المنصور نصح فتى ... لم يلوه عن وفاء كثرة العذل اعزم ولا تترك الدنيا بلا ملك ... وجدّ والملك محتاج إلى رجل يا أوحد العصر يا خير الملوك ومن ... فاق البرية من حاف ومنتعل ثم خرج من حصن الأكراد والمرقب الإسبتار، وانضم إليهم جموع من

السواحل، واتقعوا مع الملك المنصور صاحب حماة وهو نازل ببارين حادي وعشري شهر رمضان هذه السنة بعد الوقعة الأولى بثمانية عشر يوما فانتصر ثانيا، وانهزمت الفرنج هزيمة قبيحة وأسر الملك المنصور وقتل منهم عدة كثيرة، ومدح الملك المنصور بسبب هذه الوقعة سالم بن سعاد «1» الحمصي بقصيدة منها: (الكامل) أمر اللواحظ أن تفوق الأسهما «2» ... ريم برامة مارنا حتى رمى (144) ومنها: فتّانة بالسّحر بل فتّاكة ... ما جار قاضيهن حتى حكّما «3» أصبحت فيها مغرما كمحمد ... لما غدا بالأريحيّة مغرما وشننت منتقما بساحل بحرها ... جيشا حكى البحر الخضمّ عرمرما أسدلت في الآفاق من هبواته ... ليلا وأطلقت الأسنة أنجما وفيها، ولد الملك المظفر تقي الدين محمود بن المنصور محمد «4» صاحب حماة من ملكة خاتون بنت السلطان الملك العادل «5» وسمي عمر، وإنما سمي [محمودا] «6» بعد ذلك، وكانت ولادته بقلعة حماة ظهر يوم الأربعاء «7» رابع عشر رمضان هذه السنة.

وفيها، أرسل الملك العادل وانتزع ما كان بيد الملك الأفضل وهي رأس عين «1» وسروج وقلعة نجم «2» ، ولم يترك بيده غير سميساط فقط، فأرسل الملك الأفضل والدته، ودخلت على الملك المنصور صاحب حماة ليرسل معها من يشفع في الملك الأفضل عند الملك العادل في إبقاء ما كان بيده وتوجهت أم الأفضل وتوجه معها من حماة القاضي زين الدين بن هندي «3» إلى الملك فلم يجبها ورجعت خائبة، قال عز الدين بن الأثير في «الكامل» : وقد عوقب البيت الصلاحي بمثل ما فعله والدهم صلاح الدين لما خرجت إليه نساء بيت الأتابك ومن جملتهن بنت نور الدين الشهيد يتشفعن في إبقاء الموصل على عز الدين مسعود فردهن ولم يجب سؤالهن، ثم ندم رحمه الله على ردهن، فجرى للملك الأفضل بن السلطان صلاح الدين (145) مع عمه مثل ذلك «4» . ولما جرى ذلك أقام الملك الأفضل بسميساط وقطع خطبة الملك العادل، وخطب للسلطان ركن الدين سليمان بن قليج أرسلان بن مسعود السلجوقي صاحب بلاد الروم.

وفي سنة ست مئة

وفيها، في جمادى الأولى، توفي غياث الدين محمد بن سام بن [الحسين] «1» الغوري صاحب غزنة وبعض خراسان وغيرها، وكان أخوه شهاب الدين بطوس عازما على قصد خوارزم، وخلف غياث الدين من الأولاد ولدا اسمه محمود «2» ولقبه غياث الدين بلقب والده، ولم يحسن شهاب الدين الخلافة على ابن أخيه ولا على غيره من أهله، وكان لغياث الدين زوجة يحبها وكانت مغنية فقبض عليها شهاب الدين بعد موت أخيه غياث الدين وضربها ضربا مبرحا وأخذ أموالها. وكان غياث الدين مظفرا منصورا لم تنهزم له راية قط، وكان له دهاء ومكر، وكان حسن الاعتقاد، كثير الصدقات، وكان له فضل غزير، وأدب مع حسن حظ، وكان ينسخ المصاحف بخطه، ويوقفها على المدارس التي بناها، وكان على مذهب الكرامية ثم تركه وصار شافعيا. وفيها، استولى الكرج على مدينة دوين من أذربيجان ونهبوها وقتلوا أهلها، وكانت هي وجميع أذربيجان للأمير أبي بكر بن البهلوان «3» ، وكان مشغولا بشرب الخمر ليلا ونهارا لا يلتفت إلى تدبير مملكته، ووبخه أمراؤه ونوابه على ذلك فلم يلتفت. وفي سنة ست مئة «13» (146) كانت الهدنة بين الملك المنصور صاحب حماة وبين الفرنج.

وفيها، نازل ابن لاون ملك الأرمن أنطاكية، فتحرك الملك الظاهر صاحب حلب ووصل إلى حارم، فرحل ابن لاون عن أنطاكية على عقبه. وفيها، خطب قطب الدين محمد بن عماد الدين زنكي بن مودود صاحب سنجار للملك العادل ببلاده وانتمى إليه، فصعب على ابن عمه نور الدين أرسلان شاه بن مسعود بن مودود وقصد نصيبين، وهي لقطب الدين محمد واستولى على مدينتها، واستنجد قطب الدين بالملك الأشرف بن العادل، فسار إليه واجتمع معه أخوه الملك الأوحد صاحب ميّافارقين، والتقى الفريقان بقرية يقال لها بوشرة فانهزم نور الدين صاحب الموصل هزيمة قبيحة ودخل الموصل وليس معه غير أربعة أنفس فكانت هذه الوقعة أول ما عرفت من سعادة الأشرف ابن العادل فإنه لم تنهزم له راية بعد ذلك، واستقرت بلاد قطب الدين محمد بن زنكي عليه، ووقع الصلح بينهم بعد ذلك. وفيها، اجتمع الفرنج لقصد بيت المقدس «1» ، فخرج الملك العادل من دمشق وجمع العساكر، ونزل على الطور «2» في قبالة الفرنج ودام ذلك إلى آخر السنة. وفيها، استولت الفرنج على قسطنطينية وكانت قسطنطينية بيد الروم من قديم الزمان، فلما كانت هذه السنة اجتمعت الفرنج وقصدتها في جمع عظيم وحاصروها (147) وملكوها وأزالوا الروم «3» ، ولم تزل بيد الفرنج إلى سنة ستين

وست مئة فقصدتها الروم واستعادوها من الفرنج «1» . وفيها، توفي السلطان ركن الدين سليمان بن قليج أرسلان بن مسعود بن قليج أرسلان بن سليمان بن قطلومش بن يبغو أرسلان بن سلجوق «2» ملك بلاد الروم في سادس ذي القعدة حسبما قدمنا ذكره في سنة ثمان وثمانين وخمس مئة «3» ، وكان مرضه القولنج، وكان قبل موته بخمسة أيام قد غدر بأخيه صاحب أنكورية وهي أنقرة، وكان ركن الدين المذكور يميل إلى مذهب الفلاسفة، ويحسن إلى طائفتهم ويقدمهم، ولما مات ملك بعده ولده قليج أرسلان وكان صغيرا فلم يثبت أمره، وكان ما سنذكره «4» إن شاء الله تعالى. وفيها، كان بين خوارزم شاه محمد بن تكش وبين شهاب الدين الغوري قتال فانتصر فيه ملك الغورية، واستنجد خوارزم شاه بالخطا فساروا واتقعوا مع شهاب الدين ملك الغورية فهزموه، وشاع ببلاده أن شهاب الدين قتل فاختلفت مملكته وكثر المفسدون، ثم إنه ظهر ورجع إلى غزنة واستقر في مملكته. وفيها، قتل ككجا «5» مملوك البهلوان وكان قد ملك الري وهمذان وبلاد

سنة إحدى وست مئة إلى سنة عشر وست مئة

الجبل قتله أيدغمش البهلواني «1» وتملك موضعه، وأقام أيدغمش ابن أستاذه أزبك البهلوان في الملك، وليس لأزبك غير الاسم والحكم لأيدغمش. وفيها، استولى إنسان (148) اسمه محمود بن [محمد] «2» الحميري على ظفار ومرباط «3» وغيرهما من حضرموت. وفيها، خرج أسطول الفرنج واستولى على مدينة فوّة «4» من الديار المصرية ونهبوها خمسة أيام. وفيها، كانت زلزلة عامة في أقطار الأرض خربت من المدن شيئا كثيرا. سنة إحدى وست مئة إلى سنة عشر وست مئة ف ي سنة إحدى وست مئة «13» كانت الهدنة بين الملك العادل والفرنج، وسلم إلى الفرنج يافا، ونزل عن مضافات لد والرملة، ولما استقرت الهدنة أعطى العساكر دستورا، وسار إلى مصر، وأقام بدار الوزارة. وفيها، أغارت الفرنج على حماة حتى قاربوها إلى قرية الرّقيطاء، وامتلأت أيديهم من المكاسب، وأسروا من أهل حماة شهاب الدين بن البلاغي «5» وكان فقيها شجاعا تولى بر حماة مرة وسلمية مرة أخرى، وحمله الفرنج أسيرا إلى

طرابلس، فهرب وتعلق بجبال بعلبك، ووصل إلى أهله بحماة سالما، ثم وقعت الهدنة بين الملك المنصور صاحب حماة وبين الفرنج. وفيها، بعد الهدنة توجه الملك المنصور صاحب حماة إلى مصر، وكان عنده استشعار من الملك العادل، فما وصل إليه بالقاهرة أحسن إليه إحسانا كثيرا، وأقام في خدمته شهورا، ثم خلع عليه وعلى أصحابه وعاد إلى حماة. وفيها ملك السلطان غياث الدين كيخسرو بن (149) قليج أرسلان بلاد الروم، وكان لما تغلب أخوه ركن الدين سليمان على البلاد قد هرب كيخسروا إلى الملك الظاهر صاحب حلب، ثم تركه وسار إلى القسطنطينيّة فأحسن إليه صاحبها، وأقام بالقسطنطينيّة إلى أن مات أخوه ركن الدين سليمان وتولى ابنه قليج أرسلان، فسار كيخسرو [من] «1» القسطنطينيّة، وأزال أمر ابن أخيه، وملك بلاد الروم واستقر أمره «2» . وفيها كانت الحرب بين الأمير قتادة الحسني «3» أمير مكة وبين الأمير سالم بن قاسم الحسيني «4» أمير المدينة، وكانت الحرب بينهما سجالا.

وفي سنة اثنتين وست مئة

وفي سنة اثنتين وست مئة «13» في أول ليلة من شعبان قتل شهاب الدين أبو المظفر محمد بن سام بن الحسين الغوري «1» ملك غزنة وبعض خراسان بعد عوده من لهاوور، فوثب عليه قبل صلاة العشاء جماعة بخركاته «2» وقد تفرق الناس عنه لأماكنهم فقتلوه بالسكاكين، قيل إنهم من الكوكير وهم طائفة مفسدون من أهل الجبال كان شهاب الدين قد فتك فيهم، وقيل: إنهم من الإسماعيلية وأن شهاب الدين أيضا كان كثير الفتك فيهم، واجتمع حرس شهاب الدين فقتلوا قتلته عن آخرهم. وكان شهاب الدين شجاعا كثير الغزو، عادلا في الرعية، كان الإمام فخر الدين يعظه في داره فحضر يوما ووعظه، وقال: يا سلطان! لا سلطانك يبقى ولا تلبيس الرازي، فبكى شهاب الدين حتى رحمه الناس. ولما قتل (150) شهاب الدين كان صاحب باميان بهاء الدين سام بن شمس الدين محمد بن مسعود ابن عم غياث الدين وشهاب الدين فسار [بهاء الدين] «3» ليتملك غزنة ومعه [ولداه] «4» علاء الدين محمد وجلال الدين فأدركت بهاء الدين [ساما] «5» الوفاة قبل أن يصل إلى غزنة، وعهد بالملك إلى

ابنه علاء الدين محمد، وأتم علاء الدين وأخوه جلال الدين السير إلى غزنة ودخلاها فتملكها علاء الدين فكان لغياث الدين مملوك اسمه يلدز «1» ، وكانت كرمان إقطاعه، وهو كبير في الدولة ويرجع الأتراك إليه، فسار تاج الدين يلدز إلى غزنة وهزم عنها علاء الدين محمد بن بهاء الدين سام و [أخاه] «2» جلال الدين واستولى يلدز على غزنة، ثم إن علاء الدين وجلال الدين ابني بهاء الدين سام سارا إلى باميان وجمعا العساكر وعادا إلى غزنة فقاتلهما [يلدز] «3» فانتصرا عليه وانهزم يلدز إلى كرمان، واستقر علاء الدين محمد بن بهاء الدين سام ومعه بعض العسكر في ملك غزنة، وعاد أخوه جلال الدين في باقي العسكر إلى باميان، ثم إن يلدز لما بلغه مسير جلال [الدين] «3» في باقي العسكر إلى باميان، وتأخر علاء الدين بغزنة جمع يلدز عساكر كرمان وغيرها وسار إلى غزنة، وبلغ علاء الدين محمد بن بهاء الدين سام ذلك، فأرسل إلى أخيه جلال الدين وهو بباميان يستنجده، وسار يلدز وحصر علاء الدين بغزنة وسار جلال الدين فلما قارب غزنة رحل يلدز إلى طريقه (151) واقتتلا فانهزم عسكر جلال الدين وأخذه يلدز أسيرا فأكرمه يلدز واحترمه وعاد إلى غزنة فحصر علاء الدين بها وكان عنده بغزنة هندوخان بن ملكشاه بن تكش فاستنزلهما يلدز بالأمان وقبض على علاء الدين وعلى هندوخان «4» وتسلم غزنة. وأما غياث الدين محمود بن غياث الدين محمد ملك الغورية فإنه لما قتل عمه شهاب الدين وكان ببست فسار إلى فيروز كوه وملكها وجلس في دست

وفي سنة ثلاث وست مئة

أبيه غياث الدين وتلقب ألقابه، وفرح به أهل فيروز كوه وسلك طريقة أبيه في الإحسان والعدل، ولما استقر يلدز بغزنة وأسر علاء الدين وجلال الدين كتب إلى غياث الدين محمود بن غياث الدين محمد بن سيف الدين سام بن الحسين بالفتح، وأرسل إليه الأعلام وبعض الأسرى. وفيها، تزوج أبو بكر بن البهلوان بابنة ملك الكرج، وذلك لاشتغاله بالشرب عن تدبير المملكة فعدل إلى المصاهرة والهدنة فكفوا الكرج عنه لذلك. وفي سنة ثلاث وست مئة «13» سار الملك العادل من مصر الشام ونازل في طريقه عكّا فصالحه أهلها على إطلاق جميع الأسارى، ووصل إلى دمشق ثم سار إلى بحيرة قدس واستدعى بالعسكر فأتته من كل جهة، وأقام على البحيرة حتى خرج رمضان، ثم سار ونازل حصن الأكراد، وفتح برج أعناز «1» وأخذ منه سلاحا ومالا وخمس مئة رجل، ثم سار ونازل طرابلس (152) ونصب عليها المناجيق وعاث العسكر في بلادها، وقطع قناتها، ثم عاد في أواخر ذي الحجة إلى بحيرة قدس بظاهر حمص. وفيها، أرسل غياث الدين محمود بن غياث الدين محمد ملك الغورية يستميل يلدز مملوك أبيه المستولى على غزنة فلم يجبه يلدز إلى ذلك فطلب يلدز من غياث الدين أن يعتقه فأحضر الشهود وعتقه وأرسل مع عتقه هدية عظيمة وكذلك عتق أيبك المستولي على الهند، وأرسل نحو ذلك فقبل كل منهما ذلك، وخطب أيبك لغياث الدين، [وأما يلدز فلم يخطب له] «2» وخرج غالب العسكر عن طاعة يلدز لعدم طاعته لغياث الدين.

وفي سنة أربع وست مئة

وفيها، [في] «1» ثالث شعبان ملك غياث الدين كيخسرو صاحب الروم أنطالية (باللام) «2» ، وهي مدينة للروم على ساحل البحر. وفيها، قبض عسكر خلاط على صاحبها ابن بكتمر، وكان أتابكه قتلغ مملوك شاه أرمن فقبض عليه ابن بكتمر، فثارت [عليه] «3» أرباب الدولة وقبضوه، وملكوا بلبان مملوك شاه أرمن بن سكمان صاحب خلاط حسبما ذكرناه سنة أربع وتسعين وخمس مئة «4» . وفي سنة أربع وست مئة «13» كان الملك العادل نازلا ببحيرة قدس في أوائلها، ثم وقعت الهدنة بينه وبين صاحب طرابلس، وعاد الملك العادل إلى دمشق وأقام بها. وفيها ملك الملك الأوحد نجم الدين أيوب بن الملك العادل خلاط، وكان صاحب خلاط بلبان حسبما قدمنا ذكره في سنة أربع وتسعين (153) وخمس مئة «4» ، فسار الملك الأوحد من ميّافارقين وملك مدينة موش ثم اقتتل هو وبلبان صاحب خلاط فانهزم بلبان واستنجد بصاحب أرزن وهو مغيث الدين طغريل شاه بن قليج أرسلان السلجوقي، فسار طغريل شاه واجتمع به بلبان وهزما الملك الأوحد، ثم غدر طغريل شاه ببلبان وقتله ليملك بلاده، وقصد خلاط فلم

يسلموها له وقصد منازكرد فلم تسلم إليه فرجع طغريل إلى بلاده، وكاتب أهل خلاط الملك الأوحد فسار إليهم وتسلم خلاط وبلادها بعد إياسه منها، واستقر ملكه بها. وفيها، وصل التشريف من الخليفة الناصر للسلطان الملك العادل بدمشق صحبة الشيخ شهاب الدين السّهروردي «1» ، فبالغ الملك العادل في إكرام الشيخ والتقاه إلى القصير «2» ، ووصل من صاحب حلب وحماة ذهب لينثر على الملك العادل إذا لبس الخلعة، فلبسها الملك العادل ونثر ذلك الذهب وكان يوما مشهودا، وكانت الخلعة جبة أطلس أسود بطراز ذهب «3» وعمامة سوداء بطراز ذهب 1 وطوق ذهب مجوهر، وسيف جميع قرابه ملبّس بالذهب تقلد به الملك العادل وتطوق بالطوق وحصان أشهب بمركب ذهب، و [نثر] «4» على رأسه علم أسود مكتوب فيه بالبياض اسم الخليفة الناصر وألقابه، ثم خلع رسول الخليفة على كل واحد من الملكين الأشرف والمعظم ابني العادل عمامة سوداء و [ثوبا] «5» أسود (154) واسع الكم، وكذلك على الوزير صفي الدين بن شكر «6» ، وركب العادل وولداه ووزيره بالخلع، ودخل القلعة، وكذلك وصل إلى الملك

العادل مع الخلع تقليد بالبلاد التي تحت حكمه، وخوطب الملك العادل فيه بشاهنشاه ملك الملوك خليل أمير المؤمنين. ثم توجه الشيخ شهاب الدين إلى مصر فخلع على الملك الكامل بها، وجرى بها نظير ما جرى في دمشق من الاحتفال، ثم عاد السّهروردي إلى بغداد مكرما معظما. وفيها، اهتم الملك العادل بعمارة قلعة دمشق، وألزم كل واحد من ملوك أهل بيته بعمارة برج من أبراجها. وفي هذه السنة كاتبت ملوك ما وراء النهر مثل ملك سمرقند وملك بخارى يشكون ما يلاقونه من الخطا إلى خوارزم شاه ويبذلون له الطاعة والخطبة والسكة ببلادهم إن دفع الخطا عنهم، فعبر علاء الدين [محمد] «1» خوارزم شاه بن تكش نهر جيجون واقتتل مع الخطا وكانت بينهم عدة وقائع والحرب بينهم سجال، واتفق في بعض الوقعات أن عسكر خوارزم انهزم وأخذ خوارزم شاه [أسيرا] «2» وأخذ معه آخر اسمه فلان بن شهاب الدين مسعود «3» ولم يعرفهما الخطائي الذي أسرهما، فقال ابن مسعود لخوارزم شاه، دع عنك المملكة وأدع أنك غلامي وأخدمني لعلّي احتال في خلاصك، فشرع خوارزم شاه يخدم ابن مسعود ويقلعه قماشه وخفه [ويلبسه] «2» ويخدمه فسأل الخطائي ابن مسعود من أنت، فقال: أنا فلان، فقال له الخطائي: لولا أخاف من الخطا (155) أطلقتك، فقال له ابن مسعود: إني أخشى أن ينقطع خبري عن أهلي فلا [يعلموا] «4» بحالي وأشتهي [أن] «2» أعلمهم بحياتي لئلا يظنوا موتي

ويتقاسموا مالي، فأجابه الخطائي إلى ذلك، فقال له ابن مسعود: اشتهي أن تبعث غلامي هذا مع رسولك ليصدقوه فأجابه إلى ذلك، وراح خوارزم شاه مع ذلك الشخص حتى قرب من خوارزم فرجع الخطائي واستقر خوارزم شاه في ملكه، وتراجع إليه عسكره. وكان لخوارزم شاه أخ يقال له علي شاه بن تكش «1» وكان نائب أخيه بخراسان فلما بلغه عدم أخيه في الوقعة مع الخطا دعا إلى نفسه بالسلطنة، واختلف الناس بخراسان وجرى فيها فتن كثيرة. فلما عاد خوارزم شاه محمد إلى ملكه خاف أخوه علي شاه، فسار إلى غياث الدين محمود بن غياث الدين محمد ملك الغورية فأكرمه غياث الدين وأقام علي شاه عنده بفيروز كوه، ولما استقر خوارزم شاه في ملكه وبلغه ما فعله أخوه علي شاه جهز عسكرا لقتال غياث الدين محمود الغوري، فسار العسكر إلى فيروز كوه مع مقدم اسمه أمير ملك وبلغ ذلك محمودا، فأرسل يبذل الطاعة ويطلب الأمان فأعطاه أمير ملك الأمان، وخرج محمود وعلي شاه من فيروز كوه إلى أمير ملك فقبض عليهما، وأرسل يعلم خوارزم شاه بالحال، فأمره بقتلهما فقتلهما في يوم واحد، واستقامت خراسان كلها لخوارزم شاه بن تكش، وذلك سنة خمس وست مئة. وهذا غياث الدين محمود بن (156) غياث الدين محمد بن سام بن الحسين هو آخر الملوك الغورية «2» ، وكانت دولتهم من أحسن الدول، وكان هذا محمود كريما عادلا، رحمه الله تعالى.

وفي سنة خمس وست مئة

ثم إن خوارزم شاه محمد (ا) لما خلا شره من [جهة] «1» خراسان عبر النهر إلى الخطا، وكان وراء الخطا في حدود الصين التتر «2» ، وكان ملكهم حينئذ اسمه كشلي خان «3» ، وكان بينه وبين الخطا عداوة مستحكمة، فأرسل كشلي خان إلى خوارزم شاه أن يكون معه على الخطا، وأرسل ملك الخطا يسأل خوارزم شاه أن يكون معه على التتر، فأجابهما خوارزم شاه بالمغلظة وانتظر ما يكون منهما، فاتقع كشلي خان والخطا فانهزمت الخطا، فمال عليهم خوارزم شاه وفتك فيهم، وكذلك فعل كشلي خان بهم، وانقرضت الخطا، ولم يبق منهم إلا من اعتصم بالجبال، أو استسلم وصار في عسكر خوارزم شاه. وفي سنة خمس وست مئة «13» توجه الملك الأشرف موسى بن العادل من دمشق راجعا إلى بلاده الشرقية، ولما وصل إلى حلب تلقاه صاحبها الملك الظاهر وأنزله بالقلعة، وبالغ في إكرامه، وقام للأشرف ولجميع عساكره بجميع ما يحتاجون إليه من الطعام والشراب والعلوفات، وكان يحمل إليه في كل يوم خلعة كاملة، وهي غلالة وقباء

وسراويل وكمة وفروة وسيف وحصان ومنطقة ومنديل وسكين ودلكش وخمس خلع لأصحابه، وأقام على ذلك خمسة و [عشرين] «1» يوما، وقدم له (157) مئة ألف درهم، ومئة بقجة مع مئة مملوك. منها عشر بقج في كل واحدة منها ثلاثة أثواب أطلس و [ثوبان] «2» خطائي «3» وعلى كل بقجة جلد قندس كبير «4» . ومنها عشر في كل بقجة منها عشرة ثياب عتّابي «5» خوارزمي وعلى [كل] «1» بقجة جلد قندس كبير. ومنها عشر في كل بقجة منها خمسة ثياب عتّابي [بغدادي] «1» وموصلي وعليها [عشرة] «6» جلود قندس صغار. ومنها عشرون في كل بقجة خمس قطع من دبيقي «7» وسوسي «8» .

ومنها أربعون في كل بقجة منها خمسة أقبية وخمسة كمام. وحمل إليه خمسة حصن عربية بعدتها وعشرين إكديشا، وأربعة قطر بغال، وخمس بغلات فائقات بالسروج واللّجم المكفتة [وقطارين من الجمال] «1» ، وخلع على أصحابه مئة وخمسين خلعة وقاد [إلى] «1» أكثرهم بغلات وأكاديش، ثم سار الملك الأشرف إلى بلاده. وفيها، أمر الملك الظاهر صاحب حلب بإجراء القناة من حيلان «2» إلى حلب، وغرم على ذلك أموالا كثيرة، وبقي الماء يجري في البلد. وفيها، وصل غياث الدين كيخسرو بن قليج أرسلان السلجوقي صاحب بلاد الروم إلى مرعش لقصد بلاد ابن لاون الأرمني، فأرسل إليه الملك الظاهر نجدة، فدخل كيخسرو إلى بلاد ابن لاون وعاث فيها ونهب وفتح حصنا يعرف بفرقوس. وفيها قتل معز الدين سنجرشاه «3» بن سيف الدين غازي بن مودود بن عماد الدين زنكي بن آقسنقر صاحب جزيرة ابن عمر (158) ، وقد تقدم ذكر ولايته سنة ست وسبعين وخمس مئة «4» ، قتله ابنه غازي «5» . وكان سنجر شاه ظالما قبيح السيرة جدا، لا يمتنع من قبيح يفعله من القتل وقطع الألسنة والأنوف وحلق اللحى، وتعدى ظلمه إلى أولاده وحريمه، فبعث

ابنيه محمودا «1» ومودودا «2» إلى قلعة فحبسهما فيها، وبعث ابنه غازي المذكور فحبسه في دار المدينة وضيق عليه وكان بتلك الدار هوام كثيرة، فاصطاد غازي [منها] «3» حيّة وأرسلها إلى أبيه في منديل لعله يرق عليه، فلم يزده ذلك إلا قسوة فأعمل غازي الحيلة حتى يهرب، وكان واحد يخدمه فقرر معه أن يسافر ويظهر أنه غازي بن معز الدين سنجر شاه ليأمنه أبوه، فمضى ذلك الإنسان إلى الموصل فأعطي شيئا وسافر منها، فاتصل ذلك بسنجر شاه فاطمأن، وتوصل ابنه غازي حتى دخل دار أبيه واختفى عند بعض سراري أبيه، وعلم به جماعة منهم، وكتموا ذلك عن سنجر شاه لبغضهم فيه، واتفق أن سنجر شاه شرب يوما بظاهر البلد، وشرع يقترح على المغنين الأشعار الفائقة الفراقية وهو يبكي، ودخل داره سكران إلى عند الحظية التي ابنه مختبئ عندها، ثم قام سنجر شاه ودخل الخلاء، فهجم عليه ابنه غازي فضربه أربع عشرة ضربة بالسكين، ثم ذبحه وتركه ملقى، ودخل غازي الحمام وقعد يلعب مع الجواري، فلو أحضر الجند واستحلفهم في (159) ذلك الوقت لتمّ أمره وملك البلاد، ولكنه سكر «4» واطمأن، فخرج بعض الخدم وأعلم أستاذ داره، فجمع الناس وهجم على غازي وقتله، وحلف العسكر لأخيه محمود بن سنجر شاه ولقب معز الدين بلقب أبيه [ووصل معز الدين محمود بن سنجر شاه بن زنكي] «5» فاستقر ملكه بالجزيرة وقبض على جواري أبيه فأغرقهن في دجلة، ثم قبض على أخيه مودود.

وفي سنة ست وست مئة

وفي سنة ست وست مئة «13» سار الملك العادل من دمشق وقطع الفرات وجمع الملوك من أولاده ونزل حران، ووصل إليه وبها الملك الصالح [محمود] «1» بن محمد بن قرا أرسلان الأرتقي صاحب آمد وحصن كيفا، وسار الملك العادل من حران، ونازل سنجار وبها صاحبها قطب الدين محمد بن عماد الدين زنكي بن مودود بن زنكي فحاصره فطال الأمر في ذلك، ثم خامرت عساكر الملك العادل ونقض الملك الظاهر صاحب حلب الصلح معه، فرحل [عن سنجار] «2» وعاد إلى حران، واستولى الملك العادل على نصيبين، وكانت لقطب الدين محمد المذكور، وكذلك استولى على الخابور. وفي سنة سبع وست مئة «14» عاد السلطان الملك العادل من البلاد الشرقية إلى دمشق. وفيها، قصدت الكرج خلاط، وحصروا الأوحد بن الملك العادل بها، واتفق أن ملك الكرج «3» شرب وسكر فحسن له السكر أن يقدم إلى خلاط في عشرين فارسا، وخرجت له المسلمون فأخذوه أسيرا وحملوه إلى الملك الأوحد فرد على الملك الأوحد عدة قلاع (160) وبذل إطلاق خمسة آلاف أسير، ومئة ألف دينار، وعقد الهدنة مع المسلمين ثلاثين سنة، وشرط أن يزوج ابنته للملك

الأوحد «1» فتسلم ذلك منه وتحالفا وأطلق. وفيها، توفي نور الدين أرسلان شاه بن عز الدين مسعود بن مودود بن زنكي ابن آقسنقر «2» صاحب الموصل في آخر رجب، وكان مرضه قد طال، وملك الموصل سبع عشرة سنة وأحد عشر شهرا، ولما اشتد به مرضه انحدر إلى العين القيارة «3» ليستحم بها، وعاد إلى الموصل في شبّارة «4» فتوفي في الطريق ليلا، وكان أسمر، حسن الوجه، قد أسرع إليه الشيب، وكان شديد الهيبة على أصحابه، وكان عنده قلة صبر في أموره، واستقر في ملكه بعده ولده الملك [القاهر] «5» عز الدين مسعود بن أرسلان شاه «6» ، وكان عمر القاهر عشر سنين وقام بتدبير مملكته بدر الدين لؤلؤ «7» ، وكان لؤلؤ مملوك والده أرسلان شاه

وأستاذ داره، وهذا لؤلؤ هو الذي ملك الموصل على ما سنذكره «1» إن شاء الله تعالى. وكان لأرسلان شاه ولد آخر أصغر من القاهر اسمه [عماد الدين] «2» زنكي ملّكه أبوه قلعتي العقر وشوش «3» وهما بالقرب من الموصل. وفيها، وردت رسل الخليفة الإمام الناصر إلى ملوك الأطراف أن يشربوا له كأس الفتوة، ويلبسوا سراويلها، وأن ينتسبوا إليه في رمي البندق ففعلوا ذلك. وفيها، سار الملك العادل بعد وصوله إلى دمشق إلى الديار المصرية، وأقام بدار الوزارة. وفيها، توفي (161) الملك الأوحد عز الدين أيوب بن الملك العادل «4» صاحب خلاط، فسار أخوه الأشرف وملك خلاط واستقل بملكها مضافا إلى ما بيده من البلاد الشرقية، فعظم شأنه ولقب بشاه أرمن. وفيها، قتل غياث الدين كيخسرو صاحب الروم، قتله ملك الأشكري «5» وملك بعده ابنه كيكاوس حسبما تقدم ذكره سنة ثمان وثمانين وخمس مئة.

وفي سنة ثمان وست مئة

وفي سنة ثمان وست مئة «13» قبض الملك المعظم عيسى بن العادل على عز الدين أسامة صاحب قلعتي كوكب وعجلون بأمر أبيه العادل وحبسه بالكرك إلى أن مات «1» ، وحاصر الحصنين المذكورين وتسلمهما من غلمان أسامة، وأمر الملك العادل بتخريب كوكب وبقية أثرها [فخربت] «2» وبقيت خرابا، وأبقى عجلون وانقرضت الصلاحية بهذا أسامة. وملك الملك المعظم بلاد جهاركس «3» وهي بانياس وما معها لأخيه الملك العزيز عماد الدين عثمان بن العادل «4» وأعطى صرخد لمملوكه عز الدين أيبك المعظمي «5» . وفيها، عاد الملك العادل إلى الشام، وأعطى ولده الملك المظفر غازي «6» الرّها مع ميّافارقين.

وفي سنة تسع وست مئة

وفيها، أرسل الملك الظاهر صاحب حلب القاضي بهاء الدين بن شداد إلى الملك العادل فاستعطف خاطره وخطب ابنته ضيفة خاتون «1» ، فزوجه الملك العادل بها، وزال ما كان بينهما من الوحشة. وفيها، أظهر الكيا جلال الدين حسن صاحب الألموت وهو من ولد [ابن] «2» الصبّاح شعائر الإسلام، وكتب به (162) إلى جميع قلاع الإسماعيلية بالعجم والشام، وأقيمت فيها شعائر الإسلام. وفي سنة تسع وست مئة «13» عقد الملك الظاهر على ضيفة خاتون بنت الملك العادل، وكان المهر خمسين ألف دينار، وتوجهت من دمشق في المحرم إلى حلب فاحتفل الملك الظاهر بها وأهدى لها أشياء نفيسة. وفيها، عمّر الملك العادل قلعة الطور «3» ، وجمع لها الصنّاع من البلاد والعسكر حتى تمت. وفيها، سار طغريل شاه بن قليج أرسلان «4» صاحب أرزن الروم، وحاصر ابن أخيه [سلطان الروم] «5» كيكاوس بن كيخسرو بسيواس فاستنجد كيكاوس بالأشرف بن العادل فخاف طغريل من الأشرف ورحل عن ابن أخيه كيكاوس،

وفي سنة عشر وست مئة

وكان لكيكاوس أخ اسمه كيقباذ، فلما جرى ما ذكرنا سار كيقباذ واستولى على أنكورية من بلاد أخيه كيكاوس، فسار كيكاوس وحصره وفتح أنكورية وقبض على أخيه كيقباذ وحبسه، وقبض على أمرائه وحلق لحاهم ورؤوسهم، وأركب كل واحد منهم فرسا وأركب قدامه وخلفه قحبتين وبيد كل واحدة منهن خف تصفعه به، وبين كل واحد منهم [مناد] «1» ينادي: هذا جزاء من خان سلطانه. وفي سنة عشر وست مئة «13» ظفر عز الدين كيكاوس بعمه طغريل شاه فأخذ بلاده وقتله «2» وذبح أكثر أمرائه، وقصد قتل أخيه علاء الدين كيقباذ فشفع فيه بعض أصحابه فعفا عنه. وفيها، ولد للملك الظاهر من ضيفة خاتون (163) بنت الملك العادل ولده الملك العزيز غياث الدين محمد «3» . وفيها، قتل أيدغمش مملوك البهلوان «4» ، وكان قد غلب على المملكة، وهي همذان والجبال، قتله خشداش [له] «5» من البهلوانية اسمه منكلي «6» ، وكان

سنة إحدى عشرة وست مئة إلى سنة عشرين وست مئة

أيدغمش قد هرب منه والتجأ إلى الخليفة في سنة ثمان وست مئة، ثم رجع أيدغمش في هذه السنة إلى جهة همذان فقتل واستقل منكلي بالملك. وفيها في شعبان، توفي ملك الغرب محمد الناصر بن يعقوب المنصور بن يوسف بن عبد المؤمن، وكانت مدة مملكته ستّ عشرة سنة، وكان أشقر أسيل الخد، دائم الإطراق، كثير الصمت للثغة كانت في لسانه، وقد تقدم ذكر ولايته سنة خمس وتسعين وخمس مئة «1» . ولما مات محمد الناصر ملك بعده ولده يوسف، وتلقب بالمستنصر أمير المؤمنين، وكنيته أبو يعقوب «2» . سنة إحدى عشرة وست مئة إلى سنة عشرين وست مئة في سنة إحدى عشرة وست مئة «13» أسرت التركمان ملك الأشكري، وهو قاتل غياث الدين كيخسرو «3» فحمل إلى ابنه كيكاوس بن كيخسرو فأراد قتله فبذل له في نفسه أموالا عظيمة، وسلم إلى كيكاوس بلادا وقلاعا لم يملكها المسلمون قط. وفيها، عاد الملك العادل من الشام إلى مصر.

وفي سنة اثنتي عشرة وست مئة

وفي سنة اثنتي عشرة وست مئة «13» كان استيلاء الملك المسعود بن الملك الكامل «1» على اليمن. وقد تقدم ذكر استيلاء سليمان بن سعد الدين شاهنشاه بن تقي الدين (164) عمر بن شاهنشاه بن أيوب في سنة تسع وتسعين وخمس مئة على اليمن وأنه ملأها ظلما وجورا وانه اطّرح زوجته التي ملّكته «2» ، فلما كان هذه السنة بعث الملك الكامل ابنه الملك المسعود يوسف المعروف بأقسيس إلى اليمن ومعه جيش فاستولى الملك المسعود عليها، وظفر بسليمان صاحب اليمن وبعثه مقيدا إلى مصر، فأجرى له الملك الكامل ما يقوم به، ولم يزل سليمان مقيما بالقاهرة إلى سنة سبع وأربعين وست مئة، فخرج إلى المنصورة غازيا فقتل شهيدا. وفيها، تجمعت عساكر بغداد وغيرها وقصدوا منكلي الهمذاني صاحب همذان وأصفهان والري وما بينهما من البلاد فهزمه عساكر الخليفة وقتلوه في ساوة «3» ، وولوا مكانة أغلمش «4» أحد المماليك البهلوانية. وفيها، في شعبان ملك خوارزم شاه علاء الدين محمد بن تكش مدينة غزنة

وفي سنة ثلاث عشرة وست مئة

وأعمالها وأخذها من يلدز مملوك شهاب الدين الغوري، فهرب يلدز إلى لهاوور من الهند واستولى عليها، ثم سار يلدز من لهاوور ليستولي على بلاد الهند الداخلة تحت حكم قطب الدين أيبك خشداش يلدز المذكور، فجرى بينه وبين مملوك قطب الدين مصافّ «1» ، فقتل فيه يلدز «2» ، وكان يلدز حسن السيرة في الرعية، كثير الإحسان [إليهم] «3» . وفي سنة ثلاث عشرة وست مئة «13» صبيحة يوم السبت خامس عشري جمادى [الأولى] «4» ابتدأ بالملك الظاهر غازي بن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب صاحب حلب حمى حادة، ولما (165) اشتد مرضه أحضر القضاة والأكابر وكتب نسخة اليمين أن يكون الملك بعده لولده الصغير الملك العزيز ثم بعده لولده الكبير الملك الصالح «5» صلاح الدين أحمد «6» وبعدهما لابن عمهما الملك المنصور محمد بن العزيز عثمان بن السلطان صلاح الدين يوسف «7» وحلّف الأمراء والأكابر على ذلك، وجعل

الحكم في الأموال والقلاع إلى شهاب الدين طغريل الخادم «1» و [أعذق] «2» به جميع أمور الدولة. وفي ثالث عشر جمادى الآخرة أقطع [أخاه] «3» الملك الظافر خضر [المعروف ب] «4» المستمر كفرسودا، وأخرج من حلب في ليلته بالتوكيل، وأخرج علم الدين قيصر «5» مملوك الملك الظاهر إلى حارم نائبا. وفي خامس عشر جمادى الآخرة اشتد مرض الملك الظاهر ومنع الناس الدخول، وتوفي ليلة الثلاثاء العشرين من جمادى الآخرة «6» ، وكان مولده بمصر في نصف رمضان سنة ثمان وستين وخمس مئة، وكان عمره أربعا وأربعين سنة وشهورا، وكان مدة ملكه لحلب من حين وهبها له أبوه إحدى و [ثلاثين] «7» سنة، وكان فيه بطش وإقدام على سفك الدماء ثم أقصر عنه، وهو الذي جمع شمل البيت الناصري الصلاحي، وكان ذكيا فطنا. وترتب الملك العزيز في المملكة و [أرجع] «8» الأمور كلها إلى شهاب الدين طغريل الخادم، فدبر الأمور وأحسن السياسة، وكان عمر الملك العزيز لما قرّر في المملكة سنتين وأشهرا، وعمر أخيه الملك الصالح اثنتي عشرة سنة.

وفي سنة أربع عشرة وست مئة

وفي سنة أربع عشرة وست مئة «13» والملك العادل بالديار المصرية، وقد اجتمعت (166) الفرنج من داخل البحر، ووصلوا إلى عكّا في جمع عظيم، ولما بلغ العادل ذلك خرج بعساكر مصر، وسار حتى نزل نابلس فسارت الفرنج إليه ولم يكن معه من العساكر ما يقدر [به] «1» على مقاتلتهم فاندفع قدامهم إلى عقبة فيق «2» . فأغاروا على بلاد المسلمين، وأغاروا على نوى من بلد السواد ونهبوا ما بين بيسان ونابلس ما يفوت الحصر، وعادوا إلى مرج عكّا وكان قوة هذا النهب ما بين منتصف رمضان وعيد الفطر من هذه السنة، وأقام الملك العادل بمرج الصّفّر وسارت الفرنج وحصروا حصن الطور، وهو الذي بناه الملك العادل على ما تقدم ذكره «3» ، ثم رحلوا عنه وانقضت السنة والفرنج بجموعهم في عكّا. وفيها، سار خوارزم شاه علاء الدين محمد بن تكش إلى بلاد الجبل وغيرها فملكها، فمنها ساوة، وقزوين، وأبهر، وزنجان، وهمذان، وأصفهان، وقم، وقاشان ودخل أزبك بن البهلوان صاحب أران وأذربيجان في طاعة خوارزم شاه وخطب له ببلاده. ثم عزم خوارزم شاه على المسير إلى بغداد للاستيلاء عليها، وقدم بعض العسكر بين يديه، وسار خوارزم شاه في أثرهم عن همذان يومين أو ثلاثة، فسقط عليهم من الثلج ما لم يسمع بمثله، فهلكت دوابّهم. وخاف من حركة

وفي سنة خمس عشرة وست مئة

التتر على بلاده فولى على البلاد التي استولى عليها وسار إلى خراسان، وقطع خطبة (167) الخليفة الإمام الناصر من خراسان في سنة خمس عشرة وستّ مئة، وكذلك قطعت خطبة الخليفة من بلاد ما وراء النهر، وبقيت خوارزم، وسمرقند وهراة لم تقطع بهم خطبة الخليفة، فإن أهل هذه البلاد كانوا لا يلزمون بمثل هذا، بل يخطبون لمن يختارون ويفعلون نحو ذلك. وفي سنة خمس عشرة وست مئة «13» كان الملك العادل بمرج الصّفّر في أوائلها وجموع الفرنج بمرج عكّا، ثم ساروا منها إلى الديار المصرية، ونزلوا على دمياط «1» فسار الملك الكامل بن العادل بمصر، ونزل قبالتهم واستمر الحال كذلك أربعة أشهر «2» ، وأرسل الملك العادل العسكر الذي عنده إلى عند ابنه الكامل، فوصلت إليه أولا فأولا، ولما اجتمعت العساكر عند الكامل أخذ في قتال الفرنج ودفعهم عن دمياط. وفي هذه السنة، توفي الملك القاهر عز الدين مسعود بن أرسلان شاه بن مسعود بن مودود بن عماد الدين زنكي بن آقسنقر «3» صاحب الموصل، وكانت

وفاته لثلاث بقين من ربيع الأول، وكانت مدة ملكه سبع سنين وسبعة أشهر، وانقرض بموته ملك البيت الأتابكي، وخلف ولدين أكبرهما اسمه أرسلان شاه «1» ، وكان حينئذ عمره نحو عشر سنين فأوصى بالملك له وأن يقوم بتدبيره بدر الدين لؤلؤ فنصّبه بدر الدين لؤلؤ في المملكة وجعل الخطبة (168) والسكة باسمه، وقام لؤلؤ بتدبير المملكة أحسن قيام. وفيها، كانت قضية كيكاوس بن كيخسر (و) ملك الروم. لما مات الملك الظاهر صاحب حلب، وجلس مكانه ولده العزيز في المملكة، وكان طفلا فطمع صاحب بلاد الروم كيكاوس في الاستيلاء على حلب، فدعا الملك الأفضل صاحب سميساط واتفق معه أن يفتح حلب وبلادها ويسلمها إلى الملك الأفضل، ثم يفتح البلاد الشرقية التي بيد الأشرف بن العادل ويتسلمها كيكاوس، وتحالفا على ذلك، وسار كيكاوس إلى جهة حلب ومعه الملك الأفضل، ووصلا إلى رعبان واستولى عليها كيكاوس وسلمها إلى الأفضل فمالت إليه قلوب أهل البلاد لذلك، ثم سار كيكاوس إلى تل باشر وبها [ابن دلدرم] «2» ففتحها ولم يسلمها للأفضل فتغير خاطر الأفضل وخواطر أهل البلاد لذلك، ووصل الملك الأشرف بن العادل إلى حلب لدفع كيكاوس عن البلاد، ووصل إليه بها الأمير مانع بن حديثة أمير العرب في جمع عظيم، وكان قد سار كيكاوس إلى منبج وتسلمها لنفسه أيضا، وسار الملك الأشرف بالجموع التي معه ونزل وادي بزاعا، واتقع بعض العسكر مع مقدمة عسكر كيكاوس فانهزمت مقدمة

عسكر كيكاوس، وأخذ منهم عدة أسارى، فأرسلوا إلى حلب ودقت البشائر بها، ولما بلغ [ذلك] «1» كيكاوس وهو بمنبج ولى منهزما (169) وتبعه الملك الأشرف يتخطف أطراف عسكره، ثم حاصر الملك الأشرف تل باشر واسترجعها واسترجع رعبان وغيرها، وتوجه الملك الأفضل إلى سميساط ولم يتحرك بعدها في طلب ملك إلى أن مات سنة اثنتين وعشرين وست مئة على ما سنذكره «2» إن شاء الله تعالى. وعاد الملك الأشرف إلى حلب، وقد بلغه وفاة أبيه، وكانت وفاته أنه كان نازلا بمرج الصّفّر إلى عالقين، وهي عند عقبة فيق، فنزل بها ومرض واشتد مرضه، ثم توفي هناك رحمه الله تعالى في سابع جمادى الآخرة من هذه السنة أعني سنة خمس عشرة وست مئة «3» ، وكان مولده سنة أربعين وخمس مئة، وكان عمره خمسا وسبعين سنة، وكانت مدة ملكه لدمشق ثلاثا وعشرين سنة، ولمصر نحو تسع عشرة سنة، وكان العادل حازما متيقظا غزير العقل سديد الآراء، ذا مكر وخديعة، صبورا، حليما، يسمع ما يكره ويغضي عنه، وأتته السعادة واتسع ملكه وكثرت أولاده، ورأى فيهم ما يحب، ولم ير أحد من الملوك الذين اشتهرت أخبارهم في أولاده من الملك والظفر ما رآه العادل، ولقد أجاد شرف الدين [بن] «1» عنين في قصيدة مدح بها الملك العادل مطلعها «4» : (الكامل) ماذا على طيف الأحبة لو سرى ... وعليهم لو سامحوني بالكرى العادل الملك الذي أسماؤه ... في كلّ ناحية تشرّف منبرا

(170) ما في أبي بكر لمعتقد الهدى ... شكّ يريب بأنه خير الورى بين الملوك الغابرين وبينه ... في الفضل ما بين الثّريّا والثّرى نسخت خلائقه الحميدة ما أتى ... في الكتب عن كسرى الملوك وقيصرا لا تسمعنّ حديث ملك غيره ... يروى فكلّ الصيد في جوف الفرا «1» وله الملوك بكلّ أرض منهم ... ملك يجرّ إلى الأعادي عسكرا من كلّ وضّاح الجبين تخاله ... بدرا فإن شهد الوغى فغضنفرا وخلف الملك العادل ستة عشر ولدا ذكرا غير البنات، ولما توفي الملك العادل لم يكن عنده أحد من أولاده حاضرا، فحضر إليه ابنه الملك المعظّم عيسى، وكان بنابلس بعد وفاته، فكتم موته، وأخذه ميتا في محفة وعاد به إلى دمشق، واحتوى الملك المعظم على جميع ما كان مع أبيه من الجواهر والسلاح والخيول وغير ذلك، ولما وصل إلى دمشق حلف الناس له وأظهر موت أبيه، وجلس للعزاء، وكتب إلى الملوك من إخوته وغيرهم بخبره، وكان في خزانة العادل لما توفي سبع مئة ألف دينار عينا. ولما بلغ الكامل موت أبيه وهو في قتال الفرنج عظم عليه جدا، واختلفت العساكر عليه، فتأخر عن منزلته، وطمعت الفرنج ونهبت بعض أثقال المسلمين، وكان في العسكر عماد الدين أحمد بن سيف الدين علي بن أحمد المشطوب، وكان مقدما عظيما في الأكراد الهكّارية (171) فعزم على خلع الملك الكامل من السلطنة، وحصل في العسكر اختلاف كبير حتى عزم الملك الكامل على مفارقة البلاد واللحوق باليمن، وبلغ الملك المعظم عيسى بن العادل ذلك، فرحل عن الشام ووصل إلى أخيه الملك الكامل وأخرج عماد الدين بن المشطوب ونفاه

إلى الشام، فانتظم أمر الملك الكامل، وقويت مضايقة الفرنج لدمياط وضعف أهلها بسبب ما ذكرناه من الفتن التي حصلت في عسكر الكامل من ابن المشطوب. وفيها، استولى عماد الدين زنكي بن أرسلان شاه بن مسعود بن مودود بن زنكي بن آقسنقر على بعض قلاع الموصل. (و) قد تقدم في سنة سبع وست مئة أن أرسلان شاه عند وفاته جعل مملكة الموصل لولده المسعود القاهر، وأعطى ولده الأصغر عماد الدين زنكي المذكور قلعتي العقر وشوش «1» ، فلما مات أخوه القاهر وجلس ولده أرسلان شاه بن القاهر في المملكة وكان به قروح وأمراض فتحرك عمه عماد الدين زنكي وقصد العمادية «2» واستولى عليها، ثم استولى على قلاع الهكّارية والزّوران «3» ، فاستنجد بدر الدين لؤلؤ المتولي على تدبير صاحب الموصل بالملك الأشرف بن العادل، ودخل في طاعته فأنجده الأشرف بعسكر، وساروا إلى زنكي بن أرسلان شاه فهزموه، وكان زنكي مزوجا ببنت مظفر الدين كوكبوري صاحب إربل وأم البنت ربيعة خاتون بنت أيوب «4» أخت الملك العادل (172) زوجة مظفر الدين، وكان مظفر الدين لا يترك ممكنا في نصرة صهره زنكي المذكور، وبالغ في عداوة بدر الدين لؤلؤ لأجل صهره.

[ثم دخلت] سنة ست عشرة وست مئة

[ثم دخلت] «1» سنة ست عشرة وست مئة «13» والملك الأشرف مقيم بظاهر حلب يدبر أحوالها، والملك الكامل بمصر في مقابلة الفرنج وهم محاصرون لثغور دمياط، وكتب الملك الكامل متواصلة إلى إخوته في طلب النجدة. وفيها، توفي نور الدين أرسلان شاه بن القاهر مسعود بن أرسلان شاه بن مسعود بن مودود بن زنكي بن آقسنقر «2» صاحب الموصل وكان لا يزال مريضا، فأقام بدر الدين لؤلؤ في الملك بعده أخاه ناصر الدين محمود بن الملك القاهر «3» وعمره حينئذ نحو ثلاث سنين، وهو آخر من خطب له بالسلطنة من بيت أتابك زنكي بن آقسنقر، وكان أبوه القاهر آخر من كان له استقلال بالملك منهم ثم [إن] «4» هذا الصبي مات بعد مدة، واستقل بدر الدين لؤلؤ بالموصل وأتته السعادة وطالت مدة ملكه إلى أن توفي بالموصل بعد أخذ التتر بغداد على ما سنذكره «5» . وفي هذه السنة، توفي قطب الدين محمد بن عماد الدين زنكي بن مودود ابن الأتابك زنكي بن آقسنقر صاحب سنجار، فملك سنجار بعده ولده عماد الدين شاهنشاه بن محمد، وكان قطب الدين حسن السيرة في رعيته، وبقي عماد الدين شاهنشاه في الملك شهورا، ثم وثب عليه أخوه محمود فذبحه وملك سنجار، وهذا محمود هو آخر (173) من ملك سنجار من البيت

الأتابكي «1» . وفيها، أرسل الملك المعظم عيسى بن العادل صاحب دمشق الحجارين والنقابين إلى القدس [فخرب أسوارها] «2» ، وكانت قد حصّنت إلى الغاية، وانتقل منه عالم عظيم، وكان سبب ذلك أن الملك المعظم لما رأى قوة الفرنج وتغلبهم على دمياط خشي أن يقصدوا القدس فخربه لذلك لعلمه أنه لا يقدر على منعهم. وفيها، هجم الفرنج على دمياط بالسيف بعد مضايقة الفرنج لها مضايقة عظيمة، وقتلوا وأسروا من بها وجعلوا الجامع كنيسة، واشتد طمع الفرنج في الديار المصرية، وحين أخذت دمياط ابتنى الملك الكامل مدينة وسماها المنصورة عند مفرق البحرين [الآخذ] أحدهما إلى دمياط، والآخر إلى أشموم طنّاح، ونزل فيها عسكره. وفيها، كان ظهور التتر وقتلهم في المسلمين، ولم ينكب المسلمون أعظم ما نكبوا هذه السنة، فمن ذلك ما كان من تملك الفرنج دمياط وقتل أهلها وأسرهم، ومنه المصيبة الكبرى وهي ظهور التتر وتملكهم في المدة القريبة أكثر بلاد الإسلام، وسفك دمائهم وسبي حريمهم وذراريهم، ولم يفجع المسلمون منذ ظهر دين الإسلام كهذه الفجيعة. وفيها، خرجوا على خوارزم شاه علاء الدين محمد بن تكش وعبروا نهر

جيحون «1» ، ومعهم ملكهم جنكز خان، فاستولوا على بخارى رابع ذي الحجة من هذه السنة بالأمان، وعصت عليهم القلعة فحاصروها وملكوها وقتلوا من كان بها (174) ، ثم قتلوا أهل البلد عن آخرهم. قال محمد بن أحمد بن علي [المنشئ] «2» النسوي كاتب إنشاء جلال الدين: إن مملكة الصين مملكة متسعة دورها ستة أشهر، وقد انقسمت من قديم الزمان ستة أجزاء كل جزء منها مسيرة شهر يتولى أمره خان وهو الملك بلغتهم نيابة عن خانهم الأعظم، وكان خانهم الكبير الذي عاصر خوارزم شاه علاء الدين محمد بن تكش يقال له الطرخان «3» قد توارث الخانية كابرا عن كابر بل كافرا عن كافر، ومن عادة خانهم الأعظم الإقامة بطرغاج «4» وهي واسطة الصين، وكان من زمرتهم في عصر المذكور شخص يسمى دوشي خان، وكان أحد الخانات المتولي أحد الأجزاء الستة، وكان مزوجا بعمة جنكز خان، وقبيلة جنكز خان هي المعروفة بقبيلة التمرجي سكان البراري، ومشتاهم موضع يسمى أرغون، وهم المشهورون بين الترك بالغدر والشر (و) لم ير ملوك الصين إرخاء عنانهم لطغيانهم، فاتفق أن دوشي خان مات فحضر جنكز خان إلى عمته زائرا ومعزيا، وكان الخانان المجاوران لعمل دوشي خان المذكور يقال لأحدهما كشلو خان «5» وللآخر فلان خان وكانا يليان ما يتاخم من أعمال دوشي خان المذكور من الجهتين، فأرسلت امرأة دوشي خان إلى كشلو خان وإلى الآخر تنعى إليهما

زوجها دوشي خان وأنه لم يخلف ولدا وأنه كان حسن الجوار لهما، وأن ابن أخيها جنكز خان إن أقيم مقامه (175) يحذو حذو المتوفى في معاضدتهما [فأجابها] «1» الخانان إلى ذلك، وتولى جنكز خان ما كان لدوشي خان المتوفى من الأمور بمعاضدة الخانين المذكورين، فلما أنهي الأمر إلى الخان الأعظم الطرخان أنكر تولية جنكز خان واستحقره، وأنكر على الخانين اللذين فعلا ذلك، فلما جرى ذلك خلعوا طاعة الطرخان وانضم إليهم كل من هو من عشائرهم ثم اقتتلوا مع الطرخان فتولى منهزما وتمكنوا من بلاده، ثم أرسل الطرخان يطلب منهم الصلح وأن [يبقوه] «2» على بعض البلاد، فأجابوه إلى ذلك، وبقي جنكز خان و [الخانان الآخران] «3» مشتركين في الأمر فاتفق موت الخان الواحد ثم مات كشلو خان وتملك ابنه مكانه ولقب كشلو خان «4» أيضا، فاستضعف جنكز خان جانب كشلو خان لصغره [وحداثة سنه] «5» ، وأخلّ بالقواعد التي كانت مقررة بينه وبين أبيه، فانفرد كشلو خان عن جنكز خان وفارقه لذلك، ووقع بينهما الحرب، فجرد جنكز خان جيشا مع ولده دوشي خان فسار واقتتل مع كشلو خان، فانتصر دوشي خان وانهزم كشلو خان، وتبعه دوشي خان وقتله، وعاد إلى أبيه برأسه، فانفرد جنكز خان بالمملكة. ثم إن جنكز خان راسل خوارزم شاه محمد بن تكش في الصلح فلم ينتظم أمره، فجمع جنكز خان عساكره والتقى مع خوارزم شاه محمد فانهزم خوارزم شاه، فاستولى جنكز خان

[على بلاد ما وراء النهر ثم تبع خوارزم شاه محمدا وهو هارب بين يديه حتى دخل بحر طبرستان «1» ثم استولى جنكز خان] «1» على البلاد، ثم كان من خوارزم شاه ومن جنكز خان ما سنذكره «2» إن شاء الله تعالى. (176) وفي هذه السنة حلّف الملك المنصور صاحب حماة للناس لولده الملك المظفر نور الدين محمود، وجعله ولي عهده، وجهز له عسكرا إلى الملك الكامل بمصر، فسار إليه، ولما وصل إلى الملك الكامل أكرمه وأنزله في ميمنة عسكره، وهي منزلة أبيه وجده في الأيام الناصرية الصلاحية، وبعد توجه الملك المظفر ماتت والدته ملكة خاتون بنت الملك العادل «3» ، قال القاضي جمال الدين مؤلف «مفرج الكروب» : وحضرت العزاء وعمري اثنتا عشرة سنة، ورأيت الملك المنصور وهو لابس الحداد على زوجته هذه، وهو ثوب أزرق وعمامة زرقاء، وأنشد الشعراء المراثي، فمنها قصيدة قالها حسام الدين خشترين «4» وهو جندي كردي مطلعها: (البسيط) الطرف في لجّة والقلب في سعر ... له دخان زفير طار بالشّرر وفيها في لبس الملك المنصور الحداد عليها: ما كنت أعلم أنّ الشمس قد غربت ... حتى رأيت الدجى ملقى على القمر

وفي سنة سبع عشرة وست مئة

لو كان من مات يفدى مثلها لفدى ... أمّ المظفر آلاف من البشر وفيها، توفي الملك الغالب عز الدين كيكاوس بن كيخسرو بن قليج أرسلان ابن مسعود بن قليج أرسلان السلجوقي «1» صاحب بلاد الروم، وقد تقدم ذكر ولايته سنة سبع وست مئة «2» ، وكان قد تعلق به مرض السّل واشتدّ به ومات، فملك بعده أخوه كيقباذ، وكان كيكاوس قد حبس كيقباذ (177) المذكور «3» فأخرجه الجند وملكوه. وفي سنة سبع عشرة وست مئة «13» كان الفرنج [متملكين] «4» دمياط، والسلطان الملك الكامل مستقر في المنصورة مرابطا للجهاد، والملك الأشرف في حرّان، وكان الملك الأشرف قد أقطع عماد الدين أحمد بن سيف الدين علي بن أحمد بن المشطوب رأس عين، فخرج ابن المشطوب على الملك الأشرف، وجمع جيشا وحسّن لمحمود بن قطب الدين صاحب سنجار الخروج عن طاعة الأشرف أيضا، فخرج بدر الدين لؤلؤ من الموصل وحصر ابن المشطوب بتل أعفر وأخذه بالأمان وقبض عليه، وأعلم الملك الأشرف بذلك فسرّ به غاية السرور، واستمر ابن المشطوب في الحبس. وسار الملك الأشرف من حرّان واستولى على دنيسر وقصد سنجار فأتته رسل صاحبها محمود بن قطب الدين تسأل أن يعطى الرقّة عوض سنجار ليسلم سنجار إلى الملك الأشرف، فأجاب الملك الأشرف إلى ذلك، وتسلم سنجار في

مستهل جمادى الأولى وسلم إليه الرقّة، وهذا كان من سعادة الأشرف فإن أباه الملك العادل نازل سنجار في جموع عظيمة وطال عليها مقامه فلم يملكها وملكها ابنه الأشرف بأهون سعي. وبعد أن فرغ الأشرف من سنجار سار إلى الموصل، ووصل إليها تاسع عشر جمادى الأولى، وكان يوم وصوله إليها يوما مشهودا، وكتب إلى مظفر الدين صاحب إربل يأمره أن يعيد صهره عماد الدين زنكي بن أرسلان شاه بن مسعود ابن (178) مودود على بدر الدين لؤلؤ القلاع التي استولى عليها فأعادها جميعها وترك في يده منها العمادية، واستقر الصلح بين الأشرف وبين مظفر الدين كوكبوري صاحب إربل وعماد الدين زنكي بن أرسلان صاحب العقر وشوش والعمادية، وكذلك استقر الصلح بينهما وبين بدر الدين صاحب الموصل، ولما استقر ذلك رحل الملك الأشرف عن الموصل ثاني شهر رمضان هذه السنة وعاد إلى سنجار وسلم بدر الدين صاحب الموصل تلعفر إلى الملك الأشرف ونقل الملك الأشرف ابن المشطوب من حبس الموصل وحطه مقيدا في جب بمدينة سنجار «1» حتى مات سنة تسع عشرة وست مئة «2» . وفي هذه السنة، توفي الملك المنصور ناصر الدين محمد بن الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب «3» صاحب حماة بقلعة حماة في ذي القعدة، وكانت مدة مرضه واحدا وعشرين يوما بحمى حادة، وورم دماغه. وكان شجاعا عالما يحب العلماء، ورد إليه منهم جماعة منهم الشيخ سيف

الدين علي الآمدي «1» وكان في خدمة الملك المنصور قريبا من مئتي متعمم من النحاة والفقهاء والمشتغلين بغير ذلك، وصنف الملك المنصور عدة مصنفات مثل «المضمار في التاريخ» «2» ، و «طبقات الشعراء» «3» ، وكان معتنيا بعمارة بلده والنظر في صالحه، وهو بنى الجسر الذي ظاهر حماة خارج باب حمص، واستقر له بعد وفاة والده من البلاد حماة والمعرة وسلميّة ومنبج وقلعة نجم، فلما فتح (179) بارين وكانت بيد إبراهيم بن المقدم ألزمه عمه الملك العادل أن يردها إليه فأجاب إلى تسليم منبج وقلعة نجم عوضا عنها وهما خير من بارين بكثير، اختار ذلك لقرب بارين من بلده، وجرت له حروب مع الفرنج وانتصر فيها، وكان ينظم الشعر، ولما توفي الملك المنصور كان ولده الملك المظفر محمود المعهود إليه بالسلطنة عند خاله الملك الكامل بمصر في مقابلة الفرنج، وكان ولده الآخر الملك الناصر صلاح الدين قليج أرسلان «4» عند خاله الآخر الملك المعظم صاحب دمشق وهو في الساحل في الجهاد، وقد فتح قيساريّة وهدمها وعاد إلى عتليث ونازلها، وكان الوزير بحماة زين الدين بن فريج «5» فاتفق هو والكبراء على استدعاء الملك الناصر لعلمهم بلين عريكته وشدة بأس الملك المظفر، فأرسلوا إلى الملك الناصر وهو مع الملك المعظم كما ذكرنا فمنعه الملك المعظم من التوجه إلا

بتقرير مال عليه يحمله إلى الملك المعظم في كل سنة، قيل: إن مبلغه أربع مئة ألف درهم، فلما أجاب الناصر إلى ذلك وحلف عليه أطلقه الملك المعظم فقدم الملك الناصر إلى حماة واجتمع بالوزير زين الدين والجماعة الذين كاتبوه واستحلفوه على ما أرادوا وأصعدوه القلعة، ثم ركب من القلعة بالسناجق السلطانية، وكان عمره إذ ذاك سبع عشرة سنة لأن مولده سنة ست مئة. ولما استقر الملك الناصر بملك حماة وبلغ أخاه الملك (180) المظفر ذلك استأذن الملك الكامل في المضي إلى حماة ظنا منه أنه إذا وصل إليها يسلمونها إليه بحكم الأيمان التي كانت له في أعناقهم، فأعطاه الملك الكامل الدستور، وسار الملك المظفر حتى وصل إلى الغور وجد خاله الملك المعظم صاحب دمشق هناك فأخبره أن أخاه الملك الناصر قد ملك حماة ويخشى عليك أنك إذا وصلت إلى حماة يعتقلك فسار الملك المظفر إلى دمشق وأقام بداره المعروفة بالزّنجيلي وكتب الملك المعظم والملك المظفر إلى أكابر حماة في تسليم حماة إلى الملك المظفر فلم يحصل منهم إجابة، فعاد الملك المظفر إلى مصر، وأقام في خدمة الملك الكامل فأقطعه إقطاعا بمصر إلى أن كان ما سنذكره» إن شاء الله تعالى. وكان قد استقر بيد الملك المظفر شهاب الدين غازي بن الملك العادل الرّها وسروج وميّافارقين، وخلاط بيد الملك الأشرف، ولم يكن للملك الأشرف ولد فجعل أخاه الملك المظفر غازي ولي عهده، وأعطاه ميّافارقين وخلاط وبلادهما وهما [إقليمان عظيمان] «2» يضاهيان ديار مصر، وأخذ منه الملك الأشرف الرّها وسروج. وفي هذه السنة، أرسل جنكز خان عشرين ألف فارس في أثر خوارزم شاه

محمد بن تكش بعد أن ملك سمرقند، وهذه الطائفة تسمى التتر المغربة لأنها سارت نحو غرب خراسان فوصلوا إلى موضع يقال له (181) بنج آوو وعبروا هناك نهر جيحون وصار (وا) مع خوارزم شاه في بر واحد، فلم يشعر خوارزم شاه وعسكره إلا والتتر معه فتفرق عسكره أيدى سبأ، ورحل خوارزم شاه لا يلوي على شيء في نفر من خواصّه، ووصل إلى نيسابور والتتر في أثره، فلما قربوا منه رحل إلى مازندران والتتر في أثره لا يلتفتون إلى شيء من البلاد ولا إلى غير ذلك بل قصدهم إدراك خوارزم شاه، فسار من مازندران إلى مرسى بحر طبرستان يعرف بالسكون، وله هناك قلعة في البحر فعبر هو وأصحابه إليها «1» ، ووقف التتار على ساحل البحر وأيسوا من لحاق خوارزم شاه، ولما استقر خوارزم شاه بهذه القلعة توفي فيها. وهو علاء الدين محمد بن علاء الدين تكش بن أرسلان بن أطسز بن محمد بن أنوشتكين غرشه، وكانت مدة ملكه إحدى وعشرين سنة وشهورا «2» واتسع ملكه فملك من حد العراق إلى تركستان وملك بلاد غزنة وبعض الهند وسجستان وكرمان وطبرستان وجرجان وبلاد الجبال وخراسان وبعض فارس وكان عالما بالفقه والأصول وغيرهما، وكان صبورا على التعب وإدمان السير وسنذكر شيئا من أخباره عند مقتل ولده جلال الدين «3» . ولما أيس التتر من إدراك خوارزم شاه عادوا إلى مازندران ففتحوها وقتلوا أهلها، ثم ساروا إلى الري وهمذان ففعلوا كذلك من القتل والسبي، ثم ملكوا مراغة في صفر سنة ثماني عشرة وست مئة، ثم ساروا إلى خراسان «4» (182)

واستولوا عليها، ونازلوا خوارزم وقاتلهم أهلها مدة أشد قتال، ثم فتحوها وكان لها سد في نهر جيحون ففتحوه وركب الماء بخوارزم وغرقها، وفعلوا في هذه البلاد جميعها من قتل أهلها وسبي ذراريهم، وقتل العلماء والصلحاء والزهاد والعباد، وتخريب الجوامع، وتحريق المصاحف ما لم يسمع بمثله في تاريخ قبل الإسلام ولا بعده، فإن واقعة بخت نصر مع بني إسرائيل كانت لا تنسب إلى بعض بعض ما فعله هؤلاء، فإن كل مدينة من المدن التي أخربوها أعظم من القدس بكثير، وكل أمة قتلوهم من المسلمين أعظم من بني إسرائيل الذين قتلهم بخت نصر، ولما فرغ التتر من خراسان عادوا إلى ملكهم فأرسل جيشا كثيفا إلى غزنة وبها جلال الدين منكبرتي بن علاء الدين محمد خوارزم شاه بن تكش المذكور مالكا لها، وقد اجتمع [إليه] «1» كثير من عسكر أبيه قيل: كانوا ستين ألف فارس، وكان [الجيش] «2» الذي سار إليهم من التتر اثني عشر ألفا فاقتتلوا مع جلال الدين قتالا شديدا وأنزل الله نصره على المسلمين، وانهزمت التتر وتبعهم المسلمون يقتلونهم كيف شاؤوا، ثم أرسل جنكز خان سبعين ألفا من المقاتلة التتر مع بعض أولاده ووصلوا إلى كابل وتصاف معهم المسلمون فانهزم التتر ثانيا: وقتل المسلمون منهم وأسروا خلقا كثيرا، وكان في عسكر جلال الدين أمير كبير مقدام هو الذي كسر التتر على الحقيقة يقال له: بغراق (183) فوقع بينه وبين أمير كبير يقال له ملك خان وهو صاحب هراة وله نسب إلى خوارزم شاه [فتنة] «3» بسبب الكسب، فقتل في الفتنة أخو بغراق فغضب بغراق وفارق جلال الدين وسار إلى الهند وتبعه ثلاثون ألف فارس من العسكر، ولحقه جلال الدين وترضّاه فلم يرجع فضعف عسكر جلال الدين لذلك، ثم

وفي سنة ثماني عشرة وست مئة

وصل جنكز خان بنفسه ومعه جيوشه وقد ضعف جلال الدين بما نقص من جيشه بسبب بغراق فلم يكن له بجنكز خان قدرة، فترك جلال الدين البلاد وسار إلى الهند، وتبعه جنكز خان فأدركه على نهر السند ولم يلحق جلال الدين ومن معه أن يعبروا النهر فاضطروا إلى القتال وقاتلوا قتالا عظيما لم يسمع بمثله، وصبر الفريقان ثم تأخر كل منهما عن صاحبه فعبر جلال الدين ذلك النهر إلى جهة الهند وعاد جنكز خان فاستولى على غزنة وقتل أهلها ونهب أموالهم، وكان قد سار من التتر فرقة عظيمة إلى جهة القفجاق واقتتلوا معهم فانتصر التتر واستولوا على مدينة القفجاق العظمى وتسمى السوداق «1» ، وكذلك فعلوا بقوم يقال لهم اللكزى بلادهم قرب دربند شروان، ثم سار التتر إلى الروس وانضم إلى الروس القفجاق وجرى بينهم وبين التتر قتال عظيم، فانتصر التتر وشردوهم في البلاد. وفي سنة ثماني عشرة وست مئة «13» قوي طمع الفرنج المتملكين لدمياط في الديار المصرية (184) وتقدموا عن دمياط إلى جهة مصر ووصلوا إلى المنصورة، واشتد القتال بين الفريقين برا وبحرا، وكتب السلطان الملك الكامل متواترة إلى إخوته وأهل بيته يستحثهم على إنجاده، فسار الملك المعظم عيسى بن العادل صاحب دمشق إلى أخيه الملك الأشرف وهو بالبلاد الشرقية وطلب منه السير إلى أخيهما الملك الكامل، فجمع الأشرف عساكره واستصحب عسكر حلب، واستصحب الملك الناصر قليج أرسلان بن الملك المنصور صاحب حماة، وكان الملك الناصر خائفا من خاله

الكامل لا ينتزع حماة منه ويعطيها للملك المظفر، فحلف الملك الأشرف للملك الناصر صاحب حماة أنه لا يمكن أخاه الملك الكامل من التعرض إليه فسار معه بعسكر حماة، وكذلك سار مع الملك الأشرف [كل من صاحب بعلبك] «1» الملك الأمجد بهرام شاه بن فرّخشاه و [صاحب حمص] «1» الملك المجاهد شير كوه بعساكرهما، وسارت هذه العساكر كلها إلى الملك الكامل بالديار المصرية، فوجدوه وهو في قتال الفرنج على المنصورة فركب والتقى إخوته ومن في صحبتهم من الملوك وأكرمهم فقويت قلوب المسلمين وضعفت قلوب الفرنج بما شاهدوا من كثرة عساكر الإسلام، فاشتد القتال على الفريقين، ورسل الملك الكامل وإخوته مترددة إلى الفرنج في الصلح وبذل المسلمون لهم تسليم القدس وعسقلان وطبرية واللاذقية وجبلة وجميع ما فتحه السلطان (185) صلاح الدين من الساحل خلا الكرك والشّوبك والأمر متردد بينهم [على أن يجيبوا إلى الصلح وأن يسلموا دمياط إلى المسلمين فلم يرض الفرنج بذلك، وطلبوا ثلاث مئة ألف دينار عوضا عن تخريب الأسوار التي للقدس فإن الملك المعظم عيسى خربها كما ذكرنا، وقالوا لابد من تسليم الكرك والشّوبك] «2» فبينا هم كذلك إذ عبر جماعة من المسلمين في بحر المحلة إلى الأرض التي فيها الفرنج من بر دمياط ففجروا فجرة عظيمة من النيل، والنيل إذ ذاك في زمن قوته، والفرنج لا خبرة لهم بأمر النيل، فركب الماء تلك الأرض، وصار حائلا بين الفرنج وبين دمياط فهلكوا جوعا، وبعثوا يطلبون الأمان على أن ينزلوا عن جميع ما بذله لهم المسلمون ويسلموا دمياط ويقيدوا مدة الصلح، وكان فيهم عشرون ملكا من الملوك الكبار، فاختلفت الآراء بين يدي السلطان الملك الكامل، فبعضهم قال: لا

نعطيهم أمانا ونأخذهم ونتسلّم منهم ما بأيديهم من الساحل مثل عكّا وصور، ثم اتفقت آراؤهم على إجابتهم إلى الأمان لطول مدة البيكار وتضجر العساكر لأنهم كان لهم ثلاث سنين و [شهور] «1» في القتال فأجابهم الملك الكامل إلى ذلك وطلب الفرنج رهينة من الملك الكامل فبعث ابنه الملك الصالح أيوب وعمره يومئذ خمس عشرة سنة إلى الفرنج، وحضر من الفرنج على ذلك رهينة وهو ملك عكّا ونائب البابا صاحب رومية الكبرى وكندريس صاحب صور وغيرهم من الملوك وكان ذلك سابع رجب هذه السنة، واستحضر الملك الكامل ملوك الفرنج المذكورين وجلس لهم مجلسا عظيما، ووقف بين يديه الملوك من إخوته وأهل بيته وسلمت دمياط إلى المسلمين تاسع عشر هذه السنة، وقد حصنها (186) الفرنج إلى غاية ما يكون، وولاها السلطان الملك الكامل للأمير شجاع الدين جلدك التقوي «2» أحد مماليك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب، وهنأت الشعراء الملك الكامل بهذا الفتح العظيم، «3» وفي جلوس الملك الكامل ووقوف أخويه المعظم عيسى والأشرف موسى لديه بحضور ملوك الفرنج والخيالة، والرعب يريهم الموت خياله، قال راجح الحلّي «4» : (الطويل) «5» هنيئا فإنّ السعد راح مخلدا ... وقد أنجز الرحمن بالنصر موعدا

حبانا إله الخلق فتحا بدا لنا ... مبينا وإنعاما وعزا مؤيّدا تهلّل وجه الدهر بعد قطوبه ... وأصبح وجه الشرك بالظلم أربدا ولما طغى البحر الخضمّ بأهله ال ... طغاة وأضحى بالمراكب مزبدا أقام لهذا الدين من سلّ عزمه ... فكان كما سلّ الحسام مجرّدا فلم ينج إلا كلّ شلو مخذل ... ثوى منهم أو من تراه مقيّدا ونادى لسان الموت في الأرض رافعا ... عقيرته في الخانقين ومنشدا أعبّاد عيسى إنّ عيسى برغمكم ... وموسى جميعا يخدمان محمّدا فبهت الذي كفر، وكان ذلك طرار ذلك الظفر، وأحازه الملك الكامل بكل بيت ألفا، وكذلك فعل المعظم والأشرف. ثم سار الملك الكامل ودخل دمياط ومعه إخوته وأهل بيته، وكان يوما مشهودا، ثم توجه إلى القاهرة (187) وأذن للملوك من إخوته وأهل بيته بالرجوع إلى بلادهم، فتوجه الملك الأشرف وانتزع الرّقّة من محمود [وقيل اسمه عمر] «1» بن قطب الدين محمد بن عماد الدين زنكي بن مودود بن زنكي بن آقسنقر، ولقي بغيه على أخيه، فإنا ذكرنا كيف وثب على أخيه فقتله وأخذ سنجار «2» ثم أقام الملك الأشرف بالرّقّة وورد إليه الملك الناصر صاحب حماة فأقام عنده مدة ثم عاد إلى بلده. وفيها، توفي الملك الصالح ناصر الدين محمود بن محمد بن قرا أرسلان بن سقمان بن أرتق «3» صاحب آمد وحصن كيفا بالقولنج، وقام في الملك بعده

ولده الملك المسعود «1» وهو الذي انتزع منه الملك الكامل آمد «2» ، وكان الملك الصالح المذكور قبيح السيرة وقد أورد ابن الأثير وفاته سنة تسع عشرة «3» . وفيها، في جمادى الآخرة خنق قتادة بن إدريس العلوي الحسني «4» أمير مكة وعمره نحو تسعين سنة، وكانت ولايته قد اتسعت إلى نواحي اليمن، وكان حسن السيرة في مبدأ أمره، ثم أساءها وجدد المظالم والمكوس وصورة ما جرى له أنه كان مريضا فأرسل عسكرا مع أخيه ومع ابنه الحسن بن قتادة للاستيلاء على مدينة النبي صلى الله عليه وسلم وأخذها من صاحبها فوثب الحسن بن قتادة في أثناء الطريق على عمه فقتله وعاد إلى أبيه قتادة بمكة فخنقه، وكان له أخ نائب بقلعة ينبع عن أبيه فأرسل إليه الحسن فحضر إلى مكة فقتله أيضا، وارتكب الحسن أمرا عظيما قتل عمه وأباه وأخاه في أيام يسيرة واستقر في ملك مكة، وكان قتادة (188) يقول الشعر، وطولب أن يحضر إلى أمير الحاج العراقي فامتنع، وعوتب من بغداد فأجاب بأبيات منها «5» : (الطويل) ولي كفّ ضرغام أصول ببطشها ... وأشري بها بين الورى وأبيع تظلّ ملوك الأرض تلثم ظهرها ... وباطنها للمجدبين ربيع أأجعلها تحت الرحا ثم ابتغي ... خلاصا لها؟ إني إذا لرقيع وما أنا إلا المسك في كلّ بلدة ... أضوع، وأما عندكم فأضيع

وفي سنة تسع عشرة وست مئة

وفيها، توفي جلال الدين بن الحسن «1» صاحب ألموت ومقدم الإسماعيلية، وولي بعدده ابنه علاء الدين محمد «2» . وفي سنة تسع عشرة وست مئة «13» توفي ناصر الدين محمود بن الملك القاهر مسعود بن نور الدين أرسلان شاه بن مسعود بن مودود بن زنكي بن آقسنقر «3» صاحب الموصل الذي كان نصبه بدر الدين لؤلؤ وهو صغير، فاستقل بدر الدين لؤلؤ بملك الموصل وسمى لؤلؤ نفسه الملك الرحيم، وكان قد اعتضد بالملك الأشرف بن العادل فدافع عنه ونصره، وقلع لؤلؤ البيت الأتابكي بالكلية واستمر مالكا للموصل نيفا وأربعين سنة سوى ما تقدم له من الاستيلاء والتحكم من أيام أسياده نور الدين أرسلان شاه وابنه الملك القاهر مسعود. وفيها، سار الملك الأشرف إلى خدمة أخيه الملك الكامل، وأقام عنده بمصر متنزها إلى أن خرجت السنة. وفيها، فوض الأتابك طغريل الخادم مدبر مملكة حلب إلى الملك الصالح [أحمد] «4» بن الظاهر بن الناصر صلاح الدين (189) أمر الشّغر وبكاس، فسار الملك الصالح من حلب واستولى عليهما وأضاف إليه الرّوج «5» ومعرة

ومصرين. وفيها، قصد الملك المعظم عيسى صاحب دمشق حماة لأن الملك الناصر صاحب حماة قد التزم له بمال يحمله إليه إذا ملك حماة» فلم يف له فقصد المعظم حماة فنزل بقيرين وغلقت أبواب حماة فجرى بينهم قتال قليل. ثم رحل المعظم إلى سلميّة فاستولى على أموالها وحواصلها وولى عليها من جهته. ثم سار إلى المعرة فاستولى عليها وأقام أميرا من جهته واليا عليها وقرر أمورها، وعاد إلى سلميّة فأقام بها حتى خرجت هذه السنة على قصد منازلة حماة. وفيها حج من اليمن الملك المسعود يوسف الملقب أطسز، وتسميه العامة آقسيس، وكان قد استولى على اليمن سنة اثنتي عشرة وست مئة، وقبض على سليمان شاه بن شاهنشاه بن عمر بن شاهنشاه بن أيوب «2» ، وحج في هذه السنة، فلما وقف الملك المسعود هذه السنة بعرفة، وتقدمت أعلام الخليفة الإمام الناصر لترفع على الجبل [تقدم] «3» الملك المسعود بعساكره ومنع ذلك، وأمر بتقديم أعلام أبيه السلطان الملك الكامل على أعلام الخليفة، فلم يقدر أصحاب الخليفة على منعه من ذلك، ثم عاد الملك المسعود إلى اليمن، وبلغ ذلك الخليفة فعظم عليه، وأرسل يشكو إلى الملك الكامل فاعتذر (190) عن ذلك فقبل عذره، وأقام الملك المسعود باليمن مدة يسيرة ثم عاد إلى مكة ليستولي عليها فقاتله حسن بن قتادة فانتصر الملك المسعود وانهزم ابن قتادة، واستقرت مكة للملك المسعود وولى عليها وذلك في ربيع الأول سنة عشرين وست مئة [ثم

وفي سنة عشرين وست مئة

عاد إلى اليمن] «1» . وفي سنة عشرين وست مئة «13» في أوائلها، كان الملك الأشرف بديار مصر عند أخيه الكامل وأخوهما المعظم عيسى بسلميّة مستول عليها، وعلى المعرة عازم على إحصار حماة وبلغ الملك الأشرف ما فعله أخوه الملك المعظم بصاحب حماة، فشق عليه، واتفق مع أخيه الكامل على الإنكار على الملك المعظم وترحيله، فأرسل إليه الملك الكامل ناصح الدين الفارسي «2» فوصل إليه وهو بسلميّة وقال له: السلطان يأمرك بالرحيل، فقال: السمع والطاعة. وكانت أطماعه قد قويت على الاستيلاء على حماة، فرحل مغضبا على أخويه الكامل والأشرف، ورجعت المعرة وسلميّة للناصر، وكان المظفر محمود بن الملك المنصور محمد بن تقي الدين عمر بن شاهنشاه مقيما عند الملك الكامل بديار مصر كما تقدم ذكره «3» . وكان الملك الكامل يؤثر أن يملك الملك المظفر حماة، ولكن الأشرف غير مجيب إلى ذلك لانتماء الناصر إليه، وجرى بين الكامل والأشرف في ذلك مراجعات آخرها أنهما اتفقا على أن تنزع سلميّة من يد الناصر ويسلمها إلى (191) أخيه المظفر فتسلمها المظفر وأرسل إليها وهو بمصر نائبا من جهته حسام الدين أبا علي محمد بن علي الهذباني واستقر بيد الناصر حماة والمعرة وبعرين. ثم سار الملك الأشرف من مصر واستصحب معه خلعة وسناجق سلطانية من

أخيه الملك الكامل للملك العزيز صاحب حلب وعمره يومئذ عشر سنين، ووصل الملك الأشرف بذلك إلى حلب، وأركب الملك العزيز في دست السلطنة. وفي هذه السنة، لما وصل الملك الأشرف بالخلعة المذكورة اتفق مع الأشرف كبراء الدولة الحلبية على تخريب قلعة اللاذقية، فأرسلوا إليها عسكرا هدموها إلى الأرض. وفيها، تغلب غياث الدين تيزشاه «1» [أخو] «2» جلال الدين منكبرتي بن خوارزم شاه محمد بن تكش على الري وأصبهان وهمذان وغير ذلك من عراق العجم وهي البلاد المعروفة ببلاد الجبال، وكان غياث الدين المذكور قد ملك كرمان وما والاها، فلما تغلب على هذه البلاد في هذه السنة خرج عليه خاله يغان طايسي «3» وقاتله أشد قتال فانتصر عليه غياث الدين واستقر في بلاده منصورا. وفيها، كان أهل مملكة الكرج قد مات ملكهم، ولم يبق من بيت الملك إلا امرأة فملّكوها وطلبوا لها رجلا يتزوجها ويقوم بالملك ويكون من أهل بيت المملكة فلم يجدوا فيهم من (192) يصلح لذلك، وكان صاحب أرزن الروم مغيث الدين طغريل شاه بن قليج أرسلان السلجوقي من بيت كبير مشهور فأرسل يخطب هذه الملكة لولده ليتزوجها «4» ، وامتنعوا من إجابته إلا أن

يتنصر، فأمر ولده فتنصر وسار إلى الكرج وتزوج الملكة، وكانت هذه الملكة تهوى مملوكا لها، ويعلم ابن طغريل شاه بذلك وتكاسر «1» فدخل يوما إلى البيت فوجد المملوك نائما معها في الفراش فلم يصبر المذكور على ذلك وأنكر عليها، فأخذته زوجته واعتقلته في بعض القلاع ثم أحضرت رجلين كانا قد وصفا لها بحسن الصورة فتزوجت أحدهما ثم فارقته وأحضرت إنسانا مسلما من كنجة «2» هويته وسألته أن يتنصر لتتزوج به فلم يجب إلى ذلك، فترددت الرسل بينهما فلم يجبها إلى التنصّر. وفي هذه السنة، توفي المستنصر يوسف بن محمد الناصر بن يعقوب المنصور بن يوسف بن عبد المؤمن ملك الغرب وقد تقدم ذكر ولايته سنة عشر وست مئة «3» . وكان يوسف المذكور منهمكا في اللذات فدخل الوهن على الدولة بسبب ذلك، ولم يخلف يوسف المذكور ولدا فاجتمع كبراء الدولة وملكوا عم أبيه لكبر سنه، وهو عبد الواحد بن يوسف بن عبد المؤمن ولقبوه المستضيء، وكان عبد الواحد المذكور قد صار فقيرا بمراكش وقاسى الدهر، فلما تولى اشتغل باللذات والتنعم في المآكل والملابس (193) من غير أن يشرب خمرا فخلعوه بعد تسعة أشهر وقتلوه «4» وملكوا ابن أخيه عبد الله ولقبوه العادل، وهو عبد

سنة إحدى وعشرين وست مئة إلى سنة ثلاثين وست مئة

الله بن يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن «1» . سنة إحدى وعشرين وست مئة إلى سنة ثلاثين وست مئة في سنة إحدى وعشرين وست مئة «13» وصل التتر إلى قرب توريز، وأرسلوا إلى صاحبها أزبك بن البهلوان يقولون له: إن كنت في طاعتنا فأرسل من عندك الخوارزمية إلينا، فجمع أزبك الخوارزمية وأرسلهم إلى التتر مع تقدمة عظيمة فكفوا عن بلاده وعادوا إلى خراسان. وفيها استولى غياث الدين تيزشاه بن محمد بن تكش أخو جلال الدين منكبرتي بن محمد على غالب مملكة فارس، وكان صاحب فارس يقال له الأتابك سعد بن دكلا «2» وأقام غياث الدين بشيراز وفي كرسي مملكة فارس، ولم يبق مع أتابك سعد من فارس غير الحصون المنيعة، ثم اصطلح الأتابك سعد مع غياث الدين على أن يكون لكل منهما ما بعده. وفي هذه السنة، عصى المظفر غازي بن العادل على أخيه الأشرف، وكان الملك الأشرف قد أنعم على أخيه المظفر غازي بخلاط، وهي مملكة عظيمة بإقليم أرمينية، وكان قد حصل بين الملك المعظم صاحب دمشق وبين أخويه الكامل والأشرف (194) وحشة بسبب ترحيله عن حماة كما تقدم ذكره «3» ،

وفي سنة اثنتين وعشرين وست مئة

فأرسل المعظم وحسّن لأخيه المظفر غازي صاحب خلاط العصيان على أخيه الملك الأشرف فأجاب المظفر إلى ذلك، وخالف أخاه الأشرف، وكان قد اتفق مع المعظم عيسى والمظفر غازي مظفر الدين كوكبوري بن زين الدين كوجك صاحب إربل، وكان الملك الرحيم بدر الدين لؤلؤ منتميا إلى الأشرف فسار مظفر الدين صاحب إربل وحصر الموصل عشرة أيام، وكان نزوله على الموصل ثالث عشر جمادى الآخرة من هذه السنة ليشغل الملك الأشرف عن قصد أخيه بخلاط، ثم رحل مظفر الدين عن الموصل لحصانتها، فلم يلتفت الملك الأشرف إلى حصار الموصل وسار إلى خلاط وحاصر بها [أخاه] «1» المظفر شهاب الدين غازي فسلمت إليه مدينة خلاط، وانحصر أخوه غازي بقلعتها إلى الليل فنزل إلى أخيه الأشرف واعتذر إليه فقبل عذره وعفا عنه، وأقره على ميّافارقين، وارتجع باقي البلاد منه، وكان استيلاء الأشرف على خلاط وأخذها من أخيه في جمادى الآخرة من هذه السنة. وفي سنة اثنتين وعشرين وست مئة «13» وصل جلال الدين من الهند إلى بلاده، وقد تقدم في سنة سبع عشرة وست مئة هروبه من غزنة لما قصده جنكز خان، وأنه دخل الهند «2» ، فلما كان في هذه السنة قدم من الهند إلى كرمان إلى أصفهان واستولى عليها وعلى باقي عراق العجم، وسار إلى (195) فارس وانتزعها من أخيه تيزشاه بن محمد وأعادها إلى صاحبها أتابك سعد بن دكلا صاحب فارس وصار أتابك سعد وتيزشاه أخو جلال الدين منكبرتي بن خوارزم شاه تحت حكم جلال الدين المذكور، ثم

استولى جلال الدين على خوزستان وكاتب الخليفة الإمام الناصر ثم صار حتى وصل إلى بعقوبا «1» بالقرب من بغداد، وخاف أهل بغداد منه واستعدوا للحصار، ونهبت الخوارزمية البلاد وقوي جلال الدين وعسكره ثم سار إلى قريب إربل فصالحه مظفر الدين كوكبوري ودخل في طاعته، ثم سار جلال الدين إلى أذربيجان وكرسي ملكها توريز فاستولى على توريز وهرب مظفر الدين أزبك بن البهلوان بن إلدكز صاحب أذربيجان، وكان أزبك المذكور قد قوي أمره لما قتل طغريل آخر الملوك السلجوقية ببلاد العجم، واستقل أزبك المذكور في المملكة، وكان أزبك لا يزال مشغولا بشرب الخمر وليس له التفاته إلى تدبير المملكة، فلما استولى جلال الدين على توريز هرب أزبك إلى كنجة وهي من بلاد أران قرب برذعة «2» متاخمة لبلاد الكرج (و) استقل السلطان جلال الدين بمملكة أذربيجان وكثرت عساكره، ثم جرى بين جلال الدين وبين الكرج قتال عظيم من أعظم ما يكون، فانهزمت الكرج وتبعهم الخوارزمية يقتلونهم كيف شاؤوا واتفق أنه ثبت على قاضي توريز وقوع الطلاق على أزبك ابن البهلوان من زوجته بنت السلطان طغريل آخر الملوك السلجوقية المقدم الذكر (196) فتزوج جلال الدين بها، وأرسل جيشا إلى مدينة كنجة ففتحوها وهرب منها مظفر الدين أزبك بن البهلوان إلى قلعة هناك، ثم هلك وتلاشى أمره. وفي هذه السنة، توفي الملك الأفضل نور الدين علي بن السلطان الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب «3» وليس بيده غير سميساط فقط، وكان موته

فجأة وعمره سبع وخمسون سنة، وكان الملك الأفضل فاضلا حسن السيرة، وتجمعت فيه الفضائل والأخلاق الحسنة، وكان مع ذلك قليل الحظ، وله الأشعار الحسنة الجيدة، فمنها يعرض إلى سوء حظه قوله: (الكامل) يا من تسوّد شعره بخضابه ... لعساه من أهل الشبيبة يحصل ها فاختضب بسواد حظي مرة ... ولك الأمان بأنّه لا ينصل ولما أخذت منه دمشق كتب إلى بعض أصحابه كتابا منه: أما أصحابنا بدمشق فلا علم لي بأحد منهم، وسبب ذلك «1» : (المنسرح) أيّ صديق سألت عنه ففي الذّ ... لّ وتحت الخمول في الوطن وأيّ ضدّ سألت حالته ... سمعت ما لا تحبّه أذني وفي أول شوال في هذه السنة، كانت وفاة الخليفة الإمام الناصر لدين الله أبي العباس أحمد «2» بن المستضيء حسن بن المستنجد يوسف بن المقتفي محمد بن المستظهر أحمد بن المقتدي عبد الله بن الأمير ذخيرة الدين محمد ابن القائم [ «3» عبد الله بن القادر أحمد بن الأمير إسحاق بن المقتدر جعفر بن المكتفي علي بن المعتضد أحمد بن الأمير الموفق، قيل اسمه طلحة، وقيل: محمد بن المتوكل جعفر بن المعتصم محمد بن الرشيد هارون بن المهدي محمد ابن المنصور] عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس عم النبي صلى الله عليه وسلم (197) بن عبد المطلب بن هاشم، وكان عمر الناصر نحو سبعين سنة ومدة خلافته سبع وأربعون سنة، وعمي في آخر عمره، وكان موته

خلافة ابنه الظاهر [بأمر الله] [أبي نصر] محمد خامس ثلاثيهم

بالدوسنطاريا، وكان قبيح السيرة في رعيته ظالما لهم، خرب في أيامه العراق وتفرق أهله في البلاد، وكان يتشيع وهو منصرف الهمة إلى رمي البندق، والطيور المناسيب، ويلبس سراويلات الفتوة، ومنع رمي البندق إلا من ينسب إليه فأجابه الناس إلى ذلك، إلا إنسانا واحدا يقال له: ابن السفت وهرب لذلك من بغداد إلى الشام. وقد نسب إلى الإمام الناصر أنه هو الذي كاتب التتر وأطمعهم في البلاد بسبب ما كان بينه وبين خوارزم شاه محمد بن تكش من العداوة ليشغل خوارزم شاه بهم عن قصد العراق. خلافة ابنه الظاهر [بأمر الله] «1» [أبي نصر] «2» محمد «3» خامس ثلاثيهم ولما بويع [الظاهر بأمر الله] «4» بعد موت أبيه أظهر العدل، وأزال المكوس. وأخرج المحبسين، وظهر للناس، وكان الناصر ومن قبله لا يظهرون إلا نادرا، ولم تصل مدته في الخلافة غير تسعة أشهر.

وفي سنة ثلاث وعشرين وست مئة

وفي سنة ثلاث وعشرين وست مئة1» سار الملك المعظم عيسى بن العادل صاحب دمشق، ونازل حمص، وكان قد اتفق مع جلال الدين منكبرتي ومع مظفر الدين صاحب إربل أن يكونوا يدا واحدة، وكان الأشرف بالبلاد الشرقية، ثم رحل المعظم إلى دمشق بسبب [كثرة] «1» ما مات من خيله وخيل عسكره، وورد عليه أخوه الأشرف (198) طالبا للصلح قطعا للفتن، فبقي عنده مكرما [ظاهرا] «1» ، وهو كالأسير معه في الباطن، وأقام الأشرف عند أخيه المعظم إلى أن انقضت هذه السنة. وأما الملك الكامل فإنه كان بمصر، وقد تخيل من بعض عسكره فما أمكنه الخروج منها. وفيها فتح السلطان جلال الدين تفليس وهي من المدن العظام. وفيها، سار جلال الدين المذكور ونازل خلاط وهي منازلته الأولى وطال القتال بينهم، وكان نائب الأشرف بخلاط حسام الدين علي الموصلي «2» وكان نزوله عليها ثالث عشري ذي القعدة «3» ورحل عنها لسبع بقين من ذي الحجة لكثرة الثلوج. وفي رابع عشر رجب من هذه السنة توفي الخليفة الظاهر [بأمر الله] «4» محمد بن الناصر لدين الله «5» ، وكان متواضعا محسنا إلى الرعية جدا، وأبطل

خلافة المستنصر بالله أبي جعفر منصور سادس ثلاثيهم

عدة مظالم منها أنه كان بخزانة الخلافة صنجة زائدة يقبضون بها المال ويعطون بالصنجة التي يتعامل بها الناس، وكان زيادة الصنجة في كل دينار حبة، فخرج توقيع الظاهر بإبطالها، وأول التوقيع: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ «1» وعمل صنجة المخزن مثل [صنجة] «2» المسلمين، وكان مضاددا لأبيه الناصر في سائر أحواله ومنها أن مدة خلافة أبيه كانت طويلة ومدته هو كانت قصيرة، وكان أبوه متشيعا، وكان الظاهر سنيا، وكان أبوه ظالما جمّاعا للمال، وكان الظاهر في (199) غاية العدل وبذل الأموال [للمحبوسين وعلى العلماء] «3» . خلافة المستنصر بالله أبي جعفر منصور «4» سادس ثلاثيهم ولما توفي الظاهر، ولي الخلافة بعده ولده الأكبر المستنصر، وكان للظاهر ولد آخر يقال له الخفاجي في غاية الشجاعة وبقي حيا حتى أخذت التتر بغداد، وقتل مع من قتل، ولما تولى المستنصر الخلافة سلك [في] «5» العدل والإحسان مسلك أبيه الظاهر. وفيها، سار علاء الدين كيقباذ بن كيخسرو بن قليج أرسلان صاحب بلاد

وفي سنة أربع وعشرين وست مئة

الروم إلى بلاد الملك المسعود الأرتقي صاحب آمد، ونزل كيقباذ بملطية وهي من بلاد كيقباذ وأرسل عسكرا وفتحوا حصن منصور، وحصن الكختا، وكانا لصاحب آمد المذكور. وفيها [في خامس عشر (ذي) الحجة] «1» ، نازل جلال الدين منكبرتي خلاط وبها حسام الدين علي الحاجب من جهة الأشرف، وهي منازلته الثانية «2» ، وجرى بينهم قتال كثير، وأدركه البرد فرحل عنها في السنة المذكورة. وفي سنة أربع وعشرين وست مئة «13» كان في أوائلها الكامل بديار مصر، وخوارزم شاه جلال الدين منكبرتي مالكا لأذربيجان وأرّان وبعض بلاد الكرج، وهو موافق للملك المعظم على حرب أخويه الكامل والأشرف، والرسل لا تنقطع بين جلال الدين والمعظم، والملك الأشرف معهم كالأسير عند أخيه المعظم، ولما رأى الملك الأشرف حاله مع أخيه المعظم وأنه لا خلاص له منه إلا أن يجيبه إلى ما يريد أجابه كالمكره، وحلف أن يعاضده (200) ويكون معه على أخيهما الكامل، وأن يكون معه على صاحبي حماة وحمص، فلما حلف له على ذلك أطلقه المعظم، فرحل الملك الأشرف في جمادى [الآخرة] «3» وكانت مدة مقامه مع المعظم نحو عشرة أشهر، «4» وفي اتفاقهما يقول الحسن بن يوسف الطائي «5» : (الكامل)

لم يتفق موسى وعيسى آية ... إلا ليصبح كلّ أعمى مبصرا بعثا فموسى كلّ فرعون طغى ... أردى، وعيسى بعده أحيا الورى ولما استقر الملك الأشرف ببلاده رجع عن جميع ما تقرّر بينه وبين المعظم، وتأول في أيمانه التي حلفها أنه مكره، ولما رأى الملك الكامل اعتضاد الملك المعظم بجلال الدين خاف من ذلك، وكاتب الأمبروز ملك الفرنج «1» في أن يقدم عكّا ليشغل [أخاه] «2» المعظم عما هو فيه، ووعد الأمبروز أن يعطيه القدس، فسار الأمبروز إلى عكّا، وبلغ المعظم ذلك فكتب إلى أخيه الأشرف يستعطفه. وفيها، انتزع الأتابك طغريل الخادم الشّغر وبكاس من الملك الصالح بن الملك الظاهر، وعوضه عنها بعين تاب والرّاوندان. وفيها، سار الحاجب حسام الدين علي بعساكر الأشرف من خلاط إلى بلاد جلال الدين، فاستولى على خوي وسلماس ونقجوان. وفي هذه السنة في ذي القعدة، توفي الملك المعظم عيسى بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب «3» بقلعة دمشق بالدوسنطاريا وعمرة تسع وأربعون سنة، وكان مدة ملكه دمشق تسع سنين وشهورا (201) وكان شجاعا، وكان عسكره في غاية التجمل، وكان يخطب لأخيه الكامل ببلاده ولا يذكر اسمه معه، وكان الملك المعظم قليل التكلف جدا، وكان في غالب الأوقات لا يركب بالسناجق السلطانية، وكان يركب وعليه كلوتة صفراء بلا شاش، ويخترق

الأسواق من غير أن يطرق بين يديه كما جرت عادة الملوك، ولما كثر هذا منه صار الإنسان إذا فعل أمرا لا يتكلف له يقال قد فعله بالمعظّمي، وكان عالما فاضلا في الفقه والنحو، وكان شيخه في النحو تاج الدين زيد بن الحسن الكندي «1» ، وفي الفقه جمال الدين [الحصيري] «2» ، وكان حنفيا متعصبا لمذهبه، وخالف جميع أهل بيته، فإنهم كانوا شافعية، ومن شعره قوله «3» : (الطويل) ولي همة لولا العوائق لم تزل ... تشرّ (ق) في كسب العلى وتغرّب ولكنها الأيام تبدي صروفها ... عجائب حتى لست منهن أعجب وقوله: (الطويل) نزلنا ضميرا «4» والجياد ضوامر ... وقد حان من شمس النهار غروبها ففاضت غروب العين شوقا إليكم ... وليس عجيبا أن يفيض غروبها وقوله: (الكامل) ومورد الوجنات أغيد خاله ... بالحسن من فرط الملاحة عمّه

كحل الجفون وكرّ في لحظاتها ... غنجا، فقلت: سقى الحسام وسمّه (202) ولما توفي المعظم ترتب في مملكته ولده الملك الناصر صلاح الدين داود «1» ، وقام بتدبير مملكته مملوك والده وأستاذ داره عز الدين أيبك المعظّمي، وكان لأيبك المذكور صرخد وأعمالها. وفي هذه السنة، خلع العادل عبد الله بن المنصور يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن وقد تقدم ذكر ولايته في سنة عشرين وست مئة بعد خلع عمه عبد الواحد وقتله «2» . وفي أيام العادل المذكور كانت الوقعة بالأندلس بين المسلمين والفرنج على طليطلة، فانهزمت المسلمون هزيمة قبيحة، وهذه الوقعة هي التي هدت دعائم المسلمين بالأندلس. ولما خلع العادل المذكور حبس ثم خنق ونهب المصمودون قصره بمراكش واستباحوا حرمته. ثم ملك بعده يحيى بن محمد الناصر بن [يعقوب المنصور] «3» بن يوسف ابن عبد المؤمن «4» ، ويحيى يومئذ لم يخط عذاره، ولما تمت بيعة يحيى وصل الخبر أنه قام بإشبيلية إدريس بن يعقوب المنصور «4» وهو أخو العادل عبد الله

وتلقب إدريس بالمأمون وجميعهم كانوا يتلقبون بأمير المؤمنين وتعقد البيعة لهم بالخلافة، ولما استقر أمر إدريس المأمون بإشبيلية ثارت جماعة من أهل مراكش وانضم إليهم العرب ووثبوا على يحيى بن محمد الناصر بمراكش، فهرب يحيى إلى الجبل ثم اتصل بعرب المعقل «1» فغدروا به فقتلوه «2» ، وخطب للمأمون إدريس بمراكش واستقر في الخلافة بالبرّين بر الأندلس وبر العدوة. ثم خرج على المأمون إدريس بشرق الأندلس (203) المتوكل ابن هود «3» واستولى على الأندلس، ففارق إدريس الأندلس «4» ، وسار في البحر إلى مراكش، وخرجت الأندلس حينئذ عن ملك بني عبد المؤمن. ولما استقر إدريس بمراكش تتبع الخارجين على من قبله من الخلفاء فقتلهم عن آخرهم وسفك دماء كثيرة حتى سموه حجاج المغرب لذلك، وكان المأمون إدريس المذكور فصيحا عالما بالأصول والفروع، ناظما ناثرا أمر بإسقاط اسم مهديهم ابن تومرت من الخطبة على المنابر، وعمل في ذلك رسالة طويلة، أفصح فيها بتكذيب مهديهم المذكور وضلاله. ثم ثار على إدريس المذكور أخوه «5» بسبتة، فسار إدريس من مراكش إلى سبتة وحصره بسبتة، ثم بلغ إدريس وهو محاصر بسبتة أن بعض أولاد محمد

الناصر قد دخل إلى مراكش «1» فرحل إدريس عن سبتة إلى مراكش فمات في الطريق بين سبتة ومراكش «2» . ولما مات المأمون إدريس ملك بعده ابنه عبد الواحد بن المأمون إدريس بن يعقوب المنصور بن يوسف بن عبد المؤمن وتلقب بالرشيد، ثم توفي الرشيد عبد الواحد غريقا في صهريج بستان له بحضرة مراكش في سنة أربعين وست مئة «3» ، وكان الرشيد حسن السياسة، وكان أبوه المأمون إدريس قد أبطل اسم مهديهم من الخطبة، فأعاده عبد الواحد المذكور، وقمع العرب إلا أنه تخلى للذاته لما استقل أمره، ولم يخطب للرشيد عبد الواحد بأفريقية ولا بالغرب (204) الأوسط. ولما مات الرشيد عبد الواحد ملك بعده أخوه علي بن إدريس وتلقب بالمعتضد أمير المؤمنين، وكان أسمر اللون «4» ، مدحوضا في حياة والده، وسجنه في بعض الأوقات، وقدم عليه [أخاه] «5» الأصغر عبد الواحد المذكور، واستمر علي بن إدريس حتى قتل وهو محاصر قلعة بقرب تلمسان في صفر من سنة ست وأربعين وست مئة «6» .

ثم ملك بعد المعتضد الأسود المذكور أبو حفص عمر بن أبي إبراهيم بن يوسف في شهر ربيع الآخر من سنة ست وأربعين وست مئة وتلقب بالمرتضى «1» . وفي الحادي والعشرين من المحرم سنة خمس وستين وست مئة دخل الواثق أبو العلا إدريس المعروف بأبي دبوس مراكش، وهرب المرتضى إلى آزمّور من نواحي مراكش، فقبض عليه عامله بها وبعث إلى الواثق أعلمه، فأمره بقتله [فقتله] «2» في العشر الأخير من ربيع الآخر سنة خمس وستين وست مئة «3» بموضع يقال [له] «2» كتامة بعده عن مراكش ثلاثة أيام، وأقام الواثق أبو دبوس ثلاث سنين، وقتل في الحروب التي كانت بينه وبين بني مرين ملوك تلمسان وانقرضت دولة بني عبد المؤمن، وكان قتل الواثق أبي دبوس المذكور في المحرّم سنة ثمان وستين وست مئة بموضع بينه وبين مراكش ثلاثة أيام في جهتها الشمالية، واستولى بنو مرين على ملكهم «4» . وقد اختلفوا في نسب أبي دبوس، فإني «5» وجدت في بعض الكتب المؤلفة في هذا الفن أن أبا دبّوس هو ابن إدريس المأمون، ثم وجدت (205) نسبه في وفيات الأعيان أنه هو نفسه إدريس بن عبد الله بن يعقوب بن يوسف بن عبد

وفي سنة خمس وعشرين وست مئة

المؤمن «1» على ما سنذكره «2» إن شاء الله تعالى. وفي سنة خمس وعشرين وست مئة «13» أرسل الملك الكامل صاحب مصر يطلب من ابن أخيه الناصر داود بن الملك المعظم صاحب دمشق حصن الشّوبك فلم يعطه الناصر ذلك ولا أجابه إليه، فسار الملك من مصر في رمضان هذه السنة ونزل على تل العجول بظاهر غزة، وولى على نابلس والقدس وغيرهما من بلاد الناصر داود صاحب دمشق، وكان في صحبة الملك الكامل الملك المظفر محمود بن الملك المنصور صاحب حماة وهو موعود من الملك الكامل انتزاع بلاد أخيه المعظم من ابنه الناصر صاحب دمشق، فاستنجد الناصر بعمه الأشرف وأرسل إليه وهو ببلاده الشرقية، فقدم الملك الأشرف إلى دمشق، ودخل هو والناصر داود إلى قلعة دمشق راكبين. قال القاضي جمال الدين بن واصل: كنت إذ ذاك حاضرا بدمشق، ورأيت الملك الأشرف راكبا مع ابن أخيه وعلى رأس الملك الأشرف شاش علم كبير، ووسطه مشدود بمنديل، وكان وصول الأشرف إلى دمشق في العشر الأخير من رمضان هذه السنة، ووصل إلى خدمته بدمشق الملك المجاهد شير كوه، فإنه كان من المنتمين إلى الأشرف، ثم وقع الاتفاق أن يسير الناصر داود (و) شير كوه صحبة الأشرف إلى نابلس، فيقيم الناصر داود بنابلس، ويتوجه الأشرف إلى عند (206) أخيه الكامل بغزة شافعا في ابن أخيهما الناصر داود ففعلوا ذلك.

ولما وصل الأشرف إلى أخيه الكامل وقع اتفاقهما في الباطن على أخذ دمشق من ابن أخيهما الناصر، وتعويضه عنها بحران والرّها والرقّة من بلاد الملك الأشرف، وتستقر دمشق للملك الأشرف، ويكون له إلى عقبة فيق وما عدا ذلك من بلاد دمشق يكون للكامل، وأن تنتزع حماة من الناصر قليج أرسلان وتصير للملك المظفّر محمود [أخي] «1» الناصر قليج أرسلان، وأن تنتزع سلميّة من الملك المظفّر وكانت إقطاعه لما كان مقيما عند الكامل بمصر، وتعطى لشير كوه صاحب حمص. وخرجت هذه السنة والأشرف مقيم عند أخيه الكامل بظاهر غزة، وقد اتفقا على ذلك. وفيها، عاد التتر إلى قصد البلاد التي بيد جلال الدين بن خوارزم شاه، وجرت بينه وبينهم حروب كثيرة، وكان في أكثر الأوقات الظفر للتتر. وفيها، قدم الإمبراطور إلى عكّا بجموعه «2» ، وكان الملك الكامل قد أرسل إليه فخر الدين بن الشيخ «3» يستدعيه إلى قصد الشام بسبب أخيه المعظم فقدم الإمبراطور وقد مات المعظم فنشب به الكامل، ولما وصل الإمبراطور استولى على

وفي سنة ست وعشرين وست مئة

صيدا وكانت مناصفة بين المسلمين وبينه، وسورها خراب، فعمره الفرنج، والإمبراطور معناه ملك الأمراء بالفرنجية، وإنما اسمه فردريك، وكان صاحب جزيرة صقلّية ومن البر الطويل جزيرة أنبولة «1» والأنبردية. قال (207) القاضي جمال الدين بن واصل: ولقد رأيت تلك البلاد لما توجهت رسولا من الملك الظاهر بيبرس الصالحي إلى الإمبراطور ملك تلك البلاد، قال: وكان ملك الفرنج الإمبراطور من بين قرنائه من ملوك الفرنج محبا للحكمة والمنطق والطب، مائلا إلى المسلمين، لأن منشأه بجزيرة صقلّية وغالب أهلها مسلمون «2» . وترددت الرسل بين الملك الكامل والإمبراطور إلى أن خرجت هذه السنة. وفيها، بعد فراغ جلال الدين من التتر قصد بلاد خلاط، ونهب القرى وقتل وخرب البلاد، وفعل الأفعال القبيحة. وفي سنة ست وعشرين وست مئة «13» لما جرى بين السلطان الكامل والأشرف الاتفاق الذي ذكرناه بلغ الناصر داود ذلك وهو بنابلس، فلحق بدمشق وكان قد لحقه بالفور عمه الأشرف وعرفه ما أمر به الكامل، وأنه لا يمكن الخروج عن مرسومه، فلم يلتفت الناصر داود إلى ذلك، وسار إلى دمشق، وسار الأشرف في أثره، وحصره بدمشق والكامل [مشتغل] «3» بمراسلة الإمبراطور، ولما طال الأمر ولم يجد الكامل بدا من المهادنة

أجاب الإمبراطور إلى تسليم القدس إليه على أن تستمر أسواره خرابا ولا [يعمرها] «1» الفرنج، ولا [يتعرضوا] «2» إلى قبة الصخرة ولا إلى الجامع الأقصى ويكون الحكم في الرساتيق إلى والي المسلمين، ويكون لهم من القرايا ما هو على الطريق من عكّا إلى القدس فقط، ووقع الأمر على ذلك (208) وتحالفا عليه، وتسلم الإمبراطور القدس في هذه السنة في ربيع الآخر على القاعدة المذكورة «3» . وكان ذلك والملك الناصر داود [محصور] «4» بدمشق، وعمه الأشرف يحاصره بأمر الملك الكامل، فأخذ الناصر داود في التشنيع على عمه بذلك، وكان بدمشق الشيخ شمس الدين يوسف سبط أبي الفرج بن الجوزي «5» ، وكان واعظا وله قبول عند الناس، فأمره الناصر داود بعمل مجلس وعظ يذكر فيه فضائل بيت المقدس، وما حل بالمسلمين من تسليمه إلى الفرنج، ففعل ذلك، وكان مجلسا عظيما، ومن جملة ما أنشده قصيدة تائيّة ضمّنها بيت دعبل بن علي الخزاعي الشاعر، وهو «6» : (الطويل) مدارس آيات خلت من تلاوة ... ومنزل وحي مقفر العرصات

فارتفع بكاء الناس وضجيجهم «1» . ولما عقد الملك الكامل الهدنة مع الإمبراطور، وخلا شره من جهة الفرنج سار إلى دمشق ووصل إليها في جمادى الأولى من هذه السنة، واشتد الحصار على دمشق، ووصل إلى الملك الكامل رسول الملك العزيز صاحب حلب وخطب بنت الكامل فزوجه بنته فاطمة خاتون التي هي من الست السوداء أم ولده أبي بكر العادل بن الكامل «2» ، ثم استولى الملك [الكامل] «3» على دمشق وعوض [الناصر] » عنها بالكرك والبلقاء والصّلت والأغوار والشّوبك، وأخذ الكامل لنفسه البلاد الشرقية التي كانت عينت للناصر داود وهي حران والرّها، وكانت (209) بيد الأشرف ثم نزل الناصر داود عن الشّوبك، وسأل عمه الكامل في قبولها فقبلها، وتسلم الأشرف دمشق، وتسلم الكامل من الأشرف البلاد الشرقية المذكورة، وفي «5» تسليم الأشرف دمشق وتملكها يقول ابن المسجف «6» : (الطويل) وكنا نرجى بعد عيسى محمدا ... لينقذنا من فترة الظلم والبلوى فأوقعنا في تيه موسى كما ترى ... حيارى ولا منّ لديه ولا سلوى

وفي هذه السنة، توفي الملك المسعود يوسف الملقب أطسز المعروف بآقسيس بن الملك الكامل بن الملك العادل بن أيوب «1» ، وكان قد مرض باليمن فكره المقام بها وسار إلى مكة وهي له كما تقدم ذكره «2» ، فتوفي بمكة ودفن بالمعلى وعمره ست وعشرون سنة، وكان مدة ملكه لليمن أربع عشرة سنة. وكان الملك المسعود لما سار من اليمن قد استخلف عليها علي بن رسول «3» ، وسنذكر بقية أخباره إن شاء الله تعالى، ووصل الخبر بوفاة الملك المسعود إلى أبيه الكامل وهو على حصار دمشق فجلس للعزاء، وخلّف الملك المسعود ولدا صغيرا اسمه أيضا يوسف، وبقي يوسف المذكور حتى مات في سلطنة عمه الملك الصالح أيوب «4» صاحب مصر، وخلف يوسف ولدا صغيرا اسمه موسى ولقب الملك الأشرف، وهو الذي أقامه الترك في مملكة مصر بعد قتل المعظّم بن الصالح ابن الكامل «5» على ما سنذكره «6» .

وفي هذه السنة (210) أرسل الملك الأشرف مملوكه عز الدين أيبك الأشرفيّ «1» ، وهو أكبر أمير عنده إلى خلاط، فقبض على الحاجب حسام الدين علي الموصلي وحبسه ثم قتله «2» . وكان حسام الدين المذكور من أهل الموصل، وخدم الملك الأشرف فجعله نائبا بخلاط فأحسن إلى الرعية، وحفظ البلد، واستولى على عدة بلاد من أذربيجان مثل نقجوان وغيرها على ما تقدم ذكره «3» ، فقبض عليه الأشرف وقتله، قيل: إنه لذنب بدا منه لم يطلع عليه الناس واطلع عليه الملك الكامل والملك الأشرف، وهذا حسام الدين الحاجب كان كثير الخير والمعروف، بنى الخان الذي بين حران ونصيبين، وبنى الخان الذي بين حمص ودمشق وهو المعروف بخان برج العطش، وهرب مملوك حسام الدين لما قتل أستاذه ولحق بجلال الدين منكبرتي فلما ملك جلال الدين خلاط كما سنذكره «4» قبض على أيبك الأشرفي وسلمه إلى مملوك حسام الدين فقتله وأخذ بثأر أستاذه. ولما سلّم الكامل دمشق إلى أخيه الأشرف سار من دمشق ونزل مجمع المروج «5» ، ثم نزل سلميّة، وأرسل عسكرا نازلوا حماة وبها صاحبها الناصر قليج أرسلان وكان فيه جبن فإنه لو عصى بحماة وطلب عنها عوضا لأجابه الملك الكامل ولكنه خاف، وكان في العسكر الذين نازلوه الملك المجاهد شير كوه

صاحب حمص، فأرسل الناصر صاحب حماة يقول لشير كوه: إني أريد أخرج إليك بالليل لتحضرني عند السلطان الملك الكامل، وخرج (211) الملك الناصر قليج أرسلان بن الملك المنصور محمد بن الملك المظفّر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب إلى شير كوه في العشر الأخير من رمضان هذه السنة، فأخذه شير كوه ومضى إلى الملك الكامل وهو نازل على سلميّة فحين رأى الملك الكامل قليج أرسلان المذكور شتمه وأمر باعتقاله، وأن يتقدم إلى نوابه بحماة [بتسليمها] «1» إلى الملك الكامل، فأرسل الناصر قليج أرسلان علامته إلى نوابه بحماة أن يسلموها إلى عسكر الملك الكامل فامتنع من ذلك الطواشيان بشير «2» ومرشد «3» المنصوريان، وكان بقلعة حماة أخ للملك الناصر يلقب الملك العزيز «4» بن الملك المنصور صاحب حماة فملكوه حماة، وقالوا للملك الكامل: لا نسلم حماة لغير أحد من أولاد تقي الدين، فأرسل الملك الكامل يقول للملك المظفر محمود بن المنصور صاحب حماة اتفق مع غلمان أبيك وتسلّم حماة، وكان الملك المظفر نازلا على حماة من جملة العسكر الكاملي، فراسل الملك المظفر حكام حماة فحلّفوه لهم وحلفوا له، وواعدوا الملك المظفر أن يحضر بجماعته خاصة وقت السحر إلى باب النصر ليفتحوه له، فحضر الملك المظفر سحر الليلة التي عينوها ففتحوا له باب النصر، ودخل الملك المظفر ومضى إلى دار الوزير المعروفة بدار الإكرام داخل باب المغار وهي الآن مدرسة تعرف

بالخاتونية وقفتها عمتي مؤنسة خاتون «1» بنت الملك المظفر المذكور، وحضر أهل حماة وهنؤوا المظفر ملك حماة، وكان ذلك في العشر الآخر من رمضان هذه السنة، وكانت مدة ملك الناصر (212) قليج أرسلان حماة تسع سنين إلا نحو شهرين، وأقام الملك المظفّر في دار الإكرام يومين، وصعد في اليوم الثالث إلى القلعة، وتسلمها، وجاء عيد الفطر من هذه السنة والملك المظفر مالك حماة وعمره يومئذ سبع وعشرون سنة لأن مولده سنة تسع وتسعين وخمس مئة، وكان أخوه الملك الناصر قليج أرسلان أصغر منه بسنة. ولما ملك المظفر حماة فوض أمور تدبيرها صغيرها وكبيرها إلى الأمير علي ابن أبي علي الهذباني «2» ، وكان سيف الدين علي خدم الملك المظفر بعد ابن عمه حسام الدين بن أبي علي «3» [الذي كان نائب الملك المظفر بسلميّة لما سلمت إليه وهو بمصر عند الملك الكامل، ثم حصل بين الملك المظفر وبين حسام الدين بن أبي علي] وحشة ففارقه حسام الدين، واتصل بخدمة الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل، وحظي عنده وصار أستاذ داره، وخدم ابن عمه سيف الدين علي المذكور الملك المظفر، وكان يقول له: أشتهي أراك صاحب حماة وأكون بعين واحدة، فأصيبت عين سيف الدين علي على حصار حماة لما نازلها عسكر الكامل، وبقي بفرد عين فحظي عند المظفّر بذلك ولكفاءته وحسن تدبيره. ولما استقر الملك المظفر في ملك حماة انتزع الملك الكامل سلميّة منه وسلمها إلى شير كوه صاحب حمص على ما كان وقع عليه الاتفاق قبل ذلك،

ثم إن الملك الكامل رسم للملك المظفر أن يعطي أخاه الناصر قليج أرسلان بارين بكاملها فسلمها إليه، ولم يبق بيد المظفر غير حماة والمعرة، وكان بحماة تقدير أربع مئة ألف درهم للملك الناصر، وكان قد (213) رسم الملك الكامل للمظفر أن يعطي المال لأخيه الناصر فماطل المظفر في ذلك ولم يعطه شيئا. ولما استقر المظفر بحماة مدحه الشيخ شرف الدين عبد العزيز بن محمد ابن عبد المحسن الأنصاري الدمشقي بقصيدة منها «1» : (الطويل) تناهى إليك الملك واشتدّ كاهله ... وحلّ بك الراجي فحطّت رواحله ترحّلت عن مصر فأمحل ربعها ... ولما حللت الشام روّض ما حلّه وعزّت حماة في حمى أنت غابه ... بصولته يحمى كليب ووائله وقد طالما ظلّت بتدبير أهوج ... يخيّب مرجيه ويحرم سائله فلما استقر الملك المظفر في ملك حماة، رحل الملك الكامل عن سلميّة إلى البلاد الشرقية التي أخذها من أخيه الأشرف عوضا عن دمشق، فنظر في مصالحها، ثم سافر الملك المظفر من حماة ولحق الملك الكامل وهو بالشرق، وعقد له الملك الكامل العقد هناك على ابنته غازية خاتون بنت الملك الكامل «2» ، وهي شقيقة الملك المسعود صاحب اليمن، وهي والدة الملك المنصور صاحب حماة وأخيه الملك الأفضل نور الدين علي ابني المظفر محمود، ثم عاد الملك المظفر إلى حماة وقد قضيت أمانيه بملك حماة ووصلته بخاله الملك الكامل، وكان يتمنى ذلك لما كان بالديار المصرية وكان يصحبه بمصر رجل من

وفي سنة سبع وعشرين وست مئة

أهلها يقال له الزكيّ القوصي «1» فاتفق وهما بمصر [وقد] «2» جرى ذكر الملك المظفر وزواجه من بنت خاله الملك الكامل فأنشده الزكيّ القوصي (البسيط) (214) متى أراك كما أهوى وأنت ومن ... تهوى كأنكما روحان في بدن هناك أنشد والأقدار مصغية ... هنّئت بالملك والأحباب والوطن فقال الملك المظفر إن صار ذلك يا زكيّ أعطيتك ألف دينار مصرية، فلما ملك المظفر حماة أعطى الزكيّ ما كان وعده به. ولما فرغ الكامل من تقرير أمر البلاد الشرقية وهي حران وما معها من البلاد [مثل رأس عين والرّها وغير ذلك] «2» عاد إلى الديار المصرية. وفيها، أرسل الملك الأشرف أخاه صاحب بصرى الصالح إسماعيل بن الملك العادل «3» بعسكر فنازل بعلبك وبها صاحبها الملك الأمجد بهرام شاه بن فرّخشاه بن شاهنشاه بن أيوب واستمرّ الحصار عليه. وفيها، سار جلال الدين ملك الخوارزمية وحاصر خلاط وبها أيبك نائب الأشرف إلى أن خرجت السنة. وفي سنة سبع وعشرين وست مئة «13» شرع شير كوه صاحب حمص في عمارة قلعة سميمس «4» ، وكان لما سلم

إليه الكامل سلميّة قد استأذنه في عمل تل سميمس قلعة فأذن له، ولما أراد شير كوه عمارته أراد المظفر صاحب حماة منعه من ذلك ثم لم يمكنه منعه لكونه بأمر الملك الكامل. وفي هذه السنة سلّم الملك الأمجد بهرام شاه بن فرّخشاه بن شاهنشاه بن أيوب بعلبك إلى الأشرف لطول الحصار، وعوضه الأشرف عنها الزّبداني وقصير دمشق الذي هو بشمالها ومواضع أخر (ى) وتوجه الأمجد وأقام بداره التي هي (215) داخل باب النصر «1» المسماة دار السعادة «2» ، وهي التي ينزل فيها النواب. ولما أخذت منه بعلبك ونزل في داره المذكورة كان قد حبس بعض مماليكه في مرقد عنده في الدار، وجلس الأمجد قبالة باب المرقد يلعب بالنرد، ففتح المملوك الباب ومعه سيف وضرب به أستاذه الأمجد وقتله، ثم طلع المملوك إلى سطح الدار، وألقى نفسه إلى وسطها فمات، ودفن الملك الأمجد بمدرسة والده «3» التي هي على الشّرف وكانت مدة ملكه بعلبك تسعا وأربعين سنة لأن عم أبيه السلطان الملك الناصر صلاح الدين ملّكه بعلبك سنة ثمان وسبعين

وخمس مئة لما مات أبوه فرّخشاه» وانتزعت منه هذه السنة فذلك خمسون إلّا سنة، وكان الأمجد أشعر بني أيوب، وشعره مشهور. وفي هذه السنة، اشتد حصار جلال الدين على خلاط ومضايقته لها ففتحها بالسيف، وفعل في أهلها كما كان يفعله التتر من القتل والاسترقاق والنهب، ثم قبض على نائب الأشرف بها وهو مملوكه أيبك الأشرفي وسلمه إلى مملوك حسام الدين الحاجب علي الموصلي فقتله وأخذ بثأر أستاذه «2» . ولما جرى من جلال الدين ما جرى من أخذ خلاط [اتفق] «3» صاحب الروم كيقباذ بن كيخسرو بن قليج أرسلان والملك الأشرف بن العادل، فجمع الأشرف عساكر الشام وسار إلى سيواس واجتمع فيها بملك الروم علاء الدين (216) كيقباذ المذكور وساروا إلى جهة خلاط، والتقى الفريقان في التاسع والعشرين من رمضان هذه السنة فولى جلال الدين والخوارزمية منهزمين وهلك غالب عسكره قتلا وترديا من رؤوس جبال كانت في طريقهم، وضعف جلال الدين بعدها وقويت عليه التتر، وارتجع الملك الأشرف خلاط وهي خراب يباب ثم وقعت المراسلة بين الملك الأشرف وبين كيقباذ وجلال الدين وتصالحوا وتحالفوا على ما بأيديهم وأن لا يتعرض أحد منهم إلى ما بيد الآخر. وفيها، استولى الملك المظفر غازي بن الملك العادل على أرزن «4» من ديار بكر، وهي غير أرزن الروم، وكان صاحب أرزن ديار بكر يقال له حسام

[ثم دخلت سنة ثمان وعشرين وست مئة]

الدين «1» من بيت كبير يقال لهم بيت الأحدب [فأخذها منه الملك المظفر غازي المذكور، وعوضه عن أرزن بمدينة حاني] «2» ، وأرزن لم تزل بأيديهم من أيام السلطان ملكشاه السلجوقي وإلى الآن، فسبحان من لا يزول ملكه. وفيها، جمعت الفرنج من حصن الأكراد، وقصدوا حماة، فخرج إليهم الملك المظفر محمود بن الملك المنصور صاحب حماة، والتقاهم عند قرية بين حماة وبارين يقال لها أفيون «3» وكسرهم كسرة عظيمة، ودخل الملك المظفر حماة مظفرا مؤيدا. وفيها، ولد الملك الناصر يوسف بن الملك العزيز صاحب حلب «4» . [ثم دخلت سنة ثمان وعشرين وست مئة «13» ] «5» واستقر السلطان الملك الكامل بديار مصر، وأخوه الأشرف بدمشق في ملاذه وقد تخلى عن البلاد الشرقية، فإن حران (217) وما معها صارت لأخيه الملك الكامل، وخلاط قد خربت، ولم يكن للأشرف ولد ذكر فاقتنع بدمشق واشتغل باللهو والملاذ والأوقات الطيبة. وفي هذه السنة، عاودت التتر قصد بلاد الإسلام وسفكوا وخربوا، وكان قد ضعف جلال الدين لقبح سيرته وسوء تدبيره، ولم يترك له صديقا من ملوك

الأطراف، وعادى الجميع، وانضاف إلى ذلك اختلاف عسكره عليه لما حصل له من فساد عقله، وسببه أنه كان له مملوك يحبه محبة شديدة، واتفق موت ذلك المملوك فحزن عليه حزنا شديدا، وأمر أهل توريز بالخروج والنواح عليه، ثم إنه لم يدفنه وبقي يستصحبه معه حيث سار وهو يلطم عليه، وكان إذا قدم إليه الطعام يرسل منه إلى المملوك الميت، ولا يتجاسر أحد أن يتفوه بأنه ميت، وكانوا يحملون إليه الطعام، ويقولون إنه يقبل الأرض ويقول إنه الآن أصلح مما كان، فأنف أمراؤه من ذلك، وخرج بعضهم عن طاعته، فضعف أمر جلال الدين لذلك، ولكسرته من الأشرف، وتمكنت التتر من البلاد، واستولوا على مراغة، وهو استيلاؤهم الثاني «1» ، ولما تمكن التتر من البلاد سار جلال الدين يريد ديار بكر ليسير إلى الخليفة ويعتضد به وبملوك الأطراف على التتر ويخوفوهم عاقبة أمرهم فنزل بالقرب من آمد، فلم يشعر إلا والتتر قد كبسوه ليلا وخالطوا (218) مخيمه، فهرب جلال الدين وقتل على ما سنشرحه «2» . ولما قتل تمكنت التتر من البلاد، وساقوا إلى الفرات فاضطرب الشام بسبب وصولهم إلى الفرات، ثم شنوا الغارات في ديار بكر والجزيرة وفعلوا من القتل والتخريب كما تقدم، قال النسوي كاتب إنشاء جلال الدين: إن خوارزم شاه محمد بن تكش كان قد عظم شأنه واتسع ملكه، وكان له أربعة أولاد قسم البلاد بينهم أكبرهم جلال الدين منكبرتي، وفوض إليه أمر غزنة، وباميان والغوروبست و [بكراباذ] «3» و [زمنداور] «4» وما يليها من

الهند، وفوض خوارزم وخراسان ومازندران إلى ولده قطب الدين أزلاغ شاه وجعله ولي عهده، ثم في آخر وقت عزله عن ولاية العهد وفوضها إلى جلال الدين، وفوض كرمان وكيش ومكران إلى ولده غياث الدين تيزشاه وقد تقدمت أخباره «1» وفوض العراق إلى ولده [ركن الدين] «2» غور شاه يحيى وكان أحسن أولاده خلقا وخلقا، وقتل المذكور التتر بعد موت أبيه، وضرب لكل واحد منهم النوب الخمس في أوقات الصلوات على عادة الملوك السلجوقية وانفرد أبوهم خوارزم شاه بنوبة ذي القرنين فإنها تضرب وقت طلوع الشمس وغروبها، وكانت دبادبه «3» سبعا وعشرين دبدبة من الذهب مرصعة بالجواهر وكذا باقي آلات النّوبتية وجعل سبعة وعشرين ملكا يضربونها في أول يوم قرعت (219) وكانوا من أكابر الملوك أولاد السلاطين منهم [طغريل] «4» أرسلان السلجوقي و [أولاد] «5» غياث الدين صاحب الغور، والملك علاء الدين صاحب باميان، والملك تاج الدين صاحب بلخ، وولده الملك الأعظم صاحب ترمذ، والملك سنجر صاحب بخارى وأشباههم، وكانت أم خوارزم شاه محمد تركان خاتون من قبائل [بباووت] «6» وهي فرع من فروع يمسك وكانت بنت ملك من ملوكهم، تزوج بها تكش بن أرسلان بن أطسز بن محمد بن أنوش تكين غرشه، فلما صار الملك إلى ولده محمد بن تكش قدم إلى والدته تركان

خاتون قبائل يمسك من الترك فعظم شأن ابنها محمد بهم، وتحكمت أيضا بسببهم تركان خاتون في الملك، فلم يملك ابنها إقليما إلا وأفرد لخاصتها منه ناحية جليلة، وكانت ذات مهابة ورأي، وكانت تنصف المظلوم من الظالم، وكانت جسورة على القتل فعظم شأنها بحيث إذا ورد توقيعات عنها وعن ابنها السلطان ينظر في تاريخهما فيعمل بالأخير منهما، وكانت طرر تواقيعها: عصمة الدنيا والدين الغ تركان خاتون ملكة نساء العالمين، وعلامتها: اعتصمت بالله وحده، وكانت كتبها بقلم غليظ، وتحرر الكتابة. قال المؤلف المذكور: ثم إن خوارزم شاه لما هرب من التتر بما وراء [النهر وعبر] «1» نهر جيحون ثم سار إلى خراسان والتتر تتبعه، ثم هرب من خراسان إلى (220) عراق العجم، ونزل عند بسطام، وأحضر عشرة صناديق ثم قال إنها كلها جواهر لا يعلم قيمتها إلا الله، ثم أشار إلى صندوقين منها، وقال: إن فيها من الجواهر ما يساوي خراج الأرض، ثم حملها إلى قلعة أزدهن وهي [من] «1» أحصن قلاع الأرض، وأخذ خط النائب بها بوصول الصناديق المذكورة مختومة، فلما استولى جنكزخان على تلك البلاد حملت إليه الصناديق المذكورة بختومها، ثم إن التتر أدركوا السلطان محمد المذكور، فركب في مركب وهرب ولحقه التتر ورموه بالنشاب فنجا منهم، وقد حصل له مرض ذات الجنب، قال: ووصل إلى جزيرة في البحر «2» وأقام بها فريدا طريدا لا يملك طارفا ولا تليدا، والمرض به يزداد، وكان في أهل مازندران أناس يتقربون إليه بالمأكول وما

يشتهيه، فقال في بعض الأيام: أشتهي أن يكون حول خيمتي فرس يرعى وقد ضربت له خيمة صغيرة، فأهدي إليه فرس أصفر، وكان للسلطان محمد المذكور ثلاثون ألف جشار من الخيل، وكان إذا أهدي إليه شيء وهو على تلك الحالة من مأكول أو غيره يطلق لذلك الشخص شيئا، ولم يكن عنده من كتب التواقيع فيتولى ذلك الرجل كتابة توقيعه بنفسه، وكان يعطى مثل السكين والمنديل علامة بإطلاق البلاد والأموال، فلما تولى جلال الدين أمضى جميع ما أطلقه والده بالتواقيع والعلائم، ثم أدركت السلطان محمد المنية وهو بالجزيرة (221) على تلك الحالة فغسله شمس بن محمد بلاغ «1» الجاويش ومقرب الدين مقدم الفراشين، ولم يكن عنده ما يكفن فيه فكفن في قميصه ودفن بالجزيرة في سنة سبع عشرة وست مئة بعد أن كان بابه يزدحم بملوك الأرض وعظمائها يستندون بجنابه ويتفاخرون بلثم ترابه، ورقي إلى درجة الملوكية جماعة من مماليكه وحاشيته فصار طشتداره وركبداره وسلحداره وجمداره وغيرهم من أرباب الوظائف كلهم ملوكا، وكان في أعلامهم علامات سود يعرفون بها. فعلامة الدّوادار: الدواة، والسّلحدار: القوس، والطّشتدار المسينة والجمدار: البقجة «2» وأمير آخور «3» البغل «4» ، والجاويشية: قبة ذهب، وكان يمد السماط بين يديه ويأكل الناس، ويرفع من الطعام الذي في صدر المجلس إلى يد الأكابر إذا قعدوا على السماط للأكل، وكانت الزبادي كلها ذهب وفضة، وكان السلطان محمد يختص بأمور لا يشاركه فيها أحد منها: الجتر منشورا على رأسه إذا ركب،

ومنها: الكح كح «1» وهي أنبوبة من الذهب الأحمر بين أذني مركوب السلطان تخرج منها المغرفة وتشد إلى أطراف اللجام، ومنها: الأعلام السذج السود [والسروج السود] «2» والبقج السود محمولة على أكتاف الجمدارية ولا تحمل لغيره على الكتف ومنها: أن جنائبه تجر قدامه وجنائب غيره من الملوك تجر خلفه، (222) ومنها: أن أذناب خيله تلف من أوساطها مقدار شبرين، ومنها: الجلوس على الركبتين بين يديه لمن يريد مخاطبته. قال المؤلف المذكور: ثم سار جلال الدين بعد موت أبيه السلطان محمد من الجزيرة إلى خوارزم، ثم هرب من التتر ولحق بغزنة وجرى بينه وبينهم من القتال ما تقدم ذكره «3» ، وسار إليه جنكز خان فهرب جلال الدين إلى الهند فلحقه جنكز خان على ماء السند، وتصاففا صبيحة يوم الأربعاء لثمان خلون من شوال سنة ثماني عشرة وست مئة، وكانت الكرة أولا على جنكز خان ثم صارت على جلال الدين وحال بينهما الليل وهرب جلال الدين وأسر ابنه وهو ابن سبع سنين فقتله جنكز خان بين يديه صبرا، ولما عاد جلال الدين إلى حافة ماء السند كسيرا رأى والدته وأم ولده وجماعة من حرمه فقالوا له بالله [عليك] «4» اقتلنا وخلّصنا «5» من الأسر فأمر بهن فغرقن وهذه من عجائب البلايا ونوادر المصائب والرزايا، ثم اقتحم جلال الدين وعسكره ذلك النهر العظيم فنجا منهم إلى ذلك البر تقدير

أربعة آلاف حفاة عراة، وأرمى الموج جلال الدين مع ثلاثة من خواصه إلى موضع بعيد وفقده أصحابه ثلاثة أيام وبقي أصحابه لفقده حائرين، وفي تيه الفكر سائرين إلى أن قدم عليهم جلال الدين فاعتدوا بمقدمه عيدا، وظنوا أنهم أنشئوا خلقا جديدا، ثم جرى بين جلال الدين وبين أهل تلك البلاد (223) وقائع انتصر فيها جلال الدين، ووصل إلى لهاوور من الهند، ولما عزم جلال الدين على العود إلى جهة العراق استناب بهلوان أزبك على ما كان يملكه من الهند، واستناب معه حسن قراق ولقبه وفا ملك، وفي سنة سبع وعشرين وست مئة طرد وفا ملك بهلوان أزبك، واستولى وفا ملك على ما كان يليه البهلوان من بلاد الهند. ثم إن جلال الدين عاد من الهند ووصل إلى كرمان في سنة إحدى وعشرين وست مئة وقاسى هو وعسكره في البراري القاطعة بين كرمان والهند شدائد، ووصل معه أربعة آلاف رجل بعضهم ركاب بقر وبعضهم ركاب حمير، ثم سار جلال الدين إلى خوزستان واستولى عليها، ثم استولى على أذربيجان ثم على كنجة وسائر بلاد أرّان، ثم إن جلال الدين نقل أباه من الجزيرة إلى قلعة أزدهن ودفنه بها، ولما استولى التتر على القلعة نبشوه وأحرقوه، وكان هذا فعلهم في كل ملك عرفوا قبره فإنهم نبشوا محمد بن سبكتكين من غزنة وحرقوا عظامه. ثم ذكر نزوله على جسر قريب آمد وإرساله يستنجد الملك الأشرف بن العادل فلم ينجده، وعزم جلال الدين على المسير إلى أصفهان، ثم انثنى عزمه وبات بمنزله وشرب تلك الليلة وسكر سكرا خماره دوار الرأس، وتقطّع الأنفاس، وأحاط التتر بعسكره مصبحين «1» : (الوافر)

(224) فمسّاهم وبسطهم حرير ... وصبّحهم وبسطهم تراب ومن في كفّه منهم قناة ... كمن في كفّه منهم خضاب وأحاطت أطلاب التتر بخركاه جلال الدين وهو نائم سكران، فحمله بعض أمراء عسكره وكان اسمه أرخان، وكشف التتر عن الخركاه ودخل بعض الخواص وأخذ بيد جلال الدين وأخرجه وعليه طاقية بيضاء فأركبه الفرس وساق أرخان مع جلال الدين وتبعه التتر فقال جلال الدين لأرخان: انفرد عني بحيث تشتغل التتر بتتبع سوادك، وكان ذلك خطأ منه، فإن أرخان تبعه قريب أربعة آلاف فارس من العسكر الجلالي وقصد أصفهان واستولى عليها مدة، ولما انفرد جلال الدين عن أرخان وساق إلى باسورة آمد فلم يمكن من الدخول إلى آمد، فسار إلى قرية من قرى ميّافارقين طالبا شهاب الدين غازي بن الملك العادل صاحب ميّافارقين، ثم لحقه التتر في تلك القرية فهرب جلال الدين إلى جبل هناك وفيه أكراد يتخطفون الناس فأخذوه وشلحوه وأرادوا قتله، فقال جلال الدين لأحدهم: أنا السلطان استبقني أجعلك ملكا، فأخذ الكردي وأتى به إلى امرأته وجعله عندها، ومضى الكردي إلى الجبل لإحضار ما له هناك فحضر شخص كردي وبيده حربة، قال للمرأة: لم لا تقتلون هذا الخوارزمي؟ (225) فقالت المرأة: لا سبيل إلى ذلك وقد أمنه زوجي: فقال الكردي إنه السلطان، وقد قتل أخا لي بخلاط خيرا منه وضربه بحربته فقتله «1» . وكان جلال الدين أسمر قصيرا، تركي الشارة والعبارة، وكان يتكلم بالفارسية [أيضا] «2» ، وكان يكاتب الخليفة على مبدأ الأمر على ما يكاتب به

وفي سنة تسع وعشرين وست مئة

أبوه خوارزم شاه محمد بن تكش وكان يكتب خادمه المطواع منكبرتي ثم بعد أخذ أخلاط خاطبه بعبده، وكان يكتب إلى ملك الروم وملوك مصر والشام اسمه واسم أبيه، ولم يرض أن يكتب لأحد منهم خادمه أو [أخاه] «1» أو غير ذلك، وكان علامته على تواقيعه: النصر لله وحده، وكان إذا كاتب صاحب الموصل أو أشباهه يكتب [له] «2» هذه العلامة تعظيما عن ذكر اسمه وكان يكتب العلامة بقلم غليظ، وكان جلال الدين يخاطب بخداوند عالم أي صاحب العالم، وكان مقتله في منتصف شوال هذه السنة، أعني سنة ثمان وعشرين وست مئة، آخر كلام المنشئ. وفي سنة تسع وعشرين وست مئة «13» استولى التتر على بلاد العجم كلها والخليفة المستنصر بالعراق. ثم ارتحل في هذه السنة الملك الأشرف وأخوه الكامل من ديار مصر، فسار الأشرف إلى البلاد الشرقية، وسار الكامل إلى الشّوبك، واحتفل له الملك الناصر داود ابن الملك المعظم عيسى بن العادل (226) أبي بكر بن أيوب احتفالا عظيما بالضيافات والإقامات والتقادم وحصل بينهما الاتحاد التام، وكان نزول الملك الكامل باللّجّون قرب الكرك من العشر الأخير من شعبان هذه السنة، ووصل إليه باللّجّون الملك المظفر محمود صاحب حماة ملتقيا، وسافر الناصر داود مع الكامل إلى دمشق، واستصحب الملك الكامل معه ولده الملك الصالح نجم الدين أيوب، وجعل نائبه بمصر ولده وولي عهده الملك العادل سيف الدين أبا بكر بن الكامل بن العادل بن أيوب، ثم سار الملك الكامل ونزل سلميّة

واجتمع معه ملوك أهل بيته في جمع عظيم فسار بهم إلى آمد وحصرها وتسلمها من صاحبها الملك المسعود بن الملك الصالح محمود بن محمد بن قرا أرسلان بن سقمان بن أرتق بن أكسل، [ومحمد بن قرا أرسلان] «1» المذكور هو الذي ملكه السلطان صلاح الدين آمد بعد انتزاعها من ابن نيسان «2» . وكان سبب انتزاع آمد من الملك المسعود لسوء سيرته وتعرضه إلى حريم الناس، وكانت له عجوز قوادة يقال لها الازاء كانت تؤلف بينه وبين نساء الأكابر ونساء الملوك. ولما نزل الملك المسعود إلى خدمة الملك الكامل وسلم آمد وبلادها إليه- ومن جملة معاملتها حصن كيفا، وهي في غاية الحصانة- أحسن الكامل إلى المسعود وأعطاه إقطاعا جليلا بديار مصر، ثم بدت منه [أمور] «3» اعتقله (227) الملك الكامل بها، ولم يزل الملك المسعود [معتقلا] «4» إلى أن مات الملك الكامل «5» فخرج من الاعتقال واتصل بحماة فأحسن إليه الملك المظفر صاحب حماة، ثم سافر الملك المسعود [إلى] «4» الشرق، واتصل بالتتر فقتلوه «6» . ولما تسلم الكامل آمد وبلادها رتب فيها النواب من جهته، فجعل فيها ولده

وفي سنة ثلاثين وست مئة

الملك الصالح نجم الدين أيوب، وجعل معه شمس الدين صواب العادلي «1» ، وخرجت هذه السنة والملك الكامل بالشرق. ولما خرج الملك الكامل من مصر هذه السنة، خرج صحبته بنتاه فاطمة خاتون زوجة الملك العزيز صاحب حلب «2» وغازية خاتون «3» زوجة الملك المظفر صاحب حماة وحملتا إلى بعليهما واحتفل لدخولهما بحماة وحلب. وفيها، توفي علي بن رسول النائب على اليمن، واستقر مكانه ولده عمر «4» . وفي سنة ثلاثين وست مئة «13» رجع الملك الكامل من البلاد الشرقية بعد ترتيب أمورها، ورجع إلى ديار مصر، ورجع كل ملك إلى بلده. وفيها استولى الملك العزيز محمد بن الظاهر صاحب حلب على شيزر

وكانت بيد شهاب الدين يوسف بن مسعود بن سابق الدين عثمان بن الداية «1» ، وكان سابق الدين وإخوته من أكابر أمراء نور الدين محمود بن زنكي، ثم اعتقل الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين الشهيد لسابق الدين عثمان بن الداية وشمس الدين وأخيه فأنكر السلطان صلاح الدين عليه ذلك، وجعله (228) حجة لقصد الشام وانتزاعه من الملك الصالح، فاتصل أولاد الداية بخدمة صلاح الدين وصاروا من أكابر أمرائه، وكانت شيزر إقطاعا لسابق الدين المذكور فأقره صلاح الدين عليها وزاده أبا قبيس لما قتل صاحبها خماردكين «2» ، ثم ملك شيزر بعده ولده مسعود بن عثمان، حتى مات، وصارت لولده شهاب الدين يوسف المذكور إلى هذه السنة، فسار الملك العزيز صاحب حلب بأمر الملك الكامل وحاصر شيزر، وقدم عليه وهو على شيزر الملك المظفر صاحب حماة مساعدا، فسلم شهاب الدين يوسف شيزر إلى الملك العزيز ونزل إلى خدمته فتسلمها في هذه السنة، وهنأ يحيى بن خالد القيسراني «3» الملك العزيز بقوله «4» : (البسيط) يا مالكا عمّ أهل الأرض نائله ... وخصّ إحسانه الداني مع القاصي لما رأت شيزر آيات نصرك في ... أرجائها ألقت العاصي إلى العاصي ثم ولى الملك العزيز على شيزر، وأحسن إلى الملك المظفر صاحب حماة، ورحل كل منهما إلى بلده.

وفيها استأذن الملك المظفر صاحب حماة الملك الكامل في انتزاع بارين من أخيه الناصر قليج أرسلان لأنه خشي أن يسلمها إلى الفرنج لضعف قليج أرسلان عن مقاومتهم، فأذن له الكامل في ذلك، فسار الملك المظفر من حماة وحاصر بارين وانتزعها من أخيه قليج أرسلان بن المنصور محمد بن تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب، ولما نزل قليج أرسلان (229) إلى أخيه الملك المظفر أحسن إليه وسأله في الإقامة عنده بحماه، فامتنع وسار إلى مصر فبذل له الكامل إقطاعا جليلا، وأطلق له أملاك جده بدمشق، ثم بدا منه ما لا يليق من الكلام، فاعتقله الملك الكامل إلى أن مات قليج أرسلان في الحبس سنة خمس وثلاثين وست مئة «1» قبل موت الكامل بأيام. وفيها توفي مظفر الدين كوكبوري بن زين الدين بن علي بن كوجك «2» وقد تقدم ذكر ملكه إربل بعد موت أخيه زين الدين في سنة ست وثمانين وخمس مئة «3» لما كان في خدمة السلطان صلاح الدين في الجهاد بالساحل فبقي مالكا لها من تلك السنة إلى هذه السنة، ولما مات مظفر الدين المذكور لم يكن له ولد فأوصى بإربل وبلادها للخليفة المستنصر، فتسلمها الخليفة بعد موت مظفر الدين. وكان مظفر الدين شجاعا عسوفا في استخراج أموال الرعية، وكان يحتفل بمولد النبي صلى الله عليه وسلم وينفق فيه الأموال الجليلة. وفي هذه السنة وقع من كيقباذ بن كيخسرو ملك الروم التعرض إلى بلاد أخلاط فرحل الملك الكامل بعساكره من مصر، واجتمعت عليه الملوك من أهل

بيته، ونزل شمالي سلميّة في شهر رمضان هذه السنة، ثم سار بجموعه ونزل على النهر الأزرق «1» في حدود بلد الروم وقد ضرب في عسكره ستة عشر دهليزا لستة عشر ملكا في خدمته منهم إخوته الملك الأشرف موسى صاحب دمشق، والمظفر غازي صاحب (230) ميّافارقين، والحافظ أرسلان شاه صاحب قلعة جعبر، والصالح إسماعيل أولاد الملك العادل، والملك المعظم توران شاه بن السلطان صلاح الدين «2» ، كان قد أرسله ابن أخيه الملك العزيز صاحب حلب مقدما على عسكر حلب إلى خدمة السلطان الملك الكامل، والملك الزاهر داود ابن السلطان صلاح الدين «3» صاحب البيرة، وأخوه الملك [المفضل] «4» موسى صاحب سميصات، وكان قد ملك سميصات بعد أخيه الملك الأفضل علي، والملك المظفر محمود بن الملك المنصور صاحب حماة، والملك الصالح أحمد بن الظاهر صاحب عين تاب، والملك الناصر داود صاحب الكرك بن الملك المعظم عيسى بن العادل، والملك المجاهد شير كوه صاحب حمص ابن محمد بن شير كوه وكان قد حفظ كيقباذ ملك الروم الدربندات وشحنها بالمقاتلة فلم يتمكن السلطان من دخول بلاد الروم من جهة النهر الأزرق، وأرسل بعض العسكر إلى حصن منصور، وهو من بلاد كيقباذ فهدموه، ورحل السلطان وقطع الفرات إلى السويداء وقدم جاليشه تقدير ألفي وخمس مئة فارس مع الملك المظفر صاحب

سنة إحدى وثلاثين وست مئة إلى سنة أربعين وست مئة

حماة، فسار المظفر بهم إلى خرتبرت «1» ، وسار كيقباذ إليهم واقتتلوا فانهزم العسكر الكاملي وانحصر المظفر في خرتبرت مع جملة من العسكر، وجدّ كيقباذ في حصارهم والملك الكامل في السويداء وقد أحسّ من الملوك الذين في خدمته بالمخامرة (231) والتقاعد، فإن شيركوه صاحب حمص سعى إليهم، وقال: إن السلطان ذكر أنه متى ملك البلاد الرومية فرقها على ملوك أهل بيته عوضا عما بأيديهم من الشام، ويأخذ الشام جميعه وينفرد بملكه وملك مصر، فتقاعدوا عن القتال، وفسدت نياتهم وعلم الملك الكامل بذلك فما أمكنه التحرك إلى قتال كيقباذ، فنزل إليه الملك المظفر فأكرمه كيقباذ وخلع عليه وتسلم كيقباذ خرت برت من صاحبها وكان من الأرتقية قرايب أصحاب ماردين، وكان قد دخل في طاعة الملك الكامل، وصارت خرت برت من بلاد كيقباذ، وكان نزول المظفر صاحب حماة من خرت برت يوم الأحد لسبع بقين من ذي الحجة «2» من هذه السنة، ووصل بمن معه إلى الملك الكامل وهو بالسويداء من بلاد آمد، ففرح به وقوّى نفرة الملك الكامل يومئذ من الناصر داود صاحب الكرك فألزمه بطلاق بنته «3» ، فطلقها الناصر داود، وأثبت الملك الكامل طلاقها منه. سنة إحدى وثلاثين وست مئة إلى سنة أربعين وست مئة في سنة إحدى وثلاثين وست مئة «13» استتمّ بناء قلعة المعرة، وكان قد أشار سيف الدين علي بن أبي علي

[ثم دخلت سنة اثنتين وثلاثين وست مئة]

الهذباني على المظفّر صاحب حماة ببنائها فبناها وتمت (232) الآن، فشحنها بالرجال والسلاح ولم يكن ذلك من مصلحة، فإن الحلبيين حاصروها فيما بعد وأخذوها، وخربت المعرة بسببها. [ثم دخلت سنة اثنتين وثلاثين وست مئة «13» ] «1» وكان الملك الكامل بالبلاد الشرقية، و [قد انثنى عزمه] «2» عن قصد بلاد الروم للتخاذل الذي حصل في عسكره، ثم رحل إلى مصر، وعاد كل واحد من الملوك إلى بلده. وفيها، توفي الملك الزاهر داود بن السلطان صلاح الدين «3» صاحب البيرة، وكان قد مرض في العسكر الكاملي فحمل إلى البيرة مريضا فتوفي بها، وملك البيرة بعده ابن أخيه الملك العزيز صاحب حلب، وكان الزاهر شقيق الظاهر صاحب حلب. ولما سارت الملوك إلى بلادهم من خدمة الملك الكامل وصل المظفّر صاحب حماة إلى حماة ودخلها لخمس بقين من ربيع الأول هذه السنة، واتفق مولد ولده الملك المنصور محمد «4» بعد مقدمه بيومين في الساعة الخامسة من يوم الخميس لليلتين بقيتا من ربيع الأول هذه السنة، فتضاعف السرور بقدوم الوالد

وفي سنة ثلاث وثلاثين وست مئة

والولد، وقال الشيخ شرف الدين عبد العزيز بن محمد قصيدة طويلة، فمنها: (الطويل) غدا الملك محروس الذّرا والقواعد ... بأشرف مولود لأشرف والد حيينا به يوم الخميس كأنّه ... خميس بدا للناس في شخص واحد وسميته باسم النبيّ محمد ... وجدّيه فاستوفى جميع المحامد أي وباسم جدّيه الملك الكامل والد والدته والملك المنصور صاحب حماة (233) والد والده، ومنها: كأني به في سدّة الملك جالسا ... وقد ساد في أوصافه كلّ سائد ووافاك من أبنائه وبنيهم ... بأنجم سعد نورها غير خامد ألا أيها الملك المظفّر دعوتي ... ستوري بها زندي ويشتدّ ساعدي هنيئا لك الملك الذي بقدومه ... ترحّل عنا كلّ همّ [معاود] «1» وفيها، قصد كيقباذ ملك الروم حران والرّها وحاصرهما واستولى عليهما، وكانا للسلطان الملك الكامل. وفي سنة ثلاث وثلاثين وست مئة «13» سار الناصر داود من الكرك إلى بغداد ملتجئا إلى الخليفة المستنصر لما حصل عنده من الخوف من عمه الكامل، وقدّم إلى الخليفة تحفا عظيمة وجواهر نفيسة، فأكرمه الخليفة المستنصر وخلع عليه وعلى أصحابه، وكان الناصر داود ينتظر أن الخليفة يستحضره في ملأ من الناس كما استحضر مظفر الدين صاحب إربل فلم يحصل له ذلك، وألح في طلب ذلك من الخليفة فلم يجبه، فعمل الناصر

المذكور قصيدة يمدح المستنصر بالله فيها، ويعرّض بصاحب إربل واستحضاره، ويطلب الأسوة به، وهي طويلة فمنها «1» : (الطويل) فأنت الإمام العدل والمعرق «2» الذي ... به شرفت أنسابه ومناصبه جمعت شتيت المجد بعد افتراقه ... وفرّقت جمع المال فانهال كائبه «3» (234) ألا يا أمير المؤمنين ومن غدت ... على كاهل الجوزاء تعلو مراتبه أيحسن في شرع المعالي ودينها ... وأنت الذي تعزى إليك مذاهبه بأني أخوض الدوّ «4» والدوّ مقفر ... سآريبه مغبرة وسباسبه «5» وقد رصد الأعداء لي كلّ مرصد ... فكلّهم نحوي تدبّ عقاربه وتسمح لي بالمال والجاه بغيتي ... وما المال «6» إلا بعض ما أنت واهبه ويأتيك غيري من بلاد قريبة ... له الأمن فيها صاحب لا يجانبه فيلقى دنوا منك لم ألق مثله ... ويحظى وما أحظى بما أنا طالبه وينظر من لألاء قدسك نظرة ... فيرجع والنور الإماميّ صاحبه ولو كان يعلوني بنفس ورتبة ... وصدق ولاء لست فيه أصاقبه لكنت أسلّي النفس عما أرومه ... وكنت أذود العين عمّا تراقبه ولكنّه مثلي ولو قلت إنني ... أزيد عليه لم يعب ذاك عائبه وما أنا ممّن يملأ المال عينه ... ولا بسوى التقريب تقضى مآربه

وفي سنة أربع وثلاثين وست مئة

وكان الخليفة متوقفا في استحضار الناصر داود رعاية لخاطر الملك الكامل فجمع بين المصلحتين، واستحضره ليلا وعاد الناصر إلى الكرك. وفيها، سار الملك الكامل من مصر إلى البلاد الشرقية واسترجع حران والرّها من يد كيقباذ ملك الروم، وأمسك أجناد كيقباذ ونوابه الذين كانوا [بهما] «1» [فقيدهم] «2» وأرسلهم إلى مصر فلم يستحسن ذلك منه، ثم عاد إلى أخيه الأشرف (235) بدمشق فأقام عنده حتى خرجت السنة، وعاد الملك الكامل إلى الديار المصرية في أوائل سنة أربع (وثلاثين وست مئة) . وفي سنة أربع وثلاثين وست مئة «13» خرج [الملك العزيز محمد بن الملك الظاهر] «3» بن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب إلى الصيد ورمي البندق، واغتسل بالماء البارد فحمّ ودخل إلى حلب وقد قويت به الحمّى واشتد مرضه، وتوفي في ربيع الأول هذه السنة، و [كان] «4» ، عمره ثلاثا وعشرين سنة وشهورا «5» ، وكان حسن السيرة في رعيته، ولما توفي تقرر في الملك بعده ولده الملك الناصر يوسف بن العزيز محمد وعمره سبع سنين، وقام بتدبير الدولة شمس الدين لؤلؤ الأرمني «6» وعز الدين

عمر بن مجلّي، وجمال الدين إقبال الخاتوني «1» والمرجع في الأمور إلى والدة الملك العزيز ضيفة خاتون بنت الملك العادل. وفيها، توفي علاء الدين كيقباذ بن كيخسرو صاحب الروم «2» ، وملك بعده ابنه غياث الدين كيخسرو بن كيقباذ بن كيخسرو بن قليج أرسلان بن يبغو بن سلجوق «3» . وفيها، قويت الوحشة بين الملك الكامل وبين أخيه الملك الأشرف، وكان ابتداؤها ما فعله شير كوه صاحب حمص لما قصد الملك الكامل بلاد الروم «4» فاتفق الملك الأشرف مع أخته ضيفة خاتون صاحبة حلب ومع باقي الملوك على خلاف الكامل خلا المظفّر صاحب حماة، فلما امتنع تهدده الملك الأشرف بقصد بلاده وانتزاعها منه، فقدم خوفا من ذلك إلى دمشق، وحلف (236) للملك الأشرف ووافقه على قتال أخيه الكامل، فكاتب الأشرف كيخسرو صاحب بلاد الروم واتفق معه على قتال أخيه الكامل إن خرج من مصر، وأرسل الملك الأشرف يقول للناصر داود صاحب الكرك: إنك إن وافقتني جعلتك ولي عهدي وزوجتك بابنتي، فلم يوافقه الناصر على ذلك لسوء حظه، ورحل إلى الديار المصرية إلى خدمة الكامل وصار معه على ملوك الشام، فسرّ به الملك الكامل وجدد عقده على ابنته عاشوراء التي طلقها منه «4» ، وأركب الملك الناصر داود بسناجق السلطنة، ووعده أن ينتزع دمشق من أخيه الأشرف ويعطيه

إياها، وأمر الملك الكامل ولده الملك العادل وأمراء مصر بحمل الغاشية بين يدي الناصر داود وبالغ في إكرامه. وفيها، توجه عسكر حلب مع الملك المعظم توران شاه عم الملك العزيز فحاصروا بغراس «1» وكان قد عمرها الداوية بعد ما فتحها صلاح الدين وخربها العزيز، وأشرف عسكر حلب على أخذها، ثم رحلوا عنها بسبب الهدنة مع صاحب أنطاكية «2» ، ثم إن الفرنج أغاروا على ربض دربساك «3» وهي حينئذ لصاحب حلب، فوقع بهم عسكر حلب مع المعظم توران شاه، فولى الفرنج منهزمين وكثر فيهم القتل والأسر وعاد عسكر حلب بالأسرى ورؤوس الفرنج، وكانت هذه الوقعة من أجلّ الوقائع. وفيها استخدم الملك الصالح أيوب بن الملك الكامل (237) وهو بالبلاد الشرقية وهي آمد وحصن كيفا وحران وغيرها نائبا عن أبيه الخوارزمية عسكر جلال الدين منكبرتي، فإنه بعد قتل جلال الدين ساروا إلى كيقباذ ملك الروم وخدموا عنده مدة مقدّمين مثل بركة خان «4» وكشلو خان «5» وصاروخان

وفي سنة خمس وثلاثين وست مئة

وفرخان وبردي خان، فلما مات كيقباذ وتولى ابنه كيخسرو قبض على بركة خان وهو أكبر مقدميهم، ففارقت الخوارزمية حينئذ خدمته وساروا عن الروم ونهبوا ما كان في طريقهم، واستمالهم الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل واستأذن أباه في استخدامهم فأذن له واستخدمهم. وفي سنة خمس وثلاثين وست مئة «13» استحكمت الوحشة بين الأخوين الكامل والأشرف، وقد لحق الملك الأشرف الذّرب «1» وضعف بسببه، وعهد بالملك إلى أخيه الملك الصالح إسماعيل بن العادل صاحب بصرى، ثم توفي في المحرم هذه السنة «2» . وهو الملك الأشرف مظفر الدين موسى بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب، وتملك دمشق بعده أخوه الصالح بعهد منه وكان مدة ملك الأشرف دمشق ثماني سنين وشهورا وعمره نحو ستين سنة، وكان مفرط السخاء يطلق الأموال الكثيرة الجليلة، وكان ميمون النقيبة لم تنهزم له راية، وكان سعيدا وتتفق له أشياء خارقة للعقل، وكان حسن العقيدة وبنى بدمشق قصورا ومتنزهات حسنة، وكان منهمكا في اللذات وسماع الأغاني، فلما (238) مرض أقلع عن ذلك وأقبل على الاستغفار إلى أن توفي ودفن بتربته شمالي الجامع «3» ، ولم يخلف من الأولاد إلا بنتا واحدة تزوجها الملك الجواد يونس بن مودود بن الملك العادل «4» ، وكان سبب الوحشة بينه وبين أخيه الكامل بعد ما كان بينهما من

المصافاة أن الملك الأشرف لم يبق بيده غير دمشق وبلادها وكانت لا تفي بما يحتاجه وما يبذله وقت قدوم أخيه الملك الكامل دمشق، وأيضا لما فتح الملك الكامل آمد وبلادها لم يزده منها شيئا، وأيضا بلغه أن الملك الكامل يريد أن ينفرد بمصر والشام وينتزع دمشق منه فتغير بسبب ذلك. ولما استقر الملك الصالح إسماعيل في ملك دمشق كتب إلى الملوك من أهله وإلى كيخسرو صاحب الروم في اتفاقهم معه على أخيه الكامل، فوافقوه على ذلك إلا المظفّر صاحب حماة، وأرسل الملك المظفّر رسولا إلى الملك الكامل يعرفه انتماءه إليه، وأنه إنما وافق الأشرف خوفا منه، فقبل الملك الكامل عذره وتحقق صدقه ووعده بانتزاع سلميّة من شير كوه صاحب حمص وتسليمها إليه، ولما بلغ الملك الكامل وفاة أخيه الأشرف توجه إلى دمشق ومعه الناصر داود صاحب الكرك وهو لا يشك في أن الملك الكامل يسلم إليه دمشق لما كان تقرر بينهما، وأما الملك الصالح إسماعيل فإنه استعد للحصار ووصلت إليه نجدة الحلبيين وصاحب حمص ونازل الملك الكامل دمشق، (239) وخرج الصالح بالنفّاطين فأحرق العقيبة بما بها من خانات وأسواق، وفي مدة الحصار وصل من عند صاحب حمص رجّالة يزيدون عن خمسين راجلا نجدة للصالح إسماعيل فظفر بهم الملك الكامل فشنقهم بين البساتين عن آخرهم، وحال نزول الملك الكامل على دمشق أرسل توقيعا للملك المظفّر صاحب حماة بسلميّة فتسلمها الملك المظفّر واستقرت نوابه بها، وكان نزول الملك الكامل على دمشق في جمادى الأولى هذه السنة في قوة الشتاء، ثم سلم الصالح إسماعيل دمشق إلى أخيه

الملك الكامل وتعوض عنها بعلبك والبقاع مضافا إلى بصرى، وكان قد ورد من الخليفة المستنصر محيي الدين يوسف ابن جمال الدين بن الجوزي «1» للتوفيق بين الملوك، فتسلم الملك الكامل دمشق لإحدى عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى، وكان الملك الكامل شديد الحنق على شير كوه صاحب حمص فأمر العسكر فبرزوا لقصد حمص، وأرسل إلى صاحب حماة وأمره بالمسير إليها، فبرز الملك المظفّر من حماة ونزل على الرّستن، واشتد خوف شير كوه صاحب حمص، وتخضع للملك الكامل وأرسل نساءه إليه، ودخلن على الملك الكامل فلم يلتفت إلى ذلك، ثم بعد استمرار الملك الكامل في دمشق لم يلبث إلا [أياما] «2» حتى مرض واشتد مرضه، وكان سببه أنه لما دخل قلعة دمشق أصابه زكام ودخل الحمام وسكب عليه ماء شديد الحرارة فاندفعت النزلة إلى معدته (240) وتورمت منها، وحصلت له حمى فنهاه الأطباء عن القيء وخوفوه منه فلم يقبل وتقيّأ فمات لوقته وعمره نحو ستين سنة، وكانت وفاته لتسع بقين من رجب من سنة خمس وثلاثين وست مئة «3» وكان بين موته وموت أخيه الأشرف ستة أشهر، وكانت مدة ملكه لمصر من حين مات أبوه عشرين سنة، وكان نائبا بها قبل ذلك عشرين سنة فتحكّم في مصر نائبا وملكا أربعين سنة، وأشبه حاله حال معاوية بن أبي سفيان أنه تحكم في الشام نائبا نحو عشرين سنة وملكا نحو عشرين سنة.

وكان الملك الكامل ملكا جليلا مهيبا حازما، حسن التدبير، أمنت الطرق في أيامه وكان يباشر تدبير المملكة بنفسه، واستوزر في أول ملكه وزير أبيه صفي الدين بن شكر فلما مات ابن شكر لم يستوزر أحدا بعده، وكان يخرج الكامل بنفسه فينظر في أمور الجسور عند زيادة النيل وإصلاحها، فعمرت في أيامه ديار مصر أتم العمارة، وكان محبا للعلماء ومجالستهم، وكان عنده مسائل غريبة في الفقه والنحو يمتحن بها الفضلاء إذا حضروا في خدمته، وكان كثير السماع للأحاديث النبوية تقدم عنده بسببها الشيخ عمر بن دحية «1» ، وبنى له دار الحديث بين القصرين في الجانب الغربي، وكانت سوق الآداب والعلوم عنده نافقة، رحمه الله تعالى، وكان أولاد الشيخ صدر الدين بن حمّوية «2» من أكابر أمراء دولته وهم: الأمير فخر الدين بن الشيخ وإخوته (241) عماد الدين «3» وكمال الدين «4» ومعين الدين «5» أولاد الشيخ المذكور، وكان كل من أولاد الشيخ المذكورين حاز فضلي السيف والقلم، يباشرون التدريس، ويتقدمون على الجيوش، ولما مات الكامل بدمشق كان معه بها الناصر داود صاحب الكرك فاتفقت آراء الأمراء على تحليف العسكر للملك العادل أبي بكر بن الملك

[الكامل] «1» وهو حينئذ نائب أبيه بمصر فحلف له جميع العسكر وأقاموا في دمشق الملك الجواد يونس بن ممدود بن الملك العادل أبي بكر أيوب نائبا عن العادل أبي بكر بن الكامل، وتقدمت الأمراء إلى الناصر داود صاحب الكرك بالرحيل عن دمشق وتهددوه إن أقام فرحل إلى الكرك وتفرقت العساكر، فسار أكثرهم إلى مصر وتأخر مع الجواد يونس بعضهم ومقدمهم عماد الدين بن الشيخ وتبقى يباشر الأمور مع الملك الجواد. ولما بلغ شير كوه صاحب حمص وفاة الملك الكامل فرح فرحا عظيما [وأتاه فرج] «2» ما كان يطمع نفسه به وأظهر [سرورا عظيما و] «2» لعب الكرة خلاف العادة وهو في عشر السبعين. وأما المظفّر صاحب حماة فإنه حزن لذلك ورحل من الرّستن إلى حماة فأقام فيها العزاء، وأرسل شير كوه حينئذ ارتجع سلميّة من نواب الملك المظفّر، وقطع القناة الواصلة من سلميّة إلى حماة فيبست بساتينها، ثم عزم على قطع نهر العاصي عن حماة فسدّ مخرجه من بحيرة قدس التي بظاهر حمص، فبطلت نواعير حماة وطواحينها، وذهب ماء العاصي في [واد] «3» (242) إلى جانب البحيرة ثم لما لم يجد الماء له مسلكا عاد فهدم ما كان قد عمله صاحب حمص وجرى كما كان [أولا] «2» ، وكذلك كان قد حصل لصاحب حلب ولعسكرها الخوف من الملك الكامل فلما بلغهم موته فرحوا، ولما بلغ الحلبيين موت الكامل اتفقت آراؤهم على أخذ المعرة [ثم أخذ حماة من الملك المظفر صاحب حماة

لموافقته الملك الكامل على قصدهم ووصل عسكر حلب إلى المعرة] «1» وانتزعوها من يد المظفّر، وحاصروا قلعتها وملكوها، وخرجت المعرة حينئذ عن المظفّر صاحب حماة، ثم سار عسكر حلب ومقدمهم المعظم توران شاه بن صلاح الدين إلى حماة بعد استيلائهم على المعرة ونازلوا حماة وبها صاحبها الملك المظفّر، ونهب الحلبيون بلاد حماة، واستمر الحصار على حماة حتى خرجت هذه السنة. وفيها، عقد سلطان الروم غياث الدين كيخسرو بن كيقباذ العقد على غازية خاتون بنت الملك العزيز محمد صاحب حلب، وهي صغيرة حينئذ، تولى القبول عن ملك بلاد الروم قاضي دوقات ثم عقد الملك الناصر يوسف بن الملك العزيز صاحب حلب العقد على أخت كيخسرو ملكة خاتون بنت كيقباذ وأم ملكة خاتون المذكورة بنت الملك العادل أبي بكر بن أيوب كان قد زوجها المعظم عيسى صاحب دمشق كيقباذ المذكور، وخطب لغياث الدين كيخسرو بحلب. وفيها، خرجت الخوارزمية عن طاعة الملك الصالح أيوب بعد موت أبيه الكامل ونهبوا البلاد. وفيها، سار لؤلؤ صاحب الموصل وحاصر الملك الصالح بسنجار، فأرسل الصالح استرضى الخوارزمية وبذل لهم حران والرّها (243) فعادوا إلى طاعته، واتقع مع بدر الدين لؤلؤ فانهزم بدر الدين وعسكره هزيمة قبيحة، وغنم عسكر الملك الصالح منهم شيئا كثيرا. وفيها جرى بين الناصر داود صاحب الكرك وبين الملك الجواد يونس المستولي

وفي سنة ست وثلاثين وست مئة

عل دمشق مصافّ بين جينين ونابلس، فانتصر الملك الجواد وانهزم الناصر داود هزيمة قبيحة، وقوي الملك الجواد بسبب هذه الوقعة، وتمكن من دمشق، ونهب عسكر الناصر داود وأثقاله. وفي هذه السنة ولد [والدي] «1» الملك الأفضل نور الدين علي بن المظفّر «2» صاحب حماة «3» . وفي سنة ست وثلاثين وست مئة «13» رحل عسكر حلب المحاصر لحماة بعد مولد الملك الأفضل، وكان قد طالت مدة الحصار وضجروا، فتقدمت إليهم ضيفة خاتون صاحبة حلب بنت الملك العادل بالرحيل عنها، فرحلوا وضاق الأمر على الملك المظفّر في هذا الحصار، وأنفق فيه أموالا كثيرة، واستمرت المعرة في يد الحلبيين [وسلميّة في يد صاحب حمص] «4» ، ولم يبق بيد المظفّر غير حماة وبعرين، ولما جرى ذلك خاف الملك المظفّر أن تخرج بعرين بسبب قلعتها فتقدم بهدمها فهدمت إلى الأرض في هذه السنة. وفي جمادى الأولى «5» منها، استولى الملك الصالح أيوب بن الملك الكامل

على دمشق وأعمالها بتسليم الملك الجواد يونس وأخذ العوض عنها سنجار والرقّة وعانة، وكان سبب ذلك أن الملك العادل بن الملك الكامل صاحب مصر لما علم باستيلاء الجواد على (244) دمشق أرسل إليه عماد الدين بن الشيخ لينتزع دمشق منه وأن يعوض عنها إقطاعا بمصر فمال الملك الجواد إلى تسليمها إلى الملك الصالح حسبما ذكرناه وجهز على عماد الدين بن الشيخ من وقف له بقصة، فلما أخذها عماد الدين منه ضربه بسكين فقتله «1» ، ولما وصل الصالح أيوب إلى دمشق وصل معه المظفّر صاحب حماة معاضدا له، وكان قد لاقاه في أثناء الطريق واستقر الصالح أيوب في ملك دمشق وسار الجواد يونس إلى البلاد الشرقية المذكورة فتسلمها، ولما استقر ملك الصالح بدمشق وردت إليه كتب المصريين يستدعونه إلى مصر ليملكها، وسأله المظفّر في منازلة حمص وأخذها من شير كوه فبرز إلى الثنية وكانت قد نازلت الخوارزمية وصاحب حماة وحمص، فأرسل شيركوه مالا كثيرا وفرقه في الخوارزمية فرحلوا عنه إلى البلاد الشرقية، ورحل صاحب حماة إلى حماة، ثم كرّ الملك الصالح عائدا إلى دمشق قاصدا مصر، وسار من دمشق إلى خربة اللصوص فعيد بها عيد رمضان، ووصل إليه بعض عسكر مصر مقفزين، ولما خرج الصالح من دمشق جعل نائبه ولده الملك المغيث فتح الدين عمر «2» ، وشرع الملك الصالح (أيوب) يكاتب عمه الصالح إسماعيل [صاحب بعلبك] «3» ويستدعيه إليه وعمه المذكور يتحجج ويعتذر عن الحضور، ويظهر له أنه معه وهو يعمل في الباطن على ملك دمشق وأخذها من الصالح أيوب، وكان الناصر داود صاحب الكرك قد سافر إلى مصر

وفي صفر سنة سبع وثلاثين وست مئة

واتفق مع (245) الملك العادل بن الكامل على قتال الصالح أيوب، ووصل أيضا في هذه السنة محيي الدين بن الجوزي رسول الخليفة ليصلح بين الأخوين العادل صاحب مصر والصالح أيوب المستولي على دمشق، وهذا محيي الدين هو الذي ورد ليصلح بين الكامل والأشرف فاتفق أنه مات في حضوره في سنة أربع وثلاثين وخمس وثلاثين أربعة من السلاطين العظماء وهم: الملك الكامل صاحب مصر، وأخوه الأشرف صاحب دمشق، والعزيز صاحب حلب، وكيقباذ صاحب الروم، فقال في ذلك ابن المسجف «1» أحد شعراء دمشق: (الخفيف) يا إمام الهدى أبا جعفر المن ... صور يا من له الفخار الأثيل ما جرى من رسولك الآن محيي ال ... دين في هذه البلاد قليل جاء والأرض بالسلاطين تزهى ... وغدا والديار منهم طلول أقفر الروم والشآم ومصر ... أفهذا مغسّل أم رسول؟ وفي صفر سنة سبع وثلاثين وست مئة «13» سار الصالح إسماعيل صاحب بعلبك ومعه الملك المجاهد صاحب حمص بجموعهما وهجموا دمشق وحصروا القلعة، وتسلمها الصالح إسماعيل وقبض على المغيث فتح الدين عمر بن الصالح أيوب وكان الصالح أيوب بنابلس بقصد الاستيلاء على مصر، وكان قد بلغه سعي عمه إسماعيل في الباطن وكان للصالح أيوب طبيب (246) يثق به يقال له الحكيم سعد الدين الدمشقي فأرسله الصالح أيوب إلى بعلبك ومعه قفص من حمام نابلس ليطالعه بأخبار

الصالح إسماعيل، وحال وصول الحكيم المذكور علم به الصالح إسماعيل صاحب بعلبك، فاستحضره وأكرمه وسرق الحمام الذي لنابلس وجعل موضعها حمام بعلبك، ولم يشعر الطبيب بذلك فصار الطبيب المذكور يكتب أن عمك إسماعيل قد جمع وهو في نية قصد دمشق ويبطّق فيقعد الطائر ببعلبك فيأخذ الصالح إسماعيل البطاقة ويزور على الحكيم أن عمك إسماعيل قد جمع ليعاضدك وهو واصل إليك ويسرحه مع حمام نابلس فيعتمد الصالح [أيوب] «1» على ذلك الأمر من بطائق الحمام ويترك ما يرد غيره من الأخبار، واتفق أيضا أن المظفّر صاحب حماة علم بسعي الملك الصالح إسماعيل صاحب بعلبك في أخذ دمشق مع خلوها ممن يحفظها فجهز نائبه سيف الدين علي بن أبي علي ومعه جماعة من عسكر حماة وغيرهم، وجهز معه من السلاح والمال شيئا كثيرا ليصل إلى دمشق ويحفظها لصاحبها، وأظهر الملك المظفّر وابن أبي علي أنهما اختصما وأن ابن أبي علي قد غضب فاجتمع معه هذه الجماعة وقد قصدوا فراق صاحب حماة لأنه يريد أن يسلم حماة إلى الفرنج، كل ذلك خوفا من شير كوه صاحب حمص لئلا يقصد ابن أبي علي ويمنعه فلم تخف عن شير كوه هذه الحيلة، ولما وصل ابن أبي علي إلى بحيرة حمص [قصده] «2» شير كوه وذكر أنه مصدقه فيما قال (247) وسأله الدخول إلى حمص ليضيفه فأخذ ابن أبي علي معه وأرسل من استدعى باقي أصحاب ابن أبي علي إلى الضيافة، فمنهم من سمع ودخل حمص، ومنهم من هرب فسلم، ولما حصلوا عنده بحمص قبض على ابن أبي علي وعلى جميع من دخل حمص من الحمويين واستولى على جميع ما كان معهم من السلاح والمال وبقي يعذبهم

ويطلب منهم أموالا حتى استصفاها ومات ابن أبي علي «1» وغيره في حبس شير كوه بحمص، والذي بقي إلى بعد موت شير كوه خلص، ولما جرى ذلك ضعف الملك المظفّر صاحب حماة [ضعفا كثيرا] «2» . وأما الصالح أيوب فلما بلغه قصد عمه إسماعيل دمشق رحل من نابلس إلى الغور فبلغه استيلاء عمه على قلعة دمشق واعتقال ولده المغيث عمر ففسدت نيات عساكره عليه، وشرعت الأمراء ومن معه يحركون نعاراتهم ويرحلون مفارقين الصالح أيوب إلى الصالح إسماعيل بدمشق، فلم يبق عند الصالح أيوب بالغور غير مماليكه وأستاذ داره حسام الدين بن أبي علي، وأصبح الصالح أيوب لا يدري ما يفعل ولا له موضع يقصده، فقصد نابلس ونزل بها بمن بقي معه، وسمع الناصر داود بذلك وكان قد نزل من مصر إلى الكرك فنزل بعسكره وأمسك الملك الصالح أيوب وأرسله إلى الكرك واعتقله بها، وأمر بالقيام في خدمته وكل ما يختاره، ولما اعتقل الصالح أيوب بالكرك تفرق عنه باقي أصحابه ومماليكه، ولم يبق معه منهم غير عدة يسيرة. ولما جرى ذلك أرسل (248) العادل أبو بكر صاحب مصر يطلب الصالح أيوب من الناصر داود فلم يسلمه الناصر داود، فأرسل العادل يهدد الناصر داود بأخذ بلاده فلم يلتفت إلى ذلك، ثم إن الناصر داود بعد ذلك قصد القدس وكان الفرنج قد أعمروا قلعتها بعد موت الملك الكامل فحاصرها وفتحها وخرب القلعة. وفيها توفي الملك المجاهد شير كوه بن محمد بن شير كوه بن شاذي «3»

وكانت مدة مملكته بحمص نحو ست وخمسين سنة لأن صلاح الدين ملكه حمص سنة إحدى وثمانين وخمس مئة بعد موت أبيه ناصر الدين محمد بن شير كوه وكان عمره يومئذ اثنتي عشرة سنة، وكان شير كوه المذكور عسوفا لرعيته، وملك حمص بعده ولده المنصور إبراهيم «1» . وفيها، استولى بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل على سنجار وأخذها من الملك الجواد يونس بن مودود بن الملك العادل بن أيوب. وفي أواخر رمضان أفرج الملك الناصر داود صاحب الكرك عن ابن عمه الملك الصالح أيوب واجتمعت عليه مماليكه، وكاتبه البهاء زهير، وسار الناصر داود وصحبته الصالح أيوب إلى قبة الصخرة وتحالفا بها على أن تكون ديار مصر للصالح ودمشق والديار الشرقية للناصر داود، فلما تملك الصالح لم يف للناصر بذلك، وكان يتأول في يمينه أنه كان مكرها، ثم سار إلى غزة فلما بلغ العادل صاحب مصر ظهور أمر أخيه الصالح عظم عليه (249) وعلى والدته ذلك، وبرز بعسكر مصر إلى بلبيس لقصد الناصر داود والصالح أخيه، وأرسل إلى عمه الصالح إسماعيل المستولي على دمشق أن يبرز ويقصدهما من جهة الشام وأن يستأصلهما، فسار الصالح إسماعيل بعساكر دمشق ونزل الفوّار فبينا الناصر داود والصالح في هذه الشدة بين عسكرين قد [أحاطا] «2» بهما إذ ركبت جماعة من المماليك الأشرفية «3» ومقدمهم أيبك الأسمر «4» وأحاطوا بدهليز

الملك العادل أبي بكر بن الكامل وقبضوا عليه وجعلوه في خيمة صغيرة ووكلوا عليه من يحفظه، وأرسلوا إلى الصالح أيوب يستدعونه فأتاه فرج لم يسمع بمثله، وفي ذلك «1» يقول شيخ الشيوخ الحموي من أبيات: (البسيط) فإن بعثنا فعقبى دعوة سبقت ... ونحن في حاجم ضنك الأساليب يا كاشف الضرّ عن أيوب حين دعا ... قد مسّنا الضرّ فاكشفه بأيوب وسار الملك الصالح أيوب والملك الناصر داود إلى مصر، وبقي الملك الصالح كل يوم يلتقي فوجا بعد فوج من الأمراء والعسكر، وكان القبض على الملك العادل ليلة الجمعة ثامن ذي القعدة هذه السنة، فكانت مدة ملكه نحو سنتين، ودخل الملك الصالح أيوب إلى قلعة الجبل بكرة الأحد لست بقين من الشهر المذكور، وزينت له البلاد وفرح الناس بمقدمه، وحصل للمظفر صاحب حماة من السرور والفرح بملك الملك الصالح مصر (250) ما لا يمكن شرحه، فإنه ما زال على ولائه حتى إنه لما أمسك بالكرك كان يخطب له بحماة وبلادها. ولما استقر الملك الصالح أيوب في ملك مصر وعنده الناصر داود حصل عند كل واحد منهما استشعار من صاحبه، وخاف الناصر داود أن يقبض عليه، فطلب دستورا وتوجه إلى الكرك. وفي هذه السنة، توفي ناصر الدين أرتق أرسلان بن إيلغازي بن ألبي بن تمرتاش ابن إلغازي بن أرتق صاحب ماردين «2» وكان يلقب بالملك المنصور، وملك المذكور ماردين بعد أخيه حسام الدين يولق أرسلان حسبما تقدم ذكره في سنة ثمانين وخمس مئة «3» ، وبقي أرتق أرسلان متغلبا عليه ألبقش مملوك

وفي سنة ثمان وثلاثين وست مئة

والده حتى قتله أرتق أرسلان في سنة إحدى وست مئة واستقل بملك ماردين حتى توفي في هذه السنة. ولما مات الملك المنصور أرتق أرسلان ملك بعده ابنه الملك السعيد نجم الدين غازي حتى توفي في سنة ثلاث وخمسين وست مئة ظنا «1» . ثم ملك بعده في السنة المذكورة ابنه الملك المظفّر قرا أرسلان بن غازي، وكانت وفاة الملك المظفّر قرا أرسلان المذكور سنة إحدى وتسعين وست مئة ظنا «2» . ثم ملك بعده ولده الأكبر شمس الدين داود بن قرا أرسلان سنة وتسعة أشهر ثم توفي «3» . وملك بعده أخوه الملك المنصور نجم الدين غازي «4» في سنة ثلاث وتسعين وست مئة. وفي سنة ثمان وثلاثين وست مئة «13» قبض الملك الصالح أيوب بعد استقراره في مصر على أيبك الأسمر مقدم المماليك الأشرفية (251) وعلى غيره من الأمراء والمماليك الذين قبضوا على أخيه وأودعهم الحبوس، وأخذ في إنشاء مماليكه، وشرع من هذه السنة في بناء

قلعة [الجزيرة] «1» واتخذها مسكنا له. وفيها، نزل الحافظ أرسلان شاه بن الملك العادل بن أيوب عن قلعة جعبر وبالس وسلمهما إلى أخته ضيفة خاتون صاحبة حلب، وتسلم عوض ذلك أعزاز وبلادا معها تساوي ما نزل عنه، وكان سبب ذلك أن الملك الحافظ المذكور أصابه فالج وخشي من تغلب أولاده عليه ففعل ذلك لأنه كان ببلاد قريبة [إلى حلب] «2» لا يمكنهم التعرض إليه. وفيها كثر عبث الخوارزمية وفسادهم بعد مفارقة الصالح أيوب البلاد الشرقية، وساروا إلى قرب حلب، فخرج إليهم عسكر حلب مع المعظم توران شاه بن صلاح الدين ووقع بينهم القتال وانهزم الحلبيون هزيمة قبيحة، وقتل منهم خلق كثير منهم الملك الصالح بن الملك الأفضل بن السلطان صلاح الدين «3» ، وأسر مقدم الجيش الملك المعظم المذكور، واستولى الخوارزميون على أثقال الحلبيين، وأسروا منهم عدة كثيرة ثم كانوا يقتلون بعضهم ليشتري غيره نفسه منهم [بماله] «4» ، فأخذوا بذلك شيئا كثيرا، ثم نزل الخوارزمية بعد ذلك على حيلان، وكثر فسادهم في بلاد حلب، وجفل أهل الحواضر والبلاد، ودخلوا حلب واستعد أهلها للحصار، وارتكبت (252) الخوارزمية من الزنا والفواحش والقتل ما ارتكبوه التتر، ثم سارت الخوارزمية إلى منبج وهجموها بالسيف يوم الخميس لتسع بقين من ربيع الأول وفعلوا من القتل والنهب مثلما تقدم ذكره، ثم رجعوا إلى بلادهم وهي حران وما معها بعد أن خربوا بلد حلب، ثم إن

الخوارزمية رحلوا من حران وقطعوا الفرات من الرقّة ووصلوا إلى الجبول «1» ثم إلى تل إعزاز ثم إلى سرمين ثم إلى المعرة وهم ينهبون ما يجدونه، فإن الناس جفلوا من بين أيديهم، وكان قد وصل الملك المنصور إبراهيم صاحب حمص ومعه عسكر من عسكر الصالح إسماعيل المستولي على حمص نجدة للحلبيين، فاجتمع الحلبيون مع صاحب حمص المذكور وقصدوا الخوارزمية، واستمرت الخوارزمية على ما هم عليه من النهب حتى نزلوا على شيزر، ونزل عسكر حلب على تل السلطان ثم رحلت الخوارزمية إلى جهة حماة، ولم يتعرضوا إلى نهب لانتماء صاحبها الملك المظفّر إلى الملك الصالح أيوب، ثم سارت الخوارزمية إلى سلميّة ثم إلى الرصافة طالبين الرقّة، وسار عسكر حلب من تل السلطان إليهم ولحقهم العرب فأرمت الخوارزمية ما كان معهم من الكسب وسيبوا الأسارى، ووصلت الخوارزمية إلى الفرات في أواخر شعبان هذه السنة، ولحقهم عسكر حلب وصاحب حمص إبراهيم قاطع صفّين فعمل لهم الخوارزمية ستائر ووقع القتال بينهم إلى الليل (253) ، فقطع الخوارزمية الفرات وساروا إلى حران، فسار عسكر حلب إلى البيرة وقطع الفرات منها وقصدوا الخوارزمية واتقعوا قريب الرّها لسبع بقين من رمضان هذه السنة فولى الخوارزمية [منهزمين] «2» وركب صاحب حمص وعسكر حلب أقفيتهم يقتلون ويأسرون إلى أن حال الليل بينهم، ثم سار عسكر حلب إلى حران فاستولوا عليها وهرب الخوارزمية إلى بلد عانة، وبادر بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل إلى نصيبين ودارا وكانتا للخوارزمية [فاستولى عليهما] «3» وخلص من كان بهما من الأسارى وكان منهم الملك

المعظم توران شاه بن السلطان صلاح الدين أسيرا في بلدة دارا «1» من حين أسروه من كسرة الحلبيين فحمله بدر الدين لؤلؤ إلى الموصل وقدم له ثيابا وتحفا وبعث به إلى عسكر حلب فاستولى عسكر حلب [على] «2» الرقّة والرّها وسروج ورأس عين وما مع ذلك، واستولى المنصور إبراهيم صاحب حمص على بلد الخابور، ثم سار عسكر حلب ووصل إليه نجدة من الروم وحاصروا الملك المعظم بن الملك الصالح أيوب بآمد وتسلموها منه وتركوا له حصن كيفا وقلعة الهيثم «3» ولم يزل ذلك [بيده] «2» مدة حتى توفي أبوه الصالح أيوب بمصر، وسار إليها المعظم وبقي ولده الملك الموحد عبد الله بن المعظم توران شاه بن الصالح أيوب «4» مالكا لحصن كيفا إلى أيام التتر وطالت مدته بها. وفي هذه السنة (254) كان هلاك الملك الجواد يونس بن مودود بن الملك العادل «5» ، وصورة ما جرى له أنه كان قد استولى بعد ملك دمشق على سنجار وعانة، فباع عانة من الخليفة المستنصر بمال تسلمه منه، وسار لؤلؤ صاحب الموصل وحاصر سنجار والملك الجواد غائب عنها واستولى عليها ولم يبق بيد الجواد شيء من البلاد، فسار على البرية إلى غزة وأرسل إلى الملك الصالح أيوب صاحب مصر يسأله في المسير إليه فلم يجبه إلى ذلك، فسار الجواد ودخل عكّا وأقام مع الفرنج، فأرسل الصالح إسماعيل صاحب دمشق وبذل مالا للفرنج

وتسلم الجواد منهم، واعتقله ثم خنقه. وفيها ولى الملك الصالح أيوب الشيخ عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام «1» القضاء بمصر والوجه القبلي «2» ، وكان الشيخ عز الدين بدمشق فلما قوي خوف الصالح إسماعيل صاحب دمشق من ابن أخيه الصالح أيوب سلم الصالح أيوب صفد والشّقيف للفرنج ليعضدوه ويكونوا معه على ابن أخيه الصالح أيوب، فعظم ذلك على المسلمين، وأكثر الشيخ عز الدين بن عبد السلام التشنيع على الصالح إسماعيل بسبب ذلك، وكذلك جمال الدين أبو عمرو بن الحاجب «3» ، ثم خافا من الصالح إسماعيل فسار الشيخ عز الدين إلى مصر وتولى القضاء بها كرها، وسار جمال الدين أبو عمرو بن الحاجب إلى الكرك فأقام عند صاحبها الناصر داود ونظم له (255) مقدمته «الكافية في النحو» «4» ، ثم سافر ابن الحاجب إلى الديار المصرية.

ودخلت سنة تسع وثلاثين وست مئة

ودخلت سنة تسع وثلاثين وست مئة «13» والصالح إسماعيل صاحب دمشق والمنصور إبراهيم بن شير كوه صاحب حمص وصاحبة حلب متفقون على عداوة الملك الصالح أيوب صاحب مصر، ولم يوافقهم المظفّر صاحب حماة على ذلك وأخلص في الانتماء إلى صاحب مصر. وفيها اتفقت الخوارزمية مع المظفّر غازي بن الملك العادل بن أيوب صاحب ميّافارقين. وفي شعبان منها، أصاب صاحب حماة الفالج وهو جالس بين أصحابه بقلعة حماة، وبقي أياما لا يتكلم ولا يتحرك، وكان ذلك في أواخر السنة، وأرجف الناس بموته، وقام بتدبير الدولة مملوكه وأستاذ داره سيف الدين طغريل «1» ، ثم خف مرض الملك المظفّر وفتح عينيه وصار يتكلم باللفظة واللفظتين لا يكاد يفهم، وكان العاطب الجانب الأيمن منه، وبعث إليه الصالح أيوب طبيبا حاذقا نصرانيا يقال له النفيس بن طليب ولم تنجح فيه المداواة، واستمر على ذلك إلى أن توفي بعد سنتين في ذي الحجة. (و) فيها، توفي الملك الحافظ نور الدين أرسلان شاه بن الملك العادل بن أيوب «2» بأعزاز وهي التي تعوضها عن قلعة جعبر، ونقل إلى حلب فدفن بالفردوس، وتسلم نواب الملك الناصر يوسف صاحب حلب قلعة أعزاز وأعمالها.

وفي سنة أربعين وست مئة

وفي سنة أربعين وست مئة «13» كان بين (256) الخوارزمية ومعهم المظفّر غازي صاحب ميّافارقين، وبين عسكر حلب ومعهم المنصور إبراهيم صاحب حمص مصاف قرب الخابور عند المجدل في يوم الخميس لثلاث بقين من صفر هذه السنة، فولى المظفّر غازي والخوارزمية [منهزمين] «1» أقبح هزيمة، ونهب منهم عسكر حلب شيئا كثيرا، ونهبت وطاقات «2» الخوارزمية ونساؤهم أيضا، ونزل الملك المنصور إبراهيم في خيمة المظفّر غازي واحتوى خزانته ووطاقه، ووصل عسكر حلب وصاحب حمص إلى حلب في مستهل جمادى الأولى مؤيدين منصورين. وفي [ليلة الجمعة ل] «3» إحدى عشرة ليلة خلت من جمادى الأولى توفيت ضيفة خاتون بنت الملك العادل صاحبة حلب «4» ، وكان مرضها قرحة في مراق البطن وحمى، ودفنت بقلعة حلب، وكان مولدها سنة إحدى [أو اثنتين] «3» وثمانين وخمس مئة بقلعة حلب حين كانت حلب لأبيها الملك العادل قبل أن ينتزعها منه أخوه السلطان صلاح الدين ويعطيها لابنه الظاهر غازي، واتفق مولدها ووفاتها بقلعة حلب، ولما ولدت كان عند أبيها العادل ضيف فسماها ضيفة، وكانت مدة عمرها نحو [تسع وخمسين] «5» سنة، وكان الملك الظاهر

صاحب حلب قد تزوج قبل ضيفة خاتون المذكورة بأختها غازية فلما توفيت غازية «1» تزوج بضيفة المذكورة، وكانت ضيفة خاتون قد ملكت حلب بعد وفاة ابنها العزيز وتصرفت في الملك تصرف السلاطين (257) ، وقامت بالملك أحسن قيام، فمدة ملكها نحو ست سنين، ولما توفيت كان عمر [ابن] «2» ابنها [الملك] «2» الناصر [يوسف] «2» بن [الملك] «2» العزيز نحو ثلاث عشرة سنة فأشهد عليه أنه بلغ [وحكم] «2» واستقل بمملكة حلب وما هو مضاف إليها، والمرجع في الأمور إلى جمال الدولة إقبال الخصي الأسود الخاتوني «1» . وفي هذه السنة، توفي الخليفة المستنصر بالله أبو جعفر المنصور بن الظاهر محمد بن الإمام الناصر «3» بكرة الجمعة لعشر خلون من جمادى الآخرة، وكانت مدة خلافته سبع عشرة سنة إلا شهرا، وكان حسن السيرة، عادلا في الرعية، وهو الذي بنى المدرسة ببغداد المسماة بالمستنصرية على جنب الدجلة من الجانب الشرقي مما يلي دار الخلافة وجعل لها أوقافا جليلة على أنواع البر، ولما توفي المستنصر اتفق آراء [أرباب] «2» الدولة مثل الدوادار «4» [و] «2» الشرابي «1» على تقليد الخلافة ولده عبد الله ولقبوه:

المستعصم بالله [وهو] سابع ثلاثي بني العباس وآخرهم

المستعصم بالله [وهو] «1» سابع ثلاثي بني العباس وآخرهم وكنيته أبو أحمد بن المستنصر [بالله] «2» منصور بن الظاهر «2» ، وكان المستعصم ضعيف الرأي، فاستبد كبراء دولته في الأمر وحسّنوا له قطع الأجناد وجمع المال ومداراة التتر ففعل ذلك، وقطع أكثر العساكر. سنة إحدى وأربعين وست مئة إلى سنة خمسين وست مئة (سنة إحدى وأربعين وست مئة) «13» فيها، قصد التتر بلاد غياث الدين كيخسرو بن كيقباذ بن كيخسرو بن قليج أرسلان (258) السلجوقي صاحب بلاد الروم، فأرسل واستنجد بالحلبيين فأرسلوا إليه نجدة مع ناصح الدين الفارسي فجمع العساكر من كل جهة والتقى مع التتر وانهزمت عسكر بلاد روم، وقتل التتر منهم خلقا كثيرا وتحكمت التتر في البلاد واستولوا على آمد وخلاط وبلادهما، وهرب غياث الدين كيخسرو إلى بعض الأماكن ثم أرسل إلى التتر ودخل في طاعتهم ثم توفي غياث الدين المذكور في سنة أربع وخمسين وست مئة، وخلف ولدين صغيرين وهما ركن الدين وعز الدين، ثم هرب عز الدين إلى قسطنطينيّة وبقي ركن الدين في الملك

وفي سنة اثنتين وأربعين وست مئة

تحت حكم التتر والحاكم البرواناه معين الدين سليمان والبرواناه لقبه وهو اسم الحاجب بالعجمي، ثم إن البرواناه قتل ركن الدين وأقام في الملك ولدا له صغيرا. وفيها، كانت المراسلة بين الصالح أيوب صاحب مصر وبين الصالح إسماعيل صاحب دمشق في الصلح، وأن يطلق الصالح إسماعيل فتح الدين عمر بن الصالح أيوب وحسام الدين بن أبي علي الهذباني وكانا معتقلين عند الصالح إسماعيل، فأطلق حسام الدين بن أبي علي واستمر الملك المغيث بن الصالح أيوب في الاعتقال. واتفق الصالح إسماعيل مع الناصر داود صاحب الكرك واعتضدا بالفرنج وسلما أيضا إلى الفرنج عسقلان وطبرية فعمر الفرنج قلعتيهما، وسلما أيضا إليهم القدس بما فيه من المزارات. قال ابن واصل: ومررت إذ ذاك بالقدس متوجها إلى مصر ورأيت القسوس قد جعلوا على الصخرة قناني الخمر (259) للقربان «1» . وفي سنة اثنتين وأربعين وست مئة «13» كان المصافّ بين عسكر مصر وبين عسكر دمشق، فوصلت الخوارزمية إلى غزة باستدعاء الملك الصالح أيوب لنصرته على عمه الصالح إسماعيل، وكان مسيرهم على حارم والروج في أطراف دمشق حتى وصلوا إلى غزة ووصل إليهم عدة كثيرة من العساكر المصرية مع ركن الدين بيبرس «2» مملوك الملك الصالح أيوب، وكان من أكبر مماليكه ودخل معه إلى حبس الكرك، وأرسل الصالح

إسماعيل عسكر دمشق مع المنصور إبراهيم صاحب حمص، وسار صاحب حمص جريدة ودخل عكّا واستدعى الفرنج على ما كان قد وقع عليه اتفاقهم ووعدهم بجزء من بلاد مصر، فخرجت الفرنج بالفارس والراجل واجتمعوا بصاحب حمص وعسكري دمشق والكرك ولم يحضر الناصر داود صاحب الكرك، والتقى الفريقان بظاهر غزة فولى عسكر دمشق وإبراهيم صاحب حمص والفرنج منهزمين، وتبعهم عسكر مصر والخوارزمية فقتلوا منهم خلقا عظيما واستولى الملك الصالح أيوب صاحب مصر على غزة والسواحل والقدس، ووصلت الرءوس إلى مصر فدقّت بها البشائر عدة أيام، ثم أرسل الصالح أيوب باقي عسكر مصر مع معين الدين بن الشيخ واجتمع إليه بالشام من عسكر مصر والخوارزمية، وساروا إلى دمشق وحاصروها وبها الصالح إسماعيل وإبراهيم بن شيركوه صاحب حمص، وخرجت السنة وهم محاصروها. وفي هذه (260) السنة، توفي الملك المظفر صاحب حماة تقي الدين محمود «1» يوم السبت ثامن جمادى الأولى من هذه السنة، وكانت مدة مملكته لحماة خمس عشرة سنة وسبعة أشهر وعشرة أيام كان [فيها] «2» مريضا بالفالج سنتين وتسعة أشهر وأياما، وكانت وفاته وهو مفلوج بحمّى حادة عرضت له، وكان عمره ثلاثا وأربعين سنة، وكان شهما شجاعا ذكيا، وكان يحب [أهل الفضائل والعلوم] «3» ، واستخدم الشيخ علم الدين قيصر المعروف بتعاسيف «4» ، وكان مهندسا فاضلا في العلوم الرياضية، فبنى للمظفر أبراجا بحماة وطاحونا

على النهر العاصي، وعمل له كرة من الخشب مدهونة رسم فيها جميع الكواكب المرصودة، وعملت هذه الكرة بحماة، قال ابن واصل: وساعدت الشيخ علم الدين على عملها، وكان الملك المظفر يحضر ونحن نرسمها ويسألنا عن مواضع دقيقة فيها «1» . ولما مات المظفر صاحب حماة ملك بعده ولده الملك المنصور محمد وعمره حينئذ عشر سنين و [شهر واحد] «2» وثلاثة عشر يوما، والقائم بتدبير المملكة سيف الدين طغريل مملوك الملك المظفر، ومشاركة الشيخ شرف الدين عبد العزيز المعروف بشيخ الشيوخ، والطواشي مرشد، والوزير بهاء الدين بن التاج «3» ، والمرجع في الجميع إلى والدة الملك المنصور غازية خاتون بنت الملك الكامل. وفيها، بلغ الصالح نجم الدين أيوب وفاة ابنه المغيث فتح الدين عمر «4» في حبس الصالح إسماعيل صاحب دمشق، فاشتد حزن الصالح أيوب على ولده، (261) وكثر حنقه على الصالح إسماعيل. وفيها، توفي الملك المظفر شهاب الدين غازي بن الملك العادل «5» صاحب ميّافارقين، واستقر بعده في ملكه ولده الكامل ناصر الدين محمد «6» . وفيها، سار من حماة الشيخ تاج الدين أحمد بن محمد بن نصر الله

وفي سنة ثلاث وأربعين وست مئة

المعروف بابن المغيزل «1» رسولا إلى خليفة بغداد، [ «2» وصحبته تقدمة من السلطان الملك المنصور صاحب حماة. وفيها، توفي القاضي شهاب الدين إبراهيم بن عبد الله بن عبد المنعم بن علي بن محمد الشافعي عرف بابن أبي الدم قاضي حماة، وكان قد توجه في الرسلية إلى بغداد] ، فمرض في المعرة وعاد إلى حماة مريضا فتوفي بها، وهو الذي ألف التاريخ الكبير «المظفري» «3» ، وغيره. وفي سنة ثلاث وأربعين وست مئة «13» سيّر الصالح إسماعيل وزيره أمين الدولة «4» الذي كان سامريا وأسلم إلى العراق مستشفعا إلى الخليفة ليصلح بينه وبين ابن أخيه فلم يجب الخليفة إلى ذلك، وكان أمين الدولة غالبا على الصالح إسماعيل بحيث إنه كان لا يخرج عن رأيه. وفيها، تسلم عسكر الملك الصالح أيوب ومقدمهم معين الدين بن الشيخ دمشق من الصالح إسماعيل بن الملك العادل وكان محصورا معه بدمشق إبراهيم ابن شير كوه صاحب حمص، فتسلم دمشق على أن تستقر بيد الصالح إسماعيل بعلبك وبصرى والسّواد، وتستقر بيد صاحب [حمص] «5» وما هو مضاف إليها

فأجابهما معين الدين بن الشيخ إلى ذلك، ووصل إلى دمشق حسام الدين بن أبي علي بما كان معه من العسكر المصري، واتفق بعد تسليم دمشق أن معين الدين بن الشيخ مرض وتوفي بها «1» ، وبقي حسام الدين بن أبي علي نائبا بدمشق للملك الصالح أيوب، ثم إن الخوارزمية خرجوا عن طاعة الملك الصالح (262) أيوب فإنهم كانوا يعتقدون أنهم إذا كسروا الصالح إسماعيل وفتحوا دمشق يحصل لهم من البلاد والإقطاعات ما يرضي خواطرهم، فلما لم يحصل لهم ذلك خرجوا عن طاعة الصالح أيوب، فصاروا مع الصالح إسماعيل، وانضم إليهم الناصر داود صاحب الكرك، وساروا إلى دمشق وحصروها، وغلت بها الأقوات، وقاسى أهلها شدة عظيمة لم يسمع بمثلها، وقام حسام الدين بن أبي علي الهذباني في حفظ دمشق أتم قيام. وفيها، قصدت التتر بغداد، وخرجت عساكر بغداد للقائهم فلم يكن للتتر بهم طاقة فولوا منهزمين تحت الليل. وفيها، توفيت ربيعة خاتون بنت أيوب «2» أخت السلطان صلاح الدين بدار العقيقي، وكانت قد جاوزت ثمانين سنة، وبنت مدرسة للحنابلة «3» بجبل الصالحية. وفيها، لما تسلم الملك الصالح أيوب دمشق تسلمت نواب الملك المنصور صاحب حماة سلميّة وانتزعوها من صاحب حمص، واستقرت سلميّة في هذه

ثم دخلت سنة أربع وأربعين وست مئة

السنة [في] «1» ملك صاحب حماة. ثم دخلت سنة أربع وأربعين وست مئة «13» كنا قد ذكرنا اتفاق الخوارزمية مع الصالح إسماعيل والناصر داود ومحاصرتهم دمشق وبها حسام الدين بن أبي علي، ولما وقع ذلك اتفق الحلبيون والملك المنصور إبراهيم صاحب حمص وساروا مع الصالح أيوب وقصدوا الخوارزمية فرحلت الخوارزمية عن دمشق، وساروا نحو الحلبيين وصاحب حمص والتقوا على القصب «2» في هذه (263) السنة، فانهزمت الخوارزمية هزيمة قبيحة وتشتت شملهم بعدها، وقتل مقدمهم حسام الدين بركة خان «3» وحمل رأسه إلى حلب، ومضت طائفة من الخوارزمية مع مقدمهم كشلو خان الخوارزمي فلحقوا بالتتر وصاروا معهم وانقطع منهم جماعة [وتفرقوا في الشام وخدموا به] «4» وكفى الله الناس شرهم. ولما وصل خبر كسرتهم إلى الملك الصالح أيوب بديار مصر فرح فرحا عظيما، ودقّت البشائر بمصر، وزال ما كان عنده من الغيظ على إبراهيم صاحب حمص، وحصل بينهما التصافي بسبب ذلك. وأما الصالح إسماعيل، فإنه سار إلى الناصر يوسف صاحب حلب فاستجار به، فأرسل الصالح أيوب بطلبه فلم يسلمه الناصر يوسف إليه، ولما جرى ذلك

رحل حسام الدين بن أبي علي الهذباني بعسكر دمشق وحاصر بعلبك وبها أولاد الصالح إسماعيل وتسلمها بالأمان، وحمل أولاد الصالح إسماعيل إلى الملك الصالح أيوب صاحب مصر فاعتقلوا هناك، وكذلك بعث أمين الدولة وزير الصالح إسماعيل وأستاذ داره ناصر الدين يغمور «1» واعتقلا بمصر أيضا، وزينت القاهرة ومصر، ودقّت البشائر بهما لفتح بعلبك. واتفق في هذه الأيام وفاة صاحب عجلون سيف الدين بن قليج أرسلان «2» ، فتسلم الصالح أيوب عجلون، ولما جرى ما ذكرناه أرسل الصالح أيوب عسكرا مع الأمير فخر الدين يوسف بن الشيخ وكان المذكور قد اعتقله العادل أبو بكر ابن الملك الكامل ثم لما ملك (264) الملك الصالح أيوب مصر أفرج عنه وأمره بملازمة بيته فلازمه مدة، ثم قدمه في هذه السنة على العسكر وجهزه إلى حرب الناصر داود صاحب الكرك، فسار فخر الدين المذكور واستولى على جميع بلاد الملك الناصر وولى عليها، وسار إلى الكرك وحاصرها وخرب ضياعها، وأضعف الملك الناصر داود ضعفا بالغا، ولم يبق بيده غير الكرك بمفردها. وفيها، حبس الصالح أيوب مملوكه بيبرس وهو الذي كان معه لما اعتقل بالكرك، وسببه أن بيبرس المذكور مال إلى الخوارزمية وإلى الناصر داود وصار معهم على أستاذه لما جرده إلى غزة فأرسل أستاذه الصالح أيوب واستماله، فوصل إليه فاعتقله في هذه السنة وكان آخر العهد به.

وفي سنة خمس وأربعين وست مئة

وفيها، أرسل الملك المنصور إبراهيم بن شير كوه صاحب حمص وطلب دستورا من الملك الصالح أيوب ليسير إلى بابه وينتظم في سلك خدمته، وكان قد حصل بإبراهيم المذكور السّل وسار على تلك الحالة إلى الديار المصرية، ووصل دمشق فقوي به المرض وتوفي بدمشق «1» فنقل إلى حمص [ودفن بها] «2» ، وملك بعده ولده الملك الأشرف مظفر الدين موسى «3» . وفيها، بعد فتوح دمشق وبعلبك استدعى الملك الصالح أيوب حسام الدين ابن أبي علي إلى مصر وأرسل موضعه نائبا بدمشق الأمير جمال الدين بن مطروح «4» ، ولما وصل حسام الدين إلى مصر استنابة الملك الصالح بها، وسار الصالح أيوب إلى دمشق ومنها إلى بعلبك، ثم عاد إلى (265) دمشق ووصل إلى خدمته بدمشق الملك المنصور محمد صاحب حماة والملك الأشرف موسى صاحب حمص فأكرمهما وردهما إلى بلادهما واستمر الملك الصالح أيوب بالشام حتى خرجت السنة. وفي سنة خمس وأربعين وست مئة «13» عاد الملك الصالح نجم الدين أيوب من الشام إلى الديار المصرية.

وفيها، فتح فخر الدين بن الشيخ قلعتي عسقلان وطبرية والملك الصالح [بالشام بعد محاصرتهما مدة] «1» ، وكنا قد ذكرنا [تسليمهما] «2» إلى الفرنج في سنة إحدى وأربعين وست مئة «3» [فعمروهما] «4» واستمرتا بيد الفرنج حتى فتحتا هذه السنة. وفيها، سلم الأشرف صاحب حمص سميمس للملك الصالح أيوب فعظم ذلك على الحلبيين لئلا يحصل الطمع للملك الصالح في ملك باقي الشام. وفيها، توفي الملك العادل [أبو بكر] «5» بن الملك الكامل «6» بالحبس، وأمه بنت الفقيه نصر «7» وتعرف بالست السوداء وكان مسجونا من حين قبض عليه ببلبيس «8» إلى هذه الغاية، فكان مدة مقامه بالسجن ثماني سنين وكان عمره ثلاثين سنة، وخلف ولدا صغيرا وهو الملك المغيث فتح الدين عمر «9» ، وهو الذي ملك الكرك فيما بعد وقتله الملك الظاهر بيبرس على ما سنذكره إن شاء الله تعالى.

وفي سنة ست وأربعين وست مئة

وفيها، توجه الطواشي مرشد الدين المنصوري ومجاهد الدين أمير جاندار «1» من حماة إلى حلب وأحضرا بنت الملك العزيز محمد بن الملك الظاهر صاحب حلب وهي عائشة خاتون «1» زوج الملك المنصور صاحب حماة، وحضرت معها (266) أمها فاطمة خاتون بنت السلطان الملك الكامل «2» ووصلت إلى حماة في العشر الأوسط من رمضان هذه السنة، ووصلت في تجمل عظيم، واحتفل للقائها بحماة [احتفال عظيم] «3» . وفي سنة ست وأربعين وست مئة «13» أرسل الناصر يوسف صاحب حلب عسكرا مع شمس الدين لؤلؤ الأرمني فحاصروا الملك الأشرف موسى بحمص مدة شهرين، فسلم الأشرف إليهم حمص، وتعوّض عنها تل باشر مضافا إلى ما بيده من تدمر والرّحبة، ولما بلغ الصالح نجم الدين أيوب ذلك شقّ عليه، وسار إلى الشام لارتجاع حمص من الحلبيين وكان قد حصل له مرض وورم في مأبطه ثم فتح وحصل منه ناصور، ووصل الملك الصالح إلى دمشق وأرسل عسكرا إلى حمص مع حسام الدين بن أبي علي وفخر الدين بن الشيخ فنازلوا حمص ونصبوا عليها منجنيقا مغربيا يرمي بحجر زنته مئة وأربعون رطلا بالشامي ومعه عدة منجنيقات أخر، وكان الشتاء والبرد قويا، واستمر الحصار عليها فاتفق حينئذ وصول الخبر إلى الملك الصالح أيوب وهو بدمشق بوصول الفرنج إلى جهة دمياط وكان أيضا قد قوي مرضه ووصل أيضا نجم الدين البادرائي «4» رسول الخليفة، وسعى في الصلح بين

الملك الصالح والحلبيين، وأن تستقر حمص بيد الحلبيين، فأجاب الملك الصالح إلى ذلك، وأمر العسكر فرحلوا عن حمص بعد أن أشرفوا على أخذها، ثم رحل الملك الصالح (267) من دمشق [في محفة] «1» لقوة مرضه، واستناب بدمشق جمال الدين [بن] «1» يغمور وعزل ابن مطروح، وأرسل حسام الدين بن أبي علي ليسبقه إلى مصر وينوب عنه بها. وفيها، توفي عز الدين أيبك المعظمي «2» في محبسه في القاهرة، وكان المذكور قد ملك صرخد في سنة ثمان وست مئة، قال ابن خلّكان: إنه ملك صرخد سنة إحدى عشرة وست مئة، قال: لأن أستاذه الملك المعظم عيسى بن الملك العادل بن أيوب حج في السنة المذكورة وأخذ صرخد من ابن قراجا صاحبها وأعطاها لمملوكه أيبك المذكور، واستمرت في يد أيبك إلى سنة أربع وأربعين وست مئة، وأخذها الملك الصالح أيوب بن الملك الكامل من أيبك المذكور، وأمسك أيبك في السنة المذكورة وحبسه في القاهرة في دار الطوشي صواب، واستمر معتقلا بها حتى توفي في السنة المذكورة في أوائل جمادى الأولى [ودفن] «3» في تربة شمس الدولة، ثم نقل إلى الشام ودفن في تربة «4» كان قد أنشأها بظاهر دمشق على الشرف الأعلى مطلة على الميدان الأخضر

وفي سنة سبع وأربعين وست مئة

الكبير» . وفي سنة سبع وأربعين وست مئة «13» سار ريد إفرنس «2» وهو من أعظم ملوك الفرنج وريد بلغتهم هو الملك أي ملك إفرنس وإفرنس أمة عظيمة من أمم الفرنج، وكان قد جمع ريد إفرنس نحو خمسين ألف مقاتل وشتى في جزيرة قبرس ثم سار ووصل في هذه السنة إلى دمياط وكان شحنها الملك الصالح أيوب بآلات عظيمة (268) وذخائر وافرة، وجعل فيها بني كنانة «3» وهم مشهورون بالشجاعة، وكان قد أرسل الملك الصالح فخر الدين بن الشيخ بجماعة كثيرة من العسكر ليكونوا قبالة الفرنج على ظاهر دمياط، ولما وصلت الفرنج عبر فخر الدين بن الشيخ من الجانب الغربي إلى البر الشرقي، ووصل الفرنج إلى البر الغربي لتسع بقين من صفر في هذه السنة. ولما جرى ذلك هربت بنو كنانة وأهل دمياط، وأخلوا دمياط وتركوا أبوابها مفتحة فتملكها الفرنج بغير قتال واستولوا على ما بها من الذخائر والأسلحة وكان هذا من أعظم المصائب، وعظم ذلك على الملك الصالح وأمر بشنق بني

كنانة فشنقوا عن آخرهم، ووصل الملك الصالح إلى المنصورة ونزل بها يوم الثلاثاء لخمس بقين من صفر من هذه السنة، وقد اشتد مرضه وهو السّل والقرحة التي كانت به. وفي هذه السنة، سار الناصر داود بن الملك المعظم من الكرك إلى حلب لما ضاقت به الأمور مستجيرا بالملك الناصر يوسف صاحب حلب، وكان قد بقي عند الناصر داود من الجوهر مقدار كثير قيل كان يساوي مئة ألف دينار إذا بيع بالهوان، فلما وصل إلى حلب سير الجوهر المذكور إلى بغداد واستودعه عند الخليفة المستعصم، ووصل إليه خط الخليفة بتسلمه، فلم تقع عينه عليه بعد ذلك. ولما سار الناصر داود عن الكرك استناب بها ابنه عيسى «1» ولقبه (269) الملك المعظم، وكان له ولدان آخران أكبر من عيسى هما: الأمجد حسن «2» والظاهر شاذي «3» ، فغضب الأخوان المذكوران من تقديم أخيهما عيسى عليهما، وبعد سفر أبيهما [قبضا على أخيهما عيسى] «4» (و) سارا إلى مصر، وأطمعا الملك الصالح في الكرك، فأحسن الصالح إليهما، وأقطعهما إقطاعا أرضاهما به، وأرسل إلى الكرك وتسلمها يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة بقين من جمادى الآخرة من هذه السنة، وفرح الملك الصالح أيوب بالكرك فرحا عظيما مع ما هو

فيه من المرض لما كان في خاطره من صاحبها. وفي هذه السنة، توفي الملك الصالح نجم الدين أيوب «1» ليلة الأحد لأربع عشرة ليلة مضت من شعبان من هذه السنة، وكانت مدة مملكته للديار المصرية تسع سنين وثمانية أشهر وعشرين يوما، وكان عمره نحو أربع وأربعين سنة، وكان مهيبا عالي الهمة، شجاعا، عفيفا، طاهر اللسان والذيل، شديد الوقار، كثير الصمت، وجمع من المماليك الترك ما لم يجمعه غيره من أهل بيته حتى كان أكثر أمراء العسكر مماليكه، ورتب جماعة من المماليك الترك حول دهليزه وسماهم البحرية، وكان لا يجسر أحد أن يخاطبه إلا جوابا، ولا يتكلم بحضرته ابتداء، وكانت القصص توضع من يديه مع الخدم فيكتب بيده عليها، وتخرج للموقعين، وكان لا يستقبل [أحدا] «2» من أهل [دولته] «3» بأمر من الأمور إلا بعد مشاورته بالقصص، وكان غاويا للعمارة، بنى قلعة [الجزيرة] «4» بمصر، والصالحية «5» وهي بلدة بالسانح (270) وبنى بها قصورا للتصيد، وبنى قصرا عظيما بين مصر والقاهرة يسمى بالكبش «6» ، وكانت أم الصالح المذكور جارية سوداء تسمى ورد المنى غشيها الملك الكامل فحملت بالملك الصالح، وكان للملك الصالح ثلاثة أولاد أحدهم فتح الدين عمر توفي في حبس الصالح

إسماعيل «1» ، وكان قد توفي ولده الآخر قبله، ولم يكن بقي له غير المعظم توران شاه بحصن كيفا. ومات الملك الصالح ولم يوص بالملك إلى أحد، فلما توفي أحضرت شجر الدّر «2» جاريته فخر الدين بن الشيخ والطواشي جمال الدين [محسنا] «3» وعرفتهما بموت السلطان فكتموا ذلك خوفا من الفرنج، وجمعت شجر الدّر الأمراء وقالت لهم: السلطان يأمركم أن تحلفوا له ثم من بعده لولده الملك المعظم توران شاه المقيم بحصن كيفا وللأمير فخر الدين بن الشيخ بأتابكية العسكر، وكتبت إلى حسام الدين بن أبي علي وهو النائب بمصر بمثل ذلك، فحلفت الأمراء والأجناد بالعسكر بمصر والقاهرة على ذلك في العشر الأوسط من شعبان هذه السنة، وكان بعد ذلك تخرج الكتب والمراسيم وعليها علامة الملك الصالح، وكان يكتبها خادم يقال له السهيلي (؟) فلا يشك أحد في أنه خط السلطان، وأرسل فخر الدين بن الشيخ قاصدا لإحضار الملك المعظم من حصن كيفا، ولما جرى ذلك شاع بين الناس موت السلطان، وكان أرباب الدولة [لا يجسرون] «4» أن يتفوهوا به، وتقدم الفرنج عن دمياط للمنصورة وجرى بينهم وبين المسلمين (271) في رمضان هذه السنة وقعة عظيمة استشهد فيها جماعة كبار من المسلمين، ونزلت الفرنج بشرمساح «5» ثم قربوا من المسلمين، ثم إن الفرنج كبسوا المسلمين على المنصورة بكرة الثلاثاء لخمس مضين من ذي القعدة، وكان فخر

الدين يوسف بن الشيخ صدر الدين بن حمّوية بالحمّام في المنصورة، فركب مسرعا وصادفه جماعة من الفرنج فقتلوه «1» ، وكان سعيدا في الدنيا، ومات شهيدا، ثم حملت المسلمون والترك البحرية على الفرنج فردوهم على أعقابهم، واستمرت بهم الهزيمة. وأما الملك المعظم توران شاه فإنه سار من حصن كيفا إلى دمشق في رمضان هذه السنة وعيد بها عيد الفطر، ووصل إلى المنصورة يوم الخميس لتسع بقين من ذي القعدة، ثم اشتد القتال بين المسلمين والفرنج برا وبحرا، ووقعت مراكب المسلمين على الفرنج فأخذوا منهم اثنين وثلاثين [مركبا] «2» منها تسع [شوان] «3» فضعفت الفرنج لذلك، وأرسلوا يطلبون القدس وبعض السواحل و [أن] «4» يسلموا دمياط، فلم تقع الإجابة إلى ذلك. وفيها، وقع الحرب بين بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل وبين الناصر صاحب حلب، فأرسل الملك الناصر عسكرا التقوا مع المواصلة بظاهر نصيبين فانهزمت المواصلة هزيمة قبيحة، واستولى الحلبيون على أثقال لؤلؤ صاحب الموصل وخيمه وتسلموا نصيبين من صاحب الموصل، ثم ساروا إلى دارا فتسلموها وخربوها بعد قتال (272) وحصار ثلاثة أشهر، ثم تسلموا قرقيسياء «5» وعادوا إلى حلب.

وفي سنة ثمان وأربعين وست مئة

وفي سنة ثمان وأربعين وست مئة «13» انهزم الفرنج لأنهم لما أقاموا قبالة المسلمين بالمنصورة فنيت أزوادهم وانقطع عنهم المدد من دمياط وأن المسلمين قطعوا الطريق الواصل من دمياط إليهم، ولم يبق لهم صبر على المقام فرحلوا ليلة الأربعاء لثلاث مضين من المحرم متوجهين إلى دمياط، وركبت [المسلمون] «1» أكتافهم، ولما أسفر صباح الأربعاء خالطهم المسلمون وبذلوا فيهم السيف فلم يسلم منهم إلا القليل، وبلغت عدة الأسرى «2» من الفرنج ثلاثين ألفا على ما قيل، وانحاز ريد إفرنس ومن معه من الملوك إلى بلد هناك وطلبوا الأمان فأمنهم الطواشي محسن الصالحي، ثم احتيط عليهم وأحضروا إلى المنصورة وقيد ريد إفرنس وجعل في الدار التي كان ينزلها كاتب الإنشاء فخر الدين بن لقمان «3» ، ووكل به الطواشي صبيح المعظّمي. ولما جرى ذلك رحل الملك المعظم بالعساكر من المنصورة ونزل بفارسكور «4» ، ونصب بها برج خشب للملك المعظم (كذا) . وفي هذه السنة يوم الاثنين لليلة بقيت من المحرم قتل الملك المعظم توران شاه ابن الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل «5» ، وسبب ذلك أن المذكور اطرح جانب [أمراء أبيه ومماليكه] «6» وكلّ منهم بلغه عنه من التهديد والوعيد ما نفر

قلبه منه، واعتمد على بطانة وصلت معه من حصن كيفا، وكانوا أطرافا أراذل، فاجتمعت البحرية على قتله بعد (273) نزوله بفارسكور وهجموا عليه بالسيوف، وكان أول من ضربه ركن الدين بيبرس الذي صار سلطانا فيما بعد على ما سنذكره «1» ، فهرب الملك المعظم منهم إلى البرج الخشب الذي نصب له فأطلقوا فيه النار ليركب في حرّاقته فحالوا بينه وبينها بالنشّاب فطرح نفسه في البحر فأدركوه وأتموا قتله في نهار الاثنين، وكان مدة إقامته في المملكة [من] «2» حين وصوله إلى الديار المصرية شهرين وأياما. ولما جرى ذلك اتفق الأمراء على إقامة شجر الدّر زوجة الملك الصالح في المملكة وأن يكون عز الدين أيبك الجاشنكير الصالحي المعروف بالتركماني «3» أتابك العسكر وحلفوا على ذلك، وخطب لشجر الدّر على المنابر، وضربت السكة باسمها، وكان نقش السكة: المستعصمية الصالحية ملكة المسلمين ووالدة الملك المنصور خليل، وكان الملك الصالح قد ولد له من شجر الدّر [ولد] «4» ومات صغيرا واسمه خليل فتسمت شجر الدّر والدة خليل، وكانت صورة علامتها على المناشير والتواقيع: والدة خليل. ولما جرى ذلك وقع الحديث مع ريد إفرنس في تسليم دمياط بالإفراج عنه، فتقدم ريد إفرنس إلى من بها من نوابه بتسليمها فسلموها وصعد إليهم العلم السلطاني يوم الجمعة لثلاث بقين من صفر من هذه السنة، وأطلق ريد إفرنس فركب البحر بمن سلم معه (274) نهار السبت غداة الجمعة المذكورة، وأقلعوا

إلى عكّا، ووردت البشرى بهذا الفتح العظيم إلى سائر الأقطار، وفي واقعة [ريد] «1» إفرنس المذكورة يقول جمال الدين يحيى بن مطروح أبياتا منها «2» : (السريع) قل للفرنسيس إذا جئته ... مقال صدق عن قؤول نصيح أتيت مصرا تبتغي ملكها ... تحسب أنّ الزمر [بالطبل] «3» ريح وكل أصحابك أوردتهم ... بحسن تدبيرك بطن الضريح خمسون ألفا لا ترى منهمو ... غير قتيل أو أسير جريح وقل لهم إن أضمروا عودة ... لأخذ ثار أو لقصد صحيح دار ابن لقمان على حالها ... والقيد باق والطواشي صبيح ثم عادت العساكر ودخلت القاهرة يوم الجمعة تاسع صفر، وأرسل المصريون رسولا إلى أمراء دمشق في موافقتهم على ذلك فلم يجيبوا إليه. وكان الملك السعيد بن العزيز عثمان بن الملك العادل «4» صاحب الصّبيبة قد سلمها إلى الملك الصالح أيوب، فلما جرى ذلك قصد قلعة الصّبيبة فسلمت إليه.

وكان الملك المغيث فتح الدين عمر بن الملك العادل بن الكامل قد أرسله المعظم لما وصل إلى الشّوبك واعتقله، وكان النائب بالكرك والشّوبك لؤلؤ الصالحي «1» فلما جرى ما ذكرناه من قتل المعظم، وما استقر عليه الحال بادر بدر الدين لؤلؤ (275) فأفرج عن المغيث وملكه قلعتي الكرك والشّوبك، وقام في خدمته أتم قيام. ولما لم يجب أمراء دمشق إلى ما دعاهم إليه المصريون كاتب الأمراء القيمرية الذين بدمشق الملك الناصر صاحب حلب، فسار إليهم وملك دمشق ودخلها يوم السبت لثمان بقين «2» من ربيع الآخر هذه السنة. ولما استقر الناصر المذكور في ملك دمشق خلع على جمال الدين [بن] «3» يغمور وعلى أمراء دمشق وأحسن إليهم، واعتقل جماعة من مماليك الصالح أيوب، وعصت عليه بعلبك وعجلون وسميمس [مدة] «3» مديدة، ثم سلمت إليه جميعها. ولما بلغ الخبر بذلك إلى مصر قبضوا على من عندهم من القيمرية وعلى كل من اتهم بالميل إلى الحلبيين. ثم إنّ أمراء الدولة وأكابرها اتفقوا على إقامة عز الدين أيبك الجاشنكير الصالحي في السلطنة، وأقاموا أيبك المذكور، وركب بالسناجق السلطانية وحملت الغاشية بين يديه يوم السبت آخر ربيع الآخر هذه السنة ولقب الملك العزيز، وأبطلت السكة والخطبة التي كانت باسم شجر الدّر. ثم اجتمعت الأمراء واتفقوا على أنه لابد من إقامة شخص من بني أيوب في

السلطنة، واجتمعوا على إقامة موسى المذكور «1» ولقبوه الأشرف وأن يكون أيبك التركماني [أتابكا] «2» . وجلس الأشرف موسى بن يوسف بن الملك المسعود- صاحب اليمن الملقب أطسز المعروف بأقسيس- بن الملك الكامل بن العادل بن أيوب في دست (276) السلطنة، وحضرت الأمراء في خدمته يوم الخميس لخمس مضين من جمادى الأولى هذه السنة. وكان بغزّة حينئذ جماعة من عسكر مصر مقدمهم خاص ترك «3» فسار إليهم عسكر دمشق فاندفعوا من غزة إلى الصالحية بالسّانح، واتفقوا على طاعة المغيث صاحب الكرك، وخطبوا له بالصالحية [يوم الجمعة] «4» لأربع مضين من جمادى الآخرة هذه السنة. ولما جرى ذلك اتفق كبراء الدولة بمصر ونادوا بالقاهرة ومصر أن البلاد للخليفة المستعصم، ثم جدّدت الأيمان للملك الأشرف بالسلطنة ولأيبك التركماني بالأتابكية. وفي يوم الأحد لخمس مضين من رجب رحل فارس الدين آقطاي الجمدار الصالحي «5» متوجها إلى جهة غزة ومعه [تقدير] «4» ألفي فارس، وكان آقطاي

المذكور مقدم البحرية، فلما وصل إلى غزة اندفع من كان بها من جهة الملك الناصر بين يديه. وفي هذه السنة، اتفق كبراء الدولة وهدموا سور دمياط في العشر الأخير من شعبان هذه السنة لما حصل للمسلمين عليها من الشدة مرة بعد أخرى، وبنوا مدينة بالقرب منها بالبر وسموها المنشية، وأسوار دمياط التي هدمت من عمارة المتوكل العباسي. وفي مستهل شعبان، قبض الناصر يوسف صاحب دمشق وحلب على الناصر داود بن المعظم بن العادل الذي كان صاحب الكرك وبعث به إلى حمص فاعتقل بها، وذلك (277) لأشياء بلغته عنه خاف منها. وفي هذه السنة، سار الملك الناصر يوسف بعساكره من دمشق إلى الديار المصرية وصحبته من ملوك أهل بيته الصالح إسماعيل بن العادل بن أيوب، والأشرف موسى صاحب حمص وهو حينئذ صاحب تل باشر والرحبة وتدمر، والمعظم توران شاه بن السلطان صلاح الدين، وأخوه نصرة الدين «1» ، والأمجد حسن والظاهر شاذي ابنا الناصر داود بن المعظم عيسى بن العادل ابن أيوب، وتقي الدين عباس بن الملك العادل بن أيوب «2» ، ومقدم الجيش شمس الدين لؤلؤ الأرمني وإليه تدبير المملكة، فرحلوا من دمشق يوم الأحد منتصف رمضان هذه السنة، ولما بلغ المصريين ذلك اهتموا لقتاله ودفعه، وبرزوا إلى السّانح وتركوا الأشرف المسمى بالسلطان بقلعة الجبل، وأفرج أيبك عن ولدي الصالح إسماعيل

وهما المنصور إبراهيم «1» والسعيد عبد الملك «2» ، وكانا معتقلين من حين استيلاء الصالح أيوب على بعلبك «3» ، وخلع عليهما ليوهم الناصر يوسف صاحب الشام من أبيهما الصالح إسماعيل، والتقى العسكران المصري والشامي بالقرب من العباسة «4» يوم الخميس عاشر ذي القعدة هذه السنة، وكانت الكسرة أولا على عسكر مصر فخامر جماعة من مماليك الترك العزيزية على الملك الناصر صاحب الشام، وثبت المعز أيبك التركماني في جماعة يسيرة من البحرية، فانضاف جماعة من العزيزية مماليك والد الناصر إلى المعز (278) ، ولما انكسرت المصريون وتبعتهم العساكر الشامية ولم يشكوا في النصر بقي الملك الناصر تحت السناجق السلطانية في جماعة يسيرة من المتعممين لا يتحرك من موضعه، فحمل المعزّ التركماني بمن معه عليه فولى الناصر منهزما طالبا جهة الشام، ثم حمل المعزّ على طلب شمس الدين لؤلؤ فهزمهم وأخذ لؤلؤ أسيرا فضربت عنقه صبرا «5» ، وكذلك أسر الأمير ضياء الدين القيمري فضربت عنقه «6» ، وأسر يومئذ الصالح إسماعيل والأشرف موسى صاحب حمص والمعظم توران شاه بن السلطان صلاح الدين وأخوه نصرة الدين، ووصل عسكر الناصر في أثر المنهزمين

إلى العباسية وضربوا دهليز الملك الناصر وهم لا يشكون أن الهزيمة [تمت] «1» على المصريين، فلما بلغهم هروب الملك الناصر اختلفت آراؤهم فمنهم من أشار بالدخول إلى القاهرة وتملكها ولو فعلوه لما كان بقي مع المعزّ من يقابلهم به فإن غالب المصريين المنهزمين وصلوا إلى الصعيد، ومنهم من أشار بالرجوع إلى الشام وكان منهم تاج الملوك بن المعظم وهو مجروح «2» ، وكانت الوقعة يوم الخميس، ووصل المنهزمون من المصريين إلى القاهرة في غداة الوقعة نهار الجمعة فلم يشك أهل مصر في تملك الملك الناصر ديار مصر، وخطب له في الجمعة المذكورة بقلعة الجبل بمصر. وأما القاهرة فلم تقم فيها في ذلك اليوم خطبة لأحد، ثم وردت البشرى بانتصار البحرية، ودخل أيبك التركماني والبحرية إلى القاهرة يوم السبت ثاني عشر ذي القعدة، ومعه الصالح إسماعيل تحت الاحتياط وغيره من المعتقلين فحبسوا بالقلعة (279) وعقب ذلك أخرج أيبك التركماني أمين الدولة وزير الصالح إسماعيل وأستاذ داره [ابن] «1» يغمور [وكانا معتقلين] «3» من حين [استيلاء] «1» الصالح أيوب على بعلبك «4» فشنقهما على باب قلعة الجبل رابع عشر ذي القعدة. وفي ليلة الأحد سابع عشري ذي القعدة هجم جماعة على الملك الصالح عماد الدين إسماعيل بن الملك العادل بن أيوب وهو يمص قصب سكر وأخرجوه إلى ظاهر قلعة الجبل من جهة القرافة وقتلوه فدفن هناك وعمره نحو خمسين

سنة «1» ، وكانت أمه رومية من حظايا الملك العادل. وفيها، بعد هزيمة الملك الناصر صاحب الشام سار فارس الدين آقطاي بثلاثة آلاف فارس إلى غزة فاستولى عليها، ثم عاد إلى الديار المصرية. وفي هذه السنة، وثب على الملك المنصور عمر صاحب اليمن جماعة [من مماليكه] «2» فقتلوه، وهو عمر بن علي [بن] «2» رسول «3» ، [وكان «4» والده علي بن رسول أستاذ دار الملك المسعود بن السلطان الملك الكامل، فلما سار الملك المسعود من اليمن قاصد (ا) الشام وتوفي [بمكة] «2» استناب أستاذ داره علي بن رسول المذكور على اليمن فاستقر نائبا بها لبني أيوب] ، [وكان» لعلي المذكور إخوة فأحضروا إلى مصر وأخذوا رهائن خوفا من استيلاء علي بن رسول على اليمن، واستمر علي المذكور نائبا حتى مات، قيل سنة ثلاثين وست مئة واستولى على اليمن بعده ولده عمر على ما كان عليه أبوه من النيابة، فأرسل من مصر أعمامه ليعزلوه ويكونوا نوابا موضعه، فلما وصلوا إلى اليمن قبض عمر

[ثم دخلت سنة تسع وأربعين وست مئة

المذكور (280) عليهم واعتقلهم، واستقل بملك اليمن حينئذ وتلقّب بالملك المنصور، واستكثر من المماليك الترك فقتلوه في هذه السنة اعني سنة ثمان وأربعين وست مئة، واستقر بعده في ملك اليمن ابنه يوسف، وتلقّب بالملك المظفر «1» ، وصفا له اليمن وطالت أيام مملكته] . [ «2» ثم دخلت سنة تسع وأربعين وست مئة «13» فيها، توفي الصاحب محيي الدين بن مطروح «3» ، وكان متقدما عند الملك الصالح أيوب، كان يتولى له لما كان الصالح بالشرق نظر الجيش ثم استعمله على دمشق ثم عزله وولى ابن يغمور، وكان ابن مطروح المذكور فاضلا في النثر والنظم فمن شعره: (الكامل) عانقته فسكرت من طيب الشّذا ... غصن رطيب بالنسيم قد اغتذى نشوان ما شرب المدام وإنّما ... أمسى بخمر رضابه متنبّذا جاء العذول يلومني من بعد ما ... أخذ الغرام عليّ فيه مأخذا لا أرعوي، لا أنثني، لا أنتهي ... عن حبّه فليهذ فيه من هذى إن عشت عشت على الغرام وإن أمت ... وجدا به وصبابة يا حبّذا وفيها، جهز الملك الناصر يوسف صاحب الشام عسكرا إلى غزة، وخرج

ثم دخلت سنة خمسين وست مئة

المصريون إلى السّانح وأقاموا كذلك حتى خرجت هذه السنة. وفيها، توفي علم الدين قيصر بن أبي القاسم بن عبد الغني بن مسافر الفقيه الحنفي المقرئ المعروف بتعاسيف «1» ، وكان إماما في العلوم الرياضية، اشتغل بالديار المصرية والشام، ثم سار إلى الموصل، وقرأ على الشيخ كمال الدين موسى بن يونس «2» علم الموسيقى، ثم عاد إلى الشام وتوفي بدمشق في شهر رجب من هذه السنة المذكورة، ومولده سنة أربع وسبعين وخمس مئة بأصفون من شرقي صعيد مصر. ثم دخلت سنة خمسين وست مئة «13» ولم يقع لنا فيها ما يصلح أن يؤرخ] . سنة إحدى وخمسين وست مئة إلى سنة ستين وست مئة في سنة إحدى وخمسين وست مئة «14» استقر الصلح بين الناصر يوسف صاحب الشام وبين بحرية مصر، على أن يكون للمصريين إلى نهر الأردن، وللملك الناصر ما وراء ذلك، وكان نجم الدين البادرائي رسول الخليفة هو الذي حضر من جهة الخليفة وأصلح بينهم على ذلك، ورجع كل إلى مقره. وفيها، قطع أيبك التركماني خبز «3» حسام الدين بن أبي علي الهذباني،

فطلب دستورا فأعطاه فسار إلى الشام، فاستخدمه الناصر بدمشق. وفيها، أفرج الملك الناصر يوسف عن الناصر داود بن المعظم [الذي كان صاحب الكرك] «1» وكان قد اعتقله بقلعة حمص، وأفرج عنه بشفاعة الخليفة المستعصم وأمره أن لا يسكن في بلاده، فرحل الناصر داود إلى جهة بغداد فلم يمكنوه من الوصول إليها، وطلب وديعته الجوهر فمنعوه إياها، وكتب الملك الناصر يوسف إلى ملوك الأطراف أن لا يؤووه ولا يميروه فبقي الناصر داود في جهات عانة والحديثة وضاقت به الحال وبمن معه، وانضم (281) إليه جماعة غزيّة «2» فبقي معهم يرحلون وينزلون جميعا، [ثم لما] «3» قوي عليهم الحر ولم يبق بالبرية عشب قصدوا أزوار الفرات يقاسون بقّ الليل وهواجر النهار، وكان معه أولاده وكان لولده الظاهر شاذي فهد وكان يتصيد بالنهار عشرة غزلان، وكان يمضي للناصر داود وأصحابه [أيام] «4» لا يطعمون غير الغزلان، واتفق أن الأشرف صاحب تل باشر وتدمر والرّحبة يومئذ أرسل إلى الناصر داود مركبين موسقين دقيقا وشعيرا فأرسل الناصر يوسف يهدده على ذلك، ثم إن الناصر داود قصد مكانا للشرابي واستجار به فرتب له الشرابي شيئا دون كفايته وأذن له في النزول بالأنبار وبينها وبين بغداد ثلاثة أيام والناصر داود مع ذلك يتضرع إلى الخليفة المستعصم فلا يجيب ضراعته، ويطلب وديعته فلا يرد لهفته، ولا يجيبه إلا بالمماطلة والمطاولة، وكان مدة مقامه متنقلا في الصحارى مع الغزيّة ثلاثة

[ثم دخلت سنة اثنتين وخمسين وست مئة

أشهر، ثم بعد ذلك أرسل الخليفة وشفع فيه عند الناصر يوسف، فقبل شفاعته وأذن له في العود إلى دمشق ورتب له مئة ألف درهم على بحيرة فامية وغيرها، فلم يحصل له من ذلك إلا دون الثلاثين ألف درهم. وفيها، وصلت الأخبار من مكة أنّ نارا ظهرت من عدن وبعض جبالها بحيث كانت تظهر بالليل ويرتفع منها في النهار دخان عظيم. [ثم دخلت سنة اثنتين وخمسين وست مئة «13» ] «1» ذكر أخبار الحفصيين ملوك تونس (282) وإنما ذكرناها في هذه السنة لأنها كانت كالمتوسطة لمدة ملكهم، قال «2» : والحفصيون أولهم أبو حفص عمر بن يحيى الهنتاتي «3» ، وهنتاتة بتائين مثناتين من فوقهما: قبيلة من المصامدة يزعمون أنهم قرشيون من بني عدي بن كعب رهط عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان أبو حفص المذكور من أكبر أصحاب بن تومرت بعد عبد المؤمن، وتولى ولده عبد الواحد بن أبي حفص «4» أفريقية نيابة عن بني عبد المؤمن في سنة ثلاث وست مئة، ومات سلخ (ذي) الحجة سنة ثماني عشرة وست مئة، فتولى أبو العلا من بني عبد المؤمن ثم توفي

فعادت أفريقية إلى ولاية الحفصيين، وتولى منهم عبد الله بن عبد الواحد بن أبي حفص «1» في سنة ثلاث وعشرين وست مئة، ولما تولى ولى أخاه [أبا] «2» زكريا يحيى «3» قابس وأخاه أبا إبراهيم إسحاق «4» بلاد الجريد، ثم خرج على عبد الله وهو على قابس أصحابه ورجموه وطردوه وولوا موضعه أخاه أبا زكريا سنة خمس وعشرين وست مئة «5» ، فنقم بنو عبد المؤمن على أبي زكريا ذلك، فأسقط أبو زكريا اسم عبد المؤمن من الخطبة، وبقي اسم المهدي وخلع طاعة بني عبد المؤمن، وتملك أفريقية، وخطب لنفسه بالأمير المرتضى واتسعت مملكته وفتح تلمسان والغرب الأوسط وبلاد الجريد والزاب وبقي كذلك إلى أن توفي سنة سبع وأربعين وست مئة، وأنشأ في تونس بنايات عظيمة شامخة، وكان عالما بالأدب، وخلف أربع بنين وهم: أبو عبد الله محمد «6» ، وأبو إسحاق إبراهيم «7» ، وأبو حفص عمر «8» ، وأبو بكر وكنيته (283) أبو يحيى «9» ،

وخلف أخوين وهما أبو إبراهيم إسحاق ومحمد اللحياني «1» ابنا عبد الواحد بن أبي حفص، وكان محمد اللحياني صالحا منقطعا يتبرك به ثم تولى بعده «2» ابنه أبو عبد الله محمد بن أبي زكريا، ثم سعى عمه إبراهيم في خلعه فخلع، وبايع لأخيه محمد اللحياني الزاهد على كره منه لذلك فجمع أبو عبد الله محمد المخلوع أصحابه في يوم خلعه وشدّ على عمّيه فقهرهما وقتلهما، واستقر في ملكه وتلقب بالمستنصر بالله أمير المؤمنين أبي عبد الله محمد بن الأمراء الراشدين، وفي أيامه في سنة ثمان وستين وست مئة وصل الفرنسيس إلى أفريقية بجموع الفرنج، وأشرفت أفريقية على الذهاب، فقصمه الله ومات الفرنسيس وتفرقت جموعه «3» . وفي أيامه خافه أخوه أبو إسحاق إبراهيم بن أبي زكريا فهرب ثم أقام بتلمسان وبقي المستنصر المذكور حتى توفي ليلة حادي عشر ذي الحجة سنة خمس وسبعين وست مئة، فملك ابنه يحيى بن محمد بن أبي زكريا وتلقب بالواثق بالله أمير المؤمنين «4» ، وكان ضعيف الرأي فتحرك عليه عمه أبو إسحاق الذي هرب وأقام بتلمسان وغلب على الواثق فخلع نفسه واستقر أبو إسحاق إبراهيم في المملكة في ربيع الأول سنة ثمان وسبعين وست مئة، وخطب لنفسه بالأمير المجاهد، وترك زيّ الحفصيين وأقام على زي زناتة وعكف على الشرب وفرق [المملكة] «5» على أولاده، فوثبت أولاده على الواثق المخلوع فذبحوه

وذبحوا معه ولديه الفضل والطيب، وسلم للواثق ابن صغير يلقب أبا عصيدة «1» لأنهم (284) يصنعون للنفساء عصيدة فيها دواء ويهدونها للنسوان، وعملت أم الصبي ذلك فلقبوا ابنها [أبا] «2» عصيدة ثم ظهر إنسان ادعى أنه الفضل بن الواثق الذي ذبح مع ابيه واجتمعت عليه الناس، وقصدوا أبا إسحاق إبراهيم وقهره فهرب أبو إسحاق إلى بجاية وفيها ابنه أبو فارس عبد العزيز فترك [أبو] «3» فارس أباه ببجاية وسار بإخوته «4» وجمعه إلى الدعي بتونس والتقى الجمعان فانهزم عسكر بجاية وقتل أبو فارس وثلاثة من إخوته ونجا له أخ اسمه يحيى «5» وعمه أبو حفص عمر بن أبي زكريا، ولما هزم الدعي عسكر بجاية وقتل المذكورين أرسل إلى بجاية من قتل أبا إسحاق إبراهيم وجاء برأسه، ثم تحدث الناس بدعوة الدعي واجتمعت العرب على عمر بن [أبي] «6» زكريا بعد هروبه من المعركة، وقوي أمره وقصد الدعي بتونس وقهره وأسر الدعي في بيت بعض التجار بتونس ثم أحضر واعترف بنسبه فضربت عنقه، وكان الدعي المذكور من أهل بجاية واسمه أحمد بن مرزوق ابن أبي عمار «7» ، وكان أبوه يتجر إلى بلاد

السودان، وكان الدعي المذكور محارفا قصيفا وسار إلى ديار مصر، ونزل بدار الحديث الكاملية ثم عاد إلى الغرب فلما مرّ على طرابلس كان هناك شخص أسود يسمى نصيرا وكان خصيصا بالواثق المخلوع، وقد هرب لما جرى للواثق ما جرى، وكان في الدعي بعض الشبه من الفضل بن الواثق، فدبر مع نصير المذكور الأمر فشهد له أنه الفضل بن الواثق فاجتمعت عليه العرب، وكان منه ما ذكرناه (285) حتى قتل، وكان الدعي يخطب له بالخليفة المنصور بالله القائم بحق الله أمير المؤمنين بن أمير المؤمنين [أبي] «1» العباس الفضل، ولما استقر أبو حفص عمر في المملكة وقتل الدعي تلقب بالمستنصر بالله أمير المؤمنين، وهو المستنصر الثاني، ولما استقر في المملكة سار ابن أخيه يحيى بن إبراهيم بن أبي زكريا الذي سلم من المعركة إلى بجاية وملكها وتلقب بالمنتخب لإحياء دين الله أمير المؤمنين، واستمر المستنصر الثاني أبو حفص عمر بن أبي زكريا في مملكته حتى توفي في أوائل محرم سنة خمس وتسعين وست مئة، ولما اشتد مرضه بايع لابن له صغير واجتمع الفقهاء وقالوا أنت صائر إلى الله وتولية مثل هذا لا يحل فأبطل بيعته، وأخرج ولد الواثق المخلوع الذي كان صغيرا وسلم من الذبح الملقب بأبي عصيدة [وبويع صبيحة موت أبي حفص عمر الملقب بالمستنصر، وكان اسم أبي عصيدة المذكور] «2» أبا عبد الله محمد فلقب بالمستنصر أيضا وهو المستنصر الثالث، وتوفي في أيامه صاحب بجاية المنتخب يحيى بن إبراهيم بن أبي زكريا وملك بجاية بعده ولده خالد «3» ، وبقي أبو عصيدة كذلك حتى توفي سنة تسع

وسبع مئة فملك بعده شخص من الحفصيين يقال له أبو بكر بن عبد الرحمن بن أبي بكر بن أبي زكريا بن عبد الواحد بن أبي حفص صاحب ابن تومرت وأقام في المملكة ثمانية عشر يوما، ثم وصل خالد بن المنتخب صاحب بجاية ودخل تونس وقتل أبا بكر المذكور سنة تسع وسبع مئة. ولما جرى ذلك كان زكريا اللحياني «1» بمصر، فسار مع عسكر السلطان الملك الناصر إلى طرابلس الغرب وبايعه العرب، وسار إلى تونس (286) فخلع خالد بن المنتخب وحبس ثم قتل قصاصا بأبي بكر بن عبد الرحمن المقدم الذكر، واستقر اللحياني في ملك أفريقية، وهو أبو يحيى زكريا بن أحمد بن محمد الزاهد اللحياني بن عبد الواحد بن أبي حفص صاحب ابن تومرت، ثم تحرك على اللحياني أخو خالد بن المنتخب وهو أبو بكر بن يحيى المنتخب فهرب اللحياني إلى ديار مصر وأقام بالإسكندرية، وملك أبو بكر بن يحيى المنتخب «2» تونس وما معها خلا طرابلس والمهدية، فإنه بعد هروب اللحياني بايع ابنه محمد «2» نفسه واقتتل مع أبي بكر فهزمه أبو بكر واستقر محمد بن اللحياني بالمهدية وله معها طرابلس، وكان استيلاء أبي بكر وهروب اللحياني إلى ديار مصر في سنة تسع عشرة وسبع مئة، وأقام اللحياني في الإسكندرية، ثم وردت عليه مكاتبات من تونس في ذي القعدة سنة إحدى وعشرين وسبع مئة إلى الإسكندرية يذكرون فيها أن أبا بكر متملك تونس المذكور قد هرب وترك البلاد، وأن الناس قد أجابوا إلى طاعة اللحياني وبايعوا نائبه وهو محمد بن أبي بكر «2» من الحفصيين وهو صهر زكريا اللحياني المذكور وهم في انتظار وصول اللحياني إلى

مملكته. أقول «1» : وقد بقيت مملكة أفريقية مملكة يهرب «2» منها [لضعفها بسبب استيلاء العرب عليها] «3» . و [في هذه السنة] «4» اغتال المعزّ أيبك المستولي على مصر خوشداشه الفارس آقطاي الجمدار «5» وأوقف له في بعض دهاليز الدور التي بقلعة الجبل ثلاثة مماليك وهم: قطز «6» وبهادر «7» وسنجر الغتمي «7» فلما مر بهم آقطاي ضربوه بسيوفهم فقتلوه، ولما علمت البحرية ذلك هربوا من الديار المصرية إلى الشام.

وفي سنة ثلاث وخمسين وست مئة

وكان الفارس آقطاي يمنع أيبك من الاستقلال بالسلطنة وكان الاسم للملك الأشرف موسى بن يوسف بن الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب «1» ، فلما قتل آقطاي استقل المعزّ بالسلطنة، وأبطل الأشرف موسى المذكور عنها بالكلية، وبعث به إلى عماته القطبيات «2» ، وموسى المذكور آخر من خطب له من بيت أيوب بالسلطنة بمصر، وكان انقضاء دولتهم من الديار المصرية في هذه السنة على ما شرحناه. ووصلت البحرية إلى الملك الناصر يوسف صاحب الشام، واطمعوه في ملك مصر، فرحل من دمشق بعسكره ونزل عمقا من الغور، وأرسل إلى غزة عسكرا فنزلوا بها، وبرز المعزّ أيبك إلى العباسة، وخرجت السنة وهم على ذلك. وفيها، قدمت ملكة خاتون بنت كيقباذ ملك الروم إلى زوجها الملك الناصر صاحب الشام. وفي سنة ثلاث وخمسين وست مئة «13» عزمت العزيزية المقيمون مع المعزّ أيبك على القبض عليه، وعلم بذلك فاستعد لهم فهربوا من مخيمهم على العباسة على حمية، واحتيط على وطاقاتهم جميعا. وفيها، تزوج المعزّ أيبك شجر الدّر أم خليل التي خطب لها بالسلطنة بديار مصر. وفيها، طلب الملك الناصر داود من الناصر يوسف دستورا إلى العراق (288)

سنة أربع وخمسين وست مئة

بسبب طلب وديعته من الخليفة وهو الجوهر الذي تقدم ذكره «1» ، وأن يمضي إلى الحج فإذن له الناصر يوسف في ذلك، فسار الناصر داود إلى كربلاء ثم منها إلى الحج، ولما رأى قبر النبي صلى الله عليه وسلم تعلق في أستار الحجرة الشريفة بحضور الناس، وقال: اشهدوا أن هذا مقامي من رسول الله صلى الله عليه وسلم داخلا عليه ومستشفعا به إلى ابن عمه المستعصم في أن يرد علي وديعتي، فأعظم الناس ذلك، وجرت عبراتهم وارتفع بكاؤهم، وكتب بصورة ما جرى مشروح ودفع إلى أمير الحاج [كيخسرو] «2» وذلك يوم [السبت] «2» ثامن وعشري ذي الحجة، وتوجه الناصر داود مع الحاج العراقي وأقام ببغداد. سنة أربع وخمسين وست مئة «13» توفي كيخسرو ملك الروم «3» وأقيم في السلطنة ولداه الصغيران عز الدين كيكاوس وركن الدين قليج أرسلان. وفيها، توجه كمال الدين بن العديم «4» رسولا من الناصر يوسف صاحب الشام إلى الخليفة المستعصم ومعه تقدمة جليلة، وطلب خلعة من الخليفة لمخدومه، ووصل من مصر من جهة المعزّ التركماني شمس الدين سنقر الأقرع «5»

وفي سنة خمس وخمسين وست مئة

وهو من مماليك المظفر غازي صاحب ميّافارقين إلى بغداد بتقدمة جليلة، وسعى في تعطيل خلعة الناصر صاحب الشام، فبقي الخليفة متحيرا ثم إنه أحضر سكينا من اليشم كبيرة وقال الخليفة لوزيره: أعط هذه السكين لرسول صاحب الشام علامة مني أن له عندي خلعة في وقت (289) آخر، وأما في هذا الوقت فلا يمكنني، فأخذ كمال الدين بن العديم السكين وعاد إلى الناصر يوسف بغير خلعة. وفيها، جرى للناصر داود مع الخليفة ما صورته: أنه لما أقام ببغداد بعد وصوله مع الحجاج واستشفاعه بالنبي صلى الله عليه وسلم في رد وديعته أرسل الخليفة المستعصم من حاسب الناصر المذكور فيما وصله في ترداده إلى بغداد من المضيف اللحم والخبز والحطب والعليق والتّبن وغير ذلك وثمّن عليه بأغلى الأثمان وأرسل إليه شيئا نزرا وألزمه أن يكتب خطه بقبض وديعته، وأنه ما بقي يستحق عند الخليفة شيئا فكتب خطه بذلك كرها وسار عن بغداد وأقام مع العرب، ثم أرسل إليه الناصر يوسف صاحب الشام فحلف له وطيب قلبه فقدم الناصر داود دمشق ونزل بالصالحية. وفيها، في يوم الأحد ثالث شوال توفي سيف الدين طغريل «1» مملوك الملك المظفر [محمود صاحب حماة] «2» . وفي سنة خمس وخمسين وست مئة «13» قتل المعزّ التركماني الجاشنكير الصالحي «3» ، قتلته امرأته شجر الدّر التي

كانت امرأة أستاذه الملك الصالح أيوب، وهي التي خطب لها بالسلطنة بديار مصر، وكان سبب ذلك أنه بلغها أن المعز قد خطب بنت بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل ويريد الدخول بها، فقتلته في الحمام بعد عوده من لعب الكرة في النهار المذكور، وكان الذي قتله سنجر الجوجري مملوك الطواشي محسن والخدام «1» حسبما اتفقت (290) معهم، وأرسلت في تلك الليلة إصبع المعزّ وخاتمه إلى الأمير عز الدين الحلبي الكبير «2» وطلبت منه أن يقوم بالأمر فلم يجسر على ذلك، ولما ظهر الخبر أراد مماليك المعزّ قتل شجر الدّر فحماها المماليك الصالحية واتفقت الكلمة على إقامة نور الدين بن المعزّ ولقبوه الملك المنصور «3» وعمره حينئذ خمس عشرة سنة، ونقلت شجر الدّر من دار السلطنة إلى البرج الأحمر، وصلبوا الخدام الذين اتفقوا معها على قتل المعزّ وهرب سنجر الجوجري ثم ظفروا به وصلبوه واحتيط على الصاحب بهاء الدين علي بن حنّا «4» لكونه وزير شجر الدّر، وأخذ خطه بستين ألف دينار. وفي يوم الجمعة عاشر ربيع الآخر هذه السنة، اتفقت مماليك المعز مثل سيف

الدين قطز وسنجر الغتمي وبهادر وقبضوا على علم الدين سنجر الحلبي «1» وكان قد صار أتابكا للملك المنصور علي بن المعزّ ورتبوا في الأتابكية آقطاي المستعرب الصالحي «2» . وفي سادس ربيع الآخر من هذه السنة، قتلت شجر الدّر «3» وألقيت خارج البرج فحملت إلى تربة كانت قد عملتها فدفنت فيها، وكانت تركية الجنس، وقيل: أرمنية، وكانت مع الملك الصالح في الاعتقال بالكرك، وولدت منه ولدا أسمه خليل مات صغيرا، وبعد ذلك بأيام خنق شرف الدين الفائزي. وفي هذه السنة، نقل إلى الملك الناصر يوسف بن الملك العزيز صاحب الشام أن البحرية يريدون أن يمسكوا به، فاستوحش منهم خاطره، وتقدم إليهم بالانبراح عن دمشق، فساروا إلى (291) غزة وانتموا إلى الملك المغيث فتح الدين عمر بن العادل أبي بكر بن الكامل وانزعج أهل مصر لقدوم البحرية إلى غزة، وبرزوا إلى العباسة، ووصل من البحرية جماعة مقفزين إلى القاهرة ومنهم عز الدين الأفرم «4» فأكرموهم وأفرجوا عن أملاك الأفرم، ولما فارق البحرية الناصر صاحب الشام أرسل عسكرا في إثرهم فكبس البحرية ذلك العسكر ونالوا منه، ثم إن عسكر الناصرية بعد الكبسة كسر البحرية فانهزموا إلى البلقاء، وإلى زغر «5» ملتجئين إلى المغيث صاحب الكرك، فأنفق فيهم المغيث أموالا جليلة

وأطمعوه في ملك مصر فجهزهم بما احتاجوه، وسارت البحرية وعسكر المغيث بكرة السبت منتصف (ذي) القعدة من هذه السنة، فانهزم عسكر المغيث والبحرية وفيهم بيبرس البندقداري المسمى بعد ذلك بالملك الظاهر إلى جهة الكرك. وفيها، وصل من الخليفة المستعصم الخلعة والطوق والتقليد إلى الملك الناصر يوسف بن الملك العزيز على يد الشيخ نجم الدين البادرائي فقال في ذلك الشهاب الوفائي «1» : (الكامل) يا أيها المولى الذي أضحى الورى ... من فعله في نعمة ومزيد إني عهدتك في العلوم مقلدا ... فعجبت كيف أتيت بالتقليد وفيها، استجار الناصر داود بنجم الدين البادرائي في أن يتوجه صحبته (292) إلى بغداد فأخذه صحبته وتوصل الناصر يوسف صاحب دمشق إلى منعه من ذلك فلم يتهيأ له ذلك، وسار الناصر داود مع البادرائي إلى قرقيسياء فأخره البادرائي ليشاور عليه فأقام الناصر داود بقرقيسياء ينتظر الإذن له في القدوم إلى بغداد فلم يؤذن له، وطال مقامه فسار إلى البرية وقصد تيه بني إسرائيل وأقام مع عرب تلك البلاد. وفيها، أو التي قبلها ظهرت نار الحرة عند مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم وكان لها بالليل ضوء عظيم يظهر من مسافة بعيدة جدا «2» ، ولعلها النار التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم من علامات الساعة، فقال «3» :

وفي سنة ست وخمسين وست مئة

«نار تظهر بالحجاز تضيء منها أعناق الإبل ببصرى» ثم اتفق أن الخدام بحرم النبي صلى الله عليه وسلم وقع منهم في بعض الليالي تفريط، فاشتعلت النار في المسجد الشريف فاحترقت سقوفه ومنبر النبي صلى الله عليه وسلم وتألم الناس لذلك. وفي سنة ست وخمسين وست مئة «13» كان استيلاء التتر على بغداد وانقراض الدولة العباسية، وسبب ذلك أن وزير الخليفة مؤيد الدين بن العلقمي «1» كان رافضيا، وكان أهل الكرخ روافض، فجرت فتنة بين السنة والرافضة، فأمر أبو بكر بن الخليفة «2» (و) ركن الدين الدّوادار العسكر فنهبوا الكرخ وهتكوا النساء وركبوا منهن الفواحش، فعظم ذلك على الوزير بن العلقمي فكاتب التتر وأطمعهم في ملك بغداد، وكان عسكر (293) بغداد يبلغ مئة ألف فارس فقطعهم المستعصم ليحمل إلى التتر متحصل إقطاعاتهم، وصار عسكر بغداد دون عشرين ألف فارس، وأرسل ابن العلقمي إلى التتر أخاه بطلبهم، فساروا قاصدين بغداد في جحفل عظيم وخرج عسكر الخليفة لقتالهم ومقدمهم ركن الدين الدّوادار والتقوا على مرحلتين من بغداد واقتتلوا قتالا شديدا، فانهزم عسكر الخليفة ودخل بعضهم بغداد وسار بعضهم إلى جهة الشام، ونزل هولاكو على بغداد من الجانب الشرقي، ونزل

باجوا وهو مقدم كبير بالجانب الغربي على القرية قبالة دار الخليفة، وخرج مؤيد الدين بن العلقمي إلى هولاكو فتوثق منه لنفسه وعاد إلى الخليفة وقال: إن هولاكو يبقيك بدار الخلافة كما فعل بسلطان الروم، ويريد أن يزوج ابنته بابنك أبي بكر وحسن له الخروج إلى هولاكو، فخرج المستعصم في جمع من أكابر أصحابه فأنزل في خيمة، ثم استدعى الوزير الفقهاء والأماثل فاجتمع هناك جميع سادات بغداد والمدرسون وكان منهم محيي الدين بن الجوزي وأولاده، وبقي كذلك يخرج إلى التتر طائفة بعد طائفة فلما تكاملوا قتلهم التتر عن آخرهم، ثم مدوا الجسر وعدى باجو ومن معه وبذلوا السيف في بغداد، وهجموا دار الخلافة وقتلوا كل من كان فيها من الأشراف ولم يسلم منهم إلا من كان صغيرا فأخذ أسيرا، ودام القتل والنهب في بغداد نحو أربعين يوما (294) ثم نودي بالأمان. وأما الخليفة فإنهم قتلوه، ولم يقع اطلاع على كيفية قتله، فقيل: خنق، وقيل: وضعوه في عدل ورفسوه حتى مات، وقيل: غرّق في دجلة والله أعلم «1» . وكان هذا المستعصم أبو أحمد عبد الله بن المستنصر أبي جعفر منصور ابن محمد الظاهر بن الإمام الناصر أحمد وقد تقدم ذكر باقي نسبه عند وفاة الإمام الناصر «2» ، ضعيف الرأي، قد غلب عليه أمراء دولته لسوء تدبيره، تولى الخلافة بعد موت أبيه المستنصر في سنة أربعين وست مئة، وكانت مدة خلافته نحو ستّ عشرة سنة تقريبا، وهو آخر خلفاء بني العباس، وكان ابتداء دولتهم في سنة اثنتين وثلاثين ومئة، وهي السنة التي بويع فيها السفاح بالخلافة، وقتل فيها

مروان الحمار آخر خلفاء بني أمية، فكانت مدة ملكهم خمس مئة وأربعا وعشرين سنة تقريبا، وعدة خلفائهم سبعة وثلاثون خليفة. حكى القاضي جمال الدين بن واصل، قال: لقد أخبرني من أثق به أنه وقف على كتاب عتيق فيه ما صورته: أن علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بلغ خلفاء بني أمية عنه أنه يقول: إن الخلافة تصير إلى ولده فأمر الأموي بعلي بن عبد الله فحمل على جمل بعد أن ضرب وطيف به ونودي عليه عند ضربه: هذا جزاء من يفتري ويقول إن الخلافة تكون في ولده، فكان علي بن عبد الله يقول: إي والله لتكوننّ الخلافة في ولدي، لا تزال فيهم حتى يأتيهم العلج من خراسان فينتزعها منهم فوقع (295) مصداق ذلك وهو ورود هولاكو وإزالته ملك بني العباس «1» . وفي هذه السنة، كانت الوقعة بين المغيث صاحب الكرك وعسكر مصر، كان قد انضمت البحرية إلى المغيث بن العادل بن الكامل بن العادل بن أيوب ونزل من الكرك وخيم بغزة، وجمع الجموع وسار إلى مصر في دست السلطنة، وخرجت عساكر مصر مع مماليك الملك المعزّ أيبك وأكبرهم سيف الدين قطز والغتمي وبهادر، والتقى الفريقان وانكسر المغيث ومن معه وسار منهزما إلى الكرك في أسوأ حال، ونهب ثقله ودهليزه. وفي هذه السنة أعني سنة ست وخمسين، توفي الملك الناصر داود «2» بظاهر دمشق في قرية يقال لها البويضاء، ومولده سنة ثلاث وست مئة، وكان عمره ثلاثا وخمسين سنة، وكنا قد ذكرنا أخباره في سنة خمس وخمسين، وأنه توجه

إلى تيه بني إسرائيل وصار مع عرب تلك البلاد «1» ، وبلغ المغيث صاحب الكرك وصوله إلى تلك الجهة فخشي منه وأرسل إليه وقبض عليه وحمله إلى الشّوبك وأمر بحفر مطمورة ليحبسه فيها [وبقي الناصر ممسوكا والمطمورة تحفر قدامه ليحبس فيها] «2» ، فبينما هو على تلك الحال إذ ورد رسول الخليفة المستعصم من بغداد يطلبه لما قصده التتر ليقدمه على بعض العساكر [لملتقى التتر] «3» ، فلما ورد رسول الخليفة إلى دمشق جهز (هـ) الناصر يوسف إلى المغيث ووصل الرسول إلى الناصر داود قبل فراغ المطمورة فأخذه وعاد به إلى دمشق فبلغ الرسول باستيلاء التتر على بغداد وقتل الخليفة، فتركه الرسول ومضى (296) لشأنه، فسار الناصر داود إلى البويضاء من قرى دمشق وأقام بها، ولحق الناس بالشام في تلك المدة طاعون مات فيه الناصر داود، وخرج الناصر يوسف صاحب دمشق إلى البويضاء، وأظهر عليه الحزن والتأسف، ونقله إلى الصالحية فدفنه بتربة والده المعظم. وكان الناصر داود فاضلا ناظما ناثرا وقرأ [العلوم] «3» العقلية على الشيخ شمس الدين عبد الحميد الخسرو شاهي «4» تلميذ الإمام فخر الدين الرازي، وللناصر داود المذكور أشعار جيدة، وقد تقدم ذكر بعضها «5» ، ومن شعره أيضا «6» : (الطويل)

عيون عن السّحر المبين يبين ... لها عند تحريك القلوب سكون تصول ببيض وهي سود حديدها «1» ... ذبول فتور والجفون جفون إذا ما رأت قلبا خليّا من الهوى ... تقول له: كن مغرما فيكون وله «2» : (الكامل) طرفي وقلبي قاتل وشهيد ... ودمي على خدّيك منه شهود أمّا وحبّك لست أضمر سلوة ... عن صبوتي [ودعي] «3» الفؤاد يبيد منّي بطيفك بعد ما منع الكرى ... عن ناظريّ البعد والتّسهيد ومن العجائب أن قلبك لم يلن ... لي، والحديد ألانه داود ومما كتبه في أثناء مكاتبته إلى الشيخ عز الدين بن عبد السلام، وكان قد أغارت الفرنج على نابلس في أيام الصالح أيوب صاحب مصر: (الطويل) (297) ألا «4» ليت أمي أيّم طول عمرها ... فلم يقضها ربي لمولى ولا بعل ويا ليته لما قضاها لسيّد ... لبيب أريب طيب الفرع والأصل قضاها من اللاتي خلقن عواقرا ... فما بشّرت يوما بأنثى ولا فحل ويا ليتها لما غدت بي حاملا ... أصيبت بما احتقّت عليه من الحمل ويا ليتني لما ولدت وأصبحت ... تشدّ إزاري كنت أرمحت بالرّحل «5» لحقت بأسلافي فكنت ضجيعهم ... ولم أر في الإسلام بالله «6» من خلّ

وفي هذه السنة، قصدت التتر ميّافارقين بعد ملكهم بغداد، وكان صاحب ميّافارقين حينئذ الملك الكامل محمد بن الملك المظفر شهاب الدين غازي بن العادل أبي بكر بن أيوب، وكان قد ملكها بعد وفاة أبيه سنة اثنتين وأربعين وست مئة، فحاصره التتر وضايقوا ميّافارقين مضايقة شديدة، وصبر أهل ميّافارقين مع الكامل المذكور على الجوع الشديد، ودام ذلك حتى كان منه ما سنذكره «1» إن شاء الله تعالى. وفيها، اشتد الوباء بالشام خصوصا دمشق حتى لم يوجد مغسّل للموتى. وفيها، أرسل الملك الناصر يوسف صاحب الشام ولده الملك العزيز محمد وصحبته زين الدين المعروف بالحافظي «2» ، وهو من أهل قرية عقرباء «3» من بلاد دمشق بتحف وتقدّم إلى هولاكو ملك التتر، وصانعه لعلمه بعجزه عن مقاومته. وفيها، كان بين البحرية بعد هزيمتهم من المصريين وبين عسكر الناصر يوسف صاحب دمشق ومقدمهم الأمير (298) مجير الدين بن أبي زكرى «4» مصاف بظاهر غزة انهزم فيه عسكر الناصر يوسف وأسر مجير الدين، وقوي أمر البحرية بعد هذه الكسرة وأكثروا العبث والفساد.

وفي سنة سبع وخمسين وست مئة

وفي سنة سبع وخمسين وست مئة «13» سار عز الدين كيكاوس وركن الدين قليج أرسلان ابنا كيخسرو بن كيقباذ إلى خدمة هولاكو وأقاما معه مدة، ثم عادا إلى بلادهما. وفي هذه السنة، توفي بدر الدين لؤلؤ «1» صاحب الموصل، ولقبه الملك الرحيم، وكان عمره قد جاوز ثمانين سنة، ولما مات ملك بعده ولده الملك الصالح «2» الموصل، وملك سنجار ولده الآخر علاء الدين «3» ، وكان بدر الدين قد صانع هولاكو ودخل تحت طاعته، وحمل إليه الأموال، ووصل إلى خدمة هولاكو بعد أخذ هولاكو بغداد ببلاد أذربيجان، وكان صحب لؤلؤا الشريف العلوي ابن صلايا، فقيل إن لؤلؤا سعى به إلى هولاكو فقتل الشريف المذكور «4» ، ولما عاد لؤلؤ إلى الموصل لم يطل مقامه بها حتى مات، وطالت أيامه في ملك الموصل فإنه كان القائم بأمور أستاذه أرسلان شاه بن مسعود بن مودود بن زنكي ابن آقسنقر، وقام بتدبير ولده الملك القاهر، ولما توفي الملك القاهر في سنة خمس عشرة وست مئة انفرد لؤلؤ بالمملكة، وأقام ولدي القاهر الصغيرين واحدا بعد آخر، واستبد بملك الموصل وبلادها ثلاثا وأربعين سنة تقريبا، ولم يزل في ملكه

سعيدا لم تطرقه آفة، ولم يختل لملكه نظام. وفي هذه السنة لما جرى من البحرية ما ذكرناه من كسر عسكر الناصر يوسف، سار الناصر المذكور عن دمشق (299) بنفسه وعساكره، وسار في صحبته الملك المنصور صاحب حماة بعسكره إلى جهة الكرك على بركة زيزاء «1» محاصرا للملك المغيث صاحب الكرك بسبب حمايته للبحرية، ووصل إلى الملك الناصر رسل المغيث صاحب الكرك والقطببة بنت الملك الأفضل قطب الدين بن الملك العادل «2» يتضرعون إلى الناصر ويطلبون رضاه عن الملك المغيث فلم يجب إلى ذلك إلا بشرط أن المغيث يقبض على من عنده من البحرية، فأجاب المغيث إلى ذلك، وعلم بالحال ركن الدين بيبرس البندقداري فهرب في جماعة من البحرية إلى الناصر يوسف فأحسن إليه، وقبض المغيث على من عنده من البحرية ومن جملتهم سنقر الأشقر «3» وسكز «4» وبرامق «4» وأرسلهم على الجمال إلى الملك الناصر فبعث بهم إلى حلب فاعتقلوا بها، واستقر الصلح بين الناصر وبين المغيث صاحب الكرك، وكان مدة مقام الناصر يوسف بالعساكر على بركة زيزاء ما يزيد على شهرين بقليل، ثم عاد إلى دمشق وأعطى للملك المنصور صاحب

حماة دستورا فعاد إلى بلده. وفي أواخر سنة سبع وخمسين في أوائل ذي الحجة قبض سيف الدين قطز على ابن أستاذه الملك المنصور نور الدين علي بن المعزّ أيبك وخلعه من السلطنة، وكان علم الدين الغتمي وسيف الدين بهادر وهما من كبار المعزية غائبين في رمي البندق، وانتهز قطز الفرصة في غيبتهما وفعل ذلك، ولما حضر الغتمي وبهادر المذكوران قبض عليهما أيضا، واستقر قطز في ملك الديار المصرية، وتلقب بالملك المظفر (300) وكان رسول صاحب الشام وهو كمال الدين بن العديم قد قدم إلى مصر في أيام المنصور علي بن المعز مستنجدا على التتر، واتفق خلع علي المذكور وولاية قطز بحضور كمال الدين بن العديم. ولما استقر قطز في السلطنة أعاد جواب الملك الناصر أنه ينجده ولا يقعد عن نصرته، وعاد ابن العديم بذلك. وفي هذه السنة، قصد هولاكو البلاد التي بشرقي الفرات، ونازل حران وملكها واستولى على البلاد الجزرية، وأرسل ولده شموط بن هولاكو إلى الشام، فوصل إلى ظاهر حلب في العشر الأخير من ذي الحجة هذه السنة، وكان الحاكم بحلب الملك المعظم توران شاه بن السلطان صلاح الدين نائبا عن ابن ابن أخيه الملك الناصر «1» ، فخرج عسكر حلب لقتالهم وخرج المعظم ولم يكن من رأيه الخروج وأكمن لهم التتر في الباب المعروف بباب الله وتقاتلوا عند بانقوسا «2» فاندفع التتر قدامهم إلى أن خرجوا عن البلد، ثم عادوا إليها وهرب المسلمون

[ثم دخلت سنة ثمان وخمسين وست مئة]

طالبين المدينة والتتر يقتلون [فيهم] «1» حتى دخلوا البلد، واختنق في أبواب البلد جماعة من المسلمين، ثم رحل التتر إلى أعزاز فتسلموها بالأمان. [ثم دخلت سنة ثمان وخمسين وست مئة «13» ] «2» ولما بلغ الناصر يوسف صاحب الشام قصد التتر حلب برز من دمشق إلى برزة «3» في أواخر السنة [الماضية] «2» ، وجفل الناس من بين يدي التتر، وسار الملك المنصور صاحب حماة إلى دمشق ونزل مع الناصر ببرزة وكان هناك مع الناصر يوسف بيبرس البندقداري من حين هرب من الكرك والتجأ إلى الناصر، واجتمع عند الناصر (301) على برزة أمم عظيمة من العساكر والجفال. [ولما دخلت هذه السنة والملك الناصر على برزة بلغه] «4» أن جماعة من مماليكه قد عزموا على اغتياله والفتك به، فهرب من الدّهليز إلى قلعة دمشق وبلغ مماليكه [الذين] «2» قصدوا [ذلك] «2» علمه بهم فهربوا على حميّة إلى غزّة، وكذلك سار بيبرس البندقداري إلى غزّة، وأشاع المماليك الناصرية أنهم لم يقصدوا قتل الملك الناصر وإنما كان قصدهم أن يقبضوا عليه ويسلطنوا أخاه الملك الظاهر غازي بن العزيز محمد بن الظاهر غازي بن السلطان صلاح الدين «5» لشهامته.

ولما جرى ذلك هرب الملك الظاهر المذكور خوفا من أخيه الملك الناصر، وكان الظاهر المذكور شقيق الناصر وأمهما [أم ولد] «1» تركية ووصل الملك الظاهر إلى غزّة واجتمع عليه من بها من العسكر وأقاموه سلطانا، ولما جرى ذلك كاتب بيبرس البندقداري الملك المظفر قطز صاحب مصر، فبذل له الأمان ووعده [الوعود الجميلة] «1» ، ففارق بيبرس البندقداري الشاميين وسار إلى مصر في جماعة من أصحابه، فأقبل عليه الملك المظفر قطز وأنزله في دار الوزارة وأقطعه قليوب وأعمالها. وفي سنة ثمان وخمسين في يوم الأحد تاسع صفر، كان استيلاء التتر على حلب، وسببه أن هولاكو عبر الفرات بجموعه ونازل حلب وأرسل هولاكو إلى الملك المعظم توران شاه نائب السلطنة بحلب يقول له: إنكم تضعفون عن لقاء المغل، ونحن قصدنا الملك الناصر والعساكر فاجعلوا لنا عندكم بحلب شحنّة، وبالقلعة (302) شحنّة ونحن نتوجه إلى العسكر، [فإن كانت الكسرة على الإسلام كانت البلاد لنا، وتكونوا قد حقنتم دماء المسلمين] «2» ، وإن كانت الكسرة علينا كنتم مخيرين في الشّحنتين إن شئتم طردتموهما وإن شئتم قتلتموهما، فلم يجب المعظم إلى ذلك، وقال: ليس لكم عندنا إلا السيف، وكان رسول هولاكو إليهم في ذلك صاحب أرزن الروم فتعجب من الجواب، وتألم من هلاك أهل حلب بسبب ذلك. وأحاط التتر بحلب ثاني صفر، وهجموا التوامين في غد ذلك اليوم، وقتل من المسلمين جماعة كثيرة، وممن قتل أسد الدين بن الملك الزاهر بن صلاح

الدين «1» ، واشتد (ت) مضايقة التتر للبلد، وهجموه من عند حمام حمدان في ذيل قلعة الشريف يوم الأحد تاسع صفر وبذلوا السيف في المسلمين، وصعد إلى القلعة خلق عظيم، ودام القتل والنهب من نهار الأحد المذكور إلى الجمعة رابع عشر صفر المذكور، فأمر هولاكو برفع السيف، ونودي بالأمان، ولم يسلم من أهل حلب إلا من التجأ إلى دار شهاب الدين بن عمرون «2» ، ودار نجم الدين أخي مردكين، ودار البازياد، ودار علم الدين قيصر الموصلي، والخانقاه التي فيها زين الدين الصوفي، وكنيسة اليهود، وذلك لفرمانات كانت بأيديهم، وقيل إنه سلم بهذه الأماكن [خمسون] «3» ألف نفس، ونازل التتر القلعة، وحاصروها وبها المعظم ومن التجأ إليها من العسكر، واستمر الحصار عليها إلى أن (كان) [ما سنذكره] «4» ، وكان قد تأخر بحماة الطواشي مرشد لما سار صاحب حماة (303) إلى دمشق، فلما بلغ أهل حماة فتح حلب توجه الطواشي مرشد من حماة إلى الملك المنصور صاحب حماة إلى دمشق، ووصل كبراء حماة إلى حلب ومعهم مفاتيح حماة وحملوها إلى هولاكو، وطلبوا منه الأمان لأهل حماة وشحنة يكون عندهم، فأمنهم هولاكو وأرسل إلى حماة شحنة رجلا أعجميا كان يدّعي أنه من ذرية خالد بن الوليد يقال له خسرو شاه، فسار إلى حماة وتولاها وأمن الناس، وكان بقلعة حماة مجاهد الدين قايماز أمير جندار فسلم القلعة إليه ودخل في طاعة التتر.

ولما بلغ الملك الناصر بدمشق أخذ حلب رحل من دمشق وبمن معه من العساكر إلى الديار المصرية وفي صحبته الملك المنصور صاحب حماة وأقام بنابلس أياما ورحل عنها ونزلها الأمير مجير الدين بن أبي زكرى «1» والأمير علي ابن شجاع «2» ومعهما جماعة من العسكر، ثم سار الملك الناصر إلى غزّة فانضم إليه مماليكه الذين كانوا أرادوا قتله، وكذلك اصطلح معه أخوه المظفر غازي، وانضم إليه خلق عظيم، ووصل التتر إلى نابلس وكبسوا العسكر الذي بها وقتلوا الأمير مجير الدين والأمير علي بن شجاع وكانا أميرين جليلين فاضلين، وكان البحرية قد قبضوا عليهما واعتقلوهما بالكرك، وأفرج عنهما المغيث لما وقع الصلح بينه وبين الناصر. ولما بلغ الملك الناصر وهو بغزّة ما جرى من كبسة التتر لنابلس رحل من غزّة (304) إلى العريش، وسير القاضي برهان الدين [الخضر] «3» رسولا إلى الملك المظفر يطلب منه المعاضدة، ثم سار الملك الناصر والمنصور صاحب حماة والعسكر ووصلوا إلى قطيا فجرى فيها فتنة بين التركمان والأكراد الشّهرزوريّة ووقع نهب في الجفّال وخاف الملك الناصر أن يدخل مصر فيقبض عليه، فتأخر في قطيا ورحلت العساكر والملك المنصور صاحب حماة إلى مصر، وتأخر مع

الملك الناصر جماعة يسيرة منهم أخوه الظاهر والملك الصالح شير كوه صاحب حمص، وشهاب الدين القيمري، ثم سار الملك الناصر بمن تأخر معه إلى تيه بني إسرائيل، ولما وصلت العساكر إلى مصر التقاهم الملك المظفر قطز بالصالحية وطيّب قلوبهم، وأرسل إلى الملك المنصور صاحب حماة سنجقا والتقاه ملتقى حسنا وطيّب قلبه ودخل القاهرة. وأما التتر، فإنهم استولوا على دمشق وعلى سائر الشام إلى غزّة واستقرت شحانيهم بهذه البلاد. وأما قلعة حلب فوثب جماعة من أهلها في مدة الحصار على صفي الدين بن طرزة رئيس حلب، وعلى نجم الدين محمد بن عبد العزيز بن القاضي نجم الدين بن أبي عصرون فقتلوهما لأنهم اتهموهما بمواطأة التتر، ودام الحصار على القلعة نحو شهرين، ثم سلمت بالأمان في يوم الاثنين الحادي عشر من ربيع الأول هذه السنة. ولما نزل أهلها بالأمان، وكان فيها جماعة من البحرية الذين (305) حبسهم الملك الناصر منهم سكز وبرامق وسنقر الأشقر فسلمهم هولاكو وباقي الترك إلى رجل مع التتر يقال له سلطان حق وهو من أكابر القفجاق هرب من التتر لما غلبت على القفجاق إلى حلب فأكرمه الملك الناصر فلم تطب له تلك البلاد وعاد إلى التتر، وأما العوام والغرباء فنزلوا إلى أماكن الحمى التي قدمنا ذكرها «1» ، وأمر هولاكو أن يمضي كل من سلم إلى داره وملكه وأن لا يعارض، وجعل النائب عماد الدين القزويني، ووصل إلى هولاكو على حلب الملك الأشرف صاحب حمص [موسى] «2» بن إبراهيم بن شير كوه، وكان قد انفرد الأشرف المذكور عن

المسلمين لما توجه الناصر يوسف إلى جهة مصر، ووصل إلى هولاكو بحلب فأكرمه هولاكو وأعاد عليه حمص، وكان قد أخذها منه الناصر صاحب حلب في سنة ست وأربعين وست مئة وعوضه عنها تل باشر كما تقدم ذكره «1» فعادت إليه في هذه السنة واستقر ملكه بها. وقدم أيضا على هولاكو وهو نازل على حلب محيي الدين بن الزكي «2» من دمشق ومعه مفاتيحها، فأقبل عليه هولاكو وخلع عليه وولاه قضاء الشام، ولما عاد ابن الزكيّ المذكور إلى دمشق لبس خلعة هولاكو فكانت مذهبة وجمع الفقهاء وغيرهم من أكابر دمشق وقرأ عليهم تقليد هولاكو واستقر في القضاء. ثم رحل هولاكو إلى حارم وطلب تسلمها، فامتنعوا أن يسلموها لغير فخر الدين «3» والي قلعة حلب فاحضره هولاكو (306) فسلموها إليه فغضب هولاكو [من ذلك] «4» وقتل أهل حارم عن آخرهم، وسبى النساء ثم رحل بعد ذلك وعاد إلى الشرق، وأمر عماد الدين القزويني «3» بالرحيل إلى بغداد فسار إليها وجعل مكانه بحلب رجلا أعجميا وأمر هولاكو بخراب أسوار قلعة حلب وإخراب أسوار المدينة فخربت عن آخرها، وأعطى هولاكو الأشرف موسى صاحب حمص الدستور ففارقه ووصل إلى حماة فنزل بدار المبارز «5» وأخذ في

خراب سور حماة بتقدم هولاكو، إليه فخربت أسوارها واحترقت زردخاناتها وبيعت [الكتب] «1» التي في دار السلطنة بقلعة حماة بأبخس الأثمان. وأما أسوار مدينة حماة فلم تخرب لأنه كان بحماة رجل يقال له إبراهيم ابن الفرنجية «2» ضامن الجهة المفردة بذل لخسرو شاه جملة كثيرة من المال، وقال: الفرنج قريب منا بحصن الأكراد ومتى خربت أسوار المدينة [لا] «1» يقدر أهلها على المقام فيها فأخذ منه المال ولم يتعرض لخراب أسوار المدينة، وكان قد أمر هولاكو الملك الأشرف صاحب حمص بخراب قلعة حمص [أيضا] «3» فلم يخرب منها إلا شيئا قليلا لأنها مدينته. وأما دمشق فإنهم لما ملكوا المدينة بالأمان لم يتعرضوا إلى قتل ولا نهب، وعصت عليهم قلعة دمشق فحاصرها التتر وجرى على أهل دمشق شدة عظيمة من عصيان القلعة، وضايقوا القلعة وأقاموا عليها المناجيق، ثم تسلموها بالأمان في منتصف جمادى الأولى من هذه السنة (307) ونهبوا جميع ما فيها، وجدّوا في خراب أسوار القلعة وإعدام ما بها من الزردخانات والآلات، ثم توجهوا إلى بعلبك ونازلوا قلعتها. وفي هذه السنة، استولى التتر على ميّافارقين وقد تقدم ذكر نزولهم عليها في سنة ست وخمسين «4» ودام الحصار عليهم حتى فنيت أزوادهم وفني أهلها

بالوباء وبالقتل، وصاحبها الملك الكامل محمد بن المظفر غازي بن العادل أبي بكر بن أيوب [مصابر ثابت] «1» ، وضعف من عنده عن القتال فاستولى عليها التتر وقتلوا صاحبها الملك الكامل المذكور «2» وحملوا رأسه على رمح وطيف به في البلاد، ومروا به على حلب وحماة ووصلوا به إلى دمشق في سابع عشري جمادى الأولى، فطافوا به دمشق بالمغاني والطبول، وعلق الرأس المذكور في شبكة بسور باب الفراديس إلى أن عادت دمشق إلى المسلمين فدفن بمشهد الحسين داخل باب الفراديس وفيه يقول الشيخ شهاب الدين أبو شامة رحمه الله أبياتا منها «3» : (الخفيف) ابن غازي غزا وجاهد قوما ... أثخنوا في العراق والمشرقين طاهرا عاليا ومات شهيدا ... بعد صبر عليهم عامين لم يشنه إذ طيف بالرأس منه ... وله أسوة برأس الحسين ثم واروا في مسجد الرأس ذا ... ك الرأس واستعجبوا من الحالتين وأما الملك الناصر يوسف فإنه لما انفرد عن العسكر من قطيا وسار (308) إلى تيه بني إسرائيل بقي متعجبا إلى أين يتوجه، وعزم على التوجه إلى الحجاز وكان له طبردار كردي اسمه حسين «4» فحسن له المضي إلى التتر وقصد هولاكو، فاغتر بقوله ونزل ببركة زيزاء، وسار حسين الكردي إلى كتبغا نائب هولاكو وعرفه بموضع الناصر، فأرسل كتبغا إليه وقبض عليه، وأحضره إلى عجلون

وكانت بعد عاصية فأمرهم الملك الناصر بتسليمها فسلمت إليهم فهدموها، وكنا قد ذكرنا حصار التتر لبعلبك فتسلموها قبل تسليم عجلون وخربوا قلعتها أيضا. وكان بالصّبيبة صاحبها الملك السعيد بن الملك العزيز بن العادل «1» فسلّم الصّبيبة إليهم، وصار الملك السعيد معهم وأعلن بالفسق والفجور وسفك دماء المسلمين. وأما الملك الناصر يوسف فإن كتبغا بعث به إلى هولاكو فوصل إلى دمشق ثم إلى حماة وبها الملك الأشرف صاحب حمص فخرج إلى لقائه هو وخسرو شاه النائب بحماة ثم سار إلى حلب فلما عاينها الملك الناصر وما حل بها وبأهلها بكى وتألم وأنشد: (الطويل) يعزّ علينا أن نرى ربعكم يبلى ... وكانت به آيات حسنكم تتلى ثم سار إلى الأردو فأقبل عليه هولاكو ووعده برده إلى مملكته. وفي خامس عشر شعبان، أخرج التتر من الاعتقال نقيب قلعة دمشق وواليها «2» وضربوا أعناقهما بداريّا واشتهر عند أهل دمشق خروج العسكر من مصر (309) لقتال التتر فأوقعوا بالنصارى وكان قد استطالوا على المسلمين

بدق النواقيس وإدخال الخمر إلى الجامع فنهبهم المسلمون في سابع عشري رمضان، وأخربوا كنيسة مريم، وكانت كنيسة عظيمة، وكانت كنيسة مريم في جانب دمشق الذي فتحه خالد بن الوليد بالسيف فبقيت بيد المسلمين، وكان ملاصق الجامع كنيسة وهي من الجانب الذي فتحه أبو عبيدة بن الجراح بالأمان فبقيت بأيدي النصارى، فلما ولي الوليد بن عبد الملك الخلافة خرب الكنيسة الملاصقة للجامع وأضافها إليه ولم يعوض النصارى عنها، فلما ولي عمر بن عبد العزيز عوضهم كنيسة مريم عن تلك الكنيسة، فعمروها عمارة عظيمة، وبقيت كذلك حتى خربها المسلمون في التاريخ المذكور. وفي يوم الجمعة الخامس والعشرين من رمضان هذه السنة، كانت هزيمة التتر على عين جالوت وذلك لما اجتمعت العساكر الإسلامية بمصر عزم الملك المظفر قطز مملوك المعز أيبك على الخروج إلى الشام لقتال التتر، وسار من مصر بالعساكر الإسلامية وصحبته الملك المنصور محمد صاحب حماة وأخوه الأفضل علي وكان مسيره من الديار المصرية في أوائل رمضان من هذه السنة، ولما بلغ كتبغا [سير العساكر الإسلامية إليه صحبة الملك المظفر قطز] «1» سار بجموعه والتقى الجمعان في اليوم المذكور، فانهزمت التتر هزيمة قبيحة، وأخذتهم سيوف المسلمين وقتل مقدمهم كتبغا واستؤسر ابنه وتعلق من (310) سلم من التتر برءوس الجبال وتبعهم المسلمون فأفنوهم، وهرب من سلم إلى الشرق، وجرد قطز ركن الدين بيبرس البندقداري في أثرهم فتبعهم إلى أطراف البلاد، وكان أيضا في صحبة التتر الملك الأشرف موسى صاحب حمص ففارقهم وطلب [الأمان] «1» من المظفر قطز فأمنه، ووصل إليه فأكرمه وأقره على ما بيده وهو

حمص ومضافاتها، وأما الملك [السعيد] «1» صاحب الصّبيبة فإنه أمسك أسيرا وأحضر إلى بين يدي المظفر قطز فأمر بضرب عنقه بسبب ما كان اعتمده من سفك الدماء والفسق «2» . ولما انقضى أمر المصاف أحسن المظفر قطز إلى الملك المنصور صاحب حماة وأقره على حماة وبارين، وأعاد إليه المعرة وكانت في يد الحلبيين من حين استولوا عليها في سنة خمس وثلاثين وست مئة «3» وأخذ سلميّة منه وأعطاها لأمير العرب «4» ، وأتم الملك المظفر السير بالعساكر وصحبته الملك المنصور صاحب حماة حتى دخل دمشق وتضاعف شكر المسلمين لله تعالى على هذا النصر العظيم، فإن القلوب كانت يئست من النصر على التتر لاستيلائهم على معظم بلاد المسلمين، ولأنهم ما قصدوا إقليما إلا فتحوه، ولا عسكرا إلا هزموه، فابتهجت الرعايا بالنصرة عليهم وبقدوم الملك المظفر قطز إلى الشام، وفي يوم دخوله دمشق أمر بشنق جماعة منتسبين إلى التتر فشنقوا، وكان من جملتهم حسين الكردي «5» طبردار الملك الناصر يوسف وهو الذي أوقع الناصر (311) في أيدي التتر، وفي هذه النصرة وقدوم قطز إلى الشام يقول بعض الشعراء «6» : (الخفيف) هلك الكفر في الشام جميعا ... واستجدّ الإسلام بعد دحوضه

[بالمليك] «1» المظفّر الملك الأروع ... سيف الإسلام عند نهوضه ملك جاءنا بحزم وعزم ... فاعتززنا بسمره وببيضه أوجب الله شكر ذاك علينا ... دائما مثل واجبات فروضه ثم أعطى قطز لصاحب حماة الدستور فقدم الملك المنصور قدامه مملوكه ونائبه مبارز الدين آقوش المنصوري إلى حماة، ثم سار الملك المنصور وأخوه الأفضل ووصلا إلى حماة، ولما استقر الملك المنصور بحماة قبض على جماعة كانوا مع التتر واعتقلهم، وهنأ الشيخ شرف الدين شيخ الشيوخ للملك المنصور بهذا النصر العظيم وبعودة المعرة بقصيدة منها: (الكامل) رعت العدا فضمنت ثلّ عروشها ... ولقيتها فأخذت تلّ جيوشها نازلت أملاك التتار فأنزلت ... عن فحلها قسرا وعن إكديشها فغدا لسيفك [في رقاب كماتها] «2» ... حصد المناجل في يبيس حشيشها فقت الملوك ببذل ما تحويه إذ ... ختمت خزائنها على منقوشها وطويت عن مصر فسيح مراحل ... ما بين بركتها وبين عريشها حتى حفظت على العباد بلادها ... من رومها الأقصى إلى أحبوشها فرشت حماة لوطء نعلك خدّها ... فوطئت عين الشمس من مفروشها (312) وضربت سكّتها التي أخلصتها ... عما يشوب النقد من مغشوشها وكذا المعرة إذ ملكت قيادها ... دهشت سرورا صار في مدهوشها طربت برجعتها إليك كأنما ... شربت «3» بخمرة كأسها أو حيشها لا زلت تنعش بالنوال فقيرها ... وتنال أقصى الأجر من منعوشها

وكان خسرو شاه قد سافر من حماة إلى جهة الشرق لما بلغه كسرة التتر ثم جهز الملك المظفر قطز عسكرا إلى حلب لحفظها، ورتب شمس الدين آقوش البرلي العزيزي «1» أميرا بالسواحل وغزّة، ورتب معه جماعة من العزيزية، وكان البرلي المذكور من مماليك الملك العزيز صاحب حلب وسار في جملة العزيزية مع ولده الملك الناصر إلى قتال المصريين، وخامر البرلي وجماعة من العزيزية على ابن أستاذهم الملك الناصر، وصاروا مع أيبك التركماني صاحب مصر، ثم إن المذكورين قصدوا اغتيال المعز أيبك المذكور، فعلم بهم فقبض على بعضهم وهرب بعضهم، وكان البرلي المذكور من جملة من سلم وهرب إلى الشام، فلما وصل إلى الملك الناصر اعتقله بقلعة عجلون، فلما توجه الملك الناصر بالعساكر إلى الغور مندفعا من بين يدي التتر أخرج البرلي المذكور من حبس عجلون وطيب خاطره، فلما هرب الملك الناصر من قطيا دخل شمس الدين البرلي إلى مصر مع باقي العساكر، فأحسن إليه قطز وولاه الآن السواحل وغزة، ثم إن الملك المظفر قطز فوض السلطنة بدمشق إلى الأمير علم الدين سنجر الحلبي وهو الذي (313) كان أتابك علي بن المعز أيبك، وفوض نيابة السلطنة بحلب إلى الملك السعيد بن بدر الدين لؤلؤ «2» صاحب الموصل، وكان المذكور قد وصل إلى الملك الناصر يوسف صاحب الشام ودخل مع العساكر إلى مصر وصار مع المظفر قطز ففوض إليه نيابة السلطنة بحلب، وكان سببه أن الملك الصالح بن لؤلؤ [أخاه] «3» قد صار صاحب الموصل بعد أبيه فولاه حلب ليكاتبه أخوه بأخبار التتر، ولما استقر السعيد المذكور في نيابة حلب سار سيرة رديئة، وكان دأبه

التحيل على [أخذ] «1» أموال الرعية، ولما قرر الملك المظفر قطز المذكور الشام على ما شرحناه سار من دمشق إلى جهة الديار المصرية. وكان قد اتفق بيبرس البندقداري الصالحي مع أنص «2» مملوك نجم الدين الرومي الصالحي «2» والهاروني «3» وعلم الدين صغن أغلي «2» على قتل المظفر قطز، وساروا معه يتوقعون الفرصة فلما صار قطز إلى القصير بطرف الرّمل وبينه وبين الصالحية مرحلة وقد سبق الدّهليز والعسكر إلى الصالحية فبينا قطز يسير إذ قامت أرنب بين يديه فساق عليها وساق هؤلاء المذكورون معه، فلما أبعدوا تقدم إليه أنص وشفع عند الملك المظفر في إنسان فأجابه إلى ذلك، فأهوى ليقبل يده وقبض عليها، فحمل عليه بيبرس البندقداري حينئذ وضربه بالسيف واجتمعوا عليه ورموه عن فرسه وقتلوه بالنشاب وذلك في سابع عشر ذي القعدة من هذه السنة، فكانت (314) مدة ملكه أحد عشر شهرا وثلاثة عشر يوما «4» ، وساق بيبرس وأصحابه بعد قتله حتى وصلوا إلى الصالحية، ولما وصل بيبرس المذكور هو والجماعة [قاتلو] «5» المظفر قطز إلى الدّهليز وكان عند الدّهليز نائب السلطنة فارس الدين آقطاي المستعرب وهو الذي صار أتابكا لعلي ابن المعز أيبك بعد الحلبي، فلما تسلطن قطز أقره على نيابة السلطنة، فلما وصل بيبرس البندقداري سألهم آقطاي وقال: من قتله منكم؟ فقال بيبرس: أنا، فقال: يا خوند! اجلس في مرتبة السلطنة فجلس، واستدعيت العساكر للتحليف فحلفوا له في اليوم الذي قتل فيه قطز واستقر بيبرس في السلطنة وتلقب بالملك

[القاهر ثم بعد ذلك غير لقبه وتلقب] «1» بالظاهر لأنه بلغه أن القاهر لقب غير مبارك ما لقب به أحد فطالت مدته، وكان الملك الظاهر المذكور قد سأل من قطز النيابة بحلب فلم يجبه إليها ليكون ما قدره الله تعالى. ولما حلف الناس للملك الظاهر بالصالحية ساق في جماعة من أصحابه، وسبق العسكر إلى قلعة الجبل ففتحت له ودخلها واستقرت قدمه في المملكة، وكانت قد زينت مصر والقاهرة لقدوم قطز فاستمرت الزينة لسلطنة بيبرس في سابع عشر ذي القعدة. وفي العشر الآخر من ذي القعدة، شرع الأمير علم الدين سنجر الحلبي نائب السلطنة بدمشق في عمارة قلعة دمشق وجمع لها الصناع وكبراء الدولة والناس وعملوا فيها حتى عملت النساء فيها، وكان عند الناس (315) بذلك سرور عظيم. وفي العشر الأول [من ذي الحجة] «2» من هذه السنة، أعني سنة ثمان وخمسين جمع سنجر الحلبي الناس وحلفهم لنفسه بالسلطنة، فأجابه الناس إلى ذلك وحلفوا له، ولم يتأخر عنه أحد ولقب نفسه بالملك المجاهد، وخطب له بالسلطنة وضربت السكّة باسمه، وكاتب الملك المنصور صاحب حماة فلم يجبه، وقال صاحب حماة: أنا مع من يملك مصر كائنا من كان، وقد ذكرنا أن [الملك السعيد] «3» بن لؤلؤ صاحب الموصل كان قد أساء السيرة في حلب فأبغضه العسكر وبلغ الملك السعيد عود التتر إلى الشام وأنه قد وصل أولهم إلى البيرة فجهز إلى جهتهم جماعة قليلة من العسكر، وقدم عليهم سابق الدين أمير

مجلس الناصري «1» فأشار عليه كبراء العزيزية والناصرية بأن هذا ما هو مصلحة وأن هؤلاء قليلون فيحصل الطمع بسببهم في البلاد، فلم يلتفت إلى ذلك وأصر على مسيرهم، فسار سابق الدين أمير مجلس بمن معه حتى قاربوا البيرة فوقع عليهم التتر فهرب منهم ودخل البيرة بعد أن قتل غالب من كان معه فازداد غيظ الأمراء على الملك السعيد بسبب ذلك فاجتمعوا وقبضوا عليه ونهبوا وطاقه، وكان قد برز إلى الباب المعروف بباب الله. ولما استولوا على خزانته لم يجدوا فيها مالا طائلا فهددوه بالعذاب إن لم يقر لهم بماله، فنبش من تحت أشجار بباب الله خمسين ألف دينار مصرية ففرقت في الأمراء، وحمل الملك السعيد المذكور (316) إلى الشّغر وبكاس معتقلا، ثم [لما] «2» اندفع العسكر من بين التتر [أفرجوا عنه] «2» ، ولما جرى ذلك اتفقت الأمراء العزيزية والناصرية وقدموا عليهم الأمير حسام الدين الجو كندار [العزيزي «3» ، ثم سارت التتر إلى حلب فاندفع حسام الدين الجوكندار] «2» بعسكره بين أيديهم إلى جهة حماة، ووصل التتر إلى حلب في أواخر هذه السنة وملكوها وأخرجوا أهلها إلى قرنبيا وهي مقر الأنبياء «4» فاختصرها العوام (إلى قرنبيا) ، ولما اجتمعوا في قرنبيا بذل التتر فيهم السيف فقتل أكثرهم وسلم القليل منهم، ووصل حسام الدين الجوكندار ومن معه إلى حماة فضيفه الملك

فلما كان يوم الجمعة خامس محرم سنة تسع وخمسين وست مئة

المنصور محمد صاحب حماة وهو مستشعر خائف من غدرهم، ثم رحلوا من حماة إلى حمص، فلما قارب التتر حماة خرج منها الملك المنصور وبعده أخوه الملك الأفضل [إلى أن خرجت هذه السنة] «1» والأمير مبارز الدين وباقي العسكر واجتمعوا بحمص. فلما كان يوم الجمعة خامس محرم سنة تسع وخمسين وست مئة «13» وصل التتر إلى حمص، ووقع الاتفاق على لقائهم، فالتقوا بظاهر حمص في نهار الجمعة المذكور، وكانت التتر ثلاثة عشر ألفا بهادرية والمسلمون أقل من ألفي فارس، ففتح الله تعالى على المسلمين النصر وانهزمت التتر وتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون كيف شاؤوا، ووصل المنصور إلى حماة بعد هذه الوقعة وانضم من سلم من التتر إلى باقي جماعتهم وكانوا نازلين قرب سلميّة، واجتمعوا ونزلوا على حماة وبها صاحبها المنصور وأخوه الأفضل والعسكر، وأقام التتر على حماة يوما واحدا ثم رحلوا عن حماة، وأراد المنصور (317) بعد رحيل التتر السير إلى دمشق فمنعوه العامة حتى استوثقوا منه أن يعود عن قريب، فسار هو وأخوه الأفضل في جماعة قليلة، وبقي الطواشي مرشد مع باقي الجماعة بحماة، ووصل المنصور إلى دمشق، وكذلك توجه الأشرف صاحب حمص إلى دمشق، وأما حسام الدين الجوكندار العزيزي فتوجه بمن معه ولم يدخل دمشق ونزل بالمرج ثم سار إلى مصر، وأقام صاحب حماة وصاحب حمص في دورهما بدمشق والحاكم بها يومئذ سنجر الحلبي الملقب بالملك المجاهد وقد اضطرب أمره، فلم يدخلا في طاعته لضعفه وتلاشي أمره.

وأما التتر فساروا عن حماة إلى فامية، وكان قد وصل إلى فامية سيف الدين الدنبلي «1» الأشرفي ومعه جماعة، فأقام بقلعة فامية وقد بقي يغير على التتر فرحلوا عن فامية وتوجهوا إلى الشرق. وفي هذه السنة أعني (سنة) تسع وخمسين جهز الظاهر بيبرس عسكرا مع علاء الدين البندقدار «2» لقتال علم الدين سنجر الحلبي المستولي على دمشق، فوصلوا إلى دمشق في ثالث عشر صفر، فخرج الخلق لقتالهم، وكان صاحب حماة وصاحب حمص بدمشق فلم يخرجا معه واقتتل معهم بظاهر دمشق فولى الحلبي وأصحابه منهزمين ودخل إلى قلعة دمشق، ثم هرب بالليل إلى بعلبك فتبعه العسكر وقبضوا عليه وحمل إلى الديار المصرية فاعتقل ثم أطلق، واستقرت دمشق في ملك الظاهر، وأقيمت له الخطبة بها وبغيرها من الشام مثل حماة وحلب وحمص وغيرها (318) ، واستقر أيدكين البندقدار الصالحي في دمشق لتدبير أمورها. ولما استقر الحال على ذلك رحل المنصور والأشرف وعادا إلى بلديهما حماة وحمص. وفي هذه السنة، ورد مرسوم الظاهر بالقبض على بهاء الدين بغدي الأشرفي «3» ، وعلى شمس الدين آقوش البرلي وغيرهما من العزيزية والناصرية، فبقي علاء الدين أيدكين البندقدار متوقعا ذلك، فتوجه بغدي إلى علاء الدين

أيدكين فحال دخوله عليه قبضه فاجتمعت العزيزية والناصرية إلى آقوش البرلي وخرجوا من دمشق ليلا على حمية ونزلوا بالمرج، وكان البرلي قد ولاه المظفر قطز غزّة والسواحل، فلما جهز الظاهر البندقدار لقتال الحلبي أمر البرلي أن ينضم إليه، فسار البرلي مع البندقدار وأقام بدمشق، فلما قبض على بغدي خرج البرلي إلى المرج فأرسل البندقدار إلى البرلي يطيب قلبه ويحلف له فلم يلتفت إلى ذلك [وسار البرلي إلى حمص وطلب من صاحبها الأشرف موسى أن يوافقه على العصيان فلم يجبه إلى ذلك] «1» ثم توجه إلى حماة وأرسل يقول للمنصور صاحب حماة إنه لم يبق من البيت الأيوبي غيرك فقم لنصير معك ونملكك البلاد، فلم يلتفت المنصور إلى ذلك، ورد ردا قبيحا، فاغتاظ البرلي ونزل على حماة وأحرق زرع بيدر العشر، وسار إلى شيزر ثم إلى جهة حلب، وكان أيدكين البندقدار لما استقر بدمشق قد جهز عسكرا مع فخر الدين الحمصي «2» للكشف عن البيرة، فإن التتر كانوا قد نازلوها فلما قدم البرلي إلى حلب كان بها فخر الدين الحمصي المذكور فقال البرلي نحن في طاعة الظاهر [فتمضي إلى السلطان وتسأله أن يتركني ومن في صحبتي مقيمين بهذا الطرف ونكون تحت طاعته] «1» من غير أن تكلفنا (319) وطء بساطه، فسار الحمصي إلى مصر ليؤدي هذه الرسالة، فلما سار إلى مصر وخرج عن حلب تمكن البرلي في حلب، واحتاط على ما بها من الحواصل، واستبدّ بالأمر، وجمع العرب والتركمان واستعد لقتال عسكر مصر. ولما توجه الحمصي لذلك التقى في الرّمل «3» جمال الدين المحمدي

الصالحي «1» متوجها بمن معه من عسكر مصر لقتال البرلي فأرسل الحمصي عرف الظاهر برسالة البرلي، فأرسل الظاهر ينكر على فخر الدين الحمصي ويأمره بالانضمام إلى المحمدي والمسير لقتال البرلي فعاد من وقته، ثم رضي الظاهر عن علم الدين سنجر الحلبي وجهزه وراء المحمدي في جمع من العسكر، ثم أردفه بعز الدين الدّمياطي «2» في جمع آخر، وسار الجميع إلى جهة البرلي إلى حلب وطردوه عنها، وانقضت السنة والأمر على ذلك. وفي هذه السنة لما بلغ هولاكو كسرة عسكره على عين جالوت ثم كسرته ثانيا على حمص غضب من ذلك، وأحضر الناصر يوسف وأخاه الظاهر غازي، وقال: أنت قلت إن عسكر الشام في طاعتك فغرّرت بي، وقتلت المغل، فقال الناصر: لو كنت بالشام ما ضرب أحد في وجه عسكرك بسيف، ومن يكون ببلاد توزير كيف يحكم على بلاد الشام، فاستوفى هولاكو ناصجا ورماه به، فقال الناصر: يا خوند! الصنيعة، فنهاه أخوه الظاهر غازي، وقال: قد حصرت، ثم رماه بآخر فقتله، وأمر بضرب رقاب الباقين، فقتل الظاهر «3» أخو الناصر، والصالح «4» بن صاحب حمص، والجماعة الذين كانوا معهم (320) واستبقوا العزيز بن الناصر «5» لصغره، فبقي عندهم مدة طويلة وأحسنوا إليه ثم مات،

ووصل الخبر بذلك وعقد العزاء بجامع دمشق في سابع جمادى الأولى. وكان هذا الناصر قد تولى مملكة حلب بعد موت أبيه العزيز وعمره سبع سنين «1» ، وأقامت جدته ضيفة خاتون بنت العادل بتدبير مملكته، واستقل بملك حران والرّها والرقّة ورأس عين وما مع ذلك من البلاد، ثم ملك حمص ودمشق وبعلبك والأغوار والسواحل إلى غزّة، وعظم شأنه، وكسر عساكر مصر، وخطب له بمصر وقلعة الجبل، وكان يذبح في مطبخه كل يوم أربع مئة رأس غنم، وكانت سماطاته وتجمله إلى الغاية القصوى، وكان حليما، وتجاوز به الحلم إلى حد أضرّ بالمملكة، فإنه لما أمنت قطاع الطريق في مملكته من القتل والقطع تجاوزوا الحد في الفساد، وانقطعت الطرق في أيامه وبقي لا يقدر المسافر على السفر من دمشق إلى حماة وغيرها إلا برفقة من العسكر، وكثر طمع العرب والتركمان في أيامه، [وكثرت الحرامية] «2» وكانوا يكبسون الزروع، ومع ذلك إذا حضر القاتل بين يدي الناصر المذكور يقول: الحي خير من الميت ويطلقه، فأدى ذلك إلى انقطاع الطرقات والسبل بالحراميّة، وكان هذا على ذهن الناصر المذكور شيء كثير من الأدب والشعر، وتروى له أشعار كثيرة، منها: (الطويل) فوالله لو قطّعت قلبي تأسفا ... وجرّعتني كاسات دمعي دما صرفا لما زادني إلّا هوى ومحبة ... ولا اتخذت روحي سواك لها إلفا (321) وبنى بدمشق مدرسة قريبة من الجامع تعرف بالناصرية «3» ، وأوقف عليها وقفا جليلا، ووقف بالصالحية تربة غرّم عليها جملا مستكثرة فدفن فيها

المستنصر بالله أبا القاسم أحمد

كرمون «1» وهو بعض أمراء التتر (كذا) ، وكانت منية الناصر ببلاد العجم، وكان مولد الناصر المذكور سنة سبع وعشرين وست مئة وعمره اثنتين وثلاثين سنة تقريبا. وفي هذه السنة، في رجب قدم إلى مصر جماعة من العرب ومعهم شخص أسمر اللون اسمه أحمد زعموا أنه ابن الإمام الظاهر بالله محمد بن الإمام الناصر، وأنه خرج من دار الخلافة ببغداد لما ملكها التتر، فعقد الظاهر بيبرس مجلسا حضرته جماعة من الأكابر منهم الشيخ عز الدين بن عبد السلام والقاضي تاج الدين عبد الوهاب بن خلف المعروف بابن بنت الأعز «2» ، فشهد أولئك العرب أن هذا الشخص المذكور هو ابن الإمام الظاهر فيكون عم المستعصم، وأقام القاضي جماعة من الشهود واجتمعوا بأولئك العرب وسمعوا شهاداتهم ثم شهدوا بالنسب بحكم الاستفاضة، فأثبت القاضي تاج الدين نسب أحمد المذكور ولقب: المستنصر بالله أبا القاسم أحمد «3» وبايعه الظاهر والناس بالخلافة، واهتم الظاهر بأمره، وعمل له الدهاليز والجمدارية وآلات الخلافة واستخدم له عسكرا، وغرّم على تجهيزه جملة طائلة قيل إنه ألف ألف دينار، وكانت العامة تلقب الخليفة المذكور بالزّرابيني. وبرز الظاهر والخليفة الأسود المذكور في رمضان هذه السنة وتوجها إلى دمشق

(322) ، وكان في كل منزلة يمضي الظاهر إلى دهليزه الخاص به والخليفة إلى دهليزه، ولما وصلا إلى دمشق نزل الظاهر بالقلعة ونزل الخليفة بجبل الصالحية، ونزل حول الخليفة أمراؤه وأجناده، ثم جهز الخليفة بعسكره إلى بغداد طمعا في الاستيلاء عليها وإجماع الناس عليه، فسافر الخليفة وودعه الظاهر ووصاه بالتأني في الأمور، وعاد الظاهر من توديع الخليفة إلى دمشق، ثم سار إلى الديار المصرية ودخلها في سابع عشر ذي الحجة من هذه السنة، ووصلت إليه كتب الخليفة بالديار المصرية أنه قد استولى على عانة والحديثة وولى عليهما، وأن كتب أهل العراق وصلت إليه يستحثونه على الوصول إليهم، ثم قبل أن يصل إلى بغداد وصلت إليه التتر وقتلوا الخليفة المذكور وقتلوا غالب أصحابه، وجاءت الأخبار بذلك. وفيها، لما سار الظاهر إلى الشام أمر القاضي شمس الدين بن خلّكان فسافر في صحبته من مصر إلى دمشق، وعزل عن قضاء دمشق نجم الدين بن صدر الدين بن سنيّ الدولة «1» ، وكان قطز قد عزل محيي الدين بن الزكي الذي ولاه هولاكو القضاء وولى ابن سني الدولة، فعزله الظاهر وولى القاضي شمس الدين ابن خلّكان. وفيها، قدم أولاد صاحب الموصل، وهم الصالح إسماعيل والمجاهد إسحاق «2» صاحب جزيرة ابن عمر ثم أخوهما المظفر علي «2» صاحب سنجار أولاد لؤلؤ، فأحسن الظاهر إليهم وأعطاهم الإقطاعات الجليلة بمصر، واستمروا في أرغد

وفي سنة ستين وست مئة

عيش في طول مدة الظاهر «1» . وفيها، ورد الخبر (323) من عكّا أن سبع جزائر في البحر خسف بها وبأهلها، وبقي أهل عكّا لابسين السواد يبكون ويستغفرون بزعمهم. وفيها، جهز الظاهر بدر الدين الأيدمري «2» فتسلم الشّوبك في سلخ ذي الحجة من هذه السنة أعني سنة تسع وخمسين وأخذها [من] «3» المغيث صاحب الكرك. وفي سنة ستين وست مئة «13» وفي نصف رجب، وردت جماعة من مماليك الخليفة المستعصم البغاددة وكانوا قد تأخروا في العراق بعد استيلاء التتر على بغداد، وقتل الخليفة، وكان مقدمهم يقال له شمس الدين سلّار فأحسن الظاهر ملتقاهم وعين لهم الإقطاعات بالديار المصرية. وفيها في رجب، وصل إلى خدمة الظاهر بالديار المصرية عماد الدين بن مظفر الدين «4» صاحب صهيون رسولا من أخيه سيف الدين «5» صاحب

صهيون وصحبته هدية جليلة، فتقبلها الظاهر وأحسن إليه. وفيها، جهز الظاهر عسكرا إلى حلب ومقدمهم شمس الدين سنقر الرومي «1» فأمنت بلاد حلب وعادت إلى الصلاح، ثم تقدم الظاهر إلى سنقر الرومي وإلى صاحب حماة المنصور وإلى صاحب حمص الأشرف أن يسيروا إلى أنطاكية وبلادها للإغارة عليها، فساروا إليها ونهبوا بلادها وضايقوها، ثم عادوا وتوجهت عساكر مصر صحبة سنقر الرومي إلى مصر، ووصلوا إليها في تاسع عشري رمضان هذه السنة ومعهم أربع مئة أسير، فقابلهم (324) الظاهر بالإحسان والإنعام. وفيها، لما ضاقت على آقوش البرلي البلاد، وأخذت منه حلب (و) لم يبق بيده غير البيرة دخل في طاعة الظاهر وسار إليه، فكتب الظاهر إلى النواب الإحسان إليه، ورتبت الإقامات له في الطرقات حتى وصل إلى الديار المصرية في ثاني (ذي) الحجة من هذه السنة فبالغ الظاهر في الإحسان إليه وتلقاه أحسن [تلقّ] «2» فسأل آقوش البرلي من الظاهر أن يقبل منه البيرة فلم يفعل وما زال يعاوده حتى قبلها وبقي البرلي المذكور مع الظاهر إلى أن تغير عليه وقبضه في رجب سنة إحدى وستين وست مئة، فكان آخر العهد به. وفيها في ذي القعدة، قبض الظاهر على نائبه بدمشق وهو علاء الدين طيبرس الوزيري «3» ، وكان قد تولى دمشق بعد مسير علاء الدين أيدكين

الحاكم بأمر الله أمير المؤمنين

البندقدار عنها، وسبب القبض عليه أنه بلغ الظاهر عنه أمور كرهها فأرسل إليه عسكرا مع عز الدين الدّمياطي فلما وصلوا إلى دمشق خرج طيبرس لتلقيهم فقبضوا عليه وقيدوه وأرسلوه إلى مصر فحبسه الظاهر، واستمر الحاج طيبرس في الحبس سنة وشهرا، وكانت مدة ولايته بدمشق سنة وشهرا أيضا، وكان طيبرس رديء السيرة في أهل دمشق حتى نزح منها جماعة كثيرة من ظلمه، وحكم في دمشق بعد قبض طيبرس المذكور الحاج علاء الدين أيدغدي الركني «1» ، ثم استناب الملك الظاهر على دمشق الأمير جمال الدين آقوش النّجيبي الصالحي «2» . وفيها في يوم الخميس آخر ذي الحجة، جلس الملك الظاهر مجلسا عاما وأحضر (325) شخصا كان قد قدم إلى الديار المصرية في سنة تسع وخمسين وست مئة من نسل بني العباس اسمه أحمد بعد أن أثبت نسبه [وبايعه بالخلافة] «3» ولقبه: الحاكم بأمر الله أمير المؤمنين «4» وقد اختلف في نسبه، فالذي هو مشهور بمصر عند نسابة مصر أنه أحمد بن حسن بن أبي بكر بن الأمير أبي علي القبي بن الأمير حسن بن الراشد بن المسترشد [بن المستظهر] «4» .

سنة إحدى وستين وست مئة إلى سنة سبعين وست مئة

وأما عند الشرفاء العباسيين السلمانيين في درج نسبهم الثابت فقالوا: هو أحمد بن أبي علي بن أبي بكر بن أحمد بن الإمام المسترشد «1» . ولما أثبت الملك الظاهر نسب المذكور تركه في برج محترزا عليه، وأشرك له في الدعاء في الخطبة حسب لا غير. وفيها، جهز الملك المنصور صاحب حماة شيخ الشيوخ شرف الدين الأنصاري رسولا إلى الملك الظاهر، ووصل شيخ الشيوخ المذكور فوجد الملك الظاهر عاتبا على صاحب حماة لانشغاله عن مصالح المسلمين باللهو، وأنكر الملك الظاهر على شرف الدين ذلك، ثم انصلح خاطره وحمله ما طيّب به قلب صاحبه الملك المنصور، ثم عاد إلى حماة. سنة إحدى وستين وست مئة إلى سنة سبعين وست مئة (في سنة إحدى وستين وست مئة «13» ) في حادي عشر ربيع الآخر منها، سار الظاهر بيبرس من الديار المصرية إلى الشام فلاقته والدة المغيث عمر صاحب الكرك بغزّة وتوثقت لابنها المغيث من الظاهر بالأمان وأحسن إليها ثم توجهت إلى الكرك وتوجه صحبتها شرف [الدين] «2» الجاكي المهمندار برسم حمل الإقامات في الطرق (326) برسم المغيث، ثم سار الظاهر من غزّة ووصل إلى الطور في ثاني عشر جمادى الأولى

من هذه السنة، ووصل إليه الأشرف موسى صاحب حمص في نصف الشهر المذكور فأحسن إليه الظاهر وأكرمه. وفيها، كان قتل المغيث فتح الدين عمر بن العادل بن الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب «1» وسببه أنه كان في قلب الظاهر بيبرس منه غيظ عظيم لأمور كانت بينهما، قيل: إن المغيث المذكور أكره امرأة الظاهر لما قبض المغيث على البحرية وأرسلهم إلى الناصر يوسف صاحب الشام وهرب الظاهر المذكور وبقيت زوجته بالكرك والله أعلم بحقيقة ذلك، ولم يزل الظاهر يجتهد على حضور المغيث وحلف لوالدته على غزّة، وكان عند المغيث شخص يقال له الأمجد، وكان يبعثه في الرسلية إلى الظاهر، فكان الظاهر يبالغ في إكرامه وتقريبه فاغتر الأمجد بذلك، وما زال الأمجد على مخدومه المغيث حتى أحضره إلى الظاهر، فحكى شرف الدين بن مزهر «2» وكان ناظرا خزانة المغيث، قال: لما عزم المغيث على التوجه إلى خدمة الملك الظاهر لم يكن قد بقي في خزانته شيء من المال غير القماش «3» ، وكان لوالدته حواصل في البلاد فبعناها بأربعة وعشرين ألف درهم، واشترينا باثني عشر ألفا خلعا من دمشق وجعلنا في صناديق الخزانة الاثني عشر [ألفا] «4» الأخرى، ونزل المغيث من الكرك وأنا والأمجد وجماعة من أصحابه في خدمته، قال: وشرعت البريدية (327) تصل إلى المغيث في كل يوم بمكاتبات الظاهر ويرسل صحبتهم مثل غزلان ونحوها

والمغيث يخلع عليهم حتى نفد ما كان بالخزانة من الخلع، ومن جملة ما كتب إليه في بعض المكاتبات أن المملوك ينشد في قدوم مولانا: (الطويل) خليليّ هل أبصرتما أو سمعتما ... بأكرم من مولى يمشي إلى عبد «1» قال: وكان الخوف في قلب المغيث من الظاهر شديدا، قال ابن مزهر: ففاتحني في شيء من ذلك بالليل، فقلت له: احلف لي أنك ما تقول للأمجد ما أقول لك حتى أنصحك، فحلف لي، فقلت له: اخرج الساعة من تحت الخيام واركب حجرتك النجيلة ولا يصبح لك الصباح إلا وأنت قد وصلت إلى الكرك فتعصى فيه وما تفكر في أحد، قال ابن مزهر: فغافلني وتحدث مع الأمجد في شيء من هذا، فقال له الأمجد: إياك من ذلك، وسار المغيث حتى وصل إلى بيسان، فركب الظاهر بعساكره والتقاه في يوم السبت سابع وعشري جمادى الأولى من هذه السنة، فلما شاهد المغيث الظاهر ترجل فمنعه الظاهر وأركبه وساق إلى جانبه وقد تغير وجه الظاهر، فلما قارب الدّهليز أفرد الملك المغيث عنه وأنزله في دهليز وقبض عليه وأرسله معتقلا إلى مصر وكان آخر العهد به، قيل إنه حمل إلى امرأة الظاهر بقلعة الجبل فأمرت جواريها فقتلنه بالقباقيب، ثم قبض الظاهر على جميع أصحاب المغيث ومن جملتهم ابن مزهر المذكور، ثم بعد ذلك أفرج عنهم «2» . ولما التقى الظاهر المغيث (328) وقبض عليه أحضر الفقهاء والقضاة وأوقفهم على مكاتبات من التتر إلى المغيث المذكور وأجوبة عما كتب إليهم يطمعهم في ملك مصر والشام، وكتب بذلك مشروح وأثبت على الحكام،

وكان للمغيث ولد يقال له العزيز «1» فأعطاه الظاهر إقطاعا بديار مصر وأحسن إليه، ثم جهز الظاهر بدر الدين البيسرى الشمسي «2» وعز الدين أستاذ دار «3» إلى الكرك فتسلماها في يوم الخميس الثالث والعشرين من جمادى الآخرة سنة إحدى وستين، وسار الظاهر إلى الكرك ورتب أمورها، ثم عاد إلى الديار المصرية فوصل إليها في سابع عشر رجب «4» . وفي هذه السنة أرسل الظاهر عسكرا هدموا كنيسة الناصرة وهي أكبر مواطن عبادة النصارى لأن منها خرج دين النصرانية وأغاروا على عكّا وبلادها فغنموا وعادوا. ثم ركب الظاهر وكان نازلا على الطّور بنفسه وجماعته، وأغار ثانيا على عكّا، وهدم برجا كان خارج البلد. ولما وصل الظاهر إلى مصر قبض على الرشيدي «5» في رجب، ثم قبض ثاني يوم على الدمياطي وسنقر. وفي هذه السنة، توفي الأشرف موسى صاحب حمص بن المنصور إبراهيم بن المجاهد شير كوه بن محمد بن شير كوه «6» .

وفي سنة اثنتين وستين وست مئة

لما عاد من خدمة الظاهر إلى حمص مرض واشتد مرضه وتوفي، وأرسل الظاهر من تسلم حمص في ذي القعدة من هذه السنة. وهذا الأشرف آخر من ملك حمص من بيت شير كوه، وأخذ الناصر يوسف حمص منه بسبب (329) تسليمه سميمس إلى الملك الصالح أيوب صاحب مصر وأنه تعوض عن [حمص] «1» تل باشر، ثم أعاد هولاكو عليه حمص، فبقيت بيده حتى توفي وانتقلت إلى الظاهر. وكان من جملة من ملك حمص منهم خمسة أولهم شير كوه بن شاذي ملّكه إياها نور الدين الشهيد، ثم ملكها بعده ابنه ناصر الدين محمد، ثم ملكها [بعده] «2» ابنه شير كوه، ثم ملكها [بعده] «2» ابنه [المنصور إبراهيم] «3» ، ثم ملكها [بعده ابنه] «2» الأشرف المذكور، وانقرض بموته ملك المذكورين. وفي سنة اثنتين وستين وست مئة «13» قبض الأشكري صاحب قسطنطينيّة على عز الدين كيكاوس [وسببه أن عز الدين كيكاوس] «4» المذكور [كان قد] «4» وقع بينه وبين أخيه «5» ، فاستظهر أخوه عليه فهرب كيكاوس وبقي صاحب بلد الروم أخوه ركن الدين قليج أرسلان في سلطنة بلاد الروم، ثم سار كيكاوس المذكور إلى قسطنطينيّة فأحسن

وفي سنة ثلاث وستين وست مئة

إليه الأشكري وإلى من معه من الأمراء [واستمروا كذلك] «1» مدة، فعزمت [الأمراء و] «1» الجماعة الذين مع كيكاوس على اغتيال الأشكري وقتله والتغلب على قسطنطينيّة، وبلغ ذلك الأشكري فقبض عليهم واعتقل عز الدين [كيكاوس بن كيخسرو] «2» في بعض القلاع، وكحل [الأمراء وال] «3» جماعة الذين اعتزموا قتله فأعمى عيونهم. وفي سنة ثلاث وستين وست مئة «13» سار الظاهر من الديار المصرية بعساكره المتوافرة إلى جهاد الفرنج بالساحل، ونازل قيساريّة الشام في تاسع جمادى الأولى وضايقها وفتحها بعد ستة أيام من نزوله وذلك (330) في منتصف الشهر المذكور وأمر بها فهدمت، ثم سار إلى أرسوف ونازلها وفتحها في جمادى الآخرة من هذه السنة، وفي فتوح قيساريّة يقول ابن عبد الظاهر من قصيدة «4» : (البسيط) نصبت للشّرك أشراكا فصدتهم ... لم يقدروا وهنا أن يقدروا هربا قلعتهم بقلاع ظلت تهدمها ... أنت الذي تبتغي المسلوب لا السّلبا إن أسرعوا ... «5» عنها فإنّهم ... حلّوا لها كلّ برج ظلّ منقلبا تبّت يدا من غدا كفرا أبا لهب ... وتبّ لم يغن مال عنه قد كسبا

إن الفتوحات لما رثّ ملبسها ... ... من برّ قيساريّة القشبا في كل أرض جيوش قد بعثت بها ... حتى لقد أصبحت آياتها عجبا أمطيتها.... تزهو السروج بها ... لا كل مستهجن يسهجن ... كم قد قذفت شياطين العدو بها ... حتى أبصروا من شهبها شهبا سبى أعنتها ملك ... ... قد أصبحت في الوغى راحاتها التعبا لا يحسب الناس قيساريّة ضعفت ... أو أسلمت نفسها ... لكنها بذيول النصر قد علقت ... وقد أتته لعكّا تطلب الحسبا وارسوف جاءته لما حاز ... ما جاء محتطبا بل جاء محتطبا ما كان من جرم رأي أن يرهما ... لا تقطع الرأس حتى تقطع الذنبا فقل لحسّاده هذي صنائعه ... فمن يرى غيره يوما لها خطبا (331) وفي تاسع عشر جمادى الآخرة، مات هولاكو ملك التتر، وهو هولاكو بن طلو بن جنكز خان، وكان موته بالقرب من كور (ة) مراغة، وكان مدة ملكه البلاد التي سنصفها نحو عشر سنين، وخلف خمسة عشر ولدا ذكرا، ولما مات جلس في الملك بعده ولده أبغا واستقرت له البلاد التي كانت بيد والده حال وفاته، وهي: إقليم خراسان وكرسيّه نيسابور، وإقليم عراق العجم وهو الذي يعرف ببلاد الجبل وكرسيّه أصفهان، وإقليم عراق العرب وكرسيّه بغداد، وإقليم أذربيجان وكرسيّه تبريز، وإقليم خورستان وكرسيّه تستر التي يسميها العامة تشتر، وإقليم فارس وكرسيّه شيراز، وإقليم ديار بكر وكرسيّه الموصل، وإقليم الروم وكرسيّه قونية وغير ذلك من البلاد التي ليست في الشهرة مثل هذه الأقاليم العظيمة. وفيها، أو التي بعدها، أمسك الظاهر بيبرس زامل بن علي «1» أمير العرب

وفي سنة أربع وستين وست مئة

بمكاتبة عيسى بن مهنّا في حقه. وفيها، في رمضان استولى نائب الرحبة على قرقيسياء، وهي حصن الزباء «1» ، وفيه خلاف. وفيها، قبض الظاهر على سنقر الرومي «2» . وفي سنة أربع وستين وست مئة «13» خرج الظاهر إلى الشام وجهز عسكرا إلى ساحل البحر ففتحوا القليعات «3» وحلبا وعرقا «4» ، ونزل الظاهر على صفد ثامن شعبان وضايقها بالزحف وآلات الحصار، وقدم إليه وهو على صفد المنصور صاحب حماة، ولاصق الجند القلعة (332) ، وكثر القتل والجراح في المسلمين، وفتحها في تاسع عشر شعبان بالأمان، ثم قتل أهلها عن آخرهم. ثم سار بعد ذلك إلى دمشق، فلما استقر فيها جرّد عسكرا ضخما وقدم عليهم المنصور صاحب حماة، وأمرهم بالمسير إلى بلاد الأرمن فسارت العساكر صحبة المنصور، ووصلوا إلى بلاد سيس في ذي القعدة من هذه السنة، وكان صاحب سيس إذ ذاك هيثوم [بن] «5» قسطنطين بن باسيل «6» قد حصن

وفي سنة خمس وستين وست مئة

الدربندات بالرجالة والمناجيق وجعل عسكره مع ولديه على الدربندات لقتال العسكر الإسلامي فداستهم العساكر الإسلامية وأفنوهم قتلا وأسرا وقتل ابن صاحب سيس الواحد وأسر الآخر، وهو ليفون بن هيثوم «1» ، وانتشرت العساكر الإسلامية في بلاد سيس وفتحوا قلعة العامودين وقتلوا أهلها، ثم عادت العساكر وقد امتلأت أيديهم من الغنائم، ولما وصل خبر هذا الفتح إلى الظاهر رحل من دمشق إلى حماة ثم إلى فامية والتقى عساكره وقد عادت منصورة، وأمر بتسليم الأسرى وفيهم ليفون بن هيثوم صاحب سيس، وكان المذكور لما أسر سلمه المنصور إلى أخيه الأفضل فاحترز عليه وحفظه حتى أحضره بين يدي السلطان، ثم عاد إلى الديار المصرية على طريق الكرك، فتقنطر بالملك الظاهر فرسه عند بركة زيزاء وانكسرت فخذه وحمل في محفة إلى قلعة الجبل. وفي هذه السنة، نزل الظاهر على قارا [بين دمشق وحمص] «2» لما خرج يلتقي عساكره [العائدة من غزوة بلاد سيس] «3» ، (و) أمر بنهب أهلها وقتل (333) كبارهم، فنهبوا وقتل منهم جماعة لأنهم كانوا نصارى يسرقون أولاد المسلمين ويبيعونهم خفية للفرنج وأخذوا صبيانهم مماليك فتربوا بين الترك بالبلاد المصرية وصار منهم أجناد وأمراء. وفي سنة خمس وستين وست مئة «13» وصل المنصور صاحب حماة إلى خدمة الظاهر بالديار المصرية فاجتمعا بالغرابي «3» ، وفي اجتماع الملك الظاهر وصاحب حماة بالغرابي قال ابن عبد

الظاهر: (الخفيف) بالغرابيّ إن تجمّع شملي ... ببواقي قفولكم وإيابي فلكم بالغراب فرّق شمل ... وأرى جمع شملنا بالغرابي ثم طلب دستورا بالتوجه إلى الإسكندرية ليراها فرسم له بذلك، وأمرت أهل الإسكندرية بإكرامه واحترامه وفرش الشقق بين يدي فرسه، فتوجه المنصور إلى الإسكندرية وعاد إلى الديار المصرية مكرما، وخلع عليه الظاهر على جاري عادته، وأعطاه دستورا فتوجه إلى بلده. وفيها، توجه الظاهر إلى الشام فنظر في مصالح صفد، ووصل إلى دمشق وأقام بها خمسة أيام، وقوي الإرجاف بوصول التتر إلى الشام، ثم ورد الخبر بعودهم على عقبهم فعاد الظاهر إلى ديار مصر. وفي هذه السنة، مات [بركة خان بن دوشي خان بن جنكز خان] «1» أعظم ملوك التتر، وكرسي مملكته مدينة صراي، وكان قد مال إلى دين الإسلام، ولما مات جلس في الملك بعده [ابن أخيه] «2» منكوتمر (334) بن طغان بن باطو ابن دوشي خان بن جنكز خان.

وفي سنة ست وستين وست مئة

وفي سنة ست وستين وست مئة «13» في مستهل جمادى الآخرة، توجه الظاهر بيبرس بالعساكر المتوافرة إلى الشام، وفتح يافا في العشر الأوسط من الشهر وأخذها من الفرنج. وفي أيام المقام بها يقول الفاضل أبو الفضل بن عبد الظاهر «1» : (الطويل) حلى الله يافا أنها شرّ منزل ... بعيد عن الراحات والخبر نفعه عقاربه من كثرة كذبابه ... وذبانه مثل العقارب لسعه وسار إلى أنطاكية ونازلها في مستهل رمضان، ورجعت العساكر الإسلامية على أنطاكية فملكوها بالسيف في يوم السبت رابع رمضان هذه السنة وقتلوا أهلها وسبوا ذراريهم وغنموا منها أموالا جليلة، وكانت أنطاكية للبرنس بيمند ابن بيمند وله معها طرابلس وكان مقيما بها لما فتحت أنطاكية. وفي حادي عشر رمضان «2» ، استولى الظاهر على بغراس، وسبب ذلك أنه لما فتح أنطاكية هرب أهل بغراس منها وتركوا الحصن خاليا فأرسل الظاهر من استولى عليها في التاريخ المذكور وشحنه بالرجال والعدد، وقد تقدم ذكر فتح صلاح الدين الحصن المذكور «3» وتخريبه ثم عمارة الفرنج له بعد صلاح الدين، ثم حصار عسكر حلب له ورحيلهم عنه بعد أن أشرفوا على أخذه. وفيها في شوال، وقع الصلح بين الظاهر وبين هيثوم صاحب سيس على أنه إذا أحضر صاحب سيس سنقر الأشقر من التتر وكانوا (335) أخذوه من قلعة

وفي سنة سبع وستين وست مئة

حلب لما أخذها هولاكو كما تقدم «1» ، وسلّم مع ذلك بهسنا ودربساك ومرزبان ورعبان وشيح الحديد «2» [يطلق] «3» له ابنه ليفون فدخل صاحب سيس على أبغا ملك التتر وطلب منه سنقر الأشقر فأعطاه إياه، ووصل سنقر الأشقر إلى خدمة الظاهر وتسلم المسلمون البلاد المذكورة سوى بهسنا، وأطلق الظاهر ليفون ابن صاحب سيس فتوجه إلى والده، وعاد الظاهر إلى الديار المصرية ووصل إليها في ذي الحجة هذه السنة. وفيها، اتفق معين الدين سليمان البرواناه مع التتر المقيمين ببلاد الروم على قتل ركن الدين قليج أرسلان بن كيخسرو بن كيقباذ بن كيخسرو بن قليج أرسلان بن مسعود بن قليج أرسلان بن سليمان بن قطلوش بن أرسلان يبغو بن سلجوق سلطان الروم، فخنق التتر ركن الدين المذكور «4» ، وأقام البرواناه مقامه ولده غياث الدين بن ركن الدين «5» وعمره أربع سنين. وفي سنة سبع وستين وست مئة «13» خرج الظاهر إلى الشام وخيّم على خربة اللصوص، وتوجه إلى مصر في الخفية، ووصل إليها بغتة [وأهل مصر] «6» والنائب لا يعلمون ذلك إلّا بعد أن صار بينهم، ثم عاد إلى الشام.

وفي سنة ثمان وستين وست مئة

وفيها، تسلم الظاهر بلاطنس من عز الدين عثمان صاحب صهيون. وفيها، توجه الظاهر بيبرس إلى الحجاز الشريف وكان رحيله من الفوّار خامس عشري شوال، ووصل الكرك وأقام به أياما، وتوجه من الكرك في سادس ذي القعدة إلى الشّوبك، ورحل من الشّوبك في حادي عشر الشهر (336) فوصل إلى المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام في خامس عشريه، ووصل إلى مكة في خامس ذي الحجة وقضى مناسك الحج، ورحل من مكة في ثالث عشر ذي الحجة، ووصل الكرك في سلخ ذي الحجة. وفي سنة ثمان وستين وست مئة «13» توجه الظاهر بيبرس من الكرك مستهل المحرم عند عوده من الحج، فوصل إلى دمشق بغتة، وتوجه من يومه إلى حماة في خامس المحرم، وتوجه لساعته إلى حلب، ولم يعلم به العسكر إلا وهو معهم في الموكب، وعاد إلى دمشق في ثالث عشر المحرم، وتوجه إلى القدس ثم إلى القاهرة فوصل إليها ثالث صفر هذه السنة. وفيها، عاد أيضا إلى الشام، وأغار على عكّا، وتوجه إلى دمشق ثم إلى حماة. وفيها، جهز الظاهر عسكرا إلى بلاد الإسماعيلية فتسلموا مصياف في العشر الأول من رجب هذه السنة، وعاد الظاهر من جهة حماة إلى دمشق فدخلها في ثامن عشري رجب، ثم عاد إلى مصر. وفيها، حصل بين منكوتمر بن طغان ملك التتر بالبلاد الشمالية وبين الأشكري صاحب قسطنطينيّة وحشة، فجهز منكوتمر إلى قسطنطينيّة جيشا من التتر وعاثوا في بلادها، ومروا بالقلعة التي فيها عز الدين كيكاوس بن

وفي سنة تسع وستين وست مئة

كيخسرو ملك الروم محبوسا كما قدمنا في سنة اثنتين وستين وست مئة «1» ، فحمله التتر بأهله إلى منكوتمر فأحسن إليه منكوتمر، وأقام معه إلى أن توفي عز الدين المذكور في سنة سبع وسبعين وست مئة «2» ، فسار ابنه مسعود «3» إلى بلاد الروم وصار سلطانا. وفيها، قتل أبو دبّوس (337) آخر ملوك بني عبد المؤمن، وانقرضت بموته دولتهم، وقد تقدم ذلك «4» ، وملكت بلادهم بعدهم بنو مرين على ما يذكر. وفي سنة تسع وستين وست مئة «13» توجه الظاهر من مصر إلى الشام ونازل حصن الأكراد في تاسع شعبان هذه السنة، وجدّ في حصاره، واشتد القتال عليه، وملكه بالأمان في رابع عشري شعبان، ثم رحل إلى حصن عكّار «5» ونازله في سابع عشر رمضان، وجدّ في قتاله وملكه بالأمان سلخ رمضان، وعيد الظاهر عليه عيد الفطر، وقال محيي الدين بن عبد الظاهر مهنئا بفتح عكّار: (مجزوء الرمل) يا مليك الأرض بشرا ... ك فقد نلت الإراده إن عكّار يقينا ... هي عكّا وزياده

وفي شوال منها، تسلم الظاهر حصن العلّبقة «1» وبلادها من الإسماعيلية. وفي آخر شوال «2» ، سار إلى حصن القرين «3» ونازله في ثاني ذي القعدة «4» وزحف عليه وتسلمه بالأمان وأمر به فهدم، ثم عاد إلى مصر. وفيها، جهز الظاهر شواني لغزو قبرس فتكسرت في مرسى اليميسوس، وأسر الفرنج من كان بتلك الشواني من المسلمين، واهتم الظاهر بعمارة شوان أخر، فعمل في المدة اليسيرة ضعف ما تهدم. وفيها، توفي هيثوم بن قسطنطين «5» صاحب سيس، وملك بعده ابنه ليفون الذي كان أسره المسلمون حسبما ذكرناه «6» . وفيها، قبض الظاهر على عز الدين بغان المعروف بسمّ الموت «7» وعلى المحمدي «8» وغيرهما «9» .

وفي سنة سبعين وست مئة

وفي سنة سبعين وست مئة «13» (338) توجه الظاهر إلى الشام وعزل جمال الدين آقوش النجيبي عن نيابة السلطنة بدمشق، وولى فيها عز الدين أيدمر الظاهري «1» ، وولى عوضه في الكرك علاء الدين أيدكين الفخري الأستاذ دار «2» في مستهل ربيع الأول، ثم توجه الظاهر إلى حمص، ثم إلى حصن الأكراد، ثم عاد إلى دمشق. وفيها والظاهر في دمشق، أغارت التتر على عين تاب وعلى الرّوج وقسطون «3» إلى قرب فامية ثم عاد (وا) ، واستدعى الظاهر من مصر عسكرا فوصل إليه [صحبة] «4» بدر الدين البيسرى فتوجه الظاهر [بهم] «4» إلى حلب ثم عاد إلى الديار المصرية [فوصل إليها] «4» في [ال] «4» ثالث [والعشرين من] «4» جمادى الأولى. وفي شوال، عاد الظاهر بيبرس من مصر إلى الشام «5» .

سنة إحدى وسبعين وست مئة إلى سنة ثمانين وست مئة

سنة إحدى وسبعين وست مئة إلى سنة ثمانين وست مئة (سنة إحدى وسبعين وست مئة) «13» ثم عاد (الظاهر) في مستهل سنة إحدى وسبعين إلى مصر جريدة، وأقام بقلعة الجبل خمسة عشر يوما، ثم عاد إلى دمشق فوصل إليها في ثامن صفر. وفيها، توفي [سيف الدين] «1» بن مظفر الدين عثمان بن [منكورس] «2» صاحب صهيون، فسلّم ولداه سابق الدين وفخر الدين صهيون إلى الظاهر وقدما إلى خدمته فأحسن إليهما، وأعطى سابق الدين [إمرة] «3» طبلخاناة. وفيها، نازل التتر البيرة ونصبوا عليها المناجيق وضايقوها، فسار إليهم الظاهر وأراد عبور الفرات إلى بر البيرة، فقابله التتر على المخاضة، فاقتحم الفرات وهزم التتر فرحلوا عن البيرة وتركوا آلات الحصار بحالها فصارت للمسلمين، ثم عاد (339) الظاهر إلى الديار المصرية في الخامس والعشرين من جمادى الآخرة. وفيها، أفرج عن الدّمياطي من «4» الاعتقال «5» . وفيها، تسلمت نواب الظاهر ما تأخر من حصون الإسماعيلية وهي الكهف والمينقة والقدموس.

وفي سنة اثنتين وسبعين وست مئة

وفيها، اعتقل الظاهر الشيخ خضر «1» ، وكان قد بلغ عند الظاهر أرفع منزلة، وانبسطت يده ونفذ أمره في الشام ومصر، فاعتقله في قاعة بمصر مكرما إلى أن مات. وفي سنة اثنتين وسبعين وست مئة «13» ملك يعقوب المريني سبتة، وهو يعقوب بن عبد الحق بن محيو بن حمامة المريني «2» ، وبنو مرين ملكوا الغرب بعد بني عبد المؤمن وكان آخر من ملك من بني عبد المؤمن أبو دبّوس، وهذه القبيلة أعني بني مرين يقال لها حمامة من بين قبائل العرب بالمغرب، وكان مقامهم بالريف القبلي من تازة، وأول أمرهم أنهم خرجوا عن طاعة بني عبد المؤمن المعروفين بالموحدين لما اختل أمرهم، وتابعوا الغارات عليهم حتى ملكوا مدينة فاس واقتلعوها من الموحدين، في سنة بضع وثلاثين وست مئة، واستمرت فاس وغيرها في أيديهم أيام الموحدين. وأول من اشتهر من بني مرين أبو بكر بن عبد الحق بن محيو بن حمامة المريني «3» ، وبعد ملكه [فاسا] «4» سار إلى جهة مراكش وضايق بني عبد المؤمن، وبقي كذلك حتى توفي المذكور سنة [ست] «5» وخمسين وست مئة.

وفي سنة ثلاث وسبعين وست مئة

وملك بعده يعقوب بن عبد الحق وقوي أمره وحاصر أبا دبّوس في مراكش وملكها يعقوب المذكور وأزال ملك بني عبد المؤمن (340) حينئذ، واستقرت قدمه في الملك، وبقي مستقرا حتى ملك سبتة في هذه السنة. ثم توفي، وملك بعده ولده يوسف بن يعقوب «1» وكنية يوسف المذكور أبو يعقوب، واستمر يوسف المذكور في الملك حتى قتل سنة ست وسبع مئة. وفيها، وصل الظاهر بعساكره إلى دمشق، وكان الظاهر حبس [عمر] «2» بن مخلول أحد أمراء العربان بحبس عجلون فقيّد هناك وهرب من الحبس المذكور إلى بلاد التتر ثم أرسل يطلب الأمان، فقال الظاهر: ما أؤمنه حتى يعود إلى عجلون ويضع القيد في رجليه كما كان، فعاد [عمر] «2» المذكور إلى عجلون، ووضع القيد في رجليه، فعفى عنه الظاهر حينئذ. وفيها، قويت أخبار التتر لقصد الشام وجفل الناس. وفي سنة ثلاث وسبعين وست مئة «13» توجه الظاهر إلى بلاد سيس بعساكره فغنم وعاد إلى دمشق حتى خرجت السنة، «3» وفي دخول الملك الظاهر سيس والشمع بأيدي الجند موقود قدامه، قال ابن عبد الظاهر: (السريع)

وفي سنة أربع وسبعين وست مئة

ملك ترى عسكره موقدا ... شمعا به يرهج أو يبهج قد ألجم الكفر بغاراته ... إذ أدهم الليل بها تسرج وفي سنة أربع وسبعين وست مئة «13» نازلت التتر البيرة، وكان اسم مقدمهم آقطاي، وكان الظاهر بدمشق فتوجه إلى البيرة فرحلت التتر عنها، ولاقى الظاهر الخبر برحيلهم وهو بالقطيفة «1» فأتم السير إلى حلب، ثم عاد إلى (341) مصر، وبعد وصوله جهز جيشا مع آق سنقر الفارقاني «2» وعز الدين أيبك الأفرم إلى النّوبة، فساروا إليها ونهبوا وقتلوا وعادوا بالغنائم «3» . وفيها، كان زواج الملك السعيد بركة بن الظاهر بيبرس «4» بابنة الأمير سيف الدين قلاوون الصالحي «5» غازية خاتون. [وفيها] «6» في أواخر السنة، عاد الظاهر إلى الشام.

[ثم دخلت سنة خمس وسبعين وست مئة]

[ثم دخلت سنة خمس وسبعين وست مئة «13» ] فيها في المحرم، [وصل الملك الظاهر بيبرس إلى دمشق] «1» ، وكان بلغه ورود الأمراء الروميين الوافدين وهم بيجار الرومي «2» وبهادر «3» ولده وأحمد بن بهادر «4» وغيرهم، فسار الظاهر إلى جهة حلب والتقاهم وأكرمهم ثم عاد إلى الديار المصرية. ولما كان يوم الخميس خامس عشر رمضان «5» من هذه السنة، خرج الظاهر من الديار المصرية، ووصل إلى حلب ثم إلى النهر الأزرق، ثم سار إلى البلستين فوصل إليها في ذي القعدة، والتقى بها جمعا من التتر مقدمهم تناون «6» ، فالتقى الفريقان في أرض البلستين يوم الجمعة عاشر ذي القعدة فانهزم التتر، وأخذتهم سيوف المسلمين وقتل مقدمهم تناون وغالب كبرائهم، وأسر منهم جماعة كثيرة صاروا أمراء، وكان من جملة المأسورين في هذه الوقعة سيف الدين قبجق «7»

وسيف الدين سلّار «1» . ثم سار الظاهر بعد فراغه من هذه الوقعة إلى قيساريّة واستولى عليها، وكان الحاكم بالروم يومئذ معين الدين سليمان البرواناه، وكان يكاتب الظاهر في الباطن، وكان يظن الظاهر أنه إذا وصل إلى قيساريّة يصل إليه البرواناه (342) على ما كان اتفق معه في الباطن، فلم يحضر البرواناه لما أراده الله تعالى من هلاكه، وأقام الظاهر على قيساريّة سبعة أيام في انتظار البرواناه وخطب له على منابرها، ثم رحل عنها في ثاني عشري ذي الحجة «2» ، وحصل للعسكر شدة عظيمة من نفاد القوت والعليق وعدمت غالب خيولهم ووصلوا إلى عمق حارم وأقاموا به شهرا. ولما بلغ أبغا بن هولاكو ذلك ساق في جموع المغل حتى وصل إلى البلستين، ووجد عسكره صرعى ولم يجد أحدا من عسكر الروم مقتولا، فاستشاط غيظا وأمر بنهب الروم وقتل من به من المسلمين، فنهب وقتل منهم جماعة. ثم سار أبغا إلى الأردو وصحبته معين الدين البرواناه، فلما استقر بالأردو أمر بقتل البرواناه فقتل «3» وقتل معه نيفا وثلاثين نفسا من مماليكه. والبرواناه: لقب وهو الحاجب بالعجمي، وكان مقتله صبرا، وكان البرواناه

وفي خامس المحرم من سنة ست وسبعين وست مئة

المذكور عارفا بأمور المملكة ذا مكر ودهاء. وفيها، توجه الظاهر من عمق حارم إلى دمشق. وفي خامس المحرم من سنة ست وسبعين وست مئة «13» وصل إلى دمشق ونزل بالقصر الأبلق، فلما كان يوم الخميس السابع والعشرين من المحرم توفي الظاهر بدمشق وقت الزوال إلى رحمة الله تعالى عقيب وصوله من جهة بلاد الروم إلى دمشق، واختلف في سبب موته، قيل: إنه انكسف القمر كسوفا كليا، وشاع بين الناس أن ذلك لموت رجل جليل القدر، فأراد الظاهر أن يصرف التأويل إلى غيره، فاستدعى (343) بشخص من أولاد الملوك الأيوبية يقال له الملك القاهر من أولاد الناصر داود بن المعظم عيسى «1» ، وأحضر قمزا «2» مسموما وأمر السقاة بسقي الملك القاهر المذكور، وشرب الظاهر ناسيا بذلك الهناب «3» على إثر شرب القاهر، فمات القاهر عقيب ذلك. وأما الظاهر فحصلت له حمّى محرقة وتوفي، وكتم مملوكه ونائبه بدر الدين بيليك «4» المعروف بالخزندار موته وصبّره وتركه بقلعة دمشق إلى أن استوت تربته «5» بدمشق فدفن فيها، وارتحل بدر الدين بيليك بالعساكر ومعهم المحفّة

مظهرا أن الظاهر فيها، وأنه مريض، وكان الظاهر قد حلّف العسكر لولده بركة ولقبه الملك السعيد، وجعله ولي عهده، فوصل بيليك الخزندار بالعساكر والخزائن إلى الملك السعيد بقلعة الجبل، وعند ذلك أظهر موت الظاهر، وجلس ابنه الملك السعيد للعزاء واستقر في السلطنة. ومدة ملك الظاهر نحو سبع عشر سنة وشهرين وعشرة أيام لأنه ملك في سابع عشر ذي القعدة سنة ثمان وخمسين وست مئة، وتوفي في سابع عشري المحرم سنة ست وسبعين، وكان ملكا جليلا شجاعا عاقلا مهيبا ملك الديار المصرية والشام وأرسل جيشا فاستولى على النّوبة، وفتح الفتوحات الجليلة مثل صفد وحصن الأكراد وأنطاكية وغيرها، وأصله مملوك قفجاقي الجنس سمعت أنه برجعلي وكان أسمر، أزرق العينين، جهوريّ الصوت، حضر هو ومملوك آخر مع تاجر إلى حماة، فاستحضرهما (344) المنصور محمد صاحب حماة ليشتريهما فلم يعجبه واحد منهما، وكان أيدكين البندقدار مملوك الصالح أيوب صاحب مصر قد غضب عليه الصالح أيوب فتوجه أيدكين إلى جهة حماة، فأرسل الصالح فقبض عليه واعتقله بقلعة حماة، فتركه المنصور صاحب حماة في جامع قلعة حماة، واتفق ذلك عند حضور الظاهر صحبة التاجر، فلما قلبه المنصور ولم يشتره أرسل أيدكين الصالحي وهو معتقل فاشتراه وبقي عنده، وأرسل الصالح وأفرج عن أيدكين من حماة وصحبته مملوكه الظاهر، وبقي مع أستاذه البندقدار مدة، ثم أحضره الصالح من البندقدار فانتسب الظاهر إلى الملك الصالح دون أستاذه، وكان يخطب له، وينقش على الدرهم والدينار بيبرس الصالحي. وكان استقرار السعيد بركة في مملكة مصر والشام في أوائل ربيع الأول من

وبقي الأمر كذلك حتى دخلت سنة سبع وسبعين وست مئة

هذه السنة، واستقل بيليك الخزندار في النيابة على ما كان عليه [مع والده] «1» ، واستمرت الأمور ولم تطل مدة السعيد ولا بيليك، فإن بيليك مات بعد ذلك بمدة يسيرة «2» قيل: حتف أنفه، وقيل: سمّ، والله أعلم، وتولى نيابة السلطنة بعده شمس الدين الفارقاني. ثم إن السعيد خبط وأراد تقديم الأصاغر، وأبعد الأمراء الأكابر، وقبض على سنقر الأشقر والبيسرى، ثم أفرج عنهما بعد أيام يسيرة، ففسدت نيّات الأمراء الأكابر عليه. وبقي الأمر كذلك حتى دخلت سنة سبع وسبعين وست مئة «13» (345) فسار الملك السعيد إلى الشام وصحبته العساكر، فوصل إلى دمشق وجرّد منها العسكر صحبة قلاوون الصالحي، وجرّد أيضا صاحب حماة، فساروا ودخلوا إلى سيس وشنوا الغارة عليها وغنموا، ثم عادوا إلى جهة دمشق واتفقوا على خلع الملك السعيد من السلطنة لسوء تدبيره، وعبروا إلى دمشق ولم يدخلوها، فأرسل إليهم السعيد واستعطفهم ودخل عليهم بوالدته فلم يلتفتوا وأتموا السير، فركب السعيد وساق فسبقهم إلى مصر وطلع إلى قلعة الجبل، وسارت العساكر في أثره، وخرجت السنة والأمر على ذلك. وفيها، توفي عز الدين كيكاوس بن كيخسرو بن كيقباذ بن كيخسرو بن قليج أرسلان بن مسعود بن قليج أرسلان بن سليمان بن قطلومش بن أرسلان بن سلجوق «3» عند منكوتمر ملك التتر بمدينة صراي، وكيكاوس المذكور هو الذي

وفي سنة ثمان وسبعين وست مئة

كان محبوسا بقسطنطينية [حسبما تقدم ذكر القبض عليه في سنة اثنتين وستين] «1» وذكر خلاصه واتصاله بملك التتر في سنة ثمان وستين «2» . وخلف عز الدين المذكور ولدا اسمه مسعود، وقصد منكوتمر أن يزوجه بزوجة ابيه «3» كيكاوس، فهرب مسعود واتصل ببلاد الروم فحمل إلى أبغا فأحسن إليه وأعطاه سيواس وأرزن الروم وأرزنكان، واستقرت هذه البلاد لمسعود ابن عز الدين، ثم بعد ذلك جعلت سلطنة الروم باسم مسعود وافتقر جدا (346) وانكشف حاله، وهو آخر من سمي سلطانا من الملوك السلجوقية بالروم. وفي سنة ثمان وسبعين وست مئة «13» وصلت العساكر الخارجة عن طاعة بركة إلى الديار المصرية في ربيع الأول وحصروه بقلعة الجبل، وخامر عليه غالب من كان معه من الأمراء مثل لاجين الزبني «4» وغيره، وبقي يهرب [واحد] «5» بعد واحد من القلعة وينضم إلى العسكر المحاصر، فلما رأى السعيد ذلك أجابهم إلى الخلع من السلطنة، وأن يعطى الكرك فأجابوه إلى ذلك وأنزلوه من القلعة وخلعوه في ربيع الأول وسفروه من وقته إلى الكرك صحبة بيدغان الركني «4» وجماعة، فوصل إليها وتسلمها بما فيها من الأموال وكانت شيئا كثيرا.

ولما جرى ذلك اتفق أكابر الأمراء مثل بدر الدين بيسرى الشمسي وبكتاش الفخري «1» وغيرهم على إقامة بدر الدين سلامش بن بيبرس «2» في المملكة ولقبوه العادل وعمره سبع سنين وسبعة شهور، وخطب له وضربت السكّة باسمه، وصار الأمير سيف الدين قلاوون الصالحي أتابك العسكر. ولما استقر ذلك جهز أتابك العسكر سنقر الأشقر وجعله نائب السلطنة بالشام، وكان العسكر لما خالفوا السعيد قبضوا على عز الدين أيدمر الظاهري نائب السلطنة بدمشق، وتولى تدبير أمور دمشق بعد أيدمر آقوش الشّمسي، فلما قدم سنقر الأشقر إلى دمشق فوض إلى آقوش الشّمسي نيابة (347) حلب، فسار وتولاها، واستمر الحال على ذلك مدة يسيرة. فلما كان يوم الأحد الثاني والعشرون من رجب كان جلوس السلطان الملك المنصور قلاوون الصالحي في السلطنة بعد خلع سلامش وعزله. ولما تولى المنصور أقام منار العدل، وأحسن سياسة الملك، وقام بتدبير السلطنة أحسن قيام. فلما كان رابع عشري ذي القعدة جلس سنقر الأشقر بدمشق في السلطنة، وحلف له العسكر الذي بدمشق وتلقب بالكامل شمس الدين سنقر.

وفي سنة تسع وسبعين وست مئة

وفيها، توفي السعيد بركة بن الظاهر «1» بالكرك بعد وصوله إليها بمدة يسيرة، وكان سبب موته أنه لعب بالكرة في ميدان الكرك فتقنطر به الفرس وحصل له بسبب ذلك حمّى شديدة، وبقي كذلك أياما يسيرة وتوفي وحمل إلى دمشق ودفن في تربة أبيه «2» . ولما توفي السعيد اتفق من بالكرك وأقاموا موضعه أخاه نجم الدين خضر (ا) «3» ، واستقر بالكرك ولقبوه الملك المسعود. وفي سنة تسع وسبعين وست مئة «13» كانت كسرة سنقر الأشقر المستولي على الشام، وكان المنصور قلاوون قد جهز عساكر مصر مع علم الدين سنجر الحلبي، ومعه بدر الدين بكتاش أمير سلاح، وبدر الدين الأيدمري. فسارت العساكر إلى الشام، وبرز سنقر بعساكر الشام إلى ظاهر دمشق، والتقى الفريقان في تاسع عشر صفر فولى الشاميون وسنقر [منهزمين] «4» ونهبت (348) العساكر المصرية أثقالهم، وكان المنصور قلاوون قد جعل غلامه لاجين السلحدار «5» نائبا بقلعة دمشق، فلما جلس سنقر في دست المملكة قبض

على لاجين فلما هرب سنقر أفرج عنه، وكذلك سنقر اعتقل بيبرس الحلبي المعروف بالجالق «1» لأنه لم يحلف فأفرج عنه أيضا، وكتب الحلبي إلى المنصور، بالفتح واستقر حسام الدين المنصوري نائب السلطنة بالشام. وأما سنقر الأشقر فإنه هرب إلى الرحبة وكاتب أبغا بن هولاكو ملك التتر وأطمعه في البلاد، وكان عيسى بن مهنّا ملك العرب مع سنقر وقاتل معه وكتب بذلك [إلى] «2» أبغا أيضا موافقته له، ثم سار سنقر من الرحبة إلى صهيون في جمادى الأولى واستولى عليها وعلى برزية وبلاطنس والشّغر وبكاس وعكّار وشيزر وفامية، وصارت هذه البلاد لسنقر الأشقر. وفيها، جعل السلطان الملك المنصور قلاوون ولده الصالح علاء الدين [عليا] «3» ولي عهده، وسلطنه وركب بشعار السلطنة.

وفي مستهل ذي الحجة خرج المنصور من مصر إلى الشام.

وفيها، سار المنصور من الديار المصرية إلى غزّة، وكان التتر قد وصلوا إلى حلب فعاثوا ثم عادوا، فعاد السلطان إلى مصر في جمادى الآخرة. وفيها، استأذن بلبان الطّبّاخي «1» أحد مماليك المنصور وكان نائبا بحصن الأكراد في الإغارة على بلد المرقب لما كان اعتمده أهلها من الفساد عند وصول التتر إلى حلب فأذن له في ذلك، فجمع الطّبّاخي عساكر الحصون وسار (349) إلى المرقب فاتفق هروب المسلمين ونزول الفرنج من المرقب، فقتلوا وأسروا من المسلمين جماعة. وفي مستهل ذي الحجة خرج المنصور من مصر إلى الشام. ودخلت سنة ثمانين وست مئة «13» والسلطان بالروحاء «2» وأقام هناك مدة، وسار إلى بيسان فقبض على جماعة من الظاهرية وأعدم منهم جماعة، ثم سار السلطان ودخل إلى دمشق وأرسل عسكرا إلى شيزر وهي لسنقر الأشقر وجرى بينهم مناوشة، ثم ترددت الرسل بين السلطان وبين سنقر، واحتاج السلطان إلى مصالحته لقوة أخبار التتر ووقع بينهما الصلح على أن يسلّم شيزر إلى السلطان ويتسلم سنقر الشّغر وبكاس وكانتا قد ارتجعتا منه، فتسلم نواب السلطان شيزر وتسلم سنقر الشّغر وبكاس وحلفا على

ذلك. وفيها، استقر الصلح بين المنصور وبين خضر بن الظاهر [بيبرس صاحب الكرك] «1» . وفي هذه السنة في شهر رجب، كانت الوقعة العظيمة بين المسلمين وبين التتر بظاهر حمص، وذلك أن أبغا بن هولاكو حشد وجمع وسار طالب الشام، ثم انفرد أبغا المذكور عنهم وسار إلى الرحبة وسير جيوشه [وجموعه] «1» إلى الشام، وقدم [عليها] «2» أخاه منكوتمر «3» فسار إلى حمص، وسار المنصور بالجيوش الإسلامية من دمشق إلى جهة حمص، وأرسل إلى سنقر يستدعيه بمن عنده من الأمراء والعسكر بحكم ما استقر بينهما من الصلح واليمين، فسار سنقر من صهيون (350) ، فلما وصل السلطان إلى ظاهر حمص [وصل] «4» إليه المنصور صاحب حماة بعسكره، ثم وصل سنقر بعسكره، ورتب السلطان العساكر ميمنة وميسرة، والتقى الفريقان بظاهر حمص في الساعة الرابعة من يوم الخميس رابع عشر رجب الفرد، وأنزل الله نصره على القلب والميمنة فهزموا من كان قبالتهم من التتر، وركبوا أقفيتهم يقتلون ويأسرون، وكان منكوتمر قبالة القلب فانهزم، وأما ميسرة المسلمين فإنهم انكشفوا عن مواقعهم وتم ببعضهم الهزيمة إلى دمشق، وساق التتر إثر المنهزمين حتى وصلوا إلى تحت حمص ووقعوا في السوقية وغلمان العسكر والعوام وقتلوا منهم خلقا كثيرا، ثم علموا بنصرة

المسلمين وهزيمة جيشهم فولوا منهزمين على أعقابهم، وتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون، وكانت عدة التتر نحو ثمانين [ألفا] «1» منهم خمسون ألفا من المغل والباقي مجمعة من أجناس مختلفة. ولما وصل خبر هذه الكسرة إلى أبغا وهو على الرحبة يحاصرها رحل عنها على عقبه منهزما. وكتب بهذا الفتح العظيم إلى البلاد الإسلامية فزينت لذلك، ثم إن المنصور أعطى الدستور للعساكر الشمالية فرجع المنصور محمد صاحب حماة إلى بلده، وسنقر إلى صهيون، وسار عسكر حلب إليها، وعاد السلطان إلى دمشق والأسرى والرءوس بين يديه، وسار إلى الديار المصرية كذلك مؤيدا منصورا. فلما استقر بالديار المصرية (351) قدمت إليه هدية صاحب اليمن الملك المظفر شمس الدين يوسف بن عمر بن علي بن رسول، وطلب أمانا من السلطان، فقبل السلطان هديته وكانت من طرائف اليمن، وكتب السلطان له أمانا وأرسله وهدية من أسلاب التتر وخيلهم، وعادت رسله بذلك مكرمين. وفيها، مات منكوتمر بجزيرة ابن عمر مكمودا عقب كسرته على حمص، وكان موته من يمنة هذا الفتح العظيم.

سنة إحدى وثمانين وست مئة إلى سنة [تسعين] وست مئة

(352) «1» بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم سنة إحدى وثمانين وست مئة إلى سنة [تسعين] «2» وست مئة في أوائل سنة إحدى وثمانين وست مئة «13» ولى السلطان مملوكه شمس الدين قراسنقر نيابة السلطنة بحلب، فسار إليها واستقر بها. وفي المحرم منها، مات أبغا بن هولاكو بن طلو بن جنكز خان ملك التتر، قيل: إنه مات مسموما ببلاد همذان، ومدة ملكه نحو سبع عشرة سنة [وكسر] «3» ، وخلف من الولد أرغون وكيختو [ابني] «4» أبغا. ولما مات أبغا ملك بعده أخوه أحمد بن هولاكو واسم أحمد المذكور تكدار، فلما جلس في الملك أظهر دين الإسلام، وتسمى بأحمد. وفيها، وصلت رسل أحمد بن هولاكو ملك التتر المذكور إلى السلطان الملك المنصور قلاوون، وكان كبير الرسل المذكورين الشيخ قطب الدين محمود

الشّيرازي «1» ، وكان إذ ذاك قاضي سيواس [فاحترز عليهم] «2» السلطان ولم يمكن أحدا من الاجتماع بهم، وكان مضمون رسالتهم إعلام السلطان بإسلام أحمد المذكور، وطلب الصلح بين المسلمين والتتر فلم ينتظم ذلك، وعادت رسله بالجواب «3» . وفيها، مات منكوتمر بن طغان بن باطو بن دوشي خان بن جنكز خان «4» ملك التتر بالبلاد الشمالية، وملك بعده أخوه تدان منكو بن طغان وجلس على كرسي الملك بمدينة صراي. وفيها، عقد للملك الصالح علاء الدين علي بن الملك المنصور على بنت سيف الدين نكيه «5» ، وتزوج أخوه الملك الأشرف «6» بأختها، وكان نكيه

وفي سنة اثنتين وثمانين وست مئة

معتقلا بالإسكندرية، فلما عزم السلطان على ذلك أخرجه من الحبس وفعل ذلك. وفي سنة اثنتين وثمانين وست مئة «13» في أوائلها، قدم الملك المنصور صاحب حماة وصحبته أخوه الأفضل علي إلى الديار المصرية، فبالغ السلطان الملك المنصور في إكرامه والإحسان إليه، وأنزله بالكبش، وأركبه بالصناجق السلطانية والجفتا «1» والغاشية وسأله عن حوائجه، فقال صاحب حماة: حاجتي أن أعفى من هذا اللقب فإنه [ما بقي] «2» يصلح لي أن ألقب بالملك المنصور، وقد صار هذا لقب مولانا السلطان [الأعظم، فأجابه السلطان بأني ما تلقبت بهذا الاسم] «2» إلا لمحبتي فيك (353) ولو كان لقبك غير ذلك كنت تلقبت به، فشيء قد فعلته محبة لاسمك كيف أمكن من تغييره. ثم طلع السلطان بالعسكر المصري لحفر الخليج الذي بجهة البحيرة «3» ، وسار

صاحب حماة في خدمته إلى الحفير، ثم أعطاه الدستور بعد ذلك فعاد مكرما مغمورا بالصدقات السلطانية. وفيها، رمى السلطان الملك الصالح علاء الدين علي بن الملك المنصور قلاوون بجعا بجهة [العباسة] «1» بالبندق، و [أرسله] «2» للملك المنصور صاحب حماة فقبله وبالغ في إظهار الفرح والسرور بذلك، وأرسل إليه تقدمة جليلة. وفيها، خرج أرغون بن أبغا بخراسان على عمه تكدار المسمى بأحمد سلطان، وسار إليه واقتتلا، فانهزم أرغون وأخذه أحمد أسيرا، وسأل الخواتين في إطلاق أرغون وإقراره على خراسان فلم يجب أحمد إلى ذلك [وكانت] «3» خواطر المغل قد تغيرت على أحمد بسبب إسلامه وإلزامه لهم بالإسلام فاتفقوا على قتله، وقصدوا أرغون بالموضع الذي هو معتقل فيه وأطلقوه، وكبسوا الناق نائب أحمد فقتلوه، ثم قصدوا الأردو فأحس بهم السلطان أحمد فركب وهرب [فتبعوه] «4» وقتلوه، وملكوا أرغون بن أبغا بن هولاكو وذلك في جمادى الأولى من هذه السنة. وفيها، قتل أرغون الصبيّ سلطان الروم الذي اقامه البرواناه بعد قتله أباه حسبما تقدم ذكره في سنة ست وستين وست مئة «5» ، وكان اسم الصبي المذكور غياث الدين كيخسرو بن ركن الدين قليج أرسلان بن كيخسرو بن كيقباذ، وفوض اسم سلطنة الروم إلى مسعود بن عز الدين كيكاوس، [وهذا

مسعود هو الذي هرب من منكوتمر ملك التتر بصراي، وأبوه عز الدين] «1» هو الذي جرى له مع الأشكري صاحب قسطنطينية ما قدمنا ذكره في سنة اثنتين وستين «2» ، واستمر اسم سلطنة الروم باسم مسعود المذكور إلى قريب سنة ثمان وسبع مئة، وهو مسعود بن كيكاوس بن كيخسرو بن كيقباذ بن كيخسرو بن قليج أرسلان بن مسعود بن قليج أرسلان بن سليمان بن قطلومش بن أرسلان يبغو بن سلجوق، وهو آخر من سمي بالسلطنة من السلجوقية ببلاد الروم «3» ، وافتقر مسعود المذكور وانكشف حاله جدا حتى قيل إنه تناول سما فمات (354) لكثرة المطالبات من أرباب الديون والتتر. وفيها، ولى أرغون سعد الدولة اليهودي وعظمه ومكنه، وكان سعد الدولة في [مبدأ] «4» أمره دلالا بسوق الصاغة بالموصل فحكم بسائر بلاد التتر. وفيها، قرر أرغون ولديه قازان «5» وخربندا «6» بخراسان، وجعل أتابكهما أميرا من أصحابه اسمه نوروز «7» . وفيها، مات الأشكري صاحب قسطنطينية واسمه ميخائيل «8» ، وملك بعده

وفي سنة ثلاث وثمانين وست مئة

[ابنه] «1» [أندرو نيكوس] «2» وتلقب بالدوكس. وفيها، كاتب الحكام بقلعة الكختا قراسنقر نائب السلطنة بحلب، وسلموا الكختا إليه، فجهز قراسنقر عسكرا وتسلموها، وقرر فيها نواب السلطنة وحصنها وصارت من أعظم الثغور الإسلامية نفعا. وفي رجب، قدم السلطان إلى دمشق، وكان السيل العظيم في العشر الأول من شعبان والسلطان قلاوون بدمشق، فأخذ السيل ما مرّ به من العمارات والآلات ما لا يحصى، فتوجه السلطان بعد ذلك إلى الديار المصرية وذهب للعسكر النازلين على جوانب بردى من الخيل والخيم والجمال والرجال ما لا يحصى. وفي سنة ثلاث وثمانين وست مئة «13» [سار السلطان الملك المنصور قلاوون إلى دمشق وحضر الملك المنصور صاحب حماة إلى خدمته إلى دمشق ثم عاد كل منهما إلى مقر ملكه] «3» . (و) [في هذه السنة في شوال] «3» توفي الملك المنصور أبو المعالي محمد «4» ابن الملك المظفر محمود بن الملك المنصور محمد بن الملك المظفر تقي الدين عمر ابن شاهنشاه بن أيوب «5» صاحب حماة، رحمه الله تعالى.

ابتدأ به المرض في أوائل شعبان بعد عوده من خدمة السلطان من دمشق، وكان مرضه حمّى صفراوية داخل العروق، ثم صلح مزاجه بعض الصلاح، فأشار الأطباء بدخول الحمام فدخلها فعاوده المرض، فأحضر الأطباء من دمشق واشتد به ذات الجنب وعالجه الأطباء فلم يفد شيئا، وفي مدة مرضه عتق مماليكه وتاب توبة نصوحة (كذا) ، وكتب إلى السلطان الملك المنصور في إقرار ابنه الملك المظفر محمود «1» في مملكته على قاعدته، واشتدّ مرضه حتى توفي بكرة حادي عشر شوال من هذه السنة. وكانت ولادته في الساعة الخامسة من يوم الخميس لليلتين بقيتا من ربيع الأول سنة اثنتين وثلاثين وست مئة (355) فيكون عمره إحدى وخمسين سنة وستة أشهر و [أربعة عشر يوما] «2» ، وملك حماة يوم السبت ثامن جمادى الأولى سنة اثنتين وأربعين وست مئة، وهو (اليوم) الذي توفي فيه والده الملك المظفر محمود فتكون مدة ملكه إحدى وأربعين سنة وخمسة أشهر وأربعة أيام، وكان أكبر أمانيه أن يعيش حتى يسمع جوابه من السلطان فيما سأله من إقرار حماة على ولده الملك المظفر محمود، فاتفق وفاته قبل وصول الجواب، وكان قد أرسل في ذلك على البريد مملوكه سنقر «3» أمير آخور، فوصل بالجواب بعد موت الملك المنصور بستة أيام، ونسخة الجواب من السلطان بعد البسملة: «المملوك قلاوون أعزّ الله أنصار المقام العالي المولوي السلطاني الملكي

المنصوري الناصري ولا عدمه الأنام، ولا فقدته السيوف والأقلام، وحماه من ذي داء وعود عواد وإلمام [آلام] «1» ، المملوك يجدد الخدمة التي كان يود تجديدها شفاها، ويصف ما عنده من الآلام ولما ألم بمزاجه حتى أنه لم يكد يفتح بحديث فاها، ولما وقفت على كتاب المولى المتضمن مرض الجسد المحروس وما انتهى إليه الحال كادت القلوب تنشق والنفوس تذوب حزنا والرجاء من الله (أن) يتداركه بلطفه وأن يمنّ بعافيته التي رفع [في مسألتها] «2» يديه، وبسط بها [كفيه] «3» ، وهو يرجو من كرم الله تعالى معاجلة الشفاء، ومداركة العافية الموردة بعد الكدّ مورد الصفاء، والله تعالى يفسح في عمر المولى ويهبه العمر الطويل. وأما الإشارة الكريمة إلى ما ذكره من الحقوق التي يوجبها الإقرار، والعهود التي أمنت بدورها من الأسرار، نحن بحمد الله فعندنا تلك العهود ملحوظة، وتلك المودات محفوظة، فالمولى يعيش قرير العين فما تمّ إلا ما يسرّه من إقامة ولده مقامه ولا يحول ولا يزول، ولا يرى على ذلك ذلة ولا ذهول، ويكون المولى طيب النفس، مستديم الأنس، بصدق العهد القديم، وبكل ما يؤثر من خير مقيم» . ولما وصل الكتاب اجتمع لقراءته الملك الأفضل والملك المظفر وعلم الدين سنجر المعروف بأبي خرص «4» (356) وقرئ عليهم، فتضاعف سرورهم بذلك. وكان الملك المنصور صاحب حماة المذكور ذكيا فطنا محبوب الصورة، وكان

له قبول عظيم عند ملوك الترك، وكان حليما إلى الغاية، يتجاوز عما يكره [ويكتمه] «1» ولا يفضح قائله، من ذلك أن الظاهر بيبرس قدم مرة إلى حماة ونزل بالدار المعروفة الآن بدار المبارز، فرفع إليه أهل حماة عدة قصص يشكون على الملك المنصور، فأمر الملك الظاهر دواداره سيف الدين بلبان الرومي «2» أن يجمع القصص فلا يقرأها، ويضعها في منديل ويحملها إلى الملك المنصور صاحب حماة، فحملها الدّوادار المذكور وأعطاها للملك المنصور، وقال إنه والله لم يطلع السلطان الملك الظاهر على قصة منها، وقد حملتها إليك، فتضاعف دعاء الملك المنصور لصدقات الملك الظاهر وأخذ القصص، فقال بعض الجماعة: سوف نرى من تكلم ما لا ينبغي ما يلقى، وتكلموا بمثل ذلك، فأمر الملك المنصور بإحضار نار، وحرق جميع تلك القصص، ولم يقف على شيء منها لئلا يتغير خاطره على رافعيها، وله مثل ذلك كثير، رحمه الله. ولما بلغ السلطان الملك المنصور قلاوون وفاة الملك المنصور صاحب حماة قرر ابنه الملك المظفر محمود [افي] «3» ملك حماة على قاعدة والده، وأرسل إلى عمه الأفضل وإلى أولاده التشاريف ومكاتبة إلى الملك المظفر بذلك، ووصلت التشاريف ولبست في العشر الأخير من شوال في هذه السنة، وكانت نسخة الكتاب بعد البسملة: «المملوك قلاوون الصالحي أعزّ الله نصرة المقام العالي المولوي السلطاني الملكي المظفري التّقوي ونزع عنه لباس اليأس، وألبسه حلل السعد المجلوّة على

أعين الناس، وهو يخدم خدمة مولى قد تبجست عيونه، وتأسست مبانيه وتيابست ظنونه، وحلت رهونه، وحلت ديونه، وأثمرت غصونه، وزهت أفنانه وفنونه» ، ومنها: «وقد سيرنا المجلس السامي «1» جمال الدنيا آقوش الموصلي (357) الحاجب «2» ، وأصحبناه [من] «3» الملبوس الشريف ما يغير به لباس الحزن، ويتجلى في مطالعة ضياء وجهه الحسن، وتنجلي بذلك غيوم تلك الهموم، وأرسلنا أيضا صحبته ما يلبسه هو وذووه كما يبدو البدر بين النجوم» ، وآخر الكتاب: «كتب في عشري شوال سنة ثلاث وثمانين وستّ مئة» . وكان وقع الاتفاق عند موت الملك المنصور على إرسال علم الدين سنجر أبي خرص الحموي لأجل هذا المهم، فلاقى سنجر المذكور جمال الدين الموصلي بالخلع في أثناء الطريق فاستمر أبو خرص واصلا إلى الأبواب العالية وتلقاه السلطان بالقبول وأعاده بكل ما يجب، وقال: نحن واصلون إلى الشام ونفعل مع الملك المظفر فوق ما في نفسه، فعاد سنجر أبو خرص إلى حماة [ومعه] «4» هذا الجواب.

وفي صفر سنة أربع وثمانين وست مئة

وفي صفر سنة أربع وثمانين وست مئة «13» كان ركوب الملك المظفر صاحب حماة بشعار السلطنة بدمشق المحروسة، وذلك أن السلطان الملك المنصور قلاوون وصل في أواخر المحرم إلى دمشق، وسار الملك المظفر صاحب حماة وعمه الأفضل ووصلا إليه إلى دمشق فأكرمهما السلطان إكراما كثيرا، وأرسل إلى الملك المظفر في اليوم الثالث من وصوله التقليد بسلطنة حماة والمعرة وبارين والتشريف وهو أطلس أحمر فوقاني بطراز زركش وسنجاب ودائره قندس، وقباء أطلس أصفر تحتاني وشاش تساعي وكلوتة بزرگش وحياصة ذهب وسيف محلى بالذهب وتلكش وعنبريتا وثوب بطرز مذهبة ولباس، وأرسل شعار السلطنة وهو سنجق بعصائب سلطانية «1» وفرس بسرج مذهب ورقبة وكنبوش، وأرسل الغاشية السلطانية، فركب المظفر ولبس شعار السلطنة، وحضرت أم السلطان ومقدمو عساكره، وساروا معه من الموضع الذي (358) كان فيه وهو داره المعروفة بالحافظية داخل باب الفراديس بدمشق المحروسة إلى أن وصل إلى قلعة دمشق، ومشت الأمراء في خدمته، ودخل الملك المظفر إلى عند السلطان وأكرمه وأجلسه إلى جانبه على الطراحة «2» وطيب خاطره، وقال له: أنت ولدي وأعز من الملك الصالح عندي، فتوجه إلى بلادك وتأهب لهذه الغزاة المباركة فأنتم من بيت مبارك ما حضرتم مكانا إلا وكان النصر معكم، فعاد الملك المظفر وعمه الأفضل إلى حماة وعملا أشغالهما وتأهبا للمسير إلى خدمة السلطان ثانيا، ثم سار السلطان بعد وصوله إلى دمشق

بالعساكر المصرية والشامية، ونازل حصن المرقب في أوائل ربيع الأول هذه السنة «1» ، وهو حصن الإسبتار في غاية العلو والحصانة لم يطمع أحد من الملوك الماضين في فتحه، ولما زحف العسكر عليه أخذت الحجارون فيه النقوب، ونصبت عليه عدة مجانيق [كبار وصغار] «2» ، ولما تمكنت النقوب من أسوار القلعة طلب أهلها الأمان، فأجابهم السلطان إلى ذلك رغبة في بقاء عمارته، فإنه لو هدمه وأخذه بالسيف كان حصل التعب في [إعادة] «3» عمارته، فأعطاهم الأمان على أن يتوجهوا بما يقدرون على حمله غير السلاح، وصعّدت السناجق الصناجق على حصن المرقب المذكور، وتسلمه في الساعة الثامنة من يوم الجمعة تاسع عشر ربيع الأول من سنة أربع وثمانين، وكان يوما مشهودا أخذ فيه الثأر من بيت الإسبتار، ومحيت آية الليل بآية النهار، ومن كتاب كتبه شيخنا أبو الثناء «4» في فتح المرقب «5» : «وقد علم المجلس أمر هذا الحصن، فإنه [طالما] «6» بخلت الأحلام أن تخيله

لمن سلف من الملوك في المنام، فكم قصده ذو جنود..... «1» وقاتلته دونه الغمائم، فلولا سرعة عوده أدركه الغرق، قد سما في السماء مناكبه (359) ونازع فلك علوي الرياح، ولا يخاف الجناح في العجز عن نسيمها ذات الجناح، وحوله من الأودية خنادق لا تعلم منها الشهور إلا بأنصافها، ولا تعرف فيها الأهلة إلّا بأوصافها، و [هو مع ذلك] «2» قد تقطر بالنجوم، وتقرطق بالغيوم، وسما فرعه إلى السماء، ورسا أصله في النجوم، يرد عليه الحوجيب غمامه، ويفترّ ثغره كلما جرّد عنه البرق فاضل لثامه، فحين نزلته الجيوش المنصورة [ذللت] «3» صعابه، وأسهلت عقابه، فتبادرت إليه تختال من دروعها في أبهى الحلل، وتسارعت نحوه تسبق سهامها التي هي أبرى وأسرع من الأجل، ففي الحال ضربت عليه من الخبويات سورا (لَهُ بابٌ) باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ «4» ، وتصدت حوله من الأسنة خوذ براقة المنايا، ولكنها غير عذاب، وأرسلت من القلعة من سهامها ما [أربى] «5» على الغمائم «فكان بها مثل الجنون فأصبحت ومن جثث القتلى عليها تمائم» «6» ، ونصبت عليها المجانيق [المنصورة فلم ترع حتى حبسها، وسطت على نظرائها فصار غدها] «7» أبعد من أمسها، وو استنهضتها العدا فأعلمتهم أنها لا تطيق الدفاع عن غيرها فكيف عن

نفسها، وبسطت أكفّها أمارة على الإذعان، ورفعت أصابعها إما إجابة إلى التشهد وإما إنابة إلى طلب الأمان، فخاف الفرنج من ظفر هذا الاستظهار، وعلموا أن المجانيق المنصورة فحول لا تثبت لها الإناث التي [عريت من النفع] » بأيديهم، فاستعانوا عليهن مع العدى «2» بطول الحذار، [فعند ذلك غدت تكمن كمون] «3» الأراقم [و] » وثبت [وثبات] «4» الضّراغم هذا [و] «5» النقوب [قد] » دبّت في هذا الحصن دبيب السقام، وتمشت في مفاصله كما تتمشى في مفاصل شاربها المدام، وحشت أضالعه نارا تشبه نار النوى تحرق الأحشاء ولا يبدو لها ضرام، وهجمت عليه الجيوش [المنصورة] » هجوم الحتوف، وأسرعت المضاء والانتضاء (360) فلم [يدر] «6» العدا أهم أم [الذي] » بأيديهم السيوف، [فلجأوا إلى الأمان] «7» ، [وتمسك ذلّ كفرهم بعزّ الإيمان] » وتشبثوا بساحل العفو حين ظنوا أنهم أحيط بهم وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ «8» ، وساعة نظرها علت الأعلام المنصورة على ذلك المرقب الذي لا تتطاول إليه...... «9» الله لفتحه الأيام، فنصر أهل الجمعة يوم الجمعة على أهل الأحد» .

وفي سنة خمس وثمانين وست مئة

وأمر السلطان بحمل أهل المرقب إلى مأمنهم، ثم قرر أموره ورحل عنه إلى الوطاءة بالساحل وأقام بمروج «1» بالقرب من موضع يسمى برج القرفيص «1» ، ثم سار السلطان ونزل تحت حصن الأكراد، ثم سار ونزل على بحيرة حمص، وهي بحيرة قدس. وفي نزوله على حمص جاءت البشارة بمولد مولانا السلطان الملك الناصر ناصر الدنيا والدين محمد بن قلاوون «2» من زوجة السلطان وهي بنت سكاي ابن قراجين بن حيفان «3» ، وسكاي ورد الديار المصرية هو وأخوه قرمشي «4» سنة خمس وسبعين وست مئة صحبة بيجار الرومي في الدولة الظاهرية «5» فتزوج الملك المنصور قلاوون ابنة سكاي المذكور سنة ثمانين وست مئة بعد موت أبيها المذكور بولاية عمها القرمشي، وتضاعف السرور بذلك. ثم عاد السلطان إلى الديار المصرية وأعطى للملك المظفر عند رحيله من حمص دستورا فعاد إلى حماة. وفي سنة خمس وثمانين وست مئة «13» أرسل السلطان عسكرا كثيفا مع نائب السلطنة حسام الدين طرنطاي

وفي سنة ست (361) وثمانين وست مئة

المنصوري «1» ، وأمره بمنازلة الكرك، فسار إليها وحاصرها وتسلمها بالأمان، وأقام فيها نواب السلطنة، وعاد وصحبته أصحاب الكرك نجم الدين خضر وبدر الدين سلامش ولدا الملك الظاهر بيبرس، فأحسن السلطان إليهما ووفّى لهما بأمانه وبقيا على ذلك مدة، ثم بلغه عنهما ما كرهه فاعتقلهما وبقيا في الحبس حتى توفي، فنقل خضر وسلامش إلى قسطنطينيّة «2» . وفي سنة ست (361) وثمانين وست مئة «13» كان السلطان قد جهز عسكرا مع مملوكه حسام الدين طرنطاي، فنزلوا على صهيون فنصب المجانيق وحاصرها، فأجاب صاحبها الأمير شمس الدين سنقر الأشقر إلى تسليمها بالأمان، وحلف له حسام الدين طرنطاي فنزل سنقر الأشقر وسلّم صهيون في ربيع الأول فتسلمها طرنطاي وأكرم سنقر الأشقر غاية الإكرام. ثم سار حسام الدين طرنطاي إلى اللاذقية، وكان فيها برج الإفرنج يحيط به البحر من جميع جهاته، فركب طريقا في البحر بالحجار (ة) إليه، وحاصر البرج

وفي سنة سبع وثمانين وست مئة

المذكور وتسلمه بالأمان وهدمه. ثم بعد ذلك توجه إلى الديار المصرية وصحبته سنقر الأشقر، ولما وصلا إلى قرب قلعة الجبل ركب السلطان الملك المنصور قلاوون والتقى مملوكه حسام الدين طرنطاي وسنقر الأشقر وأكرمه ووفى له بالأمان. وبقي سنقر الأشقر مكرما محترما إلى أن توفي السلطان وملك بعده ولده الأشرف. وفيها، نزل تدان منكو بن طغان بن باطو بن دوشي خان بن جنكز خان عن مملكة التتر بالبلاد الشمالية «1» ، وأظهر الزهد والانقطاع إلى الصلحاء، وأشار [إلى] «2» أن يملّكوا ابن أخيه تلابغا بن منكوتمر بن طغان المذكور فملّكوه «3» . وفيها، أرسل السلطان المنصور عسكرا مع علم الدين سنجر المسروري المعروف بالخياط «4» متولي القاهرة إلى النّوبة، فساروا إليها وغزوا وغنموا وعادوا. وفي سنة سبع وثمانين وست مئة «13» توفي الصالح علاء الدين علي بن الملك المنصور «5» ، وهو الذي جعله ولي

وفي سنة ثمان وثمانين وست مئة

عهده وسلطنه في حياته، فوجد عليه وجدا عظيما، وكان مرضه بالدوسنطارية وخلف ولدا اسمه موسى «1» . وفي سنة ثمان وثمانين وست مئة «13» خرج السلطان بالعساكر المصرية في المحرم، وسار إلى أن نازل مدينة طرابلس الشام يوم الجمعة مستهل (362) ربيع الأول، ويحيط البحر بغالب هذه المدينة، وليس عليها قتال في البر إلا من جهة الشرق وهو مقدار قليل، ولما نازلها السلطان نصب عليها عدة مجانيق [كبار وصغار] «2» ولازمها بالحصار، واشتد عليها القتال حتى فتحها يوم الثلاثاء رابع ربيع الأول «3» بالسيف، ودخلها العسكر عنوة، وهرب أهلها إلى الميناء فنجا أقلّهم في [المراكب] «4» ، وقتل غالب رجالها، وسبيت ذراريهم، وغنم منها المسلمون غنيمة عظيمة «5» . ولما فرغ حصار طرابلس المذكور، أمر بها السلطان فهدمت ودكّت إلى الأرض، وكان في البحر قريبا من طرابلس جزيرة وفيها كنيسة تسمى كنيسة

وفي سنة تسع وثمانين وست مئة

سنطماس وبينها وبين طرابلس الميناء، فلما أخذت طرابلس هرب إلى الجزيرة المذكورة، وإلى الكنيسة التي بها عالم عظيم من الفرنج، فاقتحم العسكر الإسلامي البحر وعبروا بخيولهم سباحة إلى الجزيرة فقتلوا [جميع] «1» من بها من الرجال وسبوا النساء والصغار وأخذوا المال «2» ثم عاد السلطان إلى الديار المصرية، وأعطى صاحب حماة دستورا فعاد إلى بلده. وفيها مات قبلاي قان بن طلو بن جنكز خان، وكانت قد طالت مدته، وجلس بعده ولده شرمون «3» في ملك التتر بالصين. وفي سنة تسع وثمانين وست مئة «13» في سادس ذي القعدة [توفي] «4» السلطان الملك المنصور قلاوون «5» ، وذلك أنه خرج من مصر بالعساكر عازما على فتح عكّا، وبرز إلى مسجد التّبن «6» ، فابتدأ مرضه بالعشر الأخير من شوال بعد نزوله في الدّهليز، وأخذ المرض يتزايد به حتى توفي يوم السبت سادس ذي القعدة بالدّهليز. وكان جلوسه في الملك يوم الأحد ثاني عشري رجب سنة ثمان وسبعين

وست مئة «1» ، فتكون مدة ملكه نحو إحدى عشرة سنة وثلاثة شهور [وأيام] «2» ، وخلف ولدين وهما: الملك الأشرف صلاح الدين خليل، والسلطان الملك الناصر ناصر الدين محمد. وكان الملك المنصور رجلا مهيبا (363) حليما، قليل سفك الدماء، كثير العفو، شجاعا، فتح الفتوحات الجليلة مثل المرقب وطرابلس التي لم يجسر أحد من الملوك مثل صلاح الدين وغيره على التعرض إليهما [لحصانتهما] «3» ، وكسر جيش التتر على حمص، وكانوا في ثمانين ألف فارس. ولما توفي السلطان جلس في الملك بعده ولده السلطان الملك الأشرف، وذلك في سابع ذي القعدة صبيحة اليوم الذي توفي فيه والده. ولما استقر الملك الأشرف في المملكة قبض على حسام الدين طرنطاي نائب السلطنة في يوم الجمعة ثاني عشر ذي القعدة فكان آخر العهد به «4» ، وفوض نيابة السلطنة إلى بدر الدين بيدرا «5» والوزارة إلى شمس الدين بن السلعوس «6» .

ودخلت سنة تسعين وست مئة

ودخلت سنة تسعين وست مئة «13» فسار السلطان الملك الأشرف بالعساكر [المصرية] «1» إلى عكّا، [وأرسل إلى العساكر الشامية وأمرهم بالحضور، وأن يحضروا صحبتهم المجانيق] «1» ، فتوجه المظفر صاحب حماة وعمه الأفضل [وسائر عسكر حماة] «1» صحبته إلى حصن الأكراد، وساقوا منها منجنيقا عظيما يسمى المنصوري حمل مئة عجلة، وكان المسير بالعجل في أواخر فصل الشتاء، واتفق وقوع الأمطار والثلوج بين حصن الأكراد ودمشق، فحصل بسبب ذلك شدة عظيمة، والحاصل أنه اجتمع على عكّا من المجانيق الصغار والكبار ما لم يجتمع على غيرها، وكان نزول العساكر الإسلامية عليها في أوائل جماد (ى) الأولى «2» ، واشتد عليها القتال، ولم يغلق الفرنج غالب أبوابها بل كانت مفتوحة وهم يقاتلون فيها، وكانت منزلة الحمويين برأس الميمنة، وكانت على جانب البحر [والبحر] «1» على اليمين إذا واجه الشخص عكّا، فكان تحضر المراكب المقبية بالخشب الملبس جلود الجواميس، والفرنج من تحتها يرمون بالنشاب والجروح، وأحضروا بطسة وفيها منجنيق يرمى به على المسلمين وعلى خيامهم من جهة البحر حتى اتفق في بعض الليالي هبوب رياح قوية، فارتفع المركب وانحط بسبب الموج، فانكسر المنجنيق الذي في المركب فانحطم، وكان المسلمون قد قاسوا منه شدة عظيمة، وخرج الفرنج في

أثناء (364) مدة الحصار بالليل وكبسوا العسكر فهزموا اليزكية واتصلوا إلى الخيام وتعرقلوا بالأطناب، ووقع منهم فارس في جورة مستراح لبعض الأمراء فقتل هناك، وتكاثرت عليهم العساكر، فولى الفرنج منهزمين إلى البلد، وقتل [عسكر حماة عدة منهم] «1» ، فلما أصبح الصباح علق الملك المظفر من رؤوس الفرنج في رقاب خيولهم التي كسبها العسكر منهم وأحضر ذلك إلى السلطان الملك الأشرف، واشتدت مضايقة العسكر لعكّا حتى فتحها الله لهم في يوم [الجمعة] «2» السابع عشر من جمادى الآخرة «3» بالسيف، ولما هجمها المسلمون هرب من أهلها جماعة في المراكب، وكان بداخل البلد عدة أبرجة عاصية بمنزلة قلاع دخلها عالم عظيم من الفرنج وتحصنوا بها، وقتل المسلمون وغنموا من عكّا [شيئا] «4» يفوت الحصر من كثرته، ثم استنزل السلطان جميع من عصي بالأبرجة ولم يتأخر منهم أحد، وأمر بهم فضربت أعناقهم عن آخرهم حول عكّا، وأمر بمدينة عكّا فهدمت إلى الأرض، ودكّت دكّا، وفي هذا الفتح يقول شيخنا أبو الثناء يمدح الملك الأشرف «5» : (البسيط) الحمد لله ذلّت دولة الصلب ... وعزّ بالنصر دين المصطفى العربي

هذا الذي كانت الآمال لو طلبت ... رؤياه في النوم لاستحيت من الطّلب ما بعد عكّا وقد هدّت قواعدها ... في البحر للشرك عند البرّ من أرب عقيلة ذهبت أيدي الخطوب بها ... دهرا وشدّت عليها كفّ معتصب لم تبق من بعدها للكفر إذ خربت ... في البرّ والبحر ما ينجي سوى الهرب كانت تخيلها آمالنا ونرى ... أنّ التفكر فيها غاية العجب أم الحروب فكم قد أنشأت فتنا ... شاب الوليد بها هولا ولم تشب سوران برّ وبحر حول ساحتها ... دار (ا) وأدناهما أدنى من العطب (365) خرقا ... «1» سوريها وأحصنه ... ... الكماة ... على النوب مصفّح بصفاح حولها شرف ... من الرماح وأبراج من السلب مثل الغمائم تهدي من صواعقها ... بالنّبل أضعاف ما تهدي من السحب كأنما كلّ برج حوله ملك ... من المجانيق يرمي الأرض بالشهب ففاجأتها جنود الله يقدمها ... غضبان لله لا للملك والنّسب ليث أبى أن يردّ الوجه عن أمم ... يدعون ربّ الورى سبحانه بأب تسنموها فلم تترك ... ... في ذلك الأفق برجا غير منقلب تسلموها فلم ... الرقاب بها ... من ... مستنم أو كفّ منتهب أمّوا حماها فلم تمنع وقد وثبوا ... عنها مجانيقها شيئا ولم تثب يا يوم عكّا [لقد] «2» أنسيت ما سبقت ... به الفتوح وما قد خطّ في الكتب لم يبلغ الحلق حدّ الشكر فيك فما ... عقبى ذو الشعر والخطب «3»

كانت ... بك الأحلام عن أمم ... والحمد لله شاهدناك عن كثب أغضبت عبّاد عيسى إذ أبدتهم ... وكم له من رضى في ذلك الغضب وأطلع الله جيش النصر فانتدبت ... طلائع الفتح بين الشّمس والقضب وأشرف المصطفى الهادي البشير على ... ما أسلف الأشرف السلطان من قرب فقرّ عينا بهذا الفتح وابتهجت ... ببشره الكعبة الغرّاء في الحجب وسار في الأرض مسرى الريح سمعته ... فالبرّ في طرب والبحر في حرب وخاضت البيض في بحر الدماء فما ... أبدت من البيض إلا ... مختضب وغاص زرق القنا في زرق أعينهم ... كأنها منطق تهدي إلى قلب توقدت وهي تروى في نحورهم ... فزادها الريّ في الإشراق واللهب أجرت إلى البحر بحرا من دمائهم ... فراح كالراح إذ غرقاه كالحبب (366) وذاق من حرّها عنهم حديثهم ... ...... به...... الرهب تحكمت فسطت فيهم قواضبها ... ...... لحاويها عن السلب كم ... بطلا كالطّود قد بطلت ... ... فغدا كالمنزل الخرب كأنه وسنان الرمح يطلبه ... برج هوى ووراه كوكب الذّنب بشراك يا ملك الدنيا لقد شرفت ... بك الممالك ... على الرتب ما بعد عكّا وقد لانت عريكتها ... لديك شيء تلاقيه على تعب فانهض إلى الأرض فالدنيا بأجمعها ... مدّت إليك نواصيها بلا نصب كم قد دعت وهي في إثر العدا زمنا ... صيد الملوك فلم تسمع ولم تجب أجبتها يا صلاح الدين معتقدا ... بأن ظنّ صلاح الدين لم يخب أسلت فيها كما سالت دماؤهم ... ...... نهرا من الذهب أدركت ثأر صلاح الدين عندهم ... منه بشرّ طواه الله في القلب وجئتها بجيوش كالسيول على ... أمثالها بين آجام من القضب

.. بالمجانيق التي وقفت ... أمام أسوارها في جحفل لجب من نوعه نصبوا صفا فما نصبت ... للجزم والكسر منها كل منتصب وبعد صحبتها بالزحف فاضطربت ... رعبا ... وأبدت ... إلى الرتب وغنّت البيض في الأعناق فارتقصت ... أبراجها لعبا منها مع اللّعب وجدّثت بالدم الأسوار فابتهجت ... طيبا ولولا دماء القوم لم تطب وأبرزت كل خود كاعب بترت ... لها الرءوس وقد زفّت بلا طرب ظنوا بيوت البروج الشمّ تعقلهم ... فاستعقلتهم فلم تطلق من النّوب فأحرزتهم ولكن للسيوف لكي ... لا يلتجي أحد منهم إلى الهرب وجالت ... «1» في أبراجها وعلت ... فأطفأت ما بصدر الدين من كرب (367) أضحت أبا لهب تلك البروج وقد ... كانت بقلعتها حمالة الحطب ... البحر من بحر من ... ... يلقاه من قومه بالويل والحرب وتمّت النعمة العظمى وقد ملكت ... بفتح صور بلا حصر ولا نصب أختان في أنّ كلا منهما جمعت ... أختان بالكفر لا أختان بالنسب لما رأت أختها بالأمس قد خربت ... كان الخراب لها أعدى من الجرب إن لم يكن ثمّ لون البحر منصبغا ... بها ... وإلّا [ألسن] «2» اللهب فالله أعطاك ملك البحر وابتدأت ... لك السعادة ملك البرّ فارتقب من كان مبدؤه عكّا وصور معا ... فالصين أدنى إلى كفّيه من حلب علا بك الملك حتى أن قبته ... على الربى (قد) غدت ممدودة الطّنب ولا برحت عزيز النصر مبتهجا ... بكلّ فتح قريب المنح مرتقب وكتب ابن عبد الظاهر إلى الملك الأشرف في فتح عكّا من قصيدة «3» :

(الخفيف) أيها السامعون فتح صلاح الد ... ين هذا فتوحه قد أعيدا أهل صور صور كذلك صيدا ... قد تهيّت صيدا له موجودا قد رعى في فتوحها لأبيه ... ولكلّ من في الأنام عهودا أنجدته ملائك وملوك ... كثرت عسكرا له وجنودا تجعل الكفر في النقوب دفينا ... وتعيد الإيمان خلقا جديدا كم بها غلاظ شداد «1» ... تجعل الناس والحجار وقودا ومجانيق لا تملّ صدورا ... ونقوب ما إن تملّ ورودا كم لهم أرسلت وقالت فلبوا ... أو فكونوا حجارة أو حديدا «2» لو يكن للصليب نطق لنادى ... أنت يا منجنيق أصلب عودا كل هذا بسعد أشرف ملك ... زانه الله بسطة وسعودا (368) ولما فتحت عكّا ألقى الله في قلوب الفرنج الذين بساحل الشام رعبا فأخلوا صيدا وبيروت، وتسلمها الشجاعي «3» في أواخر رجب، وكذلك هرب أهل مدينة صور، فأرسل السلطان وتسلمها، ثم تسلم عثليث في مستهل

شعبان، ثم تسلم [انطرطوس] «1» في خامس شعبان، واتفق لهذا السلطان من السعادة ما لم يتفق [لغيره] «2» بفتح هذه البلاد العظيمة بغير قتال ولا تعب، وأمر بها فهدمت عن آخرها، وتكملت بفتح هذه البلاد جميع البلاد الساحلية [للإسلام] «2» ، وكان أمرا عجيبا لا يطمع فيه [ولا يرام] «3» وتطهر الشام بالسواحل من الفرنج بعد أن كانوا قد أشرفوا على الديار المصرية وعلى ملك دمشق وغيرها من الشام، فلله الحمد والمنّة على ذلك. ثم رحل الملك الأشرف ودخل دمشق وأقام مدة، ثم عاد إلى الديار المصرية ودخلها في هذه السنة، ولما كان الحصار على عكّا سعى علم الدين سنجر الحموي المعروف بأبي خرص بين السلطان وبين حسام الدين لاجين نائب السلطنة بالشام فخاف لاجين وقصد [أن يهرب] «4» وعلم به السلطان فقبض عليه وعلى أبي خرص وقيّدهما وأرسلهما فحبسا. وفيها، ولى الملك الأشرف علم الدين الشجاعي نيابة السلطنة بالشام موضع حسام الدين لاجين. وفي ربيع الأول، مات أرغون بن أبغا بن هولاكو بن طلو بن جنكز خان ملك التتر وكان مدة ملكه سبع سنين «5» ، ولما مات ملك بعده أخوه كيختو بن أبغا، وخلف أرغون ولدين هما قازان وخربندا وكانا بخراسان، ولما تولى كيختو أفحش في الفسق واللواط بأبناء المغل، فأبغضوه على ذلك وفسدت نياتهم عليه.

وفيها، قتل تلابغا بن منكوتمر بن طغا (ن) بن باطو بن دوشي خان بن جنكز خان، وقد تقدم ذكر مملكته في سنة ست وثمانين وست مئة «1» (369) [قتله] «2» نغية بن [بوقال] «3» بن ططر بن [بوال بن] «4» دوشي خان بن جنكز خان «5» ، ولما قتل تلابغا أقام نغية بعد (هـ) طقطقا بن منكوتمر «6» أخا تلابغا المذكور ورتب نغية أخوة طقطقا بن منكوتمر معه وهم: [برلك، و] «7» صراي بغا، وتدان «8» . وفي أوائل سنة تسعين وست مئة، تكملت عمارة قلعة حلب، وكان قد شرع قراسنقر في عمارتها في أيام المنصور «9» ، فتمت في أيام الأشرف، [وكان قد خربها هولاكو لما استولى على حلب سنة ثمان وخمسين وست مئة فكان لها على التخريب نحو ثلاث وثلاثين سنة بالتقريب] «10» .

سنة إحدى وتسعين وست مئة إلى سنة سبع مئة

سنة إحدى وتسعين وست مئة إلى سنة سبع مئة وفي سنة إحدى وتسعين وست مئة «13» سار الأشرف من مصر إلى الشام «1» ، وسار المظفر صاحب حماة وعمه الأفضل إلى خدمته [والتقياه بدمشق وسارا في خدمته] «2» فسبقاه إلى حماة، واهتم الملك المظفر في أمر الضيافة والإقامة والتقدمة، ووصل إلى حماة وضرب دهليزه بشماليها عند [ساقية] «3» سلمية، ومد له المظفر سماطا عظيما بالميدان، ونصب خياما تليق بالسلطان، ونزل السلطان بالميدان، وبسط بين يدي فرسه عدة كثيرة من الشقق الفاخرة، ثم دخل السلطان الملك الأشرف إلى دار الملك المظفر بمدينة حماة، فبسط الملك المظفر بين يدي فرسه بسطا ثانيا، وقعد السلطان بالدار ثم دخل الحمام وخرج وجلس على جانب العاصي، ثم راح إلى الطيارة «4» التي على سور باب النقفي المعروفة بالطيارة الحمراء فقعد فيها، ثم توجه من حماة وصاحب حماة وعمه في خدمته إلى المشهد ثم إلى [الخام] «5» والزرقاء بالبرية فصاد شيئا كثيرا من الغزلان وحمير الوحش.

وأما العساكر فسارت على السكة إلى حلب، ثم وصل «1» السلطان إلى حلب وتوجه منها إلى قلعة الروم ونازلها في العشر الأول من جمادى الآخرة من هذه السنة، وهي حصن على جانب الفرات في غاية الحصانة، ونصب عليه المجانيق، [وهذا الحصار أيضا من جملة الحصارات التي كانت منزلة الحمويين على رأس الجبل المطل على القلعة من (370) شرقيها] «2» ، واشتدت مضايقتها، ودام حصارها حتى فتحت بالسيف في يوم السبت حادي عشر رجب هذه السنة «3» ، وقتل أهلها ونهبت ذراريهم، واعتصم كيثاغيكوس «4» خليفة الأرمن المقيم بها في القلّة، وكذلك جميع من هرب من أهل القلعة، فبرز مرسوم السلطان إلى صاحب حماة أن يرمي عليهم بالمنجنيق لإشرافه عليهم،

فلما وتر المنجنيق ليرمي عليهم طلبوا الأمان من السلطان فلم يؤمنهم إلا على أرواحهم خاصة، وأن يكونوا أسرى فأجابوا إلى ذلك، وأخذ كيثاغيكوس خليفة الأرمن وجميع من كان [بقلة القلعة] «1» أسرى عن آخرهم «2» . ورتب السلطان علم الدين سنجر الشجاعي [لتحصين القلعة وإصلاح ما خرب منها وجرد معه لذلك جماعة وأقام الشجاعي] «1» وعمرها وحصنها إلى الغاية. وفي هذا الفتح يقول شيخنا أبو الثناء الكاتب الحلبي يمدح الملك الأشرف «3» : (الطويل) لك الراية الصفراء «4» يقدمها النصر ... فمن كيقباذ إن رآها وكيخسروا «5» إذا خفقت في الأفق هدّت بنودها ... قوى الشرك واستعلى الهدى وانجلى الكفر وإن نشرت مثل الأصائل في وغى ... جلا النقع من لألاء طلعتها البدر وإن يمّمت زرق العدا سار تحتها ... كتائب خضر دوحها البيض والسّمر

كأن مثار النقع ليل وخفقها ... بروق وأنت البدر والفلك الجتر لها كل يوم أين سار لواؤها ... هدية تأييد يقدمها النصر وفتح أتى في إثر فتح «1» كأنما ... سماء بدت تترى كواكبها الزّهر فكم وطئت طوعا وكرها معاقلا ... مضى الدهر عنها وهي غانية بكر بذلت لها عزما فلولا مهابة ... كستها الحيا جاءتك تسعى ولا مهر فإن رمت حصنا سابقتك كتائب ... من الرعب (أ) وجيشا تقدمك النّصر ففي كلّ قطر للعدى وحصونهم ... من الخوف أسياف تجرّد أو حصر فلا حصن إلّا وهو سجن لأهله ... ولا جسد إلّا لأرواحهم قبر (371) يظنون أنّ الصبح في طرّة الدجى ... عجاع تراءت فيه أسيافك الحمر قصدت حمى (من) قلعة الروم لم يتح ... لغيرك إذ غرّتهم المغل فاغترّوا ووالوهم سرا ليخفوا أذاهم ... وفي آخر الأمر استوى السرّ والجهر وما المغل أكفاء فكيف سواهم ... ولكنهم غروا وكلّهم [كفر] «2» وأيضا لإرغام التتار الذي بهم ... تمسكهم إذ قهرهم لهم قهر صرفت إليهم همة لو صرفتها ... إلى البحر لاستولى على مدّه الجزر ففروا ومن كانوا يرجّون نصرهم ... وألو (وا) لقد غرّوهم ولقد برّوا ومن كان يرجو النصر من عند كافر ... لقد خاب في ذاك الرجاء وما النصر وولوا وقد ضاق الفضاء عليهم ... إلى أن غدا في الضيق كالخاتم البرّ تخطّفهم أطراف جيشك كلّما ... سروا أسروا أو عاينوا علما فرّوا وما قلعة الروم التي حزت فتحها ... وإن عظمت إلا إلى غيرها جسر طليعة ما يأتي من الفتح بعدها ... كما لاح قبل الشمس في الأفق الفجر

محجّبة بين الجبال كأنها ... إذا ما تبدّت في ضمائرها سرّ تفاوت [وصفاها] «1» فللحوت فيهما ... مجال، وللنسرين بينهما [وكر] «2» فبعض رسا حتى علا الماء فوقه ... وبعض سما حتى همى دونه القطر يحيط بها نهران «3» تبرز فيهما ... كما لاح يوما في قلائده النّحر وبعضهما العذب الفرات وإنّه ... لتحصينها كالبحر بل دونه البحر سريع يفوت الطرف جريا وحدّة ... كريح سليمان التي يومها شهر لها قلّة لم ترض سقيا فراتها ... وفي روضها ماء المجرّة ينجرّ تخاض متون السحب فيها كأنّها ... إذا ما استدارت حول أبراجها نهر على هضب صمّ يكلم صخرها ... الحديد، وفيها من إجابته وقر (372) لها طرق كالوهم أعيا سلوكها ... على الفكر حتى ما تخيلها الفكر إذا خطرت فيها الرياح تعثّرت ... أو الذرّ يوما زلّ عن متنها الذّرّ يضل القطا فيها ويخشى عقابها ... العقاب ويهفو في مراقبها [النسر] «4» فصبّحتها بالجيش كالروض بهجة ... صوارمه أنهاره والقنا الزّهر وأبعدت بل كالبحر والبيض موجه ... وجرد المذاكي [السفن] «5» والخوذ الدرّ وأغربت بل كالليل عوج سيوفه ... أهلّته، والنبل أنجمه الزّهر وأخطأت لا بل كالنهار، وشمسه ... محيّاك، والآصال راياتك الصّفر ليوث من الأتراك آجامها القنا ... لها [كل يوم في] «6» ذرا ظفر ظفر

فلا الريح تسري بينهم لاشتباكها ... عليهم، ولا ينهلّ من فوقهم قطر غيوث إذا الحرب العوان تعرضت ... لخاطبها بالنفس لم يغلها مهر ترى الموت معقودا بهدب نبالهم ... إذا ما رماها القوس والنظر الشّزر ففي كلّ مرج غصن بان مهفهف ... وفي كلّ قوس مدّه ساعد بدر إذا صدموا شمّ الجبال تزلزلت ... وأصبح سهلا تحت خيلهم الوعر ولو وردت ماء الفرات خيولهم ... لقيل هنا قد كان فيما مضى نهر أداروا بها سورا فأضحت كخنصر ... لدى خاتم أو تحت منطقة خصر وأرخوا «1» إليها من بحار أكفّهم ... سحاب ردى لم يخل من قطره قطر كأن المجانيق التي قمن حولها ... رواعد سخط وبلها النار والصّخر أقامت صلاة الحرب ليلا صخورها ... فأكثرها شفع، و [أمثلها] «2» وتر لهم أسهم مثل الأفاعي طوالها ... قواتل إلا أنّ أكرهها البتر سهام حكت سهم اللحاظ لقتلها ... وما فارقت جفنا، وهذا هو السّحر تزور كناسا عندهم أو كنيسة ... فلا دمية تبدو حذار ولا خدر (373) ودارت بها تلك النقوب فأسرفت ... وليس عليها في الذي فعلت حجر فأضحت بها كالصبّ يخفي غرامه ... حذار أعاديه وفي قلبه جمر وشبت بها النيران حتى تمزقت ... وباحت بما أخفته وانهتك السّتر ولاذوا بذيل العفو منك ولم يخب ... رجاؤهم، لو لم يكن قصدهم مكر أمرت اقتدارا منك بالكفّ عنهم ... لئلا يرى في غدرهم لهم عذر فراموا به أمرين: تستير ما وهى ... من السور، أو عود التتار وقد فرّوا لهم ويلهم إن التتار الذي رجوا ... إعانتهم لم..... «3» فقر

ألم يسمعوا أو لم يروا حال مغلهم ... بحمص «1» ، وقد أفناهم القتل والأسر إن اندملت تلك الجراح فإنّهم ... متى ذكّروا ما مرّ ينقضها الذّكر وما كره المغل اشتغالك عنهم ... بها عندما فرّوا، ولكنهم سرّوا فأحرزتها بالسيف قهرا وهكذا ... فتوحك فيما قد مضى كلّه قسر «2» غدت بشعار الأشرف الملك الذي ... له الأرض دار وهي من حسنها قصر فأضحت بحمد الله ثغرا ممنّعا ... تبيد الليالي والعدا وهو مفترّ وكانت قذى في ناظر الدين فانجلى ... وذخرا لأهل الشرك فانعكس الأمر فيا أشرف الأملاك بشراك غزوة ... تحصّل منها الفتح والذكر والأجر ليهنك عند المصطفى أنّ دينه ... توالى له في يمن دولتك النّصر وبشراك أرضيت المسيح وأحمدا ... وإن غضب التكفور «3» من ذاك والكفر فسر حيثما تختار فالأرض كلّها ... بحكمك، والأمصار أجمعها مصر ودم، وابق للدنيا ليحيا بك الهدى ... ويزهى على [ماضي] «4» العصور بك العصر فلله في تخليد ملكك نعمة ... علينا ولا يضيق بها الشّكر «5» ورجع الملك الأشرف إلى حلب ثم إلى حماة، وقام الملك المظفر بوظائف (374) خدمته، ثم توجه السلطان إلى دمشق، وأعطى الملك المظفر صاحب حماة الدستور فأقام ببلده، ودخل السلطان دمشق وصام بها رمضان، ثم سار بعد العيد إلى الديار المصرية.

وفيها، هرب حسام الدين لاجين المنصوري الذي كان نائبا بالشام من دمشق لما وصل السلطان من قلعة الروم، وكان السلطان قد اعتقله لما كان نازلا على حصار عكّا «1» ثم أفرج عنه في أوائل هذه السنة، وسار مع السلطان إلى قلعة الروم ثم عاد معه إلى دمشق، فحصلت بينهما وحشة فهرب إلى جهة العرب فقبضوه وأحضروه إلى السلطان، فبعث به إلى قلعة الجبل بديار مصر فحبس بها. وفيها، استناب السلطان بدمشق عز الدين أيبك الحموي «2» وعزل علم الدين سنجر الشّجاعي. وفيها، عزل (السلطان) قراسنقر المنصوري من نيابة حلب واستصحبه معه عند عوده من قلعة الروم، وولى موضعه على حلب سيف الدين بلبان الطّبّاخي، وكان المذكور نائبا بالفتوحات ومقامه بحصن الأكراد. وولى الفتوحات والحصون لطغريل الإيغاني «3» ، ثم عزله بعد مدة وولى موضعه عز الدين أيبك الخازندار المنصوري «4» . ولما وصل الأشرف إلى مصر قبض على شمس الدين سنقر الأشقر وجرمك، وكان قد قبض على تقصو بدمشق فخنقهم عن آخرهم «5» .

وفي سنة اثنتين وتسعين وست مئة

وفي سنة اثنتين وتسعين وست مئة «13» [في جمادى الأولى] «1» [أرسل] «2» الأشرف أحضر المظفر صاحب حماة وعمه الأفضل على خيل البريد، فتوجها وعندهما خوف عظيم بسبب ذلك، ووصلا إلى قلعة الجبل في اليوم الثامن [من خروجهما من حماة] «1» فشملتهما الصدقات السلطانية، وأمر بهما فأدخلا إلى الحمام بقلعة الجبل، وخلع عليهما ملابس كثيرة غير ثياب الطريق، وأقاما في الخدمة أياما، ثم خرج السلطان على الهجن إلى جهة الكرك وسارت (375) العساكر على الطريق إلى دمشق، وأركب صاحب حماة وعمه الهجن ورسم لهما بكفايتهما، وسارا «3» في خدمته إلى الكرك ولاقتهما تقادمهما إلى بركة زيزاء فقبلها السلطان وأنعم عليهما، ودخل دمشق ثم سار منها على البرية متصيدا، ووصل إلى الفرقلس وهو جفار في طريق حمص من الشرق ونزل عليه وحضر إلى الخدمة هناك مهنّا ابن عيسى «4» أمير العرب و [أخواه] «5» محمد وفضل وولده موسى «6» فقبض السلطان على الجميع وأرسلهم إلى مصر، [فحبسوا] «7» بقلعة الجبل «8» ووصل السلطان إلى القصب وأعطى صاحب حماة الدستور فحضر إلى بلده، وأما عمه

سنة ثلاث وتسعين وست مئة

الأفضل فإنه كان قد حصل له تشويش لما كان السلطان بجليجل «1» وما حولها، وأرسل إلى السلطان تقدمة ثانية ولم يقدر على الحضور بسبب مرضه، فأحضرت والسلطان نازل على القصب فقبلها، وارتحل عائدا إلى مصر فوصل إليها في رجب. وفي هذه السنة [بعد وصول السلطان إلى مصر، كان] «2» قد [أخّر] «3» بعض العسكر المصري على حمص فتقدم إليهم وإلى صاحب حماة وعمه بالمسير إلى حلب والمقام بها لما في ذلك من إرهاب العدو فسارت إليها، وكان خروج المظفر وعمه من حماة يوم الجمعة خامس عشري شعبان [ودخلوا حلب يوم الثلاثاء التاسع والعشرين من شعبان] «4» الموافق لرابع شهر آب، وأقاموا بها [إلى أوائل ذي القعدة] «4» هذه السنة أعني سنة اثنتين وتسعين وست مئة «5» . سنة «6» ثلاث وتسعين وست مئة «13» في ثاني المحرم، فتكوا بالسلطان الملك الأشرف صلاح الدين خليل بن

قلاون «1» بترّوجة «2» وهو يتصيد ليس معه سيف ولا معه أحد سوى أمير شكّار فتعامل نائبه بيدرا ولاجين فشد [عليه] «3» بيدرا وأفصله لاجين ثم سموا بيدرا الملك القاهر، وأقبلوا به ليملّكوه فحمل عليه كتبغا «4» بالخاصكية فقتلوه من الغد «5» ، واختفى لاجين وقراسنقر وجماعة (376) ، وحلفوا لمولانا السلطان الملك الناصر ناصر الدين خلد الله (ملكه) وهو ابن تسع سنين، وأهلك الوزير ابن السّلعوس تحت الضرب «6» ، وقتل الشّجاعي وكان قد عزم على أن يتملك فلم يتم له «7» وعمل نائبه السلطان أيده الله تعالى زين الدين كتبغا، وركب في دست السلطنة، وزينت البلاد، ثم بعد أشهر ظهر حسام الدين لاجين وشفع فيه كتبغا، فأنعم عليه السلطان وأعطاه خبز «8» بكتوت العلائي «9» . وكانت دولة الأشرف ثلاث سنين وشهرين «10» ، وعاش أزيد من ثلاثين سنة

بقليل، وكان بديع الجمال، تام الشكل، ضخما، مهيبا، مستدير اللحية، كامل الشجاعة، عالي الهمة، يملأ العين، ويرجف القلب، خضعت له الملوك، ودانت له الأمم. وكان بيدرا من أكبر دولة السلطان الملك المنصور ومن أعز الناس على أستاذه، ثم اتخذه الأشرف الشهيد نائبه فكافأه، وكان بيدرا يرجع في الجملة إلى دين وعدل، عاش نيفا وثلاثين سنة. وكان الشّجاعي طويلا، تام الهيبة، أبيض، أسود اللحية، مهيبا وقورا، فيه عسف وجبروت، وعنده خبرة بالأمور (و) فطنة، عمل (في) نيابة دمشق، ودخل طلبه [من] «1» غزاة قلعة الروم وهو في تجمل عظيم لا ينبغي أن يكون إلا لسلطان. وفيها مات (كيختو) بن أبغا بن هولاكو طاغية التتار، تسلطن بعد موت أرغون سنة تسعين «2» ، ومالت طائفة إلى [بيدوا] «3» ابن أخيه ما هو ابن أخيه بل نسيب له بعيد «4» فملكوه ووقع الخلف بينهم، ثم قوي بايد واوقاد الجيوش، فالتقى الجمعان فقتل كيختو واستقل [بيدوا] «3» بالممالك، فخرج عليه نائب خراسان غازان بن أرغون وجمع الجيوش فطلب الملك «5» .

سنة أربع وتسعين (377) وست مئة

وفيها، مات قاضي القضاة بدمشق شهاب الدين أحد الأعلام محمد بن قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن الخليل الخوييّ الشافعيّ «1» وله سبع وستون سنة. سنة أربع وتسعين (377) وست مئة «13» في المحرم، ذهب مولانا السلطان ناصر الدين إلى الكرك وأعرض عن الملك، فتسلطن زين الدين كتبغا التركي المغلي المنصوري، ولقب بالملك العادل وزينت البلاد وقد جاوز الأربعين «2» وهو من سبي وقعة حمص الأولى أي في سنة تسع وخمسين «3» ، وكان من أكابر أمراء المنصورية، وصير نائبه حسام الدين لاجين المنصوري. وكسر النيل السنة عن نقص كثير، فخاف الناس، وغلت الأسعار. وفيها، دخل ملك التتار غازان بن أرغون في الإسلام وتلفظ بالشهادتين بإشارة نائبه نوروز، ونثر الذهب واللؤلؤ على الخلق وكان يوما مشهودا، ثم لقنه نوروز شيئا من القرآن، ودخل رمضان فصامه، وفشا الإسلام في التتار. وفيها، توفي خطيب دمشق ومفتيها [شرف الدين] «4» أحمد بن أحمد [ابن] «4» المقدسي «5» وقد نيف عن السبعين.

وشيخ المشايخ عز الدين أحمد بن إبراهيم الواسطي الفاروثي «1» المقرئ المفسر الواعظ الخطيب في [ذي] «2» الحجة بواسط وله ثمانون سنة. وشيخ الحرم الفقيه الحافظ محب الدين أحمد بن عبد الله الطبري «3» مصنف «الأحكام» «4» عن تسع وسبعين سنة. وسلطان أفريقيّة المستنصر بالله عمر بن يحيى بن عبد الواحد الهنتاتي «5» ، وكان ملكه إحدى عشر سنة. وفيها، توفي صاحب اليمن السلطان الملك المظفّر شمس الدين يوسف بن السلطان عمر بن علي بن رسول التركماني «6» ، وكانت دولته [سبعا وأربعين] «7» سنة، وعاش أزيد من ثمانين سنة.

سنة خمس وتسعين وست مئة

سنة خمس وتسعين وست مئة «13» كان القحط المفرط بمصر، وبلغ الإردب مئة و [ستين] » درهما، وأكلوا الجيف، وعظم الوباء، ومات الخلق في الطريق جوعا وهلاكا، وبلغ الخبز بمصر كل خمس أواق بالدمشقي بدرهم، وكان الغلاء بدمشق، بلغت الغرارة مئة وخمسين درهما، ويقال: أحصي من مات بمصر والقاهرة في مدة شهر صفر فزادوا (378) على مئة ألف، ثم بلغت الغرارة مئة وثلاثين درهما «2» ، وانصلح أمر مصر في جمادى الأولى، وقل الناس وفنوا، وانحطّت الأسعار. وفي ذي القعدة، قدم السلطان الملك العادل زين الدين [كتبغا] «3» وزينت دمشق وصلى الجمعة بالمقصورة وكان أسمر مغليا وقصيرا في ذقنه شعرات قليلة، وعنقه قصير، وكان يوصف بالشجاعة والإقدام والدين التام وسلامة الباطن، يعوزه رأي وحزم، وخلع على الخطيب بدر الدين بن جماعة «4» ، وزار المصحف العثماني «5»

وصلى على يمينه الشيخ حسن بن الحريري «1» ، وعن شماله صاحب حماه «2» ، ويلي ابن الحريري نائب المملكة حسام الدين لاجين، ثم نائب دمشق عز الدين الحموي، ثم بدر الدين بيسرى، ثم قراسنقر المنصوري، ثم لعب بالكرة، واستناب على دمشق مملوكه غرلوا «3» . وفيها، مات شيخ الحنابلة بمصر العلامة نجم الدين أحمد بن حمدان الحراني «4» في صفر، وله اثنتان وتسعون سنة. وقاضي القضاة تقي الدين عبد الرحمن بن قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب بن بنت الأعز الشافعي «5» بمصر كهلا.

سنة ست وتسعين وست مئة

وشيخ الحنفية الصاحب العلامة محي الدين محمد بن يعقوب بن النحاس الأسدي الحلبي «1» بالمزّة، وله إحدى و [ثمانون] «2» سنة. وشيخ الحنابلة العلامة زين الدين المنجا بن [عثمان بن المنجا] «3» التّنوخي «4» ، وله أربع وستون سنة. سنة ست وتسعين وست مئة «13» في أولها، رجع السلطان العادل من حمص وجلس بدار العدل «5» ، وتناول من الناس القصص بيده، وصلى الجمعة وزار قبر هود «6» ، ثم زار مغارة الدم «7» ، ثم سافر، فلما كان آخر المحرم غلقت قلعة دمشق وتهيأ غرلوا، وجمع الأمراء وركبوا من باب النصر فوصل قبل العصر السلطان في خمسة مماليك وقد زالت دولته، فدخل القلعة وضربت البشائر، وصورة الواقعة] «8» بوادي فحمة أن نائب السلطنة الحسام لاجين ركب وقتل الأميرين بتخاص «9» وبكتوت (379)

الأزرق وكانا جناحي العادل «1» ، فلما سمع [العادل] «2» بخبطة ركب فرس النّوبة وساق إلى دمشق ومعه خمسة فقط، وساق حسام الدين الخزائن والجيش وركب تحت العصائب في دست السلطنة فبايعوه كلهم، ودخل إلى مصر وزينت البلاد. وأما العادل فإنه أقام ثلاثة عشر يوما، ثم صحّت بدمشق الأخبار بسلطنة حسام الدين، ثم بعد ذلك بعشرة أيام قدم كجكن «3» فنزل بالقبيبات «4» وأعلن باسم المولى السلطان حسام الدين، فسارع إليه أمراء دمشق، وأذعن العادل بالطاعة وسلم نفسه، فاعتقلوه في مكان بالقلعة، وضربت البشائر، ثم اجتمعت القضاة والنائب غرلوا وأظهر السرور، و (قال) أنا السلطان حسام الدين هو الذي عيّنني لنيابة دمشق، وإلا فأستاذي استصغرني عن ذلك. وفي تاسع عشر صفر، ركب السلطان بمصر بخلعة الحاكم بأمر الله والتقليد ثم حرك كتبغا إلى صرخد، ثم في ربيع الأول وصل قبجق على نيابة دمشق، وناب بمصر قراسنقر المنصوري، ثم بعد أشهر أمسك، وناب منكوتمر الحسامي «5»

سنة سبع وتسعين وست مئة

وعمل (في) وزارة مصر والشدّ شمس الدين الأعسر «1» ، ثم في آخر العام أمسك وصودر. وفيها، مات محدث مصر جمال الدين أحمد بن محمد بن الظاهري «2» الحافظ وله سبعون سنة والقاضي تاج الدين عبد الخالق بن عبد السلام الشافعي «3» ببعلبك وله ثلاث وتسعون سنة. سنة سبع وتسعين وست مئة «13» فيها، قبض على البيسرى «4» أكبر أمراء الدولة. وفيها، قدم الدّواداري «5» بعسكر [مصر] «6» فسار ببعض الشاميين «7» فنزلوا

سنة ثمان وتسعين وست مئة

حصون سيس، فأخذوا قلعة مرعش في رمضان «1» ، ودقّت البشائر. وفي شوال، فتحوا قلعة حميص «2» وقلعة نجيمة. وفيها، قبض بمصر على عز الدين أيبك الحموي الذي كان نائب دمشق. وفيها، مات مسند العراق الكمال عبد الرحمن بن عبد اللطيف المقرئ «3» المكبّر شيخ (380) المستنصرية وله ثمان وتسعون سنة. سنة ثمان وتسعين وست مئة «13» توحشت نفوس الدولة مما يفعله منكوتمر من إمساك [الكبار] «4» وسقي بعضهم، وذهب نائب دمشق قفجق بالعساكر فنزلوا بأرض حمص، وهناك بكتمر السلحدار «5» بطائفة من المصريين فتكلموا في مصلحتهم، وأن منكوتمر لا يفتر عنهم، فاتفقوا على المسير إلى قازان ملك التتار لعلمهم بإسلامه، فسار

من حمص المذكوران وألبكي «1» وبزلار «2» بخواصّهم فأخذوا على ناحية سلمية وعدوا الفرات، فلم يكن بعد عشرة أيام من مسيرتهم إلا وقد جاء البريد بقتلة السلطان الملك المنصور حسام الدين لاجين المنصوري وقتلة منكوتمر، وعلم الأمراء المخامرون بقتلهما وهم بأرض سنجار وفات الأمر. وأحضروا مولانا السلطان من الكرك وله أربع عشرة سنة وتسلم السلطنة وحلفوا له، ثم قتل طغجي وكرجي «3» و [كانا] «4» ممن قتل المنصور ونائبه، ثم ناب بمصر سيف الدين سلّار والأتابك [هو] «5» حسام الدين أستاذ دار «6» ، وركب السلطان أيده الله في دست المملكة بالخلعة وتقليد الخليفة، وجاء على

نيابة دمشق جمال الدين آقوش الأفرم، ثم أخرج الأعسر وولي الوزارة، وأخرج قراسنقر وأعطي قلعة الصّبيبة. ومات بالحبس البيسرى الصالحي «1» ، وكان كبير الشأن موصوفا بالشجاعة وممن يذكر للسلطان، وعمل له العزاء تحت قبة النسر فحضره [ملك الأمراء، وكان تركيا أبيض اللحية صغيرها من أبناء السبعين] «2» . ومات مسند دمشق ناصر الدين عمر بن القواس «3» وله ثلاث وتسعون سنة. وشيخ العربية بمصر بهاء الدين محمد بن إبراهيم بن النحاس الحلبي «4» عن إحدى وسبعين سنة. والعلامة جمال الدين محمد بن سليمان بن النقيب البلخي ثم المقدسي «5» صاحب «التفسير» «6» الكبير.

وصاحب حماة الملك المظفر محمود بن المنصور «1» وكانت دولته خمس عشرة سنة، مات في ذي القعدة، فأعطيت [حماة] «2» لقراسنقر، فسار إليها من الصّبيبة. وكان (381) حسام الدين لاجين أشقر روميا، [معرّق الوجه] «2» ، طويلا، مهيبا، موصوفا بالشجاعة والإقدام، فيه دين وعقل، وكانت دولته سنتين وثلاثة شهور، وركب يوم الخميس وهو صائم، فلما كان بعد العشاء وهو على السّجادة يلعب بالشّطرنج مع أمير وعنده بريد البدوي «3» (؟) والقاضي حسام الدين الحنفي «4» ، فحكى القاضي، قال: رفعت رأسي فإذا ستة أسياف نازلة على السلطان. قلت: بدأ كرجي مقدم [البرجية] «2» فضربه بالسيف حل كتفه، وأسرعوا إلى منكوتمر فبتّوه «5» ، وكان السلطان من أبناء الخمسين سنة. وفيها، مات ببغداد ياقوت المستعصمي الرومي «6» صاحب الخط البديع.

سنة تسع وتسعين وست مئة

سنة تسع وتسعين وست مئة «13» وصل الأمراء قبجق وبكتمر السّلحدار وألبكي إلى خدمة غازان فأكرمهم، وقصد الشام وعلم بقتل صاحب مصر ونائبه واضطراب الأمور، فأقبل في جيش عظيم «1» وعدى الفرات، وخرج السلطان أيده الله فكان المصاف في السابع والعشرين من ربيع الأول «2» بوادي الخزندار» على ثلاثة فراسخ من حمص، وكانت ملحمة عظيمة قتل فيها فوق عشرة آلاف من التتار، ولاحت أمارات النصر، وثبت السلطان بمماليكه ثباتا كليا، ثم انكسرت ميمنة المسلمين، وكان العدو ثلاثة أضعافهم، فتحيّز السلطان بمن ثبت معه، وساروا على ناحية البقاع، واستولى فازان وقضي الأمر. ثم دخلت التتار دمشق، وشرعوا في المصادرة والعسف، ونهبوا الصالحية، وسبوا أهلها وتغير الخلق. ووقع الحريق من صاحب سيس «4» والكفرة فأحرقوا جامع العقيبة وعدة أماكن، وحاصروا القلعة وعملوا المجانيق والنقوب، فأحرق أهل القلعة دار السعادة ودار الحديث [الأشرفية] «5» و [غير ذلك إلى حد] «5» العادلية [الكبيرة] «5» ،

والنورية، وخربت تلك الناحية كلها «1» ، وهرب أهلها وبقي باب البريد إصطبلا فيه الزبل نحو ذراع، ثم أذن (382) غازان وكان نازلا بالمرج «2» لجيشه في نهب دمشق، وبات الخلق في ليلة الله بهم عليم، ثم إن الله لطف وألقى في قلب غازان أن أمر الأمراء بالكف عن دمشق وصمم على ذلك، وأخذ من مثل الوجيه ابن المنجا «3» وطبقته سبعون ألفا ويلحقها من الترسيم للمغل تتمه مئة ألف، وعلى الطبقة الثانية من الرؤساء ثلاثون ألفا حتى أخذ من الفامية «4» واللحامين، فحكى الوجيه بن منجّا أن الذي حمل إلى خزانة قازان ثلاثة آلاف ألف وست مئة ألف سوى التراسيم فيكون نحو الربع من ذلك، واتصل إلى الخبيث شيخ الشيوخ «5» قريب الست مئة ألف، وأسروا من الصالحية نحو أربعة الآلاف

نسمة، وقتلوا بها نحو الثلاث مئة أكثرهم في التعذيب على المال، ودخل الباقون في جوع وعري وبرد مفرط، فإنا لله وإنا إليه راجعون، فقد جرى ما لا يعبر عنه، وغلت الأسعار، وافتقر خلق، ثم ترحلت التتار من الشام بالسبي والمكاسب وقد استغنوا وجعلوا قبجق نائبهم بدمشق ومعه بكتمر السلحدار، وعجزوا عن القلعة سلمها الله بعزم متوليها الأمير علم الدين أرجواش «1» والله يرحمه، ودامت التتار بالشام نحو أربعة أشهر، ثم إن السلطان أيده الله دخل مصر بجيوشه المصرية والشامية وقد ذهب [رختهم] «2» وأثقالهم، وتلفت أكثر خيلهم وتضعضعوا كثيرا ونقصوا وتفرقوا ففتح بيوت الأموال وأنفق في الجيش نفقة ما سمع مثلها قط، كان يعطي الجندي خمسين دينارا فشرعوا في اشتراء ما يصلحهم من الخيل والعدد حتى أبيع الشيء بأضعاف أمثاله. ثم خرجت العساكر إلى الشام مع سلّار، فبادر إلى خدمته قبجق وبكتمر وألبكي، فصفح عنهم السلطان وأعطى قبجق الشّوبك فذهب إليها، وقدم جيش دمشق ونائبها الأفرم في عاشر شعبان، ثم قدمت جيوش مصر مع سلّار والحسام أستاذ دار، وأمير سلاح «3» (383) فنزلوا بالمرج، ثم إنهم رجعوا بعد شهر. وفيها، مات خلق من مشايخ دمشق منهم المسند شرف الدين أحمد بن هبة

الله بن عساكر «1» ، وله خمس وثمانون سنة. وقاضي الشام إمام الدين عمر بن عبد الرحمن القزويني الشافعي «2» ، مات منجفلا بمصر، وله ست وأربعون سنة. والأمير الكبير فخر المحدثين «3» مقدم الجيوش علم الدين سنجر الدّواداري الصالحي «4» ، وهو في عشر الثمانين. ونائب طرابلس سيف الدين كرت المنصوري «5» استشهد بوادي الخزندار. [وشيخ] «6» المغرب الواعظ القدوة أبو محمد عبد الله بن محمد المرجاني «7» بتونس.

سنة سبع مئة

سنة سبع مئة «13» كثرت الأراجيف بمجيء التتار، وانجفل الناس «1» ، واشتد الأمر، ووصل السلطان إلى العريش، ووصل غازان إلى حلب، فاستهل جماد (ى) الأولى والناس في حال لا يعلمها إلا الله، ثم وصل بكتمر السّلحدار بألف فارس، ورجع السلطان «2» وانجفل الغني والفقير ومرّ والي دمشق في الأسواق يقول أيش قعودكم، من قدر على السفر فليبادر، ثم نودي بذلك في دمشق «3» ، وصاح النساء والأطفال وأغلق البلد، وازدحم الخلق بالقلعة واقتسموا طرقها بالشبر، ثم بعد يومين خرجوا من شدة الحرج والضنك وسافر أعيان البلد. وفي تاسع عشر الشهر «4» ، وقع يزك حماة على غيّارة التتار فكسروهم وقتلوا نحو مئة، وصحت الأخبار برجوع قازان من حلب، فبلع الناس بريقهم وترجوا كشف الضر من الله، وهلك عدد كبير من التتار بحلب من الثلج والغلاء وعزّ اللحم بدمشق حتى بيع الرّطل بتسعة دراهم، ثم دخل الأفرم والأمراء من المرج بعد أن أقاموا به أربعة أشهر.

وفي شعبان، ألبست النصارى واليهود بمصر والشام العمائم الزرق والصفر «1» واستمر ذلك! وفيها (384) توفي بدمشق المسندون: عز الدين إسماعيل بن عبد الرحمن بن الفرّاء المرداوي «2» . وعز الدين أحمد بن العماد عبد الحميد المقدسي «3» . وأبو الحجاج يوسف بن أحمد الغسولي «4» . والأمير عز الدين أيدمر «5» الذي كان نائب دمشق في دولة الظاهر.

سنة إحدى وسبع مئة إلى سنة عشر وسبع مئة

سنة إحدى وسبع مئة إلى سنة عشر وسبع مئة سنة إحدى وسبع مئة «13» في صفر، خنق شيخ الحنفية العلامة ركن الدين عبيد الله بن محمد السّمرقندي «1» مدرس الظاهرية «2» وألقي في بركتها وأخذ ماله، ثم ظهر قاتله أنه قّيم الظاهرية فشنق على حائطها. وفي ربيع الأول، ثبت على قاضي بارين ونقل ثبوته إلى قاضي حماة أنه وقع هناك برد عظيم على صورة حيّات وعقارب وطيور ورجال وسباع. وفي جماد (ى) الأولى، مات أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله أبو العباس «3» ، ودفن عند السيدة نفيسة وكانت خلافته أربعين سنة وأشهرا. خلافة المستكفي بالله أمير المؤمنين «4» عهد إليه بالأمر أبوه الحاكم بأمر الله، وقرئ تقليده بعد عزاء والده، وخطب له على المنابر. وفي جمادى الآخرة، توفي المسند الفقيه تقي الدين أحمد المحدث ابن عبد الرحمن بن موسى الصالحي «5» وله أربع وثمانون سنة.

سنة اثنتين وسبع مئة

وفي رمضان، توفي المحدث الإمام أبو الحسين علي بن محمد اليونيني «1» ببعلبك شهيدا من جرح في دماغه، وثب عليه مجنون بسكين وعاش إحدى وثمانين سنة. وفيها، جاء جراد إلى دمشق لم يسمع مثله، ترك غالب الغوطة عصيا مجردة، ويبست أشجار لا تحصى. وفي ذي الحجة، مات مسند الديار المصرية أبو المعالي أحمد بن إسحاق الأبرقوهي «2» بعد قضاء نسكه وله أربع وثمانون سنة «3» . سنة اثنتين وسبع مئة «13» في صفر، فتحت جزيرة أرواد «4» وهي بقرب انطرسوس، وحوصرت يوما، وقتل بها عدة من الفرنج نحو الألفين (385) ، ومروا على دمشق بالأسرى قريبا من خمس مئة أسير.

وفي صفر، مات قاضي القضاة بقية الأعلام محمد بن علي بن دقيق العيد «1» بالقاهرة، وله سبع وسبعون سنة. وفي شعبان، عدّت التتار الفرات، وانجفل الناس، وخرج السلطان أيده الله بجيوشه المنصورة من مصر. وفي «2» عاشره، كان المصاف بعرض «3» بين التتار وبين المسلمين، كان المسلمون ألفا وخمس مئة وعليهم أسندمر «4» وغرلوا العادلي وبهادر آص «5» ، وكان التتار نحو (ا) من أربعة آلاف، فانكسروا وقتل منهم خلق كثير وأسر مقدمهم، ثم دخل من المصريين خمس تقادم عليهم الشاشنكير «6» والحسام أستاذ دار، ثم دخل بعدهم ثلاثة آلاف عليهم أمير سلاح ويعقوبا «7» وأيبك

الخزندار، ثم إن عسكر حلب وحماة تقهقر من التتار، وجمعت العساكر [بمرج دمشق، ووصلت التتار إلى قارا فارتحلت العساكر] «1» إلى الجسورة واختبط الناس واختنق في باب دمشق غير واحد، وهرب الخلق، وبلغت القلوب الحناجر، ووصل السلطان إلى الغور، وامتلأت الطرقات والأزقة بأهل البرّ ومواشيهم، وغلقت الأبواب، واشتدّ الخطب، وضجّ الخلق إلى الله، وأيسوا من الحياة. واستهل رمضان ليلة الجمعة. وتعلقت الآمال ببركة الشهر، وأصبح الناس وأخبار الجيوش معمّاة عليهم، ثم بعد الجمعة وصلت [التتار] «1» إلى المرج، وساروا إلى جهة الكسوة وبفذوا عن دمشق بكرة السبت، وغلب على الظنون أن اليوم تكون الوقعة، فابتهل الناس بالدعاء والاستعانة بالله في الأسواق والجامع، وطلعت النساء والأطفال إلى الأسطحة مكشفين الرءوس يجأرون إلى الله ويبكون ويسألون ويتذللون وهم صائمون، فثمة ساعة قبل الظهر لا يمكن أن يعبّر عنها وليس الخبر كالمعاينة، ثم بعدها حصل في النفوس سكينة وثقة بأن الله لا يردهم (386) خائبين، ونزل في الحال مطر عظيم، ثم بعد الظهر وقعت البطاقة بوصول الركاب الشريف واجتماع الجيوش المحمدية بمرج الصّفّر، ثم وقعت بطاقة تتضمن طلب الدعاء وحفظ أسوار البلد، وبعد الظهر وقع المصاف والتحم الحرب فحملت التتار على الميمنة فكسرتها واستشهد مقدمها الحسام، وثبت السلطان كعوائده ومن العصر استمر القتال والنزال حتى دخل الليل وردّت التتار من حملتها على الميمنة بغلس، وقد كلّ جدهم (؟) فتعلقوا بالجبل المانع «2» ، وطلع الضوء من بكرة الأحد والمسلمون يحدقون بالتتار فلم

تكن ضحوة إلا وقد ركن التتار إلى الفرار، وولوا الأدبار، ونزل النصر، ودقّت البشائر وزين البلد، فأين غمرة السبت من سرور يوم الأحد، فو الله ما ذقنا يوما أحلى منه ولا أمر من الذي قبله «1» . وكان التتار نحو (ا) من خمسين ألفا عليهم قطلغ شاه «2» نائب قازان، ورجع قازان من حلب في ضيق صدر من كسرة أصحابه يوم عرض، ثم أخزاه الله بهذه الكائنة العظمى التي يرجع فيها إليه من جيوشه نحو الثلث في حفاء وجوع وذل لا يعبر عنه، وتمزقوا لبعد المسافة، وتخطفهم أهل الحصون. ووصل السلطان والخليفة بالنصر والظفر، وساق وراء المنهزمين سلّار وقبجق إلى القريتين. واستشهد حسام الدين لاجين الرومي أستاذ دار «3» ، وكان شيخا مهيبا مليح الشيبة من أبناء السبعين. والأمير علاء الدين بن الجاكي «4» ، شيخ مهيب كردي من أمراء دمشق. والأمير حسام الدين [أوليا بن] «5» قرمان. وسنقر الشمسي الحاجب «6» .

سنة ثلاث وسبع مئة

وشمس الدين سنقر الكافري «1» وكانا من أمراء الميمنة. وعز الدين محمود بن الأمير يعقوبا «1» . وصلاح الدين «2» ولد الملك الكامل «3» . وسافر السلطان في حفظ الله بعد العيد. وفي يوم الأضحى، توفي الملك العادل زين الدين كتبغا المنصوري «4» صاحب حماة. ثم نقل إلى تربته بسفح قاسيون، وعاش بضعا (387) وخمسين سنة، وكان فيه شهامة ودين وخير وحسن خلق. وفي ذي الحجة، كانت الزلزلة العظمى بمصر والشام، وكان تأثيرها بالإسكندرية أعظم من غيرها، ذهب تحت الروم بها عدد كثير، وطلع البحر إلى نصف البلد وأخذ الجمال والرجال وغرقت المراكب، وسقطت بمصر دور لا تحصى. سنة ثلاث وسبع مئة «13» في المحرم، توفي الشيخ الإمام القدوة الزاهد الكبير ولي الله الشيخ إبراهيم بن أحمد الرّقّي «5» بدمشق، وكانت جنازته مشهودة، وحمل على الرءوس، وعاش بضعا وخمسين سنة.

سنة أربع وسبع مئة

وفي صفر، مات خطيب «1» دمشق شيخ دار الحديث «2» زين الدين عبد الله ابن مروان الفارقي «3» ، وله سبعون سنة. وفيها، قدم أمير سلاح في ثلاثة آلاف، وسار معه عسكر من دمشق وقبجق في عسكر حماة، وأسندمر في عسكر الساحل، وقراسنقر في عسكر حلب فنازلوا تل حمدون وأخذوها، ودخل بعضهم الدربند وأغاروا ونهبوا وأسروا خلقا، وضربت البشائر. وفي شوال، مات صاحب العراق غازان بن أرغون بن أبغا بن هولاكو «4» بقرب همذان مسموما، وكان شابا لم يتكهل، وتملك بعده أخوه خربندا محمد. سنة أربع وسبع مئة «13» توفي المسند المعمّر ركن الدين أحمد بن عبد المنعم الطّاووسي القزويني الصوفي «5» وله مئة سنة وثلاث سنين.

سنة خمس وسبع مئة

ومحدث الإسكندرية تاج الدين علي بن أحمد الحسيني الغرّافي «1» وله سبع وسبعون سنة. سنة خمس وسبع مئة «13» فيها، نازل نائب دمشق بعساكره جبل الجرد «2» وقهرهم وأذلهم، وهم روافض جهلة فتكوا بالجيش وقت الهزيمة «3» وعملوا كل قبيح. وفي شوال، توفي خطيب دمشق ونحويها [ومحدثها] «4» الشيخ شرف

سنة ست وسبع مئة

الدين أحمد بن إبراهيم بن سباع الفزاري «1» أخو شيخنا «2» تاج الدين «3» وله خمس وسبعون (388) سنة. وحافظ العصر العلّامة شرف الدين عبد المؤمن بن خلف الدّمياطي «4» بالقاهرة، وله اثنتان وسبعون سنة. سنة ست وسبع مئة «13» فيها، توفي مقدم الجيوش قائد الغزاة بدر الدين بكتاش الصالحي أمير سلاح «5» وقد نيّف على السبعين أو الثمانين، وكان موصوفا بالشجاعة والخير. وخطيب دمشق شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الخلاطي بن إمام

سنة سبع وسبع مئة

الكلّاسة «1» فجأة، وله اثنان وستون عاما. وكان طيب الصوت إلى الغاية في المحراب، وفيه صلاح وتعبد. سنة سبع وسبع مئة «13» في أولها، ظلم ملك التتار أهل جيلان وألزمهم بفتح طريق إلى بلادهم فامتنعوا فجهز لحربهم أربعين ألفا مع خطلو شاه، و [عشرين] «2» ألفا مع جوبان «3» فنزل خطلو شاه بعسكره إلى صحراء الجيلان ففتح أهلها سكرا يعرفونه من البحر على التتار، وألقوا النيران في تلك الشعراء فكادوا يغرقون ويحرقون، وثارت عليهم شطّار الكيلانيين فقتلوا أيضا منهم مقتلة وجاء في خطلو شاه سهم قتله «4» ، فلله الحمد. وفيها، مات مسند العراق رشيد الدين بن أبي القاسم المقرئ «5» ، وله ثلاث وثمانون سنة وأشهر. وسلطان المغرب أبو يعقوب يوسف بن يعقوب المريني «6» ،

سنة ثمان وسبع مئة

وتملك بعده حفيده «1» . سنة ثمان وسبع مئة «13» في رمضان، ذهب السلطان أيده الله إلى الكرك مظهرا للحج، فأقام بالكرك، وأمر نائبها «2» بالتحول إلى مصر، وعند دخوله إلى القلعة انكسر جسرها فوقع نحو خمسين مملوكا إلى الوادي مات منهم أربعة وتكسّر جماعة، وأعرض السلطان عن أمر مصر فوثب لها بعد أيام ركن الدين الشاشنكير على السلطنة، وخطب له، وركب بخلعة الخلافة والتقليد بمشورة (389) الأمراء عندما جاءهم كتاب الملك الناصر بأمرهم باجتماع الكلمة، ولقّب الشاشنكير بالملك المظفر. وفيها، مات في ذي الحجة مسند دمشق أبو جعفر محمد بن علي الموازيني «3» وله [أربع وتسعون] «4» سنة. سنة تسع وسبع مئة «14» في رجب، خرج مولانا السلطان من الكرك قاصدا إلى دمشق ليعود إلى

ملكه، وكان قد ساق إليه من مصر مئة وسبعون فارسا فشاش أهل دمشق ودخلوا من الحواضر، فوصل مملوك السلطان إلى الأفرم (يخبره) بأن السلطان قد وصل إلى الخمان، فقوى ملك الأمراء نفسه [بقلة] «1» معرفة، فأسرع إلى خدمة السلطان بيبرس المجنون «2» وبيبرس العلمي «3» ثم ذهب بهادر آص إلى السلطان ليكشف القضية، فوجد السلطان قد ردّ «4» ، ثم بعد أيام ركب السلطان وقصد دمشق، وكان قد مضى إليه سيف الدين قطلبك «5» والحاج بهادر «6» [إلى الكرك، وحضّاه على المجيء إليها] «7» فخاف نائب دمشق جمال الدين الأفرم وهم بالهرب، ثم أرسل الجاولي «8» والزّردكاش «9» إلى باب السلطان لإصلاح الأمور والاعتذار عما بدا منه، ثم قلق الأفرم ونزح بخواصّه عن دمشق وسلك إلى

شقيف أرنون، وخلا قصر السلطان، فبادر بيبرس العلائي «1» وآقجبا المشد «2» وأمير علم «3» في إصلاح الجتر والعصائب وأبهة السلطنة الشريفة، فإن السلطان كان قد رد جميع هذا إلى مصر، ثم جاء الأمان إلى الأفرم، وتسارع الأمراء لتلقي الرّكاب الشريف، ودعي له على المنابر، وزيّنت البلد، وأكريت الأسطحة للفرجة على دخول السلطان بأغلى ما يمكن، وحصل لأهل دمشق من السرور أمر كبير، فعبر مولانا السلطان قبل الظهر في دست السلطنة بحسب الإمكان، وفتح له باب السّر وقبّل الأرض نائب القلعة «4» ، فلوى رأس فرسه إلى ناحية القصر [الأبلق] «5» فنزل [فيه] «5» ، وبعد أربعة أيام (390) جاء إلى الخدمة الأفرم فأكرمه السلطان وأمره بمباشرة نيابة السلطنة، ثم بعد يومين وصل نائب حماة قفجاق ونائب طرابلس أسنتمر وتلقاهما السلطان، وأعاد السلطان قاضي القضاة تقي الدين الحنبلي «6» إلى القضاء وخلع عليه، وكان قد عزله الشاشنكير من

نحو ثلاثة أشهر «1» بشهاب الدين بن الحافظ «2» . وفي ثامن وعشري شعبان، وصل نائب حلب إلى الخدمة وهو قراسنقر، وتواصلت عساكر الشام كلها إلى الرّكاب الشريف، ثم خرج السلطان بقصد الديار المصرية في تاسع رمضان ومعه القضاة والأكابر ونواب الشام في هيبة عظيمة، ثم دخل غزة، وكان يوم دخوله يوما مشهودا، وجاء عدة أمراء وأخبروا بنزول الشاشنكير عن السلطنة وأنه طلب مكانا يأوي إليه، وهرب من مصر مغرّبا، وهرب عنها نائب السلطنة سلّار مشرّقا، وضربت البشائر ببلاد الإسلام، وعملت الزينة، وجلس السلطان على تخت ملكه يوم عيد الفطر ولله الحمد بلا ضربة ولا طعنة، وقبض على عدة أمراء أولي طيش وزعارة كل واحد منهم لا يقنع إلا بالملك، فأهلك بعضهم كالمخلوع «3» ونائبه «4» ولم ينتطح فيها عنزان. وقرر الأفرم بصرخد، واستناب بمصر سيف الدين بكتمر أمير جندار «5» ، وبدمشق قراسنقر المنصوري. وفي شوال، هاجت القيسية واليمانية بحوران وحشدوا، وبلغت المقتلة ألف

سنة عشر وسبع مئة

نفس بقرب السويداء «1» . وقدم قفجق المنصوري على نيابة حلب، والحاج بهادر على نيابة طرابلس. سنة عشر وسبع مئة «13» في المحرم، وصل أسندمر على نيابة حماة. وفيها، صرف ابن جماعة [عن] «2» قضاء الديار المصرية «3» ، وولي جمال الدين (391) الزّرعي «4» ، وصرف السّروجي «5» وطلب القاضي شمس الدين بن الحريري «6» فولي به قضاء الحنفية، فتوفي شمس الدين السّروجي بعد أيام قليلة.

ومات بطرابلس نائبها الحاج بهادر «1» وقد شاخ. ومات بحلب نائبها قفجق المنصوري «2» بإسهال مفرط. ثم ناب بحلب أسندمر. وناب بحماة عماد الدين إسماعيل بن علي بن صاحب حماة المظفر محمود. وناب بطرابلس الأفرم تحول من صرخد إليها. وفي رمضان، مات بتبريز عالم تلك الديار الشيخ قطب الدين محمود بن مسعود الشّيرازي «3» صاحب التصانيف «4» ، وهو في عشر الثمانين. ومسند مصر المعمّر بهاء الدين علي بن عيسى بن رمضان بن القيّم «5» ، وله سبع وتسعون سنة.

سنة إحدى عشرة وسبع مئة إلى سنة عشرين وسبع مئة

سنة إحدى عشرة وسبع مئة إلى سنة عشرين وسبع مئة سنة إحدى عشرة وسبع مئة «13» في أولها، نقل قراسنقر من دمشق إلى نيابة حلب، وولّي كراي المنصوري «1» دمشق. وفي ربيع الأول، أعيد ابن جماعة إلى قضاء الديار المصرية «2» [وتقرر للزّرعي المصروف] «3» قضاء العساكر ومدارس. وفي جماد (ى) الأولى، عزل عن نيابة دمشق كراي وقيّد، ومسك خطلبك نائب صفد وحبسا بالكرك، وقبض قبلهما على أسندمر من حلب و [سجن] «4» بالكرك، ثم ناب بدمشق جمال الدين آقوش الأشرفي الذي كان نائب الكرك. وفيها، توفي الحافظ البارع قاضي القضاة سعد الدين مسعود بن أحمد الحارثي الحنبلي «5» .

سنة اثنتي عشرة وسبع مئة

سنة اثنتي عشرة وسبع مئة «13» في أولها، تسحّب من دمشق عز الدين الزردكاش وبلبان الدمشقي «1» وأمير ثالث إلى الأفرم نائب طرابلس، ثم ساقوا بمماليكهم إلى قراسنقر المنصوري، وكان قد سبقهم وأقام بالبرية في ذمام مهنّا فاحتيط على أموالهم وأملاكهم، ثم عدوا الفرات إلى خدمة خربندا (392) ملك التتار فاحترمهم وأقبل عليهم. وفي ربيع الأول، طلب نائب دمشق جمال الدين الكركي فراح على البريد. وفيها، مات صاحب ماردين الملك المنصور غازي بن المظفر قرا أرسلان الأرتقي «2» في عشر السبعين، وكانت دولته نحو (ا) من عشرين سنة، فولي بعده ابنه علي «3» وعاش بعده سبعة عشر يوما ومات، وتملك بعده أخوه الملك الصالح «4» . وفيها، مسك نائب حمص بيبرس العلائي، ومن دمشق بيبرس المجنون

وطوغان «1» ، وبيبرس التاجي «2» ، وسيف الدين كشلي «3» والبرواني «4» فحبسوا في الكرك، ومسك بمصر جماعة. وفي ربيع الآخر، قدم ملك الأمراء سيف الدين تنكز الناصري «5» على نيابة الشام، وحضر يوم الجمعة إلى الجامع الأموي، وأوقد له الشمع. وكثر دعاء الرعية له، وولّي نيابة مصر الجناب العالي سيف الدين أرغون الناصري الدّويدار «6» . وفيها، مات مسند مصر الصالح أبو الحسن على بن محمد بن هارون البعلي «7» المحدث، وله ست وثمانون سنة. وفي أوائل رمضان، قويت أراجيف بمجيء التتار، وانجفل الناس، ودخل أهل الغوطة ونازل خربندا بجيوشه بلد الرحبة فحاصروها ثلاثة و [عشرين] «8» يوما «9» ، جدّوا في القتال خمسة أيام ورموها بالمجانيق، وأخذوا [في] «10»

النقوب، ثم أشار رشيد الدولة المسلماني «1» على خربندا بالعفو، وعلى أهلها أن ينزلوا إلى خدمة الملك، فنزل قاضيها وجماعة وأهدوا لخربندا خمسة أفراس وعشرة أباليج سكر فترحل عنهم وحلفهم على أنهم [طائعون] «2» له. وأما أهل الشام فانجفلوا من كل ناحية لتأخر الجيش المنصور يسيرا لأجل ربيع خيلهم «3» ، ثم جاءت الأخبار في آخر رمضان برحيل التتار وحصل الأمن وضربت البشائر. (393) وأما السلطان فإنه عيّد وخرج إلى الشام فوصل إلى دمشق في ثالث وعشري شوال فكان دخوله يوما مشهودا، فأقام بالقلعة يومين وتحول إلى القصر (الأبلق) ، ثم صلى الجمعة بجامع دمشق، وعمل دار العدل بحضور القضاة والدعاء له. وفي شوال، مات بمصر المسند زين الدين حسن بن عبد الكريم سبط زيادة «4» ، وله خمس وتسعون سنة. وفي ثاني ذي القعدة، توجه السلطان أيده الله بنصره إلى الحج. وفيها، مات ملك القفجاق طقطاي وله ثلاثون سنة، وقد جلس على سرير الملك وله سبع سنين «5» ، مات على الشرك، وكان له ابن قد أسلم فمات قبله،

سنة ثلاث عشرة وسبع مئة

وتسلطن بعده أزبك خان «1» ، وهو شاب مسلم موصوف بالشجاعة، ومملكته واسعة مسيرة ستة أشهر، لكنها قليلة المدائن. سنة ثلاث عشرة وسبع مئة «13» في يوم حادي عشر المحرم، وصل من الحاج مولانا السلطان الملك الناصر إلى دمشق، وصلى بجامعها جمعتين، ثم سافر إلى مصر. وفي ذي القعدة، توفي بحلب المعمّر علاء الدين بيبرس التركي العديمي «2» وقد نيّف على التسعين. [وفيها] «3» كان روك إقطاعات الجيوش «4» . سنة أربع عشرة وسبع مئة «14» في رجب، توفي بحلب نائبها سيف الدين سودى «5» وكان مشكور السيرة،

سنة خمس عشرة وسبع مئة

وولي بعده علاء الدين ألطنبغا الصالحي الحاجب «1» . وفي رجب، مات بمصر شيخ الحنفية رشيد الدين إسماعيل بن عثمان بن المعلم الدمشقي «2» عن إحدى وتسعين سنة، وقد كان عرض عليه قضاء دمشق فامتنع. وقدم سلطان جيلان وهو شمس الدين دوباج «3» ليحج فمات بغباغب «4» من ناحية تدمر، ونقل فدفن بقاسيون وعملت له تربة مليحة، وعاش أربعا وخمسين سنة، وهو الذي رمى خطلو شاه بسهم فقتله وانهزم (394) التتار «5» ، ولله الحمد. سنة خمس عشرة وسبع مئة «13» في أولها، سار المقر الشريف سيف الدين تنكز بجيش دمشق وتقدمة ستة آلاف من عسكر المصريين، ثم سار من حلب على المصريين والشاميين لغزو ملطية فصبحوها يوم الحادي والعشرين من المحرم، وإذا بأهلها قد تهيئوا للحصار والدفع عن أنفسهم، فلما عاينوا كثرة الجيوش المحمدية خرج متولي البلد «6» وقاضيه «7» وجماعة يطلبون الأمان على أنفسهم وأموالهم فأعطاهم ملك الأمراء

الأمان لهم دون النصارى، ثم دخل الناس المدينة وقتلوا بها خلقا من النصارى وسبوا ونهبوا وتعدى [الأذى] «1» من أوباش الجيش إلى المسلمين، ثم ألقيت النار في خراب ملطية وأخرب من سورها ثم ساروا بعد ثلاث بالغنائم، وقطعوا الدّربند وضربت البشائر وزينت البلاد. وفي المحرم، مات بالموصل عالم تلك الأرض السيد ركن الدين حسن بن شرف الحسيني «2» الأسترآبادي «3» صاحب التصانيف «4» ، وكان من أبناء السبعين. وفي شعبان، سار شطر جيش حلب لحصار قلعة [محرقنية] «5» من أعمال آمد، فتسلموها بلا كلفة وقتلوا بها طائفة، وسلخ أخو مندوة «6» وعلق على القلعة، وأغار العسكر على قرى الأرمن والأكراد ورجعوا سالمين بالمكاسب. وفي ذي القعدة، مات فجأة قاضي القضاة تقي الدين سليمان بن حمزة المقدسي الحنبلي «7» ، وله ثمان وثمانون سنة، وكان مسند الشام في وقته، رحمه الله «8» .

وفيها أيضا، مات المفتي الأصولي صفي الدين محمد بن عبد الرحيم الأرموي ثم الهندي «1» بدمشق عن إحدى وسبعين (395) سنة، [وكان] «2» شيخ الشيوخ ومدرس الظاهرية. وقدموا بابن شيخ حطين «3» دمشق مسمرا على جمل لكونه حرك فتنة الدولة التي أوجبت اقتتال أيدغدي شقير «4» وبهادر آص ونائب طرابلس أيدمر الحاجب «5» . ومات قاضي الموصل كمال الدين موسى بن محمد بن العلامة كمال الدين موسى بن يونس «6» . وفيها، عملت دار الخشب سوقا كبيرا وقيساريّة مليحة للتجار. ومات مسند مصر الشريف عز الدين موسى بن علي بن أبي طالب الموسوي «7» عن ثمان وثمانين سنة، وروى عن مكرم «8» والكبار.

ودخلت سنة ست عشرة وسبع مئة

ومات سلطان الهند صاحب دله علاء الدين محمود «1» وتملك بعده ابنه غياث الدين «2» . ودخلت سنة ست عشرة وسبع مئة «13» [وفيها] «3» ، مات الشيخ السيوفي بزاويته التي بقاسيون، وهو نجم الدين عيسى بن شاه أرمن الرومي «4» . والمحدث الأديب علاء الدين على بن المظفر الكندي «5» مؤلف «التذكرة» «6» عن ست وسبعين سنة، وله نظم رائق. وست الوزراء بنت عمر بن أسعد بن المنجا التنوخية «7» راوية «الصحيح» و «مسند الشافعي» ، ولها ثلاث وتسعون سنة، توفيت فجأة في شعبان.

وصدر الدين إسماعيل بن يوسف بن مكتوم القيسي «1» ، وله ثلاث وتسعون سنة. تلا على السّخاوي «2» ، وحدث عن ابن اللتي «3» ، وتفرّد وعمّر. وفيها، مات صاحب الشرق خداه بندا بن أرغون بن أبغا المغلي «4» عن بضع وثلاثين سنة، وكان قد أظهر الرفض، وأمر قبل هلاكه ببذل السيف في أهل باب الأزج لامتناعهم من إقامة الخطبة على شعار الشيعة، فما أمهله الله، مات بهيضة شديدة، وملّكوا بعده ولده أبا سعيد «5» فأظهر السنّة. ومات العلامة ذو الفنون والذكاء والنظم الرائق صدر الدين محمد بن وكيل بيت المال خطيب دمشق زين الدين عمر بن مكي بن المرحل الشافعي «6» بمصر في شوال عن إحدى وخمسين (396) سنة. تصدر، ودرس، وأفتى، وتخرج به الأصحاب. ومات عالم سبتة المقرئ النحوي [أبو إسحاق إبراهيم] «7» بن أحمد الغافقي،

سنة سبع عشرة وسبع مئة

وله خمس وسبعون سنة. سنة سبع عشرة وسبع مئة «13» أنشأ ملك الأمراء بغربي دمشق جامعا كبيرا «1» ووليه الشيخ نجم الدين القحفازي «2» . وجاءت الزيادة العظمى التي لم يسمع بمثلها ببعلبك في صفر، فغرق فيها بداخل المدينة مائة وأربعون نفسا ونيف، وهدت من سور البلد برجا وبدنة وهو من الصخر المحكم، فخرق من السور مساحة أربعين ذراعا، [ثم تدكدك بعد مكانه ب] «3» مسيرة [نحو من] «3» خمس مئة ذراع ثم تفسخ بعد واندكّ، وهدم السيل ما مرّ عليه إلى أن ملأ الجامع فخرق [حائطة] «4» الغربي وأذهب الأموال وخنق الرجال والأطفال، ثم أسرع إلى الخندق الذي للقلعة فخرق من سور البلد يقال مساحة خمسة وعشرين ذراعا وانحط إلى البساتين، وكان منظرا مهولا فظن أنها القيامة، وتواترت الأخبار بذلك وما الخبر كالعيان.

والذي انخرب من البيوت والحوانيت ستة مئة موضع «1» . وحدثني القاضي شمس الدين بن المجد «2» أن السيل دخل بيته وغرّق كتبه وزوجته وحماته، فرمى بهما إلى الأمينية «3» فماتت الأم، ودفع السيل الزوجة فألقاها على [عقد] «4» باب الأمينية، ثم أنزلت بعد بسلم، وحمل الماء رأس عمود حتى ألقاها على ركن بحذاء العامود في ارتفاعه، وهذا من أعجب ما سمعت. وفي رمضان، توفى صاحب ديوان الإنشاء شرف الدين عبد الوهاب بن فضل الله بن مجلّي العدوي «5» بدمشق عن أربع وتسعين سنة. كتب السر بمصر عشرين سنة، ثم نقل إلى دمشق فكتب السر إلى أن توفي، وكان كبير القدر، مصونا، دينا، كامل العقل.

ودخلت سنة ثماني عشرة وسبع مئة

وفيها، أبطلت (397) الفاحشة وضمان الخمور بالسواحل، وقرئت بذلك المراسيم وكثر الدعاء للسلطان. وظهر للنصيرية رجل زعم أنه المهدي، وكثر جمعه بناحية اللاذقية «1» وبلغوا ثلاثة آلاف، فتارة زعم أنه [محمد بن الحسن] «2» المنتظر، ومرة قال: إنه علي بن [أبي] «2» طالب، وتارة أنه محمد المصطفى وأن الأمة كفرة، وعاث في تلك الأرض حتى انتدب له العسكر فقتل من جمعه مئة وعشرون نصيريا، وجرت أمور ثم قتل لا رحمه الله، وكان جبليا خمارا جاهلا. ودخلت سنة ثماني عشرة وسبع مئة «13» فكان القحط المفرط بديار الموصل وإربل، وأكلوا الجيف، وباعوا أطفالهم، وبلغ الخبز كل أربع أواق بالدمشقي بدرهم، ومات خلق من الجوع حتى إن رجلا باع ولده برغيف فأكله ثم مات، وجرى ما لا يوصف، واستمر ذلك زمانا. وحدثني فقيه أنه بقي نحو (ا) من أربع سنين قال: وأكلت أنا وأهلي في نهار واحد [خبزا] «3» بثمانية عشر درهما، وكانت تباع جرزة خبّيز بدرهم قيمتها فلس، وخلت إربل حتى بقي فيها «4» خمس مئة بيت من خمسة عشر ألف بيت، واتصل الغلاء بالعراق لكن لم يأكلوا الميتة ولا باعوا أبناءهم، ودثرت القرى فلله الأمر، وكان سبب القحط مجيء جراد عظيم أولا بالجزيرة. وفيها، توفي شيخنا القدوة الشيخ محمد بن عمر بن الشيخ الكبير أبي بكر

ابن قوام البالسي «1» ، وله ثمان وستون سنة. وفيها، قتل رشيد الدولة فضل الله بن أبي الخير بن عالي الهمذاني مدبر ممالك التتار، وكان عطارا طبيبا يهوديا خاملا مال به الحال إلى أن صار الوزراء والأمراء من تحت أوامره، وكثرت أمواله بحيث إنه وزن في نكبته ألف ألف دينار، فقيل: إنه أعطى القان (398) مسهلا في حال الهيضة لينقي بدنه فخارت قوته ومات، فقام عليه أضداده فضربت عنقه وعنق ابنه «2» ، وكان يتفلسف، وقد وزّر ابنه محمد «3» [للملك] «4» أبي سعيد. وفيها، أنشئ الجامع الكريمي «5» بالقبيبات، عمله الصاحب كريم الدين المصري «6» .

سنة تسع عشرة وسبع مئة

ومات المعمّر الصالح أبو بكر بن زين الدين أحمد بن [عبد الدائم] «1» الصالحي عن ثلاث وتسعين سنة، مات في رمضان، وتفرد عن جماعة. ومات شيخ دار الحديث «2» العلامة كمال الدين أحمد بن محمد بن أحمد ابن الشّريشي الشافعي «3» ، وله خمس وستون سنة. ومات شيخ العربية مجد الدين أبو بكر [بن محمد] «4» بن القاسم التونسي المغربي «5» ، وله اثنتان وستون سنة. وأنشأ جامع باب شرقي الصاحب شمس الدين غبريال «6» . سنة تسع عشرة وسبع مئة «13» فيها، سار ركب العراق في حشمة وتجمل فيهم متولي العراق بولا واج «7»

معه حلقتان لباب الكعبة ألفا مثقال فما ركبتا بل [أخذهما] «1» رميثة «2» أمير مكة. وفي صفر، استسقوا بدمشق بقرب مسجد القدم «3» ، وخطب الناس الإمام القدوة خطيب العقيبة صدر الدين سليمان الجعفري «4» ، وأغيثوا. ومات بمصر شيخها القدوة الرباني أبو الفتح نصر بن سليمان المنبجي «5» ، وله نيف وثمانون سنة. واختلف أمر التتار واقتتلوا فذهبت تحت السيف ألوف، وانتصر جوبان، وقتل إيرنجين «6» وقرمشي «7» ودقماق «7» والكائنة فيها طول، وتتبع جوبان بضعة وثلاثين أميرا من أضداده فذبحهم صبرا وأخذ أموالهم.

سنة عشرين وسبع مئة

وفي رمضان جاء سيل عرم بدمشق والشمس طالعة والسفرجل معبأ تحت الشجر فطيّن [وغسلوه] «1» ، ولم أر «2» السيل أشد عكرا من هذه المرة حتى كان الماء طحينة، قيل: الرطل منه يصفى ثلثه طينا (399) شديدا، وكان وقوعه بأرض إبل الشرق «3» ، وكان [بردى] «1» ... «4» شعبان من ثلاثة أشهر ليس فيه قطرة، ثم بعد يومين نشف وانقطع عدة عيون لقناة زملكا «5» ويبست الأشجار. ومات المعمّر عيسى بن عبد الرحمن المطعّم «6» في ذي الحجة عن بضع وتسعين سنة، تفرد بالعوالي. سنة عشرين وسبع مئة «13» توفي بمصر القاضي العلامة زين الدين محمد بن العلم محمد بن حسين بن عتيق بن رشيق المالكي «7» عن اثنتين وتسعين سنة، حدث عن ابن الجمّيزي «8» . وفيها، سلطن مولا (نا) السلطان الملك الناصر لصاحب حماة عماد الدين

إسماعيل بن علي ولقب بالمؤيد. ومات بمصر المعمّر [حسن] «1» بن عمر الكردي المقرئ عن نيف وتسعين سنة، حضر ابن اللّتي ومكرّما، وتلا ختمة على السّخاوي. وبلغنا أمر الوقعة الكبرى بالأندلس أنه كان في العام الماضي، وذلك أن ملوك الفرنج تجمعوا وأقبلوا في مئة ألف أو يزيدون وعلى الجميع [دون بترو] «2» ، وأحاطوا بغرناطة، فبرز لحربهم الغالب بالله أبو الوليد إسماعيل بن [فرج بن إسماعيل بن يوسف] «3» بن محمد بن الأحمر في نحو من ألف وخمس مئة فارس ونحو من ثلاثة آلاف جرخي فالتقى الجمعان وأحاط العدو بالمسلمين كشامة بيضاء في ثور أسود، فصدق المسلمون الحملة بعد أن أنابوا إلى الله واستعانوا به، وحملوا على الصف الذي فيه ملك العدو فقتلوه بل قتلوا جميع الملوك الذين معه، وكانوا نيفا وعشرين ملكا، وذهبت رجّالة الإسلام وداروا إلى خيام النصارى فخذل العدو وفروا ولات حين فرار، وحصل بهم الدمار وقتل منهم النصف، وقيل: بل أزيد من ستين ألفا وتمزقوا ونزل النصر العزيز والفتح المبين، وكانت ملحمة لا عهد للإسلام (400) بمثلها، هذا، ولم يقتل من

الأجناد سوى أحد عشر فارسا، وغنم المسلمون ما لا يعبر عنه. ثم جرت وقعه أخرى في يوم عاشوراء من سنة عشرين بين جند مالقة وبين الفرنج، ونصر الله [جنده] «1» وقتل من العدو خلق وأسر منهم خمس مئة، واستشهد رجل واحد، ولله الحمد. وفيها، أبطلت الفواحش، وأريقت الخمور في السلطانية وغيرها من بلاد الشرق، وزوجت ألوف من الخواطئ «2» . وحج من بغداد وفد كثير وسبيل ومحمل سلطاني بالذهب والجواهر التي قومت بأزيد من مئتي ألف دينار مصرية. ومات المعمّر أمين الدين محمد بن أبي بكر بن هبة الله بن النّحاس الحلبي «3» بدمشق عن نيف وتسعين سنة، يروي عن صفية «4» وشعيب الزعفراني «5» والساوي «6» .

سنة إحدى وعشرين وسبع مئة إلى سنة ثلاثين وسبع مئة

سنة إحدى وعشرين وسبع مئة إلى سنة ثلاثين وسبع مئة ودخلت سنة إحدى وعشرين وسبع مئة1» في المحرم، مات عالم المغرب المحدث العلامة ذو الفنون أبو عبد الله محمد بن عمر بن محمد بن رشيد السّبتي «1» بفاس. وأنشئ بالقابون جامع مليح من مال الصاحب كريم الدين «2» . وكان بمصر الحريق المتواتر، وذهبت أموال وأملاك كثيرة ثم ظهر أن ذلك من كيد النصارى، فوجد مع بعضهم آلة الإحراق ونفط وغير [ذلك] «3» فأخذوا وأقروا فقتل منهم ستة، وأسلم عدة. ورجمت العامة الصاحب الكريم توهموا أن ذلك من مكره، فاستنصر له ولي الأمر وقطع أيدي أربعة من الذين رجموه وقيد آخرون. وأخربت كنيسة لليهود أحدثها القراؤون «4» من نحو مئة سنة داخل دروبهم بدمشق فدكّت بحكم الحاكم. وجرى [الصلح بين] «5» السلطان وبين أبي سعيد، وأبرم ذلك وتهادوا، ولله الحمد.

ودخلت سنة اثنتين وعشرين وسبع مئة

وفي ذي الحجة (توفي) صاحب اليمن الملك المؤيد هزبر الدين (401) داود بن الملك المظفر يوسف بن عمر التركماني بتعز، وكانت أيامه بضعا وعشرين سنة «1» ، وكان شجاعا حازما عالما. ومات مسند دمشق سعد الدين يحيى بن محمد بن سعد المقدسي «2» عن تسعين سنة. روى عن ابن اللتّي، والهمداني «3» حضورا، وعن ابن صباح «4» ، وابن روزبة «5» وخلق بالإجازة، وطاب الثناء عليه. ودخلت سنة اثنتين وعشرين وسبع مئة «13» (وفيها) ، مات في ربيع الأول شيخ الحرم إمام المقام رضي الدين إبراهيم بن

محمد الطّبري الشافعي «1» ، وله ست وثمانون سنة، وكان من العلماء العاملين، يروي عن شعيب وابن الجمّيزي. وفيها، افتتحت آياس وأحرقت وأغاروا على بلد سيس. ومات الشريف الكبير العابد محيي الدين محمد بن عدنان بن حسن الحسيني الدمشقي «2» جد السيد نقيب الأشراف شرف الدين عدنان «3» ، وله ثلاث وتسعون سنة، وكان يدري مذهب الإمامية ويترضى عن الصحابة. وتوفى مسند الثغر العدل محيي الدين عبد الرحمن بن مخلوف بن جماعة الربعي المالكي «4» يوم التروية عن ثلاث وتسعين سنة. تفرد بالرواية عن [ظافر بن شحم، وتلا] «5» على ابن زيد [البندار التّسارسي] «6» وجعفر الهمداني. وماتت بعده بليال مسندة بيت المقدس أم محمد زينب بنت أحمد بن عمر

سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة

ابن شكر الصالحة «1» العابدة عن أربع وتسعين سنة «2» . سمعت من ابن اللتّي وجعفر الهمداني، وتفردت. وفيه، توفي مسند أسيوط الرئيس زين الدين عبد الرحمن بن أبي صالح رواحة بن علي بن حسين بن رواحة الأنصاري الحموي الشافعي «3» عن أربع وتسعين سنة وشهور. يروي «4» عن جده لأمه [أبي] «5» القاسم بن رواحة «6» ، أجاز (402) له الشيخ شهاب الدين السّهروردي وغيره، وسمع أيضا من صفية الزبيرية. سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة «13» توفي العلامة الأديب مؤرخ العراق كمال الدين عبد الرزاق بن أحمد بن محمد بن أحمد بن الفوطي الشّيباني «7» صاحب التصانيف «8» عن إحدى وثمانين سنة.

ومرض كريم الدين وكيل السلطان ثم عوفي فزينت القاهرة، ومات بعض الناس من الازدحام على صدقته. ومات قاضي دمشق ورئيسها نجم الدين أحمد بن صصرى التّغلبي الشافعي «1» في ربيع الأول عن ثمان وستين سنة. يروي عن الرشيد العطار «2» حضورا، وعن ابن عبد الدائم «3» . وقتل بمصر النحوي البارع ضياء الدين عبد الله الدّربندي الصوفي «4» ، وله خمس وأربعون سنة. أقرأ العربية بالكلّاسة ثم افتتن بصورة، ونقص عقله، ثم ذهب إلى مصر متغيرا وطلع إلى القلعة واستل سيف جندي وضرب به وجه نصراني، فأخذ وضربت عنقه من غير تأمل. وفيها، أمسك وكيل السلطان كريم الدين وزالت سعادته، ثم شنق «5» ،

وكان قد بلغ من التقدم والرفعة ما لا يزيد عليه، يركب عدة أمراء في خدمته، وداره عبارة عن بيوت الأموال، وعاش سبعين سنة أو أكثر، وأسلم سنة نيف وسبع مئة، وكان من دهاة الرجال، ذا كرم وسكون، والله أعلم بطويته. وتوفي المحدث اللغوي صفي الدين محمود بن أبي بكر الأرموي القرّافي الصوفي «1» بدمشق، وله ست وسبعون سنة. كان من أحسن الناس قراءة للحديث، وجمع كتابا حافلا في اللغة يحتوي على «الصّحاح» «2» و «التهذيب» «3» و «المحكم» «4» وكان تغيّر من (403) السوداء ولم يختلط. وتوفي مسند الشام بهاء الدين القاسم بن مظفر بن محمود بن عساكر الطبيب «5» . وقف أماكن، ودفن بتربته، وعاش أربعا وتسعين سنة، مات في شعبان وله سماعات وإجازات وتفرد بأشياء، قرأ (عليه) البرزالي «6» نحو (ا) من ثماني مئة

سنة أربع وعشرين وسبع مئة

جزء، حدث عن ابن اللتّي وعدة. وتوفي بالمزّة مسند الوقت الشيخ شمس الدين أبو نصر الشّيرازي «1» عن ثلاث وتسعين سنة وشهرين، توفي ليلة عرفة ببستانه. سمع من جده «2» والعلم بن [الصابوني] «3» وابن الصلاح «4» وعدة، وأجاز له الكبار، وروى شيئا كثيرا، خرف قبل موته نحو عامين وتغيّر وما اختلط. سنة أربع وعشرين وسبع مئة «13» أبطل السلطان أيده الله مكوس الغلّة بالشام كله، وكان مبلغا عظيما يؤخذ

من ثمن الغرارة ثلاثة دراهم ونصف. ومات بالقابون «1» شيخ الباجربقيّة محمد بن المفتي جمال الدين عبد الرحيم الباجربقيّ «2» الزاهد المطعون في عقيدته، وكان قد حكم المالكي بإراقة دمه، وفر إلى العراق مدة، وعاش ستين سنة. وفي ربيع الآخر، كان الغلاء بدمشق وغيرها حتى بلغت الغرارة مئتي درهم، ثم نزل إلى مئة وعشرين عندما جاء الجلب من مصر. ومات وزير الشرق علي شاه بن أبي بكر التوريزي «3» . وقدم للحج ملك التّكرور موسى بن أبي بكر في جمع كبير، وقدم للسلطان أربعين ألف دينار فخلع عليه خلعة سوداء وسيفا مذهبا وحصانا أشهب بزناري أطلس، فدخل إلى خدمة السلطان، وهو فقيه مالكي «4» . وبلغ النيل ثمانية عشر ذراعا وتسعة عشر إصبعا، فغرق شيء كثير. ومات شيخ دار الحديث النورية المفتي علاء الدين علي بن إبراهيم بن العطار «5» وله سبعون سنة.

سنة خمس وعشرين وسبع مئة

سنة خمس وعشرين وسبع مئة «13» (404) توفي بمصر شيخ القراء تقي الدين محمد بن أحمد بن عبد الخالق الصايغ «1» عن تسع وثمانين سنة. وسار نحو ألفي فارس عليهم بيبرس الحاجب «2» نجدة لصاحب اليمن «3» ، ودخلوا زبيد (ا) وألبسوا الملك المجاهد خلع السلطنة. وضرب بمصر شهاب الدين أحمد بن مري المذكّر «4» نحو (ا) من خمسين سوطا، ونفي إلى القدس بسبب مسألة الاستغاثة، قال: لا يجوز الاستغاثة بمخلوق ولا بنبي. وكان الغرق العظيم ببغداد، ودام أربعة أيام حتى بقيت بغداد شبه جزيرة في الماء، وعمل الخلق كلهم الليل والنهار في السّكورة، وانهدم ما لا يحصى، وارتفع الماء في الخندق نحو عشر قامات، وغرق خلق من أهل القرى، وبكى الناس وعاينوا التلف وغلت الأسعار، ووقع النهب. وذكر ابن السباك القاضي «5» أن جملة ما خرب [بالجانب] «6» الغربي خمسة

آلاف بيت وست مئة بيت. وحدثني «1» ثقات بذلك [أن] «2» الماء دخل [في] «3» دهليز مقبرة الإمام أحمد علو ذراع وأكثر، ثم وقف بإذن الله ولم يدخل في البقعة فكان ذلك آية، وفي تفاصيل ما جرى لهم عجائب. وتوفي كاتب السر بدمشق العلامة شهاب الدين محمود بن سلمان الحلبي «4» وقد نيّف على الثمانين وكان من نظراء القاضي الفاضل. ومات العفيف إسحاق الآمدي «5» عن أربع وثمانين سنة. ولم يثبت بدمشق عيد الفطر إلى قريب الظهر، ثم صلوا من الغد. ومات كبير الأمراء ركن الدين بيبرس الخطائي المنصوري الدّويداري صاحب «التاريخ» «6» . والقاضي صدر الدين سليمان بن هلال الجعفري «7» خطيب العقيبة عن أربع وثمانين سنة. وعالم الإمامية الجمال بن المطهر «8» بالحلّة، وله تواليف.

سنة ست وعشرين وسبع مئة

سنة ست وعشرين وسبع مئة «13» (405) فيها، قتل ناصر بن الهيتي «1» بسوق الخيل «2» على الزندقة. وتوفيت ستّ الفقهاء بنت تقي الدين إبراهيم بن على الواسطي «3» عن ثلاث وتسعين سنة. وأنشئت قيساريّة الدهشة بسوق علي وسكنها أعيان التجار. وقتل الراهب توما «4» الذي أسلم عند ابن التيميّة «5» ثم بعد مدة ارتد. وفيها، اعتقل شيخنا ابن التيميّة في قاعة بالقلعة وإلى أن مات، وعزّر جماعة من أتباعه. ووصل الماء إلى بطن مكة من مال النوين جوبان.

سنة سبع وعشرين وسبع مئة

وتوفي الزاهد الكبير الشيخ حماد الحلبي [بن] «1» القطان «2» بالعقيبة عن ست وتسعين سنة «3» . وتوفي بالمدينة النبوية طالبا للحج القاضي شمس الدين محمد بن مسلم الصالحي «4» عن أربع وستين سنة، وكان من القضاة العدل. سنة سبع وعشرين وسبع مئة «13» توفي [بمصر] «5» الشيخ علي بن عمر الواني «6» عن نيّف وتسعين سنة. يروي عن ابن رواج «7» ، والسبط «8» .

والإمام الربّاني القدوة شرف الدين عبد الله بن (عبد) الحليم بن التيمية «1» ، وله إحدى و [ستون] «2» سنة. وطلب قاضي دمشق جلال الدين محمد بن عبد الرحمن القزويني «3» فولّي قضاء مصر عوضا عن ابن جماعة لضروره «4» . وكان عرس ابنة المولى السلطان على الأمير قوصون الناصري «5» . وفي رجب، كانت كائنة الإسكندرية. اختصم مسلم وفرنجي وضربه بالمدارس، فركب متولي الثغر الكركي «6» وأغلق باب البحر قبل المغرب والناس في الفرجة، فمشى أعيان البلد إليه فأمر بفتح

الباب بعد هوي (؟) من الليل، وازدحم الخلق وسلّت السيوف وجرح جماعة، وخطفت عمائم، ثم أصبحوا وإذا نحو عشرة موتى من الزحمة، ثم جاء الوالي لصلاة الجمعة فرجمته الغوغاء فدخل داره واستمر الرجم وجمعوا قشا وأحرقوا (406) باب السلطان ويعرف بباب اليهود، فأخرجوا المحبوسين ونهبوا دارين ثلاث لأتباع الوالي فبطّق الوالي إلى السلطان وغوّث فتنمّر السلطان وانزعج وظن الحبس الذي فتح هو الذي فيه الأمراء، فأمر ببذل السيف في البلد وبهدمه، ثم جهز جيشا عليهم الوزير الجمالي «1» فقدم وطلب الحاكم ونائبيه وأهانهم، فقال أحد النائبين هو ابن التنيسي «1» ما يلزمنا شيء ولا يحل لكم أن تهينوا الشرع، فبطحه الوزير وضربه غير مرة، ثم طلب الكارمية وسبهم وأخذ منهم أموالا عظيمة حتى أفقر كثيرا منهم، ووسط ثلاثين رجلا وقت صلاة الجمعة، فجرت في الجامع خبطة وخطفت العمائم، ثم طلب الجمالي القزازين وصادرهم وضربهم وجرى ما لا يعبر عنه، ثم قتل غير واحد ممن طافوا في الطرق يدعون عليه، وعزل الحاكم بالقاضي علم الدين الإخنائي «2» . وفي شعبان، توفي شيخ الحنفية وقاضي دمشق صدر الدين علي بن أبي القاسم البصروي «3» عن خمس وثمانين سنة. وطلب السلطان قاضي حلب شيخنا كمال الدين محمد بن علي الشافعي بن الزّملكاني إلى مصر لمشافهته بقضاء دمشق فأدركه أجله ببلبيس، رحمه الله

سنة ثمان وعشرين وسبع مئة

وله ستون سنة «1» ، ثم حمل التقليد والخلعة القضائية إلى الشيخ بدر الدين أبي اليسر بن الصايغ «2» ، فامتنع وصمّم وألحوا عليه فأبى، ثم قدم على المنصب الشيخ علاء الدين علي بن إسماعيل القونوي «3» . وجاء يوم الأضحى على بلبيس سيل عظيم وقاسوا شدة. سنة ثمان وعشرين وسبع مئة «13» توفي بالثغر شيخ الحديث الإمام عز الدين إبراهيم بن أحمد الحسيني الغرّافي «4» وله تسعون سنة. وقدم متولي ممالك الروم تمرتاش (407) بن جوبان «5» إلى خدمة السلطان.

ونقض شطر الحائط القبلي من جامع دمشق لانحداب في وسطه من زلزلة قديمة، وبني في خمسين يوما، ورخّم وعمل في وسطه محراب للحنفية، [وجدد رخام كثير بالجامع] «1» . ووقع حريق كبير في الفرائين أذهب أموال الناس، ثم جدد بعده قيساريتان. وتوفي مسند العراق عفيف الدين محمد بن عبد المحسن الأزجّي بن الدواليبي «2» الواعظ شيخ المستنصرية وله تسعون سنة، وكان عالي الرواية. وبمصر قاضي القضاة شمس الدين محمد بن عثمان الأنصاري الدمشقي ابن الحريري الحنفي «3» وله خمس وسبعون سنة، وكان من خيار الحكام. وتوفي مفتي العراق مدرس المستنصرية جمال الدين عبد الله بن محمد ابن علي الواسطي بن العاقولي «4» عن تسعين سنة وأشهر، وكان من كبار الشافعية. وفي ذي القعدة، توفي الشيخ شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن عبد الحليم ابن التيمية الحرّاني «5» بالقلعة «6» عن سبع وستين سنة وأشهر، وشيّعه خلق قيل ما حزروا بستين ألفا، ولم يخلف بعده ما يقاربه في العلم والفضل. وقتل مقدم المغول جوبان «7» ، ونقل في تابوت فما مكن من الدفن في مدرسته التي بالمدينة فدفن بالبقيع.

سنة تسع وعشرين وسبع مئة

سنة تسع وعشرين وسبع مئة «13» توفي شيخ الشافعية برهان الدين إبراهيم بن الشيخ تاج الدين عبد الرحمن الفزاري «1» بالبادرائية عن سبعين سنة سوى أشهر، وكانت جنازته مشهودة. وشيخ الحنابلة مجد الدين إسماعيل بن محمد بن الفرّاء الحراني «2» عن ثلاث وثمانين سنة. وبمصر مسندها الفتح يونس بن إبراهيم بن عبد القوي الكناني الدبابيسي «3» عن بضع وتسعين سنة، سمع من ابن المقيّر «4» ، وأجاز له كبار. وتوفي قاضي دمشق علاء الدين علي بن إسماعيل بن يوسف القونوي الشافعي «5» الأصولي عن ستين سنة و [أشهر] «6» ، وكان محمودا ديّنا علّامة. ورئيس دمشق الصاحب عز الدين حمزة بن المؤيد [أسعد بن المظفر بن أسعد] «7» (408) بن القلانسي «8» عن إحدى وثمانين سنة.

سنة ثلاثين وسبع مئة

وأخرجت الكلاب من دمشق، وألقوا في الخندق. سنة ثلاثين وسبع مئة «13» في صفر، توفي مسند العصر أبو العباس أحمد بن أبي طالب بن الشّحنة الحجّار الصالحي «1» وله مئة سنة ونحو من ست سنين، وبين سماعه ل «صحيح البخاري» وبين موته مئة عام، وقد رواه نحوا من سبعين مرة. وأنشأ الأمير قوصون جامعا كبيرا بالقرب من جامع (ابن) طولون «2» ، وجعل لخطيبه في الشهر ثلاث مئة درهم. وتوفي المعمّر زين الدين أيوب بن نعمة الدمشقي الكحّال «3» في ذي الحجة عن تسعين سنة، يروي عن المرسي «4» وجماعة.

سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة إلى سنة أربعين وسبع مئة

سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة إلى سنة أربعين وسبع مئة سنة إحدى و [ثلاثين] «1» وسبع مئة «13» توفي بمصر المعمّر بدر الدين يوسف بن عمر الختني «2» عن خمس وثمانين سنة. ووصل إلى حلب نهر السّاجور «3» بعد عمل كثير وتعب وغرامة أموال «4» . وتوفي صاحب المغرب السلطان أبو سعيد [عثمان بن] «5» يعقوب بن عبد الحق المريني، وكانت دولته اثنتين وعشرين سنة، وعاش نيفا وستين سنة، وتملك بعده ولده السلطان الفقيه الجليل أبو الحسن «6» . سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة «14» جاء حمص سيل عظيم فاختنق [بالحمام الذي] «7» على بابها [مئتا] «8» نسمة من نساء وولدان «9» .

وعمل مسبك الفولاذ بدمشق قيساريّة بدمشق لملك الأمراء للعبي. [وتوفي] «1» بحماة صاحبها الملك المؤيد عماد الدين إسماعيل بن علي الأيوبي في آخر الكهولة، وله تصانيف ومعرفة، وتسلطن بعده ولده [محمد] «2» ولقب بالأفضل. وتوفي قاضي القضاة الحنابلة شرف الدين عبد الله بن حسن [بن] «1» الحافظ «3» فجأة عن ست وثمانين سنة. ومات كبير الأطباء أمين الدين سليمان بن داوود (409) الدمشقي «4» عن بضع وستين سنة. [وفيها] «1» ، توفي [في رمضان شيخ بلد الخليل برهان الدين إبراهيم بن عمر الجعبري الشافعي] «5» المقرئ صاحب التصانيف «6» عن اثنتين وتسعين سنة. وفي شعبان نكب الصاحب غبريال المصري وصودر «7» إلى أن مات، وأخذ

سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة

منه نحو من ألف ألف دينار، وسلم من التسليم فإنه آذى الناس بالزغل في الدينار اليحشوري «1» . ومات في ذي القعدة قاضي دمشق علم الدين محمد بن أبي بكر الإخنائي «2» بالعادلية «3» ، وكان من قضاة العدل متوسطا في الفضيلة، عاش ثمانيا وستين سنة. سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة «13» زينت البلاد لقدوم السلطان من حجه. [ومات بعد أن حج] «4» معه في البرية كبير الدولة سيف الدين بكتمر الساقي وابنه الأمير أحمد «5» عن أموال لا تحصى. وفي جمادى الأولى، توفي قاضي القضاة بدر الدين محمد بن إبراهيم بن جماعة الكناني «6» بمصر عن أربع وتسعين سنة. صنف التصانيف «7» ، وكان من خيار القضاة.

سنة أربع وثلاثين وسبع مئة

وتوفي مدرس البادرائية المفتي شهاب الدين أحمد [بن جهبل] «1» عن ثلاث وستين سنة. ومات مسند حماة تاج الدين أحمد بن إدريس بن مزبر «2» في رمضان عن تسعين سنة. وتوفي بين الحرمين القدوة الرباني الشيخ علي بن الحسين الواسطي «3» العابد عن ثمانين سنة سوى سنة، رحمه الله. وتوفيت المعمّرة المسندة أسماء بنت محمد بن سالم بن صصرى «4» التغلبية بدمشق في ذي الحجة عن خمس وتسعين سنة. سنة أربع وثلاثين وسبع مئة «13» توفي قاضي القضاة جمال الدين سليمان بن عمر الأذرعي عرف بالزّرعي «5» بمصر، وله تسع وثمانون سنة. والحافظ العلامة فتح الدين محمد بن محمد بن محمد بن سيد الناس اليعمري «6» عن ثلاث وستين سنة.

سنة خمس وثلاثين وسبع مئة

والصاحب غبريال «1» المذكور. والإمام سراج الدين عبد اللطيف بن أحمد بن الكويك «2» قاصدا بلاد التكرور للتجارة عن أربع وأربعين (410) سنة. وفيها، أخربت كنائس بغداد، وأسلم ديّان اليهود سديد الدولة (و) هو منصور بن شمس الدولة أبي الربيع «3» وعدة يهود، وأسقط عن بغداد مكوس كثيرة. واشتهر عن جماعة من الشيعة في قرية بتي أنهم دخلوا على فقيه لهم مريض فبقي يصيح: ويلكم أخذني المغل خلصوني منهم، ثم فقد في الحال من بينهم، ولم يقعوا له بأثر. سنة خمس وثلاثين وسبع مئة «13» رجع من مصر ملك العرب مهنّا بن عيسى. و [توفي بدمشق] «4» رئيس المؤذنين البرهان «5» ابن مؤذن القلعة. ثم ولده المحدث أمين الدين محمد بن إبراهيم «6» كهلا.

والمجود بهاء الدين محمود بن خطيب بعلبك «1» . وفي رجب، مات بمصر محدثها الحافظ قطب الدين عبد الكريم بن عبد النور الحلبي «2» عن إحدى وسبعين سنة، وله عدة تواليف» . وفيه، أخرج السلطان من السجن ثلاثة عشر أميرا وخلع عليهم، منهم بيبرس الحاجب وتمر الساقي «4» نائب طرابلس. وفي شوال، أغار جيش حلب على بلاد سيس فغنموا وأسروا فثار لذلك نصارى آياس، وجمعوا من عندهم من المسلمين في خان وأحرقوه، فقتل من نجا فهلك به نحو الألفين يوم عيد الفطر، رحمهم الله. ووقع بحماة حريق كبير، وذهبت أموال التجار، واحترقت مئتان وخمسون دكانا، وقيل: بل مئتان وخمسة وثلاثون، وكذلك وقع بأنطاكية حريق عظيم. وتوفيت في ذي القعدة المسندة زينب بنت يحيى [بن الشيخ عز الدين] «5» ابن عبد السلام «6» ، روت الكثير، وعمّرت سبعا وثمانين سنة.

سنة ست وثلاثين وسبع مئة

وفي صفر، توفي ملك العرب حسام الدين [مهنّا] «1» بناحية سلمية عن نيّف وثمانين سنة. وفي صفر، توفي مسند دمشق البدر عبد الله بن حسين بن أبي التائب الأنصاري «2» الشاهد عن نيف وتسعين سنة. سنة ست وثلاثين وسبع مئة «13» (411) في أولها، سار نائب الشام في نقاوة الجيش إلى مدينة جعبر وتصيد وقرر قواعد البلد، وكان قد دثر من آثار هولاكو. وتوفي المعمّر الشيخ علي بن محمد بن ممدود البندنيجي «3» بالسّميساطية «4» عن اثنين وتسعين سنة، وكان عالي الإسناد. وتوفي الإمامان مدرس الناصرية «5» كمال الدين أحمد بن محمد بن

سنة سبع وثلاثين وسبع مئة

الشيرازي «1» عن ست وستين سنة. ومدرس «2» الأمينية «3» قاضي العسكر علاء الدين علي بن محمد القلانسي «4» المحتسب، وقد ذكر للقضاء [ثم تنمّر له النائب وصودر وعزل] «5» . وفي ربيع الآخر، مات صاحب الشرق القان أبو سعيد بن خربندا ودفن بالسلطانية، وله بضع وثلاثون سنة، وكانت دولته عشرين سنة «6» ، وكان فيه دين وعدل، كتب المنسوب، وأجاد ضرب العود. وفيها، افتتحت قلعة [النقير] «7» من بلاد سيس ودكّت. سنة سبع وثلاثين وسبع مئة «13» افترق جيش العراق بعد موت أبي سعيد وملّكوا اثنين «8» ، ثم التقوا فانتصر

علي باشا وسلطانه موسى وحكموا على أذربيجان وغيرها وقتلوا صبرا الوزير محمد بن الرشيد «1» [والشاب] «2» الذي كان سلطنه أريه كاوون «3» . ثم في أول سنة سبع جاء الخبر بأن التتار اقتتلوا فقتل علي باشا والملك موسى ابن علي بن بيدو بن [طرغية] «4» بن هولاكو «5» فكانت دولته ثلاثة أشهر ودولة المقتول قبله ستة أشهر وتمكن الشيخ حسين بن آقبغا «6» واسم سلطانه «7» والصبي الذي سلطنه. وتوفي المحدث الصالح محب الدين عبد الله بن أحمد بن المحب المقدسي «8» كهلا «9» .

وشيخ نابلس الإمام شمس الدين عبد الله بن العفيف محمد بن يوسف «1» عن [ثمان وثمانين] «2» سنة. وتوفي بمصر في جماد (ى) الآخرة مسندها شرف الدين يحيى بن يوسف المقدسي ثم المصري «3» وقد جاوز التسعين. والشيخ الكبير المتزهد محمد بن عبد الله بن المجد المرشدي «4» بقريته «5» ، ويحكى عنه أحوال وإطعام كثير (412) جاوز الوصف، ويقال كان [مخدوما] «6» حتى قيل: إنه أنفق في ثلاث ليال ما يساوي خمسة وعشرين [ألف] «7» درهم. وفيها، غزا المسلمون بلاد سيس وضايقوا صاحبها حتى سلم ستة حصون «8» ، فصولح بعد على حمل ست مئة ألف في السنة، فأخرب بعض القلاع.

سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة

سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة «13» توفي المعمّر أبو بكر بن محمد بن الرضي المقدسي «1» عن تسع وثمانين سنة، فكان من أعيان المسندين. وفي رمضان، توفي القاضي محيي الدين يحيى بن فضل الله العدوي «2» كاتب السر بمصر عن ثلاث وتسعين سنة ثم نقل في تابوت إلى دمشق، وله رواية عالية ومحاسن وأموال «3» . وفي ذي القعدة، توفي عالم الوقت شيخ الشافعية شرف الدين هبة الله بن عبد الرحيم بن البارزي «4» بحماة عن أزيد من ثلاث وتسعين سنة. صنف التصانيف «5» ، وتخرج به أئمة وقته. وتوفي قاضي القضاة جمال الدين يوسف بن إبراهيم بن جملة الشافعي «6»

سنة تسع وثلاثين وسبع مئة

عن سبع وخمسين سنة، وأعطي قبل موته تدريس الشامية الكبرى «1» . وفيها، بعد موت ابن المجد عبد الله «2» قدم على قضاء دمشق قاضي القضاة جلال الدين «3» . سنة تسع وثلاثين وسبع مئة «13» فيها، زلزلت طرابلس فأخرج من تحت الهدم ستون جنازة. ومات قاضي الشام ومصر جلال الدين محمد بن عبد الرحمن القزويني «4» عن ثلاث وسبعين سنة. والحافظ علم الدين القاسم بن محمد البرزالي «5» محرما عن خمس وسبعين سنة. والإمام بدر الدين أبو اليسر [محمد] «6» [بن] «7» القاضي عز الدين محمد

سنة أربعين وسبع مئة

ابن الصايغ عن ثلاث وستين سنة. وعالم بغداد صفي الدين عبد المؤمن بن عبد الحق الحنبلي «1» ، وله ثمانون سنة. وكبير أمراء دمشق سيف الدين كجكن المنصوري «2» وقد قارب (413) التسعين. سنة أربعين وسبع مئة «13» في شعبان، توفي أمير المؤمنين المستكفي بالله سليمان بن الحاكم «3» ، وهو ابن بضع وخمسين سنة، وخلافته تسع وثلاثون سنة، مات بقوص. وفيها، كان شأن النار السماوية بأعمال طرابلس فأحرقت من الشجر والزرع والخشب فكانت آية، وأطفئت. [ونزلت من السماء نار] «4» ، وأحرقت قبّة أخشاب في عين الفيجة وثلاثة بيوت، وكثر الوباء والمرض بالشام. وماتت مسندة الوقت زينب بنت الكمال «5» عن أربع وتسعين سنة بكرا وعذراء.

سنة إحدى وأربعين وسبع مئة إلى سنة خمسين وسبع مئة

والمعمّر الشيخ إبراهيم بن القريشة «1» . وعساكر التتار في اختلاف وبلاء من بعد أبي سعيد، وأهل العراق في غلاء وهرج. وفيها، كان الحريق الكبير في دمشق بالدهشة ثم بقيساريّة القسي، وذهب لأهلها أموالهم وأحرقت المئذنة الشرقية وذلك من فعل النصارى، أقرّ طائفة فصلب أحد عشر بعد أن أخذ منهم قريب من ألف ألف درهم، وأسلم ناس. وفي أواخر ذي الحجة، أمسك تنكز «2» نائب الشام ثم أهلك بالإسكندرية بالسّمّ بعد أيام عن بضع وستين (سنة) ، وناب بعده ألطنبغا. سنة إحدى وأربعين وسبع مئة إلى سنة خمسين وسبع مئة سنة إحدى وأربعين وسبع مئة «13» في المحرم، وسّط طغية وجنغية «3» . ومات شيخ خانقاه الجاولي «4» العلامة افتخار الدين جابر بن بركة الخوارزمي «5» عن بضع وسبعين سنة.

والملك أنوك بن الملك الناصر رحمه الله «1» . وزاهد الوقت الشيخ محمد بن أحمد بن تمّام «2» عن تسعين سنة. وشيخ الشافعية بمصر ابن القمّاح «3» عن سبعين سنة «4» . والعابدة أم محمد «5» زوجة الحافظ المزّي «6» . والأمير صلاح الدين يوسف بن السلطان الملك الأوحد «7» . والزاهد خالد بن بدر «8» بدمشق.

والمقرئ العابد محمد بن عبيدان «1» ، وله نحو الثمانين ببعلبك. والمسند علي بن علي (414) الصّيرفي «2» في عشر الثمانين. [وفيها «3» ، ضربت رقبة عثمان الدّوكالي الزنديق على الإلحاد والباجربقية، وكان قد سمع منه من الزندقة ما لم يسمع من غيره، لعنه الله. وفيها، زينت دمشق وغيرها زينة مليحة لعافية السلطان الملك الناصر «4» ] . وفي يوم الأربعاء ثامن عشري ذي الحجة وردت الأخبار بوفاة سلطان الإسلام السلطان الملك الناصر بن الشهيد الملك المنصور قلاوون الصالحي رحمه الله تعالى، وحصل للمسلمين بموته [ألم عظيم] «5» لأنهم لم [يلقوا] «6» منه إلا خيرا، رحمه الله تعالى وعوضه الجنة عن ستين سنة. وعهد عند موته لولده السلطان الملك المنصور أبي بكر «7» ، فجلس على كرسي المملكة بعد موت والده بثلاثة أيام، وضربت البشائر له في الدنيا، جعله الله مباركا على المسلمين.

سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة

سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة «13» في المحرم، بايع مولانا السلطان الملك المنصور: الخليفة الحاكم بأمر الله [أبا] «1» العباس أحمد ابن الخليفة المستكفي بالله أبي الربيع سليمان «2» (وهو) من كان قد عهد إليه والده، ولم يبايع في حياة الملك الناصر فلما ولي ولده أمر بمبايعته فبويع وجلس معه السلطان على كرسي الملك، وبايعه القضاة وغيرهم، والحمد لله. وفي شهر صفر، توفي شيخ الإسلام الحافظ جمال الدين المزّي «3» صاحب التصانيف «4» عن ثمان وثمانين سنة، رحمه الله تعالى. [وفي شهر صفر] «5» ، تواترت الأخبار بفساد الملك المنصور وشربه للخمور حتى قيل إنه جامع زوجات أبيه- ثبت الله إيماننا- ثم خلع من السلطنة، وأرسل إلى قوص فأقام بها، وأمر قوصون واليها بقتله فقتل رحمه الله، وتسلطن أخوه الملك الأشرف كجك «6» ، وهو ابن ثماني سنين، جعل الله العاقبة إلى خير. وفي شهر جمادى الأخر (ة) ، أمر قوصون، وقد كان من بعض خواصّ الملك

الناصر، الفخري «1» وسير معه ثماني مئة نفس لحصار السلطان أحمد بن الملك الناصر «2» بقلعة الكرك، وأرسل معه أيضا إلى نائب دمشق ألطنبغا (415) وأمره أن يسير إلى نائب حلب طشتمر «3» وأن يقاتله، وكان طشتمر قد امتنع من مبايعة السلطان الملك الأشرف [كجك] «4» ، فسار ألطنبغا في جيش دمشق وهو في عشرة آلاف، وأمدّ بمال من قوصون إلى أن وصل إلى حلب، فلما سمع طشتمر بقدومه استعظم قتال المسلمين فهرب في بعض خواصّه إلى درندة فدخل ألطنبغا بالجيش إلى حلب فنهب أمواله وأثاثه وحواصله ثم عوج الفخري إلى دمشق بعد محاصرة الكرك أياما وبايع صاحبها السلطان أحمد وأتى بمن معه فبايعه من بقي من الجيش الذين تأخروا عن حلب، فاشتد أمر الفخري قليلا ثم ذهب إلى ثنية العقاب وأخذ من مخزن الأيتام أربع مئة ألف درهم، وكان ألطنبغا قد استدان منه مئة ألف درهم عثره الله فهو الذي فتح الباب ف إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ «5» ، كل ذلك وألطنبغا في حلب، فلما وصله خبر ما جرى

بدمشق رجع على عقبه رادا فلما قرب من دمشق قدم بعض الأمراء إلى الفخري وبايعه، ثم أرسل الفخري القضاة إلى ألطنبغا في أن يقدم بلا قتال، وأن يحقن دماء المسلمين في شهر الله الأصم كل ذلك ألقوا في نفسه ويأبى، وأقام على ذلك أياما حتى هلك بعض الجيش من الجوع والقلة، وكان الفخري قد استعان بأهل كسروان الجبلية والحرافيش «1» ودفع لهم مالا ثم لبس كل الفريقين عدد القتال، فلما قربت الوقعة قدمت الميسرة إلى الفخري ثم تبعتها الميمنة، وبقي ألطنبغا في أميرين أحدهما المرقبي «2» والآخر ابن الأبوبكريّ «3» والثالث الحاج رقطاي «4» نائب طرابلس، فمضى الثلاثة بقليل من الخيل إلى مصر، ثم أرسل الفخري إلى دمشق فدقّت البشائر بالنصر، ثم أرسل إلى الكرك (416) فأعلم صاحبها بالنصر، ثم خطب له بدمشق وغزة والقدس، فلما أن وصل ألطنبغا ومن معه إلى مصر تغير أمر قوصون واختلف عليه، وكان قد غلب على الأشرف لصغره، وصار الأمر له فقبض عليه أيدغمش» أمير آخور الناصر رحمه الله، ونهب دياره واتفق هو و [المصريون] «6» على إرساله إلى إسكندرية، وقيد ألطنبغا وحبس بمصر، فلما وصل إلى طشتمر ما جرى قدم من درندة إلى دمشق فاجتمع الفخري بالقضاة وخرجوا إلى لقيّه بكل ما يحتاج إليه، ثم أقام طشتمر بدمشق أياما، ثم عزم على الرحيل إلى مصر هو والفخري ومن معهما.

واستهلت سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة

وفي أواخر رمضان، عزم السلطان الملك الناصر على مصر فخرج من الكرك ومعه جماعة قليلة فدخل مصر، وعمل أعزية لوالده ولأخيه ثم جلس على كرسي الملك هو والخليفة، وبويع وعقد المبايعة بينهما قاضي القضاة تقي الدين السّبكي «1» وكان قد سار هو ورفقاؤه الثلاثة وخلع السلطان عليهم خلعا سنيّة، وزينت مصر عشرين يوما أو أزيد، فلما وصلت الأخبار بجلوسه على كرسي الملك زينت له البلد سبعة أيام، ودقّت البشائر والمغاني، ولله الحمد على ذلك، ثم أمر بغرق ألطنبغا «2» وقوصون «3» في البحر فأعدموا. وفي شهر ذي الحجة أمر مولانا السلطان بتوسيط الفخري وطشتمر فوسّطا بالكرك. واستهلت سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة «13» في شهر الله المحرم، تواترت الأخبار برجوع السلطان الملك الناصر إلى قلعة الكرك بعد أن أخذ الأموال التي بقلعة الجبل وتحجب عن الناس ونسبت إليه أشياء قبيحة لا تليق بالملوك، فانقلب عسكر الشام (417) إلى مصر فخلعوه وولوا السلطان الملك الصالح إسماعيل بن الملك الناصر «4» ، فوردت الأخبار إلى

دمشق بذلك وضربت البشائر وزينت دمشق سبعة أيام. وفي شهر ربيع الآخر، رسم السلطان أعزّ الله أنصاره أن تحاصر الكرك لأجل سلطانها الملك شهاب الدين أحمد، وأظهر أن السبب إنما هو ما أخذه عند رواحه من قلعة الجبل، فتحصن بها ونصب المجانيق وسيّر جيشا يسيرا من دمشق وكذلك من مصر، وبعد ليال وقعت بينهما وقعة قتل فيها من الكرك قريب الخمس مئة، ومن الغرباء قريب المئتين، وحصل بسبب ذلك غلاء كثير حتى وصل الخبز الرطل بدرهمين، جعل الله العاقبة إلى خير. وفي شهر جمادى الأولى، زينت دمشق بسبب عافية السلطان [وكان قد مرض] «1» . وفي مستهل جمادى الآخرة، توفي ثالث يوم منه «2» الأمير علاء الدين أيدغمش «3» ودفن بالقبيبات وكانت سيرته حسنة. وفي شهر رمضان، توفي الأديب تاج الدين عبد الباقي اليماني «4» وكان فاضلا. وفي مستهل شوال، خرج الأمير ركن الدين بيبرس الأحمدي «5» من مصر ومعه جيش لحصار الكرك، وكذلك خرج من دمشق جيش كثير وأقاموا على الحصار العظيم بالمجانيق والنفط وغير ذلك، ووقع الغلاء إلى أن بلغ الخبز بها

سنة أربع وأربعين وسبع مئة

الأوقية بدرهم، ووقع في هذه المدة أيضا الغلاء بدمشق، وأكل الناس الشعير، وبلغت الغرارة بدمشق إلى مئتين، واستجرّ الحصار إلى انقضاء هذه السنة، ف إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ «1» . سنة أربع وأربعين وسبع مئة «13» في أولها، جهز البدل إلى الكرك، وقدم من كان بها، وقتل جماعة من (418) الشاميين. وفي جمادى الأولى، توفي الإمام شمس الدين محمد بن عبد الهادي «2» عن ست وأربعين سنة، وكان بحرا في العلم. [وفي] «3» شهر جمادى الآخرة، قتل إبراهيم بن يوسف بن أبي بكر المقصاتي «4» الرافضي إلى لعنة الله، وشهد عليه بشتم الصحابة رضي الله عنهم، وقذف عائشة رضي الله عنها، ووقع في حق جبريل عليه السلام «5» .

تم الجزء المبارك وهو آخر جزء من كتاب «مسالك الأبصار في ممالك الأمصار» جمع الشيخ الإمام العلامة شهاب الدين أبي العباس أحمد بن يحيى بن فضل الله العمري الشافعي رحمة الله تعالى عليه، وذلك في ثامن عشري شعبان المبارك عام تسعة عشر وثماني مئة من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلوات والسلام إن شاء الله تعالى، والحمد لله وحده، وصلوا على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

فهرس المصادر والمراجع

فهرس المصادر والمراجع 1- المصادر 1- القرآن الكريم ابن الأثير: عز الدين علي بن محمد (ت 630 هـ/ 1233 م) 2- الكامل في التاريخ، 12 جزءا دار صادر ودار بيروت، بيروت، 1965- 1967 م. ابن إياس: محمد بن أحمد المصري الحنفي (ت 930 هـ/ 1523 م) 3- بدائع الزهور في وقائع الدهور، 5 أجزاء، ط 2،+ 3 أجزاء فهارس تحقيق: محمد مصطفى، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1982- 1986 م ابن أيبك الدواداري: أبو بكر بن عبد الله (ت بعد 736 هـ/ 1336 م) 4- كنز الدرر وجامع الغرر * الجزء الثامن: الدرة الزكية في أخبار الدولة التركية. تحقيق: أولرخ هارمان، (O.Harmann) القاهرة، 1971 م* الجزء التاسع: الدر الفاخر في سيرة الملك الناصر. تحقيق: هانس روبرت رومر، (R.H Roemer.) القاهرة، 1960 م ابن بطوطة: محمد بن عبد الله اللواتي الطنجي (ت 779 هـ/ 1377 م) 5- رحلته «تحفة النظار في غرائب الأمصار»

دار صادر، بيروت (لا. ت) ابن تغري بردي: يوسف بن تغري بردي (ت 874 هـ/ 1470 م) 6- المنهل الصافي والمستوفى بعد الوافي * الأجزاء: 1، 2، 4 (طبعة جديدة) ، تحقيق: محمد محمد أمين * الجزء الثالث: تحقيق: نبيل محمد عبد العزيز، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1984- 1986 م 7- الدليل الشافي على المنهل الصافي، جزءان تحقيق: فهيم محمد شلتوت، منشورات مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي بجامعة أم القرى، مكتبة الخانجي القاهرة، 1983 م 8- النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، 16 جزءا * الأجزاء: 1- 12، دار الكتب المصرية، القاهرة، 1929- 1956 م * الأجزاء: 13- 16، الهيئة المصرية العامة للكتاب، والهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، القاهرة، 1970- 1972 م ابن حبيب: الحسن بن عمر بن حبيب الحلبي (ت 779 هـ/ 1377 م) 9- تذكرة النبيه في أيام المنصور وبنيه، 3 أجزاء تحقيق: محمد محمد أمين، مركز تحقيق التراث، القاهرة، 1976- 1982 م ابن حجر: أحمد بن علي العسقلاني (ت 852 هـ/ 1448 م) 10- إنباء الغمر بأبناء العمر، ط 1

مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد الدكن بالهند، 1967- 1968 م 11- الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، 4 أجزاء الجهة نفسها، 1348- 1350 هـ ابن خلدون: عبد الرحمن بن محمد الحضرمي (ت 808 هـ/ 1406 م) 12- تاريخه «العبر وديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» ، 7 أجزاء، ط 1 تحقيق: تركي فرحان المصطفى، دار إحياء التراث العربي، ومؤسسة التاريخ العربي، بيروت، 1419 هـ/ 1999 م (قلت: وهذا التاريخ بالرغم من أهميته لم يحظ حتى الآن في جميع طبعاته بأي من الحدود الدنيا لشروط التحقيق، فقد يطالعك الاسم الواحد فيه برسمين مختلفين وليس بينهما سوى ضربة معول، وقد ترى الحادثة تدور في سنة 557 هـ وربما تجاوزت خيوطها هذا التاريخ، ثم تطوى صفحتها مع وفاة صاحبها، لكن في سنة 536 هـ!) ابن خلكان: أحمد بن محمد بن إبراهيم (ت 681 هـ/ 1282 م) 13- وفيات الأعيان، 8 أجزاء تحقيق: إحسان عباس، دار صادر، بيروت، 1968- 1972 م ابن دقماق: إبراهيم بن محمد بن أيدمر (ت 809 هـ/ 1407 م) 14- الانتصار لواسطة عقد الأمصار تحقيق: كارل فوللرس، (K.Vollers.) القاهرة، 1893 م، أعادت

تصويره دار الآفاق الجديدة، بيروت (لا. ت) 15- الجوهر الثمين في سير الخلفاء والملوك والسلاطين تحقيق: سعيد عبد الفتاح عاشور، منشورات مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي بجامعة أم القرى (لا. ت) ابن الديبع: عبد الرحمن بن علي بن محمد (ت 944 هـ/ 1537 م) 16- بغية المستفيد في أخبار مدينة زبيد تحقيق: عبد الله الحبشي، مركز الدراسات اليمانية، صنعاء، 1979 م 17- قرة العيون بأخبار اليمن الميمون، ط 2 تحقيق: محمد بن علي الأكوع الحوالي، (لا. م) ، 1409 هـ/ 1988 م ابن رافع: محمد بن رافع السلامي (ت 774 هـ/ 1373 م) 18- الوفيات، جزءان، ط 1 تحقيق: صالح مهدي عباس، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1402 هـ/ 1982 م ابن رجب: عبد الرحمن بن أحمد البغدادي (ت 795 هـ/ 1393 م) 19- ذيل طبقات الحنابلة، جزءان (3- 4) طبع مع «الطبقات» لابن الفراء، تحقيق: الشيخ محمد حامد الفقي، مطبعة السنة المحمدية، القاهرة، 1952- 1953 م ابن الساعاتي: علي بن محمد بن رستم (ت 604 هـ/ 1207 م) 20- ديوان ابن الساعاتي، جزءان تحقيق: أنيس المقدسي، منشورات كلية العلوم والآداب، الجامعة

الإمريكية، بيروت، 1939 م ابن سعيد المغربي: علي بن موسى بن محمد (ت 685 هـ/ 1286 م) 21- الجغرافيا، ط 1 تحقيق: إسماعيل العربي، المكتب التجاري، بيروت، 1970 م ابن سناء الملك: هبة الله بن جعفر (ت 608 هـ/ 1211 م) 22- ديوان ابن سناء الملك اعتنى بتصحيحه: محمد عبد الحق، دار الجيل، بيروت، 1975 م ابن شاكر: محمد بن شاكر الكتبي (ت 764 هـ/ 1363 م) 23- عيون التواريخ * الجزء التاسع عشر، مصورة معهد المخطوطات العربية بالكويت، رقم: 1362 عن مخطوط مكتبة شستربتي، رقم: 4251 * الجزء العشرون، ط 1، تحقيق فيصل السامر، ونبيلة عبد المنعم داود، دار الرشيد، بغداد، 1980 م 24- فوات الوفيات، 5 أجزاء، ط 1 تحقيق: إحسان عباس، دار صادر، بيروت، 1973 م ابن شاهين الملطي: عبد الباسط بن خليل (ت 920 هـ/ 1514 م) 25- نزهة الأساطين فيمن ولي مصر من السلاطين، ط 1 تحقيق: محمد كمال الدين عز الدين علي، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، 1407 هـ/ 1987 م

(قلت: هذا الكتاب على غاية كبيرة من الأهمية، ولكن بفضل ما توفر له من التحقيق الخطير، بحيث لم يعد «رسالة لطيفة» في أسماء ملوك مصر السلاطين كما أراد له صاحبه وإنما مكتبة قائمة بذاتها لهؤلاء الملوك والسلاطين) ابن شداد: عز الدين محمد بن علي بن إبراهيم (ت 684 هـ/ 1285 م) 26- الأعلاق الخطيرة في ذكر أمراء الشام والجزيرة * الجزء الأول: تاريخ مدينة حلب تحقيق: دومينيك سورديل، (D ,Sourdel) منشورات المعهد الفرنسي بدمشق، 1953 م * الجزء الثاني: القسم الأول: تاريخ مدينة دمشق القسم الثاني: تاريخ لبنان والأردن وفلسطين تحقيق: سامي الدهان، منشورات المعهد الفرنسي بدمشق، المطبعة الكاثوليكية، بيروت، 1956- 1963 م * الجزء الثالث: تاريخ الجزيرة، قسمان تحقيق: يحيى عبارة، منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي في سوريا، 1978 م ابن شداد: بهاء الدين يوسف بن رافع (ت 632 هـ/ 1235 م) 27- النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية تحقيق: جمال الدين الشيال، الدار المصرية للتأليف والترجمة والنشر، 1964 م

ابن طولون: محمد بن علي الصالحي (ت 953 هـ/ 1546 م) 28- القلائد الجوهرية في تاريخ الصالحية، جزءان، ط 2 تحقيق: محمد أحمد دهمان، مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق، 1401 هـ/ 1980 م ابن عبد الظاهر: محيي الدين عبد الله بن عبد الظاهر (ت 692 هـ/ 1292 م) 29- تشريف الأيام والعصور في سيرة الملك المنصور- قلاوون تحقيق: مراد كامل، الشركة العربية للطباعة والنشر، القاهرة، 1961 م 30- الروض الزاهر في سيرة الملك الظاهر- بيبرس تحقيق: عبد العزيز الخويطر، الرياض، 1396 هـ/ 1976 م ابن عبد المجيد: عبد الباقي بن عبد المجيد اليمني (ت 743 هـ/ 1343 م) 31- بهجة الزمن في تاريخ اليمن، ط 1 تحقيق: عبد الله محمد الحبشي، دار الحكمة اليمانية، صنعاء، 1408 هـ/ 1988 م ابن العبري: غريغوريوس بن هارون الملطي (ت 685 هـ/ 1286 م) 32- تاريخ مختصر الدول اعتناء الأب أنطوان الصالحاني، المطبعة الكاثوليكية، بيروت، 1958 م ابن عذاري: أحمد بن محمد (كان حيا سنة 712 هـ/ 1312 م) 33- البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب، 4 أجزاء

* الأجزاء: 1- 3، ط 3، تحقيق: ج. س. كولان، (.S.G colin) وأ. ليفي بروفنسال. (L.Provencal.) * الجزء الرابع: تحقيق: إحسان عباس، دار الثقافة، بيروت، 1983 م ابن العماد: عبد الحي بن أحمد بن محمد الحنبلي (ت 1089 هـ/ 1678 م) 34- شذرات الذهب في أخبار من ذهب، 8 أجزاء، ط 2 مطبعة دار المسيرة، بيروت، 1399 هـ/ 1979 م ابن العميد: المكين جرجس (ت 672 هـ/ 1273 م) 35- تاريخ المسلمين * أخبار الأيوبيين، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، (لا. ت) 35- تاريخ المسلمين * أخبار الأيوبيين، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، (لا. ت) ابن عنين: محمد بن نصر بن الحسين (ت 630 هـ/ 1232 م) 36- ديوان ابن عنين تحقيق: خليل مردم بيك، دار صادر، بيروت (لا. ت) ابن الفرات: محمد بن عبد الرحيم بن علي (ت 807 هـ/ 1405 م) 37- تاريخ الدول والملوك، المعروف ب «تاريخ ابن الفرات» * الجزءان السابع الثامن، تحقيق: قسطنطين زريق، ونجلاء عز الدين، منشورات الجامعة الإمريكية، بيروت، 1936- 1942 م ابن فضل الله العمري: مؤلف الكتاب 38- التعريف بالمصطلح الشريف، ط 1

تحقيق: محمد حسين شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، 1408 هـ/ 1988 م ابن قاضي شهبة: تقي الدين أبو بكر بن أحمد بن محمد (ت 851 هـ/ 1448 م) 39- الإعلام بتاريخ الإسلام * الجزء الثاني: مخطوط مكتبة بودليانا باكسفورد143.MS.Marsh، 40- طبقات الشافعية، مجلدان في أربعة أجزاء، ط 1 تحقيق: عبد العليم خان، دار الندوة الجديدة، بيروت، 1407- 1408 هـ/ 1987 م ابن كثير: إسماعيل بن عمر (ت 774 هـ/ 1373 م) 41- البداية والنهاية، 14 جزءا مطبعة السعادة، القاهرة، 1351- 1358 هـ (قلت: وهو تاريخ نفيس، وقد أفاد ناشروه من سمعة صاحبه كمفسر ومؤرخ مرموق، فغمروا المكتبات بطبعاته، وكلها لا تختلف عن الطبعة القديمة له (ط. مطبعة السعادة بمصر) إلا في الحجم، أو لون الورق، أو شكل الحرف أو بعض الحواشي التزيينية، أما مضمون الكتاب بما خالطه على مر العصور وتعاقب النساخ من تحريف وتصحيف وأخطاء فلا يزال على هيئته منذ أن خرج إلى الدنيا لأول مرة على يد المطبعة المذكورة) ابن مطروح: جمال الدين يحيى بن عيسى (ت 649 هـ/ 1251 م)

42- شعر ابن مطروح جمع وتحقيق: جودت أمين حسن علي، رسالة ماجستير، جامعة القاهرة، 1976 م ابن الملقن: سراج الدين عمر بن علي بن أحمد (ت 804 هـ/ 1401 م) 43- العقد المذهب في طبقات حملة المذهب، ط 1 تحقيق: أيمن نصر الأزهري، وسيد مهنى، دار الكتب العلمية، بيروت، 1407 هـ/ 1997 م ابن منظور: جمال الدين محمد بن مكرم (ت 711 هـ/ 1311 م) 44- لسان العرب، 18 مجلدا، ط 2 نشر: أمين محمد عبد الوهاب، ومحمد الصادق العبيدي، دار إحياء التراث العربي ومؤسسة التاريخ العربي، بيروت، 1417 هـ/ 1997 م ابن واصل: محمد بن سالم بن نصر الله (ت 696 هـ/ 1298 م) 45- مفرج الكروب في أخبار بني أيوب تحقيق: جمال الدين الشيال، القاهرة، 1953- 1957 م ابن الوردي: عمر بن مظفر بن عمر (ت 749 هـ/ 1349 م) 46- تتمة المختصر في أخبار البشر، جزءان، ط 1 تحقيق: أحمد رفعت البدراوي، دار المعرفة، بيروت، 1389 هـ/ 1970 م أبو تمام: حبيب بن أوس الطائي (ت 231 هـ/ 846 م)

47- ديوان الحماسة، 4 أجزاء في مجلدين، ط 1 بشرح أبي علي أحمد بن محمد بن الحسن المرزوقي، تحقيق: أحمد أمين، وعبد السلام هارون، دار الجيل، بيروت، 1411 هـ/ 1991 م أبو شامة: عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسي (ت 665 هـ/ 1267 م) 48- الذيل على الروضتين نشره: السيد عزت العطار الحسيني باسم «تراجم رجال القرنين السادس والسابع الهجريين» ، القاهرة، 1947 م 49- الروضتين في أخبار الدولتين- النورية والصلاحية، 5 أجزاء، ط 1 تحقيق: إبراهيم الزيبق، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1418 هـ/ 1997 م (قلت: وهو تحقيق نفيس أفدت من حواشيه كثيرا، وقيدت منه ما ليس عندي من المصادر وبخاصة الأيوبية- الصلاحية مما لا يستوي معه هذا العمل دون إحالة القارئ إليها) أبو الفدا: إسماعيل بن علي بن محمود (ت 732 هـ/ 1332 م) 50- تقويم البلدان نشره: رينو (T.J Reinaud.) ودي سلان، (C.M De Slane.) دار الطباعة السلطانية، باريس، 1840 م 51- المختصر في أخبار البشر، 4 أجزاء المطبعة الحسينية بمصر، 1325 هـ الإسنوي: جمال الدين عبد الرحيم بن الحسن (ت 772 هـ/ 1370 م)

52- طبقات الشافعية، ط 2 تحقيق: عبد الله الجبوري، دار العلوم للطباعة والنشر، الرياض، 1401 هـ/ 1981 م الأنصاري: عبد العزيز بن محمد بن عبد المحسن (ت 662 هـ/ 1264 م) 53- ديوان الصاحب شرف الدين الأنصاري تحقيق: عمر موسى باشا، مطبوعات مجمع اللغة العربية، دمشق، 1967 م بامخرمة: الطيب بن عبد الله بن أحمد (ت 947 هـ/ 1540 م) 54- تاريخ ثغر عدن، ط 2 نشره: علي حسن علي عبد المجيد، دار الجيل، بيروت، ودار عمار، عمان، 1408 هـ/ 1987 م البخاري: محمد بن إسماعيل بن إبراهيم (ت 256 هـ/ 870 م) 55- صحيح البخاري، 4 مجلدات، ط 1 دار الفكر، بيروت، 1411 هـ/ 1991 م البدري: أبو البقاء أبو بكر بن عبد الله (ت 884 هـ/ 1476 م) 56- نزهة الأنام في محاسن الشام، ط 1 دار الرائد العربي، بيروت، 1980 م البلاذري: أحمد بن يحيى بن جابر (ت 279 هـ/ 892 م) 57- فتوح البلدان تحقيق: رضوان محمد رضوان، دار الكتب العلمية، بيروت، 1978 م

الجندي: محمد بن يوسف بن يعقوب (ت ما بين 730 و 733 هـ) 58- السلوك في طبقات العلماء والملوك، جزءان، ط 2 تحقيق: محمد بن علي الأكوع الحوالي، مكتبة الإرشاد، صنعاء، 1414- 1416 هـ حاجي خليفة: مصطفى بن عبد الله المعروف بكاتب جلبي (ت 1067 هـ/ 1656 م) 59- كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، جزءان طبعة إستانبول، 1941 م الحسيني: صدر الدين علي بن ناصر (ت بعد 622 هـ/ 1225 م) 60- زبدة التواريخ، ط 2 دار اقرأ، بيروت، 1406 هـ/ 1986 م الحسيني: محمد بن علي بن الحسن (ت 765 هـ/ 1364 م) 61- ذيل العبر- للذهبي، ط 1 نشره: أبو هاجر محمد السعيد بن بسيوني زغلول مع «ذيل العبر- للذهبي» ، دار الكتب العلمية، بيروت، 1405 هـ/ 1985 م الحميري: محمد بن عبد المنعم (ت ترجيحا 727 هـ/ 1327 م) 62- الروض المعطار في خبر الأقطار، ط 2 تحقيق: إحسان عباس، مؤسسة ناصر للثقافة، بيروت، 1980 م الخزرجي: علي بن الحسن (ت 812 هـ/ 1409 م)

63- العقود اللؤلؤية في تاريخ الدولة الرسولية، جزءان، ط 2 عني بتصحيحه: محمد بن علي الأكوع الحوالي، مركز الدراسات والبحوث اليمني، صنعاء، 1403 هـ/ 1983 م دعبل: دعبل بن علي الخزاعي (ت 246 هـ/ 860 م) 64- شعر دعبل بن علي الخزاعي، ط 2 صنعة: عبد الكريم الأشتر، مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق، 1403 هـ/ 1983 م الذهبي: محمد بن أحمد بن عثمان (ت 748 هـ/ 1347 م) 65- تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام، 21 جزءا * الجزء 21: مخطوط مكتبة المتحف البريطاني بلندن، رقم1540.or: 66- دول الإسلام، جزءان تحقيق: فهيم محمد شلتوت، ومحمد مصطفى إبراهيم، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1974 م 67- سير أعلام النبلاء، 23 جزءا، ط 1 باعتناء مجموعة من المحققين، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1401 هـ/ 1981 م 68- العبر في خبر من عبر، 3 أجزاء متسلسلة+ الجزء الرابع وهو: 69- ذيل العبر طبعا معا بالإضافة إلى «ذيل العبر- للحسيني» المقدم ذكره، دار الكتب العلمية، بيروت، 1405 هـ/ 1985 م

70- معرفة القراء الكبار على الطبقات والأعصار، جزءان، ط 1 تحقيق: بشار عواد معروف، وشعيب الأرناؤوط، وصالح مهدي عباس، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1404 هـ/ 1984 م رشيد الدين: فضل الله رشيد الدين بن أبي الخير بن علي (ت 716 هـ/ 1316 م) 71- جامع التواريخ * تاريخ خلفاء جنكيز خان، من أوكتاي قاآن إلى تيمورقاآن، ط 1 نقله من الفارسية: فؤاد عبد المعطي الصياد، وراجعه وقدم له: يحيى الخشاب، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، بيروت، 1983 م * تاريخ المغول، المجلد الثاني، الجزء الأول: الإيلخانيون: تاريخ هولاكو مع مقدمة كاترمير (E.M.Quatremere) نقله من الفارسية إلى العربية: محمد صادق نشأت، ومحمد موسى هنداوي، والصياد، وترجم مقدمة كاترمير عن الفرنسية: محمد محمد القصاص، مطبعة عيسى البابي الحلبي، القاهرة، 1960 م * تاريخ المغول، المجلد الثاني، الجزء الثاني: الايلخانيون: تاريخ ابناء هولاكو خان من آباقا خان إلى كيخاتو خان نقله من الفارسية إلى العربية: نشأت والصياد، وراجعه: الخشاب، المطبعة نفسها، التاريخ نفسه الزبيدي: المرتضى محمد بن الزبيدي (ت 1205 هـ/ 1790 م) 72- ترويح القلوب في ذكر الملوك بني أيوب، ط 2

تحقيق: صلاح الدين المنجد، دار الكتاب الجديد، بيروت، 1983 م الزهري: محمد بن أبي بكر (ت بعد 541 هـ/ 1154 م) 73- الجغرافية تحقيق: محمد حاج صادق، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، (لا. ت) سبط ابن الجوزي: يوسف بن قزأوغلي (ت 654 هـ/ 1256 م) 74- مرآة الزمان في تاريخ الأعيان، المجلد الثامن، ط 1 مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن بالهند، 1370 هـ/ 1951- 1952 م السبكي: عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي (ت 771 هـ/ 1370 م) 75- طبقات الشافعية، 6 أجزاء نشره: أحمد بن عبد الكريم القادري الحسني، المطبعة الحسينية، القاهرة، 1324 هـ السيوطي: محمد بن عبد الرحمن بن محمد (ت 911 هـ/ 1505 م) 76- تاريخ الخلفاء، ط 1 تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، مطبعة السعادة، القاهرة، 1371 هـ/ 1952 م 77- حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة، جزءان، ط 1 تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة،

1387 هـ/ 1967- 1968 م 78- طبقات الحفاظ، ط 1 دار الكتب العلمية بيروت، 1403 هـ/ 1983 م الشوكاني: محمد بن علي بن محمد (ت 1250 هـ/ 1834 م) 79- البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع، جزءان، ط 1 مطبعة السعادة بمصر، 1348 هـ الصفدي: خليل بن أيبك (ت 764 هـ/ 1363 م) 80- الوافي بالوفيات باعتناء مجموعة من المحققين، منشورات جمعية المستشرقين الألمان، عدة مطابع، 1931- 1982 م الصقاعي: فضل الله بن أبي الخير (ت 726 هـ/ 1326 م) 81- تالي كتاب وفيات الأعيان تحقيق: جاكلين سوبلة، (J.Sublet.) منشورات المعهد الفرنسي بدمشق، 1974 م الطبري: محمد بن جرير (ت 310 هـ/ 923 م) 82- تاريخه «تاريخ الرسل والملوك» ، 10 أجزاء، ط 3 تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف بمصر (لا. ت) عرقلة الكلبي: حسان بن نمير (ت 567 هـ/ 1171 م) 83- ديوان عرقلة الكلبي

تحقيق: أحمد الجندي، مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق، 1970 م العليمي: مجير الدين عبد الرحمن بن محمد (ت 928 هـ/ 1522 م) 84- الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل، جزءان مكتبة المحتسب، عمان، 1973 م العماد الأصبهاني: محمد بن محمد (ت 597 هـ/ 1201 م) 85- تاريخ دولة آل سلجوق، ط 3 اختصار الشيخ الفتح بن علي بن محمد البنداري، دار الآفاق الجديدة، بيروت، 1400 هـ/ 1980 م 86- ديوان العماد الأصفهاني جمع وتحقيق: ناظم رشيد، بغداد، 1983 م 87- الفتح القسي في الفتح القدسي تحقيق: محمد محمود صبح عمارة اليمني: (ت 569 هـ/ 1174 م) 88- تاريخ اليمن المسمى «المفيد في أخبار صنعاء وزبيد» ، ط 3 تحقيق: محمد بن علي الأكوع الحوالي، المكتبة اليمنية للنشر والتوزيع، صنعاء، 1985 م العيني: بدر الدين محمود بن أحمد بن موسى (ت 855 هـ/ 1451 م) 89- عقد الجمان في تاريخ أهل الزمان * الجزء التاسع عشر: نسخة مصورة عن مخطوط خزانة ولي الدين أفندي

بمكتبة بايزيد باستنبول رقم: 2392 الفاسي: تقي الدين محمد بن أحمد بن علي (ت 832 هـ/ 1429 م) 90- شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام، جزءان دار الكتب العلمية، بيروت (لا. ت) 91- العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين، 8 أجزاء تحقيق: محمد حامد الفقي، وفؤاد سيد، ومحمود الطناحي، مطبعة السنة المحمدية، القاهرة، 1958- 1969 م القلقشندي: أحمد بن علي بن أحمد (ت 821 هـ/ 1418 م) 92- صبح الأعشى في صناعة الإنشاء، الجزء 14، ط 1 نسخة مصورة عن الطبعة الأميرية، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، القاهرة، 1405 هـ/ 1985 م لسان الدين: محمد بن عبد الله بن الخطيب (ت 776 هـ/ 1374 م) 93- الإحاطة في أخبار غرناطة، 4 مجلدات، مج 1 ط 2، مج 2- 4، ط 1 تحقيق: محمد عبد الله عنان، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1973- 1977 م 94- اللمحة البدرية في الدولة النصرية، ط 3 دار الآفاق الجديدة، بيروت، 1400 هـ/ 1980 95- معيار الاختيار في ذكر المعاهد والديار تحقيق: محمد كمال شبانة، مطبعة فضالة بالمحمدية، المغرب (لا. ت) المتنبي: أحمد بن الحسين (ت 354 هـ/ 965 م)

96- ديوان أبي الطيب المتنبي، مجلدان، ط 1 بشرح الشيخ ناصيف اليازجي المسمى «العرف الطيب في شرح ديوان أبي الطيب» ، دار مكتبة الهلال، بيروت، 1996 م مسلم: مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري (ت 261 هـ/ 874 م) 97- صحيح مسلم بشرح النووي، 18 جزءا، ط 1 تحقيق: خليل مأمون شيحا، دار المعرفة، بيروت، 1414 هـ/ 1994 م المقري: أحمد بن محمد بن أحمد التلمساني (ت 1041 هـ/ 1631 م) 98- نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، 8 أجزاء تحقيق: إحسان عباس، دار صادر، بيروت، 1388 هـ/ 1986 م المقريزي: تقي الدين أحمد بن علي (ت 845 هـ/ 1442 م) 99- السلوك لمعرفة دول الملوك، 4 أجزاء * الجزءان الأول والثاني: (6 أقسام) ، تحقيق: محمد مصطفى زيادة، دار الكتب المصرية، 1934- 1958 م * الجزءان الثالث والرابع: (6 أقسام) ، تحقيق: سعيد عبد الفتاح عاشور، الدار نفسها، 1970- 1972 م 100- المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، جزءان طبعة بولاق، 1270 هـ/ 1854 م المنذري: زكي الدين عبد العظيم بن عبد القوي (ت 656 هـ/ 1258 م) 101- التكملة لوفيات النقلة، 4 أجزاء، ط 3

تحقيق: بشار عواد معروف، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1405 هـ/ 1984 م المنصوري: بيبرس بن عبد الله المعروف بالدوادار (ت 725 هـ/ 1325 م) 102- زبدة الفكرة في تاريخ الهجرة، ج 9 مخطوط مكتبة المتحف البريطاني، رقمAdd.23325: الميداني: أحمد بن محمد بن أحمد (ت 518 هـ/ 1124 م) 103- مجمع الأمثال، 4 أجزاء تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، مطبعة عيسى البابي وشركاه، 1398 هـ/ 1978 م اليافعي: عبد الله بن أسعد (ت 768 هـ/ 1367 م) 104- مرآة الجنان وعبرة اليقظان، 4 أجزاء مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن بالهند، 1337- 1339 هـ ياقوت: ياقوت بن عبد الله الحموي (ت 626 هـ/ 1229 م) 105- المشترك وضعا والمفترق صقعا، ط 2 عالم الكتب، بيروت، 1406 هـ/ 1986 م 106- معجم الأدباء أو إرشاد الأديب إلى معرفة الأديب، 6 مجلدات، ط 1 دار الكتب العلمية، بيروت، 1411 هـ/ 1991 م 107- معجم البلدان، 5 أجزاء دار صادر، بيروت، 1397 هـ/ 1977 م

اليوسفي: موسى بن محمد بن يحيى (ت 759 هـ/ 1358 م) 108- نزهة الناظر في سيرة الملك الناصر- محمد بن قلاوون، ط 1 تحقيق ودراسة: أحمد حطيط، عالم الكتب، بيروت، 1406 هـ/ 1986 م اليونيني: موسى بن محمد (ت 726 هـ/ 1326 م) 109- ذيل مرآة الزمان، 4 مجلدات * بعناية: ف. كرنكو، (F.Krenkow.) ومجموعة من العلماء، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن بالهند، 1374- 1380 هـ/ 1954- 1961 م * مصورة مكتبة طوب قابي سرايي باستنبول رقم.Ms 2907/3 -4:

2. المراجع ابن زيني دحلان: أحمد 110- تاريخ الدول الإسلامية بالجداول المرضية، ط 1 تحقيق: محمد رضوان مهنا، مكتبة الإيمان، المنصورة، 1421 هـ/ 2000 م بارتولد: فاسيلي فلاديميروفتش (V.V.Berthold ( 111- مادة «بركة بن جوجي» ، دائرة المعارف الإسلامية (ط. القاهرة، 1933 م) 3/564- 568 بدران: عبد القادر 112- منادمة الأطلال، أو «الآثار الدمشقية والمعاهد العلمية» ، ط 2 المكتب الإسلامي، بيروت، 1405 هـ/ 1985 م البغدادي: إسماعيل باشا 113- هدية العارفين- أسماء المؤلفين وآثار المصنفين، جزءان طبعة إستانبول، 1951- 1955 م البقلي: محمد قنديل 114- التعريف بمصطلحات صبح الأعشى الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1983 م البهنسي: عفيف

115- الشام، لمحات آثارية وفنية دار الرشيد للنشر، بغداد، 1980 م حسين: حمدي عبد المنعم محمد 116- تاريخ المغرب والأندلس في عصر المرابطين مؤسسة شباب الجامعة، الإسكندرية، 1986 م دهمان: محمد أحمد 117- في رحاب دمشق، ط 1 دار الفكر، دمشق، 1402 هـ/ 1982 م 118- معجم الألفاظ التاريخية في العصر المملوكي، ط 1 دار الفكر المعاصر، بيروت، ودار الفكر، دمشق، 1410 هـ/ 1990 م 119- ولاة دمشق في عهد المماليك، ط 2 دار الفكر، دمشق، 1401 هـ/ 1981 م دوزي: رينهارت بيترآن (،R.P.A.Dozy) 120- تكملة المعاجم العربية، 5 أجزاء ترجمة: محمد سليم النعيمي، دار الرشيد، بغداد، 1981 م رنسيمان: ستيفن (S.Runciman.) 121- تاريخ الحروب الصليبية، 3 أجزاء، ط 1 ترجمة: السيد الباز العريني، دار الثقافة، بيروت، 1968 م

الزركلي: خير الدين 122- الأعلام، 8 أجزاء، ط 5 دار العلم للملايين، بيروت، 1980 م سالم: السيد عبد العزيز 123- تاريخ المغرب في العصر الإسلامي، ط 2 مؤسسة شباب الجامعة، الإسكندرية، 1982 م سبانو: أحمد غسان 124- مملكة حماة الأيوبية دار قتيبة، دمشق، 1984 م سرور: محمد جمال الدين 125- تاريخ الحضارة الإسلامية في الشرق دار الفكر العربي، القاهرة، 1965 م شميساني: حسن 126- مدينة سنجار من الفتح العربي الإسلامي حتى الفتح العثماني، ط 1 دار الآفاق الجديدة، بيروت، 1403 هـ/ 1983 م طرخان: إبراهيم علي 127- النظم الإقطاعية في الشرق الأوسط في العصور الوسطى دار الكتاب العربي، القاهرة، 1388 هـ/ 1968 م

عاشور: سعيد عبد الفتاح 128- الحركة الصليبية، جزءان، ط 4 مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1986 م عاشور: فايد حماد 129- العلاقات السياسية بين المماليك والمغول في الدولة المملوكية الأولى دار المعارف بمصر، 1980 م العبادي: أحمد مختار 130- في تاريخ الأيوبيين والمماليك دار النهضة العربية، بيروت، 1995 م العباس بن إبراهيم 131- الإعلام بمن حل مراكش وأغمات من الأعلام، 10 أجزاء تحقيق: عبد الوهاب بن منصور، المطبعة الملكية، الرباط، 1974- 1983 م العريني: السيد الباز 132- الأيوبيون دار النهضة العربية، بيروت (لا. ت) 133- المغول الدار نفسها، 1967 م عكاوي: رحاب

134- الحشاشون، ط 1 دار الحرف العربي، ودار المناهل، بيروت، 1414 هـ/ 1994 م العلبي: أكرم حسن 135- خطط دمشق، ط 1 دار الطباع، دمشق، 1410 هـ/ 1989 م العمري: حسين عبد الله 136- «بنو مهدي» ، الموسوعة اليمنية، (مؤسسة العفيف الثقافية، صنعاء، 1412 هـ/ 1992 م) 1/184- 185 137- «بنو نجاح» ، المصدر نفسه 1/185- 186 قاسم: عبده قاسم 138- دراسات في تاريخ مصر الاجتماعي، ط 2 دار المعارف بمصر، 1983 م 139- اليهود في مصر منذ الفتح العربي حتى الغزو العثماني، ط 1 المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1980 م كحالة: عمر رضا 140- معجم المؤلفين، 15 جزءا مكتبة المثنى، ودار إحياء التراث العربي، بيروت، 1957 م كرد علي: محمد

141- خطط الشام، 6 أجزاء، ط 2 دار العلم للملايين، بيروت، 1969- 1972 م 142- غوطة دمشق، ط 3 دار الفكر، دمشق، 1404 هـ/ 1984 م لسترنج: كي (G.Le Strange.) 143- بلدان الخلافة الشرقية، ط 2 ترجمه عن الإنجليزية: بشير فرنسيس، وكوركيس عواد، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1405 هـ/ 1985 م لين بول: ستانلي (،S.Lane Poole) 144- الدول الإسلامية، قسمان نقله عن التركية: محمد صبحي فرزات، مكتب الدراسات الإسلامية بدمشق، 1394 هـ/ 1974 م مختار باشا: محمد 145- التوفيقات الإلهامية في مقارنة التواريخ الهجرية بالسنين الإفرنكية والقبطية، مجلدان، ط 1 دراسة وتحقيق وتكملة: محمد عمارة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1400 هـ/ 1980 م 146- المعجم الوسيط: إخراج إبراهيم مصطفى وزملائه، مجمع اللغة العربية بالقاهرة، دار الدعوة، استانبول

نسيم: جوزيف 147- تاريخ الدولة البيزنطية مؤسسة شباب الجامعة، الإسكندرية (لا. ت) 148- العدوان الصليبي على مصر: هزيمة لويس التاسع في المنصورة وفارسكور دار الكتب الجامعية، الإسكندرية، 1969 م الواسعي: جوزيف 149- تاريخ اليمن المسمى فرجة الهموم والحزن في حوادث وتاريخ اليمن ط 2 مكتبة اليمن الكبرى، صنعاء، 1990- 1991 م أستوريان 150- تاريخ الأرمن منذ القدم وحتى وقتنا الحاضر (النص الأرمني) بيروت، 1973 م

فهرس المحتويات

فهرس المحتويات الصفحة هذا الكتاب 5 منهج التحقيق 12 1. وصف النسخة المعتمدة في التحقيق 12 2. خطة العمل 14 3. الرموز المستعملة في التحقيق 17 4. نموذجات مصورة عن النسخة المعتمدة في التحقيق 18 مسالك الأبصار في ممالك الأمصار السفر السابع والعشرون سنة إحدى وأربعين وخمس مئة إلى سنة خمسين وخمس مئة* سنة إحدى وأربعين وخمس مئة 23 ذكر استيلاء الفرنج على طرابلس 23 * سنة اثنتين وأربعين وخمس مئة 26 * سنة ثلاث وأربعين وخمس مئة 27 * سنة أربع وأربعين وخمس مئة 31

* سنة خمس وأربعين وخمس مئة 36 * سنة ست وأربعين وخمس مئة 36 * سنة سبع وأربعين وخمس مئة 38 ابتداء ظهور دولة الغورية وانقراض آل سبكتكين 40 * سنة ثمان وأربعين وخمس مئة 45 * سنة تسع وأربعين وخمس مئة 48 * ذكر ملك نور الدين محمود دمشق 50 * سنة خمسين وخمس مئة 51 سنة إحدى وخمسين وخمس مئة إلى سنة ستين وخمس مئة* سنة إحدى وخمسين وخمس مئة 51 * سنة اثنتين وخمسين وخمس مئة 55 * سنة ثلاث وخمسين وخمس مئة 61 * سنة أربع وخمسين وخمس مئة 62 ذكر دولة بني مهدي في اليمن 64 * سنة خمس وخمسين وخمس مئة 67 ذكر مسير سليمان شاه إلى همذان 67 خلافة المستنجد بالله بن المقتفي 70 * سنة ست وخمسين وخمس مئة 71

* سنة سبع وخمسين وخمس مئة 74 * سنة ثمان وخمسين وخمس مئة 75 * سنة تسع وخمسين وخمس مئة 78 * سنة ستين وخمس مئة 79 سنة إحدى وستين وخمس مئة إلى سنة سبعين وخمس مئة* سنة إحدى وستين وخمس مئة 80 * سنة اثنتين وستين وخمس مئة 81 * سنة ثلاث وستين وخمس مئة 82 * سنة أربع وستين وخمس مئة 83 * سنة خمس وستين وخمس مئة 93 * سنة ست وستين وخمس مئة 94 خلافة المستضيء بالله بن المستنجد بالله 95 * سنة سبع وستين وخمس مئة 97 * سنة ثمان وستين وخمس مئة 101 * سنة تسع وستين وخمس مئة 103 * سنة سبعين وخمس مئة 107 سنة إحدى وسبعين وخمس مئة إلى سنة ثمانين وخمس مئة* سنة إحدى وسبعين وخمس مئة 111

* سنة اثنتين وسبعين وخمس مئة 113 * سنة ثلاث وسبعين وخمس مئة 114 * سنة أربع وسبعين وخمس مئة 117 * سنة خمس وسبعين وخمس مئة 118 خلافة الناصر لدين الله بن المستضيء بالله 119 * سنة ست وسبعين وخمس مئة 120 * سنة سبع وسبعين وخمس مئة 122 * سنة ثمان وسبعين وخمس مئة 123 * سنة تسع وسبعين وخمس مئة 128 * سنة ثمانين وخمس مئة 131 سنة إحدى وثمانين وخمس مئة إلى سنة تسعين وخمس مئة* سنة إحدى وثمانين وخمس مئة 134 ذكر ملك صلاح الدين ميّافارقين 135 * سنة اثنتين وثمانين وخمس مئة 136 * سنة ثلاث وثمانين وخمس مئة 137 وقعة حطين 138 فتح بيت المقدس 141 * سنة أربع وثمانين وخمس مئة 143

* سنة خمس وثمانين وخمس مئة 148 حصار الفرنج عكا 149 * سنة ست وثمانين وخمس مئة 150 * سنة سبع وثمانين وخمس مئة 152 استيلاء الفرنج على عكا 152 * سنة ثمان وثمانين وخمس مئة 157 * سنة تسع وثمانين وخمس مئة 163 * سنة تسعين وخمس مئة 172 سنة إحدى وتسعين وخمس مئة إلى سنة ست مئة* سنة إحدى وتسعين وخمس مئة 176 * سنة اثنتين وتسعين وخمس مئة 177 * سنة ثلاث وتسعين وخمس مئة 180 * سنة أربع وتسعين وخمس مئة 181 * سنة خمس وتسعين وخمس مئة 185 * سنة ست وتسعين وخمس مئة 189 * سنة سبع وتسعين وخمس مئة 192 * سنة ثمان وتسعين وخمس مئة 195 * سنة تسع وتسعين وخمس مئة 197 ذكر الحوادث باليمن 197

* سنة ست مئة 202 سنة إحدى وست مئة إلى سنة عشر وست مئة* سنة إحدى وست مئة 205 * سنة اثنتين وست مئة 207 * سنة ثلاث وست مئة 209 * سنة أربع وست مئة 210 * سنة خمس وست مئة 214 * سنة ست وست مئة 218 * سنة سبع وست مئة 218 * سنة ثمان وست مئة 221 * سنة تسع وست مئة 222 * سنة عشر وست مئة 223 سنة إحدى عشرة وست مئة إلى سنة عشرين وست مئة* سنة إحدى عشرة وست مئة 224 * سنة اثنتي عشرة وست مئة 225 * سنة ثلاث عشرة وست مئة 226 * سنة أربع عشرة وست مئة 228 * سنة خمس عشرة وست مئة 229

* سنة ست عشرة وست مئة 234 * سنة سبع عشرة وست مئة 239 * سنة ثماني عشرة وست مئة 245 * سنة تسع عشرة وست مئة 250 * سنة عشرين وست مئة 252 سنة إحدى وعشرين وست مئة إلى سنة ثلاثين وست مئة* سنة إحدى وعشرين وست مئة 255 * سنة اثنتين وعشرين وست مئة 256 خلافة الظاهر بأمر الله بن الناصر لدين الله 259 * سنة ثلاث وعشرين وست مئة 260 خلافة المستنصر بالله بن الظاهر بأمر الله 261 * سنة أربع وعشرين وست مئة 262 * سنة خمس وعشرين وست مئة 269 * سنة ست وعشرين وست مئة 271 * سنة سبع وعشرين وست مئة 279 * سنة ثمان وعشرين وست مئة 282 * سنة تسع وعشرين وست مئة 290 * سنة ثلاثين وست مئة 292

سنة إحدى وثلاثين وست مئة إلى سنة أربعين وست مئة* سنة إحدى وثلاثين وست مئة 296 * سنة اثنتين وثلاثين وست مئة 297 * سنة ثلاث وثلاثين وست مئة 298 * سنة أربع وثلاثين وست مئة 300 * سنة خمس وثلاثين وست مئة 303 * سنة ست وثلاثين وست مئة 309 * سنة سبع وثلاثين وست مئة 311 * سنة ثمان وثلاثين وست مئة 316 * سنة تسع وثلاثين وست مئة 321 * سنة أربعين وست مئة 322 خلافة المستعصم بالله بن المستنصر بالله 324 سنة إحدى وأربعين وست مئة إلى سنة خمسين وست مئة سنة إحدى وأربعين وست مئة 324 * سنة اثنتين وأربعين وست مئة 325 * سنة ثلاث وأربعين وست مئة 328 * سنة أربع وأربعين وست مئة 330 * سنة خمس وأربعين وست مئة 332

* سنة ست وأربعين وست مئة 334 * سنة سبع وأربعين وست مئة 336 * سنة ثمان وأربعين وست مئة 341 * سنة تسع وأربعين وست مئة 350 * سنة خمسين وست مئة 351 سنة إحدى وخمسين وست مئة إلى سنة ستين وست مئة* سنة إحدى وخمسين وست مئة 351 * سنة اثنتين وخمسين وست مئة 353 ذكر أخبار الحفصيين من ملوك تونس 353 * سنة ثلاث وخمسين وست مئة 360 * سنة أربع وخمسين وست مئة 361 * سنة خمس وخمسين وست مئة 362 * سنة ست وخمسين وست مئة 366 * سنة سبع وخمسين وست مئة 372 * سنة ثمان وخمسين وست مئة 375 * سنة تسع وخمسين وست مئة 391 خلافة المستنصر بالله أبي القاسم أحمد 396 * سنة ستين وست مئة 398

خلافة الحاكم بأمر الله أبي العباس أحمد 400 سنة إحدى وستين وست مئة إلى سنة سبعين وست مئة* سنة إحدى وستين وست مئة 401 * سنة اثنتين وستين وست مئة 405 * سنة ثلاث وستين وست مئة 406 * سنة أربع وستين وست مئة 408 * سنة خمس وستين وست مئة 409 * سنة ست وستين وست مئة 411 * سنة سبع وستين وست مئة 412 * سنة ثمان وستين وست مئة 413 * سنة تسع وستين وست مئة 414 * سنة سبعين وست مئة 416 سنة إحدى وسبعين وست مئة إلى سنة ثمانين وست مئة* سنة إحدى وسبعين وست مئة 417 * سنة اثنتين وسبعين وست مئة 418 * سنة ثلاث وسبعين وست مئة 419 * سنة أربع وسبعين وست مئة 420 * سنة خمس وسبعين وست مئة 421

* سنة ست وسبعين وست مئة 423 * سنة سبع وسبعين وست مئة 425 * سنة ثمان وسبعين وست مئة 426 * سنة تسع وسبعين وست مئة 428 * سنة ثمانين وست مئة 430 سنة إحدى وثمانين وست مئة إلى سنة تسعين وست مئة* سنة إحدى وثمانين وست مئة 433 * سنة اثنتين وثمانين وست مئة 435 * سنة ثلاث وثمانين وست مئة 438 * سنة أربع وثمانين وست مئة 443 * سنة خمس وثمانين وست مئة 447 * سنة ست وثمانين وست مئة 448 * سنة سبع وثمانين وست مئة 449 * سنة ثمان وثمانين وست مئة 450 * سنة تسع وثمانين وست مئة 451 * سنة تسعين وست مئة 453 سنة إحدى وتسعين وست مئة إلى سنة سبع مئة* سنة إحدى وتسعين وست مئة 461

* سنة اثنتين وتسعين وست مئة 469 * سنة ثلاث وتسعين وست مئة 470 * سنة أربع وتسعين وست مئة 473 * سنة خمس وتسعين وست مئة 475 * سنة ست وتسعين وست مئة 477 * سنة سبع وتسعين وست مئة 479 * سنة ثمان وتسعين وست مئة 480 * سنة تسع وتسعين وست مئة 484 * سنة سبع مئة 488 سنة إحدى وسبع مئة إلى سنة عشر وسبع مئة* سنة إحدى وسبع مئة 490 خلافة المستكفي بالله بن الحاكم بأمر الله 490 * سنة اثنتين وسبع مئة 491 * سنة ثلاث وسبع مئة 495 * سنة أربع وسبع مئة 496 * سنة خمس وسبع مئة 497 * سنة ست وسبع مئة 498 * سنة سبع وسبع مئة 499

* سنة ثمان وسبع مئة 500 * سنة تسع وسبع مئة 500 * سنة عشر وسبع مئة 504 سنة إحدى عشرة وسبع مئة إلى سنة عشرين وسبع مئة* سنة إحدى عشرة وسبع مئة 506 * سنة اثنتي عشرة وسبع مئة 507 * سنة ثلاث عشرة وسبع مئة 510 * سنة أربع عشرة وسبع مئة 510 * سنة خمس عشرة وسبع مئة 511 * سنة ست عشرة وسبع مئة 514 * سنة سبع عشرة وسبع مئة 516 * سنة ثماني عشرة وسبع مئة 518 * سنة تسع عشرة وسبع مئة 520 * سنة عشرين وسبع مئة 522 سنة إحدى وعشرين وسبع مئة إلى سنة ثلاثين وسبع مئة* سنة إحدى وعشرين وسبع مئة 525 * سنة اثنتين وعشرين وسبع مئة 526 * سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة 528

* سنة أربع وعشرين وسبع مئة 531 * سنة خمس وعشرين وسبع مئة 533 * سنة ست وعشرين وسبع مئة 535 * سنة سبع وعشرين وسبع مئة 536 * سنة ثمان وعشرين وسبع مئة 539 * سنة تسع وعشرين وسبع مئة 541 * سنة ثلاثين وسبع مئة 542 سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة إلى سنة أربعين وسبع مئة * سنة إحدى وثلاثين وسبع مئة 543 * سنة اثنتين وثلاثين وسبع مئة 543 * سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة 545 * سنة أربع وثلاثين وسبع مئة 546 * سنة خمس وثلاثين وسبع مئة 547 * سنة ست وثلاثين وسبع مئة 549 * سنة سبع وثلاثين وسبع مئة 550 * سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة 553 * سنة تسع وثلاثين وسبع مئة 554 * سنة أربعين وسبع مئة 555

سنة إحدى وأربعين وسبع مئة إلى سنة خمسين وسبع مئة* سنة إحدى وأربعين وسبع مئة 556 * سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة 559 خلافة الحاكم بأمر الله بن المستكفي بالله 559 * سنة ثلاث وأربعين وسبع مئة 562 * سنة أربع وأربعين وسبع مئة 564 فهرس المصادر والمراجع 567 1. المصادر 567 2. المراجع 589

§1/1