مسائل لخصها الشيخ محمد بن عبد الوهاب من كلام بن تيمية (مطبوع ضمن مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب، الجزء الثاني عشر)

محمد بن عبد الوهاب

مقدمة

مقدمة ... بسم الله الرحمن الرحيم تقديم بعد أن تقرر أن تعقد جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية مؤتمرا باسم الشيخ محمد بن عبد الوهاب، شكلت أمانة للإعداد لهذا المؤتمر وتقديم تصور مفصل عنه، ثم وضعه موضع التنفيذ. وقد بدأت الأمانة عملها بتحديد الهدف العام للمؤتمر بأنه التعريف بالشيخ وتجلية حقيقة دعوته على مستوى العالم الإسلامي، وكشف الشبهات التي أثيرت حولها في بعض البلدان الإسلامية وفي ظل ظروف تاريخية معينة. وفي سبيل تحقيق هذا الهدف – بصورة علمية صحيحة - رأت الأمانة ضرورة جمع كافة ما كتبه الشيخ من مؤلفات، وتحقيق نسبتها إليه، وتوثيقها ثم نشرها في طبعة خاصة باسم الجامعة، لترسل نسخ منها بعد ذلك إلى الهيئات والباحثين الذين ستوجه إليهم الدعوة للإسهام في المؤتمر. وقد راعت الأمانة في ذلك أن كثيرا من الباحثين في البلدان الإسلامية لا تتوافر لديهم مؤلفات الشيخ وآثاره العلمية مما يكون له أثر واضح بلا شك في قصور أو نقص أو خطأ بعض ما قد يكتبونه عن دعوة الشيخ، ومن ثم

فلا بد أن تتوافر لديهم آثار الشيخ الصحيحة بصورة موثقة حتى يمكنهم التعرف على حقيقة دعوته والكتابة الموضوعية العلمية عنها. ومن ثم انطلقت الأمانة تجمع كل ما تيسر لها من مؤلفات الشيخ المطبوعة والمخطوطة وتبحث عنها في كافة مظانها عند أفراد من أسرة الشيخ، وفي المكتبات العامة والخاصة في أنحاء المملكة وخارجها. وفي هذا المجال نشير بصفة خاصة إلى المجموعة الكبيرة من مخطوطات مؤلفات الشيخ التي وجدت في المكتبة السعودية بدخنة بالرياض، وقد قامت الأمانة بتصوير هذه المخطوطات. كما قامت باستحضار نسخ من مؤلفات الشيخ المطبوعة وذلك بطريق الشراء والهبة، وبطريق الاتصال الشخصي والاستعارة من الأفراد والهيئات بالنسبة لبعض المطبوعات التي يقل وجودها أو يندر. وأيضًا قامت بالاتصال الشخصي ببعض الأفراد الذين لهم اهتمام خاص بالشيخ ودعوته ومؤلفاته أو كتبوا فيها شيئا ذا قيمة. كما قام بعض أعضاء الأمانة في إجازة صيف 1396هـ (1976م) بمراجعة المكتبات الهامة في مصر وغيرها للتعرف على ما قد يكون للشيخ فيها من مؤلفات، ثم العمل على استحضار ما ييسر للأمانة مهمتها من هذه المؤلفات.

ومن حصيلة ذلك كله تجمعت في أمانة المؤتمر نسخ كثيرة من مؤلفات الشيخ مطبوعة ومخطوطة وفي صورة ميكروفيلم. فألفت من بين أعضائها لجنة لتصنيف هذه المؤلفات، تضمنت مهمتها ما يلي: (أ) النظر في كل مؤلف أو مخطوط والاستيثاق من أنه حقا من مؤلفات الشيخ. (ب) حصر الموجود من نسخه المطبوعة والمخطوطة، ووصف كل نسخة. (ج) تسجيل القسم الذي يوضع فيه (العقيدة – الفقه - السيرة – الرسائل ... ) . وأيضا ألفت عدة لجان للتصحيح تضمنت مهمتها ما يلي: (أ) مقابلة النسخ المخطوطة والمطبوعة من كل مؤلف بعضها على بعض، للحصول على نسخة كاملة متكاملة هي التي تعد للطبع. (ب) ترقيم الآيات، وذكر سورها، وضبطها شكلا. (ج) وضع علامات الترقيم والبدء بالفقرات وإبراز العناوين حسب النظام الحديث في الكتابة والطبع. (د) تحقيق الأمر في صحة نسبة المؤلفات التي تقدم لجنة التصنيف شكًّا حول صحة نسبتها. وقد حرصت أمانة المؤتمر على أن تؤلف كل لجنة من لجان التصحيح من العلماء المتخصصين ذوي الصلة الوثيقة بنوع وطبيعة المؤلف الذي يراجعونه،

كما حرصت على أن تجمع كل لجنة عددًا من العلماء ذوي الخبرات المتكاملة في مجموعها من حيث صلتها بمهمة التصحيح وإتقانها قدر الاستطاعة. وفي هذا استعانت الأمانة ببعض العلماء ذوي الخبرة من غير أعضائها. ... وبعد فهذه مؤلفات الشيخ تقدمها أمانة المؤتمر متكاملة موثقة كأول ثمرة من ثمار تكوينها وعملها. وقد قصدتْ بجهودها فيها تجلية حقيقة دعوة الشيخ وتيسير الاطلاع عليها ومراجعتها من مجموع ما كتبه دون إضافة أو حذف أو تعليق، لتتيح للدارسين المنصفين الباحثين عن الحقيقة في ذاتها أن يصلوا بأوثق طريق، بعيدًا عن كل تزييف أو تشويه أو ادعاء باطل يحاول صاحبه أن يلبسه ثوب الحق. وترجو الأمانة أن تكون قد وفقت في عملها هذا كفاء ما بذلته من جهود. والله من وراء القصد، وهو الهادي إلى خير سبيل. أمانة المؤتمر

مسائل لخصها الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية

(هذه مسائل) لخصها الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمهما الله تعالى بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد: فقد كلفتنا الأمانة العامة لأسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب بمراجعة كتاب الإمام المجدد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب قدس الله روحه من كلام الإمام أبي العباس تقي الدين بن تيمية الحراني الدمشقي رحمه الله، وقد راجعنا النسخة المصورة من مكتبة الشيخ محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ، ويوجد أصلها في المكتبة السعودية بدخنة في المخطوطات برقم 678 / 86 والكتاب شامل لمسائل عديدة في التوحيد بجميع أنواعه وفي الفقه وأصوله والتفسير وعلومه، لخصها الإمام محمد بن عبد الوهاب من غالب كتب شيخ الإسلام. وقد تبين لنا من خلال قراءة الكتاب أنه غير منتظم العبارات، ويوجد فيه انقطاع في بعض الكلام، ويرجع ذلك والله أعلم إلى تصرف بعض الناسخين. وقد قمنا بإصلاح ما قدرنا على إصلاحه بمراجعة بعض كتب شيخ الإسلام، وجعلنا ذلك بين مربعين صغيرين، كما قمنا بترقيم الآيات، وبعض التعليقات اليسيرة.

والله نسأل أن يجعل عملنا خالصا لوجهه مقربا إليه وهو حسبنا ونعم الوكيل وصلى الله على محمد. 10 / 5 / 1398? محمد بن عبد العزيز النمي فهد بن حمين الفهد

بسم الله الرحمن الرحيم (1) إن قوله: "إنما الأعمال بالنيات" 1 عام خلافا لما عليه أكثر الشراح. (2) قوله في العزل: "لا عليكم" ثم ذكر القدر أن هذا لا حجة فيه على ترك السبب. لأن الحمل يحصل مع العزل. (3) قوله: "لا يصيب المؤمن قضاء إلا كان خيرا له" 2 ورد عليه المعاصي، فأجاب بأن المراد ما أصاب العبد لا ما فعله، وأنه يصير بعد التوبة خير منه قبل الخطيئة. (4) قوله: "من سعادة ابن آدم الاستخارة والرضاء ... إلخ" 3 مع ما تقدم قبله قال: الاستخارة قبله، والرضى بعده. وهذا أعلى من الضر والصبر. فلذلك ذكر فيه الرضى. (5) ذكر أن الصدق لا يكون إلا بالإيمان النافي للريب والجهاد قال: وهذا هو العهد المأخوذ على الأمم له صلى الله عليه وسلم "ليؤمنن به ولينصرنه." (6) ذكر أن أصل الإيمان الصدق، وأصل النفاق الكذب وذكر أنه يكون في الأقوال وفي الأعمال أيضا، كما يقال حملة صادقة. (7) حديث محاجة آدم وموسى ... أن موسى إنما لام على المصيبة لا على الخطيئة.

_ 1 البخاري: بدء الوحي (1) , ومسلم: الإمارة (1907) , والترمذي: فضائل الجهاد (1647) , والنسائي: الطهارة (75) والطلاق (3437) والأيمان والنذور (3794) , وأبو داود: الطلاق (2201) , وابن ماجه: الزهد (4227) , وأحمد (1/25 ,1/43) . 2 أحمد (3/184) . 3 الترمذي: القدر (2151) , وأحمد (1/168) .

(8) قوله "عصفور من عصافير الجنة" 1مع أن الأطفال المسلمين في الجنة أن المراد الفرق بين المعين وغيره كما يقال: المؤمنون في الجنة ولا يشهد لمعين. (9) بكاؤه صلى الله عليه وسلم عند موت الطفل، وضحك الفضيل عند موت ابنه ... الأكمل الصبر مع الرحمة.. بخلاف من يبكي على فوات حظه من الميت. (10) قال: " إن السلف جعلوا سورة الإخلاص أصلا في الرد على المشبهة والمعطلة من قوله: {اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ} 2. (11) قوله: "احرص على ما ينفعك، واستعن بالله.." 3 إلخ الذي ينفع هو العبادة، أو مباح يستعان به عليها، وكذلك "إن الله يلوم على العجز" 4 إلخ. (12) قراءته صلى الله عليه وسلم على أبي لم تكن قراءة إبلاغ له بخصوصه. (13) اليهود تشبه الخالق بالمخلوق، والنصارى تشبه المخلوق بالخالق. (14) ذكر أن محبة الله أكثر ما تجيء باسم العبادة ... وإلا فقد ذكر الله محبته في القرآن في مواضع، ومحبة الصالحين من محبته، وإن كانت المحبة التي لا يستحقها غيره، فلهذا جاءت مذكورة بما يختص به من العبادة والإنابة والتبتل ونحو ذلك. فكل هذه الأسماء تتضمن محبته، وكما أنها أصل الدين فكماله بكمالها، كقوله: "وذروة سنامه الجهاد" 5 وهو

_ 1 مسلم: القدر (2662) , والنسائي: الجنائز (1947) , وابن ماجه: المقدمة (82) , وأحمد (6/41 ,6/208) . 2 سورة الإخلاص الآية: 1-2. 3 مسلم: القدر (2664) , وابن ماجه: المقدمة (79) والزهد (4168) , وأحمد (2/366 ,2/370) . 4 أبو داود: الأقضية (3627) , وأحمد (6/24) . 5 الترمذي: الإيمان (2616) , وابن ماجه: الفتن (3973) , وأحمد (5/231 ,5/234 ,5/237) .

لازم المحبة الكاملة، لقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ} 1 الآية وقال في صفة المحبين: {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} 2. وهم الذين يرضى الله لرضاهم، ويغضب لغضبهم، كما قال لأبي بكر: "لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك" 3، إذ هم إنما يرضون لرضاه، ويغضبون لغضبه. وقال: "ما ترددت في شيء ... " 4 إلخ؛ لأن التردد تعارض إرادتين، وهو سبحانه يحب ما يحب عبده، ويكره ما يكره، وقد قضى بالموت وهو يريد إماتته، فسماه ترددا. (15) كل مولود على الفطرة فإنه سبحانه فطر القلوب على أنه ليس في محبوباتها ومراداتها ما تطمئن إليه وتنتهي إليه إلا الله (، وإلا فكل ما أحبه المحب يحبه في نفسه لكن قلبه يطلب سواه ويحب أمرا غيره يتألهه ويضمه إليه، ويطمئن إليه، ويرى ما يشبهه من أجناسه. ولهذا قال: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} 5. (16) "أين المتحابون بجلالي" تنبيه على ما في قلوبهم من إجلال الله وتعظيمه مع التحاب، وهؤلاء هم الذين جاء فيهم "وجبت محبتي للمتحابين في والمتباذلين في. إلخ" 6 قاله: ردا على من ترك الخوف مع المحبة. 7 (17) رؤيته صلى الله عليه وسلم ربه بعيني رأسه، لم يثبت عنه، ولا عن أحد من الصحابة، ولا الأئمة المشهورين لا أحمد ولا غيره، لكن ثبت

_ 1 سورة التوبة آية: 24. 2 سورة المائدة آية: 54. 3 مسلم: فضائل الصحابة (2504) , وأحمد (5/64) . 4 أحمد (6/256) . 5 سورة الرعد آية: 28. 6 الترمذي: الزهد (2390) , وأحمد (5/233) , ومالك: الجامع (1779) . 7 مراده الرد على من زعم أنه لا مجمع بين الخوف والمحبة.

عن الصحابة كأبي ذر وابن عباس وغيرهما وأحمد بن حنبل أنه رآه بفؤاده كما في صحيح مسلم عن ابن عباس: "رأى محمد ربه بفؤاده مرتين". وثبت عن عائشة الإنكار، فمن العلماء من قال: أنكرت رؤية العين فلا منافاة، ومنهم من جعلها قولين، فمن قال: لا يرى في الآخرة فهو جهمي ضال، ومن قال يرى في الدنيا بالفؤاد لغيره صلى الله عليه وسلم فهو مبتدع ضال، ومن قال إنه صلى الله عليه وسلم رآه بعينه فهو غالط، والحلولية والاتحادية يجمعون بين النفي والإثبات. (18) قال في الرد على متصوفة ينتسبون إلى التحقيق والتوحيد ويجرون مع القدر: سبب ذلك أنه ضاق نطاقهم عن كون العبد يؤمر بما يقدَّر عليه خلافه، كما ضاق نطاق القدرية عنه، فأثبتوا الأمر والنهي فقط، وأولئك أثبتوا القضاء فقط. وفي حق من شهد القدر: وهؤلاء شر من القدرية، ولهذا لم يكن في السلف من هؤلاء أحد، ولا ريب أن المشركين يترددون بين بدعة تخالف الشرع وبين احتجاج بالقدر على مخالفة الأمر. فهؤلاء الأصناف فيهم شبه من المشركين، وفيهم من يجمع بين الأمرين، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً} الآية. وقد ذكر عن المشركين ما ابتدعوا من الدين الذي فيه تحليل الحرام، والعبادة التي لم تشرع في الأنعام والأعراف، وعمدة الكل اتباع آرائهم وأهوائهم، وجعلهم ذلك حقيقة، نظير جعل المتكلمين ما ابتدعوا حقائق عقلية. وأصل ضلال الكل تقديم القياس على النص، واختيار الهوى على اتباع الأمر.

(19) عطف الخاص على العام يكون لأسباب، تارة لكونه له خاصة ليست لسائر أفراد العام، كما في قوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ} 1 الآية. وتارة يكون العام فيه إطلاق قد لا يفهم منه العموم كقوله: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} 2 ثم قال: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} 3 الآية. (20) العبادة يدخل فيها الدين كله ولهذا كانت ربوبية الله سبحانه عامة وخاصة. ولهذا كان الشرك أخفى من دبيب النمل، وفي الصحيح: "تعس عبد الدينار". إلخ. ووصفه بأنه إذا أعطي رضي، وإن منع سخط. وهذا في المال والجاه والصور، وغير ذلك. قال الخليل عليه السلام: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} 4الآية. ودلت النصوص على الأمر بمسألة الخالق، والنهي عن مسألة المخلوق في غير موضع. وكلما قوي طمع العبد في فضل الله قويت عبوديته له، كما أن طمعه في المخلوق يوجب عبوديته له، ويأسه يوجب غنى قلبه عنه؛ وإعراض قلبه عن الطلب من الله يوجب انصراف قلبه عن العبودية لله، لا سيما من كان يرجو المخلوق ولا يرجو الخالق. وإذا ذاق طعم الإخلاص انقهر له هواه بلا علاج. قال تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} 5. وإذا قلت6:

_ 2 سورة البقرة آية: 3. 3 سورة البقرة آية: 4. 4 سورة العنكبوت آية: 17. 5 سورة آية: 45. 6 لعلها قويت.

المحبة استلزمت إرادة المحبوبات، فإن قدر عليها حصلها، وإن فعل المقدور عليه. فله كأجر الفاعل (كمن دعي إلى هدر) . وكقوله: "إن بالمدينة رجالا ما سرتم مسيرا إلا وهم معكم، حبسهم العذر" 1. فإذا ترك المقدور من الجهاد دل على ضعف المحبة، ومعلوم أن المحبوبات لا تنال إلا باحتمال المكروهات، كما في أهل الرياسة والمال. ومن المعلوم أن المؤمن أشد حبا لله. والإسلام أن يستسلم العبد لله لا لغيره، فمن أسلم لله ولغيره فمشرك، ومن لم يسلم فمستكبر. والكبر ينافي العبودية كما قال: "العظمة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني في واحد منهما عذبته". فهما من خصائص الربوبية، والكبرياء أعلى من العظمة.. فلهذا جعلها كالرداء. والشرك غالب على النصارى، والكبر غالب على اليهود. وفي الصحيح: "لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا" 2. إلخ قاله قبل موته بأيام، وذلك من تمام رسالته، فإن فيه من تمام تحقيق مخالته لله التي أصلها محبة الله العبد، خلافا للجهمية. ومن ذلك تحقيق توصية الله ردا على أشباه المشركين، وفيه رد على من بخس الصديق حقه 3 (وهم أضل) المنتسبين إلى القبلة، وهم شر البشر. والحديث الذي فيه: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان" 4 إلخ. جعله بثلاثة أمور تكمل المحبة، وتفريغها، ودفع ضدها. وكره من كره من أهل

_ 1 مسلم: الإمارة (1911) , وابن ماجه: الجهاد (2765) , وأحمد (3/341) . 2 مسلم: فضائل الصحابة (2383) , والترمذي: المناقب (3655) , وابن ماجه: المقدمة (93) , وأحمد (1/377 ,1/389 ,1/408 ,1/410 ,1/412 ,1/433 ,1/434 ,1/437 ,1/439 ,1/455 ,1/462) . 3 كالرافضة ونحوهم الذين يقدمون عليا على أبي بكر وعمر. 4 البخاري: الإيمان (16) , ومسلم: الإيمان (43) , والترمذي: الإيمان (2624) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (4987 ,4988 ,4989) , وابن ماجه: الفتن (4033) , وأحمد (3/103 ,3/113 ,3/172 ,3/174 ,3/230 ,3/248 ,3/288) .

العلم مجالسة أقوام يكثرون الكلام في المحبة بلا خشية.. ولهذا وجد في المتأخرين من (أفضى به) ذلك إلى ما ينافي العبودية، ومديد إلى نوع من الربوبية، ويدعي أحدهم ما يتجاوز حدود الأنبياء، ويطلب من غير الله ما لا يصلح إلا لله، وسببه ضعف تحقيق العبودية التي بينتها الرسل، وحررها الأمر والنهي الذي جاؤوا به، بل ضعف العقل الذي به يعرف العبد حقيقته، وهو شبيه بقول اليهود والنصارى {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} 1 فإن تعذيبهم بذنوبهم يقتضي أنهم غير محبوبين، لأن من أحبه الله استعمله فيما يحبه، لأن فعل الكبائر واحد، فإن الله يبغض منه ذلك، ومن ظن أن الذنوب لا تضره لكون الله يحبه، فهو كمن ظن أن السم لا يضره من مداومته عليه لصحة مزاجه. ولو تدبر الأحمق ما قصه الله في كتابه من توبة الأنبياء، وما جهر لهم من البلاء الذي فيه تطهير لهم (دل) على ضرر الذنوب بأصحابها، ولو كانوا أرفع الناس. واتباع الشريعة والقيام بالجهاد من أعظم الفروق بين أهل محبة الله، وبين من يدعي محبة الله ناظرا إلى عموم ربوبيته أو متبعا لبعض البدع. فإن دعوى هذه محبة من جنس دعوى اليهود والنصارى، بل قد تكون شرا منها. بل فيهم من النفاق الذي يكون به في الدرك الأسفل من النار. وفي التوراة والإنجيل من ذكر محبة الله ما هم متفقون عليه، حتى أن عندهم إذ ذلك أعظم وصايا الناموس. ففي الإنجيل أن المسيح قال: أعظم وصايا

_ 1 سورة المائدة آية: 18.

المسيح أن تحب الله بكل قلبك وعقلك ونفسك. والنصارى يدعون قيامهم بهذه المحبة لما فيه من الزهد والعبادة، وهم برآء من محبة الله، إذ لم يتبعوا ما أحب الله، بل اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم. وكثير من الذين اتبعوا أشياء من الزهد والعبادة وقعوا في بعض ذلك من دعوى المحبة مع مخالفة الشريعة وترك الجهاد، ويتمسكون في الدين الذي يتقربون به إلى الله بنحو ما تمسك به النصارى من الكلام المتشابه، والحكايات التي لا يعرف صدق قائلها ولو صدق لم يكن معصوما، وكل عمل أريد به غير الله لم يكن لله، وكل عمل لم يوافق شرعه، لم يكن له، بل لا يكون لله إلا ما جمع الوصفين. قال تعالى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} 1 الآية. وقال صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" 2، وقال: "إنما الأعمال بالنيات" 3. وهذا الأصل هو أصل الدين، وبحسب تحقيقه يكون تحقيق الدين، وبه أرسل الله الرسل، وأنزل الكتب، وهي قطب الدين الذي تدور عليه رحاه. والشرك غالب على النفوس، كما في الحديث: أخفى من دبيب النمل، وكثير ما يخالط النفوس من الشهوات ما يفسد عليها تحقيق ذلك، كما قال شداد بن أوس: "أخوف ما أخاف عليكم الرياء والشهوة الخفية" 4 قال أبو داود: هي حب الرياسة، وفي الحديث:"ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه" 5

_ 1 سورة البقرة آية: 112. 2 البخاري: الصلح (2697) , ومسلم: الأقضية (1718) , وأبو داود: السنة (4606) , وابن ماجه: المقدمة (14) , وأحمد (6/73 ,6/146 ,6/180 ,6/240 ,6/256 ,6/270) . 3 البخاري: بدء الوحي (1) , ومسلم: الإمارة (1907) , والترمذي: فضائل الجهاد (1647) , والنسائي: الطهارة (75) والطلاق (3437) والأيمان والنذور (3794) , وأبو داود: الطلاق (2201) , وابن ماجه: الزهد (4227) , وأحمد (1/25 ,1/43) . 4 أحمد (5/428) . 5 الترمذي: الزهد (2376) , وأحمد (3/456 ,3/460) , والدارمي: الرقاق (2730) .

يبين أن الدين السليم لا يكون فيه هذا الحرص، وذلك أن القلب إذا ذاق حلاوة الإخلاص لم يكن شيء أحب إليه منه، فيصير القلب منيبا إلى الله خائفا منه، كما قال تعالى: {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} 1. وإذا أخلص العبد اجتباه ربه فأحيا قلبه، وجذبه إليه، بخلاف القلب الذي لم يخلص، فإن فيه طلبا وإرادة، تارة إلى الرياسة فترضيه الكلمة ولو كانت باطلا، وتغيظه الكلمة ولو كانت حقا، وتارة إلى الدرهم والدينار، وأمثال ذلك، فيتخذ إلهه هواه. ومن لم يكن مخلصا لله بحيث يكون أحب إليه مما سواه، (وإلا) استعبدته الكائنات واستولت على قلبه الشياطين. وهذا أمر ضروري لا حيلة فيه، فالقلب إن لم يكن حنيفا وإلا كان مشركا {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً} 2 الآيتين. وقد جعل الله آل إبراهيم أئمة للحنفاء، كما جعل آل فرعون أئمة للمشركين المتبعين أهواءهم. (21) بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم إلى ذوي أهواء متفرقة وقلوب متشتتة، فألف الله به بين القلوب، وجمع به الشمل، ثم إنه سبحانه بين أن هذا الأصل وهو الجماعة عماد دينه، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ

_ 1 سورة ق آية: 33. 2 سورة الروم آية: 30.

اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} 1 إلى قوله {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} 2 إلى قوله {خَالِدُونَ} وفي الآية الأخرى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} 3. فبرأ الله نبيه منهم. وقد كره صلى الله عليه وسلم من المجادلة ما يفضي إلى الاختلاف والتفرق، فخرج على قوم من أصحابه وهم يتجادلون في القدر فكأنما فقئ في وجهه حب الرمان وقال: "أبهذا أمرتم أم إلى هذا دعيتم؟ " إلخ. ثم ذكر ثلاثا وسبعين فرقة، ثم قال: في وصف الفرقة الناجية بأنهم المستمسكون بسنته وأنهم هم الجماعة. (22) مسألة رؤية الكفار ربهم في القيامة انتشر الكلام فيها بعد الثلاثمائة من الهجرة، وأمسك عن الكلام فيها قوم من العلماء، وتكلم فيها آخرون؛ فاختلفوا على ثلاثة أقوال، والكلام فيها قريب من مسألة محاسبة الكفار. هل يحاسبون أم لا؟ والحساب يراد به عرض الأعمال على الكفار وتوبيخهم وزيادة العذاب ونقصه بزيادة الكفر ونقصه، فهذا ثابت بالاتفاق. ويراد به وزن الحسنات والسيئات ليتبين أيهما أرجح. فالكافر لا حسنات له، وإنما توزن أعماله لتظهر خفة موازينه؛ هذا المراد بالحساب. هل الله يكلمهم أم لا؟ فالقرآن والحديث يدل على أنه يكلمهم كلام توبيخ، فيكاد الخلاف يرتفع. والأقوال الثلاثة في رؤية الكفار: أحدها: أن الكفار لا يرونه بحال، لا المُظْهِر ولا المُسِرّ، وهو قول أكثر المتأخرين. الثاني: أنه يراه من أظهر التوحيد من مؤمن ومنافق، قاله

_ 1 سورة آل عمران آية:102- 103. 2 سورة آل عمران آية: 105. 3 سورة الأنعام آية: 159.

ابن خزيمة وغيره. الثالث: أن الكفار يرونه رؤية تعذيب كاللص إذا رأى السلطان، ثم يحتجب عنهم ليعظم عذابهم، وهذا مقتضى قول من فسر اللقاء في كتاب الله بالرؤية. ومن أقوى ما يتمسكون به ما روى مسلم عن أبي هريرة: "قال الناس: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فذكره. وفيه: فيلقى العبد فيقول: أفظننت أنك ملاقي؟ قال: لا. وفيه: ثم ينادي مناد: ألا تتبع كل أمة ما كانت تعبد" 1 فيقال: ظاهره أن الخلق كلهم يرونه، لكن قال ابن خزيمة: اللقاء هنا غير الترائي، وهؤلاء يقولون أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الكافر يلقى ربه فيوبخه، ثم تتبع كل أمة ما كانت تعبد، ثم يراه المؤمنون، يبينه ما في الصحيحين من حديث أبي هريرة وأبي سعيد وفيه: "فيأتيهم في صورته التي يعرفون، وليس فيه الرؤية إلا بعد تتبع كل أمة" 2 إلخ. وفي حديث ابن مسعود الطويل: "أن المؤمنين يقولون: إن لنا ربا ما رأيناه بعد"، ففيه أنهم لم يروه قبلها، والآخرون يقولون معناه لم نره في هؤلاء الآلهة التي يتبع الناس، ويدل عليه أن في الصحيحين أيضا عن أبي سعيد: "فيأتيهم الجبار في صورة غير الصورة التي رأوه فيها أول مرة" 3 ففيه أنهم رأوه قبل ذلك، وهي الرؤية العامة. وأبين من هذا كله أن الرؤية الأولى عامة كما في حديث أبي رزين: "فتنظرون إليه وينظر إليكم، فقلت: كيف وهو شخص واحد ونحن ملء الأرض؟ " 4 إلخ. ففيه أنه لعموم الخلق كما دل عليه السياق. والرؤية متباينة تباينا عظيما لا يكاد ينضبط طرفاها، ولا يجوز إطلاق القول بأن الكفار يرونه من غير تقييد، لأن الرؤية قد صار يفهم منها الكرامة، ففي إطلاقها إيهام، وليس لأحد أن يطلق ما يوهم خلاف الحق إلا أن يكون مأثورا..

_ 1 مسلم: الزهد والرقائق (2968) . 2 البخاري: التوحيد (7438) , ومسلم: الإيمان (182) . 3 البخاري: التوحيد (7440) , ومسلم: الإيمان (182 ,183) , وأحمد (2/275) . 4 أحمد (4/13) .

ولأن الحكم إذا كان عاما وفي تخصيص بعضه خروجا عن القول الجميل لم يُقَل؛ فإن الله خالق كل شيء ولا يقال: يا خالق الكلاب مثلا، فلا يخرج أحد عن الألفاظ المأثورة، وإن وقع نزاع في بعض معناها فإن هذا لا بد منه في الأمة كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم. (23) وإذا اشتبه عليه هل هذا الفعل مما يهجر المسلم عليه أم لا. فالواجب ترك العقوبة لقوله: "أدرؤوا الحدود بالشبهات، فإنك أن تخطئ في العفو خير لك من أن تخطئ في العقوبة". (24) ذكر في حديث الإفك نفقة أبي بكر على مسطح لأن أمه بنت خالته وقال تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ} 1 الآية. فجعله من ذوي القربى وهو من بعد من ذوي الأرحام الذين ليس لهم فرض ولا تعصيب. فيستدل به على أحد القولين في مذهب أحمد أن ذوي الأرحام يستحقون النفقة. فإن سبب النفقة القرابة المورثة، وكل قرابة مورثة على المشهور، لكن أصلا أو بدلا، فمن لا فرض له ولا تعصيب ورث بدلا، والحديث نص في أنهم من ذوي القربى، فيدخلون في قوله: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} 2 ونظائرها، وأقل ذلك النفقة على المحتاج. وقد ذكر الله الوفاء بالعهد وصلة الرحم في آيات متعددة، فهذه العمومات توجب صلة كل رحم قريبة أو بعيدة، كما أن قوله: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} 3 يعم ميراث كل ذي رحم، ولا فرق، بل في الإحسان

_ 1 سورة النور آية: 22. 2 سورة الإسراء آية: 26. 3 سورة الأنفال آية: 75.

والنفقة أولى. وعلى هذا ما ورد من حمل الخال للعقل، وقوله: (ابن أخت القوم منهم) . وقوله: (مولى القوم منهم) . ونحن في أحد القولين نورث المولى من أسفل إذا عدم من هو أولى منه، ونظيره في الولاء قولنا في أحد القولين بالتوريث بالعهد عند انتفاء الرحم كما كان صلى الله عليه وسلم يورث بين المهاجرين والأنصار، ثم نسخ تقديمهم على ذوي الرحم. فأما مع عدمهم فليس في الكتاب والسنة ما ينسخ ذلك.. بل قوله: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} 1 يقتضي توريثهم، وهو قول كثير من فقهاء العراق وغيرهم، فعقد المؤاخاة نظير عقد النكاح، وإسلامه على يديه نظير إعتاقه له، واشتراكهم في الديوان وهو التناصر والجهاد كاشتراكهم في النسب. (25) اتفق على أن الأرض لا تخلو عن خراج وعشر لكن قال أبو حنيفة: لا يجتمعان، والجمهور يقولون: العشر حق الزرع لقوله تعالى: {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ} 2؛ والخراج عند أبي حنيفة هي التي يملك بيعها وهبتها وتورث.. والجندي لا يملك ذلك اليوم في أرض مصر، فمن قال أنها خراجية لا عشر عليها فقد أخطأ على أبي حنيفة وخالف الإجماع، ومن أفتى بخلو الأرض عن العشر والخراج استتيب، فإن تاب وإلا قتل. ومن زعم أن الجهاد الذي على الجند يعوض عن الخراج فقد أخطأ؛ لأنهم لا يملكون بيعها ولا هبتها، وأيضا ما يعطونه ليس خراجا ولا أجرة بل لجندهم

_ 1 سورة النساء آية: 33. 2 سورة البقرة آية: 267.

المستحقون للخراج. وإن قيل الإمام أسقط عنهم لقتالهم، قيل هذا لا يسقط الزكاة لوجوه: منها أن ذلك لو جعلها كالخراجية لملكوا بيعها وهبتها، ومنها أن غايتهم أن يكونوا بمنْزلة الملاك، ومعلوم أن كل أرض أسلم عليها أهلها أنه لا خراج عليهم مع وجوب العشر وتعيين الجهاد عليهم من تلك الأموال، كما تعين الجهاد على الأنصار، وكان صلى الله عليه وسلم يوجب عليهم العشر في الزرع والثمار، ويوجب عليهم الجهاد بأموالهم وأنفسهم، ولم يكن لهم رزق من بيت المال، فإذا كان جهادهم بأموالهم لا يسقط عنهم العشر الواجب لأهل الصدقات، فكيف يسقط عن هؤلاء؟ ولو أسقط الجهاد العشر لكانوا أحق، لما كانوا فيه من قلة المال وكثرة العدو وتعدد المغازي. (26) صلاته صلى الله عليه وسلم بالأنبياء ببيت المقدس قيل إنها اللغوية، وهي الدعاء والذكر، وقيل الصلاة المعروفة، وهذا أصح؛ لأن اللفظ يحمل على حقيقته الشرعية. وكانت الصلاة واجبة قبل الإسراء، وكان واجبا قيام بعض الليل، كما في سورة المزمل، ثم نسخ بعد سنة بما ذكر الله في آخر السورة: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} 1. ثم نسخ قيام الليل ليلة الإسراء ووجبت الخمس. (27) زين الشيطان لأهل الضلالة اتخاذ عاشوراء مأتما لإثارة الفتن والفساد، ولم يعرف في طوائف الإسلام أكثر كذبا وفتنا ومعاونة للكفار على المسلمين من الرافضة. وهم شر من الخوارج، وهؤلاء قال فيهم صلى الله عليه وسلم "يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان" 2 وأولئك يعاونون اليهود والنصارى على أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم

_ 1 سورة المزمل آية: 20. 2 البخاري: المغازي (4351) والتوحيد (7432) , ومسلم: الزكاة (1064) , والنسائي: الزكاة (2578) , وأبو داود: السنة (4764) , وأحمد (3/4 ,3/68 ,3/73) .

وأمته المؤمنين كما أعانوا المشركين من الترك على ما فعلوه ببغداد وغيرها بأهل البيت من ولد العباس وغيرهم، فعارضهم قوم إما من النواصب المتعصبين على الحسين، وإما من الجهال الذين قابلوا الفاسد بالفاسد، فوضعوا آثارا في توسيع النفقة على العيال وغير ذلك، وإن كان أولئك أشر قصدا، وأعظم جهلا وأظهر ظلما، لكن الله يأمر بالعدل والإحسان. (28) المطالبة في الآخرة لصاحب المال المغصوب منه لا لورثته، كما في الصحيح "من كان عنده لأخيه مظلمة في دم أو مال أو عرض فللورثة يخلفونه في الدنيا، فما أمكن استيفاؤه في الدنيا فالورثة، وما لم يمكن فليتحلله منه" إلخ، فبين أن المطالبة للمظلوم نفسه ولم يجعلها لورثته، فالطلب للمظلوم نفسه. (29) ثبوت الشيء في العلم والتقدير ليس هو ثبوت عينه في الخارج، بل العالم يعلم الشيء ويكتبه ويتكلم به وليس لذاته في الخارج وجود، وهذا هو تقدير الله السابق لخلقه المذكور في حديث عبد الله بن عمرو عند مسلم، وغير ذلك، وهو معنى قوله "كنت نبيا وآدم بين الروح والجسد" 1 أي: كنت نبيا حينئذ. وهذا والله أعلم لأن هذه الحال فيها يقع التقدير الذي يكون بأيدي ملائكة الخلق قبل نفخ الروح، كما في حديث ابن مسعود. فلما أخبر أن الملك يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد حينئذ، وآدم هو أبو البشر، كان من المناسب أن يكتب بعد خلق جسده ما يكون منه ومحمد سيد ولده. وقد جاء هذا المعنى مفسرا في حديث العرباض: "إني عند الله مكتوب خاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته، وسأخبركم بأول أمري دعوة إبراهيم

_ 1 الترمذي: المناقب (3609) .

وبشارة عيسى ورؤيا أمي" 1 إلخ ... وقوله منجدل أي: مطروح على وجه الأرض، وهذا العلم والكتاب هو الذي ينكره القدرية الذين كفرهم الأئمة 2، وقد بينه الكتاب والسنة، وأجاب النبي صلى الله عليه وسلم عن السؤل الوارد عليه، وهو ترك العمل لأجله. (30) لكل شيء أربع مراتب: وجود في الأعيان، ووجود في الأذهان، ووجود في اللسان، ووجود في البنان، ولهذا أول ما نزل {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} 3 إلخ. فذكر الجميع بوجودها العيني عموما، ثم خصوصا، ثم قال: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} 4 إلخ. فخص التعليم للإنسان بعد تعميم التعليم بالقلم وهو الخط، وهو مستلزم التعليم للفظ؛ فإن الخط يطابق، وتعليم اللفظ هو البيان، وهو مستلزم لتعليم العلم، لأن العبارة تطابق المعنى، فصار تعليمه بالقلم مستلزما للمراتب الثلاث الرسمي واللفظي والعلم، بخلاف ما لو أطلق التعليم وذكر تعليم العلم فقط لم يكن مستوعبا للمراتب. (31) اعلم أن المذهب إذا كان باطلا في نفسه لم يمكن الناقل أن ينقله على وجه متصور تصورا حقيقيا فإن هذا لا يكون إلا للحق، فأما القول الباطل فبيانه يظهر فساده، حتى يقال: كيف اشتبه على أحد؟ ويتعجب من اعتقاده، ولا ينبغي للإنسان أن يتعجب، فما من شيء يتخيل من أنواع الباطل إلا وذهب إليه فريق، ولهذا وصف الله أهل الباطل بأنهم أموات، وأنهم صم بكم، وأنهم في قول مختلف، وأنهم لا يعقلون.

_ 1 أحمد (4/128) . 2 كمالك وأحمد والشافعي حتى قال الشافعي: (ناظروا القدرية بالعلم فإن أقروا به خصموا وإن جحدوا كفروا) . 3 سورة العلق آية: 1. 4 سورة العلق آية: 3.

(32) قوله: "مثل أمتي كمثل الغيث" إلخ. تكلم في إسناده، وبتقدير صحته أنه يكون في آخرها من يقارب أولها حتى يشتبه على بعض الناس أيهما خير، كطرفي الثوب، (مع القطع) بأن الأول خير من الآخر، ولهذا قال: (لا يدرى) ، ومعلوم أن هذا السلب ليس عاما، فإنه لابد أن يكون معلوما أيهما أفضل. (33) الآية مثل العلامة، والدلالة. أخبر أنه جعل في هذه المصنوعات آيات، وتارة يسميها أنفسها آية كقوله: {وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ} 1. فإذا قيل: تجلى بها وظهر بها كما يقال علم وعرف، كان صحيحا، ولكنه غير مأثور، وفيه إبهام وإجمال، فإن الظهور والتجلي يفهم منه الظهور العيني وهو مذهب الاتحادية، فالذي في القرآن هو الحق. (34) قوله تعالى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} 2 دلت على علمه بالأشياء من وجوه تضمنت البراهين المذكورة لأهل النظر العقلي: أحدها: أنه خالق لها، والخلق هو الإبداع بتقدير، فتضمن تقديرها في العلم قبل تكوينها. الثاني: أنه مستلزم للإرادة والمشيئة فيلزم تصور المراد، وهذه الطريقة المشهورة عند أكثر أهل الكلام. الثالث: أنها صادرة عنه وهو

_ 1 سورة يس آية: 33. 2 سورة الملك آية: 14.

سببها التام، والعلم بالأصل يوجب العلم بالفرع، فعلمه بنفسه يستلزم العلم بكل ما يصدر عنه، الرابع: أنه لطيف يدرك الدقيق، خبير يدرك الخفي، وهذا هو المقتضي للعلم بالأشياء؛ فيجب وجود المقتضي لوجود السبب التام. (35) قوله: "حجابه النور" إلخ. فمَن سُبُحَاته تحرق السموات والأرض لولا الحجاب، أيكون نوره يحفظ بالسماء؟. 1 (36) قوله: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} إلخ. وذكر آيات، ثم قال: وقد ثبت في الصحاح أنه يقبض السموات والأرض بيده، فمن يكونان في قبضته وكرسيه وُسْعهما، {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ} 2 فبأمره يقومان، وهو الذي يمسكهما أن تزولا، أيكون محتاجا إليهما؟. (37) قوله: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا} 3 إلخ. هكذا يريد هؤلاء المتحيرون أن يفعلوا بالمؤمنين، فيدعون من دون الله ما لا ينفع ولا يضر من كل عبد من دون الله، ويريدون أن يرتد المؤمنون على أعقابهم عن الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، ويصيرون حائرين كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران.

_ 1 يريد الشيخ بذلك الرد على المعطلة المنكرين لصفات الرب جل وعلا. 2 سورة الروم آية: 25. 3 سورة الأنعام آية: 71.

(38) تكليم الله للعباد على ثلاثة أوجه: 1. من وراء حجاب كموسى. 2. وبإرسال رسول كما أرسل الملائكة إلى الأنبياء. 3. وبالإيحاء، وهذا للأولياء فيه نصيب والمرتبتان الأوليان للأنبياء خاصة. (39) قوله: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا} 1 إلخ. أخبر أنهم ابتدعوا أسماء لا حقيقة لها؛ فيعبدون أسماء لا مسميات لها؛ لأنه ليس في المسمى من الألوهية ولا العزة ولا التقدير شيء، ولم ينزل الله سلطانا بهذه الأسماء. (40) قوله: "كان الله ولا شيء معه، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء" 2 ينفي وجود المخلوقات من السموات والأرض وما فيهما، لا ينفي وجود العرش، ولهذا ذهب كثير من السلف إلى أن العرش متقدم على اللوح والقلم، مستدلين بهذا الحديث، وحملوا قوله: "أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب" 3 إلخ. على هذا الخلق المذكور في قوله: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} 4. هذا نظير حديث أبي رزين: "أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه؟ قال: كان في عماء، ما فوقه هواء، وما تحته هواء، ثم خلق عرشه على الماء" 5 فالخلق المذكور في هذا الحديث لم يدخل فيه العماء؛ وذكر بعضهم أن هذا

_ 1 سورة النجم آية: 23. 2 البخاري: بدء الخلق (3192) , وأحمد (4/431) . 3 الترمذي: القدر (2155) . 4 سورة هود آية: 7. 5 الترمذي: تفسير القرآن (3109) , وابن ماجه: المقدمة (182) , وأحمد (4/11 ,4/12) .

هو السحاب المذكور في قوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ} 1 إلخ. وفيه آثار معروفة. (41) العبد مأمور بالصبر على المقدور، وأن يطيع المأمور، وإذا أذنب استغفر كما قال تعالى {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ} 2 الآية. فمن احتج بالقدر على ترك الأمر، وجزع مما يكره من القدر، فقد عكس الإيمان والدين، وإن ادعى أنه من أكبر الأولياء المحققين. تجد أحدهم أجبر الناس إذا قدر، وأذل الناس إذا قهر، وأعظمهم جزعا، لما جربه الناس من أصناف الناس، والمؤمن إذا قدر عدل وأحسن، وإذا قهر صبر واحتسب، كما قال كعب: ليسوا مفاريحا إن نالت رماحهم. وقال تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} 3 الآية، وكذلك في آخر السورة وفي وسطها وفي يوسف: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ} 4 الآية. فالصبر يدخل فيه الصبر على المقدور، والتقوى فعل المأمور وترك المحظور، فمن جمع هذا وهذا فقد جمع له الخير، بخلاف من عكس. (42) لأهل التعطيل شبهات في العلو يعارضون بها الكتاب والسنة، والإجماع والفطر، والدلائل العقلية؛ فإنها متفقة على أنه سبحانه فوق

_ 1 سورة البقرة آية: 210. 2 سورة غافر آية: 55. 3 سورة آل عمران آية: 120. 4 سورة يوسف آية: 90.

مخلوقاته، وقد فطر الله على ذلك العجايز والصبيان، كما فطرهم على الإقرار بالخالق، قال صلى الله عليه وسلم "كل مولود يولد على الفطرة" 1 إلخ. هذا معنى قول عمر بن عبد العزيز: عليك بدين الأعراب والصبيان في الكتاب، أي: أن الله فطرهم على الحق، والرسل بعثوا بتكميل الفطرة، وتقديرها، وأعداؤهم يريدون تغييرها، ويوردون شبهات لا يفهمها كثير من الناس. (43) ليس لأحد أن يتبع عورات العلماء، ولا له أن يتكلم فيهم؛ فمن عدل عن الحجة إلى الظن والهوى فهو ظالم، وكذلك كل من آذى المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا. ومن عظم حرمات الله، وأحسن إلى عباد الله، فهو من أولياء الله. (44) الذين استحلوا الدرهم بدرهمين يدا بيد، أجل قدرا ممن استحل النبيذ فهؤلاء فهموا من الربا نوعا، وهؤلاء فهموا من الخمر نوعا، وهكذا من فهم من الميسر نوعا، وشمول الميسر لأنواعه كشمول الربا والخمر لأنواعهما. (45) رجح رحمه الله فعل ذوات الأسباب في أوقات النهي. الأمر بتحية المسجد عام، ونهيه عن الصلاة فيه عموم، لكن رأيناه نهى عن الصلاة عند الخطبة وهو متفق عليه، وهذا أشد من النهي في الأوقات، فأمره بعد أن قعد أن يقوم ويركع ركعتين ثم بين العموم بقوله: "إذا جاء أحدكم والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما" 2 والمنازع من أصحاب 3 يوافق عليهما، ولكن أصحاب أبي حنيفة ومالك طردوا قولهم فمنعوهما

_ 1 البخاري: الجنائز (1385) , ومسلم: القدر (2658 ,2659) , والترمذي: القدر (2138) , والنسائي: الجنائز (1949 ,1950) , وأبو داود: السنة (4714) , وأحمد (2/233 ,2/244 ,2/253 ,2/259 ,2/268 ,2/275 ,2/282 ,2/315 ,2/346 ,2/393 ,2/410 ,2/464 ,2/471 ,2/481 ,2/518) , ومالك: الجنائز (569) . 2 البخاري: الجمعة (1170) , ومسلم: الجمعة (875) , والنسائي: الجمعة (1395) , وأبو داود: الصلاة (1116) , وأحمد (3/297 ,3/316) , والدارمي: الصلاة (1551 ,1555) . 3 لعله من أصحاب أحمد.

ولكن كلام الرسول صلى الله عليه وسلم حجة لكل أحد وعليه، بنصه وشبيهه، فدل نصه على التحية وقت الخطبة، وقياس الأولى على التحية بعد البردين، 1 وعلى أن الأمر بالركعتين مخصص كما خصص هنا وأولى، وفي الصحيحين أنه قال: لجابر "صل ركعتين" 2 أي تحية المسجد، فقد أمره بالصلاة ولم يعلله بالقعود، وقوله في الآخر فلا يقعد لأن العادة أنه يقعد، واحتج النسائي على عدم وجوبهما بحديث كعب بن مالك، وفيه: فلما سلمت قال: "تعال فجئت فجلست" إلخ، ثم ذكر حديث الرجلين اللذين لم يعيدا في مسجد الخيف، وهذا يبين أن هذا متأخر، وأنه ليس بمنسوخ، بل لو قدر التعارض لكان هو الناسخ، ويبين أن قوله: مسجد جماعة المراد به الجماعة الراتبة، سواء كانت تفعل في ذلك المكان دائما أو أحيانا، فإن مسجد الخيف إنما يصلى فيه في الموسم، فهذا نص صحيح صريح خاص أنه أمره بالإعادة وأخبر أنها نافلة، كما أمر الداخل وهو يخطب أن يصلي، والإمام أحمد أعلمهم بالنصوص، وأتبعهم لها، فلا يكاد يخالف نصا صريحا، وإنما قوله حيث فقد ذلك فقضى بالعامة على الخاصة من غير نزاع، واختلف فيما عدا ذلك، بخلاف غيره الذين لم يبلغهم ما بلغه، وقوله لا صلاة في يوم مرتين يؤكد ما قلنا، فإنه إذا نهى عن ذلك، وثبت عنه في الأحاديث الصحيحة الكثيرة أن إعادة الصلاة نافلة لسبب، وأمره بإعادتها لسبب، وجب اتباع أمره كله، ولم يجز أن نؤمن ببعضه، ونكفر ببعضه، فنجعل السنة عضين.

_ 1 البردين العصر والفجر. 2 البخاري: الصلاة (443) وفي الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس (2394) , ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (715) , وأحمد (3/319) .

(46) المنهي عنه من العادات والعبادات ثلاثة أنواع: أحدها: ما لا يباح بحال كالكفر بالقلب، ومن هذا لو أكره على محرم كالميتة، وقلنا يباح كقول الأكثر وهو الأصلح، وقيل لا تباح الأفعال المحرمة بالإكراه، وقال تعالى: {وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 1 أي لمن يكره على الفاحشة، لكن اعتقاد التحريم والكراهة للفعل لا بد منها، فإن إنكاره للمنكر من فعل غيره - بالقلب لا بد منه، فكيف فعله؟ ولهذا يكره الإنسان ابتداء على ذلك ثم يفعلها باختياره، كما في الإكراه على الحق؛ فإن الحربي يقاتل حتى يسلم، ثم ينشرح صدره للإسلام، فينفعه هذا دون الأول. كذلك الإكراه على المعاصي وهذا أصل عظيم يجب مراعاته. الثاني: ما يباح عند الضرورة كالميتة، وليس له أن يعتقد تحريمها حينئذ، ولا يكرهها. الثالث: المباح للحاجة كالحرير للنساء، ويسيره للرجال، والله أرسل رسوله رحمة للناس، فإذا كان من المحرمات ما يحتاج إليه ورجحت المصلحة أبيح، فالصلاة وقت النهي من هذا القسم؛ فإن جنسها مباح بالإجماع، كالعصر عند الغروب، والجنايز بعد الفجر والعصر، فامتنع أنه من الذي لا يباح بحال، أو يباح ضرورة، فإذا كانت الحاجة لمصلحة دنيوية يكون حاجة، فالدينية أولى، فإن ما يفوت الزوجة من عدم لباسها الحرير لا نسبة إلى ما يفوته من مصالح هذه العبادات، قال تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} 2 الآية، وبهذا يظهر الفرق بين ذات السبب

_ 1 أبو داود: النور آية: 33. 2 سورة الإسراء آية: 21.

وغيرها، فإنه يمكن تأخيره بلا فوات مصلحة؛ لأنه لا يمكن ولا يشرع استيعاب الأوقات بالصلاة، فأحق ما اعتبره للترك الوقت الذي فيه مفسدة مشابهة المشركين. (47) النّزول في القرآن ثلاثة: نزول مقيد بأنه منه، فهذا لم يرد إلا في القرآن، ونزول مقيد بالسماء، وهي اسم جنس كل ما علا، فإذا قيد بمعين تعين، ونزول مطلق، كالسكينة والميزان، والجمهور على أنه العدل، وعن مجاهد ما يوزن به، ولا منافاة، وإنزال هذا هو إنزاله في القلوب، والملائكة تنزل على قلوب المؤمنين بما يجعل فيها. (48) شريعة الإسلام الذي هو الدين الخالص لله وحده تعبيد الخلق لربهم، كما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وتغيير الأسماء الشركية إلى الأسماء الإخلاصية، والأسماء الكفرية إلى الأسماء الإيمانية، كما سمى قيوم عبد القيوم. (49) قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} الآية، يعم البخل كل ما ينفع في الدين والدنيا من مال وعلم وغير ذلك، فالبخيل بالعلم الذي يمنعه، والمختال إما يختال فلا يطلبه، وإما يختال على بعض الناس فلا يبذله، وهذا كثيرا ما يقع؛ وضده التواضع في طلبه، والكرم ببذله. (50) قوله تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} الآية بعد قوله

{قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} لو اقتصر على الجمع أعرض العاصي عن ذم نفسه، والتوبة من الذنب، والاستعاذة من شره، وقام بقلبه حجة إبليس فلم تزده إلا طردا، كما زادت المشركين ضلالا حين قالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} 1. ولو اقتصر على الفرق لغابوا به عن التوحيد والإيمان بالقدر، واللجاء إلى الله في الهداية، كما في خطبته صلى الله عليه وسلم "الحمد لله نستعينه ونستغفره" 2 فيشكره ويستعينه على طاعته، ويستغفر من معصيته، ويحمده على إحسانه، ثم قال "ونعوذ بالله من شرور أنفسا" 3 إلخ. لما استغفر من المانع استعاذ من الذنوب التي لم تقع، ثم قال: "ومن سيئات أعمالنا" أي من عقوباتها ثم قال: "من يهده الله فلا مضل له" إلخ. شهادة بأنه المتصرف في خلقه، ففيه إثبات الصفات الذي هو نظام التوحيد، كل هذا مقدمة بين يدي الشهادتين، فإنما يتحققان بحمد الله وإعانته واستغفاره واللجاء إليه والإيمان بأقداره، فهذه الخطبة عقد نظام الإسلام والإيمان. (51) كون الحسنات من الله إلى عبده فخلق الحياة وأرسل الرسل وحبب إليهم الإيمان، وإذا تدبرت هذا شكرت الله فزادك، وإذا علمت أن الشر لا يحصل إلا من نفسك تبت فزال. الثالث: أن الحسنة تضاعف. الرابع: أن الحسنة يحبها الله ويرضاها، فيحب أن ينعم ويحب أن يطاع، ولهذا تأدب العارفون فأضافوا النعم إليه والشر إلى محله، كما قال إمام الحنفاء {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} 4 إلى قوله: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} 5. الخامس: أن الحسنة مضافة إليه، لأنه أحسن بها بكل اعتبار، وأما السيئة فما قدرها إلا لحكمة. السادس: أن الحسنات أمور وجودية متعلقة بالرحمة والحكمة،

_ 1 سورة الأنعام آية: 148. 2 الترمذي: النكاح (1105) , والنسائي: الجمعة (1404) , وأبو داود: النكاح (2118) , وابن ماجه: النكاح (1892) , وأحمد (1/392 ,1/432) , والدارمي: النكاح (2202) . 3 النسائي: الجمعة (1404) , وأبو داود: النكاح (2118) , وأحمد (1/392 ,1/432) , والدارمي: النكاح (2202) . 4 سورة الشعراء آية: 78. 5 سورة الشعراء آية: 80.

لأنها إما فعل مأمور، أو ترك محظور، والترك أمر وجودي؛ فتركه لما عرف أنه ذنب، وكراهته له ومنع نفسه منه أمور وجودية، وإنما يثاب على الترك على هذا الوجه. وقد جعل صلى الله عليه وسلم البغض في الله من أوثق عرى الإيمان، وهو أصل الترك، وجعل المنع لله من كمال الإيمان، وهو أصل الترك؛ وكذلك براءة الخليل قومه من المشركين ومعبوديهم ليست تركا محضا بل صادرا عن بغض وعداوة. وأما السيئات، فمنشأها من الجهل والظلم، وفي الحقيقة كلها ترجع إلى الجهل، وإلا فلو تم العلم بها لم يفعله فإن هذا خاصة العقل، وقد يغفل عن هذا كله بقوة وإرادة الشهوة والغفلة؛ والشهوة أصل الشر، كما قال تعالى: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} 1 الآية. السابع: إن ابتلاءه بالذنوب عقوبة له على عدم فعل ما خلق له وفطر عليه. الثامن: أن ما يصيبه من الخير والنعم لا تنحصر أسبابه، يحصل بعمله وبغير عمله، وعمله من إنعام الله عليه، فيرجع في ذلك إلى الله ولا يرجو إلا هو؛ فهو مستحق الشكر التام الذي لا يستحقه غيره، وإنما يستحق غيره من الشكر جزاء على ما يسره الله على يديه، لكن لا يبلغ أن يشكر بمعصية الله، 2 فإنه المنعم بما لا يقدر عليه مخلوق ونعمة المخلوق منه أيضا، وجزاه على الشكر والكفر لا يقدر أحد على مثله. فإذا عرف أن ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها، وما يمسك فلا مرسل له من بعده صار توكله ورجاؤه إلى الله وحده. وإذا علم

_ 1 سورة الكهف آية: 28. 2 لعل الصواب بما يختص بالله.

ما يستحق من الشكر الذي لا يستحقه غيره صار [الشرك كله له] 1، والشر انحصر سببه في النفس، فعلم من أين يؤتى، فتاب واستعان بالله، كما قال بعض السلف: "لا يرجونّ عبد إلا ربه، ولا يخافنّ إلا ذنبه " وقد تقدم قول السلف ابن عباس وغيره أن ما أصابهم يوم أحد مطلقا كان بذنوبهم لم يستثن أحد، وهذا من فوائد تخصيص الخطاب، لئلا يظن أنه عام مخصوص. والتاسع: أن السيئة إذا كانت من النفس، والسيئة خبيثة كما قال: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ} 2 الآية، قال جمهور السلف: الكلمات الخبيثة للخبيثين وقال: {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ} (وقال) : {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} 3، والأقوال والأفعال صفات القائل الفاعل، فإذا اتصفت النفس بالخبث فحملها ما يناسبها، فمن أراد أن يجعل الحيَّاتِ يعاشرن الناس كالسنانير لم يصلح، بل إذا كان في النفس خبث طهرت حتى تصلح للجنة كما في الصحيح من حديث أبي سعيد وفيه: "حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة" 4. فإذا علم الإنسان أن السيئة من نفسه لم يطمع في السعادة التامة مع ما فيه من الشر بل تحقيق قوله: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} 5، {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} 6 إلخ، وعلم أن الرب حليم، عليم، رحيم، عدل، وأفعاله على قانون العدل والإحسان، كما في الصحيحين: "يمين الله ملأى ... إلى قوله: والقسط بيده الأخرى"،

_ 1 بياض في الأصل, ولعله تمامه. 2 سورة النور آية: 26. 3 سورة فاطر آية: 10. 4 البخاري: الرقاق (6535) , وأحمد (3/13) . 5 سورة النساء آية: 123. 6 سورة الزلزلة آية: 7.

وعلم فساد قول الجهمية الذين يجعلون الثواب والعقاب بلا حكمة ولا عدل إلى أن قال: ومن سلك مسلكهم غايته إذا عظم الأمر والنهي أن يقول كما نقل عن الشاذلي: يكون الجمع في قلبك مشهودا، والفرق على لسانك موجودا، كما يوجد في كلامه وكلام غيره، أقوال وأدعية تستلزم تعطيل الأمر والنهي مما يوجب أن يكون عنده أن يجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض؛ ويدعون بأدعية فيها اعتداء كما في حزب الشاذلي، وآخرون من عوامهم يجوزون أن يكرم الله بكرامات الأولياء لمن هو فاجر أو كافر، ويقولون هذه موهبة، يظنونها من الكرامات وهي من الأحوال الشيطانية التي يكون مثلها للسحرة والكهان، كما قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} 1 إلى قوله: {هَارُوتَ وَمَارُوتَ} وصح قوله صلى الله عليه وسلم: "لتتبعن سنن من كان قبلكم" 2 فعدل كثير من المنتسبين إلى الإسلام إلى أن نبذ القرآن وراء ظهره، واتبع ما تتلو الشياطين، فلا يعظم أمر القرآن ونهيه ولا يوالي من أمر القرآن بموالاته؛ ولا يعادي من أمر القرآن بمعاداته بل يعظم من يأتي ببعض الخوارق. ثم منهم من يعرف أنه من الشيطان لكن يعظمه لهواه، ويفضله على طريقة القرآن، وهؤلاء كفار كما قال الله فيهم {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} 3 الآية. (52) قوله: {من نفسك} فمن الفوائد أن المتعلم لا يطمئن إلى نفسه، ولا يشتغل بملام الناس وذمهم، بل يسأل الله أن يعينه على طاعته، ولهذا

_ 1 سورة البقرة آية: 101. 2 البخاري: أحاديث الأنبياء (3456) , ومسلم: العلم (2669) , وأحمد (3/84 ,3/89 ,3/94) . 3 سورة النساء آية: 51.

كان أنفع الدعاء وأعظمه الفاتحة، وهي مفتاح إلى الهدى كل لحظة، ويدخل فيه من أنواع الحاجات ما لا يمكن إحصاؤه؛ ويبينه أن الله سبحانه لم يقص علينا في القرآن قصة إلا لنعتبر، وإنما يكون الاعتبار إذا قسنا الثاني بالأول، فلولا أن في النفوس ما في نفوس المكذبين للرسل لم يكن بنا حاجة إلى الاعتبار بمن لا نشبهه قط، ولكن الأمر كما قال تعالى: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} 1 وقوله: {أَتَوَاصَوْا بِهِ} وقوله: {تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} ولهذا في الحديث "لتسلكن سنن من كان قبلكم" الحديث. وقد بين القرآن أن السيئات من النفس، وأعظم السيئات جحود الخالق والشرك به، وطلب النفس أن تكون شريكة له، وكلا هذين وقع، قال بعضهم ما من نفس إلا وفيها ما في نفس فرعون؛ وذلك أن الإنسان إذا اعتبر وتعرف أحوال الناس رأى من يبغض نظيره وأتباعه حسدا كما فعلت اليهود لما بعث الله من يدعو إلى مثل ما دعا إليه موسى، ولهذا أخبر عنهم بنظير ما أخبر به عن فرعون كما قال: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ} 2 الآية وقال: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ} 3 الآية. (53) قوله في الحديث الذي في الترمذي وصحيح الحاكم "للجن أحسن ردا منكم" 4 إلخ يذكر تعالى آياته الدالة على قدرته وربوبيته، وآياته

_ 1 سورة فصلت آية: 43. 2 سورة القصص آية: 4. 3 سورة الإسراء آية: 4. 4 الترمذي: تفسير القرآن (3291) .

التي فيها إحسانه إلى عباده، وآياته المبينة لحكمته، وهي متلازمة، فكلما خلق فهو نعمة ودليل على قدرته وحكمته، لكن نعمة الرزق في المأكل والمشرب واللباس والسكن ظاهر لكل أحد، فلهذا استدل بها كما في سورة النحل وتسمى سورة النعم، وكل ما خلقه فهو نعمة على المؤمنين يستحق أن يحمدوه ويشكروه عليه، وهو من آلائه، ولهذا قال: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى} 1، وكذلك ختم كل آية {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} 2 فجميع المخلوقات أنعام من جهة أنها آيات بها هدايتهم التي يسعدون بها في الدارين، فتدلهم عليه، وعلى وحدانيته، وقدرته، وعلمه، وحكمته، ورحمته، وهذه أفضل النعم نعمة الإيمان، قال ابن قتيبة: (لما ذكرهم آلاءه، ونبههم على قدرته، جعل كل كلمة فاصلة بين نعمتين ليفهمهم النعم ويقروا هم بها) . (54) إذا كان الحمد لا يقع إلا نعمة، فقد ثبت أنه رأس الشكر؛ فهو أول الشكر، والحمد وإن كان على نعمته وعلى حكمته فالشكر بالأعمال على نعمته، وهو عبادة له لإلهيته التي تتضمن حكمته، فصار المجموع داخلا في الشكر، ولهذا عظم القرآن أمر الشكر، ولم يعظم أمر الحمد مجردا إذ كان نوعا من الشكر، وشرع الحمد الذي هو الشكر المقول أمام كل خطاب مع التوحيد. (55) المؤمن يرى أن عمله لله، لأنه إياه يعبد، وأنه بالله، لأنه إياه يستعين فلا يطلب جزاء ولا شكورا من غير الله، ولا يمن ولا يؤذي لعلمه أن الله هو المان عليه، ومن الناس من يحسن إلى غيره ليمن عليه أو يجزيه

_ 1 سورة النجم آية: 55. 2 سورة الرحمن آية: 13.

بطاعة أو تعظيم أو غيره، فلا عمل لله، ولا بالله، فهو كالمرائي، وقد أبطل الله صدقة المنان والمرائي. (56) أما نعمة الضراء فاحتياجها إلى الصبر ظاهر وأما نعمة السراء، فتحتاج إلى الصبر على الطاعة فيها، فإن فتنة السراء أعظم. وفي الحديث: "أعوذ بك من فتنة الفقر، وشر فتنة الغنى" 1 والفقر يصلح عليه خلق كثير ولا يصلح على الغنى ألا أقل منهم، ولهذا أكثر من يدخل الجنة المساكين، لأن فتنة الفقر أهون. وكلاهما يحتاج إلى الصبر والشكر، ولكن لما كان في السراء اللذة والضراء الألم، اشتهر ذكر الشكر في السراء والصبر في الضراء، قال تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً} 2 إلى قوله {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا} الآية. فصاحب السراء أحوج إلى الشكر، وصاحب الضراء أحوج إلى الصبر، فإنّ صبر هذا واجب إذا ترك استحق العقاب، وكذلك شكر ذاك. وأما صاحب السراء فقد يكون مستحبا إذا كان عن فضول الشهوات، وقد يكون واجبا لكن لإتيانه بالشكر يغفر ما يغفر. وكذلك صاحب الضر قد يكون الشكر في حقه مستحبا إذا كان شكرا يصير به من السابقين المقربين، وقد يغفر له ما قصر في الشكر لإتيانه بالصبر، فإن اجتماع الصبر والشكر جميعا يعسر على كثير من الناس. (57) أمر الله الرسل أن يكون دينهم واحدا لا يتفرقون فيه ولهذا يصدّق بعضهم بعضا لا يختلفون مع تنوع شرائعهم، فمن كان من المطاعين من العلماء والأمراء متبعا للرسل أمر بما أمروا به ودعا إليه،

_ 1 أحمد (6/57) . 2 سورة هود آية: 9.

وأحب من دعا إليه، لأن قصده عبادة الله وحده وأن يكون الدين لله، ومن كره أن يكون له نظير يدعو إلى ذلك فهذا يطلب أن يكون هو المطاع المعبود، وله نصيب من حال فرعون، ومن طلب أن يطاع دون الله فهذا حال فرعون، ومن طلب أن يطاع مع الله فهذا يريد من الناس أن يتخذوا من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله. (58) جميع الولايات مقصودها أن يكون الدين كله لله؛ فإنه سبحانه إنما خلق الخلق لذلك، وذلك هو الخير، والبر، والتقوى، والحسنات، والقربات، والباقيات الصالحات، والعمل الصالح، وإن كان بين هذه الأسماء فروق لطيفة، ولا تتم المصلحة في الدين والدنيا إلا بالاجتماع، وإذا اجتمعوا فلا بد من أمور يفعلونها لمصلحتهم، وأمور يجتنبونها لدفع المفسدة، ويكونون مطيعين للأمر بها والنهي عنها، فلا بد من آمر وناهٍ، وإذا كان لا بد من ذلك فدخول المرء تحت طاعة الله ورسوله الذي يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويحل لها الطيبات، ويحرم عليهم الخبائث خير له. وأخبر أنه أنزل الكتاب بالحق والميزان وأنزل الحديد ليقوم الناس بالقسط، ولهذا أمر صلى الله عليه وسلم أمته بتولية ولاة الأمور عليهم، وأمر ولاة الأمور أن يؤدوا الأمانة، وأن يحكموا بالعدل، وأمر بطاعتهم؛ فلأبي داود عن أبي سعيد مرفوعا: "إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم" 1، وله عن أبي هريرة مثله، ففيه تنبيه على الوجوب فيما هو أكثر من ذلك. (59) من المتولين من هو بمنْزلة الشاهد المؤتمن والمطلوب منه الصدق، مثل ولاية الأموال، والعريف الذي يخبر ولي الأمر بالأحوال، ومنهم من هو بمنْزلة الآمر المطاع، والمطلوب منه الصدق، وبالصدق في الأخبار،

_ 1 أبو داود: الجهاد (2608) .

والعدل في الإنشاء من الأقوال والأعمال تصلح جميع الأحوال، وهما قرينان قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً} 1، وقال في الحديث "من صدقهم بكذبهم، وأعانهم على ظلمهم" 2 إلى آخره. (60) الأدلة العقلية الشرعية إنما تدل على الحق، وهذا ظاهر يعرفه كل أحد، لأن الدليل الصحيح لا يدل إلا على حق، يبقى الكلام في أعيان الأدلة، وبيان انتفاء دلالتها على الباطل، ودلالتها على الحق هو تفصيل هذا الإجمال. والمقصود هنا شيء آخر، وهو أن نفس الدليل الذي يحتج به المبطل هو بعينه إذا أعطى حقه تبين أنه يدل على فساد قول المبطل في نفس ما احتج به عليه، وهذا عجيب قد تأملته فيما شاء الله من الأدلة السمعية، والمقصود هنا أن الأدلة العقلية كذلك. فأما السمعية فقد ذكرت أمورا مما احتج به الجهمية والرافضة وغيرهم مثل {اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ} 3 وبينت أنها تدل على نقيض مطلوبهم، وهذا مبسوط في الرد على الرازي في كتاب تأسيس التقديس، فإني لم أر لهم مثله، جمع فيه عامة حججهم. وكذلك احتجاجهم على نفي الرؤية بقولهم له: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} 4، وكذلك قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 5، ونحو ذلك. وكذلك احتجاج الشيعة بقوله: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ} الآية وبقوله: "أما ترضى أن تكون مني بمنْزلة هارون من موسى" 6 ونحو ذلك كما بسط في منهاج أهل السنة. والمقصود هنا

_ 1 سورة الأنعام آية: 115. 2 الترمذي: الفتن (2259) , والنسائي: البيعة (4207 ,4208) , وأحمد (4/243) . 3 سورة آية: 1-2. 4 سورة الأنعام آية: 103. 5 سورة الشورى آية: 11. 6 البخاري: المناقب (3706) والمغازي (4416) , ومسلم: فضائل الصحابة (2404) , والترمذي: المناقب (3731) , وابن ماجه: المقدمة (115 ,121) , وأحمد (1/170 ,1/173 ,1/174 ,1/175 ,1/177 ,1/179 ,1/182 ,1/184 ,1/185) .

العقليات؛ فإن كل من له معرفة يعرف أن السمعيات إنما تدل على الإثبات. وأما الرافضة فعمدتهم على السمعيات، لكن كذبوا أحاديث كثيرة جدا راج كثير منها على أهل السنة، وعسر تمييزها إلا على الأئمة العارفين بعلل الحديث متنا وسندا. كما أن الجهمية أتوا بحجج عقلية اشتبهت على أهل السنة إلا على قليل ممن له خبرة بذلك. والصفات والقدر، ويسميان التوحيد والعدل هما أعظم وأجل ما فيه في الأصول، والحاجة إليهما أعم، ومعرفة الحق فيها أنفع. (61) الأقوال التي ترغب في الفجور وتهيج القلوب إليها، وكل ما فيه إعانة على الفاحشة وترغيب فيها حرام أعظم من تحريم الندب والنياحة، لأن ذلك يثير الحزن وهذا يثير الفسق، والحزن قد يرخص فيه بخلاف الفسق، بل هذا من جنس القيادة، وفي الصحيح "لا تنعت المرأة المرأة لزوجها حتى كأنه ينظر إليها" 1، وبلغ عمر أن نصرا تغنت به امرأة فأخذ شعره ثم رآه جميلا فنفاه، فكيف لو رأى من يغني بهذه الأقوال المروية في المردان مع كثرة الفجور؟! فإن هؤلاء من المضادين لله ولرسوله، ولدينه، يدعون إلى ما نهى الله عنه، ويصدون عن سبيل الله، ويبغونها عوجا. والمخالط لهم إذا ادعى السلامة لم يقبل منه، فإنه إما أن يفعل معهم، وإما أن يقرهم، وعلى كل حال فهو مستحق للعقوبة. وقد رفع إلى عمر بن عبد العزيز

_ 1 البخاري: النكاح (5240) , والترمذي: الأدب (2792) , وأبو داود: النكاح (2150) , وأحمد (1/387 ,1/440 ,1/460 ,1/462 ,1/464) .

أقوام يشربون الخمر، فقيل إن فيهم صائما، فقال: ابدؤوا به فاجلدوه، ألم يسمع قول الله تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ} 1 الآية. فنهى سبحانه عن القعود مع الظالمين، فكيف بمعاشرتهم؟ والرسول بعث بإصلاح العقول والأديان، وتكميل نوع الإنسان، وحرم ما يغير العقل من جميع الألوان. (62) الوسواس في الصلاة نوعان: أحدهما لا يمنع من تدبر الكلام الطيب والعمل الصالح، بل بمنْزلة الخواطر فلا يبطل، لكن من سلم منه فهو أفضل ممن لم يسلم منه. الأول شبه حال المقربين. والثاني: شبه حال المقتصدين. وأما الذي يمنع الفهم بحيث يصير الرجل غافلا، فلا ريب أنه يمنع الثواب، كما في حديث عمار. وغيره، والنصوص والآثار إنما تدل على أن الثواب مشروط بالحضور، ولم تدل على وجوب الإعادة لا باطنا ولا ظاهرا، كما في حديث الصوم: "من لم يدع قول الزور والعمل".. إلخ وهذا هو المأثور عن أحمد وغيره من الأئمة. (63) لم يكن أحد من الأنبياء نبيا قبل أن ينبأ وقوله: "كنت نبيا وآدم بين الروح والجسد" 2 وذلك أن في الصحيح أن الجنين إذا خلق كتب الملك رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد قبل نفخ الروح فيه، فبين خلقه ونفخ روحه. بقدر حاله في صحف الملائكة في تلك الحال ما سيكون من

_ 1 سورة النساء آية: 140. 2 الترمذي: المناقب (3609) .

أمره، وقال تعالى {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا} 1 الآية، وقال: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} 2 وقال: {وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} 3. ففي هذه النصوص وغيرها يخبر بإنعامه عليه؛ وبه يتبين عظم نعم الله عليه، وعظم قدرة الله سبحانه. (64) الأذكار والدعوات من أفضل العبادات، والعبادات مبناها على الاتباع وليس لأحد أن يسن منها غير المسنون، ويجعله عادة راتبة، يواظب الناس عليها، بل هذا ابتداع دين لم يأذن به الله. بخلاف ما يدعو به المرء أحيانا من غير أن يجعله سنة. (65) كل اسم مجهول ليس لأحد أن يرقأ به، فضلا عن أن يدعو به، ولو عرف معناه كره الدعاء بغير العربية، وإنما يرخص فيه لمن لا يحسن العربية، فأما جعل الألفاظ العجمية شعارا فليس من دين الإسلام. (66) من اعتدى على شريف أو غيره عوقب بالقصاص والتعزيز، أو حد القذف ويعاقب المعتدي أيضا وإن كان شريفا. فما يشرع فيه القصاص لا فرق فيه بين الشريف وغيره، لقوله صلى الله عليه وسلم "المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم " 4. (67) ما ذكر من حياة الشهداء ورزقهم قيل إنه مختص بهم، والصحيح الذي عليه الأئمة أنه ليس مختصا كما دلت عليه النصوص وخص الشهيد

_ 1 سورة الشورى آية: 52. 2 سورة النساء آية: 113. 3 سورة يوسف آية: 3. 4 النسائي: القسامة (4745 ,4746) , وأبو داود: الديات (4530) , وأحمد (1/119) .

بالذكر، لكون الظان يظن أنه يموت فينكل عن الجهاد، كما نهي عن قتل الأولاد خشية الإملاق. (68) اختلف في ولاية أبي بكر هل هي بنص أو إجماع؟ والتحقيق أنه صلى الله عليه وسلم دلهم عليها بأمور متعددة من أقواله، وأفعاله، وأخبر بها إخبار راض حامد، وعزم أن يكتب بها عهدا، ثم علم أن المسلمين يجتمعون، ولهذا قال: "يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر" 1 لأن النّزاع إنما يكون لخفاء العلم أو لسوء القصد، وكلاهما منتف، وهذا أبلغ من العهد، فصارت ثابتة بالنص والإجماع، المستند إلى ما علموه من تفضيل الله ورسوله له، وأنه أحق، وأن الله أمر بها وأن المؤمنين يختارونها. (69) خلق الله الخير والشر لما له في ذلك من الحكمة التي باعتبارها كان فعله حسنا متقنا كقوله: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} 2، {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} 3 فلهذا لا يضاف إليه الشر مفردا إلا أن يدخل في العموم، كقوله {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} 4، أو يضاف إلى السبب كقوله: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} 5، أو يحذف الفاعل كقوله {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ} 6 الآية، وقوله: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} 7 فذكر أنه فاعل النعمة، وحذف فاعل الغضب، وأضاف

_ 1 البخاري: المرضى (5666) , ومسلم: فضائل الصحابة (2387) , وأحمد (6/47 ,6/106 ,6/144) . 2 سورة السجدة آية: 7. 3 سورة النمل آية: 88. 4 سورة الأنعام آية: 102. 5 سورة الفلق آية: 2. 6 سورة الجن آية: 10. 7 سورة الفاتحة آية: 7.

الضلال إليهم، فالرب تعالى لا يمثل بخلقه، لا في ذاته ولا في صفاته، ولا في أفعاله، بل له المثل الأعلى. (70) وقال في احتجاج الرافضة بآية الميراث: ليس في عمومها ما يقتضي أنه صلى الله عليه وسلم يورث، ولا قصد بها بيان صفة المورث والوارث، وإنما قصد بها أن المال الموروث يقسم بين الوارثين على هذا التفصيل؛ ولهذا لو كان الميت مسلما وهؤلاء كفارا لم يرثوا بالاتفاق، وكذلك بالعكس في قول الجماهير، وكذلك القاتل عند عامة المسلمين. وهب أن لفظ الآية عام مخصوص بأدلة أضعف من كونها لم تعمه صلى الله عليه وسلم يعني في المسائل المتقدمة آنفا، وإذا خصت بنص أو إجماع خصت بنص آخر بالإجماع، وقد ثبت أنه لا يورث بالسنة المقطوع بها بإجماع الصحابة، وقد جرت العادة بأن الملوك الظلمة إذا تولوا بعد من أحسن إليهم وقد انتزعوا الملك منهم أعطوهم ما يكفيهم عنهم، وأما منع الميراث فلا يعلم أن أحدا من الملوك فعله، فعلم أن ما جرى خارج عن العادة الطبيعية في الملوك، كما خرج عن العادات الشرعية في المؤمنين لاختصاصه صلى الله عليه وسلم بما لم يخص به غيره. وقوله: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ} 1 لا يدل على محل النّزاع، لأن الإرث اسم جنس تحته أنواع، فيستعمل في إرث العلم والنبوة وغير ذلك، قال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا} 2 الآية. وداود له أولاد غير سليمان فلا يختص بماله، والمراد إرث العلم والنبوة ونحو ذلك، وإرث المال من الأمور المشتركة كالأكل

_ 1 سورة النمل آية: 16. 2 سورة فاطر آية: 32.

والشرب فلا يقص مثله عن الأنبياء. وقوله {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} 1 كذلك، لأنه لا يرث من آل يعقوب أموالهم، والنبي لا يطلب ابنا ليرث ماله، وهذا لا يصدر إلا ممن هو أقل الناس عقلا ودينا. (71) قوله: "ما أقلت الغبراء ... "إلخ بتقدير ثبوته لم يرد به أنه أصدق الناس، فإنه يلزم أن يكون أصدق منه صلى الله عليه وسلم، ولكن معناه: ليس غيره أكثر تحريا للصدق منه، والصادق شيء والصديق شيء ليس لكونه صادقا، بل لكونه صدق الأنبياء. فالصديق ليس فضيلته في مجرد الصدق، بل إنه علم ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم جملة وتفصيلا، وصدق ذلك تصديقا كاملا في العلم والقصد والقول والعمل. وأبو ذر لم يعلم ما أخبر به صلى الله عليه وسلم كما علمه أبو بكر فإنه أعرف منه، وأعظم حبا لله ورسوله، وأعظم نصرا لله ورسوله، وأعظم جهادا بنفسه وماله، إلى غير ذلك من الصفات التي هي كمال الصديقية. (72) وقال في قول الرافضي: إذاعة سر رسول الله صلى الله عليه وسلم: أهل السنة في هذا الباب قائمون بالقسط شهداء لله، قولهم لا يتناقض، وأما أهل البدع ففيهم من التناقض ما ننبه على بعضه؛ وذلك أن عندنا أن أهل بدر كلهم في الجنة، وكذلك أمهات المؤمنين، لكن ليس من شرط ذلك سلامتهم من الخطأ والذنوب، فما يذكر عن الصحابة من السيئات كثير منه كذب، وكثير منه كانوا مجتهدين فيه؛ وما قدر أنه ذنب فهو مغفور إما بتوبة أو حسنات، أو غير ذلك، فإنه قد قام الدليل على أنهم في الجنة؛

_ 1 سورة مريم آية: 6.

ولو لم يقم لم يجز لنا القدح في استحقاقهم الجنة بأمور لا نعلم أنها توجب النار، فإن هذا لا يجوز في آحاد المؤمنين، والكلام بلا علم حرام، ولهذا كان الإمساك عما شجر بينهم خير من الخوض فيه بغير علم بحقيقة الأحوال، إذ كثير منه أو أكثره بغير علم، وهو حرام، لو لم يكن فيه هوى ومعارضة للحق. وقال: "القضاة ثلاثة" 1 إلخ فإذا كان هذا في قضاء بين اثنين في قليل المال وكثيره، فكيف بين الصحابة في أمور كثيرة؛ فمن تكلم في هذا الباب بجهل أو بخلاف ما يعلم من الحق استوجب الوعيد، ولو تكلم بحق للهوى أو عارض به حقا آخر استوجب الوعيد. فمن سلك سبيل أهل السنة استقام، وإلا وقع في كذب وجهل وتناقض. ثم ذكر إنكار الرافضة توبة الأنبياء والأئمة، وخطبة علي لابنة أبي جهل، وغضبه صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية لمّا لم يحلقوا، ثم قال: والرافضة تعمد إلى قوم متقاربين تريد أن تجعل أحدهم معصوما والآخر مأثوما، فيظهر جهلهم وتناقضهم، ومن عمد إلى التفريق بين المتماثلين أصابه مثل هذا كأتباع العلماء والمشايخ. (73) مذهب أهل السنة أن الأمراء الظلمة مشاركون فيما يحتاج إليهم فيه من طاعة الله فيصلى خلفهم، ويجاهد معهم، ويستعان بهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن حكم منهم بعدل نفذ حكمه. وإن أمكن تولية بر لم يجز تولية فاجر، فيجتهدون في الطاعة بحسب الإمكان، كما قال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} 2، ويعلمون أن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بصلاح العباد، فإذا اجتمع صلاح وفساد رجحوا الراجح

_ 1 الترمذي: الأحكام (1322) , وأبو داود: الأقضية (3573) , وابن ماجه: الأحكام (2315) . 2 سورة التغابن آية: 16.

منهما، وقل من خرج على دين سلطان إلا كان ما تولد عن فعله من الشر أعظم من الخير، فلا أقاموا دينا ولا أبقوا دنيا، وإن كان فيهم خلق من أهل العلم والدين، وهذا مما يبين أن ما أمر به صلى الله عليه وسلم من الصبر على جور الأئمة هو الأصلح. فالشارع أمر كلا بما هو أصلح له وللمسلمين، فأمر الولاة بالعدل والنصح لرعيتهم، وأمر بالصبر على استيثارهم، ومنازعتهم الأمر والفتن في كل زمان بحسب رجاله، والفتنة تمنع معرفة الحق وقصده والقدرة عليه، ففيهما من الشبهات ما يلبس الحق بالباطل، حتى لا يتميز لكثير من الناس، ومن الشهوات ما يمنع قصد الحق، ومن قوة الشر ما يضعف القدرة على الخير، ولهذا يقال: " فتنة عميا صما ". (74) لآله صلى الله عليه وسلم على الأمة حق لا يشركهم فيه غيرهم، ويستحقون من زيادة المحبة والموالاة ما لا يستحق سائر قريش، وقريش يستحقون ما لا يستحق غيرهم من القبائل، كما أن جنس العرب يستحقون من ذلك ما لا يستحقه سائر أجناس بني آدم. على هذا دلت النصوص: تفضيل الجملة على الجملة لا يقتضي تفضيل كل فرد، كالقرن الأول على الثاني، والثاني على الثالث. وأما نفس ترتيب الثواب والعقاب على القرابة، ومدح الله للمعين وكرامته عنده فهذا لا يؤثر فيه النسب، وهذا لا ينافي ما ذكرنا قبله، كما قال: "الناس معادن" 1 ... إلخ. فالأرض إذا كان فيها معدن ذهب ومعدن فضة فالأول خير لأنه مظنة وجود أفضل الأمرين، فإن تعطل ولم يخرج ذهبا كان ما يخرج الفضة أفضل منه، ولهذا كان في بني هاشم النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا يماثله أحد في قريش، وفي قريش الخلفاء وغيرهم ما لا نظير له في العرب، وفي العرب من السابقين الأولين ما لا نظير له

_ 1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3383) , ومسلم: الفضائل (2378) , وأحمد (2/257 ,2/260 ,2/391 ,2/431 ,2/438 ,2/485 ,2/498 ,2/524 ,2/539) .

في سائر الأجناس. فالأصل المعتبر هو الإيمان والتقوى، دون من ألغى فضيلة الأنساب مطلقا، ودون من ظن أن الله مفضل الإنسان بنسبه على من هو مثله في التقوى؛ وكلا القولين خطأ وهما متقابلان، فالفضل بالنسب للمظنة والسبب، وبالتقوى لليقين والتحقيق والغاية؛ فالأول سبب وعلامة، والثاني يفضل به لأنه تحقيق وغاية. والثواب يقع على هذا، لأن الحقيقة قد وجدت فلم يعلق الحكم بالمظنة، ولأن الله يعلم الأشياء على ما هي عليه، ولهذا كان رضى الله عن السابقين أفضل من الصلاة على آل محمد، لأن الأول إخبار بما حصل، والثاني سؤال ما لم يحصل. ومحمد أخبر الله تعالى أنه يصلي عليه وملائكته، فالفضيلة بنوع لا يستلزم الأفضلية مطلقا، ولهذا كان في الأغنياء من هو أفضل من جمهور الفقراء، كإبراهيم وداود وأمثالهم، وعيسى ويحيى أفضل من أكثر الأغنياء. (75) إذا تكلم فيمن دون الصحابة كالملوك المختلفين، وجب أن يكون الكلام بعلم وعدل، فإن العدل واجب لكل أحد على كل أحد في كل حال، والظلم محرم مطلقا لا يباح بحال، قال تعالى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا} 1. وهذه الآية نزلت بسبب بغضهم للكفار، وهو بغض مأمور به، فإذا كان هذا قد نُهِيَ صاحبه أن يظلم من أبغضه، فكيف في بغض مسلم بتأويل أو شبهة أو هوى؟ والعدل مما اتفق أهل الأرض على مدحه، والظلم مما اتفقوا على ذمه، والله أرسل الرسل ليقوم الناس بالقسط، وأخبر أنه لا يكلف نفسا إلا وسعها، وأمر بتقواه بقدر الاستطاعة،

_ 1 سورة المائدة آية: 8.

ودعا المؤمنون بقوله: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} 1 فقال قد فعلت، فدلت هذه النصوص على أنه لا يكلف نفسا إلا وسعها، وأن المخطئ والناسي لا يؤاخذ، وقال {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا} 2 الآية، فمن آذى مؤمنا حيا أو ميتا بغير ذنب يوجب ذلك دخل في الآية ومن كان مجتهدا لا إثم عليه فآذاه مؤذ فقد آذاه بغير ما اكتسب، ومن أذنب وتاب أو غفر له بسبب آخر فآذاه مؤذ فقد آذاه بغير ما اكتسب. (76) ذكر غير واحد الإجماع على أن الصديق أعلم الأمة، وهذا بين؛ فإنهم لم يختلفوا في مسألة في ولايته إلا فصلها بحجة من الكتاب والسنة، كما بين لهم موته صلى الله عليه وسلم وموضع دفنه، وقتال مانعي الزكاة، وأن الخلافة في قريش، واستعمله صلى الله عليه وسلم على أول حجة حجت من مدينته، وعلم المناسك - أدق العبادات - ولولا سعة علمه بها لم يستعمله، ولم يستخلف غيره لا في حج ولا في صلاة، وكتاب الصدقة التي فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذه أنس من أبي بكر، وهو أصح ما روي فيها. وفي الجملة لا يعرف مسألة غلط فيها، وعرف لغيره مسائل كثيرة، وتنازعوا بعده في مسائل الجد والإخوة، والعمريتين والعول، وغير ذلك من مسائل الفرائض ومسألة الحرام، والطلاق الثلاث بكلمة، والخلية، والبرية، والبتة، وغير ذلك من مسائل الطلاق، وفي مسائل صارت نزاعا إلى اليوم، لكنه في خلافة عمر نزاع محض، وقوي النّزاع في خلافة عثمان حتى حصل كلام غليظ من بعضهم لبعض، وفي خلافة علي صار النّزاع

_ 1 سورة البقرة آية: 286. 2 سورة الأحزاب آية: 58.

بالسيف، ولم يعلم أنه استقر بينهم نزاع في خلافة أبي بكر في مسألة واحدة، وذلك لكمال علمه، ثم التي خولف فيها بعد موته قوله فيها أرجح. (77) مذهب أبي ذر رضي الله عنه أن الزهد واجب، وأن ما أمسك عن الحاجة فهو كنْز، واحتج بآية براءة. فلما توفي عبد الرحمن بن عوف وخلف مالا جعل أبو ذر ذلك من الكنْز، وخالفه الجمهور، واستدلوا بقوله: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" 1. إلخ ولا يحول الحول على مال عند أحد إلا وهو فضلة عن حاجة، وقالوا الكنْز: المال الذي لا تؤدي حقوقه، وقد قسم الله المواريث في القرآن، وقد كان غير واحد له مال على عهده صلى الله عليه وسلم، وكان غير واحد من الأنبياء لهم مال، وكان أبو ذر يريد أن يوجب ما لا أوجبه الله، مع أنه مجتهد في ذلك. وكان عمر يقوم رعيته فلا يتعدى لا الأغنياء ولا الفقراء، فلما كان في خلافة عثمان رضي الله عنه توسع الأغنياء في الدنيا، وتوسع أبو ذر في الإنكار، وهذا من أسباب الفتن بين الطائفتين. (78) الغاية الممكنة ذكر الأمور الكلية كما قال صلى الله عليه وسلم "بعثت بجوامع الكلم" 2، ثم النظر في دخول الأعيان فيها، أو دخول نوع خاص تحت أعم منه لا بد فيه من نظر المتولي، وقد يصيب تارة ويخطئ أخرى، فنص صلى الله عليه وسلم على الكليات، كما جاء فيما يحرم ويحل من النساء، وكذلك الأشربة حرم كل مسكر، وأمثال ذلك، بل قد حصر المحرمات في قوله: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ} 3 الآية. فكل ما يحرم تحريما

_ 1 البخاري: الزكاة (1447) , ومسلم: الزكاة (979) , والترمذي: الزكاة (626) , والنسائي: الزكاة (2445 ,2446 ,2473 ,2474 ,2475 ,2476 ,2483 ,2484 ,2485 ,2487) , وأبو داود: الزكاة (1558 ,1559) , وابن ماجه: الزكاة (1793) , وأحمد (3/6 ,3/30 ,3/44 ,3/59 ,3/60 ,3/73 ,3/74 ,3/79 ,3/86 ,3/97) , ومالك: الزكاة (575 ,576) , والدارمي: الزكاة (1633) . 2 البخاري: الجهاد والسير (2977) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (523) , والترمذي: السير (1553) , والنسائي: الجهاد (3087 ,3089) , وأحمد (2/250 ,2/264 ,2/268 ,2/314 ,2/395 ,2/411 ,2/442 ,2/455 ,2/501) . 3 سورة الأعراف آية: 33.

عاما مطلقا ذكره فيها، وما سواه وإن حرم في حال أبيح في أخرى، كالدم. إلخ، وجميع الواجبات في قوله: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ} 1، فلا مصلحة في عصمة الإمام إلا وهي حاصلة بعصمة الرسول، ولله الحمد والمنة، وكل من كان إلى اتباع السنة والحديث واتباع الصحابة أقرب كان مصلحتهم في الدين والدنيا أكمل، ومن كان أبعد كان بالعكس. ولما كانت الشيعة من أبعد الطوائف عن اتباع المعصوم تجدهم من أبعد الناس عن مصلحة دينهم ودنياهم، حتى يوجد من هو تحت سياسة أظلم الملوك أحسن حالا منهم، ولهذا أشبهوا اليهود في أحوال كثيرة، منها أنهم ضربت عليهم الذلة، فلا يعيشون إلا أن يتمسكوا بحبل بعض الولاة الذي ليس بمعصوم، فالرافضة وحدهم لا يقوم أمرهم كاليهود. (79) قوله تعالى: {أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ} الآية. الذي يهدي إلى الحق مطلقا هو الله تعالى، والذي لا يهدي صفة كل مخلوق، وهذا هو المقصود بالآية، فإنه افتتح الآيات بقوله: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} 2 إلخ. (80) حديث الكسا صحيح، ولا دليل فيه على العصمة ولا الإمامة لأن الإرادة نوعان: إرادة دينية كقوله: {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} 3، {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ

_ 1 سورة الأعراف آية: 29. 2 سورة يونس آية: 31. 3 سورة المائدة آية: 6.

وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} 1، وإرادة كونية كقوله: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ} 2 الآية. أخبر الله أنه يريد أن يتوب على المؤمنين، وأن يطهرهم، وفيهم من تاب ومن لم يتب، ومن تطهر ومن لم يتطهر، فلا يلزم بالآية ثبوت دعوى العصمة والإمامة، ثم أزواجه صلى الله عليه وسلم مذكورات بالآية والخطاب، وتنازعوا في آل محمد قيل: أمته، وقيل المتقون منهم، والصحيح أنهم أهل بيته وأزواجه من آله. وفي الصحاح أنه قال: "وددت أني رأيت إخواني. قالوا: أو لسنا إخوانك؟ قال: بل أنتم أصحابي، وإخواني قوم يأتون من بعدي يؤمنون بي ولم يروني" 3 وإذا كان كذلك فأولياؤه المتقون بينه وبينهم قرابة الإيمان، والقرابة الدينية أعظم من القرابة الطينية، والقرب بين القلوب والأرواح أعظم من القرب بين الأبدان، ومن كان فاضلا من آله فهم أولياؤه بهذا الاعتبار، لا لمجرد النسب، والقرآن لا يدل على ثبوت الطهارة وإذهاب الرجس، ودعاؤه صلى الله عليه وسلم يدل على وقوعه، فإن دعاءه مجاب، ولفظ الرجس أصله القذر، ويراد به الشرك كقوله: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} 4، ويراد به الخبائث المحرمة، كقوله {أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} 5. ونحن نعلم أن الله أذهب عنهم الرجس والخبائث، وقوله: {وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} 6 سؤال مطلق، فمن تاب أو وقع ذنبه مكفرا أو مغفورا، فقد طهره الله تطهيرا.

_ 1 سورة النساء آية: 26. 2 سورة الأنعام آية: 125. 3 النسائي: الطهارة (150) , وابن ماجه: الزهد (4306) , وأحمد (2/300 ,2/408) , ومالك: الطهارة (60) . 4 سورة الحج آية: 30. 5 سورة الأنعام آية: 145. 6 سورة الأحزاب آية: 33.

(81) قول موسى عليه السلام {وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي} قاله قبل أن يبلغ الرسالة، ليعاونه عليها، ونبينا صلى الله عليه وسلم بلغ الرسالة وحده، وكان أبو بكر أول من آمن به، ودعا معه إلى الله، وأسلم على يده ستة من العشرة، ومع هذا فما دعا أن يشد أزره به، بل قام مطيعا لربه متوكلا عليه، صابرا له كما أمره بقوله: {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} 1. (82) وقال في الكلام على {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُون وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} : نفى عنهم عبادة معبوده، لأنهم إذا أشركوا لم يكونوا عابدين معبوده، وأيضا لو عينوا الله بما ليس هو وقصدوا عبادة الله معتقدين أنه هو كأصحاب العجل، والذين عبدوا عيسى والدجال، والذين يعبدون أهواءهم، ومن عبد من هذه الأمة غير الله فهم عند أنفسهم إنما يعبدون الله، لكن هذا المعبود ليس هو الله، وإن قصد العابد الله، وأيضا إذا وصفوه بما هو بريء منه كالصاحبة والولد وعبدوه كذلك فهو بريء من هذا المعبود، فإنه ليس هو الله، كما قال صلى الله عليه وسلم: "ألا ترون كيف يصرف الله عني سب قريش، يسبون مذمما" 2، كذلك عبادة أمثالهم واقعة على موصوفهم، أيضا من لم يؤمن بما وصف به الرسول ربه، فهو في الحقيقة لم يعبد ما عبده الرسول. وقس على هذا، فلنتأمل هذه المعاني ولنتهذب. (83) وقال في دعاء آخر البقرة: الذنوب والمعاصي قد تكون سببا لعدم العلم بالحنيفية السمحة، فلا يعلم أنه مرفوع عنه، أو لعدم من يفتيه بالرخصة

_ 1 سورة المدثر آية: 7. 2 البخاري: المناقب (3533) , والنسائي: الطلاق (3438) , وأحمد (2/244 ,2/369) .

فلا يكون مقتضى هذا الدعاء حاصلا في حقه، لعدم العلم، لا لنسخ الشريعة؛ كما يعاقب بأن يخفى عليه من الطعام الطيب ما هو موجود، وأن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه، قد قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} 1. وهذا مما يعلم به قوله: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} 2، {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} 3 الآية. وفي آخر خلافة عثمان فصاروا في فتنة قال الله فيها: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} 4 إلخ. وصار ذلك سببا لمنعهم كثيرا من الطيبات، وصاروا يختصمون في متعة الحج ونحوها، وبعضهم يعاقب من تمتع، وكل منهم لا يعتقد مخالفة الرسول، لكن خفي العلم بسبب الذنوب. والنّزاع في الأحكام قد يكون رحمة إذا لم يفض إلى شر، وإن كان الحق واحدا فقد يكون من رحمة الله ببعض الناس خفاؤه، لما في ظهوره من الشدة، ويكون من باب قوله: {لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ} 5 إلخ، وهكذا ما يوجد في الأسواق من الطعام والثياب. (84) قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} وما قبله فيه ثلاثة أصول: الأول: لا تزر وازرة وزر أخرى. الثاني: ليس له إلا ما سعى. الثالث: أن سعيه يرى ويجزاه الجزاء الأوفى. وهذه أصول

_ 1 سورة آية: 2-3. 2 سورة النساء آية: 123. 3 سورة الزلزلة آية: 7. 4 سورة الأنفال آية: 25. 5 سورة المائدة آية: 101.

الإيمان بالوعد والوعيد، وهي نتيجة الإيمان بالأمر والنهي، بل نتيجة الجزاء في الدارين. وقد غلط فيها من غلط، أخفهم من غلطكم في الأصل الأول، فأنكر أن الميت يعذب ببكاء الحي لتوهّمهم أن الميتيجمل أوزار النائحة، وليس كذلك، بل يصل إليه ألم بنياحتها، كما يعذب الإنسان بالرائحة المؤذية والأمور المفزعة، والحكم فيه كسائر ما يعذب به بعد الموت، مثل مسألة منكر ونكير، وأعظمهم غلط من غلط في الثالث، فأحبط حسانته بالكبيرة الواحدة، وأوسطهم من غلط في الأوسط، فظنوا أنه لا ينتفع إلا بسعيه، ومعلوم أنه ينتفع بالصلاة عليه والدعاء له وغير ذلك، وليس مناقضا للآية ولا مخصصا، وهو شامل لنا، وإلا لم يكن في قوله {أم لم ينبأ} . إلخ. فائدة، وأيضا فإنه خبر، والأخبار لا تنسخ. وقال ابن عباس في الآية، وفي رواية الوالبي: فأدخل الله الأبناء بصلاح الآباء الجنة، ولم يذكر نسخا، ولو ذكره فمراده نسخ ما يلقي الشيطان في معنى الآية على غير الصواب، فبين أنه لم يرد أن الإنسان لا ينتفع بعمل غيره، وهذا أحسن ما قيل فيها، وسائر الأقوال ضعيفة جدا، والله سبحانه يرحم العباد بغير سعيهم أكثر مما يرحمهم بسعيهم. (85) قوله تعالى {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ} الآية: لولا: هلا; هذا قول أئمة العربية، وعن ابن عباس لم يكن; فذكر أنه لم يكن قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس، وهذا حق. وقتادة ظن أن المعنى أنه نفعهم دون غيرهم، وليس كذلك، بل غيرهم لم يؤمن إيمانا ينفع، وهؤلاء آمنوا إيمانا ينفع، والاستثناء حجة لنا، لأنه منقطع، ولو اتصل

لرفع، وهو كالاستثناء في قوله: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ} 1 الآية. ومما يبين ذلك أنها تخصيص وذم لمن لم يفعل، وهو يقتضي أن القرى لو آمنوا نفعهم، لكن لم يؤمنوا؛ وهذا هو الصواب، لأنه تعالى قال: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} الآيات فأخبر أن هذه سنته، وسنته لا تبديل لها. وقال: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} 2 الآية، وهذا نفي عام، فلو استثني أحد لكان أمة نبي التوبة، وقد وسع لهم في التوبة ما لم يوسع على بني إسرائيل، وهاتان الأمتان فضلوا على العالمين. وأيضا فإنه سبحانه عدل لا يفرق بين متماثلات، وكشف العذاب عنهم حق رأوه أم لا، فإنه نوعان نوع يتيقن معه الموت، ونوع لا يتيقن، ومن تاب كشف عنه هذا العذاب، والمريض تقبل توبته ما لم يغرغر، وإن كان مرضا مخوفا. وقوله: {كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} 3 يبين أن المكشوف عذاب في الدنيا ولو لم يفسر فهو مجمل، والقرآن فرق بين النوعين، فقوم يونس آمنوا إيمانا نفعهم وآمنوا قبل حضور الموت، وغيرهم إما أن يكون كاذبا في إيمانه كقوم فرعون، وإما بعد حصول الموت كالذين قال فيهم: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ} 4 الآية. وقال تعالى: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} 5 الآيات، وفسر الازدياد كفرا بالإصرار

_ 1 سورة هود آية: 116. 2 سورة النساء آية: 18. 3 سورة يونس آية: 98. 4 سورة غافر آية: 85. 5 سورة آل عمران آية: 86.

إلى الموت، فلم تقبل توبتهم عند الموت لأنه لا يمكن الرجوع عن السيئات، فينقص أو يذهب، فقوله ازدادوا كقوله: استمروا. ونظيرها: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا} 1 الآية. فهنا قال: {لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} 2، وهناك قال: {لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} فإنه لو تاب من ردته قبلت توبته، فإذا ارتد ثانية حبط الإيمان الذي غفر به ذلك الكفر، فبقى عليه إثم الكفر الأول والثاني، فازداد كفرا وأصر إلى الموت لم يغفر له. وذكر في أولها الذي ازداد كفرا بعد الكفر الأول، فذكر الكفر المفرد، والمكرر بينهما ازدياد. ولما قال هناك {لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} عند الموت ففيه تنبيه على أن الثاني لا يغفر بطريق الأولى، ولما ذكر في الثاني أنهم آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا كان مفهومه أنهم لو تابوا قبل الازدياد قبلت توبتهم وإن كرروا، فدل على أن قوله في الأول: (ازدادوا) أراد به الإصرار، وإلا لكان من كفر وأقام مدة ثم تاب لم تقبل، وهو خلاف قوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} الآية، وخلاف مفهوم آية التكرير. فإن قيل: ازدياده أن يأتي بما يغلظ ردته كابن أبي سرح وابن خطل، قيل هذا من مسائل الاجتهاد، والكلام فيه في غير هذا الموضع، وابن آدم لم يكن ندمه ندم توبة، وثمود قيل إنهم موعودون بالعذاب إذا عقروها، وعذاب الدنيا لا يندفع بمثل هذه التوبة، فإن أصحاب العجل توبتهم بقتل أنفسهم، وهم لم يتوبوا إلا خوفا من عذاب الدنيا، أو يقال توبتهم من جنس توبة آل فرعون إذا رفع عنهم العذاب نكثوا، فقوله نادمين لا يدل على توبة صادقة ثابتة، وقوله: {فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا} الآيات، لم يذكر توبة بل اعترافا بالظلم. والكفار

_ 1 سورة النساء آية: 137. 2 سورة النساء آية: 137.

والعصاة يعرفون أنهم ظالمون مع الأحرار، ومجرد العلم ليس توبة، بل رجوع القلب عن الذنب إلى الله وطاعته، والتوبة عند نزول العذاب لا تكون صادقة، بل كآل فرعون باللسان من غير عمل. وقال بعض العلماء فيمن تاب عند السيف: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} 1 الآيات وهؤلاء كآل فرعون أو هذا العالم رأى معاينة القتل المتحتم مثل معاينة الملك، ولكن هذا مثل من قطعت حشوته فأيقن بالموت، وهذا تقبل توبته على الصحيح، وتنفذ وصاياه، فإن عمر أوصى في هذه الحال، وغايته أنه أيقن بالموت بعد زمن، وكل أحد موقن بالموت بعد زمن طويل أو قصير، إلا أن يقال من هؤلاء من يضطرب عقله فلا يمكنه توبة صحيحة، ومن المذنبين من لا يتوب صادقا بعد معاينة عذاب الآخرة، فكيف بعذاب الدنيا؟ قال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ} 2 الآيتين. ومن الناس من يقول: إن من الذنوب ما لا يزول بالتوبة، كالذين أعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه، والذين قيل لهم: {لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً} 3. وقال الأكثرون إن ذلك لكونهم لم يتوبوا توبة تمحو مثل ذلك؛ فقوله: { (إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} 4، وقال أيوب السختياني وغيره: المبتدع لا يرجع، واضح بحديث الخوارج؛ وهذا حال من أعقبهم نفاقا في قلوبهم، ولكن ليس وصف جميعهم، فليست البدعة أعظم من الردة، لكنه مظنة، كالذين أسلموا منهم، كان الصحابة يحذرون منهم خوفا من بقايا الردة. فهذا هو العدل في هذا الموضوع، وقد تاب خلق كثير من رأي الخوارج والجهمية والرافضة وغيرهم،

_ 1 سورة غافر آية: 84. 2 سورة الأنعام آية: 27. 3 سورة التوبة آية: 83. 4 سورة الزمر آية: 53.

لكن التوبة من الاعتقاد الذي كثر ملازمة صاحبه له يحتاج إلى ما يقابله من المعرفة والعلم والأدلة. ومما يناسب هذا قوله: {لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً} 1 الآية وقوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} 2 يدل على أنه سبحانه يعلم من القلوب ما يناسب هذا، وهو حكيم في حكمه أنه لا يزال بنيانهم. إلخ، والذنوب لا بد فيها من توبة أو تعذيب ولو بنقص الحسنات. وكثير من الذنوب يحتاج صاحبها إلى معالجة قلبه ومجاهدة نفسه كحال الثلاثة الذين خلفوا، فكيف غيرهم؟ (86) قال رحمه الله هذا تفسير آيات أشكلت حتى لا توجد في طائفة من كتب التفسير إلا ما هو خطأ: منها قوله تعالى {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ} والآية بعدها: أشكلت قراءة الفتح على كثير بسبب أنهم ظنوا أن الآية بعدها جملة مبتدأة، وليس كذلك، لكنها داخلة في خبر أن، والمعنى: إذا كنتم لا تشعرون أنها إذا جاءت لا يؤمنون، وأنا نفعل بهم هذا، لم يكن قسمهم صدقا، بل قد يكون كذبا. وهو ظاهر الكلام المعروف أنها أن المصدرية، ولو كان "ونقلب" إلخ كلام مبتدأ ألزم أن كل من جاءته آية قلب فؤاده، وليس كذلك، بل قد يؤمن كثير منهم. ومنها قوله: {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} الصواب عطفه على قوله {من لعنه الله} فعل ماض معطوف على ما قبله من الأفعال الماضية، لكن المتقدمة الفاعل الله مظهرا ومضمرا، وهذا الفاعل اسم " من عبد الطاغوت " وهو

_ 1 سورة التوبة آية: 110. 2 سورة النساء آية: 26.

الضمير في عبد، ولم يعد حرف (من) لأن هذه الأفعال صفة لصنف واحد وهم اليهود. ومنها قوله: {وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ} 1، ظن طائفة أن (ما) نافية وهو خطأ، بل هي حرف استفهام؛ فإنهم يدعون معه شركاء كما أخبر عنهم في غير موضع، فالشركاء يوصفون في القرآن بأنهم يدعون، لا أنهم يتبعون وإنما يتبع الأئمة، ولهذا قال: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} 2 ولو أراد النفي لقال إن يتبعون إلا من ليسوا شركاء، بل بين أن المشرك لا علم معه، إن هو إلا الظن والخرص، كقوله: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} 3. ومنها قوله: {بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ} 4 حار فيها كثير، والصواب المأثور عن السلف قال مجاهد: الشيطان، وقال الحسن: هم أولى بالشيطان من نبي الله، فبين المراد وإن لم يتكلم على اللفظ كعادة السلف في الاختصار مع البلاغة وفهم المعنى. وقال الضحاك: المجنون، فإن من كان به الشيطان ففيه الجنون. وعن الحسن: الضال، وذلك أنهم لم يريدوا بالمجنون الذي يخرق ثيابه ويهذي، بل لأن النبي خالف أهل العقل في نظرهم، كما يقال: " ما لفلان عقل "، ومثل هذا رموا به أتباع الأنبياء، كقوله: {وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ} 5 ومثله في هذه الأمة كثير يسخرون من المؤمنين، ويرمونهم

_ 1 سورة يونس آية: 66. 2 سورة الأنعام آية: 116. 3 سورة الذاريات آية: 10. 4 سورة القلم آية: 6. 5 سورة المطففين آية: 32.

بالجنون والعظائم التي هم أولى بها منهم. قال الحسن: لقد رأيت رجالا لو رأيتموهم لقلتم مجانين، ولو رأوكم لقالوا هؤلاء شياطين، ولو رأوا أخياركم لقالوا هؤلاء لا خلاق لهم، ولو رأوا شراركم لقالوا هؤلاء قوم لا يؤمنون بيوم الحساب. وهذا كثير في كلام السلف يصفون أهل زمانهم وما هم عليه - من مخالفة - من تقدم، فما الظن بأهل زماننا؟! والذين لم يفهموا هذا قالوا الباء زائدة، قاله ابن قتيبة وغيره، وهذا كثير كقوله: {سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ} 1، {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ} 2 الآيات، {إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} 3 الآية. ومنها قوله: {لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ} 4 الآية وما في معناها: التحقيق أن الله سبحانه إنما يصطفي لرسالته من كان خيار قومه حسنا في النسب، كما في حديث هرقل: من نشأ بين قوم مشركين جهال لم يكن عليه نقص إذا كان على مثل دينهم إذا كان معروفا بالصدق والأمانة، وفعل ما يعرفون وجوبه وترك ما يعرفون قبحه، قال تعالى {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} 5، فلم يكن هؤلاء مستوجبين العذاب، وليس في هذا ما ينفي عن القبول منهم، ولهذا لم يذكره أحد من المشركين قادحا. وقد اتفقوا على جواز بعثة رسول لا يعرف ما جاءت به الرسل قبله من النبوة والشرائع، وإن من لم يقر بذلك بعد الرسالة فهو كافر،

_ 1 سورة آية: 26. 2 سورة الشعراء آية: 221. 3 سورة آية: 38-39. 4 سورة الأعراف آية: 88. 5 سورة الإسراء آية: 15.

والرسل قبل الوحي لا تعلمه فضلا أن تقر به، قال تعالى: {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ} 1 الآية، وقال: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ} 2، فجعل إنذارهم بالتوحيد كالإنذار بيوم التلاق، كلاهما عرفوه بالوحي. وما ذكر أنه صلى الله عليه وسلم بغضت إليه الأوثان لا يجب أن يكون لكل نبي، فإنه سيد ولد آدم، والرسول الذي ينشأ بين أهل الكفر الذين لا نبوة لهم يكون أكمل من غيره من جهة تأييد الله له بالعلم والهدى، وبالنص والقهر، كما كان نوح وإبراهيم، ولهذا يضيف الله الأمر إليهما في مثل قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ} 3 الآية، {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ} 4 الآية؛ وذلك أن نوحا أول رسول بعث إلى المشركين، وكان مبدأ شركهم من تعظيم الموتى الصالحين، وقوم إبراهيم مبدؤه من عبادة الكواكب، ذاك الشرك الأرضي وهذا السماوي، ولهذا سد صلى الله عليه وسلم ذريعة هذا، وهذا. ومنها قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا} 5 الآية: بين سبحانه وصف أهل النجاة والسعادة من الأولين والآخرين، وهو الذي يدل عليه اللفظ، ويعرف به معناه من غير تناقض، ومناسبته لما قبلها وما بعدها، ويعرف به قدرها، وهو المعروف عن السلف. ويدل عليه ما ذكروه من سبب نزولها، فروى ابن أبي حاتم بالأسانيد الثابتة عن سفيان عن أبي نجيح

_ 1 سورة النحل آية: 2. 2 سورة غافر آية: 15. 3 سورة الحديد آية: 26. 4 سورة آل عمران آية: 33. 5 سورة البقرة آية: 62.

عن مجاهد قال سلمان: "سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل دين كنت معهم فذكر من عبادتهم فنَزلت ولم يذكر فيه أنهم من أهل النار"، كما روي بأسانيد ضعيفة، وهذا هو الصحيح كما في مسلم: إلا بقايا من أهل الكتاب، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يجيب بما لا علم عنده، وقد ثبت أنه أثنى على من مات في الفترة، كزيد بن عمرو وغيره، ولم يذكر ابن أبي حاتم في الآية خلافا عن السلف، لكن ذكر عن ابن عباس: ثم أنزل الله {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الأِسْلامِ دِيناً} 1 الآية، ومراده أن الله بين أنه لا يقبل إلا الإسلام من الأولين والآخرين. وكثير من السلف يريد بلفظ النسخ رفع ما يظن أن الآية دالة عليه، فإن من المعلوم بالاضطرار من دون الرسل أن من كذب رسولا واحدا فهو كافر، فلا يتناوله قوله: {من آمن بالله} إلخ. لكن ظن بعض الناس أن الآية فيمن بعث إليهم محمد خاصة، فغلطوا؛ ثم افترقوا على أقوال متناقضة ومنها قوله: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} 2 الآية. ذكر أن المشهور عن السلف أن الحسنة " لا إله إلا الله "، وأن السيئة الشرك. ثم ذكر عن السدي قال: ذلك عند الحساب ألقى بدل كل حسنة عشر سيئات، فإن بقيت سيئة واحدة فجزاؤه النار إلا أن يغفر الله له. قلت تضعيف الحسنة إلى عشر وإلى سبعمائة ثابت في الصحاح، وأن السيئة مثلها، وأن الهم بالحسنة حسنة، والهم بالسيئة لا يكتب؛ فأهل القول الأول قالوه لأن أعمال البر داخلة في التوحيد؛ فإنه عبادة الله بما أمر به، كما قال: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} 3 الآية. وقال تعالى:

_ 1 سورة آل عمران آية: 85. 2 سورة النمل آية: 89. 3 سورة البقرة آية: 112.

{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً} 1 الآية، فالكلمة الطيبة هي التوحيد، وهي كالشجرة، والأعمال ثمارها في كل وقت، وكذلك السيئة هي العمل لغير الله، وهذا هو الشرك. فإن الإنسان حارث همام لا بد له من عمل، ولا بد له من مقصود يعمل لأجله، وإن عمل لله ولغيره فهو شرك، والذنوب من الشرك؛ فإنها طاعة للشيطان، قال: {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} 2 الآية، و {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ} 3 الآية، وفي الحديث: "وشر الشيطان وشركه" 4، لكن إذا كان موحدا وفعل بعض الذنوب، نقص توحيده كما قال: "لا يزني الزاني" إلخ. ومن ليس بمؤمن فليس بمخلص، وفي الحديث: "تعس عبد الدينار" 5 إلخ، وحديث أبي بكر "قل: اللهم أني أعوذ بك أن أشرك بك شيئا وأنا أعلم" إلخ، لكن لم يعدل بالله غيره فيحبه مثل حب الله، بل الله أحب إليه، وأخوف عنده، وارجأ من كل مخلوق، فقد خلص من الشرك الأكبر. ومنها قوله: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} 6 الآية، ذكر أن المشهور أن السيئة الشرك، وقيل: الكبيرة يموت عليها، قاله عكرمة. قال مجاهد: هي الذنوب فتحيط بالقلب، قلت: الصواب ذكر أقوال السلف، وإن كان فيها ضعيف فالحجة تبين ضعفه، فلا يعدل عن ذكر أقوالهم لموافقتها قول طائفة من المبتدعة، وهم ينقلون عن بعض السلف أن هذه

_ 1 سورة إبراهيم آية: 24. 2 سورة إبراهيم آية: 22. 3 سورة يس آية: 60. 4 الترمذي: الدعوات (3392) , وأبو داود: الأدب (5067) , وأحمد (2/297) , والدارمي: الاستئذان (2689) . 5 البخاري: الجهاد والسير (2887) , والترمذي: الزهد (2375) , وابن ماجه: الزهد (4136) . 6 سورة البقرة آية: 81.

أحد رجلين، إما كتابي معتصم بكتاب مبدل أو مبدل منسوخ، ودين دارس بعضه مجهول وبعضه متروك، وإما أمي مقبل على عبادة ما استحسنه من نجم أو قبر أو تمثال أو وثن أو غير ذلك، والناس في مقالات يظنونها علما وهي جهل، وأعمال يحسبونها صلاحا وهي فساد، فهدى الله الناس بما جاء به من البينات والهدى هداية جلت عن الوصف. ثم إنه بعثه بدين الإسلام، وهو الصراط المستقيم، وفرض علينا أن نسأله هدايته في كل يوم وليلة في صلاتنا، ووصفه بأنه صراط المنعم عليهم غير المغضوب عليهم وغير الضالين، ثم ذكر حديث عدي بن حاتم وفيه فإن اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالون. فقلت: فإني حنيف مسلم، ودل القرآن على معنى هذا. ووصف اليهود بالغضب والنصارى بالضلال له أسباب ظاهرة وباطنة جماعها: أن كفر اليهود من عدم العمل، والنصارى من عدم العلم. ومع أن الله حذرنا سبيلهم فقضى قضاء نافذا أن هذه الأمة يكون فيها مضاهاة لليهود والنصارى، وهم أهل الكتاب، ولفارس والروم وهم الأعاجم. وكان صلى الله عليه وسلم ينهى عن التشبه بهؤلاء وهؤلاء، فكذلك أمر العبد بدوام الدعاء بالاستقامة التي لا يهودية فيها ولا نصرانية أصلا، والصراط المستقيم أمور باطنة في القلب من اعتقادات وإرادات، وأمور ظاهرة قد تكون عبادات وقد تكون عادات في الطعام والشراب والاجتماع والافتراق وغير ذلك. (92) قد غلط في مسمى التوحيد طوائف من أهل النظر والكلام، ومن أهل الإرادة والعبادة، حتى قلبوا حقيقته؛ فطائفة ظنت أنه نفي الصفات، وسمو أنفسهم أهل التوحيد، وطائفة ظنت أنه ليس إلا الإقرار

ابن عباس في قوله: {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا} 1: عملوا الشرك، لأنه وصفهم بهذا فقط، ولو آمنوا لكان لهم حسنات. وكذا لما قال: {كسب سيئة} لم يذكر حسنة، وقوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى} 2 أي فعلوا الحسن، وهو ما أمروا به؛ كذلك السيئة تتناول المحظور فيدخل فيها الشرك. (87) تواترت الأحاديث بخروج من قال: "لا إله إلا الله" من النار إذا كان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة أو خردلة أو ذرة، وكثير منهم أو أكثرهم يدخلها، وتواترت أنه يحرم على النار من قال: "لا إله إلا الله"، لكن جاءت مقيدة بالإخلاص واليقين، ويموت عليها، فكلها مقيدة بهذه القيود الثقال. وأكثر من يقولها لا يعرف الإخلاص ولا اليقين، ومن لا يعرف ذلك يخشى عليه أن يفتن عنها عند الموت. وغالبهم إنما يقولها تقليدا أو عادة؛ وغالب ما يفتن عند الموت أو في القبر أمثال هؤلاء، كما في الحديث: "سمعت الناس يقولون شيئا فقلته"، وغالب أعمال هؤلاء إنما هو تقليد أو اقتداء بأمثالهم، وهم أقرب الناس من قوله: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} 3 الآية؛ فلا منافاة بين الأحاديث؛ فإنه إذا قالها بإخلاص ويقين ومات عليها امتنع أن ترجح سيئاته، فإن كان قالها على الكمال المانع من الشرك الأصغر والأكبر فهو غير مصر على ذنب، وإن كان على وجه خلص به من الأكبر ولم يأت بعدها بما يناقض ذلك فهذه الحسنة لا يقاومها

_ 1 سورة يونس آية: 27. 2 سورة يونس آية: 26. 3 سورة الزخرف آية: 22.

شيء من السيئات فترجح بها الحسنات، كما في حديث البطاقة، وهذا خلاف من رجحت سيئاته، لأن معه الشرك الأصغر وأتى بعد ذلك بسيئات تنضم إلى ذلك الشرك فترجح سيئاته؛ فإن السيئات تضعف الإيمان واليقين، فيضعف قول "لا إله إلا الله"، فيمتنع الإخلاص في القلب، فيصير المتكلم بها كالهادي، أو النائم، أو من يحسن صوته بآية من القرآن من غير ذوق طعم ولا حلاوة. فالذي قالها بيقين وصدق تام إما ألا يكون مصرا على سيئة، أو يكون توحيده المتضمن لصدقه ويقينه رجح حسناتهم، والذين دخلوا النار فاتهم أحد الشرطين. (88) سورة تبت نزلت في هذا وامرأته وهم من أشرف بطنين في قريش، وهو عم علي بن أبي طالب، وهي عمة معاوية، اللذان تداولا الخلافة في الأمة، هذان البطنان بنو أمية وبنو هاشم، وأما أبو بكر وعمر فمن قبيلتين أبعد عنه صلى الله عليه وسلم، واتفق في عهدهما ما لم يتفق بعدهما. وليس في القرآن ذم من كفر به صلى الله عليه وسلم باسمه إلا هذا وامرأته. ففيه أن الأنساب لا عبرة بها، بل صاحب الشرف يكون ذمه على تخلفه عن الواجب أعظم، كما قال: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ} 1 الآية قال النحاس: {تبت يدا} دعاء عليه، {وتب} خبر، وفي قراءة عبد الله: {وقد تب} ، وقوله: {وما كسب} أي: ولده، فإن قوله: {وما كسب} يتناوله، كما في الحديث: "ولده من كسبه"، واستدل بها على جواز الأكل من مال الولد. ثم أخبر أنه سيصلى، أخبر بزوال الخير وحصول الشر، والصلي الدخول والاحتراق جميعا، وقوله: {حمالة الحطب} إن كان

_ 1 سورة الأحزاب آية: 30.

مثلا للنميمة لأنها تضرم الشر، فيكون حطب القلوب. وقد يقال: ذنبها أعظم، وحمل النميمة لا يوصف بالحبل في الجيد، وإن كان وصفا لحالها في الآخرة، كما وصف بعلها هو يصلى، وهي تحمل الحطب عليه كما أعانته على الكفر، فيكون من حشر الأزواج. وفيه عبرة لكل متعاونين على الإثم أو على إثم ما أو عدوان ما. ويكون القرآن قد عم الأقسام الممكنة في الزوجين وهي الأربعة، كإبراهيم وامرأته، وإما هذا وامرأته، وإما فرعون وامرأته، وإما نوح ولوط. ويستقيم أن يفسر حمل الحطب بالنميمة بحمل الوقود في الآخرة كقوله: "من كان له لسانان" إلخ. (89) قوله (: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ} الآيتين: لفظ الإنزال في القرآن يرد مقيدا بأنه منه كالقرآن، وبالإنزال من السماء، ويراد به العلو كالمطر، ومطلقا فلا يختص بنوع بل يتناول إنزال الحديد من الجبال، والإنزال من ظهور الحيوان، وغير ذلك. فقوله: {نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ} بيان لنُزول جبريل به من الله كقوله: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} أي: أنه مؤتمن لا يزيد ولا ينقص، فإن الخائن قد يفتري الرسالة. وفيها دلالة على أمور منها: بطلان قول من زعم خلقه في جسم، كالجهمية من المعتزلة وغيرهم؛ فإن السلف يسمون من قال بخلقه، ونفى الصفات والرؤية جهميا. فإن جهما أول من ظهرت عنه بدعة نفي الأسماء والصفات وبالغ في ذلك، فله مزية المبالغة، والابتداء بكثرة إظهاره، وإن كان جعد سبقه إلى بعض ذلك، لكن المعتزلة وإن وافقوه في البعض

فهم يخالفونه في مثل مسائل الإيمان والقدر، وبعض الصفات. وجهم يقول: إن الله لا يتكلم، أو يتكلم مجازًا، وهم يقولون: يتكلم حقيقة؛ ولكن قولهم في المعنى قوله، وهو ينفي الأسماء كالباطنية والفلاسفة. ومنها بطلان قول من زعم أنه فاض من العقل الفعال أو غيره، وهذا أعظم كفرا وضلالا من الذي قبله. ومنها إبطال قول الأشعرية أن كلام الله معنى، وهذا العربي خلق ليدل عليه، سواء قالوا خلق في بعض الأجسام، أو ألهمه جبريل، أو أخذه من اللوح، فإن هذا لا بد له من متكلم تكلم به أولا، وهذا يوافق قول: أنه مخلوق، لكن يفارقه من وجهين: أحدهما: أن أولئك يقولون: المخلوق كلام الله، وهؤلاء يقولون: إنه كلام مجازًا، وهذا أشر من قول المعتزلة بل هو قول الجمهية المحضة، لكن المعتزلة يوافقونهم في المعنى. الثاني: أنهم يقولون: لله كلام قائم بذاته، والخلقية يقولون: لا يقوم بذاته، فالكلامية خير منهم في الظاهر، لكن في الحقيقة لم يثبتوا كلاما له غير المخلوق. والمقصود أن الآية تبطل هذا، والقرآن اسم للعربي، لقوله: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ} 1. وأيضا فقوله: {نَزَّلَهُ} عائد إلى قوله: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} 2؛ فالذي نزله الله هو الذي نزله روح القدس. وأيضا قال: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ} 3 الآية، وهم يقولون: إنما يعلمه هذا القرآن العربي بشر، لقوله: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ} 4 إلخ. فعلم أن محمدا لم يؤلف نظمه، بل سمعه من روح القدس، وروح القدس نزل به من الله، فعلم أنه سمعه منه لم يؤلفه هو. ونظيرها

_ 1 سورة النحل آية: 98. 2 سورة النحل آية: 101. 3 سورة النحل آية: 103. 4 سورة النحل آية: 103.

قوله: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً} 1. والكتاب اسم للقرآن بالضرورة والاتفاق، فإنهم أو بعضهم يفرقون بين كتاب الله وكلامه. ولفظ الكتاب يراد به المكتوب فيه، فيكون هو الكلام، ويراد به ما يكتب فيه، كقوله: {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} 2 وقوله: {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً} 3 وقوله: {يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ} 4 إخبار مستشهد بهم، فمن لم يقر به منا فهم خير منه من هذا الوجه. وهذا لا ينافي ما جاء عن ابن عباس وغيره أنه أنزل في ليلة القدر إلى بيت العزة في السماء الدنيا، ولا ينافي أنه مكتوب في اللوح قبل نزوله، سواء كتبه الله قبل أن يرسل به جبرائيل أو بعده؛ فإذا أنزله جملة إلى بيت العزة فقد كتبه كله قبل أن ينزله، والله يعلم ما كان، وما يكون، وما لا يكون لو كان كيف يكون. وهو قد كتب المقادير وأعمال العباد قبل أن يعملوها، ثم يأمر بكتابتها بعد أن يعملوها، فيقابل بين الكتابة المتقدمة والمتأخرة، فلا يكون بينهما تفاوت، هكذا قال ابن عباس وغيره. فإذا كان ما يخلقه بائنا عنه قد كتبه قبل أن يخلقه، فكيف لا يكتب كلامه الذي يرسل به ملائكته قبل أن يرسلهم؟ ومن قال إن جبرائيل أخذه عن الكتاب لم يسمعه من الله فهو باطل من وجوه: منها أنه سبحانه كتب التوراة لموسى بيده، فبنو إسرائيل أخذوا كلامه من الكتاب الذي كتبه، ومحمد عن جبرائيل عن الكتاب، فهم أعلى

_ 1 سورة الأنعام آية: 114. 2 سورة الواقعة آية: 78. 3 سورة الإسراء آية: 13. 4 سورة الأنعام آية: 114.

درجة، ومن قال: إنه ألقى إلى جبرائيل معاني وعبر بالعربي فمعناه أنه ألهمه إلهاما، وهذا يكون لآحاد المؤمنين كقوله: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ} 1، {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى} 2، فيكون هذا أعلى من أخذ محمد. وأيضا فإنه سبحانه قال: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ} 3 إلى قوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} 4، وهذا يدل على أمور: على أنه يكلم العبد تكليما زائدا على الوحي الذي هو قسيم التكليم الخاص؛ فإن لفظ التكليم والوحي كل منهما ينقسم إلى: عام وخاص؛ فالتكليم العام هو المقسوم في قوله: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً} 5 الآية؛ فالتكليم المطلق قسيم الوحي الخاص، لا قسما منه؛ وكذلك الوحي يكون عاما فيدخل فيه التكليم الخاص، كقوله: {فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} 6، ويكون قسيما له كما في الشورى. وهذا يبطل قول أنه معنى واحد قائم بالذات، فإنه لا فرق بين العام، وما لموسى، وفرق سبحانه في الشورى بين الإيحاء، وبين التكليم من وراء حجاب، وبين إرسال رسول فيوحي بإذنه ما يشاء. (90) ثبت أنه يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب، وأن يجمع بين المرأة وعمتها، وخالتها، فقال طائفة: هذا نسخ للقرآن؛ فإن أرادوا النسخ العام الذي هو تقييد المطلق فصحيح، وإن أرادوا النسخ الذي هو رفع الحكم فضعيف، فإنه لم يثبت أن الله أراد بقوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ

_ 1 سورة المائدة آية: 111. 2 سورة القصص آية: 7. 3 سورة النساء آية: 163. 4 سورة النساء آية: 164. 5 سورة الشورى آية: 51. 6 سورة طه آية: 13.

ذَلِكُمْ} 1 تحليل ذلك. فإن قيل هو عام بين الدليل المخصص أن الله لم يرد تلك الصور كقوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} 2 الآية، لم يرد به الأمة، وقوله: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} 3 لم يرد الحامل، ولا التي لم يدخل بها، ولم يثبت أن السنة نسخت القرآن، قال تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} 4 الآية، فالقرآن لا ينسخه إلا مثله. وقال كثير: السنة خصت القرآن وهم أكثر، وأفضل من أولئك، وقد يقال: السنة فسرت القرآن؛ ولهذا في حديث معاذ وكلام عمر وابن مسعود وغيرهما أن يحكم بكتاب الله، فإن لم يوجد فبسنة رسول الله. فلو كان في السنة ما يقدم على دلالة القرآن لم يكن كذلك، بل السنة تفسر المراد منه، وذلك أن قوله: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} 5 كما يحتمل الاختصاص فقد يحتمل التنبيه على ما يحرم من النسب، وكذلك الجمع بين الأختين؛ وذلك أن نكاح الأخت والجمع بين الأختين شرع لبعض الأنبياء، فإن يعقوب جمع بينهما، وآدم كان يزوج ذكر هذا البطن بأنثى الآخر، ولم ينقل أنه زوج أحدا بعمته، أو خالته، لأنها بمنْزلة الأم، والعمة كالعم، والعم والد لقوله: {قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ} 6 الآية، فنكاح العمة والخالة أفحش من نكاح الأخت، وكذلك الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها أقرب إلى القطيعة

_ 1 سورة النساء آية: 24. 2 سورة النور آية: 2. 3 سورة البقرة آية: 228. 4 سورة البقرة آية: 106. 5 سورة النساء آية: 23. 6 سورة البقرة آية: 133.

من الجمع بين الأختين، فإنهما يتماثلان، وكذلك نكاح العمة والخالة من الرضاع أفحش من نكاح الأخت. والقرآن دل على تحريم نكاح الأم والأخت والبنت أيضا من وجهين: من جهة أن الأم لا تنكح ابنها من الطرفين ليس كالإرث قد يكون من أحد الجهتين، فالمرأة يرثها عمها وابن أخيها ولا ترثهما، وإذا لم يكن لها أن تنكح ولدها، فكذلك الأب. الثاني: أن {أخواتكم من الرضاعة} يتناول الأخت من الجهات، وصحت الأحاديث بتحريم لبن الفحل، فتبين أن قوله: {وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} 1 يتناول أخته من أبيه، فإذا حرمت عليه فهي على أبيه أولى، فذكر سبحانه الأخت ينبه بها على غيرها. ويتبين أن هذا ليس مختصا بالأم كتحريم أمهات المؤمنين، فلو ذكرت الأم وحدها لظن هذا، فلما ذكرت الأخت دل على تعديه لأقارب الأم وأقارب الأب أيضا، حيث كانت الأخت بالأم تارة، وبالأب أخرى. ولما ذكر التحريم بالولادة وهو الأصل استوفي الكلام، فلما ذكر ما هو فرع عليه وشبيه به اختصر الكلام؛ فذكر الأم والأخت لما ذكرنا، ودلالة القرآن على هذا لم نستقل بفهمها بل السنة بينت ذلك، وهي لا تخالف القرآن بل توافقه، فكون قوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} 2 من الجوامع الذي لا تخصيص فيه أحسن وأدل على عظمة الكتاب من التخصيص، ولفظ الورى بمنْزلة الخلق، وهو يشعر بالتأخر والبعد، فيكون أصله دون ما ذكر وهو متأخر عنه، فلم يكن ما ذكرنا داخلا فيما وراء ذلكم لما ذكرنا من أنه أفحش؛ وهذا عرف ببيان الرسول ثم تفطن له من تفطن كما في نظائره إذ كان وجوه دلالات القرآن يخفى كثير منها على كثير من الناس، لكن السنة بينته. والقرآن

_ 1 سورة النساء آية: 23. 2 سورة النساء آية: 24.

هو الذي لا تنقضي عجائبه، ولا يشبع منه العلماء، وقد جاء عن ابن مسعود وابن عباس وغيرهما أنهم إذا سمعوا حديثا عنه صلى الله عليه وسلم طلبوه من القرآن، قال مسروق: ما نسأل أصحاب محمد عن شيء إلا وعلمه في القرآن، لكن علمنا قصر عنه، وقال الشعبي: ما ابتدع قوم بدعة إلا وفي القرآن بيانها. وكذلك أحاديث المسح لا تخالف القرآن بل تفسره، وذلك أنه أمر القائم إلى الصلاة بما ذكر، ولو قدمه قبل القيام جاز، ذكره أحمد إجماعا؛ فيجب الوضوء عند القيام على المحدث، ولو لبس محدثا لم يجز المسح إجماعا. واللابس على طهارة قد غسل رجليه وأتى بالمأمور به في القرآن، فإذا أحدث فقد بينت السنة أن مسحه على الخف الملبوس على طهارة يجزيه؛ فأجزأته الطهارة المتقدمة مع هذا المسح. وهذا كما بينت السنة أن المستحاضة ليس خروج الدم منها حدثا، وكذلك من به سلس البول والمذي، فقد فرق في جنس هذا تارة ينقض وتارة لا، إذا كان فيه عسر. وذكره لفظ المسح في الرجلين يشعر بتخفيف الأمر فيهما، لكن التقييد بالكعبين دل على أنه أراد الغسل إذا كانا ظاهرين، ومن نعم الله على عباده أن هذه المواضع التي تظهر فيها المخالفة لبعض الناس قد تواترت فيها السنة بما جاءت فيه، فلم يمكن أحد أن يترك السنة إلا من لا يعرفها. وأما المواضع التي تظن فيها المخالفة وهي غلط، كالحكم بشاهد ويمين، فتلك لما لم تكن متواترة لم يكن ظاهر القرآن مخالفا للسنة، بل أنكر قول من زعم المخالفة، وهذا يحقق وجوب العمل بما ثبت من السنة، فإنه لا يخالف الكتاب بل يفسره. (91) أرسل الله رسوله صلى الله عليه وسلم وقد مقت أهل الأرض إلا بقايا من أهل الكتاب، وماتوا أو أكثرهم قبل مبعثه، والناس إذ ذاك

أحد رجلين، إما كتابي معتصم بكتاب مبدل أو مبدل منسوخ، ودين دارس بعضه مجهول وبعضه متروك، وإما أمي مقبل على عبادة ما استحسنه من نجم أو قبر أو تمثال أو وثن أو غير ذلك، والناس في مقالات يظنونها علما وهي جهل، وأعمال يحسبونها صلاحا وهي فساد، فهدى الله الناس بما جاء به من البينات والهدى هداية جلت عن الوصف. ثم إنه بعثه بدين الإسلام، وهو الصراط المستقيم، وفرض علينا أن نسأله هدايته في كل يوم وليلة في صلاتنا، ووصفه بأنه صراط المنعم عليهم غير المغضوب عليهم وغير الضالين، ثم ذكر حديث عدي بن حاتم وفيه فإن اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالون. فقلت: فإني حنيف مسلم، ودل القرآن على معنى هذا. ووصف اليهود بالغضب والنصارى بالضلال له أسباب ظاهرة وباطنة جماعها: أن كفر اليهود من عدم العمل، والنصارى من عدم العلم. ومع أن الله حذرنا سبيلهم فقضى قضاء نافذا أن هذه الأمة يكون فيها مضاهاة لليهود والنصارى، وهم أهل الكتاب، ولفارس والروم وهم الأعاجم. وكان صلى الله عليه وسلم ينهى عن التشبه بهؤلاء وهؤلاء، فكذلك أمر العبد بدوام الدعاء بالاستقامة التي لا يهودية فيها ولا نصرانية أصلا، والصراط المستقيم أمور باطنة في القلب من اعتقادات وإرادات، وأمور ظاهرة قد تكون عبادات وقد تكون عادات في الطعام والشراب والاجتماع والافتراق وغير ذلك. (92) قد غلط في مسمى التوحيد طوائف من أهل النظر والكلام، ومن أهل الإرادة والعبادة، حتى قلبوا حقيقته؛ فطائفة ظنت أنه نفي الصفات، وسمو أنفسهم أهل التوحيد، وطائفة ظنت أنه ليس إلا الإقرار

بتوحيد الربوبية، وأطالوا الكلام في تقرير هذا الموضع، إما بدليل أن الاشتراك يوجب نقص القدرة، واستقلال كل من الفاعلين بالفعل محال، وإما بغير ذلك، ولم يعلموا أن مشركي العرب مقرون بهذا التوحيد، وهذا من التوحيد الواجب، لكن لا يخلص من الشرك الذي هو أكبر الكبائر، بل لا بد أن يخلص لله الدين فيكون دينه لله. والإله هو المألوه، وكونه يستحق ذلك مستلزما لصفات الكمال؛ فلا يستحق أن يكون معبودا محبوبا لذاته إلا هو، فكل عمل لا يراد به وجهه فهو باطل؛ وعبادة غيره وحب غيره يوجب الفساد: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} 1. وقد بينا أن هذه الآية لم يقصد بها دليل التمانع، فإنه يمنع وجود المفعول لإفساده بعد وجوده. ثم إن طائفة ممن تكلم في تحقيق التوحيد ظن أن توحيد الربوبية هو الغاية، والفناء فيه هو النهاية، فآل بهم إلى تعطيل الأمر والنهي، ولم يفرقوا بين الكلمات الكونية التي لا يجاوزها بر ولا فاجر، وبين الكلمات الدينية التي اختص بها من عبده وأطاعه. ثم إن أولئك الذين أدخلوا فيه نفي الصفات، وهؤلاء الذين أخرجوا عنه متابعة الأمر إذا حققوا القولين أفضى بهم إلى الوحدة والاتحاد والحلول. ومن أحكم الأصلين في الصفات وفي الخلق والأمر، فميز بين المأمور وغيره مع شمول الخلق لهما، وأثبت الصفات الموجبة لمباينة المخلوقات، أثبت توحيد الرسل، كما نبه عليه في سورتي الإخلاص؛ فـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} 2 فيها التوحيد العلمي الذي يدل على الأسماء والصفات؛ فيتميز

_ 1 سورة الأنبياء آية: 22. 2 سورة الإخلاص آية: 1.

مثبتو الرب الخالق الأحد الصمد من المعطلين، و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} 1 فيها التوحيد العلمي؛ فيتميز من يعبد الله من غيره، وإن أقر كل منهما بأن الله رب كل شيء ومليكه؛ ويتميز المخلصون ممن أشرك به، أو نظر إلى القدر الشامل فسوى بين المؤمن والكافر. والله سبحانه له حقوق لا يشرك فيها غيره، وللرسل حقوق لا يشركهم فيها غيرهم، وللمؤمنين على المؤمنين حقوق مشتركة، قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 2؛ ويدخل في ذلك ألا يخاف إلا إياه كما قال: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} 3، فجعل الخشية والتقوى لله وحده، وكذلك قوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ} 4 فجعل التحسب بالله وحده، وجعل الرغبة لله وحده، ولم يأمر قط مخلوقا أن يسأل مخلوقا، وإن أباحه في بعض المواضع، كما في صفة الذين لا يحاسبون، أنهم لا يطلبون غيرهم أن يرقيهم. والقرآن كله يحقق هذا الأصل؛ وقد بعث الله محمداصلى الله عليه وسلم بتحقيقه، ونفى الشرك بكل وجه حتى في الألفاظ كما قال: "لا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد" 5. والعبادات المشروعة كلها تتضمن إخلاص الدين لله تحقيقا لقوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} 6 فالصلاة لله وحده، والصدقة لله وحده، والصيام لله وحده،

_ 1 سورة الكافرون آية: 1. 2 سورة النحل آية: 36. 3 سورة النور آية: 52. 4 سورة التوبة آية: 59. 5 أبو داود: الأدب (4980) , وأحمد (5/384 ,5/393 ,5/398) . 6 سورة البينة آية: 5.

والحج لله وحده، وإلى بيت الله وحده، فالمقصود من الحج عبادة الله وحده في البقاع التي أمر الله بعبادته فيها، ولهذا كان الحج شعار الحنيفية، حتى قال طائفة من السلف: حنفاء لله، أي حجاجا. وقوله {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً} 1 عام في الأولين والآخرين، قال تعالى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} 2 الآية. فسر إسلام الوجه بما يقتضي إخلاص القصد لله، وهو محسن بالعمل الصالح المأمور به. وهذان الأصلان جماع الدين، لا يعبد إلا الله، ولا يعبد إلا بما شرعه. ولفظ الإسلام: الاستسلام والانقياد، ويتضمن الإخلاص قوله: {وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ} 3، فمن استسلم لله ولغيره فهو مشرك، ومن لم يستسلم فهو مستكبر. فاليهود موصوفون بالكبر والنصارى بالشرك. (93) الشهادة أن محمدا رسول الله تتضمن تصديقه في كل ما أخبر به، وطاعته في كل ما أمر به؛ فيثبت العبد ما أثبته الرسول لربه من الأسماء والصفات، وينفي ما نفى عنه من مماثلة المخلوقات. فلا حرام إلا ما حرمه، ولا دين إلا ما شرعه. ولهذا ذم الله المشركين في الأنعام والأعراف وغيرهما لكونهم حرموا ما لم يحرم الله، وشرعوا دينا لم يأذن به، كما في قوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ} 4 إلى آخر السورة، وما ذكر في صدر سورة الأعراف، وقال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ} 5، فمن دعا إلى غير الله فقد أشرك، ومن

_ 1 سورة آل عمران آية: 85. 2 سورة البقرة آية: 112. 3 سورة الزمر آية: 29. 4 سورة الأنعام آية: 136. 5 سورة آية: 45-46.

دعا إليه بغير إذنه فقد ابتدع؛ والشرك بدعة، والمبتدع يؤول إلى الشرك، ولهذا لم يوجد مبتدع إلا وفيه نوع من الشرك كما قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً} 1 الآية، وقال: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ} 2، فقرن بعدم إيمانهم بالله واليوم الآخر أنهم لا يحرمون ما حرمه الرسول، ولا يدينون دين الحق. (94) أصل دين المسلمين أنه لا يخص بقعة بقصد العبادة إلا المساجد، وأما ما عليه المشركون وأهل الكتاب من تعظيم بقاع غيرها كحراء ونحوه هو مما جاء الإسلام بإزالته. ثم المساجد تشترك في العبادة إلا ما خص به المسجد الحرام من الطواف ونحوه، فإن خصائصه لا يشركه فيها مسجد، كما أنه لا يصلى إلى غيره. وإذا كان مثل مقام نبينا في مثل غار حراء الذي ابتدئ فيه بإنزال القرآن لا يشرع قصده، فكيف بغيره؟ فمن جعل شيئا من ذلك قربة فقد ابتدع غير سبيله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وشرع من الدين ما لم يأذن به الله؛ ولهذا جاء الاعتكاف الشرعي في المساجد بدل ما كان يفعل قبل الإسلام من المجاورة بحراء ونحوه. فأما العكوف والمجاورة عند قبر نبي أو غيره أو مقامه فليس من دين المسلمين. وأما المسجد الأقصى فهو أحد الثلاثة التي تشد إليها الرحال، ولا يشرع السفر إلى غيرها؛ ولو نذره لم يجب بالنذر باتفاق الأئمة. وليس بالمدينة مسجد يشرع إتيانه إلا مسجد قباء؛ وكان الفقهاء من أهل المدينة لا يقصدون شيئا من تلك الأماكن إلا قباء خاصة. وثبت أن ابن عمر إذا أتى بيت المقدس دخل وصلى

_ 1 سورة التوبة آية: 31. 2 سورة التوبة آية: 29.

فيه ولا يقرب الصخرة. وكذلك نقل عن غير واحد من السلف كعمر بن عبد العزيز والأوزاعي والثوري وغيرهم. وذكر بعض من صنف من المناسك استحباب زيارة مساجد مكة، وقد كتبت دعاء في منسك كتبته في أول عمري، ثم تبين لي أن هذا كله من البدع. (95) كل أمر يكون المقتضي لفعله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون موجودا لو كان مصلحة ولم يفعله علم أنه ليس بمصلحة كالأذان في العيدين، فإن هذا لما أحدثه بعض الأمراء أنكره المسلمون، لأنه بدعة، فلو لم يكن كونه بدعة دليلا على كراهته، وإلا لقيل: هذا ذكر لله ودعاء إلى عبادته، فيدخل في عموم قوله: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً} 1، وقوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً} 2. والاستدلال بهذا أقوى من الاستدلال على حسن أكثر البدع، بل يقال: ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة، كما أن فعله سنة، فلما أمر بالأذان في الجمعة، وتركه في العيدين، فذلك كالزيادة في عدد الركعات المكتوبة، ولا يقال: هذا زيادة عمل صالح، بل يقال: كل بدعة ضلالة. ومثل ما حدثت الحاجة إليه بتفريط من الناس تقديم الخطبة في العيد، فإنه لما فعله بعض الأمراء أنكره المسلمون، لأنه بدعة، فاعتذر من أحدثه بأن الناس ينفضّون قبل سماع الخطبة، فيقال: سببه تفريطك؛ فإن الخطبة مقصدها التذكير وتعليم الدين، وأنت قصدك إقامة رياستك، وإن قصدت صلاحهم لم تعلمهم ما ينفعهم. وأما ما تركه من المصالح لأجل مفسدة قد زالت، كقيام رمضان جماعة

_ 1سورة الأنفال آية: 45. 2سورة فصلت آية: 33.

لما خاف أن يفرض، أو جمع القرآن لما زال المانع وهو أن الوحي لا يزال ينْزل، ويغير الله ما يشاء ويحكم ما يريد، فلو جمع في مصحف لتعذر أو تعسر تغييره كل وقت، فلما استقرت الشريعة، وأمن من زيادة الإيجاب والتحريم، والمقتضى للعمل قائم بسنته، فعمل المسلمون بمقتضى سنته، وصار كنفي عمر أهل الكتاب من الجزيرة، وكذلك قوله: "خذوا العطاء ما كان عطاء، فإذا كان عوضا عن دين أحدكم فلا تأخذوه"، فلما صار الأمراء يعطونه لمن أعانهم على الهوى كان الامتناع منه اتباعا للسنة، وإن كان محدثا، وكذلك قتال مانعي الزكاة. ومن فهم هذا المعنى انحل عنه كثير من شبه البدع، فإنه قد روي عنه صلى لله عليه وسلم: "ما أحدث قوم بدعة إلا نزع الله عنهم من السنة مثلها" 1. وقد أشرت إلى هذا فيما تقدم، وبينت أن الشرائع أحد أغذية القلوب، فمتى اغتذت بالبدع لم يبق فيها فضل للسنن. وعامة الأمراء إنما أحدثوا أنواعا من السياسات من أخذ أموال لا تجوز، وعقوبات لا تجوز، لأنهم فرطوا في المشروع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإلا فلو قبضوا ما يسوغ قبضه، ووضعوه موضعه لإقامة دين الله، وأقاموا الحدود على القريب والبعيد، لما احتاجوا إلى المكوس، والعقوبات الجائرة، ولا إلى من يحفظهم من العبيد والمستعبدين، كما كان الخلفاء وغيرهم من أمراء بعض الأقاليم. وكذلك العلماء إذا أقاموا كتاب الله وفهموا ما فيه وأقاموا الحكمة التي بعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، لوجدوا في ذلك ما يحيط بعلمه الناس، ولميزوا بين المحق والمبطل بوصف الشهادة التي جعلها الله لهذه الأمة، ولاسْتغنوا عما أحدث المبتدعون من الحجج التي يزعمون أنهم ينصرون بها أصل الدين، وعن الرأي الفاسد الذي يزعم القياسيون أنهم يتممون به فروع الدين.

_ 1 الدارمي: المقدمة (98) .

(96) أكثر الناس لا يدرك فساد البدع إذا كانت من جنس العبادات، أو من جنس الأعياد، بل أولو الألباب يدركون بعض ما فيها من الفساد؛ والواجب اتباع ما أنزل الله وإن لم تدرك الحكمة. فمن أحدث عملا في يوم كصوم أول خميس من رجب، أو صلاة أول ليلة جمعة منه، وما يتبعه من إحداث زينة، وتوسيع في نفقة، فلا بد أن يتبع هذا اعتقاد في القلب أن العمل في ذلك له مزية، ولولاه لما انبعث القلب إلى ذلك؛ فإن الترجيح من غير مرجح ممتنع، وهذا المعنى قد شهد له الشرع بالاعتبار في هذا الحكم، فهو من المعاني المناسبة المؤثرة، فإن مجرد المناسبة مع الاقتران يدل على العلة عند من يقول بالمناسب الغريب، وهم كثير من الفقهاء؛ ومن لا يقول إلا بالمؤثر يكتفي بمجرد المناسبة حتى يدل الشرع أن مثل ذلك الوصف مؤثر في هذا الحكم، وهو قول كثير منهم، وهؤلاء إذا رأوا الحكم المنصوص فيه معنى قد أثر في مثل ذلك الحكم في موضع آخر عللوا المنصوص به. وقال كثير منهم إن الحكم المنصوص لا يعلل إلا بوصف دل الشرع على أنه معلل به. وتلخيص الفرق أنا إذا رأينا الشارع دل على العلة كقوله: "إنها من الطوافين" إلخ، فهذه يعمل بموجبها باتفاق الطوائف الثلاثة؛ فلو قال: لا ألبس هذا الثوب الذي تمن علي به، حنث بما كانت منته مثله، وهو ثمنه. وأما إذا رأينا الشارع قد حكم بحكم لم يعلله لكن علل نظيره أو نوعه، مثل أنه جوز للأب أن يزوج ابنته الصغيرة البكر بلا إذنها، وقد رأيناه جوز له الاستيلاء على مالِها لكونها صغيرة، فهل علة ولاية النكاح الصغر؟ أم قد تكون أخرى وهي البكارة مثلا، فهذه هي المؤثرة أي: قد بين تأثيرها في حكم، وسكت عنه في آخر نظيره، فالفريقان الأولان يقولان بها، وهو في الحقيقة إثبات لها

بالقياس. والفريق الثالث لا يقول بها إلا بدلالة خاصة لجواز أن يكون النوع الواحد له علل مختلفة، ومنه نهيه عن البيع على بيع أخيه، وسومه على سومه، فيعلل بفساد ذات البين كما علل به في قوله: "لا تنكح المرأة على عمتها" 1. وأما إذا رأيناه حكم بحكم فيه وصف مناسب لم يذكره، ولا علل به نظيره، فهذا الوصف المناسب الغريب، فجوز اتباعه الفريق الأول خاصة، وهو إدراك لعلة الشارع بالعقل، والذي قبله بالقياس، والأول بكلامه. ومع هذا فقد تعلم علة الحكم المعين بالسبر وبدلالات أخرى، فإذا تبين هذا، فمسألتنا من باب العلة المنصوصة في موضع، المؤثرة في موضع آخر، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن تخصيص أوقات بصلاة أو صيام، وأباح ذلك على غير التخصيص كقيام ليلة الجمعة وصيام نهارها وتقدم رمضان، فوجه الدلالة أن المفسدة تنشأ من تخصيص ما لا خصيصة له، إذ لا ينبعث التخصيص إلا عن اعتقاد الاختصاص. ومن قال إذًا أخصها بلا اعتقاد، فلا بد أن يكون الباعث إما موافقة غيره، وإما اتباع العادة، وإما خوف اللوم، فهذا العمل مستلزم إما لاعتقاد هو ضلال، أو عمل دين لغير الله. ثم الاعتقاد يتبعه تعظيم في القلب ولو خواطر متقابلة، فمن حيث اعتقاد أنه بدعة يقتضي عدم التعظيم، ومن شعوره بما روي فيه أو فعل بعض الناس له، أو بما يظهر له فيه من المنفعة يقوم بقلبه عظمته، فعلمت أن فعل البدع يناقض الاعتقادات الواجبة، وينازع الرسل ما جاؤوا به، وأنها تورث في القلب نفاقا ولو كان خفيفا، مثل من عظم أبا جهل، وابن أبي لرياسته أو إحسانه، فإذا ذمه الرسول أو أمر بإهانته، فمن لم يخلص إيمانه وإلا بقي في قلبه منازعة؛ ولهذا قيل: البدع مشتقة من الكفر. ومنها أن البدع تنقص الرغبة في السنن فيفعلها كأنها عادة ووظيفة، فيفوت ما فيها من المغفرة والرحمة والخشوع،

_ 1 البخاري: النكاح (5108) , والنسائي: النكاح (3297 ,3298 ,3299) , وأحمد (3/338 ,3/382) .

وإجابة الدعاء وغير ذلك. ومنها جهالة الناس بدين المرسلين، وانتشار زرع الجاهلية. ومنها مسارعة الطبع إلى الانحلال من ربقة الاتباع، لأن النفس فيها نوع من الكبر فتحب أن تخرج من العبودية بحسب الإمكان، كما قال أبو عثمان: ما ترك أحد سنة إلا تكبر في نفسه. (97) العيد يكون اسما لنفس المكان، ولنفس الزمان، ولنفس الاجتماع: وهذه الثلاثة قد أحدث منها أشياء: أما الزمان فثلاثة أنواع، ويدخل فيها بدع أعياد المكان والأفعال: أحدها: يوم لم تعظمه الشريعة أصلا، ولا جرى فيه ما يوجب تعظيمه، مثل ليلة الرغايب. الثاني: ما جرى فيه حادثة كيوم الغدير، ولم يكن في السلف لا أهل البيت ولا غيرهم من يعظمه، إذ الأعياد من الشرائع فيجب فيها الاتباع. وكذلك ما أحدث في المولد إما مضاهاة للنصارى في ميلاد عيسى، وإما محبة للنبي صلى الله عليه وسلم. ويصحب هذه الأعمال من الرياء والكبر والاشتغال عن المشروع ما يفسد حال صاحبها كما في الحديث: "ما ساء عمل قوم قط إلا زخرفوا مساجدهم" 1. ومن الأعمال ما فيه خير لاشتماله على أنواع من المشروع، وفيه شر من بدعة وغيرها، فيكون ذلك العمل شرا بالنسبة إلى الإعراض عن الدين بالكلية كحال المنافقين والفاسقين، وهذا قد ابتلي به أكثر الأمة في الأزمان المتأخرة؛ فعليك هنا بأدبين: أحدهما: الحرص على التمسك بالسنة في خاصتك ومن أطاعك، واعرف المعروف، وأنكر المنكر. الثاني: الدعوة إلى السنة بحسب الإمكان فإذا رأيت من يعمل هذا ولا يتركه إلا إلى شر منه، فلا تدع إلى ترك منكر بفعل ما هو أنكر منه، أو

_ 1 ابن ماجه: المساجد والجماعات (741) .

بترك واجب أو مندوب تركه أضر من فعل ذلك المكروه. فإذا كان الفاعلون للبدع معيبين، فالتاركون للسنن كذلك؛ فإن منها ما يكون واجبا مطلقا، ومنها مقيدا كالنافلة، فإنها لا تجب، ولكن من أراد أن يصليها وجب عليه الإتيان بأركانها، وكما يجب على من أتى الذنوب من الكفارات، وما يجب على من كان إماما أو مفتيا من الحقوق، وعامتها يجب تعليمها، والحض عليها، والدعاء إليها. وكثير من المنكرين للبدع تجدهم مقصرين في فعل السنن، فلا ينهى عن منكر إلا ويؤمر بمعروف يغني عنه، كما يؤمر بعبادة الله عن عبادة ما سواه، والنفوس خلقت لتعمل، وإنما الترك مقصود لغيره. فتفطن لحقيقة الدين، وانظر ما اشتملت عليه الأفعال من المصالح والمفاسد، بحيث تعرف مراتب المعروف والمنكر حتى تقدم أهمها عند الازدحام؛ فإن هذا حقيقة العلم بما جاءت به الرسل، وهذا خاصة العلماء. الثالث: ما هو معظم في الشرع كيوم عاشوراء ويوم عرفة ويومي العيدين وعشر رمضان، فيحدث فيه مما يعتقد أنه فضيلة ما يصير منكرا ينهى عنه. وأما المكانية فأيضا ثلاثة أقسام: أحدها: ما لا خصوص له، فقصده للعبادة والاجتماع فيه لدعاء أو غير ذلك ضلال بين؛ وهذا أقبح من الذي قبله، فإنه يشبه عبادة الأوثان، أو نوع منها أو ذريعة. وكانت الطواغيت الكبار التي تشد إليها الرحال ثلاثة: اللات والعزى ومناة، وكل واحد منها لمصر من أمصار العرب. ومن أراد معرفة أحوال المشركين قبل مبعثه صلى الله عليه وسلم، وحقيقة الشرك الذي ذمه الله وأنواعه، حتى يتبين له تأويل القرآن، ويعرف ما كرهه

الله ورسوله، فلينظر سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأحوال العرب في زمانه وما ذكره الأزرقي في أخبار مكة وغيره من العلماء. ولما كان للمشركين سدرة فذكر الحديث، فأنكر مجرد مشابهتهم للكفار في اتخاذ شجرة يعكفون عليها معلقين عليها سلاحهم، فكيف بما هو أطم من ذلك من مشابهة المشركين؟ أو هو الشرك بعينه؟ الثاني: ما له خصوصية لا يقتضي اتخاذه عيدا ولا الصلاة ولا غيرها عنده، كقبور الأنبياء والصالحين؛ وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم والسلف النهي عن اتخاذها عيدا عموما وخصوصا، وبينوا معنى العيد. فأما العموم فقوله: "لا تتخذوا قبري عيدا، ولا بيوتكم قبورا " 1 عكس ما يفعله المشركون. ثم أن أفضل التابعين من أهل البيت 2 نهى الرجل أن يتحرى الدعاء عند قبره، واستدل بالحديث، فتبين أن قصده للدعاء ونحوه اتخاذ له عيدا، وكذلك أبي عمر الحسن بن الحسن شيخ أهل بيته كره أن يقصد الرجل القبر للسلام عليه ونحوه عند غير دخول المسجد، ورآه من اتخاذه عيدا، وكان للمشركين أمكنة ينتابونها للاجتماع، فلما جاء الإسلام محا ذلك. (98) سبب عبادة اللات سبب تعظيم قبر رجل صالح، وهذه هي العلة في تغليظه صلى الله عليه وسلم في النهي عن اتخاذ قبور الصالحين مساجد، ونهيه عن الصلاة في المقبرة، وقد نبه عليها بقوله: "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد" 3. وقد ذكر هذه العلة الشافعي وأبو بكر الأثرم وغيرهما

_ 1 أبو داود: المناسك (2042) , وأحمد (2/367) . 2 المراد به زين العابدين بن الحسين بن علي رضي الله عنهم. 3 مالك: النداء للصلاة (416) .

من العلماء، وهي التي أوقعت كثيرا من الأمم إما في الشرك الأكبر أو ما دونه، فإن الشرك بقبر الذي يعتقد نبوته أو صلاحه أعظم من أن يشرك بخشبة أو حجر على تمثاله؛ ولهذا تجد قوما كثيرا يتضرعون عندها، ويتعبدون بقلوبهم عبادة لا يعبدونها في المسجد ولا في السحر. فهذه المفسدة هي التي حسم صلى الله عليه وسلم مادتها حتى نهى عن الصلاة في المقبرة مطلقا، وإن لم يقصد بركة البقعة، كما يقصد بركة المساجد الثلاثة، كما نهى عن الصلاة وقت الطلوع والغروب والاستواء، لأنها الأوقات التي يقصد المشركون بركة الصلاة للشمس فيها، فنهى المسلم عن الصلاة حينئذ، وإن لم يقصد ذلك الوقت سدا للذريعة. فأما إذا قصد الصلاة عند قبور الصالحين متبركا فهذا عين المحادة لله ورسوله، والمخالفة لدينه، وابتداع دين لم يأذن الله به؛ فنهى صلى الله عليه وسلم من اتخاذها مساجد، وعن الصلاة عندها، وعن اتخاذها عيدا، ودعا الله أن لا يجعل قبره وثنا يعبد. واتخاذ المكان عيدا هو اعتياد إتيانه لعبادة أو غيرها، وتقدم النهي الخاص عن الصلاة عندها وإليها، وذكرنا ما في دعاء المرء لنفسه من الفرق بين قصدها لأجل الدعاء، والدعاء ضمنا وتبعا. (99) الله سبحانه يقرن بين الشرك والكذب كما يقرن بين الصدق والإخلاص، ولهذا في الصحيح: "عدلت شهادة الزور الإشراك بالله. ثم قرأ قوله: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} 1") وقال: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ

_ 1 الترمذي: الشهادات (2300) , وأبو داود: الأقضية (3599) , وابن ماجه: الأحكام (2372) , وأحمد (4/321) .

تَزْعُمُونَ 1 إلى قوله {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} 2 وقوله: {أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ} 3 وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} 4 وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ} 5 الآية. قال أبو قلابة: هي لكل مبتدع من هذه الأمة إلى يوم القيمة، وكل من كان أقرب إلى الشرك كان أقرب إلى الكذب، كالرافضة الذين هم أكذب طوائف أهل الأهواء، وأعظمهم شركا. (100) الاستدلال بكون الشيء بدعة على كراهته قاعدة عظيمة عامة، وتمامها بالجواب عما يعارضها؛ فإن من الناس من يقول البدع تنقسم إلى قسمين لقول عمر: "نعمت البدعة" وبأشياء أحدثت بعده صلى الله عليه وسلم وليست مكروهة للأدلة من الإجماع والقياس، وربما ضم إلى ذلك من لم يحكم أصول العلم ما عليه كثير من الناس من العادة، بمنْزلة من إذا قيل لهم {تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} 6؛ وما أكثر ما قد يحتج به من يتميز من المنتسبين إلى علم أو عبادة بحجج ليست من أصول العلم. وقد يبدي ذو العلم له مستندا من الأدلة الشرعية والله يعلم أن قوله لها وعلمه بها ليس مستندا إلى ذلك، وإنما يذكرها دفعا لمن يناظره، والمجادلة المحمودة إنما هي إبداء المدارك التي هي مستند الأقوال والأعمال، وأما إظهار غير ذلك فنوع من النفاق في العلم والعمل؛ وهذه

_ 1 سورة القصص آية: 62. 2 سورة الأنعام آية: 24. 3 سورة الصافات آية: 86. 4 سورة الزمر آية: 3. 5 سورة الأعراف آية: 152. 6 سورة المائدة آية: 104.

قاعدة دلت عليها السنة والإجماع مع الكتاب، قال الله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} 1. فمن ندب إلى شيء يتقرب به إلى الله أو أوجبه بقوله أو فعله من غير أن شرعه الله، فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله؛ فمن اتبعه في ذلك فقد اتخذ شريكا لله شرع من الدين ما لم يأذن به الله، وقد يغفر له لأجل تأويله إذا كان مجتهدا الاجتهاد الذي يعفى معه عن المخطئ، لكن لا يجوز اتباعه في ذلك، كما قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} 2 الآية. فمن أطاع أحدا في دين لم يأذن به الله من تحليل أو تحريم أو استحباب أو إيجاب، فقد لحقه من هذا الذم نصيب، كما يلحق الآمر الناهي. ثم قد يكون كلا منهما معفوا عنه فيتخلف الذم لفوات شرطه أو وجود مانعه، وإن كان المقتضي له قائما؛ ويلحق الذم من تبين له الحق فتركه، أو قصر في طلبه فلم يتبين له، أو أعرض عن طلبه لهوى أو كسل ونحو ذلك. وأيضا فإن الله عاب على المشركين شيئين: أحدهما: أنهم أشركوا به ما لم ينزل به سلطانا، الثاني: تحريمهم ما لم يحرمه، كما بينه صلى الله عليه وسلم في حديث عياض عند مسلم، وقال تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} 3 فجمعوا بين الشرك والتحريم، والشرك يدخل فيه كل عبادة لم يأذن بها الله، فإن

_ 1 سورة الشورى آية: 21. 2 سورة التوبة آية: 31. 3 سورة الأنعام آية: 148.

المشركين يزعمون أن عبادتهم إما واجبة وإما مستحبة، ثم منهم من عبد غير الله فيتقرب به إلى الله، ومنهم من ابتدع دينا عبد به الله كما أحدثه النصارى من العبادات؛ وأصل الضلال في أهل الأرض إنّما نشأ من هذين: إما اتخاذ دين لم يشرعه الله، أو تحريم ما لم يحرمه؛ ولهذا كان الأصل الذي بنى عليه أحمد وغيره مذهبهم أن الأعمال عبادات وعادات: فالأصل في العبادات أن لا يشرع منها إلا ما شرعه الله، والأصل في العادات أن لا يحظر منها إلا ما حظره الله. وهذه المواسم المحدثة إنما هي منها لما أحدث فيها من الدين الذي يتقرب به إلى الله. (101) من جوز أن يطلب من المخلوق كما يطلب من الخالق، من كشف الشدائد، فكفره شر من كفر عباد الأصنام، فإنهم لا يطلبون منها كما يطلب من الله، كما قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ} 1 الآيتين، فبين أنه إذا جاء عذاب الله، أو أتت الساعة لا يطلبون إلا الله في كشف الشدائد وإنزال الفوائد، وقال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} 2 الآية. وقد وقع في كثير من ذلك من وقع من العامة ونحوهم ممن فيه زهد وصلاح. ودين الإسلام مبني على أصلين: أن لا نعبد إلا الله، الثاني: أن نعبده بما شرع، لا نعبده بالبدع، كما قال الفضيل في قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} 3 قال: أخلصه وأصوبه؛ إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل،

_ 1 سورة الأنعام آية: 40. 2 سورة الإسراء آية: 67. 3 سورة هود آية: 7.

وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة. ولهذا قال الإمام أحمد: أصول الإسلام تدور على ثلاثة أحاديث قوله: "الحلال بين والحرام بين" 1، وقوله: "إنما الأعمال بالنيات" 2، وقوله: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" 3. وأهل الضلال يخالفون هذين الأصلين، فيعبدون غير الله ويبتدعون عبادة لم يأذن بها الله، كما في سورة الأنعام والأعراف وبراءة وغيرهن من السور. (102) ما بين الخلق من الأسباب الكسبية التي بها يتساءلون، ويشفع بعضهم إلى بعض هي من جنس المشاركة، والسبب الآخر الولادة؛ فالأسباب والصلات التي بينهم لا تخرج عن سبب خلقي وهو الولادة، أو كسبي من جنس المشاركة والمعاوضة؛ ولهذا افتتح سورة النساء بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} 4 الآية، فذكر في السورة حكم الأسباب من هذا وهذا، فذكر ما يتعلق بالولادة من القرابة والرحم، وما يتعلق بذلك من المواريث والمناكح، وكذلك ما يحصل بينهم بالعقود من المناكح والمواريث والوصايا على اليتامى. فالنسب من الأول، والصهر من الثاني، كما قال: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً} 5، فافتتحها بقوله: {الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} 6، ثم قال: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ} 7 أي: تتعاهدون وتتعاقدون والأرحام، فدخل في الأول ما بينهم من التساؤل والتعاقد الذي يجمع المعاوضة والمشاركة، وفي الثاني الولادة وفروعها. وقد نزه الله نفسه المقدسة عنهما، فقال {وَقُلِ الْحَمْدُ

_ 1 البخاري: الإيمان (52) , ومسلم: المساقاة (1599) , والترمذي: البيوع (1205) , والنسائي: البيوع (4453) والأشربة (5710) , وأبو داود: البيوع (3329) , وابن ماجه: الفتن (3984) , وأحمد (4/267 ,4/269 ,4/270) , والدارمي: البيوع (2531) . 2 البخاري: بدء الوحي (1) , ومسلم: الإمارة (1907) , والترمذي: فضائل الجهاد (1647) , والنسائي: الطهارة (75) والطلاق (3437) والأيمان والنذور (3794) , وأبو داود: الطلاق (2201) , وابن ماجه: الزهد (4227) , وأحمد (1/25 ,1/43) . 3 البخاري: الصلح (2697) , ومسلم: الأقضية (1718) , وأبو داود: السنة (4606) , وابن ماجه: المقدمة (14) , وأحمد (6/73 ,6/146 ,6/180 ,6/240 ,6/256 ,6/270) . 4 سورة النساء آية: 1. 5 سورة الفرقان آية: 54. 6 سورة النساء آية: 1. 7 سورة النساء آية: 1.

لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً} 1 الآية، وقال: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} 2 الآيتين، وقال: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ} 3 الآيتين، وقال: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ} 4 إلى آخرها. ومن هنا ضل من ضل من المشركين وأشباههم من المتفلسفة، حيث جعلوا لله ما نسبوه إليه نسب الولادة، أو جعلوه كالشريك، ولهذا كانوا يتخذون هؤلاء شفعاء، فإنهم يعبدونهم ليقربوهم إلى الله زلفى، ويتخذونهم وسيطا ووسائل كما يتخذون ذلك عند المخلوقين؛ فهذا أصل مادة هؤلاء الجهلة الضلال ونحوهم. والقرآن قد حسم هذه المادة، وجرد التوحيد، وبين أنه لا نسبة بين المخلوق والخالق إلا نسبة العبودية المحضة كما قال: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} 5، وقال: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ} 6 الآية، وقال: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ} 7 الآية. (103) المشركون من الصابئة ونحوهم لما عبدوا الكواكب والملائكة وجعلوها وسائط بين الله وبين خلقه، جادلوا الحنفاء الذين يتبعون الرسل، ولا يعبدون إلا الله، فقالوا: نحن نتخذ الروحانيين وسائط، وأنتم تتخذون البشر؛ فأخذ يعارضهم طائفة كالشهرستاني في الملل والنحل وغيره، ويذكرون

_ 1 سورة الإسراء آية: 111. 2 سورة الفرقان آية: 1. 3 سورة الأنعام آية: 100. 4 سورةالإخلاص آية: 1-2. 5 سورة الأنبياء آية: 26. 6 سورة النساء آية: 172. 7 سورة مريم آية: 90.

أن توسط البشر أولى من توسط الروحانيين، فبنوا معارضتهم على أصل فاسد، وهو مقايسة وسائط أولئك بوسائط الحنفاء، وهذا جهل بدين الحنفاء، فإنه ليس بينهم وبين الله واسطة في العبادة، وإنما الرسل بلغتهم أمر الله فهم وسائط في التبليغ، كدليل الحاج، وإمام الصلاة. وبعض من دخل دين الصابئة والمشركين ظنوا أن شفاعة الرسول لأمته لا تحتاج إلى دعاء منه بل الرحمة التي تفيض على الرسول تفيض على المستشفع من غير شعور من الرسول ولا دعاء منه، ومثلوا ذلك بانعكاس شعاع الشمس إذا وقع على جسم صقيل، ثم انعكس على غيره، وكما أن انعكاس الشعاع يحتاج إلى المحاذاة، فكذلك الفيض لا بد فيه من توجه الإنسان إلى النفوس الفاضلة؛ وجعلوا الفائدة في زيارة قبورهم من هذا الوجه، وقالوا: إن الأرواح المفارقة تجتمع هي والأرواح الزائرة، فيقوى تأثيرها، وهذه المعاني ذكرها طائفة من الفلاسفة ومن أخذ عنهم كابن سينا وأبي حامد وغيرهم؛ وهذه من أصول عُبَّاد الأصنام، وهي من المقاييس التي قال فيها بعض السلف: ما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس. (104) ومما يبين حكمة الشريعة أنها كسفينة نوح، أن الذين خرجوا عن المشروع خرجوا إلى الشرك. وطائفة منهم يصلون للميت، ويدعو أحدهم الميت، فيقول: اغفر لي وارحمني، ومنهم من يستقبل القبر، ويصلي لله مستدبرا الكعبة، ويقول القبر: قبلة الخاصة، والكعبة قبلة العامة، وهذا يقوله من هو أكثر عبادة وزهدا، وهو شيخ متبوع، ولعله أمثل أصحاب شيخه، لقوله في شيخه؛ وآخر من أعيان الشيوخ المتبوعين أصحاب الصدق والاجتهاد في العبادة والزهد يأمر المريد أول ما يتوب أن يذهب إلى قبر

الشيخ فيعكف عليه عكوف أهل التماثيل عليها. وجمهور هؤلاء المشركين بالقبور يجدون عند عبادة القبور من الرقة والخشوع وحضور القلب ما لا يجدونه في المساجد. وآخرون يحجون إلى القبور. وطائفة صنفوا كتبا وسموها مناسك حج المشاهد. وآخرون يسافرون إلى قبور المشايخ، وإن لم يسموه منسكا وحجا فالمعنى واحد. وبعض الشيوخ المشهورين بالزهد والصلاح صنف كتاب الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم في المنام. وذكر في مناقب هذا الشيخ أنه حج مرة، وكان قبر النبي صلى الله عليه وسلم منتهى قصده، ثم رجع ولم يذهب إلى الكعبة، وجعل هذا من مناقبه. وبسبب الخروج عن الشريعة، صار بعض الشيوخ ممن يقصده القضاة والعلماء قيل عنه إنه كان يقول: البيوت المحجوجة ثلاثة: مكة، وبيت المقدس، والبلد الذي بالهند الذي للمشركين، لأنه يعتقد أن دين اليهود والنصارى حق، وجاء بعض إخواننا العارفين قبل أن يعرف حقيقته، فقال له: أريد أن أسلك على يدك، فقال له: على دين اليهود أو النصارى أو المسلمين؟ فقال له: واليهود والنصارى أليسوا كفارا؟ قال: لا تشدد عليهم، ولكن الإسلام أفضل. ومن الناس من يجعل مقبرة الشيخ كعرفات، يسافرون إليها وقت الموسم، فيعرفون بها، كما يفعل بالمغرب والمشرق. وهؤلاء وأمثالهم صلاتهم ونسكهم لغير الله، فليسوا على ملة إبراهيم. والاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته موجود في كلام بعض الناس، مثل يحيى الصرصري ومحمد بن النعمان، وهؤلاء لهم صلاح لكن ليسوا من أهل العلم، بل جروا على عادة كعادة من يستغيث بشيخه في الشدائد ويدعوه. وكان بعض الشيوخ الذين أعرفهم وله فضل وعلم وزهد، إذا نزل به أمر خطا إلى جهة الشيخ عبد القادر خطوات واستغاث به؛ وهذا يفعله كثير من الناس.

وهؤلاء مستندهم مع العادة قول طائفة: قبر معروف أو غيره: ترياق مجرب. ومعهم أن طائفة استغاثوا بحي أو ميت فرأوه أتى في الهواء، وقضى بعض الحوائج؛ وهذا كثير واقع في المشركين الذين يدعون الملائكة أو الأنبياء أو الكواكب والأوثان، فإن الشيطان يتمثل لهم. ولو ذكرت ما أعلم من الوقائع الموجودة في زماننا من هذا لطال المقال، وقد طاف هذا بجوابه يعني الذي ذكر فيه جواز الاستغاثة بالنبي على علماء مصر ليوافقه واحد منهم فما وافقوه، وطلب منهم أن يخالفوا الجواب الذي كتبته فما خالفوه مع أن قوما كان لهم غرض، وفيهم جهل بالشرع قاموا في ذلك قياما عظيما، واستعانوا بمن له غرض من ذوي السلطان مع فرط تعصبهم، وكثرة جمعهم، وقوة سلطانهم ومكائد شيطانهم. (105) لما استحل طائفة من الصحابة والتابعين الخمر كقدامة وأصحابه ظنوا أنها تباح لمن عمل صالحا على ما فهموا من آية المائدة، اتفق علماء كعمر وعلي وغيرهما على أنهم يستتابون، فإن أصروا على الاستحلال كفروا، وإن أقروا بالتحريم جلدوا؛ فلم يكفروهم بالاستحلال ابتداء لأجل الشبهة، حتى يبين لهم الحق؛ فإن أصروا كفروا، ولهذا كنت أقول للجهمية الذين نفوا أن يكون الله فوق العرش: أنا لو وافقتكم كنت كافرا، وأنتم عندي لا تكفرون، لأنكم جهال ونحن نعلم بالضرورة أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يشرع لأمته أن يدعوا أحدا من الأحياء ولا الأموات، لا الأنبياء ولا غيرهم، لا بلفظ الاستغاثة ولا بلفظ الاستعاذة ولا غيرهما، كما أنه لم يشرع لهم السجود لميت، ولا إلى غير ميت ونحو ذلك، بل نعلم أنه نهى عن ذلك كله، وأنه من الشرك الذي حرمه الله ورسوله، لكن

لغلبة الجهل، وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين، لم يمكن تكفيرهم بذلك حتى يبين لهم ما جاء به الرسول; ولهذا ما بينت هذه المسألة قط لمن يعرف أصل دين الإسلام إلا تفطن له، وقال: هذا أصل دين الإسلام. وكان بعض أكابر الشيوخ العارفين من أصحابنا يقول: هذه أعظم ما بينته لنا. (106) الله سبحانه لم يذكر في كتابه المشاهد بل ذكر المساجد، وأنها خالصة له، كما قال: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} 1، وقال: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ} 2 الآيتين، وقال: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ} 3 الآية. ولم يذكر بيوت الشرك كبيوت المشاهد، وبيوت النار والأصنام، لأن الصوامع والبيع لأهل الكتاب، فالممدوح من ذلك ما كان مبينا قبل النسخ والتبديل، كما أثنى على اليهود والنصارى والصابئين الذين كانوا قبل النسخ والتبديل يؤمنون بالله واليوم الآخر ويعملون صالحا. فبيوت الأوثان والمقابر لم يذكر الله شيئا منها إلا في قصة من لعنهم النبي صلى الله عليه وسلم وذكر أنهم شرار الخلق عند الله يوم القيامة، فجمعوا بين التصاوير والمقابر. (107) جاء في القرآن نسبة المسيح إلى أمه لينفي نسبه إلى غيرها، لا كما

_ 1 سورة الأعراف آية: 29. 2 سورة التوبة آية: 17. 3 سورة الحج آية: 40.

زعمت النصارى، ولا كما زعمت اليهود، وأبلغ منه قوله: {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ} 1 الآية، خص المسيح وأمه من أهل الأرض، لأنهما اتخذا إلهين، فخصا لنفي هذا الشرك، ولم يكن تنقصا لهما. وقال تعالى: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً} 2 الآية. فتخصيصه تنبيه على من دونهم، ومن هذا قوله: "لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله، ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل" 3 فتخصيصه لتحقيق العموم، وكذلك قوله: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} 4 الآية، فذكر الملائكة تنبيها على أن هذه الدعوى لا تجوز لأحد من الخلق، ولو قدر وقوعه من ملك لكان جزاؤه جهنم، فكيف بغيره؟ وهذا التحقيق إفراد لله بالإلهية، ومنه قوله: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 5. والأنبياء معصومون ولكن المقصود بيان أن الشرك لو صدر من أفضل الخلق لأحبط عمله، فكيف بغيره؟ وكذلك قوله: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} 6، خوطب بذلك أفضل الخلق لبيان عظم هذا الذنب، لا لغض قدر المخاطب، كقوله: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ} 7 الآيات، وقوله: {فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} 8.

_ 1 سورة المائدة آية: 17. 2 سورة آل عمران آية: 80. 3 البخاري: المرضى (5673) والرقاق (6463) , ومسلم: صفة القيامة والجنة والنار (2816) , وأحمد (2/235 ,2/264 ,2/451 ,2/482 ,2/488 ,2/503 ,2/514 ,2/537) . 4 سورة الأنبياء آية: 29. 5 سورة الأنعام آية: 88. 6 سورة الزمر آية: 65. 7 سورة الحاقة آية: 44. 8 سورة الشورى آية: 24.

وفي الحديث: "إن الله لو عذب أهل سماواته وأرضه لعذبهم وهو غير ظالم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم" 1، فهذا في بيان عدل الرب وإحسانه، وتقصير الخلق عن واجب حقه من الملائكة والأنبياء. (108) وقال في الكلام على قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ} 2 الآيتين: لما ذكر أن من السلف من ذكر أنهم من الملائكة، ومنهم من ذكر معهم الإنس، ومنهم من ذكر أنهم من الجن، يذكرون جنس المراد به الآية على التمثيل، كما يقول الترجماني لمن سأله عن الخبز فيريه رغيفا، والآية هنا قصد بها التعميم لكل ما يدعى من دون الله. فكل من دعا ميتا أو غائبا من الأنبياء والصالحين سواء كان بلفظ الاستغاثة أو غيرها فقد تناولته هذه الآية، كما تناول من دعا الملائكة والجن. ومعلوم أن هؤلاء يكونون وسائط فيما يقدره الله بأفعالهم، ومع هذا فقد نهى عن دعائهم، وبين أنهم لا يملكون كشف الضر عن الداعين ولا تحويله، لا يرفعونه بالكلية ولا يحولونه من موضع إلى موضع، أو من حال إلى حال، كتغيير صفته أو قدره، ولهذا قال: {وَلا تَحْوِيلاً} فذكر نكرة تعم أنواع التحويل. وقال تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} 3، كان أحدهم إذا نزل بواد يقول: أعوذ بعظيم هذا الوادي من سفهائه، فقالت الجن: الأنس تستعيذ بنا، فازدادوا رهقا، وقد نص الأئمة كأحمد وغيره على أنه لا تجوز الاستعاذة بمخلوق، وهذا مما استدلوا به على أن كلام الله غير مخلوق، لما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم

_ 1 أبو داود: السنة (4699) , وابن ماجه: المقدمة (77) , وأحمد (5/182 ,5/185 ,5/189) . 2 سورة الإسراء آية: 56. 3 سورة الجن آية: 6.

أنه استعاذ بكلمات الله، وأمر بذلك، فإذا كان لا يجوز ذلك فأن لا يجوز أن يقال: أنت خير مستعاذ يستعاذ به أولى. فالاستعاذة والاستجارة والاستغاثة كلها من نوع الدعاء والطلب، وهي ألفاظ متقاربة، ولما كانت الكعبة بيت الله الذي يدعى ويذكر عنده، فإنه سبحانه يستجار به هناك، وقد يستمسك بأستار الكعبة كما يتعلق المتعلق بأذيال من يستجير به، كما قال عمر وابن سعيد: إن الحرم لا يعيذ عصيا، ولا فارا بدم، ولا فارا بخربة. وفي الصحيح "يعوذ عائذ بهذا البيت " 1 والمقصود أن كثيرًا من الضالين يستغيثون بمن يحسنون به الظن، ولا يتصور أن يقضي لهم أكثر مطالبهم، كما أن ما تخبر به الشياطين من الأمور الغائبة لا يصدقون في أكثر بل يصدقون في واحدة، ويكذبون في أضعافها، ويقضون لهم حاجة واحدة ويمنعونهم أضعافها، ويكون فيما أخبروا به وأعانوا عليه إفساد حال الرجال في الدين والدنيا، ويكون فيه شبهة للمشركين كما يخبر الكاهن ونحوه. والله سبحانه جعل الرسول مبلغا لأمره، ونهيه، ووعده، ووعيده، وهؤلاء يجعلون الرسل والمشايخ يدبرون العالم بقضاء الحاجات، وكشف الكربات، وليس هذا من دين المسلمين، بل النصارى تقول هذا في المسيح وحده شبهة الاتحاد والحلول، ولهذا لم يقولوه في إبراهيم وموسى وغيرهم مع أنهم في غاية الجهل في ذلك، فإن الآيات التي بعث بها موسى أعظم، ولو كان هذا ممكنا لم يكن للمسيح خاصية به بل موسى أحق، ولهذا كنت أتنزل مع علماء النصارى إلى أن أطالبهم بالفرق بين المسيح وغيره من جهة الإلهية، فلا يجدون فرقا، بل أبين لهم أن ما جاء به موسى من الآيات أعظم، فإن كان حجة في دعوى الإلهية فموسى أحق، وأما ولادته من غير أب فهو يدل على قدرة الخالق لا على أن المخلوق أفضل من غيره.

_ 1 مسلم: الفتن وأشراط الساعة (2882) .

(109) إذا كان الكلام في سياق التوحيد، ونفي خصائص الرب عما سواه لم يجز أن يقال: هذا سوء عبارة في حق من دون الله من الأنبياء والملائكة، فإن المقام أجل من ذلك، وكل ما سوى الله يتلاشى عند تجريد توحيده، والنبي صلى الله عليه وسلم كان من أعظم الناس تقريرا لما يقال على هذا الوجه، وإن كان هو المسلوب، كما قالت عائشة لما أخبرها ببراءتها: "والله لا أقوم إليه ولا أحمده، ولا أحمد إلا الله" 1، وفي لفظ "بحمد الله لا بحمدك"، فأقرها صلى الله عليه وسلم وأبوها على ذلك، لأن الله سبحانه الذي أنزل براءتها بغير فعل أحد. قال حبان: قلت لابن المبارك: إني لاستعظم هذا القول، قال: ولت الحمد أهله. وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد قول الأسير: "اللهم إني أتوب إليك ولا أتوب إلى محمد، قال: عرف الحق لأهله" 2 وكان يعلم أصحابه تجريد التوحيد، فقال: "لا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء محمد" 3 وقال له رجل: ما شاء الله وشئت، فقال: "أجعلتني لله ندا؟ بل ما شاء الله وحده". وما أحدثه الله بغير فعل منه أضافه إلى الله وحده كما قال لكعب بن مالك لما قال له: أَوَ من عندك أَوْ من عند الله؟ قال: "بل من عند الله"، ومعلوم أنه لو كان من عند النبي صلى الله عليه وسلم لكان من عند الله بمعنى أنه خلقه، فجميع الحادثات من عنده بهذا الاعتبار، ولكن المقصود أنه صلى الله عليه وسلم لم يصدر عنه فعل في هذه التوبة إلا أنه بلغ الرسالة. (110) وقال في الكلام على قوله: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ} 4 الآية: تدل على أن الاستهزاء بالله كفر، وبآياته كفر، وبالرسول كفر

_ 1 البخاري: الشهادات (2661) , ومسلم: التوبة (2770) , وأحمد (6/194) . 2 أحمد (3/435) . 3 أبو داود: الأدب (4980) , وأحمد (5/384 ,5/393 ,5/398) . 4 سورة التوبة آية: 65.

من جهة الاستهزاء بالله وحده كفر بالضرورة، فلم يكن ذكر الآيات والرسول شرطا، فعلم أن الاستهزاء بالرسول كفر وإلا لم يكن لذكره فائدة، وكذلك الآيات؛ وأيضا فالاستهزاء بهذه الأمور متلازم. والضالون مستخفون بتوحيد الله تعالى، يعظمون دعاء غيره من الأموات وإذا أمروا بالتوحيد، ونهوا عن الشرك، استخفوا به، كما قال تعالى: {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً} 1 الآية؛ فاستهزؤوا بالرسول لما نهاهم عن الشرك. وما زال المشركون يسبون الأنبياء، ويصفونهم بالسفاهة والضلال والجنون إذا دعوهم إلى التوحيد، لما في أنفسهم من عظيم الشرك. وهكذا تجد من فيه شبه منهم إذا رأى من يدعو إلى التوحيد استهزأ بذلك لما عنده من الشرك، قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} 2، فمن أحب مخلوقا مثل ما يحب الله، فهو مشرك. ويجب الفرق بين الحب في الله والحب مع الله، وهؤلاء الذين اتخذوا القبور أوثانا تجدهم يستهزؤون بما هو من توحيد الله وعبادته، ويعظمون ما اتخذوه من دون الله شفعاء، ويحلف أحدهم اليمين الغموس كاذبا، ولا يجترئ أن يحلف بشيخه كاذبا. وكثير من طوائف متعددة يرى أحدهم أن استغاثته بالشيخ إما عند قبره، أو غير قبره، أنفع له من أن يدعو الله في المسجد عند السحر، ويستهزئ بمن يعدل عن طريقته إلى التوحيد. وكثير منهم يخربون المساجد ويعمرون المشاهد؛ فهل هذا إلا من استخفافهم بالله وبآياته، ورسوله، وتعظيمهم للشرك؛ وإذا كان لهذا وقف ولهذا

_ 1 سورة الفرقان آية: 41. 2 سورة البقرة آية: 165.

وقف كان وقف الشرك أعظم عندهم، مضاهاة لمشركي العرب الذين ذكرهم الله في قوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيباً} 1 الآية؛ فيفضلون ما يجعل لغير الله على ما يجعل لله، ويقولون: الله غني وآلهتنا فقيرة. وهؤلاء إذا قصد أحدهم القبر الذي يعظمه يبكي عنده، ويخشع، ويتضرع ما لا يحصل له مثله في الجمعة والصلوات الخمس وقيام الليل، فهل هذا إلا من حال المشركين، لا الموحدين. ومثل هذا أنه إذا سمع أحدهم سماع الأبيات حصل له من الخشوع والحضور ما لا يحصل له عند الآيات، بل يستثقلونها ويستهزئون بها وبمن يقرؤها مما يحصل لهم به أعظم نصيب من قوله: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} 2. والذين يجعلون دعاء الموتى أفضل من دعاء الله، منهم من يحكي أن بعض المريدين استغاث بالله فلم يغثه، واستغاث بشيخه فأغاثه، وأن بعض المأسورين دعا الله فلم يخرجه، فدعا بعض الموتى فجاءه فأخرجه إلى بلاد الإسلام، وآخر قال: قبر فلان هو الترياق المجرب. ومنهم من إذا نزل به شدة لا يدعو إلا شيخه، قد لهج به كما لهج الصبي بذكر أمه، وقد قال تعالى للموحدين: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً} 3 وقد قال شعيب: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ} 4. وقال تعالى: {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ} 5.

_ 1 سورة الأنعام آية: 136. 2 سورة التوبة آية: 65. 3 سورة البقرة آية: 200. 4 سورة هود آية: 92. 5 سورة الحشر آية: 13.

(111) نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الرقى التي فيها شرك كالتي فيها استعاذة بالجن، كما قال تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} 1؛ ولهذا نهى العلماء عن التعازيم، والأقسام التي يستعملها بعض الناس في حق المصروع وغيره التي تتضمن الشرك، بل نهوا عن كل ما لا يعرف معناه من ذلك خشية أن يكون فيه شرك. ومن قال لغيره: أسألك بكذا، فإما أن يكون مقسما فلا يجوز بغير الله، وإلا فهو من باب السؤال به. فتبين أن السائل لله بخلقه إما أن يكون حالفا بمخلوق، وذلك لا يجوز، وأما أن يكون سائلا به وتقدم تفصيله. وأما إذا أقسم على الله مثل أن يقول: أقسمت عليك يا رب لتفعلن كذا، كما كان البراء بن مالك وغيره من السلف يفعله، وفي الصحيح: "رب أشعث أغبر لو أقسم على الله لأبره" 2، فهذا من الإقسام عليه تعالى به ليس إقساما عليه بمخلوق. ومعنى قوله: أسألك بالرحم ليس إقساما لكن بسبب الرحم لأنها توجب حقوقا، لسؤال الثلاثة بأعمالهم الصالحة، وكسؤالنا بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته في حياته، ومنه ما روي عن علي أن عبد الله بن جعفر إذا سأله بحق جعفر أعطاه، ومنه الحديث الذي أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا. إلخ فحق السائلين والعابدين الإجابة والإثابة، فذلك سؤال له بأفعاله كالاستعاذة بنحو ذلك، كقوله: أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك، لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك؛ فالاستعاذة بمعافاته التي هي فعله من السؤال بإثابته التي هي فعله، وقوله في الحديث "ونستشفع بالله عليك"3، وتسبيحه صلى الله عليه

_ 1 سورة الجن آية: 6. 2 الترمذي: المناقب (3854) . 3 أبو داود: السنة (4726) .

وسلم وتعليمه له أنه لا يستشفع بالله على خلقه على كل تقدير، طلب منه ما لا يقدر عليه، وطلب منه ما لا يطلب إلا من الله، ولا يقدر عليه إلا الله، وطلب منه ما هو أعظم استخفافا بالله، وانتقاصا له من طلب شفاعة الله إلى عبده فإنه ممكن، لكن طلب من الله ما فيه سؤال لغيره، وهو سبحانه قادر عليه بلا سؤال وهو غني عن المخلوقات، سبح رسول الله صلى الله عليه وسلم وعظم ذلك حتى رؤي ذلك في وجوه أصحابه. فإذا كان لا يجوز أن يطلب من الله أن يسأل غيره إذ هو قادر على فعل الغير بلا سؤال، فكيف إذا كان المطلوب فعل نفسه؟ فلم يطلب فعل نفسه منه، بل طلبه من بعض عباده، وليس عندهم إلا الشفاعة، وهم لا يشفعون إلا من بعد إذنه، فتبين أن ليس لهم من الأمر شيء. (112) كونه صلى الله عليه وسلم يستفتح بصعاليك المهاجرين ليس معناه أنه يسأل الله بهم أو يقسم بهم عليه، بل يستنصر بدعائهم، كما قال لسعد: "وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم، بصلاتهم ودعواتهم وإخلاصهم"1. وأما استغاثة الجمل به ليجيره من ظلم أهله، فهو طلب منه أن يشكيه، فأشكاه بمنعهم من أذاه. وأما استغاثة الصحابة في القحط به، فاستغاثوا به ليدعو لهم، كما يستغيث به الناس يوم القيامة ليدعو لهم. والكلام في الأحكام الشرعية لا يقبل من الباطل أو التدليس ما ينفق عند أهل البدع الذين لم يرثوا علومهم من أنوار النبوة، كالفلاسفة الذين يكونون أكثر الخائضين في العلم ضلالا وافتراقا، وليس هذا شأن ما ورث عن الأنبياء إلا أن يدخل فيه الكذب والتحريف، والدين محفوظ بحفظ الله له، كما قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 2. ولما

_ 1 البخاري: الجهاد والسير (2896) , والنسائي: الجهاد (3178) , وأحمد (1/173) . 2 سورة الحجر آية: 9.

كانت ألفاظ القرآن منقولة بالتواتر بخلاف بعض الحديث، وطمع الشيطان في تحريف معانيه، وتغيير ألفاظ الرسول بالزيادة والنقص، أقام الله من يحفظ بهم دينه، يحملون العلم الموروث عنه، فينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين؛ فبينوا ما أدخل أهل الكذب والغلط في ألفاظ الحديث، وما أدخل أهل التحريف في معاني القرآن والحديث، كما قال صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة" 1. (113) وقال في الكلام على إهداء الثواب للنبي صلى الله عليه وسلم: الأعمال لا تعمل إلا لله، ولا يطلب أجرها إلا منه، وإن وصل بها نفع عظيم إلى الأنبياء وغيرهم فإنهم دعوا إلى عبادته، وبينوا أن الجزاء عليه لا عليهم، كما قال تعالى: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} 2. وكثير من الضلال يطلبون الجزاء من الأولياء كأنهم يعبدونهم، أو كأنهم عملوا لأجلهم، فصاروا شبه النصارى نزلوا المخلوق بعد موته منْزلة الخالق، لأن الأولياء في حياتهم لا يمكنون أحدا من الإشراك بهم، كما قال المسيح عليه السلام: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ} 3 الآية، وقال: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا} 4 الآيتين. ولهذا كان خاتم الرسل المبعوث بملة إبراهيم قد أقام الحنيفية كما نعت بذلك في الكتب كقوله: "ولن أقبضه حتى أقيم به

_ 1 الترمذي: الفتن (2192) , وابن ماجه: المقدمة (6) , وأحمد (3/436 ,5/35) . 2 سورة الرعد آية: 40. 3 سورة المائدة آية: 117. 4 سورة آل عمران آية: 79.

الملة العوجاء". إلخ. وقال: "لا تطروني كما أطرت النصارى" 1 إلخ. ثم ذكر الأحاديث التي قالها في مرضه، وقبله، وفي الصحيحين عنه: "لتركبن سنن من كان قبلكم" 2 الحديث، وقد شرحنا هذا الحديث، وتكلمنا على جملة مما وقع من ذلك. والمقصود هنا أن النصارى فيهم إشراك وغلو وابتداع، كقوله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ} الآية..، وقوله {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا} وقوله {لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} ؛ فصار ذلك في كثير من هذه الأمة. ومثله هؤلاء الذين يهدون العبادات إلى الأنبياء لطلب الأجر منهم، أما إشراكهم فقد ضاهوا المخلوق بالخالق، وأما الابتداع فهذا العمل لم يسنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، والغلو حيث جعلوا في البشر شوبا من الربوبية والإلهية، والغنى عن صاحبه إلى النفع. وهم في تقربهم إلى غير الله بالأعمال يشبهون المتوكلين على غير الله المستغيثين بغيره. والفقر للمخلوق وصف لازم لا يفارقه في الدنيا، ولا في الآخرة، بل العبد محتاج إلى الله من جهة ربوبيته، فلا يستعين بغيره، ومن جهة الألوهية فلا يعبد غيره، كما قال تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 3؛ فإن لم يعبده خسر الدنيا والآخرة، وإن لم يعنه على عبادته لم يقدر عليها. وإذا كان الخلق كلهم فقراء إلى الله، والله يرحمهم بما شاء من الأسباب، ومن ذلك دعاء بعضهم لبعض، وإحسان بعضهم إلى بعض؛ والدعاء يكون من الأدنى للأعلى بلا غضاضة على الأعلى، فالله الذي أمرنا بالصلاة

_ 1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3445) , وأحمد (1/23 ,1/24 ,1/47 ,1/55) . 2 البخاري: الاعتصام بالكتاب والسنة (7320) , ومسلم: العلم (2669) , وأحمد (3/84 ,3/89 ,3/94) . 3 سورة الفاتحة آية: 5.

والسلام على نبيه، وهو الذي يثيبنا على ذلك، بل لله عليه أكمل النعم والمنة، ونعمته عليه أكمل نعمة أنعمها على مخلوق، وما منّ به علينا من الثواب على الصلاة عليه، وعلى سائر أعمالنا، فقد منّ عليه بمثله لدعائه لنا إلى ذلك، والخالق إذا تقربنا إليه فذلك إحسانا منا إلى أنفسنا، وهو الذي أعاننا عليه، وإن كان يحب ذلك فحبه إياه منه على العامل، فإنه الذي خلق ذلك كله، فعلى العبد أن يلاحظ التوحيد والأنعام، قال تعالى: {فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 1. وهؤلاء جعلوا الهدية له صلى الله عليه وسلم بمنْزلة الهدية إلى الله، وكأنهم يتقربون إليه كما يتقربون إلى الله، فجعلوا المخلوق كأنه الرب الغني عنهم المجازي لهم، وجعلوا الرب محتاجا إلى عبادتهم، وأنهم يبلغون ضره ونفعه. والمؤمنون وأولهم أبو بكر يطلبون أجر أعمالهم من الله، لا من مخلوق مع قوله "إنَّ أمن الناس علي في صحبته وذات يده: أبو بكر" 2 ونزل فيه قوله: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى} 3 والله سبحانه لكمال إحسانه إلينا أمرنا بالجهاد، وأخبر أنه نصر له، وبالصدقة وأخبر أنها قرض له، وذلك ممتنع من جهة ربوبيته؛ ولكن يصح من جهة الألوهية التي أقر بها الموحدون. (114) وسئل رحمه الله عن دعوة ذي النون معناها، ولم كانت موجبة لكشوف الكرب؟ وهل لذلك شروط غير لفظها؟ وكيف يتحقق القائل لها في الكرب بمعنى النفي والإثبات ليوجب الكشف؟ وما مناسبة

_ 1 سورة غافر آية: 65. 2 البخاري: المناقب (3654) , ومسلم: فضائل الصحابة (2382) , والترمذي: المناقب (3660) , وأحمد (3/18) . 3 سورةالليل آية: 17-21.

ذكر ظلمه مع التوحيد؟ وهل الاعتراف مع التوحيد موجب للغفران وكشف الكرب؟ وهل اعترافه بذلك الذنب المعين يوجب كشف كربة نزلت بذنوب أوجب تأخيرها إلى ذلك الوقت سعة حلم الله، أم لا بد عند قولها من استحضار جميع الذنوب؟ وهل مجرد الاعتراف كاف بدون التوبة؟ وما السر في أن الفرج يجيء عند انقطاع الرجاء من الخلق؟ وما الحيلة في انصراف القلب عنهم وتعلقه بالله؟ وما المعنى على ذلك؟ أجاب عن الأولى بأن لفظ الدعاء والدعوة في القرآن يتناول دعاء العبادة ودعاء المسألة، وفسر قوله: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} 1 بالوجهين. وفي حديث النّزول: "من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟ " 2 والمستغفر سائل، والسائل داع، لكن ذكر السائل لدفع الشر بعد السائل للخير، وذكرهما بعد الداعي الذي يتناولهما وغيرهما من عطف الخاص على العام، وسماها دعوة لتضمنها للنوعين، فقوله: {لا إله إلا أنت} : اعتراف بتوحيد الآلهية، وهو يتضمن النوعين، فإن الإله هو المستحق لأن يدعى بالنوعين. وقوله {إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} 3: اعتراف بالذنب متضمن طلب المغفرة. فالسائل يسأل تارة بصيغة الطلب، وتارة بصيغة الخبر، إما بوصف حاله، أو حال المسؤول، أو بهما، وهو من حسن الأدب في السؤال، كقول أيوب {مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} 4. والسؤال بالحال أبلغ من جهة العلم والبيان، وبالطلب أظهر من جهة القصد والإرادة؛ فلهذا كان غالب الدعاء من القسم الثاني، لأن السائل يتصور مراده، فيسأله بالمطابقة، فإن تضمن وصف حال

_ 1 سورة غافر آية: 60. 2 البخاري: الجمعة (1145) , ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (758) , والترمذي: الصلاة (446) والدعوات (3498) , وأبو داود: الصلاة (1315) والسنة (4733) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1366) , وأحمد (2/258 ,2/264 ,2/267 ,2/282 ,2/383 ,2/419 ,2/487 ,2/504 ,2/521) , ومالك: النداء للصلاة (496) , والدارمي: الصلاة (1478 ,1479) . 3 سورة الأنبياء آية: 87. 4 سورة الأنبياء آية: 83.

السائل والمسؤول فهو أكمل، كقوله: "قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا " 1 إلخ. وفيه وصف لحال نفسه المقتضي حاجته إلى المغفرة، ووصف ربه أنه لا يقدر على هذا غيره، وفيه التصريح بالمطلوب، وفيه وصف الرب بما يقتضي الإجابة، وهو وصفه بالمغفرة والرحمة. فهذا ونحوه أكمل الأنواع. فمقام يونس ومن أشبهه، مقام اعتراف بأن ما أصابه بذنبه، والمقصود دفع الضر والاستغفار رجاء بالقصد. الثاني: فلم يذكر صيغة الطلب لاستشعاره أنه مسيء أدخل الضر على نفسه، فناسب ذكر ما يرفع سببه من الاعتراف، وهذا يبين بالكلام على قوله: {سبحانك} فإنه يتضمن التعظيم والتنْزيه، والمقام يقتضي تنْزيهه عن العقوبة بغير ذنب، فقوله: {لا إله إلا أنت} : فيه انفراده بالإلهية، وهي تتضمن كمال العلم والقدرة، والرحمة والحكمة. ففيها إثبات إحسانه إلى العباد، فإن الإله هو المألوه، والمألوه الذي يستحق أن يعبد، وكونه يستحق ذلك هو بما اتصف به من الصفات التي تستلزم أن يكون هو المحبوب غاية الحب، المخضوع له غاية الخضوع. والتسبيح يتضمن تعظيمه وتنْزيهه عن الظلم وغيره من النقائص، فإن الظالم إنما يظلم لحاجته أو جهله، والله غني عن كل شيء، عليم بكل شيء، وهو غني بنفسه، وكل ما سواه فقير إليه، وهذا كمال العظمة. أجاب عن الثانية: بأن ذلك لأن الضر لا يكشفه إلا الله، والذنوب سبب الضر، والاستغفار يزيل سببه، وقوله: {إني كنت من الظالمين} : اعتراف واستغفار، والتهليل تحقيق لتوحيد الإلهية، فإن الخير لا يوجب له إلا مشيئة الله، والمعوق له عن العبد ذنوبه، وما خرج عن قدرة العبد فهو من الله، وإن كان الكل بقدره، لكنه جعل الطاعة

_ 1 البخاري: الأذان (834) , ومسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2705) , والترمذي: الدعوات (3531) , والنسائي: السهو (1302) , وابن ماجه: الدعاء (3835) , وأحمد (1/3 ,1/7) .

سببا للنجاة والسعادة. فمشاهدة التوحيد تفتح باب الخير، والاستغفار يغلق باب الشر، والرجاء لا تعلق بمخلوق ولا بقوة العبد ولا علمه، فإن ذلك شرك، ولهذا يذكر الأسباب ويأمر بأن لا يعتمد عليها، ولهذا قال: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّه} 1. فمن جعل مع الله إلها آخر، قعد مذموما مخذولا، والقائل لا إله إلا الله بلسانه، فقولها مخلصا من قلبه له حقيقة أخرى، وبحسب تحقيقها تكمل الطاعة، كما قال: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} 2 الآيتين، فمن جعل ما يألهه هو ما يهواه فقد اتخذ إلهه هواه، ولهذا قال الخليل {لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} 3 بين أنه يغيب عن عابده، فلا يعلم حاله. وكلما حقق العبد الإخلاص في قول لا إله إلا الله خرج من قلبه تأله ما يهواه، ويصرف عنه المعاصي، كما قال تعالى: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ} 4 الآية. وفي الصحيح: "من قالها مخلصا من قلبه حرمه الله على النار " 5 فمن دخلها لم يحقق إخلاصها المحرم له على النار، والشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل، ولهذا أمر أن يقول في كل صلاة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 6. والشيطان يأمر بالشرك، والنفس تطيعه، فلا تزال تلتفت إلى غير الله، إما خوفا، وإما رجاء، فلا يزال مفتقرا إلى تخليص توحيده من شوائب الشرك. وفي الحديث يقول الشيطان: "أهلكت الناس بالذنوب فأهلكوني بلا إله إلا الله والاستغفار، فلما رأيت ذلك بثثت فيهم الأهواء، فهم يذنبون

_ 1 سورة آل عمران آية: 126. 2 سورة آية: 23. 3 سورة الأنعام آية: 76. 4 سورة يوسف آية: 24. 5 البخاري: العلم (128) , ومسلم: الإيمان (32) . 6 سورة الفاتحة آية: 5.

ولا يستغفرون؛ لأنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا". فالذي اتبع هواه بغير هدى من الله له نصيب ممن اتخذ إلهه هواه، فصار فيه شرك منعه من الاستعاذة. وأما من حقق التوحيد والاستغفار فلا بد أن يرفع عنه الشر؛ وفي الصحيح قوله في صلاته: "اللهم اغفر لي ما قدمت - إلى قوله لا إله إلا أنت" فهنا قدم الدعاء، وختمه بالتوحيد، لأنه أفضل الأمرين، بخلاف ما لم يقصد فيه هذا، فإن تقديم التوحيد أفضل. وأهل التوحيد هم الذين لم يعبدوا إلا إياه، ولم يتوكلوا إلا عليه. وقول المكروب: لا إله إلا أنت، قد يستحضر في ذلك أحد النوعين، فإن همته منصرفة لدفع ضره أي لا يكشف الضر غيرك، مع إعراضه عن توحيد الإلهية؛ فإن استحضره في ذلك كان عابدا لله، متوكلا عليه، محققا {إياك نعبد وإياك نستعين} . فإذا سبق إلى القلب قصد السؤال ناسب السؤال باسم الرب، وإن سبق قصد العبادة فاسم الله أولى؛ وكذلك إذا بدأ بالثناء، ولهذا قال يونس عليه السلام: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ} إلخ، وقال آدم: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} ؛ فإن يونس ذهب مغاضبا فكان ذلك المناسب، أي: هو الذي يستحق العبادة دون غيره، ولا يطاع الهوى فإن ذلك يضعف الإخلاص. وهذا يتضمن براءة ما سوى الله من الإلهية، سواء قدر ذلك هوى النفس أو طاعة الخلق، أو غير ذلك، والعبد يقول ذلك فيما يظنه، وهو غير مطابق، وما يريده وهو غير حسن. وآدم لم يكن عنده من منازعة الإرادة ما يزاحم الإلهية، بل ظن صدق الشيطان فكانا محتاجين إلى أن يريهما ربوبيته تكمل علمهما وقصدهما حتى لا يفترا. ويونس كمل تحقيق الإلهية ومحو الهوى الذي يتخذ إلها. وأيضا مثل هذه الحال تعرض لمن تعرض له فيبقى فيه نوع معارضة للقدر، ومعارضة له سبحانه في خلقه، وأمره ووساوس في حكمته ورحمته، فيحتاج إلى أن يتقي الآراء الفاسدة

والأهواء الفاسدة فيعلم أن الحكمة والعدل فيما اقتضاه علمه سبحانه وحكمته، لا في ما اقتضاه علم العبد وحكمته، ويكون هواه تبعا لما يأمر الله به، قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ} الآية، وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ} 1 الآية. فإذا كان الإيمان لا يحصل حتى يحكم الرسول، ويسلم له، ويكون هواه تبعا لما جاء به، ويكون الرسول والجهاد مقدما على حب الإنسان نفسه وماله وأهله، فكيف في تحكيمه تعالى والتسليم له؟ فمن رأى من يستحق العذاب في ظنه فغفر له فكره ذلك، فهو إما عن إرادة تخالف الحكم، أو ظن يخالف العلم، والله عليم حكيم، فلم يبق لكراهة ما فعله وجه، وهذا يكون فيما أمر به، وفيما خلقه ولم يأمرنا أن نكرهه، بخلاف توبته على عباده وإنجائهم من العذاب، فإنه يحب التوابين، فكراهة هذا من نوع اتباع الإرادة المزاحمة للإلهية، فعلى صاحبها أن يحققه ولإنالة مراداتنا المخالفة. وقوله: هل الاعتراف مع التوحيد موجب لغفرانها وكشف الكربة؟ فالموجب له مع التوحيد هو التوبة المأمور بها، فإن الشرك لا يغفر إلا بها، وأما الاعتراف على وجه الخضوع لله من غير توبة فهما في نفس الاستغفار الذي لا توبة معه، فهذا لا يؤنس، ولا يقطع له بالمغفرة فإنه داع، وفي الصحيح: "ما من رجل يدعو الله بدعوة إلخ"، فمثل هذا الدعاء قد تحصل معه المغفرة أو صرف شر آخر أو حصول خير آخر. وقوله: الاعتراف بالذنب المعين يوجب رفع ما حصل بذنوب أم لا بد من استحضار جميعها؟ فهذا مبني على أصول: أحدها: أن التوبة تصح من ذنب

_ 1 سورة التوبة آية: 24.

مع الإصرار على آخر، وهذا هو المعروف عن السلف والخلف. والثاني: أن من تاب من بعض فإن التوبة إنما تقتضي مغفرة ما تاب منه. والثالث: أن الإنسان قد يستحضر ذنوبا فيتوب منها، وقد يتوب توبة مطلقة. فإن كانت نية التوبة العامة فهي تتناول كل ما رآه ذنبا إلا أن يعارض هذا معارض، مثل أن يكون بعضها لو استحضره لم يتب منه لقوة إرادته، أو اعتقاد أنه حسن. وأما التوبة العامة وهي أن يتوب توبة مجملة، ولا تلتزم التوبة من كل ذنب، فهذا لا يوجب دخول كل فرد، ولا يمنع دخوله كاللفظ المطلق؛ والناس في غالب أحوالهم لا يتوبون توبة عامة مع حاجتهم إلى ذلك، وأنها واجبة على كل عبد في كل حال. وقوله: ما السبب في أن الفرج يأتي عند انقطاع الرجاء عن الخلق؟ وما الحيلة في صرف القلب عنه؟ فسببه تحقيق توحيد الربوبية وتوحيد الإلهية، فالأول لا خالق إلا الله، والراجي لمخلوق طالب بقلبه لما يريده منه وهو عاجز، وهذا من الشرك الذي لا يغفر، فمن كمال نعمته وإحسانه إلى المؤمنين أن يمنع حصول مطالبهم بالشرك حتى يصرف قلوبهم إلى التوحيد. ثم إن وحده العبد توحيد الإلهية حصلت له سعادة الدنيا والآخرة، وإن كان ممن قيل فيه: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ} الآية، فإن ما حصل له من وحدانيته حجة عليه، كما احتج سبحانه على المشركين بذلك في غير موضع. فمن تمام نعمة الله على المؤمنين أن ينزل بهم من الضر ما يلجئهم إلى توحيده فيدعونه مخلصين له الدين، فيحصل لهم من التوكل والإنابة وذوق طعم الإيمان والبراءة من الشرك ما هو أعظم نعمة من زوال الضر؛ فإن ذلك نعم دنيوية قد يحصل للكافر منها أعظم مما للمؤمن، وأما ما يحصل للمخلصين فأعظم من أن يعبر عن كنهه مقال، أو يستحضر تفصيله بال. ولكل مؤمن من ذلك نصيب بقدر إيمانه؛ فالذي يحصل لأهل

الإيمان عند تجريد التوحيد لا يعرفه بالذوق إلا من له منه نصيب، وهذا هو حقيقة الإسلام، وقطب رحى القرآن، به أرسل الله الرسل، وأنزل الكتب. (115) الراجي يرجو حصول الخير ودفع الشر، والرجاء مقرون بالتوكل، والتوكل لا يجوز إلا على الله، فلا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يذهب بالسيئات إلا هو، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ} 1 الآية، وقال: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} 2 الآية، أي: كافينا في دفع البلاء، وأولئك أمروا أن يقولوا حسبنا الله في جلب النعماء، ومن توكل على غير الله ورجاه خذل من جهته وحرم، {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ} 3 الآية، {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً} 4، {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً} 5 الآية، {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ} 6 الآية، {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} 7 الآية. والراجي يكون راجيا تارة بعمل يعمله، فهذا نوع من العبادة، وتارة باعتماد قلبه عليه وسؤاله له، فهو نوع من الاستغاثة، يوضحه أن كل خير ونعمة فهي من الله، وكل شر

_ 1 سورة التوبة آية: 59. 2 سورة آل عمران آية: 173. 3 سورة العنكبوت آية: 41. 4 سورة الإسراء آية: 22. 5 سورة مريم آية: 81. 6 سورة الحج آية: 31. 7 سورة العنكبوت آية: 17.

مندفع عنه فالله يمنعه، ويكشفه، وما جرى من الأسباب على يد خلقه فهو خالق الأسباب كلها. ومن عرف هذا حق المعرفة انفتح له باب توحيد الله، وعلم أنه لا يستحق أن يدعى غيره، ولا فرق بين الأسباب العلوية والسفلية. وملائكته قال فيهم {لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} 1 فالصادر عنهم إما قول وإما عمل، فالقول لا يسبقونه به، ولا يشفعون إلا لمن ارتضى. فعلينا أن نكون معه ومع رسله هكذا، فلا نقول حتى يقول، ولا نعبده إلا بما أمر، وأعلى من هذا أن لا نفعل إلا ما أمر، فلا تكون أعمالنا إلا واجبة أو مستحبة. والاستعانة تكون على الأعمال، وأما التوكل فأعم من ذلك، يكون لجلب المنفعة، ودفع المضرة، فمن لم يفعل ما أمر به لم يكن مستعينا بالله، وعلى ذلك فيكون قد ترك العبادة والاستعانة عليها، فترك التوكل في هذا الموضع. ومن ظن أن الإيمان بالقدر ينافي الأمر كالإباحية المشركية والقدرية المجوسية، أو ظن أن التكليف معه غير معقول بل الشارع أطيع لمحض المشيئة، وجعل ذلك حجة على أن الأفعال لم تتضمن أسبابا مناسبة للأمر والنهي، ففساد قوله معلوم بضرورة العقل مع الكتاب والسنة والإجماع. فالعبد عليه أن يصبر على ما قدر من المصائب، ويستغفر من المعايب، ويشكر على المواهب، فيجمع بين الإيمان بالقدر والشرع، وبين الصبر والشكر والاستغفار، والمحتج بالقدر إذا اعتدى عليه تناقض وظهر فساد قوله. (116) التسبيح المتضمن تنْزيهه عن السوء ونفي النقص يتضمن تعظيمه

_ 1 سورة الأنبياء آية: 27-28.

العظمة الموجبة براءته من الظلم؛ فالظالم يظلم لحاجته، أو لجهله، والله غني عن كل شيء، عليم بكل شيء، وهذا كمال العظمة. وقوله صلى الله عليه وسلم: "سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم" 1، هاتان الكلمتان إحداهما مقرونة بالتحميد، والأخرى بالتعظيم، فقرن بين الحمد والتعظيم، كما قرن بين الجلال والإكرام، إذ ليس كل معظم محمودا محبوبا، ولا كل محبوب محمودا معظما، والعبادة تتضمن كمال الحب المتضمن معنى الحمد، وكمال الذل المتضمن معنى التعظيم، ففيها إجلاله وإكرامه، وهو سبحانه المستحق للجلال والإكرام. ومن الناس من يحسب الجلال الصفات السلبية والإكرام الصفات الثبوتية، والتحقيق أن كليهما صفات ثبوتية، وإثبات الكمال يستلزم نفي النقائص، لكن ذكر نوعي الثبوت وهو ما يستحق أن يحب، وما يستحق أن يعظم كقوله: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} ، {فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} وكذلك قوله: {وَلَهُ الْحَمْدُ} فقرن التسبيح بالتحميد والتهليل بالتكبير كما في الأذان. ثم إنَّ كل واحد من النوعين يتضمن الآخر إذا أفرد، فإن التسبيح والتحميد يتضمن التعظيم، ويتضمن إثبات ما يحمد عليه، وذاك يستلزم الإلهية؛ فإنها تتضمن كونه محبوبا، بل تتضمن أنه لا يستحق كمال الواجب إلا هو. والحمد هو الإخبار عن المحمود بالصفات التي يستحق أن يحب، فالإلهية تتضمن كمال الحمد، ولهذا كان الحمد مفتاح الخطاب، وسبحان الله فيها إثبات عظمته، ولهذا قال:

_ 1 البخاري: الأيمان والنذور (6682) , ومسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2694) , والترمذي: الدعوات (3467) , وابن ماجه: الأدب (3806) , وأحمد (2/232) .

{فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} 1 وقال: "اجعلوها في ركوعكم"، وقال: "أما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا فيه بالدعاء"، فيجعل التعظيم في الركوع أخص منه بالسجود، وقوله: (لا إله إلا الله والله أكبر) ففي الإلهية محامده، وفي الكبرياء إثبات عظمته؛ فإن الكبرياء تتضمن العظمة لكن الكبرياء أكمل، وهي كالرداء ومعلوم أن الرداء أشرف، فلما كان التكبير أبلغ صرح بلفظه، وفي "سبحان الله" التصريح بالتنْزيه من السوء المتضمن للتعظيم، فصار كل واحدة متضمنة معنى أخريين إذا أفردتا، وعند الاقتران تعطى كل كلمة خاصتها؟ وكذلك الدعاء باسم الرب أو باسم الله أو لوصف حال السائل، أو حال المسؤول لكل نوع منها خاصة. (117) قال رحمه الله بعد ما ذكر آيات احتج بها الجبرية وآيات احتج بها القدرية: وكل من الطائفتين تتناول نصوص الأخرى بتأويلات فاسدة، وتضم إلى النصوص التي احتجت بها أمورا لا تدل عليها، وأما الصحابة والتابعون لهم بإحسان وأئمة المسلمين فآمنوا بالكتاب كله، ولم يحرفوا شيئا من النصوص. وقوله: "إن الله جميل يحب الجمال" 2 أي: يجب أن يتجمل له العبد، كقوله: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} 3، ويكره أن يصلي عريانا، أو المرأة مكشوفة الرأس، ولو تزين لمعصية لم يحب ذلك. والمؤمن يظهر نور الإيمان على وجهه، ويكسى محبة ومهابة، والمنافق عكسه، وأما الصورة المجردة مشتهاة كالنساء أو لا فقد صح "أن الله لا ينظر إلى صوركم" 4 إلخ. وقوله: "إن الله جميل" إلخ قاله جوابا بالتساؤل في

_ 1 سورة الواقعة آية: 74. 2 مسلم: الإيمان (91) , والترمذي: البر والصلة (1998 ,1999) , وأبو داود: اللباس (4091) , وابن ماجه: المقدمة (59) والزهد (4173) , وأحمد (1/399 ,1/412 ,1/416 ,1/451) . 3 سورة الأعراف آية: 31. 4 مسلم: البر والصلة والآداب (2564) .

بيان ما يحبه الله وما يكرهه، فإنه لما ذكر الكبر سأله السامع عن جمال الثوب والنعل، وحسن ثوبه ونعله إنما يحصل بفعله وقصده ليس شيئا مخلوقا فيه بغير كسبه كصورته. ومعلوم أن الله إذا خلق شخصا أكبر من شخص إما في جسمه، وإما في عقله وذكائه لم يكن هذا مبغضا؛ فإنه خلق بغير اختياره، بخلاف ما إذا تكبر بذلك أو بغيره فإنه من عمله، والمقصود هنا ذكر ما يحبه الله ويرضاه الذي يثاب أصحابه عليه، ومعلوم أن الفرق بين مطلق الإرادة والمحبة موجود في الناس، وغيرهم من الجهمية والقدرية إنما لم يفرقوا بين ما يشاء وما يحب، لأنهم لا يثبتون لله محبة لبعض الأمور المخلوقة دون بعض، وفرحا بتوبة التائب. وكان أول من أنكره الجعد فضحى به خالد القسري فقال: إنه زعم أن الله لم يكلم موسى تكليما، ولم يتخذ إبراهيم خليلا. فإن الخلة من توابع المحبة، فمن زعم أن الله لا يحب ولا يحب لم يكن للخلة عنده معنى. والرسل صلوات الله وسلامه عليهم جاؤوا بإثبات هذا الأصل، وهو أن الله يحب بعض الأمور المخلوقة، ويسخط بعضها، فإن الجهمية والقدرية تجعل الجميع بالنسبة إليه سواء، القدرية يقولون يقصد نفع العبد لكونه حسنا، ولا يقصد الظلم لكونه قبيحا. والجهمية يقولون: إذا كان لا فرق بالنسبة إليه بين هذا، وهذا امتنع أن يكون عنده شيء حسن وشيء قبيح، وإنما يرجع ذلك إلى أمور إضافية 1 للعباد؛ فالحسن بالنسبة إلى العبد ما يلائمه، وما ترتب عليه ثواب يلائمه، والقبيح بالعكس؛ ومن هنا جعلوا المحبة والإرادة سواء. فلو أثبتوا أنه سبحانه يحب ويفرح بحصول محبوبه كما أخبر به الرسول

_ 1 لعلها إضافية.

تبين لهم حكمته، وتبين لهم أيضا أنه يفعل الأفعال بحكمة. فإن الجهمية قالوا: إذا كانت الأشياء بالنسبة إليه سواء امتنع أن يفعله لحكمة، والمعتزلة يقولون يفعل لحكمة تعود إلى العباد، فقالت الجهمية تلك يعود إليه منها حكم أم لا؟ الأول خلاف أصلكم، والثاني ممتنع، فيمتنع أن أحدا يختار الحسن على القبيح إن لم يكن له من فعل الحسن معنى يعود إليه. ثم إن هذه الصفة من أعظم صفات الكمال، وكذلك كونه محبوبا لذاته هو أصل دين الرسل؛ فإنهم كلهم دعوا إلى عبادة الله وحده، وأن لا إله إلا هو، والإله المستحق للعبادة، وهو لا يكون إلا بتعظيم ومحبة، وإلا فمن عمل لغيره لعوض بلا محبة له لم يكن عابدا له. وهؤلاء الذين ينكرون أنه يحب أو يحب، آخر أمرهم أنه لا يبقى عندهم فرق بالنسبة إلى الله بين أوليائه وأعدائه، ولا بين الإيمان والكفر. فإن كانوا من الصوفية الذين ينكرون الكمال في فناء العبد عن حظوظه، ودخلوا في مقام الفناء في توحيد الربوبية، وإن كانوا من المتكلمين صاروا من المستقلين للعبادة وفي قلوبهم مرتع للشياطين، لم لا ينعم بالثواب بدون هذا؟ فإذا أجابوا بجوابهم كان من أبرد الأجوبة وأسمجها، فإن هذا يقال في المتناظرين لا في رب العالمين، فلا أحد إلا مقر بفعله، ثم يقال قد حصل بطلب الألذ من شقاوة الأكثرين ما كان خلقهم في الجنة ابتداء، لأنه إن كان من المرجئة استرسلت نفسه في المحرمات وترك الواجبات، بخلاف من وجد حلاوة الإيمان بمحبة الله وحبه للعبادات، فإن هذا هو الإسلام الذي به يشهد العبد أن لا إله إلا الله. وهؤلاء يدعون محبة الله في الابتداء ويعظمونها ويستحبون السماع بالغنا والدف لأنه يحرك محبة الله، وإذا حقق أمرهم وجدت محبتهم تشبه محبة المشركين لا محبة الموحدين. فإن محبة الموحدين بمتابعة الرسول والجهاد في سبيل الله، وهؤلاء أكثرهم

يكره متابعة الرسول، وهم من أبعد الناس عن الجهاد، ومحبتهم التي يدعون من جنس محبة المشركين الذين صلاتهم عند البيت مكاء وتصديه، ويجتهدون في دعاء مشايخهم في حياتهم وعند قبورهم، فأولئك أنكروا المحبة، وهؤلاء دخلوا في محبة المشركين، فنفس محبته أصل عبادته، والشرك فيها أصل الشرك في عبادته، أولئك فيهم شبه من النصارى وفيهم شرك من جنس شرك النصارى؛ ولهذا كان مشايخ الصوفية العارفون يوصون كثيرا بمتابعة العلم، قال بعضهم: ما ترك أحد شيئا من السنة إلا لكبر في نفسه، وهو كما قال، فإنه إذا لم يكن متبعا لما جاء به الرسول كان متبعا لهواه بغير هدى من الله، وهذا عيش النفس، وهو من الكبر، فإنه شعبة من قول الذين قالوا: لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله. (118) العقوبات شرعت رحمة من الله بعباده، ولهذا ينبغي لمن يعاقب على الذنوب أن يقصد بذلك الإحسان إلى المعاقب، والرحمة له، كما يقصد الوالد تأديب ولده، فإنه صلى الله عليه وسلم قال: "إنما أنا لكم بمنْزلة الوالد". وقال تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} 1، وفي قراءة أبي (وهو أب لهم) ، والقراءة المشهورة تدل عليه؛ فلولا أنه كالأب لم تكن نساؤه كالأمهات. والأنبياء أطباء الدين، والقرآن أنزله الله شفاء، فالذي يعاقب عقوبة شرعية نائب له، فعليه أن يفعل كفعله، ولهذا قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} 2. قال أبو هريرة: "خير

_ 1 سورة الأحزاب آية: 6. 2 سورة آل عمران آية: 110.

الناس للناس، تأتون بهم في السلاسل تدخلونهم الجنة"، أخبر أنهم خير الأمم لبني آدم، يعاقبونهم بالقتل والأسر للإحسان إليهم. وهكذا الراد على أهل البدع من الرافضة وغيرهم، إذا لم يقصد بيان الحق وهدى الخلق لم يكن عمله صالحا. وإذا كان المسلم الذي يقاتل الكافر قد يقاتله شجاعة وحمية وذلك ليس في سبيل الله، فكيف بأهل البدع؟ وإذا كان الذنب متعلقا بالله ورسوله فهو حق محض لله، فيجب أن يكون الإنسان في هذا قاصدا لوجه الله، متبعا لرسوله ليكون عمله صوابا خالصا، وهو معنى قوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} 1. والأمر بالسنة والنهي عن البدعة أمر بمعروف ونهي عن منكر، وهو من أفضل الأعمال الصالحة، فيجب أن يبتغي به وجه الله، وأن يكون مطابقا للأمر. وفي الحديث: "من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فينبغي أن يكون عليما فيما يأمر به، عليما فيما ينهى عنه، رفيقا فيما يأمر به، رفيقا فيما ينهى عنه، حليما فيما يأمر به، حليما فيما ينهى عنه"، فالعلم قبل الأمر، والرفق مع الأمر، والحكم بعد الأمر. فإن لم يكن عالما لم يكن له أن يقفو ما ليس له به علم، وإن لم يرفق فهو كالطبيب الذي يغلظ على المريض فلا يقبل منه.. وكالمؤدب الغليظ الذي لا يقبل منه الولد، قال تعالى: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} 2 ثم إذا أمر أو نهى فلا بد أن يؤذى في العادة، فعليه أن يصبر ويحلم، كما قال تعالى: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ

_ 1 سورة النساء آية: 125. 2 سورة طه آية: 44.

الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} 1. وقد أمر الله نبيه بالصبر على أذى المشركين في غير موضع، وهو إمام الآمرين والناهين. وإن أمر ونهى طلبا لرياسة نفسه ولطائفته وتنقيص غيره كان ذلك حمية لا يفعله لله، وإذا فعل ذلك رياء كان عمله حابطا. ثم إذا رد عليه وأوذي وغرضه فاسد طلبت نفسه الانتصار لها، وأتاه الشيطان فكان مبدأ عمله لله وصار له هوى يطلب أن ينتصر بمن اعتدى. وهكذا يصيب أصحاب المقالات إذا كان كل يعتقد أن الحق معه، فأكثرهم صار له في ذلك هوى لا يقصد أن تكون كلمة الله هي العليا، وأن يكون الدين كله لله، بل يغضب على من خالفه وإن كان معذورا، ويرضى عمن وافقه ولو كان جاهلا سيئ القصد، فتصير الموالاة والمعاداة على الهوى لا على دين الله ورسوله؛ وهذه حال الكفار الذين لا يطلبون إلا هواهم يقولون: هذا صديقنا وهذا عدونا. قال الله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} 2. فإذا لم يكن الدين كله لله كانت فتنة، وأصل الدين أن يكون الحب لله، والبغض لله، وهذا إنما يكون بمتابعة الرسول. وصاحب الهوى يعميه الهوى، ويصمه، فلا يستحضر ما لله ورسوله في ذلك، ولا يطلبه؛ ويكون مع ذلك معه شبهة دين أن الذي يرضى ويغضب له هو السنة، فإذا قدر أن الذي معه هو الحق المحض دين الإسلام ولم يكن قصده أن يكون الدين كله لله ولا في سبيله، فكيف إذا كان كنظيره معه حق وباطل، ومع خصمه كذلك، وهذا حال المختلفين الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا، ولهذا

_ 1 سورة لقمان آية: 17. 2 سورة الأنفال آية: 39.

قال الله تعالى فيهم: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ} 1 الآية، وقال: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} يعني فاختلفوا كما في سورة يونس، وكذلك في قراءة بعض الصحابة، وهذا قول الجمهور من الصحابة والتابعين أنهم كانوا على الإسلام، وتفسير عطية عن ابن عباس لا يثبت عن ابن عباس. (119) ثبت عن ابن عباس أنه قال: "كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام" وقال: " {وما كان النّاس إلا أمة واحدة فاختلفوا} فذمهم على الاختلاف بعد أن كانوا على دين واحد، فعلم أنه كان حقا". والاختلاف في دين الله نوعان: أحدهما: أن يكون كله مذموما كقوله: {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} 2. الثاني: أن يكون بعضهم على الحق كقوله: {وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ} 3. ولكن إذا أطلق الاختلاف فالجميع مذموم، كقوله: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} 4، "إنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبياءهم"، ولهذا فسروا الاختلاف في هذا بأنه كله مذموم، قال الفراء في اختلافهم وجهان:

_ 1 سورة البينة آية: 4-5. 2 سورة البقرة آية: 176. 3 سورة البقرة آية: 253. 4 سورة هود آية: 118-119.

أحدهما: كفر بعضهم ببعض الكتاب. والثاني: بديل ما بدلوا، وهو كما قال، فإن المختلفين كل منهم يكون معه حق وباطل، فيكفر بالحق الذي مع الآخر، ويصدق الباطل الذي معه، وهو تبديل؛ فالاختلاف لا بد أن يجمع النوعين؛ ولهذا ذكر كل من السلف نوعا من هذا: أحدهما: الاختلاف في اليوم الذي يكون فيه الاجتماع، فاليوم الذي أمروا به الجمعة، فعدلت عنه الطائفتان، فهذه أخذت السبت، وهذه الأحد. قال صلى الله عليه وسلم: "فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه، فهدانا الله له" 1. وهذا الحديث يطابق قوله: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ} 2. ثم ذكر حديث الاستفتاح: "اللهم رب جبرائيل" إلخ، والحديث بين أن الله هدى المؤمنين لغير ما كان فيه المختلفون، فلا كانوا مع هؤلاء ولا مع هؤلاء، وهو مبين أن الاختلاف كله مذموم. الثاني: القبلة، فمنهم من يصلي إلى المشرق، ومنهم من يصلي إلى المغرب، وكلاهما مذموم ولم يشرعه الله. الثالث: إبراهيم، قالت اليهود كان يهوديا، وقالت النصارى كان نصرانيا، وكلاهما من الاختلاف المذموم. والرابع: عيسى عليه السلام، جعله اليهود (ابن البغي) ، والنصارى إلها. الخامس: الكتب المنزلة، آمن هؤلاء ببعض، وهؤلاء ببعض. السادس: الدين، أخذ هؤلاء بدين، وهؤلاء بدين، ومن هذا الباب

_ 1 البخاري: الجمعة (898) , والنسائي: الجمعة (1367) , وأحمد (2/236 ,2/243 ,2/249 ,2/274 ,2/312 ,2/341 ,2/388 ,2/473 ,2/491 ,2/502 ,2/504 ,2/509 ,2/512) . 2 سورة البقرة آية: 213.

قوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ} 1 الآية. وعن ابن عباس قال: "اختصمت يهود المدينة ونصارى نجران عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت اليهود: ليست النصارى على شيء، ولن يدخل الجنة إلا من كان يهوديا، وكفروا بالإنجيل وعيسى، وقالت النصارى: ليست اليهود على شيء، وكفروا بموسى والتوراة. فأنزل الله هذه الآية". واختلاف أهل البدع هو من هذا النمط، فالخارجي يقول: ليس الشيعي على شيء، والشيعي يقول: ليس الخارجي على شيء، والقدري النافي يقول: ليس المثبت على شيء، والقدري الجبري المثبت يقول: ليس النافي على شيء، ثم الوعيدية، والمرجئة كذلك، بل يوجد شيء من هذا بين أهل المذاهب الأصولية، والفروعية، المنتسبين إلى السنة؛ فالكلابي يقول: ليس الكرامي على شيء، والكرامي يقول: ليس الكلابي على شيء، والأشعري يقول: ليس السالمي على شيء، والسالمي يقول: ليس الأشعري على شيء. وكذلك أهل المذاهب الأربعة وغيرها، لا سيما وكثير منهم قد تلبس ببعض المقالات الأصولية، وخلط هذا بهذا، فالحنبلي والشافعي والمالكي يخلط بمذهب مالك والشافعي وأحمد شيئا من أصول الأشعرية والسالمية وغير ذلك ويضيفه إلى مذهب مالك والشافعي وأحمد، وكذلك الحنفي يخلط بمذهب أبي حنيفة شيئا من أصول المعتزلة والكرامية والكلابية، ويضيفه إلى مذهب أبي حنيفة، وهذا من جنس الرفض والتشيع، لكنه تشيع في تفضيل بعض الطوائف والعلماء، لا في تفضيل بعض الصحابة. والواجب على كل مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأن

_ 1 سورة البقرة آية: 113.

محمدا رسول الله أن يكون أصل قصده توحيد الله بعبادته وحده لا شريك له، وطاعة رسوله، يدور على ذلك ويتبعه أين وجده، ويعلم أن أفضل الخلق بعد الأنبياء هم الصحابة، فلا ينتصر لشخص انتصارا مطلقا عاما إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا لطائفة انتصارا مطلقا عاما إلا لأصحابه. فإن الهدى يدور مع الرسول حيث دار، ويدور مع أصحابه دون أصحاب غيره حيث داروا؛ فإذا أجمعوا لم يجمعوا على خطأ قط، بخلاف أصحاب عالم من العلماء، بل كل قوم قالوا قولا لم يقله غيرهم من الأمة لا يكون إلا خطأ. فإن الدين الذي بعث الله به رسوله ليس مسلما لعالم واحد وأصحابه، ولو كان كذلك لكان ذلك الشخص نظير رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو شبيه بقول الرافضة في المعصوم، ولا بد أن يكون الصحابة والتابعون يعرفون ذلك الحق الذي بعث به الرسول قبل وجود المتبوعين الذين تنتسب المذاهب إليهم في الفروع والأصول، ويمتنع أن يكون هؤلاء جاؤوا بحق يخالف ما جاء به الرسول، ويمتنع أن يكون أحدهم علم من جهة الرسول ما يخالف الصحابة والتابعين، فأولئك لم يجتمعوا على ضلالة. والمقصود أن الله سبحانه ذكر أن المختلفين جاءهم العلم، وجاءتهم البينة بل كانوا قاصدين البغي عالمين بالحق، ونظيره قوله: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ} 1 الآية. وقال: {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرائيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ} 2 الآية. وقوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرائيلَ

_ 1 سورة آل عمران آية: 19. 2 سورة يونس آية: 93.

الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} 1 إلى قوله {لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} . فهذه المواضع تبين أن المختلفين ما اختلفوا حتى جاءهم العلم والبينات، فاختلفوا للبغي لا لاشتباه الحق بالباطل، وهذه حال أهل الأهواء كلهم لا يختلفون إلا من بعد أن يظهر الحق ويجيئهم، ثم كل يبغي على الآخر فيكذب بما معه من الحق مع علمه بأنه حق، ويصدق بما مع نفسه من الباطل مع العلم بأنه باطل. ولهذا كان أهل الاختلاف المطلق كلهم مذمومون، فإنه ما منهم إلا من خالف حقا واتبع باطلا، ولهذا أمر الله الرسل أن تدعو إلى دين واحد، وهو الإسلام، ولا يتفرقوا فيه، قال تعالى {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً} 2 إلى قوله {كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} 3، وقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} 4 إلى قوله {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً} 5 كتبا اتبع كل قوم كتابا مبتدعا غير كتاب الله، فصاروا متفرقين، لأن أهل الاختلاف ليسوا على الحنيفية المحضة، التي هي الإسلام المحض الذي هو إخلاص الدين لله الذي في قوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} 6 الآية. وقال: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً} 7 الآيتين، فنهاه أن يكون من المشركين، من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا، وأعاد حرف من لأن الثاني بدل من الأول والبدل هو المقصود بالكلام، وما قبله توطئة له، وقال: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ

_ 1 سورة الجاثية آية: 16. 2 سورة الشورى آية: 13. 3 سورة الشورى آية: 13. 4 سورة المؤمنون آية: 51. 5 سورة المؤمنون آية: 53. 6 سورة البينة آية: 5. 7 سورة الروم آية: 30.

خَلَقَهُمْ} 1.فأخبر أن أهل الرحمة لا يختلفون، وذكر في غير موضع أن دين الأنبياء كلهم الإسلام، كما قال عن نوح: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} 2. وتنوع الشرائع لا يمنع أن يكون الدين واحدا، فإن الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم هو دين الإسلام أولا وآخرا، وكانت القبلة في أول الأمر بيت المقدس، ثم صارت الكعبة، وفي كلا الحالين الدين واحد؛ فهكذا سائر ما شرع للأنبياء قبلنا. ولهذا حيث ذكر الله الحق في القرآن جعله واحدا، وجعل الباطل متعددا كقوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} 3 إلى آخرها. ثم ذكر آيات ثم قال: وهذا يطابق ما في كتاب الله من أن الاختلاف المطلق كله مذموم، بخلاف المقيد الذي قال فيه: {فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ} 4، وقوله: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} 5 نزلت في المقتتلين يوم بدر. وقد تدبرت كتب الاختلاف التي يذكر فيها المقالات مثل كتاب الأشعري والشهرستاني والوراق، أو مع انتصار لبعض الأقوال كسائر ما صنف أهل الكلام، فرأيت عامة الاختلاف الذي فيها من الاختلاف المذموم، وأما الحق الذي بعث الله به رسوله وكان عليه السلف فلا يوجد فيها، وليس ذلك لأنهم يعرفونه ولا يذكرونه، بل لا يعرفونه، والحاذق منهم الذي غرضه الحق يصرح بالحيرة في آخر عمره إذ لم يجد في الاختلافات التي نظر فيها وناظر ما هو حق محض. وكثير منهم ترك الجميع، ويرجع إلى دين العامة كما قال أبو المعالي وقت السياق: لقد خضت البحر الخضم، وخليت أهل الإسلام وعلومهم،

_ 1 سورة هود آية: 118-119. 2 سورة يونس آية: 72. 3 سورة الفاتحة آية: 6. 4 سورة البقرة آية: 253. 5 سورة الحج آية: 19.

ودخلت في الذي نهوا عنه، والآن إن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لابن الجويني. وها أنا ذا أموت على عقيدة أمي. وكذلك أبو حامد في آخر عمره استقر أمره على الحيرة، وكذلك الشهرستاني مع أنه أخبر هؤلاء بالمقالات، وصنف فيها كتابه المعروف قال فيه الأبيات: لعمري لقد طفت المعاهد كلها.. إلخ. فأخبر أنه لم يجد إلا شاكا مرتابا، أو من اعتقد ثم ندم لما تبين له خطؤه، الأول الجهل البسيط، كظلمات في بحر لجي إلخ. وهذا دخل في المركب ثم تبين له أنه جهل فندم. وكذلك الآمدي الغالب عليه الحيرة. وأما الرازي فهو في الكتاب الواحد بل في الموضع الواحد منه ينصر قولا، وفي موضع آخر منه أو من كتاب آخر ينصر نقيضه، ولهذا استقر أمره على الشك والحيرة، ثم ذكر أبياته: نهاية إقدام العقول عقال.. إلخ. وقوله: فما رأيتها تشفي عليلا، ولا تروي غليلا، وهو صادق فيما أخبر به أنه لم يستفد من بحوثه في الطرق الكلامية والفلسفية سوى جمع قيل وقالوا، وأنه لم يجد فيها ما يشفي عليلا، ولا يروي غليلا، فإن من تدبر كتبه كلها لم يجد فيها مسألة واحدة من مسائل أصول الدين موافقة للحق الذي يدل عليه المنقول والمعقول، بل يذكر في المسألة عدة أقوال، والقول الحق لا يعرفه فلا يذكره، وكذا غيره من أهل الكلام، بل هم مختلفون في الكتاب، من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا. والذين يذكرون ذلك إما نقلا مجردا للأقوال، وإما بحثا وذكرا للجدال، مختلفون في الكتاب، كل منهم موافق بعضا ويرد بعضا، ويجعل ما يوافق رأيه هو المحكم الذي يجب اتباعه، وما يخالف رأيه هو المتشابه الذي يجب تأويله

أو تفويضه. هذا موجود في كلام من صنف في الكلام يذكر النصوص التي يحتج بها، ويحتج عليها، ثم تجده يتأول النصوص التي تخالفه تأويلا لو فعله غيره لأقام القيامة عليه. ويتأول الآيات بما يعلم بالاضطرار أن الرسول لم يرده، وبما لا يدل عليه اللفظ أصلا، وكثير ممن سمع ذم الكلام مجملا، وذم الطائفة الفلانية مجملا، ولا يعرف التفاصيل؛ من الفقهاء وأهل الحديث ومن كان متوسطا في الكلام لم يصل إلى الغايات التي منها تفرقوا، تجده يذم القول وقائله بعبارة ويقبله بعبارة، ويقرأ كتب التفسير والفقه وشروح الحديث وفيها تلك المقالات التي يذمها فيقبلها من أشخاص أخر ذكروها بعبارة أخرى، أو في ضمن تفسير آية أو حديث أو غير ذلك، هذا مما يوجد كثيرا، والسالم من سلمه الله، حتى إن كثيرًا من هؤلاء يعظم أئمة ويذم أقوالا، وقد يلعن قائلها أو يكفره، وقد قالها تلك الأئمة الذين يعظمهم، ولو علم أنهم قالوا لما لعن القائل، وكثير منها يكون قد قاله النبي صلى الله عليه وسلم. ولو ذكرت ما أعرفه من ذلك لذكرت خلقا، ولا أستثني واحدا من أهل البدع لا من المشهورين بالبدع الكبار من معتزلي ورافضي ونحوهم، ولا من المنتسبين إلى السنة من كرامي، وأشعري، ونحوهم، وكذلك من صنف على طرائقهم من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم. هذا كله رأيته في كتبهم في مسائل الصفات والقرآن، ومسائل القدر ومسائل الأسماء والأحكام، والإيمان والإسلام، ومسائل الوعد والوعيد وغير ذلك. ومن أجمع الكتب التي رأيتها في المقالات، كتاب الأشعري ذكر فيه من المقالات وتفاصيلها ما لم يذكره غيره، وذكر فيه مذهب أهل السنة بحسب فهمه، وليس في جنسه أقرب إليهم منه، ويذكر منه أمرا مجملا تلقاه عن زكريا الساجي وبعض عن

حنبلية بغداد ونحوهم، ونصر في الصفات طريقة ابن كلاب لأنها أقرب إلى الحق من قول المعتزلة، ويذكر مقالة ابن كلاب من خبره، ونظر في كتبه، ويذكر مقالات المعتزلة مفصلة، ويذكر قول كل واحد منهم، وما بينهم من النّزاع في الدق والجل، فإذا جاء إلى مقالة أهل السنة ذكر أمرا مجملا، فإنه لم يكن خبيرا بالسنة والحديث، وأقوال الصحابة والتابعين، وغيرهم، وتفسير السلف للقرآن، مع أنه من أعرف المصنفين في الاختلاف بذلك، وهو أعرف به من جميع أصحابه كالقاضي أبي بكر وابن فورك وابن إسحاق، وهؤلاء أعلم به من أبي المعالي وذويه، ومن الشهرستاني، ولهذا ما يذكره من مذهب أهل السنة ناقص عما يذكره الأشعري، فإن الأشعري أعلم من هؤلاء كلهم لذلك نقلا وتوجيها. وأما الاختلاف العملي وهو الاختلاف باليد والسيف والعصا، فهو داخل في الاختلاف، والخوارج والروافض والمعتزلة ونحوهم، يدخلون في النوعين، والملوك الذين يقاتلون على محض الدنيا يدخلون في الثاني. والذين يتكلمون في العلم ولا يدعون إلى قول ابتدعوه ولا يحاربون عليه لا بيد ولا بلسان، هؤلاء أهل العلم وخطؤهم مغفور إلا أن يدخلهم هوى، وعدوان، أو تفريط في بعض الأمور فيكون ذلك من ذنوبهم. فإن العبد مأمور بالتزام الصراط المستقيم في كل أموره، وقد شرع الله تعالى أن نسأله ذلك في كل صلاة، وهو أفضل الدعاء وأفرضه وأجمعه لكل خير، وكل أحد محتاج إليه، فلهذا أوجبه الله على العبد في كل صلاة، فإنه إن هُدي هدي مجملا مثل إقراره بأن الإسلام حق، فهو محتاج إلى التفصيل في كل ما يقوله ويفعله ويعتقده، فيثبته أو ينفيه، أو يحبه أو يبغضه، ويأمر به أو ينهى عنه، أو يحمده أو يذمه. والمقصود بيان ما ذكره الله في كتابه من ذم

الاختلاف، وأن أهل الكلام يردون باطلا بباطل، مثاله تنازعهم في مسائل الأسماء والأحكام، والوعد والوعيد؛ فالخوارج والمعتزلة تقول: صاحب الكبائر إذا لم يتب مخلد في النار، ليس معه إيمان، ثم الخوارج تقول: كافر. والمعتزلة توافقهم على الحكم لا الاسم، والمرجئة تقول: هو تام الإيمان إيمانه كإيمان الأنبياء، وهذا نزاع في الاسم. ثم تقول فقهاؤهم قول الجماعة في أهل الكبائر لا ينازعونهم الحكم في الآخرة، وينازعون أيضا فيمن قال ولم يفعل، وكثير من متكلمتهم يقول: لا نعلم أن أحدا من أهل القبلة من أهل الكبائر يدخل النار، بل يجوز أن يدخلها جميع الفساق، ويجوز أن لا يدخلها أحد منهم، ويجوز دخول بعضهم، ويقول: من أذنب وتاب لا نقطع بقبول توبته، بل يجوز أن يدخل النار، فهم يقفون في هذا كله، ولهذا سموا الواقفة، وهذا قول القاضي أبي بكر وغيره من الأشعرية وغيرهم، فيحتج أولئك بنصوص الوعيد وعمومها. وقالوا: الفساق لا يدخلون في الوعد لأنهم لا حسنات لهم، لأنهم ليسوا من المتقين، وقال تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} 1، وقال: {لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} 2، وقال: {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} الآية، وقال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} 3، فهذه النصوص وغيرها تدل على أن الماضي من العمل

_ 1 سورة المائدة آية: 27. 2 سورة البقرة آية: 264. 3 سورة محمد آية: 28.

قد يحبط بالسيئات، وأن العمل لا يقبل إلا مع التقوى، والوعد إنما هو للمؤمنين وليسوا منهم، بدليل قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} 1 ونحو ذلك، وبقوله: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" 2 ونحو ذلك. وتقول المرجئة: إنما يتقبل الله من المتقين المراد من اتقى الشرك، والأعمال لا تحبط إلا بالكفر لقوله: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} 3، {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} 4، وقوله: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ} الآيتين، وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} 5 في الكفار لأنه قال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ} 6 الآية، وكذلك قوله {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ} إلى قوله {فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} ، أخبر أنهم ارتدوا بعد بيان الهدى، وأن الشيطان سول لهم وأملى لهم أي: وسع لهم في العمر، فكان سبب وعدهم للكفار. ولهذا فسرها السلف بالمنافقين وباليهود، قالت الوعيدية: إنما وصفهم بمجرد كراهة ما أنزل، والكراهة عمل القلب. وعند الجهمية الإيمان بمجرد تصديق القلب لا عمله؛ وعند فقهاء المرجئة قول اللسان مع التصديق، وعلى القولين أعمال القلوب ليست من الإيمان عندهم، فيمكن أن يصدق بقلبه ولسانه مع كراهته ما أنزل الله، فلا يكون كافرًا عندهم؛ والآية تتناوله فيدل على فساد قولهم. قالوا: وأما قولكم المتقون

_ 1 سورة الأنفال آية: 2. 2 البخاري: المظالم والغصب (2475) , ومسلم: الإيمان (57) , والترمذي: الإيمان (2625) , والنسائي: قطع السارق (4870 ,4871 ,4872) والأشربة (5659 ,5660) , وأبو داود: السنة (4689) , وابن ماجه: الفتن (3936) , وأحمد (2/243 ,2/317 ,2/386) , والدارمي: الأشربة (2106) . 3 سورة الزمر آية: 65. 4 سورة المائدة آية: 5. 5 سورة محمد آية: 9. 6 سورة محمد آية: 8.

الذين اتقوا الشرك، فهذا خلاف القرآن، لأن الله يقول: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ} 1، {إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً} 2، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} 3، {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} 4، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} 5، قال ابن مسعود وغيره: " {حق تقاته} أن يطاع فلا يعصى، وأن يشكر فلا يكفر، وأن يذكر فلا ينسى" وقال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} 6 وهي مفسرة لتلك؛ ومن قال من السلف، ناسخة، فمعناه رافعة لما يظن أن المراد يعجز عنه. فإن الله لم يأمر بهذا قط، ومن قال: إن الله أمر به، فقد غلط. والنسخ في عرف السلف يدخل فيه كل ما فيه نوع رفع لحكم، أو ظاهر، أو ظن دلالة، حتى إنهم يسمون تخصيص العالم نسخا، ومنهم من يسمي الاستثناء نسخا إذا تأخر نزوله. وقد قال تعالى: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} 7، فهذا رفع لما ألقاه الشيطان، ولم ينزله الله، لكن غايته أن يظن أن الله أنزله، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ} 8 الآيتين فمن كان الشيطان لا يزال يمده في الغي وهو لا يتفكر ولا يبصر، كيف يكون من المتقين؟ ومن آخر ما نزل، وقيل: إنها آخر

_ 1 سورة الطور آية: 17. 2 سورة مريم آية: 18. 3 سورة الطلاق آية: 2-3. 4 سورة الأنفال آية: 29. 5 سورة آل عمران آية: 102. 6 سورة التغابن آية: 16. 7 سورة الحج آية: 52. 8 سورة الأعراف آية: 201.

آية نزلت {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} 1 الآية. وقال طلق ابن حبيب - ومع هذا كان سعيد بن جبير ينسبه إلى الإرجاء -: "التقوى أن تعمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله، على نور من الله، تخاف عقاب الله". وبالجملة فكون المتقين هم الفاعلون للفرائض المجتنبون للمحارم هو من العلم العام الذي يعرفه المسلمون خلفا عن سلف. ثم ذكر أن أهل السنة وسط، وذكر بعض دلائلهم، منها قوله: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} 2 الآية. فلو كانت الحسنة لا تقبل من صاحب السيئة لم تمحها، وثبت بالكتاب والسنة المتواترة، فلو كانت الكبيرة تحبط الحسنات لم يبق حسنة توزن معها. وثبت أن بغيا سقت كلبا فغفر لها. قالوا: وابنا آدم لم يكن أحدهما مشركا، لكن لم يقصد التقرب إلى الله بالطيب من ماله، كما في الأثر، فلهذا لم يتقبل منه قربانه. وقال تعالى: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا} 3 الآية، فجعل هذا من موانع قبول النفقة دون مطلق الذنوب، ويقولون: من نفي عنه الإيمان فلتركه بعض واجباته، ولا يلزم أن لا يبقى منه شيء، بل دلت النصوص على بقاء بعضه، ويخرج من النار من بقي معه بعضه، ومعلوم أن العبادات فيها واجب، فالحج فيه واجب، إذا تركه نقص حجه، ولا يفسده إلا الجماع. فكذلك لا يزيل الإيمان كله إلا الكفر المحض، وما دونه قد يحبط بعض العمل كالمن والأذى، فإنه يبطل الصدقة، لا سائر

_ 1 سورة البقرة آية: 281. 2 سورة هود آية: 114. 3 سورة التوبة آية: 54.

الأعمال. والذين كرهوا ما أنزل الله كفار، وأعمال القلب من الإيمان، وكراهة ما أنزل الله كفر. ودخول الظالم لنفسه الجنة لا يمنع أن يعذب قبله. وقوله: {لا يَصْلاهَا إِلَّا الْأَشْقَى} 1 لا يخلو إما أن يكون الصلي نوعا من التعذيب، كما قيل: إنه الإحاطة، وأهل القبلة لا تحرق منهم مواضع السجود، أو تكون نارا مخصوصة، ومثاله تنازع القدرية النافية والمجبرة فقالوا جميعا: الإرادة هي المحبة، فقالت النافيه: هو يحب العمل الصالح ويكره الكفر والفسوق والعصيان، فلا يكون مريدا له لقوله: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} 2، {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} 3. (120) من أصيب بمصيبة بسبب ما جاء به الرسول فبذنوبه، ليس لأحد أن يعيب ما جاء به، لكون فيه جهاد الكفار والمنافقين. كما أنه لا يجوز أن يقول أحد بسببه نزول القرآن ونزوله بكلام العرب اختلفت الأمة في التأويل، واقتتلوا إلى أمثال ذلك، فإن هذا من كلام الكفار. والذين قالوا لرسلهم إنا تطيرنا بكم، فقالوا لهم: {طائركم معكم} وقال تعالى عن آل فرعون: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ} 4، وقال كما أمر بالجهاد وإن من الناس من يبطىء عنه: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ} 5..

_ 1 سورة الليل آية: 15. 2 سورة الزمر آية: 7. 3 سورة البقرة آية: 205. 4 سورة الأعراف آية: 131. 5 سورة النساء آية: 78.

الآية. والحسنات والسيئات، هنا النعم، والمصائب كقوله {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئاتِ} 1 الآية ولهذا قال: {ما أصابك} ولم يقل ما أصبت، وقال: {وإن تصبهم حسنة} إلخ، قيل: الضمير يعود على المنافقين، وقيل: على اليهود، وقيل: على الطائفتين. والتحقيق أنه يعود على من قال هذا، من أي صنف كان، ولهذا لم يعين قائله، لأنه دائما يقوله بعض الناس. فإن الطاعنين على ما جاء به الرسول من كافر ومنافق، بل ومن في قلبه مرض، أو عنده جهل يقول مثل هذا، فكثير يقوله فيما جاء به الرسول ولا يعلم أنه جاء به، لظنه خطأ من قاله، ويكون هو المخطئ. فإذا أصابهم نصر ورزق قالوا: هذا من عند الله، ولا يضيفه إلى ما جاء به الرسول، وإن كان سببا له، وإن أصابهم نقص وخوف وظهور عدو قالوا: هذا من عندك، لأنه أمر بالجهاد فتطيروا به، كما تطير آل فرعون بما جاء به موسى. والسلف ذكروا المعنيين، وعن ابن عباس: بشؤمك، وعن زيد: بسوء تدبيرك. قال تعالى: {قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} 2، قال: ابن عباس: "الحسنة والسيئة، الحسنة أنعم بها عليك، والسيئة ابتلاك بها"، {فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} 3 قيل لم يفقهوا ولم يكادوا، وقيل فقهوه بعد أن كانوا لا يفقهونه، كقوله: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} 4 فالمنفي بها مثبت، والمثبت بها منفي، وهذا هو المشهور، وعليه عامة الاستعمال. وقد يقال يراد بها هذا تارة، وهذا

_ 1 سورة الأعراف آية: 168. 2 سورة النساء آية: 78. 3 سورة النساء آية: 78. 4 سورة البقرة آية: 71.

تارة، إن حرصت بإثبات الفعل فقد وجد، فإذا لم يأت إلا النفي المحض كقوله: {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} فهذا نفي مطلق لا قرينة معه تدل على الإثبات، فيفرق بين مطلقها ومقيدها، هذه الأقوال الثلاثة للنحاة. وقد وصف الله المنافقين بعدم الفقه في مثل قوله: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ} 1 الآية لكن قوله: {حديثا} نكرة في سياق النفي، فيعم كما في قوله: {لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} 2 ومعلوم أنهم لا بد أن يفقهوا بعض الأقوال، وإلا فلا يعيش الإنسان بدون ذلك، فعلم أنهم يفقهون بعد أن كادوا لم يفقهوا. وكذلك في الرؤية، وهذا أظهر الأقوال وأشهرها، والمراد: هؤلاء لو فقهوا القرآن لعلموا أنك ما أمرتهم إلا بخير، ولا نهيتهم إلا عن شر، وأن المصيبة لم تكن بسببك بل بذنوبهم. وأما رواية كروم 3 عن يعقوب: {فمن نفسك} فمعناها يناقض القراءة المتواترة، فلا يعتمد عليها، ومعنى الآية قوله "يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم" 4 إلخ. ومعنى الآية متناول لكل من نسب ما أصابه من المصيبة إلى ما أمر الله به ورسوله كائنا من كان. (121) كل من استفرغ وسعه استحق الثواب، وكذلك الكفار من بلغته دعوة النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به وبما أنزل عليه، واتقى الله ما استطاع، كما فعل النجاشي وغيره، ولم تمكنه الهجرة، ولا التزام جميع الشرائع لكونه ممنوعا من الهجرة، ومن إظهار دينه، وليس عنده

_ 1 سورة المنافقون آية: 7. 2 سورة الكهف آية: 93. 3 لعلها كريب. 4 مسلم: البر والصلة والآداب (2577) , والترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2495) , وابن ماجه: الزهد (4257) , وأحمد (5/154 ,5/160 ,5/177) .

من يعلمه الشرائع، فهذا مؤمن من أهل الجنة، كما كان مؤمن آل فرعون مع قومه، وكامرأة فرعون، بل وكما كان يوسف مع أهل مصر، فإنهم كفار ولم يمكنه أن يفعل معهم كل ما يعرفه من الإسلام، فإنه دعاهم إلى التوحيد والإيمان، فلم يجيبوه. قال تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ} 1 الآية. وكذلك النجاشي وهو وإن كان ملك النصارى فلم يطعه قومه في الدخول في الإسلام، بل إنما دخل معه نفر منهم، ولهذا لما مات لم يكن هناك من يصلي عليه، فصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "إن أخا لكم صالحا من أهل الحبشة مات" 2. وكثير من شرائع الإسلام أو أكثرها لم يكن دخل فيها لعجزه عن ذلك، فلم يهاجر ولم يجاهد، ولا حج البيت، بل قد روي أنه لم يكن يصلي الخمس، ولا يصوم رمضان، ولا يؤدي الزكاة الشرعية، لأن ذلك كان يظهر عند قومه فينكرونه ولا يمكنه مخالفتهم. ونحن نعلم قطعا أنه لم يكن يمكنه أن يحكم بينهم بحكم القرآن. والله قد فرض على نبيه ألا يحكم بينهم إلا بما أنزل الله، وحذره أن يفتنوه عن بعض ما أنزل الله مثل الحكم في الزنى بالرجم، وفي الديات بالعدل، والتسوية في الدماء بين الشريف والوضيع، النفس بالنفس والعين بالعين وغير ذلك، والنجاشي ما كان يمكنه أن يحكم بحكم القرآن، وكثيرا ما يتولى الرجل بين المسلمين والتتار قاضيا، بل وإماما وفي نفسه أمور من العدل يريد أن يعمل بها فلا يمكنه، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها، وعمر بن عبد العزيز عودي، وأوذي على بعض ما أقامه من العدل، وقيل إنه سم على ذلك، فالنجاشي وأمثاله سعداء

_ 1 سورة غافر آية: 34. 2 مسلم: الجنائز (953) , والترمذي: الجنائز (1039) , والنسائي: الجنائز (1946 ,1975) , وابن ماجه: ما جاء في الجنائز (1535) , وأحمد (4/431 ,4/433) .

في الجنة، وإن لم يلتزموا من شرائع الإسلام ما لا يقدرون عليه، بل يحكمون بالأحكام التي يمكنهم الحكم بها، ولهذا جعل الله هؤلاء من أهل الكتاب قال تعالى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} 1 الآية قيل نزلت في النجاشي، يروى عن جابر، وابن عباس، وأنس، ومنهم من قال فيه وفي أصحابه، كما قال الحسن وهذا مراد الصحابة، لكن هو المطاع، فإن لفظ الآية لفظ الجمع. وقال عطاء في أربعين من أهل نجران وثلاثين من الحبشة وثمانية من الروم على دين عيسى فآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر هؤلاء من بالمدينة مثل ابن سلام، وسلمان وغيرهما، لأنهم صاروا من المؤمنين فلا يقال فيهم: {وإن من أهل الكتاب} ، كما يقال عن الصحابة الذين كانوا مشركين، وإن من المشركين لمن يؤمن بالله، فدل على أن هؤلاء من جملة أهل الكتاب، وقد آمنوا بالرسول، كما قال: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} 2 فهو من العدو، ولكن آمن ولم تمكنه الهجرة وإظهار الإيمان والتزام شرائعه، فسماه مؤمنا، لأنه فعل من الإيمان ما يقدر عليه، لما قال تعالى في العاجز عن الهجرة: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ} 3 الآية، فأولئك كانوا عاجزين عن إظهار دينهم، فسقط عنهم ما عجزوا عنه. فإذا كان هذا فيمن كان مشركا، فما تظن بمن كان كتابيا، وقوله: {من قوم عدو لكم وهو مؤمن} ، قيل: هو الذي عليه لباس أهل الحرب، مثل من يكون في صفهم

_ 1 سورة آل عمران آية: 199. 2 سورة النساء آية: 92. 3 سورة النساء آية: 98.

فيعذر القاتل، لأنه مأمور بقتاله فيسقط عنه الدم وتجب الكفارة وهو قول الشافعي، وقيل: هو من أسلم ولم يهاجر، وهو قول أبي حنيفة، وسواء عرف أنه مؤمن وقتل خطأ أو ظن أنه كافر، وهذا ظاهر الآية. وقيل في قوله: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} 1 الآية، نزلت في ابن سلام وأصحابه كما نقل عن ابن زيد وغيره؛ وبعضهم قال في مؤمني أهل الكتاب فإن أراد من كان في الظاهر معدودا منهم فهو القول الأول، وإن أراد العموم فهو الثاني، وهو ضعيف؛ فإن هؤلاء لا يقال فيهم: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} لأنهم من جملة الصحابة، ولهم أجور مثل أجور المؤمنين، بل يؤتون أجرهم مرتين، وهم ملتزمون جميع الشرائع، فأمرهم أعظم من أن يقال لهم أجرهم عند ربهم، وأيضا فإن أمرهم ظاهر معروف، فأي فائدة في الإخبار بهم، وهذا مما يبين أن المظهرين للإسلام - فيهم منافق لا يصلى عليه كما نزل في ابن أبيّ وأمثاله، وأن من هو في أرض الكفر قد يكون مؤمنا يصلى عليه كالنجاشي، وشبه هذا قوله {وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ} 2 الآية. قيل: ابن سلام وأصحابه، وهذا والله أعلم من نمط الذي قبله، لأن المقصود من هو منهم في الظاهر، وهو مؤمن كمؤمن آل فرعون، ولهذا قال: {وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} ، ولهذا قال: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً} وهذا عائد إلى جميعهم، لا إلى أكثرهم، ولهذا قال: {يولوكم الأدبار} وقد يقاتلون وفيهم من يكتم إيمانه، وهو مكره على القتال، ويبعث يوم القيامة على نيته كما في الصحيح في الجيش الذي يغزو الكعبة فيخسف

_ 1 سورة آل عمران آية: 199. 2 سورة آل عمران آية: 110.

بهم كلهم، ويبعثون على نياتهم، وهذا في ظاهر الأمر، وإن قتل وحكم عليه بحكم الكفار، فإنه يبعث على نيته، كما أن المنافقين منّا يبعثون على نياتهم، فالجزاء يوم القيامة على ما في القلوب. ولا خلاف بين المسلمين أن من كان في دار الحرب وقد آمن وعجز عن الهجرة لا يجب عليه ما يعجز عنه، وكذلك ما لم يعلم حكمه، فلو لم يعلم وجوب الصلاة أو الزكاة وبقي مدة لم يفعل لم يجب القضاء في أظهر القولين، وهو مذهب أبي حنيفة وأهل الظاهر، وأحد الوجهين في مذهب أحمد، وكذلك سائر الواجبات، ولو لم يعلم تحريم الخمر فشربها لم يحد بإجماع المسلمين، وكذلك لو عامل بما يستحله من ربا أو ميسر ثم تبين له التحريم بعد القبض، وكذلك لو تزوج نكاحا يعتقد صحته على عادته ثم تبين له أنه أخل ببعض شروطه كمن تزوج في عدة. وأصل هذا كله أن الشرائع هل تلزم من لم يعلم أم لا تلزم إلا بعد العلم؟ أو يفرق بين الشرائع الناسخة والمبتدأة؟ فيه ثلاثة أقوال هي ثلاثة أوجه في مذهب أحمد. ومن صلى في الموضع المنهي عنه قبل علمه بالنهي هل يعيد؟ فيه روايتان عن أحمد. والصواب في هذا كله أن الحكم لا يثبت إلا مع التمكن من العلم، وأنه لا يقضي ما لم يعلم وجوبه، وهذا يطابق الأصل الذي عليه السلف والجمهور أن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها؛ فالوجوب مشروط بالقدرة، والعقوبة لا تكون إلا على ترك مأمور وفعل محظور، وبعد قيام الحجة. (122) العدل محمود محبوب باتفاق أهل الأرض، وهو من المعروف الذي تعرفه القلوب. والظلم من المنكر الذي تبغضه القلوب وتذمه. والله سبحانه أرسل الرسل؛ ليقوم الناس بالقسط، وأمر الله نبيه أن يحكم بالقسط،

وبما أنزل الله، فدل على أن القسط هو ما أنزل الله. ولكن العدل يتنوع بتنوع الشرائع، ولهذا قال: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ} 1 إلى قوله: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} 2 الآية، فذكر أنه أنزل القرآن، وأن يحكم بينهم بما أنزل الله ولا يتبع أهواءهم عما جاءه من الكتاب، وأخبر أنه جعل لكل شيء شرعة ومنهاجا. جعل له صلى الله عليه وسلم ما في القرآن من الشرعة والمنهاج، وأمره أن يحكم به، وحذره أن يفتنوه عن بعض ما فيه، وأخبر أن ذلك حكم الله، ومن ابتغى غيره فقد ابتغى حكم الجاهلية، وقال: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} 3. لا ريب أن من لم يعتقد وجوب الحكم به فهو كافر، فمن استحل أن يحكم بما يراه هو عدلا من غير اتباع لما أنزل الله فهو كافر؛ فإنه ما من أمة إلا وتأمر بالحكم بالعدل، وقد يكون العدل في دينها ما رآه كإبراهيم، بل كثير من المنتسبين إلى الإسلام يحكمون بعاداتهم كسوالف البادية، وأمر المطاعين، ويرونه أنه هو الذي يبتغي الحكم به دون الكتاب والسنة، وهذا هو الكفر إذا عرفوا ما أنزل الله فلم يلتزموه، بل استحلوا الحكم بغيره فهم كفار، وإلا كانوا جهالا كما تقدم. وأما من كان ملتزما لحكم الله باطنا وظاهرا، لكن عصى واتبع هواه، فهذا بمنْزلة أمثاله من العصاة. وهذه الآية مما يحتج بها الخوارج على تكفير ولاة الأمر يحكمون بغير ما أنزل الله، ثم يزعمون أن اعتقادهم هو حكم الله، وقد تكلم الناس على ما يطول ذكره هنا، والذي ذكرته يدل عليه سياق الآية.

_ 1 سورة المائدة آية: 43. 2 سورة المائدة آية: 50. 3 سورة المائدة آية: 44.

والمقصود أن الحكم بالعدل واجب مطلقا، والحكم بما أنزل الله على محمد هو عدل خاص، وهو أكمل أنواع العدل، فمن لم يلتزمه فهو كافر. وهذا واجب على الأمة في كل ما تنازعت فيه من الأمور الاعتقادية، والعملية، قال الله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ} 1 الآية. (123) الرافضة سلكوا في الصحابة مسلك التفرق والهوا بعضهم وغلوا فيه، وبعضهم غلوا في معاداته. وقد سلك ما يشبه هذا كثير من الناس في أمرائهم وعلمائهم وشيوخهم، فيحصل منهم رفض في غير الصحابة. فهذا كله من التفرق والتشيع الذي نهى الله عنه، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً} 2 الآية، وقال: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} 3 الآيات. قال ابن عباس: "تبيض وجوه أهل السنة، وتسود وجوه أهل البدعة"، ولهذا كان أبو أمامة الباهلي وغيره يتأولها في الخوارج. وقد أمر الله المؤمنين أن يعتصموا بكتابه وبدينه وبالإسلام وبالإخلاص، وبعهده، وبالجماعة، وهذه كلها منقولة عن الصحابة والتابعين، وكلها صحيحة. فالقرآن يأمر بدين الإسلام وذلك عهده، والاعتصام به جميعا إنما يكون في الجماعة، ودين الإسلام حقيقته الإخلاص. ثم المعاصي الذي يعرف صاحبها أنه عاص يتوب، والمبتدع الذي يظن أنه على حق ضرره على المسلمين أعظم من ضرر الظلمة الذين

_ 1 سورة البقرة آية: 213. 2 سورة الأنعام آية: 159. 3 سورة آل عمران آية: 105.

يعلمون أن الظلم محرم، فنهى صلى الله عليه وسلم عن قتال الأمراء الظلمة، وأمر بقتال الخوارج، وهذا مما يستدل به على أنه ليس كل ظالم باغ يجوز قتاله. ومن أسباب ذلك أن الظالم الذي يستأثر بالمال والولايات لا يقاتل في العادة إلا لأجل الدنيا، فلم يكن قتالهم ليكون الدين كله لله، ولا من جنس قتال قطاع الطريق الذين قال فيهم: "من قُتل دون ماله فهو شهيد"؛ لأن أولئك معادون لجميع الناس، وجميع الناس يعينون على قتالهم، ولو قدر أنه ليس كذلك، فليسوا ولاة أمر قادرين على الفعل، بل يريدون أموال الناس ودماءهم، فهم مبتدون الناس بالقتال بخلاف ولاة الأمور، فإنهم لا يبدؤون الرعية بالقتال، وفرق بين من تقاتله دفعا وبين من تقاتله ابتداء. ولهذا هل يجوز في الفتنة قتال الدفع؟ فيه عن أحمد روايتان؛ لتعارض الآثار والمعاني. وبالجملة فالعادة المعروفة أن الخروج على ولاة الأمور لطلب ما في أيديهم من المال، والإمارة، وهذا قتال على الدنيا، ولهذا قال أبو برزة في فتنة ابن الزبير والقراء مع الحجاج، وفتنة مروان: إنما يقاتلون على الدنيا، وأما أهل البدع كالخوارج فهم يريدون إفساد دين الناس، فقتالهم قتال عن الدين لتكون كلمة الله هي العليا. (124) تواتر النقل، وعُلم بالاضطرار من دين الرسول واتفقت عليه الأمة أن أصل الإسلام وأول ما يؤمر به الخلق شهادة أن لا إله إلا الله، وشهادة أن محمدا رسول الله، ومنه يصير الكافر مسلما والعدو وليا، ثم إن كان من قلبه دخل في الإيمان، وإن قاله بلسانه دون قلبه فهو في ظاهر الإسلام. وكما أنهما أصلا الدين فهما أيضا تمام فروعه، فهما الفرق بين أهل الجنة

وأهل النار، قال تعالى في الجنة: {أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} 1. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر منازل عالية في الجنة قيل: "يا رسول الله، تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم. فقال: بلى والذي نفسي بيده، رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين" 2. وقال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي} 3 الآيتين. وقال: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا} الآيتين. ثم ذكر آيات كثيرة. ثم قال: وذلك أن المقصود الذي خلق له الخلق عبادة الله وحده، والطريق إلى ذلك هم رسل الله؛ فبالإيمان بالله ورسله يتم المقصود والوسيلة، وبدون أحدهما لا يحصل ذلك. فمن لم يهتد بنور الرسالة، واكتفى برأيه ورأي من جنسه، فإنه في الشبهات والضلالات والتفرق والاختلاف الذي لا يحيط به إلا الله، كما تجده في الخارجين عن حقيقة الرسالة من الكفار والمسلمين، وهم الذين تفرقوا على الأنبياء كما قال: "إنما هلك الذين من قبلكم بكثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم" 4، وقال الله سبحانه: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} 5 الآية، وقال: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} 6 الآية، وقال: {وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ} 7، وقال:

_ 1 سورة الحديد آية: 21. 2 البخاري: بدء الخلق (3256) , ومسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2831) . 3 سورة الأعراف آية: 35. 4 البخاري: الاعتصام بالكتاب والسنة (7288) , ومسلم: الحج (1337) , والترمذي: العلم (2679) , والنسائي: مناسك الحج (2619) , وابن ماجه: المقدمة (2) , وأحمد (2/247 ,2/258 ,2/313 ,2/428 ,2/447 ,2/467 ,2/482 ,2/495 ,2/508 ,2/517) . 5 سورة البقرة آية: 176. 6 سورة البقرة آية: 213. 7 سورة البقرة آية: 253.

{فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} 1، وكذلك في سورة الأنبياء، وقال: {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ} 2، وقال: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً} 3 الآية. وهذا المعنى قد ثناه الله في كتابه، بين فيه أن دينه واحد، وهو الإسلام العام والإيمان العام، وأنه أمر رسله بالاجتماع فيه والائتلاف، ونهاهم عن التفرق فيه والاختلاف، وهو الذي أمر به الأولين والآخرين، فمن خرج عنه كفر بجميع الرسل ولو آمن ببعض الرسالة دون بعض، أو ببعض الكتب والرسل كما عليه المبتدعة في الإسلام وغيرهم، ومن سلك سبيلهم من أهل التحريف والتبديل في المسلمين. ويدخل في هؤلاء السبعون فرقة في اليهود والأحد والسبعون في النصارى، واثنتان والسبعون في المسلمين، كما قال صلى الله عليه وسلم في أحاديث متعددة، وقال في الناجية: "وهي الجماعة"، وفي رواية: "هو من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي" 4. فوصفهم بالاجتماع واتباع الصحابة، وهذا هو السنة والجماعة، فمن خرج عنه فهو من أهل التفرق والاختلاف الذين اختلفوا في الكتاب واختلفوا على الأنبياء، والله أعلم. (125) سئل رحمه الله عن رجل متمسك بالسنة، ويحصل له ريبة في تفضيل الثلاثة على عليّ لقوله عليه السلام له: "أنت مني وأنا منك " 5، وقوله: "أنت مني بمنْزلة هارون من موسى" 6 وقوله: "لأعطين الراية

_ 1 سورة المؤمنون آية: 53. 2 سورة مريم آية: 37. 3 سورة الشورى آية: 13. 4 الترمذي: الإيمان (2641) . 5 البخاري: الصلح (2700) , وأحمد (4/298) , والدارمي: السير (2507) . 6 البخاري: المناقب (3706) , ومسلم: فضائل الصحابة (2404) , والترمذي: المناقب (3724 ,3731) , وابن ماجه: المقدمة (115 ,121) , وأحمد (1/170 ,1/173 ,1/174 ,1/175 ,1/177 ,1/179 ,1/182 ,1/184 ,1/185) .

رجلا يحب الله ورسوله" 1.. إلخ وقوله: "من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد ما عاداه. إلخ" 2، وقوله: "أذكركم الله في أهل بيتي" 3، وقوله سبحانه: {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ} 4 الآية، وقوله: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} 5 الآية، ولقوله: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ} الآية. فأجاب: يجب أن يعلم أولا أن التفضيل إذا ثبت للفاضل من الخصائص ما لا يوجد مثله للمفضول، فإذا استويا وانفرد أحدهما بخصائص كان أفضل، وأما الأمور المشتركة فلا توجب تفضيله على غيره. وإذا كان كذلك ففضائل الصديق التي ميز بها لم يشركه فيها غيره، وفضائل علي مشتركة، وذلك أن قوله: "لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا" 6، وقوله: "لا يبقى في المسجد خوخة إلا سدت، إلا خوخة أبي بكر" 7، وقوله: "إن أمنّ الناس علي في صحبته وذات يده أبو بكر" 8. وهذا فيه ثلاث خصائص لم يشركه فيها أحد: أنه ليس لأحد منهم عليه في صحبته وماله مثل ما لأبي بكر. الثانية: قوله: لا يبقين في المسجد.. إلخ. وهذا تخصيص له دون سائرهم، وأراد بعض الكذابين أن يروي لعلي مثل ذلك، والصحيح لا يعارضه الموضوع. الثالثة: قوله: "لو كنت متخذا خليلا" نص في أنه لا أحد من البشر استحق الخلة لو أمكنت إلا هو، ولو كان غيره أفضل منه لكان أحق بها لو تقع. وكذلك أمره له أن يصلي بالناس مدة مرضه من الخصائص.

_ 1 مسلم: فضائل الصحابة (2404) , وابن ماجه: المقدمة (115 ,121) , وأحمد (1/170 ,1/173 ,1/174 ,1/175 ,1/185) . 2 ابن ماجه: المقدمة (116) , وأحمد (4/281) . 3 مسلم: فضائل الصحابة (2408) , وأحمد (4/366 ,4/371) , والدارمي: فضائل القرآن (3316) . 4 سورة آل عمران آية: 61. 5 سورة الحج آية: 19. 6 مسلم: فضائل الصحابة (2383) , والترمذي: المناقب (3655) , وابن ماجه: المقدمة (93) , وأحمد (1/377 ,1/389 ,1/408 ,1/410 ,1/412 ,1/433 ,1/434 ,1/437 ,1/439 ,1/455 ,1/462) . 7 البخاري: المناقب (3904) , ومسلم: فضائل الصحابة (2382) , والترمذي: المناقب (3660) , وأحمد (3/18) . 8 البخاري: الصلاة (466) , ومسلم: فضائل الصحابة (2382) , والترمذي: المناقب (3660) , وأحمد (3/18) .

وكذلك تأميره له من المدينة على الحج ليقيم السنة ويمحو آثار الجاهلية، فإنه من خصائصه. وكذلك قوله في الحديث الصحيح: "ادع لي أباك وأخاك حتى أكتب لأبي بكر كتابا" 1. وأمثال هذه الأحاديث كثيرة تبين أنه لم يكن في الصحابة من يساويه. وأما قوله: "أنت مني وأنا منك" 2 فقد قالها لغيره، وقالها لجليبيب والأشعريين. وقال تعالى {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ} 3، وقوله: "من غشنا فليس منا" 4، "ومن حمل علينا السلاح فليس مني " 5 يقتضي أن من يترك هذه الكبائر يكون منا، فكل مؤمن كامل الإيمان فهو من النبي والنبي منه. وقوله في ابنة حمزة: "أنت مني وأنا منك" 6 وقوله لزيد: "أنت أخونا ومولانا" 7 لا يختص بزيد بل كل مواليه كذلك، وكذلك قوله: "لأعطين الراية" إلخ. هو أصح حديث يروى في فضله، وزاد فيه بعض الكذابين أنه أخذها أبو بكر وعمر فهربا. وفي الصحيح أن عمر قال: "ما أحببت الإمارة إلا يومئذ" 8 فهذا الحديث رد على الناصبة الواقفين في علي، وليس هذا من خصائصه، بل كل مؤمن كامل الإيمان يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، قال تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} 9 وهم الذين قاتلوا أهل الردة، وإمامهم أبو بكر، وفي الصحيح: "أنه سأله أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة. قال: فمن الرجال؟ قال: أبوها" 10 وهذا من خصائصه. وأما قوله: "أما ترضى أن تكون مني بمنْزلة هارون من موسى" 11 قاله في غزوة تبوك لما استخلفه على المدينة، فقيل: استخلفه لبغضه إياه. وكان النبي

_ 1 البخاري: المرضى (5666) , ومسلم: فضائل الصحابة (2387) , وأحمد (6/144) . 2 البخاري: الصلح (2700) , وأحمد (4/298) , والدارمي: السير (2507) . 3 سورة التوبة آية: 56. 4 مسلم: الإيمان (101) , وابن ماجه: الحدود (2575) , وأحمد (2/329 ,2/417) . 5 البخاري: الديات (6874) , ومسلم: الإيمان (98) , والنسائي: تحريم الدم (4100) , وابن ماجه: الحدود (2576) , وأحمد (2/3 ,2/16 ,2/53 ,2/142 ,2/150) . 6 البخاري: الصلح (2700) , وأحمد (4/298) , والدارمي: السير (2507) . 7 البخاري: الصلح (2700) , ومسلم: الجهاد والسير (1783) , وأحمد (4/298) , والدارمي: السير (2507) . 8 مسلم: فضائل الصحابة (2405) . 9 سورة المائدة آية: 54. 10 البخاري: المناقب (3662) , ومسلم: فضائل الصحابة (2384) , والترمذي: المناقب (3885 ,3886) , وأحمد (4/203) . 11 البخاري: المناقب (3706) والمغازي (4416) , ومسلم: فضائل الصحابة (2404) , والترمذي: المناقب (3731) , وابن ماجه: المقدمة (115 ,121) , وأحمد (1/170 ,1/173 ,1/174 ,1/175 ,1/177 ,1/179 ,1/182 ,1/184 ,1/185) .

صلى الله عليه وسلم إذا غزا استخلف رجلا من أمته، وكان بالمدينة رجال من المؤمنين القادرين، وفي غزوة تبوك لم يأذن لأحد، فلم يتخلف أحد إلا لعذر أو إلا عاصٍ، فكان ذلك الاستخلاف ضعيفا فطعن به المنافقون بهذا السبب، فبين له أني لم استخلفك لنقص عندي، فإن موسى استخلف هارون وهو شريكه في الرسالة، أفما ترضى بذلك؟ ومعلوم أنه استخلف غيره قبله، وكانوا منه بهذه المنْزلة، فلم يكن هذا من خصائصه. ولو كان هذا الاستخلاف أفضل من غيره لم يخف على علي، ولما لحقه يبكي، ومما يبين ذلك أنه بعد هذا أمر عليه أبا بكر سنة تسع. وكونه بعثه لنبذ العهود ليس من خصائصه، لأن العادة لما جرت أنه لا ينبذ العهود ولا يعقدها إلا رجل من أهل بيته، أي الشخص من عترته ينبذها حصل المقصود، ولكنه أفضل بني هاشم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان أحق الناس بالتقدم من سائرهم. فلما أمر أبا بكر بعد قوله: "أما ترضى" إلخ، علمنا أنه لا دلالة فيه على أنه بمنْزلة هارون من كل وجه، وإنما شبهه به في الاستخلاف خاصة، وذلك ليس من خصائصه، وقد شبه النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر بإبراهيم وعيسى، وشبه عمر بنوح وموسى عليهم السلام، لما أشارا في الأسرى، وهذا أعظم من تشبيه عليّ بهارون، ولم يوجب ذلك أن يكونا بمنْزلة أولئك الرسل؛ والتشبيه بالشيء لمشابهته في بعض الوجوه كثير في الكتاب والسنة وكلام العرب. وأما قوله: "من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه" 1 إلخ، فهذا ليس في شيء من الأمهات إلا في الترمذي، وليس فيه إلا من "كنت مولاه فعلي مولاه"، وأما الزيادة فليست في الحديث؛ وسئل عنها الإمام أحمد فقال: زيادة كوفية. ولا ريب

_ 1 ابن ماجه: المقدمة (116) , وأحمد (4/281) .

أنها كذب لوجوه: أحدها أن الحق لا يدور مع معين إلا النبي صلى الله عليه وسلم. وأما قوله يوم غدير خم: "أذكركم الله في أهل بيتي" 1 فليس من الخصائص، بل هو مساو لجميع أهل البيت. وأبعد الناس عن هذه الوصية الرافضة؛ فإنهم يعادون العباس وذريته، بل يعادون جمهور أهل البيت ويعينون الكفار عليهم. وأما آية المباهلة فليست من الخصائص، بل دعا عليا وفاطمة وابنيهما، ولم يكن ذلك لأنهم أفضل الأمة، بل لأنهم أخص أهل بيته كما في حديث الكساء: "اللهم هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس، وطهرهم تطهيرا" 2، فدعا لهم وخصهم، والأنفس يعبر عنها بالنوع الواحد كقوله: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً} 3 وقال {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} أي يقتل بعضكم بعضا. وقوله: "أنت مني وأنا منك" 4 ليس المراد أنه من ذاته، ولا ريب أنه أعظم الناس قدرا من الأقارب، فله من مزية القرابة والإيمان ما لا يوجد لبقية القرابة، فدخل في ذلك المباهلة، وذلك لا يمنع أن يكون في غير الأقارب من هو أفضل منه، لأن المباهلة وقعت في الأقارب. وقوله: {هَذَانِ خَصْمَانِ} إلخ. فهي مشتركة بين علي وحمزة وعبيدة، بل سائر البدريين يشاركونهم فيها. وأما سورة {هَلْ أَتَى} فمن قال: إنها نزلت فيه، وفي فاطمة

_ 1 مسلم: فضائل الصحابة (2408) , وأحمد (4/366 ,4/371) , والدارمي: فضائل القرآن (3316) . 2 الترمذي: تفسير القرآن (3205) . 3 سورة النور آية: 12. 4 البخاري: الصلح (2700) , وأحمد (4/298) , والدارمي: السير (2507) .

وابنيهما، فهذا كذب، لأنها مكية، وزواج علي وفاطمة في المدينة، يكذب هذا القول، والحسن والحسين إنما ولدا بالمدينة. وبتقدير صحته فليس فيه أن من أطعم مسكينا، ويتيما، وأسيرا أفضل الصحابة، بل الآية عامة مشتركة فيمن فعل هذا، وتدل على استحقاقه للثواب على هذا العمل، مع أن غيره من الأعمال من الإيمان بالله والصلاة في وقتها والجهاد أفضل منه. (126) ذكر رحمه الله حديث: "إذا أذن المؤذن أدبر الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع التأذين، فإذا قضي التأذين أقبل ... إلى قوله: فليسجد سجدتين" 1. أخبر أن هذا التذكير والوسواس من الشيطان، وذكر قبله سورة الناس وأمره بالسجدتين ولم يؤثمه، والوسواس الخفيف لا يبطلها إجماعا، وإذا كان الأغلب فهل يعيد؟ اختاره ابن حامد، والصحيح الذي عليه الجمهور لا إعادة، فالحديث عام مطلق في كل وسواس، ولم يأمر بالإعادة، لكن ينقص أجره بقدر ذلك، قال ابن عباس: "ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها" وذكر حديث عمار أن "الرجل لينصرف من صلاته ولم يكتب له منها إلا عشرها إلا تسعها إلا ثمنها، حتى قال: إلا نصفها" 2، وهو حجة على ابن حامد. وأداء الواجب له مقصودان: أحدهما: براءة الذمة بحيث يندفع العقاب، فهذا لا تجب عليه الإعادة؛ فإن مقصود الإعادة حصول الثواب المجرد وهو شأن التطوع، ولكن حصول الحسنات الماحية للسيئات مع القبول الذي عليه الثواب يكفر عنه، وما لا ثواب فيه لا يكفر، وإن برئت منه الذمة، كما في الحديث: "رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش، ورب قائم حظه من قيامه السهر والتعب" 3

_ 1 البخاري: الأذان (608) , ومسلم: الصلاة (389) , والنسائي: الأذان (670) والسهو (1253) , وأبو داود: الصلاة (516) , وأحمد (2/313 ,2/398 ,2/503 ,2/523) , ومالك: النداء للصلاة (154) , والدارمي: الصلاة (1204 ,1494) . 2 أبو داود: الصلاة (796) , وأحمد (4/321) . 3 ابن ماجه: الصيام (1690) , وأحمد (2/373 ,2/441) , والدارمي: الرقاق (2720) .

ولم يحصل له منفعة لكن برئت الذمة فاندفع العقاب، فكان على حاله لم يزدد بذلك خيرا، والصوم شرع لتحصل التقوى، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} 1 الآية، وقال صلى الله عليه وسلم: "الصيام جنة، فإذا كان أحدكم صائما فلا يرفث، ولا يجهل. فإن امرؤ شاتمه أو قاتله فليقل: إني صائم" 2. قيل: يقول في نفسه، وقيل: بلسانه، وقيل: يفرق بين الفرض والنفل، والصحيح أنه بلسانه كما دل عليه الحديث، وهو زجر لمن بدأه بالعدوان. وفي الصحيح: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه" 3 بين أن الله لم يحرم عليه الأكل لحاجته إلى ترك الطعام، كما يحرم السيد على عبده بعض ماله، بل المقصود محبة الله، وهي حصول التقوى، فإذا لم يأت به فقد أتى ما ليس فيه محبة ورضى، فلا يثاب عليه، لكن لم يعاقب عقوبة التارك. والحسنات المقبولة له تكفر السيئات، وفي الصحيح: "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، كفارة لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر"4 ولو كفر الجميع بالخمس لم يحتج إلى الجمعة، لكن التكفير بالحسنات المقبولة، وغالب الناس لا يكتب له من الصلاة إلا بعضها، فيكفر ذلك بقدره، والباقي يحتاج إلى تكفير، ولهذا جاء: "إن أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة من أعماله الصلاة، فإن كملت وإلا قيل: انظروا هل من تطوع. فإن كان له تطوع أكملت به الفريضة. ثم يصنع في سائر الأعمال كذلك" 5. وتكميل الفرائض بالتطوع مطلق، فإنه إذا ترك بعض الواجبات استحق العقوبة، فإذا كان له من جنسه تطوع سد مسده، فلا يعاقب.

_ 1 سورة البقرة آية: 183. 2 البخاري: الصوم (1894) , ومسلم: الصيام (1151) , والترمذي: الصوم (764) , والنسائي: الصيام (2214 ,2216 ,2217) , وأبو داود: الصوم (2363) , وابن ماجه: الصيام (1691) , وأحمد (2/465) , ومالك: الصيام (689 ,690) , والدارمي: الصوم (1771) . 3 البخاري: الصوم (1903) , والترمذي: الصوم (707) , وأبو داود: الصوم (2362) , وابن ماجه: الصيام (1689) , وأحمد (2/452 ,2/505) . 4 مسلم: الطهارة (233) , وأحمد (2/229 ,2/400) . 5 الترمذي: الصلاة (413) , والنسائي: الصلاة (466 ,467) , وأبو داود: الصلاة (864) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1425 ,1426) , وأحمد (2/290 ,2/425 ,4/103) , والدارمي: الصلاة (1355) .

وإن كان ثوابه ناقصا وله تطوع سد مسده، فيكمل به ثوابه، وهو في الدنيا يؤمر بالإعادة حيث تمكن، أو يجبره بما ينجبر به كسجدتي السهو، وكالدم فيما ترك من واجبات الحج، وكمثل صدقة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، وذلك لأنه إذا أمكنه أن يأتي بالواجب كان ذلك عليه، ولم يكن برئ من عهدته، بل هو مطلوب به كما لو لم يفعل، بخلاف ما إذا تعذر يوم الجزاء، فإنه لم يبق هناك إلا الحسنات؛ ولهذا كان الجمهور على أن من ترك واجبا من الصلاة عمدا فعليه الإعادة ما دام يمكن فعلها، وهو إعادة في الوقت، وفي حديث المسيء: "ارجع فصل فإنك لم تصل" 1، فدل على أن من ترك الواجب لم يكن ما فعل صلاة بل يؤمر بالصلاة، لأنها لم تكن بمقامة المأمور بها في قوله {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} 2. فإن قيل ففي حديث رفاعة الذي في السنن أنه جعل ما ترك يؤاخذ بتركه فقط، قيل: وكذلك نقول يثاب على ما فعل، وليس كالتارك، ويؤمر بالإعادة لدفع العقوبة. فإن قيل: فإذا لم يكن فعله مفردا طاعة لم يثب عليه، قيل: فعله وهو لم يثب عليه يعلم أنه لا يجوز، أو كان ساهيا كالذي يصلي بلا وضوء ويسهو عن القرآن فيثاب، ولا يعاقب، ولكن يؤمر بالإعادة لأنه لم يفعل ما أمر به، وكالنائم إذا استيقظ، وأما إذا أمر بالإعادة فقد علم أنه لا يجوز فعله مفردا فلا يؤمر به مفردا. فإن قيل: فإن ترك الواجب عمدا؟ قيل: هذا مستحق للعقاب، وقد يكون إثمه كإثم التارك للصلاة، والمسلم لا يصلي إلى غير قبلة، أو بغير وضوء، ومع هذا فقد يمكن إذا لم يفعله استخفافا بل مع الاعتراف بأنه مذنب

_ 1 البخاري: الأذان (757) , ومسلم: الصلاة (397) , والترمذي: الصلاة (303) , والنسائي: الافتتاح (884) , وأبو داود: الصلاة (856) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1060) والأدب (3695) , وأحمد (2/437) . 2 سورة النساء آية: 103.

أن يثاب على ما فعل، كمن ترك بعض واجبات الحج. فإن قيل: الفقهاء يقولون بطلت صلاته، قيل: الباطل في عرفهم ضد الصحيح، والصحيح عندهم ما حصل المقصود وبرئت به الذمة. فإن قيل في سؤال يؤمرون بالإعادة، ومن ترك شيئا من واجبات الإيمان لا يؤمر بالإعادة، قيل: ليس الأمر بالإعادة مطلقا، بل يؤمر بالممكن، فإن أمكنت الإعادة وإلا أمر بفعل الحسنات، كتارك الجمعة، فإنه لو أمر بالظهر فلا يسد مسدها، ولا يزول الإثم، وكذلك من ترك واجبا في الحج عمدا فإنه يؤمر به إن أمكن في الوقت، وإلا أمر بالدم، ولا يسقط عنه الإثم مطلقا، بل هذا يمكنه من البدل، وعليه أن يتوب منه توبة تغسل إثمه. ومن ذلك أن يأتي بحسنات تمحوه، وكذلك من فوت واجبا لا يمكنه استدراكه، وأما إذا أمكن استدراكه فعله بنفسه. وهكذا نقول فيمن ترك بعض واجبات الإيمان، بل كل مأمور تركه فقد ترك جزءا من إيمانه، فيستدركه بحسب الإمكان، فإن فات وقته تاب وفعل حسنات غيره، ولهذا اتفقوا على إمكان إعادة الصلاة في الوقت الخاص والمشترك، كمن يصلي الظهر بعد دخول العصر، ويؤخر العصر إلى الاصفرار فتصح صلاته، وعليه إثم التأخير، وهو من المذمومين في قوله: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ رضي الله عنهالَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} 1 وقوله: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ} 2 فإنه تأخيرها عن وقتها الذي يجب فعلها فيه، فإنه إضاعة لها، وسهو عنها بلا نزاع أعلمه، وجاءت به الآثار عن الصحابة والتابعين، وقال صلى الله عليه وسلم في

_ 1 سورة الماعون آية: 4-5. 2 سورة مريم آية: 59.

الأمراء الذين يؤخرونها: "صلوا الصلاة لوقتها واجعلوا صلاتكم معهم نافلة" 1؛ وهم إنما كانوا يؤخرون الظهر إلى وقت العصر، والعصر إلى الاصفرار، وهم مذمومون، لكن ليسوا كمن تركها، أو فوتها حتى غابت الشمس، فإن هؤلاء أمر صلى الله عليه وسلم بقتالهم ونهى عن قتال أولئك، فدل على صحة صلاتهم. وفي الصحيح عنه: "من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر " 2 مع أن في الصحيح عنه: "تلك صلاة المنافق.." إلخ.. واتفقوا على أن من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها، ويقضي على الفور عند الجمهور، والشافعي يجعله على التراخي، ومن نسي بعض واجباتها فهو كمن نسيها، كما فعل عمر وعثمان لما صلوا بالناس ثم ذكروا أنهم جنبا، فأعادوا ولم يأمروا الناس بالإعادة. وأما من فوتها عمدا عالما بوجوبها، أو فوت بعض واجباتها التي يعلم، ففيه نزاع، قيل: يصليها وهو قول الجمهور، ومالك وغيره من أهل المدينة يقولون: ما لم يكن فرضا واجبا، وهو الذي يسمونه سنة يعيد في الوقت، كمن صلى بالنجاسة، وأما الفرض كالركوع والطهارة فيعيد بعد الوقت. (127) قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله جميل يحب الجمال" 3، جوابا للسائل في بيان ما يحبه الله ويكرهه من الأفعال، فإنة قال: "لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر"، والكبر من كسب العبد، فخاف السائل أن يكون ما يتجمل به الإنسان فيكون أجمل به ممن لم يعمل مثله من الكبر، فقال: إني أحب أن يكون ثوبي حسنا، ونعلي حسنا، وحسن ثوبه ونعله حاصل بفعله، ليس كصورته فقال: "إن الله جميل يحب الجمال"، ففرق بين الكبر الذي ذمه الله وبين الجمال الذي يحبه الله، والله إذا خلق شخصا

_ 1 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (648) , والترمذي: الصلاة (176) , والنسائي: الإمامة (778) , وأبو داود: الصلاة (431) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1256) , وأحمد (5/149 ,5/159 ,5/160 ,5/168 ,5/169 ,5/171) , والدارمي: الصلاة (1227 ,1228) . 2 البخاري: مواقيت الصلاة (579) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (608) , والترمذي: الصلاة (186) , والنسائي: المواقيت (515 ,517) , وأبو داود: الصلاة (412) , وابن ماجه: الصلاة (699) , وأحمد (2/254 ,2/260 ,2/459 ,2/462 ,2/474) , ومالك: وقوت الصلاة (5) , والدارمي: الصلاة (1222) . 3 مسلم: الإيمان (91) , والترمذي: البر والصلة (1998 ,1999) , وأبو داود: اللباس (4091) , وابن ماجه: المقدمة (59) والزهد (4173) , وأحمد (1/399 ,1/412 ,1/416 ,1/451.

أعظم من شخص إما في جسمه أو قوته أو عقله لم يكن هذا مبغضا لأنه بغير اختيار العبد، وبخلاف ما إذا تكبر بذلك أو بغيره فإنه من عمله. فإنه إذا خلق جميل الصورة لم يكن ذلك من عمله يحمد عليه أو يذم، كما أنه إذا خلق أسود أو قصيرا لم يحمد على ذلك ولم يذم، ولهذا لما كان المنافقون لهم جمال في الصورة بدون الإيمان شبههم بالخشب المسندة اليابسة التي لا تثمر. وقد تكون الصورة عونا على الإيمان كالقوة والمال فيحمد إذا استعان بهما على الطاعة، ويكون فيه الجمال الذي يحبه الله، والأسود إذا فعل ما يحبه الله من الجمال كان فيه الجمال الذي يحبه الله، والمقصود بيان ما يحبه الله، ويكرهه. وأول من أنكر المحبة والتكليم الجعد بن درهم، وطوائف أقروا أنه يحب، وأنكروا أنه يحب غيره، ومحبة المؤمنين لربهم أمر موجود في الفطر والقلوب، وثبت أن التذاذهم يوم القيامة بالنظر إلى الله أعظم لذة في الجنة، والإنسان في الدنيا يجد في قلبه بذكر الله، وذكر محامده وآلائه، وعبادته من اللذة ما لا يجده بشيء آخر. وفي الحديث: "إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا، قالوا: وما هي؟ قال: مجالس الذكر"1، ومن هذا قوله: "ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة" 2، فإن هذا كان أعظم مجالس الذكر. والمنكرون للرؤية ينكرون هذه اللذة، وقد يفسرها من يتأول الرؤية بمزيد العلم على لذة العلم، كالذي في الدنيا بذكره لكن تلك أكمل، وهذا قول متصوفي الفلاسفة، والنفاة، كالفارابي وكأبي حامد وأمثاله. وأما أبو المعالي وابن عقيل ونحوهما فمنكرون أن يتلذذ أحد بالنظر إليه سبحانه، وقال أبو المعالي: يمكن أن يحصل مع النظر إليه لذة ببعض المخلوقات، وهذا ونحوه

_ 1 الترمذي: الدعوات (3510) , وأحمد (3/150) . 2 البخاري: الجمعة (1195) , ومسلم: الحج (1390) , والنسائي: المساجد (695) , وأحمد (4/39 ,4/40 ,4/41) , ومالك: النداء للصلاة (463) .

مما أنكر على ابن عقيل؛ فإنه كان فاضلا ذكيا، ولكن تتلون آراؤه في هذه المواضع، ولهذا يوجد في كلامه كثيرا مما يوافق فيه المعتزلة والجهمية وهذا من ذاك. وكذا أبو المعالي بنى هذا على أصل الجهمية الذي وافقهم فيه الباقلاني والقاضي أبو يعلى وغيرهما، أن الله لا تحب ذاته، ويزعمون أن الخلاف في ذلك مع الصوفية. والسلف كلهم متفقون على أن الله سبحانه يستحق أن يحب، وليس شيء أحق بأن يحب من الله سبحانه، بل لا يصلح أن يحب غيره إلا لأجله، وكل ما يحب المؤمن من طعام وشراب وغيره لا ينبغي له أن يفعله إلا ليستعين به على عبادته. وما من مؤمن إلا وفي قلبه حب الله، وهو يجد نفسه محتاجة إلى الله في تحصيل مطالبه، ويجد في قلبه محبة لله غير هذه، فهو محتاج إليه من جهة أنه ربه، ومن جهة أنه إلهه، قال تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 1 فلا بد أن يكون العبد عابدا لله، ولا بد أن يكود مستعينا به، ولهذا فرض الله على كل مسلم أن يقولها في صلاته، وهي بين العبد والرب. وروي عن الحسن: "أن الله أنزل مائة كتاب، وأربع كتب جمع سرها في الأربعة، وجمع سر الأربعة في القرآن، وجمع سر القرآن في الفاتحة، وجمع سر الفاتحة في هاتين الكلمتين" ولهذا ثناها الله سبحانه في كتابه في غير موضع، كقوله: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} وقد قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} 2، فأخبر أن المؤمنين أشد

_ 1 سورة الفاتحة آية: 5. 2 سورة البقرة آية: 165.

حبا لله من المشركين لآلهتهم، وأنهم يحبونهم كحب الله، ومعلوم أنهم يحبون آلهتهم محبة قوية، كما قال: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} 1. وإذا عرف أنه متصف بصفات الكمال، كان حبه أشد مع قطع النظر بلغ عن نفعه 2. (128) الله سبحانه يحب عباده المؤمنين فيريد الإحسان إليهم، وهم يحبونه فيريدون طاعته، وفي الصحيح: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده" 3 إلخ. وما من مؤمن إلا ويجد في قلبه للرسول صلى الله عليه وسلم محبة لا توجد لغيره، حتى إنه إذا سمع محبوبا له يسبه هان عليه عداوته ومهاجرته، بل قتله، وإن لم يفعل ذلك لم يكن مؤمنا، قال الله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} 4 الآية؛ بل قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ} 5 الآية، فتوعد من كان الأهل والمال أحب إليه من الله ورسوله، وجهاد في سبيله. وفي الصحيح: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان" 6 إلخ. هذه الحلاوة لا يكون من محبة العوض الذي لم يحصل بعد، بل الفاعل الذي لا يعمل إلا للكراء لا يجد حال العمل إلا التعب. فلو كان لا معنى لمحبة الله ورسوله إلا محبة ما يصير إليه لم يكن هناك حلاوة يجدها المؤمن في قلبه، وهو في دار التكليف، وهذا خلاف الشرع والفطرة. فالله فطر العباد على ملة إبراهيم الحنيفية، وأصلها محبة الله وحده، فما من

_ 1 سورة البقرة آية: 93. 2 قال في الحاشية (لعله نفع غيره) . 3 البخاري: الإيمان (15) , ومسلم: الإيمان (44) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5013 ,5014) , وابن ماجه: المقدمة (67) , وأحمد (3/177 ,3/207 ,3/275 ,3/278) , والدارمي: الرقاق (2741) . 4 سورة المجادلة آية: 22. 5 سورة التوبة آية: 24. 6 البخاري: الإيمان (16) , ومسلم: الإيمان (43) , والترمذي: الإيمان (2624) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (4987 ,4988 ,4989) , وابن ماجه: الفتن (4033) , وأحمد (3/103 ,3/113 ,3/172 ,3/174 ,3/230 ,3/248 ,3/288) .

فطرة لم تفسد إلا وهي تجد فيها محبة الله تعالى. ولكن قد تفسد الفطرة إما لكبر وغرض فاسد كفرعون، وإما بأن يشرك معه غيره في المحبة كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} 1. وأما أهل التوحيد ففي قلوبهم محبة لله لا يماثله فيها غيره، ولهذا كان الرب محمودا حمدا مطلقا على كل ما فعله، وحمدا خاصا على إحسانه إلى الحامد، فهذا حمد الشكر، والأول حمده على ما فعله كما قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} 2 الآية. والحمد ضد الذم، والحمد خبر من محاسن المحمود مقرون بمحبته، والذم خبر بمساوئ المذموم مقرون ببغضه، وهو سبحانه له الحمد في الأولى والآخرة. وأول ما نطق به آدم " الحمد لله رب العالمين " وأول ما سمع من ربه يرحمك ربك، وآخر دعوى أهل الجنة "الحمد لله رب العالمين"، وأول ما يدعى إلى الجنة الحمادون، ونبينا صاحب لواء الحمد; آدم فمن دونه تحت لوائه، وهو صاحب المقام المحمود، فلا تكون عبادة إلا بحب المعبود، ولا حمد إلا بحب المحمود، وهو سبحانه المعبود المحمود. وأول نصف الفاتحة الذي للرب حمده، وآخره عبادته، وقال صلى الله عليه وسلم: "أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير" 3، فجمع بين التوحيد، والتحميد، كما قال تعالى: {فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 4. والخُطَب لا بد فيها من الحمد والتوحيد، وكذلك

_ 1 سورة البقرة آية: 165. 2 سورة الأنعام آية: 1. 3 الترمذي: الدعوات (3585) . 4 سورة غافر آية: 65.

التشهد أوله ثناء، وآخره الشهادتان. وإذا كان العباد يحبونه ويثنون عليه فهو سبحانه أحق بحمد نفسه، والثناء على نفسه، والمحبة لنفسه، كما قال أفضل الخلق: "لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك" فلا ثناء من مثنٍ أعظم من ثناء الرب على نفسه، ولا حب لمحبوب من محبه أعظم من محبة الرب لنفسه. وكل ما يحبه من عباده فهو تابع لحبه لنفسه. فالمؤمن إذا كان يحب ما يحبه لله فهو تبع لمحبة الله، فكيف الرب تعالى فيما يحبه من مخلوقاته؟ إنما يحبه تبعا لحبه لنفسه، وخلق المخلوقات لحكمته التي يحبها، فما خلق شيئا إلا لحكمة، فهو سبحانه أحسن كل شيء خلقه، وقال: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} 1. وليس في أسمائه إلا اسم مدح، ولهذا كلها حسنى، والحسنى خلاف السوأى. والحسن محبوب ممدوح، فالمقصود بالخلق ما يحبه، ويرضاه، وذلك ممدوح، ولكن قد يكون من لوازم ما يحبه وسائله، فإن وجود الملزوم بدون اللازم ممتنع، كما يمتنع وجود العلم، والإرادة بلا حياة، ولهذا إذا ذكر باسم خاص قرن بالخير، كالضار النافع، فيجمع بين الاسمين لما في العموم والشمول الدال على وحدانيته، وأنه وحده يفعل هذه الأشياء، ولهذا لا يدعى بأحدهما وحده، بل يذكران جميعا؛ ولهذا كل نعمة منه فضل، وكل نعمة منه عدل، والإحسان بيده اليمنى والعدل بيده الأخرى، وكلتا يديه يمنى مباركة؛ والمقسطون يوم القيامة على يمينه. والمقصود أنه سبحانه إذا خلق ما يبغضه لحكمة يحبها فهو مريد لكل ما خلقه وإن كان مما خلق ببغضه إنما خلقه

_ 1 سورة النمل آية: 88.

لغيره، والفرق بين المحبة والمشيئة مذهب السلف. (129) الناس لهم في طلب العلم والدين طريقان مبتدعان وطريق شرعي: فالشرعي النظر فيما جاء به الرسول والاستدلال بأدلته، والعمل به، فلا يكفي علم بلا عمل، ولا عمل بلا علم، بل يكفي أحدهما، وهي متضمنة الأدلة العقلية، فإن الرسول بين بالبراهين العقلية ما يتوقف. وأما المبتدعان فأحدهما طريق أهل الكلام البدعي، والرأي البدعي؛ فإن فيه باطلا كثيرا. وكثير من أهله يفرطون فيما أمروا به من الأعمال، فينحرفون إلى اليهودية الباطلة. والثاني طريق أهل العبادة البدعية فينحرفون إلى النصرانية، فهم في فساد من جهة العمل ومن نقص العلم. وكثير ما يقدح أحدهما في الأخرى، والكل يدعي اتباع الرسول ولا يوافق هؤلاء، {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً} 1 الآية. ما كان الرسول على طريقة هؤلاء، ولا هؤلاء. وكثير من أهل النظر يزعمون أن العلم يحصل به بلا عبادة. وكثير من أهل العبادة يزعمون أن طريق الرياضة يحصل للعارف بلا تعلم، وكلا الفريقين غالط؛ فإن لتزكية النفس تأثيرا عظيما في حصول العلم، لكن لا بد من النظرة والتدبر. ولو تعبد الإنسان ما عسى أن يتعبد، ولم يعرف من جهة محمد ما خصه

_ 1 سورة آل عمران آية: 67.

الله به لم يعلم، وكذلك لو نظر لم يحصل له المطلوب إلا بالتعلم من جهته، ولا يحصل العلم النافع إلا مع العمل، وإلا فقد قال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ 1، وذكر آيات، وقال: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ} الآيات، وذكر آيات، وقال تعالى للرسول الذي كان أزكى الناس نفسا، وأكملهم عقلا قبل الوحي: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا} 2 الآية وقال: {وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} 3، وقال: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً} ..الآيات.? وقال: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ} 4 الآيتين، قال المفسرون: يعش عنه: لا يلتفت إليه. فكل من عشي عن القرآن قيض له شيطانا يضله، ولو تعهد، قال ابن عباس: يعمى، وقال أبو عبيدة: تظلم عينه، واختاره ابن قتيبة، والعشا: ضعف البصر، ولهذا قال: {يعش} ، وقول من قال: يعرض صحيح من جهة المعنى؛ فإن يعش مضمن يعرض، ولهذا عدي بعن، كما يقال أنت أعمى عن محاسن فلان، إذا أعرضت فلم تنظر إليها، فقوله {يعش} أي: يكون أعشى عنها، وهو دون الأعمى، فلم ينظر إليها إلا نظرا ضعيفا، وهذا حال أهل الضلال الذين لم ينتفعوا بالقرآن، فإنهم لا ينظرون فيه كنظرهم في كلام أئمتهم، لأنهم يحسبون أنه لا يحصل المقصود، ولهذا لا تجد في كلام من لم

_ 1 سورة الصف آية: 5. 2 سورة الشورى آية: 52. 3 سورة سبأ آية: 50. 4 سورة الزخرف آية: 36.

يتبع الكتاب والسنة بيان الحق لكثرة ما فيه من وساوس الشياطين، كما قال بعضهم في كتاب المحصل للرازي: محصل في أصول الدين حاصله من بعد تحصيله أصل بلا دين أصل الضلالات والشد المبين وما فيه فأكثره وحي الشياطين (130) المنحرفون في الصحابة وغيرهم صنفان: القادحون بما يغفره الله، والمادحون الذين يجعلون السعي المغفور من السعي المشكور. وعثمان تقابلت فيه الخوارج والشيعة وطائفة من بني أمية وغيرهم، لكن الغالين فيه أقل غلوا من الغالين في علي؛ وفي غالب الأمور تجد بدع هؤلاء أشنع من بدع أولئك. وعقوبة الآخرة تندفع بعشرة أسباب: الأول: التوبة. والثاني: الاستغفار الذي من جنس الدعاء. الثالث: الأعمال الصالحة؛ فإن الحسنات يذهبن السيئات، لكن الحسنات على حسب ما في قلب صاحبها من الإيمان، وربما مثل أحد ذهبا ينفقه الإنسان ولا يصير مثل مُدّ. الرابع: الدعاء للمؤمنين، مثل صلاة المسلمين على الميت ودعائهم له. والخامس: دعاء النبي صلى الله عليه وسلم واستغفاره في حياته وبعد مماته، كشفا عنه يوم القيامة. السادس: ما يهدى للميت من العمل الصالح. السابع: المصائب التي تكفر الخطايا. والصحابة أصيبوا بمصائب منها الفتن مع أنهم أقل فتنا ممن بعدهم، فإنه كلما تأخر العصر عن النبوة كثر التفرق والاختلاف، ولهذا لم يحدث في خلافة عثمان بدعة ظاهرة، فلما قتل تفرقوا، وحدثت بدعتان: بدعة الخوارج وبدعة الروافض. ثم في إمارة ابن الزبير وعبد الملك حدثت بدعة المرجئة والقدرية. ثم لما كان في آخر

عصر التابعين حدثت بدعة الجهمية وبدعة المشبهة. ولم يكن على عهد الصحابة شيء من هذا. وكذلك فتن السيف، فإنهم في ولاية معاوية متفقون يغزون العدو، فلما مات قتل الحسين، وحوصر ابن الزبير بمكة، وفتنة الحرة. ثم لما مات يزيد جرت فتنة بالشام بين مروان والضحاك بمرج راهط، ثم وثب المختار على ابن زياد فقتله، وجرت فتنة مصعب بن الزبير، وقتل المختار، وجرت فتنة. ثم ذهب عبد الملك إلى مصعب فقتله وجرت فتنة. ثم أرسل الحجاج إلى ابن الزبير فحاصره ثم قتله، وجرت فتنة. ثم تولى الحجاج العراق فخرج عليه ابن الأشعث وكانت فتنة كبيرة، وهذا كله بعد موت معاوية. ثم جرت فتنة ابن المهلب بخراسان، وقتل زيد بن علي بالكوفة في فتن أخر. ثم قام أبو مسلم وغيره بخراسان وجرت حروب وفتن يطول وصفها. ثم هلم جرا، فلم يكن ملك من ملوك المسلمين خير من معاوية. وروى الأثرم عن قتادة قال: لو أصبحتم في مثل عمل معاوية، لقال أكثركم هذا المهدي. ثم ذكر مثله عن مجاهد والأعمش. وفضائله، وعدله، وحسن سيرته كثير، وفي الصحيح أن ابن عباس قال لمن قال له: إن معاوية أوتر بركعة: "أصاب، إنه فقيه". وقال أبو الدرداء: "ما رأيت أشبه صلاة بصلاة رسول الله من إمامكم هذا، يعني معاوية". فهذا كلام ابن عباس وأبي الدرداء وهما هما. والمقصود أن الفتن التي بين الأمة والذنوب التي لها بعد الصحابة أكثر وأعظم، ومع هذا فمكفرات الذنوب موجودة. وأما الصحابة فأكثرهم ما دخل في فتنة، قال أحمد ثنا ابن علية عن أيوب عن ابن سيرين قال "هاجت الفتنة والصحابة عشرة آلاف فما حضرها منهم مائة، بل لم يبلغوا ثلاثين" وهذا من أصح إسناد

على وجه الأرض، وابن سيرين من أورع الناس في منطقه، ومراسيله من أصح المراسيل. وقال أحمد: ثنا إسماعيل ثنا منصور بن عبد الرحمن قال الشعبي: "لم يشهد الجمل من الصحابة إلا أربعة، فإن جاؤوا بخامس فأنا كذاب" وقال أحمد: ثنا أمية بن خالد قال: "قيل لشعبة: إن أبا شيبة روى عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: شهد صفين من أهل بدر سبعون. فقال: كذب والله، لقد ذاكرت الحكم في ذلك فما وجدناه شهد صفين من أهل بدر غير خزيمة". قلت: هذا النفي يدل على قلة من حضرها، وقيل حضرها سهل بن حنيف وأبو أيوب. وروى ابن بطة عن بكير عن الأشج: "أن رجالا من أهل بدر لزموا بيوتهم بعد قتل عثمان، فلم يخرجوا إلا لقبورهم". التاسع 1: ما يحصل في الآخرة من كرب يوم القيامة. العاشر 2: المقاصة في القنطرة بعد الصراط كما في الصحيحين. فهذه الأسباب لا تفوت المؤمنين كلها إلا القليل فكيف الصحابة؟ ووصى العلماء بالإمساك عما شجر بينهم، لأنا لا نسأل عن ذلك، قال عمر بن عبد العزيز: "تلك دماء طهر الله يدي منها، فلا أحب أن أخضب بها لساني". لكن إذا قدح فيهم مبتدع بالباطل، فلا بد من الذب عنهم بعلم وعدل، وقوله: زاد في الأذان يوم الجمعة وهو بدعة، فعلي ممن وافق على ذلك ولم يغيره في ولايته كما غير غيره، ولو أزاله لنقل، فإن قيل: لأن الناس لا يوافقونه، قيل: فهو دليل على أن الناس وافقوا على استحسانها، ولو قدر أن في الصحابة

_ 1 وقال في العاشر (أو يرحمه أرحم الراحمين) هامش المخطوطة. 2 وقال في العاشر (أو يرحمه أرحم الراحمين) هامش المخطوطة.

من أنكره، فهو من مسائل الاجتهاد. وقوله: هي بدعة، إن أراد أنه لم يفعل قبله، فقتال أهل القبلة كذلك. فإن قيل: بل البدعة ما فعله بغير دليل شرعي، قيل: من أين لكم أن عثمان فعله بغير ذلك؟ وعلي أحدث في خلافته العيد الثاني بالجامع، وابن عباس عرف بالبصرة في خلافة علي ولم يذكر عنه أنه أنكره، والنداء الأول اتفق عليه الناس، كما اتفقوا على ما سن عمر من جمع الناس في رمضان على إمام واحد. وأما ما سنه علي من العيد ففيه نزاع، وأحمد بن حنبل وكثير من العلماء يتبعون عليا فيما سنه، وآخرون من العلماء كمالك وغيره لا يتبعون عليا فيما سنه، وكلهم متفقون على اتباع عمر وعثمان فيما سناه. ومن هذا الباب ما يذكر مما فعله عمر من تضعيف الصدقة التي هي جزية في المعنى على نصارى بني تغلب، وأمثال ذلك. (131) لفظ الآية لا يخالف ما تواتر من السنة، فإن المسح جنس تحته نوعان: الإسالة وغيرها، تقول العرب: تمسحت للصلاة، فما كان بالإسالة فهو الغسل، وإذا خص أحد النوعين باسم الغسل فقد يخص الآخر باسم المسح. ولهذا نظائر مثل لفظ: "ذوي الأرحام" يعم العصبة وغيرهم، ثم لما كان للعصبة وذوي الفروض اسما يخصهما بقي لفظ "ذوي الأرحام" مختصا في العرف، لا يرث بفرض ولا تعصيب. وكذلك لفظ الجائز والمباح يعم ما ليس بحرام، ثم قد يختص بأحد الأقسام الخمسة. وكذلك لفظ الحيوان يتناول الإنسان ثم قد يخص بغيره. ومثل هذا كثير، ومنه لفظ المسح، وفي القرآن ما يدل على أنه لم يرد بمسح الرجلين المسح الخاص، فإنه قال {إلى الكعبين} ، ولم يقل إلى الكعاب كما قال إلى المرافق، فدل على أنه ليس في

كل رجل كعب، بل كعبان؛ فيكون أمر بالمسح إلى العظمين الناتئين، وهذا هو الغسل؛ فإن من يسمح المسح الخاص يجعل المسح لظهور القدمين. وفي ذكره الغسل في العضوين الأولين، والمسح في الآخرين تنبيه على أن هذين يجب فيهما المسح العام، فتارة يجزئ الخاص كما في العمامة والخفين، وتارة المسح الكامل. وتواتر عنه صلى الله عليه وسلم غسل الرجلين، والمسح على الخفين. وفيه تنبيه على قلة الصب في الرجل، لأن السرف يعتاد فيها وفية اختصار الكلام، فإن المعطوف والمعطوف عليه إذا كان فعلاهما من جنس واحد اكتفي بذكر أحدهما كقوله: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ} إلى قوله {وَحُورٌ عِينٌ} وهن لا يطاف لهن لكن المعنى يؤتى بهذا، وبهذا. وهم قد يحذفون ما يدل الظاهر على جنسه لا على نفسه، كقوله: {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} 1 والمعنى يعذب الظالمين، والآية فيها قراءتان، ومن قرأه بالخفض يكون المعنى فامسحوا برؤوسكم، وامسحوا أرجلكم إلى الكعبين. فقوله: مسحت الرجل ليس مرادفا لمسحت بالرجل، فإذا عدي بالباء أريد به معنى الإلصاق أي ألصقت بها شيئا، وإذا قيل مسحتها لم يقتض ذلك بل مجرد المسح، وهو لم يرد مجرد المسح باليد إجماعا، فتعين أنه أراد المسح بالماء وهو مجمل فسرته السنة. وبالجملة فالقرآن ليس فيه نفي إيجاب الغسل، بل فيه إيجاب المسح، فلو قدر أن السنة أوجبت قدرا زائدًا على القرآن لم يكن دفعا لموجب القرآن، فكيف إذا فسرته السنة والسنة تفسر القرآن، وتقضي على ما يفهمه بعضهم من ظاهر القرآن؟ وقولهم: إن الفرض مسح الرجلين

_ 1 سورة الإنسان آية: 31.

إلى الكعبين مجتمع الساق والقدم، لا يدل عليه القرآن بوجه من الوجوه، فإنه أوجب المسح بالرؤوس وبالأرجل إلى الكعبين مع إيجاب غسل الوجوه والأيدي إلى المرافق، فظاهره أن في كل يد مرفقا، وفي كل رجل كعبين، فهذا على قراءة الخفض. وأما على قراءة النصب فالعطف إنما يكون على المحل إذا كان المعنى واحدا، كقول الشاعر: معاوي إننا بشر فاسمح فلسنا بالجبال ولا الحديدا فلو كان معنى مسحت برأسي ورجلي مسحت رأسي ورجلي لأمكن كونه على المحل، والمعنى مختلف، فعلم أن قوله: {وأرجلكم} بالنصب عطف على {وأيديكم} ، فعلم أنهم لم يتمسكوا بظاهر القرآن، وهذا حال سائر أهل الأقوال الضعيفة إذا حقق الأمر عليهم لم يوجد في ظاهر القرآن ما يخالف السنة، كقول الخوارج لا يصلى في سفر الأمن إلا أربعا، ومن قال: لا يحكم بشاهد ويمين وبين أن ما دل عليه ظاهر القرآن حق، وأنه ليس بعام مخصوص، فإنه ليس هناك عموم لفظي، بل مطلق كقوله: {اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} فإنه عام في الأعيان مطلق في الأحوال، وقوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} . وقال في آية المتعة: ليس في الآية لفظ صريح يحلها، فإنه قال: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} الآية. فقوله: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ} يتناول كل مدخول بها تعطى جميع الصداق، بخلاف المطلقه قبل الدخول، وليس لتخصيص الآية بالموقت معنى بل في المؤبد أولى، فلا بد من

دلالتها عليه إما بالتخصيص وإما بالعموم، يدل عليه ذكره بعد نكاح الإماء، فدل على أنه في كل نكاح الحرائر مطلقا. فإن قيل: ففي قراءة طائفة "فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى"، قيل: أولا: ليست متواترة، فإن كان هذا نزل فهو منسوخ، ونزوله لما كانت مباحة؛ فليس في الآية ما يدل على أن الاستمتاع بها إلى أجل حلال، فإنه لم يقل: وأحل لكم أن تستمتعوا بهن إلى أجل مسمى، بل قال: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ} الآية، فتتناول ما وقع من الاستمتاع سواء كان حلالا أو وطء شبهة، ولهذا يجب المهر في النكاح الفاسد بالسنة والاتفاق. فإذا اعتقد حل المتعة وفعلها فعليه المهر، وأما الاستمتاع المحرم فلم تتناوله الآية. والقرآن إنما أباح الزوجة وملك اليمين، فإنها لو كانت زوجة لتوارثا، ولوجبت عليها عدة الوفاة، ولحقها الطلاق الثلاث؛ والمتمتع بها ليست زوجة ولا ملك فتكون حراما بنص القرآن. وقال في آية الميراث: ليس في عمومها ما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم يورث، لأن الخطاب شامل للمقصودين به، وليس فيه أنه صلى الله عليه وسلم مخاطب بها، وإن لم يعلم أن المعين مقصود لم يشمله، وكاف الجماعة في القرآن تارة تكون للنبي وللمؤمنين، وتارة تكون لهم دونه كقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ} 1 الآية، وقوله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} 2 الآية، وقوله: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} 3، فلم لا يجوز

_ 1 سورة الحجرات آية: 7. 2 سورة التوبة آية: 128. 3 سورة محمد آية: 33.

أن تكون الكاف في {يوصيكم الله في أولادكم} مثل هذا؟ فإن قيل: ما ذكر فيه ما يقتضي اختصاص الأمة، فإنه لما خاطبهم بطاعته علم أنه ليس داخلا، وقيل: وكذلك آية الفرائض، لما قال: {آباؤكم وأبناؤكم} ، وكذلك قوله: {غير مضار} ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث" 1 واتفقت الأمة عليه حتى ظن بعض الناس أن آية الوصية نسخت به. وأما السلف والجمهور فقالوا: الناسخ آية الفرائض; إن الله قدر فرائض محدودة منع من تعديلها، والآية لم يقصد بها بيان من يرث، ومن لا يرث، ولا بيان صفة الموروث والوارث، وإنما قصد بها أن المال الموروث يقسم بين الوارثين على هذا التفصيل، ولهذا لو كان الميت مسلما وهؤلاء كفارا لم يرثوا إجماعا، وكذلك بالعكس، وكذلك لو كان عبدا وهم أحرار، والعكس، وإذا علم أن في الموتى من يرثه أولاده ومن لا يرثه ولم يذكر صفة الوارث والموروث، علم أنه لم يقصد بها بيان ذلك، وهذا كقوله: "فيما سقت السماء العشر" 2 قصد به الفرق بين ما يجب فيه العشر ونصفه، فلا يحتج به على صدقة الخضروات، وقوله: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} 3 قصد به الفرق بينهما، ما يجوز بيعه وما لا يجوز، فلا يستدل به على جواز بيع كل شيء، ولو قدر العموم فقد خص منه الولد الكافر والعبد والقاتل بأدلة أضعف من خروجه صلى الله عليه وسلم منها. وبالجملة فإذا خصصت بنص أو إجماع خصت بنص آخر إجماعا، وفي تخصيص عموم القرآن إذا لم يكن مخصوصا بخبر الواحد خلاف، ومن سلك هذا

_ 1 الترمذي: الوصايا (2121) , والنسائي: الوصايا (3641) , وابن ماجه: الوصايا (2712) , وأحمد (4/238 ,4/239) , والدارمي: الوصايا (3260) . 2 البخاري: الزكاة (1483) , والترمذي: الزكاة (640) , والنسائي: الزكاة (2488) , وأبو داود: الزكاة (1596) , وابن ماجه: الزكاة (1817) . 3 سورة البقرة آية: 275.

قال: عموم مخصوص، ومن سلك الأول لم يسلم ظهور العموم. فهي عامة في الأولاد والموتى مطلقة في الموروثين، والشروط لم تتعرض لها الآية كقوله: {اقتلوا المشركين} عام في الأشخاص، مطلق في المكان والأحوال. فالخطاب المقيد لهذا المطلق خطاب مقيد مبين لحكم شرعي. وقوله: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ} 1، وقوله: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} 2 يدل على جنس الإرث لا على إرث المال، فالاستدلال به عليه جهل بوجه الدلالة. وأما آية الطهارة فليس فيها أن الله أذهب عنهم الرجس كلهم، ومن قاله فقد كذب على الله؛ وأيضا إنما فيها الأمر لهم بما يوجب طهارتهم، وذهاب الرجس عنهم، فإن الإرادة فيها كقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} الآية، وكقوله: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} 3، ومعناها الأمر والمحبة، ليست إرادة لمشيئته المستلزمة لوقوع المراد، وهذا على قول هؤلاء الشيعة القدرية أظهر، فعندهم أنه يريد ما لا يكون، وحديث الكساء يرد عليهم من وجهين: أحدهما: الدعاء بذلك، ولو وقع لأثنى على الله بوقوعه، وشكره لا يقتصر على الدعاء. والثاني: أنه قادر على إذهاب الرجس عنهم. ومما يبين تضمنها للأمر والنهي قوله في سياق الكلام: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ} الآية، فدل على أنه أمر ونهي، وأن أزواجه من أهل بيته، فالسياق في خطابهن، ويدل

_ 1 سورة النمل آية: 16. 2 سورة مريم آية: 6. 3 سورة المائدة آية: 6.

على أنه عم غيرهن لذكره بصيغة التذكير لما اجتمع المذكر والمؤنث، وهؤلاء خصوا بكونهم من أهل البيت فلهذا خصهم بالدعاء، كما أن مسجد قباء أسس على التقوى فتناول اللفظ لمسجده أولى. واختلف هل أزواجه من آله؟ هما روايتان عن أحمد: أصحهما أنهن من آله، لما في الصحيحين: "اللهم صلِّ على محمد، وعلى أزواجه، وذريته" إلى آخره، وتحريم الصدقة، من التطهير الذي أراده الله، لأنها أوساخ الناس. وقوله في آية المودة غلط، ابن عباس من كبار أهل البيت، وأعلمهم بتفسير القرآن يدل عليه أنه لم يقل إلا المودة لذوي القربى كما في آية الخمس، والرسول لا يسأل أجرا أصلا، وإنما أجره على الله، وعلى المسلمين موالاتهم، لكن بأدلة أخرى، والآية مكية قبل تزوج علي بفاطمة. وأما آية الابتهال فخصهم لأنهم أقرب إليه من غيرهم، فإنه لم يكن له ولد ذكر إذ ذاك، وبناته لم يبق منهن إلا فاطمة، فإن المباهلة سنة تسع، وهي تدل على كمال اتصالهم به لحديث الكساء، ولا يقتضي أن يكون الواحد منهم أفضل من سائر المؤمنين ولا أعلم؛ لأن ذلك بكمال الإيمان والتقوى، لا بقرب النسب. وحديث المؤاخاة موضوع وقوله: {وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ} كقوله: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} وقوله لعلي: "أنت مني وأنا منك" 1 قاله لغيره، وقوله: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً} فالقائلون بوجوب الجزاء على المخطئ يستدلون بالسنة والآثار، والقياس على القتل خطأ ويقولون: خص الله

_ 1 البخاري: الصلح (2700) , وأحمد (4/298) , والدارمي: السير (2507) .

المتعمد لذكره من الأحكام ما يختص به من الانتقام، ومثله: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} 1 أراد قصر العدد والأركان، وهو يتعلق بالسفر، والخوف؛ ولا يلزم من اختصاص المجموع بالأمرين أن لا يثبت أحدهما مع أحد الأمرين، وله نظائر. (132) قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} 2، فإن المماثل له إما أن يقول: الله أوحى إلي، أو يقول: أوحي إلي، أو ألقي إلي، ولا يسمى القائل، أو يضيفه إلى نفسه؛ فإنه إذا جعله من الشياطين لم يقبل، ومن جعله من الملائكة داخل فيما يضيف إلى الله؛ فتبين كيف جعل الأولين في حيز الذي جعله وحيا من الله، أو وحيا ولم يسم الموحي، فإنهما جنس واحد، في ادعاء جنس الأنباء، وجعل الآخر في حيز بهؤلاء الثلاثة المدعون لجنس النبوة، وقد تقدم قبلهم الكذب لها، فهذا يعم جميع أصول الكفر، وهذه هي أصول البدع التي تردها. وهذه الضلالات إنما تطرق من لم يعتصم بالكتاب والسنة كما قال الزهري: كان علماؤنا يقولون: الاعتصام بالسنة نجاة، وقال مالك: السنة سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق، وذلك أنها هي الصراط المستقيم الذي يوصل العباد إلى الله، والرسول هو الهادي الخريت. ومن أصول الإيمان: الله 3

_ 1 سورة النساء آية: 101. 2 سورة الأنعام آية: 93. 3 قال في حاشية المخطوطة هكذا في الأصل.

يثبت الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة وفي الآخرة، كما قال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً} 1 الآية، والكلمة أصل العقيدة، فالاعتقاد الكلمة التي يعتقدها المرء، وأطيب الكلم كلمة التوحيد، وأخبث الكلم كلمة الشرك، ولهذا قال سبحانه: {مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} . ولهذا كلما بحث الباحث، وعمل العامل على هذه الكلمات والعقائد الخبيثة لا يزداد إلا ضلالا وعلما ببطلانها، ولهذا قال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ} 2 الآية وهؤلاء يعيبون منازعهم، إما بعدم التمييز بين الحديث الصحيح وغيره، وإما لأن اتباع الحديث في مسائل الأصول لا يفيد ذلك، أو لا يفي به، فالأمر يرجع إلى أحد أمرين: إما ريب في الإسناد، أو أن ما فهموه لا يعلم من اللفظ لما فيه من الاحتمال. ولا ريب أن هذا عمدة كل زنديق منافق يبطل العلم الذي بعث الله به رسله، تارة يقول: لا نعلم أنهم قالوه، وتارة يقول: لا نعلم ما أرادوا بهذا القول، ولمعنى انتفاء العلم بقولهم لم نستفد علما من جهتهم، فيتمكن بعد ذلك أن يقول ما يقول آمنا أن نعارض بآثار الأنبياء، وهذا عين الطعن في النبوة. ولما بلغ الإمام أحمد عن ابن أبي قتيلة أنه قال: أصحاب الحديث قوم سوء، فقام أحمد وهو ينفض ثوبه ويقول: زنديق زنديق؛ فإنه عرف مغزاه. وعيب المنافقين للعلماء وبما جاء به الرسول قديم، من المنافقين الذين كانوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فإنهم يدعون القراء فقالوا: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء إلخ. والصحابة يعلمون ما جاء به، وفيه بيان الحجة على بطلان كفر كل كافر، وبيان

_ 1 سورة إبراهيم آية: 24. 2 سورة النور آية: 39.

ذلك بقياس صحيح أحق وأحسن بيانا من مقاييس أولئك الكفار، كما قال: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} 1. أخبر سبحانه أن الكفار لا يأتون بقياس عقل لباطلهم إلا جاء الله بالحق، وجاء من البيان والدليل وضرب المثل ما هو أحسن كشفا للحق من قياسهم. وجميع ما يقولونه مندرج في علم الصحابة، والآية ذكرها الله بعد قوله: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} 2 فبين أن من هجر القرآن فهو من أعداء الرسل، وأن هذا الأمر لا بد منه إلى قوله {وَيَوْمَ يَعضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ} إلى قوله {خذولا} . والله أرسل محمدا صلى الله عليه وسلم إلى العالمين، وضرب الأمثال فيما أرسله به لجميعهم، كما قال: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} 3 فأخبر أنه ضربها لجميعهم، وإلا فالمخاطبين بحسب الحاجات كالسلاح في القتال، فإذا كان العدو في تحصنهم على غير ما كانت عليه فارس والروم كان جهادهم على ما توجبه الشريعة التي مبناها على تحري ما هو لله أطوع وللعبد أنفع، كرمي أهل الطائف بالمنجنيق، وكاتخاذ الخندق. وما أمر به الرسول فهو من الدين الذي شرعه الله، وإن تنازع أولو الأمر في بعضه، وسواء فعل على عهده صلى الله عليه وسلم أو لا، فما فعل بعده بأمره من قتال المرتدين والخوارج المارقين، وفارس والروم

_ 1 سورة الفرقان آية: 33. 2 سورة الفرقان آية: 30-31. 3 سورة الزمر آية: 27.

والترك وإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب، وغير ذلك هو من سنته، ولهذا قال عمر بن عبد العزيز: "سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمور بعده سننا، الأخذ بها تصديق لكتاب الله". وكما أن الله بين في كتابه مخاطبة أهل الكتاب، وأقام عليهم الحجة برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وما حرفوا وبدلوا، وصدق بما جاءت به الرسل حتى إذا سمع ذلك العالم منهم المنصف وجده من أبين الحجة والمحاجة؛ ولا تنفع إلا مع العدل، وإلا فالظالم يجحد الحق الذي يعلمه، ويمتنع عن النظر والاستماع، وهو معرض كما أن الإحساس الظاهر كذلك. وطالب العلم يجتهد في طلبه من طرقه، ولهذا سمي مجتهدا، ولهذا قال تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} 1 فالظالم ليس علينا مجادلته بالتي هي أحسن، فإن حرفوا الكلم أمكن معرفة ذلك، كما قال تعالى: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ} الآية، وإذا ذكروا حجة عقلية فهمت أيضا، وبين ما في القرآن من ردها كالنسخ قال الله تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 2. وعلى بعض ما في الآية اعتماد جميع المتكلمين حيث قالوا: التكليف إما تابع للمشيئة أو للمصلحة، وعلى التقديرين فهو جائز. ثم بين سبحانه وقوعه بتحريم الحلال في التوراة، وقد أحلها لإسرائيل، وأنه تحليل بخطاب ليس لمجرد البقاء على الأصل حتى يكون نسخا كما ادعاه بعضهم. والكلام الذي يخالف القرآن

_ 1 سورة العنكبوت آية: 46. 2 سورة البقرة آية: 142.

أو يوافقه من كلام أهل الكتاب والصابئين والمشركين، فالقرآن فيه تفصيل كل شيء، كما قال تعالى: {وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ} 1، ومعلوم أن الأمة مأمورة بتبليغ القرآن لفظه ومعناه، وتبليغه لغير العرب بالترجمة. وإذا تدبر المؤمن العليم سائر مقالات الفلاسفة وغيرهم من الأمم وجد القرآن والسنة كاشفا لأحوالهم، مبينا لحقهم، مميزا بين حق ذلك وباطله، والصحابة أعلم الخلق به، وهم أقوم الخلق بجهاد الكفار والمنافقين، كما قال ابن مسعود: "من كان مستنا فليستن بمن مات؛ فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة. أولئك أصحاب محمد كانوا أبر هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، قوما اختارهم الله لصحبة نبيه، ولإقامة دينه، فاعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بهديهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم". فأخبر عنهم بكمال بر القلوب مع كمال عمق العلم، وهذا قليل في المتأخرين كما يقال: من العجائب فقيه صوفي، وعالم زاهد، فإن أهل بر القلوب يقترن بهم كثير لعدم المعرفة التي توجب النهي عن الشر، والجهاد، 2 وأهل التعمق في العلم قد يذكرون من معرفة الشرور والشبهات ما يوقعهم في الغي والضلال. وأكثر المتعمقين في العلم من المتأخرين يقترن به التكلف المذموم من المتكلمين والمتعبدين، وهو القول والعمل بلا علم، وطلب ما لا يدرك، خلافا لما عليه الصحابة، وهذا منٌّ من الله على هذه الأمة، كما في أثر المسيح " أهب لهم من علمي وحلمي"، وهذا من خواص متابعة الرسول، فمن كان له أتبع كان فيه أكمل،

_ 1 سورة يوسف آية: 111. 2 لعلها الفساد.

كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ} 1 إلى آخر السورة. ثم ذكر حديثي أبي موسى وابن عمر، فدل الكتاب والسنة على أن الله يؤتي أتباع الرسول من فضله ما لم يؤته لأهل الكتابين، فكيف بغيرهم؟ والمقصود ذكر الطريقة العلمية والعملية، فمتى كان غير الرسول قادرا على علم ذلك أو بيانه أو محبة نفاذه فهو أعلم بذلك، وأحرص على الهدى، وأقدر منه على بيانه. (133) اعلم أن الله سبحانه علم آدم الأسماء كلها، وميز كل مسمى باسم يدل على ما يفصله من الاسم المشترك، وما يخصه دون ما سواه، ويبين به ما يرتسم معناه في النفس. ومعرفة حدود الأسماء واجبة، لأن بها قيام مصلحة الآدميين في المنطق الذي جعله الله رحمة لهم، لا سيما حدود ما أنزل الله من الأسماء كالخمر والربا، فهذه الحدود هي المميزة بين ما يدخل في المسمى وما يدل عليه من الصفات، وبين ما ليس كذلك. ولهذا ذم الله من سمى الأشياء بأسماء ما أنزل الله بها من سلطان، كآلهة الأوثان. فالأسماء المنطقية سمعية، أما نفس تصور معانيها في الباطن ففطري، يُعرف بالحس الباطن والظاهر، وبإدراك الحس وشهوده يبصر الإنسان الأشياء بباطنه وظاهره، وبسمعه يعلم أسماءها، وبفؤاده يعقل الصفات المشتركة والمختصة. والله أخرجنا من بطون أمهاتنا لا نعلم شيئا، وجعل لنا السمع والأبصار والأفئدة، فأما الحدود المتكلفة فليس فيها فائدة لا في العقل، ولا في الحس، ولا في السمع، إلا ما هو كالأسماء مع التطويل أو ما هو كالتمييز بسائر الصفات. والله سبحانه علم الإنسان البيان كما قال تعالى:

_ 1 سورة الحديد آية: 28.

{الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْأِنْسَان َعَلَّمَهُ الْبَيَانَ} 1، وقال: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} 2، وقال: {عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} 3. والبيان بيان القلب واللسان، كما أن العمى والبكم يكون بالقلب واللسان، كما قال تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} ، وقال صلى الله عليه وسلم: "فإنما شفاء العي السؤال " 4. وفي الأثر: "العي عن القلب لا عن اللسان" وقال: "شر العمى عمى القلب". وكان ابن مسعود يقول: "إنكم في زمان كثير فقهاؤه قليل خطباؤه، وسيأتي عليكم زمان قليل فقهاؤه كثير خطباؤه". وأما بيان اللسان وخطابه فيحمد منه البلاغ ويذم منه (التشدق والتفيهق) 5 وتبين الأشياء بالقلب ضد اشتباهها عليه، كقوله: "الحلال بين والحرام بين، وبينهما مشتبهات"، وقرئ {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} 6 بالرفع والنصب أي: تستبين أنت سبيلهم، فالأشياء لتستبين الأشياء، وهم يقولون بيّن الشيء، وبينته وتبين وتبينته، واستبان، واستبنته، كل هذا يستعمل لازما ومتعديا، فقوله: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} 7 هنا متعد، وقوله: {فَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} فهنا لازم، فالبيان بمعنى تبيين الشيء، وبمعنى بينت الشيء، أي: أوضحته، وهذا هو الغالب، كقوله: "إن من البيان لسحرا" 8

_ 1 سورة الرحمن آية: 1-2-3-4. 2 سورة البقرة آية: 31. 3 سورة العلق آية: 5. 4 أبو داود: الطهارة (336) . 5 قال في الحاشية: في الأصل بياض لعله "التشدق والتفيهق". 6 سورة الأنعام آية: 55. 7 سورة الحجرات آية: 6. 8 البخاري: النكاح (5146) , والترمذي: البر والصلة (2028) , وأبو داود: الأدب (5007) , وأحمد (2/16 ,2/59 ,2/62 ,2/94) , ومالك: الجامع (1850) .

أو المقصود ببيان الكلام حصول البيان للقلب، والذي لا يستبين له فهو كما قال: {وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً} 1، وقال: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} 2، وقوله: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} 3. فأما الأشياء المعلومة التي ليس في زيادة وصفها إلا كثرة كلام وتفيهق وتشدق، والتكلم والإفصاح بما يستقبح ذكره، فهذا مما ينهى عنه، كقوله: "إن الله يبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه كما تخلل البقرة بلسانها " 4. وفي الحديث: "الحياء والعي شعبتان من الإيمان، والبذاء والبيان شعبتان من النفاق" 5. وأما متى أدخل أحدهما الحد ما أخرجه الآخر أو بالعكس، فهذا علم يستفاد به حد الاسم، ومعرفة عمومه وخصوصه، مثل الكلام في حد الخمر هل هو عصير العنب المشتد أو كل مسكر، وحد الغيبة، ونحو ذلك. وقوله: "الكبر بطر الحق"، وغمط الناس، فقوله: "كل مسكر خمر، وكل خمر حرام" لم يذكره للاستدلال على منازع بهذا التركيب، بل أراد أن يبين لهم أن جميع المسكرات داخلة في مسمى الخمر، فهو كقوله في حديث أبي موسى، لما سئل عن أنواع فقال: "كل مسكر حرام" 6، فأراد أن يبين لهم بالكلمة الجامعة، وهي القضية الكلية أن كل مسكر خمر، ثم جاء بما كانوا يعلمونه من أن كل خمر حرام ليثبت تحريم المسكر في قلوبهم، كما صرح به في قوله: "كل مسكر حرام"، ولو اقتصر على قوله: "كل مسكر حرام" لتأوله متأول على أنه أراد القدح الآخر كما تأوله بعضهم، ولهذا قال أحمد: قوله: "كل مسكر خمر" أبلغ؛ فإنهم لا يسمون القدح

_ 1 سورة فصلت آية: 44. 2 سورة النساء آية: 176. 3 سورة الأنعام آية: 57. 4 الترمذي: الأدب (2853) , وأبو داود: الأدب (5005) . 5 الترمذي: البر والصلة (2027) , وأحمد (5/269) . 6 البخاري: المغازي (4343) , ومسلم: الأشربة (1733) , والنسائي: الأشربة (5595 ,5597 ,5602 ,5603 ,5604) , وأبو داود: الأشربة (3684) , وابن ماجه: الأشربة (3391) , وأحمد (4/410 ,4/415 ,4/417) , والدارمي: الأشربة (2098) .

الآخر خمرا، ولو قال: "كل مسكر خمر" لتأوله بعضهم على أنه يشبه الخمر في التحريم فلما قال: "وكل خمر حرام" علم أنه أراد به دخوله في اسم الخمر التي حرمها الله. (134) وقال في كلامه على علم المنطق وعلم الكلام لما ذكر أن في كلامهم شيئا من الحق: وكذلك أعمالهم مع أن ما يأمرون به من العلوم والأعمال والأخلاق لا تكفي في النجاة من عذاب الله، فضلا عن أن تكون محصلة لنعيم الآخرة. ثم ذكر الآيات منها قوله: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ} 1 الآيات، وكذلك قوله: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} 2 إلى آخر السورة، فأخبر هنا بمثل ما في الأعراف؛ فإن هؤلاء المعرضين عما جاءت به الرسل، لما رأوا بأس الله وحده تركوا الشرك. وكذلك أخبر عن فرعون وهو كافر بالتوحيد والرسالة، وقال: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} 3 الآيات، وهذا في القرآن في مواضع يبين أن الرسل أمروا بالتوحيد بعبادته وحده لا شريك له، ونهوا عن عبادة شيء سواه أو اتخاذه إلها، ويخبر أن أهل السعادة أهل التوحيد، وأن المشركين أهل الشقاء، وبين أن الذين لم يؤمنوا بالرسالة مشركون؛ فعلم أن التوحيد والإيمان بالرسالة متلازمان، وكذلك الإيمان باليوم الآخر، فالثلاثة متلازمة، ولهذا يجمع بينهم في مثل قوله: {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ

_ 1 سورة الأعراف آية: 37. 2 سورة غافر آية: 83. 3 سورة الأعراف آية: 172.

الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} 1، وأخبر عن جميع الأشقياء أن الرسل أنذرتهم باليوم الآخر، وأخبر أن من آمن بالرسل، وأصلح من الأولين والآخرين فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، ومثل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا} الآية، فذكر أن المؤمنين من هؤلاء هم أهل النجاة والسعادة، وكذلك الإيمان بالرسل كلهم متلازم، وذلك: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} الآية. فهذه الأصول الثلاثة التوحيد والإيمان بالرسل واليوم الآخر متلازمة، وقال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ} 2 الآيات، أخبر أن جميع الأنبياء لهم أعداء يوحي بعضهم إلى بعض القول المزخرف، وهو المزين بغروره به، والغرور التلبيس، وهذا شأن كل كلام، وكل عمل يخالف ما جاءت به الرسل من أمر المتفلسفة والمتكلمين وغيرهم من الأولين والآخرين. ثم قال: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ} 3، فأخبر أن كلام أعداء الرسل يصغي إليه الذين لا يؤمنون بالآخرة؛ فعلم أن مخالفة الرسل وترك الإيمان بالآخرة متلازمان؛ فمن لم يؤمن بها صغى إلى زخرفة أعدائهم فخالف الرسل، كما هو موجود في أصناف الكفار والمنافقين في هذه الأمور، ولهذا قال: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ} الآيتين. أخبر أنهم يقولون إذا جاء تأويله:

_ 1 سورة الأنعام آية: 150. 2 سورة الأنعام آية: 112. 3 سورة الأنعام آية: 113.

جاءت رسل ربنا بالحق، وهذا كقوله: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} 1 الآيات. أخبر أن الذين تركوا اتباع آياته يصيبهم ذلك، فتبين أن أصل السعادة والنجاة من العذاب هو التوحيد، واتباع الرسل، والإيمان بالآخرة، والعمل الصالح، وهذه الأمور ليست في حكمتهم، ليس فيها التوحيد، بل كل شرك في العالم إنما حدث برأي جنسهم إذ بينوا ما في الأرواح والأجسام من القوى والطبائع، وأن صناعة الطلاسم والشرك يورث منافع ويدفع مضار، فهم الآمرون بالشرك والفاعلون له، ومن لم يأمر منهم به لم ينه عنه، بل يقر هؤلاء وهؤلاء، وإن رجح الموحدين ترجيحا ما، فقد يرجح غيره من المشركين، وقد يعرض عن الأمرين جميعا. فتدبر هذا فإنه نافع جدا. وقد رأيت من مصنفاتهم في عبادة الملائكة والأنفس المفارقة أنفس الأنبياء وغيرهم، ما هو أصل الشرك. وإن ادعوا التوحيد، فهو بالقول لا بالعمل. التوحيد لا بد فيه من الإخلاص في العبادة، وهذا شيء لا يعرفونه. وتوحيدهم الذي يدعونه هو التعطيل، وفيه من الكفر والضلال ما هو من أعظم أسباب الإشراك؛ فلو كانوا موحدين بالكلام فهو لا يكفي بالنجاة والسعادة، بل لا بد أن يعبد الله وحده، ويتخذه إلها دون ما سواه، وهو معنى قول لا إله إلا الله، فكيف وهم في الكلام معطلون. وأما الإيمان بالرسل فالذين دخلوا في الملل منهم آمنوا ببعض صفات الرسل، وكفروا ببعض، وأما اليوم الآخر فأحسنهم حالا من يقر بمعاد الأرواح، وقد أضلوا بشبهاتهم من المنتسبين إلى الملل ما لا يحيط به إلا الله. وإذا كان ما تحصل به السعادة والنجاة ليس عندهم كان ما يأمرون

_ 1 سورة طه آية: 124.

به من الأخلاق والأعمال والسياسات هو كما قال الله تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} 1. والقوم وإن كان لهم ذكاء وفطنة، وفيهم زهد وأخلاق، فهذا لا يوجب السعادة والنجاة إلا بالأصول المتقدمة، وإنما قوة الذكاء بمنْزلة قوة البدن والإرادة، فالذي يؤتى فضائل علمية وإرادية بدون تلك الأصول بمنْزلة من يعطى قوة في بدنه بدونها، وأهل الرأي والعلم بمنْزلة أهل الملك والإمارة، وكل منهم لا ينفعه ذلك إلا بالأصول المتقدمة؛ فمن لم يأت بها خلد في العذاب إذا قامت عليه الحجة بالرسل، ولما كان كل واحد من أهل الملك والعلم قد يعارضون الرسل وقد يتابعونهم، ذكرهم الله في كتابه في غير موضع، فذكر فرعون، والذي حاج إبراهيم في ربه، والملأ من قوم نوح وغيرهم، وذكر قول علمائهم كقوله: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} 2 الآية، وقال: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ} 3 الآيات، إلى قوله: {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ} الآيات، ولهذا قال ابن عباس: "كل سلطان في القرآن فهو الحجة" وذكر في (حم غافر) من حال مخالفي الرسل من الملوك والعلماء واستكبارهم ما فيه عبرة، مثل قوله {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ} 4 الآية، وقوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ} 5 وذكر في سورة الأنعام والأعراف وعامة السور

_ 1 سورة الروم آية: 7. 2 سورة غافر آية: 83. 3 سورة غافر آية: 4. 4 سورة غافر آية: 56. 5 سورة غافر آية: 69.

المكية، وطائفة من السور المدنية حالهم، فإنها تشمل على خطابهم، وضرب الأمثال والمقاييس لهم، وذكر قصصهم، وقصص الأنبياء وأتباعهم معهم، ولهذا قال تعالى: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ} 1 الآية، فأخبر بما مكنوا فيه من أصناف الإدراكات والحركات، وأن ذلك لم يغن عنهم حيث جحدوا بالرسالة، ولهذا حدثني ابن الخضيري عن أبيه شيخ الحنفية في زمنه قال: كان فقهاء بخارى يقولون في ابن سينا: كان كافرا ذكيا، وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} 2 الآية؛ والقوة تعم قوة الإدراك النظرية، وقوة الحركة العملية، وفي الآية الأخرى {كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ} 3، فأخبر بفضلهم في الكم والكيف، وقال عن أتباع هؤلاء الأئمة من أهل الملك والعلم المخالفين للرسل: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ} الآيات وقال: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ} الآيات. ومثل هذا في القرآن كثير. وذكر ما في المنتسبين إلى أتباع الرسل من العلماء، والعباد، والملوك، من النفاق والضلال في مثل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ} 4 الآيات، وقوله: {وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} يستعمل لازما ومتعديا، والوصفان يجتمعان فيهم، وقوله: {أَلَمْ تَرَ

_ 1 سورة الأحقاف آية: 26. 2 سورة غافر آية: 21. 3 سورة الروم آية: 9. 4 سورة التوبة آية: 34.

إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} 1 الآية. وفي الحديث: "مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة" 2 إلخ، فتبين أن في من يقرأ القرآن مؤمنين ومنافقين. وإذا كانت سعادة الأولين والآخرين هي باتباع المرسلين، فمن المعلوم أن أحق الناس بذلك أعلمهم بآثارهم، وأتبعهم لها، وهم الطائفة الناجية من كل أمة، وهم أهل السنة والحديث من هذه الأمة. وأهل الكلام أكثر الناس شكا، وأضعفهم علما ويقينا؛ وهذا أمر يشهدونه من أنفسهم ويشهده الناس منهم، وشواهده أعظم من أن تذكر هنا. وقيل إن الأشعري مع كونه أقربهم إلى السنة والحديث وأعلمهم به صنف في آخر عمره كتابا في تكافؤ الأدلة يعني أدلة أهل الكلام، قال أبو حامد: أكثر الناس شكا عند الموت أصحاب الكلام، والرازي من أعظم الناس في باب الحيرة لكن هو مسرف فيه، بحيث أنه يتهم في التشكيك، والشك في الباطل خير من الثبات على اعتقاده، لكن قل أن ثبت أحد على باطل محض، بل لا بد فيهم من نوع من الحق. وتوجد الردة فيهم كثيرا كالنفاق، وهذا إذا كان في المقالات الخفية فقد يقال: لم تقم عليه الحجة التي يكفر صاحبها، لكن يقع ذلك في طوائف منهم في أمور يعلم العامة والخاصة، بل اليهود والنصارى يعلمون أن محمدا صلى الله عليه وسلم بعث بها وكفر من خالفها، مثل أمره بعبادة الله وحده لا شريك له، ونهيه عن عبادة غيره، فإن هذا أظهر شعائر الإسلام، ومثل أمره بالصلوات الخمس وتعظيم شأنها، ومثل معاداة المشركين وأهل الكتاب، ومثل تحريم الفواحش والميسر، ونحو ذلك؛ ثم تجد كثيرا من

_ 1 سورة النساء آية: 51. 2 البخاري: الأطعمة (5427) , ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (797) , والترمذي: الأمثال (2865) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5038) , وأبو داود: الأدب (4829) , وابن ماجه: المقدمة (214) , وأحمد (4/397 ,4/403 ,4/408) , والدارمي: فضائل القرآن (3363) .

رؤوسهم وقعوا في هذه الأنواع فكانوا مرتدين، وإن كانوا قد يتوبون كالأقرع وعيينة ونحوهما، فإن فيهم من يتهم بالنفاق ومرض القلب، هم لما فيه من العلم يشبهون ابن أبي سرح لما ارتد ثم عاد إلى الإسلام. ومن صنف في المشركين، أحسن أحواله أن يكون عاد إلى الإسلام، وكثير منهم هكذا تجده تارة يرتد ردة صريحة، وتارة يعود مع مرض في قلبه ونفاق؛ والحكايات عنهم بذلك مشهورة، وقد ذكر ابن قتيبة منها طرفا. وصنف الرازي كتابه في عبادة الكواكب والأصنام، وأقام الأدلة على حسنه ورغب فيه، وهذه ردة عن الإسلام إجماعا. (135) العلم يحصل في النفس كما يحصل سائر الإدراكات والحركات بما يجعله الله من الأسباب وعاء وعامة ذلك من الملائكة، فإن الله ينزل بها على قلوب عباده من العلم والقوة وغير ذلك ما يشاء، كما قال صلى الله عليه وسلم لحسان: "اللهم أيده بروح القدس" 1، وقال تعالى: {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} . وذكر صلى الله عليه وسلم فيمن لم يطلب القضاء بعث الله له ملكا يسدده. وقال ابن مسعود: "كنا نتحدث أن السكينة تنطق على لسان عمر"، وقال: "إن للملك لمة وللشيطان لمة. فلمة الملك إيعاد بالخير وتصديق بالحق، ولمة الشيطان إيعاد بالشر وتكذيب بالحق" هذا محفوظ عنه، وربما رفعه بعضهم، وهو جامع لأصول ما يكون من العبد من علم وعمل، وذلك أن العبد له قوة الشعور وقوة الإرادة والحركة، وإحداهما أصل الثانية مستلزمة لها، والثانية مستلزمة للأولى ومكملة لها، فبالأولى

_ 1 البخاري: الصلاة (453) , ومسلم: فضائل الصحابة (2485) , والنسائي: المساجد (716) , وأحمد (5/222) .

يصدق بالحق ويكذب بالباطل، وبالثانية يحب النافع ويبغض الضار. والله سبحانه خلق عباده على الفطرة التي فيها معرفة الحق والتصديق به، ومعرفة الباطل والتكذيب به، ومعرفة النافع والمحبة له، ومعرفة الضار والبغض له؛ فما كان حقا موجودا صدقت به الفطرة، وما كان حقا نافعا أحبته واطمأنت إليه، وذلك هو المعروف، وما كان باطلا معدوما كذبت به الفطرة وأبغضته وأنكرته، قال تعالى: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} 1. والإنسان حارث همام، فهو دائم يهم ويعمل، لكن لا يعمل إلا لما يرجو به منفعة أو دفع مضرة؛ لكن قد يكون ذلك الرجاء مبنيا على اعتقاد باطل إما في نفس المقصود فلا يكون نافعا ولا ضارا، وإما في الوسيلة فلا يكون طريقا إليه، هذا جهل؛ وقد يعلم أن الشيء يضره ويفعله، ويعلم أنه ينفعه ويتركه، لأن ذلك العلم عارضه ما في نفسه من طلب لذة أخرى، أو دفع ألم آخر، فيكون جاهلا ظالما حيث قدم هذا على ذلك، ولهذا قال أبو العالية: "سألت أصحاب محمد عن قوله: {يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} فقالوا: كل من عصى الله فهو جاهل"، فإذا كان الإنسان لا يتحرك إلا لرجاء وإن كان راهبا لم يسع إلا بما يزيل ذلك، والرجاء لا يكون إلا بما يلقى في نفسه من الإيعاد للخير الذي هو طلب المحبوب وفوات المكروه. فكل بني آدم له اعتقاد، فيه تصديق بشيء، وتكذيب بشيء، وله قصد وإرادة لما يرجوه مما هو عنده محبوب ممكن الوصول إليه، والله خالق العبد ليصدق بالحق، ويقصد الخير فيرجوه بعمله، فإذا كذب بالحق، ولم يرج

_ 1 سورة الأعراف آية: 157.

الخير فيقصده ويعمل له كان خاسرا بترك التصديق بالحق وطلب الخير، فكيف إذا كذب بالحق وكره إرادة الخير؟ فكيف إذا صدق بالباطل وأراد الشر؟ فذكر ابن مسعود أن لقلب ابن آدم لمة من الملك ولمة من الشيطان، فلمة الملك تصديق بالحق، وهو ما كان من جنس الاعتقاد الصحيح، وإيعاد بالخير، وهو ما كان من جنس إرادة الخير. ولمة الشيطان من جنس الاعتقاد الفاسد، وهو التكذيب بالحق وإيعاد بالشر، وهو ما كان من جنس إرادة الشر وظن وجوده، إما مع رجائه إن كان مع هوى النفس، وإما مع خوفه إن كان غير محبوب لها؛ وكل من الرجاء والخوف مستلزم للآخر. فمبدأ العلم والحق والإرادة الصالحة من لمة الملك، ومبدأ الاعتقاد الباطل والإرادة الفاسدة من لمة الشيطان، قال تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} ، وقال: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} أي يخوفكم أولياءه، وقال: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} الآية. والشيطان وسواس خناس، إذا ذكر العبد ربه خنس، وإذا غفل عن ذكره وسوس، فلهذا كان ذكر الله سببا ومبدأ لنُزول العلم والحق والإرادة الصالحة في القلب، وكانت الغفلة عن ذكر الله سببا ومبدأ لنُزول الاعتقاد الباطل والإرادة الفاسدة في القلب. ومِنْ ذكر الله تعالى تلاوة كتابه، وفهمه، ومذاكرة العلم كما قال معاذ: "ومذاكرته تسبيح". وتنازع أهل الكلام في حصول العلم في القلب عقيب النظر في الدليل، وقال بعضهم:

ذلك على سبيل التولد، وقال آخرون: بل يفعله الله. والنظر إما متضمن للعلم، وإما موجب له، وهذا صحيح بناء على أن الله معلم كل علم، لكنه مجمل ليس فيه بيان السبب الخاص المضاف إلى الملائكة في الجملة؛ فإن الله سبحانه يدبر أمر السماء والأرض بملائكته التي هي السفراء في أمره، ولفظ الملائكة يدل على ذلك، وبذلك أخبرت الأنبياء، وشهد الكتاب والسنة من ذلك بما لا يتسع له هذا الموضع، ولكن يعلم أن المبدأ في شعور النفس وحركاتها هم الملائكة والشياطين. فالملك يلقي التصديق بالحق والأمر بالخير، والشيطان يلقي التكذيب بالحق، والأمر بالشر. والتصديق والتكذيب مقرون بالنظر، كما أن الأمر والنهي مقرون بالإرادة، فإذا كان النظر في دليل هادٍ كالقرآن وسلم من معارضات الشياطين تضمن العلم والهدى؛ ولهذا أمر العبد بالاستعاذة عند القراءة. وإذا كان النظر في دليل مضل، والناظر يعتقد صحته بأن يكون مقدمتاه أو إحداهما متضمنة للباطل أو يكونان صحيحين لكن التأليف غير مستقيم، صار في القلب به اعتقاد فاسد، وهو غالب الشبهات المخالفة للكتاب والسنة. وإذا كان الناظر لا بد له من متصور فيه، والنظر في نفس المتصور المطلوب حكمه لا يفيد علما، بل ربما حصل له بسببه أنواع من الشبهات يحسبها أدلة لفرط تعطش القلب إلى معرفة حكم تلك المسألة. وأما النظر المفيد للعلم هو ما كان في دليل هادٍ، والدليل الهادي على العموم هو كتاب الله وسنة نبيه. فالذي جاءت به الشريعة من نوعي النظر هو ما ينفع، وهو بذكر الله وما نزل من الحق؛ فإذا أراد النظر في الأدلة المطلقة من غير تعيين مطلوب

ففي كتاب الله وتدبره، كما قال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ} الآيتين، وقال: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا} 1 الآية، وأما النظر في مسألة معينة لطلب حكمها، والعبد لا يعرف ما يدله عليه، فهذا النظر لا يفيد، بل قد يقع له تصديقات يحسبها حقا، وهي من إلقاء الشيطان، وقد يقع له تصديقات من إلقاء الملك. وكذلك إذا كان النظر في دليل هادٍ وهو القرآن، فقد يفهم مقصود الدليل فيهتدي، وقد لا يفهمه أو يحرفه عن مواضعه فيضل به، ويكون ذلك من إلقاء الشيطان، كما قال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً} 2، وقال {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً} ، وقال: {فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ} ، وقال: {وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً} 3. فالناظر في الدليل كالمترائي للهلال، قد يراه، وقد لا يراه لعشى في بصره، وكذلك عمى القلب، فأمر الله بما ينزل على قلبه الأسباب الهادية، ويصرف عنه الأسباب المعوقة وهو ذكر الله، وذكر الله يعطي الإيمان، وهو أصل الإيمان، والله سبحانه رب كل شيء ومليكه، وهو معلم كل علم وواهبه. فكما أن نفسه أصل لكل موجود فذكره والعلم به

_ 1 سورة الشورى آية: 52. 2 سورة الإسراء آية: 82. 3 سورة فصلت آية: 44.

أصل لكل علم وذكر في القلب. والقرآن يعطي العلم المفصل فيزيد الإيمان، كما قال جندب: "تعلمنا الإيمان، ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيمانا". ولهذا كان أول ما نزل: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} ، فأمره أن يقرأ باسمه فتضمن الأمر بذكر الله، وبما أنزل من الحق، وقال: {بِاسْمِ رَبِّكَ} إلى قوله {مَا لَمْ يَعْلَمْ} : ذكر سبحانه أنه خلق أكرم الأعيان الموجودة عموما وخصوصا، وهو الإنسان، وأنه المعلم للعلم عموما وخصوصا للإنسان، وذكر التعليم بالقلم لأنه آخر المراتب يستلزم تعلم القول والعلم الذي في القلب. وحقيقة الأمر أن العبد مفتقر إلى ما يسأله من الهدى، فبذكر الله والافتقار إليه يهديه الله، كما قال: "يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته" 1، وكما في حديث الاستفتاح: "اللهم رب جبرائيل ... "إلخ. ولا بد أن يكون عند الناظر من العلم الثابت ما لا يحتاج إلى نظر، فيكون أصلا للتفكر الذي يطلب به معلوم آخر، ولهذا كان الذكر متعلقا بالله والتفكر في مخلوقاته، وفي الأثر: "تفكروا في المخلوقات، ولا تفكروا في الخالق"، لأن التفكير في الأمثال والمقاييس، وذلك يكون في الأمور المتشابهة، وهي المخلوقات، وأما الخالق جل جلاله وسبحانه وتعالى فليس له شبيه، فالتفكير الذي مبناه على القياس ممتنع فيه، وإنما هو معلوم بالفطرة، فيذكره العبد، وبذلك يحصل من العلم به أمور عظيمة، أعني العلم به نفسه؛ ولهذا كان كثير من أرباب العبادة يأمرون بملازمة الذكر، ويجعلونه باب الوصول إلى الحق، وهذا حسن إذا ضموا إليه اتباع القرآن والسنة واتباع ذلك. وكثير من أرباب النظر يأمرون به، ويجعلونه الطريق إلى معرفة الحق. والنظر صحيح إذا كان في دليل حق، فكل من الطريقين فيها حق، لكن يحتاج إلى الحق التي في الأخرى، ويجب

_ 1 مسلم: البر والصلة والآداب (2577) , والترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2495) , وابن ماجه: الزهد (4257) , وأحمد (5/154 ,5/160 ,5/177) .

تنْزيه كل منهما عما دخل فيهما من الباطل، وذلك باتباع الرسل. وقد بسطنا الكلام في هذا في غير هذا الموضع، وبينا ما جاءت به الشريعة من الطريقة الكاملة الجامعة، والمقصود هنا أن الإنسان يحس بأنه عالم كما يحس الطعام والشراب، كذلك العلم طعام القلب وشرابه كما في الحديث: "إن كل مؤدب يحب أن تؤتي مأدبته، وإن مأدبة الله هي القرآن" 1 كما قال تعالى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} 2 الآية، وكما في قوله: "مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث" 3 الحديث، فضرب مثل الهدى والعلم الذي ينزل على القلوب بالماء الذي ينزل على الأرض، وكما أن لله ملائكة موكلة بالسحاب فله ملائكة موكلة بالهدى، هذا رزق الأجساد وهذا رزق القلوب، ولهذا قال الحسن في قوله: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} : "من أعظم النفقة نفقة العلم". وقال كعب بن عجرة: "ألا أهدي لك هدية"، ثم ذكر حديث الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. وقال معاذ: "عليكم بالعلم، فإن طلبه عبادة، وتعلمه لله حسنة، وبذله لأهله قربة، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، والبحث عنه جهاد، ومذاكرته تسبيح"؛ ولهذا كان معلم الخير يستغفر له كل شيء، وعكسه أولئك الذين يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون، والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا. ختم الكتاب سنة 1227. قال كاتب الأصل: آخر ما وجدت من خط ملخصه محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله وعفا عنه بمنه وكرمه.

_ 1 الدارمي: فضائل القرآن (3315) . 2 سورة الرعد آية: 17. 3 البخاري: العلم (79) , ومسلم: الفضائل (2282) , وأحمد (4/399) .

وأنا أقول: قد تم نسخه من الأصل في ش سنة 1357?، وقد اجتهدت فيما أشكل، فشوشت عليه، وما جزمت عليه فأصلحته، فمن وجد بخطي شيئا يحتاج إلى تصليح من خطأ وغيره فجزاه الله خيرا يصلحه، وله الأجر والثواب. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا دائمًا إلى يوم الدين.

§1/1