مسائل في الفتن

فيصل آل صبحان

مقدمة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألاّ إله إلاّ الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته، ولا تموتن إلاّ وأنتم مسلمون}، {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء، واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا}، {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا، يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما}. أما بعد: فإن الله تعالى بعث رسوله بالهدى ودين الحق، ووصفه في كتابه بالرحمة والرأفة وتمام الحرص والشفقة فقال سبحانه: {وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين} وقال جل شأنه: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم}، ولما كانت هذه هي صفته - صلى الله عليه وسلم - كما وصفه بذلك ربه سبحانه، فإنه - صلى الله عليه وسلم - ما ترك خيرا يعلمه إلا دل الأمة عليه،

وأمرهم به، ولا شرا إلا حذرهم منه، ونفرهم عنه، حتى ترك الأمة ـ عليه الصلاة والسلام ـ على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلاّ هالك. ألا وإن من تلك الأمور التي حذر منها - صلى الله عليه وسلم - أشد التحذير وبينها أتم البيان: الفتن وما يتعلق بها. وما ذلك إلا لأن الفتن مؤثرة على الدين والأنفس والأموال والأعراض. فكان التحذير منها أشد من غيرها والأحاديث فيها أكثر. والناس في هذا الزمان قد تكاثرت عليهم الفتن، وتفتحت عليهم أبوابها، كما أخبر بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكثر كلامهم فيها؛ بالحق تارة، وبالباطل أخرى، وبالدليل والبرهان مرة، وبالجهل والهوى مرة أخرى، فوقعوا في تعارض الآراء واختلاف الأهواء، فزادت الفتن واضطرب الناس. وإذا كان الواجب على من تكلم في أي باب من أبواب العلم أن يتكلم بعلم، ويزين كلامه بالحلم؛ فإن باب الفتن أولى وأحرى لما يترتب عليه من الأحوال والأفعال والتصرفات، العامة والخاصة. فلازم على كل من تكلم في هذا الباب ونظر فيه: أن يتتبع ما ورد فيه في الكتاب والسنة، وما ورد فيه عن سلف الأمة، حتى يقع على الدليل، ويرى كيف يكون العمل والتنزيل. وهذه الرسالة إنما هي محاولة لتأصيل هذا الباب، بالنظر فيما جاء فيه من النصوص والآثار، ومواقف السلف الأبرار، حتى تتضح المسألة ويبين الحق إن شاء الله. هذا وقد رتبتها على مسائل ليكون ذلك أنشط للقارئ، وأروح لنفسه وفكره، ولم أكثر الكلام فيها- وإن كان مجال القول في بعضها يطول - خشية الإملال. ومما يحسن بي في هذه المقدمة أن أنبه على أمور: أولها: أنه ليس مقصودي في هذه الرسالة جمع ما ورد في كل فتنة من

الفتن كما هو الشأن في الكتب المؤلفة في ذلك، وإنما المقصود بهذه الرسالة النظر في هذه الفتن من حيث هي فتن واستنباط شيء من فقهها من خلال نصوصها، ولذا فهذه الرسالة عامة في جميع الفتن. الثاني: في ترتيب هذه المسائل؛ إذ قد يرى البعض أن الأفضل لو غير ترتيب بعض المسائل تقديما وتأخيرا، ولا ضير في ذلك إن شاء الله إذ المقصود بيان كيفية التعامل مع الفتن علما وعملا. الثالث: أنه قد يلاحظ في أثناء الرسالة التركيز على فتنة الاقتتال بين المسلمين أكثر من غيرها، وما ذلك إلا لخطورتها وما يترتب عليها، مع ما قد يقع في نفوس البعض من التساهل فيها، بدعوى الغيرة على الدين، أو التنافس على الدنيا. وأخيرا: أسأل الله تعالى أن يقيني وإخواني المسلمين شر الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يهب لنا منه نورا وهدى ورحمة تكشف لنا المتشابه، فإنه لا حول ولا قوة لنا إلا به، وأسأله جل وعلا أن يعز دينه وأن يعلي كلمته، وأن ينصر عباده الموحدين في كل مكان، إنه ولي ذلك والقادر عليه ..... والله الهادي إلى سواء السبيل، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وكتبه: أبو عبد الله: فيصل بن حيان بن مانع آل صبحان.

المسألة الأولى: بيان أن الفتن واقعة في الأمة كونا وقدرا

المسألة الأولى: أن الفتن واقعة في أمة محمد صلى الله عليه وسلم قدرا وكونا، لابد من ذلك رضي الناس أم لم يرضوا، فقد أخبر بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإخباره لابد واقع كما أخبر. ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي. من تشّرف لها تستشرفه، فمن وجد ملجأ أو معاذ فليعذ به). فأخبر - صلى الله عليه وسلم - بكون الفتن في الأمة ولابد من ذلك. وفي الصحيحين أيضا من حديث حذيفة رضي الله عنه قال: كنا عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: أيكم يحفظ حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الفتنة؟ قال حذيفة: قلت: أنا. قال: إنك لجريء كيف قال؟ قال: قلت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (فتنة الرجل في أهله وماله ونفسه وولده وجاره يكفرها الصيام والصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) فقال عمر: ليس هذا أريد إنما أريد التي تموج كموج البحر. قال: فقلت: مالك ولها يا أمير المؤمنين، أن بينك وبينها بابا مغلقا. قال: أفيكسر الباب أم يفتح؟ قال: قلت: لا بل يكسر. قال: ذلك حري أن لا يغلق أبدا. قال: فقلنا لحذيفة: هل كان عمر يعلم من الباب؟ قال: نعم كما يعلم أن دون غد الليلة، إني أحدثه حديثا ليس بالأغاليط. قال شقيق: فهبنا أن نسأل حذيفة من الباب؟ فقلنا: لمسروق سله، فسأله؛ فقال: عمر.

وجوب الاستعداد للفتن قبل وقوعها بالعلم والعمل جميعا

ففهمنا من هذا الحديث أن باب الفتن إذا فتح لا يغلق، فتكثر الفتن وتختلف الأمور ولا حول ولا قوة إلاّ بالله. والأحاديث الدالة على لزوم وقوع الفتن في هذه الأمة كثيرة جدا ولعله يمر علينا في أثناء الرسالة طرفا منها. فإذا علمنا هذا وتيقناه ـ وهو أن الفتن واقعة لا محالة: فلا بد من الاستعداد لها بالعلم والعمل جميعا: أما العلم: فلأنه سيقل ويرفع كما في الصحيحين من حديث ابن مسعود وأبي موسى رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن بين يدي الساعة لأياما: ينزل فيها الجهل، ويرفع فيها العلم، ويكثر فيها الهرج؛ والهرج القتل). وسبب قلة العلم في آخر الزمان أمور: أولها: موت العلماء الذين هم حملته وأهله كما في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس؛ ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يترك عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا). الثاني: زهد الناس في العلم النافع وانصرافهم عنه وان كان موجودا. كما هو مشاهد في زماننا هذا من عزوف كثير من الناس عن العلم الشرعي، ورغبتهم عنه وعن معاهده وكلياته. الثالث: ترك العمل به. والتحاكم إلى غيره، عن زياد بن لبيد رضي الله عنه قال: ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئا فقال: (ذاك أوان ذهاب العلم) قلت: يا رسول الله وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن ونقرئه أبناءنا ويقرئه أبناؤنا أبناءهم إلى يوم القيامة؟ قال: (ثكلتك أمك يا زياد إن كنت لأراك من أفقه رجل بالمدينة، أوليس اليهود والنصارى يقرأون التوراة والإنجيل لا يعملون بشيء مما فيهما) أخرجه ابن ماجة

سبب الأمر بالمبادرة بالعمل قبل وقوع الفتن

فإذا كان الأمر كذلك وجب على اللبيب العاقل التزود منه قبل ذهابه .......... والله المستعان وأما العمل: فلأمره - صلى الله عليه وسلم - بالمبادرة به قبل الفتن: ففي صحيح مسلم وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا، ويمسي مؤمن ويصبح كافرا، يبيع دينه بعرض من الدنيا). وفيه أيضا عنه رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (بادروا بالأعمال ستا: الدجال والدخان ودابة الأرض وطلوع الشمس من مغربها وأمر العامة وخويصة أحدكم). وإنما أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمبادرة إلى الأعمال قبل الفتن -والله أعلم _ لأمور: أولها: أن الإنسان وقت الفتن يشغل بنفسه وأهله فلا يحصل له من الوقت ما كان يحصل له فبل الفتن. الثاني: أنه قد لا يمكن من العمل وقت الفتن، بل قد يمنع منه إما بقتل أو سجن أو تعذيب أو تشريد أو نحو ذلك .... فالمبادرة قبل المصادرة. الثالث: انشغال القلب هما وتفكيرا، فيقل الخشوع والعمل. (والفرق بين هذا الوجه والوجه الأول: أن الأول انشغال عمل بطلب رزق وحفظ نفس ومال ونحو ذلك، وهذا انشغال عقل وتفكير). الرابع: لالتباس الحق بالباطل واختلاط الأمور في الفتن، فلا يدري الإنسان أين الحق فيتبعه، وأين الباطل فيجتنبه. فالموفق من وفقه الله للعلم النافع والعمل الصالح ..... جعلنا الله من أولئك.

المسألة الثانية: بيان أن الفتن كثيرة جدا

المسألة الثانية: إذا علمنا أن الفتن لابد واقعة في أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - فينبغي أن يعلم أنها كثيرة جدا لا يمكن حصرها .. فعن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: أشرف النبي - صلى الله عليه وسلم - على أطم من آطام المدينة فقال: (هل ترون ما أرى؟) قالوا: لا. قال: (فإني لأرى الفتن تقع خلال بيوتكم كوقع القطر) متفق عليه واللفظ للبخاري. وفي البخاري عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: استيقظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة فزعا يقول: (سبحان الله ماذا أنزل الله من الخزائن، وماذا أنزل من الفتن؟ من يوقظ صواحب الحجرات _ يريد أزواجه _ لكي يصلين، رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة). فدل ما تقدم على كثرة الفتن حتى شبهت بالقطر من السماء، ومعلوم أن القطر لايحصيه إلاّ الذي أنزله. فإذا كان الأمر كذلك وأن الفتن كثيرة جدا فليعلم العبد أنه إن أخطأته فتنة .. لم يكد يسلم من الأخرى، فلينج بنفسه وليحذر. وقد تقدم في الحديث: (من تشرف لها تستشرفه، ومن وجد ملجأ أو معاذا فليعذ به). فالعاقل يوطن نفسه على الهرب منها واجتنابها .. والأحمق الأخرق هو الذي يرفع لها رأسه فيوشك أن تقطعه. وعلى ما تقدم: فلا يزال العبد في مجاهدة وصبر لكثرة الفتن واستمرارها .. والله المستعان.

المسألة الثالثة: تفاوت الفتن كبرا وصغرا، خصوصا وعموما

المسألة الثالثة: أن الفتن متفاوتة منها الصغير ومنها الكبير، ومنها الخاص ومنها العام: دليل ذلك ما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عن أبي إدريس الخولاني رحمه الله أنه كان يقول: قال حذيفة بن اليمان: والله إني لأعلم الناس بكل فتنة هي كائنة فيما بيني وبين الساعة، وما بي أن يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسر إلي في ذلك شيئا لم يحدثه غيري، ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال وهو يحدث مجلسا أنا فيه عن الفتن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يعد الفتن: (منهن ثلاث لا يكدن يذرن شيئا، ومنهن فتن كرياح الصيف منها صغار ومنها كبار) قال حذيفة: فذهب أولئك الرهط كلهم غيري. وقد قدمنا في المسألة (الأولى) حديث حذيفة رضي الله عنه لما سأله عمر عن الفتن فبين له أولا الفتن الخاصة بالإنسان في أهله وماله وولده وجاره، ثم سأله عن الفتنة العامة التي تموج كما يموج البحر فأخبره بها. وفي مصنف ابن أبي شيبة (8/ 672) والسنن الواردة في الفتن لأبي عمرو الداني (1/ 284) عن طاووس بن كيسان عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال لما قتل عثمان بن عفان رضي الله عنه: (إنما هذه حيصة من حيصات الفتن وبقيت الرداح المطبقة التي من ماج بها ماجت به ومن أشرف لها استشرفت له) والرداح المطبقة هي الثقيلة العظيمة العامة.

بيان أن لكل نوع من الفتن فقها خاصا به

- فإذا علم ذلك: فإن لكل نوع من أنواع الفتن فقها خاصا به: تعاملا وعلما، فليس الصبر في الفتن الكبار كالصبر في الفتن الصغار وهكذا .. - وأيضا: فإن الفتن تقدر بقدرها .. فلا تصغر الكبيرة حتى يستهين بها الناس، ولا تكبر الصغيرة حتى ييأس الناس منها ... ولا تعمم الخاصة فيفتن الناس بها ولا تخصص العامة فتخذل الأمة. في كتاب (السنة) للخلاّل (1/ 132) عن أبي الحارث الصائغ قال: سألت أبا عبد الله ـ يعني الإمام أحمد ـ في أمر كان حدث في بغداد وهمّ قوم بالخروج، فقلت: يا أبا عبد الله! ما تقول في الخروج مع هؤلاء القوم؟ فأنكر ذلك عليهم وجعل يقول: سبحان الله! الدماء، الدماء لا أرى ذلك ولا آمر به الصبر على ما نحن فيه خير من الفتنة يسفك فيها الدماء ويستباح فيها الأموال، وينتهك فيها المحارم، أما علمت ما كان الناس فيه - يعني أيام الفتنة؟ قلت: والناس اليوم أليس هم في فتنة يا أبا عبد الله؟ قال: وإن كان، فإنما هي فتنة خاصة فإذا وقع السيف عمت الفتنة، وانقطعت السبل. الصبر على هذا ويسلم لك دينك خير لك، ورأيته ينكر الخروج على الأئمة وقال: الدماء لا أرى ذلك ولا آمر به. فانظر إلى فقه الإمام أحمد رحمه الله وكيف كان يقدر الفتن بقدرها. وهذا التقدير للفتن باب علم يفتحه الله لأهل البصائر من عباده .. فيقولون الحق ويهدون إليه .. فإذا أغفل هذا الجانب وقع الزلل. وعلى هذا الباب أيضا يكون العمل عند دفع الفتن إذا تعارضت، إذ تدفع الأعلى منهما بالأدنى، والكبرى بالصغرى، والعامة بالخاصة وهكذا. ... والله المستعان.

المسألة الرابعة: بيان أن من الفتن ما يخرج من الملة وما لا يخرج منها

المسألة الرابعة: أن من الفتن ما يخرج من الملة ومنها مالا يخرج منها، فهي متفاوتة: دليل ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: (بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل فيها مؤمنا ويمسي كافرا، ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا؛ يبيع دينه بعرض من الدنيا). - والكفر في هذا الحديث كما قال العلماء قد يراد به الكفر الأصغر ككفر النعمة، وقد يراد به الكفر الأكبر كاستحلال المحرم كما نقل الترمذي في سننه عن الحسن البصري رحمه الله أنه كان يقول في هذا الحديث المتقدم: يصبح الرجل محرما لدم أخيه وعرضه وماله ويمسي مستحلا له، ويمسي محرما لدم أخيه وعرضه وماله، ويصبح مستحلا له). - ومن الفتن المكفرة التي ابتليت بها الأمة في فترة من فتراتها؛ فتنة القول بخلق القرآن، لولا أن قيض الله لها من أنصار دينه وحماة شرعه من جعلهم سدا في وجه تلك الفتنة وعلى رأسهم إمام أهل السنة: أحمد بن حنبل .. فلله الحمد والمنة. - لكن ينبغي التنبيه على ثلاثة أمور مهمة جدا: أولها: أن الحكم على الفتنة بأنها مكفرة أم لا؛ إنما هو للعلماء الربانيين الذين يصدرون عن كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - .. وليس الحكم فيها للأهواء والرغبات.

وفي هذا سد لباب عظيم من الشر قد ينتج عنه من الفتن إضعاف ما ينتج عن الفتنة المنظور إليها. الثاني: تنزيل الحكم على الأشخاص إنما هو لأهل العلم الراسخين فيه؛ إذ إن إطلاق الحكم على المعين لابد فيه من معرفة الشروط والموانع ... وهذا إنما يكون لأهل العلم، ولا سبيل لأحد أن يتقدم عليهم فيه لما في ذلك من الخطر العظيم والبلاء الجسيم. الثالث: أن المشاركين في الفتن ليسوا على وزان واحد: جرما وإثما وحكما؛ فرؤوس أهل الفتن ليسوا كالأتباع، والقعدة فيها ليسوا كالمشاة، والمشاة فيها ليسوا كالسعاة ... وهكذا. وقد تقدم معنا حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من تشرف لها تستشرفه؛ فمن وجد ملجأ أو معاذا فليعذ به) متفق عليه. وفي صحيح مسلم عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إنها ستكون فتن القاعد فيها خير من الماشي فيها، والماشي فيها خير من الساعي إليها، فإذا نزلت أو وقعت فمن كان له إبل فليلحق بإبله، ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه، ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه). قال: فقال رجل: يا رسول الله! أرأيت من لم تكن له أبل ولا غنم ولا أرض؟ قال: (يعمد إلى سيفه فيدق على حده بحجر، ثم لينج إن استطاع النجاء، اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟ قال: فقال رجل: يا رسول الله! أرأيت إن أكرهت حتى ينطلق بي إلى أحد الصفين أو إحدى الفئتين فضربني رجل بسيفه أو يجيء سهم فيقتلني؟ قال: (يبؤ بإثمه وإثمك ويكون من أصحاب النار). - وإنما كان الأمر كذلك: لأن جهد أهل الفتن مختلف، ووقعهم فيها متفاوت؛ فالقاعد غالبا ـ ما لم يكن من رؤوس أهلها ـ أضعف عملا من الماشي، والماشي أضعف من الساعي وهكذا. (هذا أولاً).

وثانيا: لأنه قد يشارك فيها من ليس من أهلها كالمكره ونحوه. - وعليه: فتعميم الحكم على جميع من شارك في فتنة من الفتن؛ خطأ كبير لا يكون من عالم عارف بأحوال الناس. ولا يعكر على هذا ما ورد في بعض النصوص من إهلاك بعض أهل الفتن مهلكا واحدا، رغم أن فيهم من ليس منهم ـ كالجيش الذي يؤم البيت ـ كما في حديث عائشة رضي الله عنها في الصحيح وغيره، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد بيّن في نفس الحديث أنه وإن شاركهم في عقوبة الله إلاّ أنه يخالفهم يوم القيامة فقال لمّا سئل عن المكره: (يخسف به معهم ولكنه يبعث يوم القيامة على نيّته). - فإذا علمنا ذلك كله وتيقناه: تيقنا خطر المخاطرة في الفتن .. وعلمنا أنها مزلة أقدام ومضلة أفهام ... والله المستعان.

المسألة الخامسة: أن الحق واضح جلي حتى وقت الفتن

المسألة الخامسة: أن الحق واضح جلي لا لبس فيه ولا خفاء حتى في أوقات الفتن. يدل على ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرنا بالتمسك بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأخبر أن النجاة فيهما أبدا؛ ولو كانت الفتن مما يخفى على الأمة الحق فيها لما صح التمسك بهما حينئذ لأنه لا فائدة في ذلك. ومما يدل على ذلك أيضا: أحاديث الطائفة المنصورة ـ وستأتي بعد قليل إن شاء الله ـ ووجه الدلالة منها: أن هذه الطائفة لا تزال مستمسكة بالحق على مر الزمان، ولو كان الحق خفيا لما اهتدت إليه وتمسكت به. - ومرادنا بقولنا (أن الحق لا خفاء به): أي أنه لا يخفى على جميع الأمة، بل إذا خفي أو التبس على أناس ولو كانوا من أهل العلم فلا بد أن يكون واضحا جليا عند طائفة أخرى، وهذا أيضا ما تدل عليه أحاديث الطائفة المنصورة المشار إليها. - فإن قيل فما سبب خفاء الحق على من خفي عليه؟ فالجواب: سبب ذلك إما: جهل بالحق (قلة العلم)، أو تقصير في طلبه والسؤال عنه، أو ضعف في أهله ... والله أعلم.

المسألة السادسة: أنه لا تزال طائفة من الأمة ظاهرة منصورة

المسألة السادسة: وهي مبنية على ما تقدم وهي: أنه لا تزال طائفة من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - على الحق ظاهرة منصورة .. لا يضرها من خذلها ولا من خالفها حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك، كما ثبت ذلك في أحاديث كثيرة منها: ما في الصحيحين من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (لن يزال قوم من أمتي ظاهرين على الناس حيى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون). وفي صحيح مسلم وغيره من حديث ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك). - ففهمنا من هذه الأحاديث أمورا: أولها: أنها طائفة وليست الأمة كلها. الثاني: أنها على الحق وليست على الباطل. الثالث: أنها ظاهرة: أي عالية رفيعة معلومة غير مختفية. الرابع: أنها منصورة على أعدائها مهما اشتد بلاؤهم. الخامس: أنها محفوظة بحفظ الله تعالى لا يضرها من خذلها ولا من خالفها، والخذلان يكون ممن يتوقع منه النصرة، والمخالفة: تكون من الأعداء، ورغم اجتماع البلاءين عليها إلا إنها ظاهرة منصورة محفوظة ((فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين)).

بيان أن هذه الطائفة تحوي أنواعا متعددة من الأمة وكلام العلماء في ذلك

وهذه الطائفة كما قال العلماء: يجوز أن تكون متعددة من أنواع الأمة: ما بين شجاع وبصير بالحرب وفقيه ومفسر ومحدث وقائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وزاهد وعابد، ولا يلزم اجتماعهم ببلد واحد. فإذا زالت هذه الطائفة زال معها الحق، وعندها تقوم الساعة، ولا تقوم إلا على شرار الخلق. - وعليه: فتنزيل أحاديث الطائفة المنصورة على فئة معينة من الأمة دون غيرها خطأ؛ لما يترتب على ذلك من تجهيل الآخرين والتقليل من شأنهم رغم أنهم قد يكونون من هذه الطائفة المعنية في الأحاديث. - فإن قال قائل: فما تقولون فيما ورد عن الإمام أحمد رحمه الله أنه قال عن هذه الطائفة: (إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم)، فإنه رحمه الله قد حصر هذه الطائفة في أهل الحديث دون غيرهم. فالجواب: هو ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حين بين المراد بأهل الحديث فقال كما في مجموع الفتاوى (4/ 95): (ونحن لا نعني بأهل الحديث المقتصرين على سماعه أو كتابته أو روايته بل نعني بهم: كل من كان أحق بحفظه ومعرفته وفهمه ظاهرا وباطنا، واتباعه باطنا وظاهرا وكذلك أهل القرآن، وأدنى خصلة في هؤلاء: محبة القرآن والحديث والبحث عنهما وعن معانيهما والعمل بما علموه من موجبهما، ففقهاء الحديث أخبر بالرسول صلى الله عليه وسلم من فقهاء غيرهم، وصوفيتهم أتبع للرسول - صلى الله عليه وسلم - من صوفية غيرهم، وأمراؤهم أحق بالسياسة النبوية من غيرهم، وعامتهم أحق بموالاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - من غيرهم). اهـ. فبان من كلامه رحمه الله أن أهل الحديث طائفة تحوي أنواعا من الأمة، فمنهم العالم والمجاهد والعابد والحاكم بل والعامي أيضا، وهذا موافق لما نقلناه عن غيره من أهل العلم كما في أول المسألة. والله تعالى أعلى وأعلم.

المسألة السابعة: أن الفتن مرتع خصب لأهل الأهواء والبدع

المسألة السابعة: أن الفتن مرتع خصب لأهل الأهواء والبدع لنشر أهوائهم وبدعهم وتلبيسها على الناس وذلك لأمور: الأول: اختلاط الأمور وقت الفتن وعدم تميزها. الثاني: لقلة العلم في الفتن وغلبة الجهل. الثالث: للتسرع الذي يحصل عند الناس في وقت الفتن. وعليه: فينبغي على العبد الموفق ألا ينجرف وراء كل دعوى .. ولا يتبع كل صارخ .. فإن فعل فهو الهلكة والخسران. - ولذا كان من وصاياه عليه الصلاة والسلام: (خذ ما تعرف ودع ما تنكر) .. وبه يتبين فضل العلم وخصوصا وقت الفتن، وأنه من أعظم الأسباب المنجية منها كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

المسألة الثامنة: أن بعض البلاد أكثر فتنا من غيرها وأشد

المسألة الثامنة: أن بعض البلاد أكثر فتنا من غيرها وأشد: دليل ذلك ما في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو مستقبل المشرق يقول: (ألا إن الفتنة ها هنا من حيث يطلع قرنا الشيطان). وفي البخاري عنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك لنا في يمننا) قالوا: يا رسول الله وفي نجدنا؟ قال: (اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك لنا في يمننا) قالوا يا رسول الله: وفي نجدنا؟ قال: (هناك الزلازل والفتن وبها يطلع قرن الشيطان). فبان بذلك أن المشرق أكثر فتنا من غيره وأشد. - وأيضا: فإن بعض البلاد محفوظة من بعض الفتن الكبار - كمكة والمدينة - فإنهما محفوظتان من الدجال والطاعون: أما الدجال: فالأحاديث في تحريم مكة والمدينة عليه كثيرة منها: 1. ما في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ليس من بلد إلاّ سيطؤه الدجال، إلاّ مكة والمدينة وليس نقب من أنقابها إلاّ عليه الملائكة صافين تحرسها فينزل السبخة فترجف الدينة ثلاث رجفات يخرج إليه منها كل كافر ومنافق). 2. وفي صحيح مسلم في حديث الجساسة الطويل الذي رواه تميم الداري رضي الله عنه وفيه أن الدجال قال: (وإني مخبركم عني إني أنا المسيح

سبب كون بعض البلاد محفوظة من الفتن

الدجال، وإني أوشك أن يؤذن لي في الخروج فأخرج فأسير في الأرض فلا أدع قرية إلا هبطتها في أربعين ليلة غير مكة وطيبة فهما محرمتان عليّ كلتاهما، كلما أردت أن أدخل واحدة أو واحدا منهما استقبلني ملك بيده السيف صلتا يصدني عنها وإن على كل نقب منها ملائكة يحرسونها ..) الحديث. وأما الطاعون: فلما أخرجه البخاري رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (على أنقاب المدينة ملائكة لا يدخلها الطاعون ولا الدجال). وفيه أيضا عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (المدينة يأتيها الدجال فيجد الملائكة يحرسونها فلا يقربها الدجال ولا الطاعون إن شاء الله). - وظاهر هذه الأحاديث أن الحفظ من الطاعون خاص بالمدينة دون مكة؛ لكن ورد عند عمر بن شبة في كتاب (مكة) كما نقل ذلك عنه الحافظ ابن حجر في الفتح (10/ 191ك الطب) عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: (المدينة ومكة محفوفتان بالملائكة على كل نقب منهما ملك، لا يدخلهما الدجال ولا الطاعون) قال الحافظ: رجاله رجال الصحيح. - وهذه البلاد المحفوظة من بعض الفتن أو القليلة فيها الفتن ـ سبب حفظها إما: • لظهور الدين فيها وانتشار العلم بين أهلها، كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إني رأيت عمود الكتاب انتزع من تحت وسادتي فنظرت فإذا هو نور ساطع عمد به إلى الشام ألا إن الإيمان إذا وقعت الفتن بالشام) أخرجه الحاكم وصححه الألباني في فضائل الشام (15). • وإما لتقييض الله تعالى لها من يحفظها من غير أهلها: كالملائكة لمكة والمدينة عند خروج الدجال، كما تقدم في الأحاديث. إذا علم ذلك: علم تفاضل البلدان في هذا الجانب، وكلما كان البلد أقل فتنا؛ كان أكثر خيرا في العموم لأمور:

أن سكنى البلاد التي تقل فيها الفتن أفضل من غيرها ودليل ذلك

أولها: لظهور الدين فيه ... وتمسك أهله به في الغالب. الثاني: لاجتماع الناس فيه لقلة الفتن. الثالث: لأمن الناس فيه على أنفسهم وأعراضهم وأموالهم. وينبني على ما تقدم أيضا: أن سكنى البلاد التي تقل فيها الفتن أفضل من سكنى غيرها: دليل ذلك ما في الصحيحين من حديث سفيان بن أبي زهير رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (تفتح اليمن فيأتي قوم يبسون فيتحملون بأهلهم ومن أطاعهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون. وتفتح الشام فيأتي قوم يبسون فيتحملون بأهلهم ومن أطاعهم والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون. وتفتح العراق فيأتي قوم يبسون فيتحملون بأهلهم ومن أطاعهم والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون). وعن عبد الله بن عمر بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (ستكون هجرة بعد هجرة، فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم، ويبقى في الأرض شرار أهلها تلفظهم أرضوهم وتقذرهم نفس الرحمن وتحشرهم النار مع القردة والخنازير) أخرجه أبو داود وحسنه الألباني بشواهده في فضائل الشام (82). - لكن ينبغي التذكير هنا بقول سلمان الفارسي رضي الله عنه لأبي الدرداء رضي الله عنه: (إن الأرض المقدسة لا تقدس أحدا، وإنما يقدس الإنسان عمله) رواه مالك في الموطأ ك القضاء. وعليه أيضا: فإنه يلزم في البلاد التي تكثر فيها الفتن من الاستعداد لها علما وعملا أكثر مما يلزم في غيرها ـ ولئن كان ذلك لازم في جميع البلدان إلا إنه في تلك الأقطار ألزم .... والله أعلم.

المسألة التاسعة: أن الفتن تختلف من زمان إلى آخر

المسالة التاسعة: أن بعض الأزمنة أكثر فتنا من بعضها الآخر ..... فقرن الصحابة رضي الله عنهم أقل فتنا من غيره، لاسيما عصر الخليفتين الراشدين - أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما، حيث كان عمر أحد الأبواب الموصدة في وجه الفتن حتى كسر رضي الله عنه بقتله فزادت الفتن وانتشرت. وعليه: فان الفتن في آخر الزمان أكثر وأشد من أوله .. دليل ذلك ما في البخاري عن الزبير بن عدي قال: أتينا أنس بن مالك رضي الله عنه فشكونا إليه ما نلقى من الحَجّاج فقال: (اصبروا فإنه لا يأتي عليكم زمان إلاّ والذي بعده أشد منه، حتى تلقوا ربكم سمعته من نبيكم - صلى الله عليه وسلم -). وعند الطبراني عن ابن مسعود - رضي الله عنهم - بسند صحيح كما قال الحافظ ابن حجر في الفتح (13/ 23) أنه قال: (أمس خير من اليوم، واليوم خير من غد، وكذلك حتى تقوم الساعة) وروى الخلاّل في (السنة/ 93) بسنده عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: إنكم لن تروا من الدنيا إلاّ بلاء وفتنة، ولن يزداد الأمر إلاّ بلاء وشدة، ولن تروا من الأئمة إلاّ غلظة، ولن تروا أمرا يهولكم ويشتد عليكم إلاّ حضره بعده ما هو أشد منه، أكثر أمير وشر تأمير) قال الإمام أحمد رحمه الله: اللهم رضينا. - وإنما كان الأمر كذلك والله أعلم لأمور: أولها: قلة العلم كما مر معنا في أول الرسالة.

الثاني: انتشار الجهل كما مر أيضًا. الثالث: قبض العلماء والصالحين كما في الصحيح عن مرداس الأسلمي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يذهب الصالحون الأول فالأول حتى يبقى مثل حثالة التمر والشعير لا يبالي الله بهم" أخرجه البخاري ك الرقاق الرابع: تغير الناس وفسادهم: حيث ترفع الأمانة والخشوع وتظهر الخيانة والكذب كما في حديث عمران بن حصين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن خيركم قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم " قال عمران فلا أدري أقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد قرنه مرتين أو ثلاثاً ثم يكون بعدهم قوم يشهدون ولا يستشهدون ويخونون ولا يؤتمنون وينذرون ولا يوفون ويظهر فيهم السمن " الخامس: لقرب قيام الساعة، ولا تقوم إلا على شرار الخلق. ... والله أعلم

المسألة العاشرة: أن السنة بينت لنا بعض الفتن زمانا ومكانا

المسألة العاشرة: وهي من أعظم المسائل في هذه الرسالة وأهمها: أن السنة قد بينت لنا بعض الفتن زماناً ومكاناً ... كثرة وقلة. - فمن ذلك حديث حذيفة المتقدم في مجلس عمر: ففهم منه أن بداية الفتن الكبرى هو موت عمر، وهذا تحديد للزمان. - وفي المسند وسنن أبي داود وابن ماجة عن عبد الله بن بسر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " بين الملحمة وفتح المدينة ـ أي القسطنطينية - ست سنين ويخرج المسيح الدجال في السابعة"- وهذا أيضاً توقيت وتحديد بالسنين- - وما ورد في تحديد المكان حديث ابن عمر رضي الله عنهما في صحيحه أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو مستقبل المشرق يقول "ألا إن الفتنة ههنا، ألا إن الفتنة ههنا من حيث يطلع قرن الشيطان" ومنه ما ورد في حديث خروج الدجال كما في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "أنه خارج خله بين الشام والعراق " وغيرها من الأحاديث كثير. - وعلى ما تقدم فالفتن (استقراء) على أربعة أقسام لا غير: القسم الأول/ ما بين فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - زمن الفتنة ومكانها. القسم الثاني/ ما بين لنا - صلى الله عليه وسلم - فيه زمن الفتنة دون مكانها. القسم الثالث/ عكسه وهو مابَيّن لنافيه المكان دون الزمان.

الواجب على المسلم تجاه كل قسم

القسم الرابع/ ما لم يبين زمانه ولا مكانه وهو الأكثر. - فأما القسم الأول وهو: ما بين لنا فيه المكان والزمان، فيجب الإيمان به كما ورد محددا؛ إذ إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يقول إلا حقا وصدقا. - وأما القسم الثاني: فيجب التسليم فيه بما ورد من تحديد الزمان دون تحديد مكانه لما سيأتي بعد قليل إن شاء الله تعالى. - وأما القسم الثالث: فكالذي قبله يسلم فيه بما ورد من تحديد المكان دون تحديد الزمان لما سيأتي أيضا. - وأما القسم الرابع والأخير: فيجب الإيمان به كما ورد؛ ولا يجوز لأحد كائنا من كان أن يحدد فيه زمانا ولا مكانا لأمور: أولها: أن من ادعى ذلك وحدد الزمان والمكان ... فقد تقول على الله بغير علم، وتدخل فيما هو من خصائص الله: علم الغيب .. وهذه الأمور غيب لا يجوز الخوض فيها إلا بدليل .. وما لم يرد دليل: فلنؤمن ولنصدق ونقف حيث وقف بنا النص .. الثاني: أن في تحديد أزمنة وأمكنة الفتن التي لم يحدد زمانها ولا مكانها إثارة للفتن وزيادة لها .. بل لربما تسبب ذلك في أحداث فتن جديدة ليست هي المقصودة في النص 0 الثالث: أن تحديد ذلك قد يؤدي إلى تكذيب الله ورسوله .. وخصوصًا من الجهال والطغام .. خاصةً إذا وقع الأمر خلاف ما أخبر به ذلك المحدد فيقع اللبس ويحدث الشك .. ولربما كُذِّب الله ورسوله، والإثم على المتجرئ 0 - وعليه: فتوسع بعض الناس لاسيما من الدعاة وطلبة العلم في الرؤى والأحلام .. وتحديد بعض ما يصيب الأمة .. من الأمور والفتن، ونشر ذلك بين الناس ... بل (وللأسف) مع الجزم به جزمًا تامًا .. جهل عظيم، وخطأ جسيم 0 - ولا يظنن ظان أننا ممن ينكر الرؤى ... ويرد حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم في

أنها جزء من ستة وأربعين جزءً من النبوة، وأنها من المبشرات، معاذ الله من ذلك. - لكنها تبقى - من غير الأنبياء - ظنونا عرضة للصواب والخطأ: من الرائي والمعبر ... فالرؤى يستأنس بها ويستبشر دون أن يجزم ويقرر وصدق إمام أهل السنة (أحمد بن حنبل) حين قال: (الرؤيا تسر المؤمن ولا تغرّه) ....... والله أعلم.

المسألة الحادية عشرة: أن الفتن الكبيرة المؤثرة في الأمة موصوفة في الشرع وصفا تاما

المسألة الحادية عشرة: أن الفتن الكبيرة العظيمة التي تعم الأمة وتؤثر فيها تأثيراً بالغاً .. قد وصفها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصفاً تاماً لا خفاء فيه ولا لبس .. - كالدجال مثلاً: فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - وصفه في أكثر من حديث في الصحيحين وغيرهما وصفاً دقيقاً .. فوصف هيأته، وسبب خروجه، ومن أين يخرج، ومن معه، وما معه، وكم يبقى، وأين يذهب، وكيف يفتن الناس، ومن يقتله ... إلى غير ذلك. - وكذا المهدي .. فقد بين لنا النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره أتم بيان حتى لا يلتبس على أحد من الناس .. فذكر لنا نسبه، وحاله، وزهده، وكرمه، آية ظهوره. - وإنما كان ذلك من صاحب الشرع درءاً للفتن .. وتبصيراً للناس .. وقطعاً لأهواء أهل الأهواء .. ولو تأمل المتأمل في بعض الفتن التي وقعت في الأمة لوجد أن السبب فيها هو عدم فهم هذا الأمر .. وعدم الالتفات إليه .. -فالمهدي مثلاً .. لما جهل عامة الناس أمره .. سهل على المستغلين الاستغلال .. فكم ادعى من دعي أنه المهدي، فوقعت بسببه المحن واضطربت الأمور .. وحرّف الشرع، وبدل الدين، وما (غلام أحمد القادياني) منا ببعيد، وقبله الحاكم بأمر (الشيطان) العبيدي، وقبلهم جميعاً المختار بن أبي عبيد الثقفي .. والله المستعان.

ومما يؤسف له: رواج بعض الشائعات والأوهام عن المهدي وغيره عند بعض الصالحين، ومن يتوسم فيهم الخير، رغم أن المأمول فيهم أن يكونوا من أهل البصر والبصيرة .. ولا حول ولا قوة إلاّ بالله، والسبب في ذلك العجلة والتسرع وعدم الرجوع إلى أهل العلم، مع ما يرونه من غلبة الكفار، وانتشار المنكرات، وجور السلطان ... والله أعلم.

المسألة الثانية عشرة: أن العبادة في الفتن أفضل من غيرها

المسألة الثانية عشرة: أن العبادة في الفتن أفضل من العبادة في غيرها، دليل ذلك ما ورد في صحيح مسلم عن معقل بن يسار رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (العبادة في الهرج كهجرة إليّ). فجعل لزوم العبادة في الهرج ـ الذي هو القتل كما في الأحاديث الأخرى ـ كهجرة إليه عليه الصلاة والسلام، والسبب في ذلك والله أعلم: أولا: أن الناس في وقت الفتن ينشغلون عن العبادة فلا يتفرغ لها إلاّ الأفذاذ من الناس كما قال الإمام النووي رحمه الله. الثاني: أن العابد في وقت الفتن يؤدي العبادة وهو في حال خوف من تلف نفس وضياع مال وذهاب حرمة فلذا كانت عبادته أفضل من غيره ممن لا يخاف ذلك. ولهذا فرق الله تعالى في كتابه بين من أنفق من قبل الفتح وقاتل؛ ومن أنفق من بعده وقاتل فقال: ((لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا، وكلا وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير)) وما ذلك إلا لأن الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا فعلوا ذلك في وقت خوف وقلة، بخلاف من فعل ذلك بعد الفتح، فإنهم وإن كانوا موعودين بالحسنى إلا أنهم أنفقوا وقاتلوا بعد عزة الإسلام وقوة أهله. الثالث: أن لزوم العبادة وقت الفتن دليل على صدق صاحبها مع الله

وإخلاصه له وقوة صبره ومصابرته، وإيثاره ما عند ربه. وما تفاضل الناس في الدنيا والآخرة إلاّ بالصدق مع الله والصبر على بلائه. والله المستعان.

المسألة الثالثة عشرة: أنه يرخص في الفتن مالا يرخص في غيرها

المسألة الثالثة عشرة: أنه يرخص في الفتن مالا يرخص في غيرها، وذلك لأن الفتن سبب في اختلال الأمور، وتغير الأحوال. فمما يرخص فيها: أولاً / جواز تمني الموت، وذلك لما رواه الترمذي في سننه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وفيه: ((إذا صليت فقل: اللهم إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون ..)) الحديث وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: (1/ 290/ 408). وله أيضا من حديث معاذ رضي الله عنه نحوه وقال: هذا حديث حسن صحيح سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث فقال: هذا حديث حسن صحيح. وعن عليم قال: كنا جلوسا على سطح معنا رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يزيد: لا أعلمه إلاّ عبسا الغفاري، والناس يخرجون في الطاعون فقال عبس: يا طاعون خذني ثلاثا، فقال له عُليم: لم تقول هذا؟ ألم يقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يتمن أحدكم الموت، فإنه عند انقطاع عمله ولا يرد فيستعتب)) فقال إني سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: بادروا بالموت ستا، إمرة السفهاء، وكثرة الشرط، وبيع الحكم، واستخفافا بالدم، وقطيعة الرحم، ونشوا يتخذون القرآن مزامير يقدمونه يغنيهم وإن كان أقلهم فقها)) أخرجه الإمام أحمد في مسنده وصححه الألباني في الصحيحة (2/ 672/ 979).

جواز التعرب في الفتن واعتزال الناس

وقد حمل الإمام مالك دعاء عمر رضي الله عنه: (اللهم كبرت سني وضعفت قوتي وانتشرت رعيتي؛ فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفرط) الذي رواه عنه في موطئه على ما ذكرت فقال كما في الجامع لابن أبي زيد (182): (ولا أرى عمر دعا على نفسه بالشهادة إلا أنه خاف التحول من الفتن وقد كان يحب البقاء في الدنيا) كل ذلك دال على جواز الدعاء على النفس بالموت عند الخوف على الدين ... والله أعلم. الثاني / مما يجوز في وقت الفتن: اعتزال الناس، والانقطاع عنهم في البوادي ونحوها .. حفظا للدين وصيانة للمهج كما قدمنا. دليل ذلك ما في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يوشك أن يكون خير ما المسلم غنم يتبع بها شغف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن). وفي صحيح مسلم من حديث أبي بكرة رضي الله عنه وقد تقدم في المسالة الرابعة وفيه: (ألا فإذا نزلت أوقعت ـ أي الفتن ـ فمن كان له إبل فليلحق بإبله، ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه، ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه ...) الحديث. وعند الإمام أحمد والحاكم وصححه ووافقه الذهبي عن كرز الخزاعي قال: أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - أعرابي فقال: يا رسول الله! هل للإسلام منتهى؟ قال: (نعم من أراد الله به خيرا من عجم أو عرب أدخله عليه، ثم تقع فتن كالظلل يعود فيها الناس أساود صُبّاً يضرب بعضهم رقاب بعض، فأفضل الناس يومئذ مؤمن معتزل في شعب من الشعاب يتقي ربه ويدع الناس من شره). - ولأجل ما تقدم بوب البخاري رحمه الله في صحيحه في كتاب الفتن بابا فقال: (باب التعرب في الفتنة)، وله في كتاب الإيمان: (باب من الدين الفرار من الفتن)

جواز ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

وسئل الإمام أحمد رحمه الله كما في الآداب الشرعية لابن مفلح (4/ 119) عن العزلة فقال: إذا كانت الفتنة فلا بأس أن يعتزلها الرجل حيث شاء فأما ما لم يكن فتنة فالأمصار خير. الثالث: مما يجوز وقت الفتن: ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والاشتغال بخاصة النفس. دليل ذلك ما سبق من الأحاديث المرخصة في العزلة، وعند أبي داوود والترمذي من حديث أبي ثعلبة الخشني أنه سُأل عن قول الله تعالى: ((عليكم أنفسكم ..)) فقال للسائل: أما والله لقد سألت عنها خبيرا، سألت عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه؛ فعليك يعني بنفسك ودع عنك العوام فإن من ورائكم أيام الصبر، الصبر فيه مثل قبض على الجمر، للعامل فيهم مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله)) وفي رواية قال: يا رسول الله! أجر خمسين منهم؟ قال: ((أجر خمسين منكم)). فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر غاية ينتهى إليها وهي: غلبة الشح على الناس، واتباعهم للهوى وإيثارهم للدنيا، وإعجاب كل واحد منهم بنفسه. فعندها يجوز ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والاشتغال بخاصة النفس. ومما يدل على أصل هذه الرخصة أيضا ما رواه أبو داوود في سننه ـ وصححه الألباني في الصحيحة (205)، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: بينما نحن حول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ ذكر الفتنة فقال: ((إذا رأيتم الناس قد مرجت عهودهم وخفت أمانتهم، وكانوا هكذا)) ـ وشبك بين أصابعه ـ قال: فقمت إليه فقلت: كيف أفعل عند ذلك جعلني الله فداك؟ قال: ((الزم بيتك، واملك عليك لسانك، وخذ ما تعرف، ودع ما تنكر، وعليك بأمر خاصة نفسك ودع عنك أمر العوام)). - فإن قيل: فهل الرخصة شاملة لجميع مراتب الأمر بالمعروف والنهي

بيان يسر الإسلام وسماحته

عن المنكر، الواردة في حديث أبي سعيد مرفوعا: ((من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان))؟ فالجواب: أن الرخصة إنما هي في المرتبتين الأوليين ـ الإنكار باليد واللسان ـ، أما مرتبة الإنكار القلبي فلابد منها؛ وذلك لأن الكراهة القلبية للمنكر، أو المحبة القلبية للمعروف أمر باطن لا إكراه فيه، ولا أذى يترتب على المرء منه، لخفائه وعدم ظهوره، فتبقى هذه المرتبة قائمة ما دام في القلب إيمان. - فإن قال قائل: فما الفائدة من هذه المرتبة التي سماها النبي - صلى الله عليه وسلم - أضعف الإيمان، مع أن المعروف لاينتشر إلاّ بالقول أو العمل، والمنكر لا ينحسر إلا كذلك؟ فالجواب: أن الأعمال القلبية هي أصل الأعمال البدنية الحسية وأساسها، فإذا بقي القلب منكرا للمنكر؛ بقي حيا لبقاء النور الذي يميز به بين الحق والباطل، ومتى لم يكن القلب كذلك أصبح المعروف والمنكر بالنسبة إليه سواء فلا يعرف معروفا ولاينكر منكرا، ولذا ورد في الحديث ـ كما في الصحيح من حديث حذيفة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا، فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين: على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر: أسود مربادا كالكوز مجخيا، لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه)) فبان بهذا عظم هذه المرتبة من الإنكار، ولماذا قال بعدها النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل)). كل ما تقدم ذكره من الرخص يدل أوضح الدلالة: على يسر الإسلام وسماحته، ورفقه بأهله، وانتفاء الحرج عنه كما قال تعالى: ((ما جعل عليكم في الدين من حرج)).

تنبيهات حول هذه الرخص

ويدل أيضا: على أصل الإسلام في التباعد عن الفتن، وعدم تكثير سواد أهلها، كما سيأتي إن شاء الله تعالى. وعلى ما سبق فلا يصح الإنكار على من ترخص بشيء من تلك الرخص التي ذكرت، ولا التضييق عليه بسببها. وقبل ختم المسألة يحسن بنا التنبيه على أمرين مهمين: الأول / أن ما ذكرناه في هذه المسألة إنما هو رخصة شرعية مقدّرة بقدرها، لكن لو صبر الإنسان وصابر على العبادة والدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتعلم والتعليم، فإن ذلك خير له، وله أجر ما يصيبه من الأذى والبلاء، وقد تقدم معنا في المسألة (الثالثة عشرة) قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((العبادة في الهرج كهجرة إليّ)) أخرجه مسلم. الثاني / أننا قد قدمنا في المسألة (الثالثة) اختلاف الفتن صغرا وكبرا خصوصا وعموما، وبنينا عليه هناك: أن لكل فتنة نظرا خاصا بها، وعليه هنا: فإن هذه الرخص أيضا يختلف الأمر فيها من فتنة إلي أخرى، بل ومن شخص إلى آخر .... والله تعالى أعلى وأعلم.

المسألة الرابعة عشرة: جواز التحديث بأحاديث الفتن بين الناس

المسألة الرابعة عشرة: أنه يجوز التحدث بما ثبت من أحاديث الفتن في المجالس مع الناس لا غضاضة في ذلك ولا حرج ... دليل ذلك: - أولا / أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحدث أصحابه ببعض أحاديث الفتن وهم جماعات في المساجد والمجالس كما في حديث حذيفة رضي الله عنه المتقدم وفيه: أن حذيفة قال: والله إني لأعلم الناس بكل فتنة هي كائنة فيما بيني وبين الساعة، ومالي ألا أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أسر إليّ في ذلك شيئا لم يحدثه غيري؛ ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال وهو يحدث مجلسا أنا فيه عن الفتن ... الحديث. وكما في حديث الجساسة أيضا عند مسلم: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر الناس بعد صلاة صلاها أن يلزم كل واحد منهم مصلاّه، ثم بين لهم لم جمعهم. - ثانيا / فعل الصحابة رضي الله عنهم كما في حديث حذيفة رضي الله عنه في مجلس عمر لما سألهم عن الفتن. كل ذلك دال على جواز التحديث بأحاديث الفتن بين الناس. - لكن يستثنى من ذلك ثلاث حالات: الأولى: إذا خاف الإنسان على نفسه.

الفائدة من هذا التحديث

دليل ذلك: حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: حفظت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعاءين فأما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته؛ قطع هذا البلعوم. وعند الحاكم وصححه وأقره الذهبي عن أبي الطفيل قال: انطلقت أنا وعمرو بن ضليع إلى حذيفة بن اليمان، وعنده سماطان من الناس، فقلنا: يا حذيفة! أدركت ما لم ندرك، وعلمت ما لم نعلم، وسمعت ما لم نسمع، فحدثنا بشيء لعل الله أن ينفعنا به فقال: لو حدثتكم بكل ما سمعت ما انتظرتم بي الليل القريب. وقال لخيثمة بن عبد الرحمن لما طلب منه ذلك: (لو فعلت لرجمتموني). الثانية: إذا خشي ألا يفهم من أمامه، فيثير عنده شبهة لم تكن في حسبانه. دليل ذلك: ما قاله علي رضي الله عنه: (حدثوا الناس بما يعرفون أتريدون أن يكذب الله ورسوله) وقال ابن مسعود رضي الله عنه: (ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه أفهامهم إلاّ كان لبعضهم فتنة). الثالثة: إذا كان المتحدث بها ليس أهلا للتحديث؛ إما لقلة علمه بصحيح الأخبار وسقيمها، وإما لقلة فهمه لها؛ مما يؤدي إلى خبطه فيها خبط عشواء، وتنزيلها على غير أهلها. - فإن قيل: فما الفائدة من تحديث الناس بذلك؟ فالجواب: ليتعلموا، وليأخذوا حذرهم، وليكون ذلك سببا في تقليل الفتن، إذ إن الدفع أسهل من الرفع. وبذلك كله تظهر شفقة النبي - صلى الله عليه وسلم - على أمته وإرشاده لهم إلى ما ينفعهم، وصدق الله القائل: ((وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين)). والله أعلم ....

المسألة الخامسة عشرة: بيان أن أكثر ما يروى في الفتن ضعيف أو موضوع

المسألة الخامسة عشرة: أن كثيرا مما يروى في الفتن والملاحم من الأحاديث والآثار ضعيف أو موضوع لا يحتج به، ولذا ورد عن الإمام أحمد رحمه الله أنه قال: ثلاث علوم لا إسناد لها ـ وفي لفظ: ليس لها أصل: التفسير والمغازي والملاحم. وهذا واضح جلي لمن قرأ في الكتب التي ألفت في هذا الباب خاصة ـ ككتاب: (الفتن) لنعيم بن حماد الخزاعي رحمه الله ـ ثم عرض ما فيها من الأحاديث والآثار على كلام أهل الشأن من العلماء. فإن قال قائل: فإذا كان الأمر كما قلت، فلماذا رواها هؤلاء الأجلة رحمهم الله وأودعوها مصنفاتهم؟ أليس في هذا تضليل للأمة، وغش لأهلها؟ فالجواب: أن من عادة سلفنا رحمهم الله تعالى أن يرووا في كتبهم ما أرادوا ذكره بأسانيدهم .. لينظر فيها من يقرأ كتبهم ممن جاء بعدهم ثم يحكم عليها بما يليق بها صحة وضعفا .. وكثير من كتب الإسلام قائمة على ما ذكرت .. فالجمع والتأليف شيء، والتمحيص ومن ثم العمل شيء آخر. إذا: فلا غش ولا تضليل، وإنما الغش والتضليل ممن يذكر تلك الآثار والنصوص في كتابه بلا خُطُم ولا أزمة، كالبعير الشارد، ويسوقها مساق الأحاديث المسلم بها بحجة أنه وجدها في كتاب فلان، وينزلها على الأزمان والأشخاص، فيغر الجاهل بها، ويشغل العالم بالرد عليه وعليها.

بيان عدم جواز الترخص في رواية الضعيف والموضوع في الفتن

فإن قيل: أفلا يجوز الترخص في رواية هذه الأحاديث، وبثها في الناس، لأنها لا تتعلق بشيء من الحلال والحرام؟ قيل لا يجوز ذلك لأمرين: أولهما: أن تلك النصوص التي يراد الترخيص في روايتها ونشرها مع ضعفها وإن كانت لا تتعلق بالحلال والحرام؛ إلاّ أنها تتعلق بأمور عامة بالأمة، يترتب عليها من الأحكام والأحوال بل والأفعال مالا يعلمه إلاّ الله تعالى، فإذا ذكرت ونشرت وقعت بسببها محن وزلازل، وفتن وقلاقل .. وليس الناس كلهم علماء يعرفون، ولا عقلاء يكفّون، بل كثير منهم همج رعاع، يسمعون فيصدقون. الثاني: أن كثيرا مما تخبر به أمثال هذه النصوص: أمور مستقبلية غيبية لا يعلمها إلا الله تعالى، فالخوض فيها اعتمادا على مثل تلك الروايات غير جائز شرعا، إذ هو من التخرص والظنون والرجم بالغيب .. والله المستعان. فإذا كان الأمر كذلك: بان لنا خطورة الاعتماد على مثل تلك النصوص، ومن ثم العمل بها، ونشرها بين الناس. تنبيهات: أولها: لا يعني ما قدمناه في هذه المسألة أن الفتن والملاحم لم يثبت فيها شيء عن نبينا - صلى الله عليه وسلم -، كلا .. بل قد ثبت فيها الكثير الطيب عنه عليه الصلاة والسلام مما هو موجود في دواوين الإسلام المشهورة المعروفة، والتي تداولها العلماء دراسة وتمحيصا، وشرحا وتخريجا والحمد لله. الثاني: أنه كما تساهل قوم في الأخذ بكل ما هب ودرج مما يروى في الفتن والملاحم، غلا قوم في الرد والجفا حتى أنكروا ما صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها إما اجتهادا بحسن نية، وإما مكيدة وسوء طوية. فوجد من أنكر خروج الدجال وظهور المهدي ونزول عيسى عليه

وعلى نبينا الصلاة والسلام إنكارا صريحا، أو تأويلا يؤول إلى الإنكار، وكل ذلك باطل قطعا، وليس المراد في هذه الرسالة الرد على أولئك المنكرين، ولكن المقصود هو بيان طرق الناس في الأخذ والرد لما ورد من النصوص في الفتن والملاحم. وعلى كل حال فهؤلاء الجفاة كأولئك الغلاة .. جانبوا الصواب في التلقي والتنزيل .. والوسط هو العدل والخير .. وكلا طرفي قصد الأمور ذميم ..... والله أعلم.

المسألة السادسة عشرة: في تنزيل أحاديث الفتن على الأزمان والأشخاص

المسألة السادسة عشرة: اعلم أن تنزيل ما ورد من أحاديث الفتن عل الأزمان المعينة أو الأشخاص المعينين على قسمين: القسم الأول: تنزيل تام: بأن يقول أن المقصود بالحديث الفلاني هو هذا الزمان بالذات أو أن المقصود بالشخص الفلاني المذكور في حديث كذا هو فلان بن فلان ونحو ذلك. وهذا النوع من التنزيل لا يجوز؛ لما يترتب على ذلك من العواقب الوخيمة والآثار الجسيمة ولو لم يكن في ذلك إلا حصول فتن جديدة ليست هي المقصود بالنص لكفى .. وقد قدمنا في المسالة (الحادية عشرة) كيف أن تنزيل بعض النصوص على بعض الأفراد كالنصوص الواردة في المهدي مثلا قد أدى إلى حصول فتن كثيرة في الأمة سفكت فيها الدماء وانتهكت فيها الأعراض ونهبت فيها الأموال ولا حول ولا قوة إلا بالله. القسم الثاني: تنزيل جزئي، وان شئت فقل: (تنزيل معنى) بأن يقال: أن معنى ما ورد في النص الفلاني قد وقع شيء منه في زماننا هذا، كحديث " يرفع العلم وينزل الجهل ويلقى الشح " فإن قائلا لو قال: إن زماننا هذا قد وقع فيه شيء مما ذكر فيه لما أنكر عليه أحد، ولكان قوله مقبولا لا يرد. ومن نظر في كلام الأئمة عند شرحهم لمثل هذه الأحاديث رأى ذلك واضحا جليا .. والحمد لله. فإن قال قائل: فإنه قد وجد في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من نزل بعض

بيان أن لكل وصف من أوصاف الفتن معنا خاصا

الأحاديث على بعض الأشخاص تنزيلا تاما، كما ورد عن عمر - رضي الله عنهم - أنه كان يحلف أن الدجال هو ابن صياد، وتبعه على ذلك جابر - رضي الله عنهم - كما في صحيح مسلم، وابنه عبد الله كما عند أبي داود، ولو كان الأمر كما ذكرت لما جاز لهم ذلك؟ فالجواب: أن ذلك لم يكن من عمر - رضي الله عنهم - ومن معه من الصحابة اجتهادا من عند أنفسهم، بل كان اعتمادا على إقرار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما نفس الحديث المذكور فإن جابر - رضي الله عنهم - لما سئل عن يمينه قال: سمعت عمر يحلف بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا ينكره. فالذي يريد أن ينزل الأحاديث على الزمن وأهله يحتاج إلى مثل ذلك الإقرار، وأنى له ذلك. ثم على فرض التسليم بعدم الإقرار منه - صلى الله عليه وسلم - لعمر وأن ذلك كان منه اجتهادا؛ فأي الناس كعمر الذي وصفه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمحدث الملهم، والذي وافق ربه في مسائل كثيرة، هذا مما لا يكون بحال. فإن قيل: فهل يعني ذلك أن الأحاديث الواردة في وصف الفتن ليس لها معنى معينا (خاصا) وإنما هي أمور عامة مشتركة بين الأزمنة والأمكنة والأشخاص؟ فالجواب: لا .. فإن كل ما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في فتنة من الفتن لا بد واقع لا محالة كما أخبر؛ فان كان المخبر به أشخاصا يكونون في الأمة: ظهر أولئك الأشخاص بأعيانهم كما أخبر، وعندها يعرفهم الناس بالعلامات الدالة عليهم الواردة في النصوص في وصفهم، كذي الثديّة المذكور في قتال الخوارج؛ والدجال وغيرهما. وان كان المذكور في النص أحوالا وأوصافا للناس عامة أو لبعضهم خاصة، أو للأزمنة أو الأمكنة: وقعت تلك الأوصاف واستحكمت وغلبت حتى تكون مطابقة لما ورد فيعرفها الناس حينئذ، كما في الصحيحين من حديث حذيفة رضي الله عنه قال: قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقاما ما ترك شيئا يكون في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلا حدث به حفظه من حفظه ونسيه من نسيه،

قد علمه أصحابي هؤلاء، وإنه ليكون منه الشيء قد نسيته فأراه فأذكره كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه ثم إذا رآه عرفه. فان قيل: فإذا كان الأمر كما ذكرت فما وجه هذا التقسيم كله؟ فالجواب: أن في ذلك سدا للذريعة على كل متقول ومتخرص وراجم بالغيب، حتى لا يقع الاختلاف، وتعم الفتن ويكذب الشرع .. والله أعلى وأعلم.

المسألة السابعة عشرة: أن لله تعالى وقت الفتن ألطافا ورحمة

المسألة السابعة عشرة: أن لله تعالى وقت الفتن بهذه الأمة ألطافا ورحمة، كيف لا وهو الله الرحمن الرحيم وقد وعد سبحانه نبيه - صلى الله عليه وسلم - بان يرضيه في أمته ولا يسوؤه كما في الصحيح من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما وفيه أن الله تعالى يقول: (يا جبريل اذهب إلى محمد فقل: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك) وهذه البشارة الإلهية الكريمة عامة لهذه الأمة في الدنيا والآخرة إذ إن الله سيرضي رسوله في أمته في عاجل الأمر واجله. والفتن وان كان فيها من البلاء والتمحيص والضيق ما يكون إلا إن لله تعالى في خفايا ذلك البلاء وأعطافه ألطاف ورحمة حقيقة بان تشكر ولا تكفر وتذكر ولا تستر. فمن ذلك: أولا: أن الله تعالى لا يجمع هذه الأمة على ضلالة أبدا بل الحق فيها دائم ما دامت الأمة وهذا ما تدل عليه أحاديث الطائفة المنصورة كما قدمنا ووجه الدلالة منها: أن طائفة من الأمة باقية على الحق مستمسكة به حتى يأتيها أمر الله وهي على ذلك، وفي مصنف ابن أبي شيبة (8/ 604) بإسناد صحيح كما قال الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير (3/ 296) عن أبي مسعود رضي الله عنه انه قال: (اتقوا الله واصبروا حتى يستريح بر، أو يستراح من فاجر، وعليكم بالجماعة فان الله لا يجمع امة محمد - صلى الله عليه وسلم - على ضلالة).

ومنها: أنه حفظ الأمة من الهلاك العام بسبب أمور

فبقاء الحق في الأمة ظاهرا منصورا محفوظا، من أجلّ النعم وأفضل المنن على هذه الأمة ولله الحمد والمنة. ثانيا: أن الله تعالى حفظ هذه الأمة من الهلاك ببعض الأمور، بدعاء نبيها - صلى الله عليه وسلم -، فمن ذلك: ما رواه مسلم وغيره من حديث ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وان أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها، وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض واني سالت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة عامة، وان لا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، وان ربي قال: يا محمد إني إذا قضيت قضاء فانه لا يرد، واني أعطيتك لامتك أن لا أهلكهم بسنة عامة، ولا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها أو قال من بين أقطارها، حتى يكون بعضهم يهلك بعضا ويسبي بعضهم بعضا). وفيه عن سعد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اقبل ذات يوم من العالية حتى إذا مر بمسجد بني معاوية دخل فركع ركعتين وصلينا معه ودعا ربه طويلا ثم انصرف إلينا فقال - صلى الله عليه وسلم - (سالت ربي ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة: سالت أن لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها وسألته أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل باسهم بينهم فمنعنيها). فبان بهذه الأحاديث حفظ الله تعالى لهذه الأمة من الهلاك العام: بالسنين، والغرق، والعدو الخارج مهما كانت قوته، وأن من أخطر الأمور على الأمة هو التفرق والاختلاف، والفتن الناشئة من داخلها. وعليه: فليتق الله أقوام يسعون في إشعال الفتن، وإذكاء نارها، سواء ممن له غيرة على الدين تحملهم على ارتكاب مالا يجمل، أو من الفسقة والمنحلين الذين يسعون لإفساد المسمين، فان ذلك سبب للهلاك. والله اعلم. ثالثا: كما أن الله تعالى ـ كما تقدم ـ قد أمّن هذه الأمة من الهلاك العام بعذاب من عنده؛ فإنه سبحانه لم يجعل نهايتها على يد أحد سواه،

ومنها: أنه يجعل لها في بعض الفتن علامات تعرفها بها

وذلك بأن يرسل سبحانه في آخر الزمان ريحا طيبة تقبض أرواح عباده المؤمنين قبضا يسيرا، حتى لا يبقى على الأرض منهم أحد. ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله يبعث ريحا من اليمن ألين من الحرير، فلا تدع أحدا في قلبه مثقال حبة ـ وفي لفظ: مثقال ذرة من إيمان إلاّ قبضته)). وفيه وفي المسند من حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه ـ الطويل في قصة الدجال ـ وفيه: ((فبينما هم كذلك إذ بعث الله ريحا طيبة فتأخذهم تحت آباطهم، فتقبض روح كل مؤمن وكل مسلم، ويبقى شرار الناس يتهارجون تهارج الحمر؛ فعليهم تقوم الساعة)). رابعا: أن الله تعالى يجعل لها في بعض الفتن الكبار علامات تعرفها بها، حتى لا تقع في الخطأ والزلل. كما ورد في الدجال، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد وصفه وصفا تاما كما قدمنا، وهذه الصفة التي وصف بها هي إحدى العلامات التي يعرفه الناس بها، وعلامة أخرى: أن الله تعالى يجعل بين عينيه كلمة فاضحة له وهي (كافر) يقرؤها كل مؤمن كاتب وغير كاتب كما في صحيح مسلم، والظاهر أن هذه العلامة خاصة بهذه الأمة دون غيرها حفظا لها وتثبيتا، بخلاف العلامة التي هي صفة له فإنه يشترك فيها جميع الناس. ومثل ذلك المهدي الذي سيخرجه الله للأمة في آخر الزمان، فإنه قد وصف كذلك أتم الوصف وأبينه كما مر، وحتى لا يلتبس بغيره بسبب الاشتراك في بعض الصفات جعلت له علامة أخرى عند خروجه هي من الظهور وعدم الالتباس بمكان، ألا وهي الخسوف بالجيش الذي يؤم البيت لمحاربته كما ورد في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام. خامسا: ومن ألطاف الله تعالى بهذه الأمة عند الفتن: أنه يقيض لها في آخر الزمان عند اشتداد الفتن وتعاظمها من يقودها، من عباده الصالحين. فالمهدي مثلا يخرجه الله في وقت تشتد فيه الأمور وتكثر فيه الفتن،

ويعظم فيه أمر الكفار، فيجعل الله تعالى خروج هذا العبد الصالح سببا في إعزاز دينه وإعلاء كلمته. وكذا عند حصول فتنة الدجال التي هي من أعظم الفتن في الدنيا ينزل الله تعالى على هذه الأمة عبده ورسوله: عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فيقتل الدجال، والخنزير ويكسر الصليب ويضع الجزية، ويمكث بين ظهراني الأمة كذلك عند خروج يأجوج ومأجوج حتى إذا أهلكهم الله، مكث في الأمة ما شاء الله أن يمكث ثم يموت عليه الصلاة والسلام. وهذا الذي قلناه إنما هو لطف من الله تعالى بهذه الأمة وربط على قلوب أهلها، فما أكرم أمة، ساسها أنبياء الله في أول أمرها وآخره. ولعله يدخل في هذا الباب أيضا ما ورد عنه - صلى الله عليه وسلم - من أن الله تعالى يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها، فلله الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه.

المسألة الثامنة عشرة: أن الشريعة كما بينت الفتن بينت المخرج منها

المسألة الثامنة عشرة: أن صاحب الشريعة كما بين لنا الفتن؛ بين لنا المخرج منها وكيفية التعامل معها، مما يدل أعظم الدلالة على كمال الشريعة، حيث بينت الداء ,وأبانت عن الدواء، فمن ذلك: أولاً: أنها أمرت بالصبر، ففي البخاري عن أسيد بن حضير رضي الله عنه أن رجلا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله: استعملت فلانا ولم تستعملني، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إنكم سترون بعدي أثرة ـ وفي لفظ ـ ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني)). وفي المسند عن معاوية رضي الله عنه قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لم يبق من الدنيا إلا بلاء وفتنة، فأعدوا للبلاء صبرا)). ففي الحديث أمر بالإعداد للفتن صبرا، ولا يكون ذلك الإعداد إلاّ بترويض النفوس، وتعويدها على الصبر والمصابرة، وإنما الحلم بالتحلم، والعلم بالتعلم، ومن يتصبر يصبره الله. وقد جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الصبر أوسع العطاء فقال كما في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري: ((وما أعطي أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر))، وذلك أن الصبر لا يعقبه إلا السعة واليسر قال تعالى: ((فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا))، ولذا قال عمر رضي الله عنه: (أدركنا خير عيشنا بالصبر)، وقديما قيل: أَمَا والذي لا خلد إلا لوجهه ... ومن ليس في العز المنيع له كفو

لئن كان بدء الصبر مُراً مذاقه ... لقد يجتنى من غبه الثمر الحلو وفي الفتن تظهر العجلة، وتخف العقول، وتختلط الأمور، والصبر كاشف لذلك كله وذلك لامور: أولها: أن الله تعالى أخبر أنه مع الصابرين فقال: {يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين}، ومن كان الله معه أنزل عليه سكينته وثبت قلبه كما قال تعالى عن نبيه - صلى الله عليه وسلم -: {ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا؛ فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها ..} الآية. والسكينة هي هدوء النفس وطمأنينة القلب، المفضية إلى حسن التصرف وسلامة التدبير، فإذا نزلت السكينة انجفلت الفتنة، وإذا رفعت السكينة، وضعت الفتنة. الثاني: أن الله تعالى أخبر بمحبته للصابرين فقال: {والله يحب الصابرين} ومن أحبه الله عصمه وثبته، وأراه الحق حقا، ورزقه إتباعه، وأراه الباطل باطلا ورزقه اجتنابه؛ ولذا ورد في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله تعالى قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب ألي مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته: كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن استعاذني لأعيذنه ..))، فمن أحبه الله حفظ له سمعه وبصره ويده وقدمه وما أحوج الناس وقت الفتن إلى حفظ تلك الجوارح ... والموفق من وفقه الله. الثالث: أن الله تعالى جعل للصابرين ثلاث بشارات جزاء صبرهم فقال: ((وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا: إنا لله وإنا أليه راجعون، أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم

ومنها: العلم

المهتدون))، فوعدهم سبحانه بعد صلاته عليهم؛ بأن يرحمهم ويهديهم، ومع اختلاط الأمور في الفتن ما أحوج الناس إلى رحمة الله وهداه .. جعلنا الله من أهل هداه ورحمته. وعلى كل حال: فالصبر مطية لا تكبو، وصارم لا ينبو، من استعصم به عصم، ومن تمسك به هدي .. والله المستعان. ثانيًا: العلم: ولذا جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - رفعه من علامات الساعة فقال: ((من أشراط الساعة: أن يقل العلم، ويظهر الجهل)). وقد شبه النبي - صلى الله عليه وسلم - الفتن (بقطع الليل) وليس أي ليل بل الليل (المظلم) الذي لا قمر فيه ولا ضياء، فالساري فيه على شفى هلكة إن لم يكن معه ما يبصر به مواقع قدمه، ومجاهل طريقه؛ وهو في حال الفتن: العلم؛ فإنه كاشف لها مبين لحالها وأهلها. وكلما زاد علم الإنسان بربه ودينه؛ زادت بصيرته واطمأن قلبه، قال حذيفة رضي الله عنه: (لا تضرك الفتنه ما عرفت دينك، إنما الفتنة إذا اشتبه عليك الحق والباطل). والمراد بالعلم هنا: هو العلم الشرعي الصحيح المبني على كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، إذ فيها النجاة أبدا، ولذا سمى الله تعالى كتابه نورا فقال: {يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا} وقال: {فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا والله بما تعملون خبير} وقال: {فالذين ءآمنوا به وعزّروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون}. وسماه بصائر فقال: {فد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها وما أنا عليكم بحفيظ} وقال: {هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون}. وأمر بطاعة رسوله فيما أمر به ونهى عنه فقال: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} وقال: {من يطع الرسول فقد أطاع

ومنها: إرجاع الأمور إلى أهلها

الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا}، ووعد من اتبع رسوله وأطاعه بالهداية فقال: {وإن تطيعوه تهتدوا}. عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله! كأن هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا؟ فقال: ((أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن عبدا حبشيا، فانه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعظوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة)) أخرجه أبو داود واللفظ له والترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وصححه الألباني في ظلال الجنة ح (31). فجعل المخرج عند اختلاف الأمور وظهور المحدثات؛ التمسك بسنته - صلى الله عليه وسلم -.وهذا من الهداية التي وعد الله تعالى بها من اتبع نبيه - صلى الله عليه وسلم -. ثالثا: مما يكون سببا في الخروج من الفتن: أن ترجع الأمور إلى أهلها، من أهل العلم والبصيرة إذ لا يصح أن يكثر الخائضون، ولا أن يتعالم المتعالمون لأن أمر الفتن شديد فالقول وقت الفتن لا يكون إلا لأهل العلم قال الحسن رحمه الله كما طبقات ابن سعد (7/ 166): (إن هذه الفتنة إذا أقبلت عرفها كل عالم، وإذا أدبرت عرفها كل جاهل) وإنما كان الأمر كذلك لأمور: أولها: أنهم هم ورثة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهم الأعلم بكتاب الله، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. وقد قدمنا أن العلم من أعظم الأسباب المنجية من الفتن، وهم أمكن فيه من غيرهم، فكان الأمر لهم دون سواهم. الثاني: أنهم أشفق على الأمة من غيرهم وأنصح لها ممن سواهم، وذلك لما علموه من دلالة الكتاب والسنة على وجوب البلاغ ومغبة الكتمان.

تنقص العلماء وأثره على الأمة

الثالث: أنهم أعلم وأدرى بتقدير المصالح والمفاسد، والترجيح بينها، من غيرهم، إذ إن لهم من البصيرة في الدين ما ليس لغيرهم. وعلى ما تقدم: فمِن إعطاء الحقوق لأهلها ألا يُتقدم عليهم بقول ولا فتيا، ولا اجتهاد ولا نظر. ولا يعني ذلك القول بعصمتهم، وعدم الزلل منهم: كلا، فما زال العلماء يخطئون ويزلون، لكن لا يعني خطأ العالم استباحة عرضه، وأكل لحمه فإن ذلك من الظلم الذي سببه الطيش والجهل، بل الواجب أن يرد عليه خطأه وأن تحفظ له سابقته. ولُيعلم أن التنقص من العلماء إنما هو مكيدة شيطانية، يلقيها الشيطان على لسان بعض الناس، ثمرتها الخبيثة: نزع ثقة الأمة في علمائها ومصلحيها، وفتح باب الولوج للرؤوس الجهال الذين أخبر عنهم النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ وذلك أن الناس لابد لهم من رأس يرجعون إليه إما في أمر دينهم، وإما في أمر دنياهم، أو فيهما معا، فإذا كان الرأس ضالا؛ ضل بضلاله الكثير، وفسد بسببه أمر الناس في دينهم ودنياهم. فليحذر الصالحون من مغبة الكلام في أعراض العلماء ولا يكونوا معاول هدم للأمة. وأما العلماء: فإن عليهم واجبا كبيرا لو لم يكن من شأنه إلاّ أنهم قائمون في الأمة مقام نبيها - صلى الله عليه وسلم - لكفى، وإذا كان واجبهم وقت السعة عظيم؛ فهو في وقت الفتن أشد وأعظم لالتباس الأمور واشتباهها واختلاف الأحوال وتغيرها. وليعلموا أن من أعظم أسباب الفتن وقوعا وانتشارا: كتمانهم لما عندهم من العلم، إما خوفا ومداهنة، وإما شحاً وبخلا. إذ إن كليهما مفض إلى ظهور المنكرات وانتشار البدع وذهاب الدين، ومن ثم سفك الدماء واستحلال المحارم، عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم وحملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم)). وعليهم أن يكونوا رجال عامة، فيصبروا أنفسهم للناس، ويخفضوا

من المخارج كذلك: الحلم والأناة

لهم الجناح، فإن ذلك أدعى لقبول الناس منهم والتفافهم حولهم وصدورهم عن رأيهم، فإن لم يكونوا كذلك فلا يلوموا الناس إن طلبوا رؤوسا غيرهم بل يلوموا أنفسهم. رابعا: الحلم والأناة: وهما خلقان محمودان شرعا، محبوبان لله ورسوله كما في حديث ابن عباس في قصة قدوم وفد عبد القيس وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للأشج أشج عبد القيس: (إن فيك لخصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة). وهذان الخلقان يثمران أحسن الثمرات، ويوردان أحسن الموارد، إذ يحملان صاحبهما على فعل الحسن، وترك القبيح. ولو لم يكن في الحلم إلاّ أن الله تعالى وصف به نفسه وجعله من أسمائه، ووصف به أنبياءه لكفى، قال تعالى: {والله غفور حليم} وقال: {واعلموا أن الله غفور حليم} وقال: {وكان الله عليما حليما} وغيرها من الآيات التي يسمي فيها الله تعالى نفسه بهذا الاسم ويصف فيها نفسه بهذه الصفة. وقال عن خليله إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -: {إن إبراهيم لحليم أوّاه منيب} وقال: {إن إبراهيم لأواه حليم} وقال عن نبيه إسماعيل عليه السلام: {فبشرناه بغلام حليم}. وقد عد النبي - صلى الله عليه وسلم - السمت الحسن والتؤدة والاقتصاد جزء من أربعة وعشرين جزءا من النبوة كما في سنن الترمذي من حديث عبد الله بن سرجس رضي الله عنه. وأما العجلة والتسرع فخلقان مذمومان في غالب الأحيان، وأكثر الأحوال وذلك لأنهما ثمرة الهوى والشهوة إذ يمنعان صاحبهما من التفكر في الأمر، والنظر في العواقب، بل ويحرمان صاحبهما من كثير من العلم النافع والعمل الصالح، وفي الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول دعوت فلم يستحب لي)، فانظر كيف كانت العجلة سببا في حرمان الإجابة وترك الدعاء ولو صبر لكان خيرا له.

ومنها: التثبت

فعلى العبد الموفق إذا وقعت الفتن أن يحلم ولا يجهل، ويتأنى ولا يعجل، فإن ذلك أحمد للعاقبة ... والله المستعان. خامسا: مما يكون سببا في دفع الفتن أو تقليلها: التثبت: وهو مبدأ قرآني أصيل، يذب به عن الأعراض، ويستراح به من القال والقيل. يقول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين} ويقول: {يا أيها الذين أمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا، فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمنّ الله عليكم فتبينوا إن الله كان بما تعملون خبيرا} أخرج الترمذي وغيره وهو عند البخاري مختصرا في سبب نزول هذه الآية عن ابن عباس رضي الله عنه أن رجلا من بني سليم مر على نفر من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه غنم له، فسلم عليهم فقالوا: ما سلم عليكم إلا ليتعوذ منكم، فقاموا إليه وقتلوه وأخذوا غنمه، فأتوا بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله هذه الآية،.فانظر كيف كان ترك التثبت سببا في سفك دم ما أمروا بسفكه. إن عدم التثبت ليرهق الأمة أفرادا وجماعات، إذ يكلفها من وقتها وجهدها ومالها ما تكون في غنى عن بذله لو تثبتت. والفتن إنما تظهر بالإشاعات والبواطيل، وتنتشر بالقال والقيل، مع خفة عقل في نقلتها ورقة دين، تمنعهم من امتثال أمر الله تعالى بالتثبت وترك الاستعجال. ولتجدنّ أشد الناس حدّة في الطبع، وإعجابا بالنفس، وتعصبا للرأي؛ هم أولئك الذين لا يتثبتون ولا يتبينون، فيغلب عليهم الصلف والكبر، وعدم مراعاة الناس، الجميع عندهم جهلة لا يعلمون، وهم العارفون العالمون. إن حمل المسلمين على العدالة هو الأصل الذي لا ينبغي العدول عنه إلاّ بمثله من اليقين، أما بمجرد قول قيل لا يدرى من أي رأس خرج ولا

ومنها: الإكثار من العمل الصالح

على أي أرض درج؛ فجريمة يسأل صاحبها عنها، مفضية إلى الندامة في الدنيا قبل الآخرة. وعليه: فإن من أعظم ما تدفع به الفتن، التثبت والتبين في الأخبار، لاسيما إذا كان الخبر متعلقا بعموم الأمة، أو برأس من رؤوسها، وليعلم أن مجرد الثقة في الناقل لا تكفي بمفردها وذلك لما يعتري النفوس من الهوى والشهوة ونفث الشيطان. ثم لو فرض صحة الخبر يقينا، فإنه يبقى بعد ذلك النظر في مصلحة نشره من عدمها، فإنه ليس كل ما يعلم يقال، وإن من الأخبار مالا يلقى إلاّ إلى الخاصة الذين يصلحون في الأرض ولا يفسدون. وليعلم أيضا أن هتك الأستار، ليس من الإصلاح في شيء، إذ إن الله تعالى أمر بالستر والنصح، وأمره سبحانه هو الصلاح والإصلاح بعينه، فما خالفه فليس من الإصلاح في شيء كما قلنا. إن المنهج الحق: هو التناصح، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مع شفقة على المنصوح وحزن عليه يقتضي تمام السعي في إصلاحه وإن كان جبارا عنيدا، وقد جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - المقتول بسبب كلمة الحق من أعظم الشهداء عند الله، لكنه لم يجعل لهاتك الأستار إلاّ الفضيحة في الدنيا؛ إذ يوشك الله تعالى أن يفضحه ولو في جوف داره، أعاذنا الله وإخواننا المسلمين من سوء الحال والمآل. سادسا: الإكثار من العمل الصالح: عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: استيقظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة فزعا يقول: ((سبحان الله ماذا أنزل الله من الخزائن، وماذا أنزل من الفتن، من يوقظ صواحب الحجرات ـ يريد أزواجه ـ لكي يصلين، رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة)). فالعمل الصالح كما أنه مجلبة للرزق، فهو كذلك مدفعة للفتن، وإنما كان كذلك لأنه من أعظم أسباب الثبات على الحق قال الله تعالى: {ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا ..} الآية،

ولأنه من أعظم أسباب ترك البغي كما قال تعالى: {وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلاّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم}. وأهل العمل الصالح الذين هم المتقون يؤيدهم الله تعالى بفرقان من عنده يميزون به بين الحق والباطل، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم ..} والناس في كل وقت محتاجون إلى التمييز بين الحق والباطل، والخلط بينهما من أعظم أبواب الفتن. وأيضا: فإن الله تعالى مع المتقين وقد قدمنا أن من كان الله تعالى معه، ثبته وهداه، وأنزل عليه السكينة. وأيضا: فإن المتقين أخشى لله من غيرهم وأخوف، ومن كان خوف الله تعالى وخشيته ملء قلبه كفّه عن محارمه، فيثر حينئذ خير العبد ويقل شره، ويسلم منه الناس ولذا ورد في الحديث عنه - صلى الله عليه وسلم - ((الإيمان قيد الفتل)) رواه أبو داود عن أبي هريرة. فصاحب الخشية: أعف الناس لسانا، وأكفهم يدا، وأرحمهم قلبا. ومما يجعل العمل الصالح مخرجا من الفتن أيضا: أن صاحبه مشغول به عن غيره، غير ملتفت إلى ما سواه، وإنما تزيد الفتن ويكثر أهلها بسبب الغفلة والفراغ، إذ هما مدعاة للاشتغال بما لا ينفع، ومن لم يشغل نفسه بالطاعة أشغلته بالمعصية ولا بد. وخلاصة ما سبق، أن العمل الصالح سبب من أسباب العصمة من الفتن لأمور: أولها: أنه سبب لتثبيت الله تعالى لصاحبه. الثاني: أن الله تعالى يجعل لصاحبه نورا وفرقانا يميز به بين الحق والباطل. الثالث: أنه مورث للخشية والخوف من الله تعالى المفضيان إلى كف النفس عن اقتحام لجج الفتن. الرابع: أنه مشغل لصاحبه عما لا يعنيه.

ومنها: كف اللسان واليد

جعلنا الله وإخواننا المسلمين من عباده الصالحين. سابعا: كف اللسان واليد: فلا يشارك في الفتنة بقول ولا فعل لما يترتب على ذلك من إشعال الفتنة وإذكاء نارها، أخرج الطبراني في الكبير والبيهقي في سننه عن الشعبي قال: قال عبد الملك بن مروان لأيمن بن خريم بن فاتك: اخرج فقاتل معنا، فقال: إن أبي وعمي شهدا بدرا وإنهما عهدا إلي ألاّ أقاتل رجلا يشهد ألاّ إله إلاّ الله، فإن أتيتني ببراءة من النار قاتلت معك، وإلاّ لا حاجة لنا فيك. وعند الداني في السنن الواردة في الفتن (1/ 345) أن رجلا قال لحذيفة: إذا اقتتل المسلمون فما تأمرني؟ قال: انظر أقصى بيت في دارك فلج فيه، فإن دخل عليك فقل: ها بؤ بذنبي وذنبك. وهذا الذي قاله هؤلاء الأجلّة من السلف هو ما أوصى به النبي - صلى الله عليه وسلم - بعض أصحابه، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكرت عنده الفتنة فقال: إذا رأيت الناس مرجت عهودهم وخفت أمانتهم وكانوا هكذا ـ وشبك بين أنامله ((قال عبد الله فقمت إليه فقلت: كيف أفعل عند ذلك يا رسول الله جعلني الله فداك؟ قال: ((الزم بيتك، وأمسك عليك لسانك، وخذ ما تعرف ودع ما تنكر، وعليك بأمر خاصتك، وإياك وعوامهم)) رواه أحمد وأبو داود وذكره الألباني في الصحيحة (205). وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يا أبا ذر! قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك. فذكر الحديث .. وفيه: ((كيف أنت إذا أصاب الناس موت يكون البيت فيه بالوصيف)) قلت: الله ورسوله أعلم، أو قال: ما خار لي الله ورسوله. قال: ((عليك بالصبر، أو قال: تصبر)) ثم قال لي: ((يا أبا ذر!)) قلت: لبيك وسعديك. قال: ((كيف أنت إذا رأيت أحجار الزيت قد غرقت بالدم)) قلت: ما خار لي الله ورسوله. قال: ((عليك بما أنت منه)) قلت: يا رسول الله! أفلا آخذ سيفي وأضعه على عاتقي؟ قال: (0 شاركت القوم إذا)) قلت فما تأمرني؟ قال: ((تلزم بيتك)) قلت: فإن دخل عليّ بيتي؟ قال: ((فإن خشيت أن يبهرك شعاع السيف فألق ثوبك على وجهك، يبوء بإثمك وإثمه)) أخرجه أبو داود وابن ماجة وصححه الألباني في الإرواء (2451).

ومنها: لزوم جماعة المسلمين وإمامهم

ففي هذه الأحاديث أمر منه - صلى الله عليه وسلم - بكف اليد واللسان عند حصول الفتنة لما يترتب على ذلك من زيادتها. ومما يذكر هنا أن بعض السلف الصالح رحمهم الله تعالى عندما حصلت الفتنة الأولى ترك السؤال عن أخبارها، فقد نقل المزي في التهذيب في ترجمة سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنهم - أنه لزم بيته في الفتنة وأمر أهله ألاّ يخبروه بشيء من أخبار الناس حتى تجتمع الأمة على إمام. وروي عن شريح مثل ذلك فقد قال ميمون بن مهران: لبث شريح في الفتنة تسع سنين، لا يخبر ولا يستخبر، ولما سمع مسروق ذلك قال: لو كنت مثله لسرني أن أكون قد مت، رحم الله الجميع. وعليه: فينبغي للمسلم حال الفتن أن يكف يده ولسانه، ولرب كلمة أسالت دما، وأعقبت ندما. ... والله تعالى أعلم. ثامنا: مما يكون سببا في الخروج من الفتن: لزوم جماعة المسلين وإمامهم: كما أمر بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديث حذيفة الطويل وفيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له لما سأله عن الخير والشر فقال: فما ترى إن أدركني ذلك قال: ((تلزم جماعة المسلمين وإمامهم)) فقلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: ((فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدرك الموت وأنت على ذلك)) رواه مسلم في صحيحه. وواضح من الحديث أن مراد النبي - صلى الله عليه وسلم - جماعة المسلمين المجتمعة على إمام يقيم فيهم حكم الله تعالى وإن كان لفظ الجماعة قد يراد به معاني أخرى في النصوص الشرعية وهي وإن كانت لا شك مما يعصم من الفتن؛ إذ لا فتنة أعظم من ترك الإسلام وأهله واللحاق الكفر وأهله ((والفتنة أشد من القتل))، ثم ما يليها من البدع المفضية لتغيير الدين وتبديل شرع رب العالمين، لكن المراد هنا التأكيد على المغنى الذي ذكرناه لتهاون بعض الناس فيه مع ما يلقيه الشيطان من الشبه المفضية إلى الخروج على الأئمة ومنابذتهم بالسيف. بخلاف المعاني المذكورة، فإنها

وإن كانت كذلك إلاّ أن النفور مما يخالفها أشد، والهرب من مسمى الخارجين عنها أكثر حتى أنك ترى أهل البدع الغارقين فيها إلى رؤوسهم ينفرون من وصفهم بها ويبرئون أنفسهم منها. وإنما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بملازمة جماعة المسلمين وإمامهم لما في ذلك من المصلحة العامة، وإن ظن بعض الناس أن الخير في ترك ذلك، ولذا ورد عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (أيها الناس عليكم بالطاعة والجماعة فإنهما حبل الله الذي أمر به، وإن ما تكرهون في الجماعة خير مما تحبون في الفرقة) وصدق رضي الله عنه. وليعلم أن من أعظم أسباب الفتن بين المسلمين: الهوى والشيطان، وأهل الكفر والطغيان. فأما الأول: فلأن الإنسان قد تزين له نفسه وهواه وشيطانه؛ البغي على غيره، بأخذ ماله أو هتك عرضه أو سفك دمه، فإذا كان ثَمّ إمام وجماعة؛ وقعت الهيبة في نفس الباغي فكف عن بغيه، وأثمر ذلك لزومه للحق طوعا أو كرها، فسلم المسلمون وأمنوا. وأما الثاني: فكما قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين} إلى قوله تعالى: {لعلكم تهتدون}، وقد روي في سبب نزول هذه الآيات: أن يهوديا جلس في مجلس من مجالس الأنصار وأنشد شعرا مما كانت الأوس والخزرج تتقاوله يوم بعاث حتى ثار الحيان إلى السلاح، فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخرج إليهم وقال: ((يا معشر المسلمين! الله الله، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم)) ولم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعظهم حتى عرف القوم أنها نزغة من نزغات الشيطان، فألقوا السلاح من أيديهم وبكوا وعانق الرجال بعضهم بعضاً. إذا فأعداء الله الكافرين: لا يزالون يثيرون الفتن في الأمة، ويذكون نار الخلاف بين أهلها، أذهابا لقوة المسلمين، وإضعافا لأمرهم، فإذا اعتصم الناس بالجماعة، وتمسكوا بالإمامة ردوا كيد الكافرين في نحورهم، وبقيت

ومنها: الدعاء والتضرع

الأمة عزيزة الجناب، مرتوقة الإهاب لا يضرها كيد الكافرين ولا شنآن الحاسدين. تاسعا: الدعاء والتضرع: وهو سلاح المؤمن وجُنّة المتقي، والإنسان مهما بلغ علمه وعمله معرض للفتنة، فكان لزاما عليه أن يلوذ بمصرف القلوب والأبصار، راجيا متضرعا، داعيا متبتلا، عسى الله أن يرحمه ويثبته ويهديه، وما خاب عبد قرع باب مولاه، ولا ندم من انطرح بين يدي الله. وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتعوذ بالله من الفتن عموما ويأمر أصحابه بذلك كما في مسند أبي عوانة عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لهم: ((تعوذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن))، قلنا: نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن. ويتعوذ من فتن خاصة منها ما ورد في حديث عائشة رضي الله عنها الذي رواه الجماعة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: ((اللهم إني أعوذ بك من الكسل والهرم والمغرم والمأثم، اللهم إني أعوذ بك من عذاب النار وفتنة النار، وفتنة القبر وعذاب القبر، وشر فتنة الغنى وشر فتنة الفقر، ومن شر قتنة المسيح الدجال، اللهم اغسل خطاياي بماء الثلج والبرد، ونق قلبي من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وباعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب)). فإذا كان هذا هو حال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكيف بنا نحن، فمن توفيق الله تعالى لعبده أن يلهمه الدعاء والتضرع، ولرب دعوة خرجت من قلب صادق أورثت سعادة الدنيا والآخرة. عاشرا: مما يكون سببا في العصمة من الفتن: العزلة والفرار بالدين. كما في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شغف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن)). وفي صحيح مسلم من حديث

تأكد العزلة لأحد صنفين

أبي بكرة رضي الله عنه وقد تقدم في المسالة الرابعة وفيه: (ألا فإذا نزلت أوقعت ـ أي الفتن ـ فمن كان له إبل فليلحق بإبله، ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه، ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه ...) الحديث. وفي وصيته - صلى الله عليه وسلم - لعبد الله بن عمرو وقد مرت: (0 وعليك بأمر خاصتك وإياك وعوامهم)). وأكثر ما تتأكد العزلة في الفتن لأحد صنفين: أحدهما: من خشي على دينه أن يفتن فيه، ويحول عنه. الثاني: من كان ذا بأس وشدة يخشى على الناس منه ومن بأسه، ومثله صاحب الرأي والمشورة والدهاء، الذي يخشى على الناس من رأيه. ولذا ورد عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال لما ذكرت عنده الفتن وسئل: أي أهل ذلك الزمان شر؟ قال: (كل خطيب مسقع، وكل راكب موضع) نقله عنه البغوي في شرح السنة (15/ 16). وإنما كان الأمر كما قال: لأن الأول محرض على الفتنة بلسانه، والآخر بسنانه، فاجتمع الشران: شر القول، وشر العمل. إذا: فالعزلة في الفتن: عند خوف الضررين: القاصر والمتعدي. فإن قيل: فما فائدة العزلة وقت الفتن؟ فالجواب: أمور: منها: صيانة الدين عن المساس، والنفس عن التلف والعرض عن الضيم والانتهاك والمال عن الضياع، وقل من شارك في فتنة من الفتن وسلمت له هذه كلها. ومنها: سلامة الصدر على المسلمين، ولذا جاء عن سعد رضي الله عنه كما تقدم أنه أمر أهله إلاّ يخبروه بشيء من أخبار الناس لما وقعت الفتنة حتى يجتمعوا على إمام، وإنما كان الأمر كذلك: لأن من شارك في الفتن مع فئة

من الفئات، فلا بد له من العقد القلبي على محبتها والتعصب لها في الغالب، والبغض لمخالفها المناوئ لها، حتى ولو زالت الفتنة بقي في قلبه ما بقي، فكان من سبيل السلامة اعتزال فرق الفتنة كلها. والله المستعان. ومنها: إطفاء الفتن وإخماد نارها، وذلك أن الناس كلما اعتزلوا الفتن؛ قلّ أهلها، فقلّ شرها، وكلما تشرفوا لها وقاموا وقعدوا فيها؛ كثروا سواد أهلها، فزاد شرها، لثبات أهلها عليها، ودخول غيرهم ممن غرهم تكالب الناس عليها فيها فتزيد الفتن وتشتد، فشرعت العزلة حسما للداء، ورفعا للبلاء .. ولذا بوّب البخاري في صحيحه في (ك) الفتن فقال: باب من كره أن يكثر سواد أهل الفتن والظلم، وذكر فيه حديث أبي الأسود قال: قطع على أهل المدينة بعث فاكتتبت فيه، فلقيت عكرمة فأخبرته فنهاني أشد النهي ثم قال: أخبرني ابن عباس أن أناسا من المسلمين كانوا مع المشركين يكثّرون سواد المشركين على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيأتي السهم فيصيب أحدهم فيقتله أو يضربه فيقتله، فأنزل الله تعالى: {إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم ..} الآية.

المسألة التاسعة عشرة: أن الفتن منافية للشريعة مناقضة لها

المسألة التاسعة عشرة: أن كل ما تقدم يدل أتم الدلالة وأوضحها على أن الفتن منافية للشريعة، ومناقضة لها، فهي خلاف مقصودها. وعليه: فمن سعى في تحصيل فتنة أو إشعال نارها، فإنه ساع في ضلالة، وداع إلى هلكة، لكونه يسعى لشيء نهي عن السعي إليه. فإن قيل: فإنك قد قدمت في المسألة الثالثة؛ أنه إذا تعارضت الفتن، دفعت العظمى منهما بالصغرى، وهذا هو عين السعي في الفتنة التي ذكرت قبل أنها خلاف الشريعة؟ والجواب: أن ارتكاب الفتنة الصغرى دفعا للفتنة الكبرى ـ إذا لم تندفع إلاّ بذلك ـ ليس المقصود به الفتنة المرتكبة لذاتها إذ الفتنة مكروهة على كل حال؛ وإنما جاز ارتكابها للمصلحة المترتبة على ارتكابها وهي دفع ما هو أعظم منها، وهذا عند جميع العقلاء حسن جميل، كمن يدفع الموت عن نفسه بقطع يده التي أصابتها الآكلة، استغناء عن الجزء من أجل الكل. فإن قيل: فما وجه مناقضة الفتن للشرع؟ فالجواب: أمور: أولها: أن الفتن مفسدة للضرورات الخمس التي جاءت الشريعة بحفظها ودفع ما يفسدها، كلها أو بعضها، وهذا جلي من شأن الفتن، وكفى به مناقضة للشرع.

الثاني: أن الفتن مفضية إلى التفرق والاختلاف الذي جاءت الشريعة بالنهي عنه كما في قوله تعلى {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا} الآيات، وقوله: {ولا تكونوا من المشركين، من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما ليهم فرحون} وغيرها من الآيات، فصارت الفتن مؤدية إلى خلاف ما جاءت لأجله الشريعة وهذا من أعظم المناقضة. الثالث: أن الشريعة قد جاءت بالنهي عن الفتن والتحذير منها كما تقدم، مما يدل على مناقضتها لها , ولو كانت ملائمة لما ورد فيها ما ورد ... والله تعالى أعلى وأعلم.

الخاتمة

الخاتمة وبعد: فهذه بعض المسائل التي يسر الله تعالى جمعها من خلال بعض النصوص الواردة في الفتن، علها تكون بإذن الله تعالى، معينة على فهمها، ومن ثم التعامل معها. أسأل الله جل وعلا أن يعيذني وإخواني المسلمين شر الفتن، وأن يهيأ لنا من أمرنا رشدا، وأن يبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل الطاعة، ويذل فيه أهل المعصية، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد.

§1/1