مسائل خالف فيها رسول الله أهل الجاهلية

محمد حسن عبد الغفار

المقدمة

مسائل خالف فيها رسول الله أهل الجاهلية - المقدمة لقد جاء الرسول صلى الله عليه وسلم من عند ربه تعالى بالدين الحق ليذهب به ظلام الباطل والشرك، ولأجل ذلك فقد خالف عليه الصلاة والسلام أهل الجاهلية والشرك في كثير مما كانوا عليه، فكان لابد لكل من أراد تمام التوحيد أن يتميز عن أهل الباطل بما يجعله مستعلياً بإيمانه بالله تعالى.

منزلة العبودية عند الله تعالى وفضلها

منزلة العبودية عند الله تعالى وفضلها إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. لا شك أن الله جل في علاه خلق الخلق لمهمة عظيمة، ولحكمة جسيمة، قال جل في علاه في علاه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]. والعبودية لله هي من أرقى المنازل التي يمكن أن يعلو المرء إليها، وهي أشرف المنازل، وأرقى المراتب، وأعلى المقامات التي يمكن أن يصلها العبد، ويتشرف بها في هذه الدنيا والآخرة، والنجاة في الآخرة لا تكون إلا على تمام العبودية، أما رأيتم أن الله جل في علاه شرف نبيه صلى الله عليه وسلم وعظمه وكرمه بهذه المنزلة، حيث قال في مقام الإعجاز: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء:1]؛ ليبين أن هذه المنزلة التي أنزلها الله لرسوله صلى الله عليه وسلم هي أفضل المنازل التي يمكن أن يرتقي إليها عبد من عباد الله جل في علاه. وقال تعالى أيضاً في مقام التحدي لأهل الكفر: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة:23]، فأخبر أنه رفعه إلى منزلة عظيمة وهي منزلة العبودية، وذلك في قوله: (على عبدنا). وأيضاً في مقام الدعوة إلى الله وسمه بأرقى الصفات، وهي صفة العبودية، حيث قال الله تعالى: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن:19]. وأيضاً في مقام الوحي وصفه الله بهذه المنزلة العظيمة، فقال: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم:10]. فمنزلة العبودية هي أرقى المنازل التي يمكن لعبد أن يرتقي إليها، وهذه المنزلة لا يمكن أن ينزلها المرء حتى يرتقي إلى كمال التوحيد، فالعبد لا يرتقي عند ربه إلا بتمام التوحيد وكماله، وبين مراتب العباد مفاوز، بل بين درجات الجنة كما بين السماء والأرض.

أقسام الأمن والهداية وارتباطهما بالتوحيد

أقسام الأمن والهداية وارتباطهما بالتوحيد إن كمال التوحيد يكون به كمال الأمن، ويكون به كمال المتعة، قال الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ} [الأنعام:82] يعني: الأمن التام، وليس مطلق الأمن، بل الأمن المطلق. والأمن أمنان: أمن في الدنيا، وأمن في الآخرة، والهداية هدايتان: هداية في الدنيا، وهداية في الآخرة، والأمن التام في الدنيا هو الأمن القلبي؛ لأنهم قد لا يأمنون جسدياً؛ وذلك بأن يبتليهم الله تعالى بتسليط الأعداء. فالأمان الحقيقي هو أمان القلب، ولو ذبحوني فقلبي مملوء بالتوحيد، كما قال شيخ الإسلام: ماذا يفعل أعدائي بي، إن سجنوني فسجني خلوة بربي، وإن نفوني فنفيي سياحة، وإن قتلوني فقتلي شهادة، أنا جنتي في قلبي. إذاً: فالأمن التام يكون في القلب. وأما الأمن في الآخرة فهو أمن كامل، أمن من كل المصاعب والمتاعب، يأمن حتى في عرصات يوم القيامة، عندما يقوم الناس فزعين هو لا يفزع، عندما يشتد عليهم الكرب والعطش، فإن الله جل وعلا يرويه؛ لأنه أتم التوحيد، بل أول من يدخل الجنة على صورة القمر سبعون ألفاً من غير حساب ولا عذاب كما جاء في الحديث، وفي رواية أخرى: مع كل واحد من السبعين ألفاً، سبعون ألفاً يدخلون الجنة، وجوههم كالقمر، كل واحد منهم كما وصف النبي صلى الله عليه وسلم يأخذ بيد أخيه، فالكل يدخلون مرة واحدة، وهذا يسمى الأمن التام أو الأمن المطلق.

الفرق بين الأمن المطلق ومطلق الأمن

الفرق بين الأمن المطلق ومطلق الأمن إن الفرق بين مطلق الأمن والأمن المطلق: أن مطلق الأمن هو أصل الأمن، وهو يحصل بأدنى جزء منه، وأما الأمن المطلق فهو كمال الأمن، فلا يكون ذلك إلا بتمام التوحيد؛ لذا فنحن نركز بفضل الله سبحانه وتعالى في دروس العقيدة على الكلام على التوحيد، لاسيما وأن التوحيد هو فرض عين، وأن على كل إنسان أن يتعلم علم التوحيد وما ينافيه من الشرك؛ لأنه لن يسلم المرء بين يدي ربه جل في علاه، ولن يرضى الله عنه حتى يتم التوحيد بأصله وكماله.

أقسام التوحيد

أقسام التوحيد التوحيد قسمان: التوحيد العلمي الخبري، وتوحيد القصد والطلب، فأما التوحيد العلمي الخبري فهو توحيد الأسماء والصفات، وتوحيد الربوبية، وأما توحيد القصد والطلب فهو توحيد العبادة، أو توحيد الله بأفعال العباد. فأما توحيد الأسماء والصفات فقد أشبعنا القول فيه.

توحيد الربوبية

توحيد الربوبية توحيد الربوبية: هو أن تعتقد اعتقاداً جازماً بأن الله جل في علاه هو الخالق الرازق المدبر السيد الآمر الناهي المطاع. والاعتقاد من أفعال القلوب، ودليل هذا النوع قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر:62] وهذا نص عام يدخل تحته أفعال العباد، فالله هو خالقها وخالق كل شيء. وفي هذا رد على القدرية الذين يقولون: إن العبد هو خالق فعل نفسه، فالله جل في علاه خلق كل شيء، وما خلق شيئاً من دقيق ولا جليل إلا بقوله: (كن فيكون) كما قال الله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل:40]، واختص الله جل في علاه، من ذلك تكريماً وتعظيماً وتشريفاً أموراً ثلاثة فخلقها بيده: فخلق الله جل في علاه آدم بيده المقدسة سبحانه جل في علاه، قال الله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75]. وخط التوراة بيده، كما في الصحيحين: (أن آدم عليه السلام قال لموسى: أنت موسى اصطفاك الله بكلامه، وخط لك التوراة بيده). وغرس كرامة أهل الفردوس الأعلى بيده، أما باقي الخلق (فبكن) كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل:40]. وتوحيد الربوبية قال الله عنه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:56 - 58]، وقال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ} [الحجر:21]. والرزق رزقان: رزق القلوب، ورزق الأبدان، فأما رزق القلوب فهو الأتم والأكمل، وهو رزق العلم، ورزق محبة الله جل في علاه، ورزق كمال الإيمان، وهذا لا يؤتاه إلا من اصطفاه الله من الخلق، فهو خاص بالمؤمنين. وأما رزق الأبدان فهو يعم الكافر والمؤمن، والصالح والطالح، والبر والفاجر، فلم يمنع الله منه أحد، أما رأيتم قول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (ما رأيت أحداً أصبر على أذى من الله، يسبونه وينسبون له الولد وهو يعافيهم ويرزقهم). فهو رزق لكل مخلوق، بل أهل الكفر والإلحاد ينعمون في الدنيا، حتى إذا وقفوا في عرصات يوم القيامة بين يدي ربهم ومليكهم جل في علاه لم يجدوا حسنة يجازون بها، وأما رزق القلوب فهو بتمام الإيمان، وتمام محبته سبحانه، وتمام العمل بطاعته سبحانه، فهذا لا يكون إلا للمؤمنين؛ لأن الله يغار، وغيرة الله أن يضع الشيء في غير موضعه، فهو لا يضع ذلك إلا في قلب صافٍ نقي. وأما رزق الأبدان فهو الذي يمنح المرء التوكل التام على الله جل في علاه، كما قال الله تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ} [الذاريات:22] فما جعله الله في الأرض؛ لأنه يملكه جل في علاه، {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات:22]. وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (نفث في روعي الروح الأمين: أنه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها كما تستوفي أجلها)، وفي رواية أخرى صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الرزق ليسعى خلف ابن آدم كما يسعى خلفه الموت)، فلا يُتعبن أحد نفسه، ولا يشغلن باله في أمر الرزق؛ فإن الله قد كفاه هذا الأمر، فما على العبد إلا أن يعتقد اعتقاداً جازماً بأن الله جل في علاه قد قدر له في اللوح المحفوظ أجراً ورزقاً فسيأتيه، فإما أن يتعجله بالمعصية فسيأخذه مذموماً، وإما أن ينتظره ويعمل بنصيحة النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال: (فاتقوا الله وأجملوا في الطلب)، فأجمل الطلب، فالله جل في علاه يمنحك إياه بطاعة وكنت عنده محموداً. والنبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين يقول: (قال الله تعالى: يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني، فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي من شيئاً). فالله جل وعلا بيده خزائن السماوات والأرض، فهذا الاعتقاد يجرك إلى ألا يميل قلبك لأحد غير الله جل في علاه، فما من شيء دقيق ولا جليل في الكون كله من شئون حياتك وحياة الخلق أجمعين إلا قد دبره الله جل في علاه، قال الله تعالى: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الرعد:33]، فهو قائم على كل نفس بكل شيء مما ينفعها وييسر عليها أمر الطاعة، أو يغلق عليها باب المعصية، أو يفتح عليها من الفتوحات، فهذا كله بيد الله جل في علاه، قال الله تعالى: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [السجدة:5] وقال الله تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:29]. وقال ابن مسعود في تفسير هذه الآية: يرفع أقواماً ويخفض آخرين، ويعز أقواماً ويذل آخرين، وينصر أقواماً ويهزم آخرين، ينزع الملك ممن يشاء، ويؤتي الملك من يشاء سبحانه وتعالى. فهذا من تمام تدبير الله جل في علاه. ومن الاعتقاد الجازم في ربوبية الله جل في علاه: الاعتقاد بأن السيد المطاع هو الله، فلا آمر إلا الله، ولا سمع ولا طاعة إلا لله جل في علاه، وأي سمع وطاعة لأي أحد غير الله فهو سمع وطاعة تابعة لطاعة الله، أما رأيتم الله جل وعلا وهو يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59]، فجعل السمع والطاعة واجبة عليك لولي الأمر مادامت تابعة لطاعة الله وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولما دخل النبي صلى الله عليه وسلم عليهم قالوا: (أنت سيدنا وابن سيدنا فقال: قولوا بقولكم أو بعض قولكم، ولا يستهوينكم الشيطان، ثم قال: إن الله هو السيد). فالسيادة المطلقة لا تكون إلا لله جل في علاه؛ لأنه الخالق الرازق المدبر السيد الآمر الناهي المطاع سبحانه وتعالى. فهذا مجمل الكلام على توحيد الربوبية، وله علاقة وطيدة بتوحيد الإلهية.

توحيد الألوهية

توحيد الألوهية أما توحيد الألوهية أو توحيد الإلهية: فهو توحيد القصد والطلب، أو هو توحيد الله بأفعال العباد، أو هو توحيد العبادة، وهو إفراد الله جل في علاه بالعبادة، فكل عبادة ثبت بالشرع أنها عبادة لله جل في علاه فلا تصرفها لغير الله جل في علاه، فالذبح والنذر والتوكل والإنابة كل ذلك لا تصرفه إلا لله وحده لا شريك له. فهذا هو مجمل توحيد الإلهية، وتوحيد الإلهية هو الذي من أجله ميز الله بين الكافرين وبين المؤمنين، فأهل الجاهلية كانوا يقرون بربوبية الله جل في علاه، قال الله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:25] وقال سبحانه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87]، فأقروا بربوبية الله جل في علاه لكن نازعوا في الإلهية وقالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5]؛ ولذلك أرسل الله جل في علاه الرسل من أجل التمايز بين الناس في توحيد الإلهية، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ} [النحل:36] وهذا توحيد العبادة. ولقد بين الله جل في علاه أنه ما أرسل من رسول إلا ليدل على توحيده جل في علاه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، فأهل الإلحاد ومشركي العرب ما كفروا إلا بتوحيد الإلهية.

العلاقة بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية وأدلة ذلك

العلاقة بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية وأدلة ذلك إن العلاقة بين توحيد الربوبية وتوحيد الإلهية هي علاقة استلزام، أي: أن توحيد الربوبية يستلزم توحيد الإلهية، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة:21] هذا توحيد إلهية، ثم قال: {الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ} [البقرة:21 - 22]، وهذا هو اللازم، وهو الخلق للإنسان والأرض والسماء، وكأن الله جل وعلا يقول للناس: طالما أنتم أقررتم بربوبية الله، وبأن الله هو الذي خلقكم وخلق الأرض والسماء ورزقكم، فيلزمكم بهذا الإقرار أن تفردوه بالعبادة. إذاً: فالربوبية تستلزم الإلهية، والأدلة على ذلك من الكتاب كثيرة. فالله جل في علاه أراد أن يلزم الخصم بما أقر به، وقد ذكرت في (شرح المهذب): أن هذه قاعدة استنبطها العلماء وهي: رد المخالف إلى الأمر المتفق عليه، وإلزامه به. فألزمهم الله بما سلموا به وهو الربوبية في المختلف فيه الذي هو الإلهية، فقال الله جل في علاه مبيناً ذلك في سورة النمل: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:60]، فصدَّر الآية بالخلق، فيستلزم من الخلق ألا يكون هناك إله مع الله، فلابد أن تفردوه بالعبادة. وأيضاً في سورة المؤمنون قال الله تعالى: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [المؤمنون:84 - 85]، فالله جل وعلا يبين لهم أن الذي يملك من في السماوات ومن في الأرض لابد أن تفردوه بالعبادة. وأيضاً في الآية الثانية قال: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [المؤمنون:86 - 87] والتقوى هي توحيد عبادة. والمشركون مع إشراكهم في الإلهية قد أخبر الله أنهم إذا مسهم الضر في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين، فهم يدعون الله من دون الشركاء. فالذين أقروا بالربوبية لم يقبل الله منهم إقرارهم بالربوبية حتى يقروا بتوحيد الإلهية.

قواعد مهمة تتعلق بتوحيد الألوهية مع الأمثلة

قواعد مهمة تتعلق بتوحيد الألوهية مع الأمثلة لما كان توحيد الإلهية من الأهمية بمكان اخترنا كتاباً مهماً يتكلم عن هذه المسألة، وهو كتاب (المسائل التي خالف فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الجاهلية). وسنأخذ مختارات مهمة جداً مركزة في توحيد الإلهية من هذا الكتاب، وقبل أن أبدأ في الكلام على الجاهلية والفرق بينها وبين الإسلام أقعد قواعد مهمة؛ لأن كل مسائل التوحيد الإلهية ستتعلق بها. القاعدة الأولى: كل ما ثبت في الشرع أنه عبادة فصرفه لله توحيد، وصرفه لغير الله شرك. يعني: أن كل عبادة ثبت في الشرع أنها عبادة فصرفها لله من كمال التوحيد، بل من أصل التوحيد، وصرفها لغير الله من الشرك بمكان، فمثلاً: الذبح عبادة، والدليل قوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2]، وجه الدلالة على أنه عبادة أن قوله: ((وَانْحَرْ)) أمر، والله جل وعلا لا يأمر إلا بما يحب، والعبادة: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه. ووجه الدلالة أيضاً أن النحر اقترن بالصلاة، والصلاة عبادة، فكذلك النحر، لكن دلالة الاقتران يمكن أن ينازع فيها؛ لأنها دلالة ضعيفة، وعلى كل الاستدلال الأول لا منازع فيه، فالنحر عبادة؛ لأن الله لا يأمر إلا بما يحب، فإذا ثبت في الشرع أنها عبادة، فصرفها لله توحيد، وصرفها لغير الله شرك، فمن ذبح لغير الله فقد أشرك، من ذبح للبدوي أو لـ عبد القادر الجيلاني، أو لـ أبي العباس، أو لـ أبي الدرداء أو للأولياء فقد أشرك، ومن أفرد الذبح لله جل في علاه فقد وحد. مثال آخر على القاعدة الأولى: النذر عبادة، فصرفها لله توحيد، وصرفها لغير الله شرك، والدليل على أن النذر عبادة قوله تعالى: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29]. وجه الدلالة: أن الله مدح الوفاء بالنذر في الآية، والله لا يمتدح إلا العبادة، سواء كانت مستحبة أو واجبة، فهنا ثبت بالشرع أنها عبادة، فصرفها لله توحيد وصرفها لغير الله شرك، فالنذر للسيدة زينب مثلاً عند نجاح الابن شرك؛ لأنه صرف عبادة لغير الله، لكن من نذر لله جل وعلا أن يصوم إذا نجح ابنه، فهذا النذر توحيد؛ لأنه صرفه لله جل في علاه. القاعدة الثانية: من اتخذ سبباً لم يشرعه الله سبباً مع تمام اعتقاده في الله، فقد أشرك شركاً أصغر، ومن اعتقد في السبب فقد أشرك شركاً أكبر. ونذكر مثالاً على هذه القاعدة لتتضح، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تداووا عباد الله ولا تتداووا بحرام)، والحديث صحيح. فهنا شرع الله لنا التداوي، وجعل له سببين: سبباً شرعياً، وسبباً طبياً وهو السبب المجرب، والسبب الشرعي هو الرقية الشرعية، قال الله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء:82] فمن اعتقد أن الله جل في علاه هو الذي يشفي، وليس القرآن ذاته، فقد وحد الله؛ لأنه أخذ بشرع الله، واعتقد اعتقاداً جازماً بأن الله جل وعلا هو النافع الضار سبحانه وتعالى، فهذه الأسباب التي شرعها الله. وأما الأسباب التي لم يشرعها الله جل في علاه، فذلك مثل: الرجل الذي يجعل صوفة في يده وهذه الصوفة لا تشفي طبياً، فيعتقد أن هذه الصوفة سبب من الأسباب التي يستشفي بها عند المرض، فهذه الصوفة لم يشرعها الله جل في علاه، ولم يجعلها سبباً للشفاء، فمن اتخذها سبباً فقد خالف الشرع، ووقع في الشرك الأصغر لا الأكبر. وأما سبب كونها شركاً؛ فلقول الله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21]، فيكون قد وقع في الشرك الأصغر، أو في بدعة وهي ذريعة للشرك، وليست شركاً أكبر؛ لأنه يعتقد أن النافع والضار هو الله، لكن لو اعتقد أن الصوفة تشفيه فقد اعتقد في غير الله ما لا يصح أن يكون إلا لله، فيكون واقعاً في الشرك الأكبر. ومثل ذلك من يضع شيئاً على الحصان، ويقول: إنها تدفع العين، فإذا اعتقد أنه يدفع العين فهذا انتقل من الشرك الأصغر إلى الشرك الأكبر، لكن لو قال هو سبب لرد العين، والله هو الذي يتحكم في ذلك، فقد أشرك شركاً أصغر؛ لأنه اتخذ سبباً لم يشرعه الله جل في علاه. مثال آخر: لو أن رجلاً ذبح على السيارة الجديدة ذبيحة دفعاً للعين، وقال: أنا أفرقها لله جل في علاه، فلو قال: ذبحنا لله ولدفع العين، فقد اعتقد أن النافع والضار هو الله جل في علاه، ولكنه اتخذ سبباً لم يشرعه الله لدفع العين، فالله شرع لدفع العين الرقية بالمعوذات، أو التبرك، بأن يقول إذا رأى ما يعجبه: بارك الله لك فيما رزقك، كما ورد في حديث صحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الذي يخشى أن يعين غيره أن يدعو بالبركة). فلم يشرع الذبح لدفع العين، فمن فعله وهو يعتقد أن هذا سبب من الأسباب التي يدفع الله بها الحسد، فقد وقع في الشرك الأصغر؛ لأنه اتخذ سبباً لم يشرعه الله جل في علاه.

مفهوم الجاهلية وأقسام الجهل

مفهوم الجاهلية وأقسام الجهل إن الجاهلية مشتقة من الجهل، والجهل هو ضد العلم، وكفى بالجاهلية والجهل ذماً أن صاحبهما لا يقبل أن تسمه بالجهل حتى وإن كان جاهلاً؛ لأنه مذمة، أما العلم فهو ممدحة، وكفى بالعلم فخراً أن تشرئب أعناق الجهال إليه ليوصفوا بالعلم. والجهل ثلاثة أقسام: جهل بسيط، وجهل مركب، وجهالة. القسم الأول: الجهل البسيط: وهو عدم العلم بالشيء، فلو أن رجلاً من أدغال إفريقيا نشأ ببادية بعيدة ثم أسلم فقلت له: أتعرف أن الله قد فرض خمس صلوات في اليوم والليلة؟ قال: نعم، ولو قلت له: أتعرف أن هناك صلاة تسمى صلاة الظهر؟ لقال: نعم، فتسأله: كم ركعة في صلاة الظهر؟ فقال لك: لا أعلم، فهذا جهل بسيط؛ لأنه لا يعلم شيئاً فقال: لا أعلم، فهذا يمكن أن تعلمه وتقول له: الظهر أربع ركعات. القسم الثاني: الجهل المركب، وهو التصور الخاطئ للأشياء مع اعتقاد أن تصوره صحيح، فعنده علم مخالف للعلم الصحيح. فلو جئت إلى رجل أعرابي جلف فسألته: هل أنت عالم؟ يقول: أنا أعلم أهل الأرض، فتقول له: صلاة الظهر كم ركعة؟ فيقول لك: هذا السؤال الذي أتعبت نفسك لتسألني إياه؟! الظهر سبع ركعات. وهذا يذكرنا بحمار الحكيم توما، وكان هذا الرجل دائماً يزعم أنه حكيم، ويفتي بالخطأ دائماً، فالحمار لم يحتمل هذه الفتوى المزعومة، فقالوا على لسانه: قال حمار الحكيم توما لو أنصف الناس كنت أركبْ لأنني جاهل بسيط وصاحبي جاهل مركَّبْ القسم الثالث: الجهالة، هي العلم بالشيء والتطبيق الخطأ له، وذلك كأن تعلم أن المعصية حرام، التطبيق الصحيح لهذا العلم أن تجتنب هذه المعصية، فإن ارتكبت المعصية فهذه جهالة، فلو كنت تعلم أن النظر إلى المرأة الأجنبية العارية حرام فنظرت، فهذا النظر يعتبر منك جهالة؛ لأنك تعلم أنه حرام وارتكبته، وأدل ما يكون على ذلك من كتاب الله قول الله تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:54] إلى أن قال: {مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام:54]، يعني: أنه علم أنه سوء ثم فعله، فيسمى عاملاً للسوء بجهالة. وأما معنى الجاهلية في الاصطلاح: فهي ما كان عليه الناس من محادة لدين الله جل في علاه قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، أو هي الحالة التي تكون عليها أمة من الأمم قبل الهدي الإلهي، والبشارة والرحمة النبوية لها. وهذه الحالة كانت في الأمة التي جاءها النبي صلى الله عليه وسلم، فخالفت أمر النبي وشرعه صلى الله عليه وسلم من كل وجه. والجهالة جهالتان: جهالة عامة، وجهالة خاصة، أو جهالة مطلقة وجهالة مقيدة، فالجهالة المطلقة هي: مخالفة الشرع من كل وجه، ومحادة دين الله جل في علاه من كل وجه، وهذه الجهالة المطلقة هي جهالة أهل الكفر الذين كانوا قبل النبي صلى الله عليه وسلم، أو أهل الفترة الذين كانوا قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم. وأما الجهالة المقيدة: فهي مشابهة أهل الإسلام لأهل الشرك بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأفعال، مثال ذلك: النياحة على الميت، فهذه فيها مشابهة لأخلاقيات الجاهلية الجهلاء التي كانت قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وما زالت عند النساء في هذه الأوقات، في لطم الخدود، وشق الجيوب، والنياحة على الميت، وكذلك الفخر بالأحساب والطعن في الأنساب. وأدل ما يكون على الجهالة المقيدة: حديث أبي ذر رضي الله عنه وأرضاه، وذلك عندما قال لـ بلال: (يا ابن السوداء! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أعيرته بأمه؟ إنك امرئ فيك جاهلية). فوسمه بهذه الجاهلية؛ لأنها مثل جاهلية أهل الشرك قبل الإسلام، وهذه الجاهلية معصية وليست بشرك.

نصوص نبوية تحض على مخالفة أهل الجاهلية

نصوص نبوية تحض على مخالفة أهل الجاهلية لقد أمرنا الله بالفرار من هذه الجاهلية، سواء الجاهلية المطلقة أو الجاهلية المقيدة؛ حتى نتقن التوحيد ونتمه، وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: (من تشبه بقوم فهو منهم)، وفي رواية أخرى: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، ونهى عن الصلاة بعد الفجر حتى تشرق الشمس)، والعلة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في نهاية الحديث: (فيسجد آنذاك أهل الكفر للشمس في هذا الوق). ويقيناً أن المؤمن الذي يصلي بعد العصر أنه يسجد لله لا للشمس، ومع ذلك نهاه النبي صلى الله عليه وسلم؛ حتى لا يشابه أفعال أهل الجاهلية. وأيضاً قال النبي صلى الله عليه وسلم عن صبغ الشعر: (حمروا أو صفروا، وخالفوا أهل الكتاب)، يعني: في اللحية البيضاء، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتحمير والتصفير؛ لأن أهل الكتاب لا يصبغون، فقال: اصبغوا مخالفة لأهل الكتاب. وأيضاً في حديث أبي أمامة بسند حسن (أن بعض الصحابة قالوا: يا رسول الله إن اليهود يتسرولون ولا يتزرون، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: تسرولوا واتزروا)، مخالفة لأهل الكتاب. وأيضاً قال النبي صلى الله عليه وسلم: (صلوا في نعالكم؛ فإن أهل الكتاب لا يصلون في نعالهم). وأيضاً قال النبي صلى الله عليه وسلم منكراً على من يتبع أهل الشرك من اليهود والنصارى وغيرهم في أفعالهم: (لتتبعن سنن الذين من قبلكم حذو القذة بالقذة)، وفي رواية أخرى قال: (شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه). وقال الله تعالى محذراً نبيه، وبالتالي محذراً الأمة: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:145]، فبمخالفة أهل الجاهلية يتم لنا التوحيد ويكمل. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

صفة الحكمة لله عز وجل

مسائل خالف فيها رسول الله أهل الجاهلية - صفة الحكمة لله عز وجل من عقيدة أهل السنة والجماعة إثبات صفة الحكمة لله عز وجل من غير تكييف ولا تعطيل، فما من شيء يقدره الله سبحانه وتعالى إلا وله فيه الحكمة البالغة، فحكمته ظاهرة في كل شيء حتى في الابتلاءات التي تحصل لأنبيائه ورسله وأوليائه، ولم يقدح في حكمة الله جل وعلا إلا المنافقون قديماً وحديثاً، وشرذمة من أهل البدع والضلال.

إثبات صفة الحكمة لله عز وجل

إثبات صفة الحكمة لله عز وجل إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. (دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل يسمى بـ أبي الحكم فسأله لِمَ تكنى بهذه الكنية؟ فقال: كانوا إذا اختصموا تحاكموا إلي فحكمت بينهم، فأيما كان حكمي أخذوا به، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله هو الحكم) أي: أن الله جل وعلا هو الذي له الحكم المطلق وله الحكمة البالغة. ثم قال له: (ما اسم ابنك الكبير؟ قال: شريح؛ قال: أنت أبو شريح) وغير كنيته. فنستدل بهذا الحديث على أن الاسم الذي يسمى به العبد إذا وافق اسم الله جل في علاه ولم يفرغ من المعنى فلا بد من تغيير هذا الاسم. إن من صفات كمال الله جل في علاه أنه حكيم، وما من آية إلا وقرنت بين العلم والحكمة، وبين الحكمة والخبرة، فهو حكيم خبير عليم حكيم سبحانه جل في علاه.

معنى كونه جل وعلا حكيما وله الحكمة البالغة

معنى كونه جل وعلا حكيماً وله الحكمة البالغة إن معنى أن الله جل في علاه هو الحكيم وله الحكمة البالغة، أي: أنه يضع الشيء في موضعه، فإن الله جل وعلا من تمام حكمته أنه يضع الصالح في مكان الصلاح، ويضع الطالح في مكان الفساد، فإن الله جل في علاه يفرق بين المختلفين ويسوي بين المتماثلين، وهذا من تمام وكمال حكمة الله جل في علاه. والله جل في علاه له الحكمة التامة البالغة فيما يقدره سبحانه جل في علاه، فهو لم يقدر على المرء من بلايا ونوازل، ومن فرح وسرور، ومن تضييق وحزن إلا وله الحكمة البالغة سبحانه جل في علاه، فهو لا يخرج منه إلا الخير، ولا يقدر إلا الخير سبحانه جل في علاه، وما أمر أمراً إلا وفيه المصلحة الراجحة، وما نهى عن شيء إلا وفيه المفسدة الراجحة. قال الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة:219] أي: ما من شيء نهانا الله عن أن نقترب منه إلا وفيه المفسدة الراجحة، وما من أمر أمرنا به إلا وفيه المصلحة الراجحة. وقال الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة:222] أي: من النفع أن الرجل يتمتع ويقضي شهوته مع امرأته حتى لا ينظر إلى المحرم، لكن الأذى أعظم والفساد أعظم، فلحكمة الله جل في علاه نهى أن يأتي الرجل زوجته في حيضها، وأيضاً في الدبر كما في الحديث: (اتق الحيضة والدبر). وقال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} [البقرة:220] أي: ما من أمر يأمر الله به إلا وفيه الخير كل الخير، وما من نهي ينهى عنه الله جل في علاه إلا وفيه الشر كل الشر، والمسألة تدور على الغالب.

الحكمة من خلق الجن والإنس

الحكمة من خلق الجن والإنس

الحكمة من خلق الجن والإنس

الحكمة من خلق الجن والإنس نحن اليوم مع صفة من صفات الكمال والجلال لله جل في علاه، وقد قدح فيها أهل الجاهلية، ولا يزال الجاهليون الذين يعيشون في عصرنا يقدحون في هذه الصفة وهي: صفة الحكمة لله جل في علاه، وكما قلت: ما قدر الله قدراً إلا وفيه حكمة، وما أمر أمراً إلا وفيه حكمة، وما نهى عن شيء إلا وفيه حكمة، فالله جل في علاه ما خلق الخلق بأسرهم إلا لحكمة، قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، فهذه حكمة بليغة جسيمة، وهي عبادة الله جل وعلا والتذلل والمسكنة والتضرع له جل في علاه. وقال الله تعالى: {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة:36] أي: لا يؤمر ولا ينهى ولا يثاب ولا يعاقب على ما يفعل، لا والله لابد أن يعلم أن المآل والمرجع إلى الله جل في علاه؛ ليجازي الله جل في علاه من عمل صالحاً بإحسانه ومن أساء بما فعل، قال الله تعالى: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} [يونس:4]. فالله جل في علاه من حكمته البالغة: أن خلق الخلق ليعبدوه، ثم الثواب والعقاب على ذلك.

الحكمة من خلق السماوات والأرض

الحكمة من خلق السماوات والأرض قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} [الدخان:38] فحاشا لله، بل خلقها لحكمة بليغة. ثم قال سبحانه: {مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} [الدخان:39]. وأيضاً قال في الآية الأخرى: {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:17]. وأيضاً يقول الله جل وعلا: {مَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى} [الأحقاف:3]، فإن الله جل وعلا ما خلق الخلق إلا لعلة ولحكمة جسيمة.

القدح في حكمة الله من صفات أهل الجاهلية وغيرهم من المشركين واليهود

القدح في حكمة الله من صفات أهل الجاهلية وغيرهم من المشركين واليهود قال الله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:115] لا والله، فهذا من اعتقادات الجاهلية، فهم يقدحون في حكمة الله جل في علاه، فكانوا ينظرون إلى أفعال الله فينتقصونها ويقدحون في حكمة الله جل في علاه، وتشابهت قلوبهم، وهذا هو دأب الأمم السالفة، فهذا فرعون لما نظر إلى موسى قدح في حكمة الله، كيف يبعث رجلاً مثل هذا يكون نبياً ويأخذ هذا الشرف. وهو الذي قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، وقال عن موسى: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:52]، فهو يرى أن له ملك مصر، وهذه الأنهار تجري من تحته، فكيف يأتي موسى ويقول: إنه مرسل من قبل الله رب العالمين. وأيضاً اليهود أنفسهم لما طلبوا من نبي لهم أن يبعث لهم ملكاً، قال نبيهم: {إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا} [البقرة:247] يقدحون في حكمة الله جل في علاه: كيف يختار الله هذا ليكون ملكاً علينا؟! فقالوا: {قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ} [البقرة:247] وكأنهم يقولون لله بلسان حالهم: كيف تختار هذا وهو لا يصلح أن يكون ملكاً ولا يصلح أن يكون نبياً؟! وأيضاً اليهود أنفسهم عندما حول القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة اعترضوا فقال الله تعالى عنهم: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ} [البقرة:142] فسماهم بالسفهاء؛ لأنهم يقدحون في حكمة الله جل في علاه، {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} [البقرة:142]. وأول حكمة من ذلك: قول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143]. الحكمة الثانية: قال: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ} [البقرة:143]، فهذه حكمة بليغة، وسنبين كيف أن الله جل وعلا يخلق الشر لا للشر ولكن ليميز بين الصفين. وأيضاً اليهود في تعاملهم مع النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ادعوا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكاذبين ومن السحرة ومن الكهنة، وما زالوا على ذلك ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتقدم خطوة بعد خطوة، ويمكن الله له في الأرض، وتتسع البقعة الإسلامية، ويدخل الناس في دين الله أفواجاً، ومع ذلك فاليهود لم يؤمنوا، بل ما زال ادعاؤهم على رسول الله بالكذب، وهم أهل كتاب، ويقرءون التوراة والإنجيل ومع ذلك لا يزالون على دعواهم بكذب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فهذا قدح في حكمة الله جل في علاه؛ لأن من حكمة الله جل في علاه أنه لا يمكن لكافر ولا لساحر ولا لكاهن، فكونهم يقفون أمام النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون: هو كذاب، وما زال الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، فهذا يدل على أنهم كذبة؛ لأن من حكمة الله جل في علاه أن يبتلي الرسل أولاً ثم يمكن لهم. فهؤلاء الذين كانوا في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم نظروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأول ما قدحوا فيه أنهم قدحوا في المرسل سبحانه جل في علاه، {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31] أي: أن هذا الرسول ليس أهلاً لأن يكون رسولاً، بل لابد أن يكون رجلاً من هاتين القريتين عظيم، فيكون صاحب جاه ومال وأولاد، ويكون صاحب مكانة، فهذا هو الذي يستحق هذه الرسالة على حسب زعمهم، فقدحوا في حكمة الله وكأنهم يقولون: كيف ترسل هذا الضعيف الفقير رسولاً علينا. وأيضاً قدحوا في هؤلاء الذين من الله عليهم بالإيمان، فقدحوا في حكمة الله جل في علاه عندما قالوا: {أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام:53]. وأيضاً قدحوا في حكمة الله جل في علاه عندما ردوا دين النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء رسول الله ليفصل هذا الخط ويقول: هذا من الشرك ومن الكفر، فأنتم إذا كنتم تعبدون ربكم فعظموا ربكم، {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح:13]، ولابد أن تنظروا إلى أفعال الله جل في علاه، واعلموا أن أفعال الله كلها حكم، وقد رد النبي صلى الله عليه وسلم على هؤلاء بآيات الله جل في علاه، ومن هذه الآيات قوله تعالى: ((أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا)) [المؤمنون:115]، وأيضاً قول الله تعالى: {مَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى} [الأحقاف:3]. وقول الله تعالى: {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} [القمر:5]، فالله جل في علاه ما خلق الخلق إلا لحكمة جسيمة، فلما طعنوا في حكمة الله خرجوا من دين الله؛ لأنهم نسبوا النقائص لله جل في علاه. وأما حال ومآل من دخل في هذا الدين ثم رد على الله الحكمة وركب هواه وحكم شهواته، فهذا يخرج من دائرة الإسلام كما يمرق السهم من الرمية.

القدح في قدر الله وتكوينه قدح في حكمة الله

القدح في قدر الله وتكوينه قدح في حكمة الله في هذه العصور ظهرت لنا طائفة تحذو حذو القذة بالقذة مع أهل الجاهلية، ويطعنون في حكمة الله جل في علاه، وفي خلقه، وفي قدره، وفي أمره، وفي نهيه، وفي شرعه. فكثير من العامة يقدحون في قدر الله أو في تكوين الله جل في علاه، فتراهم إذا ابتلي الرجل الصالح بالأمراض والبلاء يقولون: هذا الرجل من الصلاح بمكان ولا يستحق هذا البلاء، ولو نزل البلاء على غيره من الفسقة لكان أولى، وهذا قدح في حكمة الله جل في علاه. وأشهر من ذلك ما اشتهر على ألسنة العامة أنهم يقولون: لماذا هذه الأرزاق تنزل على بعض الناس، وهم في نظرهم أنهم لا يستحقون، فهذا أيضاً قدح في حكمة الله جل في علاه. وهناك طائفة أخرى من الحسدة والحقدة كما فعل إبليس، فالحسد أصله قدح في حكمة الله؛ لأن الحاسد عندما ينظر إلى المحسود يقول: هذا لا يستحق أن يتعلم، وهذا لا يستحق أن يكون أميراً، وهذا لا يستحق أن يكون وزيراً، وكأنه بلسان حاله يقول لله جل في علاه: كيف تمكن لمثل هذا وهو لا يستحق أن تمكن له؟! والله جل في علاه يرد عليهم ويقول: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام:53].

رد حكم الله وشرعه قدح في حكمة الله

رد حكم الله وشرعه قدح في حكمة الله

الحكمة من قطع يد السارق

الحكمة من قطع يد السارق أيضاً هناك طوائف يردون شرع الله، فهذا أبو العلاء المعري يعترض على الشرع في الحكم بقطع يد السارق، فيقول: أليس إذا قطعت اليدان ففيهما الدية كاملة، وإذا قطعت اليد اليمنى أو اليسرى فقط ففيها نصف الدية، بينما هذه اليد التي قيمتها نصف الدية (خمسون من الإبل) لو سرقت ربع دينار، وربع الدينار لا يساوي شيئاً مقابل الخمسين من الإبل تقطع في ربع دينار؟! أقول: هذا الأعمى الذي أعمى الله بصره وبصيرته يقدح في حكمة الله، وكأنه يقول: هذه الأحكام متناقضة، فكيف يجعلها مرة بخمسين من الإبل وتقطعها في ربع دينار فهذا تناقض؟! نقول: هذا كفر مبين، ولذلك رد عليه بعض العلماء وقال له: إنها لما عفت شرفت فكان قيمتها خمسين من الإبل، لكن لما سرقت احتقرت وذلت، فقطعت في ربع دينار. فهذا رد على هذا الذي يتغابى ويقدح في حكمة الله جل وعلا.

الحكمة في قتل القاتل

الحكمة في قتل القاتل بعض الطوائف ظهرت لنا في هذه العصور وهي تقولون: القصاص: إن القتل، أو قطع اليد، أو الرجم حتى الموت، هذه وحشية، وهذا ليس بدين، بل هذا دين قبائل البربر. فنقول: هؤلاء يردون حكم الله وشرعه، وهذا قدح في حكمة الله جل في علاه، ويقولون: ما الفائدة عندما تقطع يد من سرق ربع دينار، وتعطل الرَّجُل من يده فلا يكتسب، لكن لو أخذته وهددته ونصحته ثم جعلته يعمل بهذه اليد لأفدت المجتمع، واستفاد الرجل بعد ذلك بالمال وعف نفسه ولا يسرق؟ ويقولون: إن شرع الله جل في علاه لا يصح لهذه القرون التي نعيش فيها، نقول: هذا قدح في حكمة الله جل في علاه، ونحن نرد عليهم بأمر جلي، قال الله تعالى بالنسبة للقتل: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة:179]، فهناك حكمتان في القصاص: الحكمة الأولى: أن الإنسان إذا علم أنه إن قتل فسيقتل فإنه سيقول: وأنا لِمَ أضيع حياتي بحياة غيري؟ فليكن له ما له ولي حياتي، فلا يقدمن على القتل. الحكمة الثانية: أنه إن أقيم عليه الحد واقتص منه في الدنيا فلا يسأل عن ذلك يوم القيامة؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فمن ارتكب من هذه الدناءات وهذه المحرمات شيئاً فعوقب به -يعني: أقيم عليه الحد- في الدنيا فهو كفارة له) أي: لا يسأل عنها يوم القيامة. إذاً: فقتل النفس التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: (إن الله جل في علاه يقسم بعزته: لو تمالأ أهل السماوات وأهل الأرضين على قتل دم مسلم لأكبهم الله في النار ولا يبالي) هذا يدل على عظمة دم المرء المسلم عند الله جل في علاه، ومع ذلك فإن الله لا يحاسبه إذا قتل به قصاصاً، فجعل الله له المخرج يوم القيامة. وأيضاً نفس الأمر في قطع اليد، فالشخص إذا سرق فقطعت يده ورأى الناس ذلك، فإنهم لا يقدمون على السرقة، وتجد الواحد يقول: تقطع يدي بربع دينار لا والله! بل أحفظها حتى لا تهون ولا أهون ولا أحتقر بين الناس، فيلتزم بشرع الله جل في علاه، وهذه حكمة بالغة.

الحكمة من إعطاء الرجل مثل حظ الأنثيين في الإرث

الحكمة من إعطاء الرجل مثل حظ الأنثيين في الإرث أيضاً من هذه الطوائف التي تأخذ بقول الجاهلية: الذين يتنطعون على دين الله جل في علاه ويقدحون في حكمة الله ويقولون: كيف نجعل للذكر مثل حظ الأنثيين في الإرث، وهناك من النساء من هن أفضل من الرجال؟ فليست من الحكمة أن تجعل للذكر مثل حظ الأنثيين. فنقول: هذا قدح في حكمة الله جل في علاه، ونقول لهؤلاء البله السفهاء: لو نظرتم نظرة ممحصة في أحكام الله جل في علاه وعلمتم أنكم عبيد لله لما قلتم إلا سمعنا وأطعنا؛ لأن الكمال المطلق لله جل في علاه، وأفعال الله كلها كمال، فالرجل يتحمل أعباء كثيرة، يتحمل أعباء المهر والصداق للزوجة، ويتحمل بعد ذلك النفقات على الزوجة والأولاد، ويتحمل بعد ذلك النفقات على الوالد والوالدة، ويتحمل الدية، وأما المرأة فلا تشارك العاقلة في دفع الدية، وإنما المرأة تجلس في بيتها ملكة. بهذا يتبين أن من الحكمة أن يأخذ الرجل ضعف المرأة.

الحكمة من مشروعية تزوج الرجل بأكثر من امرأة بخلاف المرأة

الحكمة من مشروعية تزوج الرجل بأكثر من امرأة بخلاف المرأة أيضاً هناك من يقدحون في حكمة الله في مسألة تزوج الرجل بأربع نسوة، بينما المرأة ليس لها إلا رجل واحد، فيقولون: جعلتم للرجل أربع من النساء، ولم تجعلوا للمرأة أربعة من الرجال، والنساء أكثر من يطالبن بهذا. فنقول: إن لله حكماً عظيمة من هذا التشريع علمها من علمها وجهلها من جهلها، الحكمة الأولى: حفظ الأنساب، ودليل الأمر بحفظ الأنساب قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسقي ماءه زرع غيره)، فلو جامع الرجل امرأة وخصب البويضة وجاء رجل يجامعها بعده فإن السمع والبصر والقلب والعظام واللحم تتأثر بماء الغير، ولذلك فـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما حدثت قصة الرجل الذي تزوج امرأة وغاب عنها وجاء الرجل الثاني فجامعها، فولدت الولد فأقرع بينهما؛ لأن هناك مشاركة في الولد. الحكمة الثانية: أن الله جل وعلا قدر أن النساء تكون أكثر من الرجال، ففي الحديث: (في آخر الزمان يكون للخمسين من النساء القيم الواحد). الحكمة الثالثة: غيرة الرجل، فإن من حكمة الله جل في علاه أن جعل الغيرة من الدين، فالرجل له أن ينظر إلى أكثر من امرأة، لكن لا يستطيع أن يتحمل أن امرأته تكون فراشاً لغيره، ولذلك قال سعد بن عبادة قال: (يا رسول الله أنتظر حتى آتي بأربعة شهداء؟! والله لأعلونهم بسيفي، فقال صلى الله عليه وسلم: أتعجبون من غيرة سعد، والله إني لأغير منه، وإن الله أغير مني) وهذه من حكمة الله جل في علاه أنه ركب الغيرة في الرجال أشد منها في النساء. الحكمة الرابعة: أن الله من حكمته البالغة أن جعل عاطفة المرأة لا تتجزأ.

عقيدة الأشاعرة والمعتزلة والمرجئة في حكمة الله تعالى والرد عليهم

عقيدة الأشاعرة والمعتزلة والمرجئة في حكمة الله تعالى والرد عليهم تقول الأشاعرة: إن الله لا يخلق لحكمة ولا يفعل لحكمة، وإنما يفعل ذلك بمحض المشيئة؛ لأن الله جل في علاه لو فعل لحكمة لكانت الحكمة أو الغرض أو العلة هي المحركة لله جل في علاه، ويكون الله عز وجل عرضة للأغراض، والله ليس بعرضة للأغراض. قلنا: خسئتم بما قلتم فردوا على أنفسكم هذا القول، فإن الله له الحكمة البالغة، بل من صفات كمال الله جل في علاه أنه لا يفعل شيئاً ولا يخلق خلقاً ولا يأمر أمراً إلا بحكمة بالغة، قال الله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا * يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الإنسان:30 - 31]. أي: أن الله جل في علاه يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات الجنات، وأما الذين ظلموا فأعد لهم عذاباً أليماً، وهذا بحكمته وعلمه جل في علاه. وقد اتفق المعتزلة والأشاعرة على أن الله جل وعلا يفعل لا لحكمة، ولكن يفعل لمجرد ومحض المشيئة. وأما المرجئة فقالوا: إن الله لا يفعل لحكمة؛ لأن الله لا يفرق بين مختلفين ولا يساوي بين متماثلين، بل الكل عنده سواء وهذا قدح في الحكمة؛ لأنهم قالوا: لا يضر مع الإيمان ذنب ولا ينفع مع الكفر طاعة. فنقول: إن هؤلاء قدحوا في حكمة الله؛ لأنهم جعلوا كل الناس سواسية، فجبريل كـ أبي بكر، وأبو بكر كآحاد الناس، والمذنب الفاسق الفاجر الذي يشرب الخمر كالذي يقوم الليل ويصوم النهار، فالكل عندهم سواء ماداموا يقولون: لا إله إلا الله؛ لأنه لا يضر مع الإيمان ذنب، فهنا قدحوا في حكمة الله، والله جل في علاه يقول: {أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص:28]، إن الله جل وعلا لا يمكن أن يسوي بين المختلفين، وقال الله تعالى في سورة (ن) {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم:35 - 36]، ولذلك قلنا: إن من رفعة هذه الأمة أنهم ينزلون الناس منازلهم، فقد أمرنا أن ننزل الناس منازلهم، ولا يعرف لأهل الفضل فضلهم إلا أهل الفضل، وأهل السنة والجماعة صفت لهم عقيدتهم؛ لأنهم اعتقدوا بأن الله جل في علاه لم يخلق خلقاً إلا لحكمة بليغة، ولم يأمر أمراً إلا وفيه المصلحة الراجحة، ولم ينه عن شيء إلا وفيه المفسدة الراجحة.

ظهور حكمة الله تعالى في الابتلاءات النازلة على عباده

ظهور حكمة الله تعالى في الابتلاءات النازلة على عباده

الحكمة من وقوع آدم في المعصية

الحكمة من وقوع آدم في المعصية لو أن أهل السنة والجماعة نظروا إلى الوراء إلى الأمم السابقة وإلى الأنبياء، ولو نظروا أولاً إلى آدم لعلموا حكمة الله البالغة في أنه ترك المجال لآدم عليه السلام ليعصيه، فإن الله هو الذي فتح له الباب؛ لأن الله هو الذي يتحكم في العباد، ولو أراد الله ألا يعصيه أحد لما عصاه أحد، والدليل على ذلك من الكتاب قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام:112]، لكن الله جل وعلا لم يحفظ آدم وإنما جعله يأكل من الشجرة، فهذه من الحكم البالغة التي إذا تدبرها المسلم علم أن ربه جل في علاه حتى لو تركه للمعصية ما تركه إلا ليرفعه، فإن الله جل في علاه ترك إبليس يوسوس ويزين لآدم حتى أكل من الشجرة، ثم أنزل سبحانه آدم عليه السلام من الجنة دار النعيم إلى الدنيا دار الشقاء لحكمة بالغة، وهذه الحكمة البالغة هي أولاً: توبة آدم عليه السلام، فلما تاب وأناب ارتفع درجة فوق الدرجة التي كان عليها: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:37]. ثانياً: أن الله جل في علاه لما أهبط آدم إلى الأرض علمه كيف يتعايش في الأرض، وكيف يخرج طعامه وشرابه، ثم جاء من نسله الأنبياء والمرسلون، بل أفضل الخلق أجمعين محمد صلى الله عليه وسلم.

الحكمة من ابتلاء إبراهيم وولده إسماعيل عليهما السلام

الحكمة من ابتلاء إبراهيم وولده إسماعيل عليهما السلام كذلك انظر إلى إبراهيم عليه السلام كيف أن الله جل وعلا ابتلاه، وما ابتلاه إلا ليرفعه، وليبين للناس الإكرام لإبراهيم. إن الله ابتلى إبراهيم بلاءين من أعظم البلاءات: البلاء الأول: أنه بعدما بلغ معه الولد السعي أمره الله أن يذبح هذا الولد، وهذا البلاء من الله جل في علاه لنبيه لحكمة بالغة؛ حتى يخرج قمة الإيمان وقمة اليقين والاستسلام لله جل في علاه التام، حتى إنه لما رأى الرؤيا لم يتراجع: {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات:102]. ثم يظهر الله جل في علاه الاستسلام التام من إسماعيل عليه السلام، واليقين التام في الله جل في علاه، ويطأطئ رأسه ليذبح، والآخر يذبح ولده الذي انتظره بعد أمد بعيد، فالله جل في علاه بعد ذلك يفديه بذبح عظيم، ويقول: {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} [الصافات:105] فارتفع إبراهيم، فجعل الله جل في علاه إبراهيم أبا الأنبياء، وجعل من ولد إسماعيل أفضل الخلق أجمعين وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم شرع لنا هذه الشعيرة العظيمة وهي الأضحية في العيد.

الحكمة من ابتلاء نوح عليه السلام بتكذيب قومه له

الحكمة من ابتلاء نوح عليه السلام بتكذيب قومه له أيضاً نوح عليه السلام صبر صبراً عظيماً بعدما كذبه قومه وأهانوه وسخروا منه وكادوا أن يقتلوه، فإن الله جل وعلا أقر عينه بعد هذا البلاء العظيم بهذه السفينة تجري على الماء، والماء يغرق الأرض بأكملها بمن فيها، ولم يبق إلا نوح عليه السلام، والذرية كلها من نوح عليه السلام.

الحكمة من ابتلاء صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم

الحكمة من ابتلاء صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله جل في علاه ما ابتلى العباد إلا ليرفعهم، وإلا ليظهر كرامتهم أمام الناس، فإن الله جل في علاه ابتلى قوماً قالوا: آمنا بالله وبرسوله وصدقنا برسوله، فابتلاهم الله جل في علاه، فقد تكالبت عليهم الدنيا بأسرها، ورمتهم العرب عن قوس واحدة؛ ليميز بين الصفين، فقال المنافقون: {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب:12]، وقال المؤمنون: {وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [الأحزاب:22]. فهؤلاء لما صدقوا الله جل في علاه وقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل كشف الله عن حسن إيمانهم ويقينهم بالله جل في علاه، وما ابتلاهم إلا ليرفعهم.

الحكمة من ابتلاء الرسول صلى الله عليه وسلم

الحكمة من ابتلاء الرسول صلى الله عليه وسلم لقد ابتلى الله النبي صلى الله عليه وسلم بأن جعل المشركين يضعون سلى الجزور على ظهره، وأن يهان وأن يسب في مكة، وما ذلك إلا ليمكن له في المدينة، ثم بعد ذلك تنتشر دعوته، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الله أكبر أعطيت مفاتيح كنوز كسرى وقيصر)، ويقول: (لا يترك الإسلام بيت مدر ولا وبر إلا ويدخله).

الحكمة من نصر المشركين على المسلمين في بعض الغزوات

الحكمة من نصر المشركين على المسلمين في بعض الغزوات لما قال المنافقون: لم يجعل الله جل في علاه النصرة لأهل الكفر دون أهل الإسلام، قالها بعض المنافقين في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، وقالها بعض المعاصرين وهو محمد إقبال وغيره، أقول: هؤلاء رد الله عليهم بقوله: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [الأنفال:37] وقوله: {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:3] وقوله: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا} [آل عمران:166 - 167] يعني: ليظهر الله جل في علاه في الدنيا فضيحة أو كرامة، ثم بعد ذلك الثواب الجزيل أو العقاب الشديد في الآخرة، فهذه حكمة الله البالغة. فالعبد إذا نظر إلى ربه جل في علاه وتدبر أسماءه الحسنى وصفاته العلى علم أن الله جل في علاه لا يقدر عليه شيئاً إلا والخير كل الخير في هذا الشيء، ولقد فقه ذلك صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان عمر يقول: أنا لا يهمني أصبحت على نعمة أم على بلية، إن كنت على نعمة فلها عبادة وهي الشكر، وإن كنت على بلية فلها الصبر، وفي كل خير. وذلك لأنه يعلم أن الله ما ابتلاه إلا لحكمة بالغة فيها الخير له إن رضي واستسلم لربه جل في علاه. وهذا عمر بن عبد العزيز كان يقول: ما أرى راحتي إلا في قدر الله. يعني: أن سعادته في قدر الله جل في علاه، سواءً كان مسروراً أو كان حزيناً، فهو يعلم أن ما اختاره الله له أفضل مما أختاره لنفسه. فسبحان الذي فوق السماء يدبر أمر عباده، وله في ذلك الحكم البالغة، وقد ظهرت لمن أظهرها الله له، وخفيت عمن أراد الله أن يخفيها عنه؛ ليرتفع الذي ظهرت له، وليخفض الله الذي لم تظهر له. نسأل الله جل في علاه أن يجعلنا من الذين يتعبدون له بالاستسلام التام واليقين التام، وأن نحسن الظن به ولا نموت إلا على ذلك، ففي مسند أحمد بسند صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء)، وفي رواية قال: (أنا عند ظن عبدي بي، فإن ظن بي خيراً فله، وإن ظن بي غير ذلك فله)، فنعوذ بالله أن نسيء الظن بالله جل في علاه، فهذه من صفات الجاهلية التي عاصرناها اليوم، نسأل الله جل في علاه أن ينحينا عنها، وألا يجعلنا نظن به ظناً سيئاً، أو نقدح في حكمته جل في علاه، ونسأل الله أن يدخلنا جميعاً الجنة.

قلب الحقائق والموازين

مسائل خالف فيها رسول الله أهل الجاهلية - قلب الحقائق والموازين أسلوب قلب الموازين وعكس المفاهيم أسلوب قديم استخدمه أهل الكفر والشرك مع أنبيائهم، فكانوا يرمونهم بالبهتان والكذب، ويرمونهم بما هو فيهم أنفسهم وهم أولى به، ثم استخدم هذا الأسلوب أهل الباطل والبدع مع أهل السنة، فتراهم يأتون بالباقعة والداهية الدهياء التي لا يسترها ليل ولا يغطيها ذيل ثم بعد ذلك يرمون بها أهل الحق بأسلوب سمج، وبرودة وسخافة، فلا هم بالذين استقاموا على الحق، ولا هم بالذين سكتوا عن الآخرين.

صور لحقائق وموازين أتى بها الأنبياء قلبت

صور لحقائق وموازين أتى بها الأنبياء قلبت

الصورة الأولى: أهل الجاهلية وتكذيب الرسل

الصورة الأولى: أهل الجاهلية وتكذيب الرسل إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: قال الله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19]، إن أهل الجاهلية كانوا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم لهم أساليب وصفات وسمات ذمها الله في كتابه، وذمها رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته. من هذه الأساليب والسمات والصفات: أنهم يلبسون الحق بالباطل، ويقلبون الحقائق فيجعلون الحق باطلاً والباطل حقاً، ويجعلون السنة بدعة والبدعة سنة. قال الله تعالى مبيناً لنا ما فعله أهل الجاهلية لما جاءهم نوح عليه السلام يدعوهم ليلاً ونهاراً سراً وجهاراً، ووصفوه بأنه في ضلال مبين {قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأعراف:60]، ثم بعدما صنع السفينة سخروا منه واستهزءوا به، وهذا دأب الأمم المكذبة، فإنه ما جاءهم رسول ليبين لهم طريق الرشاد والحق إلا استهزءوا به، وسخروا منه ثم يقلبون الحقيقة فيتهمونه بالكذب والخيانة والضلال والسفاهة. وهذا هود عليه السلام كما وصف الله جل في علاه دعا قومه إلى الطريق المستقيم، وإلى طريق النجاة، إلى الله جل في علاه، فقالوا: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [الأعراف:66]، فاتهموه بالكذب والسفاهة، عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأزكى السلام. وهكذا فعلوا بصالح، فقد اتهموه بالكذب لما دعاهم إلى الله وأتاهم بالناقة آية من آيات الله جل في علاه: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [الأعراف:75 - 76]، فقلبوا الحقائق والموازين، وجعلوا الصادق كاذباً، والهادي مضلاً، والأمين خائناً. وهكذا فعلوا مع موسى عليه السلام لما بلغ مبلغه مع فرعون أعتى أهل الأرض دعيّ الربوبية، فجاءه موسى بأدب الداعي يدعوه بكلام هين لين عله يسمع ويطيع، فقال فرعون لما جاءه الحق: ((إن هذا لسحر مبين))، فدُهش موسى مما قاله فرعون، وقال: {أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ} [يونس:77]، فقال قوم فرعون: {أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} [الأعراف:127]، فقلبوا الحقائق والموازين، فموسى النبي الكريم الذي يرشدهم إلى جنات الله أصبح من المفسدين في الأرض، وهكذا يصنع أهل الجاهلية مع أهل الصلاح والرشاد. وبنفس الطريقة قوبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أصدق من في الكون وأعبدهم وأكرمهم على الله سبحانه، فاتهموه بالجنون وبالسحر وبالكذب: {وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ} [الدخان:14] وقالوا: {سَاحِرٌ كَذَّابٌ} [ص:4] وقالوا: يفرق بين المرء وزوجه، ورموه بالأباطيل مع أنه الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم. وهكذا قلبوا الحقائق، وجعلوا الباطل حقاً والحق باطلاً ليصدوا عن سبيل الله، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الموازين ستقلب بين يدي الساعة فقال: (إن بين يدي الساعة سنوات خداعة، يصدق فيها الكاذب ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن الخائن ويخون الأمين، وينطق الرويبضة). وهذا الذي بينه النبي صلى الله عليه وسلم قد ذمه الله وبين أن هذا الباطل إنما هو لطمس الحقائق، والعملة الزائفة لا تروج على الله جل في علاه، فإن الغيب عند الله شهادة كما أن الشهادة يعلمها الله جل في علاه. ولما جاء وفد نجران من النصارى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاهم إلى الله جل في علاه، وبين لهم أن عيسى عليه السلام عبد من عباد الله، وخلق من خلق الله، ثم أمرهم باتباع سنته، وبين لهم أنه أوحي إليه أنه ما من نبي يلقى رسول الله إلا وأمراً واجباً عليه أن يتبعه. وهو قول الله سبحانه: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا} [آل عمران:81]، فلما قال لهم ذلك ثارت ثائرتهم وقالوا: إن محمداً يدعونا لعبادته، وهذه صورة لقلب الحقائق، فقد أمرهم أن يتبعوه، وبين لهم وحياً من الله أن موسى لو كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعه فقال: (والذي نفسي بيده لو كان موسى حياً ما وسعه إلا أن يتبعني)، فخرجوا يقولون بصوت عال تشويشاً على الحق إن محمداً يدعونا أن نعبده. وهكذا فعل المشركون من أهل مكة لما سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: اعبدوا الله واتبعوني، وذكر عيسى عليه السلام وقصته، فقالوا: يومئ بأن نعبده كما عبدت النصارى عيسى بن مريم عليه السلام، وصدوا عن سبيل الله، فكشف الله زيفهم هذا في كتابه حيث قال: {لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} [آل عمران:71]. وقال الله وهو يتحدث عن بني إسرائيل: {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:42]. وهذه الصفة التي ذمها الله في أهل الجاهلية الجهلاء توجد في عصورنا هذه، فهناك من يطمس الحقائق ويصد عن سبيل الله بقلب الموازين، فيجعل الباطل حقاً والحق باطلاً، ويجعل الصدق كذباً والكذب صدقاً.

الصورة الثانية: أصحاب الشركيات والعقائد الفاسدة

الصورة الثانية: أصحاب الشركيات والعقائد الفاسدة إن هذه الصفة في عصورنا هذه أشد ظهوراً مما كانت قبل، إذ قبل لم يستنيروا بكتاب الله، وأما الآن فإن كتاب الله بين أظهرنا ومع ذلك فإن طمس الحقائق موجود في أهل هذا الزمان. فهناك من يرى أن سؤال أولياء الله الصالحين الأموات؛ لتفريج الكربات، وقضاء الحاجات هو التوحيد، وإذا قيل لهم: إن هذا شرك، فلا يسأل إلا الله، ولا يعتقد في غير الله ما لا يعتقد إلا في الله، لقالوا: هذا هو الشرك بعينه. وأكثر هؤلاء يعتقدون بالحلول والاتحاد، فما هو الدكتور زغلول النجار -عالم من علماء الجيولوجيا، وأشهر من نار على علم- سئل مرة في قول الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] فقال: هذا تمثيل، الله في كل مكان، فهذا نص صريح من الرجل، وهو رجل بفضل الله نحسبه على خير وفضل ومع ذلك يجهل أمور العقيدة، فلابد أن يتعلمها. فأهل الحلول والاتحاد يقولون: بأن الذي يقول: إن الله فوق العرش أنه قد كفر؛ لأنه يحد من مكان الله جل في علاه، ويقولون: من أشار بإصبعه إلى السماء فلابد أن تقطع يده، هكذا قلبوا الحقائق، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول للجارية: (أين الله؟ قالت: في السماء، فقال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اعتقها فإنها مؤمنة)، فشهد لها بالإيمان لما شهدت بأن ربها فوق العرش، والإنسان جبل بالفطر السليمة أنه إذا أراد أن يسأل ربه أن يرفع بصره ويديه إلى السماء، ولو كان الله في كل مكان ما فعل ذلك، وهذه الفطرة موجودة حتى في العجائز، فالمرأة العجوز التي تموت على سريرها ولا تعرف القراءة والكتابة عندما يقال لهما: أين ربك؟ تقول: في السماء فوق العرش وهؤلاء يقولون: إن الله في كل مكان، احتوشته الكلاب والخنازير، ولذلك قال قائلهم: وكل كلام في الوجود كلامه سواء علينا نثره ونظامه أي: كل كلام نتكلم به حتى وإن كان فاحشاً أو بذيئاً فهو كلام الله، وقال قائلهم: ما في الجبة إلا الله، يتكلم عن نفسه، ولا يفرق بينه وبين ربه جل في علاه، فعندهم أن محض التوحيد أن تذهب إلى قبر الولي الفلاني وتقول له: إن زوجتي مريضة اشفها، أو تسأله إعطاء الحاجات، أو تفريج الكربات. فهؤلاء قلبوا الحقائق، وأرادوا طمس معالم التوحيد، وإظهار الشرك على أنه توحيد؛ ولذلك قال قائلهم: إن الله أعطى للولي قوة أن يخلق الجنين في بطن أمه، ثم يقول: لا شرك في هذه الأمة بعد اليوم!! والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لن تقوم الساعة حتى تضطرب إليات نساء دوس على ذي الخلصة)؟! وذو الخصلة صنم كان يعبد من دون الله جل في علاه، فالصورة الجاهلية تظهر الآن جلياً، لكنها ظهرت بزي وبرونق آخر.

الصورة الثالثة: المعطلة

الصورة الثالثة: المعطلة أيضاً من هذه الصور: أهل التعطيل الذين عطلوا أسماء الله وصفاته، ويرون أن الذين يعتقدون الاعتقاد الصحيح في ربهم جل في علاه أنهم مجسمة ومشبهة وكفرة. فمن قال بأن لله يداً تصديقاً بقول الله سبحانه: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10]، أو قال: لله ساق كما قال الله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ} [القلم:42]، أو قال: لله عين كما قال الله تعالى: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:14]، أو أثبت لله نزولاً يليق بجلاله وكماله، أو أثبت بأن الله جل في علاه استوى على العرش، وأثبت لله ما أثبته لنفسه وأثبته رسوله، فإنهم يقولون عنه: مشبه، وأنه شبه الخالق بالمخلوق، وأن هذا هو محض الكفر. فجعلوا الباطل حقاً والحق باطلاً، والتوحيد شركاً والشرك توحيداً، وهذه من سمات أهل الجاهلية. والمعطلة فرقتان: الفرقة الأولى: الجهمية، وهم يرون أن أهل السنة والجماعة حشوية مشبهة، وأنهم على كفر مبين، وذلك لأنهم شبهوا الخالق بالمخلوق، وقالوا: إن لله يداً وللعبد يداً إذاً فيلزم من ذلك أن يد الله شبيهة بيد العبد، فشبهتم الخالق بالمخلوق. والجواب عليهم هو أن يقال لهم: أأنتم أعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي وصف ربه بأن له يداً وأعلم من أبي بكر وعمر وعثمان وعلي الذين وصفوا لله بأنه مستو على العرش، وأن له عيناً ورجلاً وساقاً {أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} [البقرة:140]، وأهل التعطيل من الجهمية هم الذين عطلوا الاسم والصفة، فيقولون: لا كريم ولا كرم، ولا سميع ولا سمع، ولا قدير ولا قدرة. الفرقة الثانية: المعتزلة، وهم أرقى منهم منزلة، وهم الذين قالوا: إن الله سميع لكن بلا سمع، وبصير بلا بصر، وقدير بلا قدرة، وعزيز بلا عزة. وعلى هذا فهم يعبدون عدماً ليس له ذات ولا صفات، وهؤلاء أيضاً قلبوا الحقائق وقالوا: بأن أهل السنة والجماعة الذين يثبتون لله ما أثبته لنفسه وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم مشبهة مجسمة كفرة؛ لأنهم أنزلوا الخالق منزلة المخلوق. وأما القدرية فهم الذين يقولون: إن الأمر أنف، ومعنى ذلك: أن الله جل وعلا لم يعلم بالأمر حتى وقع، وأنه لا علاقة بين إرادته وإرادة العبد، فالعبد له إرادة مستقلة يفعل الفعل دون أن يتحكم الله في إرادته. وأما أهل السنة والجماعة فقد أثبتوا للعبد مشيئة وإرادة، ولكنهم جعلوا هذه المشيئة والإرادة تحت إرادة الله ومشيئته، الله قال الله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:30] {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله خلق كل صانع وصنعته)، فأثبتوا للعبد مشيئة لكنها تحت مشيئة الله، وأثبتوا العلم الشامل الكامل، فهو سبحانه يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون. فالقدرية لما سمعوا ذلك من أهل السنة والجماعة وهم الذين عضوا بالنواجذ على سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى كتاب ربهم جل في علاه، وعلى اعتقاد وفهم السلف الصالح قالوا: هؤلاء جبرية يحرفون الكلم عن مواضعه؛ قلباً للحقائق. وصوت هؤلاء الآن مسموع وعال، وأما أهل السنة والجماعة فهم في قلة وإلى قل، كما قال سفيان الثوري وهو يترحم على أهل السنة والجماعة: هم إلى قل -يعني: سيقلون- فطوبى للغرباء الذين يصلحون ما أفسد الناس. وأيضاً الروافض الذين يتشيعون لـ علي وآل البيت يقولون عن أهل السنة والجماعة الذين يتقربون إلى الله بحب أبي بكر وحب عمر وعثمان وعلي والصحابة أجمعين، يقولون: هؤلاء نواصب، أي أنهم نصبوا العداء لـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه. بل ارتقوا فوق ذلك وقالوا: إن أهل السنة أدخلوا في الإسلام من خرج منه؛ لأنهم يعتقدون أن أبا بكر وعمر ارتدا بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، حتى إنهم يقولون في يوم عاشوراء دائماً: اللهم العن صنما قريش، يقصدون بذلك أبا بكر وعمر.

الصورة الرابعة: استحلال ما حرم الله

الصورة الرابعة: استحلال ما حرم الله إن أهل البدعة والضلالة ينظرون إلى من تمسك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، واعتقد أن فيها النجاة، وألا عصمة إلا بها، ينظرون إلى أن هؤلاء متشددون متنطعون، فإن تكلمت عن السواك قالوا: أنت متشدد متنطع، وستفرق الأمة بكلامك، فاتق الله ولا تتكلم في هذه المسائل، فمن نادى بالتمسك بكتاب الله وسنة رسوله وأن الرجال لا يعرفون إلا بالعلم، يرمى بأنه ممن يفرق شمل الأمة. إن كثيراً ممن يتحايلون على شرع الله ويستحلون ما حرم الله إذا قيل لهم: إن ما وقعتم فيه مخالفة لشرع الله، قالوا: هذا جهل بفقه الواقع، بل إن بعضهم يقول: إن الأمة ما انحدرت وما تراجعت إلا لأنها رزقت بمثل هؤلاء، يقصدون ابن باز وابن عثيمين والألباني الذين هم عظام الأمة وأماجدها وأكارمها، وتجرأ بعضهم فقال: ابن باز عقله مظلم، وابن عثيمين كذلك، بل قالوا عنهم: صب الجاز على ابن باز وابن عثيمين وكذلك قالوا عن الألباني، بل هو أشد وأنكى، وهكذا فإن أهل البدعة والضلالة لا يرضون بأهل السنة والجماعة، بل يرمونهم بالتشدد والتنطع وتفريق شمل الأمة. وأيضاً استحلوا محارم الله بقلب الأسماء عن مسمياتها، كما بين النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم سوف يشربون الخمر ويسمونها بغير اسمها؛ حتى لا يظهر للناس فحش حرمتها، فلا يقولون: هي خمر، بل يقولون: هي بيرة، وليس في كتاب الله ولا في سنة رسوله أن البيرة حرام، لذا فقد بينت لنا السنة أن الأسماء ستغير قبل يوم القيامة، والمقصد من ذلك استحلال ما حرم الله بأدنى الحيل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الطبراني بسند صحيح: (يأتي زمان على أمتي يشربون الخمر يسمونها بغير اسمها)، فيسمونها كونياك، بيرة، مشروبات روحية، أو غير ذلك. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (بين يدي الساعة فتن كقطع الليل المظلم، يمسي العبد فيها مؤمناً ويصبح كافراً، ويصبح مؤمناً ويمسي كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا). قال الحسن:- والله لقد رأيناهم أشباحاً بلا أرواح، وجسوماً بلا عقول، يغدو المرء بدرهمين ويروح بدرهمين، يبيع دينه بثمن بخس دراهم معدودة. وقد ورد مرفوعاً وموقوفاً عن ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: (يأتي زمان على الأمة يستحلون خمساً بخمس يستحلون الربا باسم البيع)، والله جل وعلا يقول: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275]، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث مستقل بإسناد فيه كلام أنه قال: (يأتي زمان على أمتي يستحلون الربا باسم البيع، ويستحلون الزنا باسم النكاح، ويستحلون الخمر يسمونها بغير اسمها، ويستحلون الرشوة بالهدية، ويستحلون القتل بالرهبة). فكثير من الناس اليوم يتعاملون بالتورق، ومسألة التورق فيها خلاف معتبر ولا إنكار في مسائل الخلاف المعتبر ولا ذم، لكن هذه المسألة مثال على هذا الحديث عند من يقول: إن التورق ربا. فالجمهور يرون جواز التورق، وفي رواية عن أحمد وهي ترجيح شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم: أن التورق محرم؛ لأنه تحايل على الربا. والتورق: أن يشتري سلعة كسيارة تقسيطاً بمائة ألف ويبيعها نقداً بثمانين، إذاً فقد أخذ السيارة تقسيطاً بمبلغ عالٍ ثم باعها نقداً بمبلغ أقل؛ لأنه لا يريد التجارة وإنما يريد سيولة المال. والشاهد في المسألة أنها مثال على قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يستحلون الربا باسم البيع)، عند ابن تيمية وابن القيم الذين يريان أن هذا البيع محرم، لأن المقصود فيه المال، وكأنه أخذ الثمانين وسيردها مائة. فهي صورة لقرض جر نفعاً، وكل قرض جر نفعاً فهو ربا، ولذلك قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لما صورت له هذه الصورة: ما أراه إلا الربا، وقعد لنا ابن عباس قاعدة قصمت ظهور من خالفه فقال: دراهم بدراهم بينهما حريرة. يعني: أن الرجل لا يقصد إلا الدراهم بالدراهم، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (الذهب بالذهب مثلاً بمثل، ويداً بيد، والفضة بالفضة مثلاً بمثل، ويداً بيد وإلا كانت ربا)، ثم قال: (فإذا اختلفت الأصناف فبيعوا كيف شئتم)، فإذا اختلفت الأصناف أي: إذا بيع الذهب بالفضة فبيعوا كيف شئتم بالتفاضل لكن بدون نسيئة بل يداً بيد، فهذا الشرط هو شرط التقابض في المجلس. فإذا أخذ ثمانين وأعطى مائة من أجل الأجل كان ذلك قرضاً جر نفعاً فهو ربا. فالذين يقولون بأن هذه الصورة محرمة يدخلونها تحت الحديث: (يستحلون الربا باسم البيع)، وكما قال أهل الجاهلية: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} [البقرة:275]. قال في الثانية: (ويستحلون الزنا باسم النكاح) , وذلك نكاح المتعة فإن اسمه نكاح لكنه زنا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما حرمه قالوا: (يا رسول الله حرام؟ قال: إلى أبد الأبد)، أو قال: (إلى أبد الآبدين هو محرم)، فالنبي صلى الله عليه وسلم حرم نكاح المتعة إلى الأبد. إذاً: فمن قال بحلية نكاح المتعة فقد وقع في الزنا، ودخل تحت قول ابن عباس: (يستحلون الزنا باسم النكاح). وأما الزواج العرفي فهو صحيح؛ لتوفر شروط النكاح فيه. قال: (ويستحلون الرشوة بالهدية)، وذلك أن الهدية أصل مشروع من أصول الدِّين، وقد ورد في بعض الأحاديث -وإن كان فيها ضعف-: (تهادوا تحابوا)، (وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ويثيب عليها)، لكنهم الآن يعملون ما ظاهره الصحة وباطنه الحرمة، فيستحلون الرشوة باسم الهدية، فإذا أنجز لك أحدهم معاملة قال: أين هديتي أو قهوتي أو كراميتي؟ فسموا الرشوة بغير اسمها، ولكن الله جل وعلا ينظر إلى المعاني، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسامكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)، وقال: (إنما الأعمال بالنيات). وقال: (ويستحلون القتل بالرهبة)، إذاً فالواقع الذي نعيشه هو الذي حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم، فيستحلون خمساً بخمس، أي: يقلبون الأسماء دون مسمياتها. ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم نصح هذه الأمة نصيحة عظيمة فقال: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فمن رغب عن سنتي فليس مني)، وقال: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي، كتاب الله وسنتي)، وقال: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً، فطوبى للغرباء). ووردت رواية أخرى بزيادة في إسنادها ضعف لكن الشواهد تقويها: (فقالوا: من الغرباء يا رسول الله؟! قال: أناس صالحون قليل هم -أو قليل ما هم- يصلحون ما أفسد الناس). فلا تكن إمعة، ولا تسمع للأصوات العالية، ولا تغتر بالكثرة؛ فإن الله جل في علاه قال: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116]. ولا تعرف الحق بالرجال وإن كانوا أسماء لامعة؛ لأن الله جل في علاه لم يربط الحق بالرجال بل ربط الحق بمعرفة الكتاب والسنة، كما قال علي بن أبي طالب: اعرف الحق تعرف أهله. العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين قول فقيه فهذه هي نبوءات النبي صلى الله عليه وسلم: (بين يدي الساعة سنون خداعة يصدق فيها الكاذب ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن الخائن ويخون الأمين، وينطق الرويبض)، وقال: (يأتي زمان على أمتي يشربون الخمر، يسمونها بغير اسمها) وقال: (يأتي زمان على أمتي يستحلون الربا باسم البيع). فعلى الإنسان أن يتقي الله ربه، ويعلم أن طمس الحقائق بقلب أسمائها من سمات وصفات الجاهلية. كما عليه أن يتمسك بكتاب الله وبسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يستنير بضوء العلماء، ولا يكن كالرعاع الهمج الذين لا يستضيئون بنور العلم، وهم أتباع لكل ناعق. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

حكم صرف الدعاء لغير الله

مسائل خالف فيها رسول الله أهل الجاهلية - حكم صرف الدعاء لغير الله دعاء الله عز وجل هو العبادة، وهو الدين كله، وقد أمر الله عباده أن يدعوه وأن يفردوه بالدعاء وحده دون من سواه؛ إذ إنه عليه مدار التوحيد، فلا يمكن أن يكون الإنسان موحداً إلا إذا أفرد الله تعالى بالدعاء، وأما دعاء غيره سبحانه فهو شرك؛ لذلك كان جديراً بالمسلم أن يوحد الله تعالى بالدعاء خوفاً على نفسه من الوقوع في الشرك.

حال أهل الجاهلية قبل الإسلام

حال أهل الجاهلية قبل الإسلام إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: أيها الإخوة الكرام! إن المشركين كانوا في جاهلية جهلاء عمياء، فقد كانوا يقلبون الحقائق فيجعلون التوحيد شركاً، والشرك توحيداً، ويجعلون الحق باطلاً والباطل حقاً، فصرفوا صنوف وألوان العبادات لغير الله جل في علاه، مع الله جل في علاه قد أمرهم بعبادته، وبعث إليهم الرسل من أجل أن يصرفوا هذه العبادات له وحده لا شريك له سبحانه جل في علاه. فقد كانوا يعبدون الله، ويقرون بربوبيته وأنه الخالق الرازق المدبر الآمر الناهي السيد المطاع، ومع ذلك كانوا يتعبدون لله بالشرك، وهذا من أقبح ما تقدموا به بين يدي عبادتهم، فكانوا يصرفون العبادات من الدعاء والنذر والذبح لغير الله جل في علاه، وإذا سئلوا عن ذلك قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] زعموا ذلك، وقد أبطل الله هذا الزعم؛ ولذلك أرسل الله رسوله على فترة من الرسل ليبدد هذه الأباطيل، وليبين الحجة الدامغة على هؤلاء، وأمره إن لم يطيعوه ويسمعوا له أن يقاتلهم فقال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة:193].

غلو أهل الجاهلية في الصالحين

غلو أهل الجاهلية في الصالحين لقد كان أهل الجاهلية يصرفون العبادة أكثر ما يصرفونها للصالحين، ويعتقدون بأن الصالحين لهم مكانة ووجاهة عند الله، ولهم كلمة على الله حاشا لله، أو لهم حق على الله أنه ولا بد أن يعطيهم هذا الحق، ولذلك فإن الله جل في علاه بين لنا بياناً واضحاً كيف أنهم كانوا يصرفون العبادات لغير الله جل في علاه، فأخبر تعالى عنهم أنهم كانوا يعبدون المسيح عليه السلام، ويصرفون العبادة له ولـ عزير، وللملائكة، ويصفون الملائكة بأنهم إناث الرحمن جل في علاه حاشا لله ذلك! قال الله تعالى مبيناً لنا ما كان عليه أهل الجاهلية من صرف العبادات لغير الله جل في علاه، ويزعمون حماقة وسخفاً أنهم يتعبدون لله بذلك، قال الله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلا تَحْوِيلًا * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [الإسراء:56 - 57] فهنا يبين لهم الله جل في علاه أن الذين يدعونهم يبتغون إلى الله الوسيلة. قال ابن مسعود رضي الله عنه: كان نفر من الإنس يعبدون نفراً من الجن، فأسلم نفر الجن وما زال الإنس يعبدونهم من دون الله جل في علاه. فالله جل في علاه بين الحقائق للجن، فاتبعوا رسوله واتبعوا هداه ووحدوه، وأهل الكفر من البشر ما زالوا على الكفر، وما زالوا على الإلحاد: ((أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ)) أي: أولئك النفر من الجن الذين يدعونهم من دون الله جل في علاه هم الآن يوحدون الله حق توحيده، ويبتغون إليه الوسيلة، وهؤلاء الإنس ما زالوا على جهلهم وكفرهم وإلحادهم: ((أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ)). قال ابن عباس رضي الله عنه: كانوا يدعون عيسى من دون الله جل في علاه، وكانوا يدعون عزيراً من دون الله جل في علاه، فقال الله تعالى: ((أُوْلَئِكَ)) يعني: عيسى وعزيراً والجن الصالحين، ((أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ)). وأيضاً كانوا يدعون الملائكة ويصفونهم بأنهم إناث الرحمن، ويقولون عنهم: إنهم سيشفعون لنا عند ربنا، وذلك جرياً منهم على القاعدة التي قعدوها وقالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] لأنهم كانوا يعتقدون اعتقاداً صحيحاً في الله، وهو أنه هو الرب الخالق الرازق، ولا يعتقدون أن الملائكة تخلق وترزق، ولا يعتقدون في الأولياء الصالحين مثل عيسى وموسى أو غيرهم من الأنبياء والصالحين أنهم يمتلكون شيئاً في الكون، فلا يعتقدون هذا الاعتقاد، بل كانوا يعتقدون أن الله هو المدبر، ومع ذلك يصرفون العبادة لغير الله، فقعدوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}، فهم يدعون الملائكة ليشفعوا لهم عند الله جل في علاه، قال الله تعالى: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا} [النساء:117]، فهم يدعون الملائكة الإناث، ويقولون: هؤلاء الملائكة سيشفعون لنا عند الله بتقربنا بهم إلى الله جل في علاه. وأيضاً كانوا يعبدون اللات والعزى، ويعتقدون بأن اللات والعزى ستشفع لهم عند الله جل في علاه. فهذا النضر بن الحارث كان من أشد الكفار عداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان إذا سئل لم تعبد اللات والعزى؟ فيقول: إن اللات ستشفع لي عند الله، والعزى سيشفع لي عند الله، ولذلك قال الله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} [النجم:19 - 20]. بل لو نظرنا نظراً بعيداً إلى قوم نوح فإننا نجد أن الصلحاء في قوم نوح صور لهم الجهال التصاوير بعد موتهم، ومثلوا لهم التماثيل، وبنوا على قبورهم زاعمين أنهم إذا نظروا إلى هذه القبور وهذه التصاوير اجتهدوا اجتهاداً كبيراً في عبادة الله جل في علاه، فلما اندثر العلم جاء الشيطان فأغوى الأغرار والأغمار الذين لا يعلمون عن دين الله شيئاً، فقالوا: والله إن أسلافنا كانوا يعبدون هؤلاء، ويتقربون بهم إلى الله جل في علاه، فعبدوهم من دون الله جل في علاه. فهذه هي أفعال أهل الجاهلية الشركية، وما نبع ذلك إلا من الجهل العميق.

الأمر بالتوحيد والرد على شبه المشركين

الأمر بالتوحيد والرد على شبه المشركين لقد بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، وينور لهم بصائرهم بالحق، والتوحيد الخالص. فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم فإن أول ما قدم بين يدي دعوته أن أبطل الحجة التي أقاموها، كما أبطلها الله جل في علاه، فقال لهم: أنتم اتخذتم هؤلاء وسائط بينكم وبين الله، فإذا كنتم تعتقدون بأن هؤلاء سيشفعون لكم عند الله جل في علاه فإن هذه الحجة منفية، قال تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [الزمر:44]، فلا أحد يشفع عند الله، وقال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28]. ثم أبطل حجتهم الثانية وهي: اعتقادهم الباطل بأن هؤلاء الأولياء أو الصالحين لهم تحكم في هذا الكون، قال الله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [الأحقاف:5]. وقال الله تعالى: {فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ} [الأحقاف:28]، وفي سورة سبأ قطع الله سبل التعلق بغيره من حجر أو شجر أو أو نبي، فقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} [سبأ:22]، أي: لا معين ولا نصير لله جل في علاه؛ فقطع أولاً أن يكون لأحد شركاً مع الله جل في علاه في هذا الكون المدبر من الله جل في علاه. ثم قطع ثانياً أن يكون لهم وجاهة أو شفاعة عند الله جل في علاه، وأخبر أنهم ليس لهم كلمة، وليس لهم ملك، وليس لهم شفاعة عند الله جل في علاه، كما قال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28]. ثم بعدما قعد هذه القاعدة أبطل حجة المشركين، وأمر نبيه أن يبطل هذه الحجج الباطلة، وإن زعموا أنهم إنما يعبدونهم ليقربوهم إلى الله زلفى، فأبطل ذلك وأخبرهم أنهم لا يقربونهم بل يبعدونهم عن الله جل في علاه، فأمرهم بالتخلية ثم تالتحلية، ولا بد من انتهاج هذا المبدأ: التخلية ثم التحلية، فأبطل كل الحجج، ثم بعد ذلك جاء بالتوحيد الناصع الخالص، فجاء أمره بالتوحيد بألا تعبدوا إلا الله ولا تشربوا هذه العبادة بشرك، قال الله تعالى: {َاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر:2]. وقال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5] بل إن من السنة التي ماتت ولا بد للإنسان أن يحييها أنه عندما يريد أن ينام أن يقرأ سورة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1]، فإذا أخذ مضجعه فليقرأ هذه السورة، وهي تعدل ربع القرآن، كما بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فقال: (فإذا أخذ أحدكم مضجعه فليقرأ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1]) وذلك لأن فيها التوحيد المحض والبراءة من كل شرك، فهذا أيضاً مما أمر الله فيه عباده بالتوحيد الخالص والابتعاد عن الشرك. ولو أن رجلاً جاء الآن فعبد عيسى، أو عبد موسى، أو عبد محمداً صلى الله عليه وسلم، وذهب إلى قبورهم يدعوهم لتفريج الكربات أو لرفع الزلات أو لإعطاء الحسنات، فلو فعل ذلك لقلنا له: أنت وأبو جهل سواء؛ لأنه صرف عبادة لا يستحقها إلا الله لغير الله، فأفعال الجاهلية التي جاء الشرع بنبذها هي: صرف ألوان الدعاء لغير الله؛ لأنه قد ثبت بالشرع أن الدعاء عبادة، فصرفه لله توحيد، وصرفه لغير الله شرك. وقد كانوا -كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية - يذهبون إلى القبور يستسقون بها، ويستغيثون بأصحابها، ويتبركون بترابها، ويسألون كشف الكربات ويرفعون الحاجات إليهم؛ حتى تسد هذه الحاجات، كما يذهبون إلى قبر الجيلاني وقبر البدوي وقبر أبي العباس وأبي الدرداء والحسن والحسين، فيسألونهم من دون الله جل في علاه، فشابهوا وضاهوا أهل الكفر في أفعالهم.

الأدلة على أن الدعاء عبادة

الأدلة على أن الدعاء عبادة لقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم يقرر بأن الدعاء عبادة، فلا يجوز لأحد أن يدعو غير الله، أو يصرف هذه العبادة لغير الله، فذلك من أفعال الجاهلية، وقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم ليخرج أهل الجاهلية من الجهالة العمياء ومن الظلمات إلى النور، فمن وقع فيها الآن فلا بد من أن نخرجه من هذه الظلمات إلى النور، وذلك كالآتي: أولاً: نثبت له بأن الدعاء عبادة، والأدلة من الكتاب والسنة التي تدل على أن الدعاء عبادة هي: أولاً من الكتاب: قال الله تعالى: {وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [الأعراف:29]، فهذه الآية يستدل بها العلماء على أن الدعاء عبادة، ووجه الدلالة من الآية على أن الدعاء عبادة من ثلاثة أوجه: الأول: أن الله لا يأمر إلا بما يحب، وما يحبه الله يقع تحت مسمى العبادة؛ لأن العبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، فإذاً لا يأمر الله إلا بما يحب، فإذا أمر الله بما يحب فأقل ما يقال فيه: إنه على وجه الاستحباب، فهو عبادة. ثانياً: أنه أمر بالإخلاص فيه، والإخلاص لا بد من أن يكون في العبادات؛ لأن الله جل وعلا قال: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}، فالدعاء إذا أخلص فيه العبد فهو عبادة؛ لأن الأمر بالإخلاص يكون على العبادات. ثالثاً: أن الله سماه الدين، فكأن الدين كله دعاء، وهذا صحيح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الدعاء هو العبادة). الآية الثانية: قول الله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} [غافر:60]، فجعل الدعاء مكان العبادة، وسمى الدعاء عبادة. وقال النبي صلى الله عليه وسلم كما صح عنه في السنن: (الدعاء هو العبادة)، وهذا أسلوب حصر، فكأن العبادة كلها اجتمعت في الدعاء، وهذا صحيح، إذ الدعاء قسمان: دعاء مسألة، ودعاء عبادة وهو الثناء، فدعاء المسألة بجلب نفع أو دفع ضر، ودعاء الثناء: هو العبادات كلها من صيام وصلاة وجهاد وزكاة، فكل هذا يدخل في مسمى دعاء العبادة، وهو الثناء على الله جل في علاه بما هو أهل له، سواء بالذكر بالقلب أو باللسان أو بالجوارح. فأهل الجاهلية ما حاربهم النبي صلى الله عليه وسلم وجاء يقطع دابرهم، وأشعل نار الحرب بينه وبينهم إلا بسبب هذا الدعاء، فذهب إلى أهل الجاهلية فقال لهم: أنتم تدعون اللات والعزى، وتدعون عيسى، وتدعون عزيراً، وتدعون أناساً خلقهم الله جل في علاه، وتدعون الملائكة والشمس والقمر، وتدعون مخلوقات، وهذا الدعاء عبادة، إذا صرفتموه لغير الله فقد أشركتم، فجاءهم يحاربهم على ذلك، ويقول: لا تدعوا غير الله، فقالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص:5]، ثم قالوا له: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} فهم يذهبون إلى اللات يطلبون منها تفريج الكربات، ويسألونها الحاجات ورفع الزلات، مع إعطاء الحسنات لللات والعزى، ولذلك قال النضر بن الحارث لما استدلوا عليه بأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إن هذا كفر، وإن الله أوحى إلى نبيه ألا يدعو أحداً إلا هو، قال: إن هؤلاء شفعاء لنا عند الله أي: إن اللات ستشفع لي عند الله جل في علاه، فصرفوها لغير الله فوقعوا في الشرك. أما أهل التوحيد -اللهم اجعلنا جميعاً من أهل التوحيد- فقد علموا أن الدعاء عبادة، وأن العبد يتقرب إلى الله بهذه العبادة، فأذلوا أنفسهم لله، وصرفوا هذه العبادة لله، فأصبحوا موحدين؛ ولذلك فإن الله جل في علاه يحب من أهل التوحيد بل ويحب من خاصة أهل التوحيد أن يتذللوا ويتضرعوا بالدعاء له جل في علاه، ليتبين مكمن الإخلاص والتذلل والتضرع في الدعاء لله جل في علاه، كما جاء في الترمذي بسند صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لم يسأل الله يغضب عليه) أي: أنه يستوجب غضب الله، لعدم التعبد له وتوحيده بهذه العبادة، وهي الدعاء. وهذا فيه دلالة واضحة جداً على أن العبد إذا صرف هذا الدعاء لله فإنه يكون توحيداً خالصاً متقرباً به إلى الله جل في علاه.

أفعال أهل الجاهلية المعاصرة

أفعال أهل الجاهلية المعاصرة نقارن الآن أفعال أهل الجاهلية بأفعال أهل التوحيد، فقد ذكر مصطفى المنفلوطي رسالة عريضة جداً كانت أرسلت لـ عبد القادر الجيلاني يقول فيها صاحبها: إني عبد مظلوم، إني مكروب وأريد أن ترفع عني هذه الكربات! وأن تقضي لي الحاجات، فإنك أنت المعين الناصر. وذهبت امرأة لم تحمل إلى البدوي فقالت: إني امرأة عقيم فهلا فعلت لي شيئاً؟ إني أريد أن ألد وهي تعتقد فيه اعتقاداً لا يعتقد إلا في الله جل في علاه. وبعضهم يذهب بالأوراق التي تكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيها: يا رسول الله! أغثني، واجعل ابنتي تحمل، يا رسول الله! دين علي قد ركبني، وأريد أن تقضيه عني، وكل هذا طلب من المخلوق الميت فرسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات، قال تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30]، والبدوي قد مات، وعبد القادر الجيلاني قد مات، والحسن قد مات فهم لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً، وهؤلاء القبوريون الذين يعتقدون في الأولياء اعتقاداً خاطئاً يصرفون هذه العبادة التي لا تكون إلا لله لغير الله، فيسألون البدوي، ويسألون عبد القادر الجيلاني، ومنهم من يسأل الأولياء خفية، ويعتقد بأن الولي أعطاه الله قوة أن يحيي الجنين في بطن الأم.

أدلة المجوزين لدعاء غير الله باسم التوسل

أدلة المجوزين لدعاء غير الله باسم التوسل فهؤلاء الذين ضارعوا أهل الكفر في أفعالهم ما قالوا تبجحاً كما قال أهل الجاهلية من قبل: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}، بل لبسوا الأمر، كما قال تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} [الأنعام:121] فقالوا: نحن نتوسل بهم إلى الله، فغيروا الاسم والمعنى باقٍ لم يتغير وقد كشف رسول الله صلى الله عليه وسلم زيفهم، فقال: (يأتي زمان على أمتي يشربون الخمر يسمونها بغير اسمها) وقد يأخذون الرشوة فيسمونها إكرامية أو قهوة، فهو قالب واحد وقد أصل لنا النبي صلى الله عليه وسلم تأصيلاً عاماً، وهو: إن تغيير الأسماء لا يغير حقائق المسميات، فإن قال المجوزون للتوسل: نحن نتوسل بهم ولا نعبدهم، قلنا: لا، أنتم تعبدونهم ليقربوكم إلى الله زلفى، فإن قالوا: لا إنما نتوسل بهم، وعندنا الأدلة على ذلك، قلنا: ما أدلتكم؟ قالوا: أولاً: قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ} [المائدة:35]، فوجه الدلالة من هذه الآية قوله: ((اتَّقُوا اللَّهَ)) [المائدة:35] والتقوى معناها: فعل المأمور وترك المحظور وهذه بالفعال. الثانية: ((وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ)) أي: بالذوات؛ لأن الأصل في اللغة العربية أن الكلام لا يكرر، فالأصل التأسيس لا التأكيد، فقالوا: أسس أولاً: التوسل بالفعال بالتقوى، بفعل المأمور وترك المحظور، ثم أسس أصلاً ثانياً وهو التوسل بالذوات، وصرح وقال: ((وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ))، ثم قال: ((وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ)). والآية الثانية قالوا: قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء:64]. فالله جل في علاه يأمر أمراً حاسماً على عباده، والأصل في الأمر الوجوب، ((وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ))، وما منا من أحد إلا ويظلم نفسه، فإن العبد خطاء، فقالوا في قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} أن (جاءوك) هنا على العموم فتكون جاءوك حياً أو ميتاً، فسواءٌ جاءوك حياً فاستغفرت لهم، أو جاءوك ميتاً وأنت تسمع كلامهم ودعاءهم، وتعلم ما هم فيه، فاستغفروا الله وطلبوا منك الاستغفار فإن الله سيغفر لهم. وأما الدليل من السنة. فحديث عثمان بن حنيف رضي الله عنه وأرضاه: (أن رجلاً أعمى جاء إلى رسول صلى، فقال له: يا رسول الله! ادع الله أن يرد علي بصري. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت لك، فذهب الرجل، فنصحه النبي صلى الله عليه وسلم قال: اذهب فتوضأ، ثم استقبل القبلة، فقل: اللهم إني أسألك بنبيك نبي الرحمة، يا محمد يا نبي الرحمة إني أسأل الله بك، اللهم شفعه في، وشفعني فيه). فدعا الله جل في علاه بهذا الدعاء، فرد الله عليه بصره، قالوا: فهذا الرجل قد توسل بالنبي. ووجه الشاهد قوله: أسألك بنبيك. أي: بذات نبيك، فإن هذا هو الأصل، والقاعدة عندنا وعندكم: أن الأصل في اللفظ يبقى على ظاهره حتى تأتي قرينة تصرفه من الظاهر إلى المؤول. إن أهل الجاهلية صرفوا الدعاء الذي هو عبادة لغير الله وقالوا: نحن نعبدهم، ولكن ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، فقلنا لهم: إن النبي صلى الله عليه وسلم وضح بأن هذا من الكفر. أما أهل جاهلية العصر فقد فعلوا ما فعل أهل الجاهلية لكنهم اختبئوا وقالوا: نحن لا نعبد إلا الله، لكنا نتخذ وسائلاً، كما أمرنا الله: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة:35]، نتقرب بها إلى الله جل في علاه، وعندنا أدلة على ذلك.

الرد على المجوزين لدعاء الأولياء باسم التوسل

الرد على المجوزين لدعاء الأولياء باسم التوسل فيرد عليهم من وجوه: الأول: في هذه الآية نحن نوافقكم على التقعيد الذي قعدتموه في هذه الآية، ودائماً أهل البدع -كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية - لهم رونق في الكلام، فيؤثرون على الناس بحلو الكلام، وأيضاً لهم تقعيدات علمية. فقد قعدوا قاعدة نحن نتفق عليها معهم، وهي: أن الأصل في الكلام التأسيس لا التأكيد، فنقول لهم: هذه القاعدة نحن نوافقكم عليها، لكن لا نوافقكم على التطبيق، فقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} [البقرة:278] فالتقوى تأتي منفردة وتأتي مجتمعة، فإذا أتت منفردة فلها معنى، وإذا أتت مجتمعة مع الأمر بالطاعات فلها معنى آخر. فإذا جاءت منفردة فهي: ترك المحظور وفعل المأمور، أما إذا جاءت مجتمعة مع الأمر بالطاعات فيكون الأمر بالطاعات مستقلاً بذاته، والتقوى: ترك المحظور. فالتقوى في هذه الآية جاءت مجتمعة مع الأمر بالطاعات، والدليل قوله تعالى بعدها: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة:35]، فيكون المعنى: انتهوا عن المحظور وافعلوا الطاعات، والذي يدل على ذلك هو التأكيد على فرد من أفراد العموم، وهو قوله تعالى: ((وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ))، فهذا فرد من أفراد العموم، فإن من أفعال الطاعات الصلاة والزكاة والجهاد في سبيل الله وقيام الليل وغيرها. فنرى هنا أن هذه الآية ذكرت فيها التقوى مقترنة مع الطاعة، فيكون معناها: ترك المحظور فقط، ولا نوافقكم على ما قلتم من أن معناها: ترك المحظور وفعل المأمور. هذا الوجه الأول من الرد على استدلالهم بهذه الآية، فلا دليل فيها على مسألة التوسل بالذات. الوجه الثاني في الرد عليهم: أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قرئت على الصحابة، فلو كان الفهم الذي فهمتموه قد فهمه رسول الله صلى الله عليه وسلم لبين لنا هذا التفسير، وإلا فقد قصر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البيان، فإن الله جل في علاه أمره أمراً حازماً بقوله: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44]، فلو كان الأمر على ما فهمتم لكان لزاماً وواجباً وحتماً على رسول الله أن يبين لنا هذا الأمر، فيقول: قول الله تعالى: ((وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ)) أي: بالذات، لكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل ذلك. وأيضاً لو فهم الصحابة هذا الفهم كحبر الأمة ابن عباس أو علي بن أبي طالب الفقيه أو عمر بن الخطاب أو أبو بكر رضي الله عنهم لنقل عن واحد منهم ولو بسند ضعيف أنه قال هذا القول، أو فهم هذا الفهم، فنقعد هنا قاعدة وهي: أنه لو كان خيراً لسبقونا إليه، فيكون إذاً هذا الفهم فهماً خلفياً لا يمكن أن نأخذ به دون الفهم السلفي، وأما الفهم السلفي فهو أن نتوسل لله بالدعاء كما بين النبي صلى الله عليه وسلم، أو أن نتوسل بالله، أي: بذاته أو أسمائه الحسنى أو صفاته العلى أو بفعاله. الوجه الثالث من الرد عليهم: إن الله جل في علاه قد أمر رسوله بالتوحيد، وأمرنا بحفظ جناب التوحيد، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته أيما تحذير من أساليب الشرك وأسبابه، وحسم كل هذه المواد، حتى إنه سمع رجلاً يقول: (من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى)، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم من أجل جناب التوحيد، وقال: (بئس خطيب القوم أنت، أجعلتني لله نداً؟) يعني: في الذكر، وهو ما جعل النبي صلى الله عليه وسلم نداً، وإنما جمعهما في ضمير واحد فقط لما قال: ومن يعصهما، فقال: (بئس خطيب الأمة أنت أجعلتني لله نداً؟!) حفظاً لجناب التوحيد. ولما جاء إلى القوم وقالوا له: (أنت سيدنا وابن سيدنا، وخيرنا وابن خيرنا، قال صلى الله عليه وسلم: قولوا بقولكم أو ببعض قولكم، ولا يستهوينكم الشيطان)، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم) كل ذلك حفظاً لجناب التوحيد. فنقول: هذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا وحي الله جل في علاه بين أيدينا لنحفظ جناب التوحيد، فإذا قلنا بقولكم لم نحفظ جناب التوحيد؛ لأنه من اللوازم الباطلة لهذا التفسير: أننا سنتخذ وسائل ووسائط بيننا وبين الله جل في علاه، فنجعل هذا الميت وسيطاً بيننا وبين الله، فنذهب إليه ونقول: يا بدوي! استغفر لي، ويا بدوي! ادع الله أن يرزقني، يا بدوي! ادع الله أن يكشف عني الغمة والكربة، فهذا لازم تفسيركم، فلو أن الرجل ذهب إلى البدوي اليوم وغداً وبعد الغد فإنه سيعتقد في البدوي ما لا يُعتقد إلا في الله، فيعتقد أن البدوي هو الذي يكشف عنه الكربات لا سيما إذا أراد الله به فتنة، اللهم اعصمنا من كل الفتن، فإن كثيراً ممن يختبرهم الله من العباد ممن يذهب يدعو عند الميت يستجيب الله لهم الدعاء عند الميت؛ استدراجاً منه جل في علاه، فيستهويه الشيطان حتى يعتقد بأن البدوي هو الذي يكشف الكربة، وأن البدوي هو الذي يرزق، ثم بعد ذلك يسجد للبدوي دون الله جل في علاه، فأصبح لهذا التفسير لوازم باطلة، وهو ذريعة إلى الشرك بالله جل في علاه، فيبطل بذلك الاستدلال بهذه الآية على ذلك. الدليل الثاني الذي استدلوا به: قول الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء:64]. فنقول: هذه الآية لها سبب نزول، وهو: أن الله جل في علاه تكلم عن المنافقين فقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} [النساء:60]. فالمنافقون هم الذين أنزل الله فيهم هذه الآية. فإذا قال المخالف: نعم لها سبب نزول ولكن القاعدة الأصولية تقول: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. قلنا: نعم، العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. فإذا قال: إذاً أنا آخذ بهذا العموم ((وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا)) فهي تعم المنافقين وغير المنافقين الذين يأتون إلى النبي فيقولون: يا رسول الله! استغفر لنا ربك، فيستغفر لهم فيغفر الله لهم. قلنا: الرد على هذا من خمسة وجوه، ونلخصها في ثلاثة: أولاً: إن (إذ) إذ ظرف زمان للماضي، فلا دليل لكم فيه؛ فحيث كانت ظرف زمان للماضي فلا يجوز لكم أن تذهبوا إلا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ليستغفر لكم. الوجه الثاني: صحيح أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، لكن القاعدة الثانية وهي أهم تقول: إن السياق من المفسرات والمقيدات، فسياق الآية وهو قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:60]، فمقدمة الآية عن المنافقين، ومؤخرة الآية قوله تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} [النساء:63] تتحدث عن المنافقين، فهذا السياق في المقدمة والمؤخرة يبين أن كل هذا الكلام عن المنافقين الذين نافقوا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، فالسياق يقيد هذا العموم ويخصصه؛ لأن السياق حاكم، بل إن بعض العلماء ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية يقولون: إن السياق أقوى في الدلالة من اللفظ نفسه، فالسياق ابتدئ بالكلام عن المنافقين، وانتهى الكلام عن المنافقين، فدل ذلك على أن هذه الآية تختص بهؤلاء المنافقين، وأنهم لو جاءوا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم واستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً. الوجه الثالث في الرد عليهم: فهم الصحابة، فلو كان ما فهمتوه خيراً لسبقونا إليه. الوجه الرابع: أننا لو فسرنا الآية بتفسيركم هذا للزم من ذلك لوازم باطلة، بل من أبطل الباطل، منها: أن الله يأمر بما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول: تعالوا إلى الرسول وهو ميت ليستغفر لكم، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تجعلوا قبري وثناً يعبد) وهذا محال؛ {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ} [النجم:4]، فالقرآن والسنة صنوان، قال صلى الله عليه وسلم: (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه)، ويقول تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء:87]، ويقول: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء:122]، فلا يمكن أن يأمر بأمر ثم يأتي بالمضاد على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم. واللازم الثاني من اللوازم الباطلة: أنه يهدم جناب التوحيد؛ لأننا لو قلنا بقولكم فإن الإنسان إذا حج أو اعتمر يجوز له أن يذهب إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: السلام عليك يا رسول الله! السلام عليك يا أبا بكر! السلام عليك يا عمر! ثم يرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: يا رسول الله! استغفر لي ربي، وافعل كذا وكذا؛ فأنت من النور مخلوق وأنت وأنت ثم يتذكر قول القائل: فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم فيكون لا حاجة لله؛ لأن كل شيء للنبي صلى الله عليه وسلم، فيتذكر ذلك فيقع في الغلو في رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقع في هدم جناب التوحيد، وفي النهي الذي نهاه النبي صلى بقوله: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم). وأما الرد على الحديث: فلو قالوا: إن قولهم هذا هو ما فهمه الصحابة، وهو أن: عثمان بن عفان في خلافته جاءه رجل أعمى

السحر [1]

مسائل خالف فيها رسول الله أهل الجاهلية - السحر [1] السحر من الأمور الثابتة بالشرع والعرف، وهو إما سحر حقيقي يكون باستخدام الشيطان، وهذا له حقيقة وتأثير على الصحيح الراجح، وهذا النوع كفر، وإما أن يكون شعبذة ودجلاً وخدعاً للناس بخفة اليد، وهذا النوع لا يكون كفراً على الراجح من أقوال العلماء إلا إذا استحله فاعله، ولم ينكر السحر إلا شرذمة ممن لم يسلِّم لا للعقل ولا للنقل.

فضل صيام الست من شوال

فضل صيام الست من شوال إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال، وثبتنا وإياكم على الصالحات من الأعمال، وغفر لنا الكثير من الزلات، ومنحنا الكثير من الحسنات. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من صام رمضان ثم أتبعه بست من شوال فكأنما صام الدهر). فعلينا أن نحرص على صيام الست من شوال بعد رمضان، فهذه بشارات خير لقبول الأعمال، قال العلماء: التتابع في الطاعات يدل على قبول الأعمال، فإن الطاعة تنادي على أختها. ولا يشترط في صيام الست التتابع وإن كان ذلك مستحباً، فيمكن للإنسان أن يفرقها على الإثنين والخميس؛ لأن الست من شوال مطلقة. وهل قاعدة الاندراج تدخل في هذه المسألة أم لا؟ وقاعدة الاندراج هي: أن ندرج الأدنى تحت الأعلى، أي: أن تتعبد لله بعمل واحد بنيتين، فتجمع نيتين في عمل واحد، ومن شروطها وقيودها اندراج عبادة مطلقة مع أخرى مطلقة، لا مطلقة مع مقيدة، فإن المقيد لا يندرج تحت المطلق، ولذلك فالفريضة لا يصح أن تدرج تحتها سنة أو نافلة؛ لأنها مقصودة بذاتها، وكذلك النوافل الرواتب، فالشيء المقصود لذاته لا يندرج تحت شيء آخر. وبالنسبة للإثنين والخميس هل صومهما مقصود لذاته؟ لا، وصيام الست هل هو مقصود لذاته؟ لا، إذاً يصح أن تصوم يوم الإثنين والخميس بنيتين، فتصوم الإثنين على أنه يوم من الست من شوال، وعلى أنه اليوم الذي ترفع فيه الأعمال إلى الله، فهذا معنى الاندراج. فإن قيل هل يصح الوصال في الصيام؟ ف A الوصال في الصيام على قول الجمهور لا يصح.

السحر

السحر إن المسائل التي خالف فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الجاهلية من الأفعال والأقوال الباطنة كثيرة، وقد تكلمنا عن الطيرة والعيافة وغيرها، واليوم سنتكلم عن مسألة خطيرة جداً وهي مسألة السحر، وهذه المسألة من المعتقدات التي اعتقدها أهل الجاهلية وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بنبذها وبترها وقطعها، فقد كان أهل الجاهلية يعظمون السحرة ويعتقدون فيهم الولاية، وكانوا يقولون عن الأفعال وخوارق العادات التي تحدث على أيديهم أنها من كرامات الله جل في علاه، وتعظيمه لهؤلاء، ولذلك كانوا يقفون على أبوابهم، ويعطونهم الجوائز والعطايا، بل ويسألونهم الحاجات التي لا تسأل إلا من الله، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم لنبذ هذه الاعتقادات والمعتقدات الباطلة كما سنبين في الشرح. وإذا نظرنا بدقة إلى هذا العصر فسنجد أن جاهلية هذا العصر في مسألة الاعتقاد في السحرة أشد من اعتقاد أهل الجاهلية قبل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فنجد أن السحرة والكهنة يتوافد الناس إليهم ويجعلون لهم العطايا والأموال، ويسألونهم الحاجات، وتفريج الكربات، بل إن كل مسحور يرى أن نجاته وفلاحه وعلاجه لا يوجد إلا عند هذا الساحر الكاهن. وهذه العادات منتشرة جداً وشائعة في البلاد الإسلامية التي ينتشر فيها العلم، وخصوصاً ما يحدث للمتزوج الذي هو في أول زواجه فيربط عن أهله إما بحسد قريب، وإما بسحر، والسحر له حقيقة، فالذي يربط عن زوجه يرى أن هذا سحر، ولا يحل السحر إلا بسحر، فيذهب إلى الساحر أو إلى الكاهن ويعتقد فيه ما لا يعتقد إلا في الله، فهذه المعتقدات الباطلة جاء الشرع ببترها وذمها.

الأدلة على ذم السحر وأنه من عمل الجاهلية

الأدلة على ذم السحر وأنه من عمل الجاهلية والأدلة على ذم الاعتقادات الجاهلية التي نعيشها اليوم كثيرة منها قول الله تعالى في كتابه الكريم: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا) [البقرة:102] ما العلة؟ ((يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة:102]، فالمعلم يكفر لأنه يعلم السحر فما بالك بالمتعلم! وأيضاً: قول الله تعالى: {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} [البقرة:102] وهذا ذم لهذه الأفعال والمعتقدات. وأيضاً: قال الله تعالى: {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه:69]. وقال الله تعالى: {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ} [يونس:77]. وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اجتنبوا السبع الموبقات، ثم ذكر منها بعد الإشراك بالله: السحر) فجعله من المهلكات والموبقات والكبائر، فهذه أدلة تدل على ذم هذا المعتقد، وتدل على ذم هذا الكاهن. فمن يتعاطى هذا الفعل فقد رجع إلى الجاهلية الأولى، وعليه أن يستنير بضوء شرع الله تعالى. والكلام على السحر في أربع نقاط: أولاً: عن معرفة السحر، والفرق بين تعاطي السحر والكرامة والمعجزة؛ لأنهم كانوا يعتقدون أن السحرة هم من الأولياء، وأن ما يتعاطونه كرامات لهم. ثانياً: حكم السحر وحكم الساحر. ثالثاً: حد السحر. رابعاً: علاج المسحور، وهل يعالج بالسحر، يعني: هل يجوز حل السحر بالسحر وهي تسمى في اصطلاح الشرع: بالنشرة وهل النشرة صحيحة أم لا؟ والنقطة الرابعة مهمة جداً: وقد وقع السحر على النبي صلى الله عليه وسلم فهل هذا الحديث صحيح أم لا؟ لا سيما وأن بعض أهل السنة والجماعة قد ضعفوا الحديث وهو في مسلم. والأمر الثاني: هل سحر النبي صلى الله عليه وسلم يقدح في نبوة النبي صلى الله عليه وسلم أم لا؟

نقاط الاتفاق بين المعجزة والكرامة والسحر ونقاط الافتراق

نقاط الاتفاق بين المعجزة والكرامة والسحر ونقاط الافتراق إن السحر والمعجزة والكرامة تتفق في أنها في خوارق العادات، فالسحر خارق للعادة، والمعجزة خارقة للعادة، والكرامة خارقة للعادة. فالساحر يفعل أفعالاً تكون خارقة أمام الناس للعادات، كأن يطير في الهواء، أو يمشي على الماء، أو يدخل النار ولا يحترق، وهذا واقع نعيشه، فإن غلاة الصوفية يفعلون ذلك، بل إنهم يشربون السم ولا يموتون، وترى أحدهم يمر بالسيف على فمه من الشق الأيمن حتى يخرج من الشق الأيسر ولا يموت، فهذه أفعال خارقة للعادة. والمعجزة أيضاً خارقة للعادة، فموسى عليه الصلاة والسلام أخذ العصا أمام فرعون وألقاها فانقلبت إلى حية، فهذه معجزة من المعجزات، وأخرج يده من جيبه بيضاء للناظرين، وكذلك إبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى، فكل هذه معجزات لعيسى عليه الصلاة والسلام. والكرامة أيضاً خارقة للعادة: فـ أبو مسلم الخولاني رضي الله عنه وأرضاه دخل النار وخرج عندما قال له الأسود العنسي الكذاب: تؤمن بأن محمداً نبياً صلى الله عليه وسلم؟ قال: أؤمن به نبياً، قال: تؤمن أني نبي؟ قال: لا أسمع، فأخذه فقطع أذنه وهو يقول لا أسمع، ثم ألقاه في النار فلم يحترق، فلما علم عمر رضي الله عنه وأرضاه به قال: الحمد لله الذي جعل في أمة محمد من حدث له مثل ما حدث لإبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام. والنعمان بن مقرن كان مستجاب الدعوة، فإنه قال: اللهم وِّلنا ظهورهم، وانصرنا عليهم، واجعلني أول شهيد، فكتب الله لهم النصر وجعله أول شهيد، وهذه من الكرامات. وأيضاً سعد بن أبي وقاص فإنه لما قام الرجل رياءً وسمعة يقول: هذا لا يقسم بالسوية، ولا يعدل في القضية إلى أن قال: ولا يحسن أن يصلي، نظر إليه سعد بن أبي وقاص وقال: اللهم إن كان هذا قام رياء وسمعة اللهم أطل عمره، وأعم بصره، وعرضه للفتن، فكان حاجبه قد سقط على عينيه تسع سنوات أو ثمان سنوات وهو يغمز للجواري في السكك، ويقول: شيخ مفتون أصابته دعوة سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه. فهذه من الكرامات. إذاً: فالسحر والكرامة والمعجزة تتفق في خوارق العادات. وتفترق بأن صاحب السحر كذاب أفاك أثيم شيطان رجيم، يتحدى بما فعل ويدعي النبوة، ثم يرتقي فيدعي الربوبية، وأشهر الدجاجلة هو المسيح الدجال، فهو سيأتي للخربة ويقول: أخرجي كنوزك فتخرج، وينظر إلى السماء فيقول: أمطري فتمطر، ثم بعد ذلك يدعي النبوة، ثم يرتقي فيدعي الربوبية، وسيشق الرجل نصفين ثم يقول له: قم فيقوم الرجل متهللاً فرحاً يقول: والله ما ازددت فيك إلا بصيرة، فأنت الدجال الذي أخبرنا عنك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول الدجال: تؤمن أني ربك؟ فيقول: لا أؤمن، ثم يريد أن يقتله مرة ثانية فلا يسلط عليه. وأما النبي فهو يتحدى بهذه المعجزة ولا يتحدى من عند نفسه، لكن يتحدى بوحي وأمر من الله جل في علاه؛ لتبيين صدق نبوته، فهو يقول: هذه من عند الله ويتحداهم أن يأتوا بمثلها، وأشهر معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم هذا القرآن، فهو معجزة خالدة إلى يوم القيامة، قال الله تعالى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يونس:38])) [البقرة:23]، فهذا تحدٍ. إذاً: فالسحر فيه تحدٍّ والمعجزة فيها تحدٍّ، ويفترقان في أن هذا تحد بالباطل وهذا تحد بالحق لإظهار النبوة. وأما الكرامة فلا تحدي فيها، فهذا هو الفارق، فالكرامة التي تحدث للأولياء الصالحين الصادقين لا يتحدى صاحبها أحداً، ولا يدعي أنها من النبوة ولا من الرسالة أبداً.

تعريف السحر لغة وشرعا

تعريف السحر لغة وشرعاً السحر في اللغة: كل ما خفي ودق ولطف، ولذلك سمي السحر سحراً؛ لأنه خفيٌّ في آخر الليل. وشرعاً: هو رُقى وعقد تحدث من المرء بالاستعانة بالشياطين، وجملة (بالاستعانة بالشياطين) مهمة جداً، ولذلك قال الله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق:4] فإن الساحر يأخذ العقدة وينفث فيها فتلتقي روحه الخبيثة مع روح الشيطان، فيؤثران في المسحور بإذن الله: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ} [البقرة:102]. ففيها استعانة بالشيطان.

أنواع السحر

أنواع السحر السحر نوعان: سحر يكون بالاستعانة بالشياطين، وهذا فيه خوارق عادات مذهلة لا يستطيع أحد أن يتصورها، وفيها قلب للحقائق، وأبو حنيفة يرى أن السحر غير حقيقي وأنه تخييل فقط، والأئمة الثلاثة -وهذا الراجح الصحيح- يرون أن فيه قلباً للحقائق، وفيه تأثيراً حقيقياً؛ لأن الله أثبت له التأثير، قال تعالى: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:102]، فمعنى ذلك أنهم يضرون لكن بإذن الله جل في علاه. وهذه التقسيمات مهمة جداً؛ لأننا بهذا التأصيل سنبين حكم السحر وحكم الساحر. النوع الثاني من السحر هو استخدام العقاقير الطبية والأدوية، وسحر الأعين وخفة اليد. والأغلظ هو النوع الأول؛ لأن فيه استخداماً للشيطان، ولا يمكن استخدام الشيطان والتمتع به إلا بعد أن تقدم له القرابين. وأما النوع الثاني فلا يتعلق بالشياطين، وإنما يتعلق بخفة اليد وسحر الأعين، كما قال الله تعالى حكاية عن موسى أنه قال لهم: {قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف:116] يعني: سحراً عظيماً من التخييل الذي أصبح حقيقة في أعين الناس. والنوع الثاني مشهور جداً في عصرنا هذا، وهو ما يسمى بعالم السرك، والرعاع والهمج يضيعون أوقاتهم أمام هؤلاء السفهاء ويقفون في ساحة السرك في سهرة نادٍ خاص بهؤلاء السحرة، فيأتون فيه بخفة اليد وخفة الأفعال، ويضحكون على عقول الناس، ويستخفون بأعينهم.

حكم تعلم السحر بنوعيه

حكم تعلم السحر بنوعيه إذا عرفنا السحر وبينا أنه شيء خفي فإن حكم السحر على العموم هو الكفر، والأدلة على ذلك مجملة في كتاب الله وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم. أولاً: الأدلة من كتاب الله التي تثبت أن السحر كفر. قال الله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} [البقرة:102]. وقال الله تعالى: {قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ} [يونس:77]. وقال جل في علاه: {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه:69]. ثانياً: الأدلة من سنة النبي صلى الله عليه وسلم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اجتنبوا السبع الموبقات، وذكر منها السحر). ووجه الدلالة من قوله تعالى: {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه:69] هو أن الفلاح مرتبط بالمؤمنين، فإذا نفى الله الفلاح عن أحد دل على أنه ليس من المؤمنين، والدليل على أن الفلاح مرتبط بالمؤمنين والثبور والهلاك مرتبط بالكافرين قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:1]، وقوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى:14]، وقوله جل وعلا: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [البقرة:3] إلى قوله: {أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة:5] فقد ربط الفلاح بالإيمان. وقوله عن الكافرين: {لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا} [الفرقان:14]، وقوله: {وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} [النبأ:40]، وقوله: {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون:117]. ولما نفى الله سبحانه وتعالى الفلاح عن الساحر بقوله: {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه:69] دل ذلك على أن له الهلاك، فهو من الكافرين. ووجه الدلالة من قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} [البقرة:102] على أن السحر كفر هو أن الله كفر الشياطين، والعلة: أنهم يعلمون الناس السحر. وأيضاً ذكر الله عنهم أنهم يقولون لمن أراد أن يتعلم السحر: ((فَلا تَكْفُرْ)) أي: إذا تعلمت السحر فإنك ستكفر، وفي هذا تصريح بأن السحر كفر. وأيضاً قال الله عن الذي يتعاطى السحر: {مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} [البقرة:102] أي: ليس له نصيب في الآخرة، والذي ليس له نصيب من الخير في الآخرة هو الكافر، فهذه دلالة على أن السحر كفر. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اجتنبوا السبع الموبقات: الإشراك بالله، والسحر)، وهذه دلالة اقتران، ودلالة الاقتران ضعيفة لكن القرائن المحتفة أثبتت صحتها؛ لأن الأدلة من الكتاب والسنة أثبتت كفره. إذاً: فالسحر حكمه الكفر. لكن هل هو كفر أكبر أم كفر أصغر؟ نرجع إلى التأصيل الذي أصلناه في أن السحر نوعان: سحر يُستخدم فيه الشياطين، وسحر يستخدم فيه خفة اليد، فالسحر الذي يستخدم فيه الشياطين كفر أكبر مخرج من الملة؛ لأن الشيطان لا يمكن أن يمتع ابن آدم في أن يخرق له العادات إلا إذا قدم له القرابين، والدليل على ذلك قول الله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا} [الأنعام:128] فاستمتاع الإنسي بالجني أن يجعل له خوارق العادات، واستمتاع الجني بالإنسي أن يقرب له قرابين كأن يذبح له من دون الله جل في علاه، أو ينذر له، أو يسجد له، أو يهين المصحف، وهذا موجود ومشاهد بين السحرة، فهم يكفرون بالله بهذه الأفعال الخبيثة. إذاً: فهذا النوع كفر أكبر مخرج من الملة بإجماع الأئمة الأربعة: أحمد والشافعي ومالك وأبي حنيفة. وأما النوع الثاني: وهو نوع التخييل وسحر الأعين؛ فهذا كفر دون كفر وليس بكفر أكبر على قول الشافعي. وأما الأئمة الثلاثة أحمد ومالك وأبي حنيفة فقد قالوا: بأنه يكفر كفراً مخرجاً من الملة؛ لأن الآيات أثبتت عموم كفر الساحر، فإن الله كفر من يخيل ويسحر العين. قال الله عن سحرة فرعون: {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف:116]، ومع ذلك كفرهم الله سبحانه وتعالى. وقال الله جل وعلا لموسى: {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه:69]، وهذه واقعة عين، فهو يتكلم عنهم ثم عن كفرهم بالله سبحانه وتعالى، ثم إيمانهم بعد ذلك، فقالوا: وهذا على العموم. وأما الشافعية فيقولون: إذا كان السحر الذي يستخدمه الساحر سحر تخييل وسحر أعين وليس فيه استخدام للشيطان فإنه ليس بكفر، ولا يكفر صاحبه؛ لأنه لم يأت بكفر إلا أن يكون قد استحل، فإن استحل فهو كافر، وهذا أمر متفق عليه. وأجابوا عن هذه الآية التي كفر الله فيها سحرة فرعون مع أنهم سحروا أعين الناس، بأن هؤلاء السحرة أصالة كانوا يكفرون بالله، ويؤمنون بربوبية فرعون: {وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} [الشعراء:44] فكفرهم أصلي، لكن المسلم إذا استخدم سحر الأعين لا يكفر بذلك كفراً يخرجه من الملة، والصحيح الراجح التفريق الذي فرقه الشافعي خلافاً للأئمة الثلاثة وهو أن السحر نوعان: سحر يستخدم صاحبه الشياطين، فهذا كفر يخرج من الملة. وأما الآخر الذي يستخدم فيه خفة اليد أو سحر الأعين فهذا لا يكفر، ويكون على شفير هلكة، وهو كفر دون كفر؛ لأنه ذريعة إلى الكفر الأكبر.

حكم الساحر

حكم الساحر حكم الساحر يتفرع عن النوعين السابقين، فإن كان يستخدم الشياطين فهو كافر كفراً أكبر مخرج من الملة، وإن مات على ذلك كان خالداً مخلداً في نار جهنم. وأما إذا كان يستخدم السحر الذي هو التخييل وسحر الأعين فلا يكفر بذلك، لكنه على شفير هلكة وفاعل لكبيرة، فيقتل عليها حداً كما سنبين.

حد الساحر

حد الساحر قال العلماء: حد الساحر القتل، والأدلة على ذلك من السنة: عن جندب رضي الله عنه وأرضاه مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (حد الساحر ضربة بسيف). وفي هذا تصريح على أن حد الساحر أن يضرب بالسيف، أي: تقطع رقبته، وهذا الحديث ضعيف لا يصح مرفوعاً، لكنه يصح موقوفاً على جندب رضي الله عنه وأرضاه. وورد بسند صحيح وأصله في الصحيح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنه بعث في الأمصار وقال: اقتلوا كل ساحر، فقتلوا ثلاث سواحر على عهد عمر رضي الله عنه. وأيضاً: ورد بسند صحيح عن حفصة: أن جارية لها سحرتها فقتلتها حفصة بمرأى ومسمع من الصحابة، ولم ينكر أحد. فدلت هذه الآثار على أن حد الساحر القتل، وهذا يعتبر إجماعاً سكوتياً؛ لأن عمر لما بعث إلى الأمصار بقتل السحر لم يعارضه أو ينكر عليه أحد، فهو إجماع سكوتي. وهناك قصة شهيرة جداً تثبت حد الساحر: وهي أن جندباً الأزدي دخل على الوليد بن عقبة وكان أميراً عليهم، فرآه مع الحاشية وأمامه ساحر يلعب برأس رجل، وهذا الساحر يبدو أنه كان يستعمل الجن، فأخذ الساحر يقطع رأس الرجل فيتدحرج أمام الناس، ثم يأخذه فيرده مكانه فيحيا الرجل، فلما رآه جندب قرأ قول الله جل في علاه: ((وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ)) [البقرة:102] ثم استل سيفه فقطع رقبة الساحر، ثم قال له: أحي نفسك الآن، وأنى له ذلك، فعاقبه الوليد وسجنه. فلما أخبر سلمان بذلك قال: أصاب جندب وأخطأ، فأخطأ في أنه تعدى على ولي الأمر؛ لأن ولي الأمر هو الذي بيده التعزير وإقامة الحدود، وأصاب في أن حد الساحر ضربة بالسيف. إذاً: فحد الساحر القتل، وهو على نوعين: قتل ردة وقتل حد. وقد ذكرنا أن السحر نوعان: كفر يخرج من الملة، وكفر دون كفر. والساحر نوعان: ساحر كافر يخرج من الملة، وساحر لا يخرج من الملة. وقتل الردة يعني: أنه يقتل كفراً، فهذا مآله إلى نار جهنم خالداً مخلداً فيها لا يخرج منها أبداً، لأنه مات كافراً مرتداً. وأما قتل الحد فإنه يعني: أن هذا حد يكفر الله به عنه هذه السيئة أو هذه الجريمة كحد الزنا، فإن المحصن الزاني إذا رجم حتى الموت لا يسأل أبداً يوم القيامة عن هذا الذنب؛ لأنه قد طهر بالرجم، كما قالت المرأة: طهرني يا رسول الله! فقال: (لقد تابت توبة لو وزعت على أهل المدينة لوسعتهم) فالقتل حداً يكفر عنه هذه المعصية. فالذي يستخدم الشياطين يقتل ردة، والذي لا يستخدم الشياطين يقتل حداً.

استتابة الساحر وحكم توبته

استتابة الساحر وحكم توبته لو أن رجلاً كان يتعلم السحر من الشياطين، ويتعاطى السحر باستخدام الشياطين، فتاب إلى ربه هل تقبل توبته أو لا تقبل؟ اختلف العلماء في ذلك على أقوال: القول الأول: لا تقبل توبته، وهذا ظاهر فعل الصحابة رضوان الله عليهم، فإن عمر بن الخطاب أمر بقتل السواحر فقتل ثلاث سواحر. وأيضاً: قتلت حفصة الجارية التي سحرتها دون أن تستتيبها، وهذا هو الذي عليه الأئمة الثلاثة: الإمام أحمد والإمام مالك والإمام أبي حنيفة، فقالوا: إن قتل الساحر من منع الفساد المستشري في الأرض؛ لأن فساد السحر فساد عام على هذه الأمة فلا بد من قطع وبتر هذا الفساد دون استتابة، وهذا فعل الصحابة. القول الثاني: قول الشافعية وهو رواية عن أحمد أنه يستتاب، وهذا هو مقصود الشرع. القول الثالث: هو قول لـ مالك: فرَّقَ فيه بين أن يتوب بعد أن يقدر عليه وقبل أن يقدر عليه، فإن تاب بعد أن نقدر عليه فإنه لا يستتاب بل يقتل، وأما إذا تاب قبل أن نقدر عليه قبلت توبته ولا يقام عليه الحد. وثمر الخلاف هي: أنه إذا تاب قبلت منه التوبة وأسقط عنه القتل وهذا قول الشافعي، وإن لم يتب فإنه يقتل على قول الأئمة الثلاثة. والصحيح الراجح في ذلك، والذي يدل عليه التأصيل العلمي: هو أنه يستتاب؛ لأن الشرع يتشوف لإسلام الكافر، فإن الله سبحانه وتعالى ما أنزل الكتب إلا لدعوة الكافرين للدخول في الإسلام. وأما النظر فيقضي بأن يرجع الأمر لولي الأمر، وولي الأمر ينظر المصلحة في ذلك، فإن كان الساحر يعرف عنه الزندقة وأنه سيفسد في الأرض أكثر مما يصلح فإنه يقتله بلا استتابة. وأما إذا علم صدق نية الساحر، وعلم أنه لن يفسد في الأرض بعد ذلك ففتح باب التوبة أولى له، وهذا هو الراجح الصحيح. والدليل على أن من استخدم الشياطين فإنه يقتل ردة قول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (من بدل دينه فافتلوه). وأما دليل على أن من لم يستخدم الشياطين فإنه يقتل حداً قول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا} [المائدة:33]. فهو بهذا الدليل يقتل حداً؛ تعظيماً لفعل الصحابة رضوان الله عليهم.

مسائل خالف فيها رسول الله أهل الجاهلية]- السحر [2]

مسائل خالف فيها رسول الله أهل الجاهلية]- السحر [2] لقد سُحر النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن لم يؤثر ذلك في تبليغه للشرع، وإنما أثر في جوارحه فقط، وقد أنكر بعض الطوائف ذلك بحجة أنه ينافي تبليغ الشرع، ولا حجة لهم في ذلك، ولأجل ذلك فقد شرع علاج السحر بالطرق الشرعية، وأما النشرة ففيها خلاف.

أقوال أهل العلم في مسألة وقوع السحر على النبي صلى الله عليه وسلم

أقوال أهل العلم في مسألة وقوع السحر على النبي صلى الله عليه وسلم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد: تكلمنا في السابق عن الاعتقادات الجاهلية التي خالفها النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء الشرع ببترها وبيان ضلالها وبطلانها، ومن ذلك وهي الاعتقاد في أفعال السحرة والكهان والعرافين على أنها من كرامات من الله جل في علاه، وأن لهم المكانة عند الله جل في علاه. وبقي لنا في هذه المسألة الشائكة التي انتشرت انتشاراً عظيماً في هذه الأوقات الكلام على سحر النبي صلى الله عليه وسلم، وهل سحر النبي أم لم يسحر؟ لا سيما وأن بعض أهل السنة والجماعة بل من المحدثين الذين أتقنوا علم الحديث قد ردوا هذا الحديث، وسأبين من الذي مال إلى رد هذا الحديث من المحدثين. ثم النقطة الثانية وهي: علاج السحر، يعالج السحر بالسحر وهي النشرة، سنفصله الآن بإذن الله. وسنتكلم أولاً على المسألة المهمة وهي: مسألة هل سحر النبي صلى الله عليه وسلم أم لم يسحر؟ ولو دققنا النظر سنراها متفرعة عن أصل أصلناه سابقاً، وهو: هل للسحر تأثير حقيقي أم لا؟ وقد بينا بأن العلماء اختلفوا في هذا على قولين: الأحناف يرون عدم التأثير، ويرون أن السحر لا حقيقة له، وهذا مخالف للواقع ولظاهر الآيات والأحاديث، وجمهور أهل العلم على أن للسحر حقيقة مؤثرة قال الله تعالى: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:102]، فهم يضرون لكن بإذن الله جل في علاه. فالسحر له حقيقة مؤثرة، فهل تأثر النبي صلى الله عليه وسلم بالسحر؟ سأتكلم عن عدة نقاط في سحر النبي صلى الله عليه وسلم: أولاً: إثبات أن النبي صلى الله عليه وسلم قد سحر أثراً ونظراً. ثانياً: سأبين الشبه التي يعترض بها المعترضون على سحر النبي صلى الله عليه وسلم. ثالثاً: كيفية الرد على أهل البدع وشبههم التي ألقوها علينا لرد الحديث الذي في الصحاح.

إثبات أن النبي سحر من قبل لبيد اليهودي

إثبات أن النبي سُحر من قبل لبيد اليهودي لقد ثبت سحر النبي صلى الله عليه وسلم أثراً ونظراً، فأما من جهة الآثار: فالأحاديث التي أسانيدها كالشمس تؤكد ذلك، ففي الحديث المتفق عليه بين البخاري ومسلم (أن لبيد بن الأعصم اليهودي -عليه من الله ما يستحق- سحر النبي صلى الله عليه وسلم، وألقى السحر في بئر ثروان)، وهذا الحديث صحيح بل هو في أعلى درجات الصحة. وفي بعض الروايات: (أن ملكين جاءا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام الأول عند رأسه والآخر عند رجله، فقال أحدهم: ما بال الرجل؟ قال الآخر: مطبوب -يعني مسحور-، قال: من سحره أو طبه؟ قال: لبيد بن الأعصم)، ثم ذكروا كيف شفاء النبي صلى الله عليه وسلم. فهذه الآثار تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد سحر، ولذلك قالت عائشة: (كان يخيل للنبي صلى الله عليه وسلم أنه يأتي أهله ولا يأتيهم، وأنه فعل الشيء ولم يكن فعله)، وهذه الشبهة هي التي تعلق بها المفترون كما سنبين، والغرض المقصود هو أنه قد صحت الأخبار على أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد سحر وابتلي بالسحر بإذن الله جل في علاه. إن العقل السديد لا بد أن يوافق هذا ولا يمكن أن يرده، ولا غرو ولا عجب أن النبي صلى الله عليه وسلم يسحر ويبتلى بهذا البلاء العظيم، والعقل يقبله؛ لأن رسول الله خلق من ماء مهين، ولذلك قال: (ولدت من نكاح وليس من سفاح) بأبي هو وأمي، فرسول الله صلى الله عليه وسلم بشر، وإذا قلت بأنه بشر فهي مقدمة لها نتيجة لا أحد يعترض عليها. وقد وجد أناس يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم خلق من نور، وهذا أول حديث لهم، وأسانيده مهلهلة فهو حديث موضوع، وهذا الحديث فيه مسحة صوفية، وهو مثل حديث: (أن الله أحيا أم النبي صلى الله عليه وسلم فدعاها النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام)، وكلامهم هذا باطل، فليس عندهم دليل ثابت، وأما نحن فعندنا الأدلة الواضحة الجلية التي تثبت لنا أنه خلق من ماء مهين، وعندنا قاعدة وهي: العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه

الأدلة على بشرية النبي صلى الله عليه وسلم

الأدلة على بشرية النبي صلى الله عليه وسلم أما أدلة الأثر على بشرية رسول الله فهي كالتالي: لقد أمر الله رسوله أن يقول بصريح العبارة أنه بشر فقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الكهف:110]، فهل أمره أن يقول قل: إنما أنا ملك؟ حاش لله، وأيضاً قال الله تعالى {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِينْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء:34]، (من قبلك) يعني: من مثلك، وأيضاً قال الله تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]، ثم قال {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ} [الأنبياء:8]، أي: هم بشر يأكلون كما يأكل البشر، فليس لهم الخلد، وقول الله تعالى {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144]. فكل هذه الأدلة تثبت بشرية النبي صلى الله عليه وسلم وأصرح هذه الأدلة أن الله أمره أن يقول {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الكهف:110]، وأيضاً لما قالوا {وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لا يُنظَرُونَ * وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام:8 - 9]، يعني: لا يمكن أن يكون هناك ملك بين البشر يدعوهم إلى الله، فمن حكمة الله أن يرسل إليهم بشراً مثلهم، فرسول الله صلى الله عليه وسلم بشر؛ لقول الله جل في علاه السابق، وقول النبي صلى الله عليه وسلم (إنما أنا بشر أنسى كما تنسون)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (ولدت من نكاح وليس من سفاح). إذاً: فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بشر فإنه يعتريه ما يعتري البشر ويحتاج إلى ما يحتاج إليه البشر، فإن رسول الله ينسى كما ينسى البشر، ويحتاج إلى الطعام لأنه بشر، ويحتاج إلى النوم لأنه بشر، ويحتاج إلى الجماع لأنه بشر، وتصيبه البلايا والرزايا بل قد يتعرض للقتل لأنه بشر، والبشر يقع عليهم السحر، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر فيقع عليه السحر، ومن خالف هذه الحقيقة فليأتنا بالدليل؟ لأننا لا يمكن أن ننحيه من البشرية فهو يعتريه ما يعتري البشر، فهذه أدلة الأثر والنظر، والعقل لا يرد أن يسحر النبي؛ لأنه من البشر، وهذا من البلايا والرزايا، فهو -أي السحر- من الأمراض كالأوجاع والصداع والحمى والألم والسم الذي أكله النبي صلى الله عليه وسلم، فطالما أن هذه تعتري البشر، فهي تعتري أيضاً رسول الله صلى الله عليه وسلم. إذاً: فقد سحر النبي صلى الله عليه وسلم سحر، وقد دل على ذلك الأثر والنظر، فنحن نعتقد أن رسول الله سحر من لبيد بن الأعصم عليه من الله ما يستحق، وبعد أن سحره لبيد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى أنه أتى أهله -أي: وطئ أهله- ولم يأت أهله، ويرى أنه قد فعل الشيء ولم يفعل هذا الشيء، لكن العقول الخربة لم تستطع أن تقبل ذلك، وقالوا: إن هذا يقدح في رسالته، وهذا الاعتراض اعترض به أهل البدع والضلالة كالمعتزلة، ثم قالوا: حديث سحر النبي صلى الله عليه وسلم باطل لأمرين اثنين: الأمر الأول: هو أننا لو قلنا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سحر فقد قدحنا في رسالته ونبوته؛ لأن الله جل وعلا كتب في كتابه أنه عصم رسوله، وإذا كان لبيد بن الأعصم الكافر يسلط على رسول الله إذا فهو غير معصوم، ولو قلنا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير معصوم كذبنا القرآن؛ لقول الله: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67]. الأمر الثاني: قالوا: إذا فتحنا هذا الباب وقلنا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سحر إذاً فكل حديث يأتينا فسنقول عنه ليس من النبي وإنما من تسليط الجن عليه، فلعل الجني غلب على عقل النبي صلى الله عليه وسلم فأوحى إليه هذا الكلام، ففتحنا الباب لكل أحد ليطعن ويرد حديث النبي. هذا قول أهل البدعة والضلالة من المعتزلة وبعض المنتسبين إلى أهل السنة والجماعة، وأما المتصدي لهؤلاء الأشرار المبتدعة الذين يردون أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم بلا مبرر ولا داعي، -والذي أعلمه- أن الفضائيات قاطبة تكلمت على هذه المسألة وردوا الحديث بدون علم وقالوا: لا يصح أن نقول سحر النبي صلى الله عليه وسلم، وذكروا هذه الشبه. فأقول: نحن أثبتنا بالأثر والنظر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سحر؛ لأنه من البشر، ويعتريه ما يعتري البشر، فالشبهة الأولى التي قالوها: بأن الله عصم نبيه ولو قلتم بأنه سحر فليس بمعصوم، وهذا قدح تام وصريح وظاهر في نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلنا لهم: لا، بل هذا فيه دلالة على جهلكم وضعف نظركم وعدم التمييز بين المتشابه، وأنتم قد أُدخل عليكم من باب العصمة؛ لأنكم لم تفهموا العصمة فهماً دقيقاً لفهم العلماء الأسلاف الأكارم الأماجد.

أقسام العصمة

أقسام العصمة العصمة تنقسم إلى قسمين: عصمة في الوحي وعصمة في الظاهر، فعصمة الوحي، أي: في الباطن في العقل والقلب، وعصمة الظاهر، أي: في الجوارح، والدليل على هذا التقسيم قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ} [المائدة:67]، في سياق التبليغ، أذاً: فالسياق والسياق من المفسرات والمقيدات {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [المائدة:67]، فالله جل وعلا هنا أثبت العصمة في سياق التبليغ، وأما عصمة الجوارح، فإن الله جل وعلا لم يثبت هذه العصمة تصريحاً للرسول، قال الله تعالى {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144]، فذكر أن الرسول قد يقتل كما قتل يحيى وزكريا، وفي هذا بيان من الله جل وعلا أنه لا يعصم رسوله من إيذاء البشر له، والنبي صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد كسرت رباعيته، وكاد يقتل صلى الله عليه وسلم، وأصابه من الآلام والشدة ما لا يعلمه إلا الله جل في علاه، ولذلك لما ضُرب وألقيت عليه الحجارة وسال الدم من وجهه الشريف قال: (رحمة الله على أخي موسى قد صبر أكثر مما صبرت) فهو يبين أنه صبر على الشدة التي أصابته من أعداء الله جل في علاه. إذاً: فالعصمة عصمتان: عصمة في التبليغ بالوحي، وهي عصمة باطنة في القلب والعقل، وهذه أثبتها الله ولا يمكن أن نردها؛ لأن الله قال {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67] في سياق التبليغ {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة:67]. وأما بالنسبة للعصمة للظاهر والجوارح فإن الله يسلط أعداءه على أوليائه، لحكمة عظيمة وهي زيادة ورفعة درجات هؤلاء الأخيار الأفذاذ، وعند هذا التقسيم تنجلي الشبهة وينتهي الأمر، فهم قالوا: هذا قدح في العصمة وكيف يسلط اليهودي على النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقلنا: هل سلط على الوحي والقلب والتبليغ أم سلط على الجوارح؟ وهل كان النبي يقول القول الباطل أو يقول القول الذي لا يفقهه؟ A لا، فإن لبيد بن الأعصم سلط على رسول الله حتى كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخيل أنه أتى الشيء ولم يأتيه، وهذه في البدن وليست في القلب ولا في الوحي.

الدليل على أن لبيدا سلط على الجوارح لا على الوحي

الدليل على أن لبيداً سلط على الجوارح لا على الوحي هناك أدلة تثبت أن لبيد لم يسلط على الوحي وإنما سلط على الجوارح، منها: قول الله تعالى {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى} [الأعلى:6] أي: سنقرئك الوحي القرآن والسنة، فلا تنسى، ولو سلطنا عليك ألف لبيد فإنه لا يؤثر في الوحي الذي يأتيك؛ لأن الله حافظ دينه {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، وأيضاً قال الله تعالى {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة:16 - 18]، أي: اصبر فلن تنسى، وستبلغ ما أوحي إليك ولن يسلط عليك أحد. وحديث عبد الله بن عمرو بن العاص يوضح هذا توضيحاً جلياً، فقد كان دائما يجلس بجوار النبي صلى الله عليه وسلم ويحرص على مجلس النبي، فكان أبو هريرة يحفظ في صدره ولا يكتب بيضاء في سوداء، وكان عبد الله بن عمرو بن العاص ما من كلمة يتكلم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ويكتبها، فجاء الناس إليه فقالوا: تكتب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كل شيء! فإن رسول الله بشر ينسى كما ينسى البشر، ويغضب كما يغضب البشر، فربما تكلم بكلام لم يوح إليه به، فذهب عبد الله بن عمرو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصحيفة فقال: يا رسول الله! إني أكتب خلفك كل كلمة تتكلم بها فقال لي الناس: كذا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (اكتب والله ما يخرج إلا الحق)، يعني: الوحي من الكتاب أو السنة، فما يخرج إلا الحق الذي حفظ من كل سوء. فهذه الأدلة الثابتة الراسخة كالجبال الرواسي تثبت أن لبيداً لم يؤثر في الوحي ولم يسلط على الوحي، لكنه سلط على البدن. وكيف نفقه بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى أنه فعل الشيء ولم يفعله؟ أقول: هذا معقول في النظر، فلو أن زيداً من الناس أراد أن يعمل في الخارج فسافر عن امرأته شهرين، وفي الشهر الثاني اشتاق إلى امرأته فاتصل بها بالتلفون وتكلم معها وتكلمت معه، فلما جاء الليل نام فرأى في منامه أنه يجامع أهله كما كان يجامع أهله في الحلال، فلما استيقظ فجراً رأى أنه يحتاج إلى الغسل فاغتسل، فهذا الرجل جامع أهله لكن ليس حقيقة، فيمكن للإنسان أن يرى أنه فعل الشيء مع أنه لم يفعله. فإن قال قائل: إن رسول الله كان يرى ذلك في اليقظة وليس في المنام. ف A العلم التربوي يقول: إن هناك أحلام في اليقظة، كأن يجلس الرجل مع زميله وهو يفكر فيما يريد أن يفعله، فجسمه عند زميله وعقله الباطن في مكان آخر. وقد ذكر أن رجلاً من السلف كان فقيراً وكان يشتاق شوقاً شديداً للغنى، فقال: الغنى له أسباب، ومن الأسباب التجارة، والتجارة فيها تسعة أعشار الرزق، وأنا عندي شيء فيه سمن كثير، وهذا السمن إذا تاجرت به بعته بثلاثة دراهم، واشتريت آخر بدرهم، ثم بعته بثلاثة دراهم أخرى، حتى أكون غنياً فأتزوج، وبعد أن أتزوج أنجب ولداً، ثم بعده ولداً، ثم بعده ولداً، ثم بعد ذلك إذا كبر الولد ورأيت منه خلقاً لا يعجبني -ومعه العصا وسقاء السمن فوق رأسه- زجرته، فإن لم ينزجر ضربته بالعصا، فضرب السقاء بالعصا فوقع السمن على وجهه، فلا هو نال الغنى ولا هو أبقى سمنه. فالمقصود أن هذه أحلام يقظة، فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخيل إليه أنه يأتي امرأته وهو لم يأتها، فهذه ليس فيها أي شيء، بل هي واقع نعيشه، ولا يؤثر في وحي النبي صلى الله عليه وسلم. وأما الشبهة الأخرى التي دندنوا حولها وهي: أننا لو قلنا إن رسول الله سحر لفتحنا الباب لكل أحد ليشكك في حديث رسول الله ثم يرده. فالرد عليها هو في قول رسول الله لـ عبد الله بن عمرو: (اكتب والله ما يخرج فيه إلا الحق)، وأيضاً فإن الله قد جزم لنا جزماً لا نحيد عنه أبداً، فقال {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، والذكر هو الوحيان القرآن والسنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ألا إني إنما أوتيت القرآن ومثله معه) ومثله هو السنة، والدليل على أن السنة قرينة القرآن قول الله تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} [الأحزاب:34] فآيات الله هي: القرآن، والحكمة هي: السنة. فإذا بطلت هذه الشبه ثبت لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سحر، وأنه لما سحر زاده الله بذلك رفعة ودرجة عنده؛ لأن أشد الناس بلاء في هذه الدنيا الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، ولا غرو ولا عجب فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أكل الشاة المسمومة قبل أن تكلمه وقد مات بأثر هذه الشاة المسمومة.

أنواع علاج السحر

أنواع علاج السحر المسألة الثانية: علاج السحر، إن السحر منتشر بين الناس وخاصة العوام، وعلاجه على أنواع ثلاثة: أولاً: علاج السحر بالأدوية والعقاقير التي جربت فعلم من التجربة أنها تنفع، فهذه بالإجماع جائزة وليس فيها أي شيء، وإن لم تكن واجبة فهي مستحبة، لقول النبي: (تداووا عباد الله). ثانياً: علاج السحر بالرقية الشرعية.

شروط الرقية

شروط الرقية الرقية الشرعية يشترط فيها شروط ثلاثة حتى يتم الشفاء بها من السحر بإذن الله: الشرط الأول: أن تكون بلسان العرب، وأن تكون بالآيات القرآنية والأذكار النبوية. الشرط الثاني: عدم الاعتقاد في هذه الرقية بأنها هي التي تشفي، فإن بعض السفهاء إذا منَّ الله عليه بالشفاء من القراءة ظن أن القراءة هي التي شفته، ولذلك تراه يميل جداً للراقي، ويميل جداً للرقية، مع أن المسألة بيد الله جل في علاه، {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:102]، وأيضاً لا يشفون أحداً إلا بإذن الله جل في علاه، والاعتقاد في غير الله شرك. الشرط الثالث: تقوى الراقي ويقين المرقي، وهذه مهمة جداً وتكاد أن تكون منعدمة، فنرى كثيراً من الإخوة يُقرأ عليه البقرة كلها بدون فائدة، ثم يختم عليه القرآن كله بدون فائدة لأمرين: إما أن الراقي ليس بتقي وليس بمتدبر لقول الله جل في علاه، وإما أن المرقي ليس مستيقناً بالله جل في علاه، فهو يفعل ذلك من أجل أن يختبر ربه جل في علاه، فحتى تأتي هذه الرقية بثمارها لا بد أن يستيقن المرقي بأن الشفاء بيد الله، وأن الرقية سبب من الأسباب الصحيحة للشفاء ولا بد أن يكون الراقي تقياً ورعاً، وهذا أمر تؤيده الآثار الصحيحة. فـ ابن تيمية رضي الله عنه وأرضاه أخذ رجلاً مسحوراً وقرأ عليه وقال للجني: اخرج فإنك ظالم، قال: أخرج كرامة لك، قال: لا أيها الخبيث! بل أخرج لأنك ظالم؛ طاعة لله جل في علاه، فقد أراد الجني أن يدخله في العجب والعياذ بالله. وأحمد بن حنبل قيل له: إن شخصاً ما مسحور، فبعث إليه بنعليه وجاء الخادم بنعل أحمد، فلما علم الجني أن هذا نعل أحمد قال: أخرج، ولذلك يقال: لما مات أحمد رحمة الله عليه ورضي الله عنه رجع الجني إلى المسحور. والمقصود أن تقوى الراقي سبب ناجح في تمام العلاج.

تعريف النشرة لغة واصطلاحا

تعريف النشرة لغة واصطلاحاً المسالة الثالثة: حل السحر بالسحر، وهذه تسمى النشرة. والنشرة في اللغة: التفريق، وفي الاصطلاح: هو حل السحر بالسحر عن المسحور. ومن صور النشرة: أن يأتي المسحور إلى الساحر أو الكاهن من ما يظن فيه خيراً لكنه يستخدم ما يستخدمه السحرة، فيقول له: إني لا أستطيع أن أجامع امرأتي، فيأخذه الكاهن ويقرأ عليه بعض آيات القرآن تلبيساً، ثم يتمتم بهذه الطلاسم ثم يقول له: أنت مسحور، وقد وضعوا لك شيئاً في المنطقة الفلانية، فخذه وأحرقه، أو يقول له: اجلس، فيجلسه ويستخدم معه التنويم فينام الرجل، فيتكلم بتلك الطلاسم ويستخدم الجن، ثم بعد ذلك يأمره بذبح أشياء لهذه الجن بمواصفات معينة؛ حتى يحل عنه السحر، هذه من الصور التي يحل بها السحر بالسحر. الصورة الثانية -وهي المنتشرة الآن-: أن يأتيه فلا يقرأ عليه إلا القرآن ولا يتكلم معه إلا بالأذكار، ثم بعد ذلك يكتب له ورقة، وهذه الورقة فيها الأحجبة، ويقول له: لا تفتحها، وبعد أن يثق فيه المسحور يكتب له الطلاسم في ورقة؛ حتى لا يظهر له ما هو عليه من السوء، ثم يقول له: ضعها تحت السرير، أو تحت الوسادة، أو في مكان معين، وبعد ثلاثة أيام إن لم تجدها فالسحر قد انحل، فيذهب الرجل فلا يجدها فيعلم أن السحر قد انحل، فيشكر هذا الرجل ويعطيه العطايا الجزيلة، فهل تصح هذه الطريقة -وهي النشرة- أم لا؟

حكم النشرة

حكم النشرة اختلف فيها أهل السنة والجماعة على قولين: القول الأول: أنها صحيحة، واستدلوا على ذلك بعمومات أدلة النفع للآخرين، كقول الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2]، قالوا: وعلاج المريض من باب البر فهو يدخل تحت الآية، واستدلوا أيضاً بما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل)، وهذا فيه نفع؛ لأنه سيحل عنه السحر، وسيحل عنه الربط عن زوجه، فإنه ينفعه بذلك، وقالوا: هذه هي فتوى أعلم التابعين على الإطلاق سعيد بن المسيب، وهو من فقهاء المدينة السبعة، وهم بحار العلم وأعلمهم هو سعيد بن المسيب، وأفضل التابعين هو أويس القرني وهو أعبدهم. ولذلك قال: أحمد بن حنبل أعلم التابعين على الإطلاق سعيد بن المسيب، وقد سئل سعيد بن المسيب عن رجل مسحور ربط عن زوجه أنحل عنه السحر بالسحر؟ فقال: نعم افعلوا ذلك؛ فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل)، وهذا من باب النفع، وقالوا هذا هو فعل الصحابة الأخيار، فهذه أفضل النساء على الإطلاق وأفقه الصحابيات على الإطلاق عائشة رضي الله عنها وأرضاها سحرتها جارية، فلما سحرتها أعيت عائشة بذلك، فجاء رجل من الهند أو السند فسمع به ابن أخيها، فذهب إليه فقال له: عائشة مريضة، فقال: هي مسحورة سحرتها جارية لها، قالوا فـ عائشة بعثت بابن أخيها إلى الساحر، فقال: هي مسحورة سحرتها جارية وفي حجرها صبي ووصف السحر الذي سحرت به عائشة رضي الله عنها وأرضاها فلو كان حراماً ما فعلت ذلك رضي الله عنها وأرضاها، هذا من ناحية الأثر. وأما من ناحية النظر والعقل: فإن الله جل في علاه حرم أكل الميتة، قال الله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:173]، فأحلت الميتة من أجل الضرورة، وهذا المسحور في ضرورة فيحل له السحر بالسحر من باب الضرورة؛ قياساً على أكل الميتة. القول الثاني: أنه حرام، ولا يجوز بحال من الأحوال وإن كان فيه نفع للناس، والأدلة على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم عندما سألوه: (أفنأتي الكهان قال: لا، لا تأتوا الكهان)، و (لا) هنا للتحريم؛ لأن الأصل في النهي التحريم. وفي رواية أخرى قال النبي صلى الله عليه وسلم (من أتى عرافا أو كاهنا فسأله لم تقبل منه صلاة أربعين يوماً)، فهذا حال من سأله فقط ولم يصدقه. وقال النبي صلى الله عليه وسلم كما في مسند أحمد (من أتى عرافاً أو كاهناً فسأله فصدقه فقد كفر)، وهذا الكفر مخرج من الملة، ووجه إخراجه من الملة أنه صدق بأن الكاهن له صفة من صفات الربوبية؛ لأنه لا يعلم الغيب إلا الله، وهو حين صدق الكاهن بأمور غيبية كأنه نحله صفة من صفات الربوبية. وفي رواية الطبراني أو في غيره بسند ضعيف (من أتى عرافاً أو كاهناً أو ساحراً)، فصرح بالساحر، فهذه أدلة عامة تثبت حرمة إتيان الكهنة والسحرة. وأما الأدلة الخاصة فهي كالتالي: قال النبي صلى الله عليه وسلم عندما سئل عن النشرة التي هي حل السحر بالسحر: (لا إنما هي من عمل الشيطان)، وهذا أشد في الزجر وأشد في الحرمة. أما من جهة النظر: أولاً: أننا إذا أبحنا للمرء أن يحل السحر بالسحر فقد أقررنا ضمنا بفعل الكهان والسحرة. ثانياً: أن حل السحر بالسحر ذريعة إلى الاعتقاد بالساحر والكاهن ما لا يعتقد إلا بالأخيار الأماجد، فإنهم سيعتقدون فيه غير ما هو عليه من السوء والمنكر. ثالثاً: أنك ستذهب إليه فلا تنكر عليه ما هو فيه من المنكر والباطل من السحر والكهانة. إذاً: فهذه أدلة صريحة صحيحة في حرمة إتيان الكهنة، وأيضاً حرمة حل السحر بالسحر، وهذا هو الذي اتفقت عليه كلمة الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.

الرد على أدلة المجوزين للنشرة

الرد على أدلة المجوزين للنشرة وأما الرد على من اعترض بقول النبي صلى الله عليه وسلم (من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل)، وقول سعيد، وقول عائشة، والقياس على الميتة، فالرد عليه كالتالي: أولا: قول النبي صلى الله عليه وسلم (من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل)، هذا عام مخصوص بما شرع، يعني: من استطاع منكم أن ينفع أخاه بما شرعه الله فليفعل، وأما من استطاع أن ينفع أخاه بغير ما شرع الله فلا يفعل، والدليل على تخصيص قول النبي صلى الله عليه وسلم (من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل)، وأن المراد به من استطاع أن ينفع أخاه بما شرعه الله فليفعل هو قوله عليه الصلاة والسلام (تداووا عباد الله ولا تتداووا بحرام)، والنبي صلى الله عليه وسلم قال عن النشرة: (لا هي حرام إنها من عمل الشيطان)، فالنشرة حرام فلا تدخل تحت عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم (من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل)، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها). إذاً: فحديث (من استطاع منكم أن ينفع أخاه)، مخصوص بما شرع، فلا حجة لكم فيه. وقول سعيد بن المسيب عليه من وجهين: الوجه الأول: أن سعيد بن المسيب رضي الله عنه وأرضاه قال ذلك اجتهاداً منه، ولا اجتهاد لأحد كائناً من كان مع قول النبي صلى الله عليه وسلم. العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين قول فقيه وسنرد عليكم بما قال ابن عباس رضي الله عنه: أوشكت السماء أن تمطر عليكم حجارة، أقول لكم: قال رسول الله وتقولون: قال سعيد بن المسيب، فقول رسول الله يقدم على كل أحد كائنا من كان. الوجه الثاني: قول سعيد بن المسيب: نعم (من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل)، يحتمل أن المقصود بقوله نعم المراد به حل السحر بالرقية الشرعية؛ لأن العلاج يكون بثلاثة أمور: بالرقى، أو العقاقير، أو السحر بالسحر، فنحمل كلام سعيد بن المسيب على أحسن المحامل ونقول: أباح حل السحر بالرقية الشرعية، فهذا هو الظن في هذا العلاّمة الفاضل الكريم، فنحمل كلامه على أحسن المحامل، وهذه القاعدة لا بد لطالب العلم أن يتقنها في صدره، فإذا أتته فتوى من عالم أو من طالب علم متقن يرى أنها غير صواب فلا يطعن في العالم أو يتجرأ عليه، بل يحمل كلامه على أحسن المحامل. وأما الرد على فعل عائشة فنقول: هذا في غير محل النزاع؛ لأن النزاع هو في أن يطلب المسحور من الساحر والكاهن أن يحل له السحر، وهذا غير موجود في القصة، فـ عائشة لم تطلب منه حل السحر، والرجل لم يرد في القصة أنه ساحر أو كاهن، فكأنه اشتهر بأنه طبيب، فجاء ابن أخيها إليه يصف مرض عائشة، فقال له الرجل: هي مسحورة، أي: هذا المرض ليس مرضا عضوياً وإنما هو سحر، فلا حجة لكم في هذا. وإذا تنزلنا معكم وقلنا: بأن عائشة رضي الله عنها وأرضاها طلبت ذلك -وحاشاها أن تفعل ذلك- فإنه لا حجة لكم بفعل عائشة أمام قول النبي صلى الله عليه وسلم (لا إنما هي من عمل الشيطان)، فإذا خالفت عائشة قول النبي فإننا نقدم قول النبي، أما بلغكم نبأ عمار رضي الله عنه وأرضاه عندما خرجت عائشة مع الزبير وطلحة بن عبيد الله رضي الله عنهم أجمعين يوم الجمل ثم قام رجل من فئة وطائفة علي بن أبي طالب فقال: عائشة كذا فسبها، قطع الله لسانه، وأذاقه ما أذاقه في قبره على ما فعل، فلما فعل ذلك ارتعدت فرائص عمار بن ياسر، وقال: والله إنها زوجة نبيكم في الجنة، ولكن الله اختبركم بها أتطيعون له أم تطيعون لها. وإذا أردت أن تعرف محبة الله في قلبك فانظر إذا عارض قوله هواك، فلا قول لأحد مع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبطلت الأدلة الأثرية التي استدلوا بها. أما دليل القياس الذي استدلوا به فإننا نقول لهم: نوافقكم على القاعدة ولا نوافقكم على التطبيق في هذه المسألة، فإن القياس هنا قياس مع الفارق من وجهين. الوجه الأول هو: أن الأكل من الميتة عند عدم وجود الطعام واجب، وأما التداوي فهو على قول الجماهير من أهل العلم ليس بواجب بل هو مستحب، بل اختلفوا أيهما أفضل للمريض أن يتداوى أم لا؟ وأصلح الأدلة على ذلك أنه عندما اشتد المرض على أبي بكر جاءوه فقالوا: نأتيك بالطبيب، قال: لا إن الطبيب رآني، قالوا: ماذا قال لك، قال: إني فعال لما أريد ولم ينكر عليه أحد ولو كان واجباً لقالوا: له أثمت، فلابد أن تتداوى. فجماهير أهل العلم يرون أن التداوي ليس بواجب وإنما هو مستحب، فهذا قياس مع الفارق. الوجه الثاني وهو مهم جداً هو: أن هناك بدائل عن هذا المحرم ولذلك منعه الشرع (تداووا عباد الله ولا تتداووا بحرام) فالبدائل هي الرقية الشرعية أو العقاقير أو الصبرْ، كما قال للمرأة: (اصبري ولك الجنة)، فهي لم تهلك بذلك. الوجه الثالث: أن الشرع جاء بإباحة الميتة ولم يأت الشرع بإباحة النشرة بل جاء الشرع بعكس ذلك وقال: (لا هي حرام، إنها من عمل الشيطان) أو كما قال صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الرد على القياس. إذاً فحرام على أي مسحور أو مريض أن يذهب إلى كاهن فيحل له السحر بالسحر، ومن فعل ذلك فقد أثم بل وقع في شراك الشرك. نسأل الله جل في علاه أن يتم لنا التوحيد، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وينفعنا بما علمنا. أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم

العيافة والطرق أو الرمي بالحصى

مسائل خالف فيها رسول الله أهل الجاهلية - العيافة والطرق أو الرمي بالحصى لقد جاء الإسلام بتحريم وإبطال كل ما من شأنه أن يجر الإنسان إلى ظلام الجاهلية، ويسقطه في مستنقعاتها الآسنة، فقد حرم الإسلام العيافة والطرق لما فيها من التشاؤم والاستبشار بأشياء لا تنفع ولا تضر، وكذلك ادعاء علم الغيب، وهذا من القبح بمكان، فقد يودي بصاحبه إلى هاوية الكفر والعياذ بالله، وهذا يشمل كل ما يماثل هذه العادات الجاهلية من عادات معاصرة كقراءة الفنجان والكف وضرب الودع وغيرها.

العيافة

العيافة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: إخوتي الكرام! فما زلنا مع أهل الجاهلية الذين كانوا يعتقدون في الله غير الاعتقاد الصحيح وكانوا يتعبدون لله بعبادات لا يرضاها الله جل في علاه وأنكرها عليهم على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، وقد تكلمنا عن معتقد من معتقدات أهل الجاهلية ألا وهو الطيرة، وتكملة لهذا الباب نتكلم اليوم عن العيافة التي كانت من اعتقادات أهل الجاهلية.

معنى العيافة وأشكالها

معنى العيافة وأشكالها والعيافة هي: زجر الطير، وهذا من ضروب الكهانة، بل من ضروب السحر الذي قال فيه العلماء: إنه من الشرك. فالعيافة: زجر الطير والاعتقاد في أصواتها وفي أسمائها بل وفي أمكنتها فهم كانوا ينظرون إلى الطيور كالغراب والبوم ويتشاءمون بأصواتها وبأسمائها فمنهم من يعتقد أن البوم إذا وقفت على داره دنا أجله أو منهم من يستمع إلى صوت الغراب فيرى أن شؤماً أو سوءاً سيدركه لا محالة، فهذه الاعتقادات من العيافة. وهذا يخالف التطير؛ لأن فيه حصر لمسألة الاعتقاد في الطير فقط، أما التطير فكان على العموم بالشجر والحجر والأسماء والبشر -كما بينا- فيكون هذا خصوصاً من عموم. والعيافة مما أنكره النبي صلى الله عليه وسلم وبين أنه من الشرك كما سنفصل القول في ذلك.

الطرق

الطرق أيضاً من الاعتقادات التي أنكرها النبي صلى الله عليه وسلم ووجدانها في عصرنا هذا: الطرق.

تعريف الطرق

تعريف الطرق الطرق لغة: الخط، فيخط الساحر أو العراف أو الكاهن خطاً أو خطوطاً في الأرض ويزعم أنه بهذه الخطوط يتوصل إلى علوم الغيوب أو المغيبات، فكان بعضهم من أهل الجاهلية يخطون خطاً واحداً أو يخطون خطين ويقول أحدهم بعدما يخط الخطين: ابني عيان أسرع لنا بالبيان، يعني: الخط الأول الابن الأول والخط الثاني الابن الثاني، فيزعمون بأنه سيأتي لهم الخطان بعلوم الغيوب، فينبئون الناس بذلك. وبعض العلماء قال: إن الطرق هو الرمي بالحصى، والرمي بالحصى ضرب من ضروب التكهن فيأخذون الحصى فيلقونها على الأرض فتعطي أشكالاً ورسوماً معينة يستدلون بها على علوم الغيب. مثال ذلك: أن يأتي رجل غر -لا يعرف عن دين الله شيئاً- إلى رجل يحسبه من أولياء الله الصالحين فيقول له: سأتزوج فلانة فهل حياتي معها ستكون حياة سعيدة أم لا؟ فيأتي هذا الكاهن ويخط الخط الأول ويسأله: ما اسمك؟ فيقول: زيد، فيقول: ما اسم المرأة؟ فيقول: هند، فخط خط زيد ثم خط خط هند ثم نظر في الخطين فقال له: هذه الحياة ستكون حياة سعيدة وسيكون لك منها من الولد كذا ومن البنات كذا وتموت يوم كذا وهي تموت بعدك في يوم كذا. فهذا هو الطرق، أي أنهم يخبرون عن الغيب بالخطوط أو برمي الحصى فينظرون في تحركات الحصى فيخبرون عن الغيبيات. ومثل هذا كان يحصل في الجاهلية التي كانت قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم والتي قد يعذر أصحابها لاندراس العلم في زمنهم واندثار الشريعة وفترة الرسل حيث لم يرسل رسول في تلك الأزمنة، أما أهل هذه العصور التي انتشرت فيها العلوم والله جل في علاه نصب أهل الدين الذين يناصرون الدين فإن المرء يندهش مما يرى فيها من انتشار لمثل هذه الجاهليات التي نراها في عصورنا المتقدمة والمتحضرة في القرن الواحد والعشرين، فترى في هذه العصور ما يضاهي الجاهلية، ومن هذه الجاهليات -التي نعيش فيها والتي جاء النبي صلى الله عليه وسلم فحطمها وبين أنها من الكفر بمكان- ضرب الودع، وفي مصر يسمونه: وشوشة الودع، وهو حقاً تشويش على القلب، فيأتي أحدهم ويأخذ الودع ويوشوشه، ثم يخبر بما سيحدث مقدماً، ولا تحسبن أن هذا الأمر خفي، والله الذي لا إلا هو إن هذا الأمر لمن الجلاء بمكان، بل إن في وسط الإخوة الملتزمين من يعتقد هذا الاعتقاد الخفي، فمنهم من يتلمس أحداً يخبره عما سيتاجر فيه وهل سيربح في تجارته أم لا.

بعض الاعتقادات الجاهلية المعاصرة المشابهة للطرق

بعض الاعتقادات الجاهلية المعاصرة المشابهة للطرق وكثير من الناس فيهم هذه الاعتقادات الجاهلية التي تضاهي جاهلية ما قبل البعثة ومنها الضرب بالودع، كذلك الخطوط التي كانت تضرب في الأرض في القديم هي بعينها في عصرنا هذا، فبعض الناس يذهب إلى رجل ممن يدعي الولاية، وأنه ممن يخط الخطوط وأنه من أولياء الله الصالحين الذين كشفت لهم الحجب، وأرسل الله إليهم وحياً بعدما انقطع الوحي بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم فينبئ بهذه الغيوب. ومن الاعتقادات الباطلة أيضاً قراءة الكف وهذه من أعجب الأعاجيب، فبعد أن تركوا الخطوط على الرمال جعلوها على الأكف والأيدي، فينظر أحدهم في كف المرء فيرى هذه الخطوط المتشابكة فيقول: هذا الخط خط العمر، وهذا الخط خط الزواج، وهذا الخط خط الأولاد، ثم ينبئ بما يشتهي، وهذا العبد الذي يذهب لهذا الخطاط ليخبره بأمور من الغيوب لعل الله يبتليه بصدق هذا الرجل حتى يفتنه في دينه والعياذ بالله. وأنا هنا أذكر هذه الصور لبيان أن حاجة الأمة بل والبشرية إلى نور النبوة أشد من حاجتها للماء والهواء، وأنه بموت الرسول وموت العالم تندرس الشريعة ويتفشى الجهل وهذا الذي حدث في هذه العصور، فبعد أن مات النبي صلى الله عليه وسلم ومات العلماء من أمثال الشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين والشيخ الألباني تلك الشموس المشرقة في سماء إسلامنا، فبعد موت هؤلاء الجهابذة صارت الدنيا كلها تضطرب، وصار الناس يضرب بعضهم بعضاً في الأفكار وفي الأديان، فصار التقرب لله جل في علاه بشتى أنواعه أشواباً أو أخلاطاً؛ لأن العالم الذي تستضيء به وتستنير بعلمه لا تراه، فلما غابت شمس النبوة وقع الناس في الشرك، ثم بعث الله الرسول صلى الله عليه وسلم فأخرج الناس من الظلمات إلى النور، وبعدما مات الرسول ومات من بعده من أهل ورثه وهم العلماء تفشى الجهل وظهر في الناس ما ظهر من معتقدات فاسدة. ومن الصور التي ضاهت الجاهلية قراءة فنجان القهوة فبعدما يشرب المرء وتبقى آثاره في الفنجان تنظر المرأة المدعية المتكهنة في الفنجان وترى الخطوط متشابكة في الفنجان وتستشعر بها أو تستلهم بهذه الخطوط ما يحدث مغيباً، فجاهلية قبل البعثة وجاهلية بعد البعثة يتقاربان وإن لم أقل يتساويان، بل لي أن أتنطع وأقول: إن جاهلية القرن الواحد والعشرين تفوقت على جاهلية ما قبل البعثة، فما حكم هذه الجاهليات التي جاء النبي صلى الله عليه وسلم بنبذها وجاء النبي صلى الله عليه وسلم بقطع دابرها.

حكم الطرق والعيافة وما يشابهها من اعتقادات جاهلية معاصرة

حكم الطرق والعيافة وما يشابهها من اعتقادات جاهلية معاصرة إن النبي صلى الله عليه وسلم عندما رأى هذه الجاهليات حكم عليها بالكفر، وقال بعدم جوازها، وأن هذا من الشرك بمكان، فلا بد للإنسان أن يترفع عن مثل هذه الأشياء، قال الله تعالى: {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ} [المائدة:3] والفسق قد يقصد به الكفر وقد يقصد به ما دون الكفر، لكن المقصود به هنا الكفر، وقد فسرها بعض العلماء تفسيرات كثيرة وأهم هذه التفسيرات: أن تستشرفوا ما قسم لكم مغيباً بهذه الأساليب، ومن هذه المغيبات: ما كُتب لك في اللوح المحفوظ، بل وما كتب لك وأنت في بطن أمك من رزق وعمر وشقاوة أو سعادة. فالحكم الأول: أن الله سماه فسقاً، وهذه وضح النبي صلى الله عليه وسلم أنها من الشرك ومن الكفر، فالنبي صلى الله عليه وسلم جاء ليبطل هذه الجاهليات، وجاء في حديث متكلم في إسناده -والصحيح إسناده حسن لذاته- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الطيرة والطرق والعيافة من الجبت)، والجبت اختلف العلماء فيه على قولين: فـ عمر بن الخطاب وابن عباس ومجاهد وغيرهم من الصحابة والتابعين قالوا: الجبت هو: السحر، وفي تأويل آخر قالوا الجبت: هو الشرك ولا منافة فإن السحر من الشرك كما قال الله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ} [البقرة:102]، وفي هذا نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الحديث على سبيل الزجر والردع لهؤلاء هدماً للجاهليات وكأنه يقول: عليكم أن تنفروا من هذه الاعتقادات وتبطلوها.

الفرق بين الطرق والكهانة

الفرق بين الطرق والكهانة والطرق ضرب من ضروب الكهانة، وهو إخبار بمغيب عن طريق الخط أو الحصى، والعالم الأرضي هو الذي يتأثر به أما العالم العلوي فلا يدخل في المسألة، أما الكهانة: فهي الإخبار بمغيبات عن طريق السماء وعن طريق الشياطين كما بين النبي صلى الله عليه وسلم أن الشياطين يركب بعضهم فوق بعض ويستمع مسترق السمع الكلمة ويقرقرها في أذن صاحبه حتى تنزل إلى الكاهن فيكذب معها مائة كذبة. إذاً: الطرق والكهانة يتفقان ويفترقان، فيتفقان في الإخبار بمغيب، ويفترقان في السبيل الذي يخبر بالمغيب وهذا السبيل هو الذي يجعلنا نفرق بين الحكم الأول والحكم الثاني، والطرق إخبار بمغيب، والغيب غيبان: غيب مطلق وغيب نسبي، ولكل حكم. أما الغيب النسبي فهو: الغيب الذي يغيب عني وعنك ولا يغيب عن الثالث والرابع ومثال ذلك: عندي مال سُرِقَ مني وأنا لا أعرف السارق، ورجل وقف ينظر إلى الواقعة التي وقعت فعلم السارق وعلم مكان السرقة فأصبح هذا بالنسبة لي غيباً أما بالنسبة للذي رأى السارق شهادة وليس بغيب. ومثال آخر: هناك مسجد في الشارقة يقام فيه درس آخر لا نعرف عنه شيئاً فما يحدث هناك هو بالنسبة لنا غيب، أما بالنسبة لأهل ذلك المسجد فهو شهادة. أما الغيب المطلق فهو: الغيب الذي أستأثر الله بعلمه، والذي غاب عن كل الخلق والذي لا يمكن أن يظهر لأحد، سواءً كان ملكاً أو بشراً أو حجراً أو جناً أو إنساً، فإذا خط الرجل الخط ليعرف من سرق المال بهذا الخط فيخبر المسروق بمكان السرقة أو بمكان المال فقد أخبره بأمر غائب عنه، وهو غيب نسبي، فحتى لو لم يعلمه أحد من البشر إلا أن السارق نفسه يعلمه، وكذلك الجني قرين السارق، فالذي يخط يستعين بالجن كالكاهن، فيخبره الجني الذي معه بعد أن يسأل قرين السارق فيخبره قرين السارق فيخبر الخطاط صاحب المال بهذا، فإذاً: أخبره بالغيب النسبي وحكم هذه الإخبارية أن صاحبها قد أشرك شركاً، وبعض العلماء ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية يرى جواز الاستعانة بالجن في المصالح.

حكم الاستعانة بالجن في معرفة كل من الغيب النسبي والغيب المطلق

حكم الاستعانة بالجن في معرفة كل من الغيب النسبي والغيب المطلق والجني لا يمكن أن يمتع الإنسي بأمر حتى يستفيد منه قال الله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ} [الأنعام:128]، فالاستمتاع هنا متبادل، فلابد للإنسي أن يتقرب إلى الجني بما لا يجب أن يتقرب به إلا إلى الله تعالى وهذه متعة للجني، وبالمقابل تكون متعة الإنسي بإخباره بهذه المغيبات أو بأن يفعل له شيئاً من خوارق العادات والكرامات والمعجزات. وهذا هو محل النزاع وهو أنه لا يمكن للجني أن يخدم الإنسي حتى يتمتع به، فإن قلنا: إنه لا يمكن أن يمتع الجني الإنسي بشيء حتى يتمتع منه هو بصرف القربة له فهذا شرك أكبر، وأما إذا قلنا بأن هناك من الجن -كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - من هو مؤمن يحب المسلم الإنسي في الله فيتعاون معه على البر والتقوى ويقاتل أهل الكفر والإلحاد من أجله ويفعل ذلك فهذا جائز، بل إن ابن عثيمين يرجح استحبابه. وأنا أقول: إن أقل ما يوصف به هذا الحال أنه من الشرك الأصغر؛ لأنه أتخذ سبباً لم يشرعه الله وإلا فأين الدليل على أن الله جل في علاه شرع لنا الاستعانة بالجن؟ فالاستعانة عبادة، والعبادة لا تصح إلا لله جل في علاه، فأقل أحوال هذا النوع أنه من الشرك الأصغر، لكن إذا كان الحال وفق القاعدة التي قعدها العلماء من أنه لا يمكن للجني أن يمتع الإنسي إلا أن يتمتع الجني من الإنسي فهذا من الشرك الأكبر، وهذا واضح وجلي في عصورنا فترى كثيراً من الناس يربط المصحف في رجله، ومنهم من يبول على المصحف، وهذا يكون بأمر هؤلاء الجن حتى يمتعوه، بل أكثر من ذلك ترى المشعوذ الذي يقرأ على المصروع تراه يأمره بأن يذبح ديكاً لونه أحمر مختلطاً بالأصفر، أو يذبح ديكاً له رجل واحدة، أو قرداً له ثلاث أرجل، وهذه الأوامر كلها أوامر من الجني أصلاً. أما القسم الثاني فالخلاف فيه هين وهو الإخبار بالغيب المطلق، فإذا أخبر به الكاهن فقد كفر كفراً أكبر من وجهين: الوجه الأول: شرك في الربوبية. والوجه الثاني: يمكن أن نقول شرك في الإلهية لكنه أيضاً في الربوبية. ففي الوجه الأول: يكون قد أشرك في الربوبية لأنه نازع الله في صفة من صفاته ألا وهي العلم بالغيب المطلق، قال الله تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النمل:65]، وهذا أسلوب حصر وهو أقوى الأساليب في الإثبات، وقول الله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن:26 - 27]، إلى آخر الآيات، فالغيب كله لا يعلمه إلا الله جل في علاه فمن خط الخط وأخبر بالغيبيات فقد نازع الله في صفة من صفاته. أما في الوجه الثاني فيكون قد كفر لأنه كذّب الله ورسوله، قال الله تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء:122] وقال: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء:87]، وقال: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل:65]، وهذا يقول: أنا أعلم مع الله، فيكون قد كذّب الله وكذب رسول الله صلى الله عليه وسلم بفعله هذا، وتكذيب الله وتكذيب الرسول من الكفر بمكان. لكن يرد عندنا إشكال هنا وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كان نبي من الأنبياء يخط خطاً فيخبر بغيب فمن وافق خطه خط هذا النبي فذاك)، فكان نبي من الأنبياء يخط خطاً، إذاً: هذا طرق، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: من وافق خطه خط النبي فذاك. والجواب على هذا الإشكال: أن هذه مسألة تعجيزية، وكأن النبي صلى الله عليه وسلم يعلق على مستحيل، فبعد أن بين لهم أن الطرق من الشرك أخبرهم أن هناك نبياً كان يخبر بغيب عاملاً بقول الله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى} [الجن:27] و (إلا) هنا للاستثناء، فهذا النبي الذي خط الخط قد ارتضى الله أن يعلمه شيئاً من الغيب ووسيلة معرفة هذا الغيب عن طريق الخط، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إن فعل هذا النبي كان بوحي وأما أنتم فما عندكم وحي، فمن وافق خطه خط النبي ولن يوافق بحال من الأحوال -وهذا هو المحذوف المقدر هنا- لأن غير النبي يضرب الخط بشكل عشوائي بينما النبي يضربه بوحي من الله، وهذه نظيرها في الشرع قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ} [الأعراف:40]، فعلقها الله على مستحيل، فلو دخل الجمل في خرم الإبرة فعندئذ للكافر أن يدخل الجنة، فمفهوم هذا القول أن الكافرين لن يدخلوا الجنة أبداً. مثال آخر من الشرع وهو قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف:81]، هنا يأمر الله عز وجل نبينا أن يقول: لو كان عيسى ابن الله لكان أول من يعبده محمد صلى الله عليه وسلم. وهذا تعليق بالمستحيل، ومعناها: أنه لا يوجد لله ولد، فهو سبحانه لم يلد ولم يولد، ولكن لو حدث ذلك فأنا أكون أول عابد له، وهذا أيضاً لا يمكن أن يحدث أبداً؛ لأن أشد الخلق توحيداً لله سبحانه هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك أمره الله جل وعلا أن يعلق على المستحيل. إذاً: معنى الحديث: كان نبي يخط خطاً بوحي من الله وأنى لكم ذلك فعلق الأمر على مستحيل، يعني: أنه محال أن يحدث لكم ذلك.

التطير والتشاؤم

مسائل خالف فيها رسول الله أهل الجاهلية - التطير والتشاؤم من العادات الجاهلية التي كانت منتشرة بين الناس: التطير والتشاؤم، فقد كان الناس يتطيرون ببعض الطيور كالغراب والبوم، ويتشاءمون بالأسماء والأيام والحيوان والأشخاص، وهذا كله يقدح في عقيدة المرء لمخالفته لصدق التوكل على الله واعتقاد أن النفع والضر لا يأتي إلا من قبله سبحانه وتعالى، والفأل نقيض للتشاؤم، وهو مندوب ومحمود لما فيه من إدخال السرور على النفس مع حسن الظن بالله سبحانه وتعالى.

حقيقة التطير والتشاؤم عند أهل الجاهلية

حقيقة التطير والتشاؤم عند أهل الجاهلية إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. إن أشرف ما في الوجود أن يتعبد المرء لربه جل في علاه، عاملاً بقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] وأرفع المقامات هو مقام العبودية، وقد بينا فيما مضى بأن أهل الجاهلية كان لهم اعتقادات باطلة؛ ولذلك أرسل الله رسله، وضرب الصراط بين الجنة والنار، وشرع الجهاد من أجل توحيد الإلهية، ومن أجل أن يبطل الاعتقادات الباطلة التي كان يعتقدها أهل الجاهلية، وبينا أن أهل الجاهلية كانوا يتعبدون لله جل في علاه بالشرك، فهم جمعوا بين النقيضين، عبادة الله وعبادة الأصنام. من الاعتقادات الباطلة التي جاء النبي صلى الله عليه وسلم لإبطالها الطيرة، وهي من الاعتقادات الجاهلية التي جاء النبي صلى الله عليه وسلم فوجد أهل الجاهلية ومشركي العرب يتعبدون لله بها. والطيرة: مصدر من تطير وهو التشاؤم، وهذه الطيرة مأخوذة أصلاً من الطير، حيث كان أهل الجاهلية يعتقدون في الطير، فكان الواحد منهم إذا أراد الزواج أو أراد التجارة أو أراد الرحلة في السفر لأمر ما كان ينظر في الطير وهو يطير، فإن ذهب الطير يميناً تيمن، وقال: هذا من البركة فرحل أو مضى على ما أراد، وإن ذهب الطير شمالاً تشاءم، وقال: هذا من الشؤم بمكان فأوقفه. إذاًًً: فالطيرة هنا هي ما رده وأمضاه، فإن وجد اليمين قال: يمن وبركة فأمضى ما يريد، وإن وجد الشمال تشاءم، وقال: نقف؛ لأن السوء سيأتي من هذا، هذا أصل الطيرة عند أهل الجاهلية، ثم عمموا المسألة وما وقفوا عند مسألة الطير فقط، بل تشاءموا بالأشخاص والأفراد والأشجار والأحجار بل والأيام والشهور والسنين والجمادات، فكانوا يتطيرون بالغراب وبالبوم وبعض الطيور الأخرى ويتطيرون أيضاً بالثعالب، فإذا رأى أحدهم ثعلباً لم يذهب إلى ما أراده من تجارة أو من زواج، وأعجب من ذلك أنهم تطيروا بالصالحين وتشاءموا بهم!! وهذا عكس ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وعكس ما شرعه الله جل في علاه، إذ البركة مع أهل الطاعة، والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:96] فسبب البركات هو الإيمان، ولذلك ترى الفاجر الفاسق عنده آلاف من الدراهم ومع ذلك لا يدري فيما أنفقت، بينما الرجل الصالح ترى عنده مائة درهم ومع إنفاقه منها لم تنته؛ لأن فيها البركة، وهذا مصداقٌ لقول الله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132] فالرزق مع الصالحين؛ ولذلك قال العلماء: إن المرأة الصالحة بركة في البيت، والمرأة الطالحة شؤم في البيت. فإذاً: المقصود أن هؤلاء الجاهلين كانوا يتطيرون بأهل الصلاح، وهذا ترسم منهم لسنن الأمم السابقة حذو القذة بالقذة، فإن اليهود والنصارى كانوا يتشاءمون ويتطيرون بأنبيائهم ورسلهم، فقوم صالح قالوا: إنا تطيرنا بكم، وأيضًا قوم موسى تطيروا بموسى ومن معه، وأيضًا تطيروا بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى في سورة النساء: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النساء:78] كأنهم يقولون: يا محمد بسبب شؤمك وشؤم ما أتيت به -حاشا لله وحاشا لرسوله صلى الله عليه وسلم من ذلك- حدث لنا من القحط والجدب وعدم الرزق ما حدث، ويرد الله عليهم بقوله: إنما {طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} [يس:19] يعني: شؤمكم بفعلكم، وبقوله: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:79] يعني: من فعلك ومن ذنوبك وبسبب تفريطك، فإن الله جل في علاه يصيب الأمم بسبب الذنوب والمعاصي، ويعفو عن كثير سبحانه جل في علاه، قال عز وجل: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25] يعني: أن الفتنة قد تعم، فهؤلاء الجاهليون كانوا يتطيرون بأهل الصلاح، وكانت هذه الجاهلية الجهلاء العمياء قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، فبعث الله النبي صلى الله عليه وسلم ليبطل هذه الاعتقادات الباطلة، فما بالنا نرى اعتقادات أهل الجاهلية قد عادت في زماننا وفي عصرنا، فهناك أناس يتطيرون بالصالحين كما كان أهل الجاهلية يتطيرون بالصالحين، وأيضًا يتشاءمون بالطيور وبغيرها كما كان يفعل أهل الجاهلية، أما رأيت أخي الكريم أن بعض أهل الكتاب يتشاءمون بالألقاب وبالطيور، بل وبالأشكال وبالبشر، وكذلك بالأرقام فبعض أهل الكتاب يتطيرون بالرقم ثلاثة عشر، وبعضهم يتطيرون بالرقم عشرة، وأهل البادية يتطيرون بالرقم سبعة، ومنهم من يتطير بالبشر ذوي العاهات، فإذا رأى رجلاً أعور قال: هذا عوار في حرفتي ومهنتي، لا أذهب إليها اليوم، وإذا رأى امرأة عجوزاً يقول: هذه عجوز نحس لا يمكن أن أذهب إلى العمل هذا اليوم، بل تفوقت جاهلية هذا العصر على جاهلية مشركي العرب بأنهم إذا ضحكوا كثيراً قالوا: اللهم اجعله خيراً، مع أن الضحك الكثير يعمق في قلبك التوحيد والإيمان؛ لأن الذي أودع في قلبك هذا الضحك وأدخل عليك السرور هو الله، قال الله تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} [النجم:43] كذلك إذا علمت بأن الله هو الذي سبب لك هذه الأسباب لإدخال السرور عليك علمت أن المنة من الله، فتعبدت لله بشكر هذه المنة وهذه النعمة، لكن هؤلاء إذا ضحكوا كثيراً قالوا: اللهم اجعله خيراً، هذا الضحك الكثير لن يأتي بالخير، ويتشاءمون أيضًا بحركة العين، فيقول أحدهم: عيني تتحرك، فهناك مصيبة ستقع، وهذه من اعتقادات الجاهلية الظاهرة الآن بين أيدينا، كذلك هناك من يتشاءم بيوم الأربعاء أو يوم الثلاثاء، بل ويتشاءمون ببعض أفعال الأولاد الصغار، فإذا وجدوا ولداً أخذ مقصاً ففتحه وأغلقه فإن هذه الفتحة وهذه الإغلاقة عندهم مؤذنة بحدوث مصيبة في البيت، كأنْ يشب حريق في هذا البيت، فهذه كلها من الاعتقادات الباطلة التي شابه بها أهل الإسلام أهل الجاهلية.

الأحاديث النبوية الدالة على تحريم الطيرة والتشاؤم

الأحاديث النبوية الدالة على تحريم الطيرة والتشاؤم إن الله جل في علاه لم يرسل رسوله إلا ليبطل الاعتقادات الباطلة، فحري بأمثالنا أن نعلم كيف أبطل رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الاعتقادات، فنبطلها في عصورنا كما أبطلها، ومعلوم أن الشرع جاء بإبطال هذه الاعتقادات وأنكرها أيما إنكار، فقد روى البخاري في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الطيرة شرك) وفي رواية في المسند: (الطيرة شرك الطيرة شرك) وعن ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه في سنن أبي داود أو في غيره: (الطيرة شرك، وما منا إلا، ولكن الله يذهبه بالتوكل) ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا عدوى ولا طيرة) وهذا نفي بمعنى النهي، فقول النبي صلى الله عليه وسلم (لا عدوى ولا طيرة) يعني: أن تتطيروا وأن تتشاءموا فهذا التشاؤم وهذا التطير حرام عليكم، والأصل في النهي التحريم، وهذا من إبطال النبي صلى الله عليه وسلم لهذه الاعتقادات الباطلة، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من ردته الطيرة فقد أشرك) وهذا حديث متكلم فيه لكن يستأنس به، فقوله: (من ردته الطيرة فقد أشرك) يعني: من ردته الطيرة عن إمضاء عمله أو زواجه أو سفره فقد وقع في لون من ألوان الشرك. إذاً: جاء الشرع بإبطال هذه العقيدة الباطلة والفاسدة التي كانت في الجاهلية، وشابه فيها أهل الإسلام أهل الجاهلية، وبهذا يكون التشاؤم حرام لا يجوز بحال من الأحوال.

أنواع التطير وحكم كل نوع

أنواع التطير وحكم كل نوع والتطير له حكمان، الحكم الأول: شرك أصغر، والحكم الثاني: شرك أكبر، فالتشاؤم شركان: شرك أكبر، وشرك أصغر، أما الشرك الأصغر بالنسبة للتشاؤم فهو منبثق من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الطيرة شرك) ثم أكد ذلك فقال: (الطيرة شرك الطيرة شرك الطيرة شرك) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من ردته الطيرة فقد أشرك) فهذا تصريح بالشرك. والأصل في التشاؤم أنه من الشرك الأصغر حتى تأتي القرائن التي تثبت أنه من الشرك الأكبر؛ لأن الأحاديث التي صرحت بأن التشاؤم من الشرك كلها ذكرت الشرك نكرة، ولم تذكره معرفاً وقد قعدت في هذا المجلس في أكثر من موضع وبيَّنت أن الشرك أو الكفر إذا ذكر في الحديث أو ذكر في الآية نكرة دل على الشرك الأصغر، وإذا ذكر معرفاً دل على الشرك الأكبر، فمن أمثلة الشرك الأكبر والشرك الأصغر: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ثنتان في أمتي هما بهم كفر ومنها: النياحة على الميت) فقوله هنا: (كفر) نكرة والنكرة تدل على أنه من الشرك والكفر الأصغر، وهو الكفر العملي لا الكفر الاعتقادي، يعني: لا يخرج صاحبه من الملة، والدليل على أن النياحة على الميت أو لطم الخدود أو شق الجيوب لا يخرج من الملة الاستقراء والإجماع، أما بالنسبة للتعريف فهناك فرق، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (بين المرء وبين الشرك أو الكفر ترك الصلاة) وهنا يظهر أن ترك الصلاة كفر أكبر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكره في الحديث معرفاً، ففرق بين المعرف وبين النكرة. إذاً: فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الطيرة شرك) هناك دلالات تدل على أنها شرك أصغر: الأولى: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكره نكرة ولم يذكره معرفاً. الحالة الثانية: أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل له كفارة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا سئل عن الطيرة، قال: (الطيرة شرك، ثم قال: وأحسنها الفأل، قالوا: يا رسول الله فما كفارة ذلك؟) فجعل لها كفارة عليه الصلاة والسلام، والقاعدة عند العلماء في التفريق بين الكفر الأكبر والكفر الأصغر الكفارة، فإن كان له كفارة فهو من الكفر الأصغر والشرك الأصغر، وإن لم يكن له كفارة إلا التوبة فهو من الكفر الأكبر والشرك الأكبر، دلالة ذلك الحلف بغير الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من حلف بغير الله فقد أشرك) وهذا شرك أصغر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل له كفارة، قال: (من أقسم باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله) فجعل له كفارة، فالذي له كفارة يدل على أنه كفر أصغر، (فقالوا: يا رسول الله! فما كفارة ذلك؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قولوا: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت ولا يذهب بالسيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك) فجعل للمتطير كفارة وهذا يدل على أنه شرك أصغر. فمن تطير أو تشاءم أو رأى رجلاً وقال: إن هذا الرجل شؤم، فلن أذهب إلى العمل اليوم، فإن كفارته وعلاجه أن يقول: (اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت ولا يذهب بالسيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك) فقد جعله النبي صلى الله عليه وسلم كفارة، ودل ذلك على أنه من الشرك الأصغر. الحالة الثالثة: أنه وسيلة للشرك الأكبر وليس شركاً أكبر؛ لأنه يعتقد اعتقاداً تاماً في الله جل في علاه، فأنت لما تسأل الرجل الذي ينظر إلى عجوز ويقول: هذه المرأة العجوز ما رأيتها مرة إلا وضاع مالي، وما رأيتها مرة إلا وفشل زواجي، وما رأيتها مرة إلا وحدث كذا وكذا في العمل، فهو كلما نظر إلى هذه المرأة تشاءم منها، فهذا الرجل الذي يتشاءم من هذه المرأة لو أننا سألناه: هل المرأة تنفعك أو تضرك؟ لقال: لا والله، النافع والضار هو الله، فهذا الرجل اعتقد اعتقاداً صحيحاً في ربه، وقال: إن النافع والضار هو الله، ولا أحد يتحكم في الكون إلا الله جل في علاه لكن هذه المرأة سبب في الشؤم الذي يأتيني، فإنني كلما أراها تحدث لي المصائب.

بعض القواعد المهمة في مسائل العقيدة

بعض القواعد المهمة في مسائل العقيدة هناك قواعد مهمة في مسائل العقيدة: القاعدة الأولى: أن صرف العبادة لله توحيد وصرفها لغير الله شرك. القاعدة الثانية: وهي الأهم: من اتخذ سبباً لم يشرعه الله سبباً لا شرعاً ولا كوناً فهو شرك أصغر، ومن اعتقد به فهو شرك أكبر. ومعنى قوله: (لا شرعاً ولا كوناًً) تدل على أنه قد أشرك شركاً أصغر، فكأنه يقول: هذه المرأة بلاءٌ، وأنا لو قلت: إن سبب البلاء الذنوب لَماَ أخطأت؛ لأن الله جل وعلا ربط البلاء بالذنب، قال بعض السلف: (ما نزل بلاء إلا بذنب وما رفع إلا بتوبة). إذاً: في الشرع أن سبب البلاء هو الذنب، لكن كونه يقول: إن سبب البلاء هي المرأة السوداء أو العجوز، فهذا ليس من شرع الله، فمن ادعى على الله وقال: إن سبب المصيبة التي حدثت لي هي المرأة السوداء أو العجوز فقد ادعى على الله زوراً وبهتاناً، وقد اتخذ سبباً لم يشرعه الله سبباً، فوقع في الشرك الأصغر؛ لقول الله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21] فنقول: من اتخذ سبباً لم يشرعه الله سبباً شرعاً ولا كوناً فقد أشرك.

الأسباب الشرعية والأسباب الكونية وحكم العمل بها

الأسباب الشرعية والأسباب الكونية وحكم العمل بها هذه أمثلة تبين الأسباب الشرعية والأسباب الكونية، فمن الأسباب الشرعية: استعمال العسل في التداوي به والاستشفاء، والله جل وعلا قال: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل:69] فهذا سبب شرعي صحيح، وكذلك ماء زمزم من الأسباب الشرعية، فرجل عنده ثقب في المعدة وشرب ماء زمزم فشفي، وامرأة كانت مريضة جداً فقيل لها: اشربي ماء زمزم، ولكن اعتقدي في ربك بأنه هو المسبب وأن ماء زمزم سبب في شفائك، فاعتقدت في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (ماء زمزم لما شرب له) وأروع ما يضرب في ذلك مثلاً الذهبي فقد كان له زمزمية كان يشرب فيها ماء زمزم، وكان الحافظ ابن حجر يرى أن قوة حفظ الذهبي من ذلك، فقال: تذكرت حفظ الذهبي وشربه لماء زمزم، فقلت: أشرب ماء زمزم حتى أصل إلى ما وصل إليه الذهبي في الحفظ، قال: فما زلت أشرب ماء زمزم وأدعو الله أن أصل إلى حفظ الذهبي حتى تعديت حفظ الذهبي، فقد كان الحافظ ابن حجر آية في الحفظ، كان يجلس ويملي من حفظه وحين ينتهي تقوم زوجته وتملي من حفظها، فشربه لماء زمزم سبب شرعي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ماء زمزم لما شرب له). فالله سبحانه وتعالى ربط النتائج بهذه الأسباب. أما الأسباب الكونية فهذا ظاهر في الأدوية التجريبية التي لا نعاتب عليه شرعاً، ومنها: (البندول) (فالبندول) سبب كوني، فقد جربه العلماء والأطباء فوجدوا أنه علاج للصداع، فهذا يُعَدُّ سبباً كونياً بالتجريب، فإن الله جل في علاه جعل الشفاء مع استخدام هذا (البندول)، لكن لو جاء رجل إلى رجل آخر مريض بالصداع فقال له: عندي لك دواء من أفضل الأدوية، فقال: ما هو؟ قال: أن تربط الصوفة على رأسك ليلاً فإن هذا الصداع سيذهب، فقال له المريض: متأكد؟ قال: نعم، فأخذ المريض الرباط وربطه على رأسه، فجاء الفقيه -المعتقد في ربه اعتقاداً صحيحاً، الذي تعلم علم التوحيد وعمل به ثم علمه للناس- إلى المريض فقال: لماذا تربط هذه الصوفة قال: عندي صداع، قال: هل تعتقد أن هذه الصوفة تشفي؟ قال: لا والله، فقال الفقيه: الحمد لله قد خرجت من الشرك الأكبر؛ لأنك اعتقدت أن الشافي هو الله، واعتقدت أن هذه الصوفة سبب في الشفاء، لكن لو ذهبنا إلى الطبيب وقلنا له: يا طبيب هل هذه الصوفة قد جربتها في المرضى وشفوا بها؟ قال: لا، والله ما رأينا ذلك في الطب، ثم ذهبنا إلى العجائز وسألناهن: هل جربتن هذه الصوفة فوجدتن فيها شفاء؟ قُلْنَ: لا ما وجدنا فيها شفاء، فقال الفقيه: إذاًً: أنت وقعت في الشرك الأصغر؛ لأنك اتخذت سبباً لم يشرعه الله سبباً لا شرعاً ولا كوناً، فقال الله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21]. إذاً: من اعتقد اعتقاداً جازماً صحيحاً في ربه أنه النافع والضار واتخذ سبباً لم يشأ الله أن يجعله سبباً، فقد وقع في الشرك الأصغر.

كيفية الارتقاء من الشرك الأصغر إلى الشرك الأكبر في التشاؤم

كيفية الارتقاء من الشرك الأصغر إلى الشرك الأكبر في التشاؤم الأصل أن التشاؤم شرك أصغر، وهو نادر الارتقاء من الشرك الأصغر إلى الشرك الأكبر، لكن كيف يرتقي المرء من الشرك الأصغر بالاعتقاد الفاسد إلى الشرك الأكبر؟! أقول: الشرك الأكبر خطر عظيم؛ لأن المرء بهذا الاعتقاد الفاسد سيخلد في نار جهنم، إلا أن تتداركه رحمة الله جل في علاه فيخرج من هذا الشرك إلى التوحيد. نقول: يرتقي المرء من الشرك الأصغر إلى الشرك الأكبر إذا اتخذ سبباً لم يشرعه الله سبباً، واعتقد في هذا السبب أنه ينفع ويضر، فهذا قد خرج من الملة وأشرك شركاً أكبر؛ لأنه اعتقد في غير الله ما لا يعتقد إلا في الله، وهذه القاعدة قعدها شيخ الإسلام ابن تيمية، فلو سمع رجل بامرأة هي من الجمال بمكان ومن الدين بمكان، وأراد الزواج منها، فقال: سأجعل الطير يطير، فإن ذهب يميناً ذهبت وتزوجتها، وإن ذهب يساراً فلن أذهب ولن أتزوجها، فسئل عن ذلك، فقال: هذا الطير هو الذي يمتلك إساءتي في هذه المرأة أو سعادتي فيها، فهذا يرتقي إلى الشرك الأكبر. أو رجل ربط صوفة بسبب التعب أو المرض الذي أصابه في يده، فقلنا له: لم ربطت هذه الصوفة؟ قال: هي تنفعني في مرضي وتشفيني ولم يقل: بإذن الله، فاعتقد فيها اعتقاداً باطلاً، فمن اعتقد في غير الله من شجر أو حجر أو بشر ما لا يعتقد إلا في الله فقد أشرك شركاً أكبر؛ لأن النافع والضار والمحيي والمميت والمبدئ والمعيد هو الله، فمن اعتقد في أن هناك من البشر من يحيي ويميت، ومن يبدئ ويعيد، ومن يرزق ويمنع الرزق، ومن يرفع ويخفض، فقد خرج من الملة؛ لأنه أنزل المخلوق منزلة الخالق، فجعل لله نداً في الربوبية وفي التصرف في هذا الكون؛ ولذلك لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم: (أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك). إذاًَ: الشرك شركان: شرك أكبر، وشرك أصغر، الشرك الأكبر أن يعتقد في هذا السبب، فإن لم يعتقد في هذا السبب فنقول: هذا من الشرك الأصغر وله حكم الطيرة.

حكم الفأل

حكم الفأل هناك مسألة أخرى تتعلق بالطيرة ألا وهي: الفأل، فهناك فأل حسن، وللمرء أن يتفاءل، وقد ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يعجبني الفأل)، وقال: (الطيرة شرك وأحسنها الفأل)، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل عن أمير الجيش أو أمير السرية فإن وجد اسمه رابح أو ناجح أو فائز استبشر وتفاءل، وأيضًا عندما رأى النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية سهيل بن عمرو قال: (سهل الله عليكم أمركم)، وقد كان ذلك حقاً بعقد الصلح مع سهيل بن عمرو. إذاً: المقصود أن الفأل من الشرع وهو عكس الطيرة، فالطيرة تشاؤم، والتفاؤل: هو أن يتحرك المرء لفعل شيء بكلام حسن قد سمعه، أو إشارة حسنة قد رآها، كأن يكون مثلاً تاجراً يريد السفر ليتاجر بتجارة، فيسمع رجلاً يقول: بضاعتك رابحة تجارتك فائزة أنت ناجح أنت رابح أنت فائز فيدخل عليه السرور فيستبشر خيراً ويمضي قدماً في تجارته، فهذا هو الفأل، فالفأل له أصل شرعي من قول النبي صلى الله عليه وسلم ومن فعله.

العلاقة بين الفأل والطيرة والفرق بينهما

العلاقة بين الفأل والطيرة والفرق بينهما هناك علاقة بين الفأل وبين الطيرة، فهما يتفقان ويفترقان، فيتفقان في الهمة بالتحريك والدفع، فالطيرة تدفع والفأل كذلك يدفع، لكن الفأل مأمور به محثوث عليه والطيرة لا، فهذا الاتفاق بينهما أنه يمضي المرء أو يرد المرء بالفأل وبالطيرة، والافتراق في أمور كثيرة، منها: الأمر الأول: أن الفأل الحسن مأمور به شرعاً، قال النبي صلى الله عليه وسلم (يعجبني الفأل)، وأما الطيرة فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنها، ونحن ندور مع الشرع حيث دار، فأنت مربوب لربك، وعابد لله جل في علاه، تقول: سمعت وأطعت واستسلمت لأوامر الله، والله مدح إبراهيم باستسلامه التام لأوامر الله، قال الله تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة:131] كأن الله جل وعلا قال لإبراهيم: استسلم لأوامري، فقال استسلمت، فمدحه الله جل في علاه لذلك. إذاًً: فمحض العبودية أن تستسلم استسلاماً تاماً لله جل في علاه، فتعلم أن الشرع قد أباح الفأل، فتقول: آمنت بالفأل سبباً وأعتقد اعتقاداً جازماً في ربي. ونهى الشرع عن الطيرة فتقول: قد حرمت الطيرة على نفسي؛ لأن الشرع قد حرمها. الأمر الثاني: أن الفأل من باب حسن الظن بالله، وحسن الظن بالله أمر الله جل في علاه به، وأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم، فقد صح عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه)، وفي مسند أحمد بسند صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله عز وجل قال: (أنا عند ظن عبدي بي، فإن ظن خيراً فله) فحسن الظن بالله من أتم العبادات التي يتقرب بها العبد إلى الله جل في علاه. أما الطيرة فهي سوء ظن بالله، وسوء الظن بالله إن لم يصل إلى الشرك الأكبر فهو من أكبر الكبائر، قال الله تعالى: {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} [الفتح:6] وقال: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} [آل عمران:154] وقال النبي صلى الله عليه وسلم قال الله عز وجل: (فمن ظن بي خيراً فله ومن ظن بي شراً فله) يعني: عليه ذلك الظن. إذاً: حسن الظن بالله جل في علاه من باب الفأل، والطيرة من باب سوء الظن بالله جل في علاه. الأمر الثالث: أن الفأل وسيلة إلى التوحيد الكامل لله جل في علاه فهو وسيلة إلى كمال التوحيد؛ لأنه وسيلة إلى تمام التوكل على الله جل في علاه والاطمئنان إليه سبحانه، كما قال الحسن البصري: علمت أن رزقي بيد ربي ولن يذهب لغيري، فاطمأن قلبي. يعني: علم أن ربه هو الذي يدبر شئونه وأموره، فاطمأن قلبه لله جل في علاه. إذاً: هو وسيلة إلى كمال التوحيد. أما الطيرة فهي وسيلة إلى الشرك؛ لأن بها ضعفَ التوكل على الله جل في علاه، وبها يتسخط المرء على أقدار الله جل في علاه، وبها يصل المرء إلى الشرك الأكبر والعياذ بالله. الأمر الرابع: أن الفأل يدخل السرور على المرء وهذا أصل شرعي، والأصل منبثق من حديث النبي صلى الله عليه وسلم (من أفضل العبادات سرور تدخله على مسلم) بأن تقضي له حاجته أو دينه، أو تنفس له كربته، فهذه من أفضل الطاعات التي تتقرب بها إلى الله جل في علاه. إذاً: الفأل فيه إدخال السرور على المسلم وهذا أمرٌ محسوس، أما الطيرة ففيها إدخال الهم والحزن على المرء، فيصل بالمرء إلى التسخط على أقدار الله جل في علاه، وهو منبوذ شرعاً؛ ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستعيذ منه ويقول: (أعوذ بك من الهم والحزن).

علاج التطير

علاج التطير ما من أحد إلا ويحدث له التطير، بل إنني قد أسمع كلمة من رجل فأجد في قلبي انقباضاً من هذه الكلمة، ثم أرجع وأقول: أعوذ بالله من الجاهلية التي نحن فيها، وأقول: اللهم لا خير إلا خيرك، فما من أحد إلا ويأتي له هذا الهاجس وهذه الوساوس التي من الشيطان، وقد حدث ذلك مع من هو خير منا، فقد حدث مع الصحابة، بل يقول ابن القطان حديثياً: بل حدث مع النبي صلى الله عليه وسلم، لكن هذا مختلف فيه في مسألة الإدراج كما سنبين، أقول: إذا تطير المرء أو جاء الشيطان وجثم على قلبه وصدره، فوسوس له بهذه العقيدة الفاسدة أو بهذا التشاؤم فلا بد أن يعالج هذا الأمر، ولا بد أن نفرق أولاً في المسألة بين العمل بالطيرة وبين تحديث النفس، فالمرء يؤاخذ بالعمل ويحاسب عليه، ولا يؤاخذ المرء بتحديث النفس، ودليل ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تكلم) ولذلك نقول: الوسوسة والخاطرة التي تأتي في القلب بالتشاؤم هذا لا يحاسب عليه المرء حتى يترجم ذلك إلى عمل، والدليل على ذلك الحديث الذي فيه شيءٌ من الضعف، لكن يستأنس به وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الطيرة ما أمضاك أو ردك). إذاً: الطيرة مقياسها أن تُحدث في نفسك التشاؤم أو التفاؤل، فتمضي قدماً أو تتراجع، فما حدث المرء به نفسه فعليه أن يزيله، فيعالجه بثلاثة أمور: أولاً: صدق التوكل على الله جل في علاه، وهو أن يعتقد المرء اعتقاداً جازماً بأن خزائن السماوات والأرض بيد الله جل في علاه، وبأن الله هو النافع والضار لا أحد غيره، فمن توكل على الله حق التوكل فقلبه معلق بمن فوق العرش الذي يدبر شئون الدنيا بأسرها، كذلك من وثق بالله تمام الثقة مع صدق الاعتماد على الله جل في علاه بجلب المنفعة ودفع المضرة فإنه لا يعتمد لا على طير ولا بشر ولا شجر ولا حجر وهذا أول علاج، ودليل ذلك حديث ابن مسعود في سنن أبي داود وفي غيرها من السنن بسند صحيح قال ابن مسعود: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الطيرة شرك الطيرة شرك -أكد ثم قال-: وما منا من أحد إلا -يعني: تسقط في قلبه هذه الوساوس-ولكن يذهبه الله بالتوكل). فلم يذكر الداء إلا وذكر معه الدواء، وهذا باب واسع جداً في هذا الشرع الحنيف، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أنزل الله داء إلا وأنزل له دواء) وهذا يبين أن هذا الدين متكامل في كل شيء؛ فهو ما ذكر ترهيباً إلا وذكر ترغيباً، وما ذكر ناراً إلا وذكر جنة، وما ذكر داءً إلا وذكر دواء، وما أغلق باب شر إلا وفتح باب خير، مثال ذلك: (لما جاء بلال بتمر جنيب -أي: تمر جيد- إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: أكل تمر خيبر هكذا؟ قال: لا يا رسول الله إنا نأخذ الصاع من هذا بصاعين من ذلك) فلما قال للنبي صلى الله عليه وسلم هذا الكلام تأوه منه، وهذا يبين أن الصحابة قد يقعون في الخطأ، لعدم علمهم، فيعذرون بجهلهم، ثم يتعلمون فيتداركون الأمر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أوه، هذا عين الربا لا تفعل هذا) يعني: إن فتح باب الربا يفتح باباً من أبواب النار، فالنبي صلى الله عليه وسلم أغلق عليه باب المبادلة، مع أنهم يحتاجون إلى أكل التمر الطيب، لكنه فتح لهم باباً آخر أباحه الشرع الحنيف فقال (يا بلال بع الجمع -الرديء- بالدراهم واشتر بالدراهم جنيباً) والآن تجد المرأة تذهب إلى سوق الذهب لتبديل الخاتم أو الإسورة المتكسرة، أو يأخذها زوجها ويقوم بتبديل المتكسر من الذهب بالسليم مع دفع الفارق، وبفعله هذا يقع في الربا وهو لا يدري، فنقول له: لا تبدل ذهباً بذهب مع الفرق؛ لأن هذا عين الربا، وإذا علمت المرأة بأنه ربا صرخت في زوجها وقالت: ماذا أفعل؟ فقال لها: أسأل أهل العلم، فسأل أهل العلم، فقالوا له: هذا عين الربا، لكن بع المكسر بالدراهم واشترِ بالدراهم الذهب الجديد. فالنبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا ويبين لنا أن الدين الحنيف إذا أغلق باباً من الشر فتح لنا باباً آخر من الخير. السبب الثاني في العلاج: أن تقول: (اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يذهب بالسيئات إلا أنت ولا حول ولا قوة إلا بك) وهذا الدعاء لا بد أن يلتزمه المرء إذا طرأ على قلبه هذه الوسوسة.

الخلاف في نسبة قوله: (ما منا إلا) في حديث الطيرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم

الخلاف في نسبة قوله: (ما منا إلا) في حديث الطيرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد اختلف العلماء في قوله: (ما منا إلا) هل هو من قول النبي صلى الله عليه وسلم أم من قول ابن مسعود؟ يقول ابن القطان: الأصل في الحديث أنه موصول، وأن هذا الكلام أصله من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم. يعني: إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم تكلم به أولاً فآخره من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أن تأتي قرينة تثبت أنه ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وجمهور المحدثين متفقون على أن قوله: (وما منا إلا) مدرج من قول ابن مسعود، ولكن ليس هناك قرينة تبين ذلك، فيكون النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي قال: (الطيرة شرك وما منا إلا) يعني: يقع في قلبه الوسوسة بالطيرة (وما منا إلا، ولكن يذهبه الله بالتوكل). لكن هناك قرينة قوية ذكرها بعض الإخوة وهي حظ الشيطان الذي أُخِذَ من قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك إسلام قرينه، قال صلى الله عليه وسلم: (فأعانني عليه أو فأعنت عليه فأسلم) ومن هنا نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم هو أتم الناس توحيداً وأنظف الناس قلباً وأعمق الناس توكلاً على الله، وهذه قرينة كافية تبين لنا أن قول: (ما منا إلا) هو من قول ابن مسعود نفسه وليس من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وسائل علاج الطيرة والتشاؤم

وسائل علاج الطيرة والتشاؤم إذاً: أول ما يعالج به المرء الطيرة التوكل، ثم الدعاء: (اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يذهب بالسيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك) كأنه يقول: أعتقد اعتقاداً جازماً أنه لا تحول من الشر إلى الخير إلا بقوة الله، ولا تحول من الخير إلى الشر إلا بقوة الله وبقضاء الله وقدرة الله جل في علاه، وأيضًا هناك دعاء آخر: (اللهم لا خير إلا خيرك ولا طير إلا طيرك) يعني: أنت الذي تملك الطير كله، سواء التشاؤم أو الطير المحسوس الذي نراه أمامنا؛ لأن الطير لا يملك شيئاً ولا يملك رزقاً ولا يملك أن يمنع الرزق. وقوله: (اللهم لا خير إلا خيرك ولا طير إلا طيرك ولا إله غيرك) كأني أقول: أتممت توحيد الإلهية واعتقدت اعتقاداً جازماً بأن النافع والضار هو الله، ولم أتخذ سبباً لم يشرعه الله؛ لأن اتخاذ السبب الذي لم يشرعه الله جل في علاه والعياذ بالله من الشرك. والعلاج الثالث: الإمضاء، يعني: أن يمضي المرء إذا أراد أن يسافر أو يتزوج أو يتاجر، فلا يكون ممن إذا وجد امرأة قال: إن هذه المرأة امرأة سوء، أو هذه تجارة كاسدة، فنقول لمثل هذا: اتق الله فإنك ستقع في الشرك بسبب ذلك، لكن اذهب وامض إلى تجارتك معتمداً متوكلاً موافقاً مصدقاً بأن الأمر كله بيد الله جل في علاه، وقل اللهم لا حول ولا قوة إلا بك، فإذا أتممت توكلك على الله جل في علاه وأحسنت الظن بربك فسيأتيك حسن ظنك بربك وفق ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله عز وجل: (أنا عند ظن عبدي بي فمن ظن بي خيراً فله) وهذا آخر الكلام على مسألة الطيرة، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

التوكل على الله وأحكام التمائم

مسائل خالف فيها رسول الله أهل الجاهلية - التوكل على الله وأحكام التمائم التوكل على الله تعالى هو عصب الدين وركنه العظيم، وما حدث الشرك في الجاهلية إلا عند غياب التوكل على الله، فظهر بسبب انعدام التوكل التعلق بالأصنام والأحجار، والاستشفاء بالرقي والتمائم المؤدية إلى الشرك، فعلى المؤمن أن يكون حذراً مما يخدش عقيدته؛ سداً لذريعة الشرك، وحفاظاً على جناب التوحيد.

التوكل على الله تعالى

التوكل على الله تعالى

أهمية التوكل على الله

أهمية التوكل على الله إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد: إن التوكل على الله هو عصب الدين، بل إن امتلاء القلب بالإيمان لا يكون إلا بالتوكل على الله، كيف لا! وقد ربط الله الإيمان بالتوكل، قال الله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:23]، فجعل التوكل شرطاً لصحة الإيمان. وقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم به وهو أعبد الناس لله جل في علاه فقال له: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} [النمل:79]، وقال تعالى حاكياً عن أنبيائه ورسله وخيرته من خلقه أنهم عندما حاجوا قومهم قالوا: {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [إبراهيم:12]، فالتوكل هو عصب الدين، ولب أعمال القلوب، فإن العبد إذا تفرق نظره ولم يتوكل على الله تاه في حياته، فالله يدبر كل يوم أمور خلقه كما قال تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:29]، قال ابن مسعود: يرفع أقواماً، ويخفض أناساً، ويذل آخرين، يمنح أناساً، فهو يحيي ويميت، وهذا من شأن الله جل في علاه وتدبيره في كونه.

هدي رسول الله في التوكل

هدي رسول الله في التوكل لقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم أهمية التوكل وذلك بقوله صباحاً ومساء: (اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت) وكان دائماً يقول: (يا حي يا قيوم! برحمتك استغيث، أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين). وكان النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً يأمر بالتوكل ويقول: (نفث في روعي الروح الأمين: أنه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب)، وجاء عند الترمذي بسند صحيح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير: تغدو خماصاً، وتروح بطاناً)، وجماع ذلك كله ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس عندما كان رديفاً له: (واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعت على أن يضروك بشيء لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)،فالأمر كله بيد الله جل في علاه.

انعدام التوكل على الله عند الجاهليين

انعدام التوكل على الله عند الجاهليين إن أهل الجاهلية لم يرضوا بهذا التدبير، وتكبروا عن أن يتخذوا الله وكيلا، بل اتخذوا الأصنام والأحجار، وعلقوا التمائم والخرز، واعتقدوا فيها ما لا يعتقد إلا في الله جل في علاه، فكانوا يعتقدون أن هذه التمائم والخرز تدفع البلاء، أو تجلب النفع، وكانوا يعلقون على الأولاد الحلق من الذهب والحديد والنحاس والفضة، وكانوا يربطون الخيوط الملونة، ويعتقدون أنها ترفع الحمى، وكانوا يعلقونها في الإبل لرفع العين والحسد، وكانوا يعتقدون في كعب الأرنب، وصدر النسر أو عظمه، وفي سن الضبع والذئب ومنقار الغراب عقائد باطلة. وقد كانت هذه في الجاهلية ورآها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء ليمحو هذا الشرك، ويخبروهم أن هذه التمائم لا تجلب نفعاً، ولا تدفع ضراً، ثم بين لهم أن هذا من الشرك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من تعلق تميمة فقد أشرك) وهذا حديث حسن لذاته. فبين هنا زيف ما يفعله أهل الجاهلية من هذه التمائم، وفي رواية أخرى اختلف في إسنادها والراجح أن سندها حسن، وهي قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الرقى والتمائم والتولة شرك)، وهذا الشرك إما أن يكون شركاً أكبر أو شركاً أصغر. وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك كما في بعض الآثار فقال: (لا تبقين قلادة من وتر ولا غيرها في إبل ولا بعير إلا قطعت)؛ لأنهم يتخذونها مادة لدفع الضر، ولجلب المنفعة. وهذه الأحاديث تبين ضلال اعتقاد أهل الجاهلية، ولم يسكت عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم بل بين أنها من الشرك.

وجود الشرك في هذه العصور

وجود الشرك في هذه العصور لقد تنطع بعضهم وقال: لا شرك في الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل ستكون على تمام التوحيد، ونحن سنقارن وننظر في الشرك الموجود في الجاهلية قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، والموجود بعدما بعث النبي صلى الله عليه وسلم؛ لنرى تواجده في هذه العصور من عدمه، فسنجد أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر بالوحي عن تواجد الشرك في عصرنا، وأن هذه الأمة ستقع في هذه العادات الجاهلية، كاتخاذ التمائم والتعاليق؛ لدفع الضر وجلب المنفعة، وإن كانوا لا يعتقدون أن النفع والضر من هذه التمائم، وأن النافع والضار هو الله، لكنهم يتخذونها سبباً للنفع. ومثال ذلك: الخرز الأزرق الموجود الآن الذي يعلق في رقاب الأطفال، وقد يعلقون الشيء من القرآن مخلوطاً بغيره، ويعلقون على الأبواب النجمة ويقولون: إن هذه النجمة تدفع العين، وأيضاً نعل الفرس يجعلونه على الأبواب، أو نعلاً صغيراً يجعلونه في مقدمة السيارة وخلفها، وكل هذه واقع مشاهد، فقد عاد الشرك من الجاهلية إلى عصرنا هذا كما كان في الجاهلية، وهذا نوع من الشرك؛ لأن فيه ميل القلب لغير الله جل في علاه، ومحوٌ لمسألة التوكل الذي هو قمة التوحيد، وحكم من علق تميمة من القرآن أو من غير القرآن سنأتي إلى الكلام عليه إن شاء الله.

حكم تعليق التمائم

حكم تعليق التمائم أما من يعلق التميمة من الخرز وغيره لدفع العين ودفع الحسد عن المولود، فلا يقال: إنه يكفر كفراً يخرجه من الملة، ولا يقال: إنه قد فعل فعلاً من أفعال الجاهلية، لكنه على الإسلام، وهو جاهل لذلك، بل إن المسألة فيها تفصيل، فيقال: إن كان يعتقد أنها تنفع بذاتها أو تضر بذاتها فهذا من الشرك الأكبر، أي: لو قال: إن الخرز أو الودعة التي توضع في عنق الطفل تدفع الحسد والعين بذاتها فهذا شرك أكبر؛ لأنه قد اعتقد في غير الله ما لا يعتقد إلا في الله، فإن النافع والضار هو الله، قال الله تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} [يونس:107]، وقال الله تعالى {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر:36]. وقد بين تعالى أن قمة التوكل أن يعلم الإنسان أن النافع والضار هو الله، فقال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173]، ثم قال تعالى: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ} [آل عمران:174]، وقال ابن عباس: (حسبنا الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا له: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً} [آل عمران:173]، فإذا انقلب القلب من التوكل على الله جل في علاه، إلى التوكل على الخرز والودعة وغيرهما فقد اعتقد في غير الله ما لا يعتقد إلا في الله، وهذا شرك أكبر، ومنه الذبح على السيارة أو على مكائن المصنع؛ ليستجلب بها الرزق، ويبعد النحس، فهذا أيضاً شرك أكبر في الربوبية، ويمكن أن يقال: إنه شرك في الإلهية، فإن الله هو الذي يجلب الرزق، وهو الذي يمنعه سبحانه وتعالى، وهو شرك في الإلهية من حيث إنها عبادة صرفت لغير الله، لكن قد يقال: تعليق الخرز أو النعل ليس فيه صرف للعبادة إلى غير الله، وذلك لا يلبس على نقاء هذه العقيدة الصافية، وهي عقيدة النبي صلى الله عليه وسلم، وعقيدة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الله قال عن هذه العقيدة: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، وهذه العقيدة حفظها الله جل في علاه، ويخلق لها أناساً يحفظونها، كـ أحمد بن حنبل الذي قام مقام الأمة بأسرها عند فتنة القول بخلق القرآن، ووجد علماء ألبوا على الإمام أحمد المعتصم والمأمون والواثق، فهؤلاء ثلاثة خلفاء عاصرهم الإمام أحمد بن حنبل وهو يقف صابراً محتسباً؛ لتصحيح هذه العقيدة، وهذه العقيدة تصاب الآن بشرك في الربوبية وشرك في الإلهية، فعلى كل طالب علم أن يعرف ذلك، حتى لا يلبس عليه الملبسون.

وجود الشرك في هذه الأمة

وجود الشرك في هذه الأمة لو قال متنطع: لا يوجد شرك في هذه الأمة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال: (إن الشيطان قد أيس أن يعبد في جزيرة العرب)، وإذا أيس من الشرك بقيت له المعاصي فقط. والرد على هذا الكلام أن يقال: هذا الحديث حديث مختلف في إسناده، فبعض رواته حديثهم حسن، وبعضهم ضعفاء، فالضعف فيه محتمل، والنبي صلى الله عليه وسلم قد وجد عمران بن حصين وعليه حلق من حديد فقال له: (ما هذه؟ قال: هذه من الواهنة -يعني: هذه تدفع عني الوهن، هذا مع أنه تربى على مائدة رسول الله صلى الله عليه وسلم- فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: انزعها، فإنها لا تزيدك إلا وهناً، ثم قال له: فإن مت وهي عليك ما أفلحت أبداً) فنفى عنه الفلاح، وأيضاً قال بعض الصحابة للرسول صلى الله عليه وسلم: اجعل لنا ذات أنواط، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الله أكبر إنها السنن، قلتم ما قال أصحاب موسى لموسى: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة)، فكيف يقول أحد: أنه لا يوجد شرك في هذه الأمة؟! وقد قلنا: إن الاعتقاد في الخرز أنها تدفع الضر وتجلب المنفعة، أنه شرك في الربوبية كما بينا، وهو أيضاً شرك في الإلهية، فهو قد أشرك في الربوبية لأنه اعتقد في الجمادات ما لا يعتقد إلا في الله، وهذا اعتقد في الخرز والنعل دفع الضر وجلب النفع، وذلك لا يكون إلا لله، فهذا الوجه الأول لكون هذا العمل شركاً، وشرك الربوبية يستلزم الشرك في الألوهية. والوجه الثاني: أن التوكل على غير الله جل في علاه يعتبر شركاً، والتوكل أمر خفي، إذ أن المرء إذا تعلق قلبه بغير الله فقد توكل على غير الله جل في علاه، حيث يخاف من غير الله جل في علاه، أو يرجو غير الله جل في علاه، وإذا علق التميمة وقلبه معلق بها ونزعت فسيكون خائفاً وجلاً؛ لأن المانع له من هذه الأخطار قد نزع، وهذا تعلق للقلب بغير الله جل في علاه. إذاً: الوجه الأول: استلزام الربوبية للإلهية، والوجه الثاني: تعلق القلب بغير الله جل في علاه. فإن اعتقد في غير الله ما لا يعتقد إلا في الله، فقد أشرك شركاً أكبر، وأما إذا كان يعتقد أن الله هو النافع والضار، وأن الذي يجلب الخيرو يدفع الضر هو الله، وإنما وضع هذه الخرزة أو نحوها لدفع العين ودفع المرض، فيكون شركاً أصغر؛ لأنه اتخذ سبباً لم يشرعه الله جل في علاه لا شرعاً ولا قدراً، فكونه اتخذ سبباً لم يجعله الله سبباً، ولم يشرعه الله جل في علاه سبباً، فكأنه أشرك مع الله غيره، ولكن هذا شرك أصغر؛ لأنه وسيلة إلى الشرك الأكبر، ولقول الله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21]، وكثير من الناس إن لم يكونوا كلهم يفعلون ذلك، فيميلون ميلاً لهذه التمائم والرقى، وسنبين أن القلب أيضاً يميل لتمائم من القرآن، فالأمة تدور إما بين شرك أكبر أو شرك أصغر، وإن كان الشرك الأكبر منتفٍ؛ لأننا لا يمكن أن نظن في مسلم أنه يعتقد في غير الله ما لا يعتقد إلا في الله، بل إن العامي الذي يعلق التميمة على الولد الصغير لو قلت له: هل هذه تنفع وتضر؟ لقال: إن النافع الضار هو الله، لكننا وجدنا من قبلنا يقولون: إن هذه سبب لدفع البلاء واستجلاب النفع، ولذلك فإنهم غارقون في الشرك الأصغر.

تعليق التمائم من القرآن والخلاف فيها

تعليق التمائم من القرآن والخلاف فيها إن القرآن شفاء للناس بنص كلام الله جل في علاه إذ قال: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء:82]، فإذا جاء رجل وقال: إن ابني يصرع دائماً، ولا يلتقم ثدي أمه، والقرآن شفاء كما قال الله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء:82]، فقام هذا الرجل وكتب آية الكرسي؛ لأنها شديدة على الشيطان، ثم علقها ويجعلها في عنق ابنه، أو يد ابنه، فهل هذه التميمة تدخل في التمائم المحرمة، أم هي تميمة من التمائم الجائزة؛ لأن القرآن كله شفاء؟ هذه المسألة لا نحجر واسعاً فيها، فقد حصل الخلاف فيها بين السلف الصالح، فبعضهم يقول: يجوز، وبعضهم يقول: لا يجوز، وقال بالجواز جم غفير منهم: عبد الله بن عمرو بن العاص وهو قول عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وكثير من الصحابة، وهو ترجيح شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وابن حجر العسقلاني، فكل هؤلاء يقولون بجواز كتابة التميمة من القرآن وجعلها على عنق الولد للشفاء أو لدفع الضر أو العين، ويستدلون على ذلك بعدة أدلة منها: عموم قول الله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء:82]، ويستدلون أيضاً بمفهوم المخالفة في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الرقى والتمائم والتولة شرك)، ويقولون: إن كانت كل تميمة شركاً فهي محرمة، وإن لم تكن شركاً فهي مباحة، والقرآن ليس بشرك بل هو كلام الله جل في علاه. ويستدلون أيضاً بقول عائشة رضي الله عنها وأرضاها: أن التمائم حرمت قبل نزول القرآن تعني: أنه بعدما نزل القرآن الذي هو شفاء للناس أبيحت التمائم. واستدلوا أيضاً بما أُسند إلى عبد الله بن عمرو بن العاص أنه كان يكتب دعاء الفزع الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم له، والذي رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه علمه هذا الدعاء: (أعوذ بكلمات الله التامات من شر غضبه وعباده)، فكان عبد الله يعلمه للكبير من أولاده، وإن كان الولد صغيراً لا يقدر أن يعلمه كتبه في ورقة، ويجعل تلك الورقة معلقة على رقبة ذلك الطفل. قالوا: وهذه الأدلة الكثيرة وقعت على مرأى ومسمع من الصحابة، فيدل ذلك على أن النبي صلى الله عليه وسلم علم ذلك ولم ينكره، ولو جيء بالمصحف الصغير وعلقه على السيارة صح على قولهم، ولو أتى بآية الكرسي وعلقها على الحائط دفعاً للعين فهذه أيضاً جائزة على قولهم، ولو وضع على باب البيت ورقة مكتوبة فيها: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق:1 - 2] جاز ذلك؛ لأنه يعتقد أنها سبب لدفع العين ودفع الحسد على قول هؤلاء. القول الثاني: وقد تزعم هذا القول ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، وجمع غفير من الصحابة كـ ابن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن، ورجحه ابن العربي وغيره من المحققين من السلف، فكل هؤلاء يقولون: إن هذه التمائم حرام، وعندهم أدلة كثيرة على ذلك، منها: عموم الأحاديث كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من تعلق تميمة فقد أشرك) و (من) هنا نكرة في سياق الشرط فتفيد العموم، وفي سياق الإثبات تفيد الإطلاق، وهناك فرق بين العام والمطلق، فالعام: هو الذي يعم جميع أفراده، وأما المطلق فهو الذي يقصد بالحكم فرداً من أفراده لا معيناً، كأن أقول: أكرم طالباً، وعندي من الطلبة محمد وأحمد وسمير وعزيز وكريم ومجيد مثلاً، فلو قلنا: أكرم طالباً، فهو مطلق، لأننا لو أكرمنا أي واحد منهم فقد وقع الحكم. وأما العام كأن يقال: أكرم الطلبة، فلو أكرمت محمداً وعزيزاً وسميراً ولم أكرم مجيداً لم أكن قد حققت الحكم، بل لا بد من إكرام الكل، فهذا هو الفرق بين العام والمطلق، فالنكرة في سياق الإثبات تفيد الإطلاق ولا تفيد العموم. فهذا الحديث استدل به هؤلاء على العموم؛ إذ أن النكرة في سياق الشرط عند علماء الأصول تفيد العموم، فـ (من) من الأسماء الشرطية، أي: فلو علق أحد أي تميمة سواء من القرآن أو من غير القرآن فقد وقع في الشرك، وهذا عام لا مخصص له، فلا يوجد دليل من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم يخصص هذا، فلم يأت أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء إلى مريض من المرضى فقال: اكتبوا له القرآن فإنه شفاء، وعلقوه على صدره. ويستدلون أيضاً بعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم (إن الرقى والتمائم والتولة شرك)، والتمائم اسم جنس معرف بالألف واللام، فيفيد العموم، سواء التمائم من القرآن أو من غيره. واستدلوا أيضاً بسد الذرائع، فإن من مقاصد الشريعة سد الذريعة التي تصل بالإنسان إلى المحرم، فالله جل وعلا حرم على الإنسان أن ينظر للمرأة؛ لأن النظر إلى المرأة وسيلة إلى الزنا، فسد الله هذه الذريعة وقال: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30]، وقد سد النبي ذريعة الشرك، وحافظ على جناب التوحيد بقوله صلى الله عليه وسلم للرجل الذي قال: (من يطع الله ورسوله فقد وشد، ومن يعصهما فقد غوى)، مع أن الكلام صحيح، لكن النبي صلى الله عليه وسلم سدا لذريعة الشرك، وحتى لا يساوى النبي بالله جل في علاه، قال له: (بئس خطيب الأمة أنت، أجعلتني لله نداً)، ولما قالوا له: أنت سيدنا، قال: (إنما السيد الله)، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم حقاً هو السيد، لكن سداً للذريعة وحسماً للمادة منع ذلك. وهؤلاء قالوا: إذا قلنا بجواز التميمة التي فيها شيء من القرآن فإننا نكون قد فتحنا الباب ليختلط القرآن بغيره، فسيأتي المشعوذون والدجالون وما أكثرهم، ويكتبون آيات من القرآن، ويدخلون في ذلك طلاسم لا تعرف، فيختلط الحق بالباطل، وكثير من الناس لا يعرف الحق من الباطل. واستدلوا كذلك بأن قالوا: لو كان خيراً لسبقنا إليه السلف. ثم ردوا على ما استدل به الأولون وقالوا: الحديث الذي أسند إلى عبد الله بن عمرو بن العاص حديث ضعيف، ولا حجة لكم فيه، إذ الأحكام مناطة بالصحيح. وأما قول عائشة فهو تفسير منها، وهذا التفسير إذا خالف فعل النبي صلى الله عليه وسلم وفعل الصحابة فلا يؤخذ به؛ لأن الحجة بالرواية لا بالاجتهاد والرأي، والقياس هنا ممنوع؛ لأنه قياس فاسد الاعتبار ومصادم لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم (من تعلق تميمة فقد أشرك). فهذا قولان، ولهما أدلة، والمسألة العلمية هذه لا نأتي فيها بقول واحد ونحجر غيره، فبالإنصاف نصل إلى الأقرب والصواب، ولكن الراجح في ذلك والله تعالى أعلم القول الثاني أن هذا حرام خلافاً لشيخ الإسلام ابن تيمية، وخلافاً لـ ابن القيم، وخلافاً للشيخ ابن عثيمين، ولا يجوز بحال من الأحوال أن يعلق المرء التمائم ولو كانت قرآنا، لا على الإنسان، ولا على حائط الباب أو الجدران أو غيرها، وحتى المرأة لا يجوز أن ترتدي السلسلة أو الخاتم أو الأسورة المكتوب فيها آية من آيات القرآن، وكثير من النساء يفعلن ذلك، وهو محرم؛ لأنه من التمائم، والدليل على التحريم ما قلناه من عموم نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن التميمة، وأنه قال (من تعلق تميمة فقد أشرك)، وكثير من الناس تراه لو كان معلقاً آية الكرسي، ثم قطعت منه تلك السلسلة؛ فترى عليه الهم والغم؛ لأن المانع عنده من الهم والغم قد قطع، وكأن قلبه يميل إليه، فالصحيح الراجح سداً للذريعة وحسماً لمادة الشرك: أن نقول بحرمة ذلك؛ لأنه سيجر إلى وسائل الشرك، ونحن مأمورون بسد ذرائع الشرك، وينسحب هذا الحكم على السلاسل وإن كانت للزينة، وبعضهم يعلق آية الكرسي على الباب ويقول: أنا أعلقها لكي يراها كل من دخل، فيذكر الله، وهذا من تلبيس إبليس، فإن ذلك قد يجرء إلى امتهان القرآن، وإذا علقته على صدر الطفل فإنه لابد أن يدخل به الخلاء، ويعرضه للأقذار، فلا بد أن نترفع عن ذلك ونقول بالحرمة.

خطر الشرك الأصغر والأكبر

خطر الشرك الأصغر والأكبر إن التعاليق والتمائم كانت من عادات الجاهلية، إذ يعتقدون في الخرز والحجر والصنم والشجر أنها تدافع الضر وتجلب المنفعة، ولا يعتقدون في الله جل في علاه ذلك، ثم جاء على ركابهم أهل الإسلام بعدما اندثر العلم، وطمس البيان من قول النبي صلى الله عليه وسلم، ومن فعله وفعل الصحابة رضوان الله عليهم، فانتشر ذلك في الأمة مرة ثانية، وأصبح الناس يعتقدون في غير الله مالا يعتقد إلا في الله، أو يتخذون أسباباً لم يشرعها الله جل في علاه، ولذلك فنحن بصدد تبيين هذه المسائل؛ لأن هذه المسائل من الأهمية بمكان، والإنسان إذا لم يوحد الله جل في علاه توحيداً خالصاً غير مشوب بشرك فلن ينجو عند ربه جل في علاه، قال الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمن فعل ذلك: (لو مت وهي عليك ما أفلحت أبداً)، فهذا يستدل به على أن الشرك الأصغر لا يغتفر، فالرجل الزاني أو شارب الخمر أو السارق لا يداني من أقسم بغير الله، بل الذي يقسم برحمة أمه، أو يقسم بالتراب الغالي، ويقسم بقبر فلان ونحوه هو عند الله أعظم جرماً من الزاني وشارب الخمر. ونحن اليوم كثيراً ما نسمع من يحلف بأمه، أو يحلف بأبيه، ويقول: الأمر هين، فعليه أن يصحح عقيدته، فهذا الذي يقسم بغير الله جل في علاه هو عند الله أعظم جرماً من الزاني والسارق وشارب الخمر، والدليل على ما قلت قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، فقد بين أنه لا يغفر إشراكاً به، وإشراك نكرة في سياق النفي فيفيد العموم، فيدخل فيه الشرك الأكبر والشرك الأصغر، فالشرك الأصغر لا يغفر، بل يعذب صاحبه إذا لم يأت إلى ربه في عرصات يوم القيامة تائباً، والدليل على ذلك هذا الحديث المختلف في صحته أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبعض الصحابة: (انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهنا)، ثم قال له: (إن مت وهي عليك ما أفلحت أبداً)، وعمران بن حصين هنا عندما لبس تلك الحلقة لم يكن يعتقد عند لبس الحلقة أنها تدفع عنه الضر أو تجلب له النفع، بل كان يعتقد أن الله هو الذي ينفع ويضر، ولكن اعتقد أن هذه الحلقة سبب للشفاء، وهذا نوع من أنواع الشرك الأصغر، فالنبي صلى الله عليه وسلم مع علمه أن هذا من الشرك الأصغر قال له: (ما أفلحت أبداً)؛ لأن الشرك الأصغر لا يغتفر، بل لا بد أن يعذب صاحبه، فانظروا إلى هذه الخطورة في الشرك الأصغر، فعلى الإنسان أن يصحح عقيدته، ويتعلم التوحيد الخالص وما ينافيه من الشرك؛ حتى يمثل أمام ربه جل في علاه بقلب سليم وبتوحيد خالص سالم من الشرك. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، ونسأل الله جل وعلا أن ييسر لنا الخير. سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

الذبح وحكم الذبح لغير الله

مسائل خالف فيها رسول الله أهل الجاهلية - الذبح وحكم الذبح لغير الله لقد دلت الأدلة من الكتاب والسنة على أن الذبح عبادة، فمن ذبح لغير الله فقد أشرك، وللذبح حالات منها ما يكون عبادة، ومنها ما يكون شركاً أصغر، ومنها ما يكون شركاً أكبر.

عبادة الذبح لله

عبادة الذبح لله إن الحمد الله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. ثم أما بعد: فما زلنا مع شمس الإسلام التي أشرقت على ظلمة الجهل والجاهلية، فقد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبطل الجهل والجاهليات التي وقع فيها أهل الشرك قبل بعثته صلى الله عليه وسلم. وقد تكلمنا في الأسبوع الماضي على اعتقادات باطلة كان يعتقدها أهل الجاهلية في السحرة والكهنة، وأنهم ارتقوا بهم إلى درجات الأولياء، واليوم سنتكلم عن أفعال لأهل الجاهلية جاء النبي صلى الله عليه وسلم ينكر هذه الأفعال ويبطلها، وإذا أبطلها رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل الجاهلية فمن باب أولى أن يبطلها على أهل الإسلام، وهذه الأفعال هي الأنساك التي جعلها الله جلا وعلا على عباده، وهي عبادة الذبح. فالذبح شعيرة من شعائر الإسلام، عبادة من العبادات التي فرضها الله على عباده، وهي من أجل العبادات وأفضل العبادات المالية التي يتقرب بها المرء إلى ربه جلا في علاه. وقد كان أهل الجاهلية يتقربون بهذه العبادة لغير الله جلا في علاه، ورأى النبي صلى الله عليه وسلم أهل الجاهلية يتقربون إلى آلهتهم بالذبح، فيأتون إلى القبور فيذبحون عند قبور من يرون فيهم الصلاح، وتسمى عقيرة أو تسمى عتيرة أو تسمى الفرع، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم يرد هذه الأنساك التي يتقرب بها لغير الله جلا في علاه، فأبطلها وبين أنها من أكبر الشرك، وأنكرها الله جلا وعلا على العباد.

أدلة الذبح لله

أدلة الذبح لله لقد أوحى الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يبطل هذه الاعتقادات وهذه الأفعال الباطلة بقوله: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162] أي: قل: إن صلاتي لله، وقل إن نسكي لله، والنسك: هو الذبيحة التي يتقرب بها العبد، وهو في اللغة العبادة، فهو إذاً في الشرع أخص من ذلك، والذبح هو إنهار الدم. وقال الله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2]. وقال النبي صلى الله عليه وسل (لا عتيرة ولا فرع في الإسلام)، فنهى عن هذا، وقد كانوا يذهبون إلى قبر الميت الكريم فينحرون عنده الإبل، ويقولون: أطعمَ وهو حي وأطعم وهو ميت.

انتشار الذبح لغير الله في أمة الإسلام

انتشار الذبح لغير الله في أمة الإسلام لقد رجع الناس على أعقابهم ورجعوا إلى هذه الجاهليات وهذه الأفعال الخاطئة التي تخالف الشرع وتخالف عقيدة الإسلام، فظهر فيهم الذبح لغير الله جلا في علاه، والتقرب لغير الله بهذا النسك؛ فكثير من الناس إذا صرع لهم المصروع بسبب السحر والجن فإنهم يذهبون به إلى المشعوذ، فهذا المعالج يقول لهم: لا بد أن يذبح ديك لونه كذا، وصفته كذا، وفي وقت كذا، فيذبح هذا الديك تقرباً للجني الذي صرعه! فالذبح لغير الله من الشركيات التي فشت في الأمة، وقد زين لها ذلك بعضهم بالتأويل لإبطال الحق، فالتغرير بالعامة وقع كثيراً من بعض الناس، فصاروا يذبحون عند قبور الأولياء سواء كانوا أولياء حقاً أو غير أولياء. وهذا الفعل شرك بالله جلا في علاه، لا يقبل صاحبه عند الله جلا في علاه، بل ولن يجد له خلاقاً عند الله في الآخرة. قال الله تعالى مبيناً لرسوله أن هذه الأفعال خاطئة: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:163] فقال: لا شريك له، فمن ذبح لغير الله فقد أشرك بالله جل في علاه، وأيضاً قال الله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2] يعني: وانحر لربك لا لغيره من قبر أو شجرة أو حجر أو ملك مقرب أو نبي مرسل أو ولي من أولياء الله الصالحين. وفي صحيح مسلم عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لعن الله من ذبح لغير الله)، فاستحق اللعن من صرف هذه العبادة العظيمة لغير الله جلا في علاه، فيكون مطروداً من رحمة الله، ولن يجد رحمة الله لا في الدنيا ولا في الآخرة. وجاء في حديث ضعيف يستأنس به أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (دخل رجل الجنة في ذباب، ودخل رجل النار في ذباب، مرا بقوم لهم صنم يعبدونه، فقالوا للأول: قرب، قال: ما كنت لأقرب لأحد شيئاً غير الله، فضربوا عنقه، فدخل الجنة، وقالوا للآخر: قرب، قال: ما عندي شيء أقربه، قالوا: قرب ولو ذباباً، فقرب ذباباً فخلوا سبيله، فدخل النار).

صور الذبح

صور الذبح الذبح عند حدوث نعمة متفش في الناس، فإذا منّ الله جل وعلا على العبد بمال، أو فتح مشروعاً من المشروعات، أو رزقه الله جل وعلا سيارة جديدة أو ببيتاً جديداً فترى الناس يذبحون الأبقار والإبل من أجل هذه النعمة، وهذا الذبح له أحوال: الحالة الأولى: أن يذبح شكراً لله، ويكرم الناس باللحم. الحالة الثانية: أن يذبح دفعاً للعين ودفعاً للحسد، ويحتج بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن العين حق). الحالة الثالثة: أن يذبح خوفاً من انقلاب الأحوال عليه، وتضييق الأمور، ويذبح حتى ييسر الله جل وعلا هذا المشروع، وكثير من الناس تكون لهم مصانع واقفة لا تعمل، فيأتي رجل ويقول: اذبح وسييسر الله لك هذا العمل، فيذبح من أجل تيسير هذا العمل. الحالة الرابعة: أن يذبح خوفاً من الجن مع أنه يعلم أن الله هو النافع الضار. فالحال الأولى أن يذبح شكراً لله ليكرم الناس، ويقول: قد من الله علي بهذا العمل أو بهذا المال فأنا أشكر ربي على هذه النعمة، وأعمل بقول الله تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) [إبراهيم:7]، فيذبح ويجمع الناس ليأكلوا، فهذا جائز، لكن لو جعل هذا سبيلاً لدفع الحسد والعين فقد جعل الوليمة سبباً لم يشرعه الله لدفع العين فوقع في الشرك الأصغر؛ لأن الحسد يدفع بالمعوذتين. الحالة الثانية: يذبح دفعاً للعين، وهو يرى أن الله جل وعلا هو الذي يدفع العين، فيقول: إن الله هو الذي يدفع العين، وهذا الذبح لله، لكن جعلت الذبح سبباً لدفع العين، فنقول له: إن الله لم يشرع في كتابه، ولا سنة نبيه صلى الله عليه وسلم أن الحسد يدفع بالذبح، وإذا كان دفع الحسد عبادة فهو مشروع، ولا بد أن يكون دفعه من الكتاب أو من السنة، قال الله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21]، فمن ربوبية الله جل في علاه أنه يبين لنا المسبب ويبين لنا السبب، ويبين لنا المقدمة ويبين لنا النتيجة، وقد أوحى قال الله جل في علاه لنبيه صلى الله عليه وسل (أن العين حق). والله جل وعلا ما أنزل داء إلا وأنزل له دواء، وفي الحديث: (تداووا عباد الله ولا تتداوى بحرام) فخط لنا خطاً، ورسم لنا طريقاً نسير عليه لدفع هذا الحسد، وذلك بالمعوذتين أو بالرقى الشرعية، وأما من ذبح فقد خالف شرع الله في ذلك، ويكون هذا من الشرك الأصغر؛ لأنه ذبح لله واعتقد في الله لكنه اتخذ الذبح سبباً ما شاءه الله جل في علاه. الحالة الثالثة: أن يذبح لتيسير العمل، فهذا حكمه بحسب النية، إن كان الرجل فقهياً يعلم أنه إذا تقرب إلى الله جل في علاه بالصدقة فإن هناك ملكين يقولان: (اللهم أعط منفقاً خلفاً، وأعط ممسكاً تلفاً)، فهو يرى بفقهه أنه لو تصدق باللحم فإن الله يخلف عليه، فهذا جائز. وأما إذا قال: الذبح سبب مخصوص لجلب الرزق، فنقول له: ابتدعت في دين الله بدعه. وهذا شرك أصغر، وهو وسيلة للشرك الأكبر. الحالة الرابعة: إذا ذبح للجن فهذا شرك أكبر، حتى لو قال: أنا أذبح لله خوفاً من الجن، فتعارض الظاهر والباطن، والقرائن المحتفه أثبتت لنا أنك فعلت ذلك لدفع خوفك من الجن، والله جل في علاه بين لنا كفر الكافرين، فقال: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنْ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنْ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} [الجن:6]، فهذا شرك أكبر؛ لأنه اعتقد في الجن ما لا يعتقد إلا في الله جل في علاه.

حكم الذبح على سبيل التعظيم

حكم الذبح على سبيل التعظيم الذبح له حالتان: الحالة الأولى: من باب الضيافة، فهذا الذبح مباح، وهو من سنن العادات لا من سنن العبادات، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} [هود:69]، وهذه العادة تكون عبادة بالنية، والقاعدة عند العلماء: أن سنن العادات تنقلب إلى عبادات بالنيات، فهذه تنقلب إلى عبادة وقربة من الله جل في علاه بالنية الصالحة. الحالة الثانية: أن يذبح لتعظيم هذا المعظم لا لضيافته، فإن كان يذبح لتعظيم هذا المعظم فقد صرف الذبح -الذي هو عبادة- لغير الله، فوقع في الشرك. وكيف يعرف هذا التعظيم؟ أن يأتيه المعظم فعندما ينزل من السيارة أو من الطائرة أو من الدابة يذبح أمامه الإبل، ثم إذا رحل لم يعتنِ بلحم الإبل، بل ألقى في الزبالات، فهذه فيها دلالة واضحة على أنه ما ذبح للحم والإكرام، بل ذبح ليثبت تعظيمه لهذا المعظم، فهذا شرك؛ لأنه صرف عبادة لغير الله.

الفرق بين كفر النوع وكفر العين

الفرق بين كفر النوع وكفر العين القاعدة: أننا نفرق دائماً بين كفر النوع وكفر العين، فنقول: قال قولاً كفرياً، وفعل فعلاً كفرياً، ولكن القائل والفاعل ليس بكافر حتى تقام الحجة وتزال الشبهة، والذي يقيم الحجة ويزيل الشبهة هو العالم المجتهد، أو طالب علم مجد مميز. سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

النذر وأحكامه

مسائل خالف فيها رسول الله أهل الجاهلية - النذر وأحكامه النذر عبادة من العبادات التي لا تجوز إلا لله تعالى، وصرفها لغير الله شرك. وقد أثنى الله ومدح الموفين بالنذر، فمن نذر نذر طاعة فيجب عليه الوفاء به، ومن نذر نذر معصية فلا وفاء فيه، وكفارته كفارة يمين.

النذر في اعتقاد أهل الجاهلية

النذر في اعتقاد أهل الجاهلية إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فما زلنا مع أهل الجاهلية وضلالاتهم التي نبذها الشرع، وجاء النبي صلى الله عليه وسلم بإبطالها وبيان عوارها وخبثها. ومن هذه المعتقدات والتعبدات التي كان يتعبد بها أهل الجاهلية: النذر لغير الله جل في علاه، فقد كانوا ينذرون لآلهتهم وأصنامهم من الأشجار والأحجار إذا يسر عليهم من أمرهم: من سفر أو تجارة أو مال أو ربح أو عافية في البدن، ثم يوفون بهذا النذر، لكنهم كانوا إذا قصرت بهم النفقة ينزلون عن هذا النذر، فجاء الشرع بإبطال ما يفعلونه، وبين أن النذر عبادة لا بد أن يفرد بها الله جل في علاه، قال الله: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ} [المائدة:103]؛ رفضاً وبياناً وإنكاراً لما كان يفعله أهل الجاهلية، وقال الله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا} [الأنعام:136]، فأنكر الله عليهم ذلك. وفي السنن قال النبي صلى الله عليه وسلم عن النذر: (لا نذر إلا فيما ابتغي به وجه الله). فأما عن أهل الجاهلية فلا عتب ولا ملامة عليهم؛ إذ لم يأتهم الرسل، وأما أهل الإسلام الذين أتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأظهر الله على يديه الشرع الحنيف، ونقل لنا صحابته هذا الدين القويم، ثم من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين إلى يومنا هذا، فالعلم ينتشر بين الناس، فالعتب كل العتب على من يتمثل بمعتقدات أهل الجاهلية ويتعبد كما تعبد أهل الجاهلية، فالعتب عليهم كيف ينحرفون عن دين الله جل في علاه؟! وكيف ينحرفون عن هذا الصراط المستقيم؟! فجاهلية اليوم أشد من جاهلية الأمس، فتراهم ينذرون الآن للحسين وللبدوي ولـ فاطمة الزهراء ولغيرها، ويقولون: إن شُفي مريضي، أو إن حملت أمي أو ابنتي، أو إن أتاني الله بهذا الربح فعلي لفلان كذا فينذرون لغير الله ويوفون بهذا النذر، ومنهم من يرتقي فينذر للجن لا لصنم ولا لحجر؛ خوفاً منهم، فينذرون بمثل الديك الأحمر والعصفور الأخضر -كما هو مشهور بين العامة-، وينذرون هذه النذور لغير الله جل في علاه، ويوفون بها.

أحكام النذر

أحكام النذر وسنذكر هنا النذر، وأحكامه، ومباحثه، وحكم الوفاء به.

تعريف النذر وصيغه

تعريف النذر وصيغه النذر لغة: الالتزام بشيء ما مطلقاً. وأما شرعاً فهو: إلزام المرء نفسه بطاعة لم يوجبها عليه الشرع. وصيغة النذر أن يقول: لله علي نذر أن أصوم يومين إن شفى الله مريضي، أو يقول: علي نذر لله جل في علاه أن أصلي مائة ركعة، دون أن يجعلها مشروطة معلقة.

حكم النذر المعلق وغير المعلق

حكم النذر المعلق وغير المعلق أما حكم النذر: فالعلماء اختلفوا في ذلك على أقوال ثلاثة: فمنهم من أباحه، ومنهم من منعه، ومنهم من قال بجوازه على الكراهة. وجماهير أهل العلم يرون أن النذر جائز مع الكراهة، ومعنى الكراهة: أنه لا يأثم فاعله ولكن يثاب تاركه، والكراهة هنا كراهة تنزيهية لا كراهة تحريمية، ويستدلون على ذلك بالأثر والنظر. فأما الأثر: فإنهم يستدلون بحديث ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنه لا يأتي بخير -يعني: النذر- وإنما يستخرج به من البخيل)، فقالوا: إن كان لا يأتي بخير فهو مكروه، ويستخرج به من البخيل، وهذا من لوازمه المذمة للذي نذر. وأما النظر: فلعل الذي ينذر نذراً لا يستطيع أن يوفي به، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اكلفوا من الأعمال ما تطيقون)، وعملاً بقول الله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، وهذه العلة تجعلنا نقول بالكراهة. والذين قالوا بالإباحة قالوا: نحن نقول: إن النذر المطلق على الإباحة، فلو قال: لله علي أن أصوم شهراً، أو لله علي أن أصلي مائة ركعة، فهذا على الإباحة، وأما إذا جعله معلقاً بشروط، كأن يقول: إن شفى الله ابني فله علي أن أصوم يومين أو ثلاثة، فهذا المكروه. والقول الثالث هو قول المحققين من أتباع المذاهب، وهو قول شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم: أنه على التحريم، وهذا الذي وصل إليه القرطبي في المفهم، واستحسنه ابن حجر، وذلك لأدلة من الأثر ومن النظر: فأما من الأثر: فاستدلوا بحديث ابن عمر السابق، وأول الحديث فيه: (نهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن النذر)، والأصل في النهي التحريم. وقال: (إنه لا يأتي بخير)، والذي لا يأتي بخير محرم. وقال: (إنما يستخرج به من البخيل)، وفي رواية أخرى قال عنها الهيثمي: رجالها رجال الصحيح، وهي في المسند عن ابن عمر أنه قال: (نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النذر، وأمرنا بالوفاء). ويجمع بين هذه الأقوال: بأن النهي هنا نهي عن النذر ابتداء، لكن لا بد بعد النذر من أن توفي به، ولذلك مدح الله الذين يوفون بالنذر، لكن في الأصل هو منهي عنه. وأما من النظر: فقالوا: القاعدة عند العلماء: أن الوسائل لها أحكام المقاصد، ولو نظرنا في النذر لوجدنا أن هناك أناساً ينذرون ولا يوفون بهذا النذر، فيلتزمون بأمر يشق عليهم، فيذَمُّون عند الله بعدم الوفاء، واستدلوا على ذلك بقول الله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [التوبة:75 - 76]، فكان الجزاء على هذا التقاعس أن الله عاقبهم بنفاق في قلوبهم ولحقتهم المذمة. فقالوا: الوسائل لها أحكام المقاصد، فإن كان النذر هو الذي تسبب في إلحاق المذمة والنفاق في قلوبهم فيحرم، والنفاق مذموم، ويحرم أن يستخدم الإنسان الطريق الذي يصل به إلى مذمة الله، فالنذر الذي وصل بهم إلى مذمة الله حرام، والوسائل لها أحكام المقاصد. ولعل أرجح هذه الأقوال هو القول الثالث، فإذا نذر الإنسان نذراً معلقاً أو غير معلق فإنه محرم، أو يتردد بين الكراهة والحرمة وهو إلى الحرمة أقرب، وهذا هو قول المحققين من أهل العلم.

أقسام النذر

أقسام النذر وإذا قلنا بأنه حرام فلا بد أن نبين ونفصل أقسام النذر حتى يكون الإنسان على علم بها، ونبين ما له وما عليه في أمر العقيدة.

نذر الطاعة

نذر الطاعة وهو قسمان: نذر مطلق، ونذر معلق مشروط. نذر الطاعة: هو الذي ينذر فيه المرء أن يطيع الله جل في علاه. القسم الأول: نذر مطلق، مثاله أن يقول: لله علي أن أصوم شهراً متتابعاً، أو لله علي أن أصلي مائة ركعة، أو لله علي أن أحج بيت الله نافلة -كان نافلة فأوجبه على نفسه-، فهذا نذر مطلق، وهذا يتردد بين الكراهة والحرمة، ونحن نقول: إن كان على الكراهة فهو قريب، وإن كان على الحرمة فهو قريب، والمقصود: لا نرجح طالما هو نذر، وهو يتأرجح بين الكراهة والحرمة للعلل السابقة. القسم الثاني: نذر معلق، وهو يجري بين صاحبه وبين الله معاوضة -والعياذ بالله-، وهذا سوء أدب مع الله، فيقول: لئن شفى الله مريضي لأصومن ثلاثة أيام، وهذا إلى الحرمة أقرب منه إلى الكراهة كما رجح ذلك ابن حجر وغيره؛ لعلل: الأولى: كأن هذا العبد يعتقد بأن الله فيه بخل حاشا لله، أو أن الله لا يعطيه ما يريد حتى يقدم له الطاعة سبحانه جل في علاه، {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا} [فاطر:2]، فيده سحاء بالليل والنهار سبحانه جل في علاه، (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي شيئاً)، فهذا فيه سوء أدب، وكأنه يعتقد في داخله أن الله لا يعطيه ما يريد حتى يقدم له هذه الطاعة. وهذا الاعتقاد اعتقاد جاهلي لا يجوز، ولذلك قلنا بحرمته. العلة الثانية: أنه لا يعتقد بأن الله يكافئه -المعاوضة-، بل يعتقد أن النذر يؤثر في القضاء والقدر ويغير في المكتوب في اللوح المحفوظ، وهذا أيضًا إلى الكفر أقرب منه إلى الإيمان؛ لأن قدر الله إذا كتبه وفرغ لا يتغير، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ولو اجتمعت الأمة على أن ينفعوك بشيء لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعت على أن يضروك بشيء لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفت الصحف)، فانتهى الأمر، ولا مؤثر في قضاء الله جل في علاه. ودليل نذر الطاعة حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن عائشة في الصحيح قال: (من نذر أن يطع الله فليطعه)، فهذا نذر الطاعة، وهو القسم الأول من أقسام النذر.

نذر المعصية

نذر المعصية وهذا كمن نذر أن يشرب الخمر، أو أن يزني، أو أن يقطع رحمه، فهذا نذر معصية لا يجوز، وفيه مع الحرمة سوء الأدب مع الله، وأقبح منه أن يكافئ الإحسان بالإساءة، فيقول: لله عليَّ نذر لئن نجح ابني لأشربن الخمر والعياذ بالله! هذا أقبح من الأول؛ لأنه يقابل إحسان الله بهذه الإساءة، وهذا محرم أيضًا بالإجماع، ولا يجوز الوفاء به. فمن نذر نذراً وقع في المحرم ويجب عليه الوفاء إجماعاً. يعني: من قال: إن شفى الله مريضي لأصومن ثلاثة أيام. يجب عليه الوفاء بهذا النذر، وصيام ثلاثة أيام، أما نذر المعصية فبالإجماع لا يجوز الوفاء به.

حكم عدم الوفاء بالنذر

حكم عدم الوفاء بالنذر اختلف العلماء: فيما لو قلنا: لا يف به، هل يكفر عنه أم لا؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: وهو قول جماهير أهل العلم: أن الوفاء في المعصية لا يجوز؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه)، فالجماهير قالوا: لا كفارة عليه، لدلالة الأثر والنظر، فأما الأثر: (فقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً واقفاً نصفه في الشمس ونصفه في الظل وهو صامت لا يريد أن يتكلم، فنظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ما له؟ قالوا: يا رسول الله! نذر ألا يستظل، ويسكت ولا يتكلم، ويقوم ولا يقعد، ويصوم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: مروه فليقعد وليتكلم، وليتمنّ صومه). وجه الدلالة من الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم اندهش مما فعله أبو إسرائيل. ويستدل الجمهور أيضاً على أنه لا كفارة فيه بحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نذر أن يعصي الله فلا يعصه)، وقال: (لا نذر في معصية الله، ولا فيما لا يطيق ابن آدم). ووجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر الكفارة هنا في نذر المعصية. وأيضًا استدلوا بحديث عقبة بن عامر رضي الله عنه وأرضاه: أن أخته نذرت أن تحج لله ماشية، فلما نذرت هذا النذر تعبت في وسط الطريق وما استطاعت، فذهب أخوها يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أختي نذرت أن تحج ماشية، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله غني عن إهلاك هذه المرأة لنفسها، مرها فلتمش ولتركب). وجه الدلالة أنه قال: مرها تمشي وتركب وما قال تكفر عن نذرها. أما من النظر فقالوا: هذا اليمين أصالة لم ينعقد، فإذا قلنا بأن هذا اليمين لم ينعقد فتوابعه لم تنعقد؛ لأن لازمه أن يكفر وهو لم ينعقد أصلاً، فلا كفارة له، وهذا القول وجيه جداً. القول الثاني وهو ما رجحه الحنابلة وبعض الشافعية: أن عليه كفارة يمين. واستدلوا على ذلك بحديث في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نذر أن يعصي الله فلا يعصه، وكفارته كفارة يمين)، وهذا تصريح من النبي صلى الله عليه وسلم. وهذان القولان من القوة بمكان، فعندنا دليل قولي من النبي صلى الله عليه وسلم، والدليل الثاني دليل تقريري، لكن الدليل التقريري فيه قوة؛ لأنه وقت بيان، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، ومن قال: بأن كفارة اليمين على الذي نذر نذر معصية على الاستحباب ما أبعد، وكان هذا من أوجه الأقوال؛ لأن القاعدة عند العلماء: أن الخروج من الخلاف مستحب، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: وعليه كفارة يمين استحباباً، احتياطاً لنفسه، لكن الصحيح والأفضل: أنه لا يكفر عن يمينه.

نذر اللجاج

نذر اللجاج سمي نذر اللجاج بهذا الاسم لأنه لا يكون إلا في الغضب، فاللجاج هو الغضب، مثل أن يكلم رجل رجلاً ويقول له: إن أباك كان يفعل كذا وكذا وكذا، فيقول له الآخر: لو كان أبي يفعل ما قلت فنذر علي لله لأصومن شهراً. فهو يبين تصديق أو تكذيب القائل، أو الحث أو التحضيض على شيء معين، فنذر اللجاج ينزل هنا منزلة اليمين تماماً، وله أحكام اليمين، فإن وفى فله، وإن لم يوف فعليه وجوباً كفارة يمين. والفرق بينه وبين الذي قبله أنه ينزل منزلة اليمين، فكأنه يقول لامرأته: علي نذر لو ذهبت إلى أمك لأصومن ثلاثة أيام، فنقول: لا تذهب حتى لا يقع فيه، لكن لو ذهبت وجب عليه أن يصومها، ولو لم يصم فعليه كفارة يمين. ومن الفوارق: أنه يجب عليه بلا خلاف أن يكفر عن يمينه ويطعم عشرة مساكين، فينتقل إلى الحكم المعلوم في كفارة اليمين.

النذر المباح

النذر المباح النذر المباح: كأن ينذر أن يأكل أكلاً مباحاً، أو يلبس لبساً مباحاً، وهذا له أن يوفي به وله ألا يوفي به، وإن لم يوف به فإن الأولى والأحرى به أن يكفر عن ذلك كفارة يمين؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من حلف على يمين ورأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه).

النذر المكروه

النذر المكروه أما النذر المكروه كأن ينذر لله أن يفعل شيئاً هو مبغوض عند الله، مثل: الطلاق، فينذر أن يطلق امرأته، والطلاق مبغوض عند الله جل في علاه، لحديث: (أبغض الحلال عند الله الطلاق)، وهو حديث ضعيف. تنبيه: إذا لم يشف الله مريضه فليس عليه أن يوفي، لكنه آثم لأنه علقه على ذلك، وفيه سوء الأدب مع الله جل في علاه، ويحرم عليه أن ينذر هذا النذر، وليس عليه أن يوف به لأنه علقه؛ فإن شفى الله مريضه وجب عليه أن يوفي به.

النذر عبادة

النذر عبادة القاعدة عند العلماء في العبادات: أن ما ثبت في الشرع أنه عبادة فصرفه لله توحيد، وصرفه لغير الله شرك. وحتى نبين هذه المسألة المهمة أقول: النذر عبادة، والدليل على ذلك قول الله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج:29]، (وليوفوا) فعل أمر، وظاهر الأمر الوجوب، والله لا يأمر إلا بما يحب، وما أحبه الله كان من العبادة، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه. أيضًا: قول الله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان:7]، ووجه الدلالة من هذه الآية على أن النذر عبادة: أن فيها مدحاً للوفاء، والله لا يمدح إلا ما يحب. فلا بد للإنسان إذا قال: النذر عبادة أن يكون معه دليل، وإذا قال: الطواف عبادة لا بد أن يكون معه دليل؛ حتى لا يدخل عليه أحد ويقول له: لا، بل هذا من المباح أو من المستحبات، فنحن نأصل أصولاً لو أتقنت لما استطاع مبتدع أن يقف أمامك. ونحن نعايش هذا، وكثير من المصريين يعلمون ذلك، بل ربما أن ثلاثة أرباع المصريين ينذرون لغير الله جل في علاه، فصندوق البدوي فيه الملايين، والسيدة زينب والحسين فيها الملايين من النذور، وهذا لا يمكن لأحد أن ينكره، وليس لصاحب عقل سديد أن ينكره، فلذا لا بد أن يتأصل لدينا علماً لنرد على هؤلاء الذين يلبسون الحق بالباطل. قال الله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان:7]، يقول العلماء: في هذه الآية دلالة على أن النذر عبادة؛ لأن الله لا يمدح إلا ما يحب، وما أحبه كان عبادة، لذا قال قبلها: {عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} [الإنسان:6]، فسماهم الله عباداً؛ لأنهم يوفون بالنذر. إذاً: فالوفاء بالنذر يدل على أنه العبادة، فهم عباد لله جل وعلا بوفائهم للنذر، {وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان:7]. والخوف من عقاب الله أيضًا سمة وصفة عباد الله جل في علاه، فهذه أدلة تدل على أن النذر عبادة. وأيضًا قول الله تعالى: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} [البقرة:270]، فاستدلوا بهذه الآية أيضًا على أنه عبادة، وهذه الآية فيها دلالة من وجهين: الأول: دلالة الاقتران؛ وإن كانت ضعيفة لكن السياق محكم ويبين هذا، فالله جل وعلا قرنها في كتابه مع النفقة، والنفقة عبادة، فإذا كانت النفقة عبادة فقرينتها في الكتاب تكون عبادة باللزوم. الوجه الثاني: قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} [البقرة:270]، وهذا هو محل الشاهد؛ لأن علم الله يدل على المحاسبة: إما مكافئة أو عقاب، فننظر فيما قال، قال: (نذر) وقال: (نفقة)، فهذه فيها ثواب، فإذا كانت محل المحاسبة دل ذلك على أنها عبادة؛ لأن الله يحاسب عباده على العبادة إما ثواباً إذا أحسنوا وإما عقاباً إذا أساءوا، إذاً: فهذه الدلالات من هذه الآيات تثبت أن النذر عبادة.

أقسام الناس في النذر

أقسام الناس في النذر إذا قلنا بأن النذر عبادة وأثبتنا ذلك بالدليل، فصرفه لله توحيد، وصرفه لغير الله شرك، كصرفه لـ علي بن أبي طالب وللحسين، والناس في ذلك على أربعة أقسام: القسم الأول: رجل يقول: نذرت لله أن أصوم شهراً إذا ولدت امرأتي ولداً. القسم الثاني: رجل يقول: إنه نذر للبدوي أو لـ علي أو لـ فاطمة الزهراء بدفتين شمع إذا نجح الولد. القسم الثالث: رجل نذر للحسين إذا نجح الله ولده أن يذبح ذبيحة. هذه أقسام النذر، فتعال نطبق القاعدة في هذه الأقسام: القسم الأول: نذر لله إن ولدت امرأته ولداً أن يصوم شهراً، فهذا النذر توحيد لكن صاحبه آثم وعليه الوفاء؛ فهو آثم لأنه تجرأ على شيء وكلف نفسه أمراً قد لا يستطيعه فيعقبه نفاقاً في قلبه، أو هو مكروه -على القولين كما بينا، فهو يتردد بين الكراهة والحرمة- لكن يجب عليه الوفاء به إن ولدت امرأته ولداً، يعني: إن حدث المعلق فلا بد أن يأتي بما علق عليه. القسم الثاني: صاحبه كافر، ولا نعني بذلك رجلاً بعينه؛ لأننا فرقنا وقلنا: تكفير العين جرأة ما بعدها جرأة، ولا يتجرأ عليه إلا جاهل جريء، لكن نحن نقول: القول كفر، والفعل كفر، لكن القائل والفاعل ليس بكافر حتى تقام عليه الحجة وتزال عنه الشبهة، ففرق بين تكفير النوع وبين تكفير العين، فهذا كفر من حيث الربوبية ومن حيث الإلهية؛ لأنه نذر لـ فاطمة الزهراء إن نجح ابنه إلخ. إذاً: فقد اعتقد في فاطمة ما لا يعتقد إلا في الله جل في علاه، فهذا شرك وكفر بالربوبية؛ لأنه جعل فاطمة التي هي في قبرها تحيي الموتى، وتنجح البليد، وتعطي المرأة الولد فهذا شرك في الربوبية، وأيضًا هو شرك في الألوهية؛ لأنه صرف عبادة لغير الله. القسم الثالث: كفر وشرك أيضاً؛ لأنه نذر للحسين إذا نجح الله ولده، فهذا الفارق بينه وبين الثاني. ولتعلموا عظيم الخطر في هذا: فقد جلست وناقشت بعض طلبة العلم فقال: لا عذر في هذه المسائل، فقلت له: تعني أن ثلاثة أرباع المصريين كفرة خارجون من الدين، فقال: أي أحد يفعل ذلك فهو كافر؛ لأنه صرف عبادة لغير الله جل في علاه، فقلت له: لو تترك النقاش في أمور العقيدة أفضل لك، أردت أن أشدد عليه حتى لا يكفر الناس بهذه الطريقة، فنحن نقول: نعم، هم صرفوا عبادة مختصة بالله لغير الله، لكن الجهل وعدم العلم يجعلنا نعذرهم، رغم أن الشيخ ابن باز في بعض الأحيان يقول لا يعذر في أصول الإيمان أحد بجهله، لكن في فتاوى أخرى للشيخ ابن باز تبين أنه يعذر بحسب المناطق، أي: أن المنطقة التي استفاض فيها العلم لا يعذر فيها، والمناطق التي لم يستفض فيها العلم يعذر فيها بالجهل. فنقول: هذا النذر نذر شرك، وهو شرك أكبر في الألوهية؛ لأن النذر محض عبادة، فلا يجوز بحال من الأحوال صرفها لغير الله، فمحض العبادة إذا صرفت لغير الله فهي شرك، فلو نذر للبدوي أو للحسين أو لـ علي، بل لو نذر لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لعيسى أو لموسى أو لنوح عليهم السلام فهذا النذر شرك في الألوهية؛ لأنها عبادة صرفها لغير الله جل في علاه، فهي شرك في الألوهية، لكن من لوازمها أن تكون شركاً في الربوبية وليس بصريح، لكن من باب اللازم؛ تفريقاً بين النذر وبين اليمين؛ لأن بعض النذر ينزل منزلة اليمين، وهو نذر اللجاج. ولقائل أن يقول: أنتم قلتم أن النذر ينزل منزلة اليمين، فاجعلوا حكم النذر حكم اليمين، فاليمين ينقسم إلى قسمين: شرك أكبر وشرك أصغر، فلو حلف الرجل بالنبي فهذا شرك أصغر إلا أن يعتقد أن النبي يستطيع أن يعاقبه إن لم يفعل ما أقسم به، فهو يعتقد به ما يعتقد في الله جل في علاه، فيقولون: أنزلوه منزلة اليمين، قلنا: لا؛ لأن الشرك الأصغر جاءت الأدلة المفرقة بينه وبين النذر، الشرك الأصغر هو لغو لسان، يقول: والنبي، ورحمة أمه، وشرف أبيه، وتربة الذين أنجبوه، فهذا خطأ باللسان، فنقول: هذا شرك أصغر بنص حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وأما النذر فلما ثبت بالشرع أنه عبادة، فلا شرك أصغر فيه، ولا دليل على التفريق، بل هو عبادة صرفها لله توحيد، وصرفها لغير الله شرك. إذاً: فليحذر امرؤ يتق الله ربه، وليعلم أن العبادة المحضة لا بد أن تصرف لله جل في علاه، وأنها لو صرفت لغير الله وقع صاحبها في الشرك.

حكم تغيير النذر

حكم تغيير النذر لو نذر رجل نذراً هل له أن يغيره أم لا؟ نقول: تغيير النذر لا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يغير النذر إلى ما هو أفضل وأرقى وأعلى. الحالة الثانية: أن يغير النذر إلى ما هو أدنى. مثلاً: رجل نذر لله أن يذبح شاة مطلقاً، فلم يجد شاة ووجد ديكاً فذبحه، فهذا من الحالة الثانية، ولو نذر أن يذبح شاة فلم يجد الشاة فذبح بقرة فهذا من الحالة الأولى. ففي الحالة الأولى يصح أن يغير إلى ما هو أفضل منه، ولا يجوز تغييره إلى الأدنى، والدليل على ذلك الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن رجلاً سأله فقال: يا رسول الله! إني نذرت أن أصلي في بيت المقدس، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: صل هنا -أي: في مسجد المدينة-) فالصلاة في المسجد النبوي أفضل من الصلاة في المسجد الأقصى، فلما كانت الصلاة في المسجد النبوي خير من الصلاة في المسجد الأقصى قال له النبي صلى الله عليه وسلم: وف بنذرك هنا، وبذلك يوفر على نفسه النفقة؛ لأن الصلاة في مسجده خير من الصلاة في المسجد الأقصى. ولذلك نقول: من قال: لله علي أن أذبح شاة وذبح بعيراً أو بقرة فله ذلك، وقد وفى بنذره، وأما أن يغير النذر للذي هو أدنى فهذا لا يجوز، لأن الأصل عدم التغيير، وجاءنا الدليل بالإقرار على التغيير في الذي هو فوق، ولم يأتنا الدليل بالتغيير إلى ما هو أدنى، فيبقى ذلك على الأصل وهو عدم التغيير.

محاسبة الكافر على نذره

محاسبة الكافر على نذره هل يحاسب الكافر على نذره؟ هذا أمر يقول به من يقول بأن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، فلو نذر الكافر نذراً فإنه يؤمر بالوفاء به، لكن لو وفى به في حال شركه فلا يقبل منه، وإذا أسلم فإنه يؤمر بالوفاء به، والدليل على ذلك: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه -قبل إسلامه- نذر أن يعتكف ليلة في المسجد الحرام، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: نذرت نذراً -يعني: في الجاهلية-، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أوف بنذرك)، فدل ذلك على أنه مخاطب بهذا النذر، ولا بد أن يوفيه في الإسلام حتى ولو وفاه في الكفر؛ لأنه في الكفر غير معتبر. هذا آخر المباحث التي نتكلم عنها في باب النذر، نسأل الله جل في علاه أن يعلمنا ما ينفعنا، وينفعنا بما علمنا.

سب الدهر

مسائل خالف فيها رسول الله أهل الجاهلية - سب الدهر لقد نهى الشرع عن سب الدهر؛ لأن الدهر هو الليل والنهار، والليل والنهار لا دخل لهما في تصريف الأمور ولا فيما يحصل في هذا الكون، فسب الدهر والحوادث التي تحصل فيه يلزم منه سب فاعل ذلك حقيقة وهو الله تعالى، لذا نهي الشرع عن ذلك. وأما من كان يعتقد أن الدهر هو المتصرف في الأمور لذا فهو يسبه، فقد أبعد النجعة ومرق من الدين مروقاً بيناً لا مرية فيه، وخالف العقل والنقل.

اعتقاد أهل الجاهلية في تصريف الأمور

اعتقاد أهل الجاهلية في تصريف الأمور إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهدي الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: الإخوة الكرام! سنذكر اعتقاداً خاطئاً آخر كانوا يعتقدونه قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كانوا في جاهلية عمياء كما بينا، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليصحح هذه العقائد، ومن هذه الاعتقادات أو الأقوال الناتجة عن اعتقاد خاطئ: سب الدهر. والدهر هو: الزمن الليالي والأيام، فقد كان الجاهليون قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم عندما تنزل بهم النوازل، ويبتلون بالكوارث والحوادث كانوا يسبون الدهر، ويقولون: قوارع الدهر، وأصابهم الدهر، وأماتهم الدهر، وأبادهم الدهر، فكانوا ينسبون كل حادثة ونازلة للدهر، ثم يسبون الدهر فيقولون: يا خيبة الدهر، يا بؤس الدهر، فيسبون الدهر بعد نسبة الحوادث والكوارث والنوازل إليه. والجاهليون في هذا العصر ممن كانوا يعتقدون هذا الاعتقاد، ويسبون الدهر والأيام والليالي هم فرقتان: فرقة كانت تعتقد أن الدهر -الأيام والليالي- هو مقلب الأمور، وهو المتصرف في الكون، فهو الذي يرفع أقواماً ويخفض آخرين، وهو الذي يبتلي أقواماً ويعافي آخرين. والفرقة الثانية من الجاهلية: كانوا يعتقدون أن مسبب الأسباب هو الله جل في علاه، وأن خالق الأسباب هو الله سبحانه، فهو الذي يرفع، وهو الذي يخفض، وهو الذي يعز، وهو الذي يذل، وهو الذي يبتلي، هو الذي يعافي سبحانه. وكانوا يعتقدون تنزيه الخالق، فلا ينسبون له فعل شر، ولا ينسبون له الحوادث ولا الكوارث ولا البلايا التي تنزل بهم.

وجود هذا الاعتقاد الجاهلي في عصرنا الحاضر

وجود هذا الاعتقاد الجاهلي في عصرنا الحاضر لقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم ليصحح هذه الاعتقاد الخاطئ، وقبل أن ننظر في تصحيح النبي صلى الله عليه وسلم لهذه العقيدة الخربة فإننا ننظر هل هذه العقيدة الجاهلية التي كانت قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم موجودة في عصرنا هذا المتحضر في القرن الواحد والعشرين؟ وهل دبت أو أطلت هذه الفتنة برأسها علينا؟ وهل ظهر هذا الاعتقاد الخاطئ في هذا الجيل من أجيالنا؟ و A نعم، فقد سارع فينا داء الجاهلية، وقد أسرع قوم منا لينسبوا هذه الحوادث للدهر، ويسبون الدهر بذلك، فمنهم من يقول: قدر أحمق الخطى، ويقولون أيضاً: غضب الطبيعة، وهذا يوم نحس، والأم تأتي لولدها فتقول له: يوم تعيس لما ولدت أنت، وذلك يوم نحس وبؤس عندما رأيناك، والأم كثيراً إذا أرادت أن توبخ ابنها ما تقول له: يوم نحس عندما أتيت، وآه جدتك ماتت عندما ولدت أنت. وامرأة كتبت رسالة كاملة تقول فيها: انظروا إلى قسوة القدر؛ فما ترك مسروراً إلا ونزل عليه، وما ترك سعيداً إلا وابتلاه بالبلايا والمصائب. وهذه الرسالة متداولة بين شبابنا وبين نسائنا. فهذه هي الجاهلية العصرية تعتقد نفس الاعتقاد الذي اعتقده أهل الجاهلية قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، إذاً فقد تواكبت الاعتقادات وتوافقت في الصورة. وجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليهدم هذا الصرح العظيم من الاعتقادات الخاطئة، ويبين لهم أن هذه الاعتقادات خاطئة. فأما اعتقاد الفرقة الأولى وهو الاعتقاد بأن الأيام والليالي هي التي تبتلي الإنسان بالكوارث والحوادث، فهذا الاعتقاد جاء النبي صلى الله عليه وسلم ليهدمه ويبين أنه كفر، فلا يجوز اعتقاده، فإن الله هو: الواحد الأحد، الفرد الصمد، المتفرد بالجلال والكمال، المتصرف في هذا الكون. وأما الفرقة الثانية التي زعمت أنها تنزه الله جل في علاه فلا تنسب إليه هذه الشرور، فهذا الاعتقاد أيضاً لا يجوز بحال من الأحوال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: قال الله تعالى: (يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر)، وفي رواية قال: (يسبني -أو قال يؤذيني- ابن آدم يقول: يا خيبة الدهر وأنا الدهر، أقلب الليل والنهار)، وفي رواية ثالثة حسم وقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه المادة؛ حتى يميت هذا الاعتقاد الخاطئ، فقال فيما يرويه عن ربه: (لا تسبوا الدهر فإني أنا الدهر)، والأصل في النهي التحريم. وهذا كله ينصب في منطقة واحدة وهو النهي عن سب الدهر، والنهي عن هذا الاعتقاد الخاطئ، أو النهي عما ينبع عن هذا الاعتقاد الخاطئ من سب الدهر. وهنا وقفة وهي في تفسير قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يؤذيني ابن آدم)، فهل يصل الإيذاء إلى الله جل في علاه مع أنه الله مالك الملك، وفاطر السموات والأرض، وله الجبروت الكامل، وله الملك والسؤدد الكامل سبحانه وتعالى، وإذا أراد شيئاً قال له: كن فيكون جل في علاه؟ والجواب: نعم يصل الإيذاء إلى الله جل في علاه، وما لنا لا نثبت ما أثبته الله لنفسه، فقد أثبت الله أنه يصل إليه الإيذاء فنقول: يصل إليه الإيذاء، ووصول هذا الإيذاء إليه لا يدل على الضعف، ولا على النقص، ولا على التضرر من ذلك، فالإيذاء غير الضرر، فإذا بلغ الضرر إليه ولم يستطع دفعه عن نفسه فهذا نقص في حق الله جل في علاه. وهناك فرق بين الإيذاء والضرر، فالإيذاء لا يمنع الكمال، وقد أثبته الله لنفسه، ونفى عن نفسه الضرر فقال: {فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا} [آل عمران:144]، وفي الحديث الصحيح في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى: (يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني)، إذاً فلن يصل الضر إليه؛ لأن الضرر صفة نقص، والله تعالى له صفات الكمال. إذاً فالإيذاء يصل إلى الله، لكن لا يصل إليه الضرر، ونظائر ذلك كثيرة، فالإنسان قد يصل إليه الإيذاء دون أن يصل إليه الضرر، وهذا الإيذاء لا يؤثر فيه كما يؤثر الضرر، قال الله تعالى عن الكافرين وما يعملونه بالمسلمين: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى} [آل عمران:111] يعني: لن يكون ضررهم بالكيد والحسد والسب والشتم إلا أذى فقط، ولا يصل إليكم ضررهم في غير ذلك. وأيضاً النبي صلى الله عليه وسلم لما اتهموه وقالوا: كذاب، وقالوا: مجنون، وقالوا: ساحر، وقالوا: كاهن، فكان ذلك يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم لكن لا يضره، قال الله تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ} [الأنعام:33]، فهذه تسليه من الله جل في علاه، فالله جل في علاه أثبت أن الإيذاء يصل إليه ويصل لنبيه فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ} [الأحزاب:57]. إذاً فالإيذاء يخالف الضرر، فالضرر نقص فلا يصل إلى الله، وأما الإيذاء فليس بنقص، والإيذاء يخالف الضرر، فقد أثبت الله لنفسه الإيذاء ولم يثبت له الضرر، فالإيذاء كالسب والانتقاص من مقدار الله جل في علاه، كما قال الله تعالى حاكياً عن هؤلاء الملاعين عندما قالوا: {قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران:181]. فنسبوا الفقر إليه سبحانه وهذا إيذاء، وقالوا أيضاً: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة:64]، فآذوا الله جل في علاه بالسب والشتم والتنقص، والله جل في علاه هو أغنى الأغنياء، والله جل في علاه له يدان كاملتان مبسوطتان، وله عينان سبحانه جل في علاه، وله صفات الكمال. وكذلك الملائكة أيضاً يصل إليهم الإيذاء مع أن الإنسان لا يستطيع أن يضرهم بشيء، فالملك لا تستطيع أن تضره لكن تستطيع أن تؤذيه، كما قال بعضهم: إن الملائكة بنات الله، فهذا إيذاء لهم؛ لأنه تنقص من قدرهم، وكذلك من ذهب إلى المسجد وقد أكل بصلاً أو ثوماً فإنه يؤذي إخوانه المسلمين، والملائكة تتأذى مما يتأذى منه ابن آدم، كما جاء ذلك في الحديث الصحيح. والذين ينسبون لله الولد فهذا أيضاً من الإيذاء وليس من الضرر، إذاً فالنبي صلى الله عليه وسلم جاء ليقطع دابر هذا الاعتقاد الخاطئ في سب الدهر.

حكم الاعتقادات الجاهلية السابقة

حكم الاعتقادات الجاهلية السابقة بعد بياننا هذه الأقوال فما حكم من قال ذلك؟ و A أن الحكم يتفرع على التأصيل الذي أصلناه في أن الجاهلية كانوا على فرقتين في ذلك، إذاً فالحكم سيكون حكمين؛ لأن السب سبان: سب عن اعتقاد، وسب عن غير اعتقاد. فالأول -هو السب عن اعتقاد- أن يعتقد أن الأيام والليالي هي التي تأتي بهذه النوائب، وهي التي تأتي بهذه الكوارث، فيسب الدهر بناء على هذا الاعتقاد، فيقول: بؤساً للدهر، وخيبة للدهر ما يأتينا إلا بالشر، وما نرى منه إلا البلايا والحوادث، فهذا السب نابع عن اعتقاد، وحكم هذا السب أنه كفر يخرج من الملة، وهو سوء أدب. فإذا اعتقد في غير الله ما لا يعتقد إلا في الله فهذا كفر، فقد اعتقد هنا في الأيام والليالي أنها هي التي تتحكم في هذه الكوارث وهذه البلايا، وأنزل المخلوق منزلة الخالق، فهذا كفر. فهم يقولون: غضب الطبيعة، ويعتقدون هذا، فالدهريون يقولون: {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24]، والشيوعيون يعتقدون هذا الاعتقاد فينسبون الأمر إلى الطبيعة؛ لأنهم لا يعتقدون أن هناك رباً يتحكم في الكون، ويميت ويحيي. وأما الاعتقاد الثاني: فحكمه أنه كفر، وهو كفر أصغر ومحرم، لكن الصحيح الذي أدين الله به أن هذا شرك أصغر، فالسب للأيام والليالي مع الاعتقاد بأن الله هو الذي يقلب الأيام والليالي، وأن الله جل في علاه هو الذي ينزل البلايا، وهو الذي يرفع البلايا لكنه يسب ويقول: يوم نحس عندما رأيتك، ولما ولدت كان يوم بؤس علينا، فهذه الكلمات كلها شرك أصغر من شرك الألفاظ، ولو اعتقد فيها صارت كفراً أكبر، وإن لم يعتقد فهي شرك أصغر. وأظهر نظير له في الشرع قول: ومحمد، وحياتك، ورحمة أمي، فهو يقسم ولا يعتقد أن أمه أو رحمة أمه، أو أن النبي صلى الله عليه وسلم يتحكم في الكون أو يعظمه كتعظيم الله جل في علاه، ومع ذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم وسمه بأنه مشرك فقال: (من حلف بغير الله فقد أشرك)، فهذا من شرك الألفاظ. وأيضاً هو من باب الشرك الأصغر الذي هو وسيلة إلى الشرك الأكبر، فكلما نزلت به مصيبة سب الدهر، فيتدرج قلبه حتى يعتقد أن الدهر هو الذي يتحكم فيما يصل إليه أو يمتنع عنه. إذاً فتحريم سب الأيام والليالي لا لكونها تشعر بذالك فتحزن منك، ولكن سب الأيام والليالي يلزم منه السب لمسببها وهو الله سبحانه. فكأنه يريد أن يسب الذي قدر عليه هذا البلاء لكنه لا يستطيع ذلك فيسب الريح والأيام والليالي، ويلزم من ذلك السب لله، والسب لله الأصل فيه أنه شرك أو كفر أكبر يخرج من الملة، لكن قلنا هنا: إنه شرك أصغر؛ لأنه لم يسب الله مباشرة.

إشكال وجوابه

إشكال وجوابه هنا إشكال وهو: قال الله تعالى: {فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ} [فصلت:16]، وقال جل في علاه: {كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ} [القمر:18 - 19]، وقال الله تعالى حاكياً عن لوط: {هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} [هود:77]، وأقره الله ولم ينكر عليه. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن بين يدي الساعة سنوات خداعة، يصدق فيها الكاذب، ويؤتمن فيها الخائن). و A أن كلام الله جل في علاه ينقسم إلى خبر وإنشاء، فالإنشاء أن تنشئ شيئاً في أمر ونهي تفعله، فالنبي صلى الله عليه وسلم نهاك عن أن تسب الدهر، فالله جل في علاه يخبر عن شيء قد وقع فأنت عندما تقول: رأيت زيداً أمس يقول: بؤساً للدهر، فأنت لم تسب الدهر وإنما أخبرت عن أمر وقع، ولو قلت: حلف أحمد وقال: والنبي، فأنت لم تقسم بغير الله، وإنما حكيت وأخبرت، وأما عندما تقول: والنبي! فأنت أقسمت بغير الله؛ لأنك أنشأت القسم، وهناك فرق بين الخبر والإنشاء، فالآيات السابقة يخبر الله فيها عن هذه الأيام خبراً وليس إنشاء. إذاً فالكلام والسب للدهر على أقسام ثلاثة: القسم الأول: عن اعتقاد، وهذا كفر مخرج من الملة. والقسم الثاني: عن تيسير وتسهيل اللفظ بسب الدهر صراحة دون أن يعتقد بغير الله جل في علاه، فهذا كفر أصغر. والقسم الثالث: مباح، وهو الإخبار بما وقع، أو وصف الحال. إذاً فنقول: يصح للإنسان أن يتلفظ بسب الدهر إن لم ينشئه وكان يخبر عن غيره في ذلك، فأولئك القوم كانوا يقولون: {يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ} [القمر:19]، {هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} [هود:77].

خلق الله للخير والشر

خلق الله للخير والشر وأما مسألة هل خلق الله الشر أم لم يخلقه؟ ف A أنه خلقه، ومن الأدب ألا تنسبه إلى الله جل في علاه.

التبرك [1]

مسائل خالف فيها رسول الله أهل الجاهلية - التبرك [1] لقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته من الغلو في الصالحين والأولياء، ومن إطرئه إطراءً يرفعه فوق منزلة النبوة؛ وقد حصل ما حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأمة، فعظموا الأولياء والأضرحة، وزعموا فيها البركة، فكانت سبباً في خروجهم من الدين والإشراك بالله، فدعوا غير الله، وطلبوا النفع والضر والخير والبركة في غير ما شرعه الله عز وجل.

وقوع الأمة فيما حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم

وقوع الأمة فيما حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: إخوتي الكرام! ما زلنا مع ظلمة الجاهلية، وشمس الإسلام التي تشرق على هذه الظلمة فتبددها، ومن هذه الظلمة التي كانت في العصر الجاهلي التبرك بآثار المعظمين عندهم، أو التبرك بما يعبدونه من دون الله جل في علاه. فقد كان أهل الجاهلية يتبركون بالمعظمين عندهم سواء كان شخصاً أو حجراً أو صنماً أو كانت داراً كدار الندوة أو غيرها، فكانوا يعظمونها ويتبركون بها، أي: يتعبدون لله بالتبرك بهذه الآثار، أو يسألونها من دون الله جل في علاه، فيصرفون لها العبادة من دون الله، وهذه المسألة شائكة ودقيقة جداً. فأهل الجاهلية كانوا يتبركون بالأصنام والأحجار والأشجار، ويسألون البركة والنفع وثبوت الخير عندها، وقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم ليبدد ظلمات هذه الجاهلية، قال الله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى * أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى} [النجم:19 - 21]. واللاتّ على قراءة ابن عباس بالتشديد كان رجلاً صالحاً يلتّ السويق للحجيج، فلما مات عظمه هؤلاء، وعظموا مكانه الذي قبر فيه، ثم بعد ذلك ذهبوا يتبركون بآثاره عند قبره. ذكر ابن إسحاق وغيره: أن كثيراً من أهل الجاهلية كانوا إذا أرادوا سفراً أو عودة من السفر، ذهبوا إلى أصنام وحجارة يعبدونها من دون الله جل في علاه، فيتمسحون بها ويطلبون البركة في أسفارهم، فإذا انتهوا من سفرهم وقضوا حاجتهم رجعوا إلى نفس الصنم، أو يرجعون إلى هذه الحجارة فيتمسحون بها ويطلبون البركة سواء في الحل أو في الترحال، فكانوا يتبركون بهذه الآثار التي لم يقبلها الإسلام، فجاء الشرع وأشرقت شمس الإسلام لتبدد هذه الظلمات، وجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليبين لنا أن هذا من الشرك، وأنه لا يجوز لأحد أن يفعل ذلك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إياكم والغلو!)؛ والتبرك سببه الغلو، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما أهلك من كان قبلكم الغلو)، وقال: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، ولكن قولوا: عبد الله ورسوله). وجاء من حديث أبي واقد الليثي أن الصحابة مروا في غزوة حنين على قوم يتبركون بشجرة يسمونها ذات أنواط، فيعلقون السيوف عليها طلباً للبركة وثبوت الخير لهم، فقالوا: يا رسول الله! اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط! يعني: اجعل لنا شجرة نعلق سيوفنا عليها فنتبرك بها كما يتبركون هم بهذه الشجرة، فزجرهم زجراً شديداً، وغضب غضباً شديداً، وبين أن هذا من الكفر بمكان، فقال: (الله أكبر -وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسبح ويكبر عند الدهشة والعجب- قلتم والله كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف:138]). فانظروا! كيف أنهم لما أرادوا التبرك بالشجرة أنزلهم النبي صلى الله عليه وسلم منزلة من يقول: {اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف:138]، وهذا بعدما بين النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه جاهلية جهلاء. وهذه الظلمات الجاهلية التي كانت في القرون المتقدمة عادت كما هي، واستدار الزمان كما هو، فعادت هذه الجاهلية كما كانت في الجاهلية الأولى، فنرى التبرك اليوم قد غشي الأمة الإسلامية، وللأسف نجد من يتنطع ويعلنها صراحة: بأن هذا الدين لا يحدث فيه الشرك، أو أن هذه الأمة لا يدب فيها الشرك، وأن الشرك قد انقطع عن هذه الأمة؛ فهي أمة مرحومة متمسكة بالتوحيد، ولن يقع أحد منهم في الشرك، وهذه الأمة -كما سنبين- غارقة في الشركيات وهي لا تدري. فيتنطع متنطع ويقول: لا شرك في هذه الأمة! وهذا خلاف لنبوءات النبي صلى الله عليه وسلم، وخلاف لما صرح به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورد لوحي الله جل في علاه؛ حيث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لن تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس على ذي الخلصة). وذو الخلصة صنم كان يعبد في الجاهلية، فهؤلاء سيطوفون به في آخر الزمان، وفي هذه القرون رجعت هذه الظلمات كما هي عليه، فترى الناس يتبركون ويطلبون البركة من غير الله جل في علاه، فيصرفون هذه العبادة لغير الله، ويتبركون بالنبي صلى الله عليه وسلم، أو بقبر النبي صلى الله عليه وسلم، ويتبركون بأستار الكعبة، وبمقام إبراهيم، ويتبركون بالقبور وأصحابها وتراب القبور، فمنهم من غلا وقال: طوبى لمن تمرغ في تراب قبر النبي صلى الله عليه وسلم يستشفي بهذا التراب، ويطلب منه الخير، فانظروا كيف يذب الشرك في هذه الأمة وهي لا تدري! ومنهم من يذهب يتقصد هذه الأماكن ويقول: هذا مكان الأولياء الصالحين ندعو الله فيه؛ لعل الله يتقبل منا الدعاء، وهذا واقع نعيشه ونراه، بل ينافحون عنه ويقاتلون من أجله، ويحادون الله ورسوله، ولا يسمعون لمن يناصحهم في الله جل في علاه.

واجب العلماء نحو الأمة فيما وقعت فيه من الشرك

واجب العلماء نحو الأمة فيما وقعت فيه من الشرك إن الأمة الآن قد وقعت في مثل هذه الظلمات، ولا بد علينا لزاماً إذا تبنينا هذه المسألة أن نأخذ طريق النبي صلى الله عليه وسلم، وأن نحمل إرث النبي صلى الله عليه وسلم، وأن نحافظ على التوحيد، ونتمسك ونعض بالنواجذ على هذه الشريعة الغراء التي أشرقت على ظلمات الجاهلية، ونبين للناس أن هذا تيه وتخبط، وأن هذه ظلمات الجاهلية. إذاً: فلا بد أن نبين كما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الوحي إذا انقطع فالرسالة لا تنقطع؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (بلغوا عني ولو آية)؛ ولذلك جعل الله جل في علاه العلماء وطلبة العلم في مرتبة الأنبياء، ولا فرق بين العالم وبين النبي صلى الله عليه وسلم إلا درجة النبوة والوحي، فهو كل ما نزلت الظلمات والبلايا على الناس في الجهل العميق جاء ليزيح عن هذه الأمة هذه الظلمات وهذا الجهل. إذاً: فلا بد أن نبين كما بين النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه من الجاهليات التي لا يقبلها الله جل في علاه.

مسائل في التبرك

مسائل في التبرك

تعريف التبرك

تعريف التبرك التبرك لغة: مأخوذ من البركة، والمتبرك هو الذي يطلب ثبوت الخير عنده أو له، كما قالوا: برك البعير، أي: ثبت في مكانه، وسميت البركة بِرْكةً لأنها تجمع فيها ماء كثير. ويقال أيضاً: إن المتبرك يطلب الزيادة والنماء، إذ البركة زيادة الخير. والبركة بيد الله لا بيد أحد، فيعطيها لمن يشاء ويمنعها عمن يشاء، فلا يملكها أحد غير الله ولا حتى رسول الله، ولا جبريل، ولا البدوي، ولا الحسين، فالذي يملك البركة هو الله جل في علاه، فيمنحها من يشاء ويمنعها عمن يشاء؛ ولذلك ترى أن الله جل وعلا بارك في أماكن معينة، وفي أوقات معينة، بل وفي ذوات، فإن الله بارك في ذوات الأنبياء، وبارك في ذوات الصالحين، فبارك الله في ذوات الأنبياء كما في قوله تعالى عن سيدنا عيسى عليه السلام: {آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا} [مريم:30 - 31]. وقال الله تعالى: {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ} [الصافات:113]، فبارك الله على إبراهيم وعلى إسحاق وعلى ذريتهما. وجعل الله كتابه مباركاً، وليست صفة، ولكن البركة في الكتاب بتلاوته وحفظه، وأن تعلم حروفه وتعمل بحدوده، ولا تقول: الكتاب مبارك؛ لأن لفظ المبارك لا يقال في حق الله، وإنما يقال: تبارك، والكلام صفة من صفات الله. فلو قلنا: إن هذا الكتاب مبارك وحده بذاته، فإن وضعته في السيارة كما يفعلون بهذه التمائم، أو وضعته في السلسلة على الصدر، أو علقت الآيات على الحائط فلا ينكر عليك؛ لأن فيها بركة، لكن هذا غير صحيح؛ لأن البركة التي جعلها الله في كتابه إنما هي بالتلاوة والتدبر، وبالعمل به، وبحفظ حروفه والعمل بحدوده. إذاً: فالله هو الذي جعل البركة وهو الذي يملك البركة، والله جل في علاه يوصف بأنه (تبارك) أي: المعظم الممجد، قال الله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان:1]، وقال جل وعلا: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا} [الفرقان:61]، وقال جل في علاه: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك:1]، فالله جل في علاه يتصف بأنه (تبارك) ولا تقل: (الله مبارك) حاشا لله، لكن إذا قلت: العبد مبارك، أو المكان هذا مقدس ومبارك فلا بأس بذلك. إذاً: فلفظ (مبارك) للمخلوق، (وتبارك) للخالق لا يشاركه أحد في هذه الصفة كما تقول: (تباركت وتعاليت)، فالتعالي أيضاً صفة تخص الله جل في علاه، فالعلو الكامل المطلق لله جل في علاه.

حكم التبرك

حكم التبرك هل التبرك عبادة أم لا؟ هذا محل نزاع. فإذا قلنا: بأن التبرك هو طلب البركة، فنقول: الطلب أصله دعاء، والدعاء يكون من العبد لله، فيكون التبرك عبادة؛ لأنه طلب، والطلب لا يكون إلا من الله جل في علاه، فإذا طلب من غير الله فقد أشرك، وهذا محل النزاع الذي نحن بصدده، فنقول: إن الذي يطلب البركة من غير الله فقد أشرك بالله بذلك، والذي يطلب البركة من الله هو الذي وحد ربه جل في علاه.

أقسام التبرك

أقسام التبرك القسم الأول: أن يطلب البركة من غير الله، فإذا طلب البركة من غير الله فقد أشرك بالله في الإلهية، كأن يقول: يا عبد القادر الجيلاني! بارك لي في زوجتي، أو يا بدوي! مُنّ علي بكذا، فهذا فيه صرف للعبادة لغير الله، فهذا إذا قلت له: أنت تطلب من البدوي أن يمنحك البركة، فإنه يقول: أنا أعتقد أن البركة بيد الله، لكن البدوي هذا وسيلة أتوسل به؛ لأن له مكانة وجاهاً، ولذلك أنا أطلب منه أن يكون شافعاً متوسلاً لي عند ربي فيمنّ عليّ بالبركة، فهذا يعتقد أن البركة من الله لكنه طلبها من غيره، فهو صرف عبادة ثبتت بالشرع لغير الله، فيكون شركاً في الإلهية. القسم الثاني: أن يعتقد أن أحداً يملك البركة مع الله، كأن يذهب يجلس بجانب قبر النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: أنا أعلم وأعتقد بأن النبي صلى الله عليه وسلم بيده البركة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم منحه الله ما لم يمنح غيره من الخلق، فيعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم يملك البركة مع الله جل في علاه، فهذا أيضاً اعتقد في غير الله ما لا يعتقد إلا في الله جل في علاه، ولا تحسبوا أنني آتي بالكلام من عندي، فهذا واقع نعيشه، فإذا ذهبت إلى العمرة فسترى ذلك، وكثير من النساء والرجال يعتقدون في النبي صلى الله عليه وسلم ما لا يعتقد إلا في الله جل في علاه، وهذا النوع يعتبر شركاً في الربوبية. القسم الثالث: أن يعتقد بأن البركة بيد الله جل في علاه، ولا يطلبها من غير الله، فهو لا يعتقد في غير الله ما لا يعتقد إلا في الله، وأيضاً لم يطلب البركة من غير الله، بل هو طلبها من الله، لكنه اتخذ سبباً لم يشرعه الله، فطلبها عند قبر البدوي، أو عند قبر عبد القادر الجيلاني، وارتقى أكثر فطلبها عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وذهب فطلبها عند جبل الطور، أو ذهب إلى غار حراء وقال: هذا المكان مبارك، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحنث فيه ويتعبد، وجاءه جبريل بالوحي فيه، فذهب يدعو هناك ويطلب البركة في هذا المكان، ويعتقد أن هذا المكان سبب في نزول البركة له. أو يعتقد أن هذا الولي المقبور بركته تجلب البركة إذا دعا عنده، ويعتقد في بركة وجود قبر الولي أن الله يستجيب له دعاءه، أو أن الله يرفع عنه البلية، أو أن الله جل وعلا يأتيه بالنفع الذي يريده. وهذا حكمه أنه شرك أصغر؛ فإن الله تعالى يقول: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21]، ويقول: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54]، إذاً: فالأمر والتشريع بيد الله، والله جل وعلا هو الذي سبب الأسباب والمسببات والمقدمات والنتائج، ونحن عباد لله فنقول: سمعنا وأطعنا لله جل في علاه، فلتعبد الله على الطريق التي ارتضاها، ولتعبد الله بما شرع؛ ولذلك فإن الله جل في علاه لما أنكر على النصارى عبادتهم -مع أنهم تعبدوا وتحنثوا لله جل في علاه- ما أنكر عليهم إلا لأنهم اتخذوا سبلاً لم يشرعها الله، قال تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد:27]. وكذلك من الأدلة: أن هذه وسيلة إلى الشرك؛ لأنه يعتقد في الولي أو في المكان ما لا يعتقد إلا في الله، فيكون وسيلة إلى الشرك الأكبر، والقاعدة عند العلماء: أن الوسائل لها أحكام المقاصد، فكل ما كان وسيلة للشرك فهو شرك، لكن لم يخرج به صاحبه من الملة؛ لأنه من الشرك الأصغر، ولا يصل إلى الشرك الأكبر.

أحكام التبرك المشروع والممنوع

أحكام التبرك المشروع والممنوع والتبرك قسمان: تبرك ممنوع، وتبرك مشروع، والتبرك الممنوع مقسم إلى أقسام: تبرك بالأماكن، وتبرك بالأزمنة، وتبرك بالأشخاص، وهذا مختلف فيه حتى بين أهل السنة والجماعة، فمن أهل السنة والجماعة من قال بجواز التبرك بذوات الصالحين أو بآثار الصالحين كـ ابن حجر والنووي، فهذا يكون قسماً ثالثاً سنتكلم عليه إن شاء الله. قال تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا} [آل عمران:96]، فإذاً كان البيت الحرام مباركاً فهل يجوز للإنسان أن يتبرك به؟ A لا، لا يتبرك به لا بجدرانه ولا بأستاره، ولكن يتبرك بالعبادة فيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الصلاة فيه بمائة ألف صلاة، فهذا هو محل البركة، ثم جاء أناس ووسعوا المسألة وخالفوا شرع الله، وتبركوا بأستار الكعبة، وهذا ظاهر وواقع ومشاهد، فترى الناس -وأكثرهم من الهنود والأعاجم- يتعلقون بأستار الكعبة، ويتمسحون بها، ويبكون ويصرخون، والأصوات تعلو من الرجال والنساء، فيتبركون بأستار الكعبة، وبالحديد والسياج الذي يدور حول مقام إبراهيم، ويتبركون بمقام إبراهيم، فهذا التبرك لا يجوز بحال من الأحوال، ولو كان جائزاً لشرعه النبي صلى الله عليه وسلم، ولفعله أصحابه، بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقبّل شيئاً من البيت إلا الحجر الأسود، ولم يمس إلا الركن اليماني. والدليل على أن هذه بدعة وشرك أن معاوية رضي الله عنه وأرضاه جاء للكعبة -وهو يعلم أن هذا البيت مبارك- فتمسح في كل أركان الكعبة الأربعة، فلما تمسح بالأركان الأربعة جاء ابن عباس فقال: والله ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، يبين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك ذلك، فيلزمك ألا تفعله، فقال: والله ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، قال: ليس من البيت شيء مهجور، فقال له: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21]، فقال: أصبت، وامتنع أن يتمسح بأي حجر من أحجار البيت. ولك أيضاً أن تتدبر أن عمر بن الخطاب جاء إلى الحجر الأسود فقبله ثم قال معلنها صراحة: (والله إني لأعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك)، إذاً: فالذين يتبركون بأحجار الكعبة، وبجدران قبر النبي صلى الله عليه وسلم، ويتبركون بالسياج أو بمقام إبراهيم، فتركهم هذا لا يجوز بحال من الأحوال، ولنا أدلة كثيرة تدل على أنه لا يجوز: الأول: أن هذا التبرك -إذا قلنا: إنه عبادة- لا بد له من دليل شرعي؛ إذ الأصل في العبادات التوقف، وليس ثمة دليل يثبت التمسح بكل أركان الكعبة إلا بالحجر الأسود -لعلة أخرى- أو بمقام إبراهيم. الأمر الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت وطاف أصحابه، ولم ينقل لنا أنه فعل ما يفعل الناس اليوم، فهذا دليل على أنه لا يجوز. وأما حكم فاعل ذلك: كأن يدخل رجل الكعبة فينظر إلى الحجْر فيقول: هذا الحجْر من الكعبة وقصرت النفقة عن أن يدخلوه في البيت، فذهب يتمسح بأحجار الحجْر ويقبلها، ثم نظر وقال للناس: إن إبراهيم هو الذي بنى البيت، فقال: أين مقام إبراهيم؟ قالوا: هو ذاك، فانكب عليه باكياً متضرعاً متذللاً: يا رب! ويقول: إن هذا آية من آيات الله، فيتمسح فيه ويمسح في جسده، ويقبل هذا المقام، فما حكم هذا الرجل؟ الجواب: هذا الرجل له أحوال ثلاثة: الحالة الأولى: إذا اعتقد في مقام إبراهيم أنه هو الذي يمنحه البركة، فهذا الفعل شرك أكبر؛ لأنه اعتقد فيه أنه يفعل ما لا يفعله إلا الله سبحانه وتعالى؛ ولذلك يقول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة:165]؛ لأنهم اعتقدوا فيهم ما لا يعتقد إلا في الله عز وجل. الحالة الثانية: إذا اعتقد أن البركة من الله، ولكنه يزعم أن هذا المقام واسطة بينه وبين الله فقال: هذا المقام يسمعني، وطلب من الحجر نفسه فقال: بارك لي في زوجتي، بارك لي في ابنتي، فهذا شرك أكبر؛ لأنه صرف العبادة لغير الله، وممكن نقول: إن هذه تتلازم مع الاعتقاد صراحة؛ لأنه لو صرف العبادة لابد أنه يعتقد في هذا الحجر أنه ينفع ويضر. الحالة الثالثة: إذا اعتقد أنها لله، وهو طلبها من الله، ولكن قال: البركة ستكون هنا، وستحل في هذا المكان، فهذا شرك أصغر؛ لأنه اتخذ وسيلة لم يشرعها الله، أو اتخذ سبباً لم يشرعه الله جل في علاه. وحتى تتضح المسألة أكثر: فمثلاً: إذا كنت جالساً في المسجد الحرام وأحرص على أن تكون كل صلاة أصليها في المسجد الحرام ولا أفرط فيها، فقيل لي: لم تحرص على الصلاة في المسجد الحرام؟ قلت: إن الصلاة في هذا المكان مباركة، فهذا الفعل صواب؛ لأنني تبركت بهذا المكان الذي أصلي فيه وهو المسجد الحرام، والنبي صلى الله عليه وسلم بين لي أن فيه بركة، فالصلاة فيه بمائة ألف صلاة! إذاً: فأنا اتخذت وسيلة صحيحة وسبباً مشروعاً. وأما الآخر الذي قال: إن البركة ستحل عند مقام إبراهيم، فهذا اتخذ وسيلة لم يشرعها الله جل في علاه، إذاً: فالتبرك بالأمكنة: كالتبرك بالأحجار والأشجار أو بالمسجد الحرام أو بأستار الكعبة وأحجارها غير مشروع. وأيضاً: من الأماكن التي يتبرك بها: غار حراء، وغار ثور، فهذه تسمى عند أهل المدينة والحجيج: المزارات السبعة أو الستة، فهذه المزارات بدعة، فالذي يقول: على الإنسان أن يذهب إلى غار حراء، وغار ثور؛ لأن هذه أماكن مباركة، وكفى أن الله جل في علاه بعث جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتحنث فيها، فيرى أن البركة في هذه الأماكن بأن الوحي نزل فيها، فهذا أيضاً اعتقاد خاطئ، ولو ذهب إلى غار حراء أو ثور يدعو هناك أو يصلي هناك أو يقيم العبادة هناك، ويقول: إن الله سيتقبل مني لبركة هذا المكان، فهذا قد ابتدع في دين الله، واتخذ سبباً لم يشرعه الله جل في علاه، وهذا المكان ليس فيه ثمة بركة؛ لأنه لا دليل عليه. من التبرك بالأماكن التبرك بالقبور: وله صورتان: الصورة الأولى: التبرك بالمقبور نفسه، وهو الولي الصالح. الصورة الثانية: التبرك بالقبر الذي قبر فيه المقبور. كرجل ذهب إلى البدوي أو إلى الجيلاني فقال: يا بدوي! أسألك أن تبارك لي في مالي ورزقي، وتمنع عني الشر. فهذا تبرك بالمقبور نفسه، ثم جاء إليه آخر فقال: لا تفعل، لكن اجلس بجانب قبر هذا الولي الصالح المبارك وادع الله عنده، فإن الله سيغفر لك ذنبك. والدليل على هذا قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21].

موقف الصحابة من التبرك الممنوع

موقف الصحابة من التبرك الممنوع إن الصحابة رضوان الله عليهم قد حرصوا على هذه المسألة حرصاً شديداً، وتثبتوا فيها تثبتاً لا يعلمه إلا الله جل في علاه، ومما يبين لنا حرص السلف على جناب التوحيد وحفظه أنهم علموا أن التبرك عبادة، وأنه لا بد للإنسان ألا يتقدم بين يدي الله ورسوله، فحفظوا جناب التوحيد، ومنهم عمر بن الخطاب وأبو هريرة وغيرهم. أما عمر بن الخطاب فكان يطوف بالكعبة ويقبل الحجر ويقول: (والله! إني لأعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك). ثم أُخبر عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه بأن هناك أناساً يتقصدون المسجد الذي كان يصلي فيه النبي صلى الله عليه وسلم بين مكة وبين المدينة، فذهب وقال: أيها الناس! إنما أهلك من كان قبلكم اتباعهم لآثار أنبيائهم، واتخاذهم هذه الآثار مساجد. ثم أُخبر مرة أخرى بعدما نصحهم هذه النصيحة الغالية بأن هناك أناساً يتقصدون شجرة بيعة الرضوان وهي بيعة الموت، فيصلون عندها يتبركون بها، فجاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه وأمر بقطع الشجرة؛ حفظاً لجناب التوحيد، وسداً لذريعة الشرك. وهذا أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه قابل أبا بصرة الغفاري وقد رجع من الطور، فقال له: من أين أتيت؟ قال: من الطور، صليت هناك. فقد رحل من المدينة إلى الطور ليصلي هناك، فقال له أبو هريرة مانعاً إياه: لو قابلتك ما ذهبت إلى هناك؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى)، فهذه المساجد الثلاثة فيها بركة، وأما جبل الطور فلم يأتِ دليل على أنه مكان مبارك.

بيان بعض الإشكالات الواردة في التبرك

بيان بعض الإشكالات الواردة في التبرك هناك بعض الإشكالات نريد أن نبينها: الإشكال الأول: أن ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه كان إذا ذهب إلى الحج سأل أين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيتقصد المكان الذي صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم فيصلي فيه. والإشكال الثاني: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه قبل الحجر؛ لأنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبله. ويرد على استدلالهم بأثر ابن عمر من وجهين: الوجه الأول: أن نقول: أين الدليل على أن ابن عمر كان يفعل ذلك تبركاً؟ لا يوجد دليل. الوجه الثاني: أن هذا له تخريج وتوجيه، وتوجيه ذلك أن ابن عمر كان رجلاً أثرياً يتتبع سنن النبي صلى الله عليه وسلم حذو القذة بالقذة، فينظر كيف كان ينام النبي صلى الله عليه وسلم فينام مثله، فقد طبق سنن العادات والعبادات، وما ترك شيئاً يفعله النبي صلى الله عليه وسلم إلا وكان يتقصده ويفعله، وذلك له نظائر كثيرة: منها: أن أنس رضي الله عنه وأرضاه كان لا يأكل الدباء، قال: (فجلست في مائدة يأكل فيها النبي صلى الله عليه وسلم، فكان يتتبع الدباء، فأحببت الدباء لما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتتبعه)، وكان يأكل الدباء تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم حتى ولو كان ذلك من سنن العادات، وهناك قاعدة: أن سنن العادات بالنيات تنقلب إلى عبادات. وكذلك أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه كان لا يأكل البصل مطبوخاً مع أن البصل إذا طبخ مات، كما قال عمر بن الخطاب: أميتوه بالطبخ، ومع ذلك كان أبو أيوب لا يأكله؛ عملاً بما رآه من أن النبي صلى الله عليه وسلم ما أكل البصل ولو كان مطبوخاً. إذاً: فيكون الجواب الثاني: أن ابن عمر كان أكثر الناس تأسياً بسنة النبي صلى الله عليه وسلم. وأما الجواب عن الإشكال الثاني: فـ عمر لم يقبل الحجر تبركاً بل عمر تبرك باتباعه للنبي صلى الله عليه وسلم، والدليل على ذلك أنه قال: (لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك). كذلك في هذا الفعل فائدتان تعود على المرء: الفائدة الأولى: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بيّن أن (الحجر الأسود يأتي يوم القيامة وله عينان ولسان يشهد لمن قبله أو استلمه). الفائدة الثانية: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن (استلام ركن اليماني يحط الخطايا)، فهذه هي الفائدة وليس ذلك من التبرك. وأما مسألة الشجرة ذات الأنواط: فلا يجوز التبرك بالشجر، وهؤلاء المسلمون كانوا حدثاء عهد بالإسلام، والحديث يبين لنا ذلك، قال أبو واقد الليثي: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة حنين ونحن حديثو عهد بكفر فوجدوا قوماً يعلقون أسلحتهم بشجرة يسمونها ذات أنواط، ويعتقدون فيها البركة، فقالوا: يا رسول الله! اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط) وقولهم: (اجعل لنا) له عدة احتمالات: الاحتمال الأول: اجعل لنا ذات أنواط؛ أي: لأن هذه الشجرة ستمنحنا البركة، هذا احتمال، ولكن هل هذا مرفوض أم مقبول؟ مرفوض؛ لأنهم حدثاء عهد بإيمان، آمنوا بالله وعلموا أن الله جل وعلا هو الذي يملك النفع والضر، وما زال الله جل وعلا يزيح عنهم على لسان النبي صلى الله عليه وسلم الشرك بالأصنام. الاحتمال الثاني: أنهم يجعلون ذات الأنواط ليطلبوا منها البركة، وهذا مرفوض؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم معهم وبين لهم أن السؤال لا يكون إلا لله جل في علاه. الاحتمال الثالث: أنهم ما علقوا هذه السيوف إلا التماساً للبركة، كأن الله جل في علاه سيبارك لهم في سيوفهم أو في رحلتهم هذه عندما يعلقون السيوف على هذه الشجرة؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الله أكبر! قلتم مثل ما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف:138]). والراجح الصحيح في هذه القصة: أن هذا من الشرك الأصغر وليس من الشرك الأكبر؛ لأنهم لم يعتقدوا في ذات أنواط ولم يطلبوا منها البركة، لكن جعلوها وسيلة، فاتخذوا سبباً لم يشرعه الله فوقعوا في الشرك الأصغر؛ لأنه وسيلة إلى الشرك الأكبر، وغلظ لهم النبي صلى الله عليه وسلم القول لأنهم على شفير هلكة، فهم على أبواب الشرك الأكبر فحذرهم؛ لأن وسائل الشرك الأكبر تصل من الأصغر إلى الأكبر، والقاعدة عند العلماء: أن الوسائل لها أحكام المقاصد. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

التبرك [2]

مسائل خالف فيها رسول الله أهل الجاهلية - التبرك [2] ينقسم التبرك إلى قسمين: تبرك مشروع، وتبرك ممنوع، فالتبرك المشروع مثل: التبرك بآثار الأنبياء وذواتهم حال حياتهم، أو بآثارهم بعد مماتهم إن ثبت وجودها. وأما التبرك بآثار غيرهم من الصالحين والأولياء فيجوز التبرك بأفعالهم ودعائهم، وأما التبرك بغير ذلك فلا يجوز؛ وذلك لأن الصحابة والتابعين لم يتبركوا بذوات كبار الصحابة ولا بآثارهم، فلما لم يفعلوا ذلك مع وجود المقتضي وانتفاء المانع، دل ذلك على أنه غير مشروع.

أحكام التبرك

أحكام التبرك

معنى التبرك

معنى التبرك إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله, وأحسن الهدي هدي النبي صلى الله عليه وسلم, وشر الأمور محدثاتها, وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة, وكل ضلالة في النار. بينا في الدرس الماضي معنى التبرك وأصل التبرك، وأن التبرك عبادة, وجماع التبرك هو طلب البركة، وإذا قلنا بأن جماع التبرك هو طلب البركة أو زيادة الخير, فالطلب إذاً لا يكون إلا ممن يملك هذه البركة، ولا أحد يملك هذه البركة إلا الله جل في علاه. وطلب البركة يتعلق بها أمران: الأول: ألا يكون الطلب إلا من الله, فمن طلب من غير الله جل في علاه فقد وقع في الشرك؛ لأن الطلب دعاء والدعاء عبادة, ومن صرف العبادة لغير لله فقد وقع في الشرك, فمن صلى لغير الله فقد أشرك, وأيضاً من دعا غير الله لجلب منفعة أو دفع مضرة فقد أشرك. الأمر الثاني: من اعتقد بأن البركة بيد أحد غير الله فقد اعتقد في غير الله ما لا يعتقد إلا في الله، ومن اعتقد في غير الله ما لا يعتقد إلا في الله فقد وقع في الشرك. فهناك قاعدة تقول: من عبد الله واعتقد في الله حق الاعتقاد ثم اتخذ سبباً لم يشرعه الله جل في علاه فقد وقع في الشرك الأصغر؛ لقول الله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21]، وقوله تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد:27]. في هذا الدرس سنبين التبرك الممنوع، وقد ابتدأنا به من باب قول الشاعر: عرفت الشر لا للشر ولكن لتوقيه ومن لم يعرف الخير من الشر يقع فيه فنحن نبين للناس الشركيات التي لا بد أن يتجنبوها وحتى يسلم توحيد المرء.

حكم التبرك بالأمكنة والأشجار

حكم التبرك بالأمكنة والأشجار من التبرك الممنوع: التبرك بالكعبة, والتبرك بمقام إبراهيم, والتبرك بجدران بيت المقدس، أو بجدران المسجد النبوي, فكل ذلك لا يجوز, وأيضاً التبرك بالأشجار كما بينا في حديث: (اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، قال: الله أكبر إنها السنن، فقد قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف:138])، ورجحنا أن هذه المسألة من الشرك الأصغر وليست شركاً أكبر، وهو من باب التغليظ والزجر الشديد؛ حتى يسلم أهل التوحيد من الشرك الأصغر فضلاً عن الشرك الأكبر.

حكم التبرك بالأزمنة

حكم التبرك بالأزمنة أيضاً من التبرك الممنوع: التبرك بالأزمنة, وقد قلنا: إذا اعتقدنا اعتقاداً جازماً صحيحاً بأن البركة من الله جل في علاه, فإن هذه البركة لها أسباب، وهذه الأسباب من اتخذها جعل الله له البركة، فقد شرعها سبحانه لحصول البركة, ومن اخترع أو ابتدع أو شرع أسباباً لم يشرعها الله جل في علاه فقد أشرك. فإذا قال امرؤ: أن البركة نزلت في أزمنة معينة، فإن لم يأت عليها بدليل من كتاب الله ولا من سنة النبي صلى الله عليه وسلم فقد افترى على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله جل في علاه علام الغيوب, وهو الذي يملك البركة وهو الذي أنزل البركة, فهو يعلم أين تكون البركة, وما السبب الذي إذا أخذ به المرء حصلت له البركة، فإن قال الله لنا: إن زمان كذا ومكان كذا فيها البركة في أعمالكم وفي أرزاقكم، أخذنا بهذه الأسباب، وإن لم يذكر الله جل في علاه فليس لأحد أن يتقدم بين يدي الله ورسوله ويقول: هذا زمان تتنزل فيه البركات, وتكثر فيه الرحمات, وترفع فيه الدرجات, وتغفر فيه السيئات.

نماذج من التبرك الممنوع ببعض الأزمنة

نماذج من التبرك الممنوع ببعض الأزمنة من قال: بأن الاحتفال بالمولد النبوي مثلاً فيه بركات, وهذا زمن مبارك لا بد أن نتبرك بالاجتماع فيه، وإظهار السرور، وتوزيع الطعام، والاحتفال فيه؛ لأنه زمن مبارك على الله وعلى رسوله. أو يقول مثلاً: ليلة النصف من شعبان ليلة مباركة، فنفعل فيها كذا وكذا, أو الأعياد المخترعة: كعيد الحب، وعيد الشجرة, فكل هذا لا يصح؛ لأن الله جل في علاه لم يذكر في كتابه أن هذه الأيام أيام مباركات, فيتبرك بها المرء. إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ترك طائراً يقلب جناحيه في السماء إلا وأخبرنا خبره، ولم يقصر في البلاغ؛ والله جل في علاه يقول: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة:67] فلو كانت هذه الأزمنة من المولد النبوي أو ليلة الإسراء والمعراج أو ليلة بدر أو غيرها أزمنة مباركة تتنزل فيها البركات لبينها النبي صلى الله عليه وسلم، فلما لم يبين النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الأزمنة من الأزمنة المباركات, لزم من يقول ببركتها الآتي: أولاً: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قصر في البيان, وحاشاه صلى الله عليه وسلم، فقد شهد الله أنه بلغ وأتم البلاغ. ثانياً: أنكم مفترون ومتقدمون بين يدي الله ورسوله، فلا نقبل قولكم. إذاً: فهؤلاء قد افتروا على الله وعلى رسوله بأن ابتدعوا أزمنةً وقالوا: إن هذه الأزمنة تتنزل فيها البركات، وهذا من باب الشرك الأصغر لا الشرك الأكبر؛ لأنهم لم يعتقدوا في غير الله ولم يطلبوا البركة من غير الله جل في علاه, لكنهم اتخذوا سبباً لم يشرعه الله جل في علاه للبركة, وقد بينا أن البركة عبادة, والأصل في العبادات التوقيف. وختاماً نقول: ليس معنى كلامنا أننا نغلق على الناس هذا الباب ونقول لهم: لا بركة في أي شيء، لا، فإن ديننا السمح وشريعتنا الغراء إذا أغلقت باباً فتحت أبواباً للناس، ففتحت أبواب الرجاء والخير للناس, فهناك التبرك المشروع, فإنا نرجو من الله جل في علاه أن يبارك لنا فيما رزقنا، وأن البركة أفضل بكثير من الكثرة.

شروط البركة المشروعة وأنواعها

شروط البركة المشروعة وأنواعها هذه البركة لها شروط: الأول: الاعتقاد الصحيح بأن البركة بيد الله جل في علاه. الثاني: لا تطلب البركة من غير الله. الثالث: اتخاذ الأسباب الصحيحة التي بها نحصل على البركة. وهذه البركة أنواع: فهي أقوال وأفعال وهيئات وأمكنة وأزمنة.

البركة في الأقوال

البركة في الأقوال هناك أقوال فيها بركة, ومن هذه الأقوال: تلاوة القرآن, فإن الله جل في علاه قد وصف كتابه بأنه كتاب مبارك, والبركة في القرآن هي بتلاوته وتدبره وبتطبيق حدوده وأحكامه, فقال الله تعالى مبيناً لنا كيف تكون البركة في هذا الكتاب كما في سورة المزمل: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل:20] ولذلك ترجم النبي صلى الله عليه وسلم هذه البركة فقال: (اقرءوا القرآن فإن لكم بكل حرف حسنة, والحسنة بعشرة أمثالها، لا أقول: (آلم) حرف، ولكن (ألف) حرف و (لام) حرف و (ميم) حرف) فبهذه الآيات المباركات تتحصل البركات بمضاعفة الحسنات، والحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة, فهذه من بركة هذا الكتاب. وقد رد في الأثر: (أنه لا يعبد الله بخير مما خرج منه) وهو القرآن، ويقول عثمان بن عفان كما في (الشُّعَب) بسند صحيح: لو طهرت قلوبنا لما شبعنا من كتاب الله. فالبركة الحسية: هي مضاعفة الحسنات، وأما البركة المعنوية: فهي حلاوة الإيمان, والتلذذ بكلام الله جل في علاه, فترى الشخص يهجر كل كلام، ولا يريد أن يتكلم بشيء إلا بكتاب الله, فهو مع كتاب الله نائماً ومستيقظاً, جالساً وقاعداً, قائماً وماشياً, ويدور في خلده وعلى لسانه كلام الله جل في علاه, فهذه هي البركة التي تشع نوراً في قلب العبد, فيحلو بها الإيمان، ويتلذذ المرء بتلاوة كلام الله جل في علاه, ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ناصحاً للرجل الكبير الشيخ الهرم: (لا يزال لسانك رطباً بذكر الله جل في علاه) وأدنى من ذلك منزلة ذكر الله, فالذكر أيضاً يأتي للمرء بالبركات، فإن المرء إذا قال: لا إله إلا الله مائة مرة صباحاً ومائة مرة مساءً فإن البركة تأتيه من كل حدب وصوب, وهذه بركة معنوية. وأما الحسية: فإن الله جل في علاه يحفظه من الشيطان, والله جل في علاه يكتب له أجر عتق عشر رقاب, وأيضاً يكتب الله له حرزاً وحفظاً وحصناً من الشيطان الرجيم, فلا يستطيع إليه سبيلاً. وأيضاً الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم تأتي بالبركة حسياً ومعنوياً، فكثرة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم تزيد البركة, بل من بركة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أن الله يكفيك همك، ويغفر ذنب, فمن بركة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أن الله يكفيك الهم والحزن, ويبارك لك في رزقك. وأيضاً كثرة الاستغفار تأتي بالبركة في الدنيا والآخرة معنوياً وحسياً، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أراد أن تسره صحيفته يوم القيامة فليكثر من الاستغفار) يعني: يرى في صحيفته يوم القيامة كثرة الاستغفار, فبالاستغفار تتنزل الرحمات, وينزل الغيث من السماء, ويكون الولد, وتكثر الأموال. فإذا استيقن المرء وعلم أن البركة بيد الله، وطلبها من الله مع الأخذ بالسبب الصحيح الشرعي من تلاوة قرآن وكثرة ذكر الله جل في علاه, فإن البركة ستحل به من كل جانب.

البركة في الأفعال

البركة في الأفعال كذلك من أعلى وأرقى الأفعال الجالبة للبركة طلب العلم, فطلب العلم كله بركة, ويا خسارة من ترك طلب العلم وقد من الله عليه بهذا الطلب ويسره عليه، فمثل هذا ضاعت منه البركة؛ لأن البركة كل البركة مع طالب العلم, وبركة طالب العلم في الحل والترحال حسياً ومعنوياً, قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (مامن شيء إلا ويستغفر لطالب العلم) فهذه بركة معنوية, فحتى الحيتان في البحر تستغفر لطالب العلم, وحتى النمل في الجحر تستغفر لطالب العلم. ومجلس طلب العلم تحفه الملائكة، وتنزل فيه الرحمة، وتغشاه السكينة، فمن بركة مجالس العلم أن الجاهل الذي يأتي لمصلحة دنيوية حين يجلس في مجلس العلم، وتأتي الملائكة لتكتب الأسماء، فتقول: يا رب إن معهم فلاناً ما جاء إلا لحاجة دنيوية، فيقول الله جل في علاه: هم القوم لا يشقى بهم جليسهم. وأيضاً من بركة طلب العلم أن الملائكة دائماً تحف طالب العلم, وتضع أجنحتها رضاً بما يفعل طالب العلم, فهنيئاً لطالب العلم البركة الحسية والمعنوية، وقد ورد في الحديث: (أن رجلاً فقيراً جلس يسمع حديث النبي صلى الله عليه وسلم ويكتب الحديث، فجاء أخوه الذي يرعاء ويسعى عليه ويكد ويتعب له, فقال: يا رسول الله إني أكد من أجل فلان ويتركني ويأتيك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: دعه لعلك ترزق به) يعني: أن الرزق الذي يأتيك لو كان درهماً واحداً فببركة طلب علم أخيك ستأتيك آلاف الدراهم. فهذه البركة فاتت على كثير من الناس, وضاعت عن أذهان كثير من الناس, وما فاز بها إلا من حباه الله أن يسلك طريق طلب العلم. وأيضاً من البركات في الأفعال: الاجتماع, يقول النبي صلى الله عليه وسلم (يد الله مع الجماعة) فالاجتماع دائماً يأتي بالبركة الحسية والمعنوية، فإذا كان الله معك وهو ناصرك فمن يستطيع أن يغلبك؟! وإذا كان الله معك رازقك فمن يمنع عنك الرزق؟! وإذا كان الله معك غافراً لذنبك فمن يأخذك بهذا الذنب؟! وإذا كان الله معك رافعاً إياك دراجات فمن يذمك؟! فالممدوح بحق من مدحه الله, ولما دخل الأعرابي على النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (أعطني؛ فإن مدحي زين وذمي شين، قال صلى الله عليه وسلم ذاك الله) يعني: أن المدح بحق من الله والذم بحق من الله. وأما حسياً فمثل: الاجتماع على الطعام، فطعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الثلاثة، وطعام الثلاثة يكفي الأربعة, والنبي صلى الله عليه وسلم ينصحنا ويحث الأمة على هذه البركة والتمسك بها فيقول: (اجتمعوا على طعامكم، واذكروا الله عليه؛ يبارك لهم فيه)، فالبركة في الطعام تأتي بالاجتماع، وتأتي بتسمية الله جل في علاه عليه. وأيضاً من أجل الأسباب مع طلب العلم للحصول على البركة: التقوى، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ} [الأعراف:96] وما قال: كثرنا، قال: {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:96]، وقال سبحانه: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132]. وأيضاً من الأطعمة والأشربة التي هي مباركة: ماء زمزم, فماء زمزم كله بركة, كما صح عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ماء زمزم لما شرب له) وفي رواية صحيحة قال: (إنه طعام طعم، وشفاء سقم). وبقي أبو ذر رضي الله عنه وأرضاه أربعين يوماً وليلة لا يأكل شيئاً غير ماء زمزم. وأيضاً: الزيتون مبارك، قال الله تعالى: {يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ} [النور:35]،والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (كلوا من هذا الزيت وادهنوا به، فإنه من شجرة مباركة). وأيضاً: الحبة السوداء, فالحبة السوداء فيها بركة، وكثير من الناس يغفل عنها مع أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الحبة السوداء دواء من كل داء إلا الموت). وأيضاً: عسل النحل فيه بركة، فعجباً لهؤلاء القوم الذين يذهبون يتمسحون بالأولياء وتراب الأولياء ويتركون هذه البركات الحسية والمعنوية التي نراها في عسل النحل، قال الله عنه: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل:69]. وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه جاءه رجل يشتكي بطن أخيه, فقال: أسقه عسلاً، فازداد الأمر عليه، قال: اسقه عسلاً، فازداد الأمر عليه، قال: اسقه عسلاً, فازداد الأمر عليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صدق الله وكذبت بطن أخيك، اسقه عسلاً, فشفي الرجل بعدما شرب العسل)، فالعسل فيه بركة.

الأماكن التي تحل فيها البركة وحقيقة هذه البركة

الأماكن التي تحل فيها البركة وحقيقة هذه البركة هناك أماكن مباركة تحل فيها البركة, لكن هذه الأماكن ليست مباركة بجدرانها ولا بترابها، فلا تذهب تتمسح بالجدار ولا بالترب، وإنما البركة تحل فيها بالأعمال الصالحة. وأول هذه الأماكن: مكة، فمكة حرم الله المبارك, وقد حرمها إبراهيم عليه السلام, وفيها البيت مبارك, كما قال الله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا} [آل عمران:96]. والمدينة أيضاً مباركة, وقد حرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم, وفيها المسجد النبوي. وأيضاً: بيت المقدس مبارك, كما قال النبي صلى الله عليه وسلم مبيناً بركة هذه البقاع الثلاث: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الأقصى، والمسجد الحرام) ثم فسر النبي صلى الله عليه وسلم بركة هذه البقاع بقوله: (إن الصلاة في المسجد النبوي بألف صلاة, والصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة)، وقد جاء في الأثر وإن كان يضعفه بعضهم: (أن الصلاة في بيت المقدس بخمسمائة صلاة)، لكن يستأنس به، وله شواهد تدل على مضاعفة الأجر بالصلاة في بيت المقدس. إذاً: فالتبرك بهذه الأماكن ليس بترابها ولا بجدرانها، بل بالأعمال فيها. وأيضاً: أرض الشام كلها مباركة، ولذلك لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن سبب تفضيل هذه الأرض عن غيرها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الملائكة باسطةً أجنحتها على أرض الشام) فهذه من بركة أرض الشام، وكذلك جاء في الحديث: (اللهم بارك لنا في شامنا). إذاً: فأرض الشام بين النبي صلى الله عليه وسلم أنها أرض مباركة. وكذلك المدينة فضلها النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (من استطاع منكم أن يموت في المدينة فليمت، فإني شفيع لمن مات في المدينة). فعلى المرء أن يلتمس البركة في هذه الأراضي ليس في جدرانها ولا بترابها, وعندما نقول: هذه الأراضي مباركة لا نعني أن الناس الذين فيها مباركون؛ لأنك قد تجد في هذه الأراضي المباركة أفسق وأفجر أهل الأرض, فالناس لا يقاسون بالأراضي, ولو قيس الناس بالأراضي لكان أرفع الناس أبا جهل , مع أنه أكفر الناس. إذاً: فالناس لا يقاسون بالأراضي, وإنما الأمر كما قال: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] يعني: أن ميزان الأشخاص ومقياسهم عند ربهم هي القلوب التي عمرت بالإيمان.

أقسام التبرك بالنبي صلى الله عليه وسلم وحكمها

أقسام التبرك بالنبي صلى الله عليه وسلم وحكمها نختم بالكلام على مسألة نظرية في عصرنا ألا وهي: التبرك بالنبي صلى الله عليه وسلم. وقلت: مسألة نظرية؛ لأنه لا يوجد أي أثر من آثار النبي صلى الله عليه وسلم الآن, فنحن نتعلمه علماً نظرياً حتى نستدل به على من يدعي غير ذلك. فنقول: التبرك بالنبي صلى الله عليه وسلم ينقسم إلى قسمين: الأول: تبرك بذات النبي صلى الله عليه وسلم. والثاني: تبرك بآثار النبي صلى الله عليه وسلم.

التبرك بذات النبي صلى الله عليه وسلم وآثاره

التبرك بذات النبي صلى الله عليه وسلم وآثاره إن الله جل في علاه خلق الخلق أجمعين وفرق بينهم, وأكرم الخلق على الله جل في علاه هو رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكفى ببركة النبي صلى الله عليه وسلم عند ولادته أن أشرقت الدنيا بأسرها بشمس الإسلام, وأخرج الناس من ظلمات الشرك إلى أنوار التوحيد, وكفى بها بركة. وهذا الذي فقهه أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه وذلك عندما هاجر معه، فقد كان رضي الله عنه يتقدم أمامه ويتأخر خلفه, ويأتي عن يمينه ويأتي عن يساره, فسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن سبب فعله، فقال: أتذكر الطلب فأكون في الخلف, وأتذكر العدو من الأمام فأكون في الأمام وعن يمينك وعن يسارك, ثم قال: إن أنا مت فلا أعدو نفسي, وأما إذا قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الرسالة لن تبلغ للناس. إذاً: فالبركة كل البركة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رسالته, وفي كلامه, وفي أفعاله, بل وفي نومه وفي استيقاظه صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي, فالصحابة رضوان الله عليهم, تبركوا بكل شيء يمس النبي صلى الله عليه وسلم: بذاته, وأفعاله, وأقواله, كما ورد في الصحيح في صلح الحديبية: (ما تنخم رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة فوقعت في يد أحدهم إلا دلك بها وجهه وجسده؛ تبركاً بأثر النبي صلى الله عليه وسلم, وما توضأ النبي صلى الله عليه وسلم وضوءاً إلا تزاحموا عليه؛ تبركاً بفضل وضوء النبي صلى الله عليه وسلم). وفي صحيح مسلم: (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أم سليم فنام عندها فعرق, فأخذت الوسادة التي نام عليها النبي صلى الله عليه وسلم فعصرتها, ففزع النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ما تفعلين؟ قالت: أتبرك بعرقك يا رسول) فأقرها على ذلك. والقول الراجح في تفسير هذا الحديث ما ذكره النووي من أن أم سليم كانت من المحارم للنبي صلى الله عليه وسلم من الرضاع، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يدخل عليها، فلما نام وعرق أخذت عرق النبي صلى الله عليه وسلم تتبرك به, فالنبي صلى الله عليه وسلم مدحها لذلك, وأخذ أنس ابنها منها من هذا العرق وكان يتبرك به, وجعل منه حنوطاً له عند موته, وأعطى أنس ثابت البناني من هذا العرق، فأخذ هذا العرق وجعله حنوطاً له, وأخذ أيوب من ثابت من هذا العرق؛ ليتبرك به. وأيضاً من الأدلة على التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وسلم: أن النساء كن يأتين بالأطفال إلى الرسول صلى الله عليه وسلم, فيأخذ التمرة ويمضغها ويضعها في فم الطفل ويحنكه، ويدعو له بالبركة, وكل ذلك تبركاً بآثار النبي صلى الله عليه وسلم. فإذا وجدنا أثراً من آثار النبي صلى الله عليه وسلم فإن لنا أن نتبرك به، وتحل علينا البركة بوجوده، ولذلك كان أحمد بن حنبل يحتفظ بشعرة من شعرات النبي صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي، وكان يضعها عند عينه. إذاً: فقد كان الصحابة يتبركون بذات النبي صلى الله عليه وسلم، وبأثر النبي صلى الله عليه وسلم, وبدعاء النبي صلى الله عليه وسلم, وبعرق النبي صلى الله عليه وسلم, وكانوا يتبركون بثياب النبي صلى الله عليه وسلم, فقد جاء في الحديث: (أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ببردة منسوجة، فقالت: نسجتها بيدي لأكسوكها، فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم محتاجاً إليها، فخرج إلينا وإنها لإزاره، فقال فلان: اكسنيها ما أحسنها! فقال: نعم، فجلس النبي صلى الله عليه وسلم في المجلس ثم رجع فطواها وأرسل بها إليه، فقال له القوم: ما أحسنت، لبسها النبي صلى الله عليه وسلم محتاجاً إليها ثم سألته وعلمت أنه لا يرد سائلاً! فقال: إني والله ما سألته لألبسها، إنما سألته لتكون كفني، قال: فكانت كفنه) فهذا أراد أن يتبرك بتلك البردة. وكذلك قصة ذلك الصحابي الذي طلب القصاص من النبي صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: (القصاص, فرفع عن ثوبه, فاحتضن ذلك الصحابي النبي صلى الله عليه وسلم وقبل بطنه، فقال: ما حملك على ذلك؟ قال: يا رسول الله قد استوى الصفان وما أعلم متى سيكون موتي في هذه اللحظة أو في غيرها، فأردت أن يكون آخر عهد لي في هذه الدنيا أن أمس بطنك)، فما أفقه هذا الصحابي رضي الله عنه وأرضاه! وأيضاً من الأدلة على التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وسلم: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى أبا هريرة تمرات في وعاء أو جراب، وقال: يا أبا هريرة كل من هذه التمرات، لكن لا تحصها -يعني: لا تعدها- وكان الجراب معه في وسطه, فيقول: أبو هريرة ما جعت مرة إلا وأخذت الجراب فوضعت يدي فأخذت التمر وأكلت) يعني: بقي معه مليئاً بالتمر من أيام النبي صلى الله عليه وسلم إلى خلافة عثمان، وما انتهى في خلافة عثمان، لكن ضاع منه ذلك الجراب، ولو بقي معه إلى ما أحياه الله جل في علاه لم ينفد. وهذه عائشة رضي الله عنها تقول: كان عندي شعير وكنت آخذ منه للأكل مرة بعد مرة ولم ينفد، تقول: فقلت إن هذا الشعير لا ينتهي! لأكيلن هذا الشعير، فلما كالت الشعير وأحصت هذا الشعير أحصي عليها, ونفد. فهذه الأدلة كلها تدل على التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وسلم, وبأفعال النبي صلى الله عليه وسلم.

حكم التبرك بغير النبي صلى الله عليه وسلم

حكم التبرك بغير النبي صلى الله عليه وسلم مسألة: هل يتعدى الأمر إلى غيره من الصالحين أم لا؟ هذه المسألة بإنصاف خلاف بين أهل السنة والجماعة, وهذا يعني: أنه لا يجوز النكير على من قال بالتبرك بغير النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لا بد أن نبين أن هذا ليس بصحيح, وهو مرجوح؛ لأن التبرك بغير النبي صلى الله عليه وسلم ذريعة إلى الشرك, ولا بد أن نمنعه منعاً باتاً, لكن مازلت أقول: لا إنكار في هذه المسألة.

صور التبرك بالصالحين

صور التبرك بالصالحين

التبرك بأفعالهم ودعائهم

التبرك بأفعالهم ودعائهم إن التبرك بالصالحين على صورتين: الصورة الأولى: التبرك بأفعالهم ودعائهم, وهذا جائز باتفاق أهل السنة والجماعة، فيجوز للمرء أن يتبرك بأفعال الصالحين ودعائهم, فإذا رأيت ولياً صالحاًَ عابداً تقياً ورعاً زاهداً فإن لك أن تتبرك بأفعاله وبدعائه وبعلمه. وتتبرك بأفعاله فتأتي به في بيتك وتجلس معه مجلساً فيه علم وتذكير بالله جل في علاه، وبرسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا مجلس فيه بركة, ومن بركة الصالح أنه دائماً يذكرك بالله, ويسمع أذنك بالآيات والأحاديث, ويحرك قلبك بالإيمان بالله جل في علاه, فهذا تبرك بأفعاله. وأيضاً تتبرك بدعائه، والدليل على ذلك حديث عكاشة بن محصن رضي الله عنه وأرضاه, أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يدخل من أمتي الجنة سبعون ألفاً بغير حساب ولا عذاب، فقال عكاشة بن محصن: يا رسول الله! ادعو الله أن أكون منهم, قال: أنت منهم) فهذا يدل على أن للمرء أن يتبرك بدعاء الصالحين، وهناك حديث ظاهر جلي على ذلك وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن أويس القرني أفضل التابعين، وأمر من يلقاه أن يطلب منه أن يستغفر له, فجاء عمر بن الخطاب وقال: أنت أويس القرني؟ قال: نعم. قال: من مراد؟ قال: نعم، قال وكان بك برص ثم شفيت منه إلا موضع الدرهم؟ قال: نعم. قال: استغفر لي، فعجب أويس كيف أستغفر لأمير المؤمنين؟! قال عمر: سمعت رسول لله صلى الله عليه وسلم يقول كذا وكذا. فهذه بركة بدعاء الصالحين.

التبرك بذوات الصالحين وآثارهم

التبرك بذوات الصالحين وآثارهم أما التبرك بذات الصالح نفسه فهناك خلاف بين أهل السنة والجماعة في جوازه, فقال بجوازه النووي وابن حجر وهما من هما في حفظ ونصر السنة، وهذا القول منهما خطأ يغتفر في بحر حسناتهما, ويرجح ذلك الشوكاني وهو من المتأخرين, والقاضي عياض.

أدلة المجيزين التبرك بآثار الصالحين

أدلة المجيزين التبرك بآثار الصالحين إن الذين قالوا بالتبرك بآثار الصالحين استدلوا على ذلك بأدلة من الأثر ومن النظر: فأما من الأثر: فاستدلوا بقول الله تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ} [البقرة:248]، قالوا: أي أنهم يتبركون بآثار موسى وهارون. وأما دليلهم من النظر فقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحمل الطفل إليه فيحنكه ويدعو له بالبركة, وهذه دلالة على أن الصالح الذي ارتقى مرتقى النبي صلى الله عليه وسلم وتوظف بوظيفته من تبليغ العلم أنه ينزل منزلة النبي صلى الله عليه وسلم. واستدلوا أيضاً بحديث عتبان بن مالك: (أنه طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي عنده في مكان يتخذه مسجداً) تبركاً بأثر فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم من خيار الصحابة الذين ثبتت الأدلة على فضلهم وورعهم, فهذا تبرك بأثر النبي وأثر الصالحين من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم, فيستدلون بذلك على أنه يمكن التبرك بآثار الصالحين.

أجوبة المانعين من التبرك بآثار الصالحين على أدلة لمجيزين

أجوبة المانعين من التبرك بآثار الصالحين على أدلة لمجيزين أما الذين قالوا: لا يجوز التبرك بأي صالح, فقالوا: إن كل الأدلة التي فيها التبرك كلها خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما استدلالكم بقوله تعالى: ((إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ)) فهذا في أثر موسى وهارون, ونحن نتفق معكم على أن التبرك بآثار الأنبياء صحيح. وأيضاً نقول لهم: لو كان التبرك هذا خيراً لسبقونا إليه, فإن أبا بكر , وعمر، وعثمان وعلياً بالاتفاق هم أفضل الأمة على الإطلاق بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم, فلم يأت أحد من الأمة ليتبرك بوضوء أبي بكر، ولا وضوء عمر، ولا وضوء عثمان، ولا وضوء علي لا من الصحابة ولا من التابعين، ولو أن هذا انتشر بينهم على أنه سنة لفعلوا ذلك, فلما لما يفعلوا ذلك مع وجود المقتضي وانتفاء المانع, دل ذلك على أنه لم يشرع! فهذا الضابط من أقوى الضوابط التي تمنعكم من البدع.

الراجح من الأقوال في مسألة التبرك بآثار الصالحين، وأدلة ذلك

الراجح من الأقوال في مسألة التبرك بآثار الصالحين، وأدلة ذلك القول الراجح والصحيح من هذه الأقوال هو القول الثاني وهو: أنه لا يشرع التبرك بآثار الصالحين، لكن قد يعترض علينا بأن أبا بكر ورد في فضله وبركته أن أسيد بن حضير عندما نزلت آية التيمم قال: (ليس هذا بأول بركتكم يا آل أبي بكر) الراجح -كما ذكرت- هو القول الثاني: وهو أنه لا يجوز التبرك بآثار الصالحين؛ لأمور عدة أهمها وأقواها: سدّ الذريعة؛ لأننا لو أبحنا التبرك بآثار الصالحين فسيحدث الغلو في الصالحين, والغلو في الصالحين يرتقي بالمرء إلى أن يشرك بالله جل في علاه، والغلو في الصالحين مشاهد، فمنهم من يقدم الولي على النبي, ومنهم من يقول: إن الولي يتحكم في الكون, ومنهم من يقول: إن الله أعطى للولي قوة لم يعطها لأحد؛ لا ملك مقرب ولا نبي مرسل, بل إن الولي يرتقي مرتقى صعباً، كيف ذلك؟ يقولون: إن الولي عندما يصفو قلبه ويصل لدرجة اليقين فليفعل ما شاء من شرب الخمر والدخان والزنا؛ لأن القلم قد رفع عنه, فإذا بلغ درجة اليقين سقطت عنه التكاليف, ويستدلون بقول الله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99]. فالغلو ذريعة أيضاً للاعتقاد في الأموات وسؤالهم من دون الله جل في علاه, فهذا أقوى الأدلة على المنع من التبرك بغير النبي صلى الله عليه وسلم. والدليل الثاني: أن أصحاب رسول صلى الله عليه وسلم لم يفعلوا ذلك, فلم يفعله أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي ولا ابن عمر ولا ابن عباس ولا أفاضل الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم, ولما لم يفعلوه دل ذلك على أحد أمرين: الأمر الأول: أنهم علموه وتقاعسوا عن الخير, وحاشاهم فهم أسبق الناس للخير, وأحرص الناس على الخير. الأمر الثاني: أنهم لم يعلموه، أو أنهم علموا أنه ممنوع, فإن قلنا: لم يعلموه فهذا بعيد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم علمهم كل شيء, إذاًَ فيبقى أنهم علموا أنه ممنوع، فيسعنا ما وسعهم, فنعمل ما عملوا ونكف عما كفوا, ولا خير في ابتداع من خلف، والخير كل الخير في اتباع من سلف. إذاً: فالراجح الصحيح سداً للذريعة أن نقول: بأن التبرك بآثار الصالحين مرجوح ولا يصح أن يباح لأحد غير النبي صلى الله عليه وسلم. والتحنيك تبرك بالنبي صلى الله عليه وسلم، قال النووي: وهذا دليل على أنه يتبرك بالصالحين في تحنيك الطفل, يعني: يجوز أن يذهب الشخص بطفله إلى الصالحين والأولياء والأبرار ليحنكوه. فنقول: لا يجوز التبرك بآثار الصالحين؛ لأنه إن كان سنة ولم يفعله أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي ولا ابن عباس ولا ابن عمر ولا الزبير ولا عبد الله بن الزبير ولا الأفاضل الأخيار من الصحابة, فإما أن تتهم الصحابة بالتقاعس عن السنة, وإما أن تقول: هم لم يفعلوه إذاً فليس بسنة. فإن قالوا: عدم النقل ليس نقلاً للعدم، فنقول: إن كان التحنيك تبركاً فهو خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن التبرك لا يتعدى إلى غيره, وإن كان من أجل الطب فهو جائز، وهذا هو الذي رجحه ابن القيم، وهو أن الحلو إذا دخل في المعدة ففيه فوائد جمة للقلب وللمعدة ولغيرهما من الأجهزة, ويمكن لنا أن نخرج قولاً آخر وهو أن التحنيك نفسه سنة فعلية, لكن التبرك خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم. إذاً: لا تبرك بآثار الصالحين, والتحنيك سنة, والتبرك خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، فمن فعل ذلك على أنه سنة وطب فله ذلك, ومن فعله معتقداً البركة في الأولياء والصالحين فلا يجوز له ذلك؛ لأن الراجح أن التبرك بآثار الصالحين لا يصح بحال من الأحوال.

الاستسقاء بالنجوم

مسائل خالف فيها رسول الله أهل الجاهلية - الاستسقاء بالنجوم من العقائد المنتشرة عند أهل الجاهلية قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم: اعتقادهم بالنجوم واستسقاؤهم بها، فيقولون: مطرنا بنوء كذا. فمن اعتقد أن النجم هو الذي ينزل المطر فقد كفر؛ لأنه أنزل المخلوق منزلة الخالق. وأما من اعتقد أن الله هو الذي ينزل المطر وإنما طلب من هذا النجم إنزال المطر؛ فقد أشرك شركاً أكبر؛ لأنه سأل غير الله. ومن اعتقد أن النجم سبب في نزول المطر، فقد أشرك شركاً أصغر؛ لأنه اتخذ سبباً لم يشرعه الله. ومن قال: مطرنا بنوء كذا، بمعنى: مطرنا في وقت طلوع النجم كذا، فهذا القول مكروه.

أهمية الحب في الله

أهمية الحب في الله إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله, وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم, وشر الأمور محدثاتها, وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة, وكل ضلالة في النار, زادنا الله وإياكم حرصاً على الطلب وعلى مجالس الطلب. أقول: إننا نحبكم في الله, ونستبشر بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (المرء مع من أحب) وقوله: (يحشر المرء مع من أحب). قال أنس رضي الله عنه وأرضاه: والله ما فرحنا بحديث مثلما فرحنا بهذا الحديث, إني أحب أبا بكر وعمر وأرجو أن أكون معهم. والأمر بالعكس أيضاً، فإن المرء إن أحب أهل الكفر أو شابههم فهو معهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من تشبه بقوم فهو منهم). وقد جعل الله صراطاً بينهم وبين أهل الإسلام في التعامل، فإذا رأيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه، ولا تبدءوهم بالسلام، ولا تهنئوهم بعبادة كفرية يتعبدون بها، لاسيما إذا كانت في الأوقات التي يزعمون فيها أن ابن الرب قد قام -حاشا لله ونعوذ بالله من غضب الله- فيقولون مثلا: هذا عيد القيام أو غيره، فهم يعتقدون أن عيسى صلب ودفن يوم الأحد، على الخلاف بينهم كما قال شيخ الإسلام: لو جلسوا تسعة لخرجوا بعشرة مذاهب, يعني: لو جلسوا تسعة يتكلمون ويتحاورون في المسألة حتى يجتمعون على كلمة فإنهم سيخرجون بعشرة مذاهب. فهل يصح في الأذهان أن عبداً يعبد الله جل في علاه يرتضي بأحد يعبد غير الله جل في علاه, أو ينسب لله ولداً؟! فعليكم بالالتزام بالسنة.

عقيدة الاستسقاء بالنجوم

عقيدة الاستسقاء بالنجوم

اعتقاد أهل الجاهلية في النجوم

اعتقاد أهل الجاهلية في النجوم لقد اعتقد أهل الجاهلية اعتقادات باطلة ذمها الله جل في علاه في كتابه, وذمها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سنته, وحذر أمته منها, وقد فشت في هذه العصور, فلزاما علينا أن ننبه عليها ألا وهي: الاستسقاء بالأنواء, أو الاستسقاء بالنجوم, أو الاعتقاد في النجوم. وقد كان أهل الجاهلية أهل فلك، فيرون أن للقمر ثمان وعشرين منزلة، وأن النجم إذا سقط من المغرب وطلع من المشرق فلا بد حتماً أن تهب الريح وأن ينزل المطر, ثم ينسبون ذلك إما للساقط أو للطالع, فيقولون: مطرنا بنوء كذا، والنوء: هو منزلة من منازل القمر, ومعنى مطرنا بنوء كذا أي: أسقانا النجم هذا المطر, فهذا نكران وجحود لنعم الله جل في علاه, وجحود لربوبيته. وما أشبه اليوم بالبارحة: فأهل الكفر من أهل الكتاب يجحدون توحيد الله جل في علاه، وينسبون له الولد، ويتعبدون لله ويتقربون له بهذا, وأهل الجاهلية كفروا بنعم الله جل في علاه وجحدوا بها، ونسبوها لغيره جل في علاه، وجعلوا معه شركاء، بل جعلوا معه من الجمادات من يتصرف في الكون أشد من تصرف الله جل في علاه, فاعتقدوا أن النجم ينزل عليهم المطر، والغالب فيهم أنهم ينسبون المطر إلى النجم على التسبب لا على الخلق والإيجاد، وإنما على الطلب، فجاء الشرع بإبطال هذه العقيدة الخربة , لاسيما وأنهم جحدوا نعم الله؛ قال الله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل:14]، وقال الله تعالى: {أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [النحل:71]، وقال أيضاً: {أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} [النحل:72]. وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن أهل الجاهلية كانوا يعتقدون في الأنواء، وذم ذلك فقال: (أربع في أمتي لا يتركن الفخر بالأحساب, والطعن في الأنساب, والنياحة على الميت, والاستسقاء بالأنواء)، وفي رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تدعها الأمة إلى يوم القيام).

حكم من نسب نزول المطر إلى الظواهر الطبيعية

حكم من نسب نزول المطر إلى الظواهر الطبيعية إن هذه الأمور التي كانت في أهل الجاهلية قد انتفشت ونضحت علينا في هذا العصر، فإن كثيراً من الجاهلين الذين ينتسبون إلى أهل الإسلام يعتقدون هذا الاعتقاد الخرب في أن الكون له محركات غير الله جل في علاه, أو يعتقدون سبباً لم يسببه الله جل في علاه فيقولون مثلاً: غداً ستهطل الأمطار بسبب المنخفضات الجوية، أو الظواهر الطبيعية، أو هبوب الرياح الشمالية, فينسبون المطر إلى غير الله جل في علاه، ولذلك فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم ذمهم، وبين أن هذه الأفعال من اعتقادات الجاهلية، وعلى المرء أن ينأى بنفسه عن هذا الاعتقاد ولو بالقول، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاث خلال في أمتي من الجاهلية: منها: الاستسقاء بالنجو) , وبعض الآثار صحت أنه قال: (أخاف على أمتي ثلاث: التكذيب بالقدر, وحيف الأئمة, والاستسقاء بالنجوم) , وقال: (أربعة من الجاهلية، وذكر منها: الاستسقاء بالنجوم).

حكم من قال مطرنا بنوء كذا

حكم من قال مطرنا بنوء كذا وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم ذم هذا المعتقد وهذا الفعل الباطل، فإنَّ حكمه ينبثق من حديث النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية عندما صلى بهم على إثر مطر، ثم قال لأصحابه: (أتدرون ماذا قال الله البارحة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم -تأدباً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم- قال: قال الله تعالى: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فمن قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذاك مؤمن بي كافر بالكوكب، ومن قال: مطرنا بنوء كذا وكذا فذاك كافر بي مؤمن بالكوكب)، والقاعدة عند العلماء: إذا ذكر الشرك أو الكفر نكرة، فيراد به الشرك الأصغر أو الكفر الأصغر ما لم تدل قرينة على أنه الأكبر أو الأصغر.

أقسام الناس في قولهم مطرنا بنوء كذا

أقسام الناس في قولهم مطرنا بنوء كذا فالذين يعتقدون أو يتكلمون بالمنخفضات الجوية والشمالية والرياح الغربية والظواهر الطبيعية، ينقسمون في ذلك على أربعة أقسام: القسم الأول: يعتقدون بأن المطر ينزل من قبل النجم، سواء كان النجم هو الذي يغيثهم بهذا المطر، أو أنه يشارك الله في إنزال المطر. القسم الثاني: لا يعتقدون هذا الاعتقاد لكنهم يقولون: يا نجمنا أغثنا، فيسألون النجم أن ينزل عليهم المطر مع اعتقادهم بأن الله هو الذي ينزل المطر. القسم الثالث: يعتقدون أن الله هو الرزاق ذو القوة المتين، وأن المطر بيد الله جل في علاه, وأن النجم لا يستطيع أن يفعل ذلك, لكن النجم سبب لنزول المطر، فإذا غرب هذا النجم من المغرب وطلع الثاني من المشرق نزل المطر، فاعتقدوا أن نزول المطر يكون بسقوط النجم أو طلوعه. القسم الرابع: الذين يقولون: النجم ليس سبباً، ولا يستطيع أن ينزل المطر ولا نسأله ذلك، لكننا نقول: مطرنا بنوء كذا، أي: أنزل الله المطر في وقت طلوع هذا النجم، أو في وقت سقوطه.

حكم من اعتقد بأن النجم ينزل المطر أو يشارك الله في ذلك

حكم من اعتقد بأن النجم ينزل المطر أو يشارك الله في ذلك إن الذين يعتقدون هذه الاعتقادات الأربعة حكمهم في الشرع كما يلي: أولاً: الذين اعتقدوا بأن النجم ينزل المطر، أو أن النجم يشارك الله جل في علاه في إنزال المطر، فهذا بالإجماع كفر يخرج من الملة، والقاعدة عند العلماء أنَّ من اعتقد في غير الله مالا يعتقد إلا في الله فقد كفر؛ لأنه أنزل المخلوق منزلة الخالق. وكثير من الناس يعتقدون أن الرزق في يد فلان ويد علان, وقلوبهم لا تميل إلى الله لحظة, بل تميل إلى المدير أو الوزير أو الغفير أو الملك الذي يعطيهم ويمنعهم، فهذا واقع نعيشه.

الأدلة على أن الأمطار والأرزاق بيد الله تعالى

الأدلة على أنَّ الأمطار والأرزاق بيد الله تعالى إن الأدلة على أن الأمطار والأرزاق بيد الله تعالى كثيرة، منها: قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:58]. و (هو) ضمير الشأن، وفائدته أنه يفصل بين المبتدأ والخبر، لأنك لو قلت: إن الله الرزاق, فالرزاق صفة لله جل في علاه. وتعريف المبتدأ والخبر من أساليب الحصر، ووجه الدلالة: أن الرزق كله بيد الله جل في علاه لا بيد نجم، ولا ملك مقرب، ولا نبي مرسل. وقوله تعالى: {أَأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ} [الواقعة:69]، وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [الأعراف:57]، وقوله تعالى: {فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} [الحجر:22]. فكل هذه أدلة تدل على أن الله جل وعلا هو الذي يرزق، فمن قال بأن غير الله هو الذي ينزل المطر فقد أشرك مع الله غيره في الربوبية، وهذا الشرك من أقبح المواطن التي يشرك فيها العبد, فإن إنزال المطر من لوازم الربوبية، فإنَّ الرب هوالمتصرف.

حكم من طلب من النجم إنزال المطر

حكم من طلب من النجم إنزال المطر القسم الثاني: من طلب من النجم إنزال المطر لكنه لم يعتقد أن النجم هو الذي أنزل المطر, وإنما يعتقد أن الله هو الذي ينزل المطر، والله جل وعلا بين أن هذا اعتقاد الجاهلية، فقال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [العنكبوت:63]. فمن اعتقد أن الله هو الذي ينزل المطر، ولكنه سأل النجم فقد أشرك شركاً أكبر، لأنه سأل غير الله. والقاعدة عند العلماء: أنه إذا أثبت الشرع عبادة فصرفها لله توحيد ولغير الله شرك, فمن سأل غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله فقد أشرك. فالسؤال عبادة، والدليل على ذلك قول الله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} [غافر:60]، فالدعاء عبادة. وقال الله تعالى: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا * فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [مريم:48 - 49] فدعاؤهم لغير الله جل في علاه هو العبادة، وكل عبادة ثبتت في الشرع فصرفها لله توحيد؛ لأنه المستحق لها, وصرفها لغير الله شرك. والسؤال لابد أن نصرفه لله جل في علاه, ويستثنى من ذلك أن تسأل من يقدر على أن يجيبك على السؤال. وأما إذا سألت البدوي مثلًا أن يشفع لك عند ربك، فهو لا يستطيع على ذلك، وكذلك عبد القادر الجيلاني. وكذلك أن تسأل النبي صلى الله عليه وسلم فتذهب إلى قبره وتقول: يا رسول الله! اشفع لي عند ربك جل في علاه, فإن الله قد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم الشفاعة العظمى يوم القيامة، فيسأل النبي صلى الله عليه وسلم فيما يقدر عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سيذهب إلى ربه بعدما تأتيه الخلائق أجمعون, فيقولون: اشفع لنا عند ربك, فهو يقدر على ذلك، والقاعدة تنص على جواز أن تسأل غير الله فيما يقدر عليه، فكونك تسأل النبي صلى الله عليه وسلم الشفاعة وهو في قبره فهذا السؤال خطأ؛ لأن القاعدة في مسألة الاستعانة أو الاستغاثة: أنَّ كل أمر أباح الله لنا فعله، وكان جنسه عبادة فلا بد أن يضبط بثلاثة ضوابط: [حاء - حاء - قاف] أي: [حي, حاضر, قادر]، والنبي صلى الله عليه وسلم ليس بحي ولا بحاضر. وإن كان يشكل علينا القول بأنه حي في قبره, وما من أحد يقول: السلام عليك يا رسول الله! إلا رد الله عليه روحه ليرد السلام، إذاً: فالنبي صلى الله عليه وسلم حي على الديمومة في قبره. إذاً فالمقصود: أنه يصح ويحل سؤال غير الله في ما يقدر عليه البشر, كقول الله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43] أي: اسألوا العالم عن العلم أو الفتوى، وكذلك سؤال الغني أن يعطيك مالاً إن كنت فقيراً, فقد أباح لك النبي صلى الله عليه وسلم ذلك, كما قال: (لا تحل الصدقة لغني، ولا لقوي مكتسب) وغيرهما يحل له أن يسأل. فالسؤال فيما يقدر عليه ابن آدم الحي الحاضر القادر يصح وإن كان جنسه عبادة؛ لأن الله جل في علاه أباح ذلك واستثناه من هذه العبادة. إذاً: من اعتقد في غير الله ما لا يكون إلا لله فهذا كفر.

حكم من اعتقد أن النجم سبب في نزول المطر

حكم من اعتقد أن النجم سبب في نزول المطر القسم الثالث: الذين قالوا: نعتقد أن الله هو الذي ينزل المطر ولا نسأل النجم أن ينزل المطر, لكن النجم سبب في نزول المطر، فإذا غرب هذا النجم أو طلع هبت الريح، ولا بد أن ينزل المطر. وهذا أيضاً من الشرك الأصغر، وليس من الشرك الأكبر, لأنه اتخذ سبباً لم يشرعه الله، وقد قال الله تعالى {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21]، وقال الله تعالى (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54]، فهذا افتئات على الشرع, وتَقْدِمة بين يدي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فهذا الاعتقاد لا دليل عليه من الكتاب ولا السنة، إذاً: فلا يصح كوناً ولا شرعاً. فالسبب إما شرعي وإما كوني، ولم يأت دليل في الكتاب أو السنة على أن النجم سبب في نزول المطر، فبطل تعلقهم بالسبب الشرعي, وأما السبب الكوني فمثل كون البندول علاجاً للصداع، ولم يرد في الكتاب أو السنة على وجه الخصوص أن البندول علاج للصداع، وإنما ورد على وجه العموم؛ لأن الله جل وعلا قال {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر:62]، فقد جعل الله البندول سبباً في علاج الصداع، وعرفنا ذلك بالتجربة. إذاً فالسبب الكوني هو السبب المجرب, فالأطباء جربوا تركيبة معينة من الدواء، وأعطوها للمريض، فوجدوا أن هذه التركيبة من أنجح ما تكون في الشفاء من هذا المرض. والسبب الشرعي كالرقية الشرعية، فتقرأ على نفسك المعوذات وتنفث, وتقرأ الفاتحة وتأخذ ريقك وتضعه على المكان الذي يؤلمك إن كان المرض معنوياً. وأما الحسي فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ماء زمزم لما شرب له) , وكذلك العسل {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل:69] , وأيضاً حبةُ البركة: {دواء من كل داء) , فكل هذه الأسباب جاء الشرع بإثبات أنها علاج للأدواء. إذاً: فالسبب الكوني كالأدوية التي جربت, فهل جرب الناس أو علماء الفلك وعلموا أنه كلما سقط نجم وطلع آخر أن المطر سينزل؟ A لا, ولا يوجد أحد قال بذلك, فإذا بطل التعلق بالسبب الشرعي وبالسبب الكوني، فقد وقعوا في الشرك الأصغر؛ لأنهم اخترعوا سبباً لم يشرعه الله جل في علاه، والكون كله لله والشرع كله لله والخلق كله بيد الله، فما شرعه الله من الشرع، وما خلقه من الخلق هو الذي ينسب لله جل في علاه. إذاً: القسم الثالث شرك أصغر ووسيلة إلى الشرك الأكبر؛ لأن الإنسان إذا اتخذ وسيلة لم يشرعها الله جل في علاه فحتما ولا بد أنه سيحوم حول الحمى وسيقع في الشرك الأكبر, وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بسد الذرائع ,وحسم المادة التي توصل إلى الشرك الأكبر.

حكم من قال: إن نزول المطر صادف طلوع النجم أو سقوطه

حكم من قال: إن نزول المطر صادف طلوع النجم أو سقوطه القسم الرابع: الذين يقولون: لا نعتقد أن النجم هو الذي ينزل المطر, ولا نسأل النجم لينزل المطر, وليس النجم سبباً في نزول المطر, لكننا نقول: مطرنا بنوء كذا, يعني: مطرنا في وقت كذا. وقد اختلف العلماء في هذا القول: هل يحرم أو لا؟ والصحيح الراجح: أنه ليس فيه حرمة، لكنه على الكراهة, فطالما أن الرجل لم يعتقد في النجم, ولم يسأله، ولم يعتقد أنه سبب من الأسباب, وإنما صادف نزول المطر بسقوط هذا النجم, أو طلوع هذا النجم. فهذا القول على الكراهة؛ لأنه قد شابه أهل الكفر في القول, وإن خالفهم في الاعتقاد والتصديق, فإن الشرع جاء ليفصل بين أهل الإسلام وبين أهل الكفر: في الهيئة, وفي القول, وفي الفعل, بل في النوم والاستيقاظ والجلسة, فقد منع الشرع أن تجلس وترتكز على يدك وهي في الخلف؛ لأنها جلسة أهل النار من أهل الكتاب, ومنعك من أن تضطجع ضجعة أهل النار، وهي النوم على بطنك, ومنعك أن تشابه إبليس في الأكل باليسار, والأخذ باليسار, والإعطاء باليسار, وأن ترتدي نعلاً واحداً دون الثاني, فكل ذلك للتفريق بين مشابهة أهل الإسلام مع أهل الكفر والعياذ بالله. إذاً: فقول أهل الكفر، وقول أهل الجاهلية لا بد أن ننأى بأنفسنا عنه ولا نقول: مطرنا بنوء كذا, ولكن نقول: مطرنا في وقت كذا، يعني: في وقت نزول هذا النجم أو طلوع هذا النجم. فحكم القسم الرابع أنه على الكراهة، أو أنه على الجواز عند بعض العلماء، لكن الصحيح الراجح: أن هذا القول على الكراهة، كما مر سابقاً. فالاعتقادات التي اعتقدها أهل الجاهلية, والتي هي موجودة بيننا, وجاء الشرع بنبذها وإبطالها لا بد للإنسان أن يصحح عقيدته فيها؛ حتى يقف أمام ربه جل في علاه نظيفاً موحداً مخلصاً خالصاً, فينجو من عذاب الله جل في علاه, فإن المرء لا ينجو عند ربه إلا إذا أتى بقلب سليم, وقلبه لن يسلم إلا أن يترك كل شائبة من شوائب الكفر {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82]، فلا بد من التوحيد التام الذي لا يشوبه أدنى شائبة. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

أهمية اتباع السنة

مسائل خالف فيها رسول الله أهل الجاهلية - أهمية اتباع السنة سنة النبي صلى الله عليه وسلم هي الموضحة والشارحة والمبينة لكتاب الله، فقد بعث الله سبحانه نبيه ليبين للناس ما نزل إليهم، ولا يتحقق إيمان العبد إلا بحب الله سبحانه، ولا برهان على حب الله إلا باتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم. فكتاب الله وسنة رسوله هما المرجع عند الاختلاف والتنازع، وقد كان الصحابة الكرام والتابعون من بعدهم وأصحاب المذاهب المشهورة لا يقدمون على قول رسول الله صلى الله عليه وسلم قول أحد.

اتباع النبي دليل محبة الله

اتباع النبي دليل محبة الله إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فإن من الصفات التي كان يتصف بها أهل الجاهلية وجاء الإسلام بإقرار القليل منها وإنكار الكثير منها: أنهم كانوا يزعمون -على ما هم فيه من فساد وشرك وفسق وفجور- أنهم أحب إلى الله من غيرهم، وأن لهم الكرامة عند الله جل في علاه في الدنيا والآخرة، وقد بين الله جل وعلا ذلك جلياً في كتابه، وأنهم ترسموا خطى أهل الكتاب من قبلهم، حيث صرح أهل الكتاب بذلك بقولهم كما ذكر الله تعالى عنهم: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة:18]، فكذبهم الله في هذا الزعم، وقال: {فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} [المائدة:18]. فكثير من أهل الجاهلية كان يزعم أنه قريب من الله جل في علاه، وأن له الكرامة عند الله، كذلك الرجل الذي قال: {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا} [الكهف:36]، وفي الآية الأخرى قال: {إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى} [فصلت:50]، وصور الله سبحانه هذه الجرأة العجيبة فقال: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا} [مريم:77]. ولما زعم أهل الجاهلية أن لهم الكرامة عند الله جل في علاه، وأنهم أقرب إلى الله من غيرهم، أراد الله أن يمتحنهم بعدما أبطل الله هذا الزعم، وبين كذبهم في هذا الزعم، فذكر لهم أن حبه جل في علاه له برهان، وما من أحد يزعم زعماً إلا ولا بد أن يبرهن على هذا الزعم، فامتحنهم الله جل وعلا ومحصهم تمحيصاً شديداً وقال لهم: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31]. هذه الصفة الجاهلية موجودة في عصورنا هذه، فكثير منا يزعم زعماً كاذباً والعملة الزائفة لا تروج على الله جل في علاه، فليس حب النبي صلى الله عليه وسلم أو حب الله عز وجل بإنشاء السرادقات، ولا توزيع المطعومات والمشروبات وغير ذلك من الأفعال التي يفعلها من يزعم أنه يحب الله ويحب رسوله صلى الله عليه وسلم. إذاً: من وجد في نفسه أنه يتصف بهذه الصفة فلا بد أن يسارع إلى الله جل في علاه، ويبتهل إليه حتى يزيل الله عنه هذه الصفة، ومن وجد أن الله حفظه من هذه الصفة السيئة فليحمد الله على ذلك؛ فإن الله امتحن القوم الذين زعموا محبته فقال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ} [آل عمران:31] فبرهان ذلك ((فَاتَّبِعُونِي)) فاتباع النبي صلى الله عليه وسلم علامة على صدق من زعم أنه يحب الله جل في علاه. وليعلم الناس أنه لا أحد يتقدم بين يدي الله وبين يدي رسوله صلى الله عليه وسلم، فالآيات متوافرة ومتضافرة وكلها تبين أن مناط القبول عند الله لا يكون إلا باتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، حيث يقول الله جل في علاه: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80]، فجعل طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم هي طاعة الله، وقد أناط الله فيها الإيمان بمتابعة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65].

الأمور التي يناط بها الإيمان

الأمور التي يناط بها الإيمان لقد أناط الله جل في علاه صدق الإيمان بأمور ثلاثة: الأمر الأول: بتحكيم رسول الله وسنته عند الخلاف، قال الله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ} [النساء:65]، فكل تنازع وشجار وخلاف لا يمكن أن تصل به إلى رضا الله حتى ترده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكل تنازع لا بد فيه من حكمه صلى الله عليه وسلم. الأمر الثاني: عدم الخروج من حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا} [النساء:65] أي: أنك لا تجد في نفسك حرجاً من حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تجد فيه أي غضاضة؛ فإن الكثير من الناس إذا قلت لهم: هذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم تشمئز قلوبهم، ولو قلت: قال مالك، أو قال الشافعي، أو قال أبو حنيفة فإنه يسر لذلك، ولا يسمع منك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع أن هؤلاء الأئمة العظام الأماجد الأكارم قد قدموا رسول الله على أنفسهم، بل وقدموه على الدنيا بأسرها. الأمر الثالث: التسليم لحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]، ولو انتفت الثالثة انتفت الباقيات، فهي محض الإسلام والاستسلام لله جل في علاه، ومحض الانقياد والإذعان لأمره عز وجل.

الأدلة على اتباع النبي والتمسك بسنته

الأدلة على اتباع النبي والتمسك بسنته

أولا: الأدلة من الكتاب

أولاً: الأدلة من الكتاب {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]. وقال الله مادحاً إبراهيم: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة:131]، ما من صاحب علم وحكمه تأتيه المسألة أو يعن له الخلاف ثم يقال له: قال فيها رسول الله كذا. إلا قال: سمعت وأطعت وسلمت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا مناط تمحيص الإيمان في قلب العبد {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]، ولا يجد في نفسه جرجاً، ولا يجد من نفسه إلا الانقياد والاستسلام، هذا هو الذي آمن إيماناً كاملاً بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم. وأيضاً قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36]، فلا اختيار مع أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فإن جاءك الأمر من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فما لك إلا أن تقول: سمعت وأطعت، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا ألفين أحدكم على أريكته شبعان يأتيه الأمر من أمري فيقول: نعرضه على كتاب الله، فإن وجدناه فيه أخذنا به، وإلا لم نأخذ به، ألا وإن ما أحل رسول الله كما أحل الله، وما حرم رسول الله كما حرم الله). وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء:59]، فجعل الحسْن كل الحسْن أن ترد المتنازع فيه لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى:10]، فهذه الآيات المتضافرة تبين أن مناط محبة الله جل في علاه هو اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالتالي فإن كمال الإيمان بل وأصله هو اتباع المرء لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما المتهمين للمتمسكين بالسنن ويسمونهم بالتشدد والتطرف؛ بسبب التزامهم بتقصير الثوب، أو بالمحافظة على السواك، فيقال لهم: هذه هي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا غرو ولا عجب أن يتمسك المسلم بها، وقد أناط الله الإيمان بالتمسك بهذه السنن.

ثانيا: الأدلة من السنة

ثانياً: الأدلة من السنة أما الأحاديث فكثيرة جداً، ويظهر منها جلياً تطبيق الصحابة والتابعين والفقهاء الأربعة وأصحابهم لهذه القضية العظيمة الجليلة، وهي: أن محض الإيمان هو محض الاتباع للنبي صلى الله عليه وسلم، ففي مسند أحمد عن العرباض بن سارية قال: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقلنا: يا رسول الله! كأنها موعظة مودع فأوصنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: عليكم بالسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد حبشي -ثم قال صلى الله عليه وسلم-: فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي)، فكأن سائلاً يسأل: وماذا نفعل يا رسول الله! إذا وجدنا هذا الاختلاف الكثير، فقال صلى الله عليه وسلم: (فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور)، إلى آخر الحديث. والشاهد قوله صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور). وعن النبي صلى الله عليه وسلم كما عند ابن أبي عاصم والمستدرك للحاكم بسند صحيح: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي: كتاب الله وسنتي)، والسنة هي من كتاب الله جل في علاه، وكثير من السلف كانوا يقولون: السنة قاضية على كتاب الله. قال الله تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب:34]، قال الشافعي: آيات الله الكتاب، وأما الحكمة فهي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]، قوله: (وما آتاكم الرسول) أي: من كتاب أو سنة، فهما وحيان من الله، فالكتاب لفظه من الله جل في علاه، والسنة معناها من الله ولفظها من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل أمتي يدخل الجنة إلا من أبى، قالوا: يا رسول الله! ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى)، فكيف يصبو امرؤ إلى سب وانتقاص من يتمسك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ويهون من شأنها، ويقول: الدين قشر ولباب؟ إن ذلك تجاسُر وجرءة على سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولن ينجو العبد عند ربه إلا باتباع النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أغلق الله كل باب إلا باب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فمن رغب عن سنتي فليس مني)، وهذا الحديث أشد ما يكون زجراً لهؤلاء، ففي يوم القيامة يرد الناس على حوض النبي صلى الله عليه وسلم، فمنهم من يذاد عن حوضه؛ لأنهم ليسوا من أمته، ثم يرد عليه أناس يعرفهم الرسول الله صلى الله عليه وسلم ليشربوا من حوضه، لكنهم يذادون أيضاً من بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم: فيقول: (أصحابي أصحابي، فيقال له: يا محمد! إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك)، أي: لم يأخذوا بسنتك، ولم يقتفوا أثرك، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم زيادة في النكاية بهم: (سحقاً سحقاً بعداً بعداً لمن بدل بعدي)، نعوذ بالله أن نكون من هؤلاء. ففي يوم القيامة يكون الكرب شديداً، فالشمس تقترب فيه مقدار ميل من الرءوس، ويحتاج المرء فيه إلى شربة ماء تروي ظمأه، وعندما يأخذ الإناء ليشرب يقال له: (سحقاً سحقاً بعداً بعداً لمن بدل بعدي).

ثالثا: الأدلة من الآثار السلفية

ثالثاً: الأدلة من الآثار السلفية أما الآثار الدالة على اتباع السنة فكثيرة جداً، فعن عمر بن عبد العزيز أنه بعث إليه رجل فقال: اعلم أخي المسلم أن النجاة في السنة، والتزم السنة تعصم. أي: أن العصمة بالتزام السنة. وكان سفيان الثوري يبعث ويقول: أعزوا أهل السنة فإنهم غرباء. ويقول البخاري: رحمة بأهل السنة فإنهم إلى قل، أي: هم قليل. وأبو بكر بن عياش رحمه الله ورضي الله عنه وأرضاه كان يقول: غربة أهل السنة في أهل الإسلام كغربة أهل الإسلام بين الأديان. وقال ابن القيم: ليست الغربة التي يجدها المرء المسلم بين أهل الأديان، لكن الغربة كل الغربة التي يجدها الذي يتمسك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم بين أهل الإسلام. ولقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يتمسكون بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ويعضون عليها بالنواجذ، وما أتتهم الرفعة والعزة إلا بتطبيقهم لهذه الآية العظيمة، والبرهنة الواضحة الجلية على حب الله جل في علاه {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31]. قال الحسن البصري زعم أناس محبة الله فامتحنهم الله باتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم. لقد كان أبو بكر رضي الله عنه الله أعظم الناس قدراً، وأرفع الناس شرفاً، وأحسنهم مكانة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما اعتلى عرش هذه المكانة إلا بشدة تحريه لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فعندما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما قال أبو هريرة -؛ وارتد من العرب من ارتد، جهز أبو بكر جيشاً وأمر عليه أسامة، وكان هذا الجيش قد أعده النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يوصي به قبل أن يموت، فكانت وصية النبي صلى الله عليه وسلم بين عيني أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، وقد ظهرت الردة في كل مكان ولا يمكن أن ينفذ هذا الجيش؛ لأن هؤلاء المرتدين قد يدخلون المدينة فيقتلون الخيار من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام مجلس الشورى يعارضون أبا بكر وأولهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، ويقول: كيف تنقذ هذا الجيش وأنت تعلم أن العرب قد ارتدت ورمت الإسلام عن قوس واحدة؟ فقال أبو بكر مبيناً أن التمسك بأمور النبي صلى الله عليه وسلم وبوصاياه فيها العزة، فقال: والله لأنفذن جيش أسامة، ولأفعلن ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما وجد عمر ذلك التصميم من أبي بكر عرف أن الحق مع أبي بكر، ثم عارضه مرة أخرى فقال: كيف تؤمر أسامة على جيش وفيه الأشياخ من المهاجرين والأنصار؟ وكان وأسامة لم يبلغ العشرين من العمر، فقال عمر: أمر غيره. فقال: لا والله لا أنزع أميراً أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم. فالشاهد من هذا: معرفة شدة تحري أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه وتتبعه لخطى النبي صلى الله عليه وسلم، فذلك هو الذي كتب له الفوز من هذه المخاطرات، ومن هذه الضوائق والبليات التي نزلت عليهم، فلما نفذ وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم أُرعبت الأمم التي ارتدت ورجعت إلى جحورها ولم تهاجم المدينة، وقال رضي الله عنه كلمته المشهورة: والذي نفسي بيده! لو جرت الكلاب بأرجل أمهات المؤمنين لأنفذن جيش أسامة. أي: لن أرد وصية الرسول الله صلى الله عليه وسلم التي أوصى بها. وقد ظهر تمسك أبي بكر بسنة النبي صلى الله عليه وسلم على الصحابة بأسرهم، ففي صلح الحديبية عندما لم يطق عمر بن الخطاب بنداً من بنود هذا الصلح، وهو: لا بد من رد أهل الإسلام إلى الكفار، وإذا كفر منهم أحد لا يردوه إليهم، والنبي صلى الله عليه وسلم يذعن لهذه الشروط، لكن أبا بكر كان موفقاً مسدداً من قبل الله جل في علاه، فقد كان يقتفي أثر النبي صلى الله عليه وسلم ويتحرى سنته، فجاء عمر بن الخطاب يستنفر أبا بكر لعله يقنع رسول الله، فيقول: يا أبا بكر! ألسنا على الحق؟ أليسوا على الباطل؟ فقال: بلى، قال: ولم نعط الدنية في ديننا؟ أي: اذهب واستنفر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له أبو بكر كلمات تحفر على الصدور بماء الذهب، ويظهر منها شدة تحري وتمسك أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، قال: هو رسول الله فالزم غرزه، يعني: تمسك بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن جاءك الأمر ولم تستطع فهمه فلا بد أن تقبله، وإن لم تستطع تطبيقه فقل قبلته، ولعل الله جل وعلا يقويني على تطبيقه، لكن لا ترد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنا نخشى عليك الفتنة، قال الله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63]. والفتنة تستلزم الشرك أو الكفر أو النفاق أو البدعة أو العذاب أليم. فقال: هو رسول الله، يعني: أنصحك نصيحة يا عمر! عليك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم فعض عليها بالنواجذ، قال: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ولن يضيعه الله، فكانت الغلبة والقوة والعظمة مع تحري أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه في تمسكه بسنة النبي صلى الله عليه وسلم. كما ظهر تمسكه ذلك في المسائل الخلافية الفروعية والأصولية، كما يقول أهل التفريق بين الأصول والفروع، مع أن الدين كله متكامل لا فرق بين أصل وفرع، فقد جاءت الجدة إلى أبي بكر تسأل ميراثها بعدما مات عنها حفيدها، تقول: مات عني ابني فمالي من الميراث؟ قال: لا أعلم في كتاب الله لك من ميراث، ثم عقد جلسة لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألهم: هل جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لها قسطاً أم لا؟ فقال محمد بن مسلمة والمغيرة بن شعبة: (جعل النبي صلى الله عليه وسلم لها السدس)، فأمضى لها السدس تمسكاً بسنة النبي صلى الله عليه وسلم. يا للروعة! ويا لعظم هؤلاء الأخيار الأماجد! فحق لنا أن نفتخر بهؤلاء؛ لأنهم ما ارتفعوا وما ارتقوا إلا بتمسكهم بسنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ برهنة على حب الله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31]. وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه وهو الوزير الثاني لرسول الله صلى الله عليه وسلم يضرب لنا أروع الأمثلة في تمسكه بالسنة، وأنه لا يقدم قول أحد على قول رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقد كان الأشياخ من المهاجرين والأنصار يجلسون في مجلس التحديث والمذاكرة، فذكروا مسألة وهي: إذا جامع الرجل امرأته ولم ينزل فماذا عليه؟ فاختلف الصحابة على قولين، القول الأول: إذا لم ينزل فلا غسل عليه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الماء من الماء)، أي: إنما الغسل من إنزال المني. والقول الثاني: عليه الغسل، والدليل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل)، أي: إذا داعب الرجل امرأته فلامس ذكره فرجها ومس ختانه ختانها فقد وجب عليهما غسل الجنابة، وهذا ما ذهب إليه عثمان رضي الله عنه وجمهور الصحابة. فلما نظر عمر قال: لا بد من رد المسألة إلى رسول الله عملاً بقول الله تعالى: ((فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ)) [النساء:59]، فبعث إلى عائشة رضي الله عنها وأرضاها وأخبرها بهذه المسألة، فقالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك ويغتسل)، ثم ذكرت حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل). وحديث: (إنما الماء من الماء) كما قال ابن عباس: ليس منسوخاً، ولكنه في الاحتلام، أي: أن الرجل إذا رأى في منامه أنه يجامع امرأة وأحس بشهوة ثم قام فلم يجد بللاً فليس عليه غسل، وقد صرح بذلك النبي صلى الله عليه وسلم كما في سنن أبي داود: (أن الرجل إذا استيقظ فوجد في ثيابه بللاً كان من احتلام فعليه الغسل، وإن لم يجد البلل فليس عليه غسل). والمقصود أن عمر بن الخطاب رد التنازع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ليبين لنا أن أي مسألة مهما يكن فيها من خلاف لا بد من ردها إلى الله ورسوله، لا إلى أبي بكر أو عمر أو إلى الشافعي أو أبي حنيفة: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى:10]، وقال عز وجل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31]. وهذا عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه يبين لنا شدة تحريه لسنة النبي صلى الله عليه وسلم حتى في طريقة الوضوء، فقد روي أنه أوتي بوضوء، ثم غسل يديه ثلاثاً، ثم توضأ كما توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم حذو القذة بالقذة. وهذا ليس تنطعاً ولا تطرفاً، بل هو التماس لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فتوضأ كما توضأ النبي وقال: لقد توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو وضوئي هذا وقال: (من توضأ نحو وضوئي هذا، ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه). فهذا الثواب العظيم لمن يتحرى سنة النبي صلى الله عليه وسلم. وكان عثمان بن عفان رضي الله عنه ينهى عن المتعة في الحج ويقول بحج الإفراد والقر

ما جاء عن الأئمة الأربعة في شدة تمسكهم بالسنة

ما جاء عن الأئمة الأربعة في شدة تمسكهم بالسنة إن الكثير من الناس اليوم قلدوا المذاهب على جهل، وارتبطوا بقول الشافعي أو أبي حنيفة أو مالك وليس هذا انتقاص منهم، فلابد أن نجل هذه المذاهب وأصحابها؛ لأن الله جل في علاه يقول: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:115]، ولكن كل عالم من هؤلاء الأعلام قال: فخذوا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم واضربوا بقولي عرض الحائط. وقد قال الشافعي رحمه الله: أجمعت الأمة على أن من استبانت له سنة النبي صلى الله عليه وسلم ليس له أن يدعها لقول أحد كائناً من كان. وكان مالك رضي الله عنه وأرضاه من شدة تعظيمه للنبي صلى الله عليه وسلم يمشي في المدينة حافياً احتراماً وتقديراً لصاحب القبر، ثم يقول: كل يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر. فـ الشافعي ومالك وأبو حنيفة وأحمد أصلوا لمذاهبهم، فجاء الأصحاب يأخذون بتأصيلهم، ولكن المقلدة الذين لا يعقلون عن الله ولا عن رسوله صلى الله عليه وسلم، بل ولا عن أئمتهم شيئاً قدموا أقوال الأئمة على أقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فـ مالك رحمه الله لشدة تحريه وتمسكه بسنة النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يفتي إلا بقال الله قال رسول الله، وإذا غابت عنه سنة قال: لا أعلم، ولذلك جاءه رجل ضرب أكباد الإبل من المغرب إلى المدينة ليسأل عن مسألة فقال: ليس لي فيها سنة ائتني بعد أيام، فأتاه بعد أيام ثم فقال ما تبين لي فيها شيء، فقال الرجل: ضربت أكباد الإبل لأسأل مالكاً أعلم أهل المدينة، ويقول لي: لا أعلم فيها شيئاً، فقال: ارجع إلى من بعثك فقل له ذلك، فرجع إلى المغرب وقال لهم ما قاله الإمام مالك، فانتحل أهل المغرب مذهب مالك؛ لتعظيمه سنة النبي صلى الله عليه وسلم. وجاءه رجل وقال: سأحرم من قبل ذي الحليفة -أي: قبل الميقات- فقال له: لا تفعل، قال: ولم؟ قال: يا بني! كيف تفعل أمراً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ يا بني! إني أخشى عليك أن ترى أنك فعلت أمراً قد قصر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فتكون عليك فتنة، قال الله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63]. وكان الإمام الشافعي جالساً مع بعض أصحابه فدخل رجل فسأله فقال أحد تلامذة الإمام الشافعي: هذه المسألة سئل فيها رسول الله وقال فيها كذا، فقال الرجل وكان من الجهلة: يا شافعي! أتقول بقول هذا الرجل؟ وهذا من الجهل، فإن كثيراً من الناس لا يسمع إلا للمشهورين مع أنهم قد يخالفون حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وقد جاء في السنن بسند صحيح قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لكل عمل شرة، ولكل شرة فترة، فمن كانت فترته إلى سنتي فقد هدي، ومن أشير إليه بالبنان فلا تعدوه)، وفي هذه العصور نرى تطبيقاً لما قاله النبي صلى الله عليه وسلم. قال له الشافعي رحمه الله: وما لي لا أقول بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، أرأيتني خرجت من كنيسة؟! أرأيت في وسطي زناراً؟! وفي هذا تأسيس وتأصيل للطلبة وللمستفتي أن المسألة قال الله قال رسوله، لا يمكن أن تتقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأيضاً فإن أبا حنيفة الذي يقال عنه: إنه صاحب الرأي والقياس، وإنه يلقي بالأحاديث خلفه، كان من أشد الناس تحرياً للسنة، لكنه كان يعيش في زمان كثر فيه الوضاعون والكذابون فما كان يأخذ منهم الأحاديث، ولا يثق بهم، فلهذا كان يقيس، لكن إذا استبانت السنة عض عليها بالنواجذ، ولذلك كان يقول: بأن الرجل إذا نكح في الحج صح نكاحه، ويستند إلى ما رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: (تزوج النبي صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو محرم)، ولكن ذلك كان وهماً من ابن عباس رضي الله عنه، كما قال سعيد بن المسيب: وهم ابن عباس، ما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم ميمونة إلا وهو حلال، لكن هذا دليل على أن أبا حنيفة كان يتمسك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ويقدمها على أقوال الآخرين. وأحمد بن حنبل رحمه الله كان يقول: لا تأخذوا عني ولا عن الثوري، وخذوا من حيث أخذنا، يعني: من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد نقل عنه بالتواتر أنه قال: الحديث الضعيف أولى عندي من القياس. تأويل ذلك ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية: كان في عرف المتقدمين أن الحديث ينقسم إلى قسمين: صحيح وضعيف، والضعيف يأتي فيه ما هو محتج به وما ليس بمحتج به، والمحتج به هو الذي ارتقى إلى درجة الحسن وهو ما بين الصحيح والضعيف، والغير محتج به هو الضعيف إذاً: معنى قول الإمام أحمد بن حنبل أن الحديث الحسن الذي فيه راوٍ خفيف الضبط هو الذي يقدمه على القياس، فكان يأخذ بقول النبي صلى الله عليه وسلم، ثم بقول الصحابة، ثم بقول الشافعي إن لم يجد، أو يأخذ بالقياس في أضيق الأحوال. إن أصحاب المذاهب رفعوا الأئمة إلى أعظم المكانات لكنهم لم يقلدوهم كما قلدهم الكثير من الناس، فالإمام مالك رحمه الله كان يرى المسح في السفر دون الحضر، لكن أصبغ وهو من أتباع الإمام مالك قال: وقد ثبتت سنة النبي صلى الله عليه وسلم بالمسح في الحضر والسفر، وهي أحب إلينا من قول مالك. فأصحاب مالك وهم الذين يدونون مذهب مالك وينصرونه، عندما يسمعون قول النبي صلى الله عليه وسلم لا يقدمون عليه قول أحد، وهذه هي وصية مالك حيث قال: (كل يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر، يعني: قبر النبي صلى الله عليه وسلم). وذكر ابن العربي المالكي أن مالكاً قال: لا صلاة على الغائب، وأنها خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقال ابن العربي المالكي رحمه الله: وقال مالك ذلك والسنة أحب إلينا؛ إذ الأصل عدم الخصوصية، فقد عمل بها النبي صلى الله عليه وسلم فلتعمل بها الأمة، والدليل على ذلك أن الله تعالى يقول: {يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق:1]، فالخطاب للنبي هو خطاب للأمة بأسرها، وعمل النبي صلى الله عليه وسلم عمل للأمة بأسرها. وأيضاً فقد كان مالك رحمه الله لا يرى التتريب في غسل الإناء من ولوغ الكلب، فقال القرافي: لا يرى مالك التتريب، والسنة أحب إلينا من قول مالك. ويقول الإمام الشافعي رحمه الله: إذا قلت قولاً خالف قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فاضربوا بقولي عرض الحائط، ثم قال: إذا صح الحديث فهو مذهبي. ولذلك جمع البيهقي كتاباً كاملاً سماه معرفة السنن والآثار، يقول فيه: وهذا مذهب الشافعي، مع أن ذلك لم يقله الشافعي لا في كتابه الأم ولا في غيره، وليس ذلك لا في الجديد ولا في القديم، ومع ذلك ينسبه البيهقي إلى الشافعي ويقول: علق الشافعي الحكم على صحة الحديث وقد صح الحديث، وهو (أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل إحدى نسائه وذهب للصلاة من غير وضوء) ومذهب الشافعي أن لمس المرأة بشهوة أو بغير شهوة ينقض الوضوء. ثم قيل له: حديث عروة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل بعض نسائه وذهب وصلى ولم يتوضأ)، فقال الشافعي: إن صح الحديث أقول به، فقال البيهقي: وقد صح الحديث فهو مذهب للشافعي. وأيضاً كان الشافعي يرى في قول الله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة:238] أن الصلاة الوسطى هي: الفجر، وأتى بأدلة على ذلك، قال الماوردي: إن الشافعي قال إذا ثبت الحديث فهو مذهبي، وقد ثبت الحديث في البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (حبسونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر)، فالصلاة الوسطى في مذهب الشافعي هي صلاة العصر تمسكاً بسنة النبي صلى الله عليه وسلم. وقد عرف عن النووي أنه لا يمكن أن يخرج عن مذهب الشافعية قيد أنملة إلا إذا جره الدليل القوي، وفي شرح مسلم قال: واختلف العلماء في الوضوء من لحم الإبل على أقوال: فقال الشافعي والجمهور: إنه لا وضوء مما مست النار سواء كان لحم إبل أو غنم، قال: والحجة في الدليل، والدليل مع من يقول بالوضوء من أكل لحوم الإبل. فخرج عن الشافعية وذهب إلى ما ذهب إليه الحنابلة؛ لأن الحديث هو مذهب كل مسلم. العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين قول الفقيه إن هذه الصفة والسمة التي كان يتصف بها أهل الجاهلية وهي زعمهم محبة الله جل في علاه ولا يبرهنون على هذا الزعم قد فشت فينا، فزعمنا حب الله وتركنا سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فبرهان هذا الزعم أن نعض على سنة النبي صلى الله عليه وسلم بالنواجذ، وكذلك سنة أصحابه الكرام الأماجد.

حكم أهل الرأي والأهواء والقياس الباطل

مسائل خالف فيها رسول الله أهل الجاهلية - حكم أهل الرأي والأهواء والقياس الباطل لقد بعث الله سبحانه وتعالى إلينا رسلاً يعلموننا دين الله، فمتى تركنا تعاليم الأنبياء وسننهم جاءت الأهواء والآراء المتكاثرة لتصرفنا عن كلام الله ورسوله. وإن مما يبتلى به من يبتعد عن هدي الأنبياء أن يكون عبداً لقياسات فاسدة تجعل الحق باطلاً والباطل حقاً، فكثير من الشركيات الموجودة الآن سببها استعمال القياسات الباطلة، فقد عصى المشركون الله تعالى، وأنكروا صفات الله بسبب هذا القياس الباطل، ولذا فيجب على المرء أن يجتهد في طلب الخير ما استطاع.

الأحكام تؤخذ من الوحي لا من الهوى

الأحكام تؤخذ من الوحي لا من الهوى إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا * سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله, وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم, وشر الأمور محدثاتها, وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة, وكل ضلالة في النار. أما بعد: إخواني الكرام! إن دين الله جل في علاه لا يؤخذ بالأهواء، ولا بالعاطفة, ولا بالرؤى والمنامات, ولا يؤخذ بالآراء وبالقياسات الفاسدة, بل إن دين الله جل في علاه لا يؤخذ إلا مما شرعه الله. فإن الله خلق الخلق ليعبدوه, وشرع لهم الشرائع ليمتثلوها, وليعبدوا الله بها, ولا يتبعوا الهوى, فإن الهوى يضل عن سبيل الله جل في علاه, قال الله جل في علاه: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [يونس:66]، وقال جل في علاه: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم:23] وقال الله تعالى ناهياً لرسول كريم من رسله: {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ} [ص:26]، فبين الله له أن إتباع الهوى يضل الإنسان, فالآراء الفاسدة, والقياسات العاطلة, هي التي تضل الإنسان عن الطريق القويم, وعن الطريق المستقيم.

تحذير السلف من اتباع الآراء والأهواء

تحذير السلف من اتباع الآراء والأهواء إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: يا أيها الناس! اتهموا الرأي في الدين, فلقد رأيتني يوم الحديبية أنازع رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألسنا على الحق؟ أليسوا على الباطل؟ فلِمَ نعطي الدنية في ديننا؟ فهذا ما رآه, وإن كان فيه شيء من الصحة وشيء من الحكمة, لكن الله أعلم بالغيوب, والله جل في علاه يعلم ونحن لا نعلم, ويعلم ما ينفع مما يضر، ثم قال: ثم عملت لذلك أعمالاً؛ لأن الله بين أن الحق مع الرسول صلى الله عليه وسلم, وسماه فتحاً. وعلي بن أبي طالب يقول: أيها الناس! لو كان الدين بالرأي لكان مسح أسفل الخف أولى من الأعلى؛ لأنه المباشر للنجاسات والمباشر للقاذورات. فالدين بالشرع ومنه يؤخذ؛ ولذلك قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]، والإمام مالك يقول: أسوأ أهل الأرض هم أهل الأهواء. وقال الإمام الشافعي: حكمي في أهل الأهواء: أن يضربوا بالجريد والنعال, ثم يطاف بهم في القبائل والعشائر, ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة, واتبع الهوى والآراء وعلم الكلام. فعلم الكلام علم فاسد يفسد صاحبه, ويفسد على المرء قلبه, ويبعده أشد البعد عن الله جل في علاه, لأن الذي يتبع الهوى يبتدع في دين الله لا محالة، وما ازداد عبد ببدعة إلا بعداً من الله جل في علاه, وما ازداد إلا بعداً من رسول الله صلى الله عليه وسلم, بل يوم القيامة يمنع من حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم, ويحرم من أن يشرب من هذا الحوض الذي هو أحلى من العسل, وأبيض من اللبن؛ لأنه ابتدع في دين الله, ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (سحقاً سحقاً لمن بدل بعدي, بعداً بعداً لمن بدل بعد).

خطورة القياس الفاسد

خطورة القياس الفاسد إن أهل الجاهلية أشركوا بأهوائهم وقياساتهم الباطلة, وقدوتهم وإمامهم في ذلك: هو إبليس, فهو الذي رد شرع الله جل في علاه بهواه ورأيه العقيم, وبقياسه الفاسد.

إبليس أول من قاس قياسا فاسدا

إبليس أول من قاس قياساً فاسداً إن إبليس عندما أمره الله جل في علاه أن اسجد لآدم في قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34]، ومن ضمن العلل التي تعلل بها إبليس في عدم سجوده لآدم: أنه قاس قياساً فاسداً هو عنده قياس صحيح، والحقيقة أنه فاسد الاعتبار؛ لأنه صادم أمراً من أوامر الله جل في علاه, وأنت مخلوق لله فعليك أن تقول: سمعت وأطعت, وعليك أن تستسلم لأوامر الله جل في علاه, وإلا اتهمت بالكبر في قلبك, فإذا قال لك الله: اسجد, فلا بد أن تقول: سمعت وأطعت, لكنه قال: لا أسجد، ورد على الله أمره, ثم علل ذلك متعذراً بقياس فاسد, {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12]، وكأنه يقول النار خير من الطين، إذ قال: أنا خير منه؛ لأنك خلقتني من مادة النار وخلقته من مادة الطين, وهذا قياس فاسد؛ لأنه رد به أمر الله جل في علاه, ولذلك ما من مبتدع تدعوه إلى الله ورسوله إلا رد كلام النبي صلى الله عليه وسلم بأهوائه وبعقله، كما أن أحدهم قيل له: إن حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) رواه البخاري ومسلم، فقال: لو رأى البخاري ما تفعله تاتشر ما قال هذا الكلام؛ رداً على حديث النبي صلى الله عليه وسلم. وغيره يقال له: إن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج عائشة وعمرها ست سنوات, فيقول: لا يمكن أن أقبل ذلك؛ إن لي عقلاً أفكر به، فيضرب حديث النبي صلى الله عليه وسلم, ويضرب شرع الله جل في علاه بالأهواء العاطلة, والقياسات الباطلة, وإمامه في ذلك إبليس, وإن كانت نيته حسنه, فقد قالوا لـ ابن مسعود: يا أبا عبد الرحمن: والله ما أردنا إلا الخير, فقال: وكم من مريد للخير لم يبلغه. فاجتهد كيفما شئت ليلاً نهاراً, وصم النهار وقم الليل, فإن لم يكن ذلك على شرع الله جل في علاه فأنت منبوذ مطرود من رحمة الله جل في علاه. إذاً: فإبليس قاس قياساً فاسداً، وقال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12] وقلنا: هذا فاسد, لأنه رد الشرع به, وأيضاً إذا حررت المقال ترى أن هذا القياس فيه من الأباطيل ما فيه: أولاً: أن النار فيها خفة، وهذه الخفة يتبعها الإفساد, وأما الطين ففيه الثبات والرصانة. ثانياً: النار فيها الإحراق والإفساد, وأما الطين فإذا بذرت فيه البذر فإن الأرض تنبت وتثمر ففيها الخير, فالنار فيها الخفة والفساد, وأما الطين ففيه الرصانة وأيضاً فيه الخير. وإبليس في نظره أن النار أفضل من الطين ويظهر بالحكمة والعقل الصحيح أن قياسه فاسد, وكفار العرب إمامهم وقدوتهم هو إبليس, ولذلك كفر من كفر من العرب, وكفر من كفر من الأمم السابقة بسبب هذه الأقيسة الفاسدة الباطلة.

القياس الفاسد شبهة الكفار لإنكار الرسل

القياس الفاسد شبهة الكفار لإنكار الرسل إن أهل الكفر قاطبة ردوا الرسل بالقياس الباطل, قالوا: {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ} [المؤمنون:24]، وقالوا: {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} [الإسراء:47]، وأيضاً قالوا: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [إبراهيم:10]، وقالوا: {أَُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ} [القمر:25]، فوقعوا في القياس الباطل كما فعل إمامهم وقدوتهم إبليس، فقالوا: كيف يبعث الله بشراً يأتيه الوحي وهو مثلنا! إذاً: فنحن لابد أن يأتينا الوحي كما يأتيه الوحي, فهذا القياس الباطل الذي قاسوه أدى بهم إلى أن قاسوا الرسل على أنفسهم, ونحن نقول: إن هذا باطل من وجوه: أولاً: أن هذا قياس فاسد الاعتبار؛ لأنهم بهذا القياس ردوا أمر الله جل في علاه وشرعه، والله يقول: ((وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216] , ويقول: {أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} [البقرة:140]. ثانياً: لو دققنا النظر فإننا نجد أن العقل الصحيح يرضى بذلك, ويقرر أن الرسل ليسوا كالبشر وهم كالبشر, كيف ذلك؟ نعم هم كالبشر يأكلون ويعتريهم ما يعتري البشر من نسيان وتعب وإعياء وإرهاق، فهم كالبشر في هذا, لكنهم ليسوا كالبشر في السمو البشري وفي الخُلُق, فإن الله جل في علاه لما ابتعث واصطفى من البشر رسلاً جعلهم أشرف الناس نسباً, وأحسن الناس خُلُقاً, وأتم الناس وأكملهم خَلْقاً, وجعل فيهم الصبر والحلم والعزة والغنى, وجعل فيهم القوة, والقدرة, وجعل فيهم الإخلاص لله جل في علاه, فهم أخلص البشر على الإطلاق لنشر دين الله جل في علاه, ولذلك كان الفرق بينهم وبين عامة البشر كما بين السماء والأرض, فلا قياس هنا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأيته وقسته بجميع البشر فلن تجد أحداً يدانيه, فهو رسول الله، وهو أكمل البشر خُلُقاً وخَلْقاً ونسباً، وهو أعبد الناس لله جل في علاه, وأذلهم الله جل في علاه, وأخلصهم الله جل في علاه, وأصبر الناس على ما يحصل له بسبب نشر دعوة الله جل في علاه. فهذا القياس الباطل الفاسد هو الذي ردهم عن دين الله جل في علاه, ولم يرضوا بالرسل؛ لأنهم من البشر, وهذا القياس الفاسد أوقعهم في الشرك.

بالقياس الفاسد أنكر الكفار علم الله

بالقياس الفاسد أنكر الكفار علم الله ومن أفعال الجاهلية وقياسهم الباطل: قياس الخالق على المخلوق, وهذا من الأقيسة الفاسدة التي اقتدوا فيها بإبليس, فقاسوا الخالق على المخلوق في كثير من الصفات كالسمع والعلم, كما قال ابن مسعود: أن نفراً كانوا يجلسون في الحجْر يخفض بعضهم لبعض الكلام ويسره، ثم يقول: إن الله لا يعلم ما نقول: لأنه ليس معنا. فقاسوا الخالق على المخلوق, حيث إن المخلوق إذا وجد في محل الكلام سمعه وعلمه, فإذا غاب عنه لم يعمله, فقالوا: إن الخالق إذا غاب عنهم فإنه لا يسمع ولا يعلم ما يقولونه, فهذا قياس الخالق على المخلوق وهذا قياس باطل فاسد، فإن الله ليس كمثله شيء.

أنواع القياس

أنواع القياس القياس ثلاثة أقسام: قياس العلة, وقياس الشبه, وقياس الأولى. وأيضاً هناك أقسام أخرى. فقياس العلة: هو القياس الجامع بين الأصل والفرع لعله مشتركة بينهما. وقياس الشبه: هو أن يكون هناك شيء أكثر شبهاً بشيء من شيء آخر، كالعبد هل يقال فيه: هو أشبه بالبهيمة أو هو أشبه بالحر كما فصلت سابقاً. والقياس الثالث: قياس الأولى: وهذا يكون في حق الله فقط, وهذا الذي يصح أن تقره في حق الله، كأن تقول: كل كمال لا يشوبه نقص يتصف به المخلوق فالله أولى أن يتصف به, لكن الكفار قاسوا قياس العلة وقياس الشبه بين الخالق وبين المخلوق, قالوا: إذا كان المخلوق معنا فإنه يسمع ويعلم ما نقول، لكنه إن غاب عنا فلا يعلم، وهم الآن لا يرون الله جل في علاه، فقالوا: إذاً فهو لا يعلم.

الرد على الكفار في إنكارهم علم الله تعالى

الرد على الكفار في إنكارهم علم الله تعالى إن الله جل في علاه ألجمهم في ذلك، فقال: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الحج:61] , وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أربعوا على أنفسكم، إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، إنما تدعون سميعاً بصيراً). وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها, قالت: (سبحان الذي وسع سمعه الأصوات كلها! فإن المرأة تشتكي زوجها للنبي صلى الله عليه وسلم ويخفى عني بعض حديثها, فأنزل الله من فوق سبع سماوات {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة:1]). وكذلك ابن مسعود عند ما وصف أن ما بين كل سماء وسماء خمسون ألف سنة, في الرواية المشهورة عنه، ثم قال: (والله فوق العرش ويعلم ما أنتم عليه) , فالله جل في علاه أحاط بكل شيء سمعاً وبصراً وعلماً وقدرة. وكذلك حينما قال موسى: {إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى} [طه:45] فقال الله جل وعلا رداً عليه: {قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46]. وأيضاً عندما ارتجف أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه في الهجرة خوفاً على رسول الله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم مثبتاً إياه: (يا أبا بكر ما بالك باثنين ثالثهما الله, إن الله معنا لا تحزن) , وأنزل الله قوله: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40] , أي: معنا بسمعه وعلمه وقدرته ونصره وتسديده وتوفيقه سبحانه جل في علاه. فهذا القياس الباطل الذي وقع فيه أهل الجاهلية هو من هذه القياسات التي أوقعتهم في الضلال وفي الشرك.

قياس الكفار الفاسد في الشفاعة

قياس الكفار الفاسد في الشفاعة كذلك قاسوا الخالق بالمخلوق في الشفاعة، فهذا موجود في واقعنا عند المخلوق ولا يستلزم أن يكون موجوداً عند الخالق. وذلك أن الشافع -عند المخلوق- إذا دخل بغير إذن المشفوع عنده فإنه لا يقبل شفاعته، وكذلك الشافع لا بد أن يكون له منزلة ومكانة عند المشفوع عنده، وله كلمة عنده، ويستحي المشفوع عنده أن يرد هذا الشافع, وهذا في البشر, ولذلك هم يقولون: بأننا نتخذ هؤلاء الأنداد بيننا وبين الله وسائط؛ ليشفعوا لنا عند الله. وهنا قاسوا قياساً فاسداً فقالوا: إن الله كالبشر لا يدخل عليه إلا من هو ذو مكانة, ولا يسمع إلا لمن له الكلمة عليه, وحاشا لله جل في علاه, وهل هناك أحد يجبر الله على شيء؟ حاشا لله جل في علاه, ولذلك فالمشركون عندما صرفوا العبادة للوسائط والشفعاء قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]، فرد الله عليهم قال: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} [يونس:18] أي: أتعلمون الله بأن هؤلاء لهم الكلمة عليه؟ أو بأن الله له حُجَّاب لا أحد يدخل عليه إلا بها؛ فإن هذا قياس باطل، وهو الذي جعلهم يقولون: إن هناك من كلمة عند الله، كما توسل قوم بجاه الرسول صلى الله عليه وسلم, وسنبين بعض ما وقع فيه من أقيسة باطلة في العقائد.

القياس الفاسد في الأحكام

القياس الفاسد في الأحكام أيضاً من الأقيسة الباطلة التي وقعوا فيها في الأحكام أنهم قاسوا الميتة على المذبوحة المذكاة, فقالوا: إن قياس الأولى يقتضي أن تقول: أتمنعوننا -يردون على رسول الله حكمه- مما قتل الله وتطعموننا ما قتلتم أنتم؟! فما هو الأولى أن نأكله ونطعمه الذي قتله الله من الميتة، أو الموقوذة، أو المنخنقة، أو المتردية, أو الذي قتلتم أنتم؟ إن قياس المذكاة على الميتة قياس باطل من وجوه كثيرة, وسنرد على هذه الشبهة وعلى أقيسة أهل الضلال؛ لأن أهل الضلال موجودون في كل عصر كأهل البدع والضلالات، فهم يعتمدون على شبه وتلبيسات إبليس كما قال تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} [الأنعام:121]، بشبههم يخلطون بين الحق والباطل؛ ليزينوا الباطل للناس, ويلبسون بقولهم: أنتم تقولون/ إن ذبحكم أولى من ذبح الله جل في علاه, وإن قتلكم أولى من قتل الله جل في علاه, فقاسوا المنخنقة والمتريدة على المذبوحة المذكاة, وهذا قياس فاسد الاعتبار من عدة وجوه: الوجه الأول: أنه قياس صادم النص, والله جل وعلا يقول: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ) [الأعراف:54]، فالدين: هو ما شرعه الله جل في علاه ويقول الله: {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} [البقرة:140]. الوجه الثاني: أن الميتة التي قدر الله موتها ينجس دمها في عروقها، وإذا حبس الدم أصبحت نجسة منتنة, وكذلك لحمها ينتن ويحدث فيه الأضرار التي لا يعلمها إلا الله جل في علاه, ولكن المذكاة بإراقة الدماء لا تحبس الدماء فيها فلا تحدث فيها هذه الأضرار. الوجه الثالث: أن هذه الميتة وإن قتلها الله جل في علاه فقد منعها، وأما المذكاة فقد أباحها الله تعالى.

بالقياس الفاسد استحل الربا

بالقياس الفاسد استحل الربا أيضاً من الأقيسة الباطلة في الأحكام التي قاسها أهل الضلالة -وأهل الضلالة في هذه العصور يقيسون نفس هذه القياسات كما سنبين- أنهم قالوا: البيع مثل الربا, فلم تحرمون علينا الربا, مع أن البيع فيه مكسب وخسارة، وفي هذا البيع أيضاً المكسب وزيادة المال, قالوا: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275]، فقاسوا البيع على الربا بجامع الاستفادة بالزيادة. وهذا قياس صريح, والآن أهل الباطل يفعلون هذا لكن بتورية كما سنبين, فيقولون: الربا ليس فيه شيء, قياساً على التجارة, وهذا من قياسات أهل الجاهلية، وهي من صفات أهل جاهلية عصرنا الذين يفعلون مثل ما يفعل أهل الجاهلية, فلا تحسبن أن الأمر قد مات وفات, قد قال الله تعالى: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} [البقرة:118]. وقال صلى الله عليه وسلم: (لتركبن سنن الذين من قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه).

الفوارق بين البيع والربا

الفوارق بين البيع والربا إن قياس البيع على الربا قياس باطل فاسد؛ لأنه مصادم للنص, والله جل وعلا أعلم بما يشرع لعباده، قال تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54]، فيكون هذا القياس فاسد الاعتبار, وإذا دققت النظر تجد أن هذا القياس فيه فوارق كثيرة: أولاً: أن الربا فيه ظلم. ثانياً: فيه عدم التراضي. ثالثاً: ينشىء الحقد والحسد والغل من المقترض على المقرض. رابعاً: أن النفع فيه لا يعود إلا على المقرض, فيزداد المقرض غنى على غناه, ويزداد الفقير فقراً على فقره, وأغلالاً على أغلاله. فأربع وجوه كافية لتحريم الربا، وأما البيع فهناك فوارق بينه وبين الربا: أولاً: فيه التراضي, ولذلك الله جل وعلا قال: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} [النساء:29]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما البيع عن تراضٍ). ثانياً: البيع فيه العدل والمساواة, وليس فيه ظلم؛ لأن التراضي يمنع الظلم، فهذا يكسب وهذا يكسب. ثالثاً: النفع في البيع يتعدى إلى الطرفين البائع والمشتري, حتى وإن كان البائع أكثر ربحاً, فهذا رزق الله يؤتيه من يشاء, لكن كل منهما سيفوز بالربح وبالرضا. رابعاً: أن البيع فيه تعاون على البر والتقوى, وعدم انتشارٍ للغل والحقد في المجتمع الإسلامي؛ لأنهم يترابطون ويتعاونون, وكل منهم يكسب الآخر ربحاً, ويربح هو, والتراضي حاصل, ويعم الخير عندهما معاً الغني والفقير, وتختفي الطبقية في المجتمع بفضل الله سبحانه وتعالى، ويتعاونون على البر والتقوى في دين الله جل في علاه, وفي الدنيا ينتفعون من هذه الأموال. فهذه أربع فروقات بين الربا وبين البيع الصحيح, ولذلك لما قاس المشركون البيع على الربا, أبطل الله هذا القياس، وبين أن هذا القياس قياس فاسد, وقياسهم هذا مثل قياس إبليس, فلما قالوا: (إنما البيع مثل الربا) رد الله تعالى بقوله: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275].

تحذير الرسول من أصحاب الأقيسة الباطلة

تحذير الرسول من أصحاب الأقيسة الباطلة لقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم بشرع الله جل في علاه ليبطل هذه الأقيسة، فجاء عند الطبراني بسند مقارب -أي: أن السند فيه رجلاً ضعيفاً يقارب الصحة، وياله من حديث -قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة, ثم قال: وأشدهم على هذه الأمة أقوام يقيسون بالأهواء والآراء) , أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي. فهؤلاء الأقوام يقيسون بالأهواء والآراء, وليس عندهم شرع من دين الله جل في علاه، وقال: (يحرمون ما أحل الله، ويحلون ما حرم الله) , ومن أحل ما حرم الله فقد وقع في الإثم, قال الله تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [النحل:116]. إذاً: فالنبي صلى الله عليه وسلم يحذر هذه الأمة من هذه الفرق التي هي كلها في النار والعياذ بالله, ويحذر أشد التحذير من فرقة تضرب الكتاب والسنة بالأهواء والآراء والعاطفة الجياشة, وهم أقوام يقيسون بالأهواء والآراء, فيحلون ما حرم الله, ويحرمون ما أحل الله, فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم هذه القياسات, ويا ليتنا ننتفع بهذه الأحاديث، ونعرف هذه القياسات الباطلة حتى نتوقاها, وذلك من باب: عرفت الشر لا للشر ولكن لتوقيه ومن لم يعرف الشر من الخير يقع فيه. فالأقيسة في زماننا هذا مثل الأقيسة في الأزمنة التي مضت, وهناك قوم غالوا في إثبات صفات الله جل في علاه, وهذا الغلو ما جاء إلا من القياس الباطل, فقاسوا الخالق على المخلوق, وقالوا: نحن نثبت ما أثبته الله لنفسه، نثبت له اليد والسمع والبصر, ونثبت له الرجل والقدم, لكنهم قالوا: إن يد الله كيد المخلوق, ورجْل الله كرجل المخلوق, وعين الله كعين المخلوق, غالوا في الإثبات, فأنزلوا الخالق منزلة المخلوق, عملاً بقياس أهل الجاهلية الذين قاسوا الله بخلقه في مسألة الشفاعة.

فساد القياس في مسألة التوسل والشفاعة

فساد القياس في مسألة التوسل والشفاعة أيضاً من الأقيسة الباطلة في هذه العصور ما وقع في مسألة الشفاعة أو التوسل. ففي مسألة التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم قاسى بعض الناس حياة النبي صلى الله عليه وسلم البرزخية بحياته الدنيوية, وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان في حياته يأتي إليه الناس ويقولون: يا رسول الله! ادع لنا, كما في حديث عثمان بن حنيف (عندما جاء الأعمى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ادع الله لي). فنقول إنه ما قال: أتوسل بالنبي أو بك ذاتاً أو جاهاً, بل قال: ادع الله لي, والسياق يبين أنه طلب منه الدعاء، وفي آخر الحديث قال: (اللهم شفعه في) , يعني: اللهم اقبل دعاءه لي، فالتوسل كله بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم. وقالوا: كما جاء الناس والنبي في حياته يدعو لهم ويستغفر لهم, أيضاً يجوز أن يأتوه بعد مماته عند قبره ويقولون: استغفر لنا يا رسول الله! ادع لنا يا رسول الله! وهذا من القياس الباطل، وهذا نجده الآن عياناً بياناً ويحدث أمامنا, بل قد عم وطم, وأصبح هو السنة الآن.

إبطال هذا القياس

إبطال هذا القياس والآن نرد على هؤلاء الذي يقولون بالقياس, فهنا فيشبهون علينا, ويقولون: إن عمر جاء النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: ادع لي, أليس هذا من خياركم؟ وقال: أبو بكر: ادع لي؟ وفعل ذلك عثمان، وعلي. و A ذلك على الرحب والسعة، ونحن نقبل ذلك, فهم جاءوا إلى رسول الله ليستغفر لهم, ويدعو لهم. قالوا: إذاً: فالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته فعل ذلك, وأيضاً هو في قبره يفعل ذلك. قلنا: لكنه قد مات, قالوا: لا، بل هو حي في قبره, قلنا: كيف؟ قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم بين أنه: (ما من أحد يسلم عليه إلا رد الله عليه روحه، فيرد عليه السلام) فما من أحد في مشارق الأرض ومغاربها إلا ويسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، إذاً: فلا يمكن أن تخلو ساعة من الساعات في السلام على النبي صلى الله عليه وسلم، فمفهوم هذا الكلام أنه حي في قبره كما كان حياً في حياته فيستغفر لهم, فيجوز للإنسان أن يذهب إلى قبر النبي ويقول: يا رسول الله! استغفر لي, يا رسول الله! ادع الله لي أن يرزقني الولد. وهناك فرق بين أن يقول: يا رسول الله! ارزقني الولد, وبين أن يقول: يا رسول الله! ادع الله أن يرزقني الولد، وهو أن اللفظة الأولى شرك في الربوبية؛ لأنه اعتقد في النبي مالا يُعْتَقَدُ إلا في الله، فاعتقد أن رسول الله يستطيع أن يرزقه الولد, وهذا الأمر إنما هو بيد الله جل في علاه, فهذا شرك في الربوبية. وهو أيضاً شرك في الألهية؛ لأن الدعاء عبادة لله، وهنا صرفها لغير الله، وكل عبادة ثبت في الشرع أنها عبادة فصرفها لله توحيد، وصرفها لغير الله شرك، فلو قال: يا رسول الله! ارزقني واغنني واشفني فقد كفر في الإلهية، فالدعاء لا يكون إلا لله قال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف:55]. وأما اللفظة الثانية فهو يقول: نعوذ بالله من الشرك والكفران, وأنا أقول إن الله هو الخالق الرازق المدبر, ولا أدعو غير الله جل في علاه, ولكن أقول: يا رسول الله! ادع الله لي أن يغفر لي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حي في قبره كما هو حي في حياته, فقد جاءه كثير من الناس في حياته وقالوا له: استغفر لي, ادع لي، كما في الحديث: (أنه جاءته المرأة التي كانت تتكشف فقالت: يا رسول الله! ادع الله لي، فإني أصرع وأتكشف, فقال: لو شئت دعوت لك)، وهذا إقرار منه. وأيضاً عكاشة بن محصن قال: (يا رسول الله! ادع الله لي أن أكون منهم)، ففعل رسول الله ذلك؛ لأنه كان حياً بين أظهرهم، والنبي صلى الله عليه وسلم الآن حي في قبره هم يقولون هذا. فهذا الرجل اتخذ وسيلة لم يشرعها الله جل في علاه, ومع ذلك يقول: إن الله شرعها؛ لأن الله جل وعلا يقول: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء:64]، ويقول: هذه الوسيلة مشروعة الآن, ونحن نتكلم الآن على هذه المسألة أن فيها قياس الحياة البرزخية على الحياة الدنيوية, فإما أن نقر هذا القياس وإما أن نبطل هذا القياس. فنقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان حياً بين الصحابة وقد مات، والله جل وعلا يقول: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30]، وقال: {أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران:144]، فقالوا: إننا نبين لكم أنه حي في قبره, قلنا: هاتوا, قالوا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من أحد يسلم علي إلا رد الله عليَّ روحي)، وهناك حديث ضعيف يستدلون به أيضاً، وهو: (حياتي خير لكم ومماتي خير لكم)، وهذا حديث باطل, ولكن الحديث الصحيح الذي نقر به هو: (ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه).

بطلان قياس الحياة الدنيوية بالحياة البرزخية

بطلان قياس الحياة الدنيوية بالحياة البرزخية نبدأ بقولهم: نحن نقيس حياة النبي صلى الله عليه وسلم البرزخية على الحياة الدنيوية, فنقول: أولاً: هذا القياس فاسد الاعتبار؛ لأنه صادم نصاً, وهو أن الله سماه ميتاً، فلا نصادم هذا ولا نقول: هو حي، بل هو ميت, وإذا قال: بل هو حي في قبره, فنقول له: خصصها وقيدها ولا تطلقها، فقل: حي حياة برزخية, حتى نفرق بينها وبين الحياة الدنيوية. ثانياً: عند تدقيق النظر نجد أن الحياة البرزخية تفارق الحياة الدنيوية, ومن هذه الفوارق أن الحياة الدنيوية أعطى الله للعبد فيه القدرة على أن يشفع ويدعو ويستغفر, وأما الحياة البرزخية فلم يعطه الله ذلك, فقد بين الله أنه أعطاه في الحياة هذا بقوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ} [النساء:64]، و (إذ) ظرف للزمان الماضي، أي: ولو أنهم جاءوك وأنت في حياتك, {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ} [النساء:64]، فالله أعطاك هذه القدرة والقوة على أن تستغفر لهم ويستفيدوا من دعائك، كما قال عكاشة بن محصن: (ادع الله لي)، فأعطونا دليلاً من الشرع يبين أن الله أعطى النبي صلى الله عليه وسلم القدرة في أن يستغفر للمؤمنين, أو يدعو للمؤمنين بعد مماته، لا يوجد إلا قوله صلى الله عليه وسلم: (ومماتي خير لكم). وحتى في هذه الخيرية التي تذكرون ليس فيها أي تصريح أنه يستغفر ويدعو ويتوسل لهؤلاء عند ربهم جل في علاه, مع أن هذا الحديث باطل مردود ابتداءً, فهذا هو الفارق الأول. الفارق الثاني: أننا لم نجد في الواقع أن النبي صلى الله عليه وسلم استغفر لأحد وهو في قبره, وما رأينا أن أبا بكر ذهب إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم ليدعو له، فجاءه في المنام فقال له: لقد جئتني لأستغفر لك فاستغفرت لك، فقبل الله مني هذا الاستغفار. أو عندما أجدبوا ما ذهب عمر فقال: يا رسول الله! إننا نتوسل بك عند ربنا لتمطر السماء, أو ادعو الله لنا لتمطر السماء, وما جاءه النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: قد استغفرت لك وتوسلتُ لتمطر السماء، فأمطرت السماء, لم يحدث ذلك لا شرعاً ولا كوناً ولا واقعاً, وهذا من الفوارق بين الحياة البرزخية وبين الحياة الدنيوية. الفارق الثالث: إن الحياة البرزخية هي حياة بين الحياة الدنيوية والحياة الأخروية, وقد كتب الله جل في علاه أن العمل في الحياة الدنيوية والحساب في الحياة الأخروية, إلا ما دل الدليل على التخصيص في أن هناك ثمة عمل لبعض الأنبياء في قبورهم, كما رأى النبي صلى الله عليه وسلم موسى يصلي في قبره, وهذه حالة خاصة, وما خرج عن القياس فغيره لا يقاس عليه، والخصوصيات والفضائل لا تعمم, وهذه قاعدة عند المحدثين. فنقول: إن قياس حياة النبي صلى الله عليه وسلم البرزخية على حياته الدنيوية باطل من وجوه: فهو مصادم لشرع الله جل في علاه, وأيضاً مصادم للعقل الصحيح, فلا يجوز لأحد أن يقول ذلك, فيسعنا ما وسع الصحابة، فما ذهب أبو بكر يفعل ذلك, ولا عمر , ولا غيرهما من الأفاضل، ولو كان خيراً لسبقونا إليه، فعدم فعلهم يدل على شيء من اثنين: إما أنهم جهلوا, ولا يمكن أن نقول: إننا علمنا ما جهلوه, وإما أنهم علموا أنه باطل فكفوا عنه، فلا بد أن يسعنا ما وسعهم، وأن نفعل مثل ما فعلوا، ولن نفلح ولن نصلح إلا يفعل ما فعله الأولون (السلف الصالح). إذاً: فمن القياسات الباطلة: قياس حياة النبي صلى الله عليه وسلم البرزخية على حياته الدنيوية. فإذا قال للنبي صلى وهو ميت: يا رسول الله! ادع الله أن يستغفر لي, فهذا شرك أصغر؛ لأن عندهم تأويلات.

أثر القياس الفاسد في بدعة التمسح بالقبور وتقبيلها

أثر القياس الفاسد في بدعة التمسح بالقبور وتقبيلها ومن القياسات الباطلة: قياس التمسح بقبر الولي على التمسح بالحجر الأسود؛ بجامع التبرك, فقالوا: هذا حجر شريف وهذا حجر شريف, فيتمسحون بالقبر ويقولون: أنتم لو أنكرتم علينا وقلتم: كيف تتمسحون بحجر من الأحجار؟ لقلنا: وأنتم تتمسحون بحجر من الأحجار في الكعبة, ألا تتمسحون بالحجر الأسود, والركن اليماني؟ والجامع بين الحجر الأسود وقبر الولي عندهم الشرف والبركة، فالأولياء لا خوف عليهم ولا هم يحزنون, وهذا من القياسات الباطلة التي نعيشها الآن. ونرد عليهم شرعاً بأن النبي صلى الله عليه وسلم قبل بالحجر الأسود ولم يتمسح بقبر حمزة رضي الله عنه وأرضاه, ولا بقبر الأفاضل والأخيار الذين قتلوا, وكذلك عمر ما تمسح بقبر النبي صلى الله عليه وسلم, ولكنه ذهب يتمسح بالحجر, وقال: (والله إني لأعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك)، وهذا محض الإتباع, والعبادة توقيفية, فلا يمكن أن تتعدى إلى غيرها إلا بدليل. وهناك فوارق أخرى أيضاً منها: أن الحجر الأسود من الجنة وهذا القبر ليس من الجنة, فلا يجوز لأحد أن يفعل ذلك ويقارن بين الحجر الأسود وبين هذه القبور. ومن القياسات الباطلة أيضاً: أنهم قالوا: تقبيل قبر المعظم الولي كتقبيل رأس العالم. وهذا من القياسات التي نعيشها الآن, وقد سمعتها بأذني من شيخ جليل غفر الله لنا وله, وهذه المقولة تغمر إن شاء الله في بحر حسناته؛ لأنه عاش دهراً يدعوا إلى الله جل في علاه, ولا أحد منا معصوم، لكن نحن نبين الخطأ حتى نتجنبه. وكان يقول: إن تقبيل قبر الولي كتقبيل رأس العالم, فالعالم معظم والولي قال الله عنه: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس:62]، وهذا قياس فاسد الاعتبار؛ لأنه قد ورد في السنة تقبيل رأس المعظم ويده، فعن ابن عباس , وعن ابن عمر قال: (كانوا يقبلون يد النبي صلى الله عليه وسلم ورجله)، وقد قبل ابن عباس يد زيد بن ثابت) إذاً: فالسنة وردت بتقبيل يد العالم ورأسه فهذا موافق للشرع, وأما تقبيل قبر الولي فلم يأت الشرع به، فهو مصادم للشرع. والفارق الثاني: أن هذا العالم حي وهذا الولي ميت، والفارق بين الحياة والموت كما بين السماء والأرض, فهذا قياس مع الفارق. والفارق الثالث: أن هذا ما فعله الصحابة، ولو كان خيراً لسبقونا إليه. والفارق الرابع: أن تقبيل الحجر غير تقبيل البشر، فليس هناك أحد يذهب إلى الكرسي الذي يجلس عليه العالم ويقبله, ولكن هناك الآن من يقبله هو. وهذه القياسات الباطلة يحاكون بها أهل الجاهلية, ونحن نقول: يا إخواننا الأفاضل ويا علمائنا! ارجعوا إلى دين الله جل في علاه, إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم, وقد قال: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي: كتاب الله وسنتي)، فأهل الجاهلية بعدما قاسوا هذا القياس الفاسد, تصادموا مع شرع الله، وردوا القياس الصحيح, وإن الله جل في علاه في شرعه لا يفرق بين المتماثلين, ولا يسوي بين المختلفين, ولكنهم قالوا: لا بد أن نعارض, فسووا بين المختلفين, وفرقوا بين المتماثلين, وجاءوا للقياسات التي قاسها الله جل في علاه وهي قياسات صحيحة فردوها. إذاً: لهم وجهان من الضلال: الوجه الأول: جاءوا للقياس الصحيح فردوه. الوجه الثاني: أنهم جاءوا للقياس الباطل فأقروه إن من القياسات التي قاسها الله فردها الكفار كثيرة منها.

رد الكفار للقياسات الصحيحة التي ذكرها الله

رد الكفار للقياسات الصحيحة التي ذكرها الله لقد ذكر الله القياس في قوله تعالى {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ} [آل عمران:59]، فقاس عيسى بآدم، فكأن الله يقول لهم: لماذا عبدتم عيسى؟ وسيجيبون بإجابة واحدة وهي: لأنه لا أب له، وإن الله حل في مريم وأتت بعيسى، حاشا لله جل في علاه, فيقول الله رداً عليهم: عبدتموه لأنه ليس له أب فقط, فالأولى أن تعبدوا آدم فآدم ليس له أب وليس له أم. فالله جل وعلا قاس لهم عيسى على آدم, وهذا قياس صحيح جلي، وهو قياس الأولى, فردوا القياس الصحيح, وقالوا: لا، إن عيسى غير آدم, من غير حجة، فردوا القياس الصحيح بأهوائهم؛ لأنهم أرادوا الكفر والضلال, فهذا من دأب أهل الجاهلية -والعياذ بالله- أن يردوا القياس الصحيح، ويقروا بالقياس الباطل. قال الله جل وعلا: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:59]، فلم الاعتراض، ولم الكفر بهذا القياس الواضح؟! ومن القياسات الصحيحة التي ردها المشركون على الله جل في علاه: قياس إعادة الخلق على البداية, فالله في كتابه العزيز قاس المرجع والبعث بأول الخلق، قال الله تعالى: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} [ق:15]، فالخلق الأول أهون عليه من الخلق الآخر وهو البعث، قال الله تعالى من أجل أن يبين القياس: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء:104]، فقاس الإعادة على البداية, فهذا قياس من الله جل في علاه, وهو قياس بديع ظاهر جلي، إذ يقول لهم: إن الله الذي خلق الخلق الأول سيخلق الآخر, فالبعث كالمبتدأ, فقالوا: لا. لابد أن نرد فقالوا: قل من يعيدنا, واعترضوا على النبي صلى كما قال الله تعالى: {فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا} [الإسراء:51]. ولما رأوا هذا القياس البديع, وأن الله بين لهم ذلك ردوه بمثل ضربوه: فأخذ أحدهم العظام وهي رميم ففركها, فأصبحت تراباً, فقال: من يحي هذه العظام وهي رميم، قال تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس:78]، فرد الله عليه: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس:79]، فنظروا إلى هذا القياس الصحيح فردوه ولم يقبلوه, فانظروا إلى أهل الضلال والأهواء كيف يردون القياسات الصحيحة طمساً للحقائق وتلبيساً على الناس، وأما القياسات الباطلة فيقرونها ويظهرونها على أنها هي الحق. وردوا أيضاً القياس الصحيح للمعاد وإحياء البشر على إحياء الأرض, بجامع إحياء الموات, فقد كانت الأرض ميتة فأحياها الله, فالله جل وعلا أراد منهم أن يعتبروا، فهذه الأرض ميتة أمامكم، وبعد أن ينزل الله المطر تنبت وتحيا، قال الله تعالى: {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج:5]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فصلت:39] وفي الآية الأخرى، قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الحج:6 - 7] فهذا قياس ظاهر جداً. وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: (أن البشر يفنون وتصير العظام رميماً، فيمطر الله مطراً كالمني)، وفي رواية: (كالطل، فينزل على الأرض فينبت البشر كالزرع) , ينبت ويحيا مرة أخرى, وهذا مثل إحياء هذه الأرض البور, فعندما نزل عليها الماء أحياها الله وأنبتت وربت. وهذا القياس الصحيح لم يرضوا به بل وردوه وقالوا كما حكى الله عنهم: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24]، فهذه هي عادات أهل الجاهلية, يقرون بالباطل ويدفعون الحق, فالأقيسة الصحيحة لا يرضون بها, والأقيسة الباطلة يرضون بها, والعياذ بالله من الخذلان, ونعوذ بالله من أن نفعل مثل ما فعل أهل الجاهلية. فأنا أهيب بإخواني أن يهتموا بالعقيدة؛ لأن هذا هو محل التمييز بين طلبة العلم, وهو محل التمييز والرفعة عند الله من عدمها، فالزنا وشرب الخمر لا يساوي شيئاً بجانب الشرك الأصغر, فالشرك الأصغر أكبر من هذه الكبائر، فلم نوقع أنفسنا في هذا بالجهل منا, فلابد أن نتقي الله, وأن تكون عقيدتنا عقيدة نقية كما كانت عند صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم, وجزاكم الله عنا خيراً.

طاعة أولي الأمر وأهمية اتخاذ الأمراء

مسائل خالف فيها رسول الله أهل الجاهلية - طاعة أولي الأمر وأهمية اتخاذ الأمراء لقد حث الشرع على طاعة ولي الأمر؛ لما في ذلك من اجتماع الشمل، والقوة والهيبة، وما يلحقه من الأمن والأمان والاستقرار. وأما الخروج على الحكام لظلمهم وفسقهم فإنه يؤدي إلى الفوضى وضياع الأمن والاستقرار، وليس معنى طاعة ولي الأمر أن يطاع في المعصية؛ بل يطاع في طاعة الله، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة.

الأصل في المشركين وأهل الكتاب: أنهم لا يطيعون أمراءهم

الأصل في المشركين وأهل الكتاب: أنهم لا يطيعون أمراءهم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: إخوتي الكرام! فإننا اليوم بإذن الله سوف نختم كتاب (مسائل خالف فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الجاهلية)، ثم بإذن الله سنشرع في شرح كتاب (مختصر الصارم المسلول على شاتم الرسول)، وأصل الكتاب هو: الصارم المسلول لشيخ الإسلام ابن تيمية، وهذا المختصر هو من أجود الاختصارات، وقد أشرف على تحقيقه الشيخ بكر أبو زيد حفظه الله، وهناك مختصر آخر للدكتور صلاح الصاوي. فأقول: إن هذا الدين لا يؤخذ بالهوى ولا بالعاطفة، ولا بالأذهان الباردة ولا بالآراء الفاسدة، إن دين الله جل في علاه وحي يوحى، وهو يؤخذ من كتاب الله ومن سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو شرع تحيا به البلاد والعباد، وشرع يصل به العبد إلى ربه جل في علاه.

صور من حياة الجاهلية تبين عدم طاعة الجاهليين لأمرائهم

صور من حياة الجاهلية تبين عدم طاعة الجاهليين لأمرائهم إن أهل الجاهلية كانوا يأخذون دينهم من آرائهم وأهوائهم، فقد كانوا متشرذمين لا يدينون ولا ينظمون تحت راية أحد، ولا يأتمرون بأمر أحد، بل هم كسنن الذين من قبلهم يقاتلون من أجل الإمارة ويقتلون أميرهم، وما حرب البسوس منا ببعيد، هذه الحرب التي حدثت فيها المقتلة العظيمة بين أبناء العمومة، فقد كان وائل بن ربيعة وهو كليب أميراً عليهم بعد أن قتل ملك اليمن، ثم جاءت البسوس هذه بكيد منها حتى أوقعت الشحناء بين أبناء العمومة، فقتل جساس بن مرة كليباً، ثم حدثت الحرب العظيمة بين أبناء العمومة حتى أوشكوا على الفناء في تلك المعركة، فمع أنهم ملكوه إلا أنهم لم يسمعوا له ولم يطيعوا ولم يأتمروا بأمره، وهذا دأب أهل الجاهلية، وسنن الذين من قلبهم، فاليهود والنصارى جعل لهم الله جل في علاه الأنبياء والرسل حتى يسوسوهم فلم يوافقوا ولم يسمعوا ولم يطيعوا لأنبيائهم، والله جل في علاه صور لنا هذه الأخلاقيات الفاسدة عند بني إسرائيل في كتابه في أبدع صورة حينما قال: {إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ} [البقرة:247]، ثم بعدما بين لهم الأسباب وأن الله زاده بسطة في العلم والجسم نهاهم عن الشرب من النهر، فأبوا إلا أن يشقوا عصا الطاعة، وشرب أغلبهم من النهر أو كلهم إلا من رحم الله جل في علاه! وكان أهل الجاهلية كذلك، فقد تشرذموا وتقطعوا ولم يأتمروا بأمير، حتى جاء النبي صلى الله عليه وسلم ليؤسس صرحاً عظيماً، ويقعد قاعدة وركناً ركيناً، ويبين أن من تمسك بذلك فقد ارتقى ووقي وكفي وهدي وسما وعلا، وأن من لم يتمسك بذلك فكأنما تخطفته الطير أو هوت به الريح في مكان سحيق. وهذا التأسيس والتأصيل هو الذي أصله رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما خرجت قريش عليهم، وقد كان يعلم أنهم لا ينضوون تحت راية أحد، ولا يسمعون لأحد، وأروع ما يضرب في ذلك هو عتبة بن ربيعة في غزوة بدر، وذلك يوم أن هرب أبو سفيان بالعير، فسمع به عتبة بن ربيعة، وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (لو أطاعوه لفازوا)، فلأنهم لما لم يأتمروا بأمير ولم ينضووا تحت راية أمير تشرذموا وفشلوا وذهبت ريحهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو أخذوا بقول صاحب الجمل الأحمر لنجوا)، وصاحب الجمل الأحمر هو عتبة، وقد قال لهم عتبة: أيها الناس! إنكم ما خرجتم إلا للعير، وقد أنقذت العير، فاعصبوها برأسي، وقولوا: جبن عتبة، يعني: أن الأمر والمسبة كلها ليست إليكم، بل اجعلوها علي بدلاً من أن يقتل الأخ أخاه والأب ابنه والابن أباه، وكان رجلاً ذا فصاحة وذكاء، فلما قال لهم ذلك جاء العربيد الفاجر أبو جهل وقال: لا والله! بل نشرب الخمر، وندق الطبول حتى تسمع بنا العرب أنا قد خرجنا لقتال محمد، فحدثت هذه المقتلة. والغرض المقصود: أنهم لم ينضووا تحت راية أمير، ولم يأتمروا بقول أمير أو بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما علم ذلك منهم بين أن التأسيس الذي سيأتي لا بد من التمسك به وأن يعض المرء عليه بالنواجذ، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يخالف أهل الجاهلية ويخالف قريشاً لما رأى منهم ذلك، وكأنه يقول: ماذا ترون طاعتي فيكم؟ فقالوا: طاعتك من طاعة الله، بمعنى: أن من أطاع رسول الله فقد أطاع الله، وقد قال الله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80]، جل في علاه! فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني)، ولذلك أسس النبي صلى الله عليه وسلم من هنا هذا الأساس وهذا الأصل وهذا الركن الركين الذي لا بد أن نتمسك به ونعقله ونعرف فقهه حتى نعمل به فنرتقي كما ارتقوا. فرسول الله صلى الله عليه وسلم ما بعث سرية ولا جيشاً قط إلا وأمر أميراً عليهم، وأمره بتقوى الله في ذات نفسه ومن معه، وأمر جنده بالسمع والطاعة، حتى إنه قال: (إن كنتم ثلاثة في سفر فلتأمروا أحدكم).

صور مشرقة من طاعة الصحابة لأمرائهم

صور مشرقة من طاعة الصحابة لأمرائهم وواقع السيرة يثبت ذلك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم عندما بعث عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه غازياً في غزوة ذات السلاسل استعصى عليه النصر، فبعث عمرو بن العاص -وكان يحتاط لنفسه- إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلب المدد، فجيش النبي صلى الله عليه وسلم جيشاً وأتاه بالمدد وكان فيهم أبو بكر وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما وأرضاهما، وأمر عليهم أيضاً أبا عبيدة بن الجراح؛ تبييناً أنه ما من عصابة أو جماعة إلا ولا بد أن يكون لهم أمير يلتفون حوله، فيسير بهم إلى رضا الله جل في علاه، فانظروا إلى هذا التأسيس وهذا التأصيل وكيف يكون حال الذين يعضون على فقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوامره بالنواجذ! فذهبوا إلى عمرو بن العاص، فنظر عمرو بن العاص إلى أبي عبيدة فقال له: أنا الأمير، فقال أبو عبيدة: أنا الأمير، وكان أبو عبيدة بن الجراح أفضل من عمرو بن العاص باتفاق الأمة، فتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول له: (تطاوعا ولا تختلفا)، وانظروا إلى التطبيق الجلي من صحابة رسول الله لكلامه صلى الله عليه وسلم، فهم يعلمون أن السير على هذا النهج السديد هو الذي يصل إلى رب العباد جل في علاه. فقال له: نعم، أنت الأمير، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (تطاوعا ولا تختلفا)، فنزل تحت راية عمرو بن العاص، ولذلك اندهش عمرو بن العاص لما رأى ذلك، وقال: أنا خير الناس، أنا أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بعد أن فتح الله عليه ذهب قاصداً رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: يا رسول الله! من أحب الناس إليك؟ وهو يعتقد أنه سيقول له: أنت؛ لأنه أمره في هذه الغزوة على جيش المسلمين، فقال له: (من أحب الناس إليك؟ فقال: عائشة، فقال: لست أسأل عن النساء بل أسأل عن الرجال؟ فقال: أبوها، فقال: ثم من يا رسول الله؟ قال: عمر. قال: ثم من؟ قال: عثمان) قال: فسكت، لأنه يعلم أنه سيكون في آخر الذيل، إذاً: فالإمارة ليست دليلاً على الأفضلية، والمقصود: هو بيان تمسكهم بكلام النبي صلى الله عليه وسلم وائتمارهم بأمر عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه. وبعث النبي صلى الله عليه وسلم في السنة التاسعة أبا بكر أميراً على الحج، ثم أردف بـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه؛ ليقرأ على الناس آيات البراءة في سورة التوبة؛ وليقول للناس: (ألا يطوف بالبيت عريان، وألا يحج بعد اليوم مشرك)، فالشاهد أنه لما جاء علي بن أبي طالب أبا بكر وهو مرسل من الرسول صلى الله عليه وسلم قام أبو بكر وهو يعلم أن المسألة مسألة إمارة فقال له: أمير أم مأمور؟ فقال له علي بن أبي طالب: بل جئتك مأموراً. لذلك فسبب الانفلات والفساد والتشرذم والتفكك هو عدم تنصيب الأمير الذي يسوق الأمة إلى رضا الله جل في علاه.

واجب المحكومين هو السمع والطاعة للحكام وعدم شق عصا طاعتهم

واجب المحكومين هو السمع والطاعة للحكام وعدم شق عصا طاعتهم لما أسس النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأساس بين حق الراعي وحق الرعية، وحق الأمير وحق المأمور، وحق الحاكم وحق المحكوم، فالدين ليس بالهوى أو العاطفة، وليس بالموتورين أو المتحمسين، وإنما هو شرع الله جل في علاه، فإذا قال الله، قلنا: سمعنا وأطعنا، وإذا لم يقل الله قلنا: لا قول لأحد علينا إلا بقال الله وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم. فنصب النبي صلى الله عليه وسلم هذا التقعيد وهذا التقسيم ليكون إلى آخر الدنيا، ففيه الانتصار والوفاء، وفيه أن نجتمع جميعاً وننضوي تحت راية أمير وحاكم. ثم جعل له حقوقاً وجعل للمحكوم حقوقاً، وبين الرسول صلى الله عليه وسلم أنه يحب على المحكوم حتى ولو أخذت حقوقه أن يؤدي الذي عليه ويسأل الله ما له، وقد ذكر الله تعالى هذا المعنى في قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59]، وهذه آية صريحة في تنصيب الولاة والسمع والطاعة لهم، وفي الصحيحين عن عبادة بن الصامت قال: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، ويسرنا وعسرنا، وعلى أثرة علينا)، يعني: ولو حدث من الحكام أو الأمراء ما يضر بالمحكومين فليس لهم إلا أن يقولوا: سمعنا وأطعنا، ويسألوا الله ما لهم، ولا يلجئوا إلى أن يشقوا عصا الطاعة، فهذا هو ديننا وهذا هو شرع الله جل في علاه الذي شرعه على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، حيث قال الراوي: (السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، ويسرنا وعسرنا وأثرة علينا، وألا ننازع الأمر أهله)، ثم قال: (إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان)، وسيأتي تفصيل هذا. والحديث الثاني أيضاً في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عليكم بالسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة). فقوله: (كأن رأسه زبيبة): فيه دلالة على أنه يسمع ويطاع للحاكم حتى وإن كان وضيعاً غير نسيب أو حسيب، فما عليك إلا أن تقول: سمعت وأطعت، فمن أطاع الأمير فقد أطاع رسول الله، ومن أطاع رسول الله فقد أطاع الله جل في علاه، ومكمن هذه الطاعة: أن تعلم أنك لا تسمع أو تطيع من أجل الشخص نفسه أو من أجل الحاكم نفسه لا والله! فأنت لا تسمع أو تطيع إلا من أجل رضا الله جل في علاه، فإن الملائكة سجدوا لآدم مع أن السجود هو غاية الذل والخضوع ائتماراً بأمر الله تعالى لا سواه، فكذلك أنت لا تسمع أو تطيع لأجل فلان من البشر بل من أجل الله جل في علاه، فهو الذي قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59]، وظاهر الأمر يفيد الوجوب، وفي الرواية الأخرى عن النبي صلى الله عليه وسلم في المسند: (عليكم بالسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد حبشي)، كما أسلفنا الذكر. وفي حديث آخر عن وائل بن حجر في مسلم قال: سأل سلمة بن يزيد الجعفي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أرأيت أمراءنا يأخذون ويطلبون ما لهم -يعني: يأخذون حقوقهم، ويطلبون ما لهم- ولا يعطوننا ما لنا، ماذا نفعل معهم؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم وأعرض عنه، فجاءه في الثانية، فقال: يا رسول الله! أرأيت أمراءنا يأخذون ما لهم ولا يعطونا ما لنا، فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال له في الثالثة: (عليك بالسمع والطاعة)، أو قال: (اسمعوا وأطيعوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم)، فسيسألهم ربهم على كل فلس ودرهم، وسيسألهم ربهم عن كل صغيرة وكبيرة، وعن كل دقيقة وجليلة. وهذا الذي أقلق مضجع عمر بن الخطاب حتى إنه عند موته يوم أن سقوه اللبن وخرج من معدته دخل عليه شاب مسبل الإزار، فنظر إلى عمر فأخذ يبكي ويقول: أبشر يا أمير المؤمنين! والله لقد كنت خير صاحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم فكنت خير صاحب لخليفته أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، وكنت في إمارتك كذا وكذا وكذا، وفتح الله على يدك مشارق الأرض ومغاربها، قال: تقول ذلك عند ربك إذا سألك؟ قال: نعم، أقول ذلك، قال: وتشهد بهذا؟ قال: أشهد بهذا، ثم بكى عمر بن الخطاب وقال: يا ليتها كانت كفافاً لا لي ولا علي؛ لأنه علم أن المسألة ليست بالهينة، فسيسأل عن كل فرد، وعن كل جنين، وعن كل امرأة، وعن كل رجل، ولذلك كان ابن عباس أحب الناس إلى عمر مع صغر سنه؛ لقوة علمه وعارضته، وكان ابن عباس يحب عمر جداً، فلما مات عمر قال: دعوت الله عاماً كاملاً أن أرى عمر في رؤيا، فرآه في المنام يتصبب عرقاً بعد عام، فقال له: يا أمير المؤمنين! أو قال له: يا عمر! ما فعل الله بك؟ قال: الآن انتهيت من السؤال والحساب. ولذلك نصح النبي صلى الله عليه وسلم أمته فقال: (اسمعوا وأطيعوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم)، وفي رواية أخرى: (سل الله ما لك، وأعط ما عليك) أي: ما عليك من السمع والطاعة. وقال بعضهم: إن الله طلب منكم الاستقامة والنفس تطلب الكرامة، فانشغلوا بالاستقامة تأتكم الكرامة، وهو قول مستقى من حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ووجه المطابقة والمقارنة بين هذا الكلام وبين حديث النبي صلى الله عليه وسلم: أنكم خلقتم لأمر، وأمركم الله بأمر، فانشغلوا بما أمركم الله جل في علاه ولا تنشغلوا بطلب أنفسكم؛ لأنكم لا تريدون منهم إلا حقكم أنتم. ولذلك قال الذي استقى من مشكاة النبوة: إن الله أمر بالاستقامة والنفس تطلب الكرامة، فمن انشغل بالاستقامة أتته الكرامة لزاماً، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: التزموا السمع والطاعة فعليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم، فأنتم تسألون عن الأمر الذي عليكم وهو السمع والطاعة، وهم سيسألون على ما يؤدونه لكم، وسيأتيكم ما تريدونه.

المراد بالصلاة في قول النبي: يصلون عليكم وتصلون عليهم

المراد بالصلاة في قول النبي: يصلون عليكم وتصلون عليهم أيضاً من الأحاديث التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم فيها بالسمع والطاعة قوله: (خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم). وقد يقال: كيف يصلون عليهم وهم قد ماتوا وصلي عليهم أصلاً؟ و A أن الصلاة في هذا الحديث معناها: الدعاء، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم صل على آل أبي أوفى). وتمام الحديث: (خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تلعنونهم ويلعنونكم، فقالوا: يا رسول الله! أفلا ننابذهم بالسيف؟ أو قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال لا، ما صلوا)، وفي رواية قال: (لا، ما أقاموا فيكم الصلاة). إذاً: فالله جل وعلا يأمر بالسمع والطاعة، والنبي صلى الله عليه وسلم يأمر بالسمع والطاعة، ويبين أن هذا هو الشرع المتين الذي من أخذ به فاز وارتقى إلى رضوان الله جل في علاه. لكن هل هذه الطاعة مطلقة أم هي مقيدة؟ والصحيح الراجح: أنها ليست مطلقة، بل هي طاعة مقيدة، فقد أشار الله جل في علاه إلى ذلك، وصرح بذلك النبي صلى الله عليه وسلم. فأما الإشارة في كلام الله فهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59]، ولم يقل: وأطيعوا أولي الأمر منكم، بل قال: ((وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ)) [النساء:59]، فجعل طاعة أولياء الأمور من طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم أو من طاعة الله جل في علاه، وهذا التفسير هو تفسير أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه. وأما التصريح فقد جاء في مسند أحمد بسند صحيح عنه صلى الله عليه وسلم: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)، فاسمع وأطع إلا في المعصية. وفي الصحيح أيضاً عن ابن عمر مرفوعاً قال: (إنما الطاعة في المعروف)، وأيضاً في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (على المرء السمع والطاعة ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة). إذاً: فهذه الطاعة طاعة مقيدة بطاعة الله وطاعة الرسول، فإن لم تكن هناك طاعة لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم فلا سمع ولا طاعة، لكن بدون تشهير ولا تنقص من قدرهم في المحافل والمنابر وغيرها، فلا سمع ولا طاعة لكن دون الخروج عليهم، بل لا بد من التناصح، وهذا هو دأب الصالحين من أمراء الأمة. فلما تولى أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه الخلافة قام خطيباً في الناس فقال: لي عليكم السمع والطاعة، ثم قال: أطيعوني ما أطعت الله فيكم. ومفهوم المخالفة: إن لم أطع الله فيكم فلا طاعة لي عليكم. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه: لي عليكم السمع والطاعة ما لم أعص الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. فالغرض المقصود: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أصل هذه الطاعة لاجتماع الأمة على كلمة رجل واحد بر أو فاجر، فقد أمرنا بالصلاة وبالقتال خلف البر والفاجر.

حال الصحابة مع الحكام والظلمة والفسقة

حال الصحابة مع الحكام والظلمة والفسقة السؤال الثاني: فإن قلنا: إنها مقيدة، فكيف إذا ظهر منه الفسق والمعصية؟ و A أنه يطاع وإن أعلن الفسق والمعاصي، فهذا هدي نبينا صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بيّن أنكم ستعرفون وتنكرون، وأنهم سيأتون بالمعاصي، فقالوا: يا رسول الله! ماذا نفعل؟ قال: (من أنكر فقد سلم، ومن كره فقد برئ)، أو قال العكس ومعناهما واحد: وهو الإنكار بلطف ولين كما سنبين في كيفية الإنكار. فالمقصود: أن من فعل ذلك فقد برئ وسلم أمام الله جل في علاه، فلا يشق عصا الطاعة بحال من الأحوال؛ لأن الفساد سيستشري بشق هذه العصا كما سنبين بعد ذلك. ومن الصور التي تجسد هذا المعنى: أن خالد بن الوليد كان أميراً على جيش فلما انتصر عليهم أخذ السبي وقتلهم، وكان عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه تحت رايته مأموراً، فقال له: لم تقتل أسرى قالوا: لا إله إلا الله ودخلوا في الإسلام؟ وكان خالد يجتهد فيهم وأنهم ما قالوا ذلك إلا تعوذاً، فلم يسمع له عمرو بن العاص ولم يطع، وفي نفس الوقت لم يشق عصا الطاعة؛ لأنه رأى أن هذه معصية وإن كانت اجتهاداً، فلما رآها معصية لم يسمع له ولم يطع، ولكنه لم يشق عصا الطاعة، ومع ذلك لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فعل خالد قال: (اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد)، ومع ذلك لم يعزله؛ لأنه رآه مجتهداً متأولاً. وقد كان كثير من الصحابة والتابعين تحت راية الفساق والظلمة، ومع ذلك لم يخرجوا عليهم بحال من الأحوال، وما شقوا لهم عصا الطاعة، فهذا عقبة بن أبي معيط كان قريباً لـ عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه، وكان والياً عليهم في الكوفة، وكان من معه أخير منه وأفضل كترجمان القرآن ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، وكان هذا الأمير يشرب الخمر، فصلى بهم ذات مرة الفجر أربعاً، ثم استدار وقال لهم: أزيدكم؟ فقال: عبد الله بن مسعود: ما زلنا معك في زيادة، يعني: لعل الله يذهبك عنا! وقد جلده عثمان بن عفان الحد، وأمر علياً أن يجلده، ومع ذلك لم يشقوا عصا طاعته؛ لأنهم علموا أن التفرق والتشتت يكون بعدم السمع والطاعة، والجهل هو الذي يضع الناس في هذه الظلمات، وهو الذي يجرئ الناس الذين يحبون الإسلام على الخروج على شرع الله؛ لأنهم يهرفون بما لا يعرفون. إذاً: ولو كان فاسقاً فلا بد من السمع والطاعة، ثم له علينا النصيحة فحسب. وأقول في الختام: إن كل من يريد العمل للإسلام لن ينجح في المنشط والمكره، وفي المسرة والبلاء، إلا بالتمسك والعض بالنواجذ على هذه التأصيلات الدينية التي أصلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك: السمع والطاعة لولاة الأمور، وأن تؤدي ما عليك وتسأل الله ما لك؛ ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم نهياً شديداً وزجر زجراً كبيراً في مسألة الخروج على الحكام، وبين هذه المسألة تفصيلياً بالحكم والعلل والآثار.

الحكم المستفادة من أمر النبي للمحكومين بالسمع والطاعة

الحكم المستفادة من أمر النبي للمحكومين بالسمع والطاعة أما الحكم المستفادة من أمر النبي صلى الله عليه وسلم للمحكومين بالسمع والطاعة لولاة الأمور فهي كالتالي: أولاً: الالتفاف حول رجل يقيم الله به الدين، وقد علمنا واقعاً وأثراً أن الله ينصر هذا الدين بالرجل البر والفاجر، فلا بد من الالتفاف حوله. ثانياً: أن الله جل في علاه إذا سلط عليك من يظلمك فإنما يريد بك الخير، فلعل ذلك تكفير لسيئاتك، أو رفع لدرجاتك، ثم يختبر صبرك على هذا الابتلاء هل تصبر عند المكاره أم لا، وليميز الخبيث من الطيب، والذي يعمل من أجله ممن لا يعمل من أجله سبحانه. ثالثاً: عدم الخروج عليه بعد ذلك إلا إذا حصل منه كفر بواح، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان)، ولا يجوز لأي أحد أن يكفِّر كما هو الحال في زماننا إلا من كان عالماً مجتهداً، فإنه يحق له أن يقول في هذا الشيء: إنه كفر، أو يقول طالب العلم الذي يعلم كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم في آية أو حديث: إنها من الأشياء التي لا عذر بالتأويل فيها. وهنا Q لماذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الخروج على الحكام؟ و A لأنه يعلم أن ذلك سبب رئيس في حصول الشر والفساد والبلاء الذي لا يمكن رفعه؛ لأن الخروج على الحكام يجعل صاحبه يتبنى هذا المذهب الفاسد، ويرجو أن يحقق مصلحته، زاعماً أنه يريد تطبيق شريعة الله جل في علاه، وقد تعقب هذه المصلحة مفاسد عظمى، مما يؤدي ذلك في النهاية إلى استباحة بيضة الإسلام بسبب اعوجاج فكر هذا الرجل الذي يريد بزعمه إقامة دين الله جل في علاه. والصور التاريخية والوقائع تدل على ذلك: فقد كان عثمان بن عفان رضي الله عنه من أعدل الناس وأفضلهم على الإطلاق، إلا أن شرذمة من المعوجين خرجوا عليه زاعمين أنه يحابي أهله! ويعطي المال لأهله وذويه وليس من الصلاح بمكان، حتى قتلوه في النهاية صابراً محتسباً رضي الله عنه، فقام الفقيه الذي قال لـ عمر بن الخطاب: ما لك ولها! إنه حذيفة رضي الله عنه صاحب سر النبي صلى الله عليه وسلم، والذي قال له عمر رضي الله عنه يوماً: حدثنا عن الفتن التي تموج كموج البحار، فقال: ما لك ولها يا أمير المؤمنين! فإن بينك وبينها باباً، قال: وهل يفتح الباب أم يكسر؟ وهذا من كمال فقه عمر رضي الله عنه قال: بل يكسر، قال: إذاً: لا يقام مرة ثانية. فإذا كسر الباب عمت الفتنة في هذه الأمة. والشاهد: أن حذيفة رضي الله عنه قال: لو كان قتل عثمان خيراً لهذه الأمة لحلبت بعده لبناً، يشير بذلك إلى استقرار الأمر في عهده، وشيوع الدين والصلاح في وقته، قال: لو كان في قتل عثمان خير لهذه الأمة لحلبت بعده لبناً، وإن كان في قتل عثمان شر لهذه الأمة لحلبت بعده دماً. أقول: قد حلبت بعده دماء كثيرة، فما زالت هذه الأمراض تستشري في الذين التزموا بدين الله جل في علاه، والذين زعموا رفع راية الله جل في علاه بدون ضابط أو علم، ولكنه الجهل الذي أوقعهم في ذلك. وهناك صورة أخرى يحكيها التاريخ لنا: ففي عهد الحجاج بن يوسف الثقفي أظلم الناس وأفسقهم، وقد سطر فيه الإمام الذهبي كلمات من ذهب فيقول فيها: نتقرب إلى الله تعالى ببعض هذا الرجل، فقد بلغ به الجور والظلم مبلغه، حتى إنه أذاق الصحابة في عصره الويلات، فقد قتل ابن عمر رضي الله عنهما، وأهان أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه، ومع ذلك فلم يشق ابن عمر أو أنس عصا الطاعة الواجبة عليهم تجاه ولي أمرهم الحجاج آنذاك، ولم يخرج عليه كذلك من كبار التابعين أحد إلا ابن الأشعث، فقد خرج على الحجاج الظالم ابتغاء صلاح حال الدين والناس، لكن لعدم مراعاة المصالح والمفاسد حدثت الكارثة العظمى، وذلك حين تغلب الحجاج عليهم، وقتل منهم خلقاً لا يحصون، ومنهم سيد التابعين آنذاك سعيد بن جبير؛ ولذلك كان الإمام أحمد بن حنبل يتكلم عن مقتله بأسى ولوعة وحزن! ويقول: قتل ابن جبير والأمة أحوج ما تكون لعلم سعيد بن جبير، وما ذلك إلا بسبب هذه الفتنة الدهماء التي تنشر الفساد المستطير في هذا الأمة. والحقيقة: أن أصحاب هذه الأفكار الهدامة، والذين لا يفرقون بين المصالح والمفاسد، هم الذين يسرعون بعمل هذه الخروجات، ولم يعلموا أنهم بذلك يخالفون تأصيل النبي صلى الله عليه وسلم الذي أصله من وجوب الطاعة لهم، فقد تجد الواحد من هؤلاء لا يحفظ الفاتحة جيداً، ولا يعرف الفقه، ومع ذلك يتجرأ على التكفير ومن ثم على الخروج على الحكام، فهؤلاء لم يتعلموا ولم يتفقهوا وأرادوا رفعة هذا الدين فأسقطوا كل أهل الدين بسبب فعلتهم.

صور معاصرة في الخروج على الحكام، وكيف كانت نهايتها

صور معاصرة في الخروج على الحكام، وكيف كانت نهايتها أما أول هذه الأفكار التي تشابه أفكار أهل الجاهلية فهي فكر الإباضية: وهم الذين يكفرون بالمعصية، ويرون وجوب الخروج على الأئمة، ومن هؤلاء أيضاً فرقة التكفير والهجرة: وهؤلاء هم أتباع مصطفى شكري في مصر، وقد كان من الإخوان المسلمين ثم انشق عنهم، ثم بعد ذلك أتى بهذه الأفكار الهدامة، فأصبح يكفر بالمعصية، ويرى وجوب الخروج على أئمة المسلمين، وقد حدث بسببه وبسبب أعوانه أصحاب التكفير والهجرة وأصحاب التوقف والتبين قتل للأبرياء، والذين ليس لهم في أفكارهم ناقة ولا جمل، ثم بعد ذلك زعموا أنهم يريدون الإصلاح في الأرض، فحدث أن تهدمت الدعوة على رءوس كل الدعاة؛ وهذه المصائب كلها تحصل لعدم تقدير المصلحة والمفسدة، فلا يمكن لهذه الأفكار الهدامة أن تصل إلى الله جل في علاه. وانظروا إلى ما حصل بعد ذلك في الجزائر، وذلك بنفس السبب، فقد حدث أن الدعاة لم يصبروا على الظلم الذي وقع بهم حينئذ، فاجتمعوا وألبوا الناس على الحكام، وابتدأ من هنا الفكر الهدام، فابتدأت الثورة وابتدأ الحماس من على المنبر، ويجب أن نعلم بأن الدين ليس بالحماسات أو العاطفة، بل الدين قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم بعد ذلك خرجت فئات لا تعلم عن دين الله شيئاً تنادي بكفر الحاكم، وأنه لا بد من عزله، وأنه لا يجوز لكافر أن يحكم المسلمين، في تنطع وتجرؤ عجيب، ونسي هؤلاء أنهم يقتحمون النار على بصيرة، ونسوا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما؛ فإن كان كما قال وإلا رجعت عليه)، وقد غضب النبي صلى الله عليه وسلم واشتد زجره على أسامة عندما قال له: (أقتلته بعدما قالها)، أي: أنه قال: لا إله إلا الله وقتلته، ثم قال له: (وكيف تصنع بلا إله إلا الله يوم القيامة)، ثم بعد ذلك تحدث المفسدة العظيمة. وانظروا إلى الواقع الآن في الجزائر، فآلام وآهات يموت منها المرء كمداً وحزناً؛ لأن الشباب هم حصون هذه الأمة، فنسأل الله جل وعلا أن يهدينا وإياهم إلى سواء السبيل، وهذه نصيحة لي ولإخواني أن نرجع إلى العلماء الراسخين، وإلى الدليل، حتى إذا مات أحد من الشباب فيكون قد مات على بصيرة دون أن يقتحم النار على جهل، فإن الله سائله عن حياته التي ضاعت بالجهل، وسائله عمن قتله بجهله، وقد خرج بعضهم في بلاد الحرمين مؤخراً، لأسباب: أولها: فقد العلم، ثانيها: التسرع دون وجود ضوابط تضبط عملهم، ثالثها: عدم رجوعهم إلى العلماء الراسخين، بل ذموا العلماء وتجرؤا عليهم، وهذه نتائج الفساد المستطير، فقد أصبح الإسلام مجرد إرهاب وقتل وخروج على الحكام، وكأنهم يقولون: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25]، فأصبحت المفسدة أعظم بأضعاف مضاعفة من المصلحة المرجوة، وأي مصلحة مرجوة في قتل الأبرياء المسلمين؟! وأي مصلحة مرجوة في قتل مستأمن؟ فإن كان قد أتى بما يحل أمانه فلا بد أن ترده إلى العلماء الراسخين، ثم هم يردونه بدورهم إلى ولاة الأمور بالمناصحة السرية، واتخاذ القرار الصحيح في شأنه؛ لأنك إذا قتلته من نفسك فقد أتيت بالشر العظيم، وهذا واقع مشاهد من أيام عثمان رضي الله عنه وأرضاه إلى يومنا هذا. فعلى الإخوة أن يعلموا أن دين الله جل في علاه ليس بالحماسات أو العواطف، بل لا بد عليهم من السمع والطاعة قدر إمكانهم وقدر استطاعتهم، وهذا التقييد هو الذي قيده العلماء: أن السمع والطاعة تكون قدر الاستطاعة، وإن السمع والطاعة تكون في المعروف لا في المعصية، وأما إذا أُظهرت المعصية فلا سمع ولا طاعة ولا تأليب ولا تنقيص، بل لا بد من المناصحة لولاة الأمور، وفي هذه تكملة لهذه العبادة التي تتعبد بها الله جل في علاه. وقد أختتمت هذا الحديث بهذه المسألة لأن الشيخ ابتدأها، فقال: أهل الجاهلية كانوا لا ينضوون تحت راية أحد، ولا يأتمرون بأمر الأمير، ثم قال: إن الإسلام عطل هذا الأصل، فلا بد من ولي أمر، ولا بد من السمع والطاعة قدر الاستطاعة، فلا يجوز أن تشق عصا الطاعة أو تنزع منها يداً، فإن أمرت بالمعصية فلا سمع ولا طاعة، ولا تأليب ولا تشويش ولا ثورة عليهم؛ لأنك ستفسد أكثر مما تصلح. وأختم بأن هذه العبادة تكمل بالنصح لولاة الأمور؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث خصال أو خلال: أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئاً، وأن يلزموا جماعة المؤمني، والنصح لولاة الأمور)، وفي الصحيح أيضاً عن تميم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة! قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاث لا يغل عليهن قلب امرء مسلم: الإخلاص لله، ولزوم جماعة المسلمين، والنصح لولاة الأمور). فأما النصح لولاة الأمور: فإما أن تكون قادراً على ذلك: فإن رأيت منكراً فاذهب بأدب جم ولين جانب ورفق لتنصح في الله جل في علاه، يقول الله تعالى: {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا} [طه:44]، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه)، فإن لم تستطع أنت بذاتك فإن استطعت الاتصال فاتصل، فهذا أمر واجب عليك، ولن تبرأ ذمتك إلا بذلك، فإن لم تستطع فابحث عن رجل ثقة أمين تعلم أنه سيوصل هذه الرسالة إلى المسئول، فتكتب له في الرسالة من الكلام الطيب والمهذب ما يجعله يغير هذا المنكر الذي حصل وطرأ، وهذا هو دأب علمائنا في القديم والحديث، فإن لم تستطع إلى ذلك سبيلاً فإذا كرهت بقلبك فقد برئت وسلمت. وكما ذكرنا مسبقاً فإن هذه من أصول أسلافنا: أحمد بن حنبل والفضيل بن عياض ويحيى بن معين وابن المديني. وقد افتتن أحمد في مسألة القرآن من المأمون، فجلده وحبسه عاماً، فقام الناس يضجون بـ أحمد، وقد سئل يحيى بن معين عنه فقال: تسألوني عن أحمد؟! أحمد إمام أهل السنة والجماعة. وذهبوا إليه بثورة فقالوا له: نخرج عليه؛ لأنه ظلمك، وهو في هذه اللحظة يملك أن يصبح أمير المجاهدين في وقته، فله أن يحفزهم لتكسير السجن والخروج على الخليفة الظالم، ولكن انظروا إلى دين الله، وانظروا كيف أن الرجل يعلم اليقين بأن التمكين سيكون لدين الله في النهاية، فقالوا له: نخرج عليه، قال: لا والله، إنه أميركم، وله عليكم السمع والطاعة، ثم قال: والذي نفسي بيده لو كانت لي دعوة مستجابة لخبأتها لولي الأمر؛ لأنه يعلم أن صلاح الأمة في صلاح ولي الأمر، وأن فسادها من فساده. ولذلك يجب عليك أن تنصح ولاة الأمور، وأن تدعو لهم على المنابر، والدعاء لولاة الأمر سنة متبعة عن السلف، والأخلص والأصوب والأفضل أن تدعو لهم سحراً بإخلاص ويقين بالإجابة: أن الله يصلحهم ويجعلهم نصراً لدينه، فتكون بذلك فائزاً عند ربك، ولعلك أن تكون من الصالحين المخلصين فيتقبل الله منك دعوة مستجابة، فيصلح الله جل وعلا هذه الأمة بدعوتك. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وجزاكم الله خيراً.

§1/1