مسائل تحليل الحائض من الإحرام

ابن البارزي

مقدمة المحقق

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة المحقق الحمد لله الذي خلق فسوَّى وقدَّر فهدى، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمَّد الداعي إلى النجاةِ والهُدى، وعلى آله وصحبه شُموسِ النهار وبُدورِ الدُّجى، وعلى التابعين لهم بإحسانٍ ما طلع فجرٌ وليل سجى! وبعد: فهذا جزءٌ من تصانيف إمام الشافعية في عصره بلا منازع القاضي الشيخ شرف الدين هبة الله بن البارزي رحمه الله تعالى، أتقرَّبُ إلى الله تعالى بخدمته والعناية به. وكُتُبُ البارزيِّ لم يُطبع منها حتى الآن -فيما وقفتُ عليه- شيء يُذكر، مع جلالته وإمامته. وإليك شيئًا من ترجمته المباركة: ترجمة الإِمام شرف الدين بن البارِزِيِّ: اسمه ونسبه: هو هبة الله بن عبد الرحيم بن إبراهيم بن هبة الله بن المسلم بن هِبة الله، الجُهنيُّ، قاضي القضاة، شرف الدين بن البارِزي (¬1). ¬

_ (¬1) البارزي: نسبة إلى باب أبرز إحدى محال بغداد (كذا في تاج العروس وغيره).

ولادته ووفاته: وُلد في خامس رمضان سنة 645 هـ بحماه، وتوفي بمدينة حماه أيضًا في وسط ذِي القَعْدَة سنة 738 هـ. شيوخه: سمع من أبيه وجده، والشيخ عِزّ الدين الفارُوثي، والشيخ جمال الدين بن مالك، وغيرهم. وأجازه الشيخ عزُّ الدين ابن عبد السلام، والشيخ نجمُ الدين البادَرائي، والحافظ رشيدُ الدين العطّار، وأبو شامة المقدسي، وغيرهم. منزلته ومكانته: انتهت إليه مشيخة المذهب الشافعي ببلاد الشام، وقُصد من الأطراف، وكان إمامًا عارفًا بالمذهب، وفنونٍ كثيرة. ثناء العلماء عليه: قال الحافظ الذهبيُّ رحمه الله في "المعجم المختص": "كان عديمَ النظير، له خبرةٌ تامَّةٌ بمتون الأحاديث، وانتهت إليه رياسةُ المذهب". مؤلفاته: له تصانيف كثيرة أكثرها مخطوط لم يطبع، نذكر منها: 1 - البستان في تفسير القرآن. 2 - الشرعة في القراءات العشر. 3 - تجريد الأصول في أحاديث الرسول (وهو ترتيب واختصار لجامع الأصول لابن الأثير). 4 - الوفا في سرائر المصطفى.

موضوع الجزء

5 - شرح الحاوي الصغير للقزويني في فروع المذهب الشافعي، في أربع مجلدات وسماه: "مفتاح الحاوي". وقد ذكر مترجموه أنه كان رحمه الله مُعتنيًا بالحاوي عناية تامة. 6 - الناسخ والمنسوخ (مطبوع). 7 - التمييز (في الفقه). 8 - مختصر التنبيه للشيرازي. (ملخصًا من طبقات الشافعية الكبرى، 10/ 387 - 391؛ ومعجم المؤلفين لكحالة، 13/ 139 - 140). موضوع الجزء: أفرد المصنّفُ رحمه الله في هذا الجزء مسألة مهمة جدًّا تقع للنساء في كُلِّ حجٍّ، وهي مسألةُ المرأة المحرمة التي تحيض قبل أن تطوفَ طواف الإِفاضة ولا تستطيع المقام حتى تطهر فتطوف؛ لأنها تريد الرحيل مع ركبها، فماذا تصنع؟ هذا ما يحاول المصنف رحمه الله حَلَّهُ وإزالةَ الإِشكال عنه، ورفع الحرج عن نساءِ الأُمَّة. وقد أورد هذه المسألة الفقيه الشافعي ابنُ حجر الهيتمي (¬1) المكي ¬

_ (¬1) الهيتمي بالتاء المثناة، هو صاحب الحاشية الآتي ذكرها و"الفتاوى الحديثية" و "الفتاوى الفقهية" وهو الفقيه الشافعي المتأخر. وأما الهيثمي بالثاء المثلثة فهو متقدم عليه وهو صاحب "مجمع الزوائد"، وهو المحدث المشهور نور الدين الهيثمي شيخ الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمهم الله جميعًا، فلا تغلط!

في "حاشيته على الإِيضاح" في مناسك الحج للإِمام النووي (¬1) فقال: "فائدة: كثر كلام الأئمة في نساء الحجيج إذا حِضْنَ قبل طواف الإِفاضة ولم يمكنهن التخلُّف لفعله، وللبارزيّ في المسألة كلام حسن طويل ... ". ثم لخَّص كلام الإِمام البارزي الآتي في هذا الجزء. ثُمَّ قال: "لكن اعترضه اليافعيُّ فقال: عجبتُ من تجويزه السَّفَرَ للحائض قبل طواف الإِفاضة مع جلالة علمه (¬2) وقول الذهبي في حقه: إنه بلغ رُتبة الاجتهاد. والنووي (¬3): ليس في هذه البلاد أفقهُ من هذا الشاب. وكان يعرض عليه ما اختصره من "الروضة" (¬4). وقد صحَّ قولُه - صلى الله عليه وسلم - لما حاضت صفيَّةُ: "أحابِسَتُنَا هي؟ " (¬5)، يعني عن السَّفَرِ حتى تَطْهُرَ .. هذا خارج عن ¬

_ (¬1) (387 - 389)، من طبعة محمود غانم غيث. (¬2) أي: البارزي رحمه الله. (¬3) أي: وقول النووي فيه. (¬4) أي: "روضة الطالبين" للإمام النووي رحمه الله. (¬5) نص الحديث: عن عائشة رضي الله عنها قالت: حَجَجْنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فَأَفَضنا يوم النحر، فحاضت صفيَّة، فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - منها ما يريدُ الرَّجُلُ مِنْ أهْلِهِ، فَقُلْتُ: يا رسولَ الله، إنَّها حائِضٌ. قال: "أَحابِسَتُنَا هي؟ "، قالوا: يا رسولَ الله، إنَّها قد أَفَاضَتْ يومَ النحرِ، قال: "اخْرُجُوا". أخرجه البخاري في: باب الزيارة يوم النحر، وباب إذا حاضت المرأةُ بعدما أفاضت، وباب الإدلاج من المحصب، من كتاب الحج، وفي باب قول الله تعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ ...} من كتاب الطلاق. صحيح البخاري 2/ 214، 220، 223؛ 7/ 75. =

الكتاب والسنَّة والإِجماع والقياس". وأجاب الهيتمي عن اعتراض اليافعي هذا بقوله: "ولك أن تقول: لم يقل البارزيُّ: يجوز لها السَّفَرُ بغير طوافٍ؛ وإنما قال: إذا سافرت صبرت حتّى يتعذَّر رجوعُها ثُمَّ تتحلل. وليس في ذلك تجويز السفر لها، بل بيان الطريق إلى تحللها إذا سافرت بلا طواف، فحينئذٍ كلامُهُ لم يُخالف الكتابَ ولا غيرَه! ثُمَّ رأيتُ البُلْقينيَّ استنبطَ مما ذكروه في الإِحصار من الطواف أنها إذا لم يمكنها الإِقامة حتى تطهر وجاءت بلدها وهي محرمةٌ وعدمت النفقة ولم يمكنها الوصول إلى البيت؛ أنها كالمُحْصَرِ، فتتحلل تَحَلُّلَه. وأيَّده بما في "المجموع": أنه لو صُدَّ عن طريقٍ ووجدَ آخرَ أطولَ ولم يكن معه ما يكفيه إذا سَلَكَهُ فَلَهُ التَّحَلُّلُ. قال الوليُّ العِراقيُّ: وهو استنباطٌ حَسَنٌ. وبه ¬

_ = ومسلم في صحيحه في باب وجوب طواف الوداع، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 964، 965. كما أخرجه أبو داود، في باب الحائض تخرج بعد الإفاضة، من كتاب المناسك. سنن أبي داود 1/ 462. والترمذي في باب ما جاء في المرأة تحيض بعد الإِفاضة، من أبواب الحج. عارضة الأحوذي 4/ 171. وابن ماجه في باب الحائض تنفر قبل أن تودع، من كتاب المناسك. سنن ابن ماجه 2/ 1021. والإمام مالك في باب إفاضة الحائض، من كتاب الحج. الموطأ 1/ 412، 413. والإِمام أحمد في المسند 6/ 38، 39، 82، 85، 99، 122، 164، 175، 193، 202، 207، 213، 224، 253، 431.

أفتى شيخُ الإِسلام فقيه عصره الشرفُ المُناوي، وهو مُؤَيِّدٌ لما قال البارزيُّ، فهو المعتمد. فإن قُلْتَ: فَقْدُ النَّفَقَةِ لا يجوزُ التحلُّلُ به إلَّا لِمَنْ شَرَطَهُ (¬1)، كما صَرَّحوا به؟ قُلْتُ: الظاهرُ أن محل ذلك في التحلُّلِ قبل الوقوفِ، أَمَّا بعده -كما هنا- فيجوزُ التحللُ بسببه وإنْ لم يَشْتَرِطْهُ. على أَنَّ بعضَ الحنابلة نقل عن طائفة من العُلماء ما يُصَرِّحُ بجواز سَفَرِها وتَحلُّلها تَحَلُّلَ المُحْصَرِ. وإذا علمت ما تَقَرَّرَ؛ فالأليقُ بمحاسن الشريعة أَنَّ من ابتُلِيَتْ بشيءٍ من أحدِ الأقسام الأربعة المذكورة (¬2) تُقَلِّدُ القائلَ بما لها فيه مَخْلَصٌ. بل اختار بعض الحنابلة وتبعه بعضُ متأخري الشافعية أنه لا يُشترط طُهْرُها إذا لم تتوقع فراغَ حيضها قبل سفر الركب للضَّررِ الشديد بالمقام والرحيل مُحْرِمةً، وأنَّه يجوزُ لها دخولُ المسجدِ للطوافِ بعدَ إحكام الشَّدِّ والغسل والعَصْبِ، كما تباحُ الصلاةُ لنحو السلس، وأنه لا فديةَ عليها لعُذْرِها. لكن لا يجوز تقليد القائل بذلك لأنه لم يُعلم من قاله من المجتهدين، وغير المجتهد لا يجوز تقليدُهُ! " انتهى كلام ابن حجر الهيتمي. أقول: قائل هذا من الحنابلة -الذي أخفى الهيتمي رحمه الله ¬

_ (¬1) أي: اشترط ذلك عند نيته والدخول في نُسكه. (¬2) أي: المذكورة في جزء البارزي، كما سيأتي.

اسمه (¬1) -هو شيخ الإِسلام ابن تيميةَ رحمه الله تعالى، وابن تيمية وإن لم يبلغ مرتبة الأئمة الأربعة إلَّا أنه لا شك في بلوغه درجة الاجتهاد بشهادة أعيان عصره وفقهائهم ومن بعدهم .. وما المانع أن يجتهد العالم في إيجاد الحلول للنوازل الواقعة والمسائل المستحدثة؟! لو لم يفعل فقهاؤنا ذلك لماتَ الفقه والتفقه في الدين وزال واضمحل!! وشيخ الإِسلام ابن تيمية لما أفتى في هذه المسألة، قال بكل تواضع وأمانة رحمه الله: "هذا هو الذي تَوَجَّه عندي في هذه المسألة، ولا حول ولا قوة إلَّا باللهِ العلي العظيم. ولولا ضرورة الناس واحتياجهم إليها علمًا وعملًا لما تَجَشَّمْتُ الكلام، حيثُ لم أجد فيها كلامًا لغيري، فإن الاجتهاد عند الضرورةِ مما أَمَرَنا الله به، فإن يكن ما قُلْتُه صوابًا، فهو حكم الله ورسوله، والحمد لله. وإن يكن ما قُلْتُهُ خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان من الخطأ. وإن كان المخطئ معفوًا عنه. والله سبحانه وتعالى أعلم. والحمد لله وحده، وصلَّى الله على محمَّد وآله وسلّم تسليمًا" (¬2). أقول: وراجع تفصيل فتاواه في هذه المسألة المهمة في "مجموع الفتاوى" 26/ 219 - 241؛ 242 - 245. ¬

_ (¬1) وإنما أخفى اسمه لمخالفته له في كثير من مسائل الأصول والفروع!! وانظر: "جلاء العينين في محاكمة الأحمدين" للآلوسي، ويقصد بالأحمدين: ابن تيمية والهيتمي رحمها الله تعالى. (¬2) مجموع فتاوى شيخ الإِسلام ابن تيمية 26/ 241.

وصف النسخ وعملي فيها

وخلاصة رأيه: أنها (¬1) تفعل ما تقدر عليه (¬2) ويسقط عنها ما تعجز عنه، ولا دم عليها -في الراجح عنده- لأن الواجب إذا تُرِكَ من غير تفريط فلا يجب بتركه الدم. ونعمَ الرأْي رَأْيُهُ رحمه الله، ولا تحتاج المسلمةُ بعد ذلك إلى إعمال بعض الحيل التي ذكرها بعض الفقهاء رحمهم الله جمودًا منهم وتخوفًا من الاجتهاد!! وصف النسخ وعملي فيها: اعتمدتُ في إخراج النص على نسخة مخطوطة أصلية محفوظة في خزانة كتبي العامرة حرسها الله تعالى من الشرور والآفات. وقابلتها بنسخة وجدتها ضمن مجموع في مكتبة نيويورك العامة (New York Public Library) أثناء إحدى زياراتي لها، وهي نسخة ناقصة مشوشة، ومع ذلك فقد استفدت من مواضع فيها تراها في الهامش. هذا وللكتاب نسخ أخرى في المكتبات العالمية، منها نسختان في مكتبة جامعة برنستون ضمن مجموعة يهودا، ولكن لم يتيسر لي في هذه العجالة الوقوف عليهما فنظرة إلى ميسرة، والله الموفق. وصلى الله على سيدنا محمَّد وعلى آله وصحبه وسلم. قاله وكتبه خادم العلم بالبحرين نظام محمد صالح يعقوبي ¬

_ (¬1) أي: المرأة المحرمة التي حاضت قبل طواف الإِفاضة. (¬2) وذلك بأن تغتسل وتَسْتَثْفِر -أي تستحفظ- ثم تطوف.

لقاء العشر الأواخر بالمسجد الحرام (21) مسائل تحليل الحائض من الإحرام إملاء القاضي الإمام شرف الدين أبي القاسم هبة الله بن البارزيِّ (المتوفى 738 هـ) بعناية نظام محمد صالح يعقوبي

أول المسائل محققة

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وسلامه على عباده الذين اصطفى. مسائل تحليل الحائض من الإِحرام، إملاء القاضي الإِمام شرف الدين أبي القاسم هبة الله بن القاضي نجم الدين أبي حامد عبد الرحيم بن القاضي شمس الدين أبي الطاهر إبراهيم بن البارزي الشافعي قاضي حماه رحمه الله تعالى، قال: بسم الله الرحمن الرحيم {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)}. {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}. "بُعثتُ بالحنيفية السمحة". مسألةٌ تقع في الحج كل عامٍ، ويُبتلى بها نساءُ كثيرٍ مِنَ العُلماء والعوامِّ؛ وهي أنَّ المرأة المُحْرِمةَ تحيضُ قبل طواف الرُّكنِ -وهو طوافُ الإِفاضةِ-، ويرحل الرَّكْبُ قبلَ طوافِها ولا يمكنها المقام. وفي سنةِ سبعٍ وسبعمائة وقع ذلك لكثيرٍ من نساءِ الأعيان [وغيرهم] (¬1)؛ ¬

_ (¬1) الزيادة من نسخة نيويورك.

فمنهنَّ من انقطعَ دَمُها يومًا أو أكثرَ لاستعمالِ دواءٍ لذلكَ، وظَنَّت أنَّ الدم لا يعودُ؛ فاغْتَسَلَتْ وطافَتْ، ثُمَّ عادَ الدَّمُ في أيَّام العادة. ومنهنَّ من انقطع دَمُها يومًا أو أكثر بلا دواء؛ فاغتسلت وطافت، ثُمَّ عاد الدَّم في أيَّام العادةِ. ومنهنَّ من طافَتْ قبل انقطاع الدَّمِ والاغتسال. ومنهن من سافرت مع الركبِ قبل الطَّوافِ وكانت قد طافت طواف القدوم وسَعَت بَعْدَهُ. فهؤلاء أربعةُ أصناف. فَلَمَّا اشْتَدَّ الأَمْرُ بهنَّ وخِفْنَ أن يحرم تزويجهن (¬1) وَوَطْءُ المزوجة منهنَّ، ويرجعنَ بلا حجٍّ وقد أتَيْنَ من البلاد البعيدة، وقاسين المشاقَّ الشديدة، وفَارقْنَ الأوْلادَ والرجال، وخاطَرْنَ بالأَنْفُسِ وأَنْفَقْنَ الأموال، كَثُرَ مِنْهُنَّ السؤال، وقد قارَبَتْ عقولُهُنَّ الزوال: هل من مخرج عن (¬2) هذا الحرج؟ وهل مع هذه الشدة من فَرَج (¬3)؟ فَسَأَلْتُ الله تعالى التوفيق والإِرشاد إلى ما فيه التيسيرُ على العباد، من مذاهبِ العُلماءِ الأئمةِ، الَّذين جعل [الله] (¬4) اختلافهم رحمة للأُمَّة. فَظَهَرَ لي من (¬5) الجواب، واللهُ أعلمُ بالصواب: ¬

_ (¬1) في نسخة نيويورك: "تزوجهن". (¬2) في نسخة نيويورك: "فرج من". (¬3) في نسخة نيويورك: "وهل مع هذه الشدة والضنا، من أمر يزيل العنا". (¬4) الزيادة من نسخة نيويورك. (¬5) في الأصل: "في". والمثبت من نسخة نيويورك.

أنه يجوز تقليد كل واحدٍ من الأئمة الأربعةِ رضي الله عنهم، ويجوزُ لكل أحدٍ أن يُقَلِّدَ واحدًا منهم في مَسْأَلةٍ ويقلِّدُ إمامًا آخرَ في مسألةٍ أُخرى؛ ولا يتعيَّنُ عليه تقليدُ واحدٍ بِعَيْنِهِ في كُل المسائل. وإذا عُرِف هذا؛ فَيَصِحُّ حَجُّ كُلِّ واحدةٍ من الأصنافِ المذكورة على قولِ بعضِ الأئمةِ. * أما الصنف الأول والثاني؛ فَيَصِحُّ طوافُهُنَّ في مذهب الإِمام الشافعي على أحدِ القَوْلَيْنِ فيما إذا انقطعَ دمُ الحيضِ يَومًا ويَوْمًا؛ فإِنَّ يَوْمَ النقاءِ طُهْرٌ على هذا القولِ، ويُعْرَفُ بقولِ التلفيق. وصَحَّحَهُ من أصحاب الشافعي أبو حامدٍ المحامليُّ في كُتُبِهِ، وسليمان، والشيخ نصر المقدسي، والروياني. واختاره أبو إسحاقَ المروزيُّ، وقَطَعَ به الدارميُّ. وأمَّا مذهب الإِمام أبي حنيفة؛ فيصحُّ طوافُهُنَّ؛ لأنَهُ لا يُشترط عنده -في الطواف- طهارَةُ الحدثِ ولا النجس، ويَصِحُّ عندَهُ طوافُ الحائض والجنُبِ. وأمَّا على مذهب الإِمام مالكِ، فَيَصِحُّ طوافُهُنَّ؛ لأَنَ مَذْهَبَهُ أَنَّ النقاءَ في أيَّام التقطُّعِ طُهْرٌ. وأما على مذهبِ الإِمامِ أحمدة فَيَصِحُّ طوافُهُنَّ؛ لأنَّ مَذْهَبُه في النقاءِ كمذهبِ مالكٍ، وفي اشتراط طهارة الحدث والخبث كمذهبِ أبي حنيفة، في إحدى الروايتين عن الإِمام أحمد. * وأمَّا الصِّنْفُ الثالثُ (¬1) فَيَصِحُّ طوافُهُنَّ على مَذْهبِ الإِمامِ ¬

_ (¬1) وهن اللاتي طفن قبل انقطاع الدم والاغتسال.

أبي حنيفة، وفي إحدى الروايَتَيْنِ عن الإِمام أحمدَ؛ لكن يلزمها ذبح بَدَنةٍ وتأثمُ بدخولها المسجدَ وهي حائضٌ؛ فيقال: لا يحلُّ لكِ دخول المسجدِ وأنت حائض؛ لكن إنْ دَخَلْتِ وطفتِ أَثِمْتِ وصَحَّ طوافُكِ وأَجْزَأَكِ عن الفَرْضِ! * وأَمَّا الصنف الرابع -وهي التي سَافَرتْ من مكة شَرَّفها اللهُ تعالى قبل الطواف-؛ فقد نَقَلَ المِصْرِيُّون (¬1) عن الإِمام مالكٍ: أنَّ مَنْ طافَ طوافَ القُدوم وسعى ورجَعَ إلى بلده قبل طوافِ الإِفاضةِ جاهلًا أو ناسيًا، أجْزَأَ عن طوافِ الإِفاضةِ. ونَقَلَ البغداديُّون عن مالكٍ خلافَهُ. حكى الروايتَيْنِ عن مذهب الإِمام مالكٍ رحمه الله القاضي أبو عبد الله محمد بن أحمد المالكيُّ في كتاب "المنهاج في مناسك الحجِّ"، وهو كتابٌ جليل مشهورٌ عند المالكية. ويَتَخَرَّجُ على روايةِ المصريين عن مالكٍ، سقوط طواف الإِفاضةِ عن الحائض التي تَعَذَّرَ عليها الطوافُ والإِفاضةُ؛ فإنَّ عُذْرَها أَظْهَرُ من عُذْرِ الجاهل والناسي. فإن لم يعمل بهذه الرواية أولم يَصِحَّ التخريجُ المذكور، وأرادت الخروج من محظور الإِحرام؛ فعلى قياس أصولِ مذهب الإِمام الشافعيِّ وغَيْرِهِ تَصْبِرُ حتى تجاوز مكة بيوم أو يَوْمَيْن بحيث لا يمكنها الرجوع إلى مكة خوفًا على نفسها أو مالها، فتصير حينئذٍ كالمُحْصَرِ؛ لأنها تتيقن الإِحصار لو رجعت إلى مكة. ¬

_ (¬1) في "حاشية الهيتمي على الإِيضاح للنووي": البصريون، وهو تحريف.

الخاتمة

وتَيقُّن الإِحصار كوجود الإِحصار، كما أن تيقُّن الضرب لو خالف الأمر كوجود الضرْبِ في حصول الإِكراه، حتى لو أمره بالطلاق سلطان عَلِمَ من عادته أنَّه يُعاقبُ إذا خولف فَطَلَّق؛ لم يقع طلاقه. فإذا تقرَّر هذا، وأرادت الخروجَ من الإِحرام فَتَتَحَلَّلُ كما يَتَحَلَّلُ المحصَر، بأن ينوي الخروجَ من الحجِّ؛ حيث عجزت عن الرجوع، وتذبح هناك شاةً تَجزئُ في الأضحية وتتصَدَّقُ بها وتُقَصِّرُ شعر رأسها فتصيرُ حلالًا، ويحل لها جميعُ ما حَرُم عليها بالإِحرام. لكن إن كان إحرامها بحجِّ الفرض بقي في ذمَّتها، فتأتي به في عام آخر. وإذا صحَّ حجُّها على قول بعض الأئمة المذكورين دون بعض، وأرادت الاحتياط بالخروج عن محظورات الإِحرام، فتتحلَّل كما ذكرنا، والله أعلم. تمَّ وكمل لله الحمد والمنَّة وبه التوفيق والعصمة (¬1). * * * ¬

_ (¬1) * فرغت من نسخ هذا الجزء قُبيل الفجر وقت السَّحر في 21 رمضان 1420 هـ، بمكة المكرمة حرسها الله تعالى. * قوبلت بالمسجد الحرام بقراءة الأخ الحبيب المحب في الله، فضيلة الشيخ المحقِّق المدقِّق، محمد بن ناصر العجمي عليَّ، ليلة الجمعة 23 رمضان المبارك 1420 هـ بين العشاءين، فصح وثبت والحمد لله أولًا وآخرًا. وصلَّى الله على سيدنا محمَّد وعلى آله وصحبه وسلَّم. كتبه الفقير إلى الله تعالى نظام محمد صالح يعقوبي العباسي نسبًا، الشافعي مذهبًا، البحريني مولدًا ومنشأ

§1/1