مسؤولية إمام المسجد

علي عسيري

بسم الله الرحمن الرحيم كلمة بين يدي البحث الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على النبي الأمين، سيد الأولين والآخرين، وعلى آله وصحبه الطيبين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد: فقد سرت في هذا البحث الموجز على النحو التالي: عرفت بالإمامة، ثم بينت فضلها، ومنزلة الإمام وصفاته، ثم أشرت إلى بعض الأحكام المتعلقة بمن لم يتصف بالصفات المعتبرة على سبيل الاختصار. وبعد ذلك تحدثت عن مسئولية إمام المسجد مبينا أن هناك قدرا مشتركا من المسئولية يتحمله كل من يقوم بالإمامة، وقدرا خاصا يناط ببعض الأئمة الذين يتحملون ما لا يتحمله غيرهم، ويجب عليهم بحسب قدراتهم، وعلمهم، وفضلهم، ما لا يجب على من ليس مثلهم، ثم عقدت فصلا خاصا بمسئولية الخطيب تجاه خطبة الجمعة، بينت فيه أن على الخطيب أن يلتزم هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الخطبة، ويلتزم الحكمة والموعظة الحسنة مبتعدا عن القول الخشن، وأن يراعي أحوال المخاطبين، واختلاف مداركهم وبيئاتهم، وأن يعتمد على مصادر المعرفة الإسلامية الموثقة، ويلتزم اللغة الفصحى، ويعد الخطبة إعدادا جيدا، ويقدم الأولى

والأهم من الموضوعات التي تكون حاجة الناس إليها أكثر من غيرها، ثم بينت أنه لا بد أن يراعي في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المصلحة الراجحة ويوازن بين المصلحة والمفسدة، لأن من شأن الخطيب الناجح الذي يكسب ثقة الناس ومحبتهم له، وتأثرهم به أن يراعي جميع ما أشرت إليه. وبعد، فهذا جهد المقل، وما حصل فيه من خطأ وتقصير فمني، وأستغفر الله الغفور الرحيم، وأعتذر من الصفوة الأخيار من مسئولين ومشاركين في هذا الملتقى الطيب، راجيا منهم أن يغضوا الطرف ويقبلوا العذر، ويتفضلوا على أخيهم بملحوظاتهم التي سأفيد منها فيما بعد، وأسأل الله لي ولهم ولجميع العاملين في مجال الدعوة مزيدا من التوفيق والسداد، وتثبيتا على طريق الهدى والرشاد، وسبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين. كتبه العبد الفقير إلى عفو ربه علي بن حسن بن ناصر عضو هيئة التدريس بكلية الشريعة وأصول الدين جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية / أبها

معنى الإمامة لغة واصطلاحا

[معنى الإمامة لغة واصطلاحا] معنى الإمامة لغة واصطلاحا الإمامة في اللغة: هي مصدر الفعل " أم " والإمام هو ما يؤتم به، ومنه قيل للطريق إمام، وللبناء إمام لأنه يؤتم بذلك، أي يهتدي به السالك، والنبي صلى الله عليه وسلم إمام الأئمة، والخليفة إمام الرعية، والقرآن إمام المسلمين، وإمام كل شيء قيمه والمصلح له. واصطلاحا هي من يصح الاقتداء به في الصلاة. أو هي ربط صلاة المؤتم بالإمام. وتطلق على الإمامة الكبرى، وهي الخلافة أو الملك أو رئاسة الدولة. وتطلق على العالم المقتدي به، فيقال إمام المحدثين، وإمام الفقهاء. والإمام لما كان هو القدوة للناس لكونهم يأتمون به، ويهتدون بهديه أطلق عليه هذا اللفظ (¬1) . [فضل الإمامة ومنزلة الإمام] فضل الإمامة ومنزلة الإمام الإمامة تعليم، وتذكير، وأمر بمعروف ونهي عن منكر، ولا يخفى ما لهذه الأمور من منزلة عظيمة، فبالعلم يزول الجهل، وبالتذكير ¬

(¬1) انظر تفسير الطبري 19 / 34، وفتح القدير 1 / 137 والمفردات في غريب القرآن للأصفهاني ص 24 والصحاح للجوهري 5 / 1865، وغاية المرام في شرح شروط المأموم والإمام ص 39، وأحكام الإمامة والائتمام في الصلاة 62.

تذهب الغفلة، ويحل الإقبال على الدين محل الإعراض عنه، وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تسود طاعة الله في المجتمع وتضمحل المعصية، وتنتشر الفضيلة وتنحسر الرذيلة، ويكثر الخير ويقل الشر. من أجل هذا وغيره تعد الإمامة رسالة عظيمة، ومهمة جسيمة يوفق الله للقيام بها على الوجه المطلوب دعاة الحق، وصفوة الخلق حماة الدين، وحراس العقيدة الصحيحة، فيتعلم على أيديهم الجاهل، ويستيقظ من أجل مواعظهم الغافل، ويهتدي بهم السالك، وتسمو بتوجيهاتهم النفوس، وتزكو الضمائر، وتتهذب الأخلاق، ويقوم سوق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فتحيا السنن، وتندرس البدع ويسعد الناس بالأئمة الأكفاء كما سعدت الدنيا بإمام الأئمة صلى الله عليه وسلم، على حد قول القائل: إذا نحن أدلجنا وأنت إمامنا ... كفى بالمطايا طيب ذكراك حاديا وإن نحن أضللن الطريق ولم نجد ... دليلا كفانا نور وجهك هاديا ولما كان أمر الإمامة عظيما، دعا النبي صلى الله عليه وسلم للأمة بالرشد فقال: «الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن اللهم أرشد الأئمة، واغفر للمؤمنين» (¬1) . ¬

(¬1) رواه الإمام أحمد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في المسند 2 / 232، 332، 337. قال في الفتح الرباني 3 / 8 صححه ابن حبان.

ومن المعلوم أن الإمامة رمز الاجتماع والائتلاف، لذا فقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على اتخاذ إمام ولو كانوا ثلاثة نفر فقط، حيث قال عليه الصلاة والسلام: «إذا كانوا ثلاثة فليؤمهم أحدهم، وأحقهم بالإمامة أقرؤهم» (¬1) . فإذا كانوا مأمورين شرعا باتخاذ إمام ولو كانوا ثلاثة فقط، فكيف إذا كانوا جمعا كبيرا، لا شك أن الأمر أعظم، وهذا فيه من المصالح العظيمة، والمحامد الجليلة ما لا يخفى على أحد، فالناس يجتمعون على من يعلمهم الخير، ويفقههم في الدين، ويرغبهم تارة ويرهبهم أخرى، وينقلهم من المعصية إلى الطاعة، ومن الغفلة إلى التذكر والعبرة. والناس محتاجون إلى من يقوم بهذه الرسالة خير قيام؛ لأن أمراض المجتمع الحقيقية تكمن في: الجهل والغفلة، والميل إلى الشهوات، يقول تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41] (¬2) . ¬

(¬1) رواه مسلم في كتاب المساجد، باب من أحق بالإمامة 1 / 464. (¬2) سورة الروم آية 41.

ولا يخفى أن هذه العلل إذا كثرت كثر الخبث، ونزل البلاء إذ هو نتيجة لمقدمة، والله يقول: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا} [العنكبوت: 40] (¬1) . لهذا، فإن منزلة الإمام تعظم لكونه يتولى معالجة هذه العلل، فداء الجهل لا دواء له إلا بالعلم، وحاجة الناس إلى العلم الذي يرفع عنهم حجاب الجهل ويزيل غشاوته أشد من حاجتهم إلى الطعام والشراب، وأعظم من حاجة الأرض المجدبة إلى الغيث العميم. يقول الإمام أحمد رحمه الله: الناس إلى العلم أحوج منهم إلى الطعام والشراب؛ لأن الرجل يحتاج إلى الطعام والشراب في اليوم مرة أو مرتين، وحاجته إلى العلم بعدد أنفاسه. ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله عن العلم وفضله: به يعرف الله ويعبد، ويذكر ويوحد، ويحمد ويمجد، وبه اهتدى إليه السالكون، ومن طريقه وصل إليه الواصلون، ومن بابه دخل عليه القاصدون، به تعرف الشرائع والأحكام، ويتميز الحلال من الحرام، وبه توصل الأرحام، وبه تعرف مراضى + الحبيب، وبمعرفتها ومتابعتها يوصل إليه ¬

(¬1) سورة العنكبوت آية 40.

من قريب، وهو إمام والعمل مأموم. . إلى قوله: مذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وطلبه قربة، وبذله صدقة، ومدارسته تعدل بالصيام والقيام، والحاجة إليه أعظم منها إلى الشراب والطعام (¬1) . والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله، وملائكته، وأهل السماوات، وأهل الأرض حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت في البحر ليصلون على معلم الناس الخير» (¬2) . فلو لم يكن من فضل الإمامة، ومنزلة الإمام إلا هذا لكفى. والأئمة مبلغون لدين الله، داعون إلى كل خير وفضيلة، والدعاة إلى الله هم خير الناس، فهم الآمرون بالمعروف الناهون عن المنكر، القائمون على حدود الله، الذابون عن دين الله، الصالحون المصلحون الذين أثنى الله عليهم وامتدحهم في مواضع عديدة. قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33] (¬3) . وقال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108] الآية يقول ابن القيم رحمه الله: أمر الله نبيه بأن يخبر ¬

(¬1) انظر تهذيب مدارج السالكين 484 - 485، وما ذكره عن الإمام أحمد ص 485. (¬2) سورة فصلت 33. (¬3) سورة يوسف آية 108.

أن سبيله الدعوة إلى الله فمن دعا إلى الله تعالى فهو على سبيل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو على بصيرة وهو من اتباعه، ومن دعا إلى غير ذلك فليس على سبيله، ولا هو على بصيرة وهو من اتباعه، ومن دعاء إلى غير ذلك فليس على سبيل، ولا هو على بصيرة، ولا هو من أتباعه، فالدعوة إلى الله تعالى هي وظيفة المرسلين واتباعهم. . وتبليغ سننه (إلى الأمة أفضل من تبليغ) السهام إلى نحور العدو؛ لأن تبليغ السهام يفعله كثير من الناس، وأما تبليغ السنن فلا يقوم به إلا ورثة الأنبياء، وخلفاؤهم في أممهم جعلنا الله تعالى منهم بمنه وكرمه (¬1) . والمجتمعات تتعرض غالبا لعواصف من الفتن والمغريات تجر بعض الناس جرا إلى الفساد والإفساد، وتصرفهم عن طاعة رب العباد، وهنا يأتي دور الإمام المذكر المحذر المشفق على إخوانه فتحيا به القلوب، ويفتح الله على يديه مغاليقها، فيكون له بذلك من الأجر العظيم، والثواب الجزيل ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «من دعاء إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ¬

(¬1) التفسير القيم 431.

ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا» (¬1) . قال العلماء إن المتسبب إلى الهدى بدعوته له من الأجر مثل أجر من اهتدى به، وكذلك المتسبب إلى الضلالة عليه من الوزر مثل وزر من ضل به، لأن الأول بذل وسعه وقدرته في هداية الناس، والثاني بذل قدرته في ضلالتهم منزل كل واحد منهما منزلة الفاعل التام (¬2) . وجاء في وصية النبي صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه: «لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم» (¬3) . وحمر النعم هي الإبل الحمر وهي أنفس أموال العرب. يضرب بها المثل في نفاسة الشيء. إنه فضل عظيم، وحظ كبير أن يهتدي رجل واحد فقط فما الظن بمن يهتدي كل يوم به طوائف من الناس، لا شك أن الأمر أعظم - نسأل الله العظيم بفضله وكرمه أن يجعلنا من الهداة المهتدين. ¬

(¬1) رواه مسلم في كتاب العلم، باب من سنن سنة. . . الخ 4 / 2059 ح (2674) . (¬2) انظر غذاء الألباب 1 / 47. (¬3) رواه مسلم في فضائل الصحابة، باب من فضائل علي رضي الله عنه 4 / 1872 ح (2406) .

صفات القائم بالإمامة

[صفات القائم بالإمامة] [اختيار الإمامة مبني على الأفضلية] صفات القائم بالإمامة مما سبق يتبين لنا أن الإمام معلم وواعظ ومصلح، يربي عقولا، ويبنى نفوسا ويغرس قيما وأخلاقا حميدة، ولذا فإن عمله ليس محصورا بإمامة الناس في الصلاة فقط، وإن كان هذا من أهم الأعمال وأعظمها، وهذه الشمولية في العمل هي التي تضفي على الإمامة طابعا مميزا، وتعطي صاحب هذه المهمة قدرا عظيما، ومركزا مرموقا، ومنزلة عالية، ولكن هل نطالب جميع الأئمة بهذا القدر العظيم من الصفات؟ وهل يستطيع كل إمام يؤمن الناس أو نرشحه لهذا العمل أن يكون بهذا المستوى؟ لا شك أن كل غيور على دين الله، ومشفق على إخوانه، يتمنى أن يكون كل إمام على هذا المستوى الرفيع من العلم، والفقه في الدين، والقدرات المتعددة، والمواهب المتنوعة التي تمكن الإمام من القيام بهذا العمل على أحسن وجه، وتتيح له فرص التأثير في الناس، وكسب قلوبهم فيعم الخير، ويضمحل الجهل والفساد. غير أنه ليس من الممكن أن يتحقق هذا، ولو حرصنا عليه، ولا أعتقد أن كل إمام يستطيع القيام بالإمامة على النحو الذي أسلفنا، ومن المقرر أن اختيار الإمامة مبني على الأفضلية، حيث قال عليه

صفات وشروط تعتير الحد الأدنى لمن يقوم بالإمامة

الصلاة والسلام: «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأكبرهم سنا» (¬1) . وهذا التوجيه النبوي الكريم فيه يسر ظاهر؛ لأنه يختلف تماما عن قول القائل يجب أن يكون الإمام حافظا، قارئا، عالما. . . الخ، لأن أقرأ القوم قد لا يكون كذلك، وهذا هو الغالب، وعندما ساق أبو يعلى الفراء الصفات المعتبرة في تقليد الإمام وهي أن يكون رجلا عدلا، قارئا، فقيها، سليم اللفظ من نقص أو لثغ بين رحمه الله: أن أقل ما على هذا الإمام من القراءة والفقه أن يكون حافظا لأم القرآن، عالما بأحكام الصلاة؛ لأنه القدر المستحق فيه، ثم قال ولأن يكون حافظا لجميع القرآن، عالما بجميع الأحكام أولى (¬2) . [صفات وشروط تعتير الحد الأدنى لمن يقوم بالإمامة] مما سبق يتبين أن هناك قسما من الصفات يعد حدا أدنى لمن يقوم بالإمامة، وقسما آخر هو الأولى لأن يتصف به القائم بهذا العمل الجليل، وكلما ازداد منه عظم قدره، وارتفع شأنه، وقام بهذا العمل ¬

(¬1) رواه مسلم في كتاب المساجد، باب من أحق بالإمامة 1 / 465 ح (291) من حديث أبي مسعود الأنصاري، وأبو داود في كتاب الصلاة باب من أحق بالإمامة 1 / 137. (¬2) انظر الأحكام السلطانية ص 97، وكذلك الأحكام السلطانية للماوردي ص 179.

العظيم على الوجه الذي يحقق له بفضل الله وكرمه، الفوز برضا الله، والنجاة من عذابه. وكما قال القائل: على قدر أهل العزم تأتي العزائم ... وتأتي على قدر الكرام المكارم وتعظم في عين الصغير الصغائر ... وتصغر في عين العظيم العظائم فأما القسم الأول فهو كما سبق ذكره أن يكون: رجلا، عدلا، حافظا لأم القرآن، عالما بأحكام الصلاة، سليم اللفظ من نقص أو لثغ. فالذكورية شرط لصحة الإمامة. قال في المغني: وأما المرأة فلا يصح أن يأتم بها الرجل بحال، في فرض ولا نافلة في قول عامة الفقهاء، ثم استدل بقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تؤمن امرأة رجلا، ولا فاجر مؤمنا إلا أن يقهره بسلطان، أو يخاف سوطه أو سيفه» (¬1) . وذكر أيضا أن الخنثى لا يجوز أن يؤم رجلا، لأنه يحتمل أن يكون امرأة، ولا خنثى مثله، لأنه لا يجوز أن يكون الإمام امرأة والمأموم رجلا (¬2) . أما إمامة المرأة للنساء مثله فلا بأس بذلك. ¬

(¬1) رواه الإمام ماجه في كتاب إقامة الصلاة، باب في فرض الجمعة 1 / 343. (¬2) المعنى لابن قدامة 3 / 33، 34.

والعدالة تعني أن يكون مؤمنا تقيا، ذا عقيدة سليمة، وسلوك مستقيم، وسوف يأتي الحديث عن إمامة الفاسق في عقيدته، أو في سلوكه. وأما القارئ الفقيه، فأقل ما فيه - كما مر - حفظ أم القرآن، والعلم بأحكام الصلاة، وأما السليم في لفظه من النقص واللثغ فهو بين واضح: يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله: وأما من لا يقيم قراءة الفاتحة فلا يصلي خلفه إلا من هو مثله، فلا يصلى خلف الألثغ الذي يبدل حرفا بحرف إلا حرف الضاد إذا أخرجه من طرف الفم كما هو عادة كثير من الناس، فهذا فيه وجهان، منهم من قال لا يصلى خلفه، ولا تصح صلاته في نفسه. . والوجه الثاني: تصح، وهذا أقرب؛ لأن الحرفين في السمع شيء واحد، وحس أحدهما من جنس الآخر لتشابه المخرجين، والقارئ إنما يقصد الضلالة المخالفة للهدى، وهو الذي يفهمه المستمع، فأما المعنى المأخوذ من ظل فلا يخطر ببال أحد، وهذا بخلاف الحرفين المختلفين صوتا ومخرجا وسمعا، كإبدال الراء بالغين، فإن هذا لا يحصل به مقصود القراءة (¬1) . وجاء في المغني ما نصه: من ترك حرفا من حروف الفاتحة لعجزه عنه، أو أبداله بغيره كالألثغ الذي يجعل الراء غينا، والأرت الذي ¬

(¬1) انظر مجموع الفتاوي 23 / 350.

يدغم حرفا في حرف، أو يلحن لحنا يحيل المعنى كالذي يكسر الكاف من إياك، أو يضم التاء من أنعمت، ولا يقدر على إصلاحه فهو كالأمي، لا يصح أن يأتم به قارئ، ويجوز لكل واحد منهم أن يؤم مثله؛ لأنهما أميان فجاز لأحدهما الائتمام بالآخر كاللذين لا يحسنان شيئا، وإن كان يقدر على إصلاح شيء من ذلك فلم يفعل لم تصح صلاته، ولا صلاة من يأتم به (¬1) . ومن المقرر أن إمامة المجنون لا تصح؛ لأن صلاته لنفسه باطلة، وقد ذكر ابن قدامة أنه إن كان يجن تارة، ويفيق أخرى فصلى وراءه حال إفاقته صحت صلاته، ويكره الائتمام به لئلا يكون قد احتلم حال جنونه، ولم يعلم ولئلا يعرض الصلاة للإبطال في أثنائها لوجود الجنون فيها، والصلاة صحيحة لأن الأصل السلامة فلا تفسد بالاحتمال. وكذلك لا تصح إمامة الكافر المعلن لكفره كاليهودي والنصراني ونحوهما لنقصه بالكفر. قال في المغني: وإن صلى خلف مشرك أو امرأة أو خنثى مشكل أعاد الصلاة (¬2) . ¬

(¬1) المغني 3 / 31 بتحقيق د. عبد الله التركي، ود. عبد الفتاح الحلو. (¬2) المغني 3 / 32.

صفات هي أولى ما يكون عليه الإمام

ولا تصح إمامة الصبي الذي لا يميز لأن صلاته لنفسه غير صحيحة لعدم صحة نيته، أما الصبي المميز فإن إمامته صحيحة لحديث عمرو بن سلمة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبيه: «وليؤمكم أكثركم قرآنا فنظروا فلم يكن أحد أكثر قرآنا مني لما كنت أتلقى من الركبان فقدموني بين أيديهم، وأنا ابن ست سنين أو سبع سنين» (¬1) . والحد بسن معين غير منضبط، فيعتبر تمييز كل صبي بنفسه؛ لأن من الصبيان من يميز في السبع، ومنهم من يميز بأقل منها ومنهم من لا يميز إلا بأكثر، والله أعلم. [صفات هي أولى ما يكون عليه الإمام] أما القسم الثاني من الصفات، وهو أولى ما يكون عليه الإمام فيمكن إجماله فيما يلي: أولا: عن صفات علمية، وتتلخص في حفظ القرآن الكريم كله أوجله، وحفظ قدر طيب من السنة، والإلمام بعلوم القرآن، والسنة، والتفسير، والسيرة وفقه الإيمان، وفقه الأحكام، والإطلاع على التاريخ ومعرفة اللغة العربية وعلومها. ومعرفة ما يدور في واقع الأمة، وأبرز قضاياها، وكشف شبهات الباطل ودحض مفترياته، ومعرفة خطط الأعداء، والتحديات المعاصرة الفكرية، والسياسية ¬

(¬1) رواه البخاري في المغازي، باب مقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة زمن الفتح 5 / 95. انظر في شروط صحة الإمامة: غاية المرام في شرح شروط المأموم والإمام ص 40 فما بعدها لشمس الدين محمد بن أحمد الرملي الشافعي.

والسلوكية التي تواجه شباب المسلمين، ذلك أن من شأن خطيب الجمعة توجيه الناس، وتبصيرهم بأمور دينهم ودنياهم، وغرس الالتزام بالإسلام في حياة الناس، عقيدة، وعبادة، وخلقا وسلوكا، وهذا يحتاج إلى ما أشرنا إليه من الصفات، وإلا ضعف أداؤه لهذا العمل. ثانيا: صفات عملية. وتتلخص في إخلاصه لله عز وجل، وبعده عن الشهرة، والجاه، وحب الظهور، ولا بد من متابعته للنبي صلى الله عليه وسلم في أقواله وأعماله، وقوة صلته بالله تعالى، وشدة تألهه، وإصلاح سريرته، وصدقه، وغيرته، وورعه وكرمه وحيائه وحسن تعامله، وتواضعه، وصبره، وعفته، وألا يسرف في المباحات؛ لأنه قدوة، وألا يخالف قوله عمله، وأن يكون مشفقا على إخوانه المسلمين، باذلا لهم النصح والدعاء وذا عطف على المحتاجين الفقراء، مستذكرا دائما قوله الله تعالى: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88] (¬1) . ثالثا: صفات قيادية. وذلك بأن يكون قوي الشخصية، ثابت القلب، ذا حزم ورأي، وثقه بالله تعالى، وشجاعة في غير تهور، وله نظرة بعيدة، وتفكير عميق وعزيمة قوية، ونشاط دائب، وترتيب لأقواله وأفكاره، وأعماله، مستشعرا قول الله تعالى. {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} [الأحزاب: 39] (¬2) . نسأل الله العظيم بفضله وكرمه أن يمن علينا بذلك. ¬

(¬1) سورة هود 88. (¬2) سورة الأحزاب 39.

إمامة الفاسق ومستور الحال

[إمامة الفاسق ومستور الحال] إمامة الفاسق ومستور الحال والعاجز الفسق إما في الاعتقاد، وإما في الأعمال، والأول فساد في العقيدة وهذا هو المبتدع، والثاني فساد في السلوك بارتكاب كبيرة من كبائر الذنوب أو الإصرار على صغيرة من الصغائر كشرب الدخان، وحلق اللحية ونحو ذلك. وقد اتفق العلماء على كراهة الصلاة خلف الفاسق من أي نوع من الأنواع السابقة، ولكن اختلفوا في صحة الصلاة خلفه والذي رجحه الإمام ابن تيمية رحمه الله، وأن الصلاة خلف أهل الأهواء والبدع والفجور صحيحة، حيث قال: الفاسق والمبتدع صلاته في نفسه صحيحة، فإذا صلى المأموم خلفه لم تبطل صلاته، لكن إنما كره من كره الصلاة خلفه لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب، ومن ذلك أن من أظهر بدعة أو فجورا لا يرتب إماما للمسلمين؛ فإنه يستحق التعزير حتى يتوب، فإذا أمكن هجره حتى يتوب كان حسنا، وإذا كان بعض الناس إذا ترك الصلاة خلفه وصلى خلفه غيره أثر ذلك حتى يتوب أو يعزل أو ينتهي الناس عن مثل ذنبه فمثل هذا إذا ترك الصلاة خلفه كان فيه مصلحة، ولم يفت المأموم جمعة ولا جماعة، وإما إذا كان ترك الصلاة يفوت المأموم الجمعة والجماعة فهنا

لا يترك الصلاة خلفهم إلا مبتدع مخالف للصحابة رضي الله عنهم (¬1) . وقد بين رحمه الله في موضع آخر أن على ولاة الأمر ألا يرتبوا مثل هؤلاء أئمة، لكن إذا رتبوا أئمة، ولم يكن في الإمكان الصلاة خلف غيرهم فإنه يصلى خلفهم خوفا من فوات الجمعة والجماعة (¬2) . فالشيخ رحمه الله يوازن بين أمرين: أحدهما عدم إمكانية الصلاة خلف غيرهم، وبهذا تفوت عليه الجمعة والجماعة، الآخر الصلاة خلف الفاسق، وبهذا تتم له الجمعة والجماعة، وهنا يرجح الشيخ ارتكاب أخف الضررين، وتفويت أعظم المفسدين. وهذا هو ما أجاب به عثمان رضي الله عنه عندما دخل عليه عبيد الله بن عدي بن الخيار، وهو محصور فقال: إنك إمام عامة، ونزل بك ما ترى، ويصلي لنا إمام فتنة، ونتحرج، فقال: الصلاة أحسن ما يعمل الناس، فإذا أحسن الناس فأحسن معهم، وإذا أساءوا فاجتنب إساءتهم (¬3) . ¬

(¬1) مجموع الفتاوى 23 / 354. (¬2) المرجع السابق 23 / 343، 356. (¬3) رواه البخاري في كتاب الأذان، باب إمامة المفتون والمبتدع 1 / 171.

ومن المعلوم أن هذا الإمام قد شق عصا الطاعة، وخرج على إمام المسلمين فهو إمام فتنة، وصاحب بدعة، ومع ذلك أجاز عثمان رضي الله عنه الصلاة خلفه. وابن عمر رضي الله عنهما معروف بشدة تحفظه، ومع ذلك فقد أثر عنه أنه كان يصلي خلف الخشبية والخوارج زمن ابن الزبير وهم يقتتلون، فقيل له أتصلي مع هؤلاء وبعضهم يقتل بعضا فقال: من قال حي على الصلاة أجبته، ومن قال حي على الفلاح أجبته، ومن قال حي على قتل أخيك المسلم وأخذ ماله قلت لا (¬1) . ويوازن الإمام ابن تيمية رحمه الله بين أمرين أيضا: أحدهما دفع الإمام بضرر زائد على إمامته، والآخر: الصلاة خلفه، فيرى عدم جواز دفعه إذا كان يترتب على ذلك ضرر أكبر فيقول: فإذا لم يكن منع المظهر للبدعة والفجور إلا بضرر زائد على ضرر إمامته لم يجز ذلك، بل يصلى خلفه ما لا يمكنه فعلها إلا خلفه، كالجمع والأعياد إذا لم يكن هناك إمام غيره، ولهذا كان الصحابة يصلون خلف الحجاج، والمختار بن أبي عبيد الثقفي وغيرهما الجمعة والجماعة، فإن تفويتها الجمعة والجماعة أعظم فسادا من الاقتداء فيهما بإمام فاجر، لا سيما ¬

(¬1) رواه البيهقي في كتاب الصلاة، باب الصلاة خلف من لا يحمد فعله 3 / 122.

إذا كان التخلف عنهما لا يدفع فجوره فيبقى ترك المصلحة الشرعية بدون دفع تلك المفسدة، ولهذا كان التاركون للجمعة والجماعات خلف أئمة الجور مطلقا معدودين عند السلف والأئمة من أهل البدع (¬1) . أما الفاسق من جهة الأعمال فالذي أفتى به سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله، وقد أفتى بذلك أيضا سماحة الشيخ عبد الله بن حميد رحمه الله، أن الصلاة خلفه صحيحة إن شاء الله، مع ملاحظة أنه لا ينبغي أن يصلى خلفه إذا وجد من هو أمثل منه، وقد أشار الشيخ عبد المحسن المنيف إلى هذه الفتوى في كتابه أحكام الإمامة والائتمام في الصلاة، وذكر هذا القول عن أبي حنيفة، ورواية عن مالك اختارها كثير من متأخري المالكية، وهو مذهب الشافعي، ورواية عن أحمد رحمهم الله جميعا (¬2) . وقد استدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر رضي الله عنه: «كيف أنت إذا كان عليك أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها قال قلت: فما تأمرني؟ قال: صل الصلاة لوقتها فإن أدركتها معهم فصل فإنها لك نافلة» (¬3) . ¬

(¬1) مجموع الفتاوى 23 / 342. (¬2) لمزيد من التوسع في هذه المسألة، راجع كتاب أحكام الإمامة والائتمام في الصلاة ص 80. (¬3) رواه مسلم في كتاب المساجد، باب كراهية تأخير الصلاة عن وقتها. . ج1 ص 448.

إمامة العاجز

وبحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطأوا فلكم وعليهم» (¬1) . وأدلة أخرى ليس هذا موضع بسطها كما استدلوا بفعل الصحابة رضي الله عنهم كابن عمر وأبي سعيد الخدري والحسن والحسين وغيرهم (¬2) والله أعلم. أما مستور الحال فيجوز للرجل أن يصلي الصلوات الخمس والجمعة وغير ذلك خلف من لم يعلم منه بدعة ولا فسقا باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم من أئمة المسلمين كما ذكر ذلك الإمام ابن تيمية رحمه الله قال: وليس من شروط الائتمام أن يعلم المأموم اعتقاد إمامه، ولا أن يمتحنه، فيقول ماذا تعتقد؟ بل يصلى خلف مستور الحال (¬3) . والله أعلم. [إمامة العاجز] إمامة العاجز إتماما للفائدة أشير إلى هذه المسألة، وقد بسط الإمام ابن قدامة (¬4) الكلام فيها، وبين أن المستحب للإمام إذا مرض، وعجز عن القيام أن ¬

(¬1) رواه البخاري في كتاب الأذان، باب إذا لم يتم الإمام وأتم من خلفه 1 / 170. (¬2) انظر أحكام الإمامة والائتمام في الصلاة 8608. (¬3) مجموع الفتاوي 23 / 351. (¬4) انظر المغني 3 / 60 - 64.

يستخلف؛ لأن الناس اختلفوا في صحة إمامته، فيخرج من الخلاف؛ ولأن صلاة القائم أكمل فيستحب أن يكون الإمام كامل الصلاة، ثم قال: فإن صلى بهم قاعدا جاز، ويصلون من ورائه جلوسا، فعل ذلك أربعة من الصحابة، ثم ساق الأدلة عليه، ومنها حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: «صلي النبي صلى الله عليه وسلم في بيته وهو شاك فصلى جالسا، وصلى وراءه قوم قياما فأشار إليهم أن اجلسوا، فلما انصرف قال إنما جعل الإمام ليؤتم به» (¬1) 0 0 0 0 الحديث. . وهذا إذا ابتدأ الإمام الصلاة قاعدا فإن من خلفه يصلون قعودا، وإذا ابتدأ قائما ثم عجز في أثناء الصلاة عن القيام صلى من خلفه قياما، كما حصل في مرض النبي صلى الله عليه وسلم حين خرج وجلس إلى جنب أبي بكر رضي الله عنه الذي بدأ الصلاة بالناس قائما، ثم جعل يصلي وهو قائم بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم، والناس بصلاة أبي بكر رضي الله عنه، والنبي صلى الله عليه وسلم قاعد (¬2) . ¬

(¬1) انظر صحيح البخاري كتاب الأذان باب إنما جعل الإمام ليؤتم به 1 / 169. (¬2) رواه البخاري في كتاب الأذان، باب إنما جعل الإمام ليؤتم به 1 / 168، ومسلم في الصلاة باب استخلاف الإمام 1 / 311. وانظر أحكام الإمامة والائتمام في الصلاة ص 112.

مسئولية إمامة المسجد

[مسئولية إمامة المسجد] [أولا القدر المشترك من المسئولية] [لا يصح للإمام أن يفرط في مسئوليته] مسئولية إمامة المسجد أولا: القدر المشترك من المسئولية المسئولية هي: شعور المرء بتبعته في كل أمر يوكل إليه، وإدراكه الجازم بأنه مسئول عنه أمام ربه عز وجل حينما يفرط في القيام به، ويتساهل في أدائه على الوجه الذي يستطيعه، والمسئولية تكليف بما يطيق بحيث لا يقعد الإمام عن سبب من أسباب القيام بهذا العمل على الوجه المطلوب وهو في طاقته ووسعه إلا ويبذله؛ لأنه متمم لعمله، وسبب موصل إلى إتقانه، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. وإذا كانت المسئولية مرتبطة بوسع الإنسان وطاقته لأنها تكليف، والله لا يكلف نفسا إلا وسعها، فإن الأئمة كما هو معلوم ليسوا على درجة واحدة من القدرات والمواهب حتى نوحد مسئولية الجميع، مغفلين تفاوت قدراتهم وتباين مواقعهم؛ ذلك أن منهم الإمام العالم، ومنهم طالب العلم، ومنهم دون ذلك، بل لا أبالغ إذا قلت بأن منهم من هو في عداد الأميين الذين لا يحسنون قراءة الفاتحة، وإذا أحسنوا القراءة فإنهم لا يعلمون كثيرا من أحكام الصلاة على الوجه الذي يمكنهم من القيام بالإمامة على وجهها الصحيح.

وبناء على ما تقدم فإن المسئولية تختلف باختلاف أحوال الأئمة، وهذا ما سأفصل الحديث فيه فيما بعد، ولكنه يوجد قدر مشترك من المسئولية يتحمله الجميع بمختلف أحوالهم، ولا يصح لأي إمام أن يفرط في هذا القدر من المسئولية بغير عذر ويمكن إجمال هذا القدر المشترك في الأمور الآتية: أولا: الإمام مكلف من قبل ولي الأمر بعمل أعطي عليه رزقا (¬1) ليقوم به على النحو الذي طلب منه، إمامة الفروض، أو إمامة الفروض والجمعة، أو إمامة الجمعة فقط، أو إمامة الاحتياط متى ما احتيج إليه في أي وقت، أو إمامة بعض الفروض، والمهم في هذا كله أنه قد أسند إليه عمل، وأعطي عليه رزقا معينا، فهل يصح له أن يتساهل في هذا العمل؟ إن تساهله في أداء هذا العمل الذي قد اؤتمن عليه يعد إضاعة للأمانة وتفريطا يؤاخذ عليه، وربما يكون قدوة سيئة لبعض الناس يقتدون به في إضاعة أعمالهم، والتفريط في أماناتهم فيكون عليه وزر التفريط في العمل، ووزر الاقتداء به في ذلك. ¬

(¬1) الفرق بين الأجر والرزق أن الأجر يؤخذ من شخص بعينه على المساومة والمعاوضة، أما الرزق فيؤخذ من بيت المال أو من الأوقاف العامة المحبسة على مصالح المسلمين، وإقامة شعائر الدين، وليس فيه مساومة ولا معاوضة عن أداء الصلاة التي هي أفضل القرب، انظر تعليق الشيخ محمد حامد فقي حاشية الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 98 وانظر مجموع الفتاوى 23 / 366 في حكم أخذ الأجرة على الإمامة.

كسب قلوب الناس وجعلهم يحبون التردد على المساجد

ولقد شاع في الناس مقولة القائلين بأن إمامنا يتخلف عنا أوقاتا كثيرة، ورأينا من اقتدى بإمامه في إضاعة العمل الذي أسند إليه؛ ذلك أن الإمام قدوة، وله عند الناس مكانة تجعلهم ينظرون إليه دائما في أقواله وأفعاله، فإما نظرة حب وإعجاب فهو قدوة حسنة، وإما نظرة بغض وازدراء فهو قدوة سيئة لضعيف الإيمان وهو على من عداهم ثقيل غير محتمل. [كسب قلوب الناس وجعلهم يحبون التردد على المساجد] ثانيا: كسب قلوب الناس، وجعلهم يحبون التردد على المساجد، ويحافظون على الجماعة مطلب عظيم لا يخفى على أحد ثمراته الطيبة، وضد ذلك مفسدة يجب دفعها، وقطع أسبابها، وهذه مسئولية الإمام الذي إذا اخلص نيته، وفقه سنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم في مراعاة أحوال المصلين بحيث لا يشق عليهم فيطيل بهم ويفتنهم وينفرهم، فإنه يكون بذلك محببا ومؤثرا في الناس ومرغبا لهم في هذا الفضل العظيم. ولذا حث النبي صلى الله عليه وسلم على التجوز، وحذر في موعظة قوية من التنفير، فقد جاء عن أبي مسعود رضي الله عنه أن رجلا قال: والله يا رسول الله إني لأتأخر عن صلاة الغداة من أجل فلان مما يطيل بنا، قال أبو مسعود: فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في موعظة أشد غضبا منه

يومئذ، ثم قال: «إن منكم منفرين فأيكم صلى بالناس فليتجوز فإن فيهم الضعيف والكبير وذا الحاجة» (¬1) . وعن جابر رضي الله عنه «أن معاذا رضي الله عنه كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم يرجع فيؤم قومه، فصلى العشاء، فقرأ بالبقرة فانصرف الرجل فكأن معاذا تناول منه، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " فتان فتان فتان (ثلاث مرار) أو قال: فاتنا فاتنا فاتنا، وأمره بسورتين من أوسط المفصل» ، قال عمرو لا أحفظهما " (¬2) . ومن هذه النصوص ندرك أن تطويل الصلاة فتنة وتنفير للناس عن الصلاة في جماعة، ولا يخفى ما في هذا من المفاسد، والتسبب في تعطيل الواجب، وحرمان الناس من فضل الجماعة، ولذلك غضب النبي صلى الله عليه وسلم غضبا شديدا كما في حديث أبي مسعود، ووصف معاذا بأنه فتان بهذا الصنيع لكي يحذر منه. ولا يعني هذا أن يخفف الإمام الصلاة إلى درجة إسقاط الواجب بحجة مراعاة الناس كما يفعل بعض الأئمة، فإن في هذا مفسدة أعظم، ولكن الأمر يعني التزام الوسطية في الأمر، والشعور ¬

(¬1) رواه البخاري في كتاب الأذان، باب تخفيف الإمام في القيام وإنما الركوع والسجود انظر فتح الباري 2 / 197. (¬2) رواه البخاري في كتاب الأذان باب إذا طول الإمام وكان للرجل حاجة فخرج فصلى انظر فتح الباري 2 / 192 وفي ص 195 أن عمرا هو عمرو بن دينار، وكأنه قال ذلك في حال تحديثه لشعبه.

بالمسئولية وهو يؤدي هذا العمل، ومحاولة كسب الناس، والعمل على أن يحبب لهم القيام بما فرض الله عليهم، مع إتمام الصلاة في جميع ما أوجبه الله فيها من القراءة والطمأنينة، وإتمام الركوع والسجود، والتسبيح والتحميد وسائر ما يجب فيها. ونحن نجد أحيانا من بعض الأئمة من هو على طرفي نقيض، فنجد من يطيل بهم ويشق على الكبير، والضعيف، والمريض وذي الحاجة، فينفرهم، وينفر غيرهم فلا يصلي وراءه إلا القليل، ونجد آخر يسارع في الصلاة إلى درجة لا يتمكن معها المأموم من أداء الواجب، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم. يقول الإمام ابن حجر رحمه الله عند حديث معاذ: وفي حديث الباب من الفوائد استحباب تخفيف الصلاة مراعاة لحال المأمومين، وأما من قال لا يكره التطويل إذا علم رضاء المأمومين فيشكل عليه أن الإمام قد لا يعلم حال من يأتي فيأتم به بعد دخوله في الصلاة كما في حديث الباب، فعلى هذا يكره التطويل مطلقا إلا إذا فرض في مصل بقوم محصورين راضين بالتطويل في مكان لا يدخله غيرهم (¬1) . وقد أشار رحمه الله في موضع آخر أن هذا افتراض لا يناط به ¬

(¬1) انظر فتح الباري 2 / 197.

تأثير الإمام في المأمومين واستماعهم لتوجيهاته

الحكم، فإن الأحكام؛ إنما تناط بالغالب لا بالصورة النادرة، وعلى هذا ينبغي للأئمة التخفيف مطلقا (¬1) . ويرد إشكال يحتاج إلى توضيح، وهو وضع حد للتخفيف حتى لا يقع الإمام في محظور أعظم من المحظور المترتب على التطويل كما سبق التنبيه عليه، وقد ذكر ابن حجر عن ابن دقيق العيد أن التطويل والتخفيف من الأمور الإضافية، فقد يكون الشيء خفيفا بالنسبة إلى عادة قوم طويلا بالنسبة لعادة آخرين. قال ابن حجر: قلت وأولى ما أخذ حد التخفيف من الحديث الذي أخرجه أبو داود والنسائي عن عثمان بن أبي العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «أنت إمام قومك، وأقدر القوم بأضعفهم» إسناده حسن وأصله في مسلم (¬2) . ومن هنا نأخذ أن الإمام يقدر الأمر بنفسه، فهو أعرف بجماعته، وأقدر القوم بأضعفهم، وهنا تقع المسئولية عليه في تقدير الأحوال، وأخذ الحيطة والحذر أثناء قيامه بهذا العمل الجليل والله أعلم. [تأثير الإمام في المأمومين واستماعهم لتوجيهاته] ثالثا: محبة الناس لإمامهم مبنية على ثقتهم به، وعظم مكانته ¬

(¬1) فتح الباري 2 / 199. (¬2) المرجع السابق 2 / 199.

عندهم، ومن ثمرات ذلك تأثير الإمام في المأمومين واستماعهم لتوجيهاته، وانشراح صدورهم لما يقوله أو يريده منهم، وهذا - في تقديري - يعد جزءا مهما من مسئولية الإمام، فالمصلون يثقون بالإمام الكفء، صاحب السيرة الحميدة، والخلق الحسن، الذي يقول ويعمل، ويلتزم في أقواله وأعماله هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم ويقتدي به في خلقه الحسن، وصفاته العظيمة من الصبر، والشفقة، والحلم والعدل، والكرم، والحياء والصدق، وسائر الأخلاق الحميدة. وبعض الأئمة إذا حصل كره من الجماعة لإمامته لا يهتم بذلك، وهذا وإن لم يكن معتبرا على كل حال إلا أنه قد يكون الباعث على هذا الكره أمرا وجيها، وليس لأمر دنيوي، كأن يجرب عليه الجماعة كذبا في الحديث، أو بخلا، أو خلفا في الوعد، أو جورا في الخصومة، أو سوء معاملة، أو سوء جوار، أو فحشا في القول، أو تعاملا بربا أو بغش أو مكر واحتيال، ونحو ذلك مما يقع أحيانا فيه بعض الأئمة من مجاراة العصاة في سلوكم أو منازلهم أو علاقاتهم. وهنا تعظم المسئولية، وعلى الإمام أن يعيد النظر في شأنه بنفسه فقد ثبت عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «ثلاثة لا يقبل الله منهم صلاة: من تقدم قوما وهم له

كارهون، ورجل أتى الصلاة دبارا والدبار أن يأتي بعد أن يفوته الوقت - ورجل اعتبد محرره» (¬1) . قال الخطابي رحمه الله: " يشبه أن يكون هذا الوعيد في الرجل ليس من أهل الإمامة فيتقحم فيها، ويتغلب عليها حتى يكره الناس إمامته، فأما إن كان مستحقا للإمامة فاللوم على من كرهه دونه. وشكى رجل إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكان يصلي بقوم وهم له كارهون فقال: إنك لخروط، يريد متعسف في فعلك ولم يزده على ذلك " (¬2) . وعندما سئل الإمام ابن تيمية رحمه الله عن رجل يؤم قوما وأكثرهم له كارهون أجاب رحمه الله بقوله: إن كانوا يكرهون هذا الإمام لأمر في دينه: مثل كذبه أو ظلمه، أو جهله أو بدعته، ونحو ذلك، ويحبون الآخر لأنه أصلح في دينه منه مثل أن يكون أصدق وأعلم، وأدين فإنه يجب أن يولى عليهم هذا الإمام الذي يحبونه، وليس لذلك الإمام الذي يكرهونه أن يؤمهم (¬3) . ثم ساق الحديث السابق الذي ورد في سنن أبي داود. ¬

(¬1) رواه أبو داود في كتاب الصلاة باب الرجل يؤم القوم وهم له كارهون انظر السنن 1 / 397. (¬2) حاشية سنن أبي داود من معالم السنن للخطابي 1 / 398، وراجع المغني لابن قدامة 3 / 71. (¬3) مجموعة الفتاوى 23 / 373.

ثانيا مسئولية الإمام العالم

وبناء على ما تقدم يتعين على الإمام الذي لا يريدونه إماما لهم إن كان كره الجماعة لإمامته لسبب وجيه أن يعمل جاهدا على التخلص من هذا السبب، بتصحيح وضعه، وإزالة أسباب البغض له، لكي يؤدي رسالته، ويقوم بعمله على الوجه الصحيح. وقد رأينا من كره الناس إمامته لأسباب وجيهة وهو غير مكترث بذلك مع ما بذل له من النصح إلا أنه أصر وعاند فمقته الناس، وربما صار فتنة للقوم الظالمين، وربما هجر المصلون حتى الذين فيهم خير وصلاح الصلاة في مسجده، وفي هذا من المفاسد ما لا يصح إغفاله وتجاهله، ولو قدر المسئولية حق قدرها لما وقع في مثل هذه الحال؛ لأنه إما أن يصحح وضعه بإزالة أسباب البغض الوجيهة سواء في أدائه لهذا العمل، أو في سلوكه خارج العمل، وإما أن يسلم العمل إلى من هو أفضل منه وأولى به، والله أعلم. [ثانيا مسئولية الإمام العالم] ثانيا: مسئولية الإمام العالم إن ما أشرت إليه سابقا هو قدر مشترك من المسئولية التي يشعر بها كل إمام لبيب ويحس بها كل عاقل فطن، فيولي العمل اهتماما وعناية، ويحرص على أداء هذا الواجب، والقيام بهذه الأمانة مستعينا بالله، محتسبا راغبا في ثوابه ونيل مرضاته.

أما ما يلزم بعض الأئمة دون بعض فإنه يرتبط بذات الشخص، ومركزه في الناس، وبالمجتمع المحيط به الذي يحمل بعض أفراده قدرا من العلم، والثقافة والمراكز المرموقة في المجتمع. فالإمام العالم الذي يشار إليه بالبنان، ويؤخذ عنه العلم والفتوى ويقصد مسجده جمع كبير من الناس فيهم طلاب العلم، والمثقفون، وذوو المكانة، وغيرهم، يتحمل من المسئولية قدرا أعظم ممن ليس كذلك؛ ولهذا لما قيل لعبد الملك بن مروان رحمه الله عجل بك الشيب قال: وكيف لا وأنا أعرض عقلي على الناس في كل جمعة (¬1) ؛ ذلك لأنه علم عظم المسئولية، وأن دور الإمام الذي على شاكلته ليس محصورا في إمامة الناس في الصلاة، وإنما هو في دور المعلم، والمربي، والمفتي، والمصلح، والمحذر من المنكر قبل أن يقع، والداعي لإزالته إذا وقع، والعامل على حل المشكلات التي تورث الخصومات (¬2) والملتمس لأحوال الفقراء والمساكين، وتوجيه النداءات لمساعدة المنكوبين والمصابين، وبإجمال يعيش آمال الأمة ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي 4 / 248 تحقيق شعيب الأرناؤوط ومأمون الصاغرجي. (¬2) كتب هذه الأسطر بعد الخطبة المؤثرة التي ألقاها الإمام العالم، البليغ الفاضل الذي من الله على الحرم المكي به وبأمثاله الدكتور / صالح بن عبد الله بن حميد، أمام من إمام وقف في حرقة وألم ليوجه نداء الحق، وخطاب العقل والحكمة إلى الإخوة الأفغان الذين يعانون من الخصومة فيما بينهم، ونتج عن ذلك سفك الدماء ولا حول ولا قوة إلا بالله وقد كان تاريخ الخطبة العاشر من شهر شعبان عام 1414هـ وهي مسجلة لمن أراد الوقوف عليها وفق الله هذا الإمام العالم وسائر إخوانه لما يحبه ويرضاه.

وآلامها، وتلك والله مهمة عظيمة لا يدركها إلا العظماء، من العلماء العاملين الذين هم مبعث خير، ومصابيح هداية، وأدلة طريق فهم لأخوانهم كالشمس للدنيا، والعافية للبدن كما قال الإمام أحمد في الإمام الشافعي رحمهما الله تعالى. ومن المعلوم أن العلماء ورثة الأنبياء وهم دعاة إلى الله، يذبون عن دين الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وعدوان الظالمين، وهم أهل الخشية من الله {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] وأهل الشفقة والنصح لعامة المسلمين ولأئمتهم، وهم أهل التجرد من حظوظ النفس وشهواتها، تكشف حججهم الساطعة شبهات الباطل فتدمغه فإذا هو زاهق، وتلهج ألسنتهم بالصدق عند العدوان فيضعون الأمور في مواضعها. فإذا أنعم الله على الأمة بتولي علمائها لإمامة المساجد فتلك من نعم الله العظيمة التي تعد بإذن الله تعالى من أهم وسائل النجاة من عقوبة الله وغضبه، ونحن نرى المساجد التي تولى الإمامة فيها علماء مخلصون ناصحون ومنها المسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف، وجوامع أخرى في مدن المملكة، ونلمس أثر هؤلاء الأئمة وحب الناس لهم، وإقبالهم على الحرمين الشريفين وغيرها من الجوامع التي

حظيت بالأئمة الأكفاء، لأن الناس يطمئنون للإمام العالم، ويجلسون بين يديه ليأخذوا عنه، وينهلوا من علمه، ويسترشدوا بحكمته ورأيه. وإذا كانت رسالة العالم في الأصل عظيمة فإنها تزداد حين يتولى الإمامة، وإمامته ليست قاصرة على القيام بالخطب والمواعظ، وإنما هي تعليم في مختلف علوم الشريعة في فقه الإيمان، وفقه الأحكام، وغيرهما من علوم الغاية أو الوسيلة التي يحتاجها الناس بمختلف فئاتهم. والإمام العالم يتولى الفتوى، ويجيب على أسئلة الناس ويعالج مشكلاتهم بأسلوب علمي رصين، ووعظي مؤثر، والعالم حين يقوم بهذا يستذكر هدي النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان مسجده مقرا لتعليم الناس قولا وعملا، وكان أصحابه رضي الله عنهم يتحلقون حوله ليسمعوا حديثه، بل كان عليه الصلاة والسلام يعلم الناس من على المنبر ففي صحيح مسلم عن سهل بن سعد رضي الله عنه أنه قال «ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قام عليه فكبر وكبر الناس وراءه وهو على المنبر، ثم رفع فنزل القهقري حتى سجد في أصل المنبر، ثم عاد حتى فرغ من آخر صلاته، ثم أقبل على الناس فقال: أيها الناس إنما صنعت هذا لتأتموا بي، ولتعلموا صلاتي» (¬1) . ¬

(¬1) رواه مسلم في كتاب المساجد باب جواز الخطوة والخطوتين في الصلاة 1 / 387.

وكان صلى الله عليه وسلم يسأل أصحابه وهو يعلمهم ليشحذ أذهانهم، فتتهيأ للإصغاء لما يقول لهم، ويضرب لهم الأمثال ليقرب لهم المعاني التي يريد أن يفهمهوها، كما روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم حدثوني ما هي؟ قال فوقع الناس في شجر البوادي، قال عبد الله فوقع في نفسي أنها النخلة، ثم قالوا حدثنا يا رسول الله، قال: هي النخلة» (¬1) . وكان الرجل يأتيه من البادية، وهو عليه الصلاة والسلام جالس في المسجد يعلم أصحابه فيسأله عن بعض أحكام الإسلام فيعلمه، وينصرف كما في قصة ضمام بن ثعلبه التي وردت في صحيح الإمام البخاري رحمه الله (¬2) . وكان صلى الله عليه وسلم يجلس لأصحابه في المسجد فيسألونه ويجيبهم، ولم يكن الأمر مقصورا على التعليم والفتوى، ولكن كان مسجده مكانا للصلح بين المتخاصمين، ولتطبيق حدود الله، وللفصل في القضايا، ولقضاء حوائج الناس ومتابعة الفقراء وإطعامهم (¬3) . ¬

(¬1) رواه البخاري في كتاب العلم، باب طرح الإمام المسألة على أصحابه ليختبر ما عندهم من العلم 1 / 22. (¬2) انظر صحيح البخاري 1 / 23. (¬3) انظر صحيح البخاري 1 / 121، 112 وغيرها.

وعندما يقوم العالم الإمام برسالته، ويؤدي دوره القيادي في المجتمع، وفق هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم نجد أثر ذلك واضحا في الناس، إذ المساجد جامعات عظمى يتخرج فيها العلماء العاملون، والرجال الصالحون، الذي يسيرون في الناس سيرا حسنا، وينهجون نهجا عظيما؛ لأن تعليم المساجد يختلف عن تعليم المدارس، ولقد أجاد سماحة الإمام العلامة عبد الله بن حميد رحمه الله وهو أحد الذين تخرجوا في المساجد حينما فرق بين تعليم المسجد وتعليم المدارس من وجوه فقال: الوجه الأول - أن التعليم في المسجد يكتنفه جو عبادي، يشعر المعلم فيه والمتعلم، والسامع أنهم في بيت من بيوت الله فيكونون أقرب إلى الإخلاص، والتجرد، والنية الحسنة، لا يقصدون في الغالب من التعلم والتعليم إلا وجه الله، وأهدافهم هي التفقه في الدين، وأداء العمل على وجهه الصحيح والدعوة إلى الله، والجهاد في سبيله، لا يرجون من وراء ذلك مغنما ولا جاها، ولا منصبا، ولذلك تجد غزارة العلم وحفظه، وإتقانه عند كثير من علماء المسجد في أوقات قصيرة، بخلاف طلاب المدارس فإنهم - في الغالب - لا يصلون إلى مرتبة علماء المساجد في ذلك، والواقع التاريخي يشهد بذلك، فهل خرجت المدارس، والمعاهد؛ والجامعات كالأئمة والمحدثين والفقهاء والنحويين ومن شابههم؟

الفرق الثاني - أن التعليم في المساجد أشمل حيث يدخل المسجد من شاء من العلماء المؤهلين ليعلم الناس، كما أنه يدخله من شاء من المتعلمين أو المستمعين، فيستفيد في المسجد جمع غفير، العالم، والمتعلم، والمستمع على حسب ما عنده من الاستعداد والوقت بخلاف المدارس فلا يدخلها إلا عدد محدود من المعلمين والمتعلمين، ولا يؤذن لمن يريد أن يتفقه في الدين بالتردد عليها. ولذلك اضطرت الدول في العصر الحديث إلى إيجاد مدارس لمحو الأمية، وهي شبيهة بالمدارس الأخرى، لا تفي بحاجة الناس كالمساجد، فالمساجد جامعات شعبية صالحة للمتعلمين على جميع المستويات. الفرق الثالث - أن علماء المساجد وطلابها أقرب إلى عامة الشعوب من طلاب المدارس والجامعات، حيث تجد عامة الناس يقبلون إلى عالم المسجد وطلابه ويستفيدون منهم، كما تجد عالم المسجد وطلابه يهتمون بعامة الناس في التعليم والدعوة أكثر من غيرهم، ولا شك أن الارتباط بين طلاب العلم وجمهور الشعب له مزاياه الكثيرة في التعليم والدعوة والتوجيه (¬1) . ¬

(¬1) انظر مجلة رسالة المسجد التي تصدرها رابطة العالم الإسلامي العدد السادس، السنة السادسة عام 1403 هـ ص 15 وما بعدها. وقد كتب الدكتور عبد الله قادري كتابا بعنوان دور المسجد في التربية وهو كتاب مهم وفيه تفصيل لما أشرت إليه لمن أراد الوقوف عليه.

ثالثا مسئولية إمام الجامع

ومن هذه الفروق نعلم مدى أهمية رسالة الإمام العالم، وعظم مسئوليته، وحاجة الناس إليه على مختلف فئاتهم والله أعلم. [ثالثا مسئولية إمام الجامع] [مسئوليته تجاه المصلين] ثالثا: مسئولية إمام الجامع أ - مسئوليته تجاه المصلين، ودوره التعليمي والتربوي والاجتماعي. لا يخلو الأمر في أئمة الجوامع من أحد ثلاثة أمور: الأول: أن يكون الإمام من طلاب العلم المتخصصين في علوم الشريعة. الثاني: أن يكون الإمام من المهتمين بطلب العلم، وليس متخصصا. الثالث: ألا يكون متخصصا ولا مهتما بطلب العلم. فأما الأول والثاني، فلا شك أنهما من القادرين على القيام بهذه الأمانة، وتحمل المسئولية إذا خلصت النية، وعظمت الهمة؛ لأن تحمل هذه الرسالة، وأداءها على الوجه المطلوب مطلب عظيم يتوقف حصوله على همة عالية، ونية حسنة، فمن فقدهما تعذر عليه الوصول إليه، وفاته من خير هذا العمل شيء كثير. وبنظرة سريعة نجد في هذين الصنفين أمرين عظيمين وهما: العلم والإيمان، يقول ابن القيم رحمه الله في شأنهما: أفضل ما اكتسبته

النفوس، وحصلته القلوب ونال به العبد الرفعة في الدنيا والآخرة هو العلم والإيمان، ولهذا قرن بينهما سبحانه في قوله: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ} [الروم: 56] (¬1) 0 0 0 وقوله: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11] (¬2) . الآية، وهؤلاء هم خلاصة الوجود ولبه، والمؤهلون للمراتب العالية (¬3) أهـ. وهؤلاء أئمة أكفاء، يحقق الله على أيديهم خيرا كثيرا، أما الصنف الثالث فليس في درجة السابقين في تحمل المسئولية، والقيام بالعمل على وجهه المراد؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه، وهو بحاجة إلى نظرة فاحصة، ومتابعة مستمرة، يتم من خلالها النهوض به إلى مستوى التحمل لهذه الأمانة، أو إسناد الأمر إلى من هو أهل له إذا بقى على حاله، إذ لا ينبغي أن يوسد الأمر إلى غير أهله. ومسئولية إمام الجامع سواء كان في المدينة أو القرية تجاه المصلين ذات جوانب عديدة، وهي بحسب دوره التعليمي، والتربوي، والاجتماعي، وهذه الجوانب الثلاثة مأخوذة من طبيعة رسالة المسجد الذي يستمد مكانته الربانية من كونه مضافا إلى الله تعالى ¬

(¬1) سورة الروم آية 30. (¬2) سورة المجادلة 11. (¬3) الفوائد 103.

{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18] وهو أشرف البقاع وأحبها إلى الله ففيه يذكر اسم الله، ويسبح له، وتقام الصلاة، ويؤتى الزكاة، قال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ - رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} [النور: 36 - 37] (¬1) . ولما كان المسجد بهذه المكانة بدأ به النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يستقر به المقام عندما وصل إلى حي بني عمرو بن عوف في قباء حيث بدأ ببناء مسجد قباء، وهو أول مسجد بني في المدينة، وأول مسجد بنى لعموم الناس، كما ذكر الإمام ابن كثير رحمه الله (¬2) . ثم لما واصل سيره إلى قلب المدينة (المسماة آنذاك بيثرب) كان أول ما قام به تخصيص أرض لبناء مسجده ثم الشروع في بنائه، وقد كان هذا هو الأساس الأول لبناء الدولة المسلمة حيث قامت على ثلاثة أسس: الثاني منها هو المؤاخاة بين الأنصار والمهاجرين، والثالث هو تلك المعاهدة التاريخية التي كانت نتيجتها أن تكون القيادة للرسول صلى الله عليه وسلم على المسلمين والمشركين واليهود (¬3) . ¬

(¬1) سورة النور آية 36. (¬2) البداية والنهاية 3 / 209. (¬3) دور المسجد في التربية 67.

يقول الدكتور عبد الله قادري: إن الكاتب مهما تحدث عن مكانة المسجد، ومهما أورد من النصوص في ذلك، فإن وظائف المسجد أكثر إظهارا لمكانته في الإسلام، فعلى سمائه ترتفع الدعوة إلى الإيمان والعمل الصالح، وفي صحنه يؤخذ الإيمان، ويؤدى العمل الصالح، ومن على منبره يعلم الإيمان والعمل الصالح، وفيه يدعى إلى الجهاد في سبيل الله، وفيه تنظم كتائب الجهاد في سبيل الله، ومنه تنطلق جحافل الإيمان تحت راية الجهاد في سبيل الله (¬1) . ويقول الدكتور على عبد الحليم محمود: في المسجد تتعلم الأجيال الصاعدة كيف تهدأ وتسكن، وترعى حرمة المساجد، فلا صياح ولا صخب، ولا حديث بأصوات مرتفعة، ولا بيع ولا شراء، ولا نشدان ضالة ونحو ذلك، في المسجد تتعلم الأجيال النظام والدقة. . وفي المسجد يتعلم الناس التواضع والمساواة والعطف، والبر والالتزام بكل واجب، والطاعة والامتثال، وفي المسجد يتعلم الناس صغارا وكبارا يتعلمون العلم ويتفقهون في أمور دينهم، ويعلمون من أحوال إخوانهم المسلمين في البلاد النائية ما لا بد أن يعلموا عنهم حتى يمدوا لهم يد العون إن كانوا في حاجة إلى عون، والرأي والمشورة إن كانوا محتاجين إلى رأي ومشورة. ¬

(¬1) المرجع السابق 69.

وفي المسجد يحدث التعارف بين المسلمين، وينمو التآلف والتواد. . وفي المسجد تصقل الشخصية المسلمة ويزول عنها ما يحتمل أن يكون قد علق بها من عيوب اجتماعية كالانعزالية والتواكلية والأنانية، حيث يهيئ المسجد لرواده مجال الانطلاق في المجتمع والتعرف على الناس، والتآخي معهم ومناصرتهم ماداموا على الحق (¬1) . مما سبق تتضح مكانة المسجد في الإسلام، وأنه جامعة عظيمة ينطلق منها المد الإسلامي ليعم الدنيا بنوره وعدله، وأنه المحضن الأول لكل نهضة وإصلاح، وأن رسالته تعليمية، وتربوية، واجتماعية، وهذه الجوانب الثلاثة لا يمكن أن تقوم بدون قائم عليها، فهل المسجد المبني من الطوب أو الحجارة، والمشيد أحيانا على أحسن بناء هو الذي يتولى مهمة التعليم، والتربية، وغيرها؟ . إننا نرى أحيانا مساجد قد شيد بناؤها، واتسعت أورقتها، وبدت منائرها ماثلة للعيان من مسافات بعيدة، ولكننا لا نرى أي جانب من الجوانب السابقة قد حظي فيها بالعناية والاهتمام، ونرى أحيانا مساجد بنيت بناء عاديا ليس فيه أدنى كلفة، لكنه قد تخرج فيهما رجال أفاضل، وحظيت تلك الجوانب، بأهمية كبرى وعناية فائقة. ¬

(¬1) انظر المسجد وأثره في المجتمع الإسلامي 23 - 24 بتصرف.

ذلك أن المساجد برجالها القائمين عليها من مسئولين، وأئمة، ومن هنا فإن مسئولية إمام الجامع كبيرة جدا، وقد لا يستطيع - وهذا هو الغالب - القيام بها وحده، بل لا بد له من معاونين، إذن فمهمته تعليمية، وتربوية، واجتماعية، ومن الضروري أن يرسم المنهج بالتنسيق مع الجهة المسئولة في منطقته، ويضع برنامج هذا الجامع المتعدد الجوانب، وينفذ ما يستطيع بنفسه، ثم يكون حلقة وصل فيما يعجز عنه بنفسه بين الجامع وأهل القدرة والمسئولية لينفذ رسالته ويؤدي وظيفة المسجد المتكاملة. أما الجانب التعليمي والتربوي فنجعله في الأمور الآتية: أولا: إقامة الدروس العامة، التي من شأنها تفقيه المسلمين، وتعليمهم حقائق دينهم من كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، مع العناية بسلامة العقيدة من الخرافات، وسلامة العبادة من البدع، وسلامة الأخلاق والآداب من الغلو والتفريط. ثانيا: إقامة الندوات، والمحاضرات لمواجهة شبهة، أو فكر منحرف، أو حل مشكلة اجتماعية ينتدب لها المتخصصون، أو التركيز على جوانب تتعلق بمناسبة معينة، أو الحديث في موضوع من شأنه تثبيت معنى الإخوة الإسلامية، ومقاومة النزعات والعصبيات العنصرية المفرقة للأمة الواحدة.

ثالثا: إنشاء مكتبة تضم مجموعة من الكتب المنوعة، مع التركيز فيها على كتب السلف المعتمدة، وتحديد أوقات المطالعة فيها، وإسناد الإشراف عليها إلى شخص له خبرة بالكتب، وثقافة واسعة، وبعد نظره حتى لا تكون المكتبة وسيلة لنشر الكتاب الذي قد امتلأ بالمفاهيم المغلوطة، أو موضوعات الإثارة، أو قضايا الخلاف التي لا تفيد ويكون الإشراف والمسئولية على إمام المسجد. رابعا: فتح حلقات تحفيظ القرآن بالتنسيق مع جماعة تحفيظ القرآن الكريم، لتكليف المعلم ويتولى الإمام، وأسرة المسح جد الإشراف والمتابعة كما هو حاصل في بعض الجوامع التي وفقت بإمام نشيط، وله اهتمامات وعناية بكتاب الله عز وجل وبأبناء الحي أو القرية. خامسا: يقوم الإمام المتخصص القادر بالتنسيق مع الجهة المعنية بفتح حلقات لتعليم الراغبين سواء كانت هذه الدروس التخصصية في فروع متعددة أو في مجال معين يحدده هو، كأن يركز على دروس العقيدة لأن له بذلك اهتماما أكثر من غيره أو على جانب الفقه، أو التفسير، أو الحديث، أو السيرة، وأما الذي لا يستطيع القياد بالدروس العامة أو التخصصية، فإن عليه بالتنسيق مع الجهة المسئولة أن يرتب درسا يكن في الأسبوع لعالم من العلماء أو في الأسبوعين، خاصة إذا لم يكن في المنطقة شيء من هذا، ولا نقصد تحويل جميع

المساجد الجوامع إلى دروس مستمرة ومتنوعة، لأن هذا لا يتأتى، وقد يزيد على الحاجة فيمل الناس، وإنما نقصد اختيار مسجد من المساجد، وتركيز الدروس فيه مع التنسيق بين أئمة الجوامع، هذا في الدروس الثابتة أمام إقامة محاضرة أو ندوة يدعى فيها العلماء فإن المساجد كلها بحاجة، وهذا ممكن وسهل جدا خاصة وأن الله قد مر على هذه البلاد في هذا الزمن بكثرة الدعاة طلاب العلم الغيورين الذين لديهم الاستعداد للقيام بالمحاضرات، والندوات، والدروس، في مختلف الجهات. وأما الجانب الاجتماعي، فنعني به الأمور الآتية. أولا: التماس الحل لمشكلة تقع بين اثنين من جماعة المسجد، والصلح بينهما، وقطع أسباب الخصومة والخلاف. ثانيا: تلمس أحوال الفقراء والمساكين المحتاجين إلى دعم ومساعدة، وجمع المال الذي يعينهم على الخروج من المأزق الذي يقعون فيه. ثالثا: عقد لقاءات من خلال الزيارة الشهرية (¬1) والتي يتم فيها التعارف والتآلف، وإزالة ما في النفوس أحيانا، والدعوة إلى مناسبة ¬

(¬1) يتم ترتيب الزيارة بحسب ما يتفقون عليه شهرية أو أسبوعية أو غير ذلك المهم أن يكون هناك تواصل ومحبة.

مسئوليته تجاه خطبة الجمعة

تقام يجتمع فيها جماعة المسجد، واستغلال المواسم، مثل رمضان، والأعياد ليتم فيها الزيارة، ويحصل بها التواصل والمحبة والإخاء. وفي كل هذه الأمور يقع جزء كبير من المسئولية على إمام المسجد فهو القدوة والمحرك للجماعة إذا حرص على ذلك، ولا يخفى ما لهذا من الفوائد العظيمة، وهو في كل عمل يقوم به يحتاج إلى أبرز الجماعة ليعاونوه فيما يقوم به والله الموفق. [مسئوليته تجاه خطبة الجمعة] ب - مسئوليته تجاه خطبة الجمعة. الخطبة وسيلة من أهم وسائل الدعوة إلى الله، وتبليغ دين الله، نالت في الإسلام عناية فائقة، وأهمية بالغة في مختلف الأحوال والمناسبات، وخصت صلاة الجمعة بالخطبة التي تعد شرطا في صحتها، لا تصح صلاة الجمعة بدونها لقوله تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] قال ابن قدامة - رحمه الله - والذكر هو الخطبة، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم ما ترك الخطبة للجمعة في حال، وقد قال: «صلوا كما رأيتموني أصلي» (¬1) ثم ساق لذلك أدلة كثيرة. ولهذا تعظم مسئولية الخطيب لعظم الخطبة ومكانتها في الإسلام ولحاجة الناس إليها بين الحين والآخر " فالخطابة في الإسلام مظهر ¬

(¬1) انظر المغني 3 / 171 والحديث رواه البخاري في كتاب الأذان، باب الأذان للمسافر 1 / 155.

التزام هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الخطبة

الحياة المتحركة فيه، الحياة التي تجعل هذا الدين يزحف من قلب إلى قلب، ويثب من فكر إلى فكر، وهذا هو السر في أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب كل أسبوع، وكل عيد، ويخطب وينيب عنه أميرا يخطب في وفود الحجيج عند جبل الرحمة ودعما للحق جعل الله الخطابة من شعائر الإسلام، وجعل المسلمين يحتشدون كل أسبوع في المسجد ليسمعوا داعية إلى الله يذكر به ويعلم دينه " (¬1) . [التزام هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الخطبة] وإذا كان الأمر كما ذكر فإن على الخطيب تجاه الخطبة مراعاة ما يلي: أولا: التزام هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الخطبة جاء في زاد المعاد للإمام ابن القيم رحمه الله فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في خطبته: «وكان إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش يقول: " صبحكم ومساكم» ويقول: «بعثت أنا والساعة كهاتين " ويقرن بين أصبعيه السبابة والوسطى» ، ويقول: «أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة» (¬2) . وكان لا يخطب خطبة إلا افتتحها بحمد الله، وأما قول كثير من الفقهاء أنه يفتتح الاستسقاء بالاستغفار، وخطبة العيدين بالتكبير ¬

(¬1) الخطابة الدينية بين النظرية والتطبيق للدكتور عبد الغفار عزيز ص 31. (¬2) الحديث رواه مسلم في الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة 2 / 592 ح (867) .

فليس معهم فيه سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم ألبتة، وسنته تقتضي خلافه، وهو افتتاح جميع الخطب بـ " الحمد لله "، وهو أحد الوجوه الثلاثة لأصحاب أحمد، وهو اختيار شيخنا قدس الله سره. وكان يخطب قائما، وفي مراسيل عطاء وغيره «أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا صعد المنبر أقبل بوجهه على الناس ثم قال " السلام عليكم» . . وكان كثيرا ما يخطب بالقرآن ففي صحيح مسلم عن أم هشام بنت حارثة قالت «ما أخذت ق والقرآن المجيد إلا عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها كل يوم جمعة على المنبر إذا خطب الناس» (¬1) . «وكان إذا تشهد قال: " الحمد لله نستعينه ونستغفره» (¬2) الخ خطبه الحاجة المعروفة وكان مدار خطبه على حمد الله، والثناء عليه بآلائه، وأوصاف كماله، ومحامده، وتعليم قواعد الإسلام، وذكر الجنة والنار والمعاد، والأمر بتقوى الله، وتبيين موارد غضبه، ومواقع رضاه، فعلى هذا كان مدار خطبه. وكان يخطب في كل وقت بما تقتضيه حاجة الخاطبين ومصلحتهم، ولم يكن يخطب خطبة إلا افتتحها بحمد الله، ويتشهد فيها ¬

(¬1) رواه مسلم في الجمعة باب تخفيف الصلاة والخطبة. (¬2) رواه النسائي في كتاب النكاح، باب ما يستحب من الكلام 6 / 73 - 74، وأبو داود في الصلاة رقم (1097) وأحمد في المسند 5 / 271. . .

بكلمتي الشهادة، ويذكر فيها نفسه باسمه العلم. وثبت عنه أنه قال: «كل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذماء» (¬1) . وكان إذا قام يخطب أخذ عصا فتوكأ عليها وهو على المنبر. . وكان إذا عرض له في خطبته عارض اشتغل به، ثم رجع إلى خطبته، وكان يخطب فجاء الحسن والحسين يعثران في قميصين أحمرين فقطع كلامه، فنزل فحملهما ثم عاد إلى منبره، ثم قال: «صدق الله العظيم إنما أموالكم وأولادكم فتنة (¬2) رأيت هذين يعثران في قميصيهما، فلم أصبر حتى قطعت كلامي فحملتهما» (¬3) . وجاء سليك الغطفاني وهو يخطب فجلس فقال له: «قم يا سليك فاركع ركعتين وتجوز فيهما ثم قال وهو على المنبر: إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما» (¬4) . وكان يقصر خطبته أحيانا، ويطيلها أحيانا بحسب حاجة الناس، وكانت خطبته العارضة أطول من خطبته الراتبة، وكان يخطب النساء على حدة في الأعياد ويحرضهن على الصدقة (¬5) والله أعلم. ¬

(¬1) رواه الترمذي في النكاح باب ما جاء في خطبة النكاح، وأحمد في المسند 2 / 302 وحسنه الترمذي. (¬2) سورة الأنفال 28. (¬3) رواه الترمذي في المناقب، باب مناقب الحسن والحسين. (¬4) رواه البخاري في الجمعة، باب إذا رأي الإمام رجلا وهو يخطب 2 / 336. (¬5) انظر بتصرف زاد المعاد 1 / 186 - 191.

التزام الحكمة والموعظة الحسنة

[التزام الحكمة والموعظة الحسنة] ثانيا: التزام الحكمة والموعظة الحسنة. رائدة فبهذا قول الله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل: 125] (¬1) . ولذلك يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله: والرفق سبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولهذا قيل: ليكن أمرك بالمعروف بالمعروف، ونهيك عن المنكر غير المنكر " (¬2) . والله تعالى يقول مخاطبا موسى وهارون: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى - فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 43 - 44] (¬3) . قال القرطبي (¬4) رحمه الله: في قوله تعالى {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا} [طه: 44] دليل على جواز الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأن ذلك يكون باللين من القول لمن معه القوة، وضمنت له العصمة، ألا تراه قال. {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا} [طه: 44] وقال {لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46] فكيف بنا فنحن أولى بذلك، وحينئذ يحصل الآمر أو الناهي على مرغوبه، ويظفر بمطلوبه وهذا واضح، ثم فسر القول اللين بأنه الذي لا خشونة فيه، ثم قال فإذا كان موسى أمر بأن يقول لفرعون ¬

(¬1) سورة النحل / 125. (¬2) رسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر 17. (¬3) سورة طه 43، 44. (¬4) تفسير القرطبي مجلد 6 جـ 11 ص200.

قولا لينا فمن دونه أحرى بأن يقتدي بذلك في خطابه، وأمره بالمعروف في كلامه، وقد قال الله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83] ولا يفهم من القول اللين والتزام الحكمة والموعظة الحسنة السكوت عن إنكار المنكر، ومجاراة الباطل وأهله، والمداهنة في أحكام الشرع كلا فإن على الخطيب أن ينصح لأئمة المسلمين وعامتهم ببيان الحق، ودحض الباطل، وبيان مكر الأعداء وما يدبرونه من المكائد، ويحذر من المنكرات الواقعة، وبين عاقبتها. غير أنه ليس من الحكمة أن يقف الخطيب على المنبر ليشهر بالعصاة، أو يجرح الناس بأسمائهم، ويعلن في الناس أن فلانا فعل كذا أو كذا فهذا مخالف لهدي المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي لم يعرف أنه كان يشهر ويجرح، بل كان كثيرا ما يقول ما بال أقوام يفعلون كذا. والإمام ابن رجب رحمه الله يذكر عن السلف أنهم كانوا إذا أرادوا نصيحة أحد وعظوه سرا حتى قال بعضهم: من وعظ أخاه فيما بينه وبيننه فهي نصيحة ومن وعظه على رءوس الناس فإنما وبخه، وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: المؤمن يستر وينصح، والفاجر يهتك ويعير. وسئل ابن عباس رضي الله عنهما عن أمر السلطان بالمعروف

ونهيه عن المنكر فقال: إن كنت فاعلا ولا بد ففيما بينك وبينه (¬1) . ورحم الله الإمام الشافعي حين قال: تعمدني بنصحك في انفرادي ... وجنبني النصيحة في الجماعة فإن النصح بين الناس نوع ... من التوبيخ لا أرضى استماعه وإن خلفتني وعصيت قولي ... فلا تجزع إذا لم تعط طاعه (¬2) ولا يخفى ما يؤدي إليه التجريح والتشهير من نفرة عن الحق وإصرار على الباطل، وشقاق وفرقة، ومفاسد كثيرة لا يتحقق معها مراد الناصح بل ربما حصل العكس وهو الدعاية لصاحب المنكر، فيتأثر ضعاف النفوس، ويزداد الأمر سوءا، كما لمسنا في المبالغة من التحذير عن بعض المنكرات التي أخذ الناس يتساءلون عنها، وأخذ السفهاء يتعرفون عليها، وعلى أماكنها، وأنواعها وربما وقعوا فيها بعد ذلك. ومن مقتضيات الحكمة أن يبتعد الخطيب عن إثارة الخلاف، لأن الخطيب الناجح يجمع ولا يفرق، ويصلح بين المتخاصمين من خلال الكلمات الجميلة التي يرسلها فتهدي ثائرة الثائرين، وتجمع بين المختلفين. ¬

(¬1) انظر جامع العلوم والحكم 71. (¬2) انظر ديوان الإمام الشافعي جمع محمد عفيف الزعبي ص 56.

مراعاة أحوال المخاطبين واختلاف مداركهم وبيئاتهم

[مراعاة أحوال المخاطبين واختلاف مداركهم وبيئاتهم] ثالثا: مراعاة أحوال المخاطبين، واختلاف مداركهم وبيئاتهم. إن مراعاة أحوال المخاطبين أمر مهم لا يصح إغفاله، ومن لوازم اختيار الموضوع المناسب، والوقت المناسب، وعرضه بأسلوب يفهمه المخاطب، والحديث معهم على قدر عقولهم حتى لا يكون فتنة لهم فقد صح عن ابن مسعود رضي الله عنه قوله: ما أنت محدثا قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنه (¬1) وصح عن الإمام علي رضي الله عنه قوله: حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله (¬2) . وجاء في إحياء علوم الدين قول الغزالي " كل لكل عبد بمعيار عقله، وزن له بميزان فهمه حتى تسلم منه، وينتفع بك، وإلا وقع الإنكار لتفاوت المعيار " (¬3) . ومن مقتضيات مراعاة أحوال السامعين أن يدرك الخطيب الفرق بين مجتمع المدينة، ومجتمع القرية فلكل منهما ما يميزه، ولكل منهما مشاكله الخاصة به، وإن كان يحصل أحيانا اتفاق في بعض المشكلات إلا أن كلا من المجتمعين له ما يميزه، فإذا كانت مشكلة ¬

(¬1) انظر فتح الباري 1 / 226. (¬2) انظر فتح الباري 1 / 225. (¬3) انظر إحياء علوم الدين 1 / 57.

اعتماده على مصادر المعرفة الإسلامية الموثقة والترفع عن الأحاديث الضعيفة والموضوعة والإسرائيليات

الترف ظاهرة في المدينة فإنها ليست كذلك في القرية وإذا كانت القطيعة والخصومة ظاهرة في القرى فإنها ليست كذلك في المدينة، وإذا كان الربا متفشيا في المدن حيث تكثر الإغراءات، والإعلانات عن الأسهم ونحوها فإنها ليست كذلك في كثير من القرى التي ربما لم يسمع سكانها عن الشركات والأسهم، بل يعيش بعضهم عيش الكفاف. [اعتماده على مصادر المعرفة الإسلامية الموثقة والترفع عن الأحاديث الضعيفة والموضوعة والإسرائيليات] رابعا: أن يعتمد الخطيب على مصادر المعرفة الإسلامية الموثقة وأن يترفع عن الأحاديث الضعيفة والموضوعة، والإسرائيليات المدسوسة والحكايات المكذوبة، والمبالغات المذمومة، وكل ما لا يسنده نقل صحيح أو عقل صريح، وأن تكون لغته هي الفصحى، ويبتعد عن العامية، والتكلف في الإلقاء، وأن يعد الخطبة إعدادا جيدا، ويوحد موضوعها، ويرتب الأفكار التي يطرحها بعيدا عن الارتجال الذي يبدأ صاحبه الحديث في قضية معينة، أو مشكلة محددة، ثم يختم الخطبة، وقد استعرض عدة قضايا أو مجموعة من المشكلات دون أن يحرر قضية، أو يحل مشكلة مما يسبب الملل للسامعين، ويضعف الثقة به. أما إذا أعد الخطبة إعدادا جيدا، وحفظ عناصرها، وجملة ما يريد أن يقوله وكان ذا دربة ومران على الإلقاء بدون الكتابة فإنه لا بأس بذلك، ولا يعد هذا في تقديري ارتجالا.

ترتيب الأولى وتقديم الأهم من الموضوعات على المهم

ومن لوازم إعداد الخطبة أن يكون هو الكاتب لها، فلا تفرض عليه خطبة معينة يرددها ترديدا لا روح فيه، وقد تكون الخطبة الموجهة غير مناسبة للسامعين، ولا موائمة للوقت الذي تلقى فيه. [ترتيب الأولى وتقديم الأهم من الموضوعات على المهم] خامسا: ترتيب الأولى، وتقديم الأهم من الموضوعات على المهم. تقدير الأهم على المهم، وترتيب الأولى من الموضوعات يعني وضع الشيء في موضعه فلا يؤخر ما حقه التقديم، أو يقدم ما حقه التأخير ولا يعظم الأمر الصغير أو العكس، وإن كانت أمور هذا الدين كلها مهمة. فإذا كان الخطيب في قرية أو مناطق نائية فليس من الفقه أن يؤخر الحديث عن أصول العقيدة، وشعائر الإسلام، ثم يبدأ بالحديث، فروع المسائل، وليس من الفقه أن يتحدث معهم في النوافل قبل الحديث عن الفرائض، ولكن الفقه يقتضي أن يبدأ بالفرض قبل النافلة، وبالواجب العيني قبل الكفائي، ويحذر مما ضرره أكبر قبل التحذير مما ضرره أخف. وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل رضي الله عنه هذه القاعدة حين بعثه إلى اليمن فقال: «إنك ستأتي قوما أهل كتاب فإذا جئتهم

ترجيح المصلحة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله الله، وأن محمدا رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعولك بذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بنها وبين الله حجاب» (¬1) . يقول ابن حجر رحمه الله: " وأما قول الخطابي أن ذكر الصدقة أخر عن ذكر الصلاة ولأنها إنما تجب على قوم في دون قوم، وأنها لا تكرر تكرار الصلاة فهو حسن، وتمامه أن يقال بدأ بالأهم فالأهم، وذلك من التلطف في الخطاب، لأنه لو طالبهم بالجميع في أول أمره لم يأمن من النفرة (¬2) . [ترجيح المصلحة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر] سادسا: أن تكون المصلحة في أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر راجحة. يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله: وإذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم الواجبات أو المستحبات لا بد أن تكون المصلحة فيها راجحة على المفسدة، إذ بهذا بعثت الرسل، وأنزلت الكتب (¬3) . ¬

(¬1) رواه البخاري في الزكالة، باب وجوب الزكاة 3 / 307، ومسلم في الإيمان، باب الدعاء إلى الشهادتين 1 / 50. (¬2) فتح الباري 3 / 359. (¬3) انظر رسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ص 17.

ويقول في موضوع آخر: إذا تعارضت المصالح والمفاسد، والحسنات والسيئات أو تزاحمت، فإنه يجب ترجيح الراجح منها فيما إذا ازدحمت المصالح والمفاسد وتعارضت المصالح والمفاسد، فإن الأمر والنهي وإن كان متضمنا لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة فينظر في المعارض له، فإن كان الذي يفوت من المصالح أو يحصل من المفاسد أكثر لم يكن مأمورا به، بل يكون محرما إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته (¬1) . ولكنه يبين رحمه الله أن الميزان في اعتبار مقادير المصالح والمفاسد إنما يكون بميزان الشريعة فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص لم يعدل عنها، وإلا اجتهد رأيه لمعرفة الأشباه والنظائر، وقل أن تعوز النصوص من يكون خبيرا بها وبدلالتها على الأحكام (¬2) . وقد ضرب مثالا رائعا في قضية الموازنة بين المصلحة والمفسدة وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك عبد الله بن أبي بن سلول، وأمثاله من أئمة النفاق والفجور لما لهم من أعوان ثم قال. فإزالة المنكر بنوع من عقابه مستلزمة إزالة معروف أكثر من ذلك بغضب قومه وحميتهم، وبنفور ¬

(¬1) المرجع السابق ص 20، 21. (¬2) انظر رسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ص 17.

الناس إذا سمعوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتل أصحابه5، ولهذا لما خطب الناس في قضية الإفك بما خطبهم به، واعتذر عنه، وقال له سعد بن معاذ قوله الذي أحسن فيه حمى له سعد بن عبادة - مع حسن إيمانه وصدقه - وتعصب لكل منهم قبيلته حتى كادت تكون فتنة (¬1) . وقد تبين رحمه الله أن التعارض والاختلاط بين الحسنات والسيئات من أسباب الاختلاف العريض بين المسلمين، فقوم ينظرون إلى الحسنات فيرجحون تحصيلها وإن تضمنت سيئات عظيمة، وقوم ينظرون إلي السيئات فيرجحون تركها وإن تضمن ترك حسنات عظيمة، والمتوسطون من يقارنون بين مقدار المصلحة، ومقدار المفسدة، فينفذون ما غلب خيره وإن تضمن شرا، ويدعون ما غلب شره وإن تضمن تفويت خير قليل، وإذا التبس الأمر عليهم وقفوا حتى يتبين دون إن يلوموا غيرهم في هذه المواطن الاجتهادية التي تختلف فيها أنظار النظار (¬2) . وقد رأيت ضرورة التذكير بهذا لأننا نلحظ أنه عند إغفالها، أو الخطأ في تقدير الموازنة بين المصلحة والمفسدة أو بين المصلحة الراجحة والمصلحة المرجوحة، أو عند دفع أكبر المفسدتين بارتكاب أخفها ¬

(¬1) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ص 22. (¬2) مجموع الفتاوى 20 / 50، 75، 58 والاستقامة 2 / 216.

رابعا مسئولية إمام الفروض

يحصل من جراء ذلك جدل ونزاع شديد، واختلاف يصل إلى الفرقة والمخالفة ويوقع الناس في الحيرة والاضطراب، ولا يخفى ما في هذا من المفاسد. وعندما أسائل بعض المندفعين مع العاطفة عن جدوى كلامهم الحظ الندم عند المنصف منهم، لأنه يرى ما ترتب عليه من المفسدة التي كان بالإمكان دفعها ولو فاتت بعض المصالح، فإن درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة. وهذه القاعدة كثيرا ما نحتاجها في أوقات الفتن، ونزول البلاء حين تتزاحم المفاسد، وتختلط الأمور على الناس، ويفتي الراسخون من أهل العلم بارتكاب أخف الضررين، ودفع المفسدة العاجلة والله نسأل أن يقينا شر الفتن ما ظهر منها وما بطن والله أعلم. [رابعا مسئولية إمام الفروض] رابعا: مسئولية إمام الفروض من المعلوم أن إتقان العمل مطلب شرعي في جميع الأعمال، فالله تعالى يحب من العبد إذا عمل عملا أن يتقنه، وهو في الإمامة أعظم وآكد، لأنه - كما تقدم - قد بني اختيار الإمام على الأفضلية في القراءة، وفي العلم، وفي الفضل والعمل الصالح.

يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله معقبا على حديث يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله: فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بتقديم الأفضل بالعلم بالكتاب. ثم بالسنة ثم الأسبق إلى العمل الصالح، ثم بفعل الله تعالى (¬1) . وعلى هذا فليس من إتقان العمل أن يتقدم للإمامة من لا يجيد قراءة الفاتحة، أو سائر السور، أو يجهل أحكام الصلاة، فربما يفسدها وهو لا يعلم، ولذلك يقول الإمام ابن حجر رحمه الله: ولا يخفى أن محل تقديم الأقرأ إنما هو من حيث يكون عارفا بما يتعين معرفته من أحوال الصلاة، فأما إذا كان جاهلا بذلك فلا يقدم اتفاقا، والسبب في ذلك أن أهل ذلك العصر - يقصد عصر النبي صلى الله عليه وسلم - كانوا يعرفون معاني القرآن، لكونهم أهل اللسان، فالأقرأ منهم بل القارئ كان أفقه في الدين من كثير من الفقهاء الذين جاءوا بعدهم (¬2) . ويبين الإمام الخطابي رحمه الله معنى السنة في الحديث فيقول: هي الفقه ومعرفة أحكام الصلاة، وما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، وبينه من أمرها، فإن الإمام إذا كان جاهلا بأحكام الصلاة، وبما يعرض فيها من سهو، ويقع من زيادة ونقصان أفسدها، أو أخرجها، فكان العالم ¬

(¬1) مجموع الفتاوى 23 / 357، ويريد بالأسبق إلى العلم الصالح بنفسه (الهجرة) ويفعل الله تعالى (السن) أكبرهم سنا. والحديث سبق تخريجه. (¬2) فتح الباري 2 / 171.

بها والفقيه فيها مقدما على من لم يجمع علمها، ولم يعرف أحكامها، ومعرفة السنة وإن كانت مؤخرة في الذكر وكانت القراءة مبدوءا بذكرها، فإن الفقيه العالم بالسنة إذا كان يقرأ من القرآن يجوز به الصلاة أحق بالإمامة من الماهر بالقراءة إذا كان متخلفا عن درجته في علم الفقه ومعرفة السنة، وإنما قدم القارئ في الذكر، لأن عامة الصحابة إذا اعتبرت أحوالهم وجدت أقرأهم أفقههم (¬1) . وإنما سقت هذا لأبين عظم المسئولية، وإن كان قد تقرر عند أهل العلم جواز إمامة المفضول مع وجود الفاضل، وتقديم الإمام الراتب، وأنه أولى من غيره وإن كان غيره أعلم وأفضل قال في المغني: وإمام المسجد الراتب، أولى من غيره؛ لأنه في معنى صاحب البيت والسلطان، وقد روي عن ابن عمر أنه أتى أرضا له وعندها مسجد يصلي فيه مولى لابن عمر فصلى معهم، فسألوه أن يصلي بهم فأبى وقال صاحب المسجد أحق؛ ولأنه داخل في قوله: «من زار قوما فلا يؤمهم» (¬2) . وإنما خصصت إمام الفروض بهذا الكلام لأنه كثيرا ما يحصل التساهل إما من قبل من يسعى للإمامة ليتعين في هذا العمل، أو من قبل الجهة المرشحة لهذا العمل. ¬

(¬1) حاشية سنن أبي داود أخذا من معالم السنن للخطابي 1 / 392. (¬2) المغني 3 / 42، 43 وانظر أيضا فتح الباري 2 / 170. وأما الحديث فتتمته وليؤمهم رجل منهم رواه أبو داود في كتاب الصلاة باب إمامة الزائر 1 / 140، والإمام أحمد في السنن 3 / 436.

وأذكر هنا بحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: «الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن، اللهم ارشد الأئمة واغفر للمؤذنين» (¬1) . قال في الفتح الرباني: ضامن لصلاة المأمومين لارتباط صلاتهم بصلاته فسادا وصحة، فهو الأصل وهم الفرع، ولهذا الضمان كان ثواب الأئمة أكثر ووزرهم أكثر إذا أخلوا بها (¬2) . وقد اتفق العلماء على عظيم ثواب الأئمة إذا أصابوا، وأدوا هذا العمل على الوجه الصحيح، ووقوع الوزر إذا أخلوا بها، أما فساد صلاة المأموم لفساد صلاة الإمام فهي مسألة مختلف فيها، وعندما فصل الإمام ابن تيمية رحمه الله الحديث فيها وذكر الأقوال في المسألة رجح قولا ثالثا وعده أوسط الأقوال وهو أن صلاة المأموم منعقدة بصلاة الإمام، لكن إنما يسري النقص إلى صلاة المأموم مع عدم العذر منهما، فأما مع العذر فلا يسري النقص، فإذا كان الإمام يعتقد طهارته فهو معذور في الإمامة، والمأموم معذور في الائتمام قال رحمه الله وهذا قول مالك وأحمد وغيرهما وعليه يتنزل ما يؤثر عن الصحابة في هذه المسألة (¬3) والله أعلم. ¬

(¬1) سبق تخريج الحديث. (¬2) الفتح الرباني 3 / 8. (¬3) مجموع الفتاوى 23 / 371.

الخاتمة

[الخاتمة] الخاتمة في نهاية هذا البحث الموجز أحب أن أشير إلى أهم النتائج على النحو الآتي: أولا: الإمامة مبنية على الأفضلية، وعلى هذا فإمام القوم ينبغي أن يكون أفضلهم، ومن ثم فإن فضل الإمامة عظيم، ومنزلة الإمام عالية، وبالإمامة والإمام يحل العلم محل الجهل في الناس، والإقبال على الله محل الغفلة والإعراض، والطاعة ولزوم الاستقامة محل المعصية والانحراف والفضيلة والسعادة في المجتمع محل الرذيل والشقاء. ثانيا: صفات القائم بالإمامة على قسمين: قسم هو الحد الأدنى، وهو أقل ما يجب عليه، وهو في غاية اليسر، والخلل في شيء منه يبطل الإمامة، وقسم هو الأولى فجدير بمن يتولى هذا العمل العظيم الذي يعد مسئولية وأمانة أن يتعاهد نفسه بشأنه، وينال منه حظ وافرا وقدرا طيبا، وكلما ازداد منه كلما كان قادرا على تحمل هذه المسئولية، ومؤديا لهذه الأمانة على الوجه المراد. ثالثا: إمامة الفاسق في الاعتقاد أو الأعمال مكروهة باتفاق، فيكره الصلاة خلفه، ولكن الصلاة خلفه صحيحة على القول الراجح

من أقوال العلماء، وأما مستور الحال فلا يسأل عن معتقده، ويصلي خلفه، وهذا هو ما ذكره المحققون من أهل العلم. رابعا: المسئولية منها: ما هو قدر مشترك يتحمله جميع الأئمة؛ لأنه أمر مقدور عليه لكل إمام، ومن المسئولية ما يعد قدرا خاصا يناط ببعض الأئمة دون الآخرين وذلك بحسب مكانتهم في الناس، وحاجة الناس إليهم، فالإمام العالم، وإمام الجامع من طلاب العلم المتخصصين في العلم الشرعي، أو المهتمين به ولو لم يكونوا في الأصل متخصصين يتحملون ما لا يتحمله غيرهم، وعلى من دونهم ألا يقتحم الإمامة فيزج بنفسه في المنزلة التي ليس من أهلها، ورحم الله امرءا عرف قدر نفسه. خامسا: لأئمة الجوامع دور تعليمي، وتربوي، واجتماعي مستمر من طبيعة رسالة المسجد ذات الجوانب المتعدد، ومن الطبيعي أن يحتاج الإمام إلى من يكون عونا له من إخوانه بعد الله تعالى على أداء رسالته، والقيام بهذه المهمة المتكاملة؛ لأن المساجد جامعات تنطلق منها الأجيال وقد تعلمت، وتربت على الفضيلة وحصلت قدرا من العلم والتربية والأخوة والتكافل، فمن يعلمها، ويربيها، ويؤلف بين قلوب هذه الأجيال؟ إنه الإمام وهو المسئول الأول في

المسجد، ومعه صفوة من المصلين من باب {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] فالمؤمن بإخوانه، وعليه أن يحسن الاختيار لهذه المهمة من الصادقين الأخيار. سادسا: خطيب الجامع الناجح يراعي في أداء الخطبة الالتزام بهدي النبي صلى الله عليه وسلم، والاهتداء بهديه، ويلتزم الحكمة والموعظة الحسنة، ويعد الخطبة حتى تكون مفيدة ومؤثرة. إعدادا جيدا، ويراعي أحوال المخاطبين، والزمان، والمكان اللذين تلقى فيهما الخطبة، ويرتب الأهم على المهم بحسب حاجة السامعين، ويوازن بين المصلحة الراجحة والمرجوحة في طرح الموضوع فيقدم الراجحة، ويدفع المفسدة وهو في جميع الأحوال يبتغي وجه الله تعالى، ويرجو ثوابه، ويحرص على الالتزام بما يقول والعمل به، ويعمل جاهدا على تبصير إخوانه المسلمين، وهو بهم رءوف رحيم كما وصف الله تعالى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128] التوبة آية / 128 وفق الله الجميع لما يحب ويرضى، وأخذ بنواصينا للبر والتقوى. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

§1/1