مسألة في الكنائس

ابن تيمية

نص المسألة

بسم الله الرحمن الرحيم (1) ما تقول (2) السادة العلماء أئمة الدين، وهداة المسلمين رضي الله عنهم أجمعين، وأعانهم على إظهار الحق المبين، وإخمال الكفار والمنافقين، في الكنائس التي بالقاهرة وغيرها التي أغلقت (3) بأمر ولاة الأمور، إذا ادعى أهل الذمة: أنها غلِّقت ظلماً، وأنهم يستحقون فتحها، وطلبوا ذلك من ولي الأمر أيده الله تعالى ونصره. فهل تقبل دعواهم؟ وهل تجب إجابتهم أم لا؟! وإذا قالوا: إن هذه الكنائس كانت قديمةً، من زمن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وغيره. وأنهم يطلبون أن يقروا (4) ، على ما كانوا عليه في زمن عمر -رضي الله عنه- وغيره من خلفاء المسلمين، وأن إغلاقها مخالفٌ لحكم الخلفاء الراشدين. فهل القول مقبولٌ منهم أو مردود؟ وإذا ذهب (5) أهل الذمة إلى من يقدم من بلاد الحرب، من رسولٍ أو غيره، فسألوه أن يسأل ولي الأمر في فتحها، أو كاتبوا ملوك الحرب ليطلبوا ذلك من ولي أمر المسلمين فهل لأهل الذمة ذلك؟ وهل ينتقض عهدهم أم لا؟!

_ (1) في الظاهرية: مسألة سئل عنها الشيخ الإمام العلامة الحافظ تقي الدين ابن تيمية الحراني الحنبلي تغمده الله برحمته في الكنائس. (2) في نسخة مصر: ما يقول. (3) في الظاهرية: غلّقت. (4) في الأصل: يقرون وما أثبته من المصرية هو الصواب. (5) في القاهرية: بعث.

وإذا قال قائلٌ: إنهم إن لم يجابوا إلى ذلك حصل للمسلمين ضررٌ، إما بالعدوان على من عندهم من الأسرى (1) (2) ، أو (3) المساجد، وإما بقطع متاجرهم عن ديار الإسلام، وإما بترك معاونتهم لولي أمر المسلمين على ما يعتمده من مصالح المسلمين، ونحو ذلك. فهل هذا القول صوابٌ، أو خطأٌ؟ بينوا ذلك مبسوطاً مشروحاً. وإذا كان في فتحها تغير قلوب المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، [وحصول الفتنة والفرقة بينهم] (4) ، وتغيرت قلوب أهل الصلاح والدين، وعموم الجند والمسلمين على ولاة الأمور؛ لأجل إظهار شعائر الكفر، وظهور عزهم وفرحهم وسرورهم بما يظهرونه وقت فتح الكنائس، من الشموع والجموع والأفراح وغير ذلك، وهذا فيه تغير قلوب المسلمين من الصالحين وغيرهم (5) ، حتى إنهم يدعون الله تعالى على من تسبب في ذلك، وأعان عليه. فهل لأحد أن يشير على ولي الأمر بذلك؟ ومن أشار عليه بذلك هل يكون ناصحاً لولي أمر المسلمين أم غاشًّا له؟! وأي الطرق هو الأفضل لولي الأمر -أيده الله تعالى- ولأوليائه من قمع أعدائه وإذلالهم؟ أو مطاوعتهم (6) ؟!

_ (1) في المصرية: الأسراء وهو وجه في جمعها. (2) في الظاهرية: الأسرى المسلمين. (3) في المصرية: المساجد بدون أو التخيير. (4) ما بين المعكوفين زيادة من المطبوعة , وزدتها لما فيها من إيضاح وبيان , وإلا فجميع النسخ متفقة على عدم ذكر هذه العبارة. (5) لأن المسلم يتغير قلبه ويحزن لظهور المنكر وإعلانه , بل لوقوعه أولاً وهذا أقل ما يكون من المسلم الحقيقي لحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال [من رأى منكم منكراً فليغيره بيده , فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان] والتغير بالقلب بكرهه وبغضه وهو متعين على الجميع إما باللسان واليد فهما لمن استطاع إلى ذلك سبيلاً وأولاهم ولي الأمر ونائبه وأهل الحسبة. (6) في الظاهرية: أو مطاوعتهم عنهم في ذلك.

الجواب

بينوا لنا ذلك، وابسطوا بسطاً شافياً، مثابين مأجورين -إن شاء الله تعالى- وحسبنا الله ونعم الوكيل. وصلى الله على سيدنا محمدٍ خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ورضي الله عن الصحابة المكرمين، وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، يا أرحم الراحمين (1) . الرد على دعوى أن المسلمين ظلموهم بإغلاق كنائسهم: الجواب: الحمد لله رب العالمين، أما دعواهم أن المسلمين ظلموهم في إغلاقها فهذا كذبٌ مخالفٌ (2) لأهل العلم (3) . فإن علماء المسلمين من أهل المذاهب الأربعة: مذهب أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، وغيرهم من الأئمة، كسفيان الثوري (4) ، والأوزاعي (5) ، والليث بن سعد (6) ، وغيرهم، ومن قبلهم من

_ (1) آمين واجعلنا معهم بجودك وإحسانك يا رب العالمين , وإن رغم أنف الرافضة وأذنابهم , والخوارج الناصبة وأذيالهم أعداء السنة والدين. (2) في المصرية: مخالف به لأهل العلم. (3) في المطبوعة مخالف لإجماع المسلمين. (4) الأئمة الأربعة معروفون وسفيان الثوري هو: أبو عبد الله سفيان بن سعيد الكوفي الجهبذ ولد سنة 91هـ ومات سنة 161 هـ من كبار الأئمة الحفاظ كثير الشيوخ وروى عنه الجماعة فأكثروا الرواية عنه منهم جماعة حدث عنهم وحدثوا عنه ,..... حافظ فقيه إمام حجة وأكثر العلماء الثناء عليه في علمه وورعه انظر النبلاء 7/229-279 , وطبقات ابن سعد 6/371-374 , والتاريخ الكبير للبخاري 4/92-93 وتهذيب الكمال ص 515. (5) هو أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي , شيخ الإسلام , وعالم أهل الشام ولد سنة 88 هـ وتوفي سنة 157 هـ, أخرج له أصحاب الكتب الستة وأحمد " الجماعة " كان رحمه الله من أفضل أهل زمانه وأعلمهم , وكان قذى في أعين المبتدعة القدرية انظر النبلاء 7/107-134 , طبقات ابن سعد 7/488 , طبقات خليفة 351-316 , المعرفة والتاريخ الفسوي 2/390-397 وتهذيب الكمال 808. (6) هو الإمام الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفهمي , شيخ الإسلام وعالم الديار المصرية , أخرج له الجماعة , وهو من كبار أئمة الحديث وأصحاب المدارس الفقهية ولد سنة 94هـ وقال فيه الحافظ في التقريب , ثقة ثبت فقيه إمام مشهور توفي سنة 175هـ وكان يوماً مشهوداً رفع الله درجاتهم في عليين. النبلاء 8/136-163 , الطبقات 7/517 , طبقات خليفة ص296 , تهذيب الكمال 1152 , المعارف لابن قتيبة 505 وما بعدها.

تكذيب دعوى وجود الكنائس بالقاهرة منذ عهد الخلفاء الراشدين

الصحابة والتابعين، متفقون على أن الإمام لو هدم كل كنيسةٍ بأرض العنوة كأرض مصر والسواد (1) بالعراق، وبر الشام ونحو ذلك، مجتهدًا في ذلك، ومتبعًا في ذلك لمن يرى ذلك، لم يكن ذلك (2) ظلماً منه؛ بل تجب طاعته في ذلك (3) . وإن امتنعوا عن حكم المسلمين لهم، كانوا ناقضين العهد، وحلت بذلك دماؤهم وأموالهم. تكذيب دعوى وجود الكنائس بالقاهرة منذ عهد الخلفاء الراشدين: وأما قولهم إن هذه الكنائس من عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وأن الخلفاء الراشدين أقروهم عليها، فهذا أيضًا من الكذب. فإن من المعلوم المتواتر أن القاهرة (4) بنيت بعد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بثلاثمائة سنة، بنيت بعد بغداد، وبعد البصرة والكوفة (5) وواسط (6) . وقد اتفق المسلمون على أن ما بناه المسلمون من المدائن لم يكن لأهل الذمة أن يحدثوا فيها كنيسة، مثل ما فتحه المسلمون صلحاً، وأبقوا لهم كنائسهم القديمة،

_ (1) المقصود بأرض السواد الأرياف وأماكن الزراعة , وصارت علماً على ما حول دجلة والفرات من أراضي الزراعة. (2) أي هدم كنائسهم بأرض العنوة مجتهداً أو متبعاً. (3) وزادت المطبوعة [ومساعدته في ذلك ممن يرى ذلك] وفيها حصر وجوب مساعدة الإمام في هذا على من يرى, دون من لا يرى ذلك فلا تجب طاعته للإمام! فلاحظه. (4) القاهرة هي عاصمة مصر الآن. (5) الكوفة: بلد خُطت سنة 17 هـ قريبة من نهر الفرات في وسط العراق وشمال النجف مباشرة , وجنوب كربلاء انظر الأطلس التاريخي ص113-115. (6) واسط: مدينة وسط العراق على ضفاف أحد فروع دجلة في جنوب شرق بغداد , وشمال شرق سواد العراق انظر الأطلس التاريخي ص 113.

بقاء الكنائس في مدائن الإسلام

بعد أن شرط عليهم فيه عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أن لا يحدثوا كنيسة في أرض الصلح، فكيف في بلاد المسلمين؟! بقاء الكنائس في مدائن الإسلام: بل إذا كان لهم كنيسة بأرض العنوة، كالعراق ومصر ونحو ذلك فبنى المسلمون مدينة عليها، فإن لهم أخذ تلك الكنيسة؛ لئلا تترك في مدائن المسلمين كنيسةٌ بعد عهد (1) . فإن في سنن أبي داود بإسنادٍ جيد عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تصلح قبلتان بأرضٍ، ولا جزية

_ (1) هكذا في جميع النسخ ولعل الأصح ما في المطبوعة: بغير عهد. وهذا طرف مما جاء في هدم كنائس المشركين خصوصاً اليهود والنصارى، وغيرهم من باب أولى: فقد روى البيهقي بسنده 20219 إلى ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل نجران - يعني النصارى - على ألفي حلة وقال: على أن لا تهدم لهم بيعة ولا يخرج لهم قس ولا يفتنون عن دينهم، ما لم يحدثوا حدثاً، أو يأكلوا الربا. وهذا معنى ما رواه عبد الرزاق في المصنف رقم (10004) بسنده قال. قال عمرو بن ميمون: واستشارني عمر - يعني ابن عبد العزيز - في هدم كنائسهم - فقلت لا تهدم، هذا صولحوا عليه، فتركها عمر. والمقصود بها الكنائس التي صولحوا وهي قائمة بأيديهم، ليس ما أحدثوا بعد. ولهذا قال عبد الرزاق (رقم 19234، 10002) أخبرنا ابن التيمي عن أبيه قال حدثني شيخ من أهل المدينة يقال له: حنش أبو علي أن عكرمة أخبره، قال: سئل ابن عباس: هل للمشركين أن يتخذوا الكنائس في أرض العرب؟ فقال: أما ما مصر المسلمون فلا ترفع فيه كنيسة، ولا بيعة، ولا صليب، ولا سنان، ولا ينفخ فيها ببوق، ولا يضرب ناقوس، ولا يدخل فيها خمر ولا خنزير. وما كانت من أرض صولحوا صلحا , فعلى المسلمين أن يفوا لهم بصلحهم. وتفسير ما مصر المسلمون: ما كانت من أرضهم أو أخذوها عنوة. وهذا بنحوه ما رواه البيهقي عنه في الكبرى 9/ 202 وفي آخره: أو أيما مصر اتخذه العجم فعلى العرب أن يفوا لهم بعهدهم فيه، ولا يكلفوهم ما لا طاقة لهم به. ورواه بنحوه أبو عبيدة في الأموال ص 269. ومحصل هذا أن كنائسهم التي صولحوا عليها تبقى لهم بالشروط التي ذكرها ابن عباس وقبله عمر بن الخطاب رضي الله عنهم وستأتي في آخر الفتوى مفصلة. أما ما أحدثوا بعد الصلح معهم - سواء على حين ضعف من المسلمين أو غرة منهم - فلا يجوز إقرارهم عليها؟ بل يجب هدمها وتأديبهم. رحم الله حالنا وضعفنا، وجبر مصيبتنا.

حقيقة دولة العبيديين بمصر

على مسلم" (1) . والمدينة التي يسكنها المسلمون, والقرية التي يسكنها المسلمون, وفيها مساجد المسلمين, لا يجوز أن يظهر فيها شيء من شعائر الكفر: لا كنائس ولا غيرها (2) , إلا أن يكون لهم عهدٌ, فيوفى لهم بعهدهم. فلو كان بأرض القاهرة ونحوها كنيسةٌ قبل بنائها, لكان للمسلمين أخذها, لأن الأرض عنوةً فكيف وهذه الكنائس محدثة, أحدثها النصارى؟! حقيقة دولة العبيديين بمصر: فإن القاهرة بقي ولاة أمورها نحو مائتي سنةٍ, على غير شريعة الإسلام, وكانوا يظهرون أنهم رافضة (3) , وهم في الباطن إسماعيلية (4) ,

_ (1) هذا الحديث أخرجه أبو داود - كما قال الشيخ تقي الدين - من وجهين. الأول: رقمه (3032) قال حدثنا سليمان بن داود. العتكي ثنا جرير عن قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً (لا تصلح قبلتان بأرض) إلى جملة الحديث الأولى. والثاني: رقمه (3053) حدثنا عبد الله بن الجراح عن جرير عن قابوس به (لا جزية على مسلم) أي جملته الثانية والشيخ كما ترى جود إسناده. والحديث أخرجه أحمد في المسند 1/ 223 وه 28 من وجهين: الأول حدثنا أسود بن عامر ثنا جعفر الأحمر عن قابوس به والثاني حدثنا جرير عن قابوس به. وأخرجه الترمذي رقم 633 قال: ثنا يحيى بن أكثم عن جرير عن قابوس بلفظ مقارب. وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه 3/197 ثنا جرير بن عبد الحميد عن قابوس به. وأخرجه أبو عبيدة في الأموال رقم 121 قال حدثنا مصعب بن المقدام عن سفيان بن سعيد الثوري عن قابوس به مختصراً. وكذا أخرجه الدارقطني في السنن 4/ 156 و 157 والطحاوي في مشكل الآثار 4/ 16 وأبو نعيم في الحلية 9/ 197 وابن عدي في الكامل 2/ 142. والحديث -كما ترى - مداره على قابوس عن أبيه به وعن قابوس تعدد رواته. (2) كبيع اليهود ومعابدهم أو أسواق بيع الخنازير أو مصانع الصليب. وغيرها من باب أولى كشعائر الوثنيين من الهندوس والسيخ والمجوس وشاكلتهم. (3) هم أشهر من أن يعرفوا، وضلالهم بين، فغلوا في آل بيته صلى الله عليه وسلم وجفوا أزواجه وأصهاره وبقية الأصحاب وكفروهم، فصاروا باباً دخل منه الباطنية والزنادقة لهدم أصول الدين، وقد فضحهم شيخ الإسلام تقي الدين وفند شبههم في كتابه النادر (منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية) ومما ذكره =

_ = في 1 / 20، (وهذا حال أهل البدع المخالفة للكتاب والسنة، فإنهم إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس، ففيهم جهل وظلم، لا سيما الرافضة، فإنهم أعظم ذوي الأهواء جهلاً وظلماً يعادون خيار أولياء الله تعالى بعد النبيين من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان - رضي الله عنهم ورضوا عنه -، ويوالون الكفار والمنافقين من اليهود والنصارى والمشركين وأصناف الملحدين كالنصيرية والإسماعيلية وغيرهم من الضالين. . .) . وقال في المنهاج 1/ 9 - 11 (ولهذا كانوا - أي الرافضة - عند عامة أهل العلم والدين، من أجهل الطوائف الداخلين في المسلمين، ومنهم من أدخل على الدين من الفساد ما لا يحصيه إلا العباد، فملاحدة الإسماعيلية والنصيرية وغيرهم من الباطنية المنافقين من بابهم دخلوا، وأعداء المسلمين من المشركين وأهل الكتاب بطريقهم وصلوا، استولوا بهم على بلاد الإسلام، وسبوا الحريم وأخذوا الأموال وسفكوا الدم الحرام، وجرى على الأمة بمعاونتهم من فساد الدنيا والدين ما لا يعلمه إلا رب العالمين) . وقال في تسميتهم 1/ 35 (ومن زمن خروج زيد - يعني به علي بن الحسين بالكوفة سنة 22هـ - افترقت الشيعة إلى رافضة وزيدية، فإنه لما سئل عن أبي بكر وعمر؟ فترحم عليهما، رفضه قوم، فقال لهم: رفضتموني! فسموا رافضة لرفضهم إياه، وسمي من لم يرفضه من الشيعة زيدياً لانتسابهم إليه) . وهم بعد ذلك طوائف وفرق وبالجملة فهم مبغضون للصحابة ومكفروهم إلا خمسة وأوائلهم مشبهة مجسمة ثم هم معتزلة في صفات الله، قبورية في توحيد العبادة. ولا تكاد توجد مسألة إلا وهم مخالفون للسنة فيها أسأل الله العافية والسلامة، وأعوذ به من الخذلان والكفران. (4) الإسماعيلية طائفة باطنية كافرة خارجة عن الإسلام تنتسب إلى إسماعيل بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين - رحمهم الله ورضي عنهم - وانظر في هذه النسبة المنهاج 4/ 17 - 18 هزل! هم الذين يقولون بإلهية الحاكم بأمر الله العبيدي قال فيهم الشيخ 6/ 342 وما بعدها (وإنها ظهر من دعا إلى الرفض، وتسمى بأمير المؤمنين وأظهر القتال على ذلك، وحصل لهم ملك وأعوان مدة بني عبيد الله القداح الذين أقاموا بالمغرب مدة وبمصر نحو مائتي سنة. وهؤلاء باتفاق أهل العلم والدين كانوا ملاحدة ونسبهم باطل، فلم يكن لهم بالرسول اتصال نسب في الباطن ولا دين، وإنما أظهروا النسب الكاذب وأظهروا التشيع، ليتوسلوا بذلك إلى متابعة الشيعة إذ كانت أقل الطوائف عقلاً وديناً، وأكثرها جهلاً، وإلا فأمر هؤلاء العبيدية المنتسبين إلى إسماعيل بن جعفر أظهر من أن يخفي على مسلم. ولهذا فجميع المسلمين الذين هم مؤمنون في طوائف الشيعة يتبرأون منهم، فالزيدية والإمامية تكفرهم وتتبرأ منهم، وإنما ينتسب إليهم الإسماعيلية الملاحدة الذين فيهم من الكفر ما ليس لليهود والنصارى كابن الصباح الذي أخرج لهم السكين وشر منهم قرامطة البحرين. . . .) . وابن الصباح - كما عرفه المحقق - هو الحسن بن علي بن محمد بن صباح الحميري ولد سنة 428 هـ وهلك سنة 518 هـ مؤسس فرقة الحشاشين، استولى على قلعة الألموت بجبال الديلم هو من اتخذ القتل والاغتيال وسيلة لتحقيق أهداف دعوته، وهو من أئمة الإسماعيلية.

ونصيرية (1) , وقرامطة (2) (3) ؛ كما قال فيهم الغزالي (4) -رحمه الله- في كتابه الذي صنفه (5) في الرد عليهم: "ظاهر مذهبهم الرفض, وباطنه الكفر المحض" (6) .

_ (1) النصيرية: طائفة باطنية خبيثة كتب فيهم الشيخ تقي الدين فتوى مشهورة أنقل منها ما يناسب المقام، من مجموع الفتاوى 53/ 145 - 160 ومما قاله. (الحمد الله رب العالمين، هؤلاء القوم المسمون بالنصيرية هم وسائر أصناف القرامطة الباطنية أكفر من اليهود والنصارى، بل وأكفر من كثير من المشركين. وضررهم على أمة محمد صلى الله عليه وسلم أعظم من ضرر الكفار المحاربين مثل كفار التتار والفرنج وغيرهم، فإن هؤلاء يتظاهرون عند جهال المسلمين بالتشيع، وموالات أهل البيت، هم في الحقيقية لا يؤمنون بالله ولا برسوله ولا بكتابه، ولا بأمر ولا نهي، ولا ثواب ولا عقاب، ولا جنة ولا نار، ولا بأحد من المرسلين قبل محمد صلى الله عليه وسلم ولا بملة من الملل السالفة؟ بل يأخذون كلام الله ورسوله المعروف عند علماء المسلمين يتأولونه على أمور يفترونها، يدعون أنها علم الباطن. . . ومن جنس قولهم: إن الصلوات الخمس معرفة أسرارهم، والصيام المفروض كتمان أسرارهم، وحج البيت العتيق زيارة شيوخهم، وإن (يدا أبي لهب) هما أبو بكر وعمر. . . . ولهم ألقاب معروفة عند المسلمين، تارة يسمون الملاحدة وتارة القرامطة وتارة (الباطنية) وتارة االإسماعيلية وتارة النصيرية وتارة الخرمية وتارة المحمرة وهذه الأسماء منها ما يعمهم، ومنها ما يخص بعض أصنافهم. . . وهم كما قال العلماء فيهم: ظاهر مذهبهم الرفض وباطنه الكفر المحض - وأن أوانيهم كأواني المجوس وملابسهم - ولا يجوز دفنهم في مقابر المسلمين ولا يصلى على من مات منهم. . . وإذا أظهروا التوبة ففي قبولها منهم نزاع بين العلماء. . ولا ريب أن جهاد هؤلاء وإقامة الحدود عليهم من أعظم الطاعات وأكبر الواجبات، وهو أفضل من جهاد من لا يقاتل المسلمين من المشركين وأهل الكتاب، فإن جهاد هؤلاء من جنس جهاد المرتدين. . أيضاً فضرر هؤلاء أي النصيرية - على المسلمين - أعظم من ضرر أولئك. . . . فلا يحل لأحد أن يكتم ما يعرفه من أخبارهم بل يفشيها ويظهرها ليعرف المسلمون حقيقة حالهم. . .) ولا بد لك أيها القارئ من تكرار قراءة فتوى الشيخ فيهم وفهمها ثم العمل بها. وانظر التدمرية ص 48 - 49. وقال في المجموع 35/ 168 (فأما النصيرية فهم أتباع أبي شعيب محمد بن نصير، وكان من الغلاة الذين يقولون، إن عليا إله) وقد هلك سنة 260 هـ في سامراء العراق وهؤلاء النصيرية هم الذين يسميهم شيخ الإسلام رافضة الشام في مواضع عديدة من كتبه. (2) القرامطة: مر في كلام الشيخ ابن تيميه الآنف أنهم هم النصيرية، أو بعضهم حيث عد القرامطة من ألقابهم سموا بهذا الاسم نسبه إلى داعية من دعاتهم اسمه حمدان بن الأشعت الشهير بقرمط من سواد العراق المتوفى سنة 278 هـ قال الشيخ في المجموع 35/ 43 1، (فهؤلاء القرامطة هم في الباطن =

_ = والحقيقة أكفر من اليهود والنصاري وأما في الظاهر فيدعون الإسلام، بل إيصال النسب إلى العترة النبوية - أهل البيت - وعلم الباطن الذي لا يوجد عند الأنبياء والأولياء. وأن أمامهم معصوم. فهم في الظاهر من أعظم الناس دعوى بحقائق الإيمان وفي الباطن من أكفر الناس بالرحمن، بمنزلة من ادعى النبوة من الكذابين قال تعالى {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ} وهؤلاء قد يدعون هذا وهذا. وقال في موضع آخر عن أشهرهم - في المنهاج 6/ 343 وشر منهم - أي من العبيدية الإسماعيلية - قرامطة البحرين - وهي المعروفة الآن بالأحساء - أصحاب أبي سعيد الجنابي - قتل سنة 301 هـ - فإن أولئك لم يكونوا يتظاهرون بدين الإسلام بالكلية، بل قتلوا الحجاج، وأخذوا الحجر الأسود) . والقرامطة الباطنية الفلاسفة يقولون عن الله: لا موجود ولا معدوم، ولا حي ولا ميت كما في الدرء 7/ 119 وفي التدمرية 16، 38 - 39 وانظر شرح الأصبهانية5/ 0 7 - 73 ضمن الفتاوى الكبرى. (3) في الظاهرية: وقرامطة باطنية. (4) هو أبو حامد محمد بن محمد الغزالي المتوفى سنة505 هـ وعمره 55سنة، الفقيه الأصولي صاحب التصانيف الصوفي المنظر الأشعري، المصبوغ بصبغة الفلاسفة، ومن أجل كتبه إحياء علوم الدين الذي انتقد كثيراً - ذكره الشيخ ابن تيمية كثيراً وسأذكر طرفاً من هذا في تحقيق قاعدة في الرد على الغزالي في التوكل، لشيخ الإسلام ابن تيمية إن شاء الله. قال في ما نحن فيه - في كتابه منهاج السنة 8/ 14 (وصنف المسلمون في كشف أسرارهم وهتك أستارهم يعني العبيدين الباطنية الإسماعيلية. . . . كتبا معروفة لما علموه من إفسادهم الدين والدنيا، وصنف فيهم القاضي عبد الجبار، والقاضي أبو بكر بن الطيب - هو الباقلاني -، وأبو يعلى والغزالي، وابن عقيل وأبو عبد الله الشهرستاني، وطوائف غير هؤلاء، وهم الملاحدة الذين ظهروا بالمشرق والمغرب واليمن والشام ومواضع متعددة، كأصحاب الألموت وأمثالهم) . وأصحاب الألموت هم الإسماعيلية والألموت هي قلاع في جبال الديلم جنوب بحر قزوين كانت معاقل دعوتهم - حتى هدمها هولاكو. (5) صنف الغزالي كتباً في الرد عليهم وصلنا منها ثلاثة هي: 1 - فضائح الباطنية وفضائل المستظهرية، وأشار في إحياء علوم الدين 2/ 130 أن هذا الكتاب مستنبط من كشف الأسرار وهتك الأستار، الكتاب المشهور لأبي بكر ابن الطيب الباقلاني والذي ذكره الشيخ في مواضع متعددة باسمه ولم يصلنا إلا في نقول الكتب. 2 - القسطاس المستقيم، طبع عدة طبعات آخرها في لبنان تحققه. 3 - جواب المسائل الأربع - من باطنية همدان، نشره رشيد رضا في المنار عدد 29 ص (601-608) . ولكتاب القسطاس المستقيم بالمناسبة نسخة خطية بدار الكتب المصرية رقم 98 عقائد تيمور، مع طبعات قديمة أقدمها سنة 1318 هـ في مطبعة. . . . . بمصر. =

واتفق طوائف المسلمين: علماؤهم, وملوكهم, عامتهم من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة وغيرهم, على أنهم كانوا خارجين عن شريعة الإسلام, وأن قتالهم كان جائزاً: بل نصّوا على نسبهم كان باطلاً (1) . وأن جدهم كان عبيد الله بن ميمون القدّاح (2) , لم يكن من آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم.

_ = (6) هذه العبارة التي نقلها شيخ الإسلام , ذكرها أبو حامد في الباب الرابع من الفضائح , في نقل مذهبهم جملة وتفصيلاً ص 37 فقال: (أما الجملة فهو أنه مذهب ظاهره الرفض وباطنه الكفر المحض , ومفتتحه حصر مدارك العلوم في قول الإمام المعصوم , وعزل العقول أن تكون مدركة للحق لما يعتريها من الشبهات. هذا مبدأ دعوتهم ثم إنهم بالآخرة يظهرون ما يناقض الشرع وكأنه غاية مقصودهم , لأن سبيل دعوتهم ليس بمتعين في فن واحد , بل يخاطبون كل فريق بما يوافق رأيه , بعد أن يظهروا منهم بالانقياد لهم والموالاة لإمامهم. فيوافقون اليهود والنصارى والمجوس على جملة معتقداتهم ويقرونهم عليها فهذه جملة المذهب. وأما تفصيله. . .) إلخ. (1) في الظاهرية: على أن نسبهم كان , وفي المطبوعة: على أن نسبهم كان.. لأنهم ينتسبون إلى ولد فاطمة ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من ولد علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعن صحابة الرسول أجمعين. (2) هذا الرجل ليس هو عبد الله بن ميمون بن داود القداح - مولى بني الحارث بن مخذوم المكي من رجال الترمذي رحمه الله , وهو متوفي 180 هـ وهو منكر الحديث متروك , وترجمته في النبلاء 9/320 , والكامل 4/187-190 , وتهذيب الكمال ص 747 والمجروحين لابن حبان 2/21 أقول هذا لتخليط البعض بينه وبين عبيد الله هذا الذي ذكره الشيخ , ربما بسبب اشتراكهما في الاسم الثلاثي , لكن تغايرهما واضح في النسب وسنة الوفاة. وعبيد الله هذا هو ابن ميمون بن ديصان القداح المولود سنة 259 هـ والهالك سنة 322 هـ وهو من أهواز العراق من مدينة سليمة كان أبوه يهودياً فمات فتزوجت أمه أحد العلويين الذي رباه , ثم لما كبرا وعى العلوية وهو الذي أسس الدولة العبيدية بالمغرب سنة 297 هـ. انظر التبصير في الدين ص 141 , والفرق بين الفرق ص 282-289 والقرامطة لابن الجوزي ص 71 - 72 وقال شيخ الإسلام في المنهاج 4/99-100 (وقد ادعى قبله - أي قبل ابن تومرت (ت 520) - أنه المهدي عبيد الله بن ميمون القداح , ولكن لم يوافق في الاسم ولا اسم الأب , وهذا ادعى أنه ولد محمد بن إسماعيل بن جعفر - أي جعفر الصادق - , وأن ميموناً هذا هو محمد بن إسماعيل وأهل المعرفة بالنسب وغيرهم من علماء المسلمين يعلمون أنه كذب في دعوى نسبه , وأن أباه كان يهودياً , ربيب مجوس , فله نسبتان: نسبة إلى اليهود , ونسبة إلى المجوس , وهو وأهل بيته كانوا ملاحدة , وهو أئمة الإسماعيلية , الذين قال فيهم العلماء: إن ظاهر =

وصنف العلماء في ذلك مصنفات. وشهد بذلك مثل الشيخ أبي الحسن القدوري (1) إمام الحنفيّة, والشيخ أبي حامد الإسفراييني (2) إمام الشافعيّة,

_ = مذهبهم الرفض , وباطنه الكفر المحض وقد صنف العلماء كتباً في كشف أسرارهم , وهتك أستارهم، وبيان كذبهم في دعوى النسب، ودعوى الإسلام، وأنهم بريئون من النبي صلى الله عليه وسلم نسباً وديناً. وقال في 6/ 342 (هؤلاء - يعني بني عبيد الله القداح، الذين أقاموا بالمغرب مدة وبمصر نحو مائتي سنة - بإتقان أهل العلم الدين كانوا ملاحدة، ولنسبهم كان باطلاً، فلم يكن لهم بالرسول اتصال نسب في الباطن، ولا دين، وإنما أظهروا النسب الكاذب، وأظهروا التشيع ليتوسلوا بذلك إلى متابعة الشيعة، إذ كانت أقل الطوائف عقلاً وديناً، أكثرهم جهلاً وإلا فأمر العبيدية المنتسبين إلى إسماعيل ابن جعفر أظهر من أن يخفى على كل مسلم) . بل ونقل ابن تغري بردي في النجوم الزاهرة 4/ 80 عبارة من كتاب الباقلاني أبي بكر بن الطيب الذي ألفه في الباطنية واسمه كشف الأسرار وهتك الأستار قال (القداح جد عبيد الله كان مجوسياً، ودخل عبيد الله- هو المهدي العبيدى - المغرب وادعى أنه علوي، ولم يعرفه أحد من علماء النسب، وكان باطنياً خبيثاً حريصاً على إزالة ملة الإسلام، أعدم الفقه والعلم ليتمكن من إغرار الخلق، وجاء أولاده بأسلوبه، وأباحوا الخمر والفروج، وأشاعوا الرفض، وبنوا دعاة، فأفسدوا عقائد جبال الشام كالنصيرية والدروزية، كان القداح كاذباً مخرفاً وهو أصل دعاة القرامطة) . (1) اتفقت النسخ - والمطبوعة على تكنيته بأبي الحسن: وفي المصادر المترجمة له هو: أبو الحسين أحمد بن محمد القدورى - بضم المثنأة والمهملة - شيخ الحنفية. قال فيه الخطيب: كان صدوقاً حسن العبارة، جريء اللسان، مديماً للتلاوة، صاحب المختصر المشهور في مذهب الأحناف، وله كتاب النكاح والتجريد في الخلاف بين الشافعية والأحناف. يوجد المجلد الأول منه في مكتبة جامعة الإمام رقم 3523. ويذكره شيخ الإسلام في تعداده لكبار أتباع الأئمة الأربعة - عن الأحناف كثيراً، توفي سنة 428 هـ رحمهم الله. النبلاء 17 / 574، وتاريخ بغداد 4 / 377، تذكرة الحفاظ 3/ 1086، والطبقات السنية رقم 94، تاج التراجم رقم 19. (2) هو أبو حامد أحمد بن أبي طاهر محمد الاسفراييني المولود سنة 344 هـ برع من صغره، أذكر له كتاباً في الفقه في خمسين مجلداً، وكان ذا جاه عند الملوك توفي سنة 406 هـ. نقل شيخ الإسلام في الدرء 2/ 95 - 101 (عن أبي الحسن الكرجي في كتابه الفصول في الأصول عن الأئمة الفحول عن عدد من الأئمة والشيوخ أنهم يقولون كان الشيخ أبو حامد أحمد بن أبي طاهر الإسفراييني إمام الأئمة الذي طبق الأرض علماً. . . وكان يقول في يوم الجمعة: اشهدوا علي بأن القرآن كلام الله غير مخلوق، كما قاله الإمام ابن حنبل، لا كما يقوله الباقلاني. . .) . وكان شديد الإنكار عليه وعلى أهل الكلام - رحمه الله ورفع ذكره. وانظر كلام الشيخ بتمامه هناك. النبلاء 17/193-197، وتاريخ بغداد 4 / 368 - 5 37 شذرات الذهب 3/ 178، طبقات الشافعية الكبرى 4 / 1 6 - 74، طبقات الشافعية لابن هداية الله 127 وما بعدها.

ومثل القاضي أبي يعلى (1) إمام الحنبليّة, ومثل أبي محمد بن أبي زيد (2) إمام المالكيّة. وصنف القاضي أبو بكر ابنُ الطيِّب (3) فيهم كتاباً, في كشف أسرارهم, سماه: "كشف الأسرار وهتك الأستار" (4) .

_ (1) هو محمد بن الحسين بن الفراء , أبو يعلى قاضي الحنابلة ولد سنة 380 هـ وقرأ القرآن بالروايات العشر مع المعرفة البالغة في الحديث والفقه , كان دينا ذا عبادة وتهجد, له تصانيف كثيرة: كإبطال التأويلات , والعدة في الأصول , والروايتين والوجهين في المذاهب توفي سنة 458 هـ أبناؤه علماء حنابلة رحمهم الله جميعاً. ولما سئل شيخ الإسلام عن أبي يعلى وغيره من العلماء أجاب في المجموع 20/40 (إنهم على مذهب أهل الحديث ليسوا بمقلدين لواحد بعينه من العلماء ولا هم من الأئمة المجتهدين على الإطلاق , بل يميلون إلى قول أئمة الحديث..وهؤلاء كلهم يعظمون السنة والحديث..) وربما كان له ميل إلى الكلامية الصفاتية والله يغفر له. انظر جامع الرسائل 1/127 والمنهاج 5/360 و412. وانظر النبلاء 18/89 وطبقات الحنابلة 2/193 - 230 وتاريخ بغداد 2/256 وما بعدها , ومناقب أحمد لابن الجوزي ص 520, والوافي بالوفيات 3/7. (2) هو أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي زيد القيرواني , عالم المغرب , الملقب بمالك الصغير , ولد سنة 310 هـ أثنى عليه الذهبي فقال: كان رحمه الله على طريقة السلف في الأصول , لا يدري الكلام ولا يتأول فنسأل الله التوفيق. أشهر مؤلفاته: الرسالة في معتقد أهل السنة , مطبوعة ولها شروح عديدة منها المطبوع والمخطوط توفي سنة 386 هـ أثنى عليها شيخ الإسلام في مواضع. ومنها المجموع 5/182-183 فقال (كلام المالكية في ذم الجهمية النفاة مشهور في كتبهم , وكلام أئمة المالكية وقدمائهم في الإثبات - أي الصفات وأمور الغيب - كثير مشهور , حتى علماؤهم حكوا إجماع أهل السنة والجماعة على أن الله بذاته فوق عرشه , وابن أبي زيد إنما ذكر ما ذكره سائر أئمة السلف , ولم يكن من أئمة المالكية من خالف ابن أبي زيد في هذا , وهو إنما ذكر هذا في مقدمة الرسالة لتلقن لجميع المسلمين , لأنه عند أئمة السنة من الاعتقادات التي يلقنها كل أحد ... ) النبلاء 177/210 الديباج المذهب 1/427 , ترتيب المدارك 4/492 , شجرة النور الزكية 1/96 فهرست ابن خير 244. (3) هو أبو بكر محمد بن الطيب بن الباقلاني المتوفى سنة 403 هـ صاحب التواليف , ومضرب المثل في ذكائه وفهمه , له مع ملك الروم قصص في هذا , من كبار علماء الأشاعرة الكلابية ومنظريهم , كان ذا ردود على الباطنية والرافضة والجهمية والخوارج تقدر بسبعين ألف ورقة له التمهيد في إعجاز القرآن وغيرها كثيراً ما يذكره شيخ الإسلام في تعداد كبار المتكلمين وسبق نقل شيء من كلام الإسفراييني فيه من درء التعارض للشيخ 2/95-102 , وقال رحمه الله في ترتيب الكلاميين في درء التعارض 1/270 (وهذا كما أن العراقيين المنتسبين إلى أهل الإثبات من أتباع ابن كلاب كأبي العباس القلاني =

_ = وأبي الحسن الأشعري، وأبي الحسن علي بن مهد الطبري والقاضي أبي بكر بن الباقلاني وأمثالهم، أقرب إلى السنة، وأتبع لأحمد بن حنبل وأمثاله من أهل خرسان المائلين إلى طريقة ابن كلاب، ولهذا كان القاضي أبو بكر بن الطيب يكتب في أجوبته أحياناً: محمد بن الطيب الحنبلي، كما كان يقول الأشعري. إذ كان الأشعري وأصحابه منتسبين إلى أحمد بن حنبل وأمثاله من أئمة السنة، وكان الأشعري أقرب إلى مذهب أحمد بن حنبل وأهل السنة من كثير من المتأخرين المنتسبين إلى أحمد الذين مالوا إلى بعض كلام المعتزلة، كابن عقيل، وصدقة بن الحسين، وابن الجوزي وأمثالهم) 0 انظر المنهاج 293/3 0 النبلاء 379/5، وترتيب المدارك 4/ 585 - 2 0 6، الديباج 228/2، تبيين كذب المفتري 17 2 - 26 2. (4) هذا الكتاب له اسمان، الأول ما ذكره الشيخ، ومختصر هو فضائح الباطنية أو الرد على الباطنية، وهذا الكتاب لم أره ولم أسمع أنه طبع، بل يظن أنه مفقود، وقد ذكر الغزالي في الإحياء 2/ 130 أنه استنبط ما فيه من كتاب الفضائح وقد ذكره ابن تيمية في مواضع ومما ذكره في المنهاج 8/ 14 و 258 (وقد صنف العلماء كتباً في كشف أسرارهم وهتك أستارهم مثل كتاب القاضي أبي بكر الباقلاني والقاضي عبد الجبار الهمداني وكتاب الغزالي ونحوهم) . ونقل منه أسلوب دعوة هو الباطنية ومنهجها في المنهاج 8/ 479 - 86 4 ومما نقل (قد اتفق جميع الباطنية، وكل مصنف لكتاب ورسالة منهم في ترتيب الدعوة المضلة، على أن من سبيل الداعي إلى دينهم ورجسهم. . فقالوا للداعي: يجب عليك إذا وجدت من تدعوه مسلماً: أن تجعل التشيع عنده دينك وشعارك، واجعل المدخل عليه من جهة ظلم السلف، وقتلهم الحسين، وسبيهم نساءه وذريته، والتبري من تيم وعدي، وبني أمية والعباس. . وأن علياً إله يعلم الغيب، مفوض إليه خلق العالم، وما أشبه ذلك من أعاجيب الشيعة وجهلهم؟ فإنهم أسرع إلى إجابتك بهذا الناموس. . . . فإذا آنست من بعض الشيعة عند الدعوة إجابة ورشداً أوقفته على مثالب علي وولده، وعرفته حقيقته الحق لمن هو، وفيمن هو، وباطل البطلان كل ما عليه أهل ملة محمد صلى الله عليه وسلم وغيره من الرسل. ومن وجدته صابئا. فأدخله بالأشانيع وتعظيم الكواكب. . . .، ومن وجدته مجوسياً اتفقت معه، في الأصل، في الدرجة الرابعة، من تعظيم النار والنور والشمس والقمر. . فإنهم مع الصائبة أقرب الأمم إلينا، وأولاهم بنا. . . . . . وإن ظفرت بيهودي فادخل عليه جهة انتظار المسيح. . وعظم السبت عندهم وتقرب إليهم بذلك. . . . وإن وجدت المدعى نصرانياً فادخل عليه بالطعن على اليهود والمسلمين جميعاً، وصحة قولهم في الثالوث. وعظم الصليب عندهم وعرفهم تأويله. .) إلى آخر الزندقة المحضة، نعوذ بالله من ذلك كله. وهذا الكتاب للباقلاني - عجل الله الظفر به - صحيح النسبة إليه فقد ذكره ابن السبكي في طبقاته في مواطن ونقل منه , كما في ترجمته علي بن محمد بن الحسين , وترجمته محمد بن الموفق بن سعيد وذكره ابن كثير في ترجمته من البداية والنهاية 11/350 , وحاجي خليفة بل وعامة من ترجموا للباقلاني. وسبق نقل من النجوم الزاهرة من هذا الكتاب. =

_ = هذا ويوجد لجمال الدين أبي الفضائل الصفدي (ت 696 هـ) كتاب باسم كشف الأسرار وهتك الأستار في ثلاثة مجلدات في مكتبة مراد ملا بتركيا أرقامها من (158 - 162) وفي متحف طبقو سراى من (1865 - 1867) المجلدات الثلاث في 767 ورقة مكتوبة سنة 1 69 هـ ونسخ أخرى في السليمانية رقم 133 ورستم باشا 45، 46 وشهيد علي باشا 550 ورقة رقم 157 وأظنه في التفسير، ولا أجزم بذلك. هذا وأشار الشيخ في مواطن من المنهاج إلى من صنف في كشف أسرارهم وهتك أستارهم كما في 8/ 14 فمن عد: 1- القاضي عبد الجبار الهمذاني المعتزلي (415) ولعل الشيخ يقصد كتابه المنية والأمل شرح الملل والنحل وهو مطبوع حديثاً، وله طبعة سنة 1972 باسم فرق وطبقات المعتزلة. 2- أبو بكر ابن الطيب بن الباقلاني (403) وسبقت الإشارة إلى كتابه في ترجمته. 3- أبو يعلى ابن الفراء الحنبلي (458) ولا أعلم له كتاباً فيهم مطبوعاً أو مخطوطاً لكن ذكر المترجمون له أن له كتاباً اسمه الرد على الباطنية. 4- أبو حامد الغزالي (505) وسبق ذكر كتابه وترجمته. 5- أبو الوفاء علي بن عقيل الحنبلي (513) وهذا له كتاب اسمه كتاب الفرق له نسخة خطية بالهند في مكتبه رجتا رامبور رقمه 1/ 512 (119) . 6- أبو عبد الله محمد الشهرستاني (548) والظاهر أن المقصود بكتابه الملل والنحل الكتاب المشهور وفيه تحدث عن الباطنية وفرقها بالتفصيل. وممن ألف في كشفهم أيضا أبو محمد عبد الرحمن المعروف بأبي شامة (665) ألف كتابا سماه كشف ما كان عليه بنو عبيد من الكفر والكذب والمكر والكيد ذكره في الذيل على الروضتين ص 39 ونسبة له ابن كثير في التاريخ 2 1/ 87 2 والذهبي في معرفة القراء الكبار 2/538 بأسماء نحو هذا.

عداوة الباطنية والرافضة للمسلمين وصوره

عداوة الباطنية والرافضة للمسلمين وصوره: والذين يوجدون في بلاد الإسلام من الإسماعيلية, والنصيرية, والدرزية (1) , وأمثالهم من أتباعهم. وهم الذين عاونوا التتر (2) على قتال المسلمين وكان وزير هولاكو النصير

_ (1) في الظاهرية: والقدرية بدل الدرزية. والقدرية يأتي تعريفهم. والدروز: فرقة باطنية فرخها العبيديون , وهذا الاسم نسبة إلى الرجل الثاني في هذه الفرقة وهو محمد بن إسماعيل الدرزي المشهور بنشتكين المقتول سنة 411 هـ وهو أول من أله الحاكم العبيدي المنصور بن عبد العزيز المتوفى سنة 411 هـ علانية , وللشيخ تقي الدين فتوى فيهم , المجموع 35/161-162 , لما سئل عنهم أجاب (هؤلاء الدرزية والنصيرية كفار باتفاق المسلمين لا يحل أكل ذبائحهم , ولا نكاح نسائهم , بل ولا يقرون بالجزية , فإنهم مرتدون عن دين الإسلام , ليسوا مسلمين , ولا يهود , ولا نصارى لا يقرون بوجوب الصلوات الخمس , ولا وجوب صوم رمضان , ولا وجوب الحج ولا تحريم ما حرم الله ورسوله من الميتة والخمر وغيرها. وإن أظهروا الشهادتين مع هذه العقائد فهم كفار باتفاق المسلمين.. كفر هؤلاء مما لا يختلف فيه المسلمون , بل من شك في كفرهم فهو كافر مثلهم لا هم بمنزلة أهل الكتاب ولا المشركين , بل هم الكفرة الضالون , فلا يباح أكل طعامهم , وتسبى نساؤهم , وتؤخذ أموالهم. فإنهم زنادقة مرتدون لا تقبل توبتهم , بل يقتلون أينما ثقفوا , ويلعنون كما وصفوا ولا يجوز استخدامهم للحراسة والبوابة والحفاظ. ويجب قتل علمائهم وصلحائهم لئلا يضلوا غيرهم، ويحرم النوم معهم في بيوتهم، ورفقتهم، والمشي معهم، وتشييع جنائزهم إذا علم موتها، ويحرم على ولاة أمور المسلمين إضاعة ما أمر الله من إقامة الحدود عليهم بأي شيء يراه المقيم لا المقام عليه. والله المستعان وعليه التكلان) . (2) التتار شعوب أعاجم من جنس الترك قدموا من وسط آسيا وأطرافها الشرقية وثنيون أوباش ذكر شيخ الإسلام في الاقتضاء 1/369 أنهم بادية الترك وذكر في جامع الرسائل 2/ 360 أنهم من الأمم البعيدة عن العلم والإيمان كالعرب في جاهليتهم وقال في المنهاج 5/ 155 (حتى دخلوا - أي التتار لبغداد - فقتلوا من المسلمين ما يقال إنه بضعة عشر ألف ألف إنسان، أو أكثر أو أقل، ولم ير في الإسلام ملحمة مثل ملحمة الترك الكفار المسمين بالتتر. . .) . وملك هؤلاء التتر حين دخولهم بلاد الإسلام المدعو هولاكو. قال الشيخ في الفتاوى 13 / 18 (وكان بعض المشائخ يقول: هولاكو - ملك التتر الذي قهر الخليفة بالعراق، وقتل ببغداد مقتلة عظيمة جداً، يقال: قتل منهم ألف ألف. وكذلك قتل بحلب دار الملك حينئذ. كان بعض الشيوخ يقول هو للمسلمين بمنزلة بخنتصر لبني إسرائيل. وكان من أسباب دخول هؤلاء ديار المسلمين ظهور الإلحاد والنفاق والبدع. . .) وكذا إعانة الرافضة لهم، تمثل ذلك في وزيري هولاكو ابن العلقمي، والنصير الطوسي وسيأتي لهما تشهير وفضح.

الطوسي (1) من أئمتهم. وهؤلاء أعظم الناس عداوة للمسلمين وملوكهم, ثم الرافضة بعدهم فالرافضة يوالون من يعادي أهلَ السنة والجماعة, يوالون التتار, ويوالون النصارى. وقد كان بالساحل بين الرافضة (2) , وبين الفرنج مهادنة؛ حتى صارت الرافضة تحملُ إلى قبرص (3) خيل المسلمين, وسلاحهم, وغلمان السلطان، وغيرهم من الجند والصبيان, وإذا انتصر المسلمون على التتار أقاموا المأتم

_ (1) هو محمد بن محمد بن الحسن المولود سنة 97 5هـ والهالك ببغداد سنة 672 هـ نصير الشرك ربط شيخ الإسلام نكبة المسلمين ببغداد، وشيوع البدع والزندقة به في مواطن كثيرة من الفتاوى والمنهاج وغيرهم ومما قاله في درء التعارض 27/5 - 28 وكان خيار علمائهم - التتر - رؤوس الملاحدة مثل النصير الطوسي وأمثاله. . . وهل كان الطوسي وأمثاله ينفقون عند المشركين من التتر إلا بأكاذيب المنجمين، ومكايد المحتالين. المنافية للعقل والدين؟!) . ولم يلقب الشيخ بلقب المركب نصير الدين لأنه لا يستحقه بل يستأهل ضده ولهذا ذكره ابن القيم في إغاثة اللهفان 2/ 0 38 - 1 38 فقال (. . . نصير الشرك والكفر الملحد وزير الملاحدة النصير الطوسي وزير هولاكو. . . فقتل الخليفة والقضاة والفقهاء المحدثين، واستبقى الفلاسفة والمنجمين والصابئين والسحرة. . . وقال في كتبه بقدم العالم، وبطلان المعاد. . . وإنكار صفات الرب جل جلاله. . . وتعلم السحر في آخر الأمر فكان ساحراً يعبد الأصنام) . هذه حاله وخاتمته عامله الله بما يستحق. ألا فليعتبر بهذه الأمور وما آلت إليه ولاة المسلمين والمسلمون ولا يتخذوا بطانه من دونهم، حتى لا يألونهم خبالاً {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} . والسنن إذا تشابهت أعاد التاريخ نفسه! (2) المقصود بالرافضة في الساحل هو ساحل الشام وهم النصيرية وأصحاب المقالات والفرق يعدونهم من غلاة الرافضة. (3) قبرص جزيرة كبيرة في شرق البحر الأبيض المتوسط، وهي قريبة من جنوب تركيا وشمال ساحل الشام فتحها معاوية بن أبي سفيان في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عن الجميع ثم في الحروب الصليبية صارت مركزاً للنصارى يتقون منه على المسلمين. . وهي في هذا الزمن قسمان قبارصة أتراك مسلمون في الجملة، وقبارصة يونانيون نصارى في الجملة وكانت قد بقيت بيد المسلمين إلى أثناء المائة الرابعة من الهجرة.

والحزن, وإذا انتصر التتار على المسلمين أقاموا الفرح والسرور, وهم الذين أشاروا على التتر بقتل الخليفة (1) , وقتل أهل بغداد, ووزير بغداد ابن العلقمي (2) هو الذي خامر (3) على المسلمين, وكاتب التتار, حتى أدخلهم أرض العراق بالمكر والخديعة, [ونهى الناس عن قتالهم] (4) ، وقد عرف العارفون بالإسلام أن الرافضة تميل مع أعداء الدين. ولما كانوا ملوك القاهرة, كان

_ (1) هو أبو أحمد عبد الله الملقب بالمستعصم بالله آخر خلفاء بني العباس ولد سنة 609 هـ وتولى الخلافة سنة 640. كان دينا في نفسه، ذو لهو وغفلة، ومن ذلك توزيره لابن العلقمي الرافضي حتى أضعف ملكه، وفرق جنده ثم قتله هولاكو سنة 656 هـ لما خرج إليه مع كبراء دولته، ثم استحل هولاكو بغداد أزيد من شهر يقتل وينهب حتى سالت الدماء في الطرقات. ولا حول ولا قوة إلا بالله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} آل عمران. النبلاء 23/ 174 - 184، فوات الوفيات 2/ 230 - 235، العقد الثمين رقم 1644 وتاريخ الخلفاء 464. (2) هو محمد بن محمد العلقمي وزير المستعصم آخر خلفاء بني العباس - الرافضي الخبيث. ولد سنة 591هـ وبقي وزيراً أربع عشرة سنة أشاع الرفض والكفر، وأهان المسلمين، وكاتب هولاكو ملك التتر، وجره وقوى عزمه على قصد العراق ودخولها، وكان سبباً في بلائهم على المسلمين. هلك ابن العلقمي في سنة سقوط بغداد سنة 656 س - عامله الله بما يستحقه. قال الشيخ ابن تيمية في منهاج السنة5/ 155 (وكان وزير الخليفة في بغداد الذي يقال له ابن العلقمي منهم - أي الرافضة - فلم يزل يمكر بالخليفة والمسلمين، ويسعى في قطع أرزاق عسكر المسلمين وضعفهم، وينهى العامة عن قتالهم - يعني التتر - ويكيد أنواعاً من الكيد حتى دخلوا فقتلوا من المسلمين ما يقال إنه بضعة عشر ألف ألف إنسان. .) وانظر المنهاج 3/ 377 و 6/ 374 وفضائحه في النبلاء 23/ 361 والبداية والنهاية 11/ 312، الوافي بالوفيات 1 / 4 8 1، وشذرات الذهب 5/ 272، وفوات الوفيات 3/ 252 وما بعدها. (3) في المصرية: خابر بالباء - وهما بمعنى في هذا السباق، قال في القاموس: المخامرة: الإقامة ولزوم المكان، وأن تبيع حراً على أنه عبد - أي مخادعة وغشاً - والمقاربة، والمخالطة، والاستتار انظر مادة خمر فيه وفي لسان. (4) ما بين المعكوفين زيادة من المطبوعة للتوضيح.

وزيرهم مرة يهودياً, ومرة نصرانياً أرمنياً (1) وقويت النصارى بسبب ذلك النصراني الأرمني, وبنوا كنائس كثيرةً بأرض مصر, في دولة أولئك الرافضة والمنافقين. وكانوا ينادون بين القصرين: من لعن وسب فله دينارٌ وأردبّ وفي أيامهم أخذت النصارى ساحل الشام من المسلمين, حتى فتحه نور الدين (2) وصلاح الدين (3) .

_ (1) الأرمني نسبة إلى أرمينية إقليم في آسيا الوسطى بين بحر قزوين وبلاد القوقاز افتتحها المسلمون في عهد الخلفاء الراشدين، وهم بادية الروم كما ذكره شيخ الإسلام في الاقتضاء 1/ 369. وهؤلاء الأرمن يتبعون طائفة الأرثوذكس من النصارى أتباع الكنيسة الشرقية التي كانت في القسطنطينية. كالأقباط والروم والصرب. وهم يقولون بالتثليث، لكن للمسيح عيسى ابن مريم طبيعة واحدة ومشيئة واحدة اتحد فيها اللاهوت بالناسوت ويعتقدون أن روح القدس نشأ من الإله الأب فقط. (2) هو أبو القاسم نور الدين محمود بن الأتابك زنكي صاحب الشام ولد سنة 511 هـ، وخلص مدن الشام وسواحلها من الفرنج وأظهر السنة بالشام، وقمع الرافضة بحلب وغيرها، كان دينا يحب العلم والعلماء، بنى المدارس وأوقف المكتبات، مع جهاده الكثير توفي على فراشه سنة 569هـ رحمه الله وغفر له. لما عد شيخ الإسلام الملوك الذين نصروا الإسلام والسنة عدة منهم كما في المجموع 4/ 22و 32/ 0 6 وقال في 35/ 151 (ثم لما أقام الله ملوك المسلمين المجاهدين في سبيل الله تعالى كنور الدين والشهيد صلاح الدين وأتباعهما، وفتحوا السواحل من النصارى ممن كان بها منهم، وفتحوا أيضاً أرض مصر، فإنهم كانوا - أي الرافضة العبيدية - مستولين عليها نحو مائتي سنة، واتفقوا هم والنصارى، فجاهدهم المسلمون حتى فتحوا البلاد، ومن ذلك التاريخ انتشرت دعوة الإسلام بالديار المصرية والشامية) . وذكره 35/ 138 كيف أن الشهيد نور الدين محمود، وقائده صلاح الدين الأيوبي أبطلوا شعار الرافضة في بلاد مصر. انظر النبلاء 20/531، شذرات الذهب 4/ 228 - 231، تاريخ ابن خلدون 5/ 253 وفيات الأعيان 5/ 184 والكواكب الدرية في السير النورية خطوط ومطبوع. (3) هو الأمير المجاهد صلاح الدين يوسف بن نجم الدين المولود سنة 532 هـ طلب العلم فسمع الحديث على أبي طاهر السلفي وغيره. أمره نور الدين محمود , وبعثه مع عمه أسد الدين شيركوه لفتح مصر وجهاد النصارى , وأظهره الله عليهم في مواطن أشهرها حطين , كان تقياً محباً للعلم وأهله وموقراً لهم. مات مريضاً بدمشق سنة 589 هـ , رفع الله درجته في جنته آمين. وقد حفظ التاريخ جهاده للإسماعيلية في الشام , أثنى عليه الشيخ ابن تيمية , وعلى جهاده للنصارى والروافض هو ونور الدين , ومر في ترجمته نور الدين شيء من هذا. قال الذهبي: (محاسن صلاح الدين جمة لا سيما =

وفي أيامهم جاءت الفرنج إلى بلبيس (1) , وغُلبوا من الفرنج؛ فإنهم منافقون, وأعانوهم النصارى والله لا ينصر المنافقين, الذين هم يوالون النصارى, فبعثوا إلى نور الدين يطلبون النجدة, فأمدهم بأسد الدين (2) وابن أخيه صلاح الدين. فلما جاءت الغُزّى (3) المجاهدون إلى ديار مصر, قامت الرافضة مع النصارى, فطلبوا قتال الغزّاة المجاهدين المسلمين, وجرت فصولٌ (4) يعرفها الناس، حتى قتل صلاح الدين مقدّمهم شاور (5) .

_ = الجهاد فله فيه اليد البيضاء) النبلاء 21/278 , شفاء القلوب ص 23 وما بعدها , وانظر سيرته المسماة (النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية) لابن شداد ومفرج الكروب في أخبار بني أيوب لابن واصل , والنجوم الزاهرة 6/3-5. (1) بلْبيس: ببائين وسكون اللام والياء , والعامة الآن تكسر الباء الأولى: بلدة بمصر في محافظة الشرقية , شرق القاهرة بخمسة وثلاثين كيلاً , على فرع من النيل يسمى الإسماعيلية. انظر المراصد 1/216. (2) هو عم صلاح الدين واسمه: أسد الدين شيركوه بن شادى بن مروان , فاتح الديار المصرية، ومرعب الفرنجة النصارى لقب بالملك المنصور لما قتل شاور، كان من كبار القواد مات فجأة سنة 564 هـ رحم الله الجميع , انظر النبلاء 20/587 وحسن المحاظرة 2/23، تاريخ دمشق لابن عساكر 58/36، النجوم الزاهرة 5/367، شفاء القلوب ص 25. (3) جمع غازي انظر مادة غزا من القاموس وشرحه. (4) من هذا ما كان من شأن مؤتمن خلافة العبيدين اسمه الطواشي وكان حبشياً حيث كاتب النصارى الفرنج في القدوم إلى الديار المصرية وإخراج جيوش صلاح الدين وعمه أسد الدين ومناهم حيث أرسل بهذا الكتاب مع رجل , لكنه وقع بيد صلاح الدين، فتربص بالطواشي حتى قتله. وثار لمقتله ما يقرب من خمسين ألفاً من الأحباش وغيرهم مما كان على طويته فاقتتلوا بين القصرين مع جيوش صلاح الدين حتى كانت الدائرة عليهم في آخر الأمر. وانظرها في تاريخ البداية والنهاية 12/ 277 وانظر 307-309. (5) هو أبو شجاع شاور بن مجبر أحد القواد في إمارة العاضد العبيدي على مصر - وهو آخر خلفاء العبيديين بها - لجأ إلى نور الدين زنكي بالشام ثم غدر به واستعان بالنصارى للاستيلاء على مصر. قبض عليه صلاح الدين، وقتله في ولاية عمه أسد الدين شيركوه على مصر سنة 564هـ. البداية والنهاية 2 1/ 78 2، النبلاء 0 2/ 514، حسن المحاظرة 2/ 251، وفيات الأعيان 2/ 439. تاريخ ابن خلدون 5/246.

الكنائس القديمة في بر مصر وحكمها

الكنائس القديمة في بر مصر وحكمها: وقد كان في بر مصر كنائس قديمة, لكن تلك الكنائس أقرهم المسلمون عليها حين فتحوا البلاد؛ لأن الفلاحين كلهم كانوا نصارى, ولم يكونوا مسلمين, وإنما كان المسلمون الجندَ خاصة, فأقرهم كما أقر النبي صلى الله عليه وسلم اليهود على خيبر (1) لما فتحها؛ لأن اليهود كانوا فلاحين, وكان المسلمون مشتغلين بالجهاد. ثم إنه بعد هذا في خلافة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لما كثر المسلمون واستغنوا عن اليهود, أجلاهم أمير المؤمنين عن خيبر, كما أقر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: "أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب" (2) ، حتى لم يبق في خيبر يهودي. وهكذا القرية التي يكون أهلها نصارى وليس عندهم مسلمون, ولا مسجدٌ للمسلمين, فإذا أقرهم المسلمون على كنائسهم التي فيها, جاز ذلك, كما فعله المسلمون.

_ (1) خيبر مدينة في شمال غرب المملكة العربية السعودية , وشمال مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم بينها مسافة ثلاثمائة كيلاً , ويصلها طريق معبد , كان فيها اليهود قديماً حتى فتحها الرسول صلى الله عليه وسلم ثم أخرجهم منها عمر الفاروق رضي الله عنه. (2) أخرجه الإمام أحمد بأسانيد: حدثنا يحيى بن سعيد , حدثنا أبو أحمد الزيدي كلاهما ثنا إبراهيم بن ميمون عن سعد سمرة عن سمرة بن جندب عن أبي عبيدة عامر بن الجراح - رضي الله عنه - أنه قال: آخر ما تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم: أخرجوا يهود أهل الحجاز , وأهل نجران من جزيرة العرب , واعلموا أن شرار الناس الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. وثنا وكيع به لكنه عن إسحاق بن سعد بن سمرة , وقال في مجمع الزوائد 5/328: رواه أحمد بإسنادين ورجال طريقين منها ثقات متصل إسنادهما ورواه أبو يعلى , وكل الأسانيد الثلاثة صحيحة , إسناد وكيع فيه وهم والصواب أنه عن سعد بن سمرة وليس عن ابنه إسحاق , وانظر العلل للدارقطني 4/439 وما بعدها , ورواه الطيالسي في المسند 229 والدارمي في سننه رقم 2498 , والحميدي في المسند رقم 85 , وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني رقم 235 و236 وأبو نعيم في الحلية 8/372 وفي معرفة الصحابة رقم 596 , والبيهقي في الكبرى 9/208. والطحاوي في شرح المشكل 4/12 , وهو بمعنى الحديث الذي ذكره الشيخ تماماً. وروى الحديث الإمام مسلم في كتاب الجهاد - باب إخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب رقم 1767 عن جابر عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - مرفوعاً بلفظ (لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع مسلماً) . =

_ = وأصل الحديث في الصحيحين عن ابن عباس مرفوعاً (أخرجوا المشركين من جزيرة العرب وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم) . قاله عليه السلام قبل موته بثلاث، فهو في البخاري في كتاب الجزية -باب إخراج اليهود من جزيرة العرب 3/ 1155. ومسلم في كتاب الوصية- باب ترك الوصية لمن ليس له شيء يوحى فيه رقم 1637، ولا شك أن اليهود والنصارى من المشركين. كما في آية براءة {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم} الآية. وذكر الهيثمي أن الطبراني أخرج الحديث عن أم سلمة-رضي الله عنها -بلفظ أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب في المعجم الكبير من طريقين وقال: رجال أحدهما رجال الصحيح. وفي الباب حديث عائشة المشهور المرفوع (لا يجتمع أو لا ينزل بجزيرة العرب دينان) . رواه أحمد والطبراني في الأوسط. قال الهيثمي:= =رجال أحمد رجال الصحيح غير ابن إسحاق وفد صرح بالسماع أ. هـ. وهو محمد بن إسحاق بن يسار المطلبي المدني صدوق يدلس، وعده الحافظ في المرتبة الرابعة من مراتب المدلسين، وهم من اتفق على أنه لا يحتج بحديثهم إلا ما صرحوا فيه بالسماع لكثرة تدليسهم عن الضعفاء، واستنكر الذهبي ما انفرد به حتى لو صرح بالسماع. ورواه عبد الرزاق في مصنفه رقم 19359، وكذا البيهقي مرسلاً 9/ 219. وفي بعض الطرق (لا يجتمع بأرض الحجاز دينان) عند عبد الرزاق 7209 وغيره. وحدود جزيرة العرب: ما بين البحر الأحمر والخليج العربي أفقا وطولاً من حضرموت إلى ريف جنوب العراق وأطراف الشام الجنوبية، كما حدده بذلك جماعه من السلف، كما في السنن الكبرى 9/ 209، وروى البيهقي فيها بسنده إلى الإمام مالك بن أنس أنه قال: جزيرة العرب: المدينة، ومكة، واليمن، وأما مصر فمن بلاد المغرب، والشام من بلاد الروم، والعراق من بلاد فارس. هذا وقد عمل عمر بن الخطاب -الخليفة الراشد الثاني -رضي الله عنه -بأمره صلى الله عليه وآله وسلم فأجلى اليهود عن خيبر وما حولها إلى أذرعات الشام - تسمى الآن درعا بالأردن -وهي خارج الجزيرة العربية، وكان قد بدأ صلى الله عليه وآله وسلم بإجلائهم عن المدينة إلى خيبر، وضرب -رضي الله عنه - لليهود والنصارى والمجوس بالمدينة إقامة ثلاثة أيام يتسوقون ويقضون حوائجهم، ولا يقيم أحد منهم فوق ذلك. كما كان له موقف من موالي المسلمين وعبيدهم من هؤلاء ما هو مشهور ومعروف، فلله دره، ورفعه الله بذا منزلته في جناته. أما هذا الزمان، فقد عصى الناس أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وطريقة خلفائه فاستقدموا اليهود والنصارى، بل الوثنين من البوذيين والهندوس وأمثالهم إلى جزيرة العرب، وأرض الحجاز، حتى غدوا بالكثرة بمكان -ولا حول ولا قوة إلا بالله - بدعوى الحاجة ولا حاجة. هذا مع أن المسلمين فيهم كفاية وسداد والحمد لله، ولكن أكثر الناس لا يرعون ولا يشكرون. أسأل الله للمسلمين الهداية والرشاد.

وأما إذا سكنها المسلمون وبنوا بها مساجدهم, فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تصلح قبلتان بأرض" (1) . وفي أثر آخر: "لا يجتمع بيت رحمة وبيت عذاب" (2) . والمسلمون قد كثروا بالديار المصرية, وعمرت في هذه الأوقات؛ حتى صار أهلها بقدْر ما كانوا في زمن صلاح الدين مراتٍ متعددة. وصلاح الدين وأهل بيته كانوا يذلون النصارى, ولم يكونوا يستعملون منهم أحداً من أمرٍ من أمور المسلمين أصلاً. ولهذا كانوا مؤيدين منصورين على الأعداء مع قلة المال والعدد. فيما قويت شوكة النصارى والتتار بعد موت العادل (3) , أخي صلاح الدين, حتى إن بعض الملوك أعطاهم بعض مدائن المسلمين. وحدثت حوادث بسبب التفريط فيما أمر الله (4) به ورسوله صلى الله عليه وسلم، فإن الله تعالى يقول: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [سورة الحديد - 25] .

_ (1) سبق تخريجه , وتجويد الشيخ لإسناد أبي داود. (2) لم أعثر على تخريجه بعد. (3) هو الملك العادل سيف الدين أبو بكر بن أيوب أخو المجاهد صلاح الدين , لكنه أصغر منه بسنتين , ولد سنة 534 , وحضر الفتوحات مع أخيه وكان عوناً له فيها وردءاً , تولى ملك مصر تسع عشرة سنة , وبها مات سنة 615 هـ , وله صنف الفخر الرازي كتابه: (أساس التقديس) كما في مقدمته , وهو الكتاب الذي رده شيخ الإسلام في كتابه الحافل (بيان تلبيس الجهمية في نقض بدعهم الكلامية) أسرع الله بنشره. رحم الله الجميع. انظر السير 22/115 , النجوم الزاهرة 6/144-199 , شفاء القلوب 200 , ذيل الروضتين ص 111. (4) ومن ذلك اتخاذ اليهود والنصارى والمشركين والملاحدة بطانة وأعواناً ومستشارين وجعلهم على مصالح المسلمين متنفذين , وتوليتهم خواص أمور الناس العسكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية , فعصوا الله ورسوله وحصل ما يشهده التاريخ والواقع , وإلى الله المشتكى , وعليه التكلان.

وقال الله تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [سورة الحج - 41] . فكان ولاة الأمور الذين يهدمون كنائسهم ويقيمون أمر الله فيهم كعمر بن عبد العزيز (1) وهارون الرشيد (2) ونحوهما مؤيدين منصورين, وكان الذين هم بخلاف ذلك مغلوبين مقهورين. وإنما كثرت الفتن بين المسلمين, وتفرقوا على ملوكهم من حين دخل النصارى مع ولاة الأمر بالديار المصرية, في دولة المعز (3) , ووزارة الفائز, وتفرق البحرية, وغير ذلك. والله يقول في كتابه: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُم الْغَالِبُونَ} [الصافات

_ (1) ممن لا يعرف بهم لشهرتهم , لكنه عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم الأموي القرشي, اعتبر خامس الخلفاء الراشدين , ولد سنة 563 هـ وهو من أزهد الخلفاء وأدينهم في وقت ترف فيه الملوك , أخرج له الجماعة مات - رضي الله عنه - سنة 101 وعمره تسع وثلاثون سنة. أكثر الناس من التأليف في فضله ومناقبه , ومن ذلك سيرة عبد الملك بن عمر وأبيه لابن رجب وسيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم (ت214) , وتهذيب الكمال ص 1017 , طبقات ابن سعد 5/330 وسيأتي بيان شيء من فعله - رضي الله عنه - بهدم كنائس النصارى. (2) هو أبو جعفر هارون بن المهدي العباسي الهاشمي. ولد سنة 148 هـ ومات غازياً وعمره 45 سنة أثنى عليه الشيخ ابن تيمية في المنهاج 8/240 , وكذلك الرشيد كان فيه من تعظيم العلم والجهاد والدين ما كانت به دولته من خيار دول بني العباس , وكأنها كانت تمام سعادتهم , فلم ينتظم بعدها الأمر لهم. وقال في موضع آخر في الفتاوى 4/20 مثل دولة المهدي والرشيد ونحوهما ممن كان يعظم الإسلام والإيمان , ويغزو أعداءه من الكفار والمنافقين , كان أهل السنة في تلك الأيام أقوى وأكثر , وأهل البدع أذل وأقل. رحمه الله ورفع درجته. إذا علم هذا فلا يلتفت إلى ما أقذاه به بعضهم من أنه صاحب سكر ولهو. . . انظر تاريخ بغداد 14/5 , النبلاء 9/286 , ومما ذكره عنه أنه يحج عام ويغزو عام , والمعارف لابن قتيبة 381 وما بعدها , تاريخ خليفة 447 وما بعدها, المعرفة والتاريخ 1/161. (3) هو معد بن المنصور إسماعيل ويلقب بالمعز لدين الله منذ ولاة العبيدين وأئمتهم. ولد سنة 310 هـ وهلك سنة 365 هـ. وفي عهده توسعت الدولة وأخافوا الناس في شمال أفريقية , وأذلوهم , أذلهم الله , وكانت مدة ولايته ثلاث سنين.

حكم هدم كنائس النصارى في أرض العنوة

171 - 173] وقال تعالى في كتابه: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر - 51] . وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [سورة محمد - 7] . وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق, لا يضرهم من خالفهم, ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة" (1) . وكل من عرف سير الناس وملوكهم رأى كل من كان أنصر لدين الإسلام, وأعظم جهاداً لأعدائه, وأقوم بطاعة الله ورسوله, أعظم نصرة وطاعة وحرمة, من عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وإلى هذا الزمان. حكم هدم كنائس النصارى في أرض العنوة: وقد أخذ المسلمون منهم كنائس كثيرةً من أرض العنوة, بعد أن أُقروا عليها في خلافة عمر بن عبد العزيز, وغيره من الخلفاء (2) , وليس في المسلمين من

_ = كثيراً ما يذكره شيخ الإسلام مع الحاكم بأمر نفسه في عداد أئمة الإسماعيليين كما في المنهاج 4/519 و3/495. وانظر النبلاء 15/159 , النجوم الزاهرة 4/74-115 , البيان المغرب 1/221 وحسن المحاظر 2/15. (2) حديث متفق عليه , وقد نص شيخ الإسلام في الاقتضاء 1/96 على أنه متواتر عنه صلى الله عليه وسلم , وكذا السيوطي في قطف الأزهار رقم 81 والكتاني في نظم المتناثر. وهو عندهما بألفاظ مقاربه للفظ الشيخ. فأخرجه البخاري عن جماعة من الصحابة منهم المغيرة ومعاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنهما - في كتاب المناقب - باب سؤال المشركين أن يريهم النبي آية 3/1331. فأخرجه مسلم عن ثوبان والمغيرة وجابر ومعاوية وعبد الله بن عمرو - رضي الله عنهم - في كتاب الإمارة - باب قوله عليه السلام (لا تزال طائفة) - من الأرقام 1920 - 1924. ولألفاظ الحديث ورواياته والعزو إليها انظر صفة الغرباء للعودة 138-165. (1) كما ذكر طرفاً من ذلك ابن القيم في كتابه النفيس أحكام أهل الذمة 1/212-222 وعده بعد عمر =

أنكر ذلك, فعُلم أن هدم كنائس العنوة جائزٌ, إذا لم يكن فيه ضرر على المسلمين (1) . فإعراض من أعرض عنهم كان لقلة المسلمين, ونحو ذلك من الأسباب, كما أعرض النبي صلى الله عليه وسلم عن إجلاء اليهود, حتى أجلاهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

_ = ابن الخطاب عمر بن عبد العزيز والمنصور والمهدي والرشيد والمأمون والمتوكل وأنهم هدموا الكنائس فذكر أن عمر بن عبد العزيز أمر أن تهدم الكنائس المستخدمة، فيقال إنهم توصلوا إلى بعض ملوك الروم، وسألوه في مكاتبة عمر بن عبد العزيز، فكتب إليه: أما بعد يا عمر فإن هؤلاء الشعب سألوا في مكاتبك لتجري أمورهم على ما وجدناها عليه، فتبقى كنائسهم، ونمكنهم من عمارة ما خرب منها، فإنهم زعموا أن من تقدمك فعل في أمر كنائسهم ما منعتهم منه، فإن كانوا مصيبين في اجتهادهم فاسلك سننهم، وإن يكونوا مخالفين لها فافعل ما أردت. فكتب إليه عمر: أما بعد، فإن مثلي ومثل من تقدمني كما قال الله تعالى في قصة داود وسليمان: {إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} [الأنبياء - 78 - 79] . وكذا فعل هارون الرشيد فقد ميز النصارى في زيهم وصرفهم عن أعمالهم وخرب كنائسهم بفتوى العلماء. انظر البداية والنهاية 10/ 214. (1) لشيخ الإسلام رحمه الله فتوى في هذه المسألة بالخصوص ذكرها ابن القيم في أحكام أهل الذمة وستأتي في الملحق بتمامها. وخلاصة الجواب ما أردفه ابن القيم بعد ذكره الفتوى. وخلاصة الخلاصة، أن الكنائس على ثلاثة أقسام. 1- ما لا يجوز أخذه ولا هدمه -وهي الكنائس التي أقروا عليها عند فتح بلادهم ما داموا موفين بالعهد والشروط ككنيسة دمشق عند فتح المسلمين لها. 2- ما يجب أخذه وهدمه، وهي الكنائس المحدثة في بلاد المسلمين، وأحدثها النصارى بعد. 3- ما يفعل فيها الأصلح للمسلمين بنظر إمام المسلمين لتحقيق إعزاز الدين وقمع أعدائه، وهي مثل الكنائس من أرض العنوة، إذا فتحها المسلمون، فإن القديمة من هذه الكنائس يجوز هدمها ويجوز إقرارهم عليها بالشروط بحسب المصلحة. وهذه مثل الكنائس القديمة في الصعيد بمصر، وفي بر مصر والشام مما دخله المسلمون وهي موجودة. وقال شيخ الإسلام في فتوى النصراني يشتري أرضاً فيها آثار كنيسة وهي خراب، ثم يعمرها. . من الفتاوى 28 / 6 4 6 فأجاب: ليس له أن يحدث ما ذكره من الكنيسة. وإن كان هناك آثار كنيسة قديمة ببر الشام، فإن بر الشام فتحه المسلمون عنوة، وملكوا تلك الكنائس , وجاز لهم تخريبها باتفاق العلماء. =

حكم مظاهرة الذميين لأهل دينهم على المسلمين

حكم مظاهرة الذميّين لأهل دينهم على المسلمين: وليس لأحد من أهل الذمة أن يكاتبوا أهل دينهم من أهل الحرب, ولا يخبرونهم بشيء من أخبار المسلمين, ولا يطلبوا من رسولهم أن يكلف ولي المسلمين ما فيه ضررٌ على المسلمين, ومن فعل ذلك منهم وجبت عقوبته باتفاق المسلمين, وفي أحد القولين يكون قد نُقض عهده, وحل دمه, وماله (1) . ومن قال إن المسلمين يحصل لهم ضررٌ, وإن* لم يجابوا إلى ذلك؛ لم يكن عارفاً بحقيقة الحال, فإن المسلمين قد فتحوا ساحل الشام, وكان أعظم المصائب عليهم؛ أخذُ أموالهم, وهدم كنائسهم (2) .

_ = وإنما تنازعوا في وجوب تخريبها , وليس لأحد أن يعاونه على إحداث ذلك - أي عمارة هذه الخراب - ويجب عقوبة من أعانه على ذلك. وأما المحدث لذلك من أهل الذمة , فإنه في أحد قولي العلماء ينتقض عهده , يباح دمه وماله , لأنه خالف الشروط التي شرطها عليهم المسلمون , وشرطوا عليهم أن من نقضها , فقد حل لهم منها ما يباح من أهل الحرب, والله أعلم. اهـ. (1) وهذه المسألة كمسألة الجاسوس , وفيها أنه يقتل ولو كان مسلماً. قال في الاختيارات ص 320. [من قطع الطريق على المسلمين أو تجسس عليهم , أو أعان أهل الحرب على سلب المسلمين أو أسرهم وذهب بهم إلى دار الحرب ونحو ذلك مما فيه مضرة على المسلمين , فهذا يقتل ولو أسلم. وهذا النصراني أو اليهودي وغيرهما ينتقض عهده بأقل من هذا وأضعف ضرراً منه كأن يعلو على المسلم أو يعلم أولاده القرآن , فإنه إذا أصر عليه انتفض عهده , فكيف بمن خابر على المسلمين وتجسس عليهم؟!] اهـ. وفي الشروط العمرية: ولا يظهرون شركاً ولا ريبة لأهل الإسلام. وبحث المسألة طويل , في هذه الإشارة كفاية والحمد لله. (2) في المطبوعة , وقد ألزموهم بلبس الغيار. وكان ذلك أعظم المصائب , بل التتار في بلادهم خربوا جميع الكنائس.Q* (وإن) هكذا في المطبوعة، والصواب حذف الواو ليستقيم المعنى، وراجع نص المسألة. (المنصور)

وكان نوروز (1) -رحمه الله- قد شرط عليهم الشروط، ووضع الجزية، وكان ذلك أعظم المصائب عليهم، ومع هذا لم يدخل على المسلمين بذلك إلا كل خير، فإن المسلمين مستغنون عنهم، وهم إلى ما في بلاد المسلمين أحوج من المسلمين إلى ما في بلادهم، بل مصلحة دينهم ودنياهم لا تقوم إلا بما في بلاد المسلمين، والمسلمون -ولله الحمد والمنة- أغنياء عنهم في دينهم ودنياهم. فأما نصارى الأندلس فهم لا يتركون المسلمين في بلادهم إلا لحاجتهم إليهم، وخوفهم من التتار، فإن المسلمين عند التتار أعز من النصارى وأكرم، ولو قدروا، وإنهم قادرون على من عندهم من النصارى (2) . والنصارى الذين في ذمة المسلمين فيهم من البتاركة (3) ، وغيرهم من علماء النصارى ورهبانهم، وليس عند النصارى مسلمٌ يحتاج إليه المسلمون ولله

_ (1) في الظاهرية: نور الدين وهو خطأ , وقد تكرر اسمه عند شيخ الإسلام في مواضع ومنها في المنهاج 3/477. [ولهذا كانوا - أي الرافضة - من أنقص الناس منزلة عند الأمير نوروز المجاهد في سبيل الله , الشهيد الذي دعا ملك المغول غازان إلى الإسلام , والتزم له أن ينصره. إذا أسلم , وقتل المشركين الذين لم يسلموا من النجشية السحرة وغيرهم , وهدم الباذخات وكسر الأصنام, ومزق سدنتها كل ممزق وألزم اليهود والنصارى بالجزية والصغار وبسببه ظهر الإسلام في المغول وأتباعهم] . وهو نوروز نائب غازان , كان مسلماً عالي الهمة , ودعاه إلى الإسلام فأسلم قازان وأسلم معه عامة التتار , وكان من خيار أمرائه ذا عبادة وتطوع وصدق في إسلامه شوش التتار خاطر قازان عليه , فما زال به حتى قتله= =سنة 696 هـ. شهيداً إن شاء الله. انظر الدليل الشامي رقم 2596 , والبداية والنهاية 13/372 , والسلوك 1/3: 837، 874. (2) في المطبوعة خلاف النسخ الثلاثة , ولو قدر أنهم قادرون على من عندهم من المسلمين , فالمسلمون أقدر على من عندهم من النصارى. (3) لعل المقصود بها البطارقة وهي جمع بطريق وهو في معاجم اللغة القائد العظيم عند النصارى يسمى كذلك بطريرك كما كان يسمى به كبيرهم بالإسكندرية. وانظر الجواب الصحيح 3/11. ومعنى هذا أن علماء النصارى من البطارقة والقسس والرهبان أكثرهم عند المسلمين , وليس يوجد عند النصارى مسلم يحتاج إليه في علمه أو دنياه. نحمد الله ونشكره.

الحمد، مع أن إفكاك الأسارى من أعظم الواجبات، وبذل ذلك (1) الموقوف وغيره في ذلك من أعظم القربات. وكل مسلمٍ يعلم أنهم لا يتجرون إلى بلاد المسلمين، إلا لأغراضهم، لا لنفع المسلمين؛ ولو منعهم ملوكهم من ذلك لكان حرصهم على المال يمنعهم من الطاعة. فإنهم أرغب الناس في المال (2) ، ولهذا يتقامرون في الكنائس (3) . وهم طوائف مختلفون، وكل طائفة تضاد الأخرى (4) .

_ (1) في المطبوعة , بذل المال الموقوف وغيره. (2) هذا دأبهم في كل زمان هم واليهود عليهم لعائن الله المتتابعة كما ذكر الله سبحانه في آل عمران. {. . . . . . وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} كما قال في سورة البقرة: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} الآية. وقوله في سورة النساء: {وَأَخْذِهِمْ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} رقم 161، وكما قال في سورة براءة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنْ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} آية 34. وغيرها من الآيات وهي بمجموعها دالة على حال أهل الكتاب واليهود والنصارى، وما هذا إلا من استحكام الشيطان على قلوبهم بالكفر وحب الدنيا وتسلطه عليهم كما قال تعالى في سورة الإسراء: {وَاسْتَفْزِزْ مَنْ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَولادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً} . (3) بل وفي غيرها، فلهم الآن أماكن خاصة بالمقامرة في فنادق كبرى وصالات ونواد، حتى تابعهم بعض ضعاف الإيمان أو عديميه من المسلمين متابعتهم لهم بما يفعلون حذو القذة بالقذة كما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد الخدري مرفوعاً (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه. قالوا اليهود والنصارى؟ قال فمن؟ !) متفق عليه. (4) وأشهر فرقهم القديمة: اليعقوبية والنسطورية والموحدون. وهم الآن ثلاث فرق كبار: الأرثوذكس وهي الكنائس الشرقية في اليونان وروسيا والصرب والأقباط، والكاثوليك وهي كنيسة روما وعامة بلاد أوروبا , والبروتستانت هي أحدثها وتمثلها أمريكا وتسمى كنائسها بالإنجيلية. ولكنهم متفقون على عقائد التثليث والصلب والفداء , والخلاف بينهم في صوره وتفاصيله - كفى الله الناس شرهم.

المشورة على ولي الأمر في إعزازهم

المشورة على ولي الأمر في إعزازهم: ولا يشير على ولي المسلمين بما فيه إظهار شعائرهم في بلاد الإسلام، أو تقوية أمرهم بوجه من الوجوه، إلا رجل منافقٌ، يظهر الإسلام (1) ، وهو منهم في الباطن، أو رجلٌ له غرضٌ فاسدٌ، مثل أن يكونوا برطلوه (2) ، ودخلوا عليه برغبةٍ، أو رهبةٍ، أو رجلٌ جاهلٌ في غاية الجهل، لا يعرف السياسة الشرعية الإلهية التي تنصر سلطان المسلمين على أعدائه، وأعداء الدين. وإلا فمن كان عارفاً ناصحاً له أشار عليه بما يوجب نصره، وثباته، وتأييده، واجتماع قلوب المسلمين عليه، وفتحهم له، ودعاء الناس له في مشارق الأرض ومغاربها. وهذا كله إنما يكون بإعزاز دين الله، وإظهار كلمة الله، وإذلال أعداء الله تعالى. وليعتبر المعتبر بسيرة نور الدين، وصلاح الدين، ثم العادل، كيف مكنهم الله، وأيدهم، وفتح لهم البلاد، وأذل لهم الأعداء، لما قاموا من ذلك بما قاموا به؟! وليعتبر بسيرة من والى النصارى؛ كيف أذله الله، وكبته؟! (3) .

_ (1) زاد الأصل على ما في النسخ بهذه العبارة: يظهر الإسلام أو تقوية أمرهم وهو منهم. ويظهر أنها مكررة لما قبلها. (2) أي رشوه , وانظر مادة برطل من القاموس وشرحه , وهذه الكلمة لا تزال تستعمل في بعض الجهات على هذا المعنى ونحوه. (3) إي والله , وأنتم يا ولاة المسلمين أولى من يعتبر بهذا , فإن من اتقى الله كفاه , ومن اتقى الله بسخط الناس رضي الله عنه , وأرضى عنه الناس. ومن اتقى الناس بسخط الله أسخط الله وأسخط عليه الناس! {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} من المائدة. وقال فيها: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} .

استغناء المسلمين عن النصارى وأمثالهم

استغناء المسلمين عن النصارى وأمثالهم: وليس المسلمون محتاجين إليهم -ولله الحمد- فقد كتب خالد بن الوليد إلى عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- يقول له: إن بالشام كاتباً نصرانياً، لا يقوم خراجُ الشام إلا به. فكتب إليه: لا تستعمله! فكتب: إنه لا غناءَ بنا عنه. فكتب إليه، لا تستعمله! فكتب إليه: إذا لم نولِّه ضاع المالُ. فكتب إليه عمر رضي الله عنه: مات النصرانيُّ، والسلام (1) . وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن مشركاً لحقه ليقاتل معه، فقال له: "إني لا أستعين بمشرك" (2) . وكما أن الجندَ المجاهدين إنما تصلح، إذا كانوا مسلمين مؤمنين، وفي المسلمين كفايةٌ، في جميع مصالحهم -ولله الحمد (3) . ودخل أبو موسى الأشعري على عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- فعرض عليه حساب العراق, فأعجبه ذلك. وقال: ادْع كاتبك يقرأه عليَّ. فقال: إنه

_ (1) ذكره ابن القيم في أحكام أهل الذمة 1/211 , عن معاوية بمثله مختصراً. وذكر أن بعض عمال عمر كتب إليه يستشيره في استعمال الكفار فقال: إن المال قد كثر , وليس يحصيه إلا هم , ما كتب إلينا بما ترى , فكتب إليه: لا تدخلوهم في دينكم, ولا تسلموهم ما منعهم الله منه , ولا تأمنوهم على أموالكم , وتعلموا الكتابة , فإنما هي حيلة الرجال. (2) هو في صحيح مسلم من حديث عائشة - رضي الله عنها وعن أبيها - في كتاب الجهاد وباب كراهة الاستعانة في الغزو بكافر رقم 1817. (3) كما أن استخدام الجند المجاهدين إنما يصلح إذا كانوا مسلمين مؤمنين , فكذلك الذين يعاونون الجند في أموالهم وأعمالهم , إنما تصلح بهم أحوالهم إذا كانوا مسلمين مؤمنين , وفي المسلمين كفاية في جميع مصالحهم ولله الحمد.

لا يدخل المسجد, قال: ولم؟ قال: لأنه نصراني! فضربه عمر -رضي الله عنه- بالدواة (1) , فلو أصابته لأوجعته, ثم قال: لا تعزّوهم بعد أن أذلهم الله (2) , ولا تأمنُوهم بعد أن خوَّنهم الله (3) , ولا تُصدّقوهم بعد أن أكذبهم (4) الله (5) (6) .

_ (1) في المطبوعة - بالدرة وكذا هي في حاشية المصرية تصحيحاً لما في المتن , وهي الرواية المشهورة , وهذه مناسبات درة عمر - رضي الله عنهم. (2) وهذه الذلة من قوله تعالى في صورة المجادلة {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ} آية 20، وهؤلاء من أعظم الناس محادة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ومواقف أسلافهم كنصارى نجران، تدل عليه. وكما قال سبحانه عنهم {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَآؤُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ} الآية. (3) كما قال تعالى فيهم من أول المائدة: {وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ} الآية. وقوله تعالى في الأنفال: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} وللحديث الآتي: اليهود والنصارى خونة، لعن الله من ألبسهم ثوب عز. (4) وكما في آية المباهلة مع نصارى نجران: {فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} . وهم الكاذبون قطعاً، واليهود كذبوا الله كثيراً وافتروا عليه وهم {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} . (5) ذكر هذا الأثر بسياقه ابن المحب الطبري في الرياض النضرة 2/ 37. وذكرها بنحوه الإمام أحمد قال ثنا وكيع وثنا إسرائيل عن سماك بن حرب عن عياض الأشعري عن أبي موسى قال: قلت لعمر: إن لي كاتاباً نصرانياً. قال: مالك؟ قاتلك الله، أما سمعت الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء ... } الآية. ألا اتخذت حنيفاً. قال: قلت: يا أمير المؤمنين لي كتابته وله دينه. قال: لا أكرمهم إذا أهانهم الله، ولا أعزهم إذا أذلهم الله، ولا أدنيهم إذا قصّاهم الله. إسرائيل هو ابن يونس السبيعي، وهذا الإسناد حسن. وأخرجه البيهقي في الكبرى 9/204من وجه آخر إلى سماك بن حرب، عن عياض عن أبي موسى. وفيه: وكان لأبي موسى كاتب نصراني، فرفع لعمر كتابته، فعجب عمر وقال: إن هذا لحافظ وقال: إن لنا كتاباً في المسجد-وكان نصراني قد جاء مع أبي موسى-فادعه فليقرأ. فقال أبو موسى: =

والمسلمون في مشارق الأرض ومغاربها قلوبهم واحدة، متواليةٌ لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ولعباده المؤمنين، معاديةٌ لأعداء الله ورسوله وأعداء الدين. وقلوبهم الصادقة، وأدعيتهم الصالحة، هي العسكر الذي لا يُغلب، والجند الذي لا يُخذل، فإنهم هم الطائفة المنصورة إلى يوم القيامة، كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) . وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ * هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ

_ = إنه لا يستطيع أن يدخل المسجد. فقال عمر: أجنب هو؟ قال، بل نصراني، قال: فانتهرني عمر وضرب فخذي وقال أخرجه ثم تلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء ... } الآية. وكذا أخرجه ابن حاتم في تفسيره عن وجه آخر عن سماك عن عياض في تفسيره آية المائدة نقله ابن كثير في تفسيره 2/68. انظر: عيون الأخبار 1/43. (6) وجاء في حاشية المخطوطة هذه القصة: وما أحسن ما اتفق لولي الله أبي بكر محمد بن الوليد الطرطوشي (الإمام المتوفى سنة 530 هـ) . المالكي الزاهد, لما دخل على الملك الأفضل شاهد شاه ابن أمير الجيوش , وكان إلى جانب الأفضل رجل نصراني , فوعظ الطرطوشي الأفضل حتى بكى , ثم أنشده: يا ذا الذي طاعته قربة ... وحقه مفترض واجب إنّ الذي شُرِّفت من أجله ... يزعم هذا أنه كاذب وأشار إلى النصراني , فأقامه الأفضل من موضعه , لاستحضاره تكذيب العصوم الذي هو سبب شرفه وشرف أهل السموات والأرض , وأمر بطرده وإخراجه وتعظيماً لأكرم الخلق على الله. انظر هذه القصة في نفح الطيب 2/87 للمقرئ بيروت , وكذا وفيات الأعيان بيروت , ولعلها تكون في شرح سراج الملوك للإمام الطرطوشي , وهو مخطوط بالمكتبة الأهلية بباريس. (1) إشارة لحديثه عليه الصلاة والسلام الذي رواه الشيخان وغيرهما , وهو متواتر , وسبق.

قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران - آية 118 - 120] . وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ * وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَن يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة 51 - 56] . وهذه الآيات العزيزة فيها عبرة لأولي الألباب. فإن الله تعالى أنزلها بسبب أنه كان بالمدينة النبوية من أهل الذمة من كان له عز وسَعة (1) على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أقوام من المسلمين عندهم ضعف يقين وإيمان، وفيهم منافقون

_ (1) في المصرية: ومنعه. وعلى قول الجمهور نزلت في حال عبادة بن الصامت لما تبرأ من أوليائه من يهود , وتمسك بولايتهم عبد الله بن أبي بن سلول من دوار الدوائر عليه. وقيل إنها في أبي لبابة بن عبد المنذر لما سأله اليهود ما الرسول صانع بهم؟ فأشار إلى حلقه بالذبح. وقيل غير ذلك. انظر ابن كثير 2/68-69 والقرطبي 6/216 وما بعدها. وكلام الشيخ هاهنا ملخص لهذه الأسباب وجامع لها.

يُظهرون الإسلام، ويبطنون الكفر، مثل عبد الله بن أبي رأس المنافقين، وأمثاله، وكانوا يخافون أن تكون للكفار دولةٌ، فكانوا يوالونهم، ويباطنونهم {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} أي نفاقٌ وضعف إيمان، {يُسَارِعُونَ فِيهِمْ} ، أي في معاونتهم. {يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ} ، فقال الله تعالى: {فَعَسَى اللهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ} ، أي هؤلاء المنافقين (1) الذين يوالون أهل الذمة {عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ * وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ} . فقد عرف أهل الخبرة أن أهل الذمة من اليهود والنصارى، والمنافقين يكاتبون أهل دينهم بأخبار المسلمين، وبما يطلعون على ذلك من أسرارهم حتى أُخذ جماعة من المسلمين في بلاد التتر، وسيس (2) وغير ذلك بمطالعة أهل الذمة لأهل دينهم. ومن الأبيات المشهورة قول بعضهم: كل العداوات قد ترجى مودتها ... إلا عداوة من عاداك في الدين (3)

_ (1) في المصرية: المنافقون بالرفع. (2) بلدة في تركيا في جنوبها , وفي شرق مدينة أظنة , كانت عاصمة أرمينية الصغرى , فتحها المسلمون قديماً , ثم فتحها المماليك , ثم العثمانيون. (3) ورد هذا البيت منسوباً إلى الإمام الشافعي - رحمه الله - بروايتين هما: كل العداوة قد ترجى مودتها ... إلا عداوة من عاداك عن حسد - الأخرى: كل العداوة قد ترجى إماتتها ... إلا عداوة من عاداك عن حسد وانظر ديوان الشافعي جمع محمد عفيف الزعبي ص 37 ومرجع المساجل قافيه الدال , ومناقب الشافعي للبيهقي 2/74 , والعقد الفريد 2/321 وعيون الأخبار 2/10.

ولهذا وغيره مُنعوا أن يكونوا على ولاية المسلمين, أو على مصلحة من يقويهم, أو يفضل عليهم في الخبرة والأمانة من المسلمين, بل استعمال من هو دونهم في الكفاية أنفعُ للمسلمين في دينهم ودنياهم (1) . ولقيلٌ من الحلال يُبارَك فيه, والحرامُ الكثير يذهب, ويمحقه الله تعالى، والله أعلم (2) .

_ (1) فهل ينتفع بهذا من يطالعه , ويفهمه من عامة الناس وخاصتهم؟ أسأل الله ذلك , ثم لا يستتروا وراء طلب أهل التخصص ممن لا يكون في المسلمين مثلهم! (2) إلى هنا انتهت المطبوعة.

الشروط العمرية التي كانوا ملتزمين بها

والشروط العُمرية (1) التي كانوا ملتزمين بها: 1- أن لا يتخذوا من مدائن الإسلام ديراً ولا كنيسة ولا قُليّة (2) ولا صومعة لراهب, ولا يجددوا ما خرب منها. 2- ولا يمنعوا كنائسهم التي عاهدوا عليها أن ينزلها المسلمون ثلاثة أيام، يُطعموهم, ويؤووهم.

_ (1) نسبة إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لأنه شرطها على أهل الكتاب في الشام بمحضر من المهاجرين والأنصار، وعليها العمل عند أئمة المسلمين الحديث (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ) . والحديث (اقتدوا بالذين من بعدي: أبي بكر وعمر) ، فصار هذا إجماعاً من الصحابة الذين لا يجتمعون على ضلالة وقد ذكر هذه الشروط أئمة العلماء من أهل المذاهب المتبوعة في كتبهم واعتمدوها. وهذه الشروط ما زال يجددها عليهم -أي على النصارى - من وفقه الله تعالى من ولاة أمور المسلمين. كما جدد عمر بن عبد العزيز، وبالغ في اتباع سنة جده عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وجددها هارون الرشيد، وجعفر المتوكل وغيرهم، وأمروا بهدم الكنائس التي ينبغي هدمها كالكنائس التي بالديار المصرية كلها. وهذه الشروط ليست ظلماً لهم، ولكن لإذلالهم وإعزاز الدين ورفعه. ففي سنن أبي داود عن العرباض مرفوعاً (إن الله لم يأذن لكم أن تدخلوا بيوت أهل الكتاب إلا بإذن، ولا ضرب أبشارهم، ولا أكل ثمارهم، إذا أعطوكم الذي عليهم) . وكان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه -يقول: أذلوهم ولا تظلموهم. وعن صفوان بن سليم عن عدة من أبناء أصحاب الرسول عن آبائهم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ألا من ظلم معاهداً وانتقصه حقه، أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس، فأنا حجيجه يوم القيامة) مختصر من الفتاوى 28/651- 657. وهي والله شروط تبين عزة الدين، وشموخه ورفعته، بإعزاز أهله له وقيامهم به حقاً وصدقاً، اللهم أرض عنهم وأجزل مثوبتهم واجمعنا بهم، وارحم يا مولانا حالنا وضعفنا وهواننا على الناس -آمين. (2) في بعض الروايات ولا قلاية لراهب. قال في اللسان: ابن الأثير في حديث عمر-رضي الله عنه -لما صالح نصارى أهل الشام كتبوا له كتاباً: إنا لا نحدث في مدينتنا كنيسة ولا قلية ولا نخرج سعانين ولا باعوثاً. القلية كالصومعة، قال كذا وردت، واسمها عند النصارى، القلاية وهي تعريب كلاذة وهي من بيوت عبادتهم. والسعانين عيد للنصارى قبل عيد الفصح بأسبوع يخرجون فيه وأمامهم الصليب، والباعوث هو صلاة الاستسقاء للنصارى.

3- ولا يظهروا شِركاً ولا ريبة لأهل الإسلام. 4- ولا يعلوا على المسلمين في البنيان. 5- ولا يعلموا أولادهم القرآن. 6- ولا يركبوا الخيل ولا البغال, بل يركبوا الحمير باللُكف (1) عرضاً من غير زينة لها ولا قيمة. ويركبوا وأفخاذهم مثنية. 7- ولا يظهروا على عورات المسلمين. 8- ويتجنبوا أوساط الطرق؛ توسعة للمسلمين. 9- ولا ينقشوا خواتمهم بالعربية. 10- وأن يجذّوا مقادم رؤوسهم. 11- وأن يلزموا زيَّهم حيث ما كانوا (2) . 12- ولا يستخدموا مسلماً في الحمام, ولا في أعمالهم الباقية. 13- ولا يتسموا بأسماء المسلمين, ولا يتكنوا بكناهم, ولا يتلقبوا بألقابهم. 14- ولا يركبون (3) سفينة نوتيها مسلمٌ.

_ (1) بالأكف عرضاً من المصرية , والأكف إكاف أو أكاف بكسر الهمزة وضمها , وهي شبه الرحال والأقتاب توضع على الحمير والبغال - أعزكم الله - كما في اللسان والقاموس مادة أكف , وقال ابن القيم في أحكام أهل الذمة 2/757: فأهل الذمة ممنوعون من ركوبهم السروج , وإنما يركبون الأكف. وهي البراذع عرضاً , ويكون أرجلهم جميعاً إلى جانب واحد كما أمرهم أمير المؤمنين عمر. وهو ابن الخطاب - رضي الله عنه - لئلا يلتبس بعمر بن عبد العزيز , فقد حدد هذا الأمر والذي يظهر أن الأكف هي ما يوضع على الحمير شبه السرج على الخيول. فالنسخة المصرية أصح من الأصل. (2) والآن للأسف صار ضعاف الإيمان من المسلمين يقلدونهم في لباسهم وأكلهم وعاداتهم. (3) في المصرية , ولا يركبوا بالعطف على المنصوب وهكذا ما بعدها.

15- ولا يشترون رقيقاً مما سباه مسلم. 16- ولا يشترون شيئاً مما خرجت عليه سهام المسلمين. 17- ولا يبيعون الخمور. 18- ومن زنى منهم بمسلمة قُتل. 19- ولا يلبسون عمامة صافية, بل يلبس النصراني العمامة الزرقاء عشرة أذرع, من غير زينة لها ولا قيمة. 20- ولا يشتركون مع المسلمين في تجارة, ولا بيع, ولا شراء. 21- ولا يخدمون الملوك, ولا الأمراء فيما يُجري أميرهم على المسلمين من كتابة, أو أمانة, أو وكالة, أو غير ذلك (1) .

_ (1) هذه الشروط العمرية سبق النقل عن الشيخ في شهرتها وعمل الولاة بها في أول سياق الشروط. وقال ابن القيم في أحكام أهل الذمة 2/ 663: وشهرة هذه الشروط تغني عن إسنادها، فإن الأئمة تلقوها بالقبول أ. هـ. بعد أن ذكر طرفاً من أسانيدها، فمن ذلك: قال عبد الله بن أحمد حدثني أبو شرحبيل الحمصي عيسى بن خالد حدثني عمر أبو اليمان وأبو المغيرة قال أخبرنا إسماعيل بن عياش قال حدثنا غير واحد من أهل العلم قالوا كتب أهل الجزيرة إلى عبد الرحمن بن غنم - فكاتب عمر. وكذا رواه الخلال في كتابه من أحكام أهل الملل، عن عبد الله فذكره. وقال الربيع بن ثعلب ثنا يحيى ابن عقبة بن أبي الفيرار عن الثوري والوليد بن نوح واليسرى بن مصرف يذكرون عن طلحة بن مصرف عن مسروق عن عبد الرحمن بن غنم. وقال شيخ الإسلام 28/ 561، وهذه الشروط مروية من وجوه مختصرة ومبسوطة، ومنها ما رواه سفيان ابن مسروق عن عبد الرحمن بن عتبة قال كتبت عمر-رضي الله عنه - حين صالح نصارى الشام كتاباً وشرط عليهم فيه، فذكره أ. هـ 0 وانظر الصارم المسلول له ص 201 -216 ومواضع عديدة منه، وقد أفرد التقي السبكي باباً في ذكر شروط - عمر رضي الله عنه - على أهل الذمة، وذكر فيه عدة طرق ما نظرها في فتاواه 2/ 397-403. هذا وإن جمع الطرق الواردة فيها الشروط والمقارنة بينها ودراسته رواتها وأحوالهم لعمل جليل يضيق عنه هذا المختصر-وعسى الله أن يعين عليه - مع أن اشتهارها وتلقي الأئمة لها بالقبول والعمل كما قال الشيخان: ابن تيمية وتلميذه ابن القيم كاف في العمل بها واعتبارها.

وهذه الشروط التي وردت فيها الأحاديث النبوية شرّفها الله وأعزها. قال صلى الله عليه وسلم: "اليهود والنصارى خونة لا أعان الله من ألبسهم ثوب عز" (1) . قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} . وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم, ولا من خذلهم, حتى تقوم الساعة". وكل من عرف سير الناس وملوكهم, رأى من كان أنصرَ لدين الله, وأعظم جهاداً لدين الله, ولأعدائه, وأقوم بطاعة الله ورسوله, أعظم نصرة وطاعة وحرمة, من عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فمن خرج عن شرط من هذه الشروط فقد حل للمسلمين منهم ما حل بأهل المعاندة والشقاق (2) . ويتقدم حاكم المسلمين يطلب من يكون من أكابر النصارى، ويُلزمهم بهذه الشروط العُمرية, أعز الله أنصارها بمحمد وآله. تمت المسألة وجوابها والحمد لله رب العالمين, وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين, صلاة دائمة إلى يوم الدين, آمين.

_ (1) جاء في حاشية الأصل: وروى الشيخان عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام , وإذا لقيتم أحدهم في الطريق فاضطروه إلى أضيقه) . وهو عند مسلم في كتاب السلام - باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام رقم 2167. (2) فقد جاء في بعض الروايات لسياق الشروط في آخرها [فإن خالفوا شيئاً مما أخذ عليهم فلا ذمة لهم , وقد حل للمسلمين منهم ما يحل من أهل المعاندة والشقاق.

فتوى الإمام النووي

* من فتاوى شيخ الإسلام النواوي رحمه الله ورضي عنه [ت 676 هـ] مسألة: رجل يهودي أو نصراني وُلِّي صيرفيًّا في بيت مال المسلمين لميزان الدراهم المعوضة، والمصروفة، وينقدها، ويُعتمد في ذلك على قوله. هل يحلُّ توليته أم لا؟ وهل يُثاب وليّ الأمر على عزله واستبدال مسلم ثقة بدله؟ وهل يُثاب المساعد على عزله؟ فأجاب -رضي الله عنه- وعنّا والمسلمين: لا يحلُّ تولية اليهودي ولا النصراني لذلك، ولا يجوز إبقاؤه فيه ولا يحلُّ اعتماد قوله في شيء من ذلك. ويُثاب ولي الأمر -وفقه الله- على عزله واستبدال مسلم ثقة بدله. ويُثاب المساعد في عزله. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} الآيات. قال: ومعنى (1) لا تتخذوا من يداخل بواطن أموركم [من دونكم] أي من غيركم: وهم الكفار {لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ} أي: لا يقصرون فيما يقدرون على إيقاعه من الفساد، والأذى، والضرر. {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} أي يقولون نحن أعداؤكم. والله أعلم.

_ * هاتان المسألتان وجدتهما في آخر المخطوط بقلم مغاير عن قلم المخطوط وهما من فتاوى النووي والسراج البلقيني رحمهما الله , وقد أثبتهما للفائدة ولأنهما ضمن المخطوط الأصل , ولا مضرة من إهمالهما. كما وجدا في آخر الورقة من النسخة الأصلية. (1) في المصرية: ومعناها.

فتوى الإمام البلقيني

فتوى أخرى من فتاوى قاضي القضاة شيخ الإسلام سراج الدين البلقيني الشافعي -رحمه الله ورضي عنه-[ت 805هـ] . مسألة: مسلم قال لذمّي في عيد من أعيادهم، عيد مبارك! هل يكفر، أم لا؟ وهل اليهود والنصارى من أمة محمد صلى الله عليه وسلم أم لا؟ أجاب رضي الله عنه: إن قال المسلم للذمي ذلك على قصد تعظيم دينهم وعيدهم حقيقة فإنه يكفر. وإن لم يقصد ذلك وإنما جرى على لسانه، فلا يكفر بما قال من غير قصد. وأما الأمة فإنها تطلق على التابعة للنبي صلى الله عليه سلم، وتطلق على من بُعث إليهم. واليهود والنصارى وغيرهم وسائر المشركين والخلق كافة بُعث إليهم والأول هو الأشهر، ولا يكون اليهود والنصارى بالإطلاق الأول من الأمة؛ لعدم اتباعهم للنبي صلى الله عليه وسلم. ويكون من الأمة التي بعث إليهم، فإن بعثته صلى الله عليه وسلم تشمل اليهود والنصارى وغيرهم.

ملحق بذكر نص الفتوى التي ذكرها ابن القيم في كتابه "أحكام أهل الذمة"

ملحق بذكر نص الفتوى التي ذكرها ابن القيم في كتابه "أحكام أهل الذمة" لشيخه (1) شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- أوردها كاملة لعلاقتها المباشرة بالموضوع. قال ابن القيم -رحمه الله- في "أحكام أهل الذمة" 2/677-686: وورد على شيخنا استفتاء في أمر الكنائس صورته: ما يقول السادة العلماء -وفقهم الله- في إقليم توافق أهل الفتوى في هذا الزمان على أن المسلمين فتحوه عنوة من غير صلح ولا أمان، فهل ملك المسلمون ذلك الإقليم المذكور بذلك؟ وهل يكون الملك شاملاً لما فيه من أموال الكفار من الأثاث والمزارع والحيوان والرقيق والأرض والدور والبيع والكنائس والقلايات والديورة ونحو ذلك، أو يختص الملك بما عدا متعبَّدات أهل الشرك؟ فإن ملَكَ جميع ما فيه فهل يجوز للإمام أن يعقد لأهل الشرك من النصارى واليهود -بذلك الإقليم أو غيره- الذمة على أن يبقى ما بالإقليم المذكور من البيع والكنائس والديورة ونحوها متعبداً لهم، وتكون الجزية المأخوذة منهم في كل سنة في مقابلة ذلك بمفرده، أو مع غيره أم لا؟ فإن لم يجز -لأجل ما فيه من تأخير ملك المسلمين عنه- فهل يكون حكم الكنائس ونحوها حكم الغنيمة يتصرف فيه الإمام تصرفه في الغنائم أم لا؟ وإن جاز للإمام أن يعقد الذمة بشرط بقاء الكنائس ونحوها فهل يملك من عقدت له الذمة بهذا العقد رقاب البيع والكنائس والديورة ونحوها، ويزول ملك المسلمين عن ذلك بهذا العقد أم لا، لأجل أن الجزية لا تكون عن ثمن مبيع؟ وإذا لم يملكوا ذلك وبقوا على الانتفاع بذلك، وانتقض عهدهم بسبب يقتضي انتقاضه* إما بموت من وقع عقد الذمة معه ولم يعقبوا، أو أعقبوا، فإن قلنا: إن أولادهم يستأنف معهم عقد الذمة -كما نص عليه الشافعي فيما حكاه

_ (1) قاعدة: إذا قال ابن القيم ورد على شيخنا , أو قال شيخنا ولم يسمه فالمراد به شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.

ابن الصباغ، وصححه العراقيون، واختاره ابن أبي عصرون في "المرشد"- فهل لإمام الوقت أن يقول: لا أعقد لكم الذمة إلا بشرط ألا تدخلوا الكنائس والبيع والديورة في العقد، فتكون كالأموال التي جهل مستحقوها وأيس من معرفتها، أم لا يجوز له الامتناع من إدخالها في عقد الذمة، بل يجب عليه إدخالها في عقد الذمة؟ فهل ذلك يختص بالبيع والكنائس والديورة التي تحقق أنها كانت موجودة عند فتح المسلمين، ولا يجب عليه ذلك عند التردد في أن ذلك كان موجوداً عند الفتح، أو حدث بعد الفتح، أو يجب عليه مطلقاً فيما تحقق أنه كان موجوداً قبل الفتح أو شك فيه؟ وإذا لم يجب في حالة الشك، فهل يكون ما وقع الشك في أنه كان قبل الفتح، وجهل الحال فيمن أحدثه لمن هو؟ لبيت المال أم لا؟ وإذا قلنا: إن من بلغ من أولاد من عقدت معهم الذمة -وإن سلفوا- ومن غيرهم لا يحتاجون أن تعقد لهم الذمة، بل يجري عليهم حكم من سلف إذا تحقق أنه من أولادهم، يكون حكم كنائسهم وبيعهم حكم أنفسهم، أم يحتاج إلى تجديد عقد وذمة؟ وإذا قلنا: إنهم يحتاجون إلى تجديد عقد عند البلوغ، فهل تحتاج [كنائسهم] وبيعهم إليه أم لا؟ فأجاب: "الحمد لله، ما فتحه المسلمون كأرض خيبر التي فتحت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكعامة أرض الشام، وبعض مدنها، وكسواد العراق -إلا مواضع قليلة فتحت صلحاً- وكأرض مصر، فإن هذه الأقاليم فتحت عنوة على خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وقد روي في أرض مصر أنها فتحت صلحاً، وروي أنها فتحت عنوة، وكلا الأمرين صحيح -على ما ذكره العلماء المتأهلون للروايات الصحيحة في هذا الباب- فإنها فتحت أولا صلحاً، ثم نقض أهلها العهد، فبعث عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يستمده، فأمده بجيش كثير فيهم الزبير بن العوام، ففتحها المسلمون الفتح الثاني عنوة.

ولهذا روي من وجوه كثيرة أن الزبير سأل عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- أن يقسمها بين الجيش كما سأله بلال قسم الشام، فشاور الصحابة في ذلك فأشار عليه كبراؤهم كعلي بن أبي طالب ومعاذ بن جبل أن يحبسها فيئاً للمسلمين ينتفع بفائدتها أول المسلمين وآخرهم. ثم وافق عمرَ على ذلك بعض من كان خالفه، ومات بعضهم، فاستقر الأمر على ذلك: فما فتحه المسلمون عنوة، فقد ملكهم الله إياه كما ملكهم ما استولوا عليه من النفوس والأموال والمنقول والعقار. ويدخل في العقار معابد الكفار ومساكنهم وأسواقهم ومزارعهم وسائر منافع الأرض، كما يدخل في المنقول سائر أنواعه من الحيوان والمتاع والنقد؛ وليس لمعابد الكفار خاصة خروجها عن ملك المسلمين: فإن ما يقال من الأقوال، ويفعل فيها من العبادات، إما أن يكون مبدلاً أو محدثاً لم يشرعه الله قط، أو يكون الله قد نهى عنه بعد ما شرعه. [و] قد أوجب الله على أهل دينه جهاد أهل الكفر حتى يكون الدين كله الله، وتكون كلمة الله هي العليا، ويرجعوا عن دينهم الباطل إلى الهدى ودين الحق الذي بعث الله به خاتم المرسلين صلوات الله وسلامه عليه، ويعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون. ولهذا لما استولى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أرض من حاربه من أهل الكتاب وغيرهم، كبني قينقاع والنضير وقريظة، كانت معابدهم مما استولى عليه المسلمون، ودخلت في قوله سبحانه: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} ، وفي قوله تعالى: {وَمَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ} ، {مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} ، لكن -وإن ملك المسلمون ذلك- فحكم الملك متبوع كما يختلف حكم الملك في المكاتب والمدير وأم الولد والعبد، وكما يختلف في المقاتلين الذين يؤسرون، وفي النساء والصبيان الذين يُسْبَون، كذلك

يختلف حكمه في المملوك نفسه والعقار والأرض والمنقول. وقد أجمع المسلمون على أن الغنائم لها أحكام مختصة بها لا تقاس بسائر الأموال المشتركة. ولهذا لما فتح النبي صلى الله عليه وسلم خيبر أقر أهلها ذمة للمسلمين في مساكنهم، وكانت المزارع صلحاً للمسلمين عاملهم عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرط ما يخرج منها من تمر أو زرع، ثم أجلاهم عمر -رضي الله عنه- في خلافته، واسترجع المسلمون ما كانوا أقروهم فيه من المساكن والمعابد. فصل وإما أنه هل يجوز للإمام عقد الذمة مع إبقاء المعابد بأيديهم؟ فهذا فيه خلاف معروف في مذاهب الأئمة الأربعة، منهم من يقول: لا يجوز تركها لهم، لأنه إخراج ملك المسلمين عنها، وإقرار الكفر بلا عهد قديم؛ ومنهم من يقول بجواز إقرارهم فيها إذا اقتضت المصلحة ذلك كما أقر النبي صلى الله عليه وسلم أهل خيبر فيها، وكما أقر الخلفاء الراشدون الكفار على المساكن والمعابد التي كانت بأيديهم. فمن قال بالأول قال: حكم الكنائس حكم غيرها من العقار، منهم من يوجب إبقاءه، كمالك في المشهور عنه، وأحمد في رواية، ومنهم من يخير الإمام فيه بين الأمرين بحسب المصلحة، وهذا قول الأكثرين، وهو مذهب أبي حنيفة، وأحمد في المشهور عنه، وعليه دلت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث قسم نصف خيبر وترك نصفها لمصالح المسلمين. ومن قال: "يجوز إقرارها بأيديهم"، فقوله أوجه وأظهر؛ فإنهم لا يملكون بهذا الإقرار رقاب المعابد كما يملك الرجل ماله، كما أنهم لا يملكون ما ترك لمنافعهم المشتركة كالأسواق والمراعي، كما لم يملك أهل خيبر ما أقرهم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من المساكن والمعابد. ومجرد إقرارهم ينتفعون بها ليس تمليكاً، كما لو أُقطع المسلم بعض عقار بيت

المال ينتفع بغلّته أو سُلم إليه مسجد أو رباط ينتفع به لم يكن ذلك تمليكًا له، بل ما أقروا فيه من كنائس العنوة يجوز للمسلمين انتزاعها منهم إذا اقتضت المصلحة ذلك، كما انتزعها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من أهل خيبر بأمره بعد إقرارهم فيها، وقد طلب المسلمون في خلافة الوليد بن عبد الملك أن يأخذوا من النصارى بعض كنائس العنوة التي خارج دمشق، فصالحوهم على إعطائهم الكنيسة التي داخل البلد، وأقر ذلك عمر بن عبد العزيز أحد الخلفاء الراشدين ومن معه في عصره من أهل العلم: فإن المسلمين لما أرادوا أن يزيدوا جامع دمشق بالكنيسة التي إلى جانبه (1) ، وكانت من كنائس الصلح لم يكن لهم أخذها قهراً، فاصطلحوا على المعاوضة بإقرار كنائس العنوة التي أرادوا انتزاعها، وكان ذلك الإقرار عوضاً عن كنيسة الصلح التي لم يكن لهم أخذها عنوة. فصل ومتى انتقض عهدهم جاز أخذ كنائس الصلح منهم فضلاً عن كنائس العنوة، كما أخذ النبي صلى الله عليه وسلم ما كان لقريظة والنضير لما نقضوا العهد، فإن ناقض العهد أسوأ حالاً من المحارب الأصلي، كما أن ناقض الإيمان بالردة أسوأ حالاً من الكافر الأصلي. ولذلك لو انقرض أهل مصر من الأمصار، ولم يبق من دخل في عهدهم، فإنه يصير للمسلمين جميع عقارهم ومنقولهم من المعابد وغيرها

_ (1) وهي كنيسة مار يوحنا. ومن الشائع أن هدم الكنيسة لتوسيع جامع دمشق ينسب إلى الخليفة الوليد , ولما انتهت الخلافة إلى عمر بن عبد العزيز شكا إليه النصارى ما صنعه الوليد ببيعتهم , فأمر عمر برد الكنيسة إلى أصحابها , فأغضب ذلك أهل دمشق وكبر عليهم أن يهدموا مسجدهم بعد أن أذنوا فيه وصلوا , ثم تم الاتفاق على أن يكون للنصارى كنائس الغوطة - وهي كنائس العنوة - وألا يعودوا للمطالبة بكنيسة مار يوحنا. (قارن بتاريخ مدينة دمشق لابن عساكر 1/195 والمختصر في أخبار البشر لأبي الفداء حوادث سنة 596) . ويلاحظ أن المؤرخين المعاصرين لزمن الفتح لم يروا شيئاً من أمر هذه الكنيسة وإلحاقها بجامع دمشق , وإنما هذه كلها روايات للمؤرخين المتأخرين.

فيئاً، فإذا عقدت الذمة لغيرهم كان كالعهد المبتدإ، وكان لمن يعقد لهم الذمة أن يقرهم في المعابد، وله ألا يقرهم بمنزلة ما فتح ابتداءً، فإنه لو أراد الإمام عند فتحه هدم ذلك جاز بإجماع المسلمين، ولم يختلفوا في جواز هدمه وإنما اختلفوا في جواز بقائه. وإذا لم تدخل في العهد كانت فيئاً للمسلمين. أما على قول الجمهور الذين لا يوجبون قسم العقار فظاهر؛ وأما على قول من يوجب قسمه؛ فلأن عين المستحق غير معروف كسائر الأموال التي لا يعرف لها مالك. وأما تقدير وجوب إبقائها فهذا تقدير لا حقيقة له: فإن إيجاب إعطائهم معابد العنوة لا وجه له، ولا أعلم به قائلاً، فلا يفرّع عليه، وإنما الخلاف في الجواز. نعم قد يقال في الأبناء، إذا لم نقل بدخولهم في عهد آبائهم لأن لهم شبهة الأمان والعهد، بخلاف الناقضين، فلو وجب لم يجب إلا ما تحقق أنه كان له، فإن صاحب الحق لا يجب أن يعطى إلا ما عرف أنه حقه؛ وما وقع الشك فيه -على هذا التقدير- فهو لبيت المال، وأما الموجودون الآن، إذا لم يصدر منهم نقض عهد فهم على الذمة: فإن الصبي يتبع أباه في الذمة، وأهل داره من أهل الذمة، كما يتبع في الإسلام أباه وأهل داره من المسلمين؛ لأن الصبي لما لم يكن مستقلاًّ بنفسه جُعل تابعاً لغيره. في الإيمان والأمان. وعلى هذا جرت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه والمسلمين في إقرارهم صبيان أهل الكتاب بالعهد القديم من غير تجديد عقد آخر. وهذا الجواب حكمه فيما كان من معابدهم قديماً قبل فتح المسلمين، أما ما أحدث بعد ذلك فإنه يجب إزالته، ولا يمكّنون من إحداث البيع والكنائس كما شرط عليهم عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في الشروط المشهورة عنه: ألا يجدّدوا في مدائن الإسلام، ولا فيما حولها، كنيسة ولا صومعة ولا ديراً ولا قلاية، امتثالاً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تكون قبلتان ببلد واحد". رواه أحمد وأبو داود بإسناد جيد، ولما روي عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: "لا كنيسة في الإسلام".

وهذا مذهب الأئمة الأربعة في الأمصار، ومذهب جمهورهم في القرى، وما زال من يوفقه الله من ولاة أمور المسلمين ينفذ ذلك ويعمل به مثل عمر بن عبد العزيز الذي اتفق المسلمون على أنه إمام هدى: فروى الإمام أحمد عنه أنه كتب إلى نائبه عن اليمن أن يهدم الكنائس التي في أمصار المسلمين، فهدمها بصنعاء وغيرها. وروى الإمام أحمد عن الحسن البصري أنه قال: "من السنة أن تهدم الكنائس التي في الأمصار، القديمة والحديثة". وكذلك هارون الرشيد في خلافته أمر بهدم ما كان في سواد بغداد (1) ، وكذلك المتوكل لما ألزم أهل الكتاب "بشروط عمر" استفتى علماء وقته في هدم الكنائس والبيع، فأجابوه، فبعث بأجوبتهم إلى الإمام أحمد، فأجابه بهدم كنائس سواد العراق (2) ، وذكر الآثار عن الصحابة والتابعين: فمما ذكره ما روي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: "أيما مصر مصرته العرب -يعني المسلمين- فليس للعجم أن يبنوا فيه كنيسة، ولا يضربوا فيه ناقوساً، ولا يشربوا فيه خمراً. وأيما مصر مصرته العجم ففتحه الله على العرب فإن للعجم ما في عهدهم، وعلى العرب أن يوفوا بعهدهم، ولا يكلفوهم فوق طاقتهم".

_ (1) وذلك أن الرشيد كان قد استفتى أبا يوسف في أمر الكنائس والبيع , ففصل له في فتواه جميع أحكامها , فهدم منها ما كان في السواد , وقارن بخراج أبي يوسف 138 سلفية. (2) انظر تاريخ الطبري 3/1419 هـ حوادث سنة 239 هـ.

§1/1