مسألة فى المرابطة بالثغور أفضل أم المجاورة بمكة شرفها الله تعالى
ابن تيمية
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة التحقيق إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل الله ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. أما بعد: فهذا سفر جديد ومؤلف نفيس ينشر لأول مرة، للعلامة القرآني والمجاهد المرابط1 الرباني، شيخ الإسلام والمسلمين أبي العباس أحمد بن تيمية رحمه الله، نقدمه للمجاهدين الصابرين المرابطين في كل مكان من ثغور الإسلام لا سيما بيت المقدس، الذي يمر بوقت عصيب تكالبت فيه كل قوى الشر لمساعدة أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود في مؤامراتهم لإحكام السيطرة عليه ولهدم الأقصى وبناء الهيكل المزعوم!! وهذا هو سر مقولتهم المشهورة التي رددها أساطينهم في عصرنا2: "لا قيمة لإسرائيل بدون القدس ولا قيمة للقدس بدون الهيكل"!!
ولا يزال العدوان مستمراً على القدس والأقصى الأسير، والمسلمون يغطون في سبات عميق!! فالأنفاق تحت أرض الأقصى تشق والحفريات تتواصل لتفريغ الأتربة والصخور من تحته ليكون على فراغ فيتعرض للسقوط والانهيار، والجماعات الصهيونية تدنس ساحاته يوميا"1. ولن ينسى التاريخ ذلك الموقف البطولي للمرابطين بأكناف بيت المقدس في "انتفاضة القدس" وتصديهم لليهود الحاقدين!! ولا أنسى هذا المشهد الذي شاهده العالم من خلال الفضائيات، عندما حاولت جماعة "أمناء الهيكل" اليهودية أن تضع حجر الأساس لهيكلهم المزعوم بعد أن حصلت على إذن من الحكومة الإسرائيلية فتصدى لهم المصلون المرابطون بالأقصى وقذفوهم ورجموهم بالأحذية والنعال!! وأهل الإسلام اليوم بأشد الحاجة للصبر والمصابرة والرباط والمرابطة والثبات بثغور المسلمين في أرجاء الأرض كلها لا سيما الثغور الشامية وعلى رأسها: بيت المقدس، والأقصى الأسير!! يقول العلامة ابن قدامة رحمه الله: "فأفضل الرباط المقام بأشد الثغور خوفا، لأنهم أحوج، ومقامه به أنفع، قال أحمد: أفضل الرباط أشدهم كلبا"2.
وصف النسخة: فقد اعتمدت على نسخة وحيدة تقع ضمن "مجموع" لشيخ الإسلام، محفوظ بـ"دار الكتب المصرية" برقم 444 فقه تيمور. وتقع هذه النسخة في 75 صفحة، كل صفحة بها 13 سطر. وبخط الناسخ: عبد الحميد الحكيم1 كما جاء بآخر أحد الرسائل بالمجموع وهي مكتوبة بخط رقعة جميل إلا أنها كثيرة السقط والأخطاء. وأما تحقيق نسبة الكتاب للمؤلف: لم أجد أحدا ممن ترجم لشيخ الإسلام ذكر هذا المصنف؛ لكن الذي يطالع كلامه في مصنفاته الأخرى يراه قد أكثر الكلام على مسائل الكتاب وتلخيصها مع تطابق كبير بين كلامه هنا وهناك2. وأما عنوان الكتاب فقد أثبته كما سماه المصنف رحمه الله في أوله حيث قال: "مسألة في المرابطة بالثغور أفضل أم المجاورة بمكة شرفها الله تعالى".
وأما عملنا في التحقيق: فقد اتخذت هذه النسخة أصلا؛ وصوبت ما فيها من أخطاء وسقط بالرجوع إلى كلام المصنف في كتبه الأخرى. كما قمت بضبط فقرات الكتاب كلها، ونسقت عباراتها ورقمت فقراتها برقم مسلسل ووضعت لها عناوين جانبية. كما قمت بعزو الآيات ووضع العزو بجوار الآيات، وخرجت الأحاديث والآثار وبينت مرتبتها من حيث القبول والرد. كما وضعت بعض التعليقات المهمة وأكثرها من كلام شيخ الإسلام من كتبه الأخرى، وبعض المصادر من كتب الفقه. كما صنعت له فهارس للآيات والأحاديث والآثار والموضوعات. هذا وقد اجتهدت في ذلك حسب الوسع والطاقة. والله تعالى أسأل أن ينصر الإسلام، وأن يحفظ ثغور المسلمين وأن يجعلنا من المرابطين الصابرين الثابتين، إنه نعم المولى ونعم النصير. ولا حول ولا قوة إلا بالله، وهو حسبنا ونعم الوكيل. الإسماعيلية في 1رجب 1422هـ أبو محمد أشرف بن عبد المقصود غفر الله له
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (آل عمران:200) .
صور المخطوطة
p13
p14
النص المحقق للكتاب
النص المحقق للكتاب ... مسألة في المرابطة بالثغور أفضل أم المجاورة بمكة شرفها لله تعالى تأليف: شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية المتوفى سنة 728هـ رحمه الله تعالى تحقيق وتعليق: أبي محمد أشرف بن عبد المقصود
بسم الله الرحمن الرحيم وهو حسبي ونعم الوكيل مسألة المرابطة بالثغور أفضل أم المجاورة بمكة شرفها الله تعالى؟! الجواب اتفاق الأئمة والسلف على أفضلية المرابطة على المجاورة بالحرمين 1- الحمد لله، المرابطة في ثغور المسلمين – وهو المقام فيها بنية الجهاد – أفضل من المجاورة في الحرمين باتفاق أئمة المسلمين وأهل المذاهب الأربعة وغيرهم1. من البدع تعظيم الأماكن بغير دليل شرعي 2- وليست هذه المسألة من المشكلات عند من يعرف دين الإسلام؛ ولكن لكثرة ظهور البدع في العبادات وفساد2
النيات في الأعمال الشرعيات صار يخفى مثل هذه المسألة على كثير من الناس حتى صاروا يعظمون الأماكن التي كان المسلمون يعظمونها لكونها ثغورا ظانين أن تعظيمها لأمور مبتدعة في دين الإسلام، فاستبدلوا بشريعة الإسلام بدعة ما أنزل الله بها من سلطان. 3- فإنه يوجد في كلام السلف وحكاياتهم في ذكر "غزة" و"عسقلان" و"الإسكندرية" و"جبل لبنان" و"مكة" و"قزوين"، ومن أمثال ذلك، ومن وجود الصالحين بها ما يوجب شرف هذه البقاع1. فضل بعض الأماكن بكونه ثغرا لا لأجل خاصية ذلك المكان 4- وإنما كان ذلك؛ لكونها كانت ثغور المسلمين، فكانوا صالحوا المسلمين يتناوبونها، لأجل المرابطة بها لا لأجل الاعتزال عن الناس وسكنى "الغيران"2 و"الكهوف"، أو نحو ذلك مما
يظنه الجهال أهل البدع والضلال1. جبل لبنان وما جرى فيه 5- ثم إن من هذه البقاع ما غلب عليه العدو، أو سكنه أهل البدع والفساق؛ ففسد حال أهله، مثل ما جرى على "لبنان" ونحوه2.
كون المكان ثغرا مثل كونه دارا للإسلام 6- وكون1 المكان ثغرا هو مثل كونه دارا لإسلام ودارا لكفر2 مثل كون الرجل مؤمنا وكافرا، هو من الصفات التي تعرض وتزول: 7- فقد كانت "مكة" شرفها الله أم القرى قبل فتحها دار كفر وحرب تجب الهجرة منها ثم تغير هذا الحكم لما فتحت3. حتى قال صلى الله عليه وسلم: "لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية" 4. 8- وقد كان "البيت المقدس" بأيدي العدو تارة، وبأيدي المسلمين أخرى5.
تعريف الثغور وحكم المرابطة بها 9- فالثغور هي: البلاد المتاخمة1 للعدو من المشركين وأهل الكتاب التي يخيف العدو أهلها ويخيف2 أهلها العدو والمرابطة بها أفضل من المجاورة بالحرمين باتفاق المسلمين. 10- كيف والمرابطة بها فرض على المسلمين إما على الأعيان3 وإما على الكفاية. حكم المجاورة 11- وأما المجاورة فليست واجبة باتفاق المسلمين، بل العلماء متنازعون هل هي مستحبة أم مكروهة؟ 12- فستحبها طائفتان4 من العلماء من أصحاب مالك والشافعي5، وكرهها آخرون كأبي حنيفة وغيره6. أدلة من قال بالكراهة
أدلة من قال بكراهة المجاورة
أدلة من قال بكراهة المجاورة ... 13- قالوا: لأن المقام بها يفضي إلى الملك لها. وأنه لا يأمن من مواقعة المحظور؛ فيتضاعف عليه العذاب. ولأنه يضيق على أهل البلد.
14- قالوا: وكان عمر يقول عقب المواسم: "يا أهل الشام شامكم يا أهل اليمن يمنكم، يا أهل العراق [عراقكم] 1". 15- ولأن المقيم بها يفوته الحج التام والعمرة التامة؛ فإن العلماء متفقون على أنه إن أنشأ سفر العمرة من دويرة أهله كان هذا أفضل أنواع الحج والعمرة. 16- وهم متفقون على أنه أفضل من التمتع والقران والإفراد الذي يعتمر عقب الحج. تصحيح خطأ في الاعتمار 17- وأما ما يضنه بعض الناس من أن الخروج بأهل مكة في رمضان أو في غيره إلى الجبل للاعتمار؛ وهو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: "عمرة في رمضان تعدل حجة معي" 2 حتى صار المجاورون وغيرهم يحافظون على الاعتمار من أدنى الحل أو أقصاه كاعتمارهم من التنعيم التي بها المساجد التي يقال لها "مساجد عائشة"، أو من "الحديبية" وعمرة "الجعرانة"؛ فكل ذلك غلط عظيم مخالف للسنة النبوية، ولإجماع الصحابة. 18- فإنه لم يعتمر النبي صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي ولا أمثالهم من مكة قط لا قبل الهجرة ولا بعدها.
لم يعتمر أحد من المسلمين على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلا عائشة فقط 19- بل لم يعتمر أحد من المسلمين على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلا عائشة فقط، فإنها قدمت متمتعة؛ فحاضت، فمنعها الحيض من الطواف قبل الوقوف بعرفة، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم أن يعمرها بعد الحج1، ثم بعد ذلك بنيت هذه المساجد التي هناك، وقيل لها: "مساجد عائشة". 20- وأما "عمرة الحديبية": فإن النبي صلى الله عليه وسلم هل هو وأصحابه من "ذي الحليفة" ثم حلوا بـ"الحديبية" لما صدهم المشركون عن البيت فكانت "الحديبية" حلهم لا ميقات إحرامهم. وهذا متواتر يعلمه عامة العلماء وخاصتهم، وفي ذلك أنزل الله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ} 2 الآيات باتفاق العلماء3.
21- وأما "عمرة الجعرانة": فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما قاتل هوازن بوادي حنين الذي قال الله فيها: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (التوبة:25-27) . 22- وحاصر "الطائف" ونصبت عليها بالمنجنيق، ولم يفتحها وقسم غنائم حنين بـ "الجعرانة" فلما قسمها دخل إلى مكة ثم خرج منها؛ لم يكن بمكة فخرج منها إلى الحل ليعتمر كما يفعل ذلك من يفعله من أهل "مكة". 23- بل الصحابة رضي الله عنهم وأئمة التابعين لم يستحبوا لمن كان بمكة ذلك، بل رأوا أن طوافه بالبيت أفضل من خروجه لأجل العمرة، بل كرهوا له ذلك كما قد بسطنا هذه المسألة في غير هذا الموضع1.
استحباب الجمهور للمجاورة بشروط 24- والمقصود هنا: أن من العلماء من كره المجاورة بمكة، لما ذكر من الأسباب وغيرها لكن الجمهور يحبونها في الجملة إذا وقعت على الوجه المشروع الخالي عن المفسدة المكافئة للمصلحة أو الراجحة عليها. الأدلة على استحباب المجاورة بمكة. 25- قال الإمام أحمد1، وقد سئل عن الجوار بمكة؟ فقال: وكيف لنا [به] 2، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنك لأحب البقاع إلى الله، وإنك لأحب إلي". 26- وجابر جاور مكة، وابن عمر كان يقيم بمكة3. 27- وقال أيضا:"ما أسهل العبادة بمكة، النظر إلى البيت عبادة"4.
الأدلة على استحباب المجاورة بمكة
الأدلة على استحباب المجاورة بمكة ... 28- واحتج هؤلاء بما رواه عبد الله بن عدي ابن حمراء الزهري أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول، وهو واقف بالحزورة
في سوق مكة: "والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت" رواه الإمام أحمد وهذا لفظه، والنسائي، وابن ماجه، والترمذي، وقال:"حديث حسن صحيح"1. 29- ورواه أحمد من حديث أبي هريرة أيضا2. ومن الأدلة على استحباب المجاورة 30- وعن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أطيبك من بلد وأحبك إلي، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك" رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن صحيح غريب"3.
ومن الأدلة على استحباب المجاورة 31- قالوا: فإذا كانت أحب البلاد إلى الله ورسوله ولولا ما وجب عليه من الهجرة لما كان يسكن إلا إياها، علم أن المقام بها أفضل إذا لم يعارض ذلك مصلحة راجحة كما كان في حق النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرين؛ فإن مقامهم بالمدينة كان أفضل من مقامهم بمكة لأجل الهجرة والجهاد بل ذلك كان واجب عليهم، وكان مقامهم بمكة حراما حتى بعد الفتح، وإنما رخص للمهاجر أن يقيم فيها ثلاثا. 32- كما في "الصحيحين"1 عن العلاء بن الحضرمي أن النبي صلى الله عليه وسلم أرخص للمهاجر أن يقيم بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثا. 33- وكان المهاجرون يكرهون أن يكونوا [مقيمين بدار، هاجروا منها وتركوها] 2؛ لكونهم هاجروا عنها، وتركوها لله.
34- حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه1؛ لما عاد سعد بن أبي وقاص، وكان قد مرض بمكة في حجة الوداع فقال يا رسول [الله] 2 أخلف عن هجرتي؟ فقال: "لعلك أن تخلف حتى ينتفع بك أقوام، ويضر بك آخرون، اللهم أمض لأصحابي هجرتهم، ولا تردهم على أعقابهم، لكن البائس سعد بن خولة"، يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مات بمكة. 35- ولهذا لما مات عبد الله بن عمر بمكة أوصى أن لا يدفن في الحرم3 بل يخرج إلى الحل لأجل ذلك لكنه كان يوما شديد الحر فخالفوا وصيته4 وكان قد توفي عام قدم الحجاج فحاضر ابن الزبير وقتله لما كان للناظرين من الفتنة بينه وبين عبد الملك بن مروان.
ومن الأدلة على استحباب المجاورة 36- قالوا: ولأن في المجاورة بها من تحصيل العبادات وتضعيفها ما لا يكون في بلد آخر؛ فإن الطواف بالبيت لا يمكن إلا بمكة وهو من أفضل الأعمال، ولآن الصلاة بها تضاعف هي وغيرها من الأعمال. 37- وقد قال تعالى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} (الحج: من الآية26) . 38- روي: "أنه ينزل على البيت في كل يوم مائة وعشرون رحمة ستون للطائفين وأربعون للمصلين [وعشرون للناظرين] "1. 39- ولهذا قال العلماء: إن الصلاة بمكة أفضل من الصلاة بالثغر مع قولهم: إن المرابطة بالثغر أفضل وتضاعف السيئات فيه وإذا كان المكان دواعي الخير فيه أقوى، ودواعي الشر فيه أضعف كان المقام فيه [أفضل] 2 مما ليس كذلك.
40- ولا نزاع بين المسلمين في أنه يشرع قصدها لأجل العبادات المشروعة فيها وإن ذلك واجب أو مستحب. 41- وأما النزاع في المجاورة؛ فلما فيه من تعارض للمصلحة والمفسدة كما تقدم1. 42- وحينئذ فمن كانت مجاورته فيما يكثر حسناته ويقل سيئاته فمجاورته فيها أفضل من بلد لا يكون حاله فيه كذلك. أفضل البلد في حق كل شخص فأفضل البلاد في حق كل شخص: حيث كان أبر وأتقى، وإن أكرم الخلق عند الله أتقاهم. 43- ولهذا لما كتب أبو الدرداء إلى سلمان الفارسي، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد آخا بينهما، وكان أبو الدرداء بالشام وسلمان بالعراق فكتب إليه أبو الدرداء: "أن هلم إلى الأرض المقدسة" فكتب إليه سلمان: "إن الأرض لا تقدس أحدا؛ وإنما يقدس الرجل عمله الصالح2".
44- ومقصوده بذلك: أنه قد يكون بالأرض المفضولة من يكون عمله صالحا أو أصلح بما يحبه الله ورسوله1.
الأدلة على أن جنس المرابطة أفضل من جنس المجاورة
الأدلة على أن جنس المرابطة أفضل من جنس المجاورة وهذا مما يبين أن جنس المرابطة أفضل من جنس المجاورة بالحرمين كما اتفق عليه الأئمة. 45- فإذا كانت نية العبد في هذا خالصة، ونيته في هذا خالصة ولم يكن ثمة عمل مفضل، يفضل به أحدهما، فالمرابطة أفضل؛ فإنها من جنس الجهاد، وتلك من جنس الحج وجنس الجهاد أفضل من جنس الحج2. 46- ولهذا قال أبو هريرة: "لأن أرابط ليلة في سبيل الله أحب إلي من أن أقوم ليلة القدر عند الحجر الأسود"3.
47- وفي لفظ رواه سعيد بن منصور في "سننه" عن عطاء الخراساني عن أبي هريرة قال: "رباط يوم في سبيل الله أحب إلي من أقوم ليلة القدر في أحد المسجدين – مسجد الحرام ومسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم - ومن رابط أربعين يوما في سبيل الله فقد استكمل الرباط"1. 48- وقد قال تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ} (التوبة:19-21) . 49- وفي "صحيح مسلم"2 عن النعمان قال: كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رجل: لا أبالي ألا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج. وقال آخر: إلا أن أعمر المسجد الحرام. وقال آخر: الجهاد في سبيل الله أفضل مما
قلتم فزجرهم عمر بن الخطاب، وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يوم الجمعة، ولكن إذا صليت الجمعة دخلت فاستفتيته فيما اختلفتم فيه فأنزل الله {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الآية (التوبة:19) . 50- وعن عثمان بن عفان قال، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " [رباط] 1 يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه". رواه الإمام أحمد، والنسائي وهذا لفظه، والترمذي وقال: "حديث حسن غريب من هذا الوجه"، وأبو حاتم بن حبان البستي في "صحيحه"2. 51- ولفظ الإمام أحمد3: عن أبي صالح مولى عثمان بن عفان قال سمعت عثمان يقول على المنبر: أيها الناس! إني كتمتكم حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كراهية تفرقكم
عني، ثم بدا لي أن أحدثكموه، ليختار امرؤ لنفسه ما بدا له سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "رباط يوم في سبيل اله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل". 52- فقد بين لهم عثمان هذا الحديث مع كونهم كانوا مقيمين عنده بالمدينة النبوية؛ مقيمين في المسجد الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلاة في مسجدي هذه خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام" 1. فضل الجهاد على الصيام والقيام والصلاة 53- ودل ذلك على: أن تضعيف الصلاة لا يقاوم تضعيف اليوم الذي يعم جميع الأعمال؛ فإن الجهاد يقاوم ما لا يمكن المداومة عليه من الصيام والقيام. 54- كما في "الصحيحين"2 عن أبي هريرة قال، قيل: يا رسول الله! ما يعدل الجهاد في سبيل الله؟ قال: "لا تستطيعون" قال: فأعادوا عليه مرتين. قلت: كل ذلك يقول: "لا تستطيعون".
قال في الثالثة: "مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله لا يفتر عن صيام ولا صلاة حتى يرجع المجاهد في سبيل الله" هذا لفظ"مسلم". ولفظ "البخاري"1: جاء رجل إل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: دلني على عمل يعدل الجهاد؟ قال: لا أجد. قال: هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك فتقوم لا تفتر، وتصوم لا تفطر؟ قال: ومن يستطيعه ذلك؟ قال أبو هريرة: إن فرس المجاهد ليستن في طوله فيكتب له حسنات. 55- وفي "الصحيحين"2 عن أبي سعيد الخدري أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أي الناس أفضل؟
فقال: "رجل مجاهد في سبيل الله بماله ونفسه". قال: ثم من؟ قال: "رجل معتزل في شعب من الشعاب يعبد ربه، ويدع الناس من شره" ولفظ مسلم "مسلم." 56- ودرجات النصوص الصحيحة الصريحة بفضل الجهاد على الحج 57- كما في "الصحيحين"1 عن أبي هريرة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل؟ قال: "إيمان بالله ورسوله". قيل: ثم ماذا؟ قال: "الجهاد في سبيل الله". قيل: ثم ماذا؟ قال: "حج مبرور". 58- وفي "الصحيحين"2 أيضا، عن أبي ذر قال: قلت يا رسول الله أي الأعمال أفضل؟
قال: "الإيمان بالله، والجهاد في سبيله". 59- فهذا موافق ما دل عليه القرآن بمن يفضل الجهاد على الحج. 60- وقد روي: "غزوة لا قتال فيها أفضل من سبعين حجة" 1. دليل آخر على فضل الجهاد على الحج 61- وهذا لا يتناقض ما في "الصحيحين"2 عن ابن مسعود قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل؟ قال: "الصلاة لوقتها". قلت: ثم أي؟ قال: "بر الوالدين". قلت: ثم أي العمل أفضل؟ قال: "الجهاد في سبيل الله". حدثني بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو استزته لزادني. فإن هذا الحديث أيضا يدل على فضل الجهاد على الحج وغيره. 62- وأما الصلاة فإنها قد تدخل في مسمى الإيمان. كما في قوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} (البقرة: من الآية143) .
63- قال البراء بن عازب وغيره: "صلاتكم إلى بيت المقدس"1. النصوص في حكم تارك الصلاة 64- إذ هي بمنزلة الشهادتين في أنها لا تسقط بحال، ولا ينوب فيها أحد عن أحد، ويدخل بها2 في الإيمان، وقد جاءت النصوص بإطلاق الكفر على تاركها. 65- ثم في "صحيح مسلم"3 عن جاب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس بين العبد والكفر والشرك إلا ترك الصلاة". 66- وفي "السنن" عن بريدة بن حصيب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر". رواه الإمام أحمد وابن ماجه والترمذي والنسائي4، وقال: "حديث حسن صحيح غريب". 67- وفي الترمذي 5 عن عبد الله بن شفيق قال: "كان أصحاب
محمد لا يعدون شيئا من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة". 68- وفي "البخاري"1 أن عمر بن الخطاب لما طعن وغمي عليه، قيل: الصلاة؟! فقال: "نعم، ولا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة". أطلق الكفر على جاحد الصلاة2. 69- وعن غير واحد من الصحابة والتابعين أنهم ذكروا أن من ترك الصلاة فقد كفر3. 70- فهذه الخاصية4 التي للصلاة تقتضي أن تدخل في قوله: "إيمان بالله، وجهاد في سبيله، ثم حج مبرور". اقتران بر الوالدين بحق الله 71- وكذلك "بر الوالدين" قد قرن حقهما بحق الله. 72- في مثل قوله: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} (لقمان: من الآية14) . 73- وفي قوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} (الإسراء: 23) .
74- وكما في "الصحيحين"1 الحديث: " كفر بالله تبرؤ من نسب وإن دق ومن ادعى لغير أبيه فقد كف، ولا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم". 75- وإن كذلك فيمكن أن يقال: هذا دخل في مسمى الإيمان أيضا، أو يقال "بر الوالدين" إنما يجب على من له والدان فذكرهما في حديث ابن مسعود؛ لأن ابن مسعود كان له والدة؛ فكان ذلك حكم من حاله كحاله. وأما حيث لم يذكرهما فذكر ما يعم من الأعمال؛ فيدخل فيه من ليس له أبوان، ثم الجهاد إذا صار فرض عين كان أوكد من مطلق "بر الوالدين" فيجاهد في هذه الحال بدون إذنهما وإن كان عليه أن يقوم بما يجب عليه من برهما المتعين عليه وإن كان لا يجاهد إذا لم يتعين عليه إلا بإذنهما.
ماذا يفعل إذا تعارضت الصلاة والجهاد المتعين؟ 76- وأما الصلاة: فإذا تعارضت هي والجهاد المتعين؛ فإنه يفعل كلاهما بحسب الإمكان، كما في حالة الخوف الخفيف والخوف الشديد. 77- قال تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً} (البقرة:238) . 78- قال تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا..} إلى قوله: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} (النساء:101-103) . 79- فقد أمر الله بالجمع بين الواجبين – الصلاة والجهاد – لكنه خفف الصلاة في الخوف من صلاة الأمن؛ بإسقاط أمور تجب
في الأمن، وإباحة أفعال لا تفعل1 في الأمن. 80- و"صلاة الخوف" قد استفاضت بها السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم وذكرها الأئمة كلهم، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلاها على وجوه متعددة2. أقوال الفقهاء في صلاة الخوف حال المسايفة 81- وأما حال المسايفة3 فللفقهاء ثلاثة أقوال: أحدها: وهو قول الجمهور، أنهم يصلون بحسب حالهم مع المقابلة؛ وهذا مذهب الشافعي وغيره وظاهر ذهب أحمد. والثاني: أنهم يؤخرون الصلاة؛ وهو قول أبي حنيفة. والثالث: أنهم يخيرون بين الأمرين وهو أحد الروايتين عن أحمد. 82- وقوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً} (البقرة:238) . مع ما قد ثبت في الصحيح4 عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال عام الخندق: "شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر حتى غربت الشمس ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارا"؛ قد احتج به وبغيره على
أن تأخير الصلاة في حال الخوف منسوخ بهذه الآية1. 83- وأجابوا بذلك عما احتج به من جوز الأمرين؛ من قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه2 عن ابن عمر أنه قال: "لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة" فصلى قوم في الطريق وقالوا: لم يرد منا تفويت الصلاة، وأخر قوم الصلاة حتى وصلوا إلى بني قريظة، وقد فاتتهم الصلاة، فلم يعنف النبي صلى الله عليه وسلم واحدة من الطائفتين. 84- فهذا الحديث حجة في جواز الأمرين لكن قال أولئك [أنه] 3 منسوخ بالآية.
85- فقد تبين: أن لصلاة لما كانت أوكد من الجهاد؛ فإنه عند مزاحمة الجهاد لها أخفت1 حتى لا يفوت مصلحة الجهاد2. 86- وهذا أيضا كـ"الحج" وإن كان دون الصلاة باتفاق المسلمين. مسألة فيما ازدحم وقت الحج 87- فإذا تضيق وقته وازدحم هو والمقصود، مثل أن يكون ليلة النحر وهي ليلة عرفة ذاهبا إلى عرفة؛ فإن صلى صلاة مستقر فإنه الوقوف، وإن سار ليدك عرفة قبل طلوع الفجر فاتته الصلاة. 88- فللفقهاء ثلاثة أقوال: قيل: تقديم الوقوف؛ لأن عليه من تفويت الحج ضررا عظيما. وقيل: بل تقدم الصلاة لأنها أوكد. وقيل: بل يأتي بهما جميعا، فيصلي بحسب الإمكان صلاة لا تفوته الوقوف. وهذا أعدل الأقوال، وهو3 قول طائفة من أصحاب أحمد والشافعي وغيرهما. صلاة الخائف المطلوب 89- والعلماء متفقون على" أن الخائف المطلوب يصلي صلاة خائف.
صلاة الطالب 90- فأما الطالب فتنازعوا فيه، وفيه عن أحمد روايتان: إحداهما: أنه يصلي أيضا صلاة الخوف. 91- كما جاء في الحديث الذي رواه "أهل السنن"1 كأبي داود عن عبد الله بن أنيس قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خالد بن سفيان الهذلي، وكان نحو عرنة وعرفات، فقال: اذهب فاقتله. قال: فرأيته وحضرت صلاة العصر فقلت: إني أخاف أن يكون بيني وبينه ما إن أؤخر الصلاة. فانطلقت أمشي وأنا أصلي وأومئ بما نحوه. فلما دنوت منه قال لي: من أنت؟ قلت: رجل من العرب بلغني أنك تجمع لهذا الرجل، فجئتك في ذاك. قال: إني لفي ذاك. فمشيت معه ساعة، حتى إذا أمكنني علوته بسيفي حتى برد. 92- ومن قال هذا القول راعى أن مصلحة الجهاد مأمور بها أيضا فلا يمكن تفويت إحداهما، وإن لم يكن من تفويت
الجهاد في هذا الوقت مفسدة ظاهرة كما أنه ليس في تأخير الصلاة مفسدة ظاهرة. 93- ولو كان تكميل الصلاة مقدما على الجهاد لكان ينبغي أن يترك الجهاد إذا علم أنه لا بد فيه من تحقيق الصلاة. قصر العدد وقصر العمل 94- فلما ثبت في السنة المتواتر أن الجهاد يفضل مع العلم بأنه يقصر فيه الصلاة بقصر العمل الذي هو قصر العدد فإن قصر العدد سنة السفر، وأما قصر العمل فسنة الخوف1. 95- ولهذا إذا اجتمع الأمران شرع القصر المطلق كما في قوله: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} (النساء: 101) . 96- والآية على ظاهرها؛ فإن القصر المطلق المتضمن لقصر العدد وقصر العمل، إنما يكون مع الأمرين.
97- وقد بينت السنة: أن مجرد الخوف يفيد قصر العمل ومجرد السفر يفيد قصر العدد. 98- فهذا كله مما يبين أن الصلاة وإن كانت أفضل الأعمال فإنها إذا اجتمعت مع الجهاد لم يترك واحد منهما بل يصلي بحسب الإمكان مع تحصيل مصلحة الجهاد بحسب الإمكان. 99- وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (لأنفال:45) . فأمر بالثبات والذكر معا. 100- وكانت السنة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه وأصحابه وخلفاء بني أمية وكثير من خلفاء بني العباس: أن أمير الحرب هو أمير الصلاة في المقام والسفر جميعا. الحكمة في كونه صلى الله عليه وسلم والمهاجرين كان مقامهم بالمدينة 101- وما ذكرناه يبين بعض حكمة كون النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرين كان مقامهم بالمدينة أفضل على أحد قولي العلماء؛ فإنهم كانوا بها مهاجرين مجاهدين مرابطين بخلاف مكة. 102- وهذا حيث كان الإنسان كذلك كان أفضل من المقام بالحرمين، حتى إن مالكا رضي الله عنه – مع فرط تعظيمه المدينة وتفضيله لها على مكة وكراهية الانتقال منها – لما سئل
عمن بدار1 وهو مقيم بالمدينة يأتي الثغور كالإسكندرية وغيره. أجاب: بأن عليه أن يأتي الثغور؛ لأن المرابطة بالثغور أفضل من مقامة بالمدينة. ما زال الصحابة والتابعين وتابعيهم يتناوبون الثغور 103- وما زال خيار المسلمين من الصحابة والتابعين وتابعيهم من بعدهم من الأمراء والمشايخ يتناوبون الثغور لأجل الرباط وكان هذا على عهد أبي بكر وعثمان أكثر، حتى كان عبد الله بن2 وغيره مرابطين. 104- وكان عمر من يسأله عن أفضل الأعمال إنما يدله على الرباط والجهاد، كما سأله عن ذلك من سأله، كالحارث بن هشام وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية وسهيل بن عمرو وأمثالهم ثم كان بعد هؤلاء إلى خلافة بني أمية وبني العباس ولهذا يذكر من فضائلهم وأخبارهم في الرباط أمور كثيرة.
طريقتين للسلف فى الرباط
طريقتين للسلف في الرباط 105- إحداهما: أن يرابط كل قوم بأقرب الثغور إليهم، ويقاتلون من يليهم كقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} (التوبة: 123) .
107- وهذا اختيار أكثر العلماء كالإمام أحمد وغيره، ولهذا كان أصحاب مالك كابن القاسم نحوه يرابط بالثغور المصرية. الطريقة الثانية في الرباط 108- والطريقة الثانية1: يجوزون الرباط بثغور الشام ونحوها بما فيها قتال النصارى. 109- فكان عبد الله بن المبارك يقدم من خرسان فيرابط بثغور الشام، وكذلك ابراهيم ابن أدهم ونحوهما، كما كان يرابط بها ومشايخ الشام كالأوزاعي وحذيفة المرغشي ويوسف بن أسباط وأبي اسحاق الفزاري ومخلد بن الحسين وأمثالهم2. 110- وكان المسلمون قد فتحوا قبرص في خلافة عثمان وبقيت تحت حكمهم أكثر من ثلاثمائة سنة. 111- وكانت "سيس" ثغر المسلمين، و"طرسوس" كانت من أسماء الثغور، ولهذا تذكر في كتب الفقه وتولى قضائها أبو عبيد الأمام وصالح بن أحمد بن حنبل وغيرهما3.
112- وكان ابن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهم يقولون: "إذا اختلف الناس في شيء فانظروا ما عليه أهل الثغر، فإن الحق معهم؛ لأن الله تعالى يقول: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} (العنكبوت: من الآية69) "1. السكن بالثغور والرباط من أعظم الأمور 113- وبالجملة: أن السكن بالثغور والرباط والاعتناء به أمر عظيم وكانت الثغور معمورة بالمسلمين علما وعملا وأعظم البلاد إقامة بشعائر الإسلام وحقائق الإيمان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان كل من أحب التبتل للعبادة والانقطاع إلى الله وكمال الزهد والعبادة والمعرفة يدلونه على الثغور. سبب اختيارهم الرباط بثغور النصارى 114- وإنما اختار من اختار الرباط بثغور النصارى الحديث الذي في "سنن أبي داود"2 عن ثابت بن قيس قال: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقال لها أم خلاد وهي منتقبة تسأل عن ابنها
وهو مقتول، فقال لها بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم جئت تسألين عن ابنك وأنت منتقبة. فقالت.1: إن أرزء ابني فلن أرزء حيائي2، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ابنك له أجر شهيدين".قالت: ولما ذاك؟ قال: "لأنه قتله أهل الكتاب. فضيلة سكنى الشام 115- وهذا بعض [من الأخبار] 3 تبين فضيلة سكنى "الشام"، فإن أهل الشام ما زالوا مرابطين من أول الإسلام لمجاورتهم النصارى ومجاهدتهم لهم، فكانوا مرابطين مجاهدين لأهل الكتاب. 116- ولهذا فضل النبي صلى الله عليه وسلم جندهم على جند "اليمن" و"العراق" مع ما قاله في أهل اليمن4. 117 ففي "سنن أبي داود"5 وغيره، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"إنكم ستجندون أجنادا جندا بالشام وجندا باليمن وجندا بالعراق " قال فقلت يا رسول الله: خر لي؟. فقال: "عليك بالشام فإنها خيرة الله من أرضه يجتبي إليها خيرته من عباده، فمن أبى فليلحق بيمنه وليسق من غدره1 فإن الله قد تكفل لي بالشام وأهله". قال الحوالي: ومن يتكفل الله به فلا ضيعة عليه. 118- وفي "سنن أبي داود"2 أيضا عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنه ستكون هجرة بعد هجرة فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم، ويبقى في الأرض شرار أهلها تلفظهم أرضوهم، تقذرهم3 نفس الرحمن، وتحشرهم النار مع القردة والخنازير".
أهل الغرب هم أهل الشام 119- وفي" صحيح مسلم"1 عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يزال أهل الغرب ظاهرين [على الحق حتى تقوم الساعة] ". أهل الغرب هم أهل الشام 120- قال الإمام أحمد:" أهل الغرب هم أهل الشام"2. 121- يعني: ومن يغرب عنهم، فإن التغريب والتشريق من الأمور النسبية، والنبي صلى الله عليه وسلم تكلم بذلك وهو بالمدينة النبوية فما تغرب عنها فهو غرب المدينة كما أن"حران" و"الرمة" ونحوهما خلف مكة. 122-والكلام في هذا ونحوه يطول ويتعذر بحيث لا تحتمله هذه
الفتوى1 لكن هذه الأمور المتيسرة تعود إلى أفضل الأحوال الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيله كما ثبت ذلك بالنصوص. 123- وقد قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (الحجرات:15) الجهاد يعني تحقيق كون المؤمن مؤمنا 124- فالجهاد: تحقيق كون المؤمن مؤمنا؛ لهذا روى مسلم في "صحيحه"2 عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من مات ولم يغزو لم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من نفاق". 125- وذلك أن الجهاد فرض على الكفاية، فيخاطب به جميع المؤمنين عموما، ثم إذا قام به بعضهم سقط عن الباقين. ولا بد لكل مؤمن من أن يعتقد أنه مأمور به، وأن يعتقد وجوبه وأن يعزم عليه إذا احتيج إليه، وهذا يتضمن تحديث نفسه بفعله فمن مات ولم يغزو أو لم يحدث نفسه بالغزو نقص من إيمانه الواجب عليه بقدر ذلك؛ فمات على شعبة نفاق. 126- فإن قيل: فإذا كان الجهاد أفضل من الحج بالكتاب والسنة
فما معنى الحديث الذي روته عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: يا رسول الله: لا أرى الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد؟ قال: "لكن أفضل الجهاد: حج مبرور" رواه البخاري1. الحج جهاد النساء 127- ورواه النسائي2 وفيه: ألا نخرج نجاهد معك فإني لا أرى عملا أفضل من الجهاد3. قال: لا، ولكن أحسن الجهاد وأجمله4 حج البيت حج مبرور". 128- وقيل:"وأفضل الجهاد للنساء حج مبرور". 129- فأخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن أفضل الجهاد للنساء حج مبرور. 130- وكذلك جاء مبينا، رواه النسائي عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " جهاد الكبير والصغير والضعيف والمرأة: الحج والعمرة". 131- وفي حديث آخر: " الحج جهاد كل ضعيف" 5.
132- وفي حديث آخر: هل على النساء جهاد؟ قال: " جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة" 1. 133- سياق الحديث المتقدم بين ذلك فإنها قالت: نرى الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد معك؟ قال: " لكن أفضل الجهاد: حج مبرور". فقد أقرها على قولها:" نرى الجهاد أفضل العمل"، ثم ذكر أن" أفضل الجهاد الحج المبرور". 134- وفي اللفظ الآخر2: ألا نخرج فنجاهد معك فإني لا أرى عملا في القرآن أفضل من الجهاد؟ قال: "لكن أحسن الجهاد وأجمله حج مبرور". فأقرها على قولها بفضل الجهاد، ثم لما استأذنته في الحج المعروف قال: "لا، ولكن أحسن الجهاد وأجمله حج البيت" وجعل فضله بكونه جهادا، ومعلوم بالحس أن الجهاد لا يقاوم الجهاد في الكفار والمنافقين، فعلم أنه أراد جهاد النساء - واللام للتعريف - ينصرف إلى ما يعرفه المخاطب.
135- ومقصود الناقل هنا: الجهاد الذي هو أفضل العمل له عند الله، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الجهاد الذي هو مقصوده ومطلوبه هو الحج، فإن السائل ضعيف، والحج جهاد كل ضعيف. 136- وفي "صحيح مسلم"1 عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا لكان كذا ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان".
فضائل الرباط فى السنة
فضائل الرباط في السنة. 137- وقد جاء في فضائل الرباط أحاديث في "الصحاح" و"السنن" تبين ما ذكرناه: حديث سهل بن سعد. 138- فروى البخاري في"صحيحه"2 عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها"
حديث سلمان الفارسي. 139- وفي "صحيح مسلم"1 عن سلمان الفارسي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله وأجري عليه رزقه وأمن العذاب".
حديث فضالة بن عبيد 140- وفي "السنن"1 عن فضالة بن عبيد قال، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما من ميت يموت إلا ختم له عمله إلى يوم القيامة، ويؤمن من فتنة القبر" رواه أحمد وأبو داود وهذا لفضه والترمذي بمعناه. وزاد: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "المجاهد [من جاهد] نفسه في طاعة الله" قال الترمذي:"حسن صحيح". حديث عثمان بن عفان. 141- وقد تقدم2 حديث عثمان: " رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فينا سواه من المنازل". 142-وقد جاء عن السلف آثار3 فيها ذكر الثغور مثل "غزة" و"عسقلان" أو "الاسكندرية" و"قزوين" ونحو ذلك. 143- وأما الأحاديث المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم بتعيين "قزوين" و"الاسكندرية" ونحو ذلك فهي موضوعة4، كذب بلا
ريب عند علماء الحديث، وإن كان ابن ماجه قد روى في "سننه"1 الحديث الذي في فضل"قزوين"، وقد أنكر عليه العلماء ذلك كما أنكروا عليه رواية أحاديث أخرى بضعة عشر حديثا من الموضوعات، ولهذا نقصت مرتبة كتابة عندهم عن مرتبة أبي داود والنسائي. 144- وقد قدمنا2 كون البلد ثغرا صفة عارضة أو لازمة، فلا يمكن فيه مدح مؤبد، ولا ذم مؤبد، إلا إذا علم أنه لا يزال على تلك الصفة.
145- وإذا تبين ما في الرباط من الفضل، فمن الضلال ما تجد عليه أقواما ممن غرضه التقرب إلى الله والعبادة له بما يحبه ويرضاه يكون في الشام أو ما يقاربها فيسافر السفر الذي لا يشرع بل يكره ويترك ما هو مأمور به واجب أو مستحب.
الأدلة على من يقصد البيت المقدس للتعريف فى وقت الحج
الأدلة على من يقصد البيت المقدس للتعريف فى وقت الحج الوجه الأول ... الأدلة على ضلال من يقصد بيت المقدس للتعريف في وقت الحج. 146- مثال ذلك: أن قوما يقصدون التعريف بالبيت المقدس فيقصدون زيارته في وقت الحج ليعرفوا به، ويدعوا المقام بالثغور التي تقاربه، وهذا في الضلال والجهل والحرمان من وجوه: 147- أحدها: أن التعريف بالبيت المقدس ليس مشروعا لا واجبا ولا مستحبا بإجماع المسلمين، ومن اعتقد السفر إليه للتعريف قربة فهو ضال باتفاق المسلمين بل يستتاب فإن تاب وإلا قتل إذ ليس السفر مشروعا للتعريف إلا للتعريف بعرفات. 148- وأقبح من ذلك تعريف أقوام عند بعض قبور المشايخ والأنبياء وغير ذلك من المشاهد أو السفر كذلك. فهذا من أعظم المنكرات باتفاق المسلمين. 149- بل تنازع السلف في تعريف الإنسان في مصره من غير سفر مثل أن يذهب عشية عرفة إلى مسجد بلده فيدعو الله ويذكره. -فكره ذلك طوائف، منهم أبو حنيفة ومالك وغيرهما.
- وخص فيه آخرون، منهم الإمام أحمد. قال: لأن فعله ابن عباس بالبصرة وعمرو بن حرب بالكوفة. 150- ومع هذا فلم يستحبه أحمد وكان هو نفسه لا يعرف ولا ينهى من عرف. وقد قيل عنه: أنه يستحب. حكم السفر للتعريف بغير عرفة. 151- وأما السفر للتعريف بغير عرفة: فلا نزاع بين المسلمين [أنه] من الضلالات لا سينا إذا كان بمشهد مثل قربى أو رجل صالح أو بعض أهل البيت، فإن السفر إلى ذلك لغير التعريف منهي عنه عند العلماء من الأئمة وأتباعهم. 152- كما قال صلى الله عليه وسلم: "لا تشد الر حال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا" 1. 153- وقد رأى بصرة بن أبي بصرة الغفاري أبا هريرة راجعا من زيارة الطور فقال:" لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا"2.
حكم زيارة المشاهد وهل يقصر في سفره الصلاة؟ 154-[وقد] 1 قال من قال من هؤلاء كأبي الوفاء بن عقيل وغيره: إن المسافر لمجرد الزيارة لبعض المشاهد لا يقصر الصلاة لأنه ليس عاص بسفره، وإنما رخص في هذا السفر طائفة من المتأخرين2 ولكن الزيارة المشروعة إذا اجتاز الرجل بالقبر أو خرج إلى ما يجاوره من القبور كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج إلى البقيع وكما زار قبر أمه لما اجتاز بها في غزوة الفتح. 155- وقد ثبت عنه في الصحيح3 أنه قال: " استأذنت ربي أن أزور قبر أمي، فأذن لي، واستأذنته في أن أستغفر لها، فلم يأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة".
156- وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقول أحدهم: " السلام عليكم أهل دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين نسأل لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم" 1. 157- وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه قال:" ما من رجل يمر بقبر الرجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام"2. الزيارة المشروعة للمسلم للقبور. 158- والزيارة المشروعة للمسلم: أن يسلم عليه ويدعو له كما أن الصلاة مقصودها الدعاء له. 159- ولهذا نهى الله نبيه صلى الله عليه وسلم عن الأمرين في حق المنافقين.
160- كما قال تعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} (التوبة: 84) . 161- ونهى نبيه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة على المنافقين والقيام على قبورهم، فكان في ذلك دلالة على أن المؤمنين يصلى عليهم ويقام على قبورهم. المقصود من زيارة القبور. 162- وقد قال طوائف من السلف والخلف وهو القيام على قبورهم بالدعاء والاستغفار1. 163- فزيارة قبر المؤمن من نبي وغيره مقصودها التحية والدعاء له فأما اتخاذ القبور مساجد والإشراك بها: فذلك كله حرام بإجماع المسلمين. الأحاديث في التحذير من اتخاذ القبور مساجد. 164- كما في"الصحيحين"2 عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في مرضه الذي مات فيه: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"، يحذر ما صنعوا. قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجدا.
165- وفي"صحيح مسلم"1 أنه قال قبل أن يموت بخمس: "إني أبرأ إلى الله يكون لي منكم خليل، ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم عن ذلك". أمور غير مشروعة عند القبور. 166- وفي" السنن"2 عنه أنه قال: "لعن الله زوارات القبور والمتخذين عليها مساجد والسرج". 167- وقد اتفق أئمة المسلمين على: أنه لا تشرع: - الصلاة عند القبور، وقصدها لأجل الدعاء عندها. - ولا التمسح بها وتقبيلها، سواء في ذلك قبور الأنبياء وغيرهم3.بل ليس تحت أديم السماء ما يشرع التمسح به وتقبيله إلا الحجر الأسود والركن اليماني يستحب التمسح [بهما] .
ما يشرع مسحه وما لا يشرع. 168- وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعون، فلم يمسحوا إلا الركنين اليمانيين، ولم يمسحوا سائر جوانب البيت ولا مقام إبراهيم الذي هناك، فكيف بمقام إبراهيم في تلك البقعة ومقام غيره من الأنبياء والصالحين. 169- وقد قال الله في كتابه: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} (نوح:23) 170- قال طوائف من الصحابة والتابعين: "هؤلاء كانوا قوما صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم لما طال عليهم الأمد صوروا صورهم، وكان ذلك مبدأ عبادة الأوثان"1. 171- ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم ما رواه مالك في "الموطأ"2: "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد".
- وفي "السنن"1 عنه أنه قال: "لا تتخذوا قبري عيدا". استبدال السيئات بالحسنات 173- فالسفر للتعريف ببعض المشاهد حرام فيكون بمنزله لحم الخنزير، وأما السفر للتعريف ببيت المقدس مثلا، والسفر لزيارة بعض القبور أو البقاع غير المساجد الثلاثة فهو أيضا منهي عنه، وإن كان وجد في ذلك لمن عهد إلى هذه البدع التي فيها من الشرك ما فيها، فتعبد بها وأقام بها وقصد ما يقصده من البقاع لأجلها وترك أن يقصد من البقعة أو ما هو قريب منها لأجل الرباط في سبيل الله الذي هو من أفضل الأعمال بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين – أليس هو ممن استبدل السيئات بالحسنات؟!!
الوجه الثانى من الأدلة
الوجه الثاني من الأدلة: 174- الوجه الثاني: أنه لو قدر أنه قصد بعض هذه البقاع قصدا مشروعا مثل السفر إلى بيت المقدس على الوجه المشروع للصلاة فيه والاعتكاف فيه، فإن هذا عمل صالح باتفاق المسلمين، وإن كان قد دخل فيه بدع كثيرة مثل البدع التي
تفعل هنا من السماع للمكاء والتصدية في النصف1 وعشر ذي الحجة ونحو ذلك مثل استلام بعض ما هناك من الأحجار فإنه لا يشرع أن يستلم أحد قط إلا الركنين اليمانيين للبيت العتيق ومثل اعتقادهم أن ذلك القدم المصنوع قدم النبي صلى الله عليه وسلم وظن أهل الجهل منهم أنه قدم الله وأشباه هذه الجهالات2. 175- فالزيارة إذا سلمت عن هذه البدع وغيرها كانت شرعية والسفر إلى الثغور للرباط أفضل منها، والعدول3 عن الفاضل إلى المفضول مع استوائهما غير محمود.
الوجه الثالث من الأدلة
الوجه الثالث من الأدلة 176- الوجه الثالث: أن من الناس من يقصد المجاورة ببيت المقدس ويدع المجاورة بالثغر الذي هو قريب منه!! وهذا الباب من أفضل الأفضل وأجلها وهو فرض على الكفاية ومعلوم أن هذا أعظم خسرانا، وأشد حرمانا، وأبعد عن اتباع الشريعة؛ فإن المجاورة بالحرمين قد يتعسر عليه ذلك دون المرابطة لاختلاف المكانين. 177- أما مع تفاوت المكانين فالعدول عن هذه إلى هذا؛ يعني لا
يصدر إلا من جهل أو من ضعف إيمان اللهم إذ نذر هذا فيكون هذا معذور. وأما الكلام فيمن يقدر على الأمرين. 178- ولهذا [لما] 1 كان أهل البدع مهملين أمر الجهاد معظمين للزيارة، استولى الكفار على كثير من الثغور، حتى قتل ببيت المقدس وقتلوا فيه من المجاورين من شاء الله، وكان قد جرت فيه بدع كثيرة. 179- ومن ذلك: من يقصد بعض هذه البقاع إما جبل لبنان وإما غيره لزيارته لظنه أن فيه الصالحين من الأبدال وغيرهم ويدع أن يقصد للرباط في سبيل الله، فإن هذا أيضا من الضلال العظيم، وأصل السفر إلى الزيارة غير مشروع ولا مأمور به بل هو من البدع والضلال. 180- وكذلك السياحة لغير قصد معين ليس ذلك مشروعا لنا. معنى السياحة في الإسلام 181- قال الإمام أحمد: "ليست السياحة من أمر الإسلام في شيء ولا من فعل النبيين ولا الصالحين"2. 182- والسياحة المذكورة في القرآن ليست هذه السياحة؛ فإن الله
قد قال: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً} (التحريم:5) . تفسير السياحة بالصيام والجهاد 183- ومعلوم أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم ونساء المؤمنين لا يشرع لهن السياحة. ولكن قد فسرت السياحة بالصيام، وفسرت بالجهاد وكلاهما مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم. 184- أما الأول: فرواه عمرو بن دينار عن يحي بن جعدة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا1. 185- وأما الثاني: فقال أبو داود في "سننه"2: "باب النهي عن السياحة"؛ وروي فيه حديث العلاء بن الحارث عن
القاسم أبي عبد الرحمن، عن أبي أمامة أن رجلا قال: يا رسول الله ائذن لي بالسياحة؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله". 186- وكذلك أيضا روي: "رهبانية هذه الأمة: الجهاد في سبيل الله"1. لا رهبانية في الإسلام 187- إذ لا رهبانية في الإسلام، وأما ما ذكره في كتابه أن النص3ارى ابتدعوا الرهبانية فقد2 نهانا الله ورسوله عن البدع. 188- وثبت عنه في "صحيح مسلم"3 وغيره عن جابر، أنه كان يقول في خطبته: "إن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة". الأمر بالتباع والنهي عن الابتداع 189- وثبت عنه في "السنن"4 الحديث الذي صححه الترمذي
عن العرباض بن سارية وقال: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة فقال رجل: يا رسول الله كأن هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا؟ فقال: "أوصيكم بالسمع والطاعة فإن من يعش منكم سيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة". النهي عن الغلو في العبادات في السنة 190- فكيف لما نهى الله عنه ورسوله من العبادات المبتدعة كما في"الصحيحين"1- واللفظ لمسلم- عن أنس بن مالك أن نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن عمله في السر؟ فقال بعضهم: لا أتزوج النساء. وقال بعضهم: لا آكل اللحم. وقال بعضهم: لا أنام على فراش. فحمد الله وأثنى عليه فقال: " ما بال أقوام قالوا كذا وكذا لكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني".
191- ولفظ البخاري1: جاء ثلاثة رهط بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا كأنهم تقالوها! فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ فقال أحدهم أما أنا فإني أصلي الليل أبدا وقال الآخر: أنا أصوم الدهر أبدا وقال الآخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج. فجاء رسول الله [فقال] : " أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني". 192- وفي "صحيح البخاري" عن سعد بن أبي وقاص قال: رد رسول الله صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون التبتل، ولو أذن له لاختصينا. 193- وفي"صحيح البخاري"2 وغيره عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا قائما في الشمس فقال: ما هذا؟ فقالوا هذا
أبو إسرائيل، نذر أن يقوم في الشمس ولا يجلس، ولا يستظل وأن يصوم فقال:" مروه فليجلس، وليستظل وليتكلم وليتم صومه". حكم نذر المعصية. 194- فلما كان هذا الناذر نذر ما هو سنة وما هو بدعة أمره بالوفاء بالسنة دون البدعة كما في"صحيح البخاري"1 عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصيه". 195- وهذا متفق عليه بين أئمة الدين، لكن تنازعوا هل كفارة يمين أو نذر ما ليس مشروعا، بعد اتفاقهم على أنه لا يفعله؟ فقيل: لا شيء عليه، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وغيرهما لأنه ليس في هذا الحديث وغيره أنه أمر له بالتكفير. وقيل: بل عليه كفارة يمين، وهو ظاهر مذهب أحمد2. 196-لما ثبت في"صحيح مسلم"3، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" كفارة النذر كفارة اليمين".
197- وفي السنن1 عنه أنه قال: "لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين". النهي عن صيام الدهر 168- وقد ثبت في الصحيح2 عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أفضل الصيام صيام داود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه". 199- وقد استفاض عنه في الصحيح أنه نهى عن مداومة الصيام والقيام وقراءة القرآن في كل ثلاث3. 201- كما جاء في الحديث: "أحب الدين إلى [الله] الحنيفية السمحة" 4.
لن يشاد الدين أحدا إلا غلبه 202- وفي الصحيح1 عنه أنه قال: "إن هذا الدين متين وإنه لن يشاد الدين أحد إلا غلبه، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة، والقصد القصد تبلغوا". 203- وفي" الصحيحين"2 عنه أنه قال: " أكلفوا من العمل ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا". 204- وفي السنن3 عنه أنه قال: " لكل عامل شرة وفترة، فمن كانت فترته إلى سنة فقد اهتدى، ومن أخفاها فقد ضل".
205- وفي لفظ: " ولكل شرة فترة، فإن صاحبها سدد وقارب فارجوه، وإن أشير إليه بالأصابع فلا تعدوه". 206- فقيل: للحسن البصري لما روى هذا الحديث: إنك إذا مررت بالسوق فإن الناس يشيرون إليك؟ فقال:" لم يرد ذلك وإنما أراد المبتدع في دينه والفاجر في دنياه". الفترة نوعان. 207- وهو كما قال الحسن رضي الله عنه، فإن من الناس من يكون له شدة ونشاط وحدة واجتهاد عظيم في العبادة، ثم لابد من فتور في ذلك. 208- وهم في الفترة نوعان: 209- منهم: من يلزم السنة فلا يترك ما أمر به، ولا يفعل ما نهي عنه بل يلزم عبادة الله إلى الممات، كما قال تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} (الحجر:99) .يعني الموت 1. 210- قال الحسن البصري:" لم يجعل الله لعباده المؤمنين أجلا دون الموت"2.
211- ومنهم: من يخرج إلى بدعة في دينه أو فجور في دنياه حتى يشير إليه الناس، فيقال: هذا كان مجتهدا في الدين ثم صار كذا وكذا. 212- فهذا مما يخاف على من بدل عن العبادات الشرعية إلى الزيادات البدعية. 213- ولهذا قال أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود:" اقتصاد في سنة خير من اجتهاد في بدعة"1. 214- ومع هذا فجنس الجهاد أفضل، بل قد روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: مر رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بشعب فيه عيينة من ماء عذبة فأعجبته. فقال: لو اعتزلت الناس، فأقمت في هذا الشعب، ولن أفعل حتى أستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: "لا تفعل، فإن مقام أحدكم في سبيل الله أفضل من صلاته في بيته سبعين عاما، ألا تحبون أن يغفر الله لكم
ويدخلكم الجنة، اغزوا في سبيل الله من قاتل في سبيل الله فواق ناقة وجبت له الجنة". قال الترمذي:"حديث حسن صحيح"1. و"فواق الناقة":ما بين الحلبتين. شروط العمل. 215- وجماع الأمر: ما قاله الفضيل بن عياض في قوله: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} (الملك: 2) . قال:" أخلصه وأصوبه". قالوا: يا أبا علي: ما أخلصه وأصوبه؟ قال:" إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل. وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل، حتى يكون خالصا صوابا، والخالص: أن يكون لله، والصواب: أن يكون على السنة"2.
216- وهذا كما قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} (الكهف: من الآية110) . 217- وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول:" اللهم اجعل عملي كله صالحا، واجعله لوجهك خالصا، ولا تجعل لأحد فيه شيئا"1. تعريف العمل الصالح 218- والعمل الصالح: هو المشروع. وهو: طاعة الله ورسوله. وهو: فعل الحسنات التي يكون الرجل به محسنا2. 219- قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} (النساء:125) . 220- وقال: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة:112) .
لا بد في سائر الأعمال الشرعية من السنة 221- ولابد في الرباط والهجرة والجهاد وسائر الأعمال الشرعية من السنة التي هي روح العمل. 222- كما في"الصحيحين"1 عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه". 223- وفي"الصحيحين2 عنه أنه قيل له: يا رسول الله يقاتل الرجل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء فأي ذلك في سبيل الله؟ فقال: " من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله". 224- قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} (لأنفال:39) . 225- فالله تعالى يوفقنا وسائر إخواننا المؤمنين لما يحبه ويرضاه لنا من الأحوال والأعمال الباطنة والظاهرة ويجنبنا ما يكرهه لنا من ذلك كله.
226- وأعظم من ذلك: أ، يتشاغل المسلمون بقتال بعضهم بعضا كما يجري بين أهل الأهواء، من القبائل وغيرها كقيس ويمن وحرم وتعلب ولحم وجذام وغيرها، مع مجاورتهم للثغور، فيدعون الرباط والجهاد الذي هو سعادة الدنيا والآخرة- كما قال تعالى: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} (التوبة: من الآية52) . يعني: إما النصر والظفر، وإما الشهادة والجنة- ويشتغلون بقتال الفتن والأهواء الذي هو خسارة الدنيا والآخرة. 227- وفي"الصحيحين"1 عن أبي بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه [قال] : "إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار". فقيل يا رسول الله: هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصا على قتل صاحبه". 228- وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِك َ
يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (آل عمران:102-107) . 230- وهذه الفتيا لا تحتمل البسط في هذه الورقة، وإنما نبهنا على النكت الجامعة. الحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم وحسبنا الله ونعم الوكيل.