مسألة فى المرابطة بالثغور أفضل أم المجاورة بمكة شرفها الله تعالى

ابن تيمية

مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة التحقيق إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل الله ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. أما بعد: فهذا سفر جديد ومؤلف نفيس ينشر لأول مرة، للعلامة القرآني والمجاهد المرابط1 الرباني، شيخ الإسلام والمسلمين أبي العباس أحمد بن تيمية رحمه الله، نقدمه للمجاهدين الصابرين المرابطين في كل مكان من ثغور الإسلام لا سيما بيت المقدس، الذي يمر بوقت عصيب تكالبت فيه كل قوى الشر لمساعدة أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود في مؤامراتهم لإحكام السيطرة عليه ولهدم الأقصى وبناء الهيكل المزعوم!! وهذا هو سر مقولتهم المشهورة التي رددها أساطينهم في عصرنا2: "لا قيمة لإسرائيل بدون القدس ولا قيمة للقدس بدون الهيكل"!!

_ 1 راجع: في رباط شيخ الإسلام بالثغور "العقود الدرية" لابن عبد الهادي ص (290) . 2 قالها ابن جوريون ورددها من بعده مرارا بيجن وجولدا مائير..

ولا يزال العدوان مستمراً على القدس والأقصى الأسير، والمسلمون يغطون في سبات عميق!! فالأنفاق تحت أرض الأقصى تشق والحفريات تتواصل لتفريغ الأتربة والصخور من تحته ليكون على فراغ فيتعرض للسقوط والانهيار، والجماعات الصهيونية تدنس ساحاته يوميا"1. ولن ينسى التاريخ ذلك الموقف البطولي للمرابطين بأكناف بيت المقدس في "انتفاضة القدس" وتصديهم لليهود الحاقدين!! ولا أنسى هذا المشهد الذي شاهده العالم من خلال الفضائيات، عندما حاولت جماعة "أمناء الهيكل" اليهودية أن تضع حجر الأساس لهيكلهم المزعوم بعد أن حصلت على إذن من الحكومة الإسرائيلية فتصدى لهم المصلون المرابطون بالأقصى وقذفوهم ورجموهم بالأحذية والنعال!! وأهل الإسلام اليوم بأشد الحاجة للصبر والمصابرة والرباط والمرابطة والثبات بثغور المسلمين في أرجاء الأرض كلها لا سيما الثغور الشامية وعلى رأسها: بيت المقدس، والأقصى الأسير!! يقول العلامة ابن قدامة رحمه الله: "فأفضل الرباط المقام بأشد الثغور خوفا، لأنهم أحوج، ومقامه به أنفع، قال أحمد: أفضل الرباط أشدهم كلبا"2.

_ 1 المغني (13/20) . 2 المغني (13/20) .

وصف النسخة: فقد اعتمدت على نسخة وحيدة تقع ضمن "مجموع" لشيخ الإسلام، محفوظ بـ"دار الكتب المصرية" برقم 444 فقه تيمور. وتقع هذه النسخة في 75 صفحة، كل صفحة بها 13 سطر. وبخط الناسخ: عبد الحميد الحكيم1 كما جاء بآخر أحد الرسائل بالمجموع وهي مكتوبة بخط رقعة جميل إلا أنها كثيرة السقط والأخطاء. وأما تحقيق نسبة الكتاب للمؤلف: لم أجد أحدا ممن ترجم لشيخ الإسلام ذكر هذا المصنف؛ لكن الذي يطالع كلامه في مصنفاته الأخرى يراه قد أكثر الكلام على مسائل الكتاب وتلخيصها مع تطابق كبير بين كلامه هنا وهناك2. وأما عنوان الكتاب فقد أثبته كما سماه المصنف رحمه الله في أوله حيث قال: "مسألة في المرابطة بالثغور أفضل أم المجاورة بمكة شرفها الله تعالى".

_ 1 وقد سبق أن قمت بتحقيق مصنف آخر لشيخ الإسلام من هذا المجموع وهو"حكم الانغماس في العدو وهل يباح" وذكرت أن ناسخه لا يعرف! فليصحح وينتبه. 2 راجع: "مجموع الفتاوى" (18/283، 21/455، 22/91، 27/40، 50، 55، 508، 28/5) وهذا ما ساعدني في تصويب كثير من الأخطاء الواقعة بالأصل.

وأما عملنا في التحقيق: فقد اتخذت هذه النسخة أصلا؛ وصوبت ما فيها من أخطاء وسقط بالرجوع إلى كلام المصنف في كتبه الأخرى. كما قمت بضبط فقرات الكتاب كلها، ونسقت عباراتها ورقمت فقراتها برقم مسلسل ووضعت لها عناوين جانبية. كما قمت بعزو الآيات ووضع العزو بجوار الآيات، وخرجت الأحاديث والآثار وبينت مرتبتها من حيث القبول والرد. كما وضعت بعض التعليقات المهمة وأكثرها من كلام شيخ الإسلام من كتبه الأخرى، وبعض المصادر من كتب الفقه. كما صنعت له فهارس للآيات والأحاديث والآثار والموضوعات. هذا وقد اجتهدت في ذلك حسب الوسع والطاقة. والله تعالى أسأل أن ينصر الإسلام، وأن يحفظ ثغور المسلمين وأن يجعلنا من المرابطين الصابرين الثابتين، إنه نعم المولى ونعم النصير. ولا حول ولا قوة إلا بالله، وهو حسبنا ونعم الوكيل. الإسماعيلية في 1رجب 1422هـ أبو محمد أشرف بن عبد المقصود غفر الله له

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (آل عمران:200) .

صور المخطوطة

p13

p14

النص المحقق للكتاب

النص المحقق للكتاب ... مسألة في المرابطة بالثغور أفضل أم المجاورة بمكة شرفها لله تعالى تأليف: شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية المتوفى سنة 728هـ رحمه الله تعالى تحقيق وتعليق: أبي محمد أشرف بن عبد المقصود

بسم الله الرحمن الرحيم وهو حسبي ونعم الوكيل مسألة المرابطة بالثغور أفضل أم المجاورة بمكة شرفها الله تعالى؟! الجواب اتفاق الأئمة والسلف على أفضلية المرابطة على المجاورة بالحرمين 1- الحمد لله، المرابطة في ثغور المسلمين – وهو المقام فيها بنية الجهاد – أفضل من المجاورة في الحرمين باتفاق أئمة المسلمين وأهل المذاهب الأربعة وغيرهم1. من البدع تعظيم الأماكن بغير دليل شرعي 2- وليست هذه المسألة من المشكلات عند من يعرف دين الإسلام؛ ولكن لكثرة ظهور البدع في العبادات وفساد2

_ 1 قال المصنف رحمه الله: "المقام في الثغور من أجل الجهاد في سبيل الله أفضل من المجاورة بمكة والمدينة ما أعلم في ذلك خلافا بين العلماء" "مجموع الفتاوى" (27/51) . وقال أيضا رحمه الله: "المقام في الثغور بنية المرابطة في سبيل الله تعالى أفضل من المجاورة بالمساجد الثلاثة باتفاق العلماء" (27/40) . وقال أيضا رحمه الله: "المقام في الثغور المسلمين كالثغور الشامية والمصرية أفضل من المجاورة في الساجد الثلاثة، وما أعلم في هذا نزاع بين أهل العلم، وقد نص على ذلك غير واحد من الأئمة" "مجموع الفتاوى" (28/5) 2 في الأصل: "فساد" بدون واو، وقد أثبتها لاستقامة السياق بها.

النيات في الأعمال الشرعيات صار يخفى مثل هذه المسألة على كثير من الناس حتى صاروا يعظمون الأماكن التي كان المسلمون يعظمونها لكونها ثغورا ظانين أن تعظيمها لأمور مبتدعة في دين الإسلام، فاستبدلوا بشريعة الإسلام بدعة ما أنزل الله بها من سلطان. 3- فإنه يوجد في كلام السلف وحكاياتهم في ذكر "غزة" و"عسقلان" و"الإسكندرية" و"جبل لبنان" و"مكة" و"قزوين"، ومن أمثال ذلك، ومن وجود الصالحين بها ما يوجب شرف هذه البقاع1. فضل بعض الأماكن بكونه ثغرا لا لأجل خاصية ذلك المكان 4- وإنما كان ذلك؛ لكونها كانت ثغور المسلمين، فكانوا صالحوا المسلمين يتناوبونها، لأجل المرابطة بها لا لأجل الاعتزال عن الناس وسكنى "الغيران"2 و"الكهوف"، أو نحو ذلك مما

_ 1 قال المصنف رحمه الله: "عامة ما يوجد في كلام المتقدمين من فضل عسقلان والإسكندرية أو عكة أو قزوين أو غير ذلك، وما يوجد من أخبار الصالحين الذين بهذه الأمكنة ونحو ذلك فهو لأجل كونها كانت ثغورا لا لأجل خاصية ذلك المكان وكون البقعة ثغرا للمسلمين أو غير ثغر هو من الصفات العارضة لها لا اللازمة لها، بمنزلة كونها دار إسلام أو دار كفر، أو دار حرب أو دار سلم، أو دار علم وإيمان أو دار جهل ونفاق فذلك يختلف باختلاف سكانها وصفاتهم بخلاف المساجد الثلاثة فإن مزيتها صفة لازمة لها لا يمكن إخراجها عن ذلك.." "مجموع الفتاوى" (27/52) . 2 "الغيران": جمع غار وهو كهف، وانقلبت الواو ياء لكسرة الغين."النهاية لابن الأثير (395/3) .

يظنه الجهال أهل البدع والضلال1. جبل لبنان وما جرى فيه 5- ثم إن من هذه البقاع ما غلب عليه العدو، أو سكنه أهل البدع والفساق؛ ففسد حال أهله، مثل ما جرى على "لبنان" ونحوه2.

_ 1 قال المصنف رحمه الله: "فإن سكنى الجبال والغيران والبوادي ليس مشروعا للمسلمين إلا عند الفتنة في الأمصار التي تحوج الرجل إلى ترك دينه من فعل الواجبات وترك المحرمات، فيهاجر المسلم حينئذ من أرض يعجز عن إقامة دينه إلى أرض يمكنه فيها إقامة دينه؛ فإن المهاجر من هجر ما نهى الله عنه" "مجموع الفتاوى" (27/52) . 2 قال المصنف رحمه الله مبينا حقيقة "جبل لبنان"" "ليس في فضل جبل لبنان وغيره نص لا عن الله ولا عن رسوله بل هو وأمثاله من الجبال التي خلقها لله وجعلها أوتادا للأرض آية من آياته.." إلى أن قال: "فهذه السواحل الشامية كانت ثغورا للإسلام إلى أثناء المائة الرابعة، وكان المسلمون قد فتحوا قبرص في خلافة عثمان رضي الله عنه، فتحها معاوية فلما كان في أثناء المائة الرابعة اضطرب أمر الخلافة وصار للرافضة والمنافقين وغيرهم دولة وملك بالبلاد المصرية والمغرب وبالبلاد الشرقية وبأرض الشام وغلب عليه هؤلاء على ما غلبوا عليه من الشام سواحله وغير سواحله وهم أمة مخذولة ليس لهم عقل ولا نقل ولا دين صحيح ولا دنيا منصورة، فغلبت النصارى على عامة سواحل الشام بل وأكثر بلاد الشام وقهروا الروافض والمنافقين وغيرهم وأخذوا منهم ما أخذوا إلى أن يسر الله تعالى بولاية ملوك السنة مثل نور الدين وصلاح الدين وغيرهما فاستنقذوا عامة الشام من النصارى، وبقيت بقايا الروافض والمنافقين في "جبل لبنان" وغيره، وربما غلبهم النصارى عليه حتى يصير هؤلاء الرافضة والمنافقون فلاحين للنصارى، وصار جبل لبنان ونحوه دولة بين النصارى والروافض ليس فيه من الفضيلة شيء ولا يشرع بل ولا يجوز المقام بين النصارى أو الروافض يمنعون المسلم من إظهار دينه ولكن صار طوائف ممن يؤثر التخلي عن الناس زهدا ونسكا يحسب أن فضل هذا الجبل ونحوه لما فيه من الخلوة وأكل المباحات من الثمار التي فيه؛ فيقصدونه لأجل ذلك غلط منهم وخطأ" "مجموع الفتاوى" (27/50-55) وراجع أيضا: "الإستقامة" (2/61.)

كون المكان ثغرا مثل كونه دارا للإسلام 6- وكون1 المكان ثغرا هو مثل كونه دارا لإسلام ودارا لكفر2 مثل كون الرجل مؤمنا وكافرا، هو من الصفات التي تعرض وتزول: 7- فقد كانت "مكة" شرفها الله أم القرى قبل فتحها دار كفر وحرب تجب الهجرة منها ثم تغير هذا الحكم لما فتحت3. حتى قال صلى الله عليه وسلم: "لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية" 4. 8- وقد كان "البيت المقدس" بأيدي العدو تارة، وبأيدي المسلمين أخرى5.

_ 1 في الأصل: "أو كون" وما صوب هو الموافق للسياق. 2 في الأصل بدون اللام، وزدتها ليستقيم السياق. 3 قال المصنف رحمه الله: "قال الله تعالى لموسى عليه السلام: {سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ} (لأعراف: 45) وهي الدار التي كان بها أولئك العمالقة ثم صارت بعد هذا دار المؤمنين وهي الدار التي دل عليها القرآن من الأرض المقدسة" "مجموع الفتاوى" (18/283) وقال أيضا: ولهذا كان أفضل الأرض في حق كل إنسان أرض يكون فيها أطوع لله ورسوله، وهذا يختلف باختلاف الأحوال؛ ولا تتعين أرض يكون مقام الإنسان فيها أفضل وإنما يكون الأفضل في حق كل إنسان: بحسب التقوى والطاعة والخشوع والخضوع والحضور "مجموع الفتاوى" (18/283) . 4 البخاري (2763) ومسلم (1353) (445) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. 5 المسجد الأقصى وبيت المقدس أمانة تسلمتها أمة الإسلام، وقد حفظ المسلمون هذه الأمانة في عهودهم المتوالية حتى جاء عصرنا فضاع بيت المقدس وهو يتعرض اليوم لأخطر مؤامرة لهدمه ولئن خلص اليهود لتنفيذ هذه المؤامرة بين ظهراني جيل من المسلمين يبلغ ربع سكان العالم فو الله إنه لعار لا يمحوه الزمان ولا يغسله الماء!! راجع: "قبل الكارثة نذير ونفير" ص (298) .

تعريف الثغور وحكم المرابطة بها 9- فالثغور هي: البلاد المتاخمة1 للعدو من المشركين وأهل الكتاب التي يخيف العدو أهلها ويخيف2 أهلها العدو والمرابطة بها أفضل من المجاورة بالحرمين باتفاق المسلمين. 10- كيف والمرابطة بها فرض على المسلمين إما على الأعيان3 وإما على الكفاية. حكم المجاورة 11- وأما المجاورة فليست واجبة باتفاق المسلمين، بل العلماء متنازعون هل هي مستحبة أم مكروهة؟ 12- فستحبها طائفتان4 من العلماء من أصحاب مالك والشافعي5، وكرهها آخرون كأبي حنيفة وغيره6. أدلة من قال بالكراهة

_ 1 في الأصل: "المباحثة" وكتب فوقها كذا، وما أثبته هو الموافق للسياق. 2 في الأصل: "ويحيقوا " وكتب بالهامش ولعله "يخيف" وهو ما أثبته لموافقته السياق وراجع: "مجموع الفتاوى" (28/418) . 3 تكررت جملة "إما على الأعيان" في الفقرة التي قبله بعد كلمة بالحرمين!! 4 في الأصل: "طائفتين" وما أثبته من الهامش لموافقته للسياق. 5 راجع: "شرح مختصر الخليل" (3/170) و"المنتقى شرح الموطأ" (3/162، 163) و"مغني المحتاج" (2/240) و"المجموع شرح المهذب" (8/262، 263) . 6 راجع "المبسوط" (3/115) و"شرح السير الكبير" (1/13) و"البحر الرائق" (2/323) و"رد المختار" (2/524) و"الفتاوى الهندية" (5/325) .

أدلة من قال بكراهة المجاورة

أدلة من قال بكراهة المجاورة ... 13- قالوا: لأن المقام بها يفضي إلى الملك لها. وأنه لا يأمن من مواقعة المحظور؛ فيتضاعف عليه العذاب. ولأنه يضيق على أهل البلد.

14- قالوا: وكان عمر يقول عقب المواسم: "يا أهل الشام شامكم يا أهل اليمن يمنكم، يا أهل العراق [عراقكم] 1". 15- ولأن المقيم بها يفوته الحج التام والعمرة التامة؛ فإن العلماء متفقون على أنه إن أنشأ سفر العمرة من دويرة أهله كان هذا أفضل أنواع الحج والعمرة. 16- وهم متفقون على أنه أفضل من التمتع والقران والإفراد الذي يعتمر عقب الحج. تصحيح خطأ في الاعتمار 17- وأما ما يضنه بعض الناس من أن الخروج بأهل مكة في رمضان أو في غيره إلى الجبل للاعتمار؛ وهو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: "عمرة في رمضان تعدل حجة معي" 2 حتى صار المجاورون وغيرهم يحافظون على الاعتمار من أدنى الحل أو أقصاه كاعتمارهم من التنعيم التي بها المساجد التي يقال لها "مساجد عائشة"، أو من "الحديبية" وعمرة "الجعرانة"؛ فكل ذلك غلط عظيم مخالف للسنة النبوية، ولإجماع الصحابة. 18- فإنه لم يعتمر النبي صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي ولا أمثالهم من مكة قط لا قبل الهجرة ولا بعدها.

_ 1 ما بين المعقوفتين زيادة ليستقيم بها السياق. 2 البخاري (1863) ومسلم (1256) (221) عن ابن عباس رضي الله عنهما

لم يعتمر أحد من المسلمين على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلا عائشة فقط 19- بل لم يعتمر أحد من المسلمين على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلا عائشة فقط، فإنها قدمت متمتعة؛ فحاضت، فمنعها الحيض من الطواف قبل الوقوف بعرفة، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم أن يعمرها بعد الحج1، ثم بعد ذلك بنيت هذه المساجد التي هناك، وقيل لها: "مساجد عائشة". 20- وأما "عمرة الحديبية": فإن النبي صلى الله عليه وسلم هل هو وأصحابه من "ذي الحليفة" ثم حلوا بـ"الحديبية" لما صدهم المشركون عن البيت فكانت "الحديبية" حلهم لا ميقات إحرامهم. وهذا متواتر يعلمه عامة العلماء وخاصتهم، وفي ذلك أنزل الله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ} 2 الآيات باتفاق العلماء3.

_ 1 البخاري (1561) ومسلم (1211) (128) عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ولا نرى إلا أنه الحج فلما قدمنا تطوفنا بالبيت، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم من لم يكن ساق الهدي أن يحل، فخل من لم يكن ساق الهدي ونساؤه لم يسقن، فأحللن، قالت عائشة: فحضت، فلم أطف بالبيت، فلما كانت ليلة الحصبة قالت: يا رسول الله يرجع الناس بعمرة وحجة وأرجع أنا بحجة؟ قال: وما طفت ليالي قدمنا مكة؟ قلت: لا قال: فاذهبي مع أخيك إلى التنعيم فأهلي بعمرة ثم موعدك كذا وكذا، قالت صفية: ما أراني إلا حابستهم. قال: "عقرى حلقى أو ما طفت يوم النحر؟ " قالت: قلت: بلى قال: "لا بأس انفري" قالت عائشة: فلقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مصعد من مكة وأنا منهبطة عليها أو أنا مصعدة وهو منهبط منها. 2 في الأصل سقطت من الآية كلمة {وأتموا} وراجع: تفسير الطبري (2/219) . 3 راجع أيضا: "مجموع الفتاوى" (7/250) و"اقتضاء الصراط" (1/425) و"زاد المعاد" (2/90) .

21- وأما "عمرة الجعرانة": فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما قاتل هوازن بوادي حنين الذي قال الله فيها: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (التوبة:25-27) . 22- وحاصر "الطائف" ونصبت عليها بالمنجنيق، ولم يفتحها وقسم غنائم حنين بـ "الجعرانة" فلما قسمها دخل إلى مكة ثم خرج منها؛ لم يكن بمكة فخرج منها إلى الحل ليعتمر كما يفعل ذلك من يفعله من أهل "مكة". 23- بل الصحابة رضي الله عنهم وأئمة التابعين لم يستحبوا لمن كان بمكة ذلك، بل رأوا أن طوافه بالبيت أفضل من خروجه لأجل العمرة، بل كرهوا له ذلك كما قد بسطنا هذه المسألة في غير هذا الموضع1.

_ 1 راجع: "شرح العمدة" (2/334، 535، 24/ 148، 149) و"مجموع الفتاوى" (17/427) .

استحباب الجمهور للمجاورة بشروط 24- والمقصود هنا: أن من العلماء من كره المجاورة بمكة، لما ذكر من الأسباب وغيرها لكن الجمهور يحبونها في الجملة إذا وقعت على الوجه المشروع الخالي عن المفسدة المكافئة للمصلحة أو الراجحة عليها. الأدلة على استحباب المجاورة بمكة. 25- قال الإمام أحمد1، وقد سئل عن الجوار بمكة؟ فقال: وكيف لنا [به] 2، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنك لأحب البقاع إلى الله، وإنك لأحب إلي". 26- وجابر جاور مكة، وابن عمر كان يقيم بمكة3. 27- وقال أيضا:"ما أسهل العبادة بمكة، النظر إلى البيت عبادة"4.

_ 1 نقله في"الإنصاف" (3/562) و"الفروع" (3/362) والمغني (5/464) . 2 ما بين المعوقتين زيادة من"الإنصاف" ليستقيم بها السياق 3 ابن أبي شيبة (3/186) عن عمر وابن عباس وأبي هريرة وأبو سعيد الخدري. عطاء قال: جاور عندنا جابر بن عبد الله وابن 4 راجع:"الإنصاف" (4/50) و"مجموع الفتاوى" (26/413) . وعند ابن أبي شيبة (3/34) عن طاوس ومجاهد وعطاء وعبد الرحمان بن الأسود:"النظر إلى البيت عبادة".

الأدلة على استحباب المجاورة بمكة

الأدلة على استحباب المجاورة بمكة ... 28- واحتج هؤلاء بما رواه عبد الله بن عدي ابن حمراء الزهري أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول، وهو واقف بالحزورة

في سوق مكة: "والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت" رواه الإمام أحمد وهذا لفظه، والنسائي، وابن ماجه، والترمذي، وقال:"حديث حسن صحيح"1. 29- ورواه أحمد من حديث أبي هريرة أيضا2. ومن الأدلة على استحباب المجاورة 30- وعن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أطيبك من بلد وأحبك إلي، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك" رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن صحيح غريب"3.

_ 1 أحمد (4/305) والنسائي في الكبرى (4252،4253) وابن ماجه (3108) والترمذي (3925) والحاكم (3/7،431) وصححه الألباني في"صحيح ابن ماجه" (3108) . "الحزورة": بالحاء المهملة والزاي، قال الطيبي: "على وزن القشورة موضع بمكة، وبعضها شددها، والحوزرة في الأصل: بمعنى التل الصغير، سميت بذلك، لأنه كان هناك تل صغير وقيل: لأن وكيع بن سلمة بن زهير بن ولي أمر البيت بعد جرمهم فبني صرحا كان هناك وجعل فيها أمة يقال لها حزورة، فسميت حزورة مكة بها". "تحفة الأحوذي" (10/426) . 2 أحمد (4/305) والنسائي في الكبرى (4254) . 3 الترمذي (3926) والطبراني في الكبير (10/267، 271) وصححه الحاكم (1/486) وابن حبان (3709) وصححه الألباني في "صحيح الترمذي" (3926) . قال المباركفوري رحمه الله: "ما سكنت غيرك" هذا دليل للجمهور على أن مكة أفضل من المدينة خلافا للإمام مالك رحمه الله، وقد صنف السيوطي رسالة في هذه المسألة".

ومن الأدلة على استحباب المجاورة 31- قالوا: فإذا كانت أحب البلاد إلى الله ورسوله ولولا ما وجب عليه من الهجرة لما كان يسكن إلا إياها، علم أن المقام بها أفضل إذا لم يعارض ذلك مصلحة راجحة كما كان في حق النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرين؛ فإن مقامهم بالمدينة كان أفضل من مقامهم بمكة لأجل الهجرة والجهاد بل ذلك كان واجب عليهم، وكان مقامهم بمكة حراما حتى بعد الفتح، وإنما رخص للمهاجر أن يقيم فيها ثلاثا. 32- كما في "الصحيحين"1 عن العلاء بن الحضرمي أن النبي صلى الله عليه وسلم أرخص للمهاجر أن يقيم بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثا. 33- وكان المهاجرون يكرهون أن يكونوا [مقيمين بدار، هاجروا منها وتركوها] 2؛ لكونهم هاجروا عنها، وتركوها لله.

_ 1 البخاري (3933) ومسلم (1352) (442) واللفظ له. فائدة: "قال القاضي عياض رحمه الله: في هذا الحديث حجة لمن منع المهاجر قبل الفتح من المقام بمكة بعد الفتح، قال: وهو قول الجمهور، وأجاز لهم جماعة بعد الفتح مع الاتفاق على وجوب الهجرة عليهم قبل الفتح ووجوب سكنى المدينة؛ لنصرة النبي صلى الله عليه وسلم ومواساتهم له بأنفسهم، وأما غير المهاجر ومن آمن بعد ذلك: فيجوز سكنى له أي بلد أراد، سواء مكة وغيرها بالاتفاق" "شرح النووي لمسلم" (9/122، 123) . 2 ما بين المعقوفتين زيادة ليست في الأصل زدتها بالاستفادة من كلام المصنف، ليستقيم بها السياق.

34- حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه1؛ لما عاد سعد بن أبي وقاص، وكان قد مرض بمكة في حجة الوداع فقال يا رسول [الله] 2 أخلف عن هجرتي؟ فقال: "لعلك أن تخلف حتى ينتفع بك أقوام، ويضر بك آخرون، اللهم أمض لأصحابي هجرتهم، ولا تردهم على أعقابهم، لكن البائس سعد بن خولة"، يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مات بمكة. 35- ولهذا لما مات عبد الله بن عمر بمكة أوصى أن لا يدفن في الحرم3 بل يخرج إلى الحل لأجل ذلك لكنه كان يوما شديد الحر فخالفوا وصيته4 وكان قد توفي عام قدم الحجاج فحاضر ابن الزبير وقتله لما كان للناظرين من الفتنة بينه وبين عبد الملك بن مروان.

_ 1 البخاري (1295) ومسلم (1628) (5) . والمعنى: أن سعد بن خولة وهو من المهاجرين من مكة إلى المدينة، وكانوا يكرهون الإقامة في الأرض التي هاجروا منها وتركوها مع حبهم فيها لله تعالى، فمن ثم خشي سعد بن أبي وقاص أن يموت بها، وتوجع رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد بن خولة لكونه مات بها "فتح الباري" (3/165) . 2 ما بين المعقوفتين زيادة يستقيم بها السياق. 3 يوجد هنا إلحاق لم يحدد موضعه: ونصه: "لذلك كان العمل فيه أفضل مما ليس كذلك". 4 في "الطبقات الكبرى" لابن سعد (4/188) عن الزهري عن سالم قال: أوصاني أبي أن أدفنه خارجا عن الحرم فلم نقدر فدفناه في الحرم بفخ في مقبرة المهاجرين وفخ: واد بمكة.

ومن الأدلة على استحباب المجاورة 36- قالوا: ولأن في المجاورة بها من تحصيل العبادات وتضعيفها ما لا يكون في بلد آخر؛ فإن الطواف بالبيت لا يمكن إلا بمكة وهو من أفضل الأعمال، ولآن الصلاة بها تضاعف هي وغيرها من الأعمال. 37- وقد قال تعالى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} (الحج: من الآية26) . 38- روي: "أنه ينزل على البيت في كل يوم مائة وعشرون رحمة ستون للطائفين وأربعون للمصلين [وعشرون للناظرين] "1. 39- ولهذا قال العلماء: إن الصلاة بمكة أفضل من الصلاة بالثغر مع قولهم: إن المرابطة بالثغر أفضل وتضاعف السيئات فيه وإذا كان المكان دواعي الخير فيه أقوى، ودواعي الشر فيه أضعف كان المقام فيه [أفضل] 2 مما ليس كذلك.

_ 1 ابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (6/278) من طريق محمد بن معاوية النيسابوري ثنا محمد بن صفوان عن ابن جريح عن ابن عباس. ومحمد بن معاوية النيسابوري، قال النسائي ليس بثقة متروك الحديث. وقال ابن عدي عقب الحديث: "وهذا منكر وروى الأوزاعي عن عطاء عن ابن عباس هذا، ورواه عنه يوسف بن أبي السفر كاتب الأوزاعي وهو ضعيف" اهـ. قلت: وهذه الرواية الثانية أوردها في "لسان الميزان" (6/322) في ترجمة يوسف بن أبي السفر، ويوسف هذا كذبة غير واحد، قال الدارقطني: متروك الحديث يكذب. 2 ما بين المعقوفتين زيادة يستقيم بها السياق.

40- ولا نزاع بين المسلمين في أنه يشرع قصدها لأجل العبادات المشروعة فيها وإن ذلك واجب أو مستحب. 41- وأما النزاع في المجاورة؛ فلما فيه من تعارض للمصلحة والمفسدة كما تقدم1. 42- وحينئذ فمن كانت مجاورته فيما يكثر حسناته ويقل سيئاته فمجاورته فيها أفضل من بلد لا يكون حاله فيه كذلك. أفضل البلد في حق كل شخص فأفضل البلاد في حق كل شخص: حيث كان أبر وأتقى، وإن أكرم الخلق عند الله أتقاهم. 43- ولهذا لما كتب أبو الدرداء إلى سلمان الفارسي، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد آخا بينهما، وكان أبو الدرداء بالشام وسلمان بالعراق فكتب إليه أبو الدرداء: "أن هلم إلى الأرض المقدسة" فكتب إليه سلمان: "إن الأرض لا تقدس أحدا؛ وإنما يقدس الرجل عمله الصالح2".

_ 1 رواه مالك في "الموطأ" (2/769) :، وأبو نعيم في "الحلية" (1/205) . قال الزرقاني رحمه الله: "وهذا منقطع ولكن أخرجه الدينوري في المجالسة من وجه آخر عن يحي بن سعيد عن عبيد الله بن هبيرة قال كتب أبو الدرداء إلى سلمان الفارسي..: أن هلم إلى الأرض المقدسة زاد الدينوري: وأرض الجهاد. فكتب إلى سلمان إن الأرض لا تقدس أحدا لا تطهره من ذنوبه ولا ترفعه إلى أعلى الدرجات وإنما يقدس الإنسان عمله الصالح في أي مكان" "شرح الزرقاني" (4/93) . قال المصنف رحمه الله بعد أن أورد الأثر: "وكان النبي قد آخى بين سلمان وأبي الدرداء وكان سلمان أفقه من أبي الدرداء في أشياء من جملتها هذا" "مجموع الفتاوى" (18/283) . 2 في الأصل: "صالحا" وما أثبته من مصادر التخريج.

44- ومقصوده بذلك: أنه قد يكون بالأرض المفضولة من يكون عمله صالحا أو أصلح بما يحبه الله ورسوله1.

_ 1 راجع: ما تقدم (18ص) .

الأدلة على أن جنس المرابطة أفضل من جنس المجاورة

الأدلة على أن جنس المرابطة أفضل من جنس المجاورة وهذا مما يبين أن جنس المرابطة أفضل من جنس المجاورة بالحرمين كما اتفق عليه الأئمة. 45- فإذا كانت نية العبد في هذا خالصة، ونيته في هذا خالصة ولم يكن ثمة عمل مفضل، يفضل به أحدهما، فالمرابطة أفضل؛ فإنها من جنس الجهاد، وتلك من جنس الحج وجنس الجهاد أفضل من جنس الحج2. 46- ولهذا قال أبو هريرة: "لأن أرابط ليلة في سبيل الله أحب إلي من أن أقوم ليلة القدر عند الحجر الأسود"3.

_ 2 راجع أيضا: "مجموع الفتاوى" (27/24، 40، 52، 142) (28/5، 22) 3 الأثر ورد مرفوعا عن أبي هريرة: أخرجه ابن حبان (4603) وابن عساكر في "الأربعين في الجهاد" (18) بلفظ: "موقف ساعة في سبيل الله خير من قيام ليلة القدر عند الحجر الأسود" وصحح إسناده الألباني في "الصحيحة" (1067) . قال المصنف رحمه الله بعد أن أورد هذا الأثر: "فقد اختار الرباط ليلة على العبادة في أفضل الليالي عند أفضل البقاع، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يقيمون بالمدينة دون مكة.." "مجموع الفتاوى" (28/418) .

47- وفي لفظ رواه سعيد بن منصور في "سننه" عن عطاء الخراساني عن أبي هريرة قال: "رباط يوم في سبيل الله أحب إلي من أقوم ليلة القدر في أحد المسجدين – مسجد الحرام ومسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم - ومن رابط أربعين يوما في سبيل الله فقد استكمل الرباط"1. 48- وقد قال تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ} (التوبة:19-21) . 49- وفي "صحيح مسلم"2 عن النعمان قال: كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رجل: لا أبالي ألا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج. وقال آخر: إلا أن أعمر المسجد الحرام. وقال آخر: الجهاد في سبيل الله أفضل مما

_ 1 "السنن" لسعيد ابن منصور (2/193) برقم (12410) وعبد الرزاق في "المصنف" (5/280) برقم (9616) بلفظ:"كان أبو هريرة يقول رباط ليلة إلى جانب البحر منة وراء عروة المسلمين أحب إلي من أن أوافق ليلة القدر في أحد المسجدين مسجد الكعبة ومسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ورباط ثلاثة أيام عدل السنة وتمام الرباط أربعون ليلة". 2 مسلم (1879) (111) .

قلتم فزجرهم عمر بن الخطاب، وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يوم الجمعة، ولكن إذا صليت الجمعة دخلت فاستفتيته فيما اختلفتم فيه فأنزل الله {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الآية (التوبة:19) . 50- وعن عثمان بن عفان قال، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " [رباط] 1 يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه". رواه الإمام أحمد، والنسائي وهذا لفظه، والترمذي وقال: "حديث حسن غريب من هذا الوجه"، وأبو حاتم بن حبان البستي في "صحيحه"2. 51- ولفظ الإمام أحمد3: عن أبي صالح مولى عثمان بن عفان قال سمعت عثمان يقول على المنبر: أيها الناس! إني كتمتكم حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كراهية تفرقكم

_ 1 مابين المعقوفتين زيادة يستقيم بها السياق. 2 رواه أحمد (1/62، 65، 66، 75) والنسائي في "الكبرى" (43278) وفي المجتبى (6/39، 40) والترمذي (1667 وابن حبان (4609) والحاكم (2/77) والبيهقي (9/39) وفي الشعب له (4233) وقد حسنه الألباني في "صحيح الترمذي" (2/241) . 3 أحمد (1/75) .

عني، ثم بدا لي أن أحدثكموه، ليختار امرؤ لنفسه ما بدا له سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "رباط يوم في سبيل اله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل". 52- فقد بين لهم عثمان هذا الحديث مع كونهم كانوا مقيمين عنده بالمدينة النبوية؛ مقيمين في المسجد الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلاة في مسجدي هذه خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام" 1. فضل الجهاد على الصيام والقيام والصلاة 53- ودل ذلك على: أن تضعيف الصلاة لا يقاوم تضعيف اليوم الذي يعم جميع الأعمال؛ فإن الجهاد يقاوم ما لا يمكن المداومة عليه من الصيام والقيام. 54- كما في "الصحيحين"2 عن أبي هريرة قال، قيل: يا رسول الله! ما يعدل الجهاد في سبيل الله؟ قال: "لا تستطيعون" قال: فأعادوا عليه مرتين. قلت: كل ذلك يقول: "لا تستطيعون".

_ 1 البخاري (1190) ومسلم (1394) (506) عن أبي هريرة رضي الله عنه. 2 البخاري (2785) ومسلم (1878) (110) . عند "مسلم": "لا تستطيعونه" وفي بعض نسخ مسلم "لا تستطيعوه" وما أورده المصنف هو لفظ "أبي عوانة" (4/4649 والبيهفي في "السنن الكبرى" (9/185) .

قال في الثالثة: "مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله لا يفتر عن صيام ولا صلاة حتى يرجع المجاهد في سبيل الله" هذا لفظ"مسلم". ولفظ "البخاري"1: جاء رجل إل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: دلني على عمل يعدل الجهاد؟ قال: لا أجد. قال: هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك فتقوم لا تفتر، وتصوم لا تفطر؟ قال: ومن يستطيعه ذلك؟ قال أبو هريرة: إن فرس المجاهد ليستن في طوله فيكتب له حسنات. 55- وفي "الصحيحين"2 عن أبي سعيد الخدري أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أي الناس أفضل؟

_ 1 البخاري (2785) . "يستن" أي يمرح بنشاط، قال الجوهري: هو أن يرفع يديه ويطرحهما معا، وقال غيره: "أن يلج في عدوه مقبلا غير مدبر". "طوله" بكسر المهملة وفتح الواو، وهو الحبل الذي يشد به الدابة ويمسك طرفه ويرسل في المراعي. "فيكتب له حسنات" بالنصب على أنه مفعول ثان أي يكتب له استنان حسنات. "فتح الباري" (6/5) . 2 البخاري (2786) ومسلم (1888) (123) .

فقال: "رجل مجاهد في سبيل الله بماله ونفسه". قال: ثم من؟ قال: "رجل معتزل في شعب من الشعاب يعبد ربه، ويدع الناس من شره" ولفظ مسلم "مسلم." 56- ودرجات النصوص الصحيحة الصريحة بفضل الجهاد على الحج 57- كما في "الصحيحين"1 عن أبي هريرة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل؟ قال: "إيمان بالله ورسوله". قيل: ثم ماذا؟ قال: "الجهاد في سبيل الله". قيل: ثم ماذا؟ قال: "حج مبرور". 58- وفي "الصحيحين"2 أيضا، عن أبي ذر قال: قلت يا رسول الله أي الأعمال أفضل؟

_ 1 البخاري (1519) ومسلم (83) (135) . 2 البخاري (2518) ومسلم (84) (136) .

قال: "الإيمان بالله، والجهاد في سبيله". 59- فهذا موافق ما دل عليه القرآن بمن يفضل الجهاد على الحج. 60- وقد روي: "غزوة لا قتال فيها أفضل من سبعين حجة" 1. دليل آخر على فضل الجهاد على الحج 61- وهذا لا يتناقض ما في "الصحيحين"2 عن ابن مسعود قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل؟ قال: "الصلاة لوقتها". قلت: ثم أي؟ قال: "بر الوالدين". قلت: ثم أي العمل أفضل؟ قال: "الجهاد في سبيل الله". حدثني بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو استزته لزادني. فإن هذا الحديث أيضا يدل على فضل الجهاد على الحج وغيره. 62- وأما الصلاة فإنها قد تدخل في مسمى الإيمان. كما في قوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} (البقرة: من الآية143) .

_ 1 أورده المصنف أيضا في "مجموع الفتاوى" (28/6) ولم أعثر على تخريجه. 2 البخاري (7534) ومسلم (85) (137) .

63- قال البراء بن عازب وغيره: "صلاتكم إلى بيت المقدس"1. النصوص في حكم تارك الصلاة 64- إذ هي بمنزلة الشهادتين في أنها لا تسقط بحال، ولا ينوب فيها أحد عن أحد، ويدخل بها2 في الإيمان، وقد جاءت النصوص بإطلاق الكفر على تاركها. 65- ثم في "صحيح مسلم"3 عن جاب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس بين العبد والكفر والشرك إلا ترك الصلاة". 66- وفي "السنن" عن بريدة بن حصيب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر". رواه الإمام أحمد وابن ماجه والترمذي والنسائي4، وقال: "حديث حسن صحيح غريب". 67- وفي الترمذي 5 عن عبد الله بن شفيق قال: "كان أصحاب

_ 1 الطيالسي (758) والطبري (2/17) وراجع: "فتح الباري" (1/96، 98) . 2 في الأصل: "فيها" وكتب عليها كذا، والتصويب ليستقيم السياق. 3 مسلم (82) (134) . 4 رواه أحمد (5/346) وابن ماجه (1079) والترمذي (2621) والنسائي في "الكبرى" (329) وفي "المجتبى" (1/231) والحاكم (1/7) . وصححه الألباني في "صحيح الترمذي" (2621) . 5 الترمذي (2622) وعنده: "لا يرون شيئا" يدل "لا يعدون" والحاكم (1/7) وصححه الألباني في "صحيح الترمذي" (2622) .

محمد لا يعدون شيئا من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة". 68- وفي "البخاري"1 أن عمر بن الخطاب لما طعن وغمي عليه، قيل: الصلاة؟! فقال: "نعم، ولا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة". أطلق الكفر على جاحد الصلاة2. 69- وعن غير واحد من الصحابة والتابعين أنهم ذكروا أن من ترك الصلاة فقد كفر3. 70- فهذه الخاصية4 التي للصلاة تقتضي أن تدخل في قوله: "إيمان بالله، وجهاد في سبيله، ثم حج مبرور". اقتران بر الوالدين بحق الله 71- وكذلك "بر الوالدين" قد قرن حقهما بحق الله. 72- في مثل قوله: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} (لقمان: من الآية14) . 73- وفي قوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} (الإسراء: 23) .

_ 1 الرواية بهذا اللفظ ليست في البخاري؛ لكن أصلها عنده (3700) ، وإنما هي عند مالك في الموطأ (82) والبيهقي (1/357، 366) . 2 هذه الجملة جاءت بعد الفقرة (73) ولا مكان لها هناك فأوردتها هنا ليستقيم السياق. 3 راجع أقوالهم في: "تعظيم قدر الصلاة" للمروزي (2/873-905) . 4 في الأصل: "الخاصة"!!

74- وكما في "الصحيحين"1 الحديث: " كفر بالله تبرؤ من نسب وإن دق ومن ادعى لغير أبيه فقد كف، ولا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم". 75- وإن كذلك فيمكن أن يقال: هذا دخل في مسمى الإيمان أيضا، أو يقال "بر الوالدين" إنما يجب على من له والدان فذكرهما في حديث ابن مسعود؛ لأن ابن مسعود كان له والدة؛ فكان ذلك حكم من حاله كحاله. وأما حيث لم يذكرهما فذكر ما يعم من الأعمال؛ فيدخل فيه من ليس له أبوان، ثم الجهاد إذا صار فرض عين كان أوكد من مطلق "بر الوالدين" فيجاهد في هذه الحال بدون إذنهما وإن كان عليه أن يقوم بما يجب عليه من برهما المتعين عليه وإن كان لا يجاهد إذا لم يتعين عليه إلا بإذنهما.

_ 1 الحديث ورد ضمن عدة روايات: أما لجملة الأولى فهي عند الدارمي (2/442) عن عبد الله بن عمرو بلفظ: "كفر بالله تبرؤ من نسب وإن دق أو ادعاء إلى نسب لا يعرف". وأما الجملة الثانية: فعند البخاري (3508) عن أبي ذر بلفظ: "ليس من رجل ادعى لغير أبيه وهو يعلمه إلا كفر". وأما الجملة الثالثة: فهي عند البخاري (6830) عن ابن عباس وفيه: "ثم إنا كنا نقرأ فيما نقرأ من كتاب الله ألا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم أو إن كفرا بكم أن ترغبوا عن آبائكم" وعند البخاري (6768) ومسلم (62) من حديث أبي هريرة بلفظ: "لا ترغبوا عن آبائكم، فمن رغب عن أبيه فهو كفر".

ماذا يفعل إذا تعارضت الصلاة والجهاد المتعين؟ 76- وأما الصلاة: فإذا تعارضت هي والجهاد المتعين؛ فإنه يفعل كلاهما بحسب الإمكان، كما في حالة الخوف الخفيف والخوف الشديد. 77- قال تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً} (البقرة:238) . 78- قال تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا..} إلى قوله: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} (النساء:101-103) . 79- فقد أمر الله بالجمع بين الواجبين – الصلاة والجهاد – لكنه خفف الصلاة في الخوف من صلاة الأمن؛ بإسقاط أمور تجب

في الأمن، وإباحة أفعال لا تفعل1 في الأمن. 80- و"صلاة الخوف" قد استفاضت بها السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم وذكرها الأئمة كلهم، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلاها على وجوه متعددة2. أقوال الفقهاء في صلاة الخوف حال المسايفة 81- وأما حال المسايفة3 فللفقهاء ثلاثة أقوال: أحدها: وهو قول الجمهور، أنهم يصلون بحسب حالهم مع المقابلة؛ وهذا مذهب الشافعي وغيره وظاهر ذهب أحمد. والثاني: أنهم يؤخرون الصلاة؛ وهو قول أبي حنيفة. والثالث: أنهم يخيرون بين الأمرين وهو أحد الروايتين عن أحمد. 82- وقوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً} (البقرة:238) . مع ما قد ثبت في الصحيح4 عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال عام الخندق: "شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر حتى غربت الشمس ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارا"؛ قد احتج به وبغيره على

_ 1 في الأصل: "لا يفعل" ولا يستقيم بها السياق 2 راجع: "زاد المعاد" (1/533، 2/386) و"مدارج السالكين" (/385) . 3 في الأصل: "المسابقة" وهو تصحيف! 4 البخاري (6396) ومسلم (627) (205) عن علي رضي الله عنه.

أن تأخير الصلاة في حال الخوف منسوخ بهذه الآية1. 83- وأجابوا بذلك عما احتج به من جوز الأمرين؛ من قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه2 عن ابن عمر أنه قال: "لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة" فصلى قوم في الطريق وقالوا: لم يرد منا تفويت الصلاة، وأخر قوم الصلاة حتى وصلوا إلى بني قريظة، وقد فاتتهم الصلاة، فلم يعنف النبي صلى الله عليه وسلم واحدة من الطائفتين. 84- فهذا الحديث حجة في جواز الأمرين لكن قال أولئك [أنه] 3 منسوخ بالآية.

_ 1 قال العلامة ابن القيم رحمه الله: "وأما تأخير النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العصر يوم الأحزاب إلى غروب الشمس؛ فالناس في هذا التأخير هل هو منسوخ أم لا؟ قولان: فقال الجمهور كأحمد والشافعي ومالك: هذا كان قبل نزول صلاة الخوف ثم نسخ بصلاة الخوف، وكان ذلك التأخير كتأخير صلاة الجمع بين الصلاتين؛ فلا يجوز اعتبار الترك المحرم به ويكون الفرق بينهما كالفرق بين تأخير النائم والناسي وتأخير المفرط بل أولى، فإن هذا التأخير حينئذ مأمور به فهو كتأخير المغرب ليلة جمع إلى مزدلفة. القول الثاني: أنه ليس بمنسوخ بل هو باق، وللمقاتل تأخير الصلاة حال القتال واشتغاله بالحرب والمسايفة وفعلها عند التمكن منها؛ وهذا قول أبي حنيفة ويذكر رواية عن أحمد. وعلى التقديرين: فلا يصح إلحاق تأخير العامد المفرط به، وكذلك تأخير الصحابة العصر يوم بني قريظة فإنه كان تأخيرا مأمورا به عند طائفة من أهل العلم" "مدارج السالكين" (1/385) . 2 البخاري (946) ومسلم (1770) (69) . 3 زيادة بأصل ليستقيم السياق.

85- فقد تبين: أن لصلاة لما كانت أوكد من الجهاد؛ فإنه عند مزاحمة الجهاد لها أخفت1 حتى لا يفوت مصلحة الجهاد2. 86- وهذا أيضا كـ"الحج" وإن كان دون الصلاة باتفاق المسلمين. مسألة فيما ازدحم وقت الحج 87- فإذا تضيق وقته وازدحم هو والمقصود، مثل أن يكون ليلة النحر وهي ليلة عرفة ذاهبا إلى عرفة؛ فإن صلى صلاة مستقر فإنه الوقوف، وإن سار ليدك عرفة قبل طلوع الفجر فاتته الصلاة. 88- فللفقهاء ثلاثة أقوال: قيل: تقديم الوقوف؛ لأن عليه من تفويت الحج ضررا عظيما. وقيل: بل تقدم الصلاة لأنها أوكد. وقيل: بل يأتي بهما جميعا، فيصلي بحسب الإمكان صلاة لا تفوته الوقوف. وهذا أعدل الأقوال، وهو3 قول طائفة من أصحاب أحمد والشافعي وغيرهما. صلاة الخائف المطلوب 89- والعلماء متفقون على" أن الخائف المطلوب يصلي صلاة خائف.

_ 1 في الأصل: "أخف" والتصويب من سياق الكلام. 2 جاء بالأصل بعد هذه الفقرة عبارة بها سقط وخلل واضح وهي: "وقد تحصل فإنها من الفساد بين الجهاد وقت والضرورة ما لا يمكن تلافيه". 3 في الأصل: "هو" بدون واو.

صلاة الطالب 90- فأما الطالب فتنازعوا فيه، وفيه عن أحمد روايتان: إحداهما: أنه يصلي أيضا صلاة الخوف. 91- كما جاء في الحديث الذي رواه "أهل السنن"1 كأبي داود عن عبد الله بن أنيس قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خالد بن سفيان الهذلي، وكان نحو عرنة وعرفات، فقال: اذهب فاقتله. قال: فرأيته وحضرت صلاة العصر فقلت: إني أخاف أن يكون بيني وبينه ما إن أؤخر الصلاة. فانطلقت أمشي وأنا أصلي وأومئ بما نحوه. فلما دنوت منه قال لي: من أنت؟ قلت: رجل من العرب بلغني أنك تجمع لهذا الرجل، فجئتك في ذاك. قال: إني لفي ذاك. فمشيت معه ساعة، حتى إذا أمكنني علوته بسيفي حتى برد. 92- ومن قال هذا القول راعى أن مصلحة الجهاد مأمور بها أيضا فلا يمكن تفويت إحداهما، وإن لم يكن من تفويت

_ 1 أحمد (3/496) وأبو داود (1249) وأبو يعلى 0905) والبيهقي (3/256، 9/38) وقال الحافظ: "إسناده حسن" "فتح الباري" (2/437) .

الجهاد في هذا الوقت مفسدة ظاهرة كما أنه ليس في تأخير الصلاة مفسدة ظاهرة. 93- ولو كان تكميل الصلاة مقدما على الجهاد لكان ينبغي أن يترك الجهاد إذا علم أنه لا بد فيه من تحقيق الصلاة. قصر العدد وقصر العمل 94- فلما ثبت في السنة المتواتر أن الجهاد يفضل مع العلم بأنه يقصر فيه الصلاة بقصر العمل الذي هو قصر العدد فإن قصر العدد سنة السفر، وأما قصر العمل فسنة الخوف1. 95- ولهذا إذا اجتمع الأمران شرع القصر المطلق كما في قوله: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} (النساء: 101) . 96- والآية على ظاهرها؛ فإن القصر المطلق المتضمن لقصر العدد وقصر العمل، إنما يكون مع الأمرين.

_ 1 قال المصنف رحمه الله: "القصر الكامل المطلق هو قصر العدد وقصر الأركان. فقصر العدد: جعل الرباعية ركعتين. وقصر الأركان: هو قصر القيام والركوع السجود كما في صلاة الخوف الشديد، وصلاة الخوف اليسير. فالسفر: سبب قصر العدد، والخوف: سبب قصر الأركان". فإذا اجتمع الأمران قصر العدد والأركان وإن انفرد أحد السببين انفرد قصره فقوله سبحانه: {أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} مطلق في هذا القصر، وسنة رسول الله تفسير مجمل القرآن وتبينه وتدل عليه وتعبر عنه وهي مفسرة له لا مخالفة لظاهره" "مجموع الفتاوى" (22/91) .

97- وقد بينت السنة: أن مجرد الخوف يفيد قصر العمل ومجرد السفر يفيد قصر العدد. 98- فهذا كله مما يبين أن الصلاة وإن كانت أفضل الأعمال فإنها إذا اجتمعت مع الجهاد لم يترك واحد منهما بل يصلي بحسب الإمكان مع تحصيل مصلحة الجهاد بحسب الإمكان. 99- وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (لأنفال:45) . فأمر بالثبات والذكر معا. 100- وكانت السنة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه وأصحابه وخلفاء بني أمية وكثير من خلفاء بني العباس: أن أمير الحرب هو أمير الصلاة في المقام والسفر جميعا. الحكمة في كونه صلى الله عليه وسلم والمهاجرين كان مقامهم بالمدينة 101- وما ذكرناه يبين بعض حكمة كون النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرين كان مقامهم بالمدينة أفضل على أحد قولي العلماء؛ فإنهم كانوا بها مهاجرين مجاهدين مرابطين بخلاف مكة. 102- وهذا حيث كان الإنسان كذلك كان أفضل من المقام بالحرمين، حتى إن مالكا رضي الله عنه – مع فرط تعظيمه المدينة وتفضيله لها على مكة وكراهية الانتقال منها – لما سئل

عمن بدار1 وهو مقيم بالمدينة يأتي الثغور كالإسكندرية وغيره. أجاب: بأن عليه أن يأتي الثغور؛ لأن المرابطة بالثغور أفضل من مقامة بالمدينة. ما زال الصحابة والتابعين وتابعيهم يتناوبون الثغور 103- وما زال خيار المسلمين من الصحابة والتابعين وتابعيهم من بعدهم من الأمراء والمشايخ يتناوبون الثغور لأجل الرباط وكان هذا على عهد أبي بكر وعثمان أكثر، حتى كان عبد الله بن2 وغيره مرابطين. 104- وكان عمر من يسأله عن أفضل الأعمال إنما يدله على الرباط والجهاد، كما سأله عن ذلك من سأله، كالحارث بن هشام وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية وسهيل بن عمرو وأمثالهم ثم كان بعد هؤلاء إلى خلافة بني أمية وبني العباس ولهذا يذكر من فضائلهم وأخبارهم في الرباط أمور كثيرة.

_ 1 في الأصل" "عن بدر" والتصويب لاستقامة السياق. 2 كذا بالأصل.

طريقتين للسلف فى الرباط

طريقتين للسلف في الرباط 105- إحداهما: أن يرابط كل قوم بأقرب الثغور إليهم، ويقاتلون من يليهم كقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} (التوبة: 123) .

107- وهذا اختيار أكثر العلماء كالإمام أحمد وغيره، ولهذا كان أصحاب مالك كابن القاسم نحوه يرابط بالثغور المصرية. الطريقة الثانية في الرباط 108- والطريقة الثانية1: يجوزون الرباط بثغور الشام ونحوها بما فيها قتال النصارى. 109- فكان عبد الله بن المبارك يقدم من خرسان فيرابط بثغور الشام، وكذلك ابراهيم ابن أدهم ونحوهما، كما كان يرابط بها ومشايخ الشام كالأوزاعي وحذيفة المرغشي ويوسف بن أسباط وأبي اسحاق الفزاري ومخلد بن الحسين وأمثالهم2. 110- وكان المسلمون قد فتحوا قبرص في خلافة عثمان وبقيت تحت حكمهم أكثر من ثلاثمائة سنة. 111- وكانت "سيس" ثغر المسلمين، و"طرسوس" كانت من أسماء الثغور، ولهذا تذكر في كتب الفقه وتولى قضائها أبو عبيد الأمام وصالح بن أحمد بن حنبل وغيرهما3.

_ 1 في الأصل: "الثابتة" وهو تصحيف!! 2 راجع أيضا: "مجموع الفتاوى" (27/52، 53) . 3 راجع أيضا: "مجموع الفتاوى" (27/53) .

112- وكان ابن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهم يقولون: "إذا اختلف الناس في شيء فانظروا ما عليه أهل الثغر، فإن الحق معهم؛ لأن الله تعالى يقول: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} (العنكبوت: من الآية69) "1. السكن بالثغور والرباط من أعظم الأمور 113- وبالجملة: أن السكن بالثغور والرباط والاعتناء به أمر عظيم وكانت الثغور معمورة بالمسلمين علما وعملا وأعظم البلاد إقامة بشعائر الإسلام وحقائق الإيمان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان كل من أحب التبتل للعبادة والانقطاع إلى الله وكمال الزهد والعبادة والمعرفة يدلونه على الثغور. سبب اختيارهم الرباط بثغور النصارى 114- وإنما اختار من اختار الرباط بثغور النصارى الحديث الذي في "سنن أبي داود"2 عن ثابت بن قيس قال: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقال لها أم خلاد وهي منتقبة تسأل عن ابنها

_ 1 "الفروع" (3/490) وعزاه في "مدارج السالكين" (1/511) للأوزاعي وابن المبارك. 2 أبو داود (2488) والبيهقي (3/175) وأبو يعلى (1591) وفي إسناده عبد الخبير بن قيس. قال البخاري: حديثه ليس بالقائم منكر الحديث، وقال الذهبي في المغني: قال أبو حاتم منكر الحديث وقد ضعفه، الألباني في "ضعيف أبي داود" (2488) . "إن أرزء ابني فلن أرزء حيائي": بتقديم المهملة على بناء المفعول آخره همزة من الرزء وهي المصيبة بفقد الأعزة، أي إن أصبت ببني وفقدته فلم أصب بحيائي، كذا في فتح الودود. "عون المعبود " (7/166.) .

وهو مقتول، فقال لها بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم جئت تسألين عن ابنك وأنت منتقبة. فقالت.1: إن أرزء ابني فلن أرزء حيائي2، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ابنك له أجر شهيدين".قالت: ولما ذاك؟ قال: "لأنه قتله أهل الكتاب. فضيلة سكنى الشام 115- وهذا بعض [من الأخبار] 3 تبين فضيلة سكنى "الشام"، فإن أهل الشام ما زالوا مرابطين من أول الإسلام لمجاورتهم النصارى ومجاهدتهم لهم، فكانوا مرابطين مجاهدين لأهل الكتاب. 116- ولهذا فضل النبي صلى الله عليه وسلم جندهم على جند "اليمن" و"العراق" مع ما قاله في أهل اليمن4. 117 ففي "سنن أبي داود"5 وغيره، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:

_ 1 في الأصل: "فقال" والتصويب من مصادر التخريج. 2 في الأصل: "إخواني" والتصويب من مصادر التخريج. 3 مابين المعقوفتين زيادة يستقيم بها السياق. 4 وذلك فيما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: " أتاكم أهل اليمن هم أرق أفئدة وألين قلوبا الإيمان يمان والحكمة يمانية.." الحديث. رواه البخاري (4388) ومسلم (52) . 5 أحمد (4/110، 5/33، 34) . وأبو داو (2483) وصححه ابن جبان (7306) والحاكم (4/510، 555) واللفظ المذكور لهما ولفظ أبي داود عن عبد الله بن حوالة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سيصير الأمر إلى أن تكونوا جنودا مجندة جند بالشام وجند باليمن وجند بالعراق ... " وفيه: "فأما إن أبيتم فعليكم بيمنكم واسقوا من غدركم فإن الله توكل لي بالشام وأهله". وقال أبو حاتم الرازي في "العلل" (1/337) : "هو حديث صحيح حسن غريب " وراجع "فضائل الشام" لابن رجب ص (35) و"تخريج أحاديث فضائل الشام للربعي" للألباني (10، 11) . "خر لي": أي اختر لي جند ألزمه "غدره": جمع غدير، أي حياضه.

"إنكم ستجندون أجنادا جندا بالشام وجندا باليمن وجندا بالعراق " قال فقلت يا رسول الله: خر لي؟. فقال: "عليك بالشام فإنها خيرة الله من أرضه يجتبي إليها خيرته من عباده، فمن أبى فليلحق بيمنه وليسق من غدره1 فإن الله قد تكفل لي بالشام وأهله". قال الحوالي: ومن يتكفل الله به فلا ضيعة عليه. 118- وفي "سنن أبي داود"2 أيضا عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنه ستكون هجرة بعد هجرة فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم، ويبقى في الأرض شرار أهلها تلفظهم أرضوهم، تقذرهم3 نفس الرحمن، وتحشرهم النار مع القردة والخنازير".

_ 1 في الأصل: "عدوه" والتصويب من مصادر التخريج. 2 أبو داود (2482) وأحمد (2/84، 198، 209) والحاكم (4/565) ، وقال: "صحيح على شرط الشيخين". وقال الحافظ: "أخرجه أحمد وسنده لا بأس به" "فتح الباري" (11/380) . "مهاجر ابراهيم": بفتح الجيم وهو الشام "تلفظهم" بكسر الفاء أي تقذفهم وترميهم، يقال: قد لفظ الشيء لفظا إذا رماه. "تقذرهم": بفتح الذال المعجمة أي تكرههم. "عون المعبود" (7/158) . 3 في الأصل: "يلفظهم أو طيؤهم لقدرهم" وهو تصحيف!!

أهل الغرب هم أهل الشام 119- وفي" صحيح مسلم"1 عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يزال أهل الغرب ظاهرين [على الحق حتى تقوم الساعة] ". أهل الغرب هم أهل الشام 120- قال الإمام أحمد:" أهل الغرب هم أهل الشام"2. 121- يعني: ومن يغرب عنهم، فإن التغريب والتشريق من الأمور النسبية، والنبي صلى الله عليه وسلم تكلم بذلك وهو بالمدينة النبوية فما تغرب عنها فهو غرب المدينة كما أن"حران" و"الرمة" ونحوهما خلف مكة. 122-والكلام في هذا ونحوه يطول ويتعذر بحيث لا تحتمله هذه

_ 1 مسلم (1925) (177) من حديث سعد بن أبي وقاص، وما بين المعقوفتين زيادة منه. 2 "وسائل الإمام أحمد" لأبي داود (228) . وقال المصنف رحمه الله بعد أن أورد هذا الأثر:"وهم كما قال، لوجهين: أحدهما: أن في سائر الحديث بيان أنهم أهل الشام. الثاني: أن لغة النبي صلى الله عليه وسلم وأهل مدينته في أهل المغرب هم أهل الشام ومن يغرب عنهم كما أن لغتهم في أهل المشرق هم أهل نجد والعراق، فأن التغريب والتشريق من الأمور النسبية فكل بلد له غرب قد يكون شرقا لغيره، وله شرق قد يكون غربا لغيره، فالاعتبار في كلام النبي صلى الله عليه وسلم بما كان غربا وشرقا له حيث تكلم بهذا الحديث وهي المدينة ومن علم حساب الأرض كطولها وعرضها علم أن حران والرقة وسيمسياط على سمت مكة وأن الفرات وما على جانبيها بل أكثره على سمت المدينة بينهما في الطول درجتين فما كان غربي الفرات فهو غربي المدينة وما كان شرقيها فهو شرقي المدينة، فأخبر أن أهل الغرب لا يزالون ظاهرين، وأما أهل الشرق فقد يظهرون تارة ويغلبون أخرى، وهكذا هو الواقع، فإن جيش الشام ما زال منصورا وكان أهل المدينة يسمون الأوزاعي إمام أهل المغرب ويسمون الثوري شرقيا ومن أهل المشرق". "مجموع الفتاوى" (27/508) وراجع: "فضائل الشام" لابن رجب (40،66) .

الفتوى1 لكن هذه الأمور المتيسرة تعود إلى أفضل الأحوال الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيله كما ثبت ذلك بالنصوص. 123- وقد قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (الحجرات:15) الجهاد يعني تحقيق كون المؤمن مؤمنا 124- فالجهاد: تحقيق كون المؤمن مؤمنا؛ لهذا روى مسلم في "صحيحه"2 عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من مات ولم يغزو لم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من نفاق". 125- وذلك أن الجهاد فرض على الكفاية، فيخاطب به جميع المؤمنين عموما، ثم إذا قام به بعضهم سقط عن الباقين. ولا بد لكل مؤمن من أن يعتقد أنه مأمور به، وأن يعتقد وجوبه وأن يعزم عليه إذا احتيج إليه، وهذا يتضمن تحديث نفسه بفعله فمن مات ولم يغزو أو لم يحدث نفسه بالغزو نقص من إيمانه الواجب عليه بقدر ذلك؛ فمات على شعبة نفاق. 126- فإن قيل: فإذا كان الجهاد أفضل من الحج بالكتاب والسنة

_ 1 راجع:"منهاج السنة" (4/461، 7/58) و"الفتاوى الكبرى" (4/364، 358) و"مجموع الفتاوى" (27/508، 531، 28/531، 532، 552) . 2 مسلم (1910) (158) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

فما معنى الحديث الذي روته عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: يا رسول الله: لا أرى الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد؟ قال: "لكن أفضل الجهاد: حج مبرور" رواه البخاري1. الحج جهاد النساء 127- ورواه النسائي2 وفيه: ألا نخرج نجاهد معك فإني لا أرى عملا أفضل من الجهاد3. قال: لا، ولكن أحسن الجهاد وأجمله4 حج البيت حج مبرور". 128- وقيل:"وأفضل الجهاد للنساء حج مبرور". 129- فأخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن أفضل الجهاد للنساء حج مبرور. 130- وكذلك جاء مبينا، رواه النسائي عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " جهاد الكبير والصغير والضعيف والمرأة: الحج والعمرة". 131- وفي حديث آخر: " الحج جهاد كل ضعيف" 5.

_ 1 البخاري (1520) عن عائشة بنت طلحة عن عائشة أم المؤمنين بلفظ: "نرى" وأما اللفظ الذي ذكره المصنف فهو عند أبي يعلى (4717) . 2 أحمد (6/71، 79، 165) والنسائي (5/114، 115) وابن ماجه (2910) . 3 في الأصل: "فإني لا أرى من أفضل الجهاد" والتصويب من مصادر التخريج. 4 في الأصل: "وأكمله" والتصويب من مصادر التخريج. 5 رواه الطيالسي (1704) وأحمد (6/294، 303، 314) وابن ماجه (2902) =

132- وفي حديث آخر: هل على النساء جهاد؟ قال: " جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة" 1. 133- سياق الحديث المتقدم بين ذلك فإنها قالت: نرى الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد معك؟ قال: " لكن أفضل الجهاد: حج مبرور". فقد أقرها على قولها:" نرى الجهاد أفضل العمل"، ثم ذكر أن" أفضل الجهاد الحج المبرور". 134- وفي اللفظ الآخر2: ألا نخرج فنجاهد معك فإني لا أرى عملا في القرآن أفضل من الجهاد؟ قال: "لكن أحسن الجهاد وأجمله حج مبرور". فأقرها على قولها بفضل الجهاد، ثم لما استأذنته في الحج المعروف قال: "لا، ولكن أحسن الجهاد وأجمله حج البيت" وجعل فضله بكونه جهادا، ومعلوم بالحس أن الجهاد لا يقاوم الجهاد في الكفار والمنافقين، فعلم أنه أراد جهاد النساء - واللام للتعريف - ينصرف إلى ما يعرفه المخاطب.

_ =بإسناد منقطع؛ أبو جعفر بن علي لم يسمع من أم سلمة، وفي الباب: عن أبي هريرة وابن عباس ومعاوية وعائشة، انظر "العلل للدارقطني" (7/71) و"نصب الراية" (3/149، 150) و"التلخيص الحبير" (2/226) و"الضعيفة" (200.) . 1 أحمد (6/165) وابن ماجه (2901) وصححه ابن خزيمة (3074) . 2 البخاري (1861) .

135- ومقصود الناقل هنا: الجهاد الذي هو أفضل العمل له عند الله، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الجهاد الذي هو مقصوده ومطلوبه هو الحج، فإن السائل ضعيف، والحج جهاد كل ضعيف. 136- وفي "صحيح مسلم"1 عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا لكان كذا ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان".

_ 1 مسلم (2664) (34) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

فضائل الرباط فى السنة

فضائل الرباط في السنة. 137- وقد جاء في فضائل الرباط أحاديث في "الصحاح" و"السنن" تبين ما ذكرناه: حديث سهل بن سعد. 138- فروى البخاري في"صحيحه"2 عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها"

_ 2 البخاري (2892) وذكر الحافظ أن: "التعبير بقوله وما عليها أبلغ من رواية: "وما فيها" "الفتح" (6/86) ، وقال ابن الملقن: قوله "خير من الدنيا وما عليها": أي إن ثواب ذلك خير من نعيم الدنيا كله لو ملكه إنسان، وقصد تنعمه به؛ لأنه زائل، ونعيم الآخرة باق ولو لم يكن منه إلا النظر إل وجهه الكريم لكان كافيا" "الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" (10/286) .

حديث سلمان الفارسي. 139- وفي "صحيح مسلم"1 عن سلمان الفارسي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله وأجري عليه رزقه وأمن العذاب".

_ 1 مسلم (1913) (163) وعنده: "الفتان" بدل "العذاب". فائدة: قال الطحاوي رحمه الله في الجمع بين حديث سلمان في الرباط، وأنه ينموا للميت فيه عمله إلى يوم القيامة كيف ينموا له ما قد انقطع بموته وما صح عنه صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: "إذا مات ابن آدم انقطع عنه عمله إلا من ثلاث.." وما صح عنه صلى الله عليه وسلم أيضا فيمن سن في الإسلام سنة حسنة فعمل بها من بعده أن له أجرها، وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، وهذه أعمال قد لحقت الميت زائدة على الثلاثة الأشياء المذكورات في انقطاع عمله بموته إلا منها؟ فقال رحمه الله:"هذه آثار مؤتلف كلها لا خلاف ولا تضاد فيها؛ لأن حديث سلمان على عمل متقدم لموت المرابط، ينمو له بعد موته، لمعنى يتوفر له ثوابه إلى يوم القيامة، وهو عمل قد تقدم موته. وأما الحديث الآخر: فالمستثنى فيه وهو أعمال تحدث بعده؛ من صدقة بها عنه بعد وفاته هو سببها في حياته، وعلم يعمل به بعد وفاته هو سببه في حياته، وولد صالح يدعوا له بعد وفاته هو سببه في حياته، وكل هذه الأشياء يلحقه بها ثواب طارئ خلاف أعماله التي مات عليها فهو في ذلك خلاف الميت في رباطه الذي يعطى ثواب ما تقدم موته من أعماله الصالحة لا ثواب أعمال تحدث بعد وفاته. وأما الحديث الذي ذكره فيمن سن سنة حسنة فعمل بها بعد وفاته؛ فهي من العلم الذي كان بثه في حياته، وعمل به بعد وفاته المذكورة في الحديث المستثنى فيه تلك الثلاثة الأشياء. فبان بحمد الله، ونعمته أن لا تضاد في شيء من آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنها كلها مؤتلفة غير مختلفة والله نسأله التوفيق" "مشكل الآثار" (3/89) . وقال ابن عابدين رحمه الله في قوله "أجري عليه عمله": "كل من مات مرابطا يجعل بمنزلة المرابط إلى فناء الدنيا فيما يجري له من الثواب؛ لأن نيته استدامة الرباط لو بقي حيا إلى فناء الدنيا والثواب بحسب النية"اهـ. "رد المختار" (2/524) .

حديث فضالة بن عبيد 140- وفي "السنن"1 عن فضالة بن عبيد قال، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما من ميت يموت إلا ختم له عمله إلى يوم القيامة، ويؤمن من فتنة القبر" رواه أحمد وأبو داود وهذا لفضه والترمذي بمعناه. وزاد: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "المجاهد [من جاهد] نفسه في طاعة الله" قال الترمذي:"حسن صحيح". حديث عثمان بن عفان. 141- وقد تقدم2 حديث عثمان: " رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فينا سواه من المنازل". 142-وقد جاء عن السلف آثار3 فيها ذكر الثغور مثل "غزة" و"عسقلان" أو "الاسكندرية" و"قزوين" ونحو ذلك. 143- وأما الأحاديث المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم بتعيين "قزوين" و"الاسكندرية" ونحو ذلك فهي موضوعة4، كذب بلا

_ 1 رواه أحمد (6/20) أبو داود (2500) والترمذي (1621) والحاكم (2/144) وقال: "صحيح على شرط الشيخين" وما بين المعقوفتين سقط من الأصل. 2 تقدم تخريجه ص (33، 34) . 3 راجع: "سير أعلام النبلاء" (16/32، 151، 21/16) . 4 راجع: "الموضوعات" لابن الجوزي (2/55) و"تنزيه الشريعة" (2/62) و"الفوائد المجموعة" (1237) و"ميزان الإعتدال" (6/574) و"لسان الميزان" (6/138) .

ريب عند علماء الحديث، وإن كان ابن ماجه قد روى في "سننه"1 الحديث الذي في فضل"قزوين"، وقد أنكر عليه العلماء ذلك كما أنكروا عليه رواية أحاديث أخرى بضعة عشر حديثا من الموضوعات، ولهذا نقصت مرتبة كتابة عندهم عن مرتبة أبي داود والنسائي. 144- وقد قدمنا2 كون البلد ثغرا صفة عارضة أو لازمة، فلا يمكن فيه مدح مؤبد، ولا ذم مؤبد، إلا إذا علم أنه لا يزال على تلك الصفة.

_ 1 ابن ماجه (عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ستفتح عليكم الآفاق وستفتح عليكم مدينة يقال لها قزوين، من رابط فيها أربعين ليلة كان له في الجنة عمود من ذهب، عليه زبرجدة خضراء، عليها قبة من ياقوت حمراء لها سبعون ألف مصراع من ذهب، على كل مصراع زوجة من الحور العين") وهو حديث موضوع. قال السندي رحمه الله: "وفي الزوائد: هذا إسناد ضعيف يزيد بن أبان الرقاشي والربيع بن صبيح وداود بن المحبر فهو مسلسل بالضعفاء ذكره ابن الجوزي في "الموضوعات" وقال: هذا الحديث موضوع لا شك فيه، ولا أتهم بوضع هذا الحدبث غير يزيد بم أبان قال: والعجب من ابن ماجه مع علمه كيف استحل أن يذكر هذا الحديث في كتابه السنن ولا يتكلم عليه" اهـ. ونقل السيوطي عن ابن الجوزي أنه قال: هذا الحديث موضوع؛ لأن داود وضاع وهو المتهم به والربيع ضعيف ويزيد متروك. قللت: ويوافقه ما قاله الذهبي في "الميزان" في ترجمة داود لقد ساء ابن ماجه في سننه بإدخال هذا الحديث الموضوع فيها ذكره الترمذي. وقال السيوطي: أورده الرافعي في "تاريخه" وقال: مشهور رواه عن داود جماعة وأودعه الإمام ابن ماجه في سننه والحفاظ يقرنون كتابه بالصحيحين وسنن أبي داود والنسائي ويحتجون بما فيه لكن يحكى تضعيف داود عن أحمد وغيره والله تعالى أعلم" اهـ. "سنن ابن ماجه بشرح السندي" (3/350، 351) . 2 راجع ص (20) .

145- وإذا تبين ما في الرباط من الفضل، فمن الضلال ما تجد عليه أقواما ممن غرضه التقرب إلى الله والعبادة له بما يحبه ويرضاه يكون في الشام أو ما يقاربها فيسافر السفر الذي لا يشرع بل يكره ويترك ما هو مأمور به واجب أو مستحب.

الأدلة على من يقصد البيت المقدس للتعريف فى وقت الحج

الأدلة على من يقصد البيت المقدس للتعريف فى وقت الحج الوجه الأول ... الأدلة على ضلال من يقصد بيت المقدس للتعريف في وقت الحج. 146- مثال ذلك: أن قوما يقصدون التعريف بالبيت المقدس فيقصدون زيارته في وقت الحج ليعرفوا به، ويدعوا المقام بالثغور التي تقاربه، وهذا في الضلال والجهل والحرمان من وجوه: 147- أحدها: أن التعريف بالبيت المقدس ليس مشروعا لا واجبا ولا مستحبا بإجماع المسلمين، ومن اعتقد السفر إليه للتعريف قربة فهو ضال باتفاق المسلمين بل يستتاب فإن تاب وإلا قتل إذ ليس السفر مشروعا للتعريف إلا للتعريف بعرفات. 148- وأقبح من ذلك تعريف أقوام عند بعض قبور المشايخ والأنبياء وغير ذلك من المشاهد أو السفر كذلك. فهذا من أعظم المنكرات باتفاق المسلمين. 149- بل تنازع السلف في تعريف الإنسان في مصره من غير سفر مثل أن يذهب عشية عرفة إلى مسجد بلده فيدعو الله ويذكره. -فكره ذلك طوائف، منهم أبو حنيفة ومالك وغيرهما.

- وخص فيه آخرون، منهم الإمام أحمد. قال: لأن فعله ابن عباس بالبصرة وعمرو بن حرب بالكوفة. 150- ومع هذا فلم يستحبه أحمد وكان هو نفسه لا يعرف ولا ينهى من عرف. وقد قيل عنه: أنه يستحب. حكم السفر للتعريف بغير عرفة. 151- وأما السفر للتعريف بغير عرفة: فلا نزاع بين المسلمين [أنه] من الضلالات لا سينا إذا كان بمشهد مثل قربى أو رجل صالح أو بعض أهل البيت، فإن السفر إلى ذلك لغير التعريف منهي عنه عند العلماء من الأئمة وأتباعهم. 152- كما قال صلى الله عليه وسلم: "لا تشد الر حال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا" 1. 153- وقد رأى بصرة بن أبي بصرة الغفاري أبا هريرة راجعا من زيارة الطور فقال:" لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا"2.

_ 1 البخاري (1189) ومسلم (1397) (511) عن أبي سعيد رضي الله عنه. 2 النسائي في الكبرى (1754) وفي المجتبى (3/114) وأبو يعلى (11/435) والطبراني في الكبير (2/276) وفي الأوسط (3/158) .

حكم زيارة المشاهد وهل يقصر في سفره الصلاة؟ 154-[وقد] 1 قال من قال من هؤلاء كأبي الوفاء بن عقيل وغيره: إن المسافر لمجرد الزيارة لبعض المشاهد لا يقصر الصلاة لأنه ليس عاص بسفره، وإنما رخص في هذا السفر طائفة من المتأخرين2 ولكن الزيارة المشروعة إذا اجتاز الرجل بالقبر أو خرج إلى ما يجاوره من القبور كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج إلى البقيع وكما زار قبر أمه لما اجتاز بها في غزوة الفتح. 155- وقد ثبت عنه في الصحيح3 أنه قال: " استأذنت ربي أن أزور قبر أمي، فأذن لي، واستأذنته في أن أستغفر لها، فلم يأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة".

_ 1 مابين المعقوفتين زيادة ليستقيم بها السياق. 2 قال المصنف رحمه الله: "أما من سافر لمجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين، فهل يجوز له قصر الصلاة؟ على قولين معروفين: أحدهما: وهو قول متقدمي العلماء الذين لا يجوزون القصر في سفر المعصية؛ كأبي عبد الله بن بطة وأبي الوفاء بن عقيل وطوائف كثيرة من العلماء المتقدين: أنه لا يجوز القصر في مثل هذا السفر؛ لأنه سفر منهي عنه، ومذهب مالك والشافعي وأحمد: أن السفر المنهي عنه في الشريعة لا يقصر فيه. والقول الثاني: أنه يقصر، وهذا يقوله من يجوز القصر في السفر المحرم كأبي حنيفة ويقوله بعض المتأخرين من أصحاب الشافعي وأحمد ممن يجوز السفر لزيارة القبور الأنبياء والصالحين كأبي حامد الغزالي وأبي الحسن ابن عبدوس الحراني وأبي محمد بن قدامة المقدسي". "مجموع الفتاوى" (27/184، 185) . 3 مسلم (976) (108) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

156- وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقول أحدهم: " السلام عليكم أهل دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين نسأل لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم" 1. 157- وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه قال:" ما من رجل يمر بقبر الرجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام"2. الزيارة المشروعة للمسلم للقبور. 158- والزيارة المشروعة للمسلم: أن يسلم عليه ويدعو له كما أن الصلاة مقصودها الدعاء له. 159- ولهذا نهى الله نبيه صلى الله عليه وسلم عن الأمرين في حق المنافقين.

_ 1 مسلم (975) (104) من حديث بريدة قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر فكان قائلهم يقول: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله للاحقون أسأل الله لنا ولكم العافية. وعند مسلم (974) (102) من حديث عائشة: "السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ويرجم الله المستقدمين منا والمستأخرين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون" وأما جملة: "اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم" فوردت ضمن الدعاء في الصلاة على الميت من حديث أبي هريرة عند ابن ماجه (1498) . 2 قال العراقي في "تخريج الأحياء" (4/522) : "أخرجه ابن عبد البر في التمهيد والاستذكار بإسناد صحيح من حديث ابن عباس وصححه عبد الحق".

160- كما قال تعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} (التوبة: 84) . 161- ونهى نبيه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة على المنافقين والقيام على قبورهم، فكان في ذلك دلالة على أن المؤمنين يصلى عليهم ويقام على قبورهم. المقصود من زيارة القبور. 162- وقد قال طوائف من السلف والخلف وهو القيام على قبورهم بالدعاء والاستغفار1. 163- فزيارة قبر المؤمن من نبي وغيره مقصودها التحية والدعاء له فأما اتخاذ القبور مساجد والإشراك بها: فذلك كله حرام بإجماع المسلمين. الأحاديث في التحذير من اتخاذ القبور مساجد. 164- كما في"الصحيحين"2 عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في مرضه الذي مات فيه: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"، يحذر ما صنعوا. قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجدا.

_ 1 راجع: "تفسير الطبري" (10/203) . 2 البخاري (1330) ومسلم (529) (19) .

165- وفي"صحيح مسلم"1 أنه قال قبل أن يموت بخمس: "إني أبرأ إلى الله يكون لي منكم خليل، ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم عن ذلك". أمور غير مشروعة عند القبور. 166- وفي" السنن"2 عنه أنه قال: "لعن الله زوارات القبور والمتخذين عليها مساجد والسرج". 167- وقد اتفق أئمة المسلمين على: أنه لا تشرع: - الصلاة عند القبور، وقصدها لأجل الدعاء عندها. - ولا التمسح بها وتقبيلها، سواء في ذلك قبور الأنبياء وغيرهم3.بل ليس تحت أديم السماء ما يشرع التمسح به وتقبيله إلا الحجر الأسود والركن اليماني يستحب التمسح [بهما] .

_ 1 مسلم (532) (32) من حديث جندب رضي الله عنه. 2 أخرجه أحمد (1/229، 287، 324، 337) وأبو داود (3236) والترمذي (320) وصححه، والنسائي في الكبرى (2170) وفي المجتبى (4/95) من حديث ابن عباس، وإسناده ضعيف إلا إن له شواهد تجعله صحيحا لغيره إلا اتخاذ السرج؛ فليس له ما يشهد له وراجع "الضعيفة" للألباني (225) وكتابه أيضا: "تحذير الساجد" ص (43) . 3 راجع: "القول المنصور في حكم تحري قصد الدعاء عند القبور" و"تحذير المغرور من بدعتي التمسح وتقبيل القبور" كلاهما لشقيقنا أبي أنس السيد بن عبد المقصود يسر الله طباعتهما.

ما يشرع مسحه وما لا يشرع. 168- وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعون، فلم يمسحوا إلا الركنين اليمانيين، ولم يمسحوا سائر جوانب البيت ولا مقام إبراهيم الذي هناك، فكيف بمقام إبراهيم في تلك البقعة ومقام غيره من الأنبياء والصالحين. 169- وقد قال الله في كتابه: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} (نوح:23) 170- قال طوائف من الصحابة والتابعين: "هؤلاء كانوا قوما صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم لما طال عليهم الأمد صوروا صورهم، وكان ذلك مبدأ عبادة الأوثان"1. 171- ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم ما رواه مالك في "الموطأ"2: "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد".

_ 1 راجع: البخاري (4920) عن ابن عباس رضي الله عنه، وتعليق الحافظ في "الفتح" (8/667) ، و"تفسير ابن جرير" (29/98، 99) عن محمد بن قيس. وراجع أيضا: "فتح المجيد شرح كتاب التوحيد" لعبد الرحمن بن حسن (287-283) . 2 الموطأ (85) عن عطاء بن يسار مرسلا وابن أبي شيبة (3/354) عن زيد بن أسلم مرسلا ووصله أحمد (2/246) من حديث أبي هريرة، والبزار (44.- كشف الأستار) من حديث أبي سعيد الخدري، وصححه الألباني في "تحذير الساجد" (18، 19) .

- وفي "السنن"1 عنه أنه قال: "لا تتخذوا قبري عيدا". استبدال السيئات بالحسنات 173- فالسفر للتعريف ببعض المشاهد حرام فيكون بمنزله لحم الخنزير، وأما السفر للتعريف ببيت المقدس مثلا، والسفر لزيارة بعض القبور أو البقاع غير المساجد الثلاثة فهو أيضا منهي عنه، وإن كان وجد في ذلك لمن عهد إلى هذه البدع التي فيها من الشرك ما فيها، فتعبد بها وأقام بها وقصد ما يقصده من البقاع لأجلها وترك أن يقصد من البقعة أو ما هو قريب منها لأجل الرباط في سبيل الله الذي هو من أفضل الأعمال بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين – أليس هو ممن استبدل السيئات بالحسنات؟!!

_ 1 أحمد (2/367) واللفظ له وأبو داود (2042) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: "ولا تجعلوا قبري عيدا" وحسن إسناده المصنف في "الإقتضاء" (2/659) وأشار إلى شواهد له بها يصح الحديث، ولذا صححه النووي في الأذكار ((93) وأما اللفظ المذكور فهو عند أبي يعلى (469) وابن أبي شيبة (3/30، 2/150) .

الوجه الثانى من الأدلة

الوجه الثاني من الأدلة: 174- الوجه الثاني: أنه لو قدر أنه قصد بعض هذه البقاع قصدا مشروعا مثل السفر إلى بيت المقدس على الوجه المشروع للصلاة فيه والاعتكاف فيه، فإن هذا عمل صالح باتفاق المسلمين، وإن كان قد دخل فيه بدع كثيرة مثل البدع التي

تفعل هنا من السماع للمكاء والتصدية في النصف1 وعشر ذي الحجة ونحو ذلك مثل استلام بعض ما هناك من الأحجار فإنه لا يشرع أن يستلم أحد قط إلا الركنين اليمانيين للبيت العتيق ومثل اعتقادهم أن ذلك القدم المصنوع قدم النبي صلى الله عليه وسلم وظن أهل الجهل منهم أنه قدم الله وأشباه هذه الجهالات2. 175- فالزيارة إذا سلمت عن هذه البدع وغيرها كانت شرعية والسفر إلى الثغور للرباط أفضل منها، والعدول3 عن الفاضل إلى المفضول مع استوائهما غير محمود.

_ 2 راجع: "اقتضاء الصراط المستقيم" (1/427) .

الوجه الثالث من الأدلة

الوجه الثالث من الأدلة 176- الوجه الثالث: أن من الناس من يقصد المجاورة ببيت المقدس ويدع المجاورة بالثغر الذي هو قريب منه!! وهذا الباب من أفضل الأفضل وأجلها وهو فرض على الكفاية ومعلوم أن هذا أعظم خسرانا، وأشد حرمانا، وأبعد عن اتباع الشريعة؛ فإن المجاورة بالحرمين قد يتعسر عليه ذلك دون المرابطة لاختلاف المكانين. 177- أما مع تفاوت المكانين فالعدول عن هذه إلى هذا؛ يعني لا

_ 3 في الأصل: "والمعدول"!!

يصدر إلا من جهل أو من ضعف إيمان اللهم إذ نذر هذا فيكون هذا معذور. وأما الكلام فيمن يقدر على الأمرين. 178- ولهذا [لما] 1 كان أهل البدع مهملين أمر الجهاد معظمين للزيارة، استولى الكفار على كثير من الثغور، حتى قتل ببيت المقدس وقتلوا فيه من المجاورين من شاء الله، وكان قد جرت فيه بدع كثيرة. 179- ومن ذلك: من يقصد بعض هذه البقاع إما جبل لبنان وإما غيره لزيارته لظنه أن فيه الصالحين من الأبدال وغيرهم ويدع أن يقصد للرباط في سبيل الله، فإن هذا أيضا من الضلال العظيم، وأصل السفر إلى الزيارة غير مشروع ولا مأمور به بل هو من البدع والضلال. 180- وكذلك السياحة لغير قصد معين ليس ذلك مشروعا لنا. معنى السياحة في الإسلام 181- قال الإمام أحمد: "ليست السياحة من أمر الإسلام في شيء ولا من فعل النبيين ولا الصالحين"2. 182- والسياحة المذكورة في القرآن ليست هذه السياحة؛ فإن الله

_ 1 ما بين المعقوفتين زيادة ليستقيم بها السياق. 2 "مسائل الإمام أحمد " لابن هانئ (2/176) وراجع: "اقتضاء الصراط" (1/292) و"مجموع الفتاوى" (10/643) وراجع: "كشاف القناع" (1/506) .

قد قال: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً} (التحريم:5) . تفسير السياحة بالصيام والجهاد 183- ومعلوم أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم ونساء المؤمنين لا يشرع لهن السياحة. ولكن قد فسرت السياحة بالصيام، وفسرت بالجهاد وكلاهما مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم. 184- أما الأول: فرواه عمرو بن دينار عن يحي بن جعدة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا1. 185- وأما الثاني: فقال أبو داود في "سننه"2: "باب النهي عن السياحة"؛ وروي فيه حديث العلاء بن الحارث عن

_ 1 راجع: الأحاديث التي فسرت السياحة بالصيام عن أبي هريرة وعبيد بن عمير مرفوعا وكذا أقوال الصحابة والسلف كابن مسعود وابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد والضحاك والحسن وغيرهم؛ وذلك في "تفسير الطبري" (11/28، 29) ، عند تفسير قوله: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ} (التوبة: من الآية112) . 2 أبو داود (2486) والحاكم (2/83) وصححه، والبيهقي (9/161) . وحسنه الألباني في "صحيح أبي داود" (2486) . قال المصنف رحمه الله: "وأما السياحة التي هي الخروج في البرية من غير قصد معين فليست من عمل هذه الأمة ولهذا قال الإمام أحمد: ليست السياحة من الإسلام في شيء ولا من فعل النبين ولا الصالحين مع أن جماعة من إخواننا قد ساحوا السياحة المنهي عنها متأولين في ذلك أو غير عالمين بالنهي عنه من الرهبانية المبتدعة التي قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا رهبانية في الإسلام". اهـ. "اقتضاء الصراط المستقيم" (1/291) .

القاسم أبي عبد الرحمن، عن أبي أمامة أن رجلا قال: يا رسول الله ائذن لي بالسياحة؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله". 186- وكذلك أيضا روي: "رهبانية هذه الأمة: الجهاد في سبيل الله"1. لا رهبانية في الإسلام 187- إذ لا رهبانية في الإسلام، وأما ما ذكره في كتابه أن النص3ارى ابتدعوا الرهبانية فقد2 نهانا الله ورسوله عن البدع. 188- وثبت عنه في "صحيح مسلم"3 وغيره عن جابر، أنه كان يقول في خطبته: "إن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة". الأمر بالتباع والنهي عن الابتداع 189- وثبت عنه في "السنن"4 الحديث الذي صححه الترمذي

_ 1 أحمد (3/266) ، وأبي يعلى (4204) وابن عدي في "الكامل" (3/1056) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. وفي إسناده: زيد العمي زهو ابن الحواري: ضعيف. وصحح إرساله ابن أبي حاتم في "العلل" (1/317) وراجع: التعليق على "الجهاد" لابن أبي عاصم (33) . 2 في الأصل: "وقد" والتصويب لاستقامة السياق. 3 مسلم (867) (43) . 4 أحمد (4/126و127) وأبو داود (4607) والترمذي (2676) وابن ماجه=

عن العرباض بن سارية وقال: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة فقال رجل: يا رسول الله كأن هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا؟ فقال: "أوصيكم بالسمع والطاعة فإن من يعش منكم سيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة". النهي عن الغلو في العبادات في السنة 190- فكيف لما نهى الله عنه ورسوله من العبادات المبتدعة كما في"الصحيحين"1- واللفظ لمسلم- عن أنس بن مالك أن نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن عمله في السر؟ فقال بعضهم: لا أتزوج النساء. وقال بعضهم: لا آكل اللحم. وقال بعضهم: لا أنام على فراش. فحمد الله وأثنى عليه فقال: " ما بال أقوام قالوا كذا وكذا لكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني".

_ = (24، 44) والدارمي (1/44) وصححه الحاكم (1/97) ووافقه الذهبي، وقال الترمذي: "حسن صحيح" ونقل ابن عبد البر عن أبي بكر أحمد بن عمرو البزار قوله: "حديث عرباض في الخلفاء الراشدين صحيح ثابت" ثم قال: وهو كما قال. وصححه المصنف في غير موضع كما في "مجموع الفتاوى" (20/309) وفي "اقتضاء الصراط" (2/579) . 1 البخاري (5063) ومسلم (1401) (5) .

191- ولفظ البخاري1: جاء ثلاثة رهط بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا كأنهم تقالوها! فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ فقال أحدهم أما أنا فإني أصلي الليل أبدا وقال الآخر: أنا أصوم الدهر أبدا وقال الآخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج. فجاء رسول الله [فقال] : " أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني". 192- وفي "صحيح البخاري" عن سعد بن أبي وقاص قال: رد رسول الله صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون التبتل، ولو أذن له لاختصينا. 193- وفي"صحيح البخاري"2 وغيره عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا قائما في الشمس فقال: ما هذا؟ فقالوا هذا

_ 1 البخاري (5063) ، وما بين المعقوفتين زيادة منه ليستقيم السياق. 2 البخاري (5063) ومسلم (1402) (6) .

أبو إسرائيل، نذر أن يقوم في الشمس ولا يجلس، ولا يستظل وأن يصوم فقال:" مروه فليجلس، وليستظل وليتكلم وليتم صومه". حكم نذر المعصية. 194- فلما كان هذا الناذر نذر ما هو سنة وما هو بدعة أمره بالوفاء بالسنة دون البدعة كما في"صحيح البخاري"1 عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصيه". 195- وهذا متفق عليه بين أئمة الدين، لكن تنازعوا هل كفارة يمين أو نذر ما ليس مشروعا، بعد اتفاقهم على أنه لا يفعله؟ فقيل: لا شيء عليه، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وغيرهما لأنه ليس في هذا الحديث وغيره أنه أمر له بالتكفير. وقيل: بل عليه كفارة يمين، وهو ظاهر مذهب أحمد2. 196-لما ثبت في"صحيح مسلم"3، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" كفارة النذر كفارة اليمين".

_ 1 البخاري (6696) . 2 راجع: "المبدع" (9/328-330) و"الإنصاف" (11/122-136) . 3 مسلم (1645) (13) عن عقبة بن عامر رضي الله عنه.

197- وفي السنن1 عنه أنه قال: "لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين". النهي عن صيام الدهر 168- وقد ثبت في الصحيح2 عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أفضل الصيام صيام داود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه". 199- وقد استفاض عنه في الصحيح أنه نهى عن مداومة الصيام والقيام وقراءة القرآن في كل ثلاث3. 201- كما جاء في الحديث: "أحب الدين إلى [الله] الحنيفية السمحة" 4.

_ 1 أبو داود (1525) والترمذي (1525) والنسائي (7/26، 27) وابن ماجه (2125) . 2 البخاري (1131) ومسلم (1159) (181) . 3 راجع: البخاري (5052) ومسلم (1159) (189) . 4 علقه البخاري (1/93) وقال الحافظ رحمه الله: "وهذا الحديث معلق لم يسند المؤلف في هذا الكتاب؛ لأنه ليس على شرطه. نعم وصله في كتاب الأدب المفرد [287] "، وكذا وصله أحمد بن حنبل [5/266] وغيره من طريق محمد بن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس وإسناده حسن، استعمله المؤلف في الترجمة لكونه متقاصرا عن شرطه وقواه بما دل على معناه؛ لتناسب السهولة واليسر". وما بين المعقوفتين زيادة من التخريج.

لن يشاد الدين أحدا إلا غلبه 202- وفي الصحيح1 عنه أنه قال: "إن هذا الدين متين وإنه لن يشاد الدين أحد إلا غلبه، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة، والقصد القصد تبلغوا". 203- وفي" الصحيحين"2 عنه أنه قال: " أكلفوا من العمل ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا". 204- وفي السنن3 عنه أنه قال: " لكل عامل شرة وفترة، فمن كانت فترته إلى سنة فقد اهتدى، ومن أخفاها فقد ضل".

_ 1 البخاري (39) عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحدا إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة". وبلفظ: (6463) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سددوا وقاربوا واغدوا وروحوا وشيء من الدلجة، والقصد القصد تبلغوا". "القصد القصد تبلغوا": أي الزموا الطريق الوسط المعتدل "فتح الباري" (11/298) . 2 البخاري (6465) ومسلم (782) (215) من حديث عائشة رضي الله عنها، واللفظ المذكور لأبي داود (1368) . "اكلفوا" بفتح اللام وبضمها، قال ابن التين هم في اللغة بالفتح، ورويناه بالضم، والمراد به: الإبلاغ بالشيء إلى غايته، يقال: كلفت بالشيء إذا أولعت به "فتح الباري" (11/298، 299) . 3 الترمذي (2453) عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ: "إن لكل شيء شره ولكل شرة فترة فإن كان صاحبها سدد وقارب فارجوه وإن أشير إليه بالأصابع فلا تعدوه" وقال: "حديث حسن صحيح غريب" وأحمد (2/188) وابن حبان (11) والطحاوي في شرح مشكل الآثار (1236) من حديث عبد الله بن عمرو "إن لكل عمل شرة ولكل شرة فترة، فمن كانت شرته إلى سنتي فقد أفلح، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك".

205- وفي لفظ: " ولكل شرة فترة، فإن صاحبها سدد وقارب فارجوه، وإن أشير إليه بالأصابع فلا تعدوه". 206- فقيل: للحسن البصري لما روى هذا الحديث: إنك إذا مررت بالسوق فإن الناس يشيرون إليك؟ فقال:" لم يرد ذلك وإنما أراد المبتدع في دينه والفاجر في دنياه". الفترة نوعان. 207- وهو كما قال الحسن رضي الله عنه، فإن من الناس من يكون له شدة ونشاط وحدة واجتهاد عظيم في العبادة، ثم لابد من فتور في ذلك. 208- وهم في الفترة نوعان: 209- منهم: من يلزم السنة فلا يترك ما أمر به، ولا يفعل ما نهي عنه بل يلزم عبادة الله إلى الممات، كما قال تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} (الحجر:99) .يعني الموت 1. 210- قال الحسن البصري:" لم يجعل الله لعباده المؤمنين أجلا دون الموت"2.

_ 1 وهذا التفسير ورد من قول سالم بن عبد الله بن عمر: أخرجه وكيع في الزهد (42) ومن طريقه ابن أبي شيبة (7/196) وابن جرير (14/51) وإسناده صحيح. وفي الباب: عن مجاهد والحسن وقتادة. راجع:"تفسير الطبري (14/151) . 2 رواه ابن المبارك في الزهد (1/7) قال أخبرنا جرير بن حازم قال سمعت الحسن.

211- ومنهم: من يخرج إلى بدعة في دينه أو فجور في دنياه حتى يشير إليه الناس، فيقال: هذا كان مجتهدا في الدين ثم صار كذا وكذا. 212- فهذا مما يخاف على من بدل عن العبادات الشرعية إلى الزيادات البدعية. 213- ولهذا قال أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود:" اقتصاد في سنة خير من اجتهاد في بدعة"1. 214- ومع هذا فجنس الجهاد أفضل، بل قد روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: مر رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بشعب فيه عيينة من ماء عذبة فأعجبته. فقال: لو اعتزلت الناس، فأقمت في هذا الشعب، ولن أفعل حتى أستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: "لا تفعل، فإن مقام أحدكم في سبيل الله أفضل من صلاته في بيته سبعين عاما، ألا تحبون أن يغفر الله لكم

_ 1 أما أثر ابن مسعود: فرواه الدارمي (323) والحاكم (1/103) واللاكائي في "السنة" (13، 14) . وأما أثر أبي: رواه اللاكائي في السنة (10) وأبو نعيم في الحلية (1/252، 253) وأورد المصنف في: "الإستقامة " (1/259) و"الرد على البكري" (1/173) .

ويدخلكم الجنة، اغزوا في سبيل الله من قاتل في سبيل الله فواق ناقة وجبت له الجنة". قال الترمذي:"حديث حسن صحيح"1. و"فواق الناقة":ما بين الحلبتين. شروط العمل. 215- وجماع الأمر: ما قاله الفضيل بن عياض في قوله: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} (الملك: 2) . قال:" أخلصه وأصوبه". قالوا: يا أبا علي: ما أخلصه وأصوبه؟ قال:" إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل. وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل، حتى يكون خالصا صوابا، والخالص: أن يكون لله، والصواب: أن يكون على السنة"2.

_ 1 رواه أحمد (2/446، 524) والترمذي (1650) والحاكم (2/78) وقال: "صحيح على شرط مسلم" والبيهقي (9/160) . وقد حسنه الألباني في "صحيح الترغيب" برقم (1301) . تنبيه: وقع في نسخ الترمذي المطبوعة: "هذا حديث حسن". 2 رواه أبو نعيم في الحلية (8/95) ونظرا لأهميته فقد أورده المصنف في كثير من كتبه ومنها "اقتضاء الصراط " (2/843) و"الصفدية" (2/249، 263) و"الإستقامة" (1/248) و"الرد على البكري" (1/175) و"مجوع الفتاوى" (1/333، 3/124، 7/495، 509، 585، 18/250) .

216- وهذا كما قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} (الكهف: من الآية110) . 217- وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول:" اللهم اجعل عملي كله صالحا، واجعله لوجهك خالصا، ولا تجعل لأحد فيه شيئا"1. تعريف العمل الصالح 218- والعمل الصالح: هو المشروع. وهو: طاعة الله ورسوله. وهو: فعل الحسنات التي يكون الرجل به محسنا2. 219- قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} (النساء:125) . 220- وقال: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة:112) .

_ 1 أورده المصنف أيضا في: "اقتضاء الصراط" (2/843) و"الصفدية" (2/262) و"الاستقامة" (2/308) و"منهاج السنة" (5/253) . 2 وقال تلميذه النجيب العلامة ابن القيم رحمه الله في تعريفه للعمل الصالح أيضا: "هو العمل الخالي من الرياء المقيد بالسنة" "الجواب الكافي" ص (91) .

لا بد في سائر الأعمال الشرعية من السنة 221- ولابد في الرباط والهجرة والجهاد وسائر الأعمال الشرعية من السنة التي هي روح العمل. 222- كما في"الصحيحين"1 عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه". 223- وفي"الصحيحين2 عنه أنه قيل له: يا رسول الله يقاتل الرجل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء فأي ذلك في سبيل الله؟ فقال: " من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله". 224- قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} (لأنفال:39) . 225- فالله تعالى يوفقنا وسائر إخواننا المؤمنين لما يحبه ويرضاه لنا من الأحوال والأعمال الباطنة والظاهرة ويجنبنا ما يكرهه لنا من ذلك كله.

_ 1 البخاري (6953) ومسلم (1907) (155) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه. 2 البخاري (7458) ومسلم (1904) (149) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.

226- وأعظم من ذلك: أ، يتشاغل المسلمون بقتال بعضهم بعضا كما يجري بين أهل الأهواء، من القبائل وغيرها كقيس ويمن وحرم وتعلب ولحم وجذام وغيرها، مع مجاورتهم للثغور، فيدعون الرباط والجهاد الذي هو سعادة الدنيا والآخرة- كما قال تعالى: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} (التوبة: من الآية52) . يعني: إما النصر والظفر، وإما الشهادة والجنة- ويشتغلون بقتال الفتن والأهواء الذي هو خسارة الدنيا والآخرة. 227- وفي"الصحيحين"1 عن أبي بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه [قال] : "إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار". فقيل يا رسول الله: هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصا على قتل صاحبه". 228- وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِك َ

_ 1 البخاري (31) ومسلم (2888) (14) وما بين المعقوفتين زيادة يستقيم بها السياق.

يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (آل عمران:102-107) . 230- وهذه الفتيا لا تحتمل البسط في هذه الورقة، وإنما نبهنا على النكت الجامعة. الحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم وحسبنا الله ونعم الوكيل.

§1/1