مرويات غزوة بني المصطلق وهي غزوة المريسيع

إبراهيم بن إبراهيم قريبي

مقدمة

المُقَدِّمَة: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: فإن علم التاريخ من أعظم العلوم قدراً وأجلها مكانة، لأنه سجل حافل بتجارب البشرية على مدار التاريخ، والعلم به وإدراك أبعاده يكسب صاحبه خبرة وحنكة1، وفهماً لأحداث الأمم، يضاف إلى تجارب العالم به، فيكون بمثابة عاقل مشهود له، تجمعت لديه عقول البشرية، فهو يستشيرها ويأخذ بأحسنها سداداً وأصوبها رأياً. هذا وإن واسطة العقد في علم التاريخ هو علم السيرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، وإن الأحداث تشرق وتتعالى بقدر علو وشرف محدثيها ومن هنا كان شرف وعظمة علم السير والمغازي، لأنه يناط2 بأفضل البشرية وأكرمها على خالقها، ألا وهو الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم

_ 1 الحنكة: بضم الحاء المهملة وسكون النون، والكاف المفتوحة: السن والتجربة والبصر بالأمور. انظر: لسان العرب 12/299. 2 يناط: يتعلق.

التسليم، فلذا يجدر بي أن أنوّه1 بشأن هذا الموضوع، والكتابة فيه، وأن أشير إلى أن العناية بالسيرة والكتابة فيها ضرورة لازمة. ضرورة العناية بالسيرة النبوية: من المعلوم أن كل أمة لها أبطالها ورجالها الخالدون بأعمالهم، ومفاخرهم، فهي تحرص على تسجيل جميع ما يتصل بهؤلاء الأفذاذ من أبنائها، لأنها تعتبر ذلك مفخرة من مفاخرها، ومأثرة2 من مآثرها، وليس ذلك فحسب، بل إنها تريد أن تظل حياة هؤلاء الرجال سيرة طاهرة نقية ترتادها الأجيال المقبلة لتقتدي بهم، وتسلك سبيلهم، وهذا ما فعلته الأمم الراقية ذات الحضارات الخالدة في سجل التاريخ. وإذا فعلت ذلك أية أمة من الأمم الأرض برجالها، فإن أمة الإسلام أولى بذلك وأحرى لأنه ليس لأمة من الأمم تاريخ مشرق وضاء، مثل ما لأمة الإسلام. وما كانت تستطيع ذلك أو تحلم به لولا أن اختار الله منها أفضل الخلق أجمعين سيد الأولين والآخرين النبي الأمين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، فدخلت بسببه في سجل التاريخ، (وما كان لها ذكر) ثم أصبحت سيدة الأمم كلها، وخير أمة بما حباها الله به من نور الإيمان والقيام بمتطلبات الإسلام، فكانت بذلك خير أمة أخرجت للناس، وليست أمة من الناس. وكان ذلك بفضل اقتدائها بسيرة نبيها صلى الله عليه وسلم، ومن هنا وجبت العناية بهذه السيرة العطرة، فهي سيرة مفردة من بين سائر الرجال والأبطال، لأنها سلمت من العيوب والمثالب، وكانت كلها فضائل ومناقب إذ هي معصومة بعصمة الله لصاحبها من الوقوع في الأخطاء البشرية التي لا يسلم منها عادة أحد من الناس فكانت حجة على الناس يجب تبنيها والعمل بمقتضاها، والبحث عن جميع ما يتصل بها بحثاً علمياً يعتمد على الدراسة النقدية المستندة

_ 1 أنوه: نوّهت بالشيء ونوهته تنويهاً رفعته، ونوهت باسمه، رفعت ذكره. لسان العرب 17/442. 2 الأثرة والمأثرة، بسكون الثاء وفتحها وضمها: المكرمة لأنها تؤثر، أي: تذكر ويأثرها قرن عن قرن يتحدثون بها. وفي المحكم: المأثرة: المكرمة المتوارثة. انظر: لسان العرب 5/62.

إلى علم الإسناد، لأن سيرته صلى الله عليه وسلم بجميع أحداثها تطبيق عملي للإسلام وقد قال تعالى لنبيه: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} ، [سورة الأنعام، الآيتان: 162 - 163] . فحياته صلى الله عليه وسلم لله يعني أن ذلك عمل بأوامر الله، وبه صرحت الآية {وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ} فكانت العناية بسيرته صلى الله عليه وسلم عناية بشريعته، بل بالجانب العملي التطبيقي لهذه الشريعة. ومن العجائب أن نجد عناية فائقة بحديثه صلى الله عليه وسلم من علماء خصصوا أنفسهم لذلك، ولا نجد تلك العناية بسيرته صلى الله عليه وسلم، وتنقيتها من الشوائب، على أن علم الحديث يشتمل على جزء كبير من سيرته صلى الله عليه وسلم، غير أنه لا يشتمل على جميع السيرة، فكان جديراً بالجامعات الإسلامية أن تفرد علم السِّير والمغازي بأهمية خاصة تتمثل في البحوث التخصصية التي تعنى بتصفية السيرة النبوية مما علق بها من تحريف وزيادة، أو كذب وافتراء، كما تعني بتحليل هذه السيرة بأسلوب علمي يتناسب مع لغة المثقف المعاصر، ليتسنى له قراءتها والتأسي بها، وهي حاجة إسلامية ملحة في الوقت الحاضر أكثر من أي وقت مضى. غير أن تلبية هذه الحاجة تحتاج إلى جهود علمية موفقة على مستوى عال، ودراسة جادة تعنى بالجانب العلمي والجانب التحليلي ليتيسر للقارئ الإستفادة من هذه السيرة الطاهرة العامرة بكل خير وفضيلة. الدافع لي على الكتابة في السيرة: يمكن أن ألخص الأسباب التي حفزتني للكتابة في السيرة فيما يلي: أولا: أن السيرة النبوية الشريفة، هي الميدان العملي الذي طبقت فيه شريعة الإسلام، فالكتابة فيها تكتسب منهجاً تطبيقياً وعملياً أبعد ما يكون عن الفروض والنظريات الجافة.

ومن هنا أحسست بأهمية الموضوع الذي أخوض غماره، فهو مجال تربوي عملي، يشعر فيه المسلم أنه أمام حياة حافلة بالأمجاد الواقعية، والبطولات الإسلامية النادرة التي تجسدت في خطوات المصطفى صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام. ثانياً: أن علم السيرة والمغازي من العلوم الإسلامية التي اختلط فيها الحق بالباطل والسليم بالسقيم، والصحيح بالضعيف من جرّاء الجمع الذي لا يراعى فيه إلاَّ حشد الوقائع والأحداث دون تمحيص أو تدقيق، وكان هذا هو الأسلوب المتبع لدى كُتّاب السير والمغازي. وقد يكون عذرهم مقبولاً في ذلك، لأنهم قد أوردوا ذلك بالأسانيد منسوبة إلى قائليها، ومن أراد التحقيق فله ذلك، غير أن هذا الأسلوب الذي سلكه كتّاب السير والمغازي، أساء إلى السيرة النبوية كثيراً، وخلط فيها خلطاً مشيناً، فرأيت أن أختار هذه الغزوة فأقوم بتمحيص مروياتها، لأن الكذب في سيرته صلى الله عليه وسلم كالكذب في حديثه، يحتاج إلى بذل الجهود المخلصة لتنفيه من سيرته صلى الله عليه وسلم كما نفته من حديثه، فكان ذلك من جملة البواعث والأسباب التي دفعتني للكتابة في هذه الغزوة. ثالثاً: أن سيرته صلى الله عليه وسلم في حياته ليست مجرد أوصاف لعاداته وصفاته الطبيعية، وإنما هي بالإضافة إلى ذلك أحكام ومعاملات وعقود ومعاهدات وحياة حافلة بالأعمال النبوية في شتى المجالات. وتجتمع هذه الحياة النبوية الشريفة في نطاق الأسوة والقدوة التي أمرنا الله بها في كتابه، في قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} ، [سورة الأحزاب، الآية:21] . ولا يتأتى للمسلم أن يقتدي به عليه الصلاة والسلام في سيرته إلاَّ إذا كانت تلك السيرة ثابتة عنه صلى الله عليه وسلم، وفق مناهج المحدثين، وهذا أمر شائك، لا يستطيع القيام به إلاَّ من توفرت لديه وسائله العلمية المطلوبة،

وأهمها علم الإسناد، ولا أدعي أنني قد توفرت لدي هذه الوسائل، فذلك أمر دونه خرط القتاد1. ولكن حاولت جهد طاقتي بوسائلي المتواضعة أن أجرد نفسي للكتابة في هذه الغزوة، فإن أكن أصبت فالحمد لله، وإن أخطأت فإنني أرجو ممن عثر على خطأ أن يسدده وينبهني عليه، فإنني قليل البضاعة في هذه المسالك العلمية. سبب اختياري لهذه الغزوة: أما سبب اختياري غزوة بني المصطلق موضوعاً لرسالتي فأجمله فيما يلي: 1-أن هذه الغزوة من أهم الغزوات خطورة في حياة المسلمين في عهدهم الأول، لأنها كانت مرتعاً خصباً للمنافقين حيث اتخذوا فيها صنوفاً من الكيد للإسلام والمسلمين ولنبي الإسلام صلى الله عليه وسلم، فقد حاولوا تمزيق وحدة المسلمين بإيجاد الشقاق بين المهاجرين والأنصار، وإعادة النعرة2الجاهلية، كما وقعت فيها حادثة الإفك التي كان الهدف من إثارتها زعزعة اليقين في ساحة النبوة ونشر البلبلة في صفوف المسلمين بإثارة العصبية القبلية، كما حصل بين قبيلتي الأوس والخزرج، فلهذه الغزوة إذاً أهمية خاصة لما تشتمل عليه من الأحداث الجسام التي كانت في عهد الإسلام الأول. 2-تعدد الروايات وكثرتها بحيث تستحق أن تفرد ببحث خاص بها يحقق ما جاء فيها ويجمعها في موضوع واحد من مظانها الكثيرة. 3-أن هذه الغزوة تشتمل على مباحث علمية وأحكام شرعية كثيرة، بعضها

_ 1 هو مثل يضرب للأمر الذي دونه مانع، والخرط: هو قشرك الورق عن الشجرة اجتذاباً بكفك، والقتاد: شجر له شوك أمثال الإبر. مجمع الأمثال 1/265،رقم المثل 1395. 2 النعرة: كهمزة: الخيلاء والكبر، والنعرة أيضاً: ذباب أزرق يلسع الدواب وربما دخل أنف الحمار فيركب رأسه، ولا يرده شيء، سميت بذلك لنعيرها وهو صوتها، ثم استعيرت للنخوة والأنفة والكبر. انظر: لسان العرب 7/79، وانظر القاموس المحيط 2/145.

شرع في هذه الغزوة كحد القذف، والعزل، وجعل العتق صداقاً، وغير ذلك مما تكفّلت الرسالة بإيضاحه. وهذه الأمور التي ذكرتها بإجمال لبيان أهمية هذه الغزوة، تدل على مبلغ الفائدة التي تقدمها هذه الرسالة المتواضعة لطلاب العلم المشتغلين بعلم الحديث والفقه، وهي فائدة عظيمة النفع إن شاء الله.

تَقْوِيم المَصَادِر وتحلِيلِها: إن المصادر التي رجعت إليها واعتمدتها في بحث الرسالة كثيرة ويحسن بي أن أعطي نبذة عن أهمها وأوسعها استيعاباً في موضوع الرسالة، وألصقها بفن التاريخ والمغازي والسير، وعلم الإسناد والحديث، ولا يتسع المقام لتحليل جميع ما رجعت إليه منها، وإنما أكتفي ببعضها منبهاً على أهمية وثناء العلماء عليه، ومدى الفائدة التي أفدتها منه. 1-فأول هذه المصادر كتاب الحربي المسمى (كتاب المناسك وأماكن طرق الحج ومعالم الجزيرة) وهو كتاب أثري قديم؛ لأن مؤلفه من علماء القرن الثالث الهجري، حيث كانت ولادته عام 198هـ، وتوفي عام 275هـ. والكتاب أفدت منه كثيراً في تحديد الأماكن ووصفها، وقد تنوزع في نسبته إلى مؤلفه، والتحقيق أنه من مؤلفاته كما جزم بذلك المحقق للكتاب حمد الجاسر، واستدل لذلك بأدلة بسطها في مقدمة تحقيقه للكتاب المذكور1.وأقره على ذلك أكرم العمري2. وأبو إسحاق إبراهيم بن إسحاق بن إبراهيم عالم جليل ومحقق قدير، أثنى عليه العلماء ثناءً عظيماً، ووصفوه بغزارة العلم وحسن الخلق والتقوى والورع، وهو من كبار علماء الحديث وأصوله، وقد تتلمذ على الإمام أحمد بن حنبل وأخذ

_ 1 انظر ص 268–270 من كتاب المناسك. 2 موارد الخطيب البغدادي، ص357.

عنه علم الحديث بعد أن جهد كثيراً في الوصول إلى مدرسة الإمام أحمد، ولازمه مدة طويلة تقدر بعشرين عاماً ابتداء من 221هـ حتى وفاة الإمام أحمد بن حنبل عام 241هـ فهو من جلة أصحاب الإمام بن حنبل رحمه الله. فال الخطيب:"ان إماماً في العلم رأساً في الزهد عارفاً بالفقه بصيراً بالأحكام حافظاً للحديث، مميزاً لعلله، قيماً بالأدب جماعاً للغة".وله مؤلفات كثيرة مبسوطة في تراجمه. وقد كان هذا الإمام يقاس بالإمام أحمد بن حنبل في زهده وعلمه وورعه، كما قال ذلك الدارقطني رحمه الله، وكفى بذلك دلالة على عظمة هذا الإمام1. وكتابه هذا الذي رجعت إليه من أهم الكتب التي ضبطت على وجه التحديد الأماكن التاريخية من الوجهة الجغرافية؛ فهو يتحدث عن الأماكن التي وقعت فيها أحداث تاريخية، حديثاً موثوقاً به، عن رواة عالمين بهذه الأماكن حديثي عهد بها، ولذلك عد هذا الكتاب مصححاً لكثير من الأخطاء التي وقع فيها الذين عنوا بالكتابة في تحديد الأماكن ومعالم الجزيرة، كما اعتبر وثيقة تاريخية في بابه، لما يشتمل عليه من المادة العلمية الغزيرة، المتعلقة بموضوعه، وهي مادة غنية بالوصف الدقيق والتحديد المميز لمعالم الجزيرة، مما أفادني فائدة عظيمة في توضيح الأماكن التاريخية الواردة في موضوع الرسالة. 2-ويتصل بهذا الجانب الجغرافي كتاب (معجم البلدان) لمؤلفه شهاب الدين أبي عبد الله ياقوت بن عبد الله الحموي، وهو من المراجع الهامة التي رجعت إليها في توضيح وتحديد الأماكن ذات الأحداث والوقائع التاريخية المتصلة بموضوعي، والكتاب المذكور من أعظم الكتب التي عنيت بتحديد المواقع الجغرافية والبلدان الإسلامية، وقد كان مؤلفه كثير الرحلات والتنقلات مما

_ 1 راجع تذكرة الحفاظ للذهبي 2/584، وموارد الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد لأكرم العمري ص 357

أكسبه خبرة جغرافية وأدبية، فتهيأ له أن يؤلف هذا المعجم الواسع ليحدد به مواقع البلدان وما يتصل بها من أحداث وعلوم، فكان كتابه شاملاً للجانب الجغرافي والأدبي والعلمي، ونظراً لأن ياقوتا الحموي يعتمد عدداً ضخماً من المؤلفات المتقدمة عليه، بعضها من مؤلفات القرن الثالث الهجري، والبعض الآخر متأخر، فإن الاعتماد عليه يحتاج إلى تدقيق كبير لمعرفة وصف المكان كما كان عليه وقت الأحداث وتمييز ما طرأ عليه من تغير في زمن تصنيف المؤلفات المتأخرة. والكتاب ديوان ضخم في هذا الباب اتخذه العلماء منهلاً عذباً ومرجعاً هاماً في موضوعه. ولذا فقد أخذت منه كثيراً واعتمدته مرجعاً في بابه، ومؤلفه عالم جليل وأديب كبير ضمّن كتابه هذا علوماً جمة وسدّ ثغرة علمية مهمة أفادت الباحثين في كل الأزمنة التي تلته. وقد رُمي ياقوت الحموي بالنصب* بسبب منازعة جرت بينه وبين شخص بغدادي في دمشق في علي بن أبي طالب رضي الله عنه فبدر من كلامه ما لزم منه أنه نسب إلى رأي الخوارج في التعصب على علي رضي الله عنه، ولكن هذه التهمة لم تثبت عن ياقوت رحمه الله وذلك لأنه يذكر في كتبه فضائل الإمام علي بن أبي طالب ولم يبدر منه فيها ما يؤيد نسبة النصب إليه، حتى قال ابن حجر: "لم أر في شيء من تصنيفه التصريح بالنصب، بل يحكي فيها فضائل علي ما يتفق ذكره"1. وكانت وفاة ياقوت سنة 626?ـ، وأما ولادته فلم يعلم عنها شيء على وجه التحديد. وهناك مراجع كثيرة استعنت بها في هذه الناحية الجغرافية لا يتسع المقام لتحليلها كلها.

_ (*) النصب هو: عداوة علي بن أبي طالب رضي الله عنه. والنواصب طائفة من الخوارج. 1 لسان الميزان 6/240.

3-ومن أخص المراجع وأهمها كتاب (سيرة ابن هشام) وهو كتاب جليل اعتنى فيه مؤلفه بتنقيح السيرة النبوية وتهذيبها وحذف الفضول منها، وقد اشتهرت سيرة ابن هشام شهرة فائقة حتى كاد ينسى الأصل الذي أخذت منه وهو سيرة ابن إسحاق، والسبب في اشتهارها يعود إلى ما امتازت به من تنقيح وتهذيب، فقد كان ابن هشام في تهذيبه للسيرة محققاً للنصوص ومنتقداً لما وقع لابن إسحاق من هفوات، ومتمماً لما فاته من الروايات ذات الصلة بموضوع السيرة، هذا وقد كانت هذه السيرة أصلاً عظيماً ومرجعاً هاماً في موضوعي لأنها ألصق المراجع بالمادة العلمية المتصلة بموضوع هذه الغزوة حيث استقيت منها جل النصوص التاريخية المتعلقة بأحداث غزوة بني المصطلق، وهذه السيرة مستقاة من سيرة ابن إسحاق الإمام المقدم في السير والمغازي، ومن هنا كانت أهمية هذه السيرة وقوة الاستناد إليها، فابن إسحاق وإن كان صاحب الفضل السابق في هذا العمل الجليل، لكن ابن هشام لا يقل فضله عن فضل ابن إسحاق، في التهذيب والترتيب وحذف ما لا تعلق له بالسيرة النبوية الشريفة وترك ما لا يحسن ذكره مما لصق بالسيرة، وترك أشياء كثيرة كان مصيباً في تركها، مثل حذفه كثيراً من الإسرائيليات وخاصة في قسم المبتدأ من سيرة ابن إسحاق، كما حذف كثيراً من الأشعار المنتحلة1. فجاءت سيرته على أكمل الوجوه وأحسنها اختصاراً واستيعاباً للأحداث الأساسية الهامة في حياته صلى الله عليه وسلم. وابن هشام هو أبو محمد عبد الملك بن هشام بن أيوب الحميري، كان مشهوراً بحمل العلم متقدماً في علم النسب والنحو واللغة، ذكر الذهبي وابن كثير أنه حين جاء إلى مصر اجتمع به الشافعي وتناشدا من أشعار العرب أشياء كثيرة، وقال عن الشافعي: "إنه حجة في العربية، ورغم تصنيفه كتاباً في أنساب حمير وملوكها يقال له (التيجان لمعرفة ملوك الزمان) وكتاباً شرح فيه ما وقع في أشعار السير من الغريب"2، فإنه لا يكاد يذكر إلا مقروناً بسيرته التي طبقت

_ 1 مقدمة السيرة لصاحبها ابن هشام 1/4. 2 البداية والنهاية لابن كثير 10/281-282، ومقدمة سيرة ابن هشام 1/18.

الآفاق شهرة، وقد وفق فيها غاية التوفيق، وبذل فيها مجهوداً كبيراً سيظل أعظم عمل علمي قام به. وكانت وفاته سنة 218هـ وقيل سنة 213هـ. 4 و 5- وقد رجعت إلى مؤلفين كبيرين من مؤلفات ابن جرير الطبري وهما (تاريخ الرسل والملوك) وتفسيره المسمى (جامع البيان في تأويل أي القرآن) . وسوف أعطي عن كل واحد منهما نبذة من ناحية التحليل والفائدة التي استفدتها منهما. فأبدأ بالكلام على التاريخ وهو من أعظم الكتب التاريخية وقد عني فيه ابن جرير بالجمع والاستقصاء، وبناه على منهج المحدثين من حيث الرواية بالسند، ولم يكن يعني فيه بالتحقيق والتمحيص والنقد، وإنما كان يهمه الجمع، وذكر الوقائع منسوبة إلى قائليها ورواتها1. وقد اعتذر هو عن نفسه فقال: "وليعلم الناظر في كتابنا هذا أن اعتمادي في كل ما أحضرت ذكره مما شرطت أني راسمه فيه، إنما هو على ما رويت من الأخبار التي أنا ذاكرها فيه والآثار التي أنا مسندها إلى رواتها فيه …" إلى أن قال: "فما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين مما يستنكره قارئه أو يستشنعه سامعه من أجل أنه لم يعرف له وجهاً في الصحة ولا معنى في الحقيقة فليعلم أنه لم يؤت في ذلك من قبلنا، وإنما أتي من قبل بعض ناقليه إلينا وأنا إنما أدّينا ذلك على نحو ما أدي إلينا"2. وهذا المسلك الذي سار عليه ابن جرير رحمه الله، برغم أنه محدث كبير يدل على أن علماء الحديث لا يعاملون الأحداث التاريخية بمثل ما يعاملون به الحديث النبوي من نقد وتمحيص، بل يتساهلون برواية الحوادث التاريخية، ولا

_ 1 مقدمة تاريخ ابن جرير 1/7. 2 انظر كلام ابن جرير عن منهجه في تاريخه 1/7-8.

يتشددون فيها تشددهم في ثبوت الحديث، وهو مسلك فيه كثيرة من المخاطرة، ووقع بسببه كثير من كتبة التاريخ في أخطاء جسيمة تحتاج إلى تمحيص دقيق، لا يقوى عليه إلا الجهابذة 1، ومع ذلك فقد كان ابن جرير أميناً في النقل دقيقاً في التحري ونسبة الرواية إلى راويها تاركاً لمن جاء بعده أن يحقق ويمحص ويبحث في تحري الصواب بقدر ما تمكنه وسائله. والكتاب سجلّ تاريخي كبير يعد أوفى عمل تاريخي بين مصنفات المؤرخين المسلمين، أكمل به ابن جرير رحمه الله ما قام به المؤرخون قبله مثل الواقدي وابن سعد وخليفة بن خياط ويعقوب بن سفيان الفسوي والبلاذري واليعقوبي، ومهد السبيل لمن جاء بعده كالمسعودي وابن الأثير وابن خلدون وابن كثير. ويبقى أنني كنت أجهد نفسي كثيراً في الكلام على الرواة معتمداً في ذلك على كتب الجرح والتعديل سالكاً مسلك نقدة الحديث في تحقيق الرواية، وهذا ما لا وجود له في تاريخ الطبري، لأنه لم يكن يعنيه إلا الجمع، وهذا هو الطابع الغالب الذي سار عليه في تاريخه2. أما الكتاب الثاني الذي رجعت إليه من كتب ابن جرير الطبري فهو كتاب التفسير المسمى (جامع البيان) وهو أعظم ديوان ألف في تفسير كتاب الله عز وجل، وقد أجمع العلماء على أن ابن جرير إمام المفسرين بما أودع في هذا الكتاب من معارف وعلوم، جمع فيها بين الدراية3 والرواية، فجاء هذا التفسير أوفى تفسير لكتاب الله العزيز.

_ 1 الجهبذ: بكسر الجيم والباء وبينهما ها ساكنة: الناقد الخبير (القاموس المحيط 1/352) . 2 انظر مقدمة تاريخه 1/7-8، ونظرة في مصادر ودراسة السيرة النبوية للدكتور أكرم ضياء العمري، ص6 3 التفسير بالدراية ويسمى (التفسير بالرأي) أو التفسير بالمعقول، لأن المفسر لكتاب الله تعالى يعتمد فيه على اجتهاده، لا على المأثور المنقول عن الصحابة أو التابعين بل يكون فيه الاعتماد على اللغة العربية وفهم أسلوبها على طريقة العرب، ومعرفة طريقة التخاطب عندهم، وإدراك العلوم الضرورية التي ينبغي أن يكون المفسر ملماً بها كالنحو والصرف وعلوم البلاغة وأصول الفقه وأسباب النزول …الخ. التبيان في علوم القرآن للصابوني، ص 173.

وأوسع مرجع في بابه، وقد تتبع فيه مؤلفه التفسير بالأثر محاولاً الاستقصاء مما لم يسبق إليه، فكان إمام المفسرين بالأثر، ثم فإن يتبع ذلك بذكر الخلاف في معنى الآية، وترجيح الصواب فيها، كما أنه كان يعنى باللغة عناية فائقة فكان يستشهد بالشعر لتفسير الغامض من مفردات القرآن ويذكر أقوال أهل النحو والصرف والمعاني ويبين أقربها لأسلوب القرآن بما هداه إليه فهمه، وكان خبيراً باختلاف القراءات معتنياً بتوجيهها مستشهداً لها من أساليب العرب وشعرها، وقد كان إماماً في فنون كثيرة وحجة في الفقه والتفسير والأصول والقراءات وعلوم اللغة على اختلافها، فاستخدم هذه الوسائل كلها في تفسيره، كما أنه كان محدِّثاً ضليعاً فلم يغفل الأحاديث الواردة في سبب نزول أو توضيح آية، وكان بالجملة جماعاً في تفسيره بين علوم شتى مزج بينها مزجاً فريداً بروح علمية فذة، ظهرت فيها شخصيته العلمية ظهوراً بيناً فاستحق بذلك ثناء العلماء عليه وتقديمهم له على غيره من المفسرين، فاحتل تفسيره مكان الصدارة بين كتب التفسير جميعها. على أنه قد وقع في سرد بعض الإسرائيليات التي يختلط فيها الحق بالباطل، غير أنه لم يكن يسردها على سبيل الاحتجاج، وإنما كان يوردها من أجل توضيح حادثة أشار القرآن إليها وقد كان ينبه على بطلان بعض القصص الإسرائيلية، وإن أهمل كثيراً منها بدون تنبيه مما كان مثار النقد له رحمه الله، في إيراده هذه القصص الإسرائيلية1. هذا وقد استفدت من هذا الكتاب العظيم فوائد متنوعة أهمها الرجوع إليه في تفسير الآيات الواردة في هذه الغزوة إلى فوائد أخرى كثيرة مشار إليها في مواقعها. وابن جرير هو محمد بن جرير الطبري من علماء القرن الثالث الهجري، فقد كانت وفاته سنة 310هـ وقد أجمع العلماء على جلالته وإمامته وتقدمه في جميع معارف عصره، وله مؤلفات كثيرة مبسوطة في مواضعها من تراجمه، وهي تدل على سعة اطلاعه وعلو شأنه وتفوقه على غيره2.

_ 1 انظر تفسير الطبري 23/158، وتفسير ابن كثير 4/35، وانظر التبيان في علوم القرآن للصابوني ص 210. 2 انظر تذكرة الحفاظ للذهبي 2/710 - 716، والبداية النهاية لابن كثير 11/145- 147، ومقدمة تاريخ الطبري لمحققه محمد أبو الفضل إبراهيم 1/15 - 20.

6-ومن المصادر العلمية التي استفدت منها (كتاب النهاية في غريب الحديث) لابن الأثير رحمه الله، وهذا الكتاب من أجل ما صنف في غريب الحديث وأعظم ما كتب في بابه، وذلك أنه سبقت جهود كبيرة للعلماء في الكتابة في غريب الحديث على زمن ابن الأثير فأنارت له معالم الطريق، ولكنها على اختلاف مناهج مؤلفيها لم تف بالغرض، ولم تستوعب غريب الحديث حتى جاء ابن الأثير فوقف على جميع الكتب التي عنيت بهذا الموضوع وطالعها كلها واستوعب ما تضمنته وعرف ما فاتها من غريب الحديث فشمر عن ساعد الجد للقيام بسد هذه الثغرة العلمية إسهاماً منه في خدمة الحديث النبوي الشريف، وبذل جهداً علمياً كبيراً في تمحيص هذا الكتاب واستيعابه لما وصل إليه من غريب الحديث، وقد جمع فيه بين كتابين جليلين لمن سبقه هما أهم ما كتب قبله في هذا الفن؛ وهما كتاب أبي عبيد1 الهروي وهو يشتمل على غريب القرآن والحديث، وكتاب أبي موسى2 الأصفهاني الذي جمع ما فات الهروي من غريب القرآن والحديث3. فجمع ابن الأثير في كتابه ما في الكتابين من غريب الحديث دون غريب القرآن. ولم يقف عند الجمع فحسب، وإنما ضم إليهما ما فاتهما من غريب الحديث، وهو كثير وافر، مستقرئا له من مطالعته لكتب الصحاح والمسانيد والمجاميع وكتب السنن والغرائب قديمها وحديثها إلى زمنه، وكتب اللغة على اختلافها. قال ابن الأثير:"فرأيت فيها من الكلمات الغريبة مما فات الكتابين، كثيراً، فصدفت حينئذ عن الاقتصار على الجمع بين الكتابين وأضفت ما عثرت عليه

_ 1 هو أحمد بن محمد بن أبي عبيد العبدي اللغوي البارع، كان من أعلم الناس في الأدب واللغة، وكتابه يسمى (الغريبين) أي في معرفة غريب القرآن والحديث، كانت وفاته سنة (401هـ) البداية النهاية لابن كثير 11/344. 2 هو محمد بن عمر بن محمد الأصبهاني الحافظ الموسوي المديني، أحد حفاظ الدنيا الرحالين الجوالين، له مصنفات عديدة، وشرح أحاديث كثيرة، وكتابه هذا يسمى (المغيث في غريب القرآن والحديث) وكانت وفاته سنة (581هـ) ، البداية والنهاية لابن كثير 12/318، ومقدمة كتاب ابن الأثير 1/7. 3 مقدمة ابن الأثير 1/9.

ووجدته من الغرائب إلى ما في الكتابين في حروفها مع نظائرها وأمثالها"1. وقد سلك رحمه الله في منهجه طريقة أهل المعاجم من ترتيب الكلمات على حروف المعجم بالتزام الحرف الأول والثاني من كل كلمة، واتباعهما بالحرف الثالث على سياق الحروف، غير أنه لا يلتزم بالترتيب على حسب الحروف الأصلية، خاصة إذا كانت الكلمة قد بنيت على الحرف الزائد حتى صار كأنه من بنية الكلمة. وإنما راعى ذلك المسلك قصداً للسهولة واليسر على طلاب غريب الحديث، لا سيما أن أكثر طلبة غريب الحديث لا يكادون يفرقون بين الأصلي والزائد. ونبه على زيادة الحرف عند ذكره في غير بابه، لئلا يظن به أنه وضعه في هذا المكان للجهل به2.فجاء كتابه هذا أعظم كتاب في غريب الحديث وأوسع الكتب التي سبقته في هذا الباب، وأصبح مرجعاً هاماً للعلماء على مدار الزمن، فكل من حاول الكتابة بعده في هذا الشأن فهو عيال عليه، ولذلك لم يظهر في المكتبات الإسلامية حتى الآن كتاب يدانيه في بابه. ومصنفه هو أبو السعادات المبارك بن محمد بن محمد ابن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني الشهير بابن الأثير الجزري، شافعي المذهب كان إماماً في علوم كثيرة، كما أنه ألف كتاباً مفيدة في سائر العلوم منها جامع الأصول الستة3، وكتباً4 أخرى مفيدة تدل على غزارة علمه وسعة إطلاعه من أعظمها كتاب هذا الذي رجعت إليه وأفدت منه كثيراً في حل غوامض الحديث الشريف. وكانت وفاة ابن الأثير رحمه الله سنة 606هـ وكانت ولادته سنة 544هـ على الأرجح. 7-ومن أهم المصادر التي اعتمدتها (زاد المعاد في هدي خير العباد) لمؤلفه ابن قيم الجوزية، وقد تطرق في هذا الكتاب إلى مباحث السيرة النبوية،

_ 1 مقدمة ابن الأثير 1/11. 2 المصدر السابق 1/11. 3 المراد بالأصول الستة عند ابن الأثير: هي البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وموطأ مالك. 4 انظر: مقدمة كتاب ابن الأثير 1/16- 18، والبداية والنهاية لابن كثير 13/54.

فكتب عنها كتابة تمتاز بالتحليل والاختصار واستخلاص العبرة من وراء ما يورده من أحداث السيرة والمغازي وكان إلى جانب ذلك يعتني بالأحكام الفقهية المستنبطة من السيرة النبوية وقد كان ابن القيم غزير العلم قوي البيان مبرزاً1 في فنون كثيرة، فنهج في الكتابة عن السيرة منهجاً متفرداً يحقق الهدف الأساسي من وراء دراسة السيرة، وهو الهدف التربوي الذي يراد منه تحقيق الأسوة والقدوة برسول الله صلى الله عليه وسلم، في حياته كلها في السلم والحرب على حد سواء، وكان من منهجه رحمه الله الاقتصار على ما صح عنده من السيرة دون التطويل في سرد جميع ما قيل في السير والمغازي، لأن كتابه هذا لم يكن خاصاً بالسيرة وإنما هو في هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم عموماً فهو كتاب أحكام ومعاملات وعبادات وشمائل وآداب وطب وغير ذلك من العلوم المتنوعة، وأضاف إلى هذه المباحث كلها موضوع السيرة النبوية، مبيناً فيها المراحل التي مر بها الإسلام في عهده الأول بأسلوب علمي رائع، هادفاً إلى استخلاص العبرة، واستنباط الحكم الشرعي، وحاثاً على الاقتداء به صلى الله عليه وسلم، في هديه وسيرته، فجاءت مباحثه في السيرة فريدة في نوعها ذات منهج متميز، لأن كُتّاب السير والمغازي درجوا على سرد وقائع السيرة وما يتصل بها بأسانيدها ومتونها دون العناية بالجوانب التربوية، كما أنهم في الأعم الأغلب ما كانوا يستنبطون الأحكام الفقهية من السيرة النبوية، فجاء ابن القيم فكتب عن السيرة النبوية بمنهج مختلف عما ألفه الناس في تصنيف مباحث السيرة، وهو منهج يجدر الاقتداء به والسير على منواله، وقد سبق بيان أن السيرة بحاجة إلى كتابة على مناهج المحدثين في تحقيق نصوص السيرة ونفي ما علق بها من تهويل الأخباريين، وأضيف هنا أن كتابتها من الوجهة التربوية المعاصرة حاجة ماسة لا تقل في شأنها عن تلك الحاجة، فلا بد من الجمع بين الحسنيين، لأن ذلك هو المطلوب منا2. هذا وقد استفدت من هذا الكتاب فوائد جمة خاصة في المباحث الفقهية

_ 1 برز تبريزاً: فاق أصحابه فضلاً أو شجاعة. انظر: القاموس المحيط 2/166. 2 ظهرت في العصر الحاضر كتابات قيمة في هذا المجال مثل فقه السيرة للغزالي، والبوطي، والسيرة النبوية للندوي، والسيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة، لأبي شهبة. ولكن الموضوع بحاجة إلى جهود أكثر.

والأحكام، واستخلاص العبر واختلاف العلماء، وترجيح الأقوال، وغير ذلك من الفوائد. وابن القيم هو العلامة محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد بن جرير الدمشقي، شمس الدين ابن قيم الجوزية، الحنبلي، إمام جليل من أئمة الدين، كان من ملازمي ابن تيمية، وكان واسع المعارف عالماً بالقرآن والسنة وعلومهما متبحراً في ذلك عارفاً باللغة على اختلافها، كما كان على علم غزير بالفرق الإسلامية، ومعرفة ما وقعت فيه من أخطاء، وله في ذلك مؤلفات جليلة، تدل على سعة علمه ودقة فهمه، وامتازت مؤلفاته بالعذوبة وحسن التصرف والتحقيق والاقتدار على أفصح الأساليب، وكان كثير العبادة حتى قال عنه ابن كثير: "لا أعلم في زماننا أكثر عبادة منه"1. وقد ترجم له الإمام الشوكاني ترجمة واسعة، وصفه فيها بأوصافه اللائقة به، وبعلمه وفضله وجهاده، وسرد كثيراً من مؤلفاته2.وكانت ولادته سنة 691هـ ووفاته سنة 751هـ. 8 و9-ومن جملة هذه المصادر التي رجعت إليها (البداية والنهاية وتفسير القرآن العظيم) للحافظ ابن كثير رحمه الله. وكتاب البداية والنهاية يعد من أهم المراجع التاريخية إن لم يكن أهمها وأفضلها، وظاهر من اسمه أنه تاريخ شامل لمراحل البشرية من بدايتها إلى زمن المؤلف، وقد اجتهد مؤلفه في تحقيقه وترتيبه وحشد المعلومات التاريخية الواسعة فيه، وقد التزم أنه لا يذكر من الإسرائيليات إلا ما أذن الشارع فيه، مما لا يخالف كتاب الله وسنة رسوله، وعرّفه بأنه القسم الذي لا يصدق ولا يكذب، مما فيه بسط لمختصر عندنا أو تسمية لمبهم ورد به شرعنا مما لا فائدة في تعيينه لنا، فنذكره على سبيل التحلي به، لا على سبيل الاحتياج إليه والاعتماد عليه، وإنما

_ 1 البداية والنهاية لابن كثير 14/235. 2 البدر الطالع 2/143-146.

الاعتماد والاستناد على كتاب الله وسنة رسوله ما صح نقله أو حسن، وما كان فيه ضعف نبينه1. وهذه الطريقة التي التزمها ابن كثير في تاريخه الواسع، لم يكن يلتزمها كثير من المؤرخين قبله، وهي طريقة حسنة امتاز بها تاريخه هذا، وقد كتب ابن كثير عن أحداث السيرة النبوية ضمن الأحداث التاريخية التي عني بتسجيلها، وكان يلتزم في حديثه عن التاريخ الإسلامي طريقة الترتيب على حسب السنين ابتداء من أول سنة هجرية إلى زمنه. وقد رجعت إلى ما كتبه في السيرة وأخذت ما له صلة وثيقة بموضوعي وأفدت منه كثيراً، كما رجعت إليه في تراجم بعض العلماء. أما الكتاب الثاني الذي رجعت إليه من مؤلفات ابن كثير فهو (تفسير القرآن العظيم) ، وهو تفسير ذائع الصيت2 منتشر في الآفاق انتشاراً واسعاً وقد تداوله العلماء وأثنوا عليه ثناء عظيماً وقدموه على غيره من كتب التفسير، لما امتاز به من ميزات كثيرة، وذلك أن مؤلفه رحمه الله على رغم تبحره في العلوم وتفننه في فنون كثيرة جرد تفسيره من الحشو والتطويل واهتم بتفسير القرآن بالقرآن، كما أوضح ذلك في مقدمته، مما لم يسبق إليه، ولم يهتم بالإكثار من المباحث اللغوية من نحو وصرف وبلاغة، مع أنه كان عالماً كبيراً فيها كلها، وذلك لأن هذه العلوم قد شغلت كثيراً من المفسرين عن الغرض الأساسي لتفسير كتاب الله جل وعلا، حتى كأن مؤلف التفسير منهم لم يضع تفسيراً للقرآن وإنما وضع كتاباً في العربية، وكل من أتقن من العلوم شيئاً فإنها تغلب على تفسيره، مما جعل معظم التفاسير تفقد المنهج الصحيح لتفسير القرآن. فجاء ابن كثير فنهج في تفسيره، منهج تفسير القرآن بالقرآن وأضاف إلى ذلك تفسيره بالسنة الصحيحة، والأثر الصحيح، فجاء تفسيره واضح المنهج عظيم الفائدة، سهل العبارة، إذ إنه يذكر أولاً الآية ثم يورد نظائرها من

_ 1 مقدمة البداية والنهاية 1/6، وقد أفردت السيرة بالطبع في أربع مجلدات مأخوذة من البداية والنهاية بتحقيق مصطفى عبد الواحد وقد طبعت سنة 1384هـ. 2 الصيت بالكسر: الذكر الحسن. القاموس المحيط 1/152.

القرآن، ثم يعقبها بالحديث الموضح لها، أو تفسير الصحابة إن وجد أو تفسير كبار التابعين، وكان يعني بتحقيق الروايات وتمحيصها وبيان صحيحها من سقيمها، ولم يذكر من الإسرائيليات إلا ما لم يكن فيه محظور مما يذكر فلا يصدق ولا يكذب1. وخلاصة القول أن هذا التفسير من خير التفاسير وأجودها يمتاز بالإيضاح الكامل لمعنى الآية، مع السهولة واليسر والعناية بالهدف الأساسي من فهم القرآن الكريم. وابن كثير هو أبو الفداء إسماعيل بن عمر الدمشقي عالم كبير ومقرئ قدير تفنن في علوم كثيرة، واشتهر بالحديث والتفسير والتاريخ، وله مؤلفات عظيمة النفع انتشرت في الآفاق، وقد أثنى عليه العلماء ثناء كبيراً، كان مولده سنة (701هـ) ووفاته سنة2 (774هـ) . 10-ومن المصادر الهامة ذات الشأن العظيم (فتح الباري شرح صحيح البخاري) لحافظ الزمان أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، وهذا الكتاب أعظم ديوان في شروح السنة النبوية، وأكبر مرجع في علم الحديث والفقه، وهو من الشهرة والانتشار وذيوع الصيت بمكان عظيم، فهو أوفى شروح صحيح البخاري على الإطلاق؛ فقد بذل فيه مؤلفه جهوداً علمية ضخمة لم تجتمع لغيره من علماء عصره، وقد أمضى في تأليفه زمناً طويلاً يقدر بخمسة وعشرين عاماً، وهو يتحرى فيه الصواب، ويحقق ويمحص ويعرض على علماء عصره، فخرج هذا الكتاب فتحاً جديداً في علوم الإسلام، وفنون الحديث، وسائر المعارف الشرعية، مما لم يسبق له نظير، ولم يأت بعده مثله إلى اليوم، فقد وفق فيه مؤلفه غاية التوفيق، ووصل في تحقيق مسائله نهاية التدقيق، فاجتمعت على الإعجاب به والثناء عليه كلمة العلماء على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم، وكان كاسمه (فتح الباري) فهو اسم طابق المسمى. وقد نهج فيه مؤلفه منهجاً واضح المعالم، بينه في مقدمته بقوله:"أسوق إن شاء الله الباب وحديثه أولاً، ثم أذكر وجه المناسبة بينهما إن كانت خفية، ثم

_ 1 مقدمة تفسير ابن كثير1/3-4،والتبيان في علوم القرآن للصابوني ص212-213. 2 انظر: ذيل تذكرة الحفاظ لأبي المحاسن تلميذ الذهبي ص 57-59، والبدر الطالع للشوكاني 1/153.

أستخرج ثانياً ما يتعلق به عرض صحيح في ذلك الحديث من الفوائد المتنية والإسنادية من تتمات وزيادات وكشف غامض وتصريح مدلس بسماع، ومتابعة سامع من شيخ اختلط قبل ذلك، منتزعاً كل ذلك من أمهات المسانيد، والجوامع والمستخرجات والأجزاء والفوائد، بشرط الصحة أو الحسن فيما أورده من ذلك. وثالثاً: أصل ما انقطع من معلقاته1 وموقوفاته، وهناك تلتئم زوائد الفوائد وتنتظم شوارد الفرائد. ورابعاً: أضبط ما يشكل من جميع ما تقدم أسماء وأوصافاً مع إيضاح معاني الألفاظ اللغوية والتنبيه على النكت البيانية. وخامساً: أورد ما استفدته من كلام الأئمة مما استنبطوه من ذلك الخبر من الأحكام الفقهية والمواعظ الزهدية والآداب المرعية مقتصراً على الراجح من ذلك متحريا للواضح دون المستغلق في تلك المسالك مع الاعتناء بالجمع بين ما ظاهره التعارض مع غيره، والتنصيص على المنسوخ بناسخه، والعام بمخصصه والمطلق بمقيده، والمجمل بمبينه والظاهر بمؤوله والإشارة إلى نكت من القواعد الأصولية، ونبذ من فوائد العربية ونخب من الخلافات المذهبية، بحسب ما اتصل بي من كلام الأئمة، واتسع فهمي من المقاصد المهمة، وأراعي هذا الأسلوب إن شاء الله تعالى في كل باب …"الخ 2. هذا هو المنهج الذي أوضحه في مقدمته وقد سار عليه فعلاً، في شرحه لصحيح البخاري، وهذا الشرح يجمع علوماً شتى ومعارف عظيمة أهمها علم الحديث والإسناد والفقه، والتراجم، وفيه علوم أخرى كثيرة كعلم التاريخ والمغاوي والسير، وعلوم اللغة العربية، وأنواع من العلوم لا تدخل تحت حصر، ولو وضع لكل علم فهرس خاص به لبلغ مجلدات، وهذا كله يدل على عظمة هذا الكتاب وجلالة قدر مؤلفه، ومبلغ ما ضمنه فيه من المعارف الواسعة التي تحتاج إلى خدمة وتيسير للوصول إليها، فعسى الله أن يقيض لذلك من يقوم به.

_ 1 أي معلقات صحيح البخاري. 2 هدي الساري مقدمة فتح الباري ص 4.

هذا وقد استفدت من هذا الكتاب فوائد عظيمة مشاراً إليها في أماكنها من الرسالة، وهو أعظم مرجع استفدت منه مطلقاً في جميع ما يتصل بمباحث الرسالة، حتى لا تكاد تخلو صفحة منها من ذكره، فهو يشتمل على مباحث غزوة بني المصطلق ورواياتها واختلاف طرقها ووصل ما انقطع منها، بطريقة فريدة امتاز بها ابن حجر في كتابه هذا، فكنت أرجع إليه في حل ما أشكل علي، من جهة المتن أو السند، كما كان مرجعا هاماً في تخريج الروايات. 11-كما رجعت إلى تقريب التهذيب (لابن حجر أيضاً) . وهذا الكتاب خلاصة تجارب طويلة وممارسة عظيمة لعلم الرجال قام بها ابن الحجر الحافظ الحجة، والخبير المقدم في هذه المسالك العلمية، والتقريب المذكور اختصار (لتهذيب التهذيب) لابن حجر أيضاً، كما أن تهذيب التهذيب اختصار لتهذيب الكمال للمزي، حافظ عصره، مع زيادات قام بها ابن حجر، وضم إليه مقصود إكماله للعلامة علاء1 الدين مغلطاي مقتصراً منه على ما اعتبره عليه وصححه من مظانه مع بيان أحوال الرواة. ولقد كان التهذيب ولا يزال من أعظم المراجع في بابه، غير أن مؤلفه سئل من بعض طلبة الحديث أن يجرد له الأسماء خاصة. قال ابن حجر:"فلم أوثر ذلك لقلة جدواه على طالبي هذا الفن ثم رأيت أن أجيبه إلى مسألته وأسعفه بطلبته، على وجه يحصل مقصوده بالإفادة، ويتضمن الحسنى التي أشار إليها وزيادة. وهي: أني أحكم على كل شخص منهم بحكم يشمل أصح ما قيل فيه، وأعدل ما وصف به، بألخص عبارة، وأخلص إشارة، بحيث لا تزيد كل ترجمة على سطر واحد غالباً، يجمع اسم الرجل واسم أبيه وجده، ومنتهى أشهر نسبته

_ 1 هو مغلطاي بن قليج بن عبد الله البكجري: بفتح الموحدة وسكون الكاف وفتح الجيم ثم راء، الحنفي الحافظ علاء الدين صاحب التصانيف ولد سنة (690هـ) وقيل (689) وتوفي سنة 762هـ. له ذيل على (تهذيب الكمال) للمزي قال الشوكاني: يكون في قدر الأصل واختصره مقتصراً على الاعتراضات على المزي في نحو مجلدين ثم في مجلد لطيف، ثم قال الشوكاني: وغالب ذلك لا يرد على المزي. انظر: البدر الطالع للشوكاني 2/312-313.

ونسبه، وكنيته ولقبه، مع ضبط ما يشكل من ذلك بالحروف، ثم صفته التي يختص بها من جرح أو تعديل، ثم التعريف بعصر كل راو منهم، بحيث يكون قائماً مقام ما حذفته من ذكر شيوخه والرواة عنه، إلا من لا يؤمن لبسه"1. والكتاب المذكور رجعت إليه في موضوع بحثي وأفدت منه جملة من الفوائد الإسنادية من حيث الحكم على كل راو ومعرفة طبقته، وقد امتاز هذا الكتاب بالدقة والتحري والاختصار غير المخل، والاقتصار على المهم في بابه. وقد ظل هذا الكتاب مرجعاً علمياً هامّا في موضوعه لطلاب علم الحديث والإسناد، وأثنى عليه العلماء ثناء عظيماً، واعتمدوه في بابه، لأنه من تراث الحافظ ابن حجر الذي أجمع العلماء على حفظه وتقدمه في هذا العلم وغيره. هذا ومؤلف الكتابين (فتح الباري والتقريب) هو الإمام الحجة والحافظ الثبت أحمد بن علي بن حجر العسقلاني صاحب التصانيف الكثيرة التي ذاع صيتها في حياته قبل مماته، وانتشرت في جميع الأعصار والأمصار، ولقد كان -بحق -عالماً متبحراً في علوم عصره، واجتمع له من الشيوخ نخبة كان كل واحد منهم رأساً في فنه وعلماً شامخاً في علمه، فقرأ عليهم ولازمهم واستفاد منهم، حتى فاق أقرانه، وساد أهل زمانه، بما أوتي من علم وحلم، ومؤلفاته الكثيرة تشهد بعلو قدره وغزارة علمه وسعة اطلاعه ومعارفه وقد كان عالماً بالفقه وأصوله وعلوم القرآن كلها وعلوم العربية على اختلاف تنوعها، واشتهر بمطارحة الشعراء، ولكنه غلب عليه أخيراً علم الحديث والإسناد وشغل بهما وصنف التصانيف التي لم يسبق إليها ولم يأت بعده من داناها في السعة والإحاطة والدقة والتحري، واشتهر بذلك حتى لا يكاد يذكر اسمه إلا مقروناً بهذا العلم، حتى صار إطلاق لفظ الحافظ عليه كلمة إجماع عند علماء الحديث، مع أنه اشتغل بجميع معارف وعلوم عصره. رحمه الله رحمة واسعة وجزاه على ما قدم للمسلمين من خير وافر وعلم زاخر. وكانت ولادته سنة (773هـ) وتوفي سنة (852 هـ) 2.

_ 1 مقدمة التقريب 1/3-4. 2 البدر الطالع للشوكاني 1/87-92، ولحظ الألحاظ بذيل طبقات الحفاظ لابن فهد المكي ص 326-342. وانظر مؤلفاته مبسوطة في آخر لسان الميزان له 7/3-6 وفي آخر تهذيب التهذيب 12/501-504.

رموز رجال الإسناد: سلكت في اختيار رموز رجال الإسناد مسلك الحافظ بن حجر في كتابه (تقريب التهذيب) وإليك بيانها: (خ) البخاري في صحيحه (خت) البخاري في صحيحه معلقاً (بخ) البخاري في الأدب المفرد (ت) الترمذي في سننه (عخ) البخاري في خلف أفعال العباد (ز) البخاري في جزء القراءة خلف الإمام (ي) البخاري في رفع اليدين * * * (م) مسلم في صحيحه * * * (د) أبو داود في سننه (مد) أبو داود في كتابه المراسيل (صد) أبو داود في كتابه فضائل الأنصار (خد) أبو داود في كتابه الناسخ والمنسوخ (قد) أبو داود في كتابه القدر (ف) أبو داود في كتابه التفرد (ل) أبو داود في كتابه المسائل (كد) أبو داود في كتابه مسند مالك * * * (تم) الترمذي في الشمائل * * * (س) النسائي في سننه (عس) النسائي في مسند علي (كن) النسائي في مسند مالك * * * (ق) ابن ماجه في سننه (فق) ابن ماجة في التفسير * * * (ع) للرواي الذي أخرج له أهل 1 الكتب الستة. (عم) للرواي الذي أخرج له أهل2 السنن الأربعة3.

_ 1 هم: البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة. 2 هم: من عدا البخاري ومسلماً. 3 انظر: تقريب التهذيب 1/7.

تمهيد

تمهيد ... مرويات غزوة بني المصطلق وهي غزوة المريسيع إبراهيم بن إبراهيم قريبي تقديم بقلم الدكتور عبد الله بن عبد الله الزايد نائب رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة: وبعد … فقد هدف المؤلفون في السير والمغازي، ونحوها من الأخبار والتواريخ، إلى سرد ما يتصل بالحادثة التي يكتبون عنها، دون تمييز للغث من السمين، والدخيل من الأصيل، ولا تكاد تجد واحداً منهم التزم الصحة والتحري فيما يكتب. حتى إن شيخ المؤرخين وإمامهم ابن جرير الطبري - رحمه الله - نص على هذا وصرح به في مقدمة (تاريخه) ليزيح عن نفسه الملامة، وليوضح لقارئ كتابه أن في الكتاب ما لا يصح، فليحذره! وأن وجود خبر ما في كتابه (مما يستنكره قارئه، أو يستشنعه سامعه) كما قال لا يسوغ لأحد بعد ذلك أن يستمسك به قائلاً؛ إنه مذكور في كتاب ابن جرير الطبري أحد أئمة الإسلام، يريد أن يروج شبهة له أو بدعة ضالة! وهكذا حال سائر كتب الأخبار. نعم يتسامح في رواية ما لا تعلق له بالعقائد والأحكام، ولكن شريطة أن لا يتصادم مع ما هو مقرر في حكم العقل السليم ومقررات الإسلام في عقائده وشرائعه. ولذلك نبه النقدة من أهل العلم إلى ضرورة كتابة السيرة والتاريخ كتابة جديدة على منهج المحدثين، وعرض أخبارهما على موازين النقد عندهم، لتصفيته وتخليصه من الشوائب والدخائل، وذلك لأن كثيراً من مسائله تتصل بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهو الأسوة للحسنة، والقدوة للناس، وهو المبلغ عن الله عز وجل، وقسماً آخر كبيراً من أخبار السيرة والتاريخ يتصل بالصحابة

رضي الله عنهم، واعتماد كل ما يذكر عنهم في كتب المؤرخين لا يتلائم مع الأسس الثابتة في حقهم، فإنهم هم الذين خلد الله عز وجل الثناء عليهم في كتابه الكريم، وهم حملة هذا الإسلام ونقلته، واختارهم الله تعالى لصحبة نبيه عليه الصلاة والسلام. وقسماً ثالثاً كبيراً جداً يتعلق بتاريخ صدر الإسلام من التابعين والسلف الصالح عامة، فأخذ تاريخ هذه الحقبة الزمنية اعتماداً على كتب التاريخ والأدب القديم، مثل (الأغاني) - أمر يمس تلك الفترة الذهبية في تاريخ الإسلام، ويسيء إلى رجالاتها وأئمة دينها. ومن هنا كان لزاماً على المؤسسات الإسلامية أن تقدم البديل عن تلك الكتب، مع الاعتراف لها بأنها معادن العلم وخزائنه، إنما نريد تخليص المعادن الكريمة من الشوائب العالقة بها. ويكون تقديم البديل على مرحلتين. الأولى: توجيه ذوي الاختصاص في علم الحديث والتاريخ للاشتراك في كتابة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وتاريخ الإسلام وأحداثه، على ذلك المنهج القويم الذي ابتكره أسلافنا، وطبقوه، للحفاظ على السنة المطهرة أن يُخْرَج منها ما هو منها، أو أن يُدخل فيها ما ليس منها. المرحلة الثانية: أن تكفل تلك المؤسسات نشر هذه الكتب وتقدمها للناس بأعداد وكميات وفيرة جداً، تغطي على وجود تلك الكتب في المكتبات، لتصرف الناس عنها. وهذا العمل - ولا ريب - يحتاج إلى أيد عاملة خبيرة وأمينة، جادة دائبة، وإلى نفقات كبيرة ضخمة، وإلى زمن مديد. وكل هذا لا يحول دون السير في هذا المضمار الهام جداً، والذي يؤدي خدمة للإسلام جليلة تؤتي ثمارها، وتظهر آثارها بعد خطوات قليلة. وكان في نتائج هذه الأيدي العاملة، ودعم المؤسسات الإسلامية لها إخراج هذا الكتاب (مرويات غزوة بني المصطلق) للأستاذ إبراهيم بن إبراهيم القريْبِي الذي تقدم به لنيل العالمية (الماجستير) من قسم الدراسات العليا

بالجامعة الإسلامية، وقد جاء الكتاب رائداً في بابه، وركيزة أولى في منهجيته، تظهر من خلاله محاسن كتابة السيرة على نهج حديثي. وذلك أن المؤلف جمع فيه مرويات هذه الغزوة وخرجها تخريجاً حديثياً جامعاً، وتكلم على أسانيدها قبولاً ورداً، وأبعد عن دائرة اهتمامه ما رأى أنه لا ينسجم مع موازين المحدثين في قبول الأخبار. واهتم اهتماماً بالغاً بالأحكام الفقهية التي تستنبط من مواقف النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة، مقتدياً في هذا بالإمام ابن القيم - رحمه الله - في كتابه (زاد المعاد) فجاء كتاباً من كتب (فقه السيرة) على وجه أخص من الطريقة التي سلكها كُتّاب (فقه السيرة) في عصرنا، فإنهم يتعرضون - أيضاً - لفقه السيرة بمعنى دروسها وعظاتها. أما كتابنا هذا فهو مقتصر على فقه السيرة بمعنى الأحكام الشرعية المستفادة منها. فالقارئ فيه ينتقل بين علم السيرة والحديث رواية ودراية، وبين الفقه ومذاهب العلماء، مع الاستدلال لها والمناقشة والحوار، وبين الدخول في غمرة جزئيات من علم النسب والبلدانيات. والأمل بالله تعالى أن يكون هذا الكتاب له ما بعده من قبل مؤلفه - جزاه الله خيراً - ومن قبل غيره من ذوي الاختصاص والغيرة على تاريخ الإسلام عامة، وسيرة نبيه المصطفى عليه الصلاة والسلام خاصة، وأن يوفقنا للقيام بأعباء نشر هذه الخدمات وغيرها من تراث الإسلام - الذي يعني المجلس العلي بالجامعة الإسلامية باختيار نفائسه ونشرها وقد أصدر حتى الآن الكتب التالية: 1- كتاب الإيمان للحافظ ابن مندة بتحقيق فضيلة الدكتور علي ناصر فقيه. 2- كتاب أزواج النبي لمحمد بن الحسن بن زَبالة بتحقيق فضيلة الدكتور أكرم العمري.

3- كتاب الضعفاء لأبي زرعة الرازي، بتحقيق فضيلة الدكتور سعدي الهاشمي. 4- البيهقي وموقفه من الإلهيات، تأليف فضيلة الدكتور أحمد عطية الغامدي. 5- غوزوة بني المصطلق، لفضيلة الشيخ إبراهيم القريْبِي. وقد تولى عدد من الباحثين في مركز البحث العلميي تحقيق كتاب: (إتحاف المهرة بأطراف العشرة) للحافظ ابن حجر العسقلاني. وأملنا بالله تعالى كبير، وثقتنا به عظيمة أن يوفق الجامعة الإسلامية للنهوض بمهمتها في خدمة العلوم الإسلامية ومدها بروافد جديدة، والله من وراء القصد. والحمد لله ربّ العالمين.

شُكْرٌ وَتَقْدِيرٌ: وبعد أن انتهيت من هذا البحث الذي أردت جمعه وتحقيقه لا يفوتني أن أذكر كلمة شكر وتقدير وثناء للذين أسهموا في إنجاز هذا البحث، وأخص منهم الدكتور المشرف على الرسالة/ أكرم ضياء العمري فقد بذل معي مجهوداً كبيراً ورافقني في سيري في البحث مرافقة المرشد الحليم والمسدد لي فيما أقع فيه من اشتباه بتوضيحاته التي تجلو الغامض وتكشف المعمى، ولقد كنت ألازمه ملازمة المستفيد وأعرض عليه جميع ما أتوصل إليه من معلومات فكان يقرأها ويذكر توجيهاته عليها ويرشدني إلى المراجع التي تخفى علي، وبالجملة فإنه شاركني مشاركة فعّالة في هذا الموضوع بكل ما تتضمنه المشاركة من معنى. فجزاه الله خير الجزاء - وشكر له سعيه، وإنني لمدين له بكل ما أفادني به، ولا أستطيع مكافأته على ذلك إلاَّ بالشكر له والدعاء له بأن يزيده الله علماً وحلماً وتوفيقاً. كما أشكر القائمين على شؤون الدراسات العليا بالجامعة الإسلامية وأخص منهم الفقيد الغالي الدكتور محمد أمين المصري الذي أرسى النواة الأولى للدراسات العليا ورعاها بعلمه وحلمه وتوجيهاته حتى وافته منيته عليه رحمة الله. وأشكر جميع القائمين على الجامعة الإسلامية، بما أتاحوه لطلاب العلم من أبناء العالم الإسلامي من فرص التعليم من المتوسط إلى الدراسات العليا وقد بذلوا في ذلك مجهودات ضخمة، تشهد لهم بالإخلاص والحرص على توفير وسائل التعليم على كل المستويات، وما أنا إلاَّ ثمرة من غرس هذه الجامعة،

زيد بن أرقم فمشى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان عنده عمر بن الخطاب، فقال: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "دعه يا عمر لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه"، ولكن أذن بالرحيل وكان في ساعة لم يكن يرتحل في مثلها وذلك ليشغل الناس عن الخوض في مقالة ابن أبي وحتى لا يصبح الناس في مهاترات كلامية، ولما علم عبد الله ابن أبي سلول أن زيداً قد أوصل الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وحلف بالله ما قال الذي بلغه زيد ولا تكلم به، فقال من حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصحابة يا رسول الله عسى أن يكون الغلام قد أوهم في حديثه، ولم يحفظ ما قال الرجل، وأقبلوا على زيد بن أرقم ولاموه وقال له عمه: ما أردت إلاَّ أن كذبك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاغتم لذلك زيد غماً شديداً، وجلس في البيت مخافة أن يراه الناس، فيقولون هذا كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الله عز وجل جاء بالفرج من عنده فنزلت سورة (المنافقين) فأيدت زيداً في قوله، وفضحت عبد الله بن أبي رأس النفاق، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى زيد بن أرقم وقرأ عليه السورة. وقال: "إن الله قد صدقك يا زيد") . وجاء عبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول (يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتل أبيه بسبب ما صدر منه، فقال له رسول صلى الله عليه وسلم، لا تقتله بل ترفق به وأحسن صحبته، واستمر الجيش في السير نحو المدينة، ولما قربوا منها نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجيش ذات ليلة للاستراحة وفي هذه الأثناء ذهبت عائشة لقضاء حاجتها، فسقط عقد لها فاشتغلت بطلبه، فتأخرت وجاء الأمر بارتحال الجيش، وكانت عائشة في هودج لها، فجاء الذين يرحلون هودجها فاحتملوا الهودج ووضعوه فوق ظهر الجمل وهم يظنون أنها فيه ولنحافتها وحداثة سنها لم يستنكروا خفة الهودج، وسار الجيش وبعد مفارقتها المكان أقبلت عائشة فلم تجد أحداً. فمكثت في مكانها رجاء أن يفتقدوها فيرجعوا إليها، وبينما هي على هذه الحال غلبتها عيناها فنامت، وكان صفوان بن المعطل قد عرس من وراء الجيش ثم سار الجيش آخر الليل فمر بمكان نزول

الجيش صباحاً فرأى سواد إنسان نائم فقرب منه، فعرف أنها عائشة، وكان يراها قبل أن يضرب الحجاب عليها، وحين عرفها قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، ظعينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستيقظت عائشة رضي الله عنها باسترجاعه، فخمرت وجهها بجلبابها، وقرب إليها الجمل فركبت وولاها ظهره وانطلق يقود بها الراحلة دون أن يتكلم معها أي كلام، حتى أتى بها الجيش بعدما نزلوا في نحر الظهيرة، وهنا وجد أهل النفاق والزيغ متنفساً فانتهزوا الفرصة وأخذوا يذيعون حادثة الإفك في صفوف الناس، حتى انتشر ذلك في ساحة الجيش، وعائشة لم تعلم بذلك، وكان لهذا الحدث آثاره العميقة على رسول الله صلى الله عليه وسلم والصديق وأهل بيته وعلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عامة، ووصل المسلمون المدينة ولا زال صدى هذا النبأ يتردد على ألسنة الناس، وعائشة في غفلة من هذا لم تبلغها بعد هذه الإشاعة التي أرجف بها المنافقون، وصادف أن مرضت عائشة عند قدومهم المدينة واستمر بها الوجع. وقد انتهى الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أبويها ولا يذكرون لها منه قليلاً ولا كثيراً، غير أنها كانت تلمح من رسول الله صلى الله عليه وسلم تغيراً في معاملته لها، فكان يدخل فيسلم ثم يقول كيف تيكم، ولا يزيد على هذا. لكنها لم تكن تعلم بما رميت به، ولما نقهت1 من مرضها خرجت إلى الخلاء لقضاء الحاجة وكانت في صحبتها أم مسطح، فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت: تعس مسطح: فقالت عائشة بئس ما قلت، أتسبين رجلاً قد شهد بدراً، فقالت أم مسطح: أو ما بلغك الخبر يا بنت أبي بكر؟ قالت عائشة: وأي خبر: فأخبرتها بقول أهل الإفك، فقالت عائشة: أو قد كان هذا؟ قالت: نعم والله لقد كان، قالت عائشة: فوالله ما قدرت أن أقضي حاجتي ورجعت إلى بيتي، فوالله ما زلت أبكي حتى ظننت أن البكاء فالق كبدي، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليها فسلَّم وسأل عنها بنفس الأسلوب فقال: "كيف تيكم" فأدركت عائشة سر ذلك التغير، نحوها، وطلبت الإذن من رسول الله بالتوجه إلى بيت أبيها فأذن لها، وكانت تريد أن تتيقن الخبر من قبل أبويها، فقالت لأمها: يا أمتاه

_ 1 نقه المريض: إذا برأ وأفاق وكان قريب العهد بالمرض ولم يرجع إليه كمال صحته وقوته.

ما يتحدث الناس؟ فقالت: يا بنية هوني عليك الشأن، فوالله لقلما كانت امرأة حسناء عند رجل يحبها ولها ضرائر، إلا كثرن عليها القول وحسدنها، قالت عائشة: سبحان الله!!. وقد تحدث الناس بهذا!! ثم بكت واستمرت في البكاء وازدادت مرضاً إلى مرضها، ولما اشتد الأمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، استشار بعض أصحابه في فراق أهله، فأشار عليه أسامة بن زيد بقوله: "يا رسول الله هم أهلك ولا نعلم إلاَّ خيراً"، وأشار علي بن أبي طالب بقوله: "لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير، وإن تسأل الجارية تصدقك"، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة، وقال لها: "يا بريرة هل رأيت من شيء يريبك من عائشة؟ " فقالت بريرة: "والذي بعثك بالحق ما رأيت عليها أمراً قط أعيبها به أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام على عجين أهلها فتأتي الشاة فتأكله"، وعندئذ قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فخطب الناس وطلب من يعذره من عبد الله بن أبي ابن سلول، الذي أثار هذه الفتنة العمياء، فقال: "يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغ أذاه في أهل بيتي، فوالله ما علمت على أهلي إلاَّ خيراً، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلاَّ خيراً، وما كان يدخل على أهلي إلا معي"، فقام سعد بن معاذ سيد الأوس فقال: "أنا أعذرك منه يا رسول الله إن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك". فقام سعد بن عبادة سيد الخزرج، فقال لسعد بن معاذ: "كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله"، فقام أسيد بن حضير - وهو ابن عم سعد بن معاذ - فقال لسعد بن عبادة: "كذبت لعمر الله لنقتلنه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين"، فثار الحيان الأوس والخزرج، حتى هموا أن يقتتلوا، وكادت تكون كارثة عظيمة بين الأوس والخزرج، تقر بها أعين الحاقدين على الإسلام وأهله، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم المؤيد بالوحي قضى عليها بحكمته، فما زال بالحيين يخفضهم ويسكتهم حتى هدؤا، واستمر الحال على هذا نحو شهر لم ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وحْي في ذلك، حتى اشتد الأمر عليه، وعلى صحابته الكرام، وتطلعت نفوسهم، إلى الوحي ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليكشف هذه الغمة ويجلي لهم الموقف. ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزيد على أن يذهب إلى أهله فيقول:

المباركة، نسأل الله أن يوفق المسؤولين عنها إلى ما فيه الخير والصلاح وأن يجزيهم على أعمالهم خير الجزاء، ولا أنسى الجميل لمن أسدى إلي من موظفي المكتبة العامة ومكتبة قسم الدراسات العليا بالجامعة الإسلامية، ولكل من سألته عن مشكل فأفادني فيه، وهم كثير والحمد لله، وأخص منهم فضيلة الشيخ حماد الأنصاري فهو مرجع لجميع الطلاب ومعروف بعلمه وسعة حلمه وصبره على الإفادة فجزاه الله عن طلاب العلم خير الجزاء. كما أقدم الشكر والثناء للدكتور الشيخ محمود ميرة، فقد استفدت منه وراجعته في أشياء كثيرة تتعلق بالمراجع وغيرها، فكان كعادته سمحاً بالفائدة، لطيف المعشر في معاملته لتلاميذه أسأل الله له التوفيق والسداد وأن يجزل له الأجر والمثوبة. وفي الختام أسأل الله العلي القدير أن يجعل هذا البحث خالصاً لوجهه الكريم وخدمة لأبناء المسلمين. وصلى الله على خير خلقه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تَمْهِيدٌ: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وأصحابه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد: فهذا تلخيص لما اشتملت عليه غزوة بني المصطلق من حوادث ووقائع من حين خرج الرسول صلى الله عليه وسلم من المدينة المنورة حتى رجع إليها، وذلك لإعطاء القارئ الكريم صورة موجزة عن هذه الغزوة بعيداً عن مجالات البحث وشعبه الواسعة، ليقف القارئ على مجملها بدون عناء أو تعب، ومن أراد التوسع في ذلك، فالرسالة بين يديه، وفيها جميع محتويات هذه الغزوة مفصلاً، وهذا وقت الشروع فيما نحن بصدده: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غزوة بني المصطلق يوم الإثنين لليلتين خلتا من شهر شعبان من السنة الخامسة للهجرة على الراجح، واستخلف على المدينة أبا ذر الغفاري، وقيل نميلة بن عبد الله الليثي، وخرج معه في هذه الغزوة بشر كثير من المنافقين الذين لم يعتادوا الخروج في مثل هذه الكثرة قبلاً، ولعل ثقتهم بانتصار الرسول صلى الله عليه وسلم أغرتهم بالذهاب معه ابتغاء الدنيا لا انتصاراً للدين، وكان سبب هذه الغزوة أن الرسول صلى الله عليه وسلم بلغه أن الحارث بن أبي ضرار رئيس قبيلة بني المصطلق والمتحدث عنها يجمع الجموع لغزو المدينة المنورة، وبعد أن تأكد الرسول صلى الله عليه وسلم من ذلك بواسطة أحد سفرائه وصار معلوماً لديه ما تنويه هذه القبيلة من الشر للمسلمين، جند جنوده وباغتلهم في عقر دارهم على ماء لهم بناحية قديد يقال له المرسيع فقتل من قتل منهم وسبى من سبى منهم بما فيهم النساء والذرية،

ووقعت جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار في جملة الأسرى، وجرت فيهم القسمة، فوقعت جويرية في سهم ثابت بن قيس بن شماس، أو ابن عم له، فكاتبته على نفسها وجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم تستعينه في فكاك رقبتها، فوقفت بين يديه قائلة: "يا رسول الله أنا جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار سيد قومه، وقد أصابني من البلاء ما لم يخف عليك فوقعت في سهم لثابت بن قيس بن شماس، أو لابن عم له، فكاتبته على نفسي، فجئتك أستعينك على كتابتي"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فهل لك في خير من ذلك؟ " قالت: "وما هو يا رسول الله؟ ". قال: "أقضي عنك كتابتك وأتزوجك"، قالت: "نعم يا رسول الله قد فعلت"، فأدى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابتها وتزوجها، فقال الناس أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرسلوا ما بأيديهم من أسرى بني المصطلق، فلقد أعتق بتزويجه إياها مئة أهل بيت من بني المصطلق. فكانت أعظم بركة على قومها، على أن هذا النصر الميسر الذي حازه المسلمون قد شابه من أعمال المنافقين ما عكر صفوه وأنسى المسلمين حلاوته، وذلك بينما المسلمون على ماء الميرسيع وقد فرغوا من عدوهم وردت واردة الناس وكان مع عمر بن الخطاب أجير يقال له جهجاه فازدحم على الماء مع أجير للأنصار يقال له سنان بن وبرة الجهني فاقتتلا، فكسع المهاجري الأنصاري، فصاح الأنصاري: "يا للأنصار"، وصاح المهاجري: "يا للمهاجرين"، فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ما بال دعوى الجاهلية؟ " قالوا: "يا رسول الله كسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار"، فقال: "دعوها فإنها منتنة"، وسمع ذلك عبد الله بن أبي ابن سلول رأس النفاق وكان في رهط من قومه وحاشيته، وكان مطاعاً فيهم، فرأى أن الفرصة سانحة لإثارة حفائظهم وإحياء ما أماته الإسلام من نعرات الجاهلية، فقال: "أو قد فعلوها؟ ". والله ما أعدَّنا وجلابيب قريش إلاَّ كما قال الأول: سمن كلبك يأكلك ثم أقبل على قومه فقال: هذا ما فعلتم بأنفسهكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فسمع ذلك

"يا عائشة إنه قد بلغك ما يقول الناس، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بالذنب ثم تاب، تاب الله عليه"، وهي تتطلب من ينجدها من هذا الموقف الحرج، فتطلب من أبويها أن يجيبا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال، فيقولا: "والله ما ندري ما نقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم"، فتقول عائشة عندئذ: "والله لقد عرفت أنكم قد سمعتم هذا ووقر في نفوسكم وصدقتم به، فإن قلت لكم: إني بريئة - والله يعلم أني بريئة - لا تصدقونني بذلك ولئن اعترفت لكم بأمر - والله يعلم أني بريئة لتصدقنني، وإني والله ما أجد لي ولكم مثلاً إلاَّ كما قال أبو يوسف: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} " قالت: "ثم تحولت فاضطجعت على فراشي، وأنا أعلم أني بريئة وأن الله مبرئي ببرائتي، ولكن والله ما كنت أظن أن ينزل في شأني وحي يتلى، ولَشأْني كان أحقر فِي نفسي من أن يتكلم الله فيَّ بأمر يتلى، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم، رؤيا يبرئني الله بها"، ولما استشرفت النفوس إلىالوحي أتم استشراف، وتطلعت إليه أكمل تطلع نزل القرآن الكريم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ببراءة عائشة وبيان الذي تولى كبر هذا الإثم العظيم والفتنة الخطيرة، وإرشاد المؤمنين إلى التثبت في مثل هذه الأخبار الخبيثة التي يهدف مروجوها من المنافقين إلى إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا، إلى غير ذلك مما تضمنته الآيات في هذا الصدد وقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بحد الذين خاضوا في الإفك وهم حسان ومسطح، وحمنة، ولم يثبت أنه حد عبد الله بن أبي سلول، ولعل السر في ذلك أن الحد لا يطهره لو أقيم عليه؛ لأنه منافق خبيث وسوف يلقى جزاءه يوم القيامة، في الدرك الأسفل من النار، هذا هو مجمل ما في هذه الغزوة من معلومات، ومن أراد التوسع فالرسالة بين يديه، وقد تضمنت كل ما حدث في هذه الغزوة، الله أعلم

الباب الأول: في التعريف ببني المصطلق وموقفهم من الإسلام

الباب الأول: في التعريف ببني المصطلق وموقفهم من الإسلام الفصل الأول: نسب عشيرة بني المصطلق وصلتهم النسبية بقبائل المدينة المبحث الأول: نسب عشيرة بني المصطلق وصلتهم بقبائل المدينة المنورة ... لا بد من التعريف ببني المصطلق وبيان حدود ديارهم التي قطنوها قبل الكلام على الغزوة وما جرى فيها. وسوف يشتمل هذا التعريف على مبحثين: المبحث الأول: نسب عشيرة بني المصطلق، وصلتهم بقبائل المدينة المنورة والحديث عن نسب قبيلة بني المصطلق ينحصر فيما يلي: أولا: سياق نسب الحارث بن أبي ضرار قائد هذه القبيلة والمتحدث عنها. ثانياً: سياق نسب المصطلق الذي هو أصل هذه القبيلة ومنه تفرعت. ثالثاً: بيان المتفق عليه من نسب هذه القبيلة والمختلف فيه، مع ذكر وجهة نظر كل فريق، وتحقيق المقام في ذلك حسب الإمكان. فالحارث: هو ابن أبي ضرار بن حبيب بن عائذ بن مالك بن جذيمة1.

_ 1 الاستيعاب لابن عبد البر مع الإصابة4/258، والروض الأنف للسهيلي 6/435، وأسد الغابة لابن الأثير 1/400 و 7/56. وذكر ابن حجر وابن الأثير في موضع من أسد الغابة (الحارث) بين حبيب وعائذ، وسمى ابن حجر (حبيباً) خبيباً بالخاء المعجمة. انظر: أسد الغابة1/400والإصابة 1/281، ومعجم قبائل العرب لكحالة 3/1104، وجذيمة: بجيم مضمومة فذال معجمة مفتوحة فتحتانية ساكنة. انظر: شرح المواهب اللدنية للزرقاني 2/96.

وجذيمة هو: "المصطلق بن سعد بن عمرو بن ربيعة بن حارثة بن عمر بن عامر ماء السماء، بطن من خزاعة"1. وعمرو بن ربيعة هو أبو خزاعة كلها2. والمتفق عليه في هذا كون بني المصطلق من خزاعة، وكون خزاعة من ولد عمرو بن لحي34 ولخلاف في نسب عمرو بن لحي على قولين: القول الأول: ذهب أكثر العلماء إلى أن عمرو بن لحى من قحطان وهو: عمرو بن لحيى بن حارثة بن عمرو بن عامر بن حارثة بن امرء القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان. واستدلوا بما يأتي: 1- أن هذا قول أكثر علماء النسب وهم أعرف بذلك من غيرهم لأن هذا من اختصاصهم. 2- أن هذا هو قول خزاعة أنفسهم، فكانت تقول: نحن بنو عمرو بن عامر من اليمن5.

_ 1 أسد الغابة 7/56، واللباب في تهذيب الأنساب لابن الأثير 3/219-220 وفتح الباري 5/171 و7/430، وتاج العروس للزبيدي 6/412، ونيل الأوطار للشوكاني 7/246. وخزاعة: بضم الخاء المعجمة وفتح الزاي المخففة. 2 انظر: أسد الغابة 7/56، ونهاية الأرب للنويري 2/332، وقلائد الجمان للقلقشندي ص98، ومعجم قبائل العرب لكحالة 1/338. 3 لحيى: باللام والمهملة مصغراً فتح الباري 6/547. 4 نهاية الأرب للنويري 2/332، واللباب في تهذيب الأنساب لابن الأثير 1/439، وفتح الباري 6/547، ومعجم قبائل العرب لكحالة 1/338. 5 انظر: سيرة ابن هشام 1/91. المصطلق: بضم الميم وسكون الصاد المهملة وفتح الطاء المشالة المهلمة المبدلة من التاء لأجل الصاد وكسر اللام بعدها قاف، وهو لقب جذيمة بن سعد، لقب بذلك لحسن صوته وهو أول من غنى من خزاعة (شرح المواهب اللدنية 2/96) .

3- علة التسمية بخزاعة وهو من التخزع وهو التأخر والمفارقة، وذلك أن خزاعة انخزعت من ولد عمرو بن عامر حين أقبلوا من اليمن يريدون الشام، فنزلت خزاعة بمر الظهران فأقامت بها. ولذا قال عون بن أيوب الأنصاري في الاسلام: فلما هبطنا بطن مر تخزعت خزاعة منا في حلول1 كراكر2 فعلى هذا تكون خزاعة3 قحطانية يمنية، وجمهور العلماء على أن العرب القحطانية من اليمن وأنهم ليسوا من سلالة إسماعيل عليه السلام. القول الثاني: أن خزاعة قبيلة عدنانية من ولد قمعة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان. وإليه ذهب ابن اسحاق وابن حزم وابن عبد البر وابن خلدون وغيرهم4. واستدلوا على ذلك بأحاديث اقتصر منها على حديثين: الأول: حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه

_ (حلول) : الحلول: البيوت الكثيرة، وروى (خيول) و (كراكر) : جماعات انظر التعليق على سيرة ابن هشام 1/92. 2 سيرة ابن هشام 1/91-92، وشفاء الغرام بأخيار البلد الحرام 2/45، و47، والبداية والنهاية لابن كثير 2/156، و161، 185، 187-189، وفتح الباري 6/548، والأعلام للزركلي 2/348. 3 ذكر ابن كثير أن خزاعة انْتَزعت ولاية البيت من جرهم لما بغت وأكثرت الفساد والإلحاد في البلد الحرام، وأن ولاية البيت استمرت في خزاعة ثلاثمائة سنة، وقيل: خمسمائة سنة، يتوارثون ذلك كابراً عن كابر حتى كان آخرهم حليل بن حبشية ابن سلول بن كعب بن عمرو بن ربيعة الخزاعي، الذي تزوج قصيّ بن كلاب على ابنته حبى بنت حليل بن حبشية. وأن ولاية البيت صارت إليه بعد حليل قيل بوصية من حليل، وقيل: إن قصيّاً استغاث بأخوته من أمه وبني كنانة وقضاعة وقبائل من قريش على خزاعة، فأجلاهم عن ولاية البيت. انظر: البداية والنهاية 2/1565، و185، و187، 205، 206، 207، وانظر: فتح الباري 6/534، و548. 4 سيرة ابن هشام 1/76، وجمهرة أنساب العرب لابن حزم ص: 480، وتاريخ ابن خلدون 2/315، وشفاء الغرام بأخبار البلد الحرام 2/44، ومعجم قبائل العرب لكحالة 1/338.

وسلم قال: "عمرو بن لُحيّ بن قَمَعَة بن خِنْدَف أبو خزاعة" 1. الثاني: حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم على نفر من أسلم2ينتضلون3، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان رامياً" الحديث4. وبهذين الحديثين وغيرهما ذهب هؤلاء العلماء وغيرهم إلى أن خزاعة قبيلة عدنانية، والظاهر أن خزاعة قبيلة قحطانية يمنية وهو المعروف عند أكثر العلماء. وهذه الأحاديث التي استدل بها من قال بأن خزاعة من بني إسماعيل محتملة للتأويل، ولذا فقد أجاب عنها العلامة الهمداني: بقوله: "أما وصفهم بأنهم بنو إسماعيل فلا يدل أنهم من ولد إسماعيل من جهة الآباء، بل يحتمل أن يكون ذلك من جهة الأمهات، لأن القحطانية والعدنانية، قد اختلطوا بالمصاهرة"5. فعلى هذا فتكون خزاعة من بني إسماعيل من جهة الأمهات فقط. وهو جمع وجيه. وقال ابن حجر نقلاً عن ابن الكلبي: "لما تفرق أهل سبأ بسبب سيل العرم نزل بنو مازن على ماء يقال له غسان، فمن أقام به منهم فهو غساني، وانخزعت منهم بنو عمرو بن لحي عن قومهم فنزلوا مكة. وما حولها فسموا خزاعة، وتفرقت سائر الأزد".

_ 1 صحيح البخاري 4/147 كتاب المناقب (باب قصة خزاعة) واللفظ له، ومسلم 8/155 (كتاب الجنة) . 2 الشاهد من هذا كون أسلم من خزاعة وقد نسبها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إسماعيل عليه السلام. ولذا بوب البخاري بقوله باب نسبة اليمن إلى إسماعيل ثم قال: "منهم أسلم ابن أفصى بن حارثة بن عمرو بن عامر من خزاعة" 4/144 كتاب المناقب. 3 ينتضلون: يرتمون بالسهم: يقال: انتضل القوم وتناضلوا: أي رموا اللسيق. انظر: النهاية لابن الأثير 5/72. 4 صحيح البخاري 4/30 كتاب الجهاد/باب التحريض علىالرمي و 4/117 كتاب أحاديث الأنبياء/ باب {وَاذْكُرُوا} في الكتاب إسماعيل و 4/144 كتاب المناقب، باب نسبة اليمن إلى إسماعيل. 5 فتح الباري 6/539.

ثم قال ابن حجر: "ووقع في حديث الباب1 أنه عمرو بن لحي بن قمعة بن خِنْدَف2، وهذا يؤيد قول من يقول إن خزاعة من مضر، وذلك أن خندف اسم امرأة إلياس بن مضر، واسمها ليلى بنت حلوان بن عمران ابن الحاف بن قضاعة. واشتهر بنوها بالنسبة إليها دون أبيهم، لأن إلياس لما مات حزنت عليه حزناً شديداً بحيث هجرت أهلها ودارها وساحت في الأرض حتى ماتت، فكان من رأى أولادها الصغار يقول من هؤلاء؟ فيقال: بنو خندف، إشارة إلى أنها ضيعتهم …" إلى أن قال: "وجمع بعضهم بين القولين أعني نسبة خزاعة إلى اليمن وإلى مضر، فزعم أن حارثة بن عمرو لما مات قمعة بن خندف كانت امرأته حاملاً بلحي فولدته وهي عند حارثة فتبناه فنسب إليه، فعلى هذا فهو من مضر بالولادة، ومن اليمن بالتبني". والخلاصة: أنه اختلف في نسب خزاعة فمنهم من يراها قحطانية من جهة الآباء. ومنهم في قال بأنها قحطانية بالتبني. والذي يظهر أن خزاعة قبيلة يمنية قحطانية. فقد ذكر ابن حجر: حول قول البخاري: "باب نسبة اليمن إلى إسماعيل" منهم أفصى بن حارثة بن عمرو بن عامر ابن خزاعة - قوله: (ابن حارثة بن عمرو بن عامر) أي: ابن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد، ثم أورد قول الرشاطي المصرح بأن الأزد من قحطان وأن من قبائل الأزد الأنصار وخزاعة فقال:

_ 1 انظر: الحديث ص 29. 2 قمعة: بفتح القاف والميم بعدها مهملة خفيفة، وخندف: بكسر المعجمة وسكون النون وفتح الدال بعدها فاء. انظر: القاموس المحيط للفيروز أبادي 3/74 و139، وفتح الباري 6/548، وفي لسان العرب 10/447، قال: الخندفة: مشية كالهرولة ومنه سميت فيما – زعموا – خندف امرأة إلياس بن مضر بن نزار واسمها ليلى بنت حلوان فغلبت نسبة أولادها من إلياس إليها، وذكروا إن إبلا لإلياس انتشرت ليلاً فخرج مدركة في بغائها فردها فسمي مدركة، وخندفت الأم في أثره أي أسرعت فسميت خندف، وقعد طابخة يطبخ القدر فسمي طابخة وانقمع قمعة في البيت فسمي قمعة، وقالت خندف لزوجها ما زلت أخندف في أثركم فقال لها: فأنت خندف فذهب لها اسماً ولولد نسباً وسميت بها القبلية.

"قال الرشاطي1: "الأزد جرثومة من جراثيم قحطان، وفيهم قبائل، فمنهم الأنصار وخزاعة وغسان وبارق وغامد والعتيك، وغيرهم، وهو الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب ابن قحطان2"". وهناك من ذهب إلى أن اليمن وعدنان الجميع من ولد إسماعيل عليه السلام كما هو صنيع البخاري في تبويبه وإيراه الأحاديث المؤيدة لقوله ومنها حديثا الباب3. وعلى هذا فلا اعتراض على نسبة أسلم أو خزاعة إلى العدنانية. غير أن كون اليمن من ولد إسماعيل فيه نظر وذلك لما ورد عند أحمد وغيره، وهذا نصه عند أحمد: حدثنا أبو أحمد محمد بن عبد الله بن الزبير، قال: ثنا مسعر4 عن عبيد5 بن حنين بن حسن عن ابن معقل6 عن عائشة: "أنها كان عليها رقبة من ولد إسماعيل فجاء سبي من اليمن من خولان فأرادت أن تعتق منهم 7.

_ 1 هو عبد الله بن علي بن عبد الله بن علي بن أحمد الحافظ النسابة أبو محمد اللخمي المري المعروف بالرشاطي، روى عن أبي علي الغساني وأبي علي الصدفي وابن فتحون وجماعة وعنه أبو محمد عبيد الله وابن مضار وأبو بكر بن أبي جمرة وابن خالد بن رفاعة وغيرهم. قال الذهبي: ألف كتابه الحافل المسمى باقتباس الأنوار والتماس الأزهار في أنساب رواة الآثار، وكتاب الإعلام لما في المختلف والمؤتلف للدراقطني من الأوهام … الخ، ولد سنة 406هـ واستشهد عند دخول العدو المرية في جمادى الآخرة سنة 542هـ وكان مولده سنة 406 وقال ابن عاف في سنة 465 والأول أصح. تذكرة الحفاظ للذهبي 4/1307، والبداية والنهاية لابن كثير 12/223، ومعجم المؤلفين لكحالة 6/90. 2 فتح الباري 6/539. 3 انظر ص 47. 4 هو ابن كدام. 5 عبيد بن الحسن المزني أو الثعلبي أبو الحسن الكوفي، ثقة. والظاهر أن لفظ (ابن حنين) خطأ. انظر: التقريب 1/542، وتهذيب التهذيب 7/62. 6 ابن معقل: بفتح أوله وسكون المهملة بعدها قاف هو عبد الله بن مقرن المزني. التقريب 1/453. 7 مسند أحمد 6/263.

الحديث رجاله رجال الصحيح. وفي مجمع الزوائد رواه أحمد والبزار بنحوه. ورجال أحمد رجال الصحيح1. ففي هذا الحديث دلالة واضحة على أن القحطانيين لا ينحدرون من إسماعيل عليه السلام. وقال محمد السفاريني حول حديث سلمة بن الأكوع المتقدم2: "ظاهر الحديث أن أسلم من ولد إسماعيل عليه السلام".والمشهور أنهم من قحطان وهم بطن من خزاعة القحطانية. ويدل على أنهم من قحطان: أنه لما وفد على النبي صلى الله عليه وسلم عمرو3 بن أفصى في عصابة من أسلم، فقالوا: "قد آمنا بالله ورسوله، واتبعنا مِنْهاجَك، فاجعل لنا عندك منزلة تعرف العرب فضيلتنا، فإنا أخوة الأنصار، ولك علينا الوفاء، والنصر في الشدة والرخاء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أسلم سالمها الله" 4.

_ 1 مجمع الزوائد للهيثمي 10/46-47، وفتح الباري 5/172- 173 والحديث رواه الحاكم في المستدرك 2/216 عن عائشة من طريقين: الأولى: عن مسعر عن عبيد بن الحسن كرواية أحمد. والثانية: عن شعبة عن عبيد بن الحسن به. وقال في الطريق الثانية: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي. 2 انظر: ص 48. 3 لم أجد هذا الاسم بعد مراجعة طبقات ابن سعد وتاريخ البخاري الكبير والصغير، والاستيعاب، وأسد العابة، والإصابة، كما أني راجعت سيرة ابن هشام، وتاريخ الطبري، وابن كثير، فلم أجد هذا الاسم في جملة من وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم. 4 شرح ثلاثيات مسند أحمد 2/801. وانظر: الحديث في صحيح البخاري 4/145 كتاب المناقب، باب ذكر أسلم وغفار ومزينة..الخ، وصحيح مسلم7/178كتاب الفضائل من حديث عبد الله بن عمر. ونصه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال على المنبر: "غفار غفر الله لها وأسلم سالمها الله وعصية عصت الله ورسوله" لفظ البخاري.

صلة بني المصطلق بقبائل المدينة المنورة: أما صلة بني المصطلق بقبائل المدينة فإن الجميع يرجعون إلى الأزد القبيلة اليمانية المشهورة1. إذ إن الأوس والخزرج ابنا حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن عبد الله بن الأزد بن الغوث ابن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان2. زاد ابن قتيبة: "ابن سبأ وهما ابنا قبيلة نسبا إلى أمهما وهما الأنصار"3. والمصطلق: هو جذيمة بن سعد بن عمرو بن ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر وهو الجد الثاني بالنسبة للأوس والخزرج، والجد الرابع بالنسبة للمصطلق، فالأوس والخزرج وبنو المصطلق يجتمعون فيه4. وذكر ابن حزم بأن الأزد بن الغوث ينتهي نسبه إلى قحطان. ثم قال: "وللأزد قبائل وهي الأنصار: وهم بنو الخزرج والأوس ابني حارثة بن ثعلبة بن عمرو مزيقياء بن عامر ماء السماء بن حارثة الغطريف ابن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد بن الغوث"5. ولم يذكر خزاعة في قبائل قحطان لأنه يرى أنها قبيلة عدنانية كما تقدم6. وقد وافق النويري ابن حزم في سياق نسب عمرو مزيقياء وأنه ينتهي إلى الأزد بن الغوث غير أنه ذكر أن امرئ القيس يلقب البطريق وأن ثعلبة يلقب العنقاء وذكر بين مازن والأزد غساناً وأنه يلقب بالسراج. ثم بين أن عقب عمرو مزيقياء يشكلون أفخاذاً ستة7. يهمنا منها ثعلبة وهم بطن الأنصار، وحارثة وهم بطن خزاعة8 وكذلك

_ 1 في القاموس المحيط 1/374 (أزد بن الغوث) وبالسين أفصح أبو حي باليمن ومن أولاده: الأنصار كلهم، ويقال: أزد شنئوة وعمان والسراة. 2 انظر: طبقات خليفة ص 76. 3 ابن قتيبة: المعارف ص 49. 4 خليفة: الطبقات ص 107 وابن قتيبة: المعارف ص 49. 5 جمهرة أنساب العرب ص 484. 6 انظر ص 47. 7 بقية الأفخاذ هم جفنة وعمران ومحرق وكعب. 8 نهاية الأرب 2/329.

قرر القلقشندي أن الأوس والخزرج وخزاعة كلهم في الأزد. إذ بين بأن الأوس والخزرج هما ابنا حارثة بن ثعلبة بن عمرو مزيقياء1، وخزاعة هم بنو عمرو بن ربيعة بن حارثة بن عمرو مزيقياء. وإن الجميع يرجعون للأزد2. وبذلك يتضح أن بني المصطلق لهم رابطة قوية بأهل المدينة المنورة هي رابطة النسب والرحم. إذ عرفنا أن بني المصطلق بطن من خزاعة بلا نزاع.

_ 1 قلائد الجمان ص 93 ومزيقياء: بمضمومة وفتح زاي وسكون مثناة تحت وكسر قاف وفتح تحتية أخرى ومد همزة. (المغني لمحمد طاهر الهندي ص 71) . وفي القاموس المحيط3/283 قال: ومزيقياء لقب عمرو بن عامر ملك اليمن كان يلبس كل يوم حلتين ويمزقهما بالعشي يكره العود فيهما ويأنف أن يلبسهما غيره. 2 قلائد الجمان ص 98.

المبحث الثاني: ديار بني المصطلق

المبحث الثاني: ديار بني المصطلق أما المنطقة التي كانت تسكنها بنو المصطلق فقد عرفنا مما تقدم أن بني المصطلق بطن من خزاعة. وبالتالي نستطيع تحديد المنطقة التي كانت تقطنها خزاعة قبل مجيء الإسلام وبعده. ومن خلال تحديد مساكن خزاعة نعرف أماكن بني المصطلق. وتذكر كتب التواريخ من مساكن بني المصطلق قديداً1 فقط حيث وقعت فيه غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم. وانفرد أبو إسحاق الحربي بذكر عسفان2 على أنها من مساكن بني المصطلق3. ولكن المؤرخين وغيرهم ذكروا ديار خزاعة، وبنو المصطلق منهم، فديارها ديارهم

_ 1 قديد: تصغير قد وانظر تحديدها ص 56. 2 عسفان، كعثمان، وانظر تحديدها ص 55. 3 كتاب المناسك للحربي ص463،والقاموس المحيط2/133،وتاج العروس 3/539.

ويتبين مما ذكرته المصادر أن منازل خزاعة تقع بمكة وما حولها. كما أنهم يشاركون بني ضمرة في جبل الأبواء. وقد سمت المصادر من منازلهم ما يأتي: (أ) مر الظهران1: قال الحربي: "بينها وبين مكة ثلاثة عشر ميلاً"2 وحددها ياقوت وابن منظور والفيروز آبادي والزبيدي بمرحلة3. وقال الأسدي4 والسمهودي: "بين مكة ومر الظهران سبعة عشر ميلاً"5. ويتضح لنا مما تقدم أن تحديد المسافة بين مر الظهران ومكة بمرحلة هو الصحيح، وأما ما ذكره الحربي من تحديد هذه المسافة بثلاثة عشر ميلاً فهو خطأ وكذلك ما نقله ياقوت عن الواقدي بأن المسافة بين مر الظهران ومكة خمسة أميال خطأ أيضاً6 إذ أن ياقوتاً نفسه حد السفر الذي تجوز فيه قصر الصلاة بثمانية وأربعين ميلاً7. فتكون المرحلة أربعة وعشرين ميلاً. فيكون الفرق شاسعاً بين تحديد هذه المسافة بمرحلة وبين قول الحربي، وقول الواقدي من باب أولى. والذي يظهر من هذا أن المسافة بين مكة ومر الظهران هي مرحلة إلاّ ربع مرحلة، وينطبق هذا على تحديد الأسدي والسمهودي.

_ 1 مر الظهران هو وادي فاطمة بينه وبين مكة 30 كلم. (ومر) بفتح الميم وتشديد الراء المضمومة، (والظهران) تثنية ظهر، وهي من ديار خزاعة. 2 كتاب المناسك للحربي ص 465. 3 معجم البلدان 5/104، ولسان العرب 7/17، والأم للشافعي 5/134. 4 هو أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الله الأسدي، هكذا قال عنه السمهودي وقال لا يعرف زمنه غير أنه يعتقد أنه من أهل القرن الثالث. انظر: مقدمة حمد الجاسر لكتاب الحربي ص 262 و267. 5 ص465 تعليق على كتاب المناسك للحربي، وخلاصة الوفاء ص 482. 6 معجم البلدان 5/104. 7 المصدر السابق 1/35.

ويؤيد هذا القول أن المسافة الآن بين مكة ومر الظهران ثلاثون كيلو متراً. والمرحلة أربعون كيلو متراً كما قرر ذلك صاحب تيسير العلام1. والفرق يسير بين تحديدها بمرحلة أو مرحلة إلاّ ربعاً، إذا نظرنا إلى اختلاف الناس في سرعة السير، وعدمه. فقد قطع بعضهم المسافة بمرحلة، ويقطعها غيره بأقل من ذلك. لا سيما أن الفرق بين تحديدها بمرحلة أو مرحلة إلاّ ربعاً، وهو سبعة أميال أو عشرة كيلو مترات. وعلى كل حال فأقرب تحديد لهذه المسافة هو ما بين مرحلة أو مرحلة إلاّ ربعاً، لاختلاف الناس سرعة وبطأ. (ب) عُسْفان2: ذكر الحربي نقلاً عن أبي3 إسحاق البكري: "أن تحديد المسافة بين عسفان ومر الظهران ثلاثة وعشرون ميلاً وهي لني المصطلق من خزاعة"4. ونقل ياقوت عن السكري5 وغيره تحديد المسافة بين مكة وعسفان بمرحلتين6. وهو أيضاً قول الفيروز آبادي والزبيدي7. وبهذا تكون المسافة بين عسفان ومكة مرحلتين. وهو موافق لتحديدها

_ 1 تيسير العلام شرح عمدة الأحكام لعبد الله بن عبد الرحمن بن صالح آل بسام 1/500- 502. 2 تبعد عسفان عن مر الظهران (وادي فاطمة) 50 كيلو متراً شمالاً وعن مكة 80 كيلو متراً. انظر: نسب حرب للبلادي ص 370. 3 أبو إسحاق البكري: هو إبراهيم بن إسحاق بن محمد بن زكريا بن طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق. مقدمة كتاب المناسك للحربي ص 15. 4 كتاب المناسك ص 463. 5 السكري: هو الحافظ أبو سعد علي بن موسى النيسابوري، معدود في حفاظ خرسان (ت 465) تذكرة الحفاظ للذهبي 3/1161. 6 معجم البلدان 4/121 - 122. 7 القاموس المحيط 3/175، وتاج العروس 6/198.

بالكيلومترات إذ إن بين عسفان ومكة ثمانين كيلومتراً، وتقدم1 لنا تحديد المرحلة بأربعين كيلومتراً. (ج) خليص - كربيز -: ذكر الزبيدي أنها تبعد عن مكة بثلاث مراحل2. والذي يظهر أنها تبعد عن مكة بمرحلتين ونصف مرحلة؛ لأن بينها وبين مكة الآن 100 ك م، وهي تساوي مرحلتين ونصف3 مرحلة وذكر الحربي المسافة بين خليص وقديد، وأنها تبعد عن قديد من جهة مكة بثمانية أميال4. (د) قديد5: ذكر الحربي أن المسافة بينها وبين عسفان ثلاثة وعشرون ميلاً، وفيها هضبة يقال لها المشلل كان بها مناة الطاغية6 فعلى هذا تكون المسافة بين قديد ومكة ثلاث مراحل؛ لأن عسفان على مرحلتين من مكة7. (هـ) الجحفة: بينها وبين قديد أربعة وعشرون ميلاً، وبينها وبين البحر نحو من ستة8 أميال. هكذا ذكر الحربي9.

_ 1 تقدم ص 55. 2 تاج العروس 4/389. 3 انظر: نسب حرب للبلادي ص 357. 4 كتاب المناسك ص 460. 5 قديد (يقع شمال خليص بـ1/2 13 كيلو مترات، لأن الحربي ذكر أن المسافة بين خليص وقديد ثمانية أميال، والميل يساوي 2/3 1 كيلومترات، وبقديد ماء المريسيع الذي غزاهم الرسول صلى الله عليه وسلم، وكديد غير قديد وهو جنوب بـ 42 كيلو متر. 6 كتاب المناسك 458 –460. 7 انظر: ص55. 8 تقدر الستة الأميال: بـ 10 كيلو مترات، وانظر تيسير العلام شرح عمدة الأحكام 1/501. 9 كتاب المناسك ص 457 و 459.

وبهذا يتضح أن الحربي يرى أن المسافة بين الجحفة ومكة أربع مراحل وهو قول ياقوت1. ونقل ياقوت أيضاً عن السكري: أن المسافة بينها وبين مكة ثلاث مراحل، وبهذا قال النووي2. ونص ابن حزم على أنها تبعد عن مكة باثنين وثمانين ميلاً. وهو يساوي ثلاث مراحل ونصفاً إلاّ ميلين3. وتبعه على هذا الفيروز آبادي والزبيدي4. وقرر ابن حجر أن بينها وبين مكة خمس مراحل أو ست5. والصحيح أن المسافة بين الجحفة ومكة خمس مراحل، وقد نص على هذا المعاصرون من أهل هذه البلاد وهو أعرف بها من غيرهم6. (و) الأبواء: ومن المنازل التي استقرت فيها خزاعة قرية الأبواء التي كانت في العهد الإسلامي الأول تابعة إدارياً للفرع7 التي تتبع بدورها المدينة المنورة. والأبواء جبل مرتفع ليس فيه سوى نبات الخزم والبشام، سميت به القرية وهي لأخلاط من الناس. منهم خزاعة وضمرة.

_ 1 معجم البلدان 2/111. 2 المصدر السابق 2/111، وشرح صحيح مسلم 3/252. 3 المحلى 7/63. 4 القاموس المحيط 3/121،وتاج العروس 6/53. 5 فتح الباري 3/385. 6 انظر: تيسير العلام شرح عمدة الأحكام 1/501، وغزوة بدر لباشميل ص 132. 7 الفرع: قال حمد الجاسر والفرع: بضم الفاء وإسكان الراء وقيل بضمهما عمل واسع من أعمال المدينة لا يزال معروفاً بهذا الاسم وفيه قرى كثيرة. انظر: التعليق على كتاب المناسك للحربي ص 341. وذكر البلادي أن الفرع قرية نسب الوادي إليها وهو واد خصب أكثر أودية الحجاز اليوم عيوناً ويجتمع مع القاحة في وادي الأبواء. ويطلق عليه الآن (وادي النخل) وهو لنبي عمرو بن حرب، ولذا يطلق عليه أيضاً وادي بني عمرو لأنهم سكانه. وهو يبعد عن المدينة المنورة جنوباً 150 كيلو متراً. نسب حرب لعاتق البلادي ص 376 – 377.

وتقع شمال الجحفة بثلاثة وعشرين ميلاً، هكذا نص الحربي. وهو قول ياقوت1 وبهذا تكون المسافة بين الجحفة والأبواء ثلاثة وعشرين ميلاً، وهكذا أقر هذا التحديد من المعاصرين محمد أحمد باشميل وعبد الله آل بسام. وعلى هذا فتكون المسافة بينها مرحلة إلاّ ميلاً واحداً. وذكر عبد الرحمن السعدي بأن الأبواء هي المسماة (مستورة) الآن. وتعبقه عبد الله آل بسام بقوله: "قد تحققنا من أهل تلك البلاد أن الأبواء تقع عن مستورة شرقاً بنحو ثلاث كيلومترات، وأن سيلهما واحد، ويسقيهما وادي النخل"2. وعلى هذا فتكون المسافة بين الأبواء ومكة ست مراحل3. لأنه تقدم لنا أن الجحفة4 تبعد عن مكة بخمس مراحل. وعرفنا أيضاً أن الأبواء ليست لخزاعة5 وحدهم.

_ 1 كتاب المناسك ص 454،ومعجم البلدان 1/79، وانظر فتح الباري 7/279. 2 تيسير العلام شرح عمدة الأحكام 1/584،وغزوة بدر لباشميل ص 132، الأبواء: بالفتح ثم السكون وواو وألف ممدودة. 3 تقدر الست المراحل بـ 240 كيلو متراً. وقد ذكر البلادي أن الأبواء تقع شمال مكة بـ 235 كيلومتراً والأمر سهل. وذكر أيضاً أن الأبواء الآن تسمى (الخريبة) تصغير خربة وهناك قبر آمنة أم النبي صلى الله عليه وسلم وأن سكانها في وقتنا الحاضر بنو محمد من حرب. نسب حرب ص 29 و71 و331. 4 هي من مواقيت الحج المكانية ورد ذكرها في حديث ابن عباس وابن عمر في الصحيحين وغيرهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لأهل المدينة (ذا الحليفة) ولأهل الشام (الجحفة) الحديث … ولما خربت صار الناس يحرمون الآن من (رابغ) لأنها قبل حذائها بقليل من ناحية الشمال الغربي. وكانت الجحفة تسمى (مَهْيَعَة) بالفتح ثم السكون ثم ياء مفتوحة وعين مهملة. فجحفها السيل فسميت (الجحفة) بالضم ثم السكون والفاء (معجم البلدان لياقوت 2/111و 5/235) . 5 موجود الآن طائفة من بقايا خزاعة في وادي فاطمة من الخبث عند القنفذة وفي الشرق الجنوبي من بحرة. انظر: قلب جزيرة العرب لفؤاد حمزة ص 156، ومعجم قبائل العرب لكحالة 1/338، ونسب حرب. وهم منتشرون بين مكة والمدينة، وأن قدوم قبيلة حرب إلى هذه المناطق كان في القرن الثاني الهجري قادمة من خولان من اليمن، وانكمشت خزاعة إلى أماكنها حالياً. انظر: قلب جزيرة العرب لفؤاد حمزة ص 150- 151، ونسب حرب للبلادي ص 14و 119. وهذه الأماكن التي مرّت بنا تقطنها الآن قبائل من حرب، وهم منتشرون بين مكة والمدينة. نسب حرب لعاتق البلادي ص (148) .

صورة المصطلق (1)

الفصل الثاني: موقف بني المصطلق من الدعوة الإسلامية قبل المريسيع

الفصل الثاني: موقف بني المصطلق من الدعوة الإسلامية قبل المريسيع المبحث الأول: موقف بني المصطلق من الإسلام ... المبحث الأول: موقف بني المصطلق من الإسلام تأخر إسلام بني المصطلق شأن القبائل التهامية المجاورة لقريش؛ وذلك لما كان لقريش من السيطرة والحرمة في نفوس القبائل بحكم كونهم سكان الحرم، وحماة بيت الله الأمين، فكانت القبائل تنظر إليهم نظرة احترام وتوقير، وكانوا ينظرون ماذا تصنع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم، فهم أعرف به من غيرهم، ولما لم يحصل منهم الإذعان لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم كان ذلك داعياً للقبائل المجاورة إلى عدم الاستجابة للرسول صلى الله عليه وسلم، لا سيما ما كان بين قريش وبين القبائل المجاورة من تبادل المنافع والمصالح، وخاصة قبيلة خزاعة - ومنهم بنو المصطلق - بحسب موقعهم الجغرافي إذ كانت قبيلة بني المصطلق على طريق قريش التجارية إلى الشام، مما جعلها تتأخر في إعلان إسلامها، حفاظاً على مصالحها. ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يأمن جانبها بحكم كونها فرعاً من خزاعة التي كانت محل عناية ونصح للرسول صلى الله عليه وسلم، رغم عدم دخولها في الإسلام.

ويتضح ذلك جلياً في موقف معبد بن أبي معبد الخزاعي في حمراء1 الأسد، التي وقعت عقب غزوة أحد مباشرة. وقد استهدف الرسول صلى الله عليه وسلم تقوية معنويات المسلمين وتثبيت مركزهم داخل المدينة بعد أن أضعفتهم معنويات آثار أحد فخرج صلى الله عليه وسلم إلى حمراء الأسد يتبع جيش أبي سفيان خشية أن تسوّل لهم أنفسهم الكرة على المسلمين لاستئصالهم - وكان الأمر كما توقّع صلى الله عليه وسلم - فلما وصل حمراء الأسد مرّ به معبد بن أبي معبد الخزاعي فقال: "يا محمد والله لقد عز علينا ما أصابك ولوددنا أن الله عافاك مما حدث بك -" وكان معبد إذ ذاك مشركاً2 ولكن خزاعة كانت عيبة3 نصح لرسول الله صلى الله عليه وسلم بتهامة، مسلمهم ومشركهم فكانوا لا يخفون عنه شيئاً حدث في مكة - ثم خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم متجهاً نحو مكة، فلقي أبا سفيان بن حرب وجماعته بالروحاء4 وقد أجمعوا الرجعة إلى المدينة وقالوا: "أصبنا أشرافهم وقادتهم ثم نرجع قبل أن نستأصلهم، لنكرن على بقيتهم فلنفرغن منهم، وبينما هم كذلك طلع عليهم معبد بن أبي معبد الخزاعي فلما رآه أبو سفيان قال: "ماوراءك يا معبد؟ "

_ 1 ذكر إبراهيم الحربي أن حمراء الأسد فوق ذي الحليفة بثلاثة أميال يسرة عن الطريق إذا أصعدت إلى مكة. كتاب المناسك ص 440، وقال خليفة بن خياط وابن عبد البر وياقوت والفيروز آبادي أنها تبعد عن المدينة بثمانية أميال، تاريخ خليفة، ص 74، والاستيعاب 3/455، ومعجم البلدان 2/301، والقاموس المحيط 2/13، ولا فرق بين تحديد الحربي وغيره لأن ذا الحليفة على خمسة أميال ونصف من المدينة، انظر كتاب المناسك للحربي ص 427، وهي تبعد عن المدينة بتسعة أميال. نسب حرب للبلادي ص 359، وعلى هذا فتكون المسافة بين حمراء الأسد والمدينة بالكيلومترات 1/3 13 كيلومتراً. 2 كون معبد إذ ذاك كان مشركاً هو المشهور عند العلماء. انظر: سيرة ابن هشام 2/102، ومغازي الواقدي 1/338، وتاريخ خليفة ص 74، والبداية والنهاية لابن كثير 4/49، والاستيعاب لابن عبد البر 3/454 على هامش الإصابة، وأسد الغابة لابن الأثير 5/217-218. وذكر ابن القيم أنه أسلم في ذلك الوقت وأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلحق بأبي سفيان فيخذله. انظر: زاد المعاد 2/121. ومعبد هذا هو غير معبد ولد أم معبد الخزاعية. انظر: الإصابة لابن حجر 3/441 – 442. 3 عيبة الرجل: موضع سره انظر: النهاية لابن الأثير 3/327. 4 الروحاء: على طريق مكة تبعد عن المدينة بـ 73 كيلومتراً. انظر: نسب حرب للبلادي ص 107.

قال: "محمد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قط، ولا قبل لكم به، وهم يتحرّقون عليكم تحرّقاً قد اجتمع معه من كان تخلّف عنه في يومكم1 وندموا على ما صنعوا فيهم من الحنق ما لم أر مثله قط". فاندهش أبو سفيان، وقال: "ويحك يا معبد انظر ما تقول؟ " فقال معبد: "والله ما أرى أن ترتحل من مكانك هذا حتى ترى نواصي الخيل". قال أبو سفيان: "والله لقد أجمعنا الكرة عليهم، لنستأصل بقيتهم"، قال: "فإني أنهاك عن ذلك. والله لقد حملني ما رأيت على أن قلت فيهم أبياتاً من الشعر". قال: "وما قلت؟ " فأنشده شعراً فيه تحذير له من لقاء المسلمين، وبيان قوتهم، فثنى ذلك أبا سفيان ومن معه، وانسحبوا في أسرع وقت يواصلون سيرهم نحو مكة2. فهذا يدل على إخلاص بعض رجال هذه القبيلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وثقته بهم. وأما ما يتعلّق بموقف بني المصطلق من الإسلام، فإني لم أجد ما ينص على إسلام فرد منهم بعينه قبل غزو الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما يوجد بعض الأفراد من خزاعة عامة أعلنوا إسلامهم سابقاً أذكر بعضاً منهم على سبيل المثال لا الحصر فمنهم: أ- أمينة بنت خلف بن أسعد بن عامر بن بياضة بن سبيع بن جعثمة بن سعد بن مليح بن عمرو من خزاعة هاجرت إلى الحبشة مع زوجها

_ 1 يريد يوم أحد أضافه إليهم لكون النصر كان حليفاً لهم. 2 سيرة ابن هشام 2/101-103، مغازي الواقدي 1/334-340، الكامل لابن الأثير 2/164، البداية والنهاية لابن كثير 4/49، الإصابة لابن حجر 3/441.

خالد بن سعيد بن العاص بن أمية وولدت له بأرض الحبشة سعيد ابن خالد وأمة بنت خالد، التي تزوجها الزبير فيما بعد1. قال ابن هشام: "ويقال: همينة بنت خلف"2. ب- أم معبد الخزاعية3 فقد أسلمت عندما مرّ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم أثناء الهجرة ونزل بها، وكان من حديثها أنها وصفت رسول الله صلى الله عليه وسلم لزوجها عندما جاء بعد ذهاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، من عندها4. ج- معتب بن عوف بن عامر بن الفضل بن عفيف بن كليب بن حبشية بن سلول ابن كعب بن عمرو من خزاعة، وهو الذي يقال له: (عيهامة) ويعرف بابن الحمراء. وذكر ابن حجر (هيعانة) (بدل عيهامة) . كان من المهاجرين إلى الحبشة وشهد بدراً وما بعدها 5. د- نافع بن بديل بن ورقاء الخزاعي، استشهد في بئر معونة6. وبهذا القدر نكتفي لأن القصد هو التمثيل لا الحصر.

_ 1 سيرة بن هشام 1/323. 2 المصدر السابق1/323، وطبقات ابن سعد 8/286، أنساب الأشراف للبلاذري ص 199. 3 هي عاتكة بنت خالد بن منقذ بن ربيعة أم معبد الخزاعية. انظر: ترجمتها في الاستيعاب1/391،وأسد الغابة1/451،في ترجمة أخيها حبيش. 4 سيرة ابن هشام1/487-488،وطبقات ابن سعد8/289،وانظر الحديث في نزول الرسول صلى الله عليه وسلم عليها في المستدرك3/9-10 وقال: "صحيح الإسناد، ولم يخرجاه"،وأقره الذهبي. 5 سيرة ابن هشام 1/327، وطبقات ابن سعد 3/264، والاستيعاب 3/461، مع الإصابة وأسد الغابة 5/224، والإصابة لابن حجر 3/443، ومُعَتَّب بمضمومة وفتح عين وكسر مثناة فوق مشدّدة فموحّدة (المغني لمحمد طاهر الهندي ص73) . 6 سيرة ابن هشام 2/183 و188، وطبقات ابن سعد 4/294، وتاريخ خليفة بن خياط ص 76، الاستيعاب لابن عبد البر 3/541 مع الإصابة، وأسد الغابة لابن الأثير5/299، والإصابة لابن حجر 3/543.

وبه يتضح مدى العلاقة التي تربط قبائل خزاعة عامة بالدعوة الإسلامية في أول أمرها، ومبادرة عدد من رجال هذه القبائل إلى الإسلام، لكن المصادر كما أشرت لا تنص على إسلام رجال من بني المصطلق بالذات، وأحسب أن سكوت المصادر يكفي للدلالة على بقاء هذه القبيلة على الشرك، ولا يمنع ذلك من التزامها بشيء من الولاء للمسلمين وفقاً للأعراف القبلية السائدة، والتي تلزمهم بموقف خزاعة الموالي للدولة الإسلامية.

المبحث الثاني: موقف بني المصطلق من الصراع بين المسلمين وقريش

المبحث الثاني: موقف بني المصطلق من الصراع بين المسلمين وقريش لم تشر المصادر التي بين أيدينا إلى موقف عدائي محدد صدر من بني المصطلق ضد المسلمين منذ أن تأسست دولة الإسلام حتى كانت غزوة أحد، رغم تحرّك المسلمين العسكري في أطراف المدينة من جميع نواحيها، حيث أرسلوا السرايا استهدفت عرقلة التجارة المكية إلى الشام، بتهديد طرقها الرئيسية، كما لم تسهم بنو المصطلق مع المشركين في غزوة بدر الكبرى. وأول إشارة إلى اتخاذهم موقفاً عدائياً واضحاً ضد المسلمين هو إسهامهم مع قريش في موقعة أحد، ضمن كتلة الأحابيش1، التي اشتركت في المعركة تأييداً لقريش2.

_ 1 الأحابيش هم بنو الحارث بن عبد مناة بن كنانة، والهون بن خزيمة بن مدركة، وبنو المصطلق من خزاعة، انظر سيرة ابن هشام 1/373، والمعارف لابن قتيبة ص26، وأنساب الأشراف للبلادي ص52، وفتح الباري لابن حجر 5/334 و342، وسمّوا بذلك: لأنهم تحالفوا وتعاقدوا مع قريش على أنهم يد على من سواهم، وكان ذلك عند جبل بأسفل مكة يقال به ((حبشي)) فنسبوا إليه، وقيل سمّوا بذلك لتجمّعهم، والتحبّش التجمع، والحباشة الجماعة. المعارف لابن قتيبة ص 269، ولسان العرب لابن منظور 8/166، والقاموس المحيط للفيروز آبادي 2/267، فتح الباري 5/334. 2 سيرة ابن هشام 2/61، ومغازي الواقدي 1/200، والكامل لابن الأثير 2/149، وزاد المعاد لابن القيم 2/102، والبداية والنهاية لابن كثير 4/10، ونور اليقين للخضري بك ص 133، والسيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة لأبي شهبة ص 196.

وبهذا نعلم أن بني المصطلق قد أثّرت فيها دعايات قريش للاشتراك معها في موقعة أحد، لتأخذ بثأرها وتغطي عار الهزيمة التي نزلت بها في موقعة بدر الكبرى. وأما قبل ذلك فلم يوجد أي دليل على اشتراك بني المصطلق مع قريش ضد المسلمين حتى كانت عزوة أحد وما لحق بالمسلمين فيها من خسائر جسيمة ذات أثر عظيم في أرجاء شبه الجزيرة العربية، وداخل المدينة المنورة نفسها، فضعفت هيبة المسلمين وتجرّأ عليهم الأعراب، وشمت بهم اليهود والمنافقون، وقاموا بدعاية واسعة ضدهم، وقد أدت الظروف التي أعقبت غزوة (أحد) إلى ما يلي: 1- طمع المشركين في القضاء على الإسلام والمسلمين والإجهاز على الدعوة الإسلامية نهائياً، ويتمثّل هذا في رغبة أبي سفيان في العودة إلى المسلمين لاستئصال شأفتهم، غير أنه نكص على عقبيه، بتخذيل معبد بن أبي معبد الذي مرّ ذكره1. 2- تنفّس المنافقين واليهود الصعداء وتربّصهم الشر بالمسلمين، وهذا عدو داخلي بالمدينة المنورة نفسها. 3- رغبة الأعداء المجاورين لعاصمة الإسلام من القبائل العربية في التحرّك ضد المسلمين، بسبب الدعايات المغرضة التي انتشرت على أيدي المرجفين في المدينة من اليهود والمنافقين2. وأصبح المؤمنون مدّدين في عُقر دارهم من الداخل والخارج، فمن الداخل المنافقون واليهود فكانوا يذيعون خبر المعركة، ويلفّقون الأكاذيب لإشاعة الضعف والخور في صفوف المسلمين، ولتشجيع عدوهم عليهم. وأما من الخارج فقد صار المسلمون لا يحاربون قريشاً وحدها وإنما يواجهون الجزيرة برمتها.

_ 1 انظر: ص 64. 2 الرسول لسعيد حوى 1/229.

ومن ذلك أن سارعت عدة قبائل إلى التجمّع للإغارة على المدينة والقضاء على المسلمين فيها، كما حدث ذلك: أ- من بني أسد بقيادة طليحة وسلمة ابني خويلد الأسديين، من القبائل النجدية1. ب- خالد بن سفيان الهذلي الذي كان مقيماً في عرنة قرب عرفات2. فلما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بتجمّعهم ومحاولتهم اقتحام المدينة بعث إليهم من يؤدّبهم في عقر دارهم، فأرسل إلى طليحة ومن شايعه أبا سلمة ابن عبد الأسد3 على رأس مائة وخمسين رجلاً من المهاجرين والأنصار ففرّقوا جمعهم واستاقوا نعمهم وعادوا إلى المدينة سالمين. وأرسل إلى خالد بن سفيان عبد الله بن أنيس الجهني4 فقتله في عقر داره5 فكان في ذلك ضربة لهم وعبرة لغيرهم ممن يحاول السير على منوالهم. وما نزل بهم حلّ بغيرهم من بني ثعلبة وبني محارب من القبائل الغطفانية التي حاولت الهجوم على المدينة المنورة كذلك فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأس سبعمائة مقاتل فساروا حتى نزلوا ديار العدو فلم يجدوا فيها أحداً غير نسوة، فأخذوهن، فبلغ الخبر رجالهن فخافوا وتفرّقوا في رؤوس الجبال، ورجع

_ 1 كان ذلك في شهر محرّم من السنة الثالثة للهجرة. انظر: طبقات ابن سعد 2/50، وزاد المعاد 2/121. 2 المصدر السابق. 3 عبد الله بن عبد الأسد المخزومي أخو النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاعة وابن عمته برة بنت عبد المطلب كان من السابقين إلى الإسلام وممن هاجر إلى الحبشة شهد بدراً ومات في جمادى الآخرة سنة أربع هجرية، بعد أحد وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده زوجه أم سلمة/ ت س ق التقريب 1/427. 4 عبد الله بن أنيس الجهني أبو يحيى المدني، حليف الأنصار، صحابي شهد العقبة وأحداً (ت 34) بالشام في خلافة معاوية، ووهم من قال توفي سنة 80/ بخ م عم. المصدر السابق 1/403. 5 انظر الحديث في إرسال عبد الله بن أنيس إلى خالد بن سفيان: سنن أبي داود، باب صلاة الطالب 1/287، ومسند أحمد 3/496، ومسند أبي يعلى 1/107، والسنن الكبرى للبيهقي 3/256. وقال ابن حجر 2/347: إسناده حسن.

المسلمون معزّزي الجانب، وعرفت هذه الغزوة بغزوة ذا الرقاع1. وهكذا جنّد المسلمون أنفسهم عسكرياً وسياسياً، ليثبتوا للقبائل بأنهم مخطئون في تصوّرهم أن المسلمين بعد معركة (أحد) لا يستطيعون مقاومة من يريد النيل منهم، فجهزّوا تلك السرايا والغزوات ليشعروا عدوهم بأنهم قادرون على سحق كل من تحدّثه نفسه بالاعتداء عليهم، أو محاولة النيل منهم، فكانت حركاتهم العسكرية ناجحة، أنزلوا فيها بالأعداء ضربات زلزلت معنوياتهم، وجعلتهم يصحّحون تصوّراتهم الخاطئة، عن مدى قوة المسلمين العسكرية، وترابطهم السياسي والمعنوي، وخاصة المعسكر القرشي واليهودي2. وبعد هذا كله جاء دور بين المصطلق؛ إذ إنها كانت ضمن كتلة الأحابيش3 التي انضمت إلى جانب قريش في معركة أحد، ثم أخذت بعد رجوعها من معركة أحد تعد العدة وتجمع الجموع، وتفتني السلاح والخيل، على مدى سنتين، كان المسلمون خلال تلك الفترة يواجهون تحركّات قبائل الجزيرة، فهم ما بين سرية وغزوة. فانتهزت قبيلة بني المصطلق فرصة انشغال المسلمين ببقية القبائل، فأخذت تجمع الجموع، وتسعى في القبائل المجاورة لها، تحرّضها وتشجّعها على الانضمام معها في الهجوم على دولة الإسلام. ولما وصل خبرهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قدّر للموقف قدره، وجعل يفكّر في مواجهة هذه القبيلة التي استعدت للمعركة استعداداً كاملاً، فبدأ بمراقبة حركات هذا العدو مراقبة شديدة، ثم أمر بريدة4 بن الحصيب بالذهاب إليهم ليعرف وجهتهم وقوّتهم، فخرج مسرعاً

_ 1 كانت هذه الغزوة في السنة الرابعة في جمادى الأولى على رأي بعض العلماء. انظر: سيرة ابن هشام 2/203، وزاد المعاد 2/123، وانظر: الخلاف في وقتها في مبحث التيمّم. انظر ص 343 وما بعدها. 2 غزوة الأحزاب لباشميل ص 20. 3 انظر: ص. 4 بريدة بن الحصيب بمهملتين مصغّراً، أبو سهل الأسلمي صحابي، أسلم قبل بدر (ت 63هـ) / ع. التقريب 1/96.

حتى وصل عندهم فوجدهم قوماً مغرورين بأنفسهم وبما لديهم من القوة قد ألبّوا القبائل وجمعوا الجموع، فاتصل برئيسهم الحارث بن أبي ضرار، فسأله الحارث: "من الرجل؟ " قال: "رجل منكم قدمت لما بلغني عن جمعكم لهذا الرجل، فأسير في قومي ومن أطاعني، فتكون يدنا واحدة، حتى نستأصله"، فازداد فرح القوم بانضمام قوة جديدة إلى قوتهم، فقال له الحارث: "فنحن على ذلك فعجّل علينا"، قال بريدة: "أركب الآن فآتيكم بجمع كثيف من قومي ومن أطاعني فسرّوا بذلك منه فمضى إلى المدينة وأخبر المسلمين بأمرهم1.

_ 1 انظر: طبقات ابن سعد 2/63، ومغازي الواقدي 1/404- 405، وشرح المواهب اللدنية 2/96.

الفصل الثالث: موقف المسلمين من تحركات بني المصطلق

الفصل الثالث: موقف المسلمين من تحركات بني المصطلق المبحث الأول: حكم إنذار العدو قبل بدئه بالقتال ... الفصل الثالث: موقف المسلمين من تحركات بني المصطلق لم يقف المسلمون من تحركات بني المصطلق الاستفزازية مكتوفي الأيدي، وإنما درسوا الموقف دراسة ميدانية، وأرسل الرسول صلى الله عليه وسلم عيونه1 لكشف نيات هذه القبيلة ومعرفة استعدادها وتهيئها لغزو المدينة، وقد تم للمسلمين إدراك حقيقة ما تنويه هذه القبيلة من شر وما تبيته للمسلمين من وقيعة، ولم يكن للمسلمين - وقد أدركوا الأمر حق الإدارك وتيقنوا من خبث النيات السيئة لهذه القبيلة - أن يسكتوا عن الأمر ويتجاهلوا الموقف العدائي الواضح خاصة إذا عرفنا أن أعداء المسلمين كثر في تلك الآونة2، فما لم تلقَّن هذه القبيلة درساً قاسياً من المسلمين يوقفها عند حدها فإن غيرها من أعداء الإسلام سيقف الموقف نفسه. ومن هنا اندفع المسلمون لكسر شوكة هذا العدو وتحطيمه في عقر داره. كما سنفصل القول في ذلك في بداية وصف المعركة. ويحسن أن نذكر الملابسات التي صاحبت هذه الغزوة، وأول أمر يحسن البدء به هو هل أُنذرت هذه القبيلة قبل غزوها أو لا؟

_ 1 انظر: ص. 2 الآونة: جمع أوان وهو الحين. انظر: القاموس المحيط 4/199.

المبحث الأول: حكم إنذار العدو قبل بدئه بالقتال قبل الحديث عن إنذار الرسول صلى الله عليه وسلم لبني المصطلق أو عدم إنذاره لهم، يحسن أن نبدأ ببيان حكم الدعوة إلى الإسلام عموماً، وما هي الخطوات التي كان يتبعها الرسول صلى الله عليه وسلم مع المدعوين إلى الإسلام، وبيان الأدلة على وجوب إنذار العدو أو عدم وجوبه، وذكر الخلاف الوارد بين أهل العلم في ذلك، باختصار، ليكون ذلك تمهيداً لما نحن بصدده، حيال غزوة بني المصطلق. وفيما يأتي أقوال العلماء: أ- ذهب بعض العلماء إلى وجوب الدعوة إلى الإسلام مطلقاً، سواء أكان عند المدعوين علم بالإسلام أم لا، وإليه ذهب مالك وجماعة من العلماء1. ب- وذهب أكثر العلماء إلى التفصيل بين من بلغتهم الدعوة وعلموا بها، فلا يجب في حقهم الإنذار، وبين من لم تبلغهم الدعوة ولا علموا بها، فيجب الإنذار في حقهم، وإليه ذهب الأئمة الثلاثة وأتباعهم. ج- وهناك قول ثالث بعدم وجوب الإنذار مطلقاً، حكاه المازري2.والقاضي عياض34. استدلّ الفريق الأول بأحاديث منها: 1- ما رواه مسلم وأبو داود وغيرهما من حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميراً على

_ 1 منهم علي بن أبي طالب وعمر بن عبد العزيز، والهادوية. انظر: المدونة الكبرى لمالك 2/3، نيل الأوطار للشوكاني 7/244. 2 هو أبو عبد الله محمد بن علي المازري، صاحب كتاب (المعلم بفوائد كتاب مسلم) لم يكمل (ت 536) من مقدمة تحفة الأحوذي للمباركفوري 1/258. 3 هو عياض بن موسى اليحصبي المالكي، صاحب كتاب (الإكمال بشرح مسلم) كمل به كتاب المعلم للمازري، (ت 544) المصدر السابق 1/258. 4 انظر هذه المذاهب: في الاعتبار للحازمي ص 211- 212، شرح مسلم للنووي 4/330، فتح الباري 7/478.

سرية، أو جيش أوصاه بتقوى الله في خاصة نفسه، وبمن معه من المسلمين خيراً"، وقال: "إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث خصال، فأيتها أجابوك إليها فاقبل منهم وكف عنهم: ادعهم إلى الإسلام" وهو محل الشاهد. الحديث …1. 2- ما رواه البخاري ومسلم من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: "لأعطين هذه الراية رجلاً يفتح الله على يديه يحب الله ويحبه الله ورسوله". قال: فبات الناس يدوكون2 ليلتهم أيهم يعطاها، قال: فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجون أن يعطاها، فقال: "أين علي بن أبي طالب؟ " فقالوا: هو يا رسول الله يشتكي عينيه، قال: "فأرسلوا إليه"، فأتي به فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه ودعا له فبرأ كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية، فقال علي: "يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ " فقال: "انفذ3 على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام" الحديث…. 4. ووجه الدلالة من الحديثين قوله: "ادعهم إلى الإسلام" وهو أمر والأمر

_ 1 مسلم في كتاب الجهاد 5/139، وأبو داود في كتاب الجهاد باب في دعاء المشركين 2/35، واللفظ له وابن ماجة فيه في باب وصية الإمام 2/953، الترمذي في أبواب السير 3/53 إشارة، وعبد الرزاق في مصنفه في كتاب الجهاد باب دعاء العدو 5/218، أحمد في المسند 5/352، 358 والدارمي في كتاب السير، في باب الدعوة إلى الإسلام قبل القتال 2/136، ومنتقى ابن الجارود في الجهاد، باب وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم للجيوش والأمراء ص347، وشرح معاني الآثار للطحاوي في كتاب السير 3/206، والسنن الكبرى للبيهقي في كتاب السير باب الإقامة بدار الشرك 9/15، باب السيرة في أهل الكتاب 9/49، وكتاب الأموال لأبي عبيد ص 34 في كتاب الفيء، والاعتبار للحازمي ص210. 2 يدوكون: أي يموجون ويخوضون فيمن يعطاها. انظر: النهاية لابن الأثير 2/140. 3 انفذ على رسلك: أي انفصل وامض سالما. النهاية لابن الأثير 5/92. 4 البخاري في كتاب الجهاد، باب الدعاء إلى الإسلام 4/38، باب فضل من أسلم على يديه رجل 4/48 و5/16، باب مناقب علي بن أبي طالب و5/111 من كتاب المغازي، ومسلم واللفظ له 7/121-122، في فضائل علي بن أبي طالب.

يقتضي الوجوب ما لم يكن هناك صارف، وهو صريح في وجوب الدعوة قبل القتال… واستدل الفريق الثاني بما يأتي: 1- ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وهذا نصه: حدثنا علي1 بن الحسن أخبرنا عبد الله2، أخبرنا ابن عون3 قال: كتبت إلى نافع4 فكتب إلي: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق، وهم غارون وأنعامهم تسقى على الماء، فقتل مقاتلتهم وسبى ذراريهم، وأصاب يومئذ جويرية"، حدثني به ابن عمر5 وكان في ذلك الجيش". لفظ البخاري. ولفظ مسلم: عن ابن عون قال: "كتبت إلى نافع أسأله عن الدعاء قبل القتال، قال: فكتب إلي إنما كان ذلك في أول الإسلام، "قد أغار رسول الله صلى الله عليه وسلم على بني المصطلق، وهم غارون وأنعامهم تسقى على الماء فقتل مقاتلتهم وسبى سبيهم" الحديث 6 …

_ 1 علي بن الحسن بن شفيق، أبو عبد الرحمن المروزي، ثقة حافظ، من كبار العاشرة، (ت 215) وقيل قبل ذلك / ع. التقريب 2/34. 2 عبد الله بن المبارك المروزي مولى بني حنظلة، ثقة ثبت فقيه، عالم جواد، مجاهد جمعت فيه خصال الخير، من الثامنة، (ت 181) /ع المصدر السابق 1/445. 3 عبد الله بن عون بن أرطبان، أبو عون البصري، ثقة ثبت، فاضل، من أقران أيوب في العلم والعمل والسن، من السادسة، (ت150) على الصحيح،/ع المصدر السابق1/439. 4 نافع مولى ابن عمر، أبو عبد الله المدني، ثقة ثبت فقيه، مشهور، من الثالثة، (ت 117) أو بعد ذلك / ع المصدر السابق 2/296. 5 عبد الله بن عمر بن الخطاب العدوي، أبو عبد الرحمن، ولد بعد المبعث بيسير واستصغر يوم أحد، وهو أحد المكثرين من الصحابة، والعبادلة، وكان من أشد الناس اتباعاً للأثر، (ت 73) / ع التقريب 1/435. 6 البخاري: في كتاب العتق باب من ملك من العرب رقيقا 3/129، ومسلم في كتاب الجهاد 5/139، وأبو داود فيه، باب في دعاء المشركين 2/40، ومسند الشافعي60/244،ومسند أحمد2/32 و51، وشرح معاني الآثار للطحاوي كتاب السير3/209،السنن الكبرى للبيهقي فيه باب قسمة الغنيمة في دار الحرب9/54، 9/107، باب جواز ترك دعاء من بلغته الدعوة، كتاب الأموال لأبي عبيد ص 175، باب الحكم في رقاب أهل العنوة من الأسرى والسبي، كتاب المعارف لابن قتيبة ص 61، والاعتبار للحازمي ص 211- 212، انظر ص من هذه الرسالة.

قال أبو داود بعد إيراده: "هذا حديث نبيل، رواه ابن عون عن نافع، ولم يشركه فيه أحد". قلت: "لا يضر تفرده لأنه إمام جليل ثقة ثبت". 2- ما رواه البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى خيبر ليلاً، وكان إذا أتى قوماً بليل، لم يغر1 بهم حتى يصبح، فلما أصبح خرجت اليهود بمساحيهم2، ومكاتلهم3، فلما رأوه، قالوا: "محمد والله، محمد والخميس"4، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة 5 قوم فساء صباح المنذرين" 6. وفي لفظ: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا قوماً لم يغر حتى يصبح، فإن سمع أذاناً أمسك، وإن لم يسمع أذاناً أغار بعدما يصبح، فنزلنا خيبر ليلاً" وفي لفظ "صبحنا خيبر بكرة، فخرج أهلها بالماسحي" الحديث7. ووجه الدلالة من هذين الحديثين قوله: "أغار" أي أخذهم على غرة، ويدل على هذا صراحة لفظ: (وهو غارون) أي غافلون.

_ 1 في حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أغار على أهل خيبر ليلاً وتقدم في حديث سهل أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عليا أن يدعوهم إلى الإسلام قبل القتال. وأجاب ابن حجر: بأن حديث أنس كان أول ما طرقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وحديث علي بعد ذلك، فتح الباري 7/487. 2 بمساحيهم: المساحي: جمع مسحاة وهي المجرفة من الحديد. النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 4/150. 3 والمكاتل: جمع مكتل وهو الزنبيل الكبير. المصدر السابق 4/328. 4 الخميس: الجيش العظيم، سمي بذلك لأنه مقسوم بخمسة أقسام، المقدمة، والساقة، والميمنة، والميسرة، والقلب. وقيل لأنه تخمس فيه الغنائم. انظر: النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 7/92. 5 الساحة في اللغة الناحية وفضاء بين دور الحي، وجمعه ساح وسوح وساحات. القاموس المحيط 1/230. 6 البخاري في كتاب الجهاد باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الناس إلى الإسلام 4/38 و5/108-109 من كتاب المغازي باب غزوة خيبر واللفظ له، ومسلم5/185كتاب الجهاد. 7 المصدر السابق.

أما المذهب الثالث القائل بعدم الإنذار مطلقاً، فهو مذهب ضعيف ترفضه الأحاديث المتقدمة. وقد صرح بضعفه المازري والقاضي عياض وغيرهما من العلماء. والراجح في هذه المسألة هو مذهب جماهير العلماء القائلين بالتفصيل بين من لم تبلغه الدعوة إلى الإسلام فتجب دعوته، وبين من بلغته الدعوة فلا تجب، وبه يمكن الجمع بين الأحاديث، ومتى أمكن الجمع فلا يصار إلى غيره، لأن العمل بجميع الأحاديث أولى من رد بعضها1.وقد وردت السنة بجواز الإغارة على من بلغته الدعوة إلى الإسلام، من فعل الرسول صلى الله عليه وسلم: 1- كما هو في حديث عبد الله بن عمر وأنس بن مالك المتقدمين2. 2- ومن تقريره صلى الله عليه وسلم كما في حديث الصعب بن جثامة الليثي: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الذراري من المشركين يبيتون فيصيبون من نسائهم وذراريهم فقال: "هم منهم" 3. 3- ومن قوله صلى الله عليه وسلم كما هو في حديث أسامة بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عهد إليه فقال: "أغر على أبنى 4 صباحاً وحرق" 5.

_ 1 انظر: الاعتبار للحازمي ص211-212، شرح معاني الآثار للطحاوي3/207 و208و210،وشرح مسلم للنووي4/330و343،ونصب الراية للزيلعي3/379 و382، وفتح الباري 6/112 و7/478، وسبل السلام للصنعاني 4/45، ونيل الأوطار للشوكاني 7/244 و246 و247. 2 انظر: ص. 3 البخاري 4/48 كتاب الجهاد، باب أهل الدار يبيتون، ومسلم 5/144 فيه واللفظ له (ويبيتون) مبني للمفعول. 4 أبنى: بالضم ثم السكون وفتح النون والقصر بوزن حبلى. موضع بالشام من جهة البلقاء، معجم البلدان لياقوت 1/79. 5 رواه أبو داود في 2/36 من كتاب الجهاد باب الحرق في بلاد العدو وابن ماجه فيه 2/948 كلاهما من طريق صالح بن أبي الأخضر، قال فيه ابن حجر: "ضعيف يعتبر به" التقريب 1/358 والحديث رواه الشافعي أيضاً في الأم 4/174 من غير طريق صالح بن أبي الأخضر، ولفظه: قال الشافعي: أخبرنا بعض أصحابنا عن عبد الله بن جعفر الأزهري، قال: سمعت ابن شهاب يحدث عن عروة عن أسامة بن زيد قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن أغزو صباحاً على أهل أبنى وأحرق".

وخلاصة القول في هذا: أن الدعوة إلى الإسلام واجبة قبل القيام بالهجوم الحربي في حق من لم تبلغه الدعوة الإسلامية ولا علم بها. فإن الإسلام دين هداية وبيان وإرشاد، وليس له غرض في الحروب المدمرة، كما هو واضح من هدي هذا الدين الحنيف. أما من بغلته الدعوة الإسلامية وعلم بها، فلا يجب في حقه تجديد الدعوة لأن العلم بها حاصل لديه وخاصة إذا علم منه تبيت الشر للمسلمين، ومحاولة ضرب قلعة الإسلام، كما حصل من بني المصطلق. ومن هنا يفهم الدارس لظروف وملابسات هذه الغزوة أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقم بالهجوم على هذه القبيلة إلا بعد أن علم أنها تحتشد لحربه وضرب دار الإسلام (المدينة المنورة) . وذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قد تثبت في ذلك من بعض سفرائه حين بلغه خبر هذه القبيلة، كما ذكرنا ذلك مفصلاً في محله وقد مر قريباً1.

_ 1 انظر ص.

المبحث الثاني: هل كان هناك إنذار لبني المصطلق بالحرب على وجه الخصوص

المبحث الثاني: هل كان هناك إنذار لبني المصطلق بالحرب على وجه الخصوص أما ما يتعلق بشأن بني المصطلق فللعلماء في ذلك قولان: أ- ذهب فريق من العلماء إلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، دعاهم قبل القتال، ولكنهم امتنعوا عن قبول الإسلام، وثبتوا للقتال، ودارت المعركة بين الفريقين، وكان النصر حليف المسلمين، وعلى رأس القائلين بهذا:

1- ابن إسحاق: فقد ساق بسنده حدثني عاصم1 بن عمر بن قتادة وعبد الله2 بن أبي بكر ومحمد بن يحيى بن حبان3، كل حدثني حديث بني المصطلق قالوا: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن بني المصطلق يجمعون له، الحديث. وفيه "فلما علم بهم خرج إليهم حتى لقيهم على ماء لهم يقال له المريسيع من ناحية قديد إلى الساحل، فتزاحف الناس، واقتتلوا، فهزم الله بني المصطلق، وقتل من قتل منهم"4. والحديث رجاله ثقات رجال الصحيح، ولكنه مرسل5. 2- الواقدي: ذكر الحديث مطولاً وفيه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انتهى إلى بني المصطلق دفع راية المهاجرين إلى أبي بكر الصديق، ويقال: إلى عمار بن ياسر، وراية الأنصار إلى سعد بن عبادة، ثم أمر عمر بن الخطاب فنادى في الناس، أن قولوا: لا إله إلا الله، تمنعوا بها أنفسكم وأموالكم فأبوا فتراموا بالنبل، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين فحملوا حملة رجل واحد، فما أفلت منهم رجل واحد"، الحديث … وهو مرسل أيضاً. ثم قال: "وكان ابن عمر يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أغار

_ 1 عاصم بن عمر بن قتادة بن النعمان الأوسي الأنصاري، أبو عمر المدني، ثقة عالم بالمغازي، من الرابعة (ت بعد 120) /ع التقريب 1/385. 2 عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، الأنصاري المدني القاضي، ثقة، من الخامسة، (ت 135) / ع المصدر السابق 1/405. 3 محمد بن يحيى بن حبان بن منقذ الأنصاري المدني، ثقة، فقيه من الرابعة (ت 121) /ع المصدر السابق 2/216. 4 سيرة ابن هشام 2/290، وانظر الحديث كاملاً من ص من هذه الرسالة. 5 قال الألباني في تعليقه على فقه السيرة للغزالي ص 308: "رواه بنحوه ابن جرير في تاريخه من طريق ابن إسحاق بسنده مرسلاً، وكذلك رواه ابن هشام في (السيرة) وهذا الإسناد مع ضعفه ليس فيه أمر لعمر بعرض الإسلام، وقد أشار الزرقاني في شرحه على المواهب إلى ضعف هذه الزيادة، وحق له ذلك، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم ما يقتضي ضعفها ثم ساق ما قاله ابن القيم في ذلك، انظر قول ابن القيم ص 84".

على بني المطلق وهو غارون، ونعمهم تسقى على الماء، فقتل مقاتلتهم وسبى ذراريهم. والحديث الأول أثبت عندنا"1. 3- و 4- وتابعه في هذا ابن سعد وابن سيد الناس، فقد ساقا القصة بدون إسناد، وأشارا إلى حديث ابن عمر، ثم قالا: "الأول أثبت"2. 5- أما ابن جرير الطبري فقد ساق حديث ابن إسحاق من طريقه3. ولكنه لم يتعرض لذكر حديث ابن عمر. 6- وساق ابن الأثير نحو قول ابن إسحاق بدون إسناد4. ولم يذكر حديث ابن عمر أيضاً. وسكوت الطبري وابن الأثير وعدم إيرادهما حديث ابن عمر، قد يفهم منه موافقتهما لابن إسحاق في رأيه. ب- وذهب الفريق الثاني من العلماء إلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أغار عليهم دون دعوة. وعلى رأسهم: 1- ابن عبد البر: فقد صرح بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أغار عليهم وهم غارون. ثم قال: وقيل إن بين المصطلق جمعوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلما بلغه ذلك خرج إليهم، فلقيهم على ماء يقال له المريسيع، فاقتتلوا فهزمهم الله. ثم عقب بقوله: "والقول الأول أصح: أنه أغار عليهم وهم غارون"5. 2- ابن حزم فقد صرح بذلك أيضاً6.

_ 1 مغازي الواقدي 1/404-407. 2 طبقات ابن سعد 2/63-64، وعيون الأثر 2/91- 92. 3 تاريخ الطبري 2/604. 4 الكامل 2/192. 5 الدرر في اختصار المغازي والسير ص 200. 6 جوامع السيرة ص 203.

3- ابن القيم: فقد ساق نحو قول ابن إسحاق وموافقيه. ثم قال: هكذا قال عبد المؤمن1 بن خلف في سيرته وغيره، وهو وهم؛ فإنه لم يكن بينهم قتال، وإنما أغار عليهم، على الماء فسبى ذراريهم وأموالهم، كما في الصحيح: "أغار رسول الله صلى الله عليه وسلم على بني المصطلق وهو غارون"2. 4- ابن كثير: فقد أورد رواية ابن إسحاق والواقدي بإسنادهما ثم عقب بقوله: وثبت في الصحيحين من حديث عبد الله بن عون قال: كتبت إلى نافع أسأله عن الدعاء قبل القتال، فقال: "قد أغار رسول الله صلى الله عليه وسلم على بني المصطلق وهو غارون". الحديث3. 5- ابن حجر: فإنه بعد أن ساق قول ابن إسحاق، قال: هكذا ذكر ابن إسحاق بأسانيد مرسلة. والذي في الصحيح من حديث ابن عمر يدل على أنه أغار عليهم على حين غفلة منهم، فأوقع بهم. وساق الحديث. ثم رام الجمع بينه وبين رواية ابن إسحاق بقوله: ويحتمل أن يكون حين الإيقاع بهم ثبتوا قليلاً، فلما كثر فيهم القتل انهزموا، بأن يكون لما دهمهم وهم على الماء ثبتوا وتصافّوا، ووقع القتال بين الطائفتين ثم بعد ذلك وقعت الغلبة عليهم. ثم قال: "وقد ذكر هذه القصة ابن سعد نحو ما ذكر ابن إسحاق، وأن الحارث كان جمع جموعاً وأرسل عيناً تأتيه بخبر المسلمين فظفروا به فتقلوه فلما بلغه ذلك4 هلع وتفرق الجمع وانتهى النبي صلى الله عليه وسلم إلى الماء وهو

_ 1 هو الإمام العلامة الحافظ الحجة الفقيه النسابة، شيخ المحدثين، شرف الدين أبو محمد عبد المؤمن بن خلف الدمياطي، الشافعي، صاحب التصانيف (ت 705) تذكرة الحفاظ للذهبي 4/1477–1479، والشوكاني في البدر 1/403-404. 2 زاد المعاد 2/125. 3 البداية والنهاية 4/156، وانظر الحديث ص 78. 4 الهلع/ محركة: أشد الجزع والضجر. انظر: النهاية في غريب الحديث لابن الأثير5/269،والقاموس المحيط للفيروزآبادي3/100.

المريسيع فصف أصحابه للقتال ورموهم بالنبل ثم حملوا عليهم حملة واحدة فما أفلت منهم إنسان، بل قتل منهم عشرة وأسر الباقون رجلاً ونساء". ثم قال: "وساق ذلك اليعمري في (عيون الأثر) " ثم ذكر حديث ابن عمر ثم قال: "أشار ابن سعد إلى حديث ابن عمر"، ثم قال: "الأول أثبت". قال ابن حجر قلت: "والحكم بكون الذي في السير أثبت مما في الصحيح مردود، ولا سيما مع إمكان الجمع"1. والصواب في هذا مع القائلين بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أغار عليهم هم غارون وذلك لما يلي: 1- صحة حديث ابن عمر وصراحته في ذلك، وهو ثابت في الصحاح والسنن والمسانيد وغيرها2. 2- صرح كثير من العلماء بأن من بلغته الدعوة العامة إلى الإسلام، أو قربت داره أو حاول النيل من المسلمين، أنه يجوز مباغتته على غرة3. وهذه الأوصاف تنطبق على بني المصطلق، فقد بلغتهم الدعوة العامة وكانوا ضمن المتألبين مع قريش في معركة أحد، ضد المسلمين ولم يكتفوا بهذا بعد عودتهم إلى بلادهم بل أخذوا يجمعون الجموع ويعدون بضرب المسلمين، مما يدل على أنهم على علم وبصيرة بالدعوة الإسلامية، ومثل هؤلاء لا تجب الدعوة في حقهم4. 3- إن مستند القائلين بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنذرهم هو حديث ابن إسحاق5 والواقدي وكلا الحديثين مرسل. والمرسل معدود في قسم

_ 1 فتح الباري 7/430-431، وشرح المواهب اللدنية للزرقاني 2/98. 2 انظر الحديث ص. 3 انظر شرح صحيح مسلم للنووي 4/343، فتح الباري 6/112 و7/340 و445 و478، شرح معاني الآثار للطحاوي 3/207-210، والمدونة الكبرى لمالك 2/2، وتحفة الأحوذي 5/155-156. 4 انظر: ص. 5 علما بأن قول ابن إسحاق ليس صريحاً في إنذارهم، وإنما فيه مجرد وجود القتال بين الفريقين. وقد جمع ابن حجر بين ذلك. انظر: ص.

الحديث الضعيف عند جمهور العلماء، وذلك للجهل بحال الراوي المحذوف؛ لأنه يحتمل أن يكون غير صحابي، وبالتالي يحتمل أن يكون ضعيفاً. وإن اتفق أن المرسل لا يروي إلا عن ثقة، فالتوثيق مع الإبهام غير كاف ولأنه إذا كان المجهول المسمى لا يقبل، فالمجهول عيناً وحالاً أولى1. 4- إن الظاهر من صنيع القائلين بحجيته، فيما لو لم يوجد في الباب غيره كما صرح بذلك أبو داود2 وغيره، خلافاً للمالكية3. 5- على فرض صحته فلا يقاوم الحديث المسند. 6- ذكر الدكتور أكرم العمري أنه: "لا يمكن معارضة آية قرآنية أو حديث صحيح برواية من كتب التاريخ والأدب". وقال في موضع آخر: "ولا شك أن مادة السيرة، في كتب الحديث موثقة يجب الاعتماد عليها وتقديمها على روايات كتب المغازي والتواريخ العامة. وخاصة إذا أوردتها كتب الحديث الصحيحة؛ لأنها ثمرة جهود جبارة، قدمها المحدثون عند تمحيص الحديث ونقده سنداً ومتناً، وهذا التدقيق والنقد الذي حظي به الحديث، لم تحظ به الكتب التاريخية"4.

_ 1 انظر: مقدمة صحيح مسلم 1/24، ورسالة أبي داود إلى أهل مكة ص 24، والكفاية للخطيب البغدادي ص 550-555، ومقدمة التمهيد لابن عبد البر 1/5-6، ومقدمة ابن الصلاح ص 73- 75 (التقييد والإيضاح) ، والتبصرة والتذكرة للعراقي 1/148، التقييد والإيضاح له ص 73-75، والتقريب للنووي ص 119، (تدريب الراوي) وشرح مسلم له 1/23، تدريب الراوي للسيوطي ص 119، فتح المغيث للسخاوي 1/133 و 135-136. 2 رسالة أبي داود إلى أهل مكة ص 25، وفتح المغيث للسخاوي 1/133. 3 مقدمة التمهيد لابن عبد البر 1/6. 4 انظر: نظرة في مصادر ودراسة السيرة النبوية لأكرم ضياء العمري ص 1 و3.

الفصل الرابع: سبب وتاريخ غزوة بني المصطلق

الفصل الرابع: سبب وتاريخ غزوة بني المصطلق الأسباب الدافعة لهذه الغزوة نلخصها فيما يلي: الأول: تأييد هذه القبيلة لقريش وتكتلها معها في معركة أحد ضد المسلمين1. والثاني: سيطرتها على الخط الرئيسي المؤدي إلى مكة، فكانت حاجزاً منيعاً من نفوذ المسلمين إلى مكة. الثالث: ويعتبر أهم الأسباب في هذه الغزوة هو أن قبيلة بني المصطلق أخذت تجمع الجموع لغزو المدينة المنورة وقد أطمعها في التفكير في غزو المدينة والتصميم على ذلك، انتصار المشركين في غزوة أحد بسبب خطأ ارتكبه الرماة في هذه الغزوة كما هو معروف. ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم نبأ هذه القبيلة أعد عدته، واتخذ جميع التدابير المناسبة، وباغت هذه القبيلة في عقر دارها وهزمهم شر هزيمة. أما عن تحديد زمن هذه الغزوة، فقد اختلف العلماء في ذلك، وانحصرت أقوالهم فيها فيما بين السنة الرابعة والسادسة للهجرة، وفيما يأتي رأى كل فريق مع أدلته، ثم ترجيح ما يظهر أنه الراجح، من خلال النصوص بعد مناقشتها وتحليلها.

_ 1 انظر: ص من هذه الرسالة.

أ- القائلون بأنها سنة ست: أول من قال بذلك ابن إسحاق: فقد قال - عقب غزوة ذي قرد1 فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعض جمادى الآخرة ورجباً، ثم غزا بني المصطلق من خزاعة في شعبان سنة ست2. وفي مجمع الزوائد: روى الطبراني من طريق ابن إسحاق قال: "كانت غزوة بني المصطلق في شعبان سنة ست"3. قال الهيثمي: "رجاله ثقات". وتبع ابن إسحاق في هذا خليفة بن خياط وابن جرير الطبري، وابن حزم وابن عبد البر وابن العربي، وابن الأثير وابن خلدون. فقد صرح كل منهم بأن غزوة بني المصطلق كانت في شعبان من السنة السادسة4. وقد أدى بهم هذا إلى إنكار وجود سعد بن معاذ في هذه الغزوة وتوهيم من ذكره فيها من العلماء، بناء على أنه استشهد في غزوة بني قريظة، التي وقعت عقب الخندق مباشرة، وكانت الخندق في السنة الرابعة على رأي ابن حزم وطائفة من العلماء5.

_ 1 ذو قرد: محركة: على يوم من المدينة، بينها وبين خيبر، وتسمى غزوة (الغابة) وذلك أن عيينة بن حصن الفزاري أغار على لقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي ترعى في الغابة قرب المدينة، فاستاقها. واختلف في تاريخها هل هي قبل الحديبية أو بعدها. 2 سيرة ابن هشام 2/289. 3 مجمع الزوائد 6/142-143. 4 انظر: تاريخ خليفة ص 80، وتاريخ الطبري 2/604، وجوامع السيرة لابن حزم ص 206، والدرر في اختصار المغازي والسير لابن عبد البر ص 200-202، وعارضة الأحوذي شرح جامع الترمذي لابن العربي 12/49، والكامل لابن الأثير 2/192، تاريخ ابن خلدون 2/29و 33. 5 منهم: مالك بن أنس وموسى بن عقبة، والبخاري وابن قتيبة، ويعقوب بن سفيان الفسوي، والنووي، وابن خلدون. انظر: البداية والنهاية لابن كثير 4/93-94، فتح الباري 5/278و 7/393، المعارف لابن قتيبة ص 70، المعرفة والتاريخ للفسوي 3/257-258، شرح صحيح مسلم للنووي 4/532، تاريخ ابن خلدون 2/29.

وهذا نص كلام ابن حزم رحمه الله قال: "ذكر أصحاب المغازي أن الخندق كانت سنة خمس من الهجرة، والثابت أنها في الرابعة بلا شك. لحديث عبد الله بن عمر قال: عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة، فردني، ثم عرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني"1. فصح أن بينهما سنة واحدة فقط2. وقد أجاب البيهقي عن هذا بقوله: "ولا اختلاف في الحقيقة بين من قال بأن الخندق كانت في السنة الخامسة، وبين من قال بأنها في السنة الرابعة، وذلك لأن مرادهم أن ذلك بعد مضي أربع سنوات وقبل استكمال خمس. ولا شك أن المشركين لما انصرفوا عن أحد واعدوا المسلمين إلى بدر العام القابل، فذهب النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في شعبان سنة أربع، للموعد، ورجع أبو سفيان بقريش لجدب ذلك العام، فلم يكونوا ليأتوا إلى المدينة بعد شهرين، فتعين أن الخندق في شوال سنة خمس3" اهـ. قال ابن كثير: "وقد صرح الزهري بأن الخندق كانت بعد أحد بسنتين، ولا خلاف أن أحداً في شوال سنة ثلاث إلا على قول من ذهب إلى أن أول التاريخ من محرم السنة الثانية لسنة

_ 1 انظر: الحديث في البخاري 3/154، كتاب الشهادات، باب بلوغ الصبيان وشهادتهم، و 5/89 كتاب المغازي، باب غزوة الخندق، وصحيح مسلم 6/29-30، كتاب الإمارة، وأبو داود 2/124، كتاب الخراج والفيء، باب متى يفرض للرجل في المقاتلة، و2/453 كتاب الحدود، باب في الغلام يصيب الحد، الترمذي 2/127، الجهاد باب ما جاء في حد بلوغ الرجل ومتى يفرض له، 2و/407، أبواب الأحكام، باب ما جاء في حد بلوغ الرجل والمرأة، والنسائي 6/127، كتاب الطلاق، باب متى يقع طلاق الصبي، وابن ماجة 2/850 كتاب الحدود، باب من لا يجب عليه الحد. 2 جوامع السيرة لابن حزم ص 185. 3 البداية والنهاية لابن كثير 4/93-94، وفتح الباري 5/278و 7/393، وزاد المعاد 2/130، 2/147، وعون المعبود شرح سنن أبي داود 8/237.

الهجرة، ولم يعدوا الشهور الباقية من سنة الهجرة من ربيع الأول إلى آخرها، كما حكاه البيهقي عن جماعة من السلف. وبه قال يعقوب بن سفيان الفسوي، فقد صرح بأن بدراً في الأولى وأحداً في الثانية وبدر الموعد في شعبان من السنة الثالثة، والخندق في شوال من السنة الرابعة". ثم قال ابن كثير: "وهذا مخالف لقول الجمهور، فإن المشهور أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب جعل أول التاريخ من محرم سنة الهجرة، وعند مالك1 من ربيع الأول سنة الهجرة، فصارت الأقوال ثلاثة، والصحيح قول الجمهور أن أحداً في شوال سنة ثلاث وأن الخندق في شوال أيضاً سنة خمس. وأما حديث ابن عمر: فقد أجاب عنه جماعة من العلماء منهم البيهقي: بأن معناه أن ابن عمر كان في أحد في أول ما طعن في الرابعة عشرة وكان في الأحزاب قد استكمل الخامسة عشرة"2. ب- القائلون بأنها سنة خمس: 1- موسى بن عقبة كما نقل ذلك ابن كثير عنه بقوله: قال موسى بن عقبة عن الزهري: "هذه مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم التي قاتل فيها، يوم بدر في رمضان سنة ثنتين، ثم قاتل يوم أحد في شوال سنة ثلاث، ثم قاتل يوم الخندق - وهو يوم الأحزاب وبني قريظة - في شوال من سنة أربع، ثم قاتل بني المصطلق وبني لحيان في شعبان سنة خمس. ثم أورد ابن كثير قول البخاري عن موسى بن عقبة "أنها سنة أربع"3 وعقب عليه بقوله: "هكذا رواه البخاري عن مغازي موسى بن عقبة أنها سنة

_ 1 وهو قول ابن حزم أيضاً حكاه عنه ابن قيم الجوزية. انظر: زاد المعاد 2/147. 2 البداية والنهاية لابن كثير 4/93-94، فتح الباري 5/278و 7/393، زاد المعاد 2/130، 2/147، عون المعبود شرح سنن أبي داود 8/237. 3 انظر: صحيح البخاري 5/96، كتاب المغازي، باب غزوة بني المصطلق من خزاعة.

أربع، والذي حكاه موسى بن عقبة عن الزهري وعن عروة أنها كانت في شعبان سنة خمس"1. وقد تابع ابن حجر ابن كثير في تعقبه على البخاري بقوله: "كذا ذكره البخاري، وكأنه سبق قلم، أراد أن يكتب سنة خمس فكتب سنة أربع" والذي في مغازي موسى بن عقبة من عدة طرق أخرجها الحاكم وأبو سعيد2 النيسابوري والبيهقي في الدلائل وغيرهم سنة خمس. ولفظه عن موسى بن عقبة عن ابن شهاب "ثم قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم بني المصطلق وبني لحيان في شعبان سنة خمس" ثم قال ابن حجر: وقال الحاكم في (الإكليل) : "قول عروة وغيره أنها كانت في سنة خمس أشبه من قول ابن إسحاق" ثم قال ابن حجر، مؤيداً لقول الحاكم هذا: "قلت: ويؤيده ما ثبت في حديث الإفك أن سعد بن معاذ تنازع هو وسعد بن عبادة في أصحاب الإفك، فلو كانت المريسيع في شعبان سنة ست مع كون الإفك كان فيها لكان ما وقع في الصحيح من ذكر سعد بن معاذ غلطاً، لأن سعد بن معاذ مات أيام قريظة وكانت سنة خمس على الصحيح كما تقدم تقريره، وإن كانت كما قيل سنة أربع فهو أشد غلطاً"3. فيظهر أن المريسيع كانت سنة خمس في شعبان لتكون قد وقعت قبل الخندق، لأن الخندق كانت في شوال من سنة خمس أيضاً فتكون بعدها، فيكون سعد بن معاذ موجوداً في المريسيع، ورمي بعد ذلك بسهم في الخندق ومات من جراحته في قريظة، ويؤيده أيضاً أن حديث الإفك كان سنة خمس إذ الحديث

_ 1 البداية والنهاية 3/242 و4/156. 2 هو عبد الله بن محمد بن إبراهيم النيسابوري، أبو سعيد، واعظ مفسر، مشارك في بعض العلوم، من آثاره ((دلائل النبوة)) وكتاب التفسير وكتاب الزهد (ت 407) معجم المؤلفين بعمر رضا كحالة 6/108. 3 أي إذا كانت غزوة المريسيع في سنة أربع فهو أشد غلطاً، وذلك لأن في هذه السنة وفي نفس الشهر وقعت غزوة بدر الموعد، ولا يتأتى أيضاً بأن تكون الغزوتان وقعتا في شهر واحد، وذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى غزوة المريسيع لليلتين خلتا من شعبان وعاد منها لهلال رمضان. فقد استغرق الشهر كله في غزوة المريسيع. انظر: ص: 96.

فيه التصريح بأن القصة وقعت بعد نزول الحجاب. ثم ذكر ثلاثة أقوال في وقت نزول الحجاب وقال: أشهرها سنة أربع، فتكون المريسيع بعد ذلك، فيرجح أنها سنة خمس1. وروى البيهقي: أخبرنا أبو الحسين2 بن الفضل القطان ببغداد، أنبا عبد الله3 بن جعفر ثنا يعقوب

_ 1 فتح الباري 7/430 وانظر السيرة الحلبية 2/293، شرح المواهب اللدنية للزرقاني 2/96، وترتيب مسند أحمد للساعاتي 21/70. 2 هو محمد بن الحسين بن محمد بن الفضل بن يعقوب بن يوسف بن سالم أبو الحسين الأزرق، سمع إسماعيل بن محمد الصفار، وعبد الله بن جعفر درستويه، وغيرهم، قال الخطيب: كتبنا عنه وكان ثقة. انظر: تاريخ بغداد 2/249. 3 عبد الله بن جعفر بن درستويه الفارسي، النحوي، أبو محمد، صاحب يعقوب الفسوي، قال الخطيب: حدَّث عنه أبو الحسن بن رزقوية، وأبو الحسين بن الفضل، وأبو علي بن بن شاذان، سمعت هبة الله بن الحسن الطبري ذكر ابن درستويه وضعفه وقال: "بلغني أنه قيل له حدث عن عباس الدوري حديثاً ونحن نعطيك درهماً ففعل ولم يكن سمع من عباس". قال الخطيب: "وهذه الحكاية باطلة لأن أبا محمد بن درستويه كان أرفع قدراً من أن يكذب لأجل العوض الكثير، فكيف لأجل التافه الحقير"، وقال الخطيب أيضاً: "سألت البرقاني عن ابن درستويه فقال: ضعفوه، لأنه لما روى كتاب التاريخ عن يعقوب بن سفيان أنكروا عليه ذلك، وقالوا له إنما حدث يعقوب بهذا الكتاب قديماً فمتى سمعته منه؟ " قال الخطيب: "وفي هذا نظر، لأن جعفر بن درستويه من كبار المحدثين وفهمائهم، وعنده عن علي بن المديني وطبقته، فلا يستنكر أن يكون بكر بابنه في السماع من يعقوب بن سفيان وغيره. ونقل عن الحسين ابن عثمان الشيرازي أنه قال: ابن درستويه ثقة" إلى آخر ما ذكر في ترجمته (ت 347) تاريخ بغداد 9/429، وانظر ميزان الاعتدال 2/401، اللسان 3/267.

وثنا يعقوب وثنا إبراهيم1 بن المنذر، ثنا محمد بن2 فليح عن موسى3 بن عقبة عن ابن شهاب في ذكر مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثم قاتل بني المصطلق وبني لحيان في شعبان سنة خمس". وهذا أصح مما روي عن ابن إسحاق أن ذلك كان سنة ست4. قلت: الحديث مرسل. 2- أبو معشر5 فقد ذكرها قبل الخندق كما نقل ذلك ابن حجر عنه6. وأبو مشعر روى عن أئمة أثبات أمثال ابن المسيب وهشام ابن عروة ومحمد بن كعب القرظي وغيرهم. وروى عنه أئمة كذلك أمثال الثوري والليث بن سعد وابن مهدي ووكيع وغيرهم. وهو ضعيف في الحديث بصير بالمغازي، فقد أثنى عليه بذلك أحمد بن حنبل، وأبو زرعة الدمشقي وابن البرقي، والخليلي7. وخلاصة القول فيه أنه ضعيف في الحديث له إلمام بالمغازي. فمثله يصلح للشواهد والمتابعات. 3- الواقدي، قال في سنة خمس خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم

_ 1 إبراهيم بن المنذر بن عبد الله بن المنذر بن المغيرة، بن عبد الله بن خالد بن حزام الأسدي الحزامي، صدوق تكلم فيه أحمد لأجل القرآن، من العاشرة. (ت 236) خ ت س ق. المصدر السابق 1/43. وفي ميزان الاعتدال 1/67 رمز له (صح) دلالة منه على أنه ثقة. 2 محمد بن فليح بن سليمان الأسلمي أو الخزاعي، صدوق يهم من التاسعة، (ت197) خ س ق. المصدر السابق 2/201. 3 موسى بن عقبة بن أبي عياش الأسدي، مولى آل الزبير، ثقة فقيه، إمام في المغازي من الخامسة، لم يصح أن ابن معين لينه (ت141) وقيل بعد ذلك./ ع المصدر السابق 2/286. 4 السنن الكبرى للبيهقي 9/54. 5 هو نجيح بن عبد الرحمن السندي المدني، مولى بني هاشم مشهور بكنيته، ضعيف من السادسة. (ت170) / عم. التقريب 2/298. له كتاب في المغازي لكنه مفقود. 6 فتح الباري 7/430. 7 انظر: تهذيب التهذيب 1/419-422.

يوم الاثنين لليلتين خلتا من شعبان 1، وقدم المدينة لهلال رمضان وغاب شهراً إلا ليلتين2. 4- وهكذا ذكر ابن سعد وابن قتيبة والبلاذري3. 5- وصرح الذهبي بقوله: "تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم جويرية بنت الحارث في شعبان من السنة الخامسة، وفيها على الصحيح غزوة بني المصطلق وتسمى غزوة المريسيع"4. 6- وبنحو هذا قال ابن القيم5. وممن ذهب إلى هذا من المعاصرين: أ- الخضري بك: فقد ذكرها في شعبان في حوادث سنة خمس6. ب- الغزالي: قال في نهاية حديثه عن هذه الغزوة: "وكتاب السيرة على أن حديث الإفك وغزوة بني المصطلق كانا بعد الخندق، لكننا تابعنا ابن القيم في اعتبارها من حوادث السنة الخامسة قبل هجوم الأحزاب على المدينة، والتحقيق يساند ابن القيم ومتابعيه، فستعلم أن سعد بن معاذ قتل في معركة الأحزاب مع أن لسعد في غزوة بني المصطلق شأناً يذكر، إذ إن الرسول عليه الصلاة والسلام، اشتكى إليه عمل7 ابن أبي ولا يتفق أن يستشهد سعد بن معاذ في غزوة الخندق ثم يحضر بعد ذلك في بني المصطلق لو صّح أنها وقعت في السنة السادسة"8.

_ 1 يريد بني المصطلق. 2 مغازي الواقدي 1/404. 3 انظر: طبقات ابن سعد 2/63، والمعارف لابن قتيبة ص 70، وأنساب الأشراف للبلاذري ص 341 و 343. 4 العبر في خبر من غبر 1/7، تاريخ الإسلام له 2/275. 5 زاد المعاد 3/125. 6 نور اليقين ص 152. 7 قال الألباني: لعله وهم أو سبق قلم، فإن المشتكي إليه إنما هو أسيد بن حضير كما في سيرة ابن هشام، وفي الباب مما يؤيد ما ذهب إليه ابن القيم أشياء صحيحة فيراجع في فتح الباري. 8 فقه السيرة: 316.

ج- وقال الدكتور البوطي: "ذكر ابن إسحاق وبعض علماء السيرة أنها كانت في العام السادس من الهجرة، والصحيح الذي ذهب إليه عامة المحققين أنها كانت في شعبان من العام الخامس للهجرة"1. د- الدكتور أبو شهبة قال: "اختلف في زمن هذه الغزوة فذهب ابن إسحاق إلى أنها في شعبان سنة ست، ووافقه الطبري، وقال موسى بن عقبة: إنها سنة خمس في شعبان، ووافقه الحاكم والبيهقي وأبو معشر، وهو الراجح الذي تشهد له الأحاديث الصحيحة"2. هـ- وهكذا ذكر الساعاتي والصابوني: "بأنها كانت في السنة الخامسة على القول الأرجح"3. فهؤلاء العلماء جميعاً قد صرحوا بأن غزوة بني المصطلق كانت في شعبان من السنة الخامسة، وأنها قبل الخندق، لأن الخندق كانت في شوال من السنة المذكورة أيضاً4. ومما يؤيد هذا ما يأتي: 1- اتفاقهم على أن هذه الغزوة كانت بعد نزول آية الحجاب، وكان نزولها في زواج رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش وذلك للتصريح بذلك في حديث الإفك كما سيأتي5. وللعلماء في تاريخ نزول الحجاب الأقوال الآتية: أ- كان نزوله في السنة الثالثة، وبه جزم خليفة بن خياط وأبو عبيدة6 وغير واحد.

_ 1 فقه السيرة للبوطي القسم الثاني: 93. 2 السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة 196. 3 الفتح الرباني ترتيب مسند أحمد 14/109، روائع البيان تفسير آيات الأحكام للصابوني 2/119. 4 ما عدا موسى بن عقبة وابن قتيبة فإنهما يريان أن الخندق في السنة الرابعة. انظر: ص90. 5 انظر: ص 205. 6 هو معمر بن المثنى التيمي، مولاهم، البصري، النحوي اللغوي، صدوق، أخباري وقد رمى برأي الخوارج، من السابعة (ت208) وقيل بعد ذلك وقد قارب المائة. خت د، التقريب 2/266، وتهذيب التهذيب 10/246.

ب- في السنة الرابعة عند جماعة من العلماء، وبه جزم الدمياطي1 والذهبي وابن حجر. ج- كان في ذي القعدة من السنة الخامسة، وبه قال قتادة والواقدي2. فعلى القول بأن الحجاب كان في السنة الثالثة أو الرابعة فيترجح كون غزوة بني المصطلق بعد ذلك، في السنة الخامسة، بعد نزول الحجاب وزواج رسول صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش، للتصريح بذلك في سياق قصة الإفك. أما قول قتادة والواقدي فلا يلتفت إليه بعد جزم من ذكر بمخالفتهم3. 2- وجود سعد بن معاذ فيها، فهذا مما يرجح تقدمها على غزوة الأحزاب، ولا يلتفت إلى من قال: بأن ذكره في غزوة بني المصطلق وهم من بعض الرواة4، إذ التوهيم لا يكون إلا بأمر قاطع، وما دام الخلاف قائماً في تحديد زمن كل من الغزوتين، وتقديم أحداهما على الأخرى. فلا يستقيم التوهيم، بل الإقدام عليه من الصعوبة بمكان لا يخفى، لا سيما أنه مصرح بذكره في أصح الصحيح بعد كتاب الله صحيحي البخاري ومسلم. ولذا قال إسماعيل5 القاضي: "الأولى أن تكون المريسيع قبل

_ 1 تقدمت ترجمته ص؟. 2 انظر: الاستيعاب لابن عبد البر 4/314 مع الإصابة، وأسد الغابة لابن الأثير 7/125، والمستدرك للحاكم 4/3، وتاريخ الإسلام للذهبي 2/34، وتفسير ابن كثير 3/503، وفتح الباري 7/430و 8/462-463. 3 مع أن الواقدي قد تناقض في هذا فذكر في مغازيه بأن غزوة بني المصطلق كانت في السنة الخامسة من شعبان، وذكر فيها حديث الإفك المصرح بأن ذلك وقع بعد نزول الحجاب وزواج زينب بنت جحش، ثم ذكر بأن الحجاب كان في ذي القعدة من سنة خمس كما نقل عنه. انظر: المغازي للواقدي 1/404 و 2/428، وانظر فتح الباري 8/462. 4 انظر: القائلين بهذا ص؟. 5 هو إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل بن حماد بن زيد بن درهم أبو إسحاق الأزدي مولى آل جرير بن حازم من أهل البصرة، سمع مسدد بن مسرهد، والقعنبي وابن المديني وغيرهم، وعنه عبد الله بن أحمد بن حنبل، ويحيى بن صاعد وغيرهم، قال الخطيب البغدادي: كان إسماعيل فاضلاً عالماً متقناً فقيهاً على مذهب مالك بن أنس، ثم ذكر شيئاً من مصنفاته. (ت 282هـ) تاريخ بغداد 6/284.

الخندق للحديث الصحيح عن عائشة"1. وأما ما أبداه القطب2 الحلبي من الاحتمال بقوله: "وقع في نسخة سماعنا (فقام سعد بن معاذ) 3 وفي موضع آخر (فقام سعد أخو بني عبد الأشهل) 4. فيحتمل أن يكون آخر غير سعد بن معاذ، فإن في بني عبد الأشهل جماعة من الصحابة، يسمى كل منهم سعداً، منهم: سعد بن زيد الأشهلي، شهد بدراً، وكان على سبايا قريظة الذين بيعوا بنجد، وله ذكر في عدة أخبار، منها: في خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في مرض موته، فيحتمل أن يكون هو المتكلم في قصة الإفك فهذا مردود بتصريح القطب الحلبي نفسه بأنه سعد بن معاذ، في الموضع الأول. وأما الموضع الآخر فإن الرواية أيضاً في البخاري "فقام سعد بن معاذ أخو بني عبد الأشهل" كما أثبت ذلك في الحاشية. فكيف يتطرق الاحتمال بعد هذا التصريح بأنه سعد بن معاذ، إلى غيره. وأيضاً فإن في رواية معمر بن راشد عند مسلم "فقام سعد بن معاذ الأنصاري"5. فيتعين بهذا أن يكون المذكور هو سعد بن معاذ، لا غيره. ويندفع الاحتمال الذي أورده القطب الحلبي رحمه الله. 3- ما ذكره المقريزي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الرجوع من غزوة بني المصطلق أخذ بيد سعد بن معاذ، في نفر فخرج يقود به حتى

_ 1 انظر: شرح مسلم للنووي 5/635، وزاد المعاد لابن القيم 2/128، وفتح الباري لابن حجر 8/472. 2 هو عبد الكريم بن عبد النور بن منير الحلبي، الحافظ المتقن المقرئ، أبو علي الحلبي، ثم المصري مفيد الديار المصرية، صنف وخرج وأفاد، وشرح أكثر صحيح البخاري في عدة مجلدات (ت 735) . ذيل تذكرة الحفاظ لمحمد بن علي الدمشقي ص13. 3 انظر هذه الرواية في البخاري 3/153، كتاب الشهادات، باب تعديل النساء بعضهنّ بعضاً. 4 انظر هذه الرواية في البخاري 5/98، كتاب المغازي، باب حديث الإفك. وهذا لفظها "فقام سعد بن معاذ أخو بني عبد الأشهل" وليس كما ذكر القطب الحلبي بقوله: "فقام سعد أخو بني عبد الأشهل". 5 انظر: صحيح مسلم 8/115، كتاب التوبة. وانظر فتح الباري 8/471-472.

دخل به على سعد بن عبادة ومن معه، فتحدثا عنده ساعة، وقرب سعد بن عبادة طعاماً، فأصاب منه رسول الله صلى الله عليه وسلم وسعد بن معاذ ومن معه، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمكث أياماً، ثم أخذ بيد سعد بن عبادة ونفر معه، فانطلق به، حتى دخل منزل سعد بن معاذ، فتحدثا ساعة، وقرب سعد بن معاذ طعاماً، فأصاب منه رسول الله صلى الله عليه وسلم وسعد بن عبادة ومن معهم، ثم خرج الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ليذهب ما كان في أنفسهم من ذلك القول الذي تقاولا1 اهـ. 4- اتفاق أهل المغازي على أن غزوة بني المصطلق كانت في شعبان، وأن غزوة الأحزاب كانت في شهر شوال، فمن هذه الناحية تكون غزوة بني المصطلق قبل الأحزاب، إذا غضضنا النظر، عن الخلاف في تحديد سنة كل منهما، وبهذا التقرير يكون الراجح في تحديد زمن هذه الغزوة أنها في شعبان من سنة خمس، وبوجه أعم تكون سابقة على غزوة الأحزاب، إذ الأحزاب في شوال من السنة المذكورة على الأصح كما تقدم2. ويندفع ما تعلق به الذاهبون إلى تأخرها عن غزوة الأحزاب اعتماداً على ما ذكره ابن إسحاق في تحديدها بالسنة السادسة، وأن المحاورة في شأن أهل الإفك، كانت بين أسيد بن حضير وسعد بن عبادة، ومستند ابن إسحاق لا مطعن فيه، غير أن إطباق كتب الصحاح على ذكر سعد بن معاذ في هذه الغزوة، مما يرجح كون غزوة بني المصطلق كانت قبل الخندق، ولا داعي إلى تطرّق الوهم إلى أصحّ الكتب بعد كتاب الله؛ لأنه يمكن اللجوء في مثل هذه القضايا إلى الترجيع بين الأدلة وتمييز الصحيح والأصح أو الراجح والمرجوح، ولا شك أن ما ذكر في الصحيحين أرجح مما ذكر في غيرهما ولاسيما كتب المغازي والتواريخ3.

_ 1 إمتاع الأسماع 1/210، وانظر السيرة الحلبية 2/319. 2 انظر: ص92. 3 راجع نظرة في مصادر ودراسة السيرة النبوية، لأكرم ضياء العمري ص1و 3.

والآن نبدأ الحديث مع القائلين بأنها كانت في السنة الرابعة. ج- القائلون بأن غزوة بني المصطلق في السنة الرابعة: 1- موسى بن عقبة كما نقل ذلك عنه البخاري، وقد تقدم أن الذي حصل للبخاري سبق قلم، وأن الثابت عن موسى بن عقبة سنة خمس1. 2- المسعودي: ذكرها في السنة الرابعة، وذكر أن الخندق في السنة الخامسة2. 3- ابن العربي المالكي: صرح أيضاً بأنها في السنة الرابعة وأن الخندق بعدها3. 4- أبو بكر العامري: اعتمد على النقل عن موسى بن عقبة بأنها كانت في السنة الرابعة4. ونقل قول ابن إسحاق بأنها كانت في السادسة، ثم عقب عليه بقوله: والصواب الأول- أي أنها كانت في الرابعة - بدليل أن فيها حديث الإفك، وجرى فيه ذكر سعد بن معاذ، وسعد أصيب يوم الخندق، والخندق في السنة الرابعة على الأصح، فعلم بهذا أن المريسيع قبلها5. 5- ومن المعاصرين محمد أحمد باشميل فقد ذكرها في حوادث سنة أربع، ضمن الحوادث الواقعة بين غزوتي أحد والأحزاب6. ويلاحظ مما ذكره هؤلاء العلماء في شأن غزوة بني المصطلق: أنها سابقة على غزوة الأحزاب، وهذا من المرجحات على تقدمها على غزوة الخندق.

_ 1 انظر: ص؟ وما بعدها. 2 مروج الذهب 2/295. 3 عارضة الأحوذي شرح جامع الترمذي 7/173. 4 قال شارح بهجة المحافل محمد الأشخر: "كذا نقل البخاري عن موسى بن عقبة وهو سبق قلم والذي في مغازيه أنها في سنة خمس". 5 بهجة المحافل 1/241. 6 غزوة الأحزاب ص 94.

غير أن تحديد زمنها بالسنة الرابعة، مردود بما أطبق عليه أهل المغازي بأن في السنة الرابعة كانت بدر الموعد، وكانت في شعبان، ومن المعلوم أن غزوة بني المصطلق كانت في شعبان اتفاقاً، وكانت مدة غياب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها ثمانية وعشرين يوماً، ابتداء من ليلتين خلتا من شعبان1. فإذا كانت غزوة بني المصطلق في السنة الرابعة على ما ذهب إليه هؤلاء العلماء، فمتى كانت بدر الموعد؟. وعلى كل حال فكون غزوة بني المصطلق في شعبان سنة أربع، لا يستقيم مع قول أهل المغازي بأن في هذا التاريخ كانت بدر الموعد، وهذا مما يرجح تأخر غزوة بني المصطلق عن هذا التحديد. الخليفة على المدينة في غياب الرسول صلى الله عليه وسلم: اختلف العلماء فيمن استخلف على المدينة في غياب رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بني المصطلق. وأقوالهم تنحصر في أحد أشخاص أربعة: وهم: زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي، وأبو ذر الغفاري، ونميلة ابن عبد الله الليثي، وجعيل بن سراقة الضمري. ولم أجد ما يرجح قول أحد على آخر، إذ هو مجرد قول بدون إسناد. غير أن الأكثر على أن الخليفة أبو ذر، أو نميلة بن عبد الله الليثي2.

_ 1 انظر: ص93و96. 2 انظر: أنساب الأشراف للبلاذري ص 342، سيرة ابن هشام 2/289، والروض الأنف للسهيلي 6/399، وعيون الأثر لابن سيد الناس 2/92، وتاريخ ابن خلدون 2/33، زاد المعاد 2/125، شرح المواهب اللدنية للزرقاني 2/97، وأسد الغابة لابن الأثير 1/338.

الفصل الخامس: وصف غزوة بني المصطلق ونتائجها

الفصل الخامس: وصف غزوة بني المصطلق ونتائجها المبحث الأول: وقوع القتل في بني المصطلق ... المبحث الأول: وقوع القتل والسبي في بني المصطلق قال ابن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة وعبد الله بن أبي بكر، ومحمد ابن يحيى بن حبان1 - كل قد حدثني بعض حديث بني المصطلق - قالوا: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن بني2 المصطلق يجمعون له، وقائدهم الحارث بن أبي ضرار أبو جويرية بنت الحارث زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم، خرج3

_ 1 تقدمت تراجم رجال الإسناد، ص؟. 2 وعند الواقدي: عن مشايخه قالوا: إن بني المصطلق من خزاعة كانوا ينزلون ناحية الفرع، وهم حلفاء في بني مدلج، وكان رأسهم وسيدهم الحارث بن ضرار وكان قد سار في قومه ومن قدر عليه من العرب، فدعاهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعلت الركبان تقدم من ناحيتهم فيخبرون بمسيرهم، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث بريدة بن الحصيب الأسلمي يعلم علم ذلك فخرج حتى ورد ماءهم فوجد قوماً مغرورين قد تألبوا وجمعوا الجموع، فعاد فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فندب الناس فأسرعوا للخروج وقادوا الخيول وهي ثلاثون فرساً؛ من المهاجرين عشرة، وفي الأنصار عشرون. (مغازي الواقدي 1/404، وطبقات ابن سعد 2/63) . 3 قال الذهبي: "خرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعمائة". (تاريخ الإسلام 1/230 القسم الخاص بالمغازي) .

إليهم، حتى لقيهم على ماء لهم يقال له: المريسيع إلى الساحل فتزاحف الناس واقتتلوا، فهزم الله بني المصطلق، وقتل* من قتل منهم، ونفّل رسول الله صلى الله عليه وسلم أبناءهم ونساءهم وأموالهم، فأفاءهم عليه، وقد أصيب رجل من المسلمين من بني كلب بن عوف بن عامر بن ليث بن بكر، يقال له: هشام1 بن صبابة، أصابه رجل من الأنصار من رهط عبادة بن الصامت، وهو يرى أنه من العدو، فقتله خطأ.

_ * وعند الواقدي في المغازي1/407 فما أفلت منهم إنسان، وقتل عشرة منهم وأسر سائرهم. 1 هشام بن صبابة بن حزن بن سيار بن عبد الله بن كلب بن عوف بن كعب بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة، الكناني الليثي، أخو مقيس بن صبابة. انظر: أسد الغابة لابن الأثير 5/400، وساق ابن حجر نسبه عن ابن الكلبي إلى كنانة. ثم قال: وقال أبو سعيد السكري: هو هشام بن حزن، وأمه صبابة بنت مقيس بن قيس بن عدي بن سعيد بن سهم. ثم ساق ابن حجر حديث ابن إسحاق هذا ثم قال: "وفي تفسير سعيد بن جبير الذي رواه ابن لهيعة عن عطاء بن دينار عنه، وكذا في تفسير ابن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً} ، [سورة النساء، من الآية: 93] ، قال: نزلت في مقيس بن صبابة وكان قد أسلم هو وأخوه هشام فوجد مقيس أخاه قتيلاً فشكا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر له بالدية فأخذها ثم عدا على قاتل أخيه فقتله، وارتد وأقام بمكة وقال في ذلك أبياتاً. وسمي الواقدي بسند له قاتله أوساً. وسمى المقتول هاشماً، وكذا وقع عن ابن شاهين من طريق محمد بن يزيد عن رجاله"، ثم قال ابن حجر، والأول أرجح وصبابة بالمهملة عند أكثر أهل اللغة، وقال ابن دريد: ضبابة بالضاد المعجمة، ومقيس: بكسر الميم وسكون القاف وفتح المثناة". انظر: الإصابة 3/603، فتح الباري 8/258، وعند ابن جرير: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنى حجاج عن ابن جريج عن عكرمة أن رجلاً من الأنصار قتل أخا مقيس بن ضبابة، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم الدية فقبلها، ثم وثب على قاتل أخيه فقتله. قال ابن جريج وقال غيره: "ضرب النبي صلى الله عليه وسلم ديته على بني النجار، ثم بعث مقيساً وبعث معه رجلا من بني فهر في حاجة للنبي صلى الله عليه وسلم فاحتمل مقيس الفهري وكان قوياً، فضرب به الأرض ورضخ رأسه بين حجرين، ثم ألفى يتغنى: قتلت به فهراً وحملت عقله ... سراة بني النجار أرباب فارع فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أظنه قد أحدث حدثاً، أما والله لئن كان فعل لا أؤمنه في حل ولا حرم، ولا سلم ولا حرب"، فقتل يوم الفتح، قال ابن جرير: "وفيه نزلت هذه الآية {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً} "، الآية، [سورة النساء، من الآية: 93] ، تفسير الطبري 5/217. والحديث أورده الواحدي عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، في سبب نزول هذه الآية. انظر أسباب النزول للواحدي ص 114. قلت: كون هذه الآية نزلت في شأن مقيس قول ضعيف. وذلك لما يأتي: 1- عطاء بن دينار الهذلي، لم يصح أنه سمع التفسير من ابن جبير، وإنما هي صحيفة رواها عنه. انظرك تهذيب التهذيب 7/198 وتقريب التهذيب 2/21 وميزان الاعتدال 3/69-70. 2- الحديث المروي عن ابن عباس فيه الكلبي وهو محمد بن السائب أبو النضر الكوفي النسابة المفسر قال عبد ابن حجر: في التقريب 2/163 متهم بالكذب ورمي بالرفض. وفي ميزان الإعتدال 3/559. قال ابن معين: "الكلبي ليس بثقة"، وقال الجوزجاني وغيره: "كذاب". وقال الدارقطني وجماعة: "متروك". ثم قال الذهبي: "لا يحل ذكره في الكتب فكيف الاحتجاج به". وفيه أبو صالح: وهو باذام مولى أم هانىء. ضعفه البخاري، وقال النسائي: "ليس بثقة"، ثم قال الذهبي: "أبو صالح يروي عن ابن عباس التفسير ولم ير ابن عباس". ميزان الاعتدال 1/296، و3/559. 3- حديث الطبري فيه عنعنة ابن جريج، وفيه انقطاع لأن عكرمة لم يحضر القصة. أما كون هشام بن صبابة قتل في غزوة بني المصطلق فهو الذي أطبق عليه المؤرخون، إلاَّ ما كان من ابن عبد البر فقد ذكر في الاستيعاب 3/595 أنه قتل في غزوة ذي قرد، وهو شيء ذكره بدون إسناد. وأما مقيس فكان من النفر الذين أهدر رسول الله صلى الله عليه وسلم دماءهم يوم فتح مكة، فقتله نميلة بن عبد الله وكان من قومه. انظر أسد الغابة 5/363 والإصابة 3/574 وسيرة ابن هشام 2/410.

وقدم مقيس بن صبابة من مكة مسلماً فيما يظهر، فقال: يا رسول الله جئتك مسلماً وجئت أطلب دية أخي، قتل خطأ، فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بدية أخيه هشام بن صبابة، فأقام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، غير كثير، ثم عدا على قاتل أخيه، فقتله، ثم خرج إلى مكة مرتداً وأصيب من بني المصطلق يومئذ ناس، وقتل علي بن أبي طالب منهم رجلين مالكاً وابنه، وقتل عبد الرحمن بن عوف رجلاً من فرسانهم، يقال له: أحمر أو أحمير. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد أصاب منهم سبياً* كثيراً، قسمه في المسلمين، وكان فيمن أصيب يومئذ من السبايا جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم1.

_ * وعند الواقدي: وكانت الإبل ألفي بعير، وخمسة آلاف شاة وكان السبي مائتي أهل بيت مغازي الواقدي 1/140، وطبقات ابن سعد 2/64 وشرح المواهب للزرقاني 2/97-98 وزاد: وكانت الأسرى أكثر من سبعمائة. 1 سيرة ابن هشام 2/290 و293.

والحديث أورده من هذه الطريق: خليفة بن خياط، وابن جرير الطبري، وابن كثير1. وأورده أيضاً الطبراني من هذه الطريق غير أنه قال: "فأمدهم الحارث بن أبي ضرار أبو جويرية بنت الحارث زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم" إلى أن قال: "فهزم الله بني المصطلق وقتل الحارث بن أبي ضرار أبا جويرية…"الخ. قال الهيثمي: "رجاله ثقات"2. قلت: "وسبق إلى هذا القول اليعقوبي فقد صرح في تاريخه بأن والد جويرية قتل في المعركة، ولكنه أورد ذلك بدون إسناد"3. قلت: "وهذا وهم". لأن والد جويرية: معدود في الصحابة، وله حديث عند أحمد، في قدومه على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وإسلامه4. الحكم على الحديث: والحديث مداره على ابن إسحاق، وقد صرح فيه بالتحديث، ورجال الإسناد ثقات، وهم رجال الصحيح. غير أنه مرسل. والمرسل من قسم الحديث الضعيف. وذلك يشهد له حديث عبد الله بن عمر: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارون وأنعامهم تسقى على الماء، فقتل مقاتلتهم، وسبى ذراريهم، وأصاب يومئذ جويرية"5. فإنه صريح في وجود القتل والسبي فيكون الحديث حسناً لغيره.

_ 1 انظر تاريخ خليفة ص80، وتاريخ ابن جرير 2/604 والبداية والنهاية 4/156. 2 مجمع الزوائد 6/142. 3 تاريخ اليعقوبي 2/53. 4 انظر الاستيعاب على هامش الاصابة 1/299 وأسد الغابة 1/399-400 والإصابة 1/181 وانظر حديثه في المسند 4/279. 5 انظر: الحديث، ص78.

وقد جمع ابن حجر بين الحديث بقوله: ويحتمل أن يكون لما دهم المسلمون بني المصطلق وهم على الماء، ثبتوا قليلاً وقاتلوا، ولكن وقعت الغلبة عليهم1.

_ 1 انظر ص84.

المبحث الثاني: شعار المسلمين في هذه الغزوة

المبحث الثاني: شعار المسلمين في هذه الغزوة كان من الخطط المألوفة في معارك رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتفق مع أصحابه على شعار يقولونه في المعركة وذلك خشية الاشتباه بين أفراد المسلمين والكفار ولقد كان شعار المسلمين في هذه المعركة هو "يا منصور أمت أمت"، وإليك النصوص الواردة في ذلك. ورد في مجمع البحرين: حدثنا محمد1 بن الحسين بن مكرم، ثنا يحيى بن محمد بن السكن2. ثنا محمد3 بن جهضم، ثنا محمد بن الحسن4، عن خارجة بن

_ 1 محمد بن الحسين بن مكرم، أبو بكر البغدادي، سمع بشر بن الوليد ومحمد بن بكار الريان، وانتقل إلى البصرة فسكنها حتى مات بها، ثم نقل توثيقه عن الدارقطني. وقال فيه إبراهيم بن فهد: "ما قدم علينا البصرة من بغداد أعلم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبي بكر بن مكرم، بحديث أهل البصرة خاصة ولا أعرف منه". (ت 309) تاريخ بغداد للخطيب 2/233. وفي تذكرة الحفاظ للذهبي 2/735 روي عنه محمد بن مخلد وأبو القاسم الطبراني وابن عدي وابن السني، وابن المقرئ، وخلق، ثم نقل فيه قول الدارقطني وإبراهيم ابن فهد. 2 يحيى بن محمد بن السكن بن حبيب القرشي، البزاز، البصري، نزيل بغداد، صدوق، من الحادية عشرة (ت 250) / خ د س. التقريب 2/357. 3 محمد بن جهضم بن عبد الله الثقفي، أبو جعفر البصري، خراساني الأصل، صدوق من العاشرة، /خ م د س. المصدر السابق 2/151. 4 محمد بن الحسن الشيباني، أبو عبد الله، أحد الفقهاء/ لينه النسائي وغيره، من قبل حفظه، ويروي عن مالك بن أنس وغيره، وكان من كبار أهل العلم والفقه، قوياً في مالك، انظر: ميزان الاعتدال 3/513.

الحارث1 بن رافع بن مكيث الجهني عن أبيه2 قال: سمعت سنان بن وبرة3 قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة المريسيع، غزوة بني المصطلق، فكان شعارهم: "يا منصور أمت أمت". لا يروى عن سنان إلا بهذا الإسناد، تفرد به جهضم45. وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد عن سنان المذكور وقال: رواه الطبراني في الأوسط والكبير، وإسناد الكبير حسن6. وأورده ابن الأثير بهذا الإسناد في ترجمة سنان بن وبرة وقال: "أخرجه ابن منده وأبو نعيم في هذه الترجمة"7.

_ 1 خارجة بن الحارث بن رافع بن مكيث الجهني المدني صدوق من السابقة/ بخ د. التقريب 1/210. 2 الحارث بن رافع بن مكيث الجهني، مقبول من الثالثة، وله رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلة/ د. التقريب 1/140، وفي تهذيب التهذيب 2/141، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً، وعن أبيه، وجابر، وسنان بن وبرة، وعنه ابنه خارجة وابن أخيه محمد بن خالد بن رافع. قلت: وذكره ابن حبان في الثقات، وقال ابن القطان: "لا يعرف". وقال البخاري: "الحارث بن رافع بن مكيث الجهني ثم الربعي. يعد في المدنيين، سمع جابر بن عبد الله، روى عنه ابنه خارجة"، انظر: التاريخ الكبير للبخاري 2/269، وفي الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 1/74: روى عن جابر، وعنه ابنه خارجة، سمعت أبي يقول ذلك. قال أبو محمد: "روى عنه ابن أخيه محمد بن خالد بن رافع بن مكيث". 3 سنان بن وبرة ويقال: ابن وبر الجهني حليف بني الحارث بن الخزرج وهو الذي تنازع مع جهجاه الغفاري على الماء وكادت تحصل فتنة بين المهاجرين والأنصار. انظر: سيرة ابن هشام 2/290، وأسد الغابة 2/459. ويقال: إنه هو الذي سمع عبد الله بن أُبيّ يقول: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل والصحيح أن الذي سمعه هو زيد بن أرقم كما هو ثابت في الصحيحين وغيرهما. انظر: سيرة بن هشام 2/290، وأسد الغابة 2/459، والإصابة 2/48. 4 تفرد به جهضم (كذا في الأصل وفي المسند محمد بن جهضم، وقال ابن حجر: "نقلاً عن الطبراني تفرد به محمد بن جهضم". 5 مجمع البحرين في زوائد المعجمين 2/240، وتفرد ابن جهضم لا يضر لأنه محتج به ولا مخالف له. 6 6/142. 7 أسد الغابة 2/463 و459.

وأخرجه أبو عمر: في ترجمة سنان بن تيم1. وقال ابن حجر في الإِصابة: "روى الطبراني من طريق خارجة بن الحارث بن رافع الجهني عن أبيه سمعت سنان بن وبرة الجهني يقول: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بني المصطلق، وكان شعارنا يا منصور أمت. قال في الأوسط: لا يروى عن سنان إلاَّ بهذا الإِسناد، تفرد به محمد بن جهضم"2. وأورده في الفتح مقتصراً على قوله: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة المريسيع غزوة بني المصطلق"رواه الطبراني من حديث سنان بن وبرة3. وأورده ابن هشام وغيره بدون إسناد4. والحديث مداره على الحارث بن رافع بن مكيث الجهني، وقد وصفه ابن حجر بأنه (مقبول) والمقبول عنده هو: "من ليس له من الحديث إلاَّ القليل، ولم يثبت فيه ما يترك حديثه من أجله، وإليه الإِشارة بلفظ (مقبول) حيث يتابع وإلاَّ فلين الحديث"5. وهنا قد جزم الطبراني بعدم وجود المتابعة، بقوله: "لا يروى عن سنان إلاَّ بهذا الإِسناد". والحديث: حسنه الهيثمي كما مر قريباً6 ولعله اعتمد على توثيق ابن حبان للحارث. وهو متساهل في التوثيق، فإنه يوثق المجاهيل7.

_ 1 المصدر السابق 2/459 والاستيعاب مع الإِصابة 2/81. 2 الإِصابة 2/84. 3 الفتح 7/430. 4 سيرة ابن هشام 2/294 وجوامع السيرة لابن حزم ص205 والدرر في اختصار المغازي والسير لابن عبد البر، ص200 5 التقريب 1/5. 6 انظر، ص110. 7 انظر لسان الميزان لابن حجر 1/14 و492، وفتح المغيث للسخاوي 1/294، وسلسلة الأحاديث الضعيفة للألباني 1/32 و34.

ولعل الهيثمي أيضاً يقول بقاعدة بعض العلماء وهو تحسين حديث المستور إذا كان من التابعين كما هو مذهب ابن كثير وابن رجب1. رحمهما الله2. وعلى كل حال فالقول بما رآه الهيثمي من تحسين هذا الحديث أقرب إلى الصواب، لأن الحارث من التابعين وقد روى عن جماعة، وروى عنه ابنه وابن أخيه، وقد وثقه ابن حبان. وهي مسألة تاريخية وليست من العقائد حتى نتشدد في ذلك. وأما قول ابن القطان3: "بأن الحارث لا يعرف، فابن القطان من المتشددين في ذلك، ولم يوافقه الذهبي على هذه القاعدة التي مشى عليها"4.

_ 1 هو عبد الرحمن بن أحمد بن رجب شهاب الدين صاحب كتاب (جامع العلوم والحكم) (ت 795) انظر ذيل تذكرة الحفاظ للذهبي، ص: 13. 2 انظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني المجلد الأول، الجزء الربع، ص10. 3 هو أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الملك الفاسي صاحب كتاب (الوهم والإيهام) (ت628) تذكرة الحفاظ 4/1407. 4 انظر: ميزان الاعتدال 1/556 و3/426 وتذكرة الحفاظ 4/1407 وانظر الرفع والتكميل في الجرح والتعديل لعبد الحي اللكنوي، ص110.

المبحث الثالث: ضعف مقاومة بني المصطلق

المبحث الثالث: ضعف مقاومة بني المصطلق أما كون المسلمين لم يلقوا في هذه الغزوة مقاومة شديدة على الرغم من تحشد بني المصطلق واستعدادهم الكامل للمعركة، فلعل هذا يفسر بأمرين: الأول: علم المسلمين المسبق باحتشاد هذه القبيلة للهجوم على المدينة، واستعداد المسلمين الكامل في هذه الغزوة، وأخذهم الحذر التام. الثاني: هجوم المسلمين المبكر على هذه القبيلة قبل أن تقوم هي بالهجوم. ومن المعلوم أن العدو إذا بوغت في عقر داره على حين غفلة، فإِنه تتحطم معنوياته وتنهار قواه، ويسهل القضاء عليه، ويصاب بالذعر والاندحار، حتى ولو كان قد أعد عدته، وجمع الجموع، كما حصل لهذه القبيلة فإِنها قد تهيأت

عسكرياً وجمعت جموعها لمهاجمة المدينة المنورة، غير أن المسلمين كشفوا القضية قبل أن تقوم هذه القبيلة بالهجوم، فكان المسلمون هم المهاجمين، ولقنوا هذا العدو درساً كان عبرة له، وردعاً لأمثاله، ممن تسول لهم أنفسهم مهاجمة عاصمة الإِسلام (المدينة المنورة) . وهذان الأمران: يفسران عدم لقاء المسلمين أية مقاومة تذكر في هذه الغزوة، إلاَّ ما يحصل عادة من مناوشات ومحاولات يائسة للدفاع عن النفس. وبه يفسر ما ذكرته كتب المغازي من وجود صدام وقتلى، لم يؤد إلى وجود خسائر في صفوف المسلمين، مما يؤيد أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قد علم بتبييت هذا العدو الغزو له، فعاملهم بنقيض قصدهم وهجم عليهم قبل أن يهجموا عليه، وهذا يدل على ما كان عليه المسلمون - بقيادة نبيهم صلى الله عليه وسلم - من يقظة كاملة لكل تحركات الأعداء من الداخل والخارج على سواء.

المبحث الرابع: موقف جويرية بنت الحارث رضي الله عنها

المبحث الرابع: موقف جويرية بنت الحارث رضي الله عنها قال ابن إسحاق: حدثني محمد بن جعفر1 بن الزبير عن عروة2 ابن الزبير، عن عائشة3، قالت: لما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا بني المصطلق، وقعت جويرية بنت الحارث في السهم لثابت بن قيس بن الشماس، أو لابن عم له4، فكاتبته على نفسها، وكانت امرأة حلوة

_ 1 محمد بن جعفر بن الزبير بن العوام الأسدي المدني، ثقة، من السادسة (ت بضع عشرة ومائة) / ع. انظر التقريب 2/150. 2 عروة بن الزبير بن العوام بن خويلد الأسدي، أبو عبد الله المدني، ثقة فقيه مشهور، من الثانية، (ت 94) على الصحيح، ومولده في خلافة عمر الفاروق/ع المصدر السابق 2/19. 3 عائشة بنت أبي بكر الصديق، أم المؤمنين، أفقه النساء مطلقاً، وأفضل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، إلاَّ خديجة ففيها خلاف شهير (ت 57) على الصحيح/ ع. المصدر السابق 2/606. 4 وفي مغازي الواقدي 1/410 وقعت في السهم لثابت بن قيس وابن عم له – بالواو المشركة – وأن ثابتاً خلصها من ابن عمه بنخلات له بالمدينة.

ملاَّحة1، لا يراها أحد إلاَّ أخذت بنفسه، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم تستعينه في كتابتها، قالت عائشة: فوالله ما هو إلاَّ أن رأيتها على باب حجرتي فكرهتها، وعرفت أنه سيرى منها صلى الله عليه وسلم ما رأيت، فدخلت عليه فقالت: يا رسول الله، أنا جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار، سيد قومه، وقد أصابني من البلاء، ما لم يخف عليك، فوقعت في السهم لثابت بن قيس بن الشماس، أو لابن عم له، فكاتبته على نفسي، فجئتك أستعينُك على كتابتي، قال: "فهل لك في خير من ذلك؟ ". قالت: وما هو يا رسول الله؟. قال: "أقضي عنك كتابتك وأتزوجك"، قالت: نعم يا رسول الله، قد فعلت، قالت: وخرج الخبر إلى الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد

_ 1 ملاحة: بضم الميم وتشديد اللام أي شديدة الملاحة، وهو من أبنية المبالغة، انظر غريب الحديث لابن الأثير 4/355. وكنّت به عائشة عن جمالها، وكانت جويرية قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت مسافع بن صفوان المصطلق ذي الشفر بن سرح بن مالك ابن جذيمة، فقتل يوم المريسيع. انظر طبقات ابن سعد 8/116، وأسد الغابة لابن الأثير 7/56، والإصابة لابن حجر 4/265. وعند ابن إسجاق كانت تحت ابن عم لها يقال له: ابن ذي الشفر انظر سيرة ابن إسحاق المسماة المبتدأ والمبعث والمغازي 1/245، والإصابة لابن حجر 4/266. وكانت وفاتها سنة 56 المصادر السابقة. وهي التي روت حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من عندها بكرة حين صلى الصبح وهي في مسجدها ثم رجع بعد أن أضحى وهي جالسة، فقال: "ما زلت على الحال التي فارقتك عليها" قالت: نعم، يا رسول صلى الله عليه وسلم: "لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت بما قلت منذ اليوم، لوزنتهن سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلمات" انظر صحيح مسلم 8/83، كتاب الذكر والدعاء وهو من رواية عبد الله بن عباس عنها. قال الذهبي في تجريد أسماء الصحابة 2/271 جويرية التي قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "لقد قلت بعدك أربع كلمات لو وزنت بما قلت" …الخ. قال ابن حبان في الأنواع: "هي ابنة الحارث بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم كذا قال، وإنما هي أم المؤمنين وقد رواه ابن عباس عنها". انظر الإصابة لابن حجر 4/267-268 قلت: "وقد وقع في الخطأ أيضاً الدكتور وهبة الزحيلي، فقد قال بأنها: جويرية بنت الحارث بن عبد المطلب بن هاشم ابنة عم النبي صلى الله عليه وسلم وأم المؤمنين، تزوجها قبله مسافع بن صفوان، وقتل يوم المريسيع وكان أبوها سيد قومه في الجاهلية". انظر آثار الحرب في الفقه الإسلامي دراسة مقارنة، حاشية ص 446.

تزوج جويرية ابنة الحارث بن ضرار، فقال الناس: أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرسلوا ما بأيديهم، قالت: فلقد أعتق بتزويجه إياها مئة1 أهل بيت من بني المصطلق، فما أعلم امرأة كانت أعظم على قومها بركة منها2. وأورده أبو داود في كتاب العتق من هذه الطريق: حدثنا عبد العزيز3 بن يحيى أبو الأصبغ الحراني، قال حدثني محمد4 - يعني ابن سلمة عن ابن إسحاق5 عن محمد بن جعفر بن الزبير6 عن عروة بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها قالت: "وقعت جويرية بنت الحارث بن المصطلق في سهم ثابت بن قيس بن شماس، أو ابن عم له، فكاتبت على نفسها، وكانت امرأة ملاحة تأخذها العين"، الحديث … ثم قال عقبة قال أبو داود: "وهذا حجة في أن الولي هو يزوج نفسه"7. قال صاحب عون المعبود: "قال المنذري: وفيه محمد بن إسحاق بن يسار"، ثم قال صاحب العون: "قلت: وقد صرح بالتحديث في رواية يونس ابن بكير عنه. وأخرجه أحمد في مسنده"8.

_ (مئة أهل بيت) قال صاحب عون المعبود: "كذا بالإضافة أي مئة طائفة كل واحدة منهن أهل بيت، ولم تقل مائة هم أهل بيت لإيهام أنهم مائة نفس كلهم أهل بيت وليس مراداً، وقد روى أنهم كانوا أكثر من سبعمائة قاله الزرقاني". عون المعبود 10/444، وانظر شرح المواهب اللدنية للزرقاني 3/245. 2 سيرة ابن هشام 2/294 و645 وانظر سيرة ابن إسحاق المسمي المبتدأ والمبعث والمغازي 1/245. 3 عبد العزيز بن يحيى بن يوسف البكائي بفتح الباء وتشديد الكاف الممدودة أبو الأصبغ الحراني، صدوق ربما وهم. (ت 235) د س، التقريب 1/513. 4 محمد بن سلمة بن عبد الله الباهلي، مولاهم، الحراني ثقة (ت 191) على الصحيح/ زم 4 المصدر السابق 2/166. 5 محمد بن إسحاق بن يسار، أبو بكر المطلبي، مولاهم، المدني، نزيل العراق إمام في المغازي، صدوق يدلس، ورمي بالتشيع والقدر، (ت 150) ويقال بعدها/ خت م 4. التقريب 2/144. 6 تقدمت تراجم بقية رجال السند. 7 سنن أبي داود 2/347. 8 عون المعبود 10/441.

قلت: رواية يونس المشار إليها هي عند البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله1الحافظ وأبو بكر2 أحمد بن الحسن القاضي، قالا ثنا أبو العباس3 محمد بن يعقوب، ثنا أحمد بن عبد الجبار4، ثنا يونس بن بكير5 عن ابن إسحاق قال: حدثني محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا بني المصطلق وقعت جويرية بنت الحارث في السهم لثابت بن قيس بن شماس أو لابن عم له. الحديث6. ومن هذه الطريق أورده الحاكم مختصراً بطريق العنعنة7. وهذا حديث أحمد المشار إليه فيما تقدم8: حدثنا يعقوب9 قال حدثنا أبي10 عن ابن إسحاق قال: حدثني محمد بن

_ 1 هو الحاكم محمد بن عبد الله النيسابوري صاحب المستدرك، (ت405) . 2 أحمد بن الحسن بن عمران بن موسى أبو بكر القاضي عن أحمد بن منصور والرمادي، وعنه أحمد بن الفرج بن الحجاج. انظر تاريخ بغداد 4/90. 3 هو المعروف بالأصم قال فيه الذهبي: "الإمام المفيد الثقة محدث المشرق أبو العباس محمد بن يعقوب بن يوسف بن معقل بن سنان الأموي مولاهم النيسابوري، حدث عن جماعة كثيرة منهم هارون بن هارون بن سليمان وأحمد بن شيبان الرملي، وأحمد بن عبد الجبار العطاردي، وعنه الحاكم وابن مندة وأبو عبد الله بن الأخرم وغيرهم، قال الحاكم كان محدث عصره بلا مدافعة، وقال أيضاً حدث 76 سنة، ولم يختلف في صدقه وسماعه، (ت 346) " تذكرة الحفاظ 3/860-864. 4 أحمد بن عبد الجبار بن محمد العطاردي بضم العين المهملة والطاء المخففة. أبو عمر الكوفي، ضعيف، وسماعه للسيرة صحيح، من العاشرة، لم يثبت أن أبا داود أخرج له، (ت272/ د. التقريب 1/19. 5 يونس بن بكير بن واصل الشيباني، أبو بكر الجمال الكوفي صدوق يخطئ من التاسعة، (ت 199) / خت م د ت ز ق/ المصدر السابق 2/384. قلت: وقد تابعه محمد بن سلمة. كما عند أبي داود. 6 السنن الكبرى للبيهقي 9/74. 7 المستدرك 4/26. 8 انظر، ص115. 9 يعقوب بن إبراهيم بن سعد بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، أبو يوسف المدني، نزيل بغداد، ثقة فاضل، من صغار التاسعة (ت 208) / ع المصدر السابق 2/4. 10 هو إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، أبو إسحاق المدني نزيل بغداد، ثقة حجة، تكلم فيه بلا قادح، من الثامنة (ت 185) / ع. المصدر السابق 1/35.

جعفر بن الزبير عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين قالت: "لما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا بني المصطلق، وقعت جويرية بنت الحارث في السهم لثابت بن قيس بن الشماس أو لابن عم له وكاتبته على نفسها الحديث"1… ورواه أيضاً خليفة بن خياط، وأبو يعلى الموصلي، وابن جرير الطبري، وابن الأثير، وابن كثير وابن حجر، جميعهم من طريق ابن إسحاق2. وعلى هذا فالحديث بجميع طرقه يدور على ابن إسحاق. وقد صرح بالتحديث عند البيهقي وأحمد والسيرة الهشامية، وكذا عند ابن كثير وابن حجر. فأمن تدليسه. قال ابن حجر: "ابن إسحاق حسن الحديث إلاَّ أنه لا يحتج به إذا خولف"3. وقال الألباني: "الذي استقر عليه رأي العلماء المحققين أن حديث ابن إسحاق في مرتبة الحسن بشرطين: أن يصرح بالتحديث وأن لا يخالف من هو أوثق منه"4. وبهذا التقرير يكون الحديث حسناً لذاته، وهو ظاهر في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أدى عن جويرية كتابتها وكان ذلك صداقاً لها. وقد ورد عند ابن سعد ما يخالف هذا وهو:

_ 1- أخبرنا محمد بن عمر5، حدثنا سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح6، 1 مسند أحمد 6/277. 2 انظر تاريخ خليفة، ص 80، ومسند أبي يعلى 4/ق 455 أ، وتاريخ الطبري 2/610، أسد الغابة 7/56، والبداية والنهاية 4/159، والإصابة 4/265. 3 فتح الباري 4/32. 4 دفاع عن الحديث النبوي والسيرة في الرد على البوطي ص 82. 5 محمد بن عمر هو الواقدي. 6 عبد الله بن أبي نجيح، يسار، أبو يسار، الثقفي، مولاهم، ثقة رمي بالقدر، وربما دلس، من السادسة (ت 131) أو بعدها/ ع. التقريب 1/456.

عن مجاهد1، قال: قالت جويرية: يا رسول الله إن نساءك يفخرن علي، يقلن لم يتزوجك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألم أعظم صداقك، ألم أعتق أربعين من قومك" 2. والحديث عند الحاكم من هذه الطريق وليس فيه الواقدي3: 2- أخبرنا وكيع بن الجراح وعبد الله بن نمير والفضل بن دكين عن زكريا4 عن عامر5 قال: أعتق رسول الله صلى الله عليه وسلم جويرية بنت الحارث، وجعل صداقها عتق كل مملوك من بني المصطلق، وكانت من ملك يمين النبي صلى الله عليه وسلم6. والحديثان ضعيفان ففي الحديث الأول عنعنة ابن أبي نجيح7. وفي الحديث الثاني علتان: الأولى: عنعنة زكرياء بن أبي زائدة8. والثانية: الإرسال9.

_ 1 مجاهد بن جبر أبو الحجاج، المخزومي، مولاهم المكي، ثقة إمام في التفسير وفي العلم، من الثالثة، (ت 102أو 104) / ع. التقريب 2/229. 2 طبقات ابن سعد 8/117. 3 المستدرك 4/25. 4 زكرياء بن أبي زائدة خالد، ويقال هبيرة بن ميمون بن فيروز، الهمداني، الوادعي، أبو يحيى الكوفي، ثقة، وكان يدلس، من السادسة، (ت 147أو 148أو 149) /ع. التقريب 1/261. 5 هو ابن شراحيل الشعبي، أبو عمرو، ثقة، مشهور، فقيه فاضل، من الثالثة، قال مكحول: "ما رأيت أفقه منه"، (ت بعد المائة) / ع. المصدر السابق 1/387. 6 طبقات ابن سعد 8/118. 7 وضعه ابن حجر في الطبقة الثالثة من أقسام الموصوفين بالتدليس وهي الطبقة التي لا يحتج الأئمة من أحاديثهم إلاَّ بما صرحوا فيه بالسماع، وقال: "أكثر عن مجاهد وكان يدلس عنه. وصفه بذلك النسائي".انظر ص28من طبقات المدلسين لابن حجر. 8 وخاصة عن الشعبي فقد قال فيه أبو زرعة: "زكرياء صويلح يدلس كثيراً عن الشعبي". وكذلك وصفه بذلك أبو حاتم، وفي التقريب قال عنه ابن حجر: ثقة وكان يدلس. انظر تهذيب التهذيب 3/330. والتقريب 1/261. 9 والمرسل ضعيف عند جمهور المحدثين، قال ابن أبي حاتم: سمعت ((أبي وأبا زرعة يقولان: لا يحتج بالمراسيل، ولا تقوم الحجة إلاَّ بالأسانيد الصحاح المتصلة. انظر كتاب المراسيل لابن أبي حاتم، ص 13. وانظر ص 85-86 من هذه الرسالة.

المبحث الخامس: إسلام الحارث بن أبي ضرار

المبحث الخامس: إسلام الحارث بن أبي ضرار بعد أن ساق ابن هشام حديث ابن إسحاق من طريق عائشة المصرح بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أدى عن جويرية كتابتها وتزوجها1. عقب قوله: قال ابن هشام: ويقال: لما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة بني المصطلق ومعه جويرية بنت الحارث، وكان بذات الجيش2 دفع جويرية إلى رجل من الأنصار وديعة، وأمره بالاحتفاظ بها، وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فأقبل أبوها الحارث بن أبي ضرار، بفداء ابنته، فلما كان بالعقيق نظر إلى الإبل التي جاء بها للفداء، فرغب في بعيرين منها، فغيبهما في شعب من شعاب العقيق، ثم أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: يا محمد؟ أصبتم ابنتي وهذا فداؤها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فأين البعيران اللذان غيبتهما بالعقيق في شعب كذا وكذا؟ فقال الحارث: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك محمد رسول الله، فوالله ما أطلع على ذلك إلاَّ الله"، فأسلم الحارث، وأسلم معه ابنان له، وناس من قومه، وأرسل إلى البعيرين، فجاء بهما، فدفع الإبل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ودفعت إليه ابنته جويرية، فأسلمت وحسن إسلامها، فخطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى أبيها، فزوجه إياها وأصدقها أربع مئة درهم3. وأكد السهيلي نسبة هذا القول إلى ابن هشام4. قلت: هذا لا يقاوم حديث عائشة. لأنه لا إسناد له، وقد صدر (بيقال) الدالة على الضعف.

_ 1 انظر: الحديث، ص. 2 ذات الجيش: من المدينة على بريد من جهة مكة، وبينها وبين العقيق سبعة أميال، ومعجم ما استعجم للبكري 2/409-410. وعلى هذا تكون المسافة بين ذات الجيش والمدينة 20 كيلو متراً لأن البريد أربع فراسخ والفرسخ يساوي خمس كيلومترات. 3 سيرة ابن هشام 2/295 و 2/645-646، وزاد: ويقال: اشتراها رسول الله صلى الله عليه وسلم من ثابت بن قيس، فأعتقها وتزوجها وأصدقها أربع مئة درهم. 4 الروض الأنف، 6/706-7/537.

وممن وقع في هذا الخطأ محمد الغزالي1. فرد عليه الألباني بقوله: "هذا غير صحيح، وقد أشار لذلك ابن هشام في سيرته، فإنه ذكر هذه الرواية بدون إسناد، وصدرها بقوله: (ويقال) " ثم قال الألباني أيضاً: "والصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قضى عنها كتابتها وتزوجها دون أن يخطبها من أبيها، فإنها كانت أسيرة، كما رواه ابن إسحاق بسند صحيح عن عائشة رضي الله عنها، ومن طريقة أخرجه أحمد وابن هشام، وفي حديثهما (إطلاق الأسرى) "2 انتهى قلت: وأخرجه من هذه الطريقة أبو داود أيضاً كما تقدم3. وقال عقبة: "وهذا حجة في أن الولي هو يزوج نفسه". وهذا يرد ما ذكره ابن هشام من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبها من أبيها وتزوجها وأصدقها أربع مئة درهم، على أنه قد نسب ابن عبد البر وابن الأثير وابن حجر لابن إسحاق نحو ما ذكر ابن هشام، وليس فيه ذكر الزواج بعد قدوم الحارث إلى المدينة. وهذا نصه: قال ابن إسحاق: "تزوج النبي صلى الله عليه وسلم جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار، وكانت في سبايا بني المصطلق من خزاعة، فوقعت في السهم لثابت بن قيس بن شماس، وذكر الخبر، وفيه: "فأقبل أبوها الحارث بن أبي ضرار لفداء ابنته، فلما كان بالعقيق نظر إلى الإبل التي جاء بها للفداء فرغب في بعيرين منها فغيبهما في شعب من شعاب العقيق، ثم أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد أصبتم ابنتي وهذا فداؤها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فأين البعيران اللذان غيبت بالعقيق في شعب كذا وكذا؟ فقال الحارث: "أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، فوالله ما أطلع على ذلك إلا الله"، فأسلم الحارث وأسلم معه ابنان وناس من قومه4.

_ 1 فقه السيرة للغزالي، ص 308 وانظر الحديث، ص 113. 2 فقه السيرة للغزالي، ص 308 وانظر الحديث، ص 113. 3 انظر، ص. 4 الاستيعاب 1/299، مع الإصابة وأسد الغابة 1/400، والإصابة 1/281، وهذه الرواية لم أجدها في سيرة ابن هشام.

ولفظ ابن حجر: "ذكر ابن إسحاق في المغازي أن الحارث بن أبي ضرار، ولد جويرة، جاء إلى المدينة ومعه فداء ابنته بعد أن أسرت وتزوجها رسول بي ضرار والد جويرية جاء إلى المدينة، ومعه فداء ابنته بعد أن أسرت وتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم"، ثم ساق القصة1. فهذا يدل دلالة واضحة أن الحارث لم يكن موجوداً وقت العقد وأن قدومه إلى المدينة كان بعد زواج جويرية، وهذا هو ما دل عليه حديث عائشة رضي الله عنها. وقد تقدم قول أبي داود عقب حديث عائشة: "وهذا حجة في أن الولي هو يزوج نفسه"2. فهذا مما يؤكد لنا سقوط هذه القصة التي ذكرها ابن هشام بصيغة التمريض محذوفة السند. والصحيح في هذا أن مجيء الحارث كان سبباً في إسلامه، ولا يبعد أنه طلب ابنته كما دل عليه حديث ابن إسحاق، ولكنه لم يمكن من ذلك3. وقد ورد ما يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبيها: اذهب إليها فخيرها، فإن أرادت أن تذهب معك فخذها، فهذا لا يستبعد لعلم الرسول صلى الله عليه وسلم أنها لا تختار عليه أحداً، وأن ذلك يكون أدعى لتمكن الحارث من الإسلام، لما فيه من حسن المعاملة ومما دل على هذا ما رواه ابن سعد وغيره من مرسل أبي قلابة، أخبرنا عبد الله بن جعفر الرقي4 قال:

_ 1 الإصابة 1/281. 2 انظر: الحديث، ص 115. وانظر عون المعبود شرح سنن أبي داود 10/445. باب بيع المكاتب. 3 هذا الحديث نسبه إلى ابن إسحاق كل من عبد البر وابن الأثير وابن حجر، وانظر ص. 4 عبد الله بن جعفر بن غيلان بالمعجمة. الرقي: بفتح الراء وتشديد القاف. أبو عبد الرحمن القرشي، مولاهم، ثقة لكنه تغير بآخره، فلم يفحش اختلاطه من العاشرة (ت 220) ، ع: التقريب 1/406.

حدثنا عبيد الله1 بن عمرو عن أيوب2 عن أبي قلابة3: "أن النبي صلى الله عليه وسلم سبى جويرية بنت الحارث فجاء أبوها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن ابنتي لا يسبى مثلها فأنا أكرم من ذلك فخل سبيلها، قال: "أرأيت إن خيرناها أليس قد أحسنا؟ ". قال: بلى وأديت ما عليك، قال: فأتاها أبوها فقال: إن هذا الرجل قد خيرك فلا تفضحينا، فقالت: فإني قد اخترت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: قد والله فضحتنا4. وأخرجه خليفة: قال أخبرنا عبد الوهاب5 بن عبد المجيد، قال: حدثنا أيوب عن أبي قلابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سبى جويرية بنت الحارث فجاء أبوها فقال: "إن ابنتي لا تسبى" الحديث6. وأورده ابن حجر في التهذيب من طريق ابن سعد في ترجمة جويرية، وقال: هذا مرسل صحيح الإسناد7. وأورده في الإصابة دون أن ينسبه إلى ابن سعد وصحح إسناده أيضاً، ونصه: عن أبي قلابة قال: سبى النبي صلى الله عليه وسلم جويرية – يعني

_ 1 عبيد الله بن عمرو بن الوليد الرقي أبو وهب الأسدي، ثقة فقيه ربما وهم من الثامنة (ت 220) ، ع: المصدر السابق 1/537، وقد وقع بأنه من الثالثة وأنه عبيد الله بن عمر، وهو خطأ. 2 أيوب بن أبي تميمة كيسان السختياني بفتح المهملة بعدها معجمة، ثم مثناة ثم تحتنية وبعد الألف نون أبو بكر البصري. ثقة ثبت حجة من كبار الفقهاء العباد، من الخامسة، (ت 131) ، ع: المصدر السابق 1/89. 3 هو عبد الله بن زيد بن عمر أو عامر الجرمي، أبو قلابة البصري، ثقة فاضل، كثير الإرسال قال العجلي: فيه نصب يسير، من الثالثة (ت 104) ، بالشام هارباً من القضاء، ع: المصدر السابق 1/17. 4 طبقات ابن سعد الكبرى 8/118. 5 عبد الوهاب بن عبد المجيد بن الصلت الثقفي، أبو محمد البصري، ثقة تغير قبل موته بثلاث سنين، من الثامنة (ت 194) ، ع: التقريب 1/528. 6 تاريخ الخليفة بن خياط، ص 80. 7 تهذيب التهذيب، 12/407.

وتزوجها - فجاء أبوها فقال: إن ابنتي لا يسبى مثلها فخل سبيلها، فقال: "أرأيت إن خيرتها أليس قد أحسنت؟ " قال: بلى، فأتاها أبوها فذكر لها ذلك، فقالت: اخترت الله ورسوله. ثم قال: وسنده صحيح1. قلت: الظاهر في هذا الباب هو ما أفاده حديث عائشة من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أدى عن جويرية كتابتها وتزوجها وهو صريح في ذلك، مع أن ما نسب لابن إسحاق، وكذا مرسل أبي قلابة، ليسا نصاً في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دفع إلى الحارث ابنته ثم تزوجها منه بعد ذلك وإنما فيه مجرد مجيء الحارث يطلب فداء ابنته، وأمر الرسول الله صلى الله عليه وسلم بتخييرها. ولسنا بحاجة إلى تلمس التوفيق بين حديث ساقط لا إسناد له. وحديث عائشة الصحيح، ومن هنا يتحتم القول بما في حديث عائشة لثبوته ولا ينظر إلى ما عداه من الروايات الضعيفة. وخلاصة القول أن هذه الآثار تدل بمجموعها على قدوم الحارث بعد الوقعة. وكان ذلك سبباً في إسلامه، وهو ما دل عليه الحديث الآتي عند أحمد أيضاً: حدثنا محمد بن سابق2،ثنا عيسى3 بن دينار، ثنا أبي4 أنه سمع

_ 1 الإصابة، 4/265. 2 محمد بن سابق التميمي، أبو جعفر أو أبو سعيد البزاز، الكوفي، نزيل بغداد، صدوق، من كبارالعاشرة (ت213وقيل214) ، خ م د ت س. التقريب2/163. 3 عيسى بن دينار الخزاعي مولاهم، أبو علي الكوفي، المؤذن، ثقة من السابعة، بخ دت. المصدر السابق 2/98. 4 هو دينار الكوفي والد عيسى، مقبول من الثالثة/ عخ دت، المصدر السابق 1/237، وفي تهذيب الكمال2/199 ق، وتهذيب التهذيب3/217. روى عن مولاه عمرو ابن الحارث بن أبي ضرار، وعنه ابنه عيسى بن دينار، وذكره ابن حبان في الثقات. وفي الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 3/434. روى عن مولاه عمرو بن الحارث، والحارث بن أبي ضرار الخزاعي، وعنه ابنه عيسى. ويلاحظ أن المزي وابن حجر لم يذكرا أن ديناراً روى عن الحارث مع أنه موجود في هذا الحديث وتنبه لذلك ابن أبي حاتم.

الحارث1 بن ضرار الخزاعي قال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاني إلى الإسلام فدخلت فيه2، وأقررت به، فدعاني إلى الزكاة فأقررت بها، وقلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أرجع إلى قومي فأدعوهم إلى الإسلام وأداء الزكاة فمن استجاب لي جمعت زكاته، فيرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم، رسولاً لأبان3 كذا وكذا، ليأتيك ما جمعت من الزكاة، فلما جمع الحارث الزكاة ممن استجاب له، وبلغ الإبَّان الذي أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه احتبس عليه الرسول، فلم يأته فظن الحارث أنه قد حدث فيه سخطة4 من الله عز وجل ورسوله، فدعا سروات5 قومه فقال لهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان وقت لي وقتاً يرسل إلي رسوله ليقبض ما كان عندي من الزكاة، وليس من رسول الله صلى الله عليه وسلم الخلف، ولا أرى حبس رسوله، إلا من سخطة كانت، فانطلقوا فنأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الوليد بن عقبة إلى الحارث ليقبض ما كان عنده، مما جمع من الزكاة، فلما أن سار الوليد حتى بلغ بعض الطريق، فرق6 فرجع فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال:

_ 1 قال ابن حجر: "الحارث بن ضرار ويقال بن أبي ضرار الخزاعي، فرق ابن عبد البر بينه وبين والد جويرية. وجزم ابن فتحون وغيره بأن والد جويرية غير صاحب القصة والحديث، ولم يصنعوا شيئاً. والصواب أنه شخص واحد". الإصابة 1/387. باب غلط من غلط في الصحابة. وقال الساعاتي: "الحارث بن ضرار: جاء في الإصابة وفي كتب الرجال أن اسمه الحارث بن أبي ضرار، وذكره ابن كثير في تفسيره فقال: الحارث بن ضرار بن أبي ضرار ملك بني المصطلق ووالد جويرية أم المؤمنين". ثم قال الساعاتي: "والظاهر أن اسم والده ضرار، ولكنه اشتهر باسم جده، كما قال سعد بن مالك بن أبي وقاص، فإنه اشتهر باسم جده، فقيل: سعد بن أبي وقاص، والله أعلم" اهـ. الفتح الرباني في ترتيب مسند أحمد 18/282. 2 كان سبب إسلامه ما رواه ابن إسحاق من قصة مجيئه لفداء ابنته وتغييب البعيرين قاله الساعاتي في ترتيب مسند أحمد 18/282. وقد تقدم الحديث المشار إليه ص 120. 3 إبان كذا بكسر الهمزة وتشديد الموحدة، أي وقت كذا، والمراد وقت حصول الثمرة. 4 سخطة: أي عدم الرضا علينا. غريب الحديث لابن الأثير 2/350 5 سروات قومه: أي أشرافهم. المصدر السابق 2/363 6 الفرق بالتحريك: الخوف والفزع. المصدر السابق 3/438.

يا رسول الله إن الحارث منعني من الزكاة وأراد قتلي، فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم البعث إلى الحارث، فأقبل الحارث بأصحابه فلما غشيهم1، قال لهم: إلى من بعثتم، قالوا إليك، قال، ولم؟ قالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بعث إليك الوليد بن عقبة، فزعم أنك منعته الزكاة، وأردت قتله، قال: لا والذي بعث محمداً بالحق ما رأيته بتة2 ولا أتاني، وما أقبلت إلا حين احتبس علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخشيت أن تكون كانت سخطة من الله عز وجل، ورسوله، قال: فنزلت الحجرات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} إلى قوله تعالى: {فَضْلاً مِنَ الله وَنِعْمَة والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} ". [سورة الحجرات، الآيات 6-8] 3. ورواه من هذه الطريق ابن الأثير في ترجمة الحارث وقال: أخرجه الثلاثة4، إلا أن أبا عمر قال: الحارث ابن ضرار، وقيل: ابن أبي ضرار، وقال: أخشى أن يكونا اثنين والله أعلم5. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه أحمد والطبراني، إلا أن الطبراني قال: الحارث بن سرار6، وبدل (ضرار) ثم قال الهيثمي: "ورجال أحمد ثقات"7.

_ 1 غشيهم: اختلط بهم. 2 ما رأيته بتة: أي أصلا. 3 مسند أحمد، 4/279. 4 المراد بالثلاثة عم: ابن منده وأبو نعيم، وأبو عمر ابن عبد البر كما بين ذلك ابن الأثير في مقدمة كتابه 1/11 من أسد الغابة. 5 أسد الغابة 1/399 والاستيعاب لابن عبد البر 1/299-300 مع الإصابة. 6 أورده ابن حجر في الإصابة1/386.في القسم الرابع من الحرف الحاء، ((فيمن ذكر في الصحابة ولا صحبة له، ولا إدراك وبيان غلط من غلط فيه)) فقال الحارث ابن سرار الخزاعي كذا وقع عند الطبراني، والصواب: "الحارث بن أبي ضرار". 7 مجمع الزوائد، 7/108.

وقال ابن كثير: "ذكر كثير من المفسرين أن هذه الآية1 نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدقات بني المصطلق وقد روى ذلك من طرق، ومن أحسنها ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن ملك بني المصطلق وهو الحارث بن أبي ضرار والد جويرية بنت الحارث أم المؤمنين رضي الله عنها، ثم ساق الحديث بإسناد أحمد". ثم قال عقبه: "ورواه ابن أبي حاتم عن المنذر بن شاذان التمار، عن محمد بن سابق به. ورواه الطبراني من حديث محمد بن سابق به، غير أنه سماه الحارث بن سرار والصواب الحارث بن ضرار"2. وأورده ابن حجر في الإصابة مقتصراً على ما يأتي: وروى أحمد والطبراني ومطين3 وابن سكن4 وابن مروديه5 من طريق عيسى بن دينار المؤذن عن أبيه أنه سمع الحارث ابن أبي ضرار يقول قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاني إلى الإسلام فدخلت فيه، فذكر حديثاً طويلاً فيه قصة الوليد بن عقبة إذ جاء إليه مصدقاً ونزول قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} . [سورة الحجرات، الآية: 6] 6. وقال السيوطي: "أخرج أحمد وابن حاتم والطبراني

_ 1 هي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ} ، [سورة الحجرات، من الآية:6] . 2 تفسير ابن كثير 4/208-209. 3 مطين: بضم الميم وفتح الطاء المهملة بعدها تحتية مشددة مفتوحة: هو الحافظ الكبير أبو جعفر محمد بن عبد الله بن سليمان الحضرمي الكوفي، سمع أحمد بن يونس ويحيى الحماني، وعنه أبو القاسم الطبراني وأبو بكر الإسماعيلي، كان من أوعية العلم. ولد 202 وتوفي 297. صنف المسند وغير ذلك وله تاريخ صغير. تذكرة الحفاظ للذهبي 2/662. 4 ابن السكن: هو الحافظ الحجة أبو علي سعيد بن عثمان بن السكن البغدادي نزيل مصر. سمع أبا القاسم البغوي ومحمد بن يوسف الفربري، وعنه ابن منده وعبد الغني بن سعيد ولد 294 وتوفي 353. المصدر السابق 3/937. 5 هو الحافظ الثبت العلامة أبو بكر أحمد بن موسى بن مروديه الأصبهاني، صاحب التفسير والتاريخ وغير ذلك، سمع أحمد بن عيسى الخفاف وأحمد بن محمد بن عاصم الكراني، وعنه أبو القاسم عبد الرحمن بن منده وأخوه عبد الوهاب. ولد 323، وتوفي 410، المصدر السابق 3/150. 6 الإصابة 1/281.

وابن منده1 وابن مردويه بسند عن الحارث بن ضرار2 الخزاعي قال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاني إلى الإسلام فدخلت فيه وأقررت به ودعاني إلى الزكاة الحديث"3. وفي لباب النقول قال: "وحديث أحمد رجال إسناده ثقات"4. الحكم على الحديث: قال الهيثمي: "بأن رجال أحمد ثقات". ووصفه السيوطي: "بأنه بسند جيد، وبأن رجال إسناد أحمد ثقات". ولكن الحديث بجميع طرقه يدور على دينار الكوفي ولم يوثقه أحد سوى ابن حبان وهو متساهل في التوثيق ولذا فإن ابن حجر لم يعتبر توثيقه لدينار المذكور، ووصفه بأنه (مقبول) . (والمقبول) عنده هو من ليس له من الحديث إلا القليل، ولم يثبت فيه ما يترك حديثه من أجله، وإليه الإشارة بلفظ (مقبول) حيث يتابع، وإلا فلين الحديث5. ولعل الهيثمي اعتمد على توثيق ابن حبان، وتابعه السيوطي على ذلك. والظاهر أن الحديث حسن لغيره للشواهده المتقدمة6 عن ابن إسحاق وكذا مرسل أبي قلابة عند ابن سعد وغيره في قدوم الحارث إلى المدينة لفداء ابنته وإسلامه. ويشهد له أيضاً ما يأتي من الأحاديث الواردة في بعث الوليد بن عقبة إلى بني المصطلق لجبي الزكاة وقدوم وفد بني المصطلق بعده7.

_ 1 هو الحافظ الإمام الرحال أبو عبد الله محمد بن يحي بن منده بن إبراهيم بن الوليد الأصبهاني، عن إسماعيل بن موسى الفزاري السدي وأبي كريب محمد بن العلاء وعنه أبو القاسم الطبرني وأبو الشيخ توفي في رجب سنة (301) تذكرة الحفاظ للذهبي 2/741. 2 صوابه أبي ضرار كما تقدم، ص 124. 3 الدر المنثور 6/87. 4 لباب النقول في أسباب النزول، ص 201-202. 5 انظر: تقريب التهذيب 1/5. 6 انظر: ص 120-202. 7 انظر: ص130.

وقد حسن المباركفوري حديثاً فيه دينار الكوفي وهو ما رواه أبو داود والترمذي في كتاب الصوم باب الشهر يكون تسعاً وعشرين من طريق عيسى بن دينار عن أبيه عن عمرو بن الحارث بن أبي ضرار عن ابن مسعود1. قال المباركفوري: سكت عليه أبو داود والمنذري وابن حجر، ثم قال: "والظاهر أن حديث ابن مسعود حسن".انتهى2. وقد تتبعت رجال الحديث فوجدتهم ثقات ما عدا ديناراً الكوفي. وبهذا التقرير يكون الحديث على أقل تقدير حسناً لغير. وهو نص في أن الحارث بن أبي ضرار لم يعلم بقدوم الوليد بن عقبة إليه، وأن الجيش الذي بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني المصطلق بعد رجوع الوليد، لم يصل إلى ديار بني المصطلق، وإنما وجده الحارث خارجاً من المدينة فلما علم وجهتهم حلف أن الوليد لم يصل إليه ثم رجع الجيش والحارث جميعاً إلى المدينة وهذا يرد على ما رواه ابن جرير الطبري: حدثنا بشر3 قال حدثنا يزيد4 قال ثنا سعيد5 عن قتادة6 في تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} ، الآية قال: "هو الوليد بن عقبة بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني المصطلق مصدقاً7 فلما أبصروه وأقبلوا نحوه

_ 1 انظر سنن أبي داود 1/542 والترمذي 2/98. 2 تحفة الأحوذي، شرح الترمذي 3/371. 3 بشر بن معاذ العقدي أبو سهل البصري الضرير، صدوق من العاشرة. (ت بضع وأربعين ومائتين) ، ت، س، ق. التقريب 1/101. 4 يزيد بن زريع: بتقديم الزاي مصغراً، البصري أبو معاوية، ثقة ثبت، من الثامنة (ت 182) . ع: المصدر السابق 2/364. 5 سعيد بن أبي عروبة: بفتح مهملة وضم راء خفيفة وبموحدة، مهران: اليشكري بفتح تحتية وشين معجمة وضم كاف. مولاهم أبو النضر البصري، ثقة حافظ له تصانيف، لكنه كثير التدليس، واختلط، وكان من أثبت الناس في قتادة من السادسة، (ت 156 وقيل 157) ، ع: المصدر السابق 1/302. 6 قتادة بن دعامة: بكسر المهملة وخفة عين مهملة ابن قتادة السدوسي أبو الخطاب البصري، ثقة يقال ولد أكمه، وهو رأس الطبقة الرابعة، (ت بضع عشرة ومائة) ، ع: المصدر السابق 2/123. 7 مصدقاً أي جابياً للزكاة.

هابهم، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره أنهم قد ارتدوا عن الإسلام، فبعث نبي الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد، وأمره أن يتثبت ولا يعجل، فانطلق حتى آتاهم ليلاً، فبعث عيونه، فلما جاؤوا أخبروا خالد أنهم مستمسكون بالإسلام، وسمعوا آذانهم وصلاتهم، فلما أصبحوا أتاهم خالد فرأى الذي يعجبه، فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره الخبر فأنزل الله عز وجل، ما تسمعون1، فكان نبي الله صلى الله عليه وسلم يقول: "التبين من الله، والعجلة من الشيطان"2. والحديث مرسل. تنبيه: ذكر الصابوني في روائع البيان نقلاً عن الفخر الرازي قوله: "ما ذكره المفسرون من أن هذه الآيات نزلت في (الوليد بن عقبة) حين بعث إلى بني المصطلق الخ إن كان مرادهم أن الآية نزلت عامة لبيان وجوب التثبيت من خبر الفاسق، وأنها نزلت في ذلك الحين الذي وقعت فيه حادثة الوليد فهذا جيد، وإن كان غرضهم أنها نزلت لهذه الحادثة بالذات فهو ضعيف، لأن الوليد لم يتقصد الإساءة إليهم، وحديث أحمد يدل على أن الوليد خاف وفرق حين رأى جماعة الحارث - وقد خرجت في انتظاره - فظنها خرجت لحربه فرجع وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما أخبره ظنًا منه أنهم خرجوا لقتاله، إلى أن قال: ويتأكد ما ذكرنا أن إطلاق لفظ (الفسق) على الوليد شيء بعيد، لأنه توهم وظن فأخطأ والمخطئ لا يسمى فاسقًا3، وختم ابن حجر ترجمته بقوله: والرجل قد ثبتت صحبته وله ذنوب أمرها إلى الله تعالى والصواب السكوت والله أعلم4.

_ 1 يريد قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} . 2 تفسير الطبري، 26/124. 3 روائع البيان تفسير آيات الأحكام 2/476. 4 تهذيب التهذيب11/142-144.

المبحث السادس: إسلام بني المصطلق وأداؤهم الزكاة

المبحث السادس: إسلام بني المصطلق وأداؤهم الزكاة 1- مرَّ بنا في هذا حديث أحمد في قدوم الحارث بن أبي ضرار إلى المدينة متبرئًا مما نسبه إليه الوليد بن عقبة من منع الزكاة وإرادتهم قتله1. 2- ما رواه ابن إسحاق: حدثني يزيد2 بن رومان: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعث إلى بني المصطلق بعد إسلامهم الوليد3 بن عقبة أبي معيط، فلمَّا سمعوا به، ركبوا إليه، فلما سمع بهم هابهم، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره أن القوم قد همّوا بقتله، ومنعوه ما قبلهم من صدقتهم، فأكثر المسلمون في ذكر غزوهم حتى همَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، بأن يغزوهم، فبينا هم على ذلك، قدم وفدهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله سمعنا برسولك حين بعثته إلينا، فخرجنا إليه لنكرمه، ونؤدي ما قبلنا من الصدقة، فانشمر راجعًا، فبلغنا أنه زعم لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنا خرجنا إليه لنقتله، ووالله ما جئنا لذلك، فأنزل الله تعالى فيه وفيهم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} ، [سورة الحجرات، من الآيات: 6-8] ، إلى آخر الآية4. والحديث مرسل. وأورده الطبري من هذه الطريق في تفسيره5.

_ 1 تقدم الحديث، ص 123. 2 يزيد بن رومان المدني، مولى آل الزبير، ثقة، من الخامسة، (ت130) ، وروايته عن أبي هريرة مرسلة. ع، التقريب 2/364. 3 الوليد بن عقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو بن أمية القرشي، الأموي، أخو عثمان بن عفان لأمه، له صحبة، وعاش إلى خلافة معاوية، د. المصدر السابق 2/334. 4 سيرة ابن هشام 2/296. 5 26/124-125.

كما أورده أيضاً من طرق أخرى غير طريق ابن إسحاق، منها: 1- من حديث أم سلمة، وهذا نصه: حدثنا أبو كريب1 قال: ثنا جعفر بن عون2 عن موسى3 بن عبيدة، عن ثابت4 مولى أم سلمة، عن أم سلمة5 قالت: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً في صدقات بني المصطلق، بعد الوقعة، فسمع بذلك القوم فتلقوه يعظّمون أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: فحدثه الشيطان أنهم يريدون قتله، قالت: فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إن بني المصطلق قد منعوا صدقاتهم، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون، قال فبلغ القوم رجوعه، قال: فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فصفوا له حين صلى الظهر، فقالوا: نعوذ بالله من سخط الله وسخط رسوله، بعثت إلينا رجلاً مصدقاً، فسررنا بذلك، وقرّت به أعيننا، ثم إنه رجع من بعض الطريق، فخشينا أن يكون غضباً من الله ورسوله، فلم يزالوا يكلّمونه حتى جاء بلال، وأذّن العصر، قال: ونزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} ، [سورة الحجرات، الآية: 6] 6. 2- من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وهذا نصه:

_ 1 هو محمد بن العلاء بن كريب مصغراً، الهمداني، الكوفي، ثقة حافظ، مشهور بكنيته من العاشرة، (ت147 هـ) ، ع: التقريب 2/197. 2 جعفر بن عون بن جعفر بن عمرو بن حريث، بمهملتين، ثم تحتانية بعدها مثلثة. مصغراً، المخزومي، صدوق، من التاسعة، (ت206) وقيل: 207، ع: المصدر السابق 1/131. 3 موسى بن عبيدة. مصغراً، ابن نشيط: بفتح النون وكسر المعجمة، بعدها تحتانية ساكنة ثم مهملة، الربذي: بفتح الراء والموحّدة، ثم معجمة، أبو عبد العزيز، ضعيف، ولا سيما في عبد الله بن دينار، وكان عابداً، من صغار السادسة، (ت 153 هـ) تق: المصدر السابق 2/286. 4 ثابت مولى أم سلمة: روى عن أم سلمة، وعنه موعس بن عبيدة الربذي. الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 1/461. 5 أم سلمة، هند بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن المغيرة بن المخزوم المخزومية أم المؤمنين تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد أبي سلمة سنة أربع وقيل سنة ثلاث من الهجرة، وعاشت بعد ذلك ستين سنة. (ت 62 هـ) على الأصح/ ع: التقريب 2/61. 6 تفسير الطبري 26/123.

حدثني محمد1 بن سعد، قال: ثني أبي2، قال: ثني عمي3 قال: ثني أبي4، عن أبيه5، عن ابن عباس: في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} ، [سورة الحجرات، الآية: 6] . قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث الوليد بن عقبة بن أبي معيط، ثم أحد بني عمرو بن أمية، ثم أحد بني معيط إلى بني المصطلق، ليأخذ منهم الصدقات، وأنه أتاهم الخبر فرحوا، وخرجوا ليتلقّوا رسولَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وأنه لما حدث الوليد أنهم خرجوا يتلقونه، رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن بني المصطلق قد منعوا الصدقة. الحديث6 ... 3- من مرسل ابن أبي ليلى، هذا لفظه: حدثنا محمد7 بن بشار، قال ثنا عبد الرحمن8، قال: ثنا سفيان9 عن

_ 1 هو ابن عطية العوفي. ميزان الاعتدال 3/560. 2 هو سعد بن محمد بن الحسن بن عطية. لسان الميزان لابن حجر 3/18. 3 هو الحسين بن الحسن بن عطية. ميزان الاعتدال 1/532. 4 هو الحسن بن عطية. المصدر السابق 1/503. والتقريب 1/168. 5 هو عطية بن سعد بن جنادة العوفي، المصدريين السابقين 3/79و2/24. وانظر الحديث في السنن الكبرى للبيهقي 9/54، ولم أترجم لهؤلاء لأن كل واحد منهم لا يخلو عن ضعف وإنما عرفت بهم لأنهم وردوا في السند مثل الرموز فذكرت ذلك توضيحاً لهم. 6 تفسير الطبري 26/123-124. 7 محمد بن بشار بن عثمان العبدي، البصري، أبو بكر، بندار: بضم الموحدة وسكون النون. ثقة، من العاشرة، (252هـ ع: التقريب 2/147. 8 عبد الرحمن بن مهدي بن حسان العنبري، مولاهم، أبو سعيد البصري، ثقة، ثبت حافظ، عارف بالرجال والحديث. قال ابن المديني: ما رأيت أعلم منه. من التاسعة، (ت 198هـ، ع: المصدر السابق 1/499. 9 سفيان هنا: هو ابن عينية لأن هلالا الوزان لم يذكر في تلاميذه غير ابن عينية (انظر: تهذيب التهذيب 11/77، والتاريخ الكبير للبخاري 8/207، والجرح والتعديل لابن أبي حاتم 9/75) .

هلال الوزان1 عن ابن أبي ليلى2، في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} ، [سورة الحجرات، الآية: 6] . قال: نزلت في الوليد ابن عقبة بن أبي معيط3. 4- من مرسل قتادة، ولفظه: حدثنا بشر قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد عن قتادة، في قوله، تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} ، [سورة الحجرات، الآية: 6] . قال: هو ابن أبي معيط الوليد ابن عقبة، بعثه النبي صلى الله عليه وسلم مصدّقاً إلى بني المصطلق، فلما أبصروه أقبلوا نحوه، فهابهم، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره أنهم قد ارتدوا عن الإسلام. الحديث4. وقد تقدّم5. الحكم على هذه الأحاديث: هذه الأحاديث الواردة في إرسال الوليد بن عقبة إلى بني المصطلق مصدقاً، ونزول الآية المذكورة من سورة الحجرات، لا يخلو كل حديث منها عن ضعف وذلك لما يأتي: أ- حديث أم سلمة فيه موسى بن عبيدة الربذي وهو ضعيف، وفيه ثابت مولى أم سلمة وهو مجهول، لأنني لم أجد من ترجم له غير

_ 1 هلال بن أبي حميد أو ابن مقلاص: بكسر الميم وسكون القاف. أو ابن عبد الله الجهني، مولاهم، أبو الجهم، ويقال غير ذلك في اسم أبيه، وفي كنيته، الصيرفي الوزان الكوفي، ثقة، من السادسة، / خ، م،د، ت،س. التقريب 2/323. 2 هو عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري، المدني، ثم الكوفي، ثقة، من الثانية. اختلف في سماعه من عمر، مات بوقعة الجماجم، سنة 86هـ/ع. المصدر السابق 1/496. وكانت وقعة الجماجم بين ابن الأشعث ومعه أهل العراق، وبين الحجاج ومعه أهل الشام، وكانت في عهد عبد الملك بن مروان، وكانت سنة 82هـ، ودامت أكثر من سنة. البداية والنهاية 9/40. 3 تفسير الطبري 26/123-124. 4 وذكر ابن سعد أنه بعد أن قدم وفد بني المصطلق ونزلت الآية بتكذيب الوليد، وتصديقهم، يعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، معهم عباد بن بشر، يأخذ صدقاتهم، ويعلّمهم شرائع الإسلام، فأقام عندهم عشراً، ثم انصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، راضياً. انظر طبقات ابن سعد 2/161-162. 5 تقدم الحديث مع تراجم رجاله، ص 128.

ابن أبي حاتم، ولم يزد في ترجمته على قوله: روى عن أم سلمة وروى عنه موسى بن عبيدة الربذي. ب- وحديث ابن عباس مسلسل بالضعفاء. ج- والأحاديث الباقية مراسيل، وعلى هذا فهذه الأحاديث لا يسلم واحد منها عن قدح، غير أن اختلاف مخرج المرسل يدل على أن للحديث أصلاً، فإذا انضم بعضها إلى بعض تقّوت وارتقت إلى درجة الحسن لغيره. وقد أشار إلى هذه القاعدة ابن الصلاح في مقدمته بقوله: ثم اعلم أن حكم المرسل حكم الحديث الضعيف، إلا أن يصح مخرجه من وجه آخر1. وهنا قد وجد هذا الشرط الذي أوضحه ابن الصلاح، إذ أن ابن إسحاق أورده من مرسل يزيد بن رومان. وأورده ابن جرير الطبري من مرسل ابن أبي ليلى، وقتادة ومجاهد2. وقال ابن كثير: "ذكر غير واحد من السلف منهم ابن أبي ليلى ويزيد بن رومان والضّحاك3 ومقاتل4 بن حيان وغيرهم، في هذه الآية، أنها نزلت في الوليد ابن عقبة"5. فهذا الحديث قد ورد من ثلاثة طرق مرفوعة، وهي حديث أحمد في قدوم الحارث ابن أبي ضرار المدينة، وإسلامه، وحديث أم سلمة وابن عباس.

_ 1 مقدّمة ابن صلاح، ص 73. مع (التقييد والإيضاح) . 2 تفسير الطبري 26/123-125. 3 الضّحاك بن مزاحم الهلالي، أبو القاسم، أبو محمد الخراساني، صدوق كثير الإرسال، من الخامسة، (ت بعد المائة) / عم التقريب 1/373. 4 مقاتل بن حيان النبطي، بفتح النون الموحدة، أبو سطام، الخزاز منقوطتين، صدوق فاضل، من السادسة / م عم التقريب 2/272. 5 تفسير ابن كثير 4/208-210.

كما ورد من خمس طرق مرسلة. ولذلك قال الشوكاني: بعد إيراده حديث أحمد في قدوم الحارث المدينة، "قال ابن كثير: هذا من أحسن ما روي في سبب نزول هذه الآية". ثم قال الشوكاني: "وقد رويت روايات كثيرة متفقة على أن سبب نزول هذه الآية. الوليد بن عقبة، وأنه المراد بها، وإن اختلفت القصص"1 قلت: ويؤيد ما تقدّم، ما ذكر ابن عبد البر من اتفاق العلماء بالتأويل على أن هذه الآية نزلت في الوليد2. وبهذا نكون قد انتهينا إلى أن الحديث لا يقل عن درجة الحسن لغيره.

_ 1 فتح القدير 5/60-62. 2 انظر: الاستيعاب لابن عبد البر 3/632. (مع الإصابة) وأسد الغابة 5/451 لابن الأثير. وتهذيب التهذيب 11/143. والإصابة لابن حجر 3/637، وأضواء البيان لمحمد الأمين الشنقطي 7/626. وروائع البيان، تفسير آيات الأحكام للصابوني 2/475-476.

المبحث السابع: التحقيق في عمر الوليد بن عقبة عام الفتح

المبحث السابع: التحقيق في عمر الوليد بن عقبة عام الفتح اتفق الذين ترجموا له أنه أسلم عام فتح مكة، وأنه خرج زمن هدنة الحديبية مع أخيه1 ليردّا أختهما أم كلثوم بنت عقبة لما خرجت مهاجرة إلى المدينة، وكان من الشروط التي وافق عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن من جاء منهم إلى الرسول الله صلى الله عليه وسلم يردّه عليهم، حتى نزلت الآية2 التي أخرجت النساء من هذا الشرط3.

_ 1 هو عمارة بن عقبة بن أبي معيط القرشي الأموي، قال ابن عبد البركان عمارة وأخوه الوليد وخالد من مسلمة الفتح. انظر الاستيعاب 3/21. وأسد الغابة 4/142. والإصابة 2/516. 2 هي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} ، [سورة الممتحنة، من الآية: 10] . 3 الاستيعاب 3/631، وأسد الغابة 5/451، وتهذيب التهذيب 11/142، 144/ والإصابة 3/637. وانظر ترجمة أم كلثوم، المصادر السابقة 4/488، و7/386، 4/491، و12/476، وسيرة ابن هشام 2/352، وطبقات ابن سعد 8/230.

قلت: هذا يرد قول من قال: بأن الوليد بن عقبة كان زمن فتح مكة صبياً مخلقاً1 وأنه جيء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم: ليمسح رأسه ويدعو له كما فعل بغيره من الصبيان، فامتنع بسبب الخلوق الذي خلقته أمه به، وعمدتهم في ذلك هو: ما رواه أبو داود: حدثنا أيوب2 بن محمد الرقي، ثنا عمر3 بن أيوب بن جعفر4 بن برقان، عن ثابت5 بن الحجاج، عن عبد الله6 الهمداني، عن الوليد بن عقبة قال: لما فتح نبي الله صلى الله عليه وسلم مكة جعل أهل مكة يأتونه بصبيانهم فيدعو لهم البركة، ويمسح رؤوسهم، قال: فجيء بي إليه، وأنا مخلق فلم يمسني من أجل الخلوق7. ورواه أحمد من طريق فياض8 بن محمد الرقي عن جعفر بن برقان به9.

_ 1 الخلوق: طيب معروف مركب يتخذ من الزعفان وغيره من أنواع الطيب وتغلب عليه الحمرة والصفرة. النهاية لابن الأثير 2/71. 2 أيوب بن محمد بن زياد الوزان، أبو محمد الرقي بفتح الراء وتشديد القاف، نسبة إلى رقة بلد بالشام. مولى ابن عباس، ثقة من العاشرة، (ت 249) دسق. التقريب1/19. 3 عمر بن أيوب العبدي الموصلي، صدوق له أوهام، من التاسعة، (ت 188) م، د،س، ق. المصدر السابق 2/52. 4 جعفر بن برقان بضم الموحدة وسكون الراء بعدها قاف. الكلابي: بكسر الكاف، بعدها لام ممدودة خفيفة آخرها موحدة مكسورة، أبو عبد الله الرقي، صدوق يهم، في حديث الزهري من السابعة (ت150) وقيل بعدها/بخ م عم المصدر السابق1/129. 5 ثابت بن الحجاج، الكلابي، الرقي، ثقة، من الثّالثة / د. المصدر السابق 1/115. 6 عبد الله الهمداني بسكون الميم والدال المهملة، أبو موسى، مجهول، وخبره منكر، قاله ابن عبد البر من الرابعة/د. المصدر السابق1/463.وفي لسان الميزان 7/112، أبو موسى الهمداني، عن الوليد بن عقبة بن معيط، وعنه ثابت بن الحجاج، قال البخاري في التاريخ الأوسط: اسمه عبد الله لا يعرف ولا يتابع عليه. 7 سنن أبي داود 2/399. (كتاب الترجّل) باب في الخلوق للرجل. 8 فياض بن محمد بن سنان الرقي، أبو محمد محله الصدق، قاله الحسيني، وقال في الإكمال: ليس به بأس، وذكره ابن أبي حاتم وابن خلقون في الثقات. تعجيل المنفعة لابن حجر، ص 221. 9 مسند أحمد 4/32.

وأخرجه البيهقي من طريق أحمد ومن طريق يونس بن بكير، عن جعفر بن برقان به1. فالحديث بجميع طرقه يدور على عبد الله الهمداني وقد قال فيه ابن عبد البر: "هذا الحديث رواه جعفر بن برقان، عن ثابت بن الحجاج عن أبي موسى الهمداني، ويقال الهمداني، ذكره البخاري على الشك، عن الوليد بن عقبة، وقالوا: أبو موسى هذا مجهول، والحديث منكر مضطرب، لا يصح، ولا يمكن أن يكون من بعث مصدقاً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم صبياً يوم الفتح، ويدل أيضاً على فساد ما رواه أبو موسى المجهول، أن الزبير2 وغيره من أهل مكة بالسير والخبر ذكروا أن الوليد وعمارة ابني عقبة خرجا ليردا أختهما أم كلثوم عن الهجرة، وكانت هجرتها في الهدنة بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أهل مكة، وقد ذكرنا الخبر في ذلك باب أم كلثوم، ومن كان غلاماً مخلقاً يوم الفتح، ليس يجيء منه مثل هذا، وذلك واضح"3. وقال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله4 الحافظ، ثنا أبو العباس5، ثنا أحمد بن عبد الجبّار6، ثنا يونس7 عن محمد بن إسحاق قال: حدثني الزهري8 وعبد الله9 بن أبي بكر قالا: هاجرت أم كلثوم بنت

_ 1 السنن الكبرى 9/55. 2 الزبير بن بكار بن عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير بن العوام، القرشي، الأسدي، أبو عبد الله الزبيري، عالم، نسابه، أخباري، من أهل المدينة، ولي القضاء مكة، وقدم بغداد، وحدث بها، ولد سنة (172هـ) ، وتوفي بمكة سنة (256هـ) من تصانيفه الكثيرة، أنساب قريش وأخبارها. وأخبار العرب وأيامها ... الخ انظر معجم المؤلفين لكحالة 4/180. 3 الاستيعاب لابن عبد البر 3/631 و 4/488. (مع الإصابة) وسيرة ابن هشام 2/325. والإصابة 4/491. 4 هو الحاكم صاحب المستدرك. 5 هو الأصم محمد بن يعقوب. 6 هو العطاردي. 7 هو ابن بكير بن واصل الشيباني. 8 هو ابن شهاب محمد بن مسلم. 9 هو ابن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري.

عقبة بن أبي معيط إلى رسول صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، فجاء أخواها الوليد وفلان ابنا عقبة إلى رسول صلى الله عليه وسلم يطلبانها، فأبى أن يردّها عليهما1. قلت: الحديث مرسل، لأن الزهري وعبد الله بن أبي بكر، لم يحضرا القصة ولكن يشهد له الحديث عند البخاري غير أنه قال: وجاء أهلها يسألون النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجعها إليهم. وهذا نصه: حدثنا يحي2 بن بكير حدثنا الليث عن عقيل، عن ابن شهاب قال: أخبرني عروة بن الزبير أنه سمع مروان3 والمسور4 بن مخرمة رضي الله عنهما يخبران عن أصحاب رسول صلى الله عليه وسلم قال: "لما كاتب سهيل بن عمرو ويومئذ كان فيما اشترط سهيل بن عمرو على النبي صلى الله عليه وسلم، أن لا يأتيك منا أحد - وإن كان على دينك - إلا رددته إلينا وخليت بيننا وبينه. فكره المؤمنون ذلك وامتعضوا5 منه وأبى سهيل إلا ذلك، فكاتبه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، فرّد يومئذ أبا جندل إلى أبيه سهيل بن عمرو، ولم يأته أحمد من الرجال إلا رده في تلك المدة وإن كان مسلماً. وجاءت المؤمنات مهاجرات، وكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ممن خرج إلى رسول صلى الله عليه وسلم يومئذ - وهي عاتق6 - فجاء أهلها

_ 1 السنن الكبرى للبيهقي 9/229. وانظر طبقات بن سعد 8/231. 2 هو عبد الله المخزومي مولاهم، ثقة في الليث. / خ، م،ق. من كبار العاشرة، (231) التقريب 2/351. 3 هو ابن الحكم بن أبي العاص الأموي، لا يثبت له صحبة، من الثانية، /خ عم. مصدر السابق 2/238. 4 ابن نوفل بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة، له، وله ولأبيه صحبة. (ت: 64) ، ع. المصدر السابق 2/249. 5 امتعضوا منه: أي شق عليهم ذلك وعظم، انظر النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 4/342. 6 العاتق: هي الشابة أول ما تدرك، وقيل: هي التي لم تبن من والديها ولم تزوج، وقد أدركت وشبّت، وتجمّع العتق والعواتق. انظر: النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 3/178-179.

يسألون النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجعها إليهم فلم يرجعها إليهم، لما أنزل الله فيهن {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ} ،1- إلى قوله - {وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} 2. قال ابن حجر: "هذا الحديث من مسند من لم يسم من الصحابة، ولم يصب من أخرجه من أطراف في مسند المسور أو مروان، لأن مروان لا يصح له سماع من النبي صلى الله عليه وسلم، ولا صحبة، وأما المسور فصح سماعه منه صلى الله عليه وسلم، لكنه، إنما قدم مع أبيه وهو صغير بعد الفتح وكانت هذه القصة قبل ذلك بسنتين"3. قلت: لا يضر هنا الإبهام ولا الإرسال لأننا عرفنا أن المبهم أو المحذوف صحابي قطعاً. والصحابة كلهم عدول. والخلاصة في هذا أن الراجح في إسلام الوليد أنه يوم فتح مكة وأنه كان قد ناهز الاحتلام كما قال ابن عبد البر، وأما الحديث الذي فيه أن الوليد كان يوم فتح مكة طفلاً مخلقاً وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم امتنع من المسح على رأسه لوجود الخلوق فهو حديث ضعيف لا يعول عليه. لأن الذي يخرج في زمن هدنة الحديبية يرد أخته وكان ذلك في السنة السادسة، فلا يمكن أن يكون في فتح مكة طفلاً مخلقاً. وقال ابن حجر: ومما يؤيد أنه كان في الفتح رجلاً أنه قدم في فداء ابن عم أبيه الحارث بن أبي وجزة بن أبي عمرو بن أمية، وكان أسر يوم بدر فافتداه بأربعة آلاف. حكاه أصحاب المغازي4. مع أنه يمكن أن يكون الخلوق

_ 1 من سورة الممتحنة آية: 10، وهي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} ، [سورة الممتحنة، الآية: 10] . 2 صحيح البخاري 3/165، كتاب الشروط (باب ما يجوز من الشروط في الإسلام والأحكام والمبايعة) . وانظر تفسير ابن كثير 4/350. 3 فتح الباري، 5/313. 4 الإصابة 3/638.

في يده كما ورد ذلك في أخيه عمارة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما جاء عمارة يريد مبايعته عام الفتح فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم يده، قال: فقال بعض القوم: إنما يمنعه هذا الخلوق الذي في يدك، قال: فذهب فغسله، ثم جاء فبايعه رسول الله صلى الله عليه وسلم1.

_ 1 انظر أسد الغابة 4/142، والإصابة 2/516.

المبحث الثامن: موقف بني المصطلق بعد الغزوة

المبحث الثامن: موقف بني المصطلق بعد الغزوة لقد صار بنو المصطلق بعد الغزوة دعاة إلى الله عز وجل، منضمّين تحت لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصبحوا محل عناية واحترام بين المؤمنين، إذ كان زواج رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم رفعة لهم، وإعلاء لشأنهم، ومنزلتهم، فكان لهذه المصاهرة، أثرها الفعّال في نفوس المسلمين، حتى أطلق المسلمون ما بأيديهم من أسرى بني المصطلق، وكبر عليهم استرقاقهم، بعد أن صاروا أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان لهذه المعاملة الحسنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام لأسرى بني المصطلق أثر جميل في قلوب بني المصطلق، فسارعوا إلى الإسلام واعتنقوه عن الإيمان راسخ وقناعة كاملة، ورأوا أن مثل هذه الأخلاق الكريمة لا يمكن أن تصدر إلا من نبي، لأن القوم يعرفون تاريخ الحروب القبلية وما يحصل فيها من فتك ونهب، وسلب، وكان الشعار المعروف لديهم "من عز بز"1. وأنه لا مكان في عرف القوى الجاهلية للمغلوب المنهزم، ولا للضعيف

_ 1 أي من غلب سلب، وهو مثل، وأول من قاله رجل من طيء يقال له: جابر بن رألان بفتح الراء وسكون الهمزة أحد بني ثعل بضم الثاء وفتح العين المهملة، وكان من حديثه أنه خرج ومعه صاحبان له، حتى إذا كانوا بظهر الحيرة، وكان للمنذر بن ماء السماء يوم يركب فيه، فلا يلقى أحداً إلا قتله، فلقي في ذلك اليوم جابراً وصاحبيه فأخذتهم الخيل بالسوية فأتى بهم المنذر، فقال: اقترعوا فأيكم قرع خليت سبيله، وقتلت الباقين، فاقترعوا، فقرعم جابر بن رألان فخلى سبيله وقتل صاحبيه، فلما رآهما يقادان ليقتلا، قال: (من عز بز) فأرسلها مثلاً. مجمع الأمثال للميداني 2/307، رقم 4044.

المنكوب، فحين غزاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهزمهم، كانت معاملته لهم بعد الهزيمة على خلاف ما كان يتوقّعه هؤلاء القوم، فقد عاملهم بالرفق واللين، وتزوج ابنة شريفهم لجبر خاطرها وردّ اعتبارها إليها وإلى قومها، وانطلق المسلمون يفكون أسراهم حين انتشر خبر زواجه صلى الله عليه وسلم من جويرية، فلم يعد يحسن استرقاق أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكم كان لهذا الصنيع الإسلامي من جميل الأثر وعظيم الوقع في نفوس بني المصطلق جميعاً فلم يكن موقف هؤلاء بعد هذه الغزوة إلا الانضمام فوراً لكتائب الإسلام المجاهدة وبذل المج والأرواح لنشر هذه المبادئ الإسلامية السامية، التي شملتهم بعطفها وحنانها وذاقوا حلاوة المعاملة الإنسانية الرفيعة تحت توجيهات نبيهم صلى الله عليه وسلم ومما يدل على حسن إسلام هذه القبيلة، وما كان لها من دور فعّال في سبيل الدعوة إلى الإسلام وإعلاء كلمة الله ما رواه أحمد والبيهقي أن الحارث بن أبي ضرار قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة المنورة معلناً إسلامه فقال: يا رسول الله أرجع إلى قومي، فأدعوهم إلى الإسلام وأداء الزكاة فمن استجاب لي منهم جمعت زكاته، إذا كان وقت كذا وكذا، أرسل إلي رسولك كان وقت كذا وكذا أرسل إلي رسولك ليأتيك ما جمعت من الزكاة، فلما بلغ الوقت الذي أراد من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه من يأتيه بالزكاة، لم يأت أحد، فشق ذلك عليه وظن أنه قد حدث سخطة، من الله عز وجل ورسوله، فدعا بسروات قومه، وقال لهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لي وقتاً يرسل إلي رسوله ليقبض ما كان عندي من الزكاة وليس من رسول الله صلى الله عليه وسلم الخلف ولا أرى حبس رسوله إلا من سخطة، كانت فلننطلق لإلى المدينة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إليهم الوليد بن عقبة، فلما وصل إلى بعض الطريق رجع، وقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الحارث منعني الزكاة وهم بقتلي، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الجيش بالذهاب إلى الحارث ولما وصل الحارث المدينة دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بعثت إليك الوليد فزعم أنك منعته الزكاة وأردت قتله"، فحلف الحارث بالله ما رأيته، ولا أتاني، فأنزل الله تصديقه في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِين فَضْلاً مِنَ اللَّهِ

وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} ، [الحجرات، الآيات:6-8] 1. فهذه الرواية توضح حسن إسلام بني المصطلق وحرصهم على طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، بأدائهم الزكاة التي يشق على العرب دفعها، مما يدل على حسن إسلامهم أيضاَ تكريم الله بإنزاله قرآناً في تصديقهم، ويدل الحديث كذلك على ما قامت به هذه القبيلة من خدمات جليلة للإسلام، فلقد كان بنو المصطلق عام الفتح ضمن الكتائب الإسلامية الزاحفة نحو مكة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أرسل إليه بشر2 بن سفيان وبديل3 بن ورقاء يستنفرانهم، ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قديداً من بلاد بني المصطلق عبأ الجيش وعقد الألوية، واجتمع إليه من كان تخلّف من القبائل، ودخلت خزاعة في خمسمائة مقاتل من ضمنهم بنو المصطلق وعقد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة ألوية بقيادة ثلاثة من أبطالهم وهم: عمرو4 بن سالم، وبشر بن سفيان، وأبو شريح5 الكعبي خويلد بن عمرو، وهكذا ظل بنو المصطلق دعاة إلى الله عز وجل ومجاهدين لإعزاز الإسلام ونصرته. فجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.

_ 1 مسند الإمام أحمد 4/279؛ وسنن البيهقي الكبرى 9/54-55؛ وتقدّم الحديث مع الكلام على الإسناد، ص 123. 2 بشر بن سفيان بن عمرو بن عويمر بن صرمة بن عبد الله بن قمير مصغراً ابن حبُشِيَّة، بضم الحاء المهملة وسكون الباء الموحدة ووكسر الشين المعجمة، ابن سلول بن كعب بن عمرو بن ربيعة وهو لحى الخزاعي الكعبي، كان شريفاً في قومه، كتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما يدعوه إلى الإسلام، وله ذكر في قصة الحديبية، وشهد الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم 1/216، أسد الغابة. 3 بيدل بضم الباء الموحدة وفتح الدال المهملة بعدها تحتانية ساكنة، ابن ورقاء بن عمرو بن ربيع بن جزي بن عامر بن مازن الخزاعي، المصدر السابق 1/203. 4 عمرو بن سالم الخزاعي الكعبي، قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما كان من أمر خزاعة، وبني بكر، ومساعدة قريش لبني بكر ضد خزاعة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم نصرت يا عمرو بن سالم. المصدر السابق4/224. 5 هو خويلد بن عمرو أو عكسه، وقيل عبد الرحمن بن عمرو، وقيل هانء، وقيل كعب صحابي، نزل المدينة، (ت 68) / ع. التقريب 434.

الباب الثاني: النفاق وأثره السيء

الباب الثاني: النفاق وأثره السيء الفصل الأول: دور المنافقين في المجتمع الإسلامي قبل غزوة المريسيع المبحث الأول: ظهور المنافقين ... المبحث الأول: ظهور النفاق قبل الحديث عن ظهور النفاق وأثره في المجتمع الإسلامي يحسن بي أن أعطي نبذة عن تعريف النفاق لغة وشرعاً، فأقول: أ- النفاق لغة: ضرب من التمويه والستر والتغطية، وحقيقته: إظهار شيء وإبطان ضده. مشتق من النافقاء أحد جحرة1، اليربوع2، يكتمها ويظهر غيرها، فإذا طلب من واحد هرب إلى الآخر وخرج منه. ب- وشرعا: هو إظهار الإيمان وستر الكفر. والنفاق وما تصرف منه لم يكن معروفا عند العربية في الجاهلية بهذا

_ 1 جحرة: كعنبة: جمع جحر. المصباح المنير 1/ 100. 2 اليربوع: ويسمى الدرص وذا الرميح - تصغير رمح حيوان طويل الرجلين قصير اليدين جدا، وله ذنب كذنب الجرذ، يرفعه صعدا، في طرفه شبه النوارة، لونه كلون الغزال. يسكن باطن الأرض، وتسمى حفرته النافقاء والقاصعاء والراهطاء، فإذا طلب من إحدى هذه الكوى خرج من الأخرى، وظاهر بيته تراب وباطنه حفر، وكذلك المنافق: ظاهره إيمان وباطنه كفر. حياة الحيوان: للدميري 2/ 435.

المعنى وإن كان أصله في اللغة معروفا، يقال نافق ينافق منافقة ونفاقا. وإنما هو اسم إسلامي أطلق على من أظهر الإيمان وستر الكفر، مأخوذ من نافقاء اليربوع، لأن المنافق لما أبطن الكفر وأظهر الإيمان، وورى بشيء عن شيء، ودخل في باب الخديعة وأوهم الغير خلاف ما هو عليه أشبه في ذلك فعل اليربوع. والمعنيان اللغوي والشرعي متلازمان، إذ إن كلا من اليربوع، والمنافق اتخذ التمويه والتلبيس ذريعة إلى ستر الحقيقة وإظهار خلاف الواقع، فوسيلة كل منهما المكر والكيد والخداع، والتضليل وقلب الحقائق، فإذا طلب من جهة فر إلى جهة أخرى ونجا بحيلته ودهائه1. ولما وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة المنورة عاصمة الإسلام الأولى، واستقبله المسلمون بحرارة الإسلام وعاطفة الإيمان الجياشة، ورأى عبد الله بن أبي ابن سلول ومن شايعه من اليهود وغيرهم، ما قوبل به الرسول صلى الله عليه وسلم والمهاجرون من حفاوة وإعزاز، ساءهم ذلك، وأخذوا يناوئون الإسلام ويعرقلون سيره، ويترصون الدوائر بالمسلمين. أما اليهود فذلك دأبهم وديدنهم لأنهم لا يريدون للبشرية خيرا، بل يريدون أن تظل السعادة والسيادة فيهم، لأنهو شعب الله المختار في زعمهم. وأما عبد الله بن أبي فإنه لم تخسر شخصية مكانتها في المدينة بمقدم نبي الإسلام، خسارته، ذلك أن الرجل كان ينظم له الخرز ليتوج ملكا على الأوس والخزرج، كما سيأتي ذلك واضحا في حديث أسامة بن زيد2 وكان ذلك من أقوى الأسباب التي صرفته عن اعتناق الإسلام، بصدق وإخلاص. وكان دخوله في الإسلام ظاهرا بعد غزوة بدر الكبرى3

_ 1 انظر النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 5/ 98 ولسان العرب لابن منظور 12/ 236- 237 وحياة الحيوان للدميري 2/ 435- 436 والقاموس المحيط للفيروز آبادي 3/ 286. وشرح ثلاثيات مسند أحمد لمحمد السفاريني 1/ 249 و 2/ 408- 408 والنفاق والمنافقون لإبراهيم علي سالم، المقدمة ص1. 2 انظر ص 150 وما بعدها. 3 انظر المصدر السابق.

وهذا أمر طبيعي فإنه يريد أن ينظر في هذا الأمر الجديد، فإن اندحر فقد خلص منه، وهذا غاية مناه، وإن حصلت به العزة والمنعة، سالمه، وهذا ما حصل بالفعل، فقد قويت شوكة الإسلام، وأخذت صخرة الكفر تتحطم تحت جحافل المسلمين، خاصة في معركة بدر الكبرى، فلما رأى عبد الله بن أبي أن لا قبل له بمقاومة الإسلام علانية عمد إلى وسيلة أخرى هي طعن الإسلام في السر والخفاء، فتظاهر بالإسلام ليحقن دمه وليقضي بذلك كثيرا من مآربه، "فكان أول ظهور النفاق، في المدينة بدخول هذا المنافق في الإسلام ظاهرا" وهو شخص متبوع، فشايعه على ذلك أتباعه من المنافقين، فكان يقوم بعليمهم النفاق، وقد كان لهذا العدو الخفي، أضراره الجسيمة على الإسلام والمسلمين، ومواقف ابن أبي وأتباعه من دعوة الإسلام تنبئ عن أخطارهم التي لا تقف عند حد. ولكن الله خيب سعيهم وأحبط أعمالهم، ورد كيدهم في نحورهم، {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} ، [سورة الصف الآية: 8] .

المبحث الثاني: موقف المنافقين قبل بدر الكبرى

المبحث الثاني: موقف المنافقين قبل بدر الكبرى لقد دخل الإسلام المدينة المنورة، قبل مقدم الرسول صلى الله عليه وسلم إليها، وانتشر في ربوعها، وأصبح سكانها يرددون حديث الإسلام، ويلهجون بذكره في منتدياتهم ومجالسهم العامة والخاصة، منشرحين لهذا الخير الذي ساقه الله إليهم، وحباهم به. ثم ازداد فرحهم وغبطتهم بمقدم النبي صلى الله عليه وسلم، فالتفوا حوله يتلقون منه نور الإيمان ومبادئ الإسلام، فجمعهم الله به بعد الفرقة، وسادت بينهم المودة والإخاء بعد أن كانوا أعداء متناحرين متدابرين، يوضح هذا قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى

شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} ، [سورة آل عمران، الآية: 103] . غير أن مرض الحسد والخبث حال بين ضعفاء النفوس وبين الدخول في هذا الدين الحنيف، وعلى رأس هذا الفريق عبد الله بن أبي ابن سلول، الذي رأى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سلبه عزه ومجده، إذ كان مقدمه صلى الله عليه وسلم والأوس والخزرج ملتفون حوله، وقد باشروا نسج الخرز ليتوجوه ويرئسوه عليهم، فكان مقدم الرسول صلى الله عليه وسلم قاطعا لدابره، إذ لم يتم له ما كان يحلم به من الرياسة والسيادة، ولما فقد مكانته في المجتمع وحرم من المنصب القيادي الذي كان يحلم به رأى أن السبب الوحيد في ذلك هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما جاء به، فامتلأ قلبه غيظا وحقدا وحسدا على النبي صلى الله عليه وسلم وصار يحارب الإسلام سرا وعلانية مع من انضم إليه من مرضى القلوب من قومه وغيرهم وحلفائه من اليهود القاطنين في المدينة آنذاك1. فكانوا يدا واحدة في عداوة الإسلام وأهله.

_ وأول موقف برزت فيه عداوة عبد الله بن أبي ابن سلول للإسلام بوضوح هو ما دل عليه حديث البخاري ومسلم من حديث أسامة بن زيد2، وهذا سياقه عند مسلم: قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي3 ومحمد بن رافع4 1 سيرة ابن هشام 1/ 584- 585. 2 أسامة بن زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي، الأمير أبو محمد وأبو زيد، صحابي مشهور، (ت54) وهو ابن 75 سنة بالمدينة / ع. التقريب 1/ 53. 3 إسحاق بن إبراهيم بن مخلد الحنظلي، أبو محمد بن راهويه المروزي، ثقة حافظ مجتهد، قرين أحمد بن حنبل، ذكر أبو داود أنه تغير قبل موته بيسير، (ت238) وله 72سنة، / خ م د ت س، المصدر السابق 1/ 54. 4 محمد بن رافع القشيري النيسابوري، ثقة عابد، من الحادية عشرة، (ت245) / خ م د ت س، المصدر السابق 2/ 160.

وعبد بن حميد1 و (اللفظ لابن رافع) قال ابن رافع حدثنا: وقال الآخران: أخبرنا عبد الرزاق2 أخبرنا معمر3 عن الزهري عن عروة أن أسامة ين زيد أخبره: أن النبي صلى الله عليه وسلم ركب حمارا عليه إكاف4 تحته قطيفة فدكية5، وأردف وراءه أسامة وهو يعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج، وذاك قبل وقعة بدر، حتى مر بمجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين، عبدة الأوثان واليهود فيهم عبد الله بن أبي، وفي المجلس عبد الله بن رواحة، فلما غشيت المجلس عجاجة6 الدابة خمر عبد الله بن أبي أنفه بردائه، ثم قال: لا تغبروا علينا، فسلم عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ثم وقف فنزل فدعاهم إلى الله وقرأ القرآن، فقال عبد الله بن أبي: "أيها المرء لا أحسن7 من هذا إن كان ما تقول حقا فلا تؤذنا في مجالسنا وارجع

_ 1 عبد بن حميد بن نصر الكسي، أبو محمد، قيل اسمه عبد الحميد وبذلك جزم ابن حبان وغير واحد، ثقة حافظ، من الحادية عشرة (ت249) / خت م ت، المصدر السابق 1/ =529. قال ابن الأثير: الكسي: بكسر أولها وتشديد السين المهملة – هذه نسبة إلى كس وهي مدينة بما وراء النهر بقرب نخشب ذكرها الحفاظ في تواريخهم كذلك. غير أن الناس يكثرون ذكرها بفتح الكاف والشين المعجمة، ينسب إليها جماعة منهم عبد الحميد بن حميد بن نصر الكسي، المعروف بعبد بن حميد. اللباب في تهذيب الأنساب 3/ 98. 2 عبد الرزاق بن همام بن نافع، الحميري مولاهم، أبو بكر الصنعاني، ثقة حافظ مصنف شهير، عمي في آخر عمره فتغير، وكان يتشيع، من التاسعة، (ت211) / ع. التقريب 1/ 505. 3 معمر بن راشد الأزدي، مولاهم، أبو عروة البصري، نزيل اليمن، ثقة ثبت فاضل إلا أن في روايته عن ثابت والأعمش وهشام بن عروة شيئا، وكذا فيما حدث به بالبصرة، من كبار السابعة (ت145) / ع. المصدر السابق 2/ 266. 4 إكاف: بوزن كتاب: برذعة الحمار، القاموس المحيط 3/ 118 وفي رواية للبخاري 7/ 103 من كتاب المرضى، باب عيادة المريض (أن النبي صلى الله عليه وسلم ركب على حمار على إكاف على قطيفة فدكية) قال ابن حجر: (عل) الثالثة بدل من الثانية وهي بدل من الأولى والحاصل أن الإكاف يلي الحمار، والقطيفة فوق الإكاف، والراكب فوق القطيفة. فتح الباري 1/ 122. 5 قطيفة فدكية: القطيفة: كساء له خمل، والفدكية: منسوبة إلى فدك بلدة معروفة على مرحلتين من المدينة، فتح الباري 8/ 231 وشرح النووي على صحيح مسلم 4/ 441. 6 عجاجة الدابة: هو ما ارتفع من غبار حوافرها. 7 قوله لا أحسن من هذا قال ابن حجر: "بنصب أحسن وقتح أوله على أنه أفعل تفضيل، ويجوز في أحسن الرفع على أنه خبر (لا) والاسم محذوفن أي أحسن من هذا، ووقع في رواية الكشميهني: بضم أوله وكسر السين وضم النون – لا أحسن – ووقع في رواية أخرى لأحسن بحذف الألف لكن بفتح السين وضم النون على أنها لام قسم كأنه قال: أحسن من هذا أن تقعد في بيتك، حكاه عياض عن أبي علي واستحسنه، وحكى ابن الجوزي: تشديد السين المهملة بغير نون من الحس أي لا أعلم منه شيئا" انتهى، فتح الباري 8/ 232. وقال النووي: لا أحسن من هذا: "هكذا هو في جميع نسخ بلادنا بألف في أحسن أي ليس شيء أحسن من هذا، وكذا حكاه القاضي عن جماهير رواة مسلم، قال: ووقع للقاضي أبي علي لأحسن من هذا بالقصر من غير ألف قال القاضي: وهو عندي أظهر، وتقديره أحسن من هذا أن تقعد في بيتك ولا تأتينا". انظر: شرح النووي على صحيح مسلم 4/ 442.

إلى رحلك فمن جاءك منا فاقصص عليه"، فقال عبد الله بن رواحة: "إغشنا في مجالسنا فإنا نحب ذلك"، قال: فاستب المسلمون والمشركون واليهود حتى هموا أن يتواثبوا فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يخفضهم، ثم ركب دابته، حتى دخل على سعد ابن عبادة فقال: "أي سعد ألم تسمع إلى ما قال أبو حباب (يريد عبد الله بن أبي) " قال كذا وكذا، قال: "اعف عنه يا رسول الله واصفح، فوالله لقد أعطاك الله، ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة1 أن يتوجوه فيعصبوه بالعصابة2 فلما رد الله ذلك بالحق الذي أعطاكه شرق3 بذلك فذلك فعل به ما رأيت"، فعفا عنه النبي صلى الله عليه وسلم4. وحدثني محمد بن رافع حدثنا حجين5

_ 1 البحيرة: بالتصغير قال النووي: قال القاضي: وروينا في غير مسلم هذه البحيرة مكبرة وكلاهما بمعنى، وأصلها القرية، والمراد بها هنا مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، شرح النووي على مسلم 4/ 442. 2 فيعصبوه بالعصابة: أي اتفقوا على أن يجعلوه ملكهم وكان من عادتهم إذا ملكوا إنسانا أن يتوجوه ويعصبوه. المصدر السابق 4/ 442. 3 شرق بذلك: أي غص به وهو مجاز فيما ناله من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وحل به حتى كأنه شيء لم يقدر على إساغته فغص به. النهاية لابن الأثير 2/ 465- 466. 4 صحيح مسلم 5/ 182- 183 كتاب الجهاد والسير وصحيح البخاري 4/ 44 كتاب الجهاد (باب الردف على الحمار) و6/ 33 كتاب التفسير (باب ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا) و 7/ 103 كتاب المرضى (باب عيادة المريض) و 7/ 145 كتاب اللباس (باب الارتداف على الدابة و8/ 38- 39 كتاب الأدب (باب كنية المشرك) . 5 حجين: مصغرا آخره نون ابن المثنى اليمامي، أبو عمير، سكن بغداد، وولي قضاء خراسان، ثقة من التاسعة (ت285) وقيل بعد ذلك./خ م د ت س التقريب1/155.

(يعني ابن المثنى) حدثنا ليث1 عن عقيل2 عن ابن شهاب في هذا الإسناد بمثله. وزاد: وذلك قبل أن يسلم عبد الله34.

_ 1 الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفهمي، أبو الحارث المصرين ثقة ثبت، فقيه إمام مشهور، من السابعة، (ت175) / ع. التقريب 2/ 138. 2 عقيل بالتصغير ابن خالد بن عقيل مكبرا، الأيلي، بفتح الهمزة بعدها تحتانية ساكنة، ثم لام، أبو خالد الأموي، مولاهم، ثقة ثبت، سكن المدينة، ثم الشام، ثم مصر من السادسة، (ت144) على الصحيح/ ع. التقريب 2/ 29 وتقدمت تراجم بقية رجال الإسناد. 3 قوله: قبل أن يسلم عبد الله: قال النووي: معناه قبل أن يظهر الإسلام، وإلا فقد كان كافرا، منافقا ظاهر النفاق، شرح النووي على صحيح مسلم 4/ 442. 4 صحيح مسلم 5/ 182- 183 كتاب الجهاد والسير، وصحيح البخاري 4/ 44 كتاب الجهاد (باب الردف على الحمار) و6/ 33 كتاب التفسير (باب ولتسمعن من الذين أوتوا من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا) .

المبحث الثالث: موقف المنافقين بعد بدر الكبرى

المبحث الثالث: موقف المنافقين بعد بدر الكبرى فعند البخاري: من حديث أسامة المتقدم1: "فلما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا، فقتل الله به صناديد كفار قريش، قال ابن أبي ابن سلول ومن معه من المشركين وعبدة الأوثان: هذا أمر قد توجه2، فبايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم على الإسلام، فأسلموا"3. وفي حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم لو أتيت عبد الله بن أبي، قال: فانطلق إليه وركب حمارا، وانطلق

_ 1 انظر ص 150 وما بعدها. 2 توجه: أي نفذ على وجهه ومقصده. 3 صحيح البخاري 6/ 34 كتاب التفسير (باب ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا) و 8/ 39 كتاب الأدب (باب كنية المشرك. قال ابن حجر: "هذا حديث آخر أفرده ابن أبي حاتم عن الذي قبله، وإن كان الإسناد متحدا، وقد أخرج مسلم الحديث الذي قبله مقتصرا عليه، ولم يخرج شيئا من هذا الحديث الآخر". فتح الباري 8/ 232.

المسلمون وهي أرض سبخة1، فلما أتاه النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إليك عني فوالله آذاني نتن 2 حمارك"، قال: فقال رجل3 من الأنصار والله لحمار رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب ريحا منك، قال: فغضب لعبد الله رجل من قومه، قال: فغضب لكل واحد منهما أصحابهن قال: فكان بينهم ضرب بالجريد وبالأيدي وبالنعال، قال: فبلغنا أنها نزلت فيهم: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} ، [سورة الحجرات، من الآية: 9] 4. فهذا الحديث بظاهره يخالف حديث أسامة بن زيد لأن في حديث أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من بيته قاصدا عيادة سعد بن عبادة، وفي حديث أنس بن مالك: أنه صلى الله عليه وسلم دعي إلى إتيان عبد الله بن أبي ابن سلول. وقد حاول ابن حجر الجمع بين الروايتين فقال: "يحتمل اتحادهما بأن يكون الباعث له صلى الله عليه وسلم عيادة سعد بن عبادة، فاتفق مروره بعبد الله بن أبي، فقيل له حينئذ لو أتيته فأتاه". قال: "ويدل على اتحادهما أن في حديث أسامة، فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة، خمر عبد الله بن أبي أنفه بردائه"، ثم قال ابن حجر: "وقد استشكل ابن5 بطال نزول الآية المذكورة في حديث أنس وهي قوله: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} ، [سورة الحجرات، من الآية: 9] ، في هذه القصة، لأن المخاصمة وقعت بين من كان

_ 1 قوله: وهي أرض سبخة: بفتح المهملة وكسر الموحدة، بعدها معجمة، أي ذات سباخ وهي الأرض التي لا تنبت، وكانت تلك صفة الأرض التي مر بها صلى الله عليه وسلم، إذ ذاك، وذكر ذلك للتوطئة لقول عبد الله بن أبي إذ تأذى بالغبار فتح الباري 5/ 298. 2 نتن حمارك: أي ريحها. 3 قوله فقال رجل من الأنصار: هو عبد الله بن رواحة على القول باتحاد القصتين. 4 صحيح مسلم 5/ 183 كتاب الجهاد، والبخاري 3/ 159 كتاب الصلح باب الصلح باب ما جاء في الإصلاح بين الناس وأحمد 3/ 157. 5 ابن بطال هو الإمام أبو الحسن علي بن خلف الشهير بابن بطال المغربي المالكين له شرح على صحيح البخاري، وغالبه فقه الإمام مالك، من غير تعرض لموضوع الكتاب غالبا، أصله من قرطبة وكان عالما فقيها عني بالحديث وولي قضاء لورقة، له كتاب الاعتصام في الحديث (ت444 أو 449) مقدمة تحفة الأحوذي للمباركفوري 1/ 255.

مع النبي صلى الله عليه وسلم من أصحابه، وبين أصحاب عبد الله بن أبي، وكانوا إذ ذاك كفارا، فكيف ينزل فيهم {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} ، ولا سيما إن كانت قصة أنس وأسامة متحدة، فإن في رواية أسامة فاستب المسلمون والمشركون". ثم قال ابن حجر: "ويمكن أن يحمل على التغليب، ثم قال: مع أن فيها إشكالا من جهة أخرى وهي: أن حديث أسامة صريح في أن ذلك كان قبل وقعة بدر، وقبل أن يسلم عبد الله بن أبي وأصحابه، والآية المذكورة، في الحجرات، ونزولها متأخر جدا، كان في وقت مجيء الوفود، ثم أجاب عن هذا الإشكال بقوله: لكنه يحتمل أن تكون آية الإصلاح، نزلت قديما فيندفع الإشكال"1. تلك نبذة من مواقف عبد الله بن أبي قبل أن يعلن إسلامه ظاهرا، ثم بدا له أن يظهر إسلامه في أعقاب غزوة بدر، لأن شوكة المسلمين قويت، وأصبحت مصالح عبد الله بن أبي مرهونة بأن يظهر إسلامه، وتبعه على ذلك بقية المنافقين. ولكن عداوتهم للإسلام وإضمارهم الشر للمسلمين لم تتغير، فمازالوا يتربصون الدوائر بالمسلمين، وينتهزون الفرص المواتية للانقضاض عليهم، متعاونين في ذلك مع اليهود، يوضح ذلك انحيازهم إلى جانب يهود بني قينقاع2، الذين نقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن لا يعتدي أحد الجانبين على الآخر، ولكن اليهود لم يلتزموا بهذا العهد الذي أقروه على أنفسهم. فقد ذكر ابن إسحاق بسنده عن ابن عباس قال: "كان من حديث بني قينقاع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمعهم بسوق بني قينقاع، ثم قال: "يا معشر يهود، احذروا من الله مثل ما نزل بقريش من النقمة وأسلموا، فإنكم

_ 1 فتح الباري 5/ 299. 2 بنو قينقاع: بفتح القاف وتثليث النون بطن من بطون يهود المدينة. النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 4/ 136 والقاموس المحيط للفيروز آبادي 3/ 76.

قد عرفتم أني نبي مرسل، تجدون ذلك في كتابكم، وعهد الله إليكم"، قالوا: "يا محمد إنك ترى أنا قومك، لا يغرنك أنك لقيت قوما لا علم لهم بالحرب، فأصبت منهم فرصة، إنا والله لئن حاربناك لتعلمن أنا نحن الناس". ثم ساق ابن إسحاق بسنده عن ابن عباس قال: ما نزل هؤلاء الآيات إلا فيهم {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ1 الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الأَبْصَارِ} [سورة آل عمران، الآيتان:: 12- 13] 2. والحديث بهذه الطريق أخرجه أبو داود في سننه3. وحسن إسناده الحافظ ابن حجر4. وهناك سبب آخر ذكره ابن هشام بسند مرسل أن امرأة من العرب قدمت بجلب لها فباعته بسوق بني قينقاع، وجلست إلى صائغ بها فجعلوا يريدونها على كشف وجهها فأبت، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت سوءتها، فضحكوا بها، فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله، وكان يهوديا، وشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود، فغضب المسلمون، فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع، فهذان سببان ذكرا في قصة نقض بني قينقاع العهد المبرم بينهم، وبين المسلمين، وكل منهما كاف في ضرب هذه الشرذمة من اليهود، وقد كان صنيعهم هذا مستوجبا ما عاملهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم من ضرب الحصار وشد الخناق عليهم.

_ 1 الفئتان: هما أصحاب بدر، أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فئة، وقريش فئة. 2 سيرة ابن إسحاق المسماة: المبتدأ والمبعث والمغازي 1/294، وسيرة ابن هشام 2/47. 3 2/ 138 كتاب الخراج (باب كيف كان إخراج اليهود من المدينة) . 4 فتح الباري 7/ 332.

وذلك فيما رواه ابن إسحاق عن عاصم1 بن عمر بن قتادة، مرسلا، أن بني قينقاع أول يهود نقضوا ما بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحاربوا فيما بين بدر وأحد، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلوا على حكمه، فقام إليه عبد الله بن أبي ابن سلول، حين أمكنه الله منهم، فقال: "يا محمد أحسن في موالي" - وكانوا حلفاء الخزرج - قال: فأبطأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "يا محمد أحسن في موالي"، قال: فأعرض عنه، فأدخل يده في جيب درع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرسلني" وغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رأوا لوجهه ظللا2، ثم قال: "ويحك أرسلني"، قال: لا والله لا أرسلك حتى تحسن في موالي، أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع قد منعوني من الأحمر والأسود، تحصدهم في غداة واحدة، إني والله امرؤ أخشى الدوائر، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هم لك" 3. وروى ابن إسحاق أيضا بسند مرسل من طريق عبادة4 بن الوليد ابن عبادة بن الصامت قال: لما حاربت بنو قينقاع رسول الله صلى الله عليه وسلم تشبث5 بأمرهم عبد الله بن أبي ابن سلول، وقام دونهم، قال: ومشى عبادة بن الصامت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أحد بني عوف بن الخزرج لهم من حلفه مثل الذي لهم من عبد الله بن أبي، فخلعهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتبرأ إلى الله عز وجل، وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من حلفهم، وقال: يا رسول الله، أتولى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وأبرأ من حلف هؤلاء الكفار وولايتهم، قال: ففيه وفي عبد الله بن

_ 1 تقدمت ترجمته. 2 الظلل: جمع ظلة، وهي السحابة في الأصل فاستعارها هنا، لتغير الوجه إلى السواد إذا اشتد غضبه. 3 سيرة ابن هشام 2/ 48 وسيرة ابن إسحاق المسماة بكتاب المبدأ والمبعث والمغازي 1/ 295- 296. 4 عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت، ويقال له عبد الله، ثقة من الرابعة / خ م د س ق. التقريب 1/ 396. 5 تشبث: التشبث بالشيء التعلق به. مختار الصحاح، ص 327.

أبي، نزلت هذه القصة من المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} ، [سورة المائدة الآيتان: 51-52] ، – لعبد الله بن أبي، وقوله: إني أخشى الدوائر- {يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} ، [سورة المائدة، الآيتان: 52-53] ، ثم ذكر القصة إلى قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} ، [سورة المائدة، الآية: 55] . وذكر لتولي عبادة بن الصامت الله ورسوله والذين آمنوا، وتبرئه من بني قينقاع وحلفهم وولايتهم: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} ، [سورة المائدة، الآية: 56] 1. فلقد أوضحت هذه الآيات والأحاديث أن المنافقين اتخذوا موقفا مؤازرا لبني قينقاع وسعوا في خلاصهم من العقاب بعد ما أحدثوا من تمرد في وجه الدولة والخروج على العهد الذي أقروه على أنفسهم والتزموا به. وقد ذكر ابن حجر وغيره أن بني قينقاع أول يهود نقضوا عهدهم مع المسلمين وهذا نص كلامه: قال: كان الكفار بعد الهجرة مع النبي صلى الله عليه وسلم على ثلاثة أقسام: قسم وادعهم على أن لا يحاربوه ولا يمالئوا عليه عدوه، وهم طوائف اليهود الثلاثة قريظة والنضير وقينقاع. وقسم حاربوه ونصبوا له العداوة كقريش. وقسم تاركوه وانتظروا ما يئول إليه أمره كطوائف من العرب، فمنهم من كان يحب ظهوره في الباطن كخزاعة، ومنهم من لا يحب ظهوره كبني بكر، ومنهم من كان معه ظاهرا ومع عدوه باطنا وهم المنافقون، فكان أول من نقض العهد من اليهود بنو قينقاع فحارهم في شوال بعد وقعة بدر فنزلوا على حكمه،

_ 1 سيرة ابن إسحاق المسماة بكتاب المبدأ والمبعث والمغازي 1/ 295- 296، وسيرة ابن هشام 2/ 49.

وأراد قتلهم فاستوهبهم منه عبد الله بن أبي وكانوا حلفاءه فوهبهم له، وأخرجهم من المدينة إلى أذرعات1 ثم نقض العهد بنو النضير، ثم نقضت قريظة2.

_ 1 أذرعات: بكسر الراء وفتحها بلدة بالشام، انظر القاموس المحيط للفيروز آبادي3/ 23، وهي الآن في (سوريا) على حدود الأردن الشمالية. 2 فتح الباري 7/ 330 وزاد المعاد لابن قيم الجوزية 2/ 79.

المبحث الرابع: موقف المنافقين في أحد

المبحث الرابع: موقف المنافقين في أحد روى البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وأحمد والطبري من حديث زيد1 بن ثابت رضي الله عنه قال: لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى غزوة أحد، رجع ناس ممن خرج معه، وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فرقتين: فرقة تقول: نقاتلهم، وفرقة تقول: لا نقاتلهم، فنَزلت2: {فَمَا

_ 1 زيد بن ثابت بن الضحاك بن لوذان بفتح اللام وسكون الواو وبذال معجمة، الأنصاري النجاري، أبو سعيد وأبو خارجة، صحابي مشهور، كان يكتب الوحي، قال مسروق: كان من الراسخين في العلم، (ت45 أو 47) وقيل بعد الخمسين /ع. التقريب 1/ 272. 2 قوله: فنَزلت: فما لكم في المنافقين فئتين الخ: قال ابن حجر: "هذا هو الصحيح في سبب نزولها، وأخرج ابن أبي حاتم من طريق زيد بن أسلم عن أبي سعيد بن معاذ ن قال: نزلت هذه الآية في الأنصار، خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "من لي بمن يؤذيني؟ " فذكر منازعة سعد بن معاذ وسعد بن عبادة وأسيد بن حضير ومحمد بن مسلمة، قال: فأنزل الله هذه الآية" قال ابن حجر: "وفي سبب نزولها قول آخر: أخرجه أحمد من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبيه "أن قوماً أتوا المدينة فأسلموا، فأصابهم الوباء فرجعوا، واستقبلهم ناس من الصحابة فأخبروهم فقال بعضهم: نافقوا،، وقال بعضهم: لا، فنَزلت" وأخرجه ابن أبي حاتم من وجه آخر عن أبي سلمة مرسلا، فإن كان محفوظا احتمل أن تكون نزلت في الأمرين جميعا، فتح الباري 7/ 356 قلت: الراجح أنها نزلت في رجوع عبد الله ابن أبي وأصحابه يوم أحد ويدل عليه سياق الحديث حيث ذكر الخروج إلى أحد ورجوع ناس ممن خرج معه صلى الله عليه وسلم ثم عقب بنزول الآية، وقد بينت روايات المغازي أن هؤلاء الناس هم عبد الله بن أبي ابن سلول وأصحابه. وقد رجح هذا القول الشوكاني، فقد أورد حديث زيد بن ثابت وقال: هذا أصح ما روي في سبب نزول هذه الآية، وقد رويت أسباب غير ذلك وأشار ابن كثير إلى رواية ابن أبي حاتم المصرح فيها بأن الآية نزلت في شأن قصة الإفك، ثم قال: وهذا غريب. انظر فتح القدير للشوكاني 1/ 497 وتفسير ابن كثير 1/ 533. وأورد الطبري الأقوال المتقدمة وغيرها، ثم قال: "وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك قول من قال نزلت هذه الآية في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوم كانوا ارتدوا عن الإسلام بعد إسلامهم من أهل مكة، وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب، لأن اختلاف أهل ذلك إنما هو على قولين: أحدهما أنهم قوم كانوا من أهل مكة على ما قد ذكرنا الرواية عنهم، والآخر أنهم كانوا من أهل المدينة، وفي قول الله تعالى: {فَلاَ تَتَّخِذُوا مِنْهُم أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا} ، أوضح الدليل على أنهم كانوا من غير أهل المدينة، لأن الهجرة كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى داره ومدينته من سائر أرض الكفر، فأما من كان بالمدينة في دار الهجرة مقيما من المنافقين وأهل الشرك فلم يكن عليه فرض هجرة، لأنه في دار الهجرة كان وطنه ومقامه". انظر تفسير الطبري 5/ 194. والظاهر في السبب هو ما قدمنا ترجيحه.

لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّه أَرْكَسَهُمْ1 بِمَاكَسَبُوا} 2، وقال: "إنها طيبة تنفي الذنوب كما تنفي 3 النار خبث الفضة" 4. قال ابن حجر: "قوله رجع ناس ممن خرج معه: يعني عبد الله بن أبي

_ 1 أركسهم: أي ردهم إلى كفرهم، مختار الصحاح ص 254. 2 سورة النساء، الآية: 88، وتمامها: {أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} . 3 قوله: "تنفي الذنوب": كذا وقع هنا وتقدم في فضائل المدينة: "تنفي الرجال" وفي تفسير سورة النساء تنفي الخبث، قال ابن حجر: "وهو المحفوظ والحديث في هذه المواضع الثلاثة من طريق شعبة"، وتقدم في فضائل المدينة من حديث جابر بن عبد الله "المدينة كالكير تنفي خبثها" وفي حديث أبي هريرة "تنفي الناس" هذه الألفاظ كلها عند البخاري -قال ابن حجر: وأخرج حديث زيد بن ثابت مسلم والترمذي والنسائي من طريق غندر عن شعبة باللفظ الذي أخرجه البخاري في التفسير من طريق غندر المذكور ثم قال ابن حجر: "وغندر أثبت الناس في شعبة وروايته توافق حديث جابر بلفظ "تنفي خبثها"" وأخرج مسلم من حديث أبي هريرة (تخرج الخبث) ثم قال ابن حجر: "ورواية "تنفي الرجال" لا تنافي الرواية بلفظ: "الخبث" بل هي مفسرة للرواية المشهورة- يعني تنفي الخبث- بخلاف "تنفي الذنوب" ثم قال ابن حجر:" ويحتمل أن يكون فيه حذف تقديره "تنفي أهل الذنوب" فيلتئم مع باقي الروايات". انتهى بتصرف. فتح الباري4/ 97 و7/ 356. 4 البخاري 5/ 80 كتاب المغازي باب غزوة أحد و 3/ 20 كتاب الحج (باب المدينة تنفي الخبث) و3/ 19 (باب فضل المدينة وأنها تنفي الناس) و6/ 39 كتاب التفسير وأخرجه مسلم 8/ 121 (كتاب صفات المنافقين وأحكامهم) و4/ 120 كتاب الحج في صيانة المدينة من دخول الطاعون، والترمذي 4/ 306 التفسير. والنسائي في السنن الكبرى عن محمد بن بشار عن غندر به، انظر تحفة الأشراف للمزي 3/ 219- 220. وأحمد 5/ 184 والطبري في التفسير 5/ 192.

وأصحابه"، وقد ورد ذلك صريحا في رواية موسى بن عقبة في المغازي، وأن عبد الله بن أبي كان وافق رأيه رأي النبي صلى الله عليه وسلم على الإقامة بالمدينة، فلما أشار غيره بالخروج وأجابهم النبي صلى الله عليه وسلم فخرج، قال: عبد الله بن أبي لأصحابه: أطاعهم وعصاني علام نقتل أنفسنا؟ فرجع بثلث الناس. قال ابن إسحاق في روايته: "فاتبعهم عبد الله بن عمورو بن حرام وهو والد جابر وكان خزرجيا كعبد الله بن أبي فناشدهم أن يرجعوا فأبوا، فقال: أبعدكم الله"1. قلت: رواية ابن إسحاق المشار إليها خلاصتها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سمع بوصول قريش ونزولها في أطراف المدينة قال للمسلمين: "إني قد رأيت والله خيرا، رأيت بقرا2 ورأيت في ذباب سيفي ثلما، ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها بالمدينة، فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة، وتدعوهم حيث نزلوا، فإن أقاموا أقاموا بشر مقام، وإن هم دخلوا علينا قاتلناهم فيها"، وكان رأي عبد الله بن أبي ابن سلول مع رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى رأيه في ذلك، وألا يخرج إليهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره الخروج، فقال رجال من المسلمين، ممن أكرم الله بالشهادة يوم أحد وغيره، ممن كان فاته بدر يا رسول الله اخرج بنا إلى أعدائنا لا يرون أنا جبنا عنهم وضعفنا، فقال عبد الله بن أبي ابن سلول: "يا رسول الله أقم بالمدينة لا تخرج إليهم، فوالله ما خرجنا منها إلى عدونا قط، إلا أصاب منا ولا دخلها علينا إلا أصبنا منه، فدعهم يا رسول الله، فإن أقاموا أقاموا بشر محبس وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجههم ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم وإن رجعوا رجعوا خائبين كما جاؤوا" فلم يزل الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم ... حتى خرج في ألف من أصحابه، حتى إذا كانوا بالشوط بين المدينة وأحد، انخذل عنه عبد الله بن أبي ابن سلول بثلث الناس وقال: "أطاعهم

_ 1 فتح الباري 4/ 97 و7/ 356 و8/ 257. 2 وعند أحمد في مسنده 3/ 351 "ورأيت بقرا منحرة" وفي المستدرك 2/ 129 "ورأيت بقرا تذبح".

وعصاني، ما ندري علام نقتل أنفسنا ههنا أيها الناس"، فرجع بمن اتبعه من قومه من أهل النفاق والريب، واتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام يقول: "يا قوم أذكركم الله ألا تخذلوا قومكم ونبيكم عند من حضر عن عدوهم" فقالوا: "لو نعلم أنكم تقاتلون لما أسلمناكم، ولكنا لا نرى أنه يكون قتال"، قال: "فلما استعصوا عليه، وأبوا إلا الانصراف عنهم"، قال: "أبعدكم الله، أعداء الله، فسيغني الله عنكم نبيه"1. قلت: الحديث مرسل لأنه من رواية الزهري ومحمد بن يحيى بن حبان وعاصم بن عمر بن قتادة وحصين بن عبد الرحمن وهؤلاء لم يحضروا القصة، وهو من هذه الطريق عند الطبري وابن كثير2. ووصله أحمد من طريق أبي الزبير عن جابر بن عبد الله نحوه3. وله شاهد عند الحاكم والبيهقي من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وقال الحاكم عقبه: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، وأقره الذهبي4. قال ناصر الدين الألباني: "حديث أحمد على شرط مسلم، غير أن فيه أبا الزبير، مدلس وقد عنعنه. وحديث البيهقي إسناده حسن، وأشار إلى حديث الحاكم وتصحيحه له، وموافقة الذهبي له، ثم قال: الحديث صحيح"5. وهكذا فقد صح أن المنافقين خذلوا المسلمين في أحرج المواقف، بتأثيرهم على الضعفاء، وسحبهم ثلث جيش المسلمين، الذي خرج للتصدي للمشركين، واحتجوا لأنفسهم بأوهى الأسباب، وهو زعمهم أن القتال لن يقع - وكأن المسلمين خرجوا للنزهة - مع أنهم يعتقدون أن القتال حاصل لا محالة،

_ 1 سيرة ابن هشام 2/ 60- 64. 2 تاريخ الطبري 2/ 499- 503 وتفسير ابن كثير 1/ 425. 3 مسند أحمد 3/ 351. 4 المستدرك 2/ 128- 129 وحديث البيهقي أخرجه ابن كثير في البداية والنهاية 4/ 11. 5 حاشية فقه السيرة للغزالي، ص 269.

وهو صريح قول ابن أبي "أطاعهم وعصاني ما ندري علام نقتل أنفسنا ههنا أيها الناس" ولكنهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، وإنما الذي صدهم عن الانضمام مع كتائب المسلمين هو كفرهم ونفاقهم كما أوضح الله ذلك بقوله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ} ، [سورة آل عمران، الآية: 167] . قال ابن كثير: "في قوله تعالى: {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِم} ، يعني أنهم يقولون القول ولا يعتقدون صحته، ومنه قولهم هذا {لَو نَعْلَمُ قِتَالاً لاتَّبَعْنَاكُم} ، فإنهم يتحققون أن جندا من المشركين قد جاؤوا من بلاد بعيدة يتحرقون على المسلمين بسبب ما أصيب من أشرافهم يوم بدر، وهم أضعاف المسلمين أنه كائن بينهم قتال لا محالة"1.

_ 1 تفسير ابن كثير 1/ 425.

المبحث الخامس: موقف المنافقين من يهود بني النضير

المبحث الخامس: موقف المنافقين من يهود بني النضير تقدم1 أن يهود بني النضير ثاني طائفة من طوائف يهود نقضت عهدها مع المسلمين وكان رئيسهم حيي بن أخطب2. وقد وردت روايتان في سبب نقضهم العهد. الأولى: ما رواه ابن إسحاق حدثني يزيد بن رومان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، خرج إلى بني النضير يستعينهم في دية القتيلين من بني عامر اللذين قتلهما عمرو بن أمية3 الضمري، للجوار الذي كان رسول الله صلى الله

_ 1 انظر: ص 158- 159 وما بعدها. وانظر فتح الباري 7/ 275 و330. 2 حيي بن أخطب: هو والد صفية أم المؤمنين رضي الله عنها. 3 عمرو بن أمية بن خويلد بن عبد الله، أبو أمية الضمري صحابي مشهور، أول مشاهده بئر معونة، توفي في خلافة معاوية /ع. التقريب 2/ 65.

عليه وسلم عقد لهم،- وكان بين بني النضير وبين بني عامر عقد وحلف - فلما أتاهم رسول اله صلى الله عليه وسلم يستعينهم في دية القتيلين، قالوا: "نعم، يا أبا القاسم نعينك على ما أحببت، مما استعنت بنا عليه"، ثم خلا بعضهم ببعض، فقالوا: "إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه - ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنب جدار من بيوتهم قاعد - فمن رجل يعلو على هذا البيت، فيلقي عليه صخرة، فيريحنا منه؟ " فانتدب لذلك عمرو بن جحاش بن كعب، أحدهم، فقال: أنا لذلك، الحديث.. وفيه فسار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه، حتى نزلت بهم، فتحصنوا منه في الحصون، فأمر بقطع النخيل والتحريق1 فيها، فنادوه: "يا محمد قد كنت تنهى عن الفساد، وتعيبه على من صنعه، فما بال قطع النخيل وتحريقها". وقد كان رهط من بني عوف بن الخزرج منهم، عبد الله بن أبي ابن سلول، ووديعة ومالك بن أبي قوقل، وسويد وداعس، قد بعثوا إلى بني النضير: "أن اثبتوا وتمعنوا، فإنا لن نسلمكم، وإن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن أخرجتم خرجنا معكم"، فتربصوا ذلك من نصرهم فلم يفعلوا، وقذف الله في قلوبهم الرعب، وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجليهم ويكف عن دمائهم، علة أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم، إلا الحلقة2. الحديث ... ثم ذكر ما أنزل الله في شأن المنافقين من القرآن وهو قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا} ، [سورة الحشرة، الآيات: 11-17] ، يعني عبد الله بن أبي وأصحابه ومن كان على مثل أمرهم، {يَقُولُونَ لإخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ} ، يعني: - بني النضير -إلى قوله تعالى: {كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ، [سورة الحشر، الآية: 15] ، يعني: بني قينقاع. ثم ذكر القصة: إلى قوله: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ

_ 1 قطع نخيل بني النضير وتحريقه ثابت في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، انظر البخاري 5/ 74 كتاب المغازي، ومسلم 5/ 145 كتاب الجهاد والسير. 2 الحلقة: بسكون اللام، السلاح عامة، وقيل الدروع خاصة. النهاية لابن الأثير 1/ 427.

قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} ، [سورة الحشر الآية: 16] 1. وهكذا ذكر المفسرون عند تفسير هذه الآيات أنها نزلت في المنافقين: عبد الله بن أبي وأتباعه الذين حرضوا بني النضير على تمردهم وخروجهم على الدولة الإسلامية، ونقضهم العهد الذي أبرموه على أنفسهم والتزموا به2 فرواية ابن إسحاق، تدل على أن سبب نقضهم العهد هو تواطؤهم على الغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم عندما جاء يستعينهم في دية القتيلين، وقد بوب البخاري بقوله: "باب حديث بني النضير ومخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم في دية الرجلين وما أرادوا من الغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم".3 الثانية: ما رواه أبو داود حدثنا محمد بن داود بن سفيان أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن الزهري عن عبد الرحمن4 بن كعب بن مالك عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم "أن كفار قريش كتبوا إلى ابن أبي ومن كان يعبد الأوثان من الأوس والخزرج، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ بالمدينة قبل وقعة بدر: إنكم آويتم صاحبنا وإنا نقسم بالله لتقاتلنه أو لتخرجنه أو لنسيرن إليكم بأجمعنا حتى نقتل مقاتلتكم ونستبيح نساءكم، فلما بلغ ذلك عبد الله بن أبي ومن كان معه من عبدة الأوثان اجتمعوا لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم لقيهم فقال: "لقد بلغ وعيد قريش منكم المبالغ ما كانت تكيدكم بأكثر مما تريدون أن تكيدوا به أنفسكم، تريدون أن تقاتلوا أبناءكم وإخوانكم" فلما سمعوا ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم تفرقوا، فبلغ ذلك كفار قريش، فكتبت كفار قريش بعد

_ 1 سيرة ابن هشام 2/ 190- 195 وتاريخ الطبري 2/ 551 وتفسيره 28/ 29 وفتح الباري 7/ 331. 2 تفسير الطبري 28/ 45 وتفسير ابن كثير 4/ 340 وتفسير الشوكاني 5/ 204. 3 البخاري 5/ 74 كتاب المغازي. 4 عبد الرحمن بن كعب بن مالك الأنصاري، أبو الخطاب، المدني، ثقة، من كبار التابعين، ويقال ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، مات في خلافة سليمان بن عبد الملك /ع. التقريب 1/ 496.

وقعة بدر إلى اليهود: "إنكم أهل الحلقة، والحصون، وإنكم لتقاتلن صاحبنا أو لنفعلن كذا وكذا"، ولا يحول بيننا وبين خدم نسائكم شيء وهي الخلاليل، فلما بلغ كتابهم النبي صلى الله عليه وسلم، أجمعت بنو النضير بالغدر، فأرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم اخرج علينا في ثلاثين رجلا من أصحابك، وليخرج منا ثلاثون حبرا حتى نلتقي بمكان المنصف* فيسمعوا منك فإن صدقوك وآمنوا بك آمنا بك، فقص خبرهم، فلما كان الغد غدا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. الحديث1. والحديث سكت عليه المنذري2.وفيه محمد بن داود بن سفيان شيخ أبي داود. قال عنه ابن حجر في تقريب التهذيب بأنه مقبول3. وفي تهذيب التهذيب لم يزد على قوله: محمد بن داود بن سفيان روى عن عبد الرزاق ويحيى بن حسان، وعنه أبو داود4. ولكن الحديث عند عبد الرزاق من هذه الطريق وليس فيه محمد ابن داود، ولكنه قال: عبد الله5 بن عبد الرحمن بن كعب بدل (عبد الرحمن بن كعب) وفيه: فأرسلت امرأة ناصحة، من بني النضير إلى بني أخيها6، وهو رجل مسلم من الأنصار، فأخبرته ما أراد بنو النضير من الغدر برسول الله صلى * المنصف: بفتح الميم وسكون النون وفتح الصاد المهملة – الموضع الوسط بين الموضعين (ابن الأثير: النهاية 5/ 66) .

_ 1 سنن أبي داود 2/ 139 كتاب الخراج (باب في خبر بني النضير) . 2 انظر عون المعبود شرح سنن أبي داود 8/ 236. 3 التقريب 2/ 160. 4 تهذيب التهذيب 9/ 154. 5 قال ابن حجر في تعجيل المنفعة، ص 153: أظنه انقلب، وأنه عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك شيخ الزهري، وهو مترجم في التهذيب / انظر تهذيب التهذيب 6/ 214 أخرج له خ م د س. وتقريب التهذيب 1/ 488 وقال عنه: ثقة عالم، من الثالثة. 6 كذا هو في المصنف ولعله (ابن أخيها) .

الله عليه وسلم، فأقبل أخوها سريعا، حتى أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فساره بخبرهم. الحديث1 ... والحديث من هذه الطريق نسبه ابن حجر لابن مردويه، وعبد بن حميد وقال: "بإسناد صحيح إلى معمر عن الزهري"، ثم قال: ابن حجر: "فهذا أقوى مما ذكره ابن إسحاق من أن سبب غزوة بني النضير طلبه صلى الله عليه وسلم أن يعينوه في دية الرجلين، لكن وافق ابن إسحاق جل أهل المغازي، فالله أعلم"2. والذي يهمنا من هذه الغزوة هو موقف المنافقين المتمردة الخارجة على الدولة الإسلامية وعلى العهد الذي التزمت به حيال المسلمين وهذه المواقف العدائية من المنافقين تدل على خطر النفاق وخبثه، وأنه يحمل أصحابه على اتخاذ جميع الوسائل الممكنة للحيلولة دون تقدم دعوة الإسلام، وانتصاره، ومجمل المواقف التي وقفها المنافقون من دعوة الإسلام تدور حول غرضين أساسيين: أولهما: التخذيل عن اعتناق الإسلام، بإلقاء الرعب في صفوف الجيش الإسلامي، وتخويفه من الوقوف في وجه عدوه، كما حصل في غزوة الأحزاب. وثانيهما: بث الشبه والتشكيك في الإسلام، ونبي الإسلام، وزرع بذور الفتنة، في ساحة الجيش الإسلامي، كما حصل ذلك في غزوة بني المصطلق التي نحن بصددها. وقد باءت جميع محاولات المنافقين بالإخفاق، واندحر كيدهم وخاب سعيهم، ونصر الله الإسلام والمسلمين، وكان الوحي ينزل طريا بفضح هذه المواقف على اختلافها، وتثبيت نفوس المسلمين وتصفية الساحة الإسلامية مما علق بها من أدران هذه المواقف المغرضة.

_ 1 مصنف عبد الرزاق 5/ 358- 361. 2 فتح الباري 7/ 331- 332.

الفصل الثاني: إثارة المنافقين العصبية في غزوة المريسيع

الفصل الثاني: إثارة المنافقين العصبية في غزوة المريسيع المحبث الأول: مقالة عبد الله بن أبيّ ... المبحث الأول: مقالة عبد الله بن أبي قال البخاري: "حدثنا عبد الله1 بن رجاء حدثنا إسرائيل2 عن أبي إسحاق3

_ 1 عبد الله بن رجاء بن عمر الغداني بضم الغين المعجمة وفتح الدال المخففة وبع الألف نون، بصري، صدوق يهم قليلا، من التاسعة، (ت220) وقيل قبلها، خ خد س ق. التقريب 1/ 414. وفي تهذيب التهذيب 5/ 210: سئل أبو زرعة عنه، فأثنى عليه وقال: "حسن الحديث عن إسرائيل"، وفي ميزان الاعتدال 2/ 421: رمز له بـ (صح) إشارة إلى أن الأئمة على توثيقه، وأنه لا يلتفت إلى من ضعفه. 2 إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي، بفتح المهملة وكسر الموحدة، الهمداني أبو يوسف الكوفي، ثقة، تكلم فيه بلا حجة، من السابعة. (ت160) وقيل بعدها، ع المصدر السابق 1/ 64. وفي تهذيب التهذيب 1/ 261- 263: هو أثبت في أبي إسحاق. وفي ميزان الاعتدال 1/ 208 -210، قال عنه عيسى بن يونس: قال لي أخي إسرائيل: "كنت أحفظ حديث أبي إسحاق كما أحفظ السورة من القرآن". وقال أحمد بن حنبل: "ثقة"، وجعل يعجب من حفظه، وقال أيضا: "كان ثبتا"، ونقل تضعيفه عن يحيى القطان وابن المديني وابن حزم الظاهري، ثم قال الذهبي: "قلت: إسرائيل اعتمده البخاري ومسلم في الأصول، وهو في الثبت كالأسطوانة، فلا يلتفت على تضعيف من ضعفه"، ثم قال أيضا: "نعم شعبة أثبت منه إلا في أبي إسحاق". 3 هو عمرو بن عبد الله أبو إسحاق السبيعي الهمداني، مكثر، ثقة عابد، من الثالثة، اختلط بآخره، (ت129) وقيل قبل ذلك. ع. التقريب 2/ 73 وقد وصف بالتدليس كما في تهذيب التهذيب 8/ 66 و 67.

عن زيد بن أرقم1،قال: كنت في غزاة2 فسمعت عبد الله بن أبي يقول: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله، ولئن رجعنا من عنده3 ليخرجن الأعز منها الأذل فذكرت4 ذلك لعمي - أو لعمر-

_ 1 زيد بن أرقم بن زيد بن قيس الأنصاري، الخزرجي، صحابي مشهور، أول مشاهده الخندق، وأنزل الله تصديقه في سورة المنافقين. (ت66 أو 68) ، ع: المصدر السابق 1/ 272، وفي أسد الغابة 2/ 276 الإصابة 1/ 560: استصغر يوم أحد، ويقال كان أول مشاهده المريسيع، قلت: كونه حضر غزوة المريسيع فهذا مما لا خلاف فيه لتصريح الأحاديث بذلك، وإنما الخلاف هل كانت هذه الغزوة قبل غزوة الخندق، وعلى هذا يحصل التردد في أول مشاهده. 2 هي غزوة بني المصطلق كما سيأتي في المبحث الثاني ص 176. 3 من (عنده) ك كذا هنا. وبقية الأحاديث لئن رجعنا إلى المدينة. 4 فذكرت ذلك لعمي أو لعمر، فعمه هنا هو سعد بن عبادة كما بينت ذلك رواية الطبراني الآتية وعمر هو ابن الخطاب، ووقع هنا بالشك (فذكرت ذلك لعمي أو لعمر) ووقع من هذه الطريق عند البخاري في التفسير 6/ 126و 127 والترمذي 5/ 87 "فذكرت ذلك لعمي" بدون شك. ووقع من رواية زهير بن معاوية عن أبي إسحاق، ومن رواية محمد بن كعب القرظي أن الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم هو زيد نفسه. انظر: ص 179. وقد جمع ابن حجر بين هذا الاختلاف بما يأتي: أ- يحتمل أن زيدا أطلق الإخبار مجازا، ولم يرتض هذا الجواب لأن في مرسل الحسن عند عبد الرزاق فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لعلك أخطأ سمعك أو شبه عليك"، وانظر الحديث في تفسير الطبري 28/ 114. ب- أو لعله راسل بذلك أولا على لسان عمه ثم حضر بعد ذلك فأخبر. ج- ويحتمل أن يكون أخبر بذلك حقيقة بعد أن أنكر عبد الله بن أبي فتح الباري 8/ 645 و647 قلت: ويدل للتوجيه الثاني حديث الباب، وحديث الترمذي 5/ 87 "فذكرت ذلك لعمي فذكر ذلك عمي للنبي صلى الله عليه وسلم، فدعاني النبي صلى الله عليه وسلم فحدثته، ويدل للتوجيه الثالث رواية الطبراني في مجمع الزوائد 7/ 124 "عن زيد بن أرقم قال: كنت جالسا مع عبد الله بن أبي فمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في أناس من أصحابه، فقال عبد الله بن أبي: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل فأتيت سعد بن عبادة فأخبرته فأتى رسول الله فذكر له ذلك، فأرسل رسول الله إلى عبد الله بن أبي فحلف بالله ما تكلم بهذا، فنظر رسول الله إلى سعد، فقال سعد: يا رسول الله إنما أخبرنيه الغلام، زيد بن أرقم فجاء سعد فأخذ بيدي فانطلق بي، فقال: هذا حدثني فانتهرني ابن أبي، فانتهيت إلى رسول الله، وبكيت وقلت: والذي أنزل النور عليك لقد قالهن وانصرف عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله {إذا جاءك المنافقون} إلى آخر السورة، قال الهيثمي: "هو في الصحيح بغير سياقه رواه لطبراني عن شيخه عبد الله بن محمد بن سعيد بن أبي مريم وهو ضعيف". قال ابن حجر: "بينت هذه الرواية ورواية ابن مردويه: أن المراد بعم زيد بن أرقم في هذه الروايات هو سعد بن عبادة وهو سيد قومه الخزرج، وليس عمه حقيقة، وإنما عمه حقيقة هو ثابت بن قيس له صحبة، وعمه زوج أمه عبد الله بن رواحة". فتح الباري 8/ 645.

فذكره للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فدعاني فحدثته، فأرسل1 رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبد الله بن أبي وأصحابه، فحلفوا ما قالوا فكذبني رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدقه فأصابني2 هم لم يصبني مثله قط، فجلست3 في البيت، فقال لي عمي: "ما أردت إلى أن كذبك رسول الله صلى الله عليه وسلم ومقتك"4، فأنزل5 الله تعالى: {إذا جاءك المنافقون} ، [سور المنافقون، الآية: 1] 6.

_ 1 جاء عند الطبري في التفسير 28/ 109 من هذه الطريق أن المرسل إلى عبد الله بن أبي هو علي رضي الله عنه. 2 قوله: "فأصابني هم" وفي رواية زهير بن معاوية: "فوقع في نفسي مما قالوا شدة" انظر ص 180، وفي رواية أبي سعيد الأزدي عن زيد عند الترمذي 5/ 88 "فوقع علي من لهم ما لم يقع على أحد". 3 فجلست في البيت "المراد به المكان الذي كان نازلا فيه". وفي رواية محمد بن كعب القرظي عند البخاري 6/ 127 "فرجعت إلى المنزل فنمت" وعند الترمذي 5/ 89 "ونمت كئيبا حزينا" انظر ص 179 وفي رواية ابن أبي ليلى عند النسائي "جلست في البيت مخافة إذا رآني الناس أن يقولوا كذبت وهي في السنن الكبرى عن إسحاق بن إبراهيم عن يحيى بن آدم عن يحيى بن زكرياء بن أبي زائدة، عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن زيد بن أرقم". انظر تحفة الأشراف في معرفة الأطراف للمزي 3/ 198 وفتح الباري 8/ 645 وعلقها البخاري عن ابن أبي زائدة بصيغة الجزم، عقب رواية محمد بن كعب القرظي، انظر البخاري 6/ 127 وانظر الحديث بطوله في تفسير الطبري 28/ 112. 4 وفي رواية محمد بن كعب القرظي عند البخاري (فلامني الأنصار) وعند الترمذي (فلامني قومي) انظر ص 179. 5 في رواية زهير حتى أنزل الله عز وجل تصديقي في {إذا جاءك المنافقون} انظر ص 180. 6 وكان نزول ذلك وهم راجعون من الغزوة إلى المدينة، كما بينت ذلك رواية الترمذي من طريق أبي سعيد الأزذي وهي: حدثنا عبد بن حميد أخبرنا عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن السدي عن أبي سعيد الأزدي، أخبرنا زيد بن أرقم، قال: غزونا مع رسول الله صلى اله عليه وسلم الحديث ... وفيه "فبينا أنا أسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر قد خفقت برأسي من الهم، إذ أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرك أذني وضحك في وجهي، فما كان يسرني أن لي بها الخلد في الدنيا، ثم أن أبا بكر لحقني فقال: "ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ " قلت: ما قال لي شيئا إلا أنه عرك أذني وضحك في وجهي، فقال: "أبشر"، ثم لحقني عمر فقلت له مثل قولي لأبي بكر، فلما أصبحنا قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة المنافقون" هذا حديث صحيح. الترمذي 5/ 88، وأخرجه الحاكم في المستدرك 2/ 488 وقال عقبه: "قد اتفق الشيخان على إخراج أحرف يسيرة من هذا الحديث"، من حديث أبي إسحاق السبيعي عن زيد بن أرقم، وأخرج البخاري متابعا لأبي إسحاق من حديث شعبة، عن الحكم عن محمد بن كعب القرظي، عن زيد بن أرقم، ولم يخرجاه بطوله، والإسناد صحيح وأقره الذهبي، وانظر حاشية ص 180، وفي رواية أبي الأسود عن عروة "فبينما هم يسيرون أبصروا رسول الله صلى اله عليه وسلم يوحى إليه "فنَزلت"، أي: السورة"، انظر فتح الباري 8/ 645.

فبعث1 إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأ، فقال: "إن الله قد صدقك يا زيد" 2 والحديث فيه أبو إسحاق السبيعي وهو مدلس وقد عنعن، ولكنه صرح بالسماع في رواية زهير بن معاوية، وتابعه محمد ابن كعب القرظي3. وقد رواه البخاري عن شيخين آخرين له هما آدم بن أبي إياس، وعبيد الله بن موسى، كلاهما عن إسرائيل بن يونس عن أبي إسحاق4. وكان سبب هذا القول الذي تضمنه حديث زيد بن أرقم هو الشجار

_ 1 وفي رواية محمد بن كعب القرظي عند الترمذي 5/ 89 "فأتاني النبي صلى اله عليه وسلم أو أتيته، فقال: "إن الله قد صدقك" قال: فنزلت هذه لآية: {هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا} " وانظر الحديث أيضا ص 179، وعند الطبري في التفسير 28/ 19: "فأتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو بلغني فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "إن الله تبارك وتعالى قد صدقك وعذرك"،" وفي مرسل الحسن عند الطبري أيضا في التفسير 28/ 114 وابن حجر في الفتح 8/ 646 "فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بأذن الغلام، فقال: "وفت أذنك، وفت أذنك يا غلام" "وعند البخاري في التفسير 6/ 128 من حديث أنس بن مالك قال: "حزنت على من أصيب بالحرة، فكتب إلى زيد بن أرقم وبلغه شدة حزني"، يذكر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم اغفر للأنصار" الحديث ... وفيه: فسأل أنسا بعض من كان عنده فقال: هو الذي يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا الذي أوفى الله له بأذنه". 2 البخاري 6/ 126- 127 من كتاب التفسير ومسلم 8/ 119 كتاب صفات المنافقين والترمذي 5/ 87- 88 كتاب التفسير وأحمد 4/ 368 و373، أسباب النزول للواحدي، ص 278، والنسائي في السنن الكبرى نحوه من رواية زهير وسنده: عن أبي داود الحراني عن الحسن بن محمد بن أعين عن زهير. انظر تحفة الأشراف للمزي 3/ 199. 3 البخاري 6/ 127 كتاب التفسير ومسلم كتاب صفات المنافقين. 4 البخاري 6/ 126و127 كتاب التفسير.

الذي حدث بين المهاجري والأنصاري، المصرح به في حديث جابر بن عبد الله وهذا نصه: قال البخاري: "حدثنا علي1 حدثنا سفيان قال عمرو: سمعت جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما قال: "كنا في غزاة - قال سفيان مرة في جيش - فكسع2 رجل من المهاجرين3 رجلا من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري4: يا للمهاجرين فسمع ذاك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ما بال دعوى الجاهلية؟ "

_ 1 علي هو ابن المديني وسفيان هو ابن عيينة، وعمرو هو ابن دينار. 2 فكسع: الكسع المشهور فيه: أنه ضرب الدبر باليد أو الرجل. القاموس المحيط 3/ 78 وفتح الباري 8/ 649، ووقع عند الطبري في هذا الحديث من طريق الحسين ابن واقد لمروزي عن عمرو بن دينار، عن جابر بن عبد الله أن رجلا من المهاجرين كسع رجلا من الأنصار برجله، وذلك في أهل اليمن شديد الحديث ... تفسير الطبري 28/ 113. 3 ورد عند ابن إسحاق تسمية المهاجري: بأنه جهجاه بن مسعود الغفاري، أجير لعمر بن الخطاب، والأنصاري: سنان بن وبر الجهني حليف بني عوف بن الخزرج، انظر ص 188، وسمى ابن حجر المهاجري: جهجاه بن قيس ويقال ابن سعيد الغفاري فتح الباري 6/ 547 و8/ 649. 4 قال ابن حجر في الفتح 8/ 649: أثناء شرحه لهذا الحديث: "اتفقت الطرق على أن المهاجري واحد، ووقع عند مسلم من حديث أبي الزبير عن جابر" واقتتل غلامان من المهاجرين، وغلام من الأنصار، فنادى المهاجري: يا للمهاجرين، ونادى الأنصاري: يا للأنصار، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ما هذا؟ أدعوى الجاهلية"، قالوا: لا، إن غلامين اقتتلا فكسع أحدهما الآخر الحديث ... ثم قال ابن حجر: "ويمكن تأويل هذه الرواية بأن قوله: (من المهاجرين) ، بيان لأحد الغلامين، والتقدير: اقتتل غلامان: غلام من المهاجرين وغلام من الأنصار، فحذف لفظ غلام من الأول، ويؤيده قوله في بقية الخبر (فنادى المهاجري) فأفرده فتتوافق الروايات"، قلت: هذا التأويل الذي أشار إليه ابن حجر، هو نص الحديث عند مسلم، وهذا لفظه: حدثنا أحمد بن عبد اله بن يونس حدثنا زهير حدثنا أبو الزير عن جابر قال: اقتتل غلامان غلام من المهاجرين وغلام من الأنصار، فنادى المهاجري أو المهاجرون: يا للمهاجرين، ونادى الأنصاري: يا للأنصار"، الحديث انظر صحيح مسلم 8/ 19 كتاب البر والصلة والآداب مطبعة المشهد الحسني و 4/ 1998من تحقيق فؤاد عبد الباقي الطبعة الثانية، دار إحياء التراث العربي بيروت- لبنان و5/ 444 (بشرح النووي) مطابع الشعب. والحديث أيضا عند أحمد بلفظه عند مسلم 3/ 323. ولعل الرواية التي أشار إليها ابن حجر اطلع عليها في نسخة غير هذه النسخ الموجودة بين أيدينا.

قالوا: يا رسول الله كسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، فقال: "دعوها1 فإنها منتنة 2 "، فسمع بذلك عبد الله بن أبي فقال: فعلوها؟ 3 أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم، فقام عمر فقال: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق4، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "دعه لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه". وكانت الأنصار أكثر من المهاجرين حين قدموا المدينة، ثم إن المهاجرين كثروا بعد. قال سفيان: فحفظته من عمرو، وقال عمرو: "سمعت جابرا كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم"5.

_ 1 دعوها: قال ابن حجر: أي دعوى الجاهلية، وقيل الكسعة، والأول هو المعتمد وأبعد من قال: المراد الكسعة. فتح الباري 6/ 547 و 8/ 649. قلت: وقد ورد عند أحمد "دعوا الكسعة فإنها منتنة" من طريق عمرو بن دينار البصري الأعور المعروف بقهرمان، وهو ضعيف، انظر الحديث في المسند 3/ 385. 2 منتة: أي مذمومة في الشرع، مجتنبة مكروهة، كما يجتنب الشيء النتن، غريب الحديث لابن الأثير 5/ 14 وقال ابن حجر: قبيحة خبيثة وقد ثبت في بعض روايات فتح الباري 8/649. قلت ثبت عند البخاري دعوها فإنها خبيثة)) . انظر: ص 184 من رواية ابن جريج. 3 في رواية ابن جريج عن عمرو بن دينار "أقد تداعوا علينا". انظر: ص 184. 4 وفي رواية ابن جريج فقال عمر: "ألا نقتل يا رسول الله هذا الخبيث" انظر ص 184 وعند ابن إسحاق قال عمر بن الخطاب: مر به عباد بن بشر فليقتله. انظر ص 188 ويمكن الجمع: "بأن عمر بن الخطاب أولا طلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأذن له بقتله فلما لم يأذن له، قال: إن لم تأذن لي بقتله، فمر عباد بن بشر يقتله". 5 البخاري 4/ 146، كتاب المناقب و6/ 128، ومسلم 8/ 19 كتاب البر والصلة والآداب والترمذي 5/ 90 في التفسير، والحميدي 2/ 519 وأحمد 3/ 392.

المبحث الثاني: تعيين الغزوة التي حدثت فيها مقالة ابن أبي

المبحث الثاني: تعيين الغزوة التي حدثت فيها مقالة ابن أبي ورد تعيينها بأنها غزوة بني المصطلق من قول سفيان بن عيينة عند أحمد والإسماعيلي والترمذي ورواية الإسماعيلي والترمذي أصرح في ذلك، وإليك النصوص الواردة في ذلك:

قال أحمد: حدثنا حسين1 بن محمد ثنا سفيان - يعني ابن عيينة - عن عمرو قال: حدثنا جابر بن عبد الله يقول: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة، قال: يرون أنها غزوة بني المصطلق، فكسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين الحديث ... وفيه فبلغ ذلك عبد الله بن أبي فقال: "فعلوها، والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل"2. "رجاله رجال الجماعة". والحديث عند البخاري ومسلم وليس فيه تفسير الغزوة3. عند الإسماعيلي4 في مستخرجه5 من طريق ابن أبي عمر6 وهي زيادة صححة حكمها حكم الصحيح، لأنها خارجة من مخرجه7. عند الترمذي: وهذا نصه: حدثنا ابن أبي عمر أخبرنا سفيان عن عمرو بن دينار سمع جابر بن عبد الله يقول كنا في غزاة 3قال سفيان: أين يرون أنها غزوة بني المصطلق - فكسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار-

_ 1 الحسين بن محمد بن بهرام، التميمي، أبو محمد، المروذي: بفتح الميم وتشديد الراء، وبذال معجمة، نزيل بغداد، ثقة من التاسعة، (ت213) أو بعدها بسنة أو بسنتين، ع. التقريب 1/ 179. 2 مسند أحمد 3/ 392- 393. 3 البخاري 6/ 128 كتاب التفسير (باب قوله: سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم) ومسلم 8/ 19 كتاب البر والصلة والآداب. 4 هو أبو بكر الإمام الحافظ الثبت شيخ الإسلام أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن العباس الإسماعيلي، الجرجاني كبير الشافعية بناحيته، له مستخرج على صحيح البخاري وله معجم كبير، وله غير ذلك، قال الذهبي: "من جملتها مسند عمر رضي الله عنه هذبه في مجلدين طالعته وعلقت منه وابتهرت بحفظ هذا الإمام وجزمت بأن المتأخرين على إياس من أن يلحقوا المتقدمين في الحفظ والمعرفة، (ت371?ـ) " تذكرة الحفاظ للذهبي 3/ 947- 951. 5 فتح الباري 8/ 649. 6 هو محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني، نزيل مكة، صدوق، صنف المسند وكان لازم ابن عيينة، لكن قال أبو حاتم كانت فيه غفلة. من العاشرة (ت243) م ت س ق التقريب 2/ 218. 7 انظر التبصرة والتذكرة للعراقي 1/ 60. وتدريب الراوي للسيوطي، ص 58.

الحديث ... وفيه فسمع ذلك عبد الله بن أبي ابن سلول، فقال: أوقد فعلوها؟ والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ... وفي آخره زيادة على ما في الصحيح وهي: وقال غير عمرو فقال له ابنه عبد الله بن عبد الله:"والله لا تنقلب حتى تقر أنك الذليل ورسول الله صلى الله عليه وسلم العزيز ففعل"1. "هذا حديث حسن صحيح"2. وقد وصف ابن حجر ابن أبي عمر بأنه من رجال السنن، ولكن تابعه حسين بن محمد بن بهرام عند أحمد وهو ثقة، فيكون الحديث صحيحا لغيره. ما أخرجه اببن أبي شيبة عن عروة بن الزبير - رضي الله عنه - أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بني المصطلق لما أتوا المنزل كان بين غلمان من المهاجرين، وغلمان من الأنصار الحديث وفيه فقال ابن أبي: "أما والله لو أنهم لم ينفقوا عليهم انفضوا من حوله، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل".الحديث3. وهو مرسل. وبنحوه عند ابن أبي حاتم من طريق عقيل عن الزهري عن عروة بن الزبير وعمر4 بن ثابت. قال ابن حجر: "وهو مرسل جيد"4. وهكذا ذكر ابن إسحاق عن مشايخه، عاصم بن عمر وعبد الله بن أبي بكر، ومحمد بن يحيى بن حبان بأن قول ابن أبي هذا كان في غزوة بني المصطلق5."

_ 1 ففعل أبي فأقر بأنه الذليل ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو العزيز. 2 الترمذي 5/ 90 كتاب التفسير. 3 الدر المنثور للسيوطي6/ 225. (4) عمر بن ثابت الأنصاري الخزرجي المدني، ثقة من الثالثة، أخطأ من عده في الصحابة، م عم. المصدر السابق 2/ 52 وتهذيب التهذيب 7/ 430 وقد وقع في هذه الرواية عمرو ابن ثابت قال ابن حجر: وهو خطأ نبه عليه النسائي وقال: الصواب عمر بن ثابت. انظر تهذيب التهذيب 8/ 10 والتقريب 2/ 66. 4 فتح الباري 8/ 649. وتفسير ابن كثير 4/ 371. 5 سيرة ابن هشام 2/ 290- 291.

رجاله رجال الجماعة وهو مرسل أيضا". فهذه الأحاديث كلها صريحة في أن هذه الكلمة صدرت من عبد الله بن أبي ابن سلول في غزوة بني المصطلق. صرح الواحدي بأن هذا هو قول أهل التفسير وأصحاب السير1. وبعد أن بينا أن هذه المقالة صدرت من ابن أبي في غزوة بني المصطلق يحسن أن نذكر الأحاديث الدالة على أن هذه المقالة صدرت من عبد الله بن أبي ابن سلول أيضا في غزوة تبوك، ثم نعقب ذلك بالقول الراجح حسب ما يظهر. أ- جاء عند الترمذي والنسائي وهذا سياق الترمذي: حدثنا محمد ابن بشار أخبرنا محمد بن أبي عدي، قال: أنبأنا شعبة عن الحكم بن عتبة قال: سمعت محمد بن كعب القرظي منذ أربعين سنة يحدث عن زيد بن أرقم أن عبد الله بن أبي قال في غزوة تبوك: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فحلف ما قاله، فلامني قومي، فقالوا: ما أردت إلا هذه فأتيت البيت ونمت كئيبا حزينان فأتاني النبي صلى الله عليه وسلم، أو أتيته فقال: "إن الله قد صدقك". قال: فنَزلت هذه الآية: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} ، [سورة المنافقون، من الآية: 7] ، "هذا حديث حسن صحيح"2. وأخرجه النسائي في السنن الكبرى: عم محمد بن بشار بندار عن محمد بن جعفر غندر وابن أبي عدي، كلاهما عن شعبة به3. "وكلا الحديثين رجالهما رجال الجماعة". وهو عند البخاري وأحمد من طريق شعبة عن الحكم به4.

_ 1 أسباب النزول، ص 287. 2 الترمذي 5/ 89، كتاب التفسير. 3 تحفة الأشراف للمزي 3/ 201. 4 البخاري 6/ 127، كتاب التفسير وأحمد 4/ 368.

وليس فيه لفظ: "غزوة تبوك". فهذا الحديث صحيح وهو صريح في صدور هذا القول من عبد الله ابن أبي في غزوة تبوك. ب- قال ابن حجر: "ويؤيده قوله في رواية زهير في "سفر أصاب الناس فيه شدة""1. قلت: رواية زهير المشار إليها هي ما ساقه البخاري: حدثنا عمرو ابن خالد ثنا زهير بن معاوية حدثنا أبو إسحاق قال: سمعت زيد بن أرقم قال: "خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر أصاب الناس فيه شدة"2، فقال عبد الله بن أبي لأصحابه: "لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله". وقال: "لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل"، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبرته، فأرسل إلى عبد الله بن أبي فسأله، فاجتهد يمينه ما فعل، قالوا: كذب زيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوقع في نفسي مما قالوا شدة حتى أنزل الله عز وجل تصديقي في {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} ، [سورة المنافقون، الآية: 1] .

_ 1 فتح الباري 8/ 644. 2 قلت: يجوز أن تكون الشدة هذه حصلت في غزوة بني المصطلق بقلة الزاد والماء الذي كان سببا في صدور هذه المقالة من عبد الله بن أبي كما صرح بذلك أبو سعيد الأزدي في روايته عن زيد بن أرقم قال: "غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان معنا أناس من الأعراب فكنا نبتدر الماء، وكان الأعراب يسبقونا إليه فيسبق الأعرابي فيملأ الحوض ويجعل حوله حجارة، ويجعل النطع عليه حتى يجيء أصحابه"، قال: فأتى رجل من الأنصار أعرابيا فأرخى زمام ناقته لتشرب فأبى أن يدعه، فانتزع قباض الماء فرفع الأعرابي خشبة فضرب بها رأس الأنصاري فشجه، فأتى عبد الله بن أبي رأس المنافقين فأخبره وكان من أصحابه، فغضب عبد الله بن أبي، ثم قال: "لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله" يعني الأعراب، وكانوا يحضرون رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الطعام فقال عبد الله: "إذا انفضوا من عند محمد فأتوا محمدا الطعام"، ثم قال لأصحابه: "لئن رجعنا إلى المدينة فلنخرج الأعز منها الأذل". أخرجه الترمذي 5/ 88 وقال حسن صحيح، والحاكم 2/ 488 وقال صحيح الإسناد وأقره الذهبي.

فدعاهم النبي صلى اله عليه وسلم ليستغفر لهم، فلووا رؤوسهم الحديث1 ... ج- ما رواه ابن أبي حاتم: حدثنا أبو الربيع2 الزهراني، حدثنا حماد3 بن زيد حدثنا أيوب عن سعيد4 ابن جبير "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل منزلا لم يرتحل حتى يصلي فيه، فلما كانت غزوة تبوك بلغه أن عبد الله بن أبي ابن سلول قال: "ليخرجن الأعز منها الأذل"، فارتحل قبل أن ينزل آخر النهار، وقيل لعبد الله بن أبي ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يستغفر لك فأنزل الله تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} - إلى قوله - {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ} [سورة المنافقون، الآيات: 1-5] . قال ابن كثير: "وهذا إسناد صحيح إلى سعيد بن جبير"5. قلت: رجاله رجال الجماعة ما عدا أبا الربيع الزهراني، فأخرج له من عدا الترمذي وابن ماجة. ونسبه ابن حجر لبعد بن حميد وقال: "بإسناد صحيح"6. وهكذا نسبه السيوطي لابن أبي حتم وعبد بن حميد7. وقد أجاب العلماء عن هذه الأحاديث الدالة بأن المقالة المذكورة كانت في غزوة بوك - بما يأتي: قال ابن العربي: "اختلفت الرواة في هذا الحديث فروى محمد بن كعب

_ 1 البخاري 6/ 127، كتاب التفسير ومسلم 8/ 119، كتاب صفات المنافقين وأحمد 4/ 373. 2 أبو الربيع الزهراني هو سليمان بن داود العتكي البصري، نزيل بغداد، ثقة، من العاشرة (ت234) ، خ م د س التقريب 1/ 324. 3 حماد بن زيد بن درهم الأزدي الجهضمي، من كبار الثامنة، ثقة ثبت فقيه، (ت179) ، ع: المصدر السابق1/ 197. 4 سعيد بن جبير الأسدي مولاهم، الكوفي، ثقة ثبت فقيه من الثالثة، قتل بين يدي الحجاج سنة 50، ع: المصدر السابق1/ 292. 5 تفسير ابن كثير 4/ 369. 6 فتح الباري 8/ 644. 7 الدر المنثور 6/ 224.

القرظي أن ذلك كان في غزوة تبوك، حسبما ذكره أبو عيسى الترمذي". وروى في الصحيح أنها كانت في غزوة بني المصطلق1، حسن صحيح وهو الصحيح، وإن كان صحح أيو عيسى حديث محمد ابن كعب، لكن صحيح الصحيح ما بيناه2. وقال ابن كثير عقب مرسل سعيد بن جبير المتقدم3، قوله: "إن ذلك كان في غزوة تبوك فيه نظر، بل ليس بجيد، فإن عبد الله بن أبي ابن سلول، لم يكن ممن خرج في غزوة تبوك، بل رجع بطائفة من الجيش، وإنما المشهور عند أصحاب المغازي والسير أن ذلك كان في غزوة المريسيع، وهي غزوة بني المصطلق"4. وقال ابن حجر عقب مرسل سعيد بن جبير نفسه: "والذي عليه أهل المغازي أنها غزوة بني المصطلق5، ويؤيده "أن في حديث جابر بن عبد الله"، وكانت الأنصار أكثر من المهاجرين، حين قدموا المدينة، ثم إن المهاجرين كثروا بعد"6. فهذا مما يؤيد تقدم القصة، ويوضح وهم من قال إنها كانت بتبوك، لأن المهاجرين حينئذ كانوا كثيرا جدا، وقد انضافت إليهم مسلمة الفتح في غزوة تبوك، فكانوا حينئذ أكثر من الأنصار7 اهـ.

_ 1 يريد حديث جابر بن عبد الله المتقدم، ص 175 وما بعدها. 2 عارضة الأحوذي، 12/ 200. والمعنى: أن الترمذي قال عن حديث جابر بن عبد الله بأنه حسن صحيح، والحديث ثابت في الصحيحين، وقال عن حديث محمد بن كعب القرظي، بأنه حسن صحيح كذلك، وحديث محمد بن كعب القرظي عند الترمذي والنسائي. فقال ابن العربي: وإن كان الترمذي قد صحح كلا الحديثين، لكن الصحيح حديث جابر بن عبد الله لأنه ثابت في الصحيحين. 3 انظر ص 181. 4 تفسير ابن كثير 4/ 369. 5 فتح الباري 8/ 644 و650. 6 انظر الحديث ص 175- 176 وما بعدها. 7 المصدر السابق 8/ 677 و650.

ومن خلال هذه الأجوبة والأدلة المتقدمة يكون الأرجح أن هذه المقالة كانت في غزوة بني المصطلق. ويضاف إلى هذا: اتفاق أهل المغازي والسير أن عبد الله بن أبي كان ممن تخلف عن غزوة تبوك ولم يحضرها، ولولا لكان القول بالتعدد أولى من الترجيح.

المبحث الثالث: القضاء على فتنة المنافقين

المبحث الثالث: القضاء على فتنة المنافقين قال البخاري: حدثنا محمد1 أخبرنا مخلد2 بن يزيد أخبرنا ابن جريج3، قال أخبرني عمرو بن دينار، أنه سمع جابرا رضي الله عنه يقول: غزونا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ثاب4 معه ناس من المهاجرين، حتى كثروا، وكان من المهاجرين رجل لعاب5، فكسع أنصاريا، فغضب الأنصاري غضبا شديدا حتى تداعوا وقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "ما بال دعوى الجاهلية"، ثم قال: "ما شأنهم؟ "

_ 1 محمد هنا: المراد به ابن سلام، كما جزم بذلك أبو نعيم في المستخرج، وأبو علي الجياني، انظر فتح الباري 6/ 547، وهدي السارب مقدمة فتح الباري ص 239، وهو محمد بن سلام بن الفرج، السلمي، مولاهم، البيكندي، بكسر الموحدة وسكون التحتانية وفتح الكاف وسكون النون، أبو جعفر، مختلف في لام أبيه والراجح التخفيف، ثقة ثبت من العاشرة (ت227) ، خ: التقريب 2/ 168. 2 مخلد بن يزيد القرشي، الحراني، صدوق له أوهام، من كبار التاسعة (ت193) ، خ م د س ق. المصدر السابق 2/ 235. 3 عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأموي، مولاهم المكي، ثقة، فقيه فاضل، وكان يدلس ويرسل، من السادسة (ت150) أو بعدها، ع. المصدر السابق1/520. 4 ثاب معه: أي اجتمع. 5 رجل لعاب: أي بطال، وقيل كان يلعب بالحراب كما تصنع الحبشة، وهو جهجاه ابن قيس الغفاري، فتح الباري 6/ 546 وسماه ابن إسحاق: جهجاه بن مسعود. وكان جهجاه من المتألبين على عثمان بن عفان وأنه قام إلى عثمان وهو على المنبر فأخذ عصاه وكسرها فما حال عليه الحول حتى أرسل الله في يده الأكلة فمات منها، هكذا نقل ابن حجر في الإصابة 1/ 253.

فأخبر بكسعة المهاجري، الأنصاري، قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "دعوها فإنها خبيثة"، وقال عبد الله ابن أبي ابن سلول: "أقد تداعوا علينا، لئن رجعنا إلى المدينة، ليخرجن الأعز منها الأذل"، فقال عمر: "ألا نقتل يا رسول هذا الخبيث" لعبد الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يتحدث الناس أنه يقتل أصحابه"1. الحديث فيه مخلد بن يزيد، وصف بأن له أوهاما، كما في التقريب2. وفي هدي الساري قال ابن حجر: "وثقه ابن معين وغيره"، وقال أحمد: "لا بأس به"، وكان يهم، وكذا قال الساجي: "وأنكر له أبو داود حديثا وصله". ثم عقب ابن حجر بقوله: "قلت: أخرج له البخاري أحاديث قليلة من روايته عن ابن جريج توبع عليها". وروى له مسلم والباقون سوى الترمذي، انتهى كلام ابن حجر3. قلت: قد ورد الحديث عن جابر بعدة طرق صحاح، وليس فيها مخلد بن يزيد. فزال ما يخشى من أوهامه، وما دام أن الحديث في البخاري فإنه صحيح لاتفاق الأمة على صحة ما فيه، ولعل ما قيل عن مخلد من أوهام لم تكن تضره حين أخرج له البخاري لما نعلم من شدة تحريه ودقة شروطه فيمن يخرج عنهم. وعند مسلم وأحمد من طريق أبي الزبير4 عن جابر "فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ما هذا دعوى أهل الجاهلية"، فقالوا: لا، يا رسول الله إلا أن غلامين اقتتلا فكسع أحدهما الآخر، قال: "فلا بأس ولينصر الرجل

_ 1 البخاري 4/ 146-147، كتاب المناقب، باب ما ينهى من دعوى الجاهلية. 2 / 235. 3 هدي الساري مقدمة فتح الباري، ص 443. 4 أبو الزبير هو: محمد بن مسلم بن تدرس بفتح المثناة وسكون الدال المهملة، وضم الراء الأسدي، مولاهم، أبو الزبير المكي، صدوق إلا أنه يدلس، من الرابعة، (ت126) : ع. التقريب 2/ 207. وقد صرح بالتحديث هنا عن جابر كما هو عند أحمد 3/ 323- 324.

أخاه ظالما أو مظلوما، إن كان ظالما فلينهه فإنه له نصر وإن كان مظلوما فلينصره"1. قال النووي: "أما تسمية النبي صلى الله عليه وسلم ذلك دعوى الجاهلية، فهو كراهة منه لذلك؛ فإنه مما كانت عليه الجاهلية من التعاضد بالقبائل في أمور الدنيا ومتعلقاتها، وكانت الجاهلية تأخذ حقوقها بالعصبات والقبائل، فجاء الإسلام بإبطال ذلك، وفصل القضايا بلأحكام الشرعية، فإذا اعتدى إنسان على آخر حكم القاضي بينهما وألزمه مقتضى عدوانه، كما تقرر من قواعد الإسلام. وأما قوله صلى الله عليه وسلم في آخر هذه القصة "لا بأس" فمعناه لم يحصل من هذه القصة بأس مما كنت خفته، فإنه خاف أن يكون حدث أمر عظيم يوجب فتنة وفسادا، وليس هو عائدا إلى رفع كراهة الدعاء بدعوى الجاهلية2. قال ابن حجر: "يستفاد من قوله "لا بأس" جواز القول المذكور بالقصد المذكور والتفصيل المبين، لا على ما كانوا عليه في الجاهلية من نصرة من يكون من القبيلة مطلقا"3. قلت: كانت هذه الكلمة شعار أهل الجاهلية، وهو نصرة الأخ مطلقا ولو كان يعلم أنه على باطل، فما دام من قبيلته أو من أحلافه فتجب نصرته، فجاء الإسلام فهذب هذه الكلمة وجعل معناها غير ما تعارف عليه أهل الجاهلية، فجعل كف الظالم عن ظلمه نصرا له، ونصره حقيقة إن كان مظلوما حتى يتوصل إلى حقه، وقد تضمن الحديث المتقدم، آنفا بيان هذا المبدأ. وقد ورد عند البخاري ما يزيد هذا المعنى وضوحاً. وهذا نصه: حدثنا محمد بن عبد الرحيم4 ثنا سعيد5 بن سليمان حدثنا

_ 1 مسلم 8/ 19، وأحمد 3/ 323 –324. 2 شرح النووي على مسلم 5/ 444. 3 فتح الباري 8/ 649. 4 محمد بن عبد الرحيم، ابن أبي زهير البغدادي، أبو يحيى البزاز، المعروف بصاعقة، ثقة حافظ، من الحادية عشرة (ت255) ، خ د ت س. التقريب 2/ 185. 5 سعيد بن سليمان الضبي أبو عثمان الواسطي، نزيل بغداد، البزاز، لقبه سعدويه، ثقة حافظ، من كبار العاشرة، (ت225) : ع، المصدر السابق 1/ 298.

هشيم1 أخبرنا عبيد الله2 بن أبي بكر بن أنس عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "انصر أخاك ظالما أو مظلوما"، فقال رجل: يا رسول الله أنصره إذا كان مظلوما، أفرأيت إذا كان ظالما كيف أنصره؟ قال: "تحجزه أو تمنعه من الظلم، فإن ذلك نصره"3. وهكذا قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه الفتنة التي كادت تفكك وحدة المسلمين وتمزق شملهم وتجعلهم شيعا وأحزابا، فتقر بذلك أعين المنافقين وأعداء الدين، لكن الإيمان الذي ربى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه عليه، كان أقوى من مكيدة المنافقين، فما أن سمع المسلمون كلام الرسول صلى الله عليه وسلم بأمرهم بترك دعوى الجاهلية، حتى خمدت الفتنة التي أوقد المنافقون نارها، ثم اتخذ الرسول الكريم التدابير التي تقضي على آثارها وتعيد الإخاء والمودة إلى نفوس المسلمين، كما سيأتي في المبحث التالي.

_ 1 هشيم بالتصغير، ابن بشير بوزن عظيم، ابن القاسم بن دينار السلمي، أبو معاوية ابن أبي خازم، بمعجمتين، الواسطي، ثقة ثبت، كثير التدليس والإرسال الخفاي، من السابعة (ت183) ، ع: المصدر السابق2/ 320. 2 عبيد الله بن أبي بكر بن أنس بن مالك، أبو معاذ، ثقة من الرابعة: ع. المصدر السابق1/531. 3 البخاري 9/ 20، كتاب الإكراه.

المبحث الرابع: معالجة آثار الفتنة

المبحث الرابع: معالجة آثار الفتنة قال البخاري: "حدثنا الحميدي1 حدثنا سفيان قال: حفظناه من عمرو بن دينار قال: سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول: كنا في غزاة فكسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين فسمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم. الحديث ... "

_ 1 هو عبد الله بن الزبير بن عيسى القرشي الحميدي المكي، أبو بكر، ثقة حافظ فقيه، أجل أصحاب ابن عيينة، من العاشرة، (ت219) ، وقيل بعدها. قال الحاكم: كان البخاري إذا وجد الحديث عن الحميدي، لا يعدوه إلى غيره / خ مق د ت س فق. التقريب 1/ 415.

وفيه: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق"، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "دعه لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه" 1. قال النووي: "قوله صلى الله عليه وسلم: "دعه لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه"، فيه ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الحلم، وفيه ترك بعض الأمور المختارة والصبر على بعض المفاسد، خوفا من أن تترتب على ذلك مفسدة أعظم منه"، وكان صلى الله عليه وسلم يتألف الناس ويصبر على جفاء الأعراب والمنافقين وغيرهم لتقوى شوكة المسلمين، وتتم دعوة الإسلام، ويتمكن الإيمان من قلوب المؤلفة، ويرغب غيرهم في الإسلام، وكان يعطيهم الأموال الجزيلة لذلك، ولم يقتل المنافقين لهذا المعنى، ولإظهارهم الإسلام، وقد أمر بالحكم بالظاهر، والله يتولى السرائر، ولأنهم كانوا معدودين في أصحابه صلى الله عليه وسلم، ويجاهدون معه، إما حمية وإما لطلب دنيا أو عصبية لمن معه من عشائرهم2. وقال ابن العربي: "قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه" هو إخبار عن وجه المصلحة في الإمساك عن قتلهم، لما يرجى من تأليف الكلمة بالعفو عنه، والاستدراك لما فاتهم في المستقبل من أمرهم توقعا لسوء الأحدوثة المنفرة عن القبول للنبي صلى الله عليه وسلم والإقبال عليه"3. وعند ابن إسحاق من طريق عاصم بم عمر بن قتادة وعبد الله بن أبي بكرن ومحمد بن حبان، قال: كل قد حدثني حديث بني المصطلق وساق الحديث بتفاصيل الغزوة وفيه "فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك

_ 1 البخاري 6/ 128، كتاب التفسير، باب قوله: يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، ومسند الحميدي 2/ 519. 2 شرح صحيح مسلم للنووي 5/ 445. 3 عارضة الأحوذي شرح جامع الترمذي 12/ 204 وانظر شرح ثلاثيات مسند أحمد لمحمد السفارني 2/ 412- 413.

الماء1 وردت واردة الناس، ومع عمر بن لخطاب أجير له، من بني غفار يقال له جهجاه بن مسعود يقود فرسه، فازدحم جهجاه وسنان بن وبر الجهني حليف بني عوف بن الخزرج على الماء، فاقتتلا، فصرخ الجهني: يا معشر2 الأنصار، وصرخ جهجاه: يا معشر المهاجرين، فغضب عبد الله بن أبي ابن سلول، وعنده رهط من قومه، فيهم: زيد بن أرقم غلام حدث، فقال: "أو قد فعلوها؟ قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا، والله ما أعدنا وجلابيب3 قريش إلا كما قال الأول4:سمن كلبك يأكلك، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل"، ثم أقبل على من حضره من قومه، فقال لهم: "هذا ما فعلتم بأنفسكم أحللتموه بلادكم، وقاسمتموه أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم"، فسمع ذلك زيد بن أرقم فمشى به إلى رسول صلى الله عليه وسلم، وذلك عند فراغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من عدوه، فأخبره، وعنده عمر بن الخطاب، فقال: "مر به عباد بن بشر فليقتله"، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه، لا"، ولكن أذن بالرحيل، وذلك ساعة لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتحل فيها، فارتحل الناس، وقد مشى عبد الله5 بن أبي بن سلول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين بلغه أن

_ 1 هو ماء المريسيع. 2 معشر: كمسكن: الجماعة وأهل الرجل. القاموس المحيط 2/ 90. 3 جلابيب: لقب لمن أسلم من المهاجرين، لقبهم بذلك المشركون، وأصل الجلابيب: الأزر الغلاظ، كانوا يلتحفون بها، فلقبوهم بذلك. 4 كما قال الأول: سمن كلبك يأكلك، وعند الطبري كما قال القائل، وهو مثل من أمثال عرب، وأول من قاله: حازم بن المنذر الحماني، وذلك أنه مر بمحلة همدان فوجد غلاما ملفوفا في ثوب، فرحمه وحمله معه وقدم به منزله وأمر أمة له أن ترضعه حتى كبر وراهق الحلم، فجعله راعيا لغنمه وسماه جحيشا، وكان لحازم ابنة يقال لها: راعوم فهويت الغلام وهويها وانتبه حازم لهذا فترصد لهم حتى عرف الحقيقة ووجدهم على الفاحشة، فقال: سمن كلبك يأكلك، فأرسلها مثلا وشد على جحيش ليقتله ففر ولحق بقبيلته، انظر مجمع الأمثال للميداني 1/ 333. ورقم المثل (1787) . 5 قال القسطلاني في إرشاد الساري شرح البخاري 7/ 257، دار الكتاب العربي، بيروت، عبد الله بن أبي ابن سلول برفع ابن لأنه صفة لعبد الله، لا لأبي وسلول غير منصرف للتأنيث والعلمية، لأنها أمه.

زيد بن أرقم قد بلغه ما سمع منه، فحلف بالله: ما قلت ما قال: ولا تكلمت به - وكان شريفا عظيما - فقال من حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار من أصحابه: "يا رسول الله عسى أن يكون الغلام قد أوهم في حديثه، ولم يحفظ ما قال الرجل"، حدبا1 على ابن أبي ابن سلول، ودفعا عنه، فلما استقل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسار لقيه أسيد بن حضير، فحياه بتحية النبوة وسلم عليه، ثم قال: "يا نبي الله، والله لقد رحت في ساعة مبكرة، ما كنت تروح في مثلها"، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أو ما بلغك ما قال صاحبكم؟ " قال: وأي صاحب يا رسول الله؟ قال: "عبد الله بن أبي"، قال: وما قال؟ قال: "زعم أنه إن رجع إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل"، قال: فأنت يا رسول الله، والله تخرجه منها إن شئت، هو والله الذليل، وأنت العزيز، ثم قال: "يا رسول الله ارفق به2، فوالله لقد جاءنا الله بك وإن قومه ينظمون له الخرز ليتوجوه، فإنه ليرى أنك قد استلبته ملكا". ثم مشى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس يومهم ذلك حتى أمسى، وليلتهم حتى أصبح وصدر يومهم ذلك حتى آذنهم الشمس، ثم نزل بالناس، فلم يلبثوا أن وجدوا مس الأرض فوقعوا نياما، وإنما فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشغل الناس عن الحديث الذي كان بالأمس، من حديث عبد الله بن أبي، إلى أن قال: "وجعل بعد ذلك إذا أحدث الحدث كان قومه هم الذين يعاتبونه، ويأخذونه ويعنفونه"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب حين بلغه ذلك من شانهم: "كيف ترى يا عمر، أما والله لو قتلته يوم قلت لي اقتله، لأرعدت 3 له آنف لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته". قال: قال عمر: "قد والله علمت لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم بركة من أمري"4.

_ 1 حدبا على ابن أبي: أي عطفا عليه. 2 هذه الكلمة قالها أيضا سعد بن عبادة عندما عاده رسول الله صلى الله عليه وسلم. انظر ص 152 مما تقدم. 3 لأرعدت له آنف: أي انتفخت واضطربت أنوفهم حمية وعصبية. 4 سيرم ابن هشام 2/ 290- 293.

"الحديث رجاله ثقات، ولكنه مرسل". وأورده ابن جرير الطبري من هذه الطريق نفسها1. وله شاهد عند ابن أبي حاتم من مرسل عروة بن الزبير، وعمر بن ثابت الأنصاري. وهو مرسل جيد كما قال ابن حجر2. وهو أيضا عند ابن أبي شيبة من مرسل عروة وحده3. وأصله في الصحيحين من حديث زيد بن أرقم وجابر بن عبد الله4. وبهذا يكون الحديث حسنا لغيره. والحكمة ظاهرة من أمره صلى الله عليه وسلم بالرحيل في وقت غير معتاد، وهي أن ترك مثل هذا الخبر ينتشر في الجيش يسبب بلبلة في الأفكار، ويثير القيل والقال مما ويصرف أذهان الجند الإسلامي إلى مهاترات كلامية، لا تحمد عقباها، فكانت مسيرة الجيش المتصلة ليلا ونهارا، مما أجهدهم، حتى وقعوا نياما، فمسح النوم العميق بعد النصب الشديد آثار الفتنة. وهذا منهج في سياسة الأمور ينبغي أن يسلكه القادة الراشدون في كل زمان ومكان.

_ 1 تاريخ الطبري2/ 605. 2 فتح الباري 8/ 649، وانظر تفسير ابن كثير 4/ 371. 3 الدر المنثور للسيوطي 6/ 225. 4 انظر ص 171- 174 وما بعدها.

المبحث الخامس: موقف عبد الله بن عبد الله بن أبي من أبيه

المبحث الخامس: موقف عبد الله بن عبد الله بن أبي من أبيه 1- ما رواه ابن إسحاق قال: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة: أن عبد الله أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا رسول الله إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبي فيما بلغنك عنه، فإن كنت لابد فاعلا فمرني به، فأنا

أحمل إليك رأسه، فوالله لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبر بوالده مني، وإني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبي يمشي في الناس فأقتله، فأقتل مؤمنا بكافر، فأدخل النار"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بل نترفق به، ونحسن صحبته ما بقي معنا". وجعل بعد ذلك إذا أحدث الحدث كان قومه هم الذين يعاتبونه ويأخذونه، ويعنفونه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب حين بلغه من شانهم: "كيف ترى يا عمر، أما والله لو قتلته يوم قلت لي اقتله، لأرعدت له آنف، لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته". قال: قال عمر: "قد والله علمت لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم بركة من أمري"1. ومن طريقه رواه ابن جرير الطبري وابن كثير2. 2- ما رواه الحميدي: حدثنا سفيان3 قال: ثنا أبو4 هارون المدني قال: قال عبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول لأبيه: "والله لا تدخل المدينة أبدا حتى تقول رسول الله صلى الله عليه وسلم الأعز وأنا الأذل"، قال: وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا رسول الله، إنه بلغني أنك تريد أن تقتل أبي، فوالذي بعثك بالحق ما تأملت وجهه قط هيبة له، وإن شئت أن آتيك برأسه، أتيتك، فإني أكره أن أرى قاتل أبي"5. 3- ورواه الطبراني من طريق عروة بن الزبير ولفظه: أن عبد الله ابن عبد الله بن أبي استأذن النبي صلى الله عليه وسلم أن يقتل أباه،

_ 1 سيرة ابن هشام 2/ 292- 293. 2 تفسير الطبري 28/ 116، والتاريخ 2/ 608، وتفسير ابن كثير 4/ 372، والبداية والنهاية 4/ 158. 3 هو ابن عيينة وذلك لأن الحميدي كان رئيس أصحاب ابن عيينة، انظر تهذيب التهذيب 5/ 215. 4 هو موسى بن أبي عيسى الحناط، بمهملة ونون ثقيلة آخره مهملة الغفاري، أبو هارون المدني، مشهور بكنيته واسم أبيه ميسرة، ثقة، من السادسة/ خت م د ق. التقريب 2/ 287. 5 مسند الحميدي 2/ 520، وتفسير ابن كثير 4/ 372.

قال: "لا تقتل أباك"1. قال الهيثمي: "رجاله رجال الصحيح"، إلا أن عروة بن الزبير لم يدرك عبد الله بن عبد الله بن أبي. قلت: وذلك لأن عبد الله بن عبد الله بن أبي، قتل في خلافة أبي بكر الصديق سنة اثنتي عشرة، كما ذكر ذلك ابن سعد وابن الأثير وابن حجر2. وكانت ولادة عروة في خلافة عمر بن الخطاب3. فتكون ولادته بعد وفاة عبد الله. 4- ورواه البزار من حديث أبي هريرة ولفظه: قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعبد الله بن أبي وهو في ظل أطم4، فقال، عبر علينا ابن أبي كبشة5، فقال: ابنه عبد الله بن عبد الله: يا رسول الله، والذي أكرمك، لئن شئت أتيتك برأسه، فقال: "لا، ولكن بر أباك وأحسن صحبته" 6. قال الهيثمي: "رجاله ثقات". 5- ما أورده ابن كثير بقوله: وذكر عكرمة7 وابن زيد8 وغيرهما أن

_ 1 مجمع الزوائد 9/ 318. 2 انظر طبقات ابن سعد 3/ 542، وأسد الغابة 3/ 298، والإصابة 2/ 336. 3 انظر تهذيب التهذيب 7/ 183- 184. والتقريب 2/ 19. 4 الأطم: بالضم: بناء مرتفع، وجمعه آطام، النهاية في غريب الحديث لابن الأثير1/54. 5 ابن أبي كبشة: يريد به النبي صلى الله عليه وسلم قال ابن حجر: "قال ابن قتيبة والخطابي والدارقطني: هو رجل من خزاعة خالف قريشا في عبادة الأوثان فعبد الشعرى فنسبوا النبي صلى الله عليه وسلم إليه للاشتراك في مطلق المخالفة"، ثم قال ابن حجر: "وكذا قاله ابن الزبير قال: واسم هذا الرجل: وجز بن عامر بن غالب وقيل غير ذلك". وقد ورد في حديث أبي سفيان عند هرقل لما سأله عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو سفيان لما خرجوا من عند هرقل وسمع منه تعظيمه لأمر النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لقد أمر أمر ابن أبي كبشة". انظر صحيح البخاري 1/6- 7 (باب كيف كان بدء الوحي) ، وفتح الباري 1/ 40. 6 مجمع الزوائد 9/ 318. 7 عكرمة بن عبد الله، مولى ابن عباس، أصله بربري، ثقة ثبت، عالم بالتفسير، لم يثبت تكذيبه عن ابن عمر، ولا يثبت عنه بدعة، من الثالثة، (ت107) وقيل بعدها/ ع. التقريب 2/ 30. 8 هو محمد بن يزيد بن المهاجر بن قنفذ، بضم القاف والفاء بينهما نون ساكنة وآخره ذال عجمة، التيمي، المدني، ثقة، من الخامسة/م عم. المصدر السابق2/ 162.

الناس لما قفلوا راجعين على المدينة وقف عبد الله بن عبد الله هذا على باب المدينة واستل سيفه فجعل الناس يمرون عليه، فلما جاء أبو عبد الله ابن أبي، قال له ابنه وراءك؟ فقال مالك ويلك؟ فقال: "والله لا تجوز من ههنا حتى يأذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه العزيز وأنت الذليل"، قلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان إنما يسير ساقة فشكا إليه عبد الله بن أبي ابنه، فقال ابنه عبد الله: "والله يا رسول الله لا يدخلها حتى تأذن له"، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أما إذا أذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجز الآن"1. قلت: وهو منقطع أيضا وذلك لما تقدم من أن وفاة عبد الله بن عبد الله بن أبي، كانت سنة اثنتي عشرة، وعكرمة أقل ما قيل في وفاته أنها سنة (104) وكان عمره ثمانين سنة، فتكون ولادته سنة أربع وعشرين بعد وفاة عبد الله باثنتي عشرة سنة2، وبهذا تكون الأحاديث الأربعة منقطعة، ولكن بمجموعها يؤيد بعضها بعضا وترتقي إلى درجة الحسن لغيره. ويقويها ما رواه الترمذي: حدثنا ابن أبي عمر أخبرنا سفيان عن عمرو بن دينار سمع جابر بن عبد الله يقول: "كنا في غزاة قال سفيان يرون أنها غزوة بني المصطلق فكسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، فقال المهاجري: يا للمهاجرين، وقال الأنصاري: يا للأنصار". الحديث ... وفي آخره، وقال غير عمرو فقال له ابنه عبد الله بن عبد الله: والله لا تنقلب حتى تقر أنك الذليل، ورسول الله صلى الله عليه وسلم العزيز ففعل. "هذا حديث حسن صحيح"3. والحديث أخرجه الشيخان دون هذه الزيادة، وقد تقدم4. ومجموع هذه الروايات المختلفة يبرز لنا موقفا صلبا قويا من مواقف العقيدة الإسلامية إذا

_ 1 تفسير ابن كثير 4/ 372، وتاريخه 4/ 158. 2 انظر تهذيب التهذيب 7/ 271. 3 الترمذي 5/ 90، كتاب التفسير. 4 انظر ص 175، وما بعدها.

تمكنت من قلب المسلم ورسخت فيه، ذلك لأن بناء الشخصية الإسلامية على هذه العقيدة يخرج للبشرية نمطا فريدا من الناس يتحدون جميع الروابط والأواصر التي عهدها البشر في أعرافهم وتقاليدهم ومذاهبهم الاجتماعية، وتكون الآصرة الوحيدة في حياة المسلم هي آصرة العقيدة وحدها، ومن هنا نفهم ما ورد في التاريخ الإسلامي من رسوخ المسلم وثباته في وجه أبيه وأخيه الكافرين ولو أدى به ذلك إلى قتلهما، لأن أغلى شيء يملكه المسلم هو عقيدته، فإذا وقف في سبيل الدعوة إليها عرف اجتماعي أو رابطة قبلية أو مذاهب تقليدية، تحداها المسلم بعزم وإصرار. ومن ذلك هذا الموقف المشرف الذي وقفه عبد الله بن عبد الله بن أبي من أبيه عبد الله بن أبي ابن سلول، حتى وصل به الأمر إلى مراودة الرسول صلى الله عليه وسلم واستئذانه في قتله إن كان يحب ذلك. وليس في الدنيا مذهب يخلق هذا النوع الفريد من التفاني في سبيل المبدأ أو العقيدة وتلك معجزة عقيدة الإسلام التي يفتقر إليها الناس في كل زمان ومكان، وهي وحدها الكفيلة بسعادة البشرية ووحدتها وقوتها فما أحوجها إلى مثل هذا الغرس الطيب لينشأ جيل فريد في تصوره الإسلامي، وسلوكه العملي في واقع الحياة، لانتشال شباب الأمة الإسلامية من وهده الضلال إلى قمة العقيدة الإسلامية واستعلائها. {وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ، [سورة آل عمران، من الآية: 139] . ويدل لهذا قوله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ، [سورة المجادلة، الآية: 22] . قال ابن كثير: "قوله {وَلَو كَانُوا آبَاءَهم} نزلت في أبي عبيدة قتل أباه يوم بدر. {أَوْ أَبْنَاءَهَم} نزلت في أبي بكر الصديق هم صلى الله عليه وسلم يومئذ بقتل ابنه عبد الرحمن،

{أَوْ إِخْوَانَهُم} في مصعب بن عمير قتل أخاه عبيد بن عمير يومئذ، {أَوْ عَشِيْرَتَهُم} في عمر بن الخطاب قتل قريبا له يومئذ. وفي حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث قتلوا: عقبة وشيبة والوليد بن عتبة يومئذ وهو من عشيرتهم"1.

_ 1 تفسير ابن كثير 4/ 329.

المبحث السادس: هبوب العاصفة في طريق العودة من المريسيع

المبحث السادس: هبوب العاصفة في طريق العودة من المريسيع ذكر ابن إسحاق في حديثه الطويل الذي يرويه عن مشايخه: عاصم ابن عمر بن قتادة وعبد الله بن أبي بكر، ومحمد بن يحيى بن حبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قفل من غزوة بني المصطلق سلك بالناس طريق الحجاز، حتى نزل على ماء بالحجاز فويق النقيع1 يقال له: نقعاء، فلما راح رسول الله صلى الله عليه وسلم هبت ريح شديدة آذتهم، وتخوفوها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تخافوها فإنما هبت لموت عظيم من عظماء الكفار"، فلما قدموا المدينة، وجدوا رفاعة بن زيد ابن التابوت أحد بني قينقاع، وكان عظيما من عظماء يهود، وكهفا للمنافقين، مات في ذلك اليوم، الحديث2 ... والحديث عند ابن جرير الطبري من هذه الطريق3. وكذا أورده ابن كثير من هذه الطريق أيضا، وزاد: وهكذا ذكر موسى بن عقبة والواقدي، ثم قال:

_ 1 النقيع من ديار مزينة، وكان طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بني المصطلق، ونقعاء: موضع فوق النقيع، وبين النقيع والمدينة عشرون فرسخا، معجم البلدان لياقوت 5/ 299 و301. قلت: وهو يقدر ب 100 كيلومتر لأن الفرسخ يعادل خمس كيلوات. انظر نسب حرب ص 389. 2 سيرة ابن هشام 2/ 292. 3 تفسير الطبري 28/ 115- 116، وتاريخه 2/ 604- 607.

وروى مسلم من طريق الأعمش عن أبي سفيان1 عن جابر، نحو هذه القصة، إلا أنه لم يسم الذي مات من المنافقين، قال: هبت ريح شديدة، والنبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، فقال: "هذه لموت منافق"، فلما قدمنا المدينة إذا هو قد مات عظيم من عظماء المنافقين. انتهى2. قلت: حديث مسلم المشار إليه هو: حدثني أبو كريب3 محمد بن العلاء حدثنا حفص4 (يعني بن غياث) عن الأعمش5، عن أبي سفيان، عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم من سفر فلما كان قرب المدينة هاجت ريح شديدة تكاد أن تدفن الراكب فزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بعثت هذه الريح لموت منافق"، فلما قدم المدينة، فإذا منافق عظيم من المنافقين قد مات6. وأورده عبد بن حميد من هذه الطريق وسمى المنافق رافع بن التابوت وهذا نصه: حدثنا إبراهيم7 بن الأشعث، ثنا فضيل8 بن عياض عن سليمان9، عن أبي سفيان، عن جابر - رضي الله عنه - "كنا مع النبي صلى الله

_ 1 أبو سفيان: هو طلحة بن نافع، أبو سفيان الإسكاف، نزيل مكة، صدوق من الرابعة /ع. تقريب التذيب 1/ 380. 2 البداية والنهاية 4/ 158. 3 تقدمت ترجمته. 4 حفص بن غياث بمعجمة مكسورة، وياء ومثلثة، ابن طلق بن معاوية النغعي، أبو عمر الكوفي، القاضي، ثقة فقيه، تغير حفظه قليلا في الآخر، من الثامنة، (ت194) / ع. التقريب 1/ 189. 5 سليمان بن مهران الأسدي الكاهلي، أبو محمد الكوفي، الأعمش، ثقة حافظ، عارف بالقراءة ورع، لكنه يدلس، من الخامسة، (ت147أو148) /ع. المصدر السابق1/ 331. 6 مسلم 8/ 124، كتاب صفة المنافقين. 7 إبراهيم بن الأشعث خادم الفضيل، وثقه ابن حبان، والحاكم وضعفه أبو حاتم: لسان الميزان 1/ 36. 8 فضيل بن عياض بن مسعود أبو علي الزاهد المشهور، أصله من خراسان وسكن مكة ثقة، عابد إمام ن من الثامنة، (ت187) وقيل قبلها/ خ م د ت س. المصدر السابق 2/ 113. 9 سليمان: هو الأعمش.

عليه وسلم في سفر، فهاجت ريح تكاد تدفن الراكب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هبت هذه الريح لموت منافق"، فلما رجعنا إلى المدينة وجدنا مات في ذلك اليوم منافق عظيم النفاق، فسمعت بعد يقولون هو رافع بن التابوت1. وأورده أحمد من ثلاث طرق: 1- من طريق الأعمش عن أبي سفيان عن جابر. 2 و 3- ومن طريق ابن لهيعة، عن أبي الزبير، عن جابر، وبين في طريق ابن لهيعة جهة السفر الذي عصفت فيه الريح. وهذا نص الحديث: حدثنا حسن2، ثنا ابن لهيعة، ثنا أبو الزبير، عن جابر أنهم غزوا فيما بين مكة والمدينة، فهاجت عليهم ريح شديدة حتى دفعت الرجال، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا لموت المنافق"، فرجعنا إلى المدينة فوجدنا منافقا عظيم النفاق قد مات3. وأورده الواقدي من ثلاث طرق أيضاً: أ- من طريق جابر بن عبد الله وهذا نصه: حدثني خارجة بن الحارث، عن عباس4 بن سهل، عن جابر بن عبد الله قال: كانت الريح يومئذ أشد ما كانت قط، إلى أن زالت الشمس، ثم سكنت آخر النهار، قال جابر: فسألت حين قدمت قبل أن أدخل بيتي، من مات؟ فقالوا: زيد بن رفاعة بن التابوت. وذكر أهل المدينة أنهم وجدوا مثل ذلك من شدة الريح حتى دفن عدو الله فسكنت الريح5.

_ 1 مسند عبد بن حميد 2/ 135 ق. أ. 2 الحسن بن موسى الأشيب بمعجمة، ثم تحتانية أبو علي البغدادي، قاضي الموصل وغيرها، ثقة من التاسعة، (ت209) /ع. التقريب 1/ 171. 3 مسند أحمد 3/ 315 و 341 و 346. 4 عباس بن سهل بن سعد الساعدي، ثقة، من الرابعة، (ت120) ، وقيل قبل ذلك / خ م د ت ق. التقريب 1/ 397. 5 مغازي الواقدي 2/ 423.

ب- من حديث رافع بن خديج: حدثني عبيد الله1 بن الهرير عن أبيه2، عن رافع بن خديج، قال: لما رجعنا من المريسيع قبل الزوال كان الجهد بيننا يومنا وليلتنا الحديث طويل وفيه "ثم راح رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس مبرداً، فنزل من الغد ماء يقال له نقعاء فوق النقيع، وسرح الناس ظهرهم، فأخذتهم ريح شديدة حتى أشفق الناس منها، وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وخافوا أن يكون عيينة بن حصن خالف إلى المدينة، وقالوا: لم تهج هذه الريح إلا من حدث وإنما بالمدينة الذراري والصبيان، وكانت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين عيينة بن حصن مدة، فكان ذلك حين انقضائها، فدخلهم أشد الخوف، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خوفهم، فقال: "ليس عليكم بأس منها، ما بالمدينة من نقب 3 إلا عليه ملك يحرسه، وما كان ليدخلها عدو حتى تأتوها، ولكنه مات اليوم منافق عظيم النفاق بالمدينة، فلذلك عصفت الريح، وكان موته للمنافقين غيظا شديدا"، وهو زيد بن رفاعة بن التابوت، مات ذلك اليوم4. ج- ومن حديث عبادة بن الصامت: حدثني عبد الحميد5 بن جعفر

_ 1 عبيد الله بن الهرير بن عبد الرحمن بن رافع بن خديج الأنصاري، الحارثي، المدني، مستور، من السابعة، /د. التقريب 1/ 540.وفي تهذيب التهذيب 7/ 54 روى عن أبيه وعمرو بن عبيد الله بن حنظلة، وعنه ابن أبي فديك والواقدي، قال البخاري: حديثه ليس بالمشهور، وذكره ابن حبان في الثقات. وفي ميزان الاعتدال: 3/ 16- 17، ما رأيت من وثقه. 2 هرير مصغرا ابن عبد الرحمن بن رافع بن خديج الأنصاري المدني، مقبول من الخامسة، /د. المصدر السابق 2/ 317، وفي تهذيب التهذيب 11/ 29، وثقه ابن معين وابن حبان، وقال الأزدي يتكلمون في حديثه. 3 النقب: الطريق بين جبلين. غريب الحديث لابن الأثير 5/ 102. 4 مغازي الواقدي 2/ 422. 5 عبد الحميد بن جعفر بن عبد الله بن الحكم بن رافع الأنصاري، صدوق رمي بالقدر، وربما وهم، من السادسة، (ت153) ، /خت م عم. التقريب 1/ 467.

عن أبيه1 قال: قال عبادة بن الصامت2 يومئذ لابن أبي: "أبا حباب3، مات خليلك! ". قال: "أي أخلائي؟ " قال: "من موته فتح للإسلام وأهله"، قال: "من؟ " قال: "زيد بن رفاعة ابن التابوت". قال: "يا ويلاه، كان والله وكان! " فجعل يذكر4، فقلت: "اعتصمت بالذنب الأبتر"5، قال: "من أخبرك يا أبا الوليد بموته؟ " قلت: "رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرنا الساعة أنه مات هذه الساعة"، قال: "فأسقط في يديه وانصرف كئيبا حزينا"، قالوا: "وسكنت الريح آخر النهار، فجمع الناس ظهورهم"6. مناقشة الأحاديث: حديث ابن إسحاق مرسل ورجاله ثقات.

_ 1 هو جعفر بن عبد الله بن الحكم الأنصاري والد عبد الحميد، ثقة، من الثالثة/ بخ م عم. التقريب 1/ 131. 2 عبادة بن الصامت بن قيس الأنصاري، الخزرجي أبو الوليد المدني، أحد النقباء، بدري مشهور، مات بالرملة سنة 34 وله 72 سنة، وقيل عاش إلى خلافة معاوية /ع. المصدر السابق 1/ 395. 3 أبو حباب: كنية عبد الله بن أبي ابن سلول، بابنه عبد الله بن عبد الله، كان اسمه حبابا فكان يكتني به، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله، وكان من خيرة الصحابة، انظر الاستعياب لابن عبد البر 2/ 335، والإصابة لابن حجر 2/ 335- 336. وأسد الغابة لابن الأثير 3/ 296، وقد ورد النهي عن تسمية حباب، فروى ابن سعد بسند مرسل: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول، وكان اسمه حبابا، فقال: "أنت عبد الله، فإن حبابا اسم شيطان"، وأورد أيضا من مرسل عروة بن الزبير وأبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وعامر الشعبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الحباب: شيطان"، انظر طبقات ابن سعد 3/ 541، والبداية والنهاية لابن كثير 6/338. 4 أي يعدد محاسنه. 5 الأبتر: المقطوع، النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 1/ 93. 6 مغازي الواقدي 2/ 423.

وحديث مسلم وعبد بن حميد فيهما الأعمش وأبو سفيان، والأعمش مدلس وقد عنعن1، وقد وضعه ابن حجر في المرتبة الثانية من طبقات المدلسين وهي المرتبة التي احتمل الأئمة تدليسهم. وهذا نص كلامه: "الثانية: من احتمل الأئمة تدليسه وأخرجوا له في الصحيح لإمامته وقلة تدليسه في جنب ما روى، كالثوري، أو كان لا يدلس إلا عن ثقة كابن عيينة"2. وقال النووي في تقريبه: "وما كان في الصحيحين وشبههما عن المدلسين بعن محمول على ثبوت السماع من جهة أخرى"3. وأما أبو سفيان: "فقال أبو خيثمة4 عن ابن عيينة ووكيع عن شعبة: حديث أبي سفيان عن جابر إنما هي صحيفة"، وقال أبو حاتم5: "عن شعبة أيضان لم يسمع أبو سفيان من جابر إلا أربعة أحاديث، وكذا قال علي ابن المديني". قال ابن حجر: "ولم يخرج البخاري له سوى أربعة أحاديث عن جابر وأظنها التي عناها شيخه علي ابن المديني. منها حديثان في الأشربة والثالث في الفضائل حديث اهتز العرش - يعني لموت سعد بن معاذ - مقرونا بأبي صالح6، والرابع في تفسير سورة الجمعة قرنه

_ 1 وقد صرّح الأعمش بالتحديث عند أبي يعلى 2/234. وهذا نصّ الحديث: ثنا ابن نمير - محمّد بن عبد الله - ثنا محاضر - ابن مورع - ثنا الأعمش، ثنا أبو سفيان عن جابر، قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فهاجت ريح تكاد تدفن الراكب. ثم ساق الحديث كسياق مسلم. 2 طبقات المدلسين لابن حجر ص (23) . 3 تقريب النووي ص 14 (تدريب الراوي) انظر فتح المغيث للسخاوي1/ 176. 4 هو زهير بن حرب بن شداد، أبو خيثمة النسائي، نزيل بغداد، ثقة ثبت من العاشرة، (ت234) / خ م د س ق. التقريب 1/ 264. 5 أبو حاتم: هو محمد بن إدريس بن المنذر الحنظلي الرازي أحد الأئمة الأعلام (ت277) ، ومقدمة علل الحديث لابن أبي حاتم 1/ 8. 6 هو ذكوان السمان.

بسالم بن أبي الجعد". انتهى كلام ابن حجر1. وعلى هذا فرواية أبي سفيان عن جابر بطريق الوجادة، وهي مختلف في الاحتجاج بها لأنها من قبيل المنقطع2. ولكن قد تابعه أبو الزبير في جابر بن عبد الله وصرح بإخبار جابر له عند أحمد في مسنده3. وبهذا يكون الحديث قد ورد مرسلا عند ابن إسحاق ورجاله ثقات ووصله مسلم وأحمد وعبد بن حميد والواقدي. فيكون حديث ابن إسحاق عندئذ حسنا لغيره.

_ 1 تهذيب التهذيب 5/ 27، وانظر الأحاديث الأربعة في البخاري 5/ 30، كتاب الفضائل (باب مناقب سعد بن معاذ) و6/ 126 كتاب التفسير و7/ 94، كتاب الأشربة باب شرب اللبن. 2 انظر تقريب النووي 281- 284 (تدريب الراوي) . 3 مسند الإمام أحمد 3/ 346.

الفصل الثالث: إختلاق المنافقين حادثة الإفك

الفصل الثالث: اختلاق المنافقين حادثة الإفك حاك المنافقون في هذه الغزوة حادثة الإفك بعد أن فشل كيدهم في المحاولة الأولى لإثارة النعرة الجاهلية. وقد تضمن حديث مسلم سياق القصة وبيانها أحسن بيان، وهذا نصه: حدثنا حبان1 بن موسى أخبرنا عبد الله بن المبارك أخبرنا يونس2 بن يزيد الأيلي، ح وحدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي ومحمّد ابن رافع وعبد بن حميد، قال ابن رافع: حدثنا، وقال الآخران: أخبرنا عبد الرزاق أخبرنا معمر3، والسياق حديث معمر من رواية عبد وابن رافع، قال يونس ومعمر جميعا عن الزهري: أخبرني سعيد4 بن المسيب وعروة بن الزبير وعلقمة5 بن وقاص

_ 1 حبان بكسر المهملة بعدها موحدة، ابن موسى بن سوار: بفتح السين المهملة بعدها واو ثقيلة مفتوحة، السلمي، أبو محمد المروزي، ثقة من العاشرة، (ت233) / خ م ت س. التقريب 1/ 147. 2 يونس بن يزيد بن أبي النجاد الأيلي، بفتح الهمزة وسكون التحتانية بعدها لام، أبو يزيد مولى آل أبي سفيان، ثقة إلا أن في روايته عن الزهري وهما قليلا، وفي غير الزهري خطأ، من كبار السابعة (ت159) على الصحيح/ع. المصدر السابق2/386. 3 تقدمت تراجم بقية رجال الإسناد. 4 سعيد بن المسيب بن حزن بفتح الحاء المهملة وسكون الزاي بعدها نون، ابن أبي وهب بن عمرو بن عابد بن عمران بن مخزوم القرشي المخزومي، أحد العلماء الأثبات، الفقهاء الكبار، من كبار الثانية، (ت بعد التسعين/ع. التقريب1/ 305) . 5 علقمة بن وقاص بتشديد القاف الليثي المدني، ثقة ثبت من الثانية، أخطأ من زعم أن له صحبة، وقيل إنه ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، (ت في خلافة عبد الملك) / ع. المصدر السابق 20/ 31.

وعبيد الله1 بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن حديث عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم حين قال لها أهل الإفك ما قالوا، فبرأها الله مما قالوا. وكلهم حدثني2 طائفة من حديثها، وبعضهم كان أوعى لحديثها من بعض وأثبت اقتصاصا، وقد وعيت عن كل واحد منهم الحديث الذي حدثني، وبعض حديثهم يصدق بعضا، ذكروا أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج سفرا أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معه"، قالت عائشة: "فأقرع بيننا في غزوة غزاها3 فخرج فيها سهمي، فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك بعدما أنزل الحجاب4، فأنا أحمل في هودجي5، وأنزل فيه مسيرنا، حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوه وقفل، ودنونا من المدينة آذن ليلة بالرحيل". سبب تأخر عائشة عن الجيش: فقمت حين آذنوا بالرحيل، فمشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت

_ 1 هو أبو عبد الله المدني، ثقة فقيه، ثبت من الثالثة، (ت94 وقيل 98 وقيل غير ذلك) / ع. المصدر السابق1/ 535. 2 هو من قول الزهري، كما في رواية فليح عن الزهري، قال الزهري: وكلهم حدثني طائفة من حديثها انظر البخاري 3/ 151 كتاب الشهادات (باب تعديل النساء بعضهن بعضا) وتاريخ ابن شبة 1/101 ومسند أبي يعلى 4/ 444. 3 في غزوة غزاها: هي غزوة بني المصطلق كما هو عند ابن إسحاق من رواية عباد ابن عبد الله بن الزبير وعمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة، ومن طريق ابن إسحاق أخرجها ابن جرير الطبري. وعند أبي يعلى من رواية صالح بن كيسان عن الزهري عن عروة وابن المسيب وعلقمة وعبيد الله ولفظه: "قالت عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه، فلما كانت غزوة بني المصطلق أقرع بين نسائه كما كان يصنع فخرج سهمي عليهن فخرج بي رسول الله صلى الله عليه وسلم". انظر سيرة ابن هشام 2/ 297 وتاريخ الطبري 2/ 611 وتفسيره 18/ 93 ومسند أبي يعلى 4/ 450 وانظر فتح الباري 8/ 458، وسيأتي بحث القرعة في الأحكام ص 318. 4 تقدم الكلام على وقت نزول الحجاب ص 94. 5 الهودج: مركب النساء. انظر القاموس المحيط1/ 212. وفي فتح الباري8/ 458. الهودج: بفتح الهاء والدال بينهما واو ساكنة وآخره جيم: محمل له قبة تستر بالثياب ونحوه، يوضع على ظهر البعير يركب فيه النساء ليكون أستر لهن.

من شأني أقبلت إلى الرحيل فلمست صدري فإذا عقدي من جزع1 ظفار قد انقطع، فرجعت فالتمست عقدي، فحبسني اتغاؤه، وأقبل الرهط2 الذين كانوا يرحلون لي فحملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب، وهم يحسبون أني فيه، قالت وكانت النساء إذ ذاك خفاف لم يهبلن3 ولم يغشن4

_ 1 جزع ظفار: بفتح الجيم وسكون الزاي بعدها مهملة، في رواية فليح بن سليمان عن الزهري ((من جزع أظفار)) بزيادة الف انظر البخاري 3/ 152 كتاب الشهادات باب تعديل النساء بعضهن بعضا. ومسند أبي يعلى 4/ 444. قال ابن بطال: الرواية (أظفار) بألف وأهل اللغة لا يعرفونه بألف، ويقولون: (ظفار) وقال القرطبي: "وقع في بعض راوايات مسلم (أظفار) وهي خطأ"، قال ابن حجر: معقبا على هذا قلت: لكنها في أكثر روايات أصحاب الزهري، حتى إن في رواية صالح ابن أبي الأخضر، عند الطبراني "جزع الأظافير" إلى أن قال: وإن ثبتت الرواية "أنه جزع أظفار" فلعل عقدها كان من الظفر أحد أنواع القسط وهو طيب الرائحة يتبخر به، فلعله عمل مثل الخرز، فأطلقت عليه جزعا تشبيها به، ونظمته قلادة إما لحسن لونه، أو لطيب رائحته، وقد حكى ابن التين: أن قيمته كانت اثني عشر درهما وهذا يؤيد أنه ليس جزعا ظفاريا، إذا لو كان كذلك لكانت قيمته أكثر من ذلك انظر فتح الباري 8/ 459. والجزع: هو الخرز اليماني الصيني فيه سواد وبياض تشبع الأعين، وظفار "بوزن قطام وهي مبنية على الكسر، اسم مدينة لحمير باليمن". انظر النهاير في غريب الحديث لابن الأثير 1/ 269 والقاموس المحيط 3/ 12، وشرح مسلم للنووي 5/ 630، وفتح الباري 8/ 459. 2 الرهط من الرجال ما دون العشرة وقيل إلى الأربعين ولا تكون فيهم امرأة، ولا واحد له من لفظه، ويجمع على أرهط وأرهاط وأراهط جمع الجمع. النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 2/ 283. وقال ابن حجر: "لم أعرف منهم هنا أحدا إلا أن في رواية الواقدي أن أحدهم أبو موهوبة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعند البلاذري: شهد أبو مويهبة غزوة المريسيع وكان يقود بعير عائشة، وكان من مولدي مزينة، وكأن الأصل أبو موهوبة ويصغر فيقال: أبو مويهبة". فتح الباري 8/ 459. وانظر مغازي الواقدي 2/ 426 وأنساب الأشراف للبلاذري ص 488. 3 يهبلن: بضم التحتانية وتشديد الموحدة أي لم يكثر عليهن اللحم، يقال هبله اللحم إذا كثر عليه وركب بعضه بعضا. (ابن الأثير: النهاية 5/ 240) . 4 لم يغشهن اللحم: أي لم يغط اللحم بعضه بعضا، النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 5/ 240 و3/ 369 ومختار الصحاح ص 689 و 475. وفي رواية فليح: "لم يثقلن ولم يغشهن اللحم" البخاري 3/ 152 كتاب الشهادات باب تعديل النساء بعضهن بعضا وابن شيبة 1/ 101 وأبي يعلى 4/ 444 وفي رواية الليث عن يونس: "لم يثقلهن اللحم" البخاري 6/ 85 كتاب التفسير وقال ابن أبي جمرة: ليس هذا تكرار لأن كل سمين ثقيل من غير عكس، لأن الهزيل قد يمتلئ بطنه طعاما فيثقل بدنه، فأشارت إلى أن المعنيين لم يكونا في نساء ذلك الزمان. فتح الباري 8/ 459- 460.

اللحم إنما يأكلن العلقة1 من الطعام، فلم يستنكر القوم ثقل2 الهودج حين رحلوه ورفعوه، وكنت جارية حديثة السن، فبعثوا الجمل وساروا، ووجدت عقدي بعد ما استمر الجيش، فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب، فتيممت منزلي الذي كنت فيه، وظننت أن القوم سيفقدوني، فيرجعون إلي فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت، وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني قد عرس3 من وراء الجيش فادلج4، فأصبح عند منزلي، فرأى سواد إنسان نائم، فأتاني، فعرفني حين رآني، وقد كان يراني قبل أن يضرب الحجاب علي، فاستيقظت باسترجاعه5 حين عرفني، فخمرت6 وجهي بجلبابي، ووالله ما يكلمني7 كلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه، حتى أناخ راحلته فوطئ على يدها فركبتها، فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش

_ 1 العلقة: بضم المهملة وسكون اللام من الطعام: أي البلغة منه، النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 3/ 289. 2 في رواية الليث عن يونس "فلم يستنكر القوم خفة الهودج"، البخاري 6/ 85 كتاب التفسير قال ابن حجر: وهو أوضح لأن مرادها إقامة عذرهم في تحميل هودجها وهي ليست فيه، فكأنها تقول: كأنها لخفة جسمها بحيث إن الذين يحملون هودجها لا فرق عندهم بين وجودها فيه وعدمها، ولهذا أردفت ذلك بقولها: وكنت جارية حديثة السن، أي أنها مع نحافتها صغيرة السن فذلك أبلغ في خفتها. فتح الباري 8/460. 3 عرس: التعريس هو نزول المسافر آخر الليل نزلة للنوم والاستراحة. النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 3/ 206. 4 فادلج: بالتشديد سار آخر الليل. المصدر السابق 2/ 129. يقال: أدلج بالتخفيف إذا سار أول اليل، وادلج بالتشديد إذا سار من آخره. 5 باسترجاعه: أي قوله: إنا لله وإنا إليه راجعون. كما صرحت بذلك رواية ابن إسحاق انظر سيرة ابن هشام 2/ 298. 6 فخمرت وجهي: أي غطيته. النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 2/ 77. 7 قال ابن حجر: عبرت بهذه الصيغة إشارة إلى أنه استمر منه ترك المخاطبة لئلا يفهم لو عبرت بصيغة الماضي اختصاص النفي بحال الاستيقاظ، فعبرت بصيغة المضارعة. انظر فتح الباري 8/ 463.

بعد ما نزلوا موغرين1 في نحر الظهيرة2، فهلك من هلك في شأني، وكان الذي تولى كبره عبد الله بن أبي ابن سلول". انتشار الدعاية في المدينة: فقدمنا المدينة، فاشتكيت حين قدمنا المدينة شهرا، والناس يفيضون في قول أهل الإفك ولا أشعر بشيء من ذلك3، وهو يريبني4 في وجعي أني لا أعرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللطف5 الذي كنت أرى منه

_ 1 موغرين: الوغرة: بسكون الغين المعجمة شدة الحر. النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 5/ 208. وكذا فسرها عبد الرزاق بقوله: الوغرة شدة الحر، عندما سأله عبد بن حميد بقوله: ما قوله موغرين، انظر صحيح مسلم 8/ 118، كتاب التوبة وفي رواية فليح بن سليمان "معرسين" بدل موغرين، انظر البخاري 3/ 152 كتاب الشهادات باب تعديل النساء بعضهن بعضا ومسند أبي يعلى 4/ 444 وفي غريب الحديث لابن الأثير 3/ 206 "أن التعريس هو نزول المسافر آخر الليل" ولكن قال ابن زيد: التعريس النزول في السفر في أي وقت كان فيحمل الحديث على هذا، قال ابن حجر: وروى "موغرين: والتغوير النزول في وقت القائلة". انظر فتح الباري 8/ 461 و 464 وفي صحيح مسلم 8/ 118 كتاب التوبة من طريق يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن أبيه عن صالح بن كيسان "موعرين" بعين وراء مهملتين. قال النووي: روايته بالعين ضعيف. شرح مسلم للنووي 5/ 361. لكن قال ابن حجر: بأن رواية يعقوب بن إبراهيم عند مسلم إنما هي "موعزين" بعين مهملة وزاي، قال "ووجهها القرطبي بقوله: كأنه من وعزت إلى فلان بكذا أي تقدمت والأول أولى -يعني موغرين - وصحفه بعضهم بمهملتين وهو غلط". فتح الباري 8/ 263 قلت: الرواية في صحيح مسلم الموجود بأيدينا "موعرين"بعين وراء مهملتين. وقول النووي بأنه ضعيف أولى من قول القرطبي بأنه تصحيف، وذلك أن في القاموس المحيط 2/ 155"وعر صدره لغة في وغر". 2 نحر الظهيرة: أولها وفي القاموس المحيط 2/ 139 نحر النهار والشهر أوله. 3 وفي رواية ابن إسحاق من حديث عباد وعمرة عن عائشة، وقد انتهى الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أبوي ولا يذكرون لي قليلا ولا كثيرا، انظر: سيرة ابن هشام2/299،ومن طريقه أخرجه ابن جرير الطبري في التاريخ2/613. 4 يريبني: يشككني، يقال: رابني الشيء وأرابني بمعنى شككني. النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 2/ 286. 5 في رواية ابن إسحاق "كنت إذا اشتكيت وحمني ولطف بي، فلم يفعل ذلك بي، في شكواي تلك، فأنكرت ذلك منه، كان إذا دخل علي وعندي أمي تمرضني، قال: "كيف تيكم" لا يزيد على ذلك". سيرة ابن هشام 2/ 299.

حين أشتكي، إنما يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيسلم ثم يقول: "كيف تيكم؟ " فذاك يربيني ولا أشعر بالشر حتى خرجت بعدما نقهت1 وخرجت معي أم مسطح قبل المناصع2، وهو متبرزنا، ولا نخرج إلا ليلا إلى ليل، وذلك قبل أن نتخذ الكنف3 قريبا من بيوتنا، وأمرنا أمر العرب الأول في التنزه4 وكنا نتأذى بالكنف5 أن نتخذها عند بيوتنا، فانطلقت أنا وأم مسطح6، وهي بنت أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف، وأمها ابنة صخر بن

_ 1 نقه المريض من باب طرب وخضع إذا برأ وأفاق وكان قريب العهد بالمرض، ولم يرجع إليه كمال صحته وقوته. النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 5/ 111 والقاموس المحيط 4/ 294. ومختار الصحاح ص 678. وعند ابن إسحاق حتى نقهت من وجعي بعد بضع وعشرين ليلة. سيرة ابن هشام 2/ 299. 2 المناصع: المواضع التي يتخلى فيها لقضاء الحاجة واحدها منصع كمقعد. النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 5/ 65 والقاموس المحيط للفيروز آبادي 3/ 89 وفي فتح الباري 1/ 249 "المناصع أماكن معروفة من ناحية البقيع". 3 الكنف: جمع كنيف، المكان الساتر وأرادت به هنا المكان المعد لقضاء الحاجة. القاموس المحيط 3/ 192 ومختار الصحاح ص 580. 4 التّنَزه: البعد لقضاء الحاجة. النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 5/ 43 وعند ابن إسحاق: وكنا قوما عربا لا نتخذ في بيوتنا هذه الكنف التي تتخذها الأعاجم، نعافها ونكرهها، وإنما كنا نذهب في فسح المدينة. سيرة ابن هشام 2/ 299 5 نتأذى: أي نتقذر. 6 قال ابن عبد البر: اسمها سلمى بنت صخر بن عامر بن كعب بن سعد بن تيم وهي ابنة خالة أبي بكر الصديق. وقيل - أم مسطح بنت أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف - وأمها ريطة بنت صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق. والظاهر أنها سلمى بنت أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف، واسم أبي رهم أنيس مكبرا لا سلمى بنت صخر فإن هذا نسب أم أبي بكر الصديق خالة أم مسطح وهي سلمى بنت صخر بن عامر ... الخ ووالدة أم مسطح اسمها ريطة بنت صخر بن عامر بن سعد بن تيم، وقال ابن حجر: رائطة حكاه أبو نعيم. انظر الاستيعاب على هامش الإصابة 3/ 494 وطبقات ابن سعد 8/ 228 و 3/ 53 و 169 وأسد الغابة لابن الأثير 4/ 308 و5/ 156 و7/ 326 و393. وفتح الباري 8/ 465.

عامر خالة أبي بكر الصديق وابنها مسطح1 بن أثاثة بن عباد بن المطلب، فأقبلت أنا وبنت أبي رهم قبل بيتي حين فرغنا2 من شأننا. فعثرت3 أم مسطح في مرطها4 فقالت: "تعس5 مسطح" فقلت لها: "بئس ما قلت أتسبين رجلا قد شهد بدرا"6؟!! قالت: "أي هنتاه7 أولم تسمعي ما قال؟ " قلت: "وماذا قال؟ "

_ 1 مسطح: بمكسور وسكون سين وطاء مهملة- لقب واسمه عوف يكنى أبا عباد وقيل أبا عبد الله، (ت34) في خلافة عثمان، ويقال عاش إلى خلافة علي رضي الله عنه وشهد معه صفين ومات سنة 37، انظر الاستيعاب 3/ 494 وأسد الغابة 4/ 308 و 5/ 156 والإصابة 3/ 408 وفتح الباري 8/ 465. 2 ظاهر هذا الحديث وحديث البخاري من رواية يونس عن الزهري 6/ 85 كتاب التفسير "أن أم مسطح عثرت بعد أن قضت عائشة حاجتها ثم أخبرتها الخبر"، لكن في حديث أبي أسامة عن هشام بن عروة وفيه: "أن أم مسطح عثرت ثلاث مرات في كل مرة تقول لها عائشة: تسبين ابنك وفي الثالثة انتهرتها عائشة، فقالت: "والله ما أسبه إلا فيك"، فقلت: "في أي شأني"، قالت: "فبقرت لي الحديث" فقلت: "وقد كان هذا؟ " قالت:"نعم والله". "فرجعت إلى بيتي كأن الذي خرجت له لا أجد منه قليلا ولا كثيرا" وفي رواية ابن إسحاق "فوالله ما قدرت على أن أقضي حاجتي ورجعت" وفي رواية ابن حاطب عن علقمة بن وقاص "فذهب عني الذي خرجت له حتى ما أجد منه شيئا" انظر البخاري 6/ 89 كتاب التفسير والترمذي 5/ 13 فيه وتفسير الطبري 18/ 93و 95 وسيرة ابن هشام قال ابن حجر: "ويجمع بين الأحاديث بأن معنى قولها: قد فرغنا من شأننا أي المسير، لا من قضاء الحاجة". فتح الباري 8/ 466. 3 فعثرت في مرطها: أي وطئته برجلها فسقطت، والمرط: بكسر الميم واحد المروط وهي أكسية من صوف أو خز، كان يؤتزر بها. مختار الصحاح ص 412و 621. 4 فعثرت في مرطها: أي وطئته برجلها فسقطت، والمرط: بكسر الميم واحد المروط وهي أكسية من صوف أو خز، كان يؤتزر بها. مختار الصحاح ص 412و 621. 5 تعس: يتعس إذا عثر وانكب لوجهه وهو دعاء عليه بالهلاك، غريب الحديث لابن الأثير 1/ 190 وفتح الباري 8/ 466. 6 فيه منقبة عظيمة لمن شهد بدرا، ويزيد ذلك وضوحا قصة حاطب بن أبي بلتعه عندما كتب إلى أهل مكة يخبرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يغزوكم في عام فتح مكة، وكشف أمره واعتذر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مما صنع "وفيها فقال عمر: "يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد شهد بدرا وما يدريك لعل الله اطلع على من شهد بدرا، قال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم". البخاري 5/ 119باب غزوة الفتح. 7 أي هنتاه: وتفتح النون وتسكن وتضم الهاء الآخرة وتسكن ومعناها: يا بلهاء كأنها نسبت إلى قلة المعرفة، بمكايد الناس وشرورهم. صلى الله عليه وسلما النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 5/ 279- 280.

قالت: "فأخبرتني بقول1 أهل الإفك، فازددت مرضا إلى مرضي، فلما رجعت على بيتي فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: "كيف تيكم؟ " قلت: أتأذن لي أن آتي أبوي؟ قالت: وأنا حينئذ أريد أن أتيقن الخبر من قبلهما، فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئت2 أبوي فقلت لأمي: "يا أمتاه ما يتحدث الناس"، فقالت: "يا بنية هوني عليك، فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة3 عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا كثرن4 عليها"، قالت: "قلت: سبحان

_ 1 قال ابن حجر: "طرق الحديث الإفك مجتمعة على أن عائشة بلغها الخبر من أم مسطح لكن وقع عند البخاري في لمغازي من حديث أم رومان ما يخالف هذا ولفظه: "بينا أنا وعائشة إذ ولجت امرأة من الأنصار، فقالت: فعل الله بفلان وفعل، فقالت أم روما: وما ذاك؟ قالت: ابني فيمن حدث الحديث، قالت: وما ذاك؟ قالت: كذا وكذا"، وفي قصة يوسف "قالت: فعل الله بفلان وفعل، قالت: " فقلت لم؟ " قالت:" إنه نمى ذكر الحديث " فقالت عائشة:" أي حديث؟ "فأخبرتها"، قالت: "فسمعه أبو بكر ورسول الله صلى الله عليه وسلم؟ " قالت: "نعم"، فخرت مغشيا عليها"، انظر البخاري كتاب الأنبياء 4/ 120 وكتاب المغازي 5/ 100 قال ابن حجر: "وطريق الجمع: أنها سمعت ذلك أولا من أم مسطح، ثم ذهبت لبيت أمها لتستيقن الخبر منها فأخبرتها أمها بالأمر مجملا بقولها هوني عليك وما أشبه لها ثم دخلت الأنصارية فأخبرتها بمثل ذلك بحضرة أمها فقوي عندها القطع بوقوع ذلك فسألت هل سمعه أبوها وزوجها؟ ترجيا منها أن لا يكون سمعا ذلك، ليكون أسهل عليها، فلما قالت لها أنهما سمعاه غشي عليها، ثم قال ابن حجر: ولم أقف على اسم هذه المرأة الأنصارية ولا على اسم ولدها انظر فتح الباري 8/ 467. 2 في رواية أبي أسامة عن هشام بن عروة "فأرسل معي الغلام، فدخلت الدار فوجدت أم رومان في السفل وأبا بكر فوق البيت يقرأ، فقالت أمي: ما جاء بك يا بنية؟ فأخبرتها وذكرت لها الحديث، وإذا هو لم يبلغ منها مثل ما بلغ مني". البخاري 6/ 89 كتاب التفسير والترمذي 5/ 13 فيه وأحمد 6/ 59 وتفسير الطبري 18/ 93 وهذا لا يعارض رواية بن إسحاق "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل على وعندي أمي تمرضني قال: "كيف تيكم" لا يزيد على ذلك" لأن أمها كانت تمرضها فلما نقهت ذهبت إلى بيتها. سيرة ابن هشام 2/ 299. 3 الوضاءة: الحسن والبهجة. النهاية في غريب الحديث لابن الاثير 195 وفي رواية أبي أسامة عن هشام "لقلما كانت امرأة حسناء عند رجل يحبها لها ضرائر إلا حسدنها" البخاري 6/ 89 كتاب التفسير والترمذي 5/ 13 فيه وأحمد 6/ 59 وتفسير الطبري 18/ 94 وفي رواية ابن حاطب عن علقمة بن وقاص لقل رجل أحب امرأة قط إلا قالوا لها نحو الذي قالوا لك. مسند إسحاق ابن رهويه 4/ 134 وتفسير الطبري 18/ 94/ 95. 4 كثرن عليها: أي القول في عيبها.

الله! وقد تحدث الناس بهذا1؟ " قالت: "فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ2 لي دمع ولا اكتحل بنوم ثم أصبحت أبكي". استشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه عند تأخر نزول الوحي: ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وأسامة ابن زيد حين استلبث3 الوحي يستشيرهما في فراق أهله، قالت: فأما أسامة بن زيد فأشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي يعلم من براءة أهله، وبالذي يعلم من نفسه لهم من الود فقال: "يا رسول الله هم أهلك4 ولا نعلم إلا خيرا"،

_ 1 وفي رواية محمد بن ثور عن معمر عند الطبري في التفسير 18/ 89- 92 "قلت: سبحان الله، أو قد تحدث الناس بهذا، وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: نعم، وفي رواية أبي أسامة عن هشام بن عروة قلت: وقد علم به أبي؟ قالت نعم. قلت: ورسوله الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: "نعم ورسول الله صلى الله عليه وسلم" البخاري 6/ 89 كتاب التفسير والترمذي 5/ 13 وفي وأحمد 6/ 60 وتفسير الطبري 18/ 94. وفي رواية ابن إسحاق "قلت لأمي: يغفر الله لك تحدث الناس بما تحدثوا به ولا تذكرين لي من ذلك شيئا". سيرة ابن هشام 2/ 299. وفي رواية ابن حاطب "ورجعت على أبوي أبي بكر وأم رومان فقلت: أما اتقيتما الله في ووصلتما رحمي، قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال: وتحدث الناس بما تحدثوا به"، مسند إسحاق بن راهويه 4/ 134 وتفسير الطبري 18/ 94- 95. وفي رواية أبي أسامة عن هشامك فاستعبرت فبكيت، فسمع صوتي أبو بكر وهو فوق البيت يقرأ فنزل، فقال لأمي: ما شانها؟ فقالت: بلغها الذي ذكر من أمرها، ففاضت عيناه، فقال: أقسمت عليك يا بنية إلا رجعت إلى بيتك فرجعت. البخاري 6/ 89 كتاب التفسير والترمذي 5/ 13 فيه، وأحمد 6/ 60 وتفسير الطبري 18/ 94. 2 لا يرقأ لي دمع: أي لا ينقطع ولا يسكن، انظر النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 2/ 248. 3 استلبث الوحي: استفعل من اللبث وهو الإبطاء والتأخر النهاية في غريب الحديث لابن الاثير 4/ 224، وفي فتح الباري 8/ 468،: استلبث الوحي بالرفع: طال لبث نزوله، وبالنصب استبطأ النبي صلى الله عليه وسلم نزوله. 4 مبتدأ وخبر، وعند البخاري 6/ 86 كتاب التفسير من رواية الليث عن يونس فقال: "يا رسول الله أهلك" بالنصب على تقدير أمسك أهلك.

وأما علي1 بن أبي طالب فقال: "لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير2، وإن تسأل الجارية تصدقك"، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة فقال: "طأي بريرة هل رأيت من شيء يريبك من عائشة؟ " قالت له بريرة: "والذي بعثك بالحق إن رأيت عليها أمرا أغمصه3 عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن4، فتأكله" قالت: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم علىالمنبر5،فاستعذر6 من عبد الله بن أبي ابن سلول، قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر: "يا معشر المسلمين

_ 1 قال ابن حجر: "وقع بسبب هذا الكلام من علي أن نسبته عائشة إلى الإساءة في شأنها"، فتح الباري 8/ 469 وسيأتي الجواب عن هذا في مواقف بعض الصحابة من حادثة الإفك. انظر ص 261. 2 وعند ابن إسحاق "إن النساء لكثير وإنك لقادر على أن تستخلف" سيرة ابن هشام 2/301. 3 أغمصه عليها: أي أعيبها به وأطعن به عليها،. النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 3/ 386. وفي رواية أبي أسامة عهن هشام "وانتهرها بعض أصحابه فقال: اصدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أسقطوا لها به، فقالت: سبحان الله، والله ما علمت عليها إلا ما يعلم الصائغ على تبر الذهب الأحمر" البخاري 6/ 89 كتاب التفسير والترمذي 5/ 13 فيه وأحمد 6/ 60 وتفسير الطبري 18/ 94. وبينت هذا المبهم في رواية هشام بن عروة "رواية ابن إسحاق" فقام إليها علي بن أبي طالب فضربها ضربا شديدا ويقول: أصدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم سيرة ابن هشام 2/ 301 وفي رواية ابن حاطب "وسأل الجارية الحبشية فقالت: والله لعائشة أطيب من طيب الذهب، وما بها عيب إلا أنها ترقد حتى تدخل الشاة فتأكل عجينها، ولئن كانت صنعت ما قال الناسن ليخبرنك الله"، قال: فعجب الناس من فقهها، مسند إسحاق بن راهويه 4/ 134 وتفسير الطبري 18/ 95. 4 الداجن: هي الشاة التي يعلفها الناس في منازلهم، وقد يقع على غير الشاة من كل ما يألف البيوت من الطير وغيرها، النهاية في غريب الحديث لابن الاثير 2/ 102 قلت: والمراد به هنا الشاة لرواية ابن حاطب التي مر ذكرها، ورواية أبي أسامة عن هشام بن عروة "والله ما علمت عليها عيبا إلا أنها كانت ترقد حتى تدخل الشاة فتأكل خميرها أو عجينها". البخاري 6/ 98 كتاب التفسير ومسلم 8/ 118 كتاب التوبة والترمذي5/ 13كتاب التفسير وأحمد6/60وتفسير الطبري18/94. 5 المنبر: المراد به هنا الذي اتخذ في السنة الثانية، وكان من الطين وأما الذي اتخذ من خشب إنما كان في السنة الثامنة، وغزوة بني المصطلق كانت في الخامسة أو السادسة. السيرة الحلبية 2/ 318. 6 فاستعذر: أي قال: من يقوم بعذري إن كافأته على سوء صنيعه فلا يلومني. النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 3/ 197.

من يعذرني من رجل بلغ أذاه في أهل بيتي1، فوالله2 ما علمت على أهلي إلا خيرا، ولقد ذكروا رجلا3 ما علمت عليه إلا خيرا، وما كان يدخل على أهلي إلا معي"4، فقام سعد ابن معاذ الأنصاري فقال: "أنا أعذرك منه يا رسول الله إن كان من الأوس ضربنا عنقه5، وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك". آثار فتنة الإفك: قالت: فقام سعد6 بن عبادة وهو سيد الخزرج، وكان رجلاً7 صالحا، ولكن اجتهلته8 الحمية، فقال لسعد بن معاذ: "كذبت لعمر الله لا تقتله، ولا

_ 1 في رواية هشام بن عروة "شيروا علي - بلفظ الأمر - في أناس أبنوا أهلي وأيم الله ما علمت على أهلي من سوء، وأبنوهم بمن والله ما علمت عليه من سوء قط". البخاري 6/ 89 كتاب التفسير والترمذي 5/ 13فيه، وأحمد 6/ 59 وتفسير الطبري 18/ 93. والابن: التهمة، كما في النهاية في غريب الحديث لابن الأثير1/ 17 وفي الاعتصام عند البخاري 9/ 92 "ما تشيرون علي في قوم يسبون أهلي" بصيغة الاستفهام. وفي رواية ابن حاطب "كيف ترون فيمن يؤذيني في أهلي، ويجمع في بيته من يؤذيني", انظر مسند إسحاق بن راهويه 4/ 134 وتفسير الطبري 18/ 95. 2 في رواية فليح بن سليمان عند أبي يعلى 4/ 444 "فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا" ثلاث مرات. 3 هو صفوان بن معطل كما هو مصرح به في أول الحديث انظر ص 208. 4 زاد هشام بن عروة في روايته "ولا غبت في سفر إلا غاب معي". البخاري 6/ 89 كتاب التفسير ومسلم 8/ 119 كتاب التوبة. 5 في رواية صالح بن كيسان عند البخاري 5/ 98 كتاب المغازي باب حديث الإفك "ضربت عنقه"، بإسناد الضمير إلى نفسه. قال ابن حجر: "إنما قال ذلك لنه سيدهم، فجزم بأن حكمه فيهم نافذ" فتح الباري 8/ 472. 6 في رواية صالح بن كيسان عند البخاري 5/ 98 كتاب المغازي باب حديث الإفك "فقام رجل من الخزرج وكانت أم حسان بنت عمه من فخذه، وهو سعد ابن عبادة وهو سيد الخزرج"، وفي رواية أبي أسامة عن هشام: "وقام رجل من بني الخزرج وكانت أم حسان بن ثابت من رهط ذلك الرجل". البخاري 6/ 89 كتاب التفسير. 7 وعند الواقدي في مغازيه12/431 "وكان قبل ذلك رجلا صالحا ولكن الغضب بلغ منه وعلى ذلك ما غمص عليه في نفاق ولا غير ذلك، إلا أن الغضب يبلغ من أهله". 8 اجتهلته الحمية: أي حملته الأنفة والغضب على الجهل. النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 1/ 322 وفي حديث يونس عن الزهري وابن كيسان عن الزهري أيضا: "احتملته الحمية". البخاري 5/ 99 و6/ 86 ومسلم 8/ 118 كتاب التوبة. وهو كذلك في رواية فليح بن سليمان عن الزهري، البخاري 3/ 153 كتاب الشهادات وابن شبة 1/ 101 وأبي يعلى: 4/ 444 ولذا قال ابن حجر: "احتملته الحمية كذا للأكثر. ومعناه أغضبته". فتح الباري 8/ 472.

تقدر على قتله"، فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعد بن معاذ، فقال لسعد بن عبادة: "كذبت لعمر الله لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين"، فثار1 الحيان الأوس والخزرج، حتى هموا أن يقتتلوا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكتوا، وسكت2، قالت وبكيت يومي ذلك، لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، ثم بكيت ليلتي المقبلة لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، وأبواي يظنان أن البكاء فالق كبدي، فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي، استأذنت علي امرأة3 من الأنصار، فأذنت لها، فجلست تبكي، قالت: فبينا نحن على ذلك، دخل علينا رسول4 الله صلى الله عليه وسلم فسلم ثم جلس، قالت: ولم يجلس عندي منذ ما قيل لي ما قيل.

_ 1 فثار الحيان: أي تناهضوا للنزاع والعصبية، شرح مسلم للنووي 5/ 635. 2 في رواية ابن حاطب "وكثر اللغط في الحيين في المسجد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس على المنبر فما زال النبي صلى الله عليه وسلم يومئ بيده إلى الناس، ههنا وههنا حتى هدأ الصوت" تفسير الطبري 18/ 95 وفي رواية فليح بن سليمان "فنزل فخفضهم حتى سكتوا وسكت" البخاري 3/ 153 كتاب الشهادات. باب تعديل النساء بعضهن بعضا. قال ابن حجر: "ويحمل على أنه سكتهم وهو على المنبر ثم نزل إليهم أيضا ليكمل تسكيتهم". فتح الباري 8/ 474. 3 قال ابن حجر لم أقف على اسمها. 4 وفي رواية هشام بن عروة "وأصبح عندي، فلم يزالا حتى دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد صلى العصر ثم دخل وقد اكتنفني أبواي عن يميني وعن شمالي", البخاري 6/ 89. كتاب التفسيرن والترمذي 5/ 13 فيه وفي رواية ابن حاطب "فجاء أبواي فدخلا وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جلس على سرير وجاهي". تفسير الطبري 18/ 95. وفي رواية محمد بن ثور عن معمر "ثم جلس عندي، ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل". المصدر السابق 18/ 95. وعند البخاري 5/ 100 كتاب المغازي من حديث أم رومان "أن عائشة في تلك الحالة كانتبها الحمى النافض، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل فوجدها كذلك، فقال: "ما شأن هذه؟ " قلت: يا رسول الله أخذتها الحمى ينافض، قال: "فلعل في حديث تحدث به؟ " قالت: نعم، فقعدت عائشة".

مفاتحة الرسول صلى الله عليه وسلم لعائشة وجوابها له: وقد لبث شهرا1 لا يوحى إليه في شأني بشيء، قال: فتشهد2 رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جلس، ثم قال: "أما بعد يا عائشة فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا3، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنب ثم تاب، تاب الله عليه"، قالت: فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته، قلص4 دمعي حتى ما أحس منه قطرة، فقلت لأبي: أجب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما قال، فقال: والله ما أدري ما أقول5 لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت

_ 1 وعند ابن حزم: "أن المدة كانت خمسين يوما أو أزيد"، جوامع السيرة 206 قال ابن حجر: "ويجمع بأنها المدة التي كانت بين قدومهم المدينة ونزول القرآن في قصة الإفك وأما التقييد بالشهر فهو المدة التي أولها إتيان عائشة إلى بيت أبويها حين بلغها الخبر" فتح الباري 8/ 475. 2 وفي رواية هشام "فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال أما بعد". البخاري 6/ 89 كتاب التفسير. 3 كذا وكذا: قال ابن حجر: "هو كناية عما رميت به من الإفك، ولم أر في شيء من الطرق التصريح، فلعل الكناية من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم". فتح الباري 8/ 475. وعند ابن إسحاق قال: "يا عائشة إنه قد كان ما قد بلغك من قول الناس فاتقي الله، وإن كنت قد قارفت سوءا مما يقول الناس، فتوبي إلى الله، فإن الله يقبل التوبة عن عباده". سيرة ابن هشام 2/ 301 وعند ابن حاطب "فقال أبواي: أي بنية إن كنت صنعت ما قال الناس، فاستغفري الله، وإن لم تكوني صنعتيه، فأخبري رسول الله صلى الله عليه وسلم بعذرك". تفسير الطبري 18/ 95 وفي رواية هشام: "قال: "يا عائشة إن كنت قارفت سوءا وظلمت فتوبي إلى الله، فإن الله يقبل التوبة عن عباده"، قالت: وقد جاءت امرأة من الأنصار فهي جالسة بالباب، فقلت: ألا تستحي من هذه المرأة أن تذكر شيئا". البخاري 6/ 90 كتاب التفسير والترمذي 5/ 13 فيه أحمد 6/ 60. 4 قلص دمعي: أي ارتفع وذهب،. النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 4/ 100. 5 في رواية هشام بن عروة: "فماذا أقول". البخاري 6/ 90 كتاب التفسير الترمذي 5/ 13 فيه. قال النووي: قولها لأبويها: "أجيبا عني، فيه تفويض الكلام إلى الكبار، لأنهم أعرف بمقاصده واللائق بالمواطن منه، وأبواها يعرفان حالها، وأما قول أبويها: لا ندري ما نقول: فمعناه أن الأمر الذي سألها عنه، لا يقفان منه على زائد على ما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، قبل نزول الوحي من حسن الظن بها، والسرائر إلى الله تعالى"، شرح مسلم للنووي 5/ 636.وقال ابن حجر: "قيل إنما قالت عائشة لأبيها ذلك مع أن السؤال إنما وقع عما في باطن الأمر، وهو لا اطلاع له على ذلك لكن قالته إشارة إلى أنها لم يقع منها شيء في الباطن يخالف الظاهر الذي هو يطلع عليه، فكأنها قالت له: برئني بما شئت وأنت على ثقة من الصدق فيما تقول، وإنما أجابها أبو بكر بقوله: لا أدري لأنه كثير الاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأجاب بما يطابق السؤال في المعنى، ولأنه وإن كان يتحقق براءتها لكنه كره أن يزكي ولده، وكذا الجواب عن قول أمها لا أدري". فتح الباري 8/ 475.

لأمي: أجيبي عني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت1، وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرا من القرآن2، إني والله لقد عرفت أنكم قد سمعتم بهذا حتى استقر3 في نفوسكم، وصدقتم به، فإن قلت لكم: إني بريئة - والله يعلم أني بريئة - لا تصدقوني - ولئن اعترفت لكم بأمر- الله يعلم أني بريئة - لتصدقونني4 - وإني والله ما أجد لي ولكم مثلا إلا كما قال أبو يوسف5

_ 1 في رواية هشام بن عروة "فلما لم يجيباه تشهدت فحمدت الله وأثنيت عليه بما هو أهله ثم قلت: أما بعد". البخاري 6/ 90 كتاب التفسير والترمذي 5/ 13 فيه وأحمد 6/ 60 وتفسير الطبري 18/ 94. 2 قال ابن حجر: قالت: "هذا توطئة لعذرها لكونها لم تستحضر اسم يعقوب عليه السلام". فتح الباري 8/ 475. 3 في رواية فليح: "لقد علمت أنكم سمعتم ما يتحدث به الناس ووقر في أنفسكم". البخاري 3/ 153 كتاب الشهادات. وفي رواية هشام "فوالله لئن قلت لكم أني لم أفعل - والله عز وجل يشهد أني لصادقة - ما ذاك بنافعي عندكم، لقد تكلمتم به وأشربته قلوبكم". المصدر السابق 6/ 90 كتاب التفسير. وفي حديث أم رومان "فقالت والله لئن حلفت لا تصدقوني، ولئن اعتذرت لا تعذروني". المصدر السابق 4/ 120 كتاب لأنبياء "باب: {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ} ". 4 قالت ذلك لأن المرء مؤاخذ بإقراره واعترافه. 5 في رواية الليث عن يونس عند البخاري 6/ 87 كتاب التفسير "والله ما أجد لكم إلا قول أبي يوسف". وفي رواية هشام بن عروة وابن حاطب "والتمست اسم يعقوب فلم أقدر عليه". المصدر السابق 6/ 90 كتاب التفسير والترمذي 5/ 13. وتفسير الطبري 18/ 95 وفي رواية ابن إسحاق "ثم التمست اسم يعقوب فما أذكره". سيرة ابن هشام 2/ 201 فهذه الروايات تدل على أنها لم تستحضر اسم يعقوب عليه والسلام. لكن وقع في حديث أم رومان "مثلي ومثلكم كيعقوب وبنيه"، فهذا تصريح منها باسم يعقوب، انظر البخاري 6/ 46 كتاب التفسير باب: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً} لكن قال ابن حجر: "إنها رواية المعنى، وذلك للتصريح في حديث هشام وغيره بأنها لم تستحضر اسمه". فتح الباري 8/ 476.

{فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} ، [سورة يوسف، الآية: 18] 1. قالت: ثم تحولت فاضطجعت على فراشي، قالت: وأنا والله حينئذ أعلم أني بريئة، وأن الله مبرئي ببرائتي، ولكن والله ما كنت أظن أن ينزل في شأني وحي يتلى، ولشأني كان أحقر في نفسي من أن يتكلم الله عز وجل في بأمر يتلى2، ولكني كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا يبرئني الله بها". نزول الوحي ببراءة عائشة: قالت: فوالله ما رام3 رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسه، ولا خرج من أهل البيت أحد، حتى أنزل الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء4 عند الوحي، حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان5 من العرق في اليوم الشات من ثقل القول الذي أنزل عليه، قالت:

_ 1 جزء من آية 18 من سورة يوسف: {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} . 2 وفي رواية ابن إسحاق "يقرأ به في المساجد ويصلى به". انظر: سيرة ابن هشام 2/ 301. 3 ما رام: أي ما برح وما فارق مجلسهن يقال: رام يريم إذا برح وزال من مكانه، وأكثر ما يستعمل في النفي. النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 2/ 290. وفي رواية ابن إسحاق "فوالله ما برح رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسه حتى تغشاه من الله ما كان يتغشاه فسجى بثوبه ووضعت له وسادة من أدم تحت رأسه فأما أنا حين رأيت من ذلك ما رأيت فوالله ما فزعت ولا باليت قد عرفت أني بريئة، وأن الله عز وجل غير ظالمي، وأما أبواي فوالذي نفس عائشة بيده ما سري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى ظننت لتخرجن أنفسهما فرقا من أن يأتي من الله تحقيق ما قال الناس". سيرة ابن هشام 2/ 302 وفي حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف الزهري عن عائشة قالت: "رميت بالذي رميت به وأنا غافلة بينما رسول لله صلى الله عليه وسلم عندي جالس، إذ أوحي إليه، قالت: وكان إذا أوحي إليه أخذه كهيئة السبات فأوحي إليه وهو جالس عندي ثم استوى جالسا فمسح وجهه ثم قال: "يا عائشة أبشري" فقلت: "بحمد الله لا بحمدك" مسند عبد بن حميد 2/ 195ب. 4 البرحاء: شدة الكرب من ثقل الوحي. النهاية في غريب الحديث لابن الأثير1/113. 5 الجمان: هو اللؤلؤ الصغار وقيل حب يتخذ من الفضة أمثال اللؤلؤ المصدر السابق 1/ 301.

فلما سري1 عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يضحك، فكان أول كلمة تكلم بها أن قال: "أبشري 2 يا عائشة، أما والله فقد برأك الله"، فقالت لي أمي: قومي إليه، فقلت: والله لا أقوم إليه، ولا أحمد3 إلا الله هو الذي برأني قالت: فأنزل الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} ، [عشر آيات من سورة النور: من الآية11-20] فأنزل الله عز وجل هؤلاء الآيات ببراءتي قالت: فقال أبو بكر وكان ينفق على مسطح لقرابته منه وفقره - والله لا أنفق عليه شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة، فأنزل الله عز وجل: {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ، [سورة النور، الآية: 22] . قال حبان بن موسى، قال عبد الله بن المبارك: "هذه أرجى آية في كتاب الله" فقال أبو بكر: "والله إني لأحب أن يغفر الله4 لي"، فرجع إلى مسطح النفقة

_ 1 سري: انكشف عنه ما يجده من لهم والثقل. مختار الصحاح ص 297. وفي رواية هشام بن عروة "فرفع عنه وإني لا أتبين السرور في وجهه وهو يمسح جبينه ويقول: "أبشري"". البخاري 6/ 90 كتاب التفسير. وفي رواية ابن حاطب "فوالذي أكرمه وأنزل عليه الكتاب ما زال يضحك حتى إني لأنظر إلى نواجذه سرورا ثم مسح وجهه". تفسير الطبري 18/ 95. 2 وفي رواية فليح أن قال لي: "يا عائشة إحمدي الله فقد برأك الله".البخاري3/154. 3 وفي رواية ابن حاطب "قلت: بحمد الله لا بحمدك ولا بحمد أصحابك". تفسير الطبري 18/ 95. وفي رواية هشام: "أبشري يا عائشة فقد أنزل الله براءتك" قالت: وكنت أشد ما كنت غضبا فقال لي أبواي: "قومي إليه"، فقلت: "والله لا أقوم إليه ولا أحمده ولا أحمدكما، ولكن أحمد الله الذي أنزل براءتي، لقد سمعتموه فما أنكرتموه ولا غيرتموه". البخاري 6/ 90 كتاب التفسير والترمذي 5/ 13فيه وقال النووي: "قالت عائشة ما قالت إدلالا عليه وعتبا، لكونهم شكوا في حالها، مع علمهم بحسن طرائقها، وجميل أحوالها، وارتفاعها عن هذا الباطل الذي افتراه ظالمون، ولا حجة له ولا شبهة فيه، قالت: وإنما أحمد ربي سبحانه وتعالى الذي أنزل براءتي وأنعم علي بما لم أكن أتوقعه، كما قالت: ولشأني كان أحقر في نفسي من أن يتكلم الله تعالى في بأمر يتلى". ا?. شرح مسلم للنووي 5/ 638 وقال ابن حجر: "يحتمل أن تكون تمسكت بظاهر قوله صلى الله عليه وسلم لها: "إحمدي الله" ففهمت منه أمرها بإفراد الله تعالى بالحمد، فقالت ذلك، وما أضافته إليه من الألفاظ المذكورة كان من باعث الغضب". فتح الباري 8/ 477. 4 وفي رواية فليح "فقال أبو بكر: "بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي"، فرجع إلى مسطح الذي كان يجري عليه". البخاري 3/ 154 كتاب الشهادات. وفي رواية هشام: "قال أبو بكر: "بلى والله يا ربنا إنا لنحب أن تغفر لنا" وعاد له بما كان يصنع". المصدر السابق 6/90 كتاب التفسير.

التي كان ينفق عليه، وقال: "لا أنزعها منه أبدا"، قالت عائشة: "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل زينب بنت جحش زوج النبي صلى الله عليه وسلم عن أمري، ما علمت أو ما رأيت"، فقالت: "يا رسول الله أحمي سمعي1 وبصري، والله ما علمت إلا خيرا"، قالت عائشة: "وهي التي كانت تساميني2 من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فعصمها الله بالورع"3. تورط حمنة بنت جحش وجماعة آخرين: وطفقت أختها حمنة بنت جحش تحارب لها، فهلكت فيمن هلك، قال الزهري: "فهذا ما انتهى إلينا من أمر هؤلاء الرهط". وقال في حديث يونس: "احتملته الحمية"4. وحدثني أبو الربيع العتكي، حدثنا فليح5 بن سليمان، ح وحدثنا الحسن6 بن علي الحلواني، وعبد بن حميد قالا: حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد، حدثنا أبي عن صالح7 بن كيسان كلاهما8 عن الزهري، بمثل حديث يونس ومعمر بإسنادهما.

_ 1 أحمي سمعي وبصري: أي أمنعهما من أن أنسب إليهما ما لم يدركاه، ومن العذاب لو كذبت عليهما. النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 1/ 448. 2 تساميني: أي تعالني وتفاخرني، وهو مفاعلة من السمو، أي تطاولني عنده صلى الله عليه وسلم المصدر السابق 2/ 405. 3 في رواية هشام: "فعصمها الله بدينها فلم تقل إلا خيرا". البخاري 6/ 90 ومعنى عصمها: حفظها ومنعها، والورع في الأصل: الكف عن المحارم والتحرج منه. النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 5/ 174. 4 صحيح مسلم 8/ 112- 118 (كتاب التوبة) . 5 فليح بن سليمان بن أبي المغيرة الخزاعي، أو الأسلمي، أبو يحيى المدني، ويقال: فليح لقب واسمه عبد الملك، صدوق كثير الخطأ، من السابعة (ت167) /ع. التقريب 2/ 114. ولم يرو له مسلم سوى هذا الحديث. انظر هدي الساري ص 435. 6 الحسن بن علي بن محمد الهذلي، أبو علي الخلال، الحلواني، نزيل مكة، ثقة حافظ، له تصانيف، من الحادية عشرة، (ت242) / خ م د ت ق. التقريب 1/ 168. 7 صالح بن كيسان المدني، أبو محمد أو أبو الحارث، مؤدب ولد عمر بن عبد العزيز، ثقة ثبت، من الرابعة، (ت130،أو بعد 140) / ع. التقريب 1/ 362. وتقدمت ترجمة بقية رجال الإسناد. 8 الضمير: لصالح بن كيسان وفليح بن سليمان.

وفي حديث فليح "احتملته الحمية"، كما قال معمر، وفي حديث صالح "احتملته الحمية"، كقول يونس. وزاد في حديث صالح: قال عروة: "كانت عائشة تكره أن يسب عندها حسان وتقول: فإنه قال: "فإن أبي ووالده وعرضي لعرض محمد منكم وقاء". وزاد أيضا: قال عروة: قالت عائشة: "والله إن الرجل1 الذي قيل له ما قيل، ليقول سبحان الله، فو الذي نفسي بيده ما كشفت عن كنف أنثى قط". قالت: "ثم قتل بعد ذلك شهيدا في سبيل الله". وفي حديث يعقوب بن إبراهيم "موعرين2 في نحر الظهيرة". وقال عبد الرزاق: "موغرين". قال عبد بن حميد: "قلت لعبد الرزاق ما قوله موغرين؟ " قال: "الوغرة شدة الحر"3. قلت: في الحديث الثاني الذي أورده مسلم (فليح بن سليمان) وهو كثير الخطأ. ولكن قد تابعه يونس ومعمر وصالح بن كيسان في الزهري.

_ 1 الرجل هو صفوان بن المعطل، انظر ترجمته وافية من ص 247- 260 من هذه الرسالة. 2 انظر ص 209 حاشية رقم (1) عما تقدم. 3 مسلم 8/ 118 (كتاب التوبة) .

الباب الثالث: في مسائل متعلقة بحديث الإفك

الباب الثالث: في مسائل متعلقة بحديث الإفك الفصل الأول: الخائضون في الإفك وتنفيذ الحد المبحث الأول: التحقيق فيمن تولي كبر الإفك ... المبحث الأول: التحقيق فيمن تولى كبر الإفك إن الحق الذي لا مرية فيه ولا شبهة، أن الذي تولى كبر الإفك1 هو: عبد الله بن أبي بن سلول المنافق، وبذلك تظاهرت الروايات عن عائشة رضي الله عنها، وهي صاحبة القصة. فقد بوب البخاري بقوله: باب قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} ، [سورة النور الآية:11] . ثم ساق بسنده: حدثنا أبو نعيم2، حدثنا سفيان3 عن معمر عن الزهري عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ} ، [سورة النور، من الآية: 11] . قالت: "

_ 1 الإفك: أسوأ الكذب وأقبحه، وهو مأخوذ من أفك الشيء إذا قلبه عن وجهه فالإفك إذا هم الحديث المقلوب. انظر تفسير الشوكاني 4/ 12. 2 أبو نعيم هو الفضل بن دكين، الكوفي، الملائي، بضم الميم بعدها لام خفيفة مشهور بكنيته، مولى تيم، ثقة ثبت، من التاسعة، (ت 218 وقيل 219) وهو من كبار شيوخ البخاري/ ع. التقريب 2/ 110. 3 سفيان هو الشوري.

عبد الله بن أبي ابن سلول"1. وعنده أيضا من رواية صالح بن كيسان عن الزهري: "وكان الذي تولى كبر الإفك عبد الله بن أبي ابن سلول"2. وفي رواية فليح بن سليمان والليث عن يونس3 عن الزهري: "وكان الذي تولى كبر الإفك عبد الله بن أبي ابن سلول"4. وعند مسلم من رواية يونس ومعمر كلاهما عن الزهري "وكان الذي تولى كبره عبد الله بن أبي ابن سلول"5. فهذه الأحاديث تدل دلالة واضحة على أن الذي تولى كبره هو عبد الله بن أبي ابن سلول، وما كنا بحاجة إلى الكلام في هذا وتثبيته بالأدلة والبراهين، بعد أن استفاض أن صاحب هذه المقالة الخبيثة هو عبد الله بن أبي ابن سلول، لولا ورود ما يشير إلى أن حسان بن ثابت وحمنة بنت جحش ومسطح بن أثاثة ممن تولى كبره أيضا. وذلك أيضا فيما رواه البخاري ومسلم من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: وكان الذي يتكلم فيه مسطح وحسان بن ثابت والمنافق عبد الله بن أبي، وهو الذي كان يستوشيه6 ويجمعه، وهو الذي تولى كبره منهم هو وحمنة7.

_ 1 البخاري 6/ 84 كتاب التفسير. 2 المصدر السابق 5/ 96 كتاب المغازي، باب حديث الإفك. 3 تقدمت ترجمته مع بقية تراجم رجال الأسانيد. 4 البخاري 3/ 151 كتاب الشهادات، باب تعديل النساء بعضهن بعضا و 6/ 84 كتاب التفسير باب قوله تعالى: {وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا} . 5 صحيح مسلم 8/ 112 كتاب التوبة. 6 يستوشيه: الأصل فيه: استخراج الحديث باللطف والسؤال والبحث عنه. النهاية في غريب الحديث لابن الأثير5/ 190. 7 البخاري 6/ 89 تفسير سورة النور باب قوله تعالى: {إن الذي يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة} . ومسلم 8/ 118 كتاب التوبة والترمذي 5/ 13 تفسير سورة النور.

وعند أحمد والطبري من رواية هشام المذكورة: "وكان الذين تكلموا فيه: المنافق عبد الله بن أبي ابن سلول، وكان يستوشيه ويجمعه، وهو الذي تولى كبره ومسطح وحسان وثابت"1. وورد عند البخاري ومسلم: حدثني محمد بن بشار، حدثنا ابن أبي عدي2، أنبأنا شعبة3، عن الأعمش4 عن أبي الضحى5 عن مسروق، قال: "دخل حسان بن ثابت على عائشة فشبب وقال: حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تُزَنُّ بريبة ... وتصبح غَرْثَى من لحوم الغوافل6 قالت: "لست كذاك"7. قلت: "تدعين مثل هذا يدخل عليك"، وقد أنزل الله {والذي تولى كبره منهم} . فقالت: "وأي عذاب أشد من العمى".

_ 1 مسند أحمد 6/ 59 وتفسير الطبري 18/ 89. 2 هو محمد بن إبراهيم بن أبي عدي، وقد ينسب لجده، وقيل هم إبراهيم أبو عمرو البصري، ثقة، من التاسعة، (ت194) على الصحيح/ ع. التقريب 2/ 141. 3 شعبة بن الحجاج بن الورد العتكي، مولاهم، أبو بسطام، بكسر الموحدة وسكون المهملة، الواسطي، ثم البصري، ثقة حافظ متقن، كان الثوري يقول: هو أمير المؤمنين في الحديث، وهو أول من فتش بالعراق عن الرجال، وذب عن السنة، وكان عابدا من السابعة، (ت160) / ع. التقريب 1/ 351. 4 الأعمش مدلس وقد عنعن ولكن لا تضر عنعنته هنا، لأن الراوي عنه شعبة، وقد قال كفيتكم تدليس الأعمش وأبي إسحاق وقتادة، قال السخاوي في فتح المغيث 1/ 176: فإذا جاء حديثهم من طريق شعبة، بالعنعنة حمل على السماع جزما. 5 مسلم بن صبيح مصغرا الهمداني أبو الضحى الكوفي، العطار، مشهور بكنيته، ثقة فاضل، من الرابعة (ت100) /ع. المصدر السابق2/ 245. 6 هذا البيت من جملة أبيات قالها حسان يعتذر إلى عائشة، والمراد بالحصان هنا العفيفة، والرزان: الملازمة موضعها التي لا تتصرف كثيرا، وامرأة رزان إذا كانت ذات ثبات ووقار وعفاف وكانت رزينة في مجلسها، وما تزن بريبة: أي ما تتهم، وغرثى: أي جائعة، والغوافل: جمع غافلة يريد أنها لا ترتع في أعراض الناس، انظر ديوان حسان بن ثابت ص 324 7 لست كذلك: بل اغتبت وخضت في قول أهل الإفك.

وقالت: "وقد كان يرد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم"لفظ البخاري1. قلت: الذي يظهر في هذا المقام أن الذي بدأ بالكلام في الإفك وكان يصول فيه ويجول هو عبد الله بن أبي ابن سلول، وهو الذي كان يجمع الناس في بيته ممن هم على شاكلته في الخبث والنفاق وكان يذيع ذلك ويردده مع عصابته وأهل بيته، ولما انتشر الكلام في ذلك من قبلهم، وكانوا يتناقلونه فيما بينهم، أثر ذلك في بعض المؤمنين فانزلقوا معهم، وصاروا يتكلمون بذلك مع من تكلم، ويرددون قول الإفك والنفاق دون وعي وإدراك لما يقصده ابن أبي من وراء ذلك. فقد روى إسحاق بن راهويه: أخبرنا يحيى2 بن آدم نا ابن أبي زائدة3 وهو يحيى بن زكرياء عن محمد4 بن عمرو عن يحيى5 بن عبد الرحمن بن حاطب عن علقمة بن وقاص وغيره عن عائشة قالت: لما قال أهل الإفك ما قالوا دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنْكُم} هؤلاء الآيات وكان الذي تولى كبره الذي يجمعهم في بيته عبد الله بن أبي ابن سلول6. وأورد الطبري الأحاديث التي يفهم منها أن حسان بن ثابت ومسطحا وحمنة ممن تولى كبر الإفك ثم عقب بقوله: "وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: الذي تولى كبره من عصبة الإفك كان عبد الله بن أبي، وذلك أنه

_ 1 البخاري 6/ 88 تفسير سورة النور ومسلم 7/ 163 كتاب فضائل الصحابة. 2 يحيى بن آدم بن سليمان الكوفي، أبو زكرياء مولى بني أمية، ثقة حافظ فاضل من كبار التاسعة (ت203) / ع. التقريب 2/ 341. 3 يحيى بن زكرياء بن أبي زائدة الهمداني، أبو سعيد الكوفي، ثقة متقن من كبار التاسعة (ت183 أو 184) /ع. المصدر السابق 2/ 347. 4 محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص، الليثي المدني، صدوق له أوهام، من السادسة (ت145) / ع. المصدر السابق 2/ 196. 5 يجيى بن عبد الرحمن بن حاطب بن أبي بلتعة، أبو محمد أو أبو بكر، المدني، ثقة من الثالثة، (ت104) /م عم. المصدر السابق 2/ 352. 6 مسند إسحاق بن راهويه 4/ ق 135 ب وتفسير الطبري 18/ 89.

لا خلاف بين أهل العلم بالسير أن الذي بدأ بذكر الإفك وكان يجمع أهله ويحدثهم عبد الله بن أبي ابن سلول"1. وأورد عن ابن زيد أنه قال: "أما الذي تولى كبره منهم فعبد الله بن أبي ابن سلول الخبيث، هو الذي ابتدأ هذا الكلام، وقال: امرأة نبيكم باتت مع رجل حتى أصبحت ثم جاء يقود بها". وقال ابن القيم أثناء شرحه لقصة الإفك: "ولما قدم صفوان لعائشة، وقد نزل الجيش في نحر الظهيرة ورأى ذلك الناس تكلم كل منهم بشاكلته وما يليق به، ووجد الخبيث عدو الله ابن أبي متنفسا فتنفس من كرب النفاق والحسد الذي بين ضلوعه فجعل يستحكي الإفك، ويستوشيه، ويشيعه ويذيعه، ويجمعه ويفرقه، وكان أصحابه يتقربون به إليه"2. وقال ابن كثير تحت قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنْكُم} الآية. فكان المقدم في هذه اللعنة عبد الله بن أبي ابن سلول رأس المنافقين، فإنه كان يجمعه ويستوشيه حتى دخل ذلك في أذهان بعض المسلمين فتكلموا به، وجوزه آخرون منهم، وبقي الأمر كذلك قريبا من شهر حتى نزل القرآن إلى أن قال: " ... ثم الأكثرون على أن المراد بذلك إنما هو عبد الله بن أبي ابن سلول، قبحه الله تعالى ولعنه، وهو الذي تقدم النص عليه في الحديث". وقال ذلك مجاهد وغير واحد. ثم قال: "وقيل المراد به حسان بن ثابت وهو قول غريب، ولولا أنه وقع في صحيح البخاري ما قد يدل على إيراد ذلك، لما كان لإيراده كبير فائدة، فإنه من الصحابة الذين لهم فضائل ومناقب ومآثر، وأحسن مآثره أنه كان يذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هاجهم 3 وجبريل معك" 4 انتهى.

_ 1 تفسير الطبري 18/ 89 وانظر فتح القدير للشوكاني 4/ 12. 2 زاد المعاد 2/ 126 وانظر تفسير مجاهد بن جبير. سورة النور، ص 427 ومسند أبي يعلى 4/ق، 447.أ 3 الحديث في صحيح مسلم 7/ 163 (كتاب فضائل الصحابة) ونصه: "حدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا شعبة عن عدي" وهو ابن ثايت قال: سمعت البراء بن عازب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لحسان بن ثابت: "اهجهم أو هاجهم وجبريل معك" ومن طريق الزهري أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أنه سمع حسان بن ثابت الأنصاري يستشهد أبا هريرة أنشدك الله هل سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "يا حسان أجب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم أيده بروح القدس"، قال أبو هريرة: "نعم". ومن طريق أبي أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه أن حسان بن ثابت كان ممن كثر على عائشة فسببته فقالت: "يا ابن أختي دعه فإنه كان ينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم". 4 تفسير ابن كثير 3/ 268 و272.

وقال ابن حجر أثناء شرحه للآية المذكورة {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُم لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} : "هو عبد الله بن أبي وبه تظاهرت الروايات عن عائشة من قصة الإفك المطولة"1. وقال تحت قول مسروق "تدعين مثل هذا يدخل عليك وقد أنزل الله {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُم} 2 قال: "وهذا مشكل لأن ظاهره أن المراد بقوله {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُم} هو حسان بن ثابت، وقد تقدم قبل هذا أنه عبد الله بن أبي وهو المعتمد"3، انتهى. قلت: وسيأتي أيضا موقف الزهري مع الوليد بن عبد الملك وهشام بن عبد الملك عندما قالا: الذي تولى كبره هو علي بن أبي طالب فغضب الزهري وقال: "هو عبد الله بن أبي ابن سلول" وساق بسنده إلى عائشة أنها قالت: "الذي تولى كبره عبد الله بن أبي"4. وبهذا يتضح أن الذي تفوه به وتولى عبأه وتبعته هو عبد الله بن أبي. وهو الذي ترجح عند المحققين من أهل العلم5. ويؤيده أن الآية الكريمة هددت الذي تولى كبره بالعذاب العظيم قال تعالى: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُم لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} .

_ 1 فتح الباري 8/452. 2 تقدم الحديث، ص 229. 3 فتح الباري 8/ 452 و485. 4 انظر ص 261 وما بعدها. 5 انظر الجامع لأحكام القرآن المعروف بتفسير القرطبي 12/ 200 وروح المعاني للألوسي 18/ 105- 106 وفتح البيان في مقاصد القرآن لصديق حسن خان 6/ 330.

وهذا التهديد يتناسب مع نفاق عبد الله بن أبي، وأما من ذكر من الصحابة المشهود لهم بالخير ولبعضهم بالجنة، فإنهم لا يدخلون في هذا الوعيد كما هو ظاهر، وإنما هؤلاء يدخلون في مثل قوله تعالى: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} ، [سورة النور الآية: 12] . فهذا عتاب للمؤمنين الذين تورطوا وانخدعوا بدعايات النفاق وأكاذيب المرجفين، والآيات التي تضمنت قصة الإفك واضحة في سياقها {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} ، [سورة النور، من الآية: 11] ، وهذا هو مطلع هذه الآيات وسياقها ثم ذكرت أن الذي تولى كبره من هذه العصبة واحد منهم، فقال تعالى: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} ، [سورة النور، من الآية: 11] ، ولا شك أن هذا الأسلوب القرآني في سباقه ولحاقه يدل على واحد معين من هذه العصبة، وهو عبد الله بن أبي ابن سلول، كما في الصحيح وغيره بخلاف ما قد يفهم من بعض الروايات التي ألحقت حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش بابن أبي في تولي كبر الإفك، فهؤلاء جماعة والآية تشير إلى واحد من عصبة الإفك، فالتعبير (بالذي) وإعادة الضمير إليه مفردا مرتين في قوله: {كِبْرَهُ} وقوله: {لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} مع ذكر العصبة سابقا واضح في أن المراد واحد بعينه من هذه العصبة هو الذي تولى كبره وعظمه1. وقد وضحته الروايات الصحيحة المتضافرة أنه رأس النفاق ابن سلول، وبهذا التقرير يندفع الإشكال وتتضح الحال، ويظهر أن هؤلاء الصحابة الأجلاء لا يصلح منهم أن يكون هو المراد بهذا التولي لكبر الإفك. وإذا درسنا الآيات وتأملنا سياقها سياقاً ولحاقاً اتضح أن كل واحد من هؤلاء الصحابة ليس مرادا بتولي كبر الإفك، لأن العتاب الذي عوتب به هؤلاء، نصت عليه الآيات في مثل قوله تعالى: {وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} ، [سورة النور الآية: 16] ، وقوله تعالى: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} ، ولا شك أن صفة الإيمان ثابتة لحسان ومسطح وحمنة، ومنتفية عن عبد الله بن أبي ابن سلول، وإن كان في الظاهر مسلما، فيكون هذا العتاب لهؤلاء المؤمنين الذين تورطوا في هذه الدعاية السيئة

_ 1 انظر روح المعاني للألوسي 18/ 105- 106.

غفلة منهم وانخداعا ببهرج النفاق وزخرف قوله، يوضح ذلك تعقيبه جل شأنه على قوله تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} ، [سورة النور، الآية: 14] ، بقوله: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ1 بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} ، [سورة النور الآية: 15] ، فهذه الآية توضح أن هؤلاء المؤمنين خدعوا بهذه الأكاذيب وسرت فيهم أراجيف المنافقين وأباطيلهم فصاروا يرددون قول أهل الزيغ والنفاق دون وعي وإدراك لمقصد المنافقين من وراء هذا القول الشنيع. وبهذا يكون الذي تولى كبر الإفك وحمل لواءه وإشاعته بين الناس هو عبد الله بن أبي ابن سلول رأس النفاق. وأما ذكر بعض الروايات لحمنة وحسان ومسطح مع عبد الله بن أبي ابن سلول، فيفسر ذلك على أنهم ذكروا من باب التبعية لا أنهم تولوا كبر الإفك أصالة، وإنما الذي تولاه هو ابن أبي ابن سلول المنافق، لكنهم حين قالوا بقالته ذكروا معه تبعا، والله أعلم2.

_ 1 تلقونه: بفتح التاء وتشديد اللام، وهو من التلقي وإحدى التائين فيه محذوفة وهي القراءة المشهورة، وكانت عائشة تقرأ {تَلَقَّوْنَهُ} بكسر اللام وضم القاف مخففا، وتقول: الولق- بفتح الواو وسكون اللام بعدها قاف- الكذب. وقد وردت القراءة الأخيرة عن عائشة في صحيح البخاري 6/ 100 من كتاب التفسير وهذا سياقه حدثني يحيى حدثنا وكيع عن نافع عن ابن عمر عن ابن أبي مليكة عن عائشة كانت تقرأ {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ} وتقول: الولق: الكذب. قال ابن أبي مليكة: وكانت أعلم من غيرها بذلك لأنه نزل فيها. 2 انظر مجمع الزوائد للهيثمي7/ 77وتفسير سورة النور للمودودي، ص126- 127.

المبحث الثاني: إقامة الحد على القاذفين

المبحث الثاني: إقامة الحد على القاذفين ذكر البخاري: تحت قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} ، [سورة آل عمران، من الآية: 159] .

"وشاور1 عليا وأسامة فيما رمى أهل الإفك عائشة، فسمع منهما2 حتى نزل القرآن3 فجلد الرامين ولم يلتفت إلى تنازعهم4، ولكن حكم بما أمره الله"5. قال ابن حجر: قوله: "فجلد الرامين"لم يقع في شيء من طرق حديث الإفك في الصحيحين ولا أحدهما. وهو عند أحمد وأصحاب السنن من رواية محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن حزم عن عمرة عن عائشة قالت: "لما نزلت برائتي قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فدعا بهم وحدهم"، وفي لفظ: "فأمر برجلين وامرأة فضربوا حدهم"، وسموا في رواية أبي داود: مسطح بن أثاثة وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش. قال الترمذي: "حسن6 لا نعرفه إلا من حديث ابن إسحاق من هذا الوجه". ثم قال ابن حجر: "قلت: ووقع التصريح بتحديثه7 في بعض طرقه"8.

_ 1 قال ابن حجر: أما أصل مشاورتهما فذكره البخاري موصولا في هذا الباب باختصار، وتقدم في سورة النور في قصة الإفك. انظر فتح الباري 13/ 342 وانظر الحديث في البخاري 9/ 91 كتاب الاعتصام و6/ 84 باب {وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا} . 2 الضمير لعلي وأسامة. قال ابن حجر: فسمع كلامهما ولم يعمل بجميعه حتى نزل الوحي، فلم يعمل بما أومأ إليه علي من المفارقة في قوله: (والنساء سواها كثير) ، وعمل بقوله: (وسل الجارية) فسألها. وعمل بقول أسامة في عدم المفارقة ولكنه أذن لها في التوجه إلى بيت أبيها. فتح الباري 13/ 342. 3 هو قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} ، [بسورة النور، من الآية: 11] . 4 قوله: (إلى تنازعهم) قال ابن بطال عن القابسي: كأنه أراد تنازعهما فسقطت الألف، لأن المراد أسامة وعلي، وقال الكرماني: القياس أن يقال تنازعهما إلا أن يقال أن أقل الجمع اثنان. أو أراد بالجمع علي وأسامة ومن معهما أو من وافقهما على ذلك. المصدر السابق 13/ 342. 5 صحيح البخاري 9/ 91 كتاب الاعتصام باب قوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} . 6 في النسخة الموجودة بأيدينا (حسن غريب) . 7 الضمير لابن إسحاق ووقع تصريحه بالتحديث عن شبخه عبد الله بن أبيبكر عند البيهقي كماذكر ذلك العراقي، ووقع أيضا في سيرة ابن هشام. انظر السيرة2/297. 8 فتح الباري 130/342.

قلت: الحديث الذي أشار إليه ابن حجر أنه عند أحمد وأصحاب السنن هو: حدثنا محمد بن بشار ثنا ابن أبي عدي1 عن محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر عن عمرة2 بنت عبد الرحمن عن عائشة قالت: "لما نزل عذري3 قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فذكر ذلك وتلا القرآن4، فلما نزل أمر برجلين وامرأة فضربوا حدهم"5. قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث محمد بن إسحاق" قال العراقي6 بعد أورد قول الترمذي هذا: "قلت: قد صرح ابن إسحاق بالتحديث عند البيهقي". قال الشارح: "فزال بذلك ما يخشى من تدليسه، لأن المشهور قبول حديث ابن إسحاق، إلا أنه مدلس فإذا صرح بالتحديث كان حديثه مقبولاً"7. والحديث المشار إليه عند البيهقي: هو أخبرنا أبن عبد الله الحافظ وأبو بكر أحمد ابن الحسن القاضي قالا ثنا أبو العباس8 محمد بن يعقوب ثنا أحمد بن عبد الجبار، ثنا يونس بن بكير عن ابن إسحاق قال: حدثني عبد الله بن أبي بكر ابن عمرو بن حزم عن عمرة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زرارة عن عائشة

_ 1 ابن أبي عدي هو محمد بن إبراهيم، وعبد الله بن أبي بكر هو ابن محمد بن حزم وقد تقدمت ترجمتهما. 2 عمرة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زررة الأنصارية، المدنية، أكثرت عن عائشة ثقة من الثالثة، (ت قبل المائة) . ويقال بعدها/ع. التقريب 2/ 607. 3 تريد الآيات الدالة على براءتها مما رماها به أصحاب الإفك. 4 هو قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} ، [سورة النور، من الآية: 11] ، إلى آخر الآيات النازلة في ذلك. 5 الترمذي 5/ 17 تفسير سورة النور وابن ماجة 2/ 857 في الحدود، باب حد القذف وأبو داود فيه 2/ 471 ومصنف عبد الرزاق 5/ 419 وأحمد 6/ 61. 6 هو الإمام الحافظ الحجة المحدث الكبير أبو الفضل زين الدين عبد الرحيم بن الحسين ابن عبد الرحمن بن أبي بكر العراقي الشافعي. صاحب الألفية في علم الحديث وصاحب التقييد والإيضاح لما أطلق وأغلق من كتاب ابن الصلاح (ت806) مقدمة التبصرة والتذكرة شرح ألفية العراقي 1/9 و18. 7 طرح التثريب شرح التقريب 8/ 72. 8 أبو العباس: محمد بن يعقوب هو الأصم وقد تقدمت ترجمته مع بقية رجال الإسناد.

رضي الله عنها قالت: "لما تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم القصة التي نزل بها عذري على الناس نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر برجلين وامرأة ممن كان باء بالفاحشة في عائشة فجلدوا الحد قال: وكان رماها عبد الله بن أبي ومسطح بن أثاثة وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش أخت زينب بنت جحش رموها بصفوان بن المعطل السلمي". وكذلك رواه محمد بن أبي عدي عن محمد بن إسحاق1. والحديث أورده أبو داود من طريق ابن أبي عدي وهذا نصه: حدثنا قتيبة2 بن سعيد الثقفي ومالك3 بن عبد الواحد المسمعي، وهذا حديثه أن ابن عدي حدثهم عن محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر عن عمرة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: "لما نزل عذري قام النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر فذكر ذاك وتلا- تعني القرآن- فلما نزل من المنبر أمر بالرجلين والمرأة فضربوا حدهم"4. ومن طريق محمد بن مسلمة وهذا نصه: حدثنا النفيلي5، ثنا محمد ابن سلمة، عن محمد بن إسحاق، بهذا الحديث ولم يذكر عائشة6، قال: فأمر

_ 1 السنن الكبرى للبيهقي 8/ 250 كتاب لحدود، باب ما جاء في حد قذف المحصنات. 2 قتيبة بن سعيد بن جميل بفتح الجيم ابن طريف الثقفي أبو رجاء البغلاني بفتح الموحدة وسكون المعجمة، ثقة ثبت، من العاشرة، (ت240) /ع. التقريب2/ 123. 3 مالك بن عبد الواحد المسمعي أبو غسان البصري ثقة من العاشرة، (ت230) / م د. المصدر السابق 2/ 225. 4 سنن أبي داود 2/ 471 كتاب الحدود باب في حد القذف. 5 هو عبد الله بن محمد بن علي بن نفيل أبو جعفر النفيلي، الحراني، ثقة حافظ من كبار العاشرة (ت234) / خ عم. المصدر السابق 1/ 448. 6 قال صاحب عون المعبود: والحديث أسنده ابن إسحاق مرة وأرسله أخرى انظر عون المعبود شرح سنن أبي داود 12/ 174. قال ابن الصلاح: "ومذهب الجمهور من الفقهاء وأصحاب الحديث – فيما حكاه الخطيب أبو بكر – أن الزيادة من الثقة مقبولة إذا تفرد بها سواء كان ذلك من شخص واحد بأن رواه مرة ناقصا ومرة أخرى وفيه تلك الزيادة، أو كانت الزيادة من غير من رواه ناقصا، خلافا لمن رد من أهل الحديث مطلقا، وخلافا لمن رد الزيادة منه ومن قبلها من غيره". انظر مقدمة ابن الصلاح ص 111- 112 مع التقييد والإيضاح.

برجلين وامرأة ممن تكلم بالفاحشة: حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة. قال النفيلي: "ويقولون: المرأة حمنة بنت جحش"1. قلت: وقد صرح ابن إسحاق أيضا بتسميتهم في (مغازيه) في حديث عائشة الطويل في سياق قصة الإفك مصرحا بالتحديث وهذا نصه: حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه2، عن عائشة، وعبد الله بن أبي بكر عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة3، ثم ساق الحديث وفي آخره "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبشري يا عائشة، فقد أنزل الله براءتك"، قالت: "قلت: بحمد الله"، ثم خرج إلى الناس، فخطبهم، وتلا عليهم ما أنزل الله عليه من القرآن في ذلك، ثم أمر بمسطح بن أثاثة وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش، وكانوا ممن أفصح بالفاحشة، فضربوا حدهم"4. وأورده ابن جرير الطبري في التاريخ من هذه الطريق5. والحديث عند البزار من حديث أبي هريرة وفيه التصريح بتسميتهم أيضا وهذا نصه: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه، فأصاب عائشة القرعة في غزوة بني المصطلق". الحديث ... وفيه: "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجيء فيقوم على الباب فيقول: "كيف تيكم" حتى جاء يوما فقال: "أبشري يا عائشة فقد أنزل الله عذرك"، فقالت: "بحمد الله لا بحمدك"، وأنزل الله في ذلك عشر آيات: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} ، [سورة النور، من الآية: 11] ، قال: "فحد رسول الله صلى الله عليه وسلم مسطحا وحمنة وحسان"6.

_ 1 سنن أي داود 2/ 471 كتاب الحدود باب في حد القذف. 2 هو عباد بن عبد الله بن الزبير بن العوام، كان قاضي مكة زمن أبيه، وخليفته إذا حج، ثقة من الثالثة/ع. التقريب 1/ 392. 3 تقدمت ترجمتهم. 4 سيرة ابن هشام 2/ 297- 302. 5 2/ 611- 616 وأورده في التفسير أيضا مختصرا 18/ 93. 6 مجمع الزوائد للهيثمي 9/ 230.

قال الهيثمي: "فيه محمد1 بن عمرو وهو حسن الحديث وبقية رجاله ثقات. فهذان الحديثان صريحان في إقامة الحد على هؤلاء المذكورين تطهيرا لما علق بهم من درن مقالة أهل الإفك والافتراء، وكلا الحديثين حسن لذاته". وعلى هذا فلا يلتفت إلى قول من قال بأن الحد لم يقم عليهم مستندا إلى أن الحد لا يثبت إلا ببينة أو إقرار2. فهذان الحديثان من أبين البينات في ذلك. وإنما الخلاف قائم في إقامة الحد على عبد الله بن أبي ابن سلول، وذلك أن الحديثين المذكورين لن يتعرضا لذكره أصلا، في إقامة الحد عليه أو عدمه. وقد ورد عند الطبري من طريق هشام بن عروة عن أبيه التصريح بأن ابن أبي لم يسم في أهل الإفك، وهذا نص الحديث: حدثنا عبد الوارث3 بن عبد الصمد، قال: ثنا أبي4، قال ثنا أبان العطار5، قال: ثنا هشام بن عروة - عن عروة - أنه كتب إلى عبد الملك بن مروان: "كتبت إلي تسألني في الذين جاؤا بالإفك، وهم كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} وأنه لم يسم منهم أحد6 إلا حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش، وهو يقال في آخرين لا علم لي بهم، غير أنهم عصبة كما قال الله"7.

_ 1 هو محمد بن عمرو بن علقمة بم وقاص الليثي تقدمت ترجمته. 2 قائل هذا هو الماوردي. انظر فتح الباري 8/ 479 و481. 3 عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث، أبو عبدة، صدوق، من الحادية عشرة، (ت252) / م ت س ق. التقريب 1/ 527. 4 هو عبد الصمد بن عبد الوارث بن سعيد، العنبري، مولاهم، التنوري، أبو سهل صدوق، ثبت في شعبة، من التاسعة، (ت207) /ع. المصدر السابق1/ 507. 5 أبان بن يزيد العطار، البصري، أبو يزيد، ثقة، له أفراد، من السابعة، (ت في حدود 160) / خ م د ت س. المصدر السابق 1/ 31. 6 يريد لم يسم منهم أحد فيمن أقيم عليه الحد غير هؤلاء، ولا يريد أن عبد الله بن أبي ابن سلول لم يذكر فيمن قال الإفك، بل هو الذي تولى كبره كما صرحت الأحاديث بذلك. 7 تفسير الطبري 18/ 86.

وعند البخاري من رواية صالح بن كيسان: قالت عائشة: "وكان الذي تولى كبر الإفك عبد الله بن أبي ابن سلول". قال عروة: "أخبرت أنه كان يشاع ويتحدث به عنده، فيقره، ويستمعه ويستوشيه". وقال عروة أيضا: "لم يسم من أهل الإفك إلا حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش في ناس آخرين لا علم لي بهم، غير أنهم عصبة كما قال الله تعالى"1. ومن خلال هذه الأحاديث الصحيحة التي لم تتعرض لذكر عبد الله بن أبي ابن سلول فيمن أقيم عليه الحد، وإنما اقتصرت على ذكر الثلاثة المصرح بهم فيها جزم من جزم من العلماء بأن عبد الله بن أبي ابن سلول لم يقم عليه الحد وذكروا عدة أشياء في وجه الحكمة في ترك إقامة الحد عليه، ومن الذاهبين إلى هذا: القرطبي فإنه بعد أن ذكر ما ظاهره أن عبد الله بن أبي أقيم عليه الحد عقب بقوله: المشهور من الأخبار والمعروف عند العلماء أن الذي حد حسان ومسطح وحمنة بنت جحش، ولم يسمع بحد لعبد الله ابن أبي، ثم أورد حديث أبي داود2 في إقامة الحد على هؤلاء الثلاثة دون عبد الله بن أبي ابن سلول، ثم أشار إلى وجه الحكمة في عدم إقامة الحد عليه فقال: قال علماؤنا: "وإنما لم يحد عبد الله بن أبي، لأن الله تعالى قد أعد له في الآخرة عذابا عظيما، فلو حد في الدنيا لكان ذلك نقصا من عذابه في الآخرة وتخفيفا عنه، مع أن الله تعالى قد شهد ببراءة عائشة رضي الله عنها وبكذب كل من رماها، فقد حصلت فائدة الحد، إذ مقصوده إظهار القاذف وبراءة المقذوف كما قال تعالى: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} ،" [سورة النور الآية: 13] 3. وإنما حد هؤلاء المسلمون ليكفر عنهم إثم ما صدر عنهم من القذف حتى

_ 1 البخاري 5/ 96 كتاب المغازي باب حديث الإفك. 2 تقدم حديث أبي داود ص 237. 3 آية 13 من سورة النور، وهي: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} .

لا يبقى عليهم تبعة من ذلك في الآخرة، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحدود: "إنها كفارة لمن أقيمت عليه" كما في حديث1 عبادة بن الصامت ثم قال القرطبي أيضا: "ويحتمل أن يقال: إنما ترك حد ابن أبي استئلافا لقومه واحتراما لابنه، وإطفاء لثائرة الفتنة المتوقعة من ذلك، وقد كان ظهر مبادئها من سعد بن عبادة ومن قومه"2 كما في صحيح مسلم3.ا? 2- ابن القيم: وهذا نص كلامه: قال: "ولما جاء الوحي ببراءة عائشة رضي الله عنها أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن صرح بالإفك فحدوا ثمانين ثمانين، ولم يحد الخبيث عبد الله بن أبي مع أنه رأس أهل الإفك، ثم ذكر وجه الحكمة في ذلك. فقال: أ- قيل لأن الحدود تخفيف عن أهلها وكفارة، والخبيث ليس أهلا لذلك، وقد وعده الله بالعذاب العظيم في الآخرة، فيكفيه ذلك عن الحد. ب- وقيل: بل كان يستوشي الحديث ويجمعه ويحكيه ويخرجه في قوالب من لا ينسب إليه. ج- وقيل: الحد لا يثبت إلا ببينة أو إقرار وهو لم يقر بالقذف ولا شهد به عليه أحد، فإنه كان يذكره بين أصحابه، ولم يشهدوا عليه، ولم يكن يذكره بين المؤمنين.

_ 1 الحديث في كتاب الحدود عند البخاري 8/ 133 ومسلم فيه 5/ 126- 127 وهذا لفظ البخاري عن عبادة بن الصامت قال: "كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم في مجلس، فقال: "بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا"، وقرأ هذه الآية كلها، "فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به فهو كفارته، ومن أصاب من ذلك شيئا فستره الله عليه، إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه". قلت: الآية هي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً} ، الخ. [سورة الممتحنة، من الآية: 12] . 2 تفسير القرطبي 12/ 201- 202. 3 انظر الحديث في صحيح مسلم.

د- وقيل: بل ترك حده لمصلحة هي أعظم من إقامته عليه، كما ترك قتله مع ظهور نفاقه وتكلمه بما يوجب قتله مرارا، وهي تأليف قومه، وعدم تنفيرهم عن الإسلام، فإنه كان مطاعا فيهم، رئيسا عليهم، فلم يؤمن إثارة الفتنة في حده، ثم قال في ختام كلامه: ولعله ترك لهذه الوجوه كلها، فجلد مسطح بن أثاثة، وحسان بن ثابت، وحمنة بنت جحش، وهؤلاء من المؤمنين الصادقين تطهيرا لهم وتكفيرا، وترك عبد الله بن أبي إذ فليس هو من أهل ذلك"1.ا? وقد وردت آثار تدل على أن عبد الله بن أبي ابن سلول ممن أقيم عليه الحد ولكنها كلها ضعيفة لا تقوم بمثلها الحجة، وفيما يأتي سردها وبيان ما فيها من ضعف: حديث عبد الله بن عمر عند الطبراني فقد ساق قصة الإفك مطولا وفيه: "لما أنزل الله براءة عائشة قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا عائشة قد أنزل الله عذرك"، فقلت: "بحمد الله لا بحمدك"، فتلا عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة النور إلى الموضع الذي انتهى إليه خبرها وعذرها وبراءتها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قومي إلى البيت" فقامت وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد فأمر أبا عبيدة بن الجراح فجمع الناس ثم تلا عليهم ما أنزل الله عز وجل من البراءة لعائشة، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعث إلى عبد الله ابن أبي المنافق فجيء به فضربه النبي صلى الله عليه وسلم حدين، وبعث إلى حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش فضربوا ضربا وجيعا ووجي في رقابهم، قال ابن عمر: "إنما ضرب النبي صلى الله عليه

_ 1 زاد المعاد 2/ 127- 128 قال ابن حجر فتح الباري 8/ 479 و481 بعد أن نقل قول ابن القيم هذا: "وفاته أنه ورد أن ابن أبي ذكر فيمن أقيم عليه الحد، ووقع ذلك في رواية أبي أويس عن حسن بن زيد عن عبد الله بن أبي بكر، أخرجه الحاكم في (الإكليل) مرسلا، وفيه رد على الماوردي حيث صحح أنه لم يحدهم مستندا إلى أن الحد لا يثبت إلا ببينة أو إقرار، وقيل: حدهم، وما ضعفه هو الصحيح المعتمد".

وسلم حدين لأن من قذف أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فعليه حدان"1 قال الهيثمي: "فيه إسماعيل بن يحيى بن عبيد الله التيمي وهو كذاب"2. ما رواه الطبراني أيضا عن سعيد بن جبير قال: "جلد النبي صلى الله عليه وسلم حسان بن ثابت وعبد الله بن أبي ومسطحا وحمنة بنت جحش كل واحد ثمانين جلدة في قذف عائشة"3. قال الهيثمي: "فيه ابن لهيعة وفيه ضعف وبقية رجاله رجال الصحيح". قلت: والحديث مرسل والمرسل من قسم الحديث الضعيف عند المحققين من أهل العلم. ما رواه الحاكم في (الإكليل) من رواية أبي أويس4 عن الحسن5 بن زيد وعبد الله بن أبي بكر بن حزم وغيرهما مرسلا. أن ابن أبي ممن جلد الحد6 والحديث فيه علة الإرسال كالحديث الذي قبله. وخلاصة القول: أن في إقامة الحد على عبد الله بن أبي ابن سلول قولين لأهل العلم. الأول: أنه لم يقم عليه حد في ذلك وقد نصره القرطبي وابن القيم، وبينا الحكمة في ترك حده، كما سبق7.

_ 1 مجمع الزوائد 9/ 237- 240. 2 انظر ترجمته في ميزان الاعتدال 1/ 253 فقد وصفه بأنه يأتي بالأباطيل، وأنه يضع الحديث، وبأنه كذاب، وذكر له عدة أحاديث من أباطيله، وفي نهاية ترجمته قال: قلت: مجمع على تركه. 3 مجمع الزوائد 7/ 80. 4 هو عبد الله بن عبد الله بن أويس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي، أبو أويس المدني، قريب مالك، وصهره، صدوق يهم، من السابعة (ت 167) / م عم. التقريب. 5 الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب، أبو محمد المدني، صدوق يهم، وكان فاضلا، ولي إمرة المدينة للمنصور، من السابعة (ت168) / س. المصدر السابق 1/ 166. 6 فتح الباري 8/ 479 و481 وهذا الحديث أورده ابن حجر ردا على ابن القيم في جزمه بأن عبد الله بن أبي ابن سلول لم يقم عليه الحد. 7 انظر ص 239 وما بعدها.

الثاني: أنه أقيم عليه الحد مع من حد من الصحابة وأشار إلى هذا القول ابن حجر في الفتح ومستند هذا القول هو هذه الروايات التي لا تخلو كل منها من مقال. والمسألة محتملة، ولكن أكثر أهل العلم أنه لم يقم عليه حد. والله أعلم.

الفصل الثاني: مواقف بعض الصحابة من حادثة الإفك

الفصل الثاني: مواقف بعض الصحابة من حادثة الإفك المبحث الأول: صفوان المعطل ... المبحث الأول: صفوان بن المعطل أ- نسبه: هو صفوان بن المعطل1 بن رحضة2 بن المؤمل بن خزاعي بن محاربن مرة بن هلال بن فالج بن ذكوان بن ثعلبة بن بهثة بن سليم بن منصور السلمي الذاكوني3، يكنى أبا عمرو4.

_ 1 المعطل: بضم الميم وفتح العين المهملة، وبالطاء المهملة، المفتوحة الثقيلة. 2 وعند ابن حزم رخصة بدل رحضة) ثم ساق بقية نسبه كسياق ابن الكلبي. قال المعلق: والمعروف في أسمائهم (رحضة) . قلت: الظاهر أن هذه الكلمة صحفت من رحضة إلى (رخصة) بأن تكون النقطة تقدمت قليلا فصارت رخصة. 3 في اللباب لابن الأثير 1/ 531، الذكواني: نسبة إلى ذكوان وهم بطن كبير من سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان بن مضر. وهو ذكوان بن ثعلبة بن بهثة بن سليم، ينسب إليه خلق كثير منهم: صفوان بن المعطل بن رحضة بن المؤمل بن خزاعي بن محارب بن مرة بن هلال بن فالح بن ذكوان السلمي الذكواني. 4 أسد الغابة 3/ 30 نقلا عن ابن الكلبي.

وساق نسبه إلى خليفة إلى مرة، وأسقط (المؤمل) 1. ب- أول مشاهده: في أسد الغابة نقلا عن ابن الكلبي: أنه أسلم قبل المريسيع وشهدها2. وقال الواقدي: "شهد صفوان الخندق فما بعدها"3. قلت: الراجح ما ذهب إليه ابن الكلبي، ويسانده أن في حديث الإفك، "قالت عائشة وكان يراني قبل أن يضرب علي الحجاب". فهذا يدل على تقدم إسلامه، لأن نزول الحجاب كان في السنة الرابعة على المشهور4. وأما شهوده غزوة المريسيع فهذا مما لا ينبغي النزاع فيه لأن ما حصل له مع عائشة في هذه الغزوة أمر مصرح به في أصح الصحيح. وأما الواقدي فقد تناقض في هذا وذلك أنه يرى تقدم غزوة المريسيع على غزوة الخندق. وقد ذكر حديث الإفك في غزوة المريسيع وفيه قصة صفوان مع عائشة، فقوله هنا بأن صفوان شهد الخندق فما بعدها، أكبر دليل على تناقضه5. ج- وفاته: اختلف العلماء في سنة وفاته والمشهور منها ما يأتي: قال ابن إسحاق: "قتل في غزوة أرمينية شهيدا سنة تسع عشرة، في خلافة عمر بن الخطاب، وكان أمير الجيش يومئذ عثمان بن أبي

_ 1 طبقات خليفة ص 51. 2أسد الغابة3/30وفتح الباري8/461،وتعجيل المنفعة لابن حجر ص:126- 128. 3 المصادر السابقة. 4 انظر ص 94 مما تقدم. 5 انظر مغازي الواقدي 1/ 404 و2/ 440.

العاص الثقفي"، وتبعه على هذا أبو أحمد1 في الكنى، وابن السكن وابن الأثير، وابن كثير2. وقال خليفة بن خياط وابن سعد: "مات في أواخر خلافة معاوية سنة تسع وخمسين"3، وتبعهما السهيلي4. وعند الواقدي والطبري، مات سنة ستين بشمشاط56. قلت: الراجح في هذا ما ذهب إليه ابن إسحاق وموافقوه، وذلك لأن في حديث الإفك، التصريح من عائشة رضي الله عنها "بأنه قتل شهيدا في سبيل الله"7. فهذا يدل على أن وفاته كانت قبل وفاة عائشة رضي الله عنها. وعائشة إنما توفيت في ستة سبع وخمسين، والأكثر على أنها توفيت سنة ثمان وخمسين، وعلى كل حال فالذي ينبغي الجزم به أن وفاته قبل وفاة عائشة لهذا الحديث الصحيح.

_ 1 أبو أحمد هو الحاكم الكبير محدث خراسان الإمام الحافظ الجهبذ، محمد بمن محمد بن أحمد بن إسحاق النيسابوري، الكرابيسي، صاحب التصانيف، ومؤلف كتاب الكنى، سمع ابن خزيمة والباغندي وغيرهما، وعنه الحاكم أبو عبد الله صاحب المستدرك وصاعد بن محمد القاضي وغيرهما. (ت378) تذكرة الحفاظ للذهبي3/976-978. 2 انظر: الاستيعاب لابن عبد البر2/187 وأسد الغابة لابن الأثير3/30 والكامل له 2/563، والبداية والنهاية7/ 96-97، والإصابة2/190،وفتح الباري8/461، وتعجيل المنفعة، ص 127 ثلاثتها لابن حجر. 3 تاريخ خليفة بن خياط، ص 226 وتعجيل المنفعة، ص 128. 4 الروض الأنف، 6/ 437- 438. 5 شمشاط: بكسر أوله وسكون ثانية وشين مثل الأولى، وآخره طاء مهملة، مدينة بالروم على شاطئ الفرات من أعمال خرتبرت، وهي غير سمساط: بسينين مهملتين، وكلتاهما على الفرات، إلا أن سمساط بالإهمال من أعمال الشام وشمشاط بالإعجام في طرف أرمينية. معجم البلدان لياقوت 3/ 362 و2/ 355. 6 تاريخ الإسلام للذهبي 2/ 266 والإصابة لابن حجر 2/ 191. 7 البخاري 6/ 89، كتاب التفسير باب {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا} ومسلم 8/ 119 كتاب التوبة.

د- سبب تأخره عن الجيش: روى البزار من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأصاب عائشة القرعة في غزوة بني المصطلق، فلما كان في جوف الليل انطلقت عائشة لحاجة فانحلت قلادتها فذهبت في طلبها" الحديث ... وفيه "فلما رجعت عائشة لم تر العسكر، قال: وكان صفوان بن المعطل السلمي، يتخلف عن الناس فيصيب القدح والجراب والإداوة، أحسبه قال: فيحمله، قال: فتظر فإذا عائشة فغطى أحسبه قال وجهه عنها ثم أدنى بعيره منها" الحديث ... قال الهيثمي: "رواه البزار1 وفيه محمد بن عمرو2 وهو حسن الحديث، وبقية رجاله ثقات"3. ونسبه السيوطي للبزار أيضا وابن مردويه وساق المتن بدون تردد، وقال: "بسند حسن"4. ورد عند أبي داود أن سبب تأخره هو غلبة النوم عليه. وهذا نصه: حدثنا عثمان5 بن أبي شيبة أخبرنا جرير6 عن

_ 1 البزار: هو الحافظ العلامة أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البصري صاحب المسند الكبير المعلل، سمع من هدبة بن خالد وعبد الأعلى بن حماد وغيرهم، وعنه: عبد الباقي بن قانع وأبو الشيخ وخلق، (ت292) . تذكرة الحفاظ للذهبي 2/ 653- 654. 2 هو ابن علقمة بن وقاص الليثي. 3 مجمع الزوائد 9/ 230. 4 الدر المنثور 5/ 27. 5 عثمان بن محمد بن إبراهيم بن عثمان العبسي، أبو الحسن بن أبي شيبة الكوفي، ثقة حافظ، شهير، وله أوهام، وقيل كان لا يحفظ القرآن، من العاشرة (ت239) خ م د س ق. التقريب 2/ 13. 6 جرير بن عبد الحميد بن قرط بضم القاف وسكون الراء بعدها طاء مهملة، الضبي الكوفي، نزيل الري وقاضيها، ثقة صحيح الكتاب، وقيل كان في آخر عمره يهم من حفظه، (ت 188) ، ع. المصدر السابق 1/ 127.

الأعمش1 عن أبي صالح2 عن أبي سعيد3، قال: "جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ونحن عنده فقالت: يا رسول الله إن زوجي صفوان ابن المعطل يضربني إذا صليت، ويفطرني إذا صمت، ولا يصلي صلاة الفجر حتى تطلع الشمس، قال: وصفوان عنده، قال: فسأله عما قالت، فقال: يا رسول الله، أما قولها يضربني إذا صليت، فإنها تقرأ بسورتين4، وقد نهيتها، قال: فقال: "لو كانت سورة واحدة لكفت الناس" وأما قولها يفطرني، فإنها تنطلق فتصوم وأنا رجل شاب فلا أصبر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ: "لا تصوم5 امرأة، إلا بإذن زوجها". وأما قولها إني لا أصلي حتى تطلع الشمس فإنا أهل6 بيت عرف لنا

_ 1 هو سليمان بن مهران، تقدمت ترجمته. 2 أبو صالح السمان ذكوان الزيات المدني، ثقة ثبت، وكان يجلب الزيت إلى الكوفة من الثالثة، (ت101) . ع: المصدر السابق 1/ 238. 3 أبو سعيد الخدري سعد بن مالك بن سنان بن عبيد الأنصاري، وله ولأبيه صحبة استصغر يوم أحد ثم شهد ما بعدها وروى الكثير، مختلف في وفاته، ع: المصدر السابق 1/ 289. 4 قال صاحب عون المعبود 7/ 129:أي تقرأ بسورتين طويلتين في ركعة أو في ركعتين وقد نهيتها عن تطويل القراءة وإطالة الصلاة، وفي مسند أبي يعلى 2/ 121: "فإنها تقرأ بسورتي" بالإضافة إلى ياء المتكلم والإفراد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقرأي سورته" وفي مشكل الآثار 2/ 424:فإنها تقوم بسورتي التي أقرأها فتقرأ بها وقد وجهها الطحاوي بقوله: يحتمل أن يكون صفوان ظنها إذا قرأت سورته التي يقوم بها، لا يحصل لهما جميعا إلا ثواب واحد، فيريدها أن تقرأ غير ما يقرأ فيحصل لهما ثوابان، فأعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ذلك يحصل له بها ثوابا، لأن قراءة كل واحد لها غير قراءة الآخر إياها". وعند أحمد في المسند 3/ 85:فإنها تقرأ بسورتي فتعطلني. 5 المراد به صوم التطوع إذا كان زوجها حاضرا، لأن حق الزوج مقدم على نفل العبادة، أما إذا كان غائبا عنها فلها أن تصوم، لحديث: "لا تصوم المرأة وبعلها شاهد إلا بإذنه" البخاري7/27كتاب النكاح باب صوم المرأة بإذن زوجها تطوعاً. 6 قوله: "فإنا أهل بيت قد عرف لنا ذاك"، أي فإنا أهل صنعة لا ننام الليل، وذلك أنهم كانوا يسقون الماء في طول الليل، ولذا قال: لا نكاد نستيقظ: أي إذا رقدنا آخر الليل. عون المعبود 7/ 130.

ذاك، لا نكاد نستيقظ حتى تطلع الشمس1، قال: "فإذا استيقظت فصل"2. قال أبو داود: "رواه حماد3 - يعني ابن سلمة - عن حميد4 أو ثابت5 عن أبي6 المتوكل7". قلت: والحديث بهذا الإسناد: عند أحمد وابن حبان والطحاوي وأبي يعلى

_ 1 وعند أحمد: فإني ثقيل الرأس، وأنا من أهل بيت يعرفون بذاك بثقل الرؤوس قال: "فإذا قمت فصل". مسند أحمد 3/ 84- 85. 2 قوله: "فإذا استيقظت فصل"، قال في عون المعبود 7/ 130- 131: "ذلك أمر عجيب من لطف الله سبحانه بعباده ومن لطف نبيه صلى الله عليه وسلم ورفقه بأمته، ويشبه أن يكون ذلك منه على معنى ملكة الطبع، واستيلاء العادة، فصار كالشيء المعجوز عنه، وكان صاحبه في ذلك بمنزلة من يغمى عليه، فعذر فيه ولم يثرب عليه، ثم قال: ويحتمل أن يكون ذلك إنما كان يصيبه في بعض الأوقات دون بعض، وذلك إذا لم يكن بحضرته من يوقظه ويبعثه من المنام، فيتمادى به النوم حتى تطلع الشمس، دون أن يكون ذلك منه في عامة الأحوال فإنه يبعد أن يبقى الإنسان على هذا في دائم الأوقات وليس بحضرته أحد لا يصلح هذا القدر من شأنه، ولا يراعي هذا من حاله، ولا يجوز أن يظن به الامتناع من الصلاة في وقتها ذلك، مع زوال العذر بوقوع التنبيه والإيقاظ ممن يحضره ويشاهده. قلت: وهذا هو الظاهر الذي ينبغي في حقه لأنه لا يمكن أن يتخلف صفوان عن الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدون عذر وذلك لما عرف من حرص الصحابة على الخير واتباع هدى نبيهم، وخاصة صلاة الصبح التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صلى البردين دخل الجنة"، صحيح البخاري 1/ 100 باب فضل صلاة الفجر. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتفقد أصحابه ويسأل عنهم، فيبعد أن يتخلف صفوان عن صلاة الصبح مرارا ولا يفطن له رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة. وقد ورد في مسند أحمد 5/ 312 أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة التي تكره فيها الصلاة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا صليت الصبح فأمسك عن الصلاة حتى تطلع الشمس فإذا طلعت فصل فإن الصلاة محضورة ومتقلبة"،فهذا يدل على أنه كان يصلي الصبح في وقتها. 3 حماد بن سلمة بن دينار البصري، أبو سلمة، ثقة عابد، أثبت الناس في ثابت، وتغير حفظه بآخره، من كبار الثامنة، (ت167) ، خت م عم. التقريب 1/ 197. 4 حميد بن أبي حميد الطويل ثقة مدلس من الخامسة، (ت 142?) ع: التقريب. 5 ثابت بن أسلم البناني أبو محمد البصري، ثقة عابد من الرابعة (ت بضع وعشرين بعد المائة) ع: التقريب 1/ 115. 6 هو علي بن داود ويقال دؤاد بضم الدال بعدها واو بهمزة أبو المتوكل الناجي بنون وجيم. مشهور بكنيته، ثقة من الثالثة، (ت108) ، ع: المصدر السابق 2/ 36. 7 سنن أبي داود 1/ 572، كتاب الصيام باب المرأة تصوم بغير إذن زوجها.

والحاكم وقال: على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وأقره الذهبي1. وبهذه المتابعة التي ذكرها أبو داود علم بأن الحديث صحيح لا مطعن فيه، وأنه لا معارضة بينه وبين حديث أبي هريرة المتقدم2، المصرح بأن صفوان كان يتخلف عن الناس، فيصيب القدح والجراب والإداوة فيحمله ويعطيه أهله، لأنه يقال: إن سبب تأخره عن الجيش هو غلبة النوم ثم بعد استيقاظه يمر بمكان تعريس الجيش فإذا وجد شيئا من المتاع حمله حتى يقدم به على صاحبه. غير أن أبا بكر البزار قد طعن في حديث أبي داود هذا سندا ومتنا. وهذا معنى كلامه: قال: "أما من حيث السند فإن الأعمش مدلس، ولم يقل حدثنا أبو صالح، فأحسب أنه أخذه من غير ثقة وأمسك عن ذكر الواسطة فصار الحديث ظاهر إسناده حسن، وكلامه منكر لما فيه". وأما من حيث المتن: "فإنه ورد فيه أن صفوان بن المعطل كانت له زوجة، وأنه كان لا يصلي الفجر حتى تطلع الشمس". وفي هذا كله مخالفة لما ثبت في حديث الإفك المتفق على صحته، وفيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مدح صفوان وأثنى عليه وذكره بخير3، وفيه أيضا قال: عروة: "قالت عائشة: والله إن الرجل الذي قيل له ما قيل، ليقول: سبحان الله! فوالذي نفسي بيده ما كشفت من كنف4 أنثى قط، قالت: ثم

_ 1 صحيح ابن حبان 3/ 33، ومشكل الآثار 2/ 424، ومسند أبي يعلى2/121 و/134، والمستدرك1/436، ومسند أحمد3/80 و84. 2 انظر ص 250. 3 تقدم ذلك في حديث الإفك في قوله صلى الله عليه وسلم: ((ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا)) . انظر ص 215. وفي هذا رد على ما أورده ابن حجر في الإصابة، وفي تعجيل المنفعة منسوبا إلى أبي يعلى والبغوي من حديث الحسن عن سعيد مولى أبي بكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((دعوا صفوان بن المعطل فإنه طيب القلب خبيث اللسان)) . انظر: الإصابة 2/ 191، وتعجيل المنفعة، ص 128. 4 كناية عن بعده من النساء وأنه ما لمس ثوب امرأة قط، فضلا عن غيره، لأن الكنف هو الثوب الساتر.

قتل بعد ذلك في سبيل الله"1. وقد أجاب العلماء عن اعتراض البزار على هذا الحديث بما يأتي: أ- من حيث السند: أجاب ابن حجر بقوله: "وما أعله به ليس بقادح، فإن ابن سعد صرح في روايته2 بالتحديث بين الأعمش وأبي صالح، وأما رجاله: فرجال الصحيح. وأيضا فإن للحديث متابعا ثم، أورد المتابعة التي ذكرها أبو داود عقب حديث الأعمش، ثم قال: وهذه متابعة جيدة تؤذن بأن للحديث أصلا، وغفل من جعل هذه الطريق الثانية علة للطريق الأولى3. وأشار إلى حديث أبي داود هذا في الإصابة وقال: إسناده صحيح4. وفي تعجيل المنفعة قال: بسند جيد"5. وأجاب صاحب عون المعبود بقوله: "والحاصل أن أبا صالح ليس بمتفرد بهذه الرواية عن أبي سعيد، بل تابعه أبو المتوكل عنه. ثم الأعمش ليس بمتفرد أيضا، بل تابعه حميد أو ثابت وكذا جرير ليس بمتفرد بل تابعه حماد بن سلمة. ثم قال: وفي هذا كله رد على الإمام أبي بكر البزار"6. وقال الألباني: "أخرجه أبو داود وابن حبان والحاكم وأحمد بإسناد صحيح على شرط الشيخين"7.

_ 1 الحديث المشار إليه في البخاري 5/ 98 و100، 6/ 89 ومسلم 8/ 115 و118 و119. 2 لم أجد هذه الرواية في طبقات ابن سعد الكبرى المطبوعة المتداولة. 3 فتح الباري 8/ 462. 4 الإصابة 2/ 191. 5 تعجيل المنفعة ص 128. 6 عون المعبود 7/ 131. 7 انظر المجلد الأول من سلسلة الأحاديث الصحيحة تحت حديث رقم 395.

ب- وأما من حيث المتن: فأجاب ابن القيم بقوله: "اعتراض البزار على هذا الحديث بحديث الإفك، فيه نظر، فلعله تزوج بعد ذلك"1. وأجاب ابن حجر بعدة أجوبة لا تسلم من الاعتراض. ثم قال: "والذي يظهر أن مراده بالنفي المذكور في قصة الإفك، ما قبل هذه القصة، ولا مانع أن يتزوج بعد ذلك، وهذا جمع لا اعتراض عليه، إلا ما جاء عند ابن إسحاق أن صفوان كان حصورا، لكنه لم يثبت، فلا يعارض الحديث الصحيح. وعند الطبراني من حديث ابن عباس: "أنه كان لا يقرب النساء""2. وفي الإصابة بعد أن أورد حديث أبي داود، قال عقبه: ولكن يشكل عليه أن عائشة قالت في حديث الإفك: "إن صفوان بن المعطل قال: والله ما كشفت كنف أنثى قط". وقد أورد هذا الإشكال قديما البخاري ومال إلى تضعيف حديث أبي سعيد بذلك، ثم قال ابن حجر: "ويمكن أن يجاب بأنه تزوج بعد ذلك"3. قلت: حديث ابن إسحاق مرسل رواه عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومحمد هذا من الرابعة4. وحديث الطبراني: أورده الهيثمي في مجمع الزوائد وقال: "فيه إسماعيل بن يحيى بن سلمة بن كهيل متروك"5. وإشكال البخاري المشار إليه، أورده في التاريخ الصغير، وهذا نصه:

_ 1 تهذيب السنن 7/ 129 على هامش عون المعبود. 2 فتح الباري 8/ 462. 3 الإصابة 2/ 191. 4 سيرة ابن هشام 2/ 306، وانظر التقريب 2/ 140. 5 مجمع الزوائد 9/ 236، وانظر التقريب 1/ 75.

حدثني الأويسي1، ثنا إبراهيم بن سعد، عن صالح عن ابن شهاب، قال عروة: قالت عائشة: "والله إن الرجل الذي قيل له ما قيل، يعني صفوان ابن المعطل السلمي ثم الذكواني - ليقول سبحان الله، فوالذي نفسي بيده، ما كشفت من كنف أنثى قط، قالت: ثم قتل بعد ذلك في سبيل الله"، هذا في قصة الإفك. ثم عقب على هذا بقوله: قال أبو عوانة2 وأبو حمزة3 عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد، جاءت امرأة صفوان بن المعطل النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: "إن صفوان يضربني"4. وخلاصة القول في هذا ما أجاب به ابن القيم وابن حجر من أن النفي المذكور في حديث عائشة في قصة الإفك يحمل على ما قبل قصة الإفك، وأن حديث أبي داود ومجيء زوجة صفوان تشكوه يحمل على أنه تزوج بعد ذلك، وبهذا يلتئم شمل الأحاديث ومتى أمكن الجمع فهو أولى من الترجيح. موقفه من حسان بن ثابت: روى ابن إسحاق: حدثني محمد5 بن إبراهيم بن الحارث التيمي أن ثابت6 بن قيس بن الشماس وثب على صفوان بن المعطل حين ضرب حسان

_ 1 عبد العزيز بن عبد الله بن يحيى بن عمرو بن أويس بن سعد بن أبي سرح الأويسي، أبو القاسم المدني، ثقة من كبار العاشرة، خ د ت ق كن. المصدر السابق1/510. 2 وضاح بتشديد المعجمة ثم مهملة ابن عبد الله اليشكري، بفتح التحتية وبشين معجمة وضم كاف الواسطي، البزاز أبو عوانة مشهور بكنيته ثقة ثبت، من السابعة (ت175 أو176) ع. التقريب 2/ 331. 3 هو محمد بن ميمون المروزي، أبو حمزة السكري، ثقة فاضل، من السابعة (ت167 أو168) ع. المصدر السابق 2/ 212. 4 تاريخ البخاري الصغير، ص 25. 5 محمد بن إبراهيم بن الحارث بن خالد التيمي أبو عبد الله المدني، ثقة له أفراد من الرابعة (ت120) على الصحيح، ع: التقريب 2/ 140. 6 ثابت بن قيس بن شماس أنصاري خزرجي، خطيب الأنصار، من كبار الصحابة، بشره النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة واستشهد باليمامة، فنفذت وصيته بمنام رآه خالد بن الوليد، خ د س. المصدر السابق 1/ 116.

فجمع يديه إلى عنقه بحبل، ثم انطلق به إلى دار بني الحارث ابن الخزرج، فلقيه عبد الله بن رواحة، فقال: "ما هذا؟ " قال: "أما أعجبك ضرب حسان بالسيف! والله ما أراه إلا قد قتله"، قال له عبد الله بن رواحة: "هل علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء مما صنعت؟ " قال: "لا والله"، قال: "لقد اجترأت، أطلق الرجل"، فأطلقه، ثم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا حسانا وصفوان بن المعطل، فقال ابن المعطل: "يا رسول الله: آذاني1 وهجاني، فاحتملني الغضب، فضربته"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسان: "أحسن يا حسان، أتشوهت* على قومي، أن هداهم الله للإسلام"، ثم قال: "أحسن يا حسان في الذي أصابك"، قال: "هي لك يا رسول الله"2 والحديث أخرجه ابن جرير الطبري من هذه الطريق3. وأشار ابن حجر إلى هذا الحديث في (تعجيل المنفعة) وقال: "سنده صحيح"4، وقال في الإصابة: "وقصة صفوان مع حسان مشهورة ذكرها يونس بن بكير في زيادات المغازي موصولة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: قعد صفوان بن المعطل لحسان فضربه بالسيف قائلا: تلق ذباب السيف مني فإنني غلام إذا هوجيت لست بشاعر فجاء حسان إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستعداه على صفوان فاستوهبه الضربة فوهبها له.

_ 1 يريد قول حسان: أمس الجلابيب قد عزوا وقد كثروا ... وابن الفريعة أمسى بيضة البلد إلى آخر ما ذكر من الأبيات، ويريد بالجلابيب (الغرباء) وبيضة البلد أي:منفرداً لا يدانيه أحد، وعندها اعترضه صفوان فضربه بالسيف وهو يقول: تلق ذباب السيف عني فإنني ... غلام إذا هوجيت لست بشاعر انظر سيرة ابن هشام 2/ 304- 305. (*) أتشوهت على قومي: أي أقبحت ذلك من فعلهم حين سميتهم بالجلابيب من أجل هجرتهم إلى الله وإلى رسوله)) . 2 المصدر السابق 2/ 305. 3 تاريخ ابن جرير 2/ 618. 4 تعجيل المنفعة، ص128.

ثم قال: وذكرها موسى بن عقبة في المغازي عن الزهري نحوه، وزاد أن سعد بن عبادة كسا صفوان حلة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كساه الله من حلل الجنة"1، وفي سيرة ابن هشام وتاريخ الطبري وتعجيل المنفعة أن هذا حديث ابن إسحاق وليس من الزيادات". والحديث بهذا السياق الذي ذكره ابن حجر عند الطبراني، وفيه: زيادة وهي "أن النبي صلى الله عليه وسلم عوض حسان بن ثابت في ضربته حائطا من نخل عظيم وجارية رومية، ويقال قبطية تدعى سيرين2 فولدت لحسان ابنه عبد الرحمن الشاعر، وباع هذا الحائط من معاوية في ولايته بمال عظيم"، قال الهيثمي بعد إيراده: "رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح إلا أن بعض هذا يخالف ما في الصحيح"3. وقال ابن إسحاق: "حدثني محمد بن إبراهيم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى حسان في ضربته بيرحاء وهي قصر بني حديلة4 اليوم بالمدينة وكانت مالا لأبي طلحة بن سهل تصدق بها على آل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم حسان في ضربته، وأعطاه سيرين أمة قبطية، فولدت له عبد الرحمن بن حسان"5. قلت: هذا مخالف لما ثبت في الصحيحين من أن الذي أعطى حسان هذا المال هو أبو طلحة وذلك لقرابته منه.

_ 1 الإصابة 2/ 191. 2 سيرين هي أخت مارية سرية الرسول صلى الله عليه وسلم أهداهما له المقوقس صاحب الإسكندرية، أسد الغابة7/ 160. 3 مجمع الزوائد 9/ 234- 236. 4 حديلة: قال ابن حجر: "هو بالمهملة مصغرا، ووهم من قاله بالجيم، وبنو حديلة بالمهملة مصغرا، بطن من الأنصار وهم بنو معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار وكان قصر بني حديلة حائطا لأبي طلحة يقال لها بيرحاء" وأن هذا القصر نسب إليهم بسبب المجاورة لكونهم كانوا ساكنين في تلك البقعة، وإلا فالذي بنى القصر هو معاوية بن أبي سفيان بعد أن اشترى حصة حسان بن ثابت منه. وصار هذا القصر فيما بعد للخليفة العباسي أبي جعفر المنصور. انظر فتح الباري 5/ 388 قلت: كان هذا القصر في مكان قصر المدينة الموجود حاليا. 5 سيرة ابن هشام 2/ 306.

وهذا نص الحديث: حدثنا إسماعيل1 قال حدثني مالك عن إسحاق2 بن عبد الله بن أبي طلحة أنه سمع أنس3 بن مالك رضي الله عنه يقول: "كان أبو طلحة أكثر أنصاري بالمدينة نخلا، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة4 المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب، فلما أنزلت: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} ، [سورة آل عمران، من الآية: 92] ، قام أبو طلحة فقال: "يا رسول الله، إن الله يقول: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} ، وإن أحب أموالي إلي بيرحاء، وإنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله"، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بخ ذلك مال رابح5، ذلك مال رابح، وقد سمعت ما قلت وإني أرى أن تجعلها في الأقربين"، قال أبو طلحة: "أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه 6، هذا لفظ البخاري في التفسير وبين حديث أنس الآخر أن أبا طلحة جعلها لحسان بن

_ 1 إسماعيل هو ابن أبي أويس، وهو إسماعيل بن عبد الله بن أويس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي أبو عبد الله بن أبي أويس المدني، أخطأ في أحاديث من حفظه من العاشرة، (ت226) خ م د ت ق. قلت: تابعه يحيى بن يحيى بن بكير التميمي الحنظلي عند مسلم 3/ 79، كتاب الزكاة. 2 إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة الأنصاري المدني، أبو يحيى، ثقة حجة، من الرابعة، (ت132) وقيل بعدها، ع. التقريب 1/ 59. 3 أنس بن مالك بن النضر الأنصاري الخزرجي، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، خدمه عشر سنين، صحابي مشهور، (ت92 وقيل93) ،ع. التقريب1/ 84. 4 من جهة الشمال تجاه باب عثمان بن عفان مع ميل إلى الغرب. 5 رويت هذه اللفظة "رايح ورابح ورائح" قال ابن حجر: "رابح من الربح، ورايح أو رائح بمعنى أن أجرها يروح ويغدو عليه. فتح الباري 3/ 326. 6 البخاري 6/ 31 كتاب التفسير باب {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} و 2/ 102 كتاب الزكاة باب الزكاة على الأقارب و3/ 90 كتاب الوكالة، باب إذا قال الرجل لوكيله: ضعه حيث أراك الله، و4/ 6 كتاب الوصايا باب إذا وقف أو أوصى لأقاربه و4/ 7 باب من تصدق إلى وكيله ثم رد الوكيل إليه و4/ 10 (باب إذا وقف أرضا ولم يبين الحدود فهو جائز) من كتاب الوصايا و7/ 95 كتاب الأشربة باب استعذاب الماء ومسلم 3/ 79 كتاب الزكاة وأبو داود 1/ 392 فيه باب في صلة الرحم.

ثابت وأبي بن كعب وهذا نصه: حدثنا محمد1 بن عبد الله الأنصاري قال: حدثني أبي2 عن ثمامة3 عن أنس رضي الله عنه قال: "فجعلها لحسان وأبي، وأنا أقرب إليه4، ولم يجعل لي منها شيئا"5.

_ 1 محمد بن عبد الله بن المثنى بن عبد الله بن أنس بن مالك الأنصاري، البصري، القاضي، ثقة من التاسعة، (ت215) / ع. التقريب 2/ 180. 2 هو عبد الله بن المثنى بن عبد الله بن أنس بن مالك الأنصاري البصري، صدوق، كثير الغلط، من السادسة، خ ت ق. المصدر السابق 1/ 445. 3 ثمامة بن عبد الله بن أنس بن مالك الأنصاري البصري، قاضيها، صدوق من الرابعة، ع: المصدر السابق1/120.وهذا الحديث عند مسلم من طريق محمد بن حاتم حدثنا بهز حدثنا حماد بن سلمة حدثنا ثابت عن أنس، صحيح مسلم3/79. وعند أبي دلود من طريق موسى بن إسماعيل ثنا حماد بن سلمة ... الخ. سنن أبي داود 1/ 392. 4 انظر تخريج الحديث، ص 209. 5 وهذه القرابة بين أبي طلحة وحسان وأبي بينها محمد بن عبد الله الأنصاري المترجم له في هذا السند. فقال: أبو طلحة هو زيد بن سهل بن الأسود بن حرام بن عمرو بن زيد مناة بن عدي بن عمرو بن مالك بن النجار، وحسان هو:ابن ثابت بن المنذر بن حرلم، يجتمعان إلى حرام، وهو الأب الثالث، وأبي: هو ابن كعب بن قيس ابن عتيك بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار، فعمرو يجمع حسان وأبا طلحة وأبيا. قال الأنصاري: "بين أبي وأبي طلحة ستة آباء"، انظر سنن أبي داود 1/ 392- 393 كتاب الزكاة، باب في صلة الرحم، وصحيح لبخاري 4/ 6 كتاب الوصايا باب إذا وقف أو أوصى لأقاربه وفي حديث الباب: تصريح أنس بن مالك بأنه أقرب إلى أبي طلحة من حسان وأبي بن كعب، وقد وقع عند البخاري 4/ 6 من كتاب الوصايا باب إذا وقف أو أوصى لأقاربه "قال أنس: فجعلها لحسان وأبي وكانا أقرب إليه مني" وقد أورد ابن حجر عدة روايات مصرحة بهذا، ثم وجه قول أنس هذا بأن الذي يجمع أبا طلحة وأنسا، هو النجار، لأنه من بني عدي بن النجار، وأبو طلحة وأبي بن كعب من بني مالك بن النجار فلهذا كان أبي بن كعب أقرب إلى أبي طلحة من أنس. انظر فتح الباري 5/ 380- 381. وأما حديث الباب فقد تعرض له أثناء شرحه له في كتاب التفسير وبين أن المزي أغفل التنبيه على هذه الطريق، ولكنه لم يتعرض لتوجيه قول أنس بأنه أقرب إلى أبي طلحة من حسان وأبي بن كعب فالله أعلم. انظر فتح الباري 8/ 224.

المبحث الثاني: موقف علي بن أبي طالب

المبحث الثاني: موقف علي بن أبي طالب ورد في حديث الإفك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استشار أسامة بن زيد وعلي بن أبي طالب في فراق أهله، فأما أسامة بن زيد فأشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي يعلم من براءة أهله، وبالذي يعلم في نفسه لهم من الود، فقال: "يا رسول الله هم أهلك ولا نعلم إلا خيرا"، وأما علي بن أبي طالب فقال: "لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثير، وإن تسأل الجارية تصدقك"1. وعند ابن إسحاق: فأما أسامة فأثنى علي خيرا، وقاله: ثم قال: "يا رسول الله، أهلك ولا نعلم إلا خيرا، وهذا الكذب والباطل"، وأما علي فإنه قال: "يا رسول الله إن النساء لكثير، وإنك لقادر على أن تستخلف، وسل الجارية، فإنها ستصدقك"، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة ليسألها، قالت: فقام إليها علي بن أبي طالب فضربها ضربا شديدا، ويقول: "اصدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم"2. وبهذا وجدت عائشة رضي الله عنها على علي رضي الله عنه ووصفته بأنه كان مسيئا في حقها - حيث إنه لم يقل كما قال أسامة بن زيد، روى البخاري: حدثني عبد الله3 بن محمد قال: أملى علي هشام4 ابن يوسف من حفظه قال: "أخبرني معمر عن الزهري قال: قال لي الوليد5 بن عبد الملك: "أبلغك أن عليا كان في من قذف عائشة؟ " قلت: لا - ولكن قد أخبرني رجلان من قومك

_ 1 صحيح مسلم 8/ 115، كتاب التوبة، والبخاري 3/ 151، كتاب الشهادات، باب تعديل النساء بعضهن بعضا. 2 سيرة ابن هشام 2/ 301. 3 عبد الله بن محمد بن جعفر الجعفي، أبو جعفر البخاري، المعروف بالمسندي، ثقة حافظ، جمع المسند، من العاشرة (ت229) /خ ت. التقريب 1/ 447. 4 هشام بن يوسف الصنعاني، أبو عبد الرحمن القاضي، ثقة من التاسعة (ت197) /خ عم. المصدر السابق 2/ 320. 5 الوليد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم، المعروف بالوليد الأول، الخليفة الأموي (ت96?) وتقدمت ترجمة بقية رجال الإسناد.

أبو سلمة1 بن عبد الرحمن وأبو بكر2 بن عبد الرحمن بن الحارث - أن عائشة رضي الله عنها قالت لهما: كان علي مسلما3 في شأنها، فراجعوه4 فلم يرجع، وقال: مسلما* بلا شك فيه، وعليه وكان في أصل العتيق كذلك"5. قال ابن حجر: "المراجعة وقعت مع هشام بن يوسف فيما أحسب، وذلك أن عبد الرزاق رواه عن معمر فخالفه، فرواه بلفظ (مسيئا) . كذلك أخرجه الإسماعيلي وأبو نعيم في المستخرجين". وزعم الكرماني أن المراجعة وقعت في ذلك عند الزهري، قال وقوله: فلم يرجع أي: فلم يجب بغير ذلك، قال: "ويحتمل أن يكون المراد، فلم يرجع الزهري إلى الوليد، ثم قال ابن حجر قلت: ويقوي رواية عبد الرزاق، ما في رواية ابن مردويه بلفظ: "أن عليا أساء في شأني والله يغفر له". وقال ابن التين: "روى (مسيئا) وفيه بعد".

_ 1 أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، المدني، قيل اسمه عبد الله وقيل اسمه إسماعيل، ثقة مكثر من الثالثة (ت94) ، وكان مولده سنة بضع وعشرين /ع. المصدر السابق 2/ 430. 2 أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة المخزومي المدني، قيل اسمه محمد وقيل المغيرة، وقيل أبو بكر اسمه، وكنيته أبو عبد الرحمن، وقيل أبو بكر اسمه وكنيته، ثقة فقيه، عابد، أحد الفقهاء السبعة، من الثالثة (ت94) وقيل غير ذلك/ ع. المصدر السابق 2/ 398، وإنما قال الزهري من قومك أي من قريش: لأن أبا بكر بن عبد الرحمن مخزومي، وأبا سلمة زهري: يجمعهما مع بني أمية رهط الوليد مرة بن كعب بن لؤي بن غالب، فتح الباري 7/ 437. 3 قال ابن التين: "قوله مسلما: بكسر اللام، وضبط أيضا بفتحها والمعنى متقارب، عقب عليه ابن حجر بقوله: كون مسلما بكسر اللام وفتحها معناهما متقارب فيه نظر، لأن رواية الفتح تقتضي سلامته من ذلك، ورواية الكسر تقتضي تسليمه لذلك". المصدر السابق7/ 437. 4 من قوله فراجعوه فلم يرجع إلى آخر الحديث ليس من أصل الحديث على حسب المتن الذي اعتمده وإنما هذا موجود في النسخة التي شرح عليها ابن حجر. (*) قال القسطلاني في إرشاد الساري 6/ 343 قوله (مسلما) بكسر اللام المشددة، ولأبي ذر (مسلما) بفتحها. وقوله (بلا شك فيه) لا بلفظ مسيئا. وكان في أصل العتيق مسلما (كذلك) لا مسيئا. 5 صحيح البخاري 5/ 100 (كتاب المغازي باب حديث الإفك) .

ثم عقب ابن حجر على هذا بقوله: "بل هو الأقوى من حيث نقل الرواية، وقد ذكر عياض أن النسفي1رواه عن البخاري بلفظ: (مسيئا) ". وقال: "وكذلك رواه أبو علي بن السكن عن الفربري". وقال الأصيلي2 بعد أن رواه بلفظ: " (مسلما) : كذا قرأناه والأعراف غيره"3. قلت: وقد أورد صاحب (الدر المنثور) ما يقوي لفظ: (مسيئا) . قال: أخرج البخاري4 وابن المنذر والطبراني، وابن مردويه، والبيهقي في (الدلائل) عن الزهري قال: كنت عند الوليد بن عبد الملك فقال: الذي تولى كبره منهم علي، فقلت: لا، حدثني سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وعلقمة بن وقاص، وعبيد الله بن عتبة بن مسعود، كلهم سمع عائشة تقول: "الذي تولى كبره عبد الله بن أبي". قال: "فقال لي فما كان جرمه قلت: حدثني شيخان من قومك: أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، أنهما سمعا عائشة تقول: "كان مسيئا في أمري"5. وقد بينت رواية ابن مردويه سبب هذه المقالة الصادرة من الوليد قال الزهري: كنت عند الوليد بن عبد الملك ليلة من الليالي وهو يقرأ سورة النور، مستلقيا، فلما بلغ هذه الآية: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ

_ 1 هو إبراهيم بن معقل بن الحجاج الحافظ العلامة أبو إسحاق النسفي، قاضي نسف وعالمها ومصنف المسند الكبير والتفسير وغير ذلك، وحدث بصحيح البخاري عنه (ت295) تذكرة الحفاظ للذهبي 2/ 686. 2 هو الحافظ الثبت العلامة أبو محمد عبد الله بن إبراهيم بن محمد الأندلسي، أخذ صحيح البخاري عن أبي زيد محمد بن أحمد المروزي، قال القاضي عياض قال الدارقطني: حدثني أبو محمد الأصيلي ولم أر مثله. (ت392) تذكرة الحفاظ للذهبي 3/ 1024. 3 فتح الباري 7/ 437. 4 تقدم حديث البخاري في ص 261 من هذه الرسالة. 5 الدر المنثور للسيوطي 5/ 32.

لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} ، [سورة النور، الآية: 11] ، جلس ثم قال: "يا أبا بكر من تولى كبره منهم؟ أليس علي بن أبي طالب؟ " قال: "قلت في نفسي: "ماذا أقول؟ لئن قلت لا، لقد خشيت أن ألقى منه شرا، ولئن قلت نعم، لقد جئت بأمر عظيم، قلت في نفسي: لقد عودني الله على الصدق خيرا، قلت: لا"، قال: فضرب بقضيبه على السرير ثم قال: "فمن فمن؟ " حتى ردد ذلك مرارا، قلت: "لكن عبد الله بن أبي"1. وقد جاء عن الزهري أيضا: أن هشام2 بن عبد الملك، كان يعتقد هذا أيضا، فقد أخرج يعقوب بن شيبة في مسنده: حدثنا الحسن بن علي الحلواني، ثنا الشافعي3، ثنا عمي4. قال: دخل سليمان5 بن يسار على هشام بن عبد الملك، فقال له: "يا سليمان {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} ، من هو؟ قال: "ابن أبي". قال: "كذبت هو علي"، قال: "أمير المؤمنين أعلم بما يقول"، فدخل الزهري، فقال: "يا ابن شهاب من الذي تولى كبره؟ " قال: "ابن أبي"، قال: "كذبت هو علي"، فقال: "أنا أكذب، لا أبا لك6، والله لو نادى مناد من السماء أن الله أحل الكذب ما كذبت". حدثني عروة وسعيد وعبيد الله وعلقمة عن عائشة: "أن الذي تولى كبره عبد الله بن أبي (فذكر له قصة مع هشام وفي آخرها - نحن هيجنا الشيخ) "7.

_ 1 فتح االباري 7/ 437. 2 هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم الخليفة الأموي، (ت125?) . 3 هو محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع، أبو عبد الله الإمام المشهور صاحب المذهب (ت204) ، التقريب 2/ 143 خت م عم. 4 هو محمد بن علي بن شافع المطلبي، المكي وثقه الشافعي، من السابعة، د س، المصدر السابق 2/ 192. 5 سليمان بن يسار الهلالي، المدني، مولى ميمونة، وقيل أم سلمة، ثقة فاضل، أحد الفقهاء السبعة، من كبار الثالثة (ت بعد المائة وقيل قبلها) /ع. المصدرالسابق1/331. 6 قوله: لا أبا لك: قال في النهاية: هذا اللفظ أكثر ما يذكر في المدح، أي لا كافي لك غير نفسك، وقد يذكر في معرض الذم كما يقال: لا أم لك. انظر النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 1/ 19. قلت: وهنا يحمل قول الزهري على الذم، لأنه صدر منه في حالة الغضب. 7 فتح الباري 7/ 437، والدر المنثور 5/ 32.

عذر علي بن أبي طالب في ذلك: قال النووي: "الذي قاله علي رضي الله عنه هو الصواب في حقه صلى الله عليه وسلم، لأنه رآه مصلحة ونصيحة للنبي صلى الله عليه وسلم في اعتقاده، ولم يكن ذلك في نفس الأمر، لأنه رأى انزعاج النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر، وتقلقه، فأراد راحة خاطره، وكان ذلك أهم من غيره".ا?ـ1. وقال ابن قيم الجوزية: "ولما استشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في فراق أهله فأشار عليه رضي الله عنه أن يفارقها ويأخذ غيرها تلويحا لا تصريحا، لأنه لما رأى أن ما قيل مشكوك فيه أشار بترك الشك والريبة إلى اليقين، ليتخلص رسول الله صلى الله عليه وسلم من الهم والغم الذي لحقه من كلام الناس، فأشار بحسم الداء"2. وقال ابن حجر: "هذا الذي قاله علي رضي الله عنه حمله عليه ترجيح جانب النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى عنده من القلق والغم بسبب القول الذي قيل، وكان صلى الله عليه وسلم شديد الغيرة3، فرأى علي أنه إذا فارقها سكن ما عنده من القلق بسببها إلى أن يتحقق براءتها فيمكن رجعتها". ثم أورد ما ذكره ابن أبي جمرة في هذا: فقال: وقال الشيخ أبو محمد* بن أبي جمرة: "لم يجزم علي بالإشارة بفراقها، لأنه عقب بذلك بقوله: "وسل الجارية تصدقك" ففوض الأمر في ذلك إلى نظر النبي صلى الله عليه وسلم فكأنه قال: إن أردت تعجيل الراحة ففارقها، وإن أردت خلاف ذلك فابحث عن حقيقة الأمر إلى أن تطلع على براءتها، لأنه كان

_ 1 شرح مسلم 5/ 634. 2 زاد المعاد 2/ 126. 3 الغيرة بفتح الغين: مصدر قولك "غار الرجل على أهله يغار غيرا وغيرة وغارا ومعناه الحميةوالأنفة".انظر: مختار الصحاح ص:486،والنهاية لابن الأثير3/401. (*) هو عبد الله بن أبي جمرة محدث مقرئ من آثاره: مختصر الجامع الصحيح للبخاري، وشرح بهجة النفوس في سفرين، (ت699?) ، معجم المؤلفين لكحالة 6/ 40.

يتحقق أن بريرة لا تخبره إلا بما علمته، وهي لم تعلم من عائشة إلا البراءة المحضة"1. وبهذا اتضح عذر علي رضي الله عنه وأنه على خلاف ما وصفه به الوليد وهشام بل وعلى خلاف ما ثبت عن عائشة رضي الله عنها فإنها لم تقل كان علي ممن تولى كبر الإفك وإنما قالت: كان مسيئا في شأني، حيث إنه لم يجزم ببراءتها كما جزم أسامة بن زيد بذلك2.

_ 1 فتح الباري 8/ 468. 2 قال ابن حجر في الفتح 7/ 437: "وكأن بعض من لا خير فيه من الناصبة تقرب إلى بني أمية بهذه الكذبة فحرفوا قول عائشة إلى غير وجهه لعلمهم بانحرافهم عن علي فظنوا صحتها، حتى بين الزهري للوليد أن الحق خلاف ذلك".

المبحث الثالث: موقف بريرة

المبحث الثالث: موقف بريرة ورد ذكرها في حديث الإفك عندما استشار الرسول صلى الله عليه وسلم عليا في شأن عائشة رضي الله عنها، فقال: "لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير، وإن تسأل الجارية تصدقك"، قالت عائشة: "فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة"، فقال: "أي بريرة1 هل رأيت من شيء يريبك من عائشة؟ " الحديث2 ... ورغم هذا كله فقد استشكل العلماء وجودها في قصة الإفك وذلك لأن قصة الإفك متقدمة، وكان شراء عائشة لبريرة ومكاتبتها متأخرين وقد أجاب العلماء عن هذا الإشكال بما يأتي: أ- قال ابن القيم: "وقد استشكل وجود بريرة في هذا الحديث وذلك أن بريرة إنما كاتبت وعتقت بعد هذا بمدة طويلة، وكان العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ذاك في المدينة، والعباس إنما قدم المدينة بعد

_ 1 بريرة: بفتح الموحدة، وكسر الراء الأولى وسكون التحتانية. 2 انظر الحديث في صحيح مسلم 8/ 115 كتاب التوبة وصحيح البخاري 3/ 151، كتاب الشهادات.

الفتح، ولهذا قال له النبي صلى الله عليه وسلم، وقد شفع إلى بريرة أن تراجع زوجها فأبت أن تراجعه، يا عباس ألا تعجب من بغض بريرة مغيثا وحبه لها، ففي قصة الإفك لم تكن بريرة عند عائشة، وهذا الذي ذكروه إن كان لازما فيكون الوهم من تسمية الجارية بريرة، ولم يقل علي سل بريرة، وإنما قال: فسل الجارية تصدقك، فظن بعض الرواة أنها بريرة فسماها بذلك، وإن لم يلزم بأن يكون طلب مغيث لها استمر إلى ما بعد الفتح ولم ييأس منها زال الإشكال"1. قلت: ما أشار إليه من قصة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عمه العباس هو ما رواه البخاري عن ابن عباس: "أن زوج بريرة كان عبدا يقال له مغيث، كأني أنظر إليه يطوف خلفها يبكي، ودموعه تسيل على لحيته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعباس: "يا عباس ألا تعجب من حب مغيث بريرة، ومن بغض بريرة مغيثا"، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لو راجعته، قالت: يا رسول الله تأمرني؟ قال: "إنما أنا أشفع، قالت: لا حاجة لي فيه"2. ب- وقال ابن حجر في أثناء شرحه لحديث الإفك تحت قوله: "فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة - قد قيل: إن تسميتها هنا وهم، لأن قصتها كانت بعد فتح مكة"، ثم أشار إلى حديث ابن عباس الآنف الذكر، ثم عقب بقوله: "ويمكن الجواب بأن تكون بريرة كانت تخدم عائشة وهي في رق مواليها، وأما قصتها معها في مكاتبتها وغير ذلك فكان بعد ذلك بمدة، أو أن اسم هذه الجارية المذكورة في قصة الإفك، وافق اسم بريرة التي وقع لها التخيير بعد عتقها". ثم قال ابن حجر: "وجزم البدر الزركشي فيما استدركته عائشة على الصحابة أن تسمية هذه الجارية ببريرة مدرج من بعض الرواة، وأنها جارية أخرى ... " ثم قال: "وأخذ هذا من ابن القيم3 الحنبلي4".

_ 1 زاد المعاد 2/ 129. 2 صحيح البخاري 7/ 42 كتاب الطلاق باب شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في زوج بريرة. 3 انظر قول ابن القيم ص 266. 4 فتح الباري 8/ 469.

قلت: كلام البدر الزركشي المشار إليه هذا نصه: "فإنه بعد أن ذكر نزول القرآن ببراءة عائشة مما رميت به وجلد الذين قذفوها قال عقب ذلك: تنبيه جليل على وهمين وقعا في حديث الإفك في صحيح البخاري أحدهما1 قول علي رضي الله عنه "وسل الجارية تصدقك" قال: "فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة ... ". وبريرة إنما اشترتها عائشة وأعتقتها بعد ذلك. ويدل عليه أنها لما أعتقت واختارت نفسها، جعل زوجها يطوف وراءها في سكك المدينة ودموعه تتحادر على لحيته، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم "لو راجعته" فقلت: أتأمرني؟ فقال: "إنما أنا شافع". فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا عباس ألا تعجب من حب مغيث لبريرة وبغضها له" والعباس إنما قدم المدينة بعد الفتح. والمخلص من هذا الإشكال: أن تفسير الجارية ببريرة مدرج في الحديث من بعض الرواة، ظنا منه أنها هي. وهذا كثيرا ما يقع في الحديث من تفسير بعض الرواة، فيظن أنه من الحديث، وهو نوع غامض لا ينتبه له إلا الحذاق. ومن نظائره ما وقع في الترمذي وغيره2 من حديث يونس بن أبي إسحاق عن أبي بكر بن أبي موسى عن أبيه قال: "خرج أبو طالب إلى الشام وخرج معه النبي صلى الله عليه وسلم في أشياخ من قريش"، فذكر الراهب وقال في آخرها: "

_ 1 وثانيهما هو وجود سعد بن معاذ في غزوة بني المصطلق، ومراجعته لسعد بن عبادة في شأن أهل الإفك. 2 انظر سنن الترمذي 5/ 250 كتاب المناقب باب ما جاء في بدء نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.

فرده أبو طالب وبعث معه أبو بكر بلالا وزوده الراهب من الكعك1 والزبيب"2. فهذا من الأوهام الظاهرة، لأن بلالا إنما اشتراه أبو بكر بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم وبعد أن أسلم بلال، وعذبه قومه، ولما خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الشام مع عمه أبي طالب كان له من العمر اثنتا عشرة سنة وشهران وأيام، ولعل بلالا لم يكن ولد. ولما خرج في المرة الثانية، كان له قريب من خمس وعشرين سنة ولم يكن مع عمه أبي طالب، إنما كان مع ميسرة"3.ا? قلت: أورد ابن حجر استشكال4 البدر الزركشي، ثم عقب بقوله: وأجاب غيره بجواز أنها كانت تخدم عائشة بالأجرة، وهي في رق مواليها قبل وقوع قصتها في المكاتبة. ثم قال ابن حجر: هذا أولى من دعوى الإدراج وتغليط الحفاظ5. وبين هذا الغير في موضع آخر6 بأنه تقي الدين السبكي7. والخلاصة: أن البدر الزركشي ذكر ثلاثة أوهام تتعلق بحديث الإفك، وهم في ذكر بريرة، ووهم في ذكر سعد بن معاذ في هذه الغزوة ومحاورته مع سعد بن عبادة، ووهم في سماع مسروق من أم رومان، أم عائشة التي هي إحدى من روى قصة الإفك، ثم كر على الوهمين الأخيرين بما يدفعهما.

_ 1 الكعك: خبز معروف فارسي، معرب. القاموس المحيط للفيروز آبادي 3/ 317، ومختار الصحاح لأبي بكر الرازي، ص 572 2 في حديث الترمذي: الزيت. انظر سنن الترمذي 5/ 250 كتاب المناقب باب ما جاء في بدء نبوة النبي صلى الله عليه وسلم 3 الإجابة فيما استدركته عائشة على الصحابة، ص 47- 50. 4 تقدم ص 267. 5 فتح الباري 8/ 469 و9/409. 6 فتح الباري 8/ 469 و9/ 409. 7 هو علي بن عبد الكافي بن علي بن تمام بن يوسف بن موسى بن تمام، تقي الدين السبكي، الخزرجي الأنصاري، أبو الحسن الدمشقي الشافعي، صاحب كتاب (شفاء السقام في زيارة خير الأنام) في الرد على ابن تيمية، وكمل على شرح المهذب للنووي في خمس مجلدات وهو والد تاج الدين أبي نصر عبد الوهاب صاحب كتاب (طبقات الشافعية الكبرى) ، (ت756) ذيل تذكرة الحفاظ لأبي المحاسن محمد بن علي تلميذ الذهبي، ص 39- 40.

أما الوهم المتعلق ببريرة، فلم يدفعه بشيء، بل نظر له بوهم لا شك فيه، وهو ما وقع في حديث الترمذي في قصة ذهاب الرسول صلى الله عليه وسلم مع عمه أبي طالب إلى الشام، وما حصل له مع الراهب، وما كان من أمر عمه له بالرجوع إلى مكة، وما كان من قصة أبي بكر وبلال، وتزويد الراهب له، بالكعك والزيت، فهذا الصنيع منه يدل على أنه جازم بأن ذكر بريرة في حديث الإفك، مدرج من بعض الرواة، وأن الجارية التي أرادها علي بن أبي طالب غير بريرة، مولاة عائشة رضي الله عنها. فظن هذا الراوي أنها هي، غير أنه في ختام كلامه على هذه الأوهام الثلاثة، قال: "فهذه ثلاثة أوهام ادعيت في حديث الإفك، والثلاثة ثابتة في الصحيح، فلا ينبغي الإقدام على التوهيم إلا بأمر بين، وقد تقدم ما يدفع الكل". لكن المتتبع لكلامه يجد أنه تقدم له ما يدفع وهمين فقط. وهما: الوهم في ذكر سعد بن معاذ، والوهم في سماع مسروق من أم رومان. أما الوهم المدعى في بريرة، فلم يسبق له ما يدفعه كما يفهم من كلامه وتعميمه، بل الذي سبق له يدل على جزمه بهذا الوهم كما نظر لذلك بالوهم المذكور في قصة ذهاب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الشام، وقد مر قريبا1. ولعل هذا الصنيع منه هو الذي حمل ابن حجر، فقال عنه: إنه جازم بهذا الوهم كما سبق ذكره2. ولكنني أستشعر من صنيعه أنه متردد في الجزم بهذا الوهم أيضا، لأن قوله: "هو ثلاثة أوهام ادعيت في حديث الإفك، والثلاثة ثابتة في الصحيح فلا ينبغي الإقدام على التوهيم إلا بأمر بين" دليل على ما أقول. هذا على فرض أن هناك تعارضا بين قصة مغيث وزوجته، وبين ذكر بريرة في قصة الإفك، ولكن يظهر للمتأمل أن لا وجود للتعارض أصلا، لأن

_ 1 انظر: ص 268، وما بعدها. 2 انظر: ص 267.

رؤية ابن عباس لمغيث وهو يطوف في سكك المدينة متابعا لزوجه بريرة، وهي كارهة له، لا يدل على عدم وجود صلة بين عائشة وبريرة قبل ذلك، لأن بريرة مولاة للأنصار وهي موجودة حتما في المدينة، قبل هجرة العباس وابنه، فما المانع من وجود صلة وثيقة بينها وبين عائشة أم المؤمنين، بل مجيئها إلى عائشة تستعينها في فكاك رقبتها يدل دلالة واضحة على تقدم الصلة بينهما، ومعروف أن الناس يتسابقون إلى خدمة بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلتكن بريرة إحدى الخدم في بيت عائشة بالأجرة، أو بغيرها، ونكون قد سلمنا من توهيم العلماء وتغليط الحفاظ، وتكلفات الجمع التي ذكرت في هذا الصدد خاصة أن ذكر بريرة في حديث الإفك ثابت في أصح الصحيح في البخاري ومسلم، وغيرهما من كتب السنة وتظافرت الروايات على ذكرها، مما يدفع أي ريب في وجودها في هذه الحادثة، ومساءلة الرسول صلى الله عليه وسلم لها والله أعلم.

المبحث الرابع: موقف أبي أيوب الأنصاري وزوجه

المبحث الرابع: موقف أبي أيوب الأنصاري وزوجه قال البخاري: "لما أخبرت عائشة بالأمر1 قالت: يا رسول الله أتأذن لي أن أنطلق إلى أهلي، فأذن لها وأرسل معها الغلام"2. "وقال رجل من الأنصار: سبحانك ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم"3. قال ابن حجر: قوله: "وقال رجل من الأنصار ... "الخ وقع عند ابن إسحاق أنه أبو أيوب الأنصاري، وأخرجه الحاكم من طريقه، وأخرجه الطبراني

_ 1 أي: بأمر الإفك. 2 قال ابن حجر في فتح الباري 13/ 344:هو موصول بالسند قبله. قلت: والسند الذي قبله هو:حدثني محمد بن حرب، حدثنا يحيى بن أبي زكريا الغساني عن هشام عن عروة عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس فحمد الله وأثنى عليه، وقال: ما تشيرون علي في قوم يسبون أهلي، ما علمت عليهم من سوء قط. 3 البخاري 9/ 92 كتاب الاعتصام باب قوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} .

في مسند الشاميين، وأبو بكر الآجري1 في طرق حديث الإفك من طريق عطاء2 الخراساني عن الزهري عن عروة عن عائشة3. وأشار ابن حجر أيضا إلى هذا في تفسير سورة النور أثناء شرحه لحديث الإفك، فقال: وفي رواية هشام عن عروة: "قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا فتشهد وحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: "أما بعد"". وزاد عطاء الخراساني عن الزهري هنا قبل قوله فقام: "وكانت أم أيوب الأنصارية قالت لأبي أيوب: "أما سمعت ما يتحدث الناس؟ " فحدثته بقول أهل الإفك، فقال: "ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم"، ثم أشار إلى ما علقه البخاري بقوله: "وقال رجل من الأنصار"4. وقال: فيستفاد معرفته من رواية عطاء هذه5. قلت: وقد رواه الواحدي أيضا موصولا من طريق عطاء المذكور ولفظه: عن الزهري عن عروة أن عائشة

_ 1 أبو بكر الآجري هو محمد بن الحسين بن عبد الله البغدادي الإمام المحدث القدوة، مصنف كتاب الشريعة في السنةوغير ذلك (ت360) تذكرة الحفاظ للذهبي3/936. 2 عطاء بن أبي مسلم أبو عثمان الخراساني، واسم أبيه ميسرة وقيل عبد الله، صدوق يهم كثيرا ويدلس، من الخامسة، (ت 135) لم يصح أن البخاري أخرج له/ م عم. التقريب 2/ 23. وفي تهذيب التهذيب 7/ 213 نقل توثيقه عن ابن معين وأبي حاتم وابن سعد والدارقطني وقال النسائي: ليس به بأس، ونقل تضعيفه عن البخاري وابن حبان، وقال شعبة: كان نسيا. وفي ميزان الاعتدال 3/ 73- 75 نقل توثيقه عن أحمد والعجلي ويعقوب بن شيبة، علاوة على من ذكرهم ابن حجر، ونقل تضعيفه عن العقيلي وابن حبان ولم يرتض ذلك، ونقل عن النرمذي أنه قال في كتاب العلل: "قال محمد - يعني البخاري-: "ما أعرف لمالك رجلا يستحق أن يترك حديثه غير عطاء الخراساني"، قلت: "ما شأنه؟ " قال: "عامة أحاديثه مقلوبة". ثم قال الترمذي معقبا على هذا: "عطاء ثقة"، روى عنه مثل مالك ومعمر، ولم أسمع أن أحدا من المتقدمين تكلم فيه". ا?ـ. لم أجد هذا في العلل الموجود بأيدينا وبهذا التقرير يكون قول ابن حجر في عطاء: " صدوق يهم كثيرا" فيه نظر. والظاهر أنه ثقة قد وثقه أجلة أئمة النقد. أمثال أحمد وابن معين وأبي حاتم والدارقطني والعجلي ويعقوب بن شيبة وغيرهم. 3 فتح الباري 13/ 344. 4 تقدم ص 271. 5 فتح الباري 8/ 470.

رضي الله عنها حدثته بحديث الإفك وقالت فيه: "وكان أبو أيوب1 الأنصاري حين أخبرته امرأته2 وقالت: "يا أبا أيوب ألم تسمع بما تحدث الناس؟ " قال: "وما يتحدثون؟ " فأخبرته بقول أهل الإفك، فقال: "ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم". قالت: "فأنزل الله عز وجل: {وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} ، [سورة النور، الآية: 16] 3. ورواية ابن إسحاق التي أشار إليها ابن حجر فيما تقدم4، هذا نصها: قال ابن إسحاق: حدثني أبي5 إسحاق بن يسار عن بعض رجال بني النجار أن أبا أيوب خالد بن زيد، قالت له امرأته أم أيوب: "يا أبا أيوب ألا تسمع ما يقول الناس في عائشة؟ " قال: "بلى، وذلك الكذب، أكنت يا أم أيوب فاعلة؟ " قالت: "لا والله ما كنت لأفعله" قال: "فعائشة والله خير منك"، قالت: "فلما نزل القرآن بذكر من قال من أهل الفاحشة ما قال من أهل الإفك، فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} ، [سورة النور، الآية: 11] .

_ 1 أبو أيوب هو خالد بن زيد بن كليب الأنصاري الخزرجي من كبار الصحابة، شهد بدرا، ونزل النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة عليه، مات غازيا بالروم سنة خمسين وقيل بعدها/ ع. التقريب 1/ 213. 2 هي أم أيوب الأنصارية الخزرجية، زوج أبي أيوب الأنصار، وهي بنت قيس بن سعد، وكان أبوها خال زوجها./ د ق. المصدر السابق 2/ 619. 3 أسباب النزول للواحدي، ص 218. 4 انظر ص 271. 5 هو إسحاق بن يسار المدني، والد محمد صاحب المغازي، ثقة من الثالثة/مد. التقريب 1/ 62.

وذلك حسان بن ثابت وأصحابه الذين قالوا ما قالوا. ثم قال تعالى: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} ، [سورة النور، الآية: 12] ، أي فقالوا: كما قال أبو أيوب وصاحبته". الحديث ... 1. وأخرجه من طريق الطبري وابن كثير2. وفي الدر، أخرج ابن إسحاق وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن بعض الأنصار أن امرأة أبي أيوب قالت له حين قال أهل الإفك ما قالوا ... الحديث3 وأما رواية الحاكم فقال ابن حجر فيما تقدم4 إنها من طريق ابن إسحاق، وقال في موضع5 آخر بعد أن ذكر رواية ابن إسحاق: وللحاكم من طريق أفلح6 مولى أبي أيوب ونحوه7. وقال السيوطي بعد أن ذكر الطريق المتقدمة: "وأخرج الواحدي8 وابن عساكر الحاكم عن أفلح مولى أبي أيوب، أن أم أيوب قالت: "ألا تسمع ما يقول الناس في عائشة؟ " قال: "بلى، وذلك الكذب"، الحديث"9 ... وهكذا ذكر الشوكاني بعد أن ساق الطريق الأولى، التي عند السيوطي

_ 1 سيرة ابن هشام 2/ 302- 303. 2 تفسير الطبري 18/ 96 وتاريخه 2/ 617 وتفسير ابن كثير 3/ 273. 3 الدر المنثور للسيوطي 5/ 33. 4 انظر ص 271. 5 فتح الباري 8/ 470. 6 أفلح مولى أبي أيوب الأنصاري، أبو عبد الرحمن، وقيل أبو كثير، ثقة مخضرم، من الثانية، (ت 63) / م مد. التقريب 1/ 83. 7 طالعت المستدرك فلم أجد هذه الرواية فلعلها في الإكليل فإن ابن حجر كثيرا ما ينسب إليه. 8 كذا هو في الدر الواحدي وصوابه: (الواقدي) كما في رواية الشوكاني، وكما هو أصل الحديث من هذه الطريق عند الواقدي، وأما الواحدي فقد أخرج الحديث من طريق عطاء الخراساني عن الزهري عن عروة عن عائشة كما تقدم، ص 272، وانظر أسباب النزول له، ص 218. 9 الدر المنثور 5/ 33.

قال: "وأخرج الواقدي والحاكم وابن عساكر عن أفلح مولى أبي أيوب أن أم أيوب فذكر نحوه1 فهذا ظاهر في أن للحاكم روايتين: إحداهما من طريق ابن إسحاق، والأخرى ليست من طريقه". وحديث الواقدي المشار إليه هو: حدثني ابن أبي2 حبيبة عن داود3 بن الحصين عن أبي سفيان4 عن أفلح مولى أبي أيوب أن أم أيوب قالت لأبي أيوب: "ألا تسمع ما يقول الناس في عائشة؟ " قال: "بلى، وذلك الكذب"، ثم ساق قريبا من ألفاظ حديث ابن إسحاق5 المتقدم6. فهذه ثلاث روايات وردت في هذا الباب: الأولى: رواية ابن إسحاق وفيها الإبهام المذكور (عن بعض رجال بني النجار) . الثانية: رواية الحاكم والواقدي وابن عساكر من طريق أفلح مولى أبي أيوب وهي موصولة عند الواقدي، وأما رواية الحاكم وابن عساكر فلا نستطيع الجزم بوصلها أو عدمه إلا بعد الإطلاع على تاريخ ابن عساكر والإكليل للحاكم. الثالثة: رواية أبي بكر الآجري والواحدي من طريق عطاء الخراساني عن الزهري عن عروة عن عائشة وهي موصولة عند الواحدي.

_ 1 فتح القدير للشوكاني 4/ 15- 16. 2 إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة الأنصاري، الأشهلي، مولاهم أبو إسماعيل المدني، ضعيف، من السابعة، (ت 165) وهو ابن 82 سنة، / دت س. التقريب 1/ 31. 3 داود بن الحصين الأموس، أبو سليمان المدني، ثقة إلا في عكرمة، ورمي برأي الخوارج، من السادسة (ت 135) /ع. المصدر السابق 1/ 231. 4 أبو سفيان مولى ابن أبي أحمد، قيل اسمه وهب، وقيل قزمان، ثقة من الثالثة / ع. المصدر السابق 2/ 429. 5 تقدم ص 273. 6 مغازي الواقدي 2/ 434.

فهذه الروايات بمجموعها يقوي بعضها بعضا ويكون الحديث على أقل تقدير حسنا لغيره. وهذه الأحاديث المتعاضدة تبرز موقف أبي أيوب وزوجه من حادثة الإفك، وهو موقف جدير بالتنويه، ذلك لأن بعض الناس وقعوا في شرك هذه الدسيسة السيئة والفرية الذميمة فأخذوا يشيعونها دون وعي لأبعادها السيئة، أما أبو أيوب وزوجه فقد نفياها واعتبراها بهتانا عظيما، وأوضحا أن أقل رتبة في الورع والاستقامة من عائشة وصفوان لا يقع في مثل هذه السفاسف. فكيف بأم المؤمنين وزوج سيد الخلق أجمعين، فرضي الله عن أبي أيوب وزوجه وأرضاهما. ولقد أنصفتهما عائشة رضي الله عنها فنوهت بموقفهما النزيه الشريف من هذه الفرية وكأنها تعرض بمن وقع في حبائل هذه الفتنة العمياء. وأنزل الله سبحانه فيما أنزل في كتابه: {هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} إشارة إلى موقف أبي أيوب وزوجه، وقولهما ذلك كما أثبتت ذلك الروايات السابقة، وعلى هذا جرى عامة المفسرين فإنهم حين يفسرون قوله سبحانه {ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم} يذكرون هذه روايات المتعلقة بموقف أبي أيوب وزوجه على أن المراد بهذه الإشارة القرآنية هو أبو أيوب الأنصاري وزوجه والله أعلم.

المبحث الخامس: النزاع بين الأوس والخزرج

المبحث الخامس: النزاع بين الأوس والخزرج حصل نزاع شديد بين الحيين الأوس والخزرج بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين خطب في الناس يستعذر من ابن أبي، فقال: "يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل بلغ أذاه في أهل بيتي، فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا، وما كان يدخل على أهلي إلا معي". فقام سعد بن معاذ الأنصاري سيد الأوس فقال: "أنا أعذرك منه

يا رسول الله إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك". فرد عليه سعد بن عبادة سيد الخزرج بقوله: "كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله". فقام أسيد بن حضير ابن عم1 سعد بن معاذ فقال لسعد بن عبادة:"كذبت لعمر الله لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين". فثار الحيان، الأوس والخزرج، حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر فلم يزل يخفضهم حتى سكتوا، وسكت. وسوف أسرد الروايات المتعلقة بهذا الشجار مبينا السبب الدافع لسعد بن عبادة على مقالته، ومحاولا بعد ذلك تحليلها حسب الإمكان. فأقول: إن السبب الدافع لسعد ابن عبادة على ما جرى منه هو قول سعد بن معاذ: "إن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك"، فأثرت هذه الكلمة في سعد بن عبادة تأثيرا شديدا، ذلك لأنه رأى أن فيها هضما لحقه بحكم أنه سيد الخزرج ويريد سعد بن معاذ أن يتحكم فيهم، مما يجعله يتهم سعد بن معاذ بأن فعله هذا لم يكن نصرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما أراد بذلك الانتقام من الخزرج لما كان بينهم من العداوة قبل الإسلام، وهذه الروايات المتعلقة بذلك: فقد صرحت عائشة بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يستشيرهما في فراق أهله الحديث، وفيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر: "يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغ أذاه في أهل بيتي، فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا، وما كان يدخل على أهلي إلا معي" فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال: "أنا أعذرك منه يا رسول الله إن كان من الأوس ضربنا عنقه وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك".

_ 1 قال ابن حجر: ليس ابن عمه لحما، ولكنهما يجتمعان في امرئ القيس لأن سعد بن معاذ هو ابن النعمان بن امرئ القيس، وأسيد بن حضير ابن سماك وابن عتيك بن امرئ القيس (الفتح 8/ 474، والإصابة 1/ 49 و2/ 37، وأسد الغابة 1/ 111 و2/ 373) .

قالت: فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج، وكان رجلا صالحا ولكن اجتهلته الحمية، فقال لسعد ابن معاذ: "كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله". فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعد بن معاذ فقال لسعد بن عبادة: "كذبت لعمر الله لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين". فثار الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا الحديث ... 1. وفي لفظ: "وكان رجلا صالحا، ولكن احتملته الحمية"2. وعند الواقدي: "وكان قبل ذلك رجلا صالحا ولكن الغضب بلغ منه، وعلى ذلك ما غمص عليه في نفاق ولا غير ذلك إلا أن الغضب يبلغ من أهله"3. ما رواه البخاري في المغازي: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله حدثنا إبراهيم بن سعد عن صالح عن ابن شهاب قال: حدثني عروة بن الزبير وسعيد بن المسيب وعلقمة بن وقاص وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة ابن مسعود عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم حين قال لها أهل الإفك ما قالوا وكلهم حدثني طائفة من حديثها ثم ساق الحديث ... وفيه: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستعذر من عبد الله ابن أبي وهو على المنبر فقال: "يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغ أذاه في أهلي ... " فقام سعد بن معاذ أخو بني عبد الأشهل، فقال: "أنا يا رسول الله أعذرك، فإن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا4 من الخزرج، أمرتنا ففعلنا أمرك".

_ 1 صحيح مسلم 8/ 116 و118 من كتاب التوبة، وانظر سياق حديث الإفك، ص 205 وما بعدها. 2 صحيح مسلم 8/ 116 و118 من كتاب التوبة، وانظر سياق حديث الإفك، ص 205 وما بعدها. 3 مغازي الواقدي، 2/ 431. (من) تبعيضية والأخرى بيانية، فتح الباري 8/ 472.

قالت: فقام رجل من الخزرج وكانت أم حسان بنت عمه من فخذه1 وهو سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج، قالت: وكان قبل ذلك رجلا صالحا ولكن احتملته الحمية، فقال لسعد: "كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله، ولو كان من رهطك ما أحببت أن يقتل"، وهذا محل الشاهد2. وعند ابن إسحاق من رواية عباد بن عبد الله بن الزبير وعمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة "فقام سعد بن عبادة وكان قبل ذلك يرى رجلا صالحا، فقال: كذبت لعمر الله لا تضرب أعناقهم، أما والله ما قلت هذه المقالة إلا أنك قد عرفت أنهم من الخزرج، ولو كانوا من قومك ما قلت هذا"3ا?. وعند ابن إسحاق بن راهويه والطبري من حديث يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن علقمة بن وقاص وغيره أيضاً قال: خرجت عائشة تريد المذهب ومعها أم مسطح وكان مسطح بن أثاثة ممن قال، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس قبل ذلك فقال: "كيف ترون فيمن يؤذيني في أهلي ويجمع في بيته من يؤذيني؟ " فقال سعد بن معاذ: "أي رسول الله إن كان منا معشر الأوس جلدنا رأسه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا فأطعناك"، فقال سعد بن عبادة: "يا ابن معاذ والله ما بك نصرة رسول الله، ولكنها قد كانت ضغائن4 في الجاهلية وأحن5 لم تحلل6 لنا من صدوركم" فقال ابن معاذ: "الله أعلم ما أردت".

_ 1 قال ابن حجر: "قوله: (من فخذه) بعد قوله: (بنت عمه) ، إشارة إلى أنها ليست بنت عمه لحما لأن سعد بن عبادة يجتمع معها في ثعلبة: فهو سعد بن عبادة بن دليم بن حارثة بن أبي خزيمة بن ثعلبة ... الخ" وهي الفريعة بنت خالد بن خنيس بن لوذان بن عبدود بن زيد بن ثعلبة. الخ، انظر فتح الباري 8/ 472 و7/ 126 من كتاب المناقب. 2 كتاب المغازي باب حديث الإفك 5/ 98- 99. 3 سيرة ابن هشام 2/ 300 غير أن ابن إسحاق صرح بوقوع المحاورة بين أسيد بن حضير وبين سعد بن عبادة، ولم يذكر في حديثه سعد بن معاذ أصلا. 4 ضغائن: جمع ضغينة وهي: الحقد والعداوة والبغضاء. النهاية لابن الأثير 3/ 91. 5 الإحن: جمع أحنة: وهي الحقد والبغضاء. المصدر السابق 1/ 27. 6 لم تحلل لنا من صدوركم: أي لم تزل كامنة لنا في صدوركم.

فقام أسيد بن حضير فقال: "يا ابن عبادة إن سعدا ليس شديدا، ولكنك تجادل عن المنافقينن وتدفع عنهم"، وكثر اللغط في المسجد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس على المنبر، فما زال النبي صلى الله عليه وسلم يومئ بيده إلى الناس ههنا وههنا حتى هدأ الصوت" الحديث1 ... وقد صرح إسحاق بن راهويه في روايته بتحديث ابن حاطب لمحمد2 بن بشر العبدي، ولكن الذي يظهر أنه سقط من السند شيخ محمد بن بشر العبدي وهو محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي، ويكون هو الذي قال: حدثنا ابن حاطب، كما هو مصرح به عند الطبري في هذا الحديث. ويقوي هذا أن محمد بن بشر العبدي من التاسعة، وابن حاطب من الثالثة فبينهما ست طبقات3. وفي إسناد الطبري شيخه سفيان بن وكيع بن الجراح، وهو متكلم فيه4. ولكن ما يدل عليه هذا الحديث، ثابت عند البخاري وابن إسحاق، كما أوضحت ذلك5. خلاصة القول في ذلك: من المعلوم أن سعد بن عبادة رئيس قبيلة الخزرج، التي منها عبد الله بن أبي ابن سلول، وأن سعد بن معاذ رئيس الأوس، وقد جرى بين السعدين رضي الله عنهما نزاع أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "من يعذرني من رجل بلغ أذاه في أهلي". الحديث. فقام سعد بن معاذ فقال:"يا رسول الله إن كان من الأوس ضربت عنقه وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك".

_ 1 مسند إسحاق بن راهويه 4/ 134، وتفسير الطبري 18/ 94. 2 في الأصل (محمد بن بسر العبدي) والتصحيح من إسناد الطبري. 3 انظر التقريب 2/ 147 و352. 4 انظر المصدر السابق 1/ 312، وتهذيب التهذيب 4/ 123- 124 وميزان الاعتدال 2/ 173. 5 انظر، ص 278- 279.

وفي هذه الكلمة من سعد بن معاذ إغفال لقيادة سعد بن عبادة لقومه الخزرج، وسبب هذا الإغفال -فيما يبدو - هو تأثر سعد بن معاذ من ألم رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه الفرية على أهله. غير أن هذا السبب الحامل لسعد بن معاذ على مقالته لم يكن ليجدي نفعا في تهدئة انفعال سعد بن عبادة الذي رأى في هذا الإغفال هضما لحقه وتنقصا لقبيلته، فقال فورا: "كذبت1 لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله"، فأثارت هذه الكلمة أيضا أسيد بن حضير ابن عم سعد ابن معاذ فقال لسعد بن عبادة: "كذبت لعمر الله لنقتلنه فإنك منافق2 تجادل عن المنافقين". وكانت هذه الكلمة القوية من أسيد بن حضير سببا في احتدام الصراع العنيف الذي دار بين الفريقين (الأوس والخزرج) وارتفعت الأصوات من كلا الجانبين وكثر اللغط وكادت تكون كارثة، تقر بها أعين الحاقدين على الإسلام وأهله، لولا أن الله سلم. ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حكيما في معالجة الموقف، فما زال بالحيين يخفضهم وينهاهم عن هذه العصبيات الجاهلية، التي أرسل لهدمها حتى هدأ القوم وعادوا إلى صوابهم راشدين. وكان في ذلك انتصار للمسلمين وانكسار لأعداء الله من المنافقين والمشركين.

_ 1 قوله: (كذبت) أجاب ابن التين نقلا عن الداودي أن معنى ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجعل حكمه إليك، فلذلك لا تقدر على قتله. قال ابن حجر: "وهو حمل جيد". فتح الباري 8/ 473. 2 قوله: (فإنك منافق) الخ أجاب المازري عن هذا بما يأتي: أ- أن ذلك وقع من أسيد على جهة الغيظ والحنق والمبالغة في زجر سعد بن عبادة، عن المجادلة عن ابن أبي وغيره، ولم يرد النفاق الذي هو إظهار الإيمان وإبطان الكفر. ب- أو أراد أن سعد بن عبادة كان يظهر المودة للأوس ثم ظهر منه في هذه القصة ضد ذلك، فأشبه حال المنافق، لأن حقيقته إظهار شيء وإخفاء غيره، ولم يرد بذلك نفاق الكفر، قال: ولعل هذا هو السبب في ترك إنكار النبي صلى الله عليه وسلم عليه. انظر فتح الباري 8/ 473- 474.

الفصل الثالث: فوائد في المصطلح مستنبطة من حديث الإفك

الفصل الثالث: فوائد في المصطلح مستنبطة من حديث الإفك المبحث الأول: الإنتقاد الوارد على الزهري في جمعه حديث الإفك والجواب عنه مع تخريج الحديث ... المبحث الأول: الانتقاد الوارد على الزهري في جمعه حديث الإفك والجواب عنه مع تخريج الحديث تقدم في أول حديث الإفك أن الزهري قال: أخبرني سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وعلقمة بن وقاص، وعبيد الله بن عتبة بن مسعود عن حديث عائشة حين قال لها أهل الإفك ما قالوا فبرأها مما قالوا: "وكلهم حدثني طائفة من حديثها ... "1. ومن هنا انتقد على الزهري هذا في كونه لم يفرد حديث كل واحد منهم على الآخر. وقد أجاب العلماء عن هذا بما يأتي: أ- أجاب النووي بقوله: "هذا الذي ذكره الزهري من جمعه الحديث عنهم جائز لا مانع منه، ولا كراهة فيه، لأنه قد بين أن بعض الحديث عن بعضهم وبعضه عن بعضهم، وهؤلاء أئمة حفاظ ثقات من أجل التابعين، فإذا

_ 1 انظر الحديث، ص 205.

ترددت اللفظة من هذا الحديث، كونها عن هذا أو ذاك لم يضر، وجاز الاحتجاج بها لأنهما ثقتان". وقد اتفق العلماء على أنه لو قال حدثني زيد أو عمرو وهما ثقتان معروفان بالثقة عند المخاطب، جاز الاحتجاج به. وقال أيضا في أثناء تعداد فوائد الحديث1: إحداها: جواز رواية الحديث الواحد عن جماعة عن كل واحد قطعة مبهمة منه، وهذا وإن كان فعل الزهري وحده2، فقد أجمع المسلمون على قبوله منه، والاحتجاج به3. ب- وأورد أحمد بن عبد الرحيم العراقي قول النووي هذان وزاد: وحكى القاضي عياض عن بعضهم أنه انتقد هذا على الزهري قديما، وقال: "كان الأولى أن يذكر حديث كل منهم بجهته". ثم عقب العراقي بقوله: "ولا درك على الزهري في شيء منه، لأنه قد بين ذلك في حديثه، والكل ثقات"4. ج- ونقل ابن حجر قول عياض هذا الذي ذكره العراقي، ثم عقب بقوله: "وقد تتبعت طرق الحديث فوجدته من رواية عروة على انفراده، ومن رواية علقمة بن وقاص على انفراده، وفي سياق كل منهما مخالفات ونقص وبعض زيادة لما في سياق الزهري عن الأربعة". ثم قال: "وأما رواية سعيد بن المسيب وعبيد الله فلم أجدهما إلا من رواية الزهري عنهما". ثم ذكر أن الحديث رواه جماعة عن عائشة غير مشايخ الزهري الأربعة. وذكر أيضا أنه رواه جماعة من الصحابة غير عائشة رضي الله عنها، ثم

_ 1 حديث الإفك. 2 قلت: وهو صنيع ابن إسحاق والواقدي، أيضا. انظر سيرة ابن هشام 2/ 290 ومغازي الواقدي 1/ 404 3 شرح مسلم للنووي 5/ 628- 629 و641. 4 طرح التثريب 8/ 47.

أشار إلى الذين خرجوا هذه الروايات من العلماء. انتهى باختصار من فتح الباري 8/ 456 وفيما يلي تخريجه: أولاً: رواية الحديث من طريق الزهري عن مشايخه الأربعة: أ- رواية صالح بن كيسان عنه. أخرجها البخاري في المغازي باب حديث الإفك 5/ 96 و6/ 64 التفسير، باب {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرا} و8/ 114 كتاب الأيمان والنذور، باب قول الرجل لعمر الله و9/ 91 كتاب الاعتصام باب قول الله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} وأخرجها مسلم 8/118 كتاب التوبة، وأحمد في مسنده 6/ 197 و198، وأبو يعلى في مسنده 4/ ق 447 أو 4/ ق 450 ب. ب- رواية فليح بن سليمان عنه: أخرجها البخاري 3/ 151 كتاب الشهادات باب تعديل النساء بعضهن بعضا، ومسلم 8/ 118 كتاب التوبة وابن شيبه في تاريخ المدينة 1/ 101 وأبو يعلى في مسنده 4/ ق 444 و4/ ق 447 أ. ج- رواية معمر بن راشد عنه: أخرجها مسلم 8/ 112 كتاب التوبة والترمذي5/17 وعبد الرزاق في المصنف 5/410 حديث الإفك وأحمد في المسند 6/194 وإسحاق بن راهويه في مسنده 4/ ق 127 ب والطبري في التفسير 18/ 89- 90. د- رواية يونس بن يزيد الأيلي عن الزهري: أخرجها البخاري 3/ 147 كتاب الشهادات، باب إذا عدل رجل أحدا فقال لا نعلم إلا خيرا و4/ 27 كتاب الجهاد والسير باب حمل الرجل امرأته في الغزو دون بعض نسائه و6/ 64 من تفسير سورة يوسف باب قوله تعالى: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً} و6/84 تفسير سورة النور باب: {وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا} و8/114كتاب الأيمان والنذور باب قول الرجل لعمر الله 9/116، كتاب التوحيد باب قول الله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} و9/ 127 من كتاب التوحيد باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الماهر بالقرآن مع الكرام البررة"

ومسلم 8/ 112 كتاب التوبة والترمذي 5/ 17 كتاب التفسير وأبو داود 2/ 536 كتاب السنة باب في القرآن. هـ- رواية محمد بن إسحاق عن الزهري 2/ 297 من سيرة ابن هشام والطبري من هذه الطريق في التفسير 18/92 والتاريخ 2/611. ثناياً: رواية الحديث عن عروة على انفراده أخرجها البخاري 3/ 154 كتاب الشهادات باب تعديل النساء بعضهن بعضا من طريق هشام بن عروة عنه و6/ 84 تفسير سورة النور باب قوله: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ} من طريق الزهري عنه و6/ 89 تفسير سورة النور باب قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا} من طريق هشام بن عروة عنه. وكتاب الاعتصام باب قول الله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} من طريق هشام عنه. ومسلم 8/118 كتاب التوبة من طريق هشام بن عروة عنه. والترمذي 5/13 كتاب التفسير وأحمد في المسند 6/59 من طريق هشام بن عروة عنه. وابن إسحاق2/296 سيرة ابن هشام من طريق الزهري عنه. والطبري في التاريخ 2/610- 611. ثالثاً: رواية الحديث عن علقمة بن وقاص على انفراده، أخرجها إسحاق ابن راهويه في مسنده 4/ق 134 ب و4/ق135ب من طريق يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عنه. والطبري في التفسير 18/ 94 من هذه الطريق. رابعاً: روابية الحديث عن عائشة من غير مشايخ الزهري: أ- أخرجه البخاري 3/154 كتاب الشهادات باب تعديل النساء بعضهن بعضا من طريق القاسم بن محمد بن أبي بكر عنها. ب- وأخرجه ابن إسحاق من طريق يحيى بن عباد عن أبيه عن عائشة ومن طريق عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن حزم عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة، سيرة ابن هشام 2/297. وأخرجه أبو داود في كتاب الحدود باب في حد القذف 2/471، والترمذي 5/17 في تفسير سورة

النور وابن ماجه 2/ 857 كتاب الحدود باب حد القذف. الجميع من طريق ابن إسحاق الثانية. مختصرا. ج- وأخرجه عبد بن حميد في مسنده 2/ق 159 من طريق أبي عوانة عن عمر بن سلمة بن عبد الرحمن بن عوف الزهري عن أبيه عن عائشة. د- وأخرجه الطبراني من طريق الأسود بن يزيد عنها 9/230 مجمع الزوائد للهيثمي. خامساً: رواية الحديث عن جماعة من الصحابة غير عائشة - رضي الله عنها -: 1- أخرجه البخاري عن عبد الله بن الزبير في الشهادات باب تعديل النساء بعضهن بعضا عقب رواية فليح بن سليمان عن هشام بن عروة ولم يسق لفظه 3/ 154. ومن حديث أم رومان 4/120 كتاب أحاديث الأنبياء باب قول الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ} و5/100 كتاب المغازي باب حديث الإفك و6/64 تفسير سورة يوسف باب قوله: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً} و6/87 باب قوله: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} . 2- وأبو دواد الطيالسي من حديث أم رومان أيضا 2/131منحة المعبود في ترتيب مسند الطيالسي أبي داود، وأحمد في مسنده 6/367. 3- وأخرجه الطبراني من حديث ابن عمر وابن عباس وأبي اليسر1 9/236 و9/237 مجمع الزوائد للهيثمي والدر المنثور للسيوطي 5/ 29. 4- وأخرجه البزار من حديث أبي هريرة9/230 مجمع الزوائد للهيثمي. 5- وأخرجه ابن مردويه من حديث أبي هريرة وأبي اليسر5/ 27و5/29 الدر المنثور للسيوطي. فهذه طرق هذا الحديث التي عثرت عليها.

_ 1 أبو اليسر بفتح التحتانية والمهملة هو كعب بن عمرو بن عباد، السلمي، بالفتح الأنصاري، صحابي، بدري جليل، (ت55) بالمدينة/بخ م عم. التقريب2/ 135.

المبحث الثاني: الخلاف في سماع مسروق من أم رومان

المبحث الثاني: الخلاف في سماع مسروق من أم رومان تفرد البخاري دون مسلم بحديث مسروق عن أم رومان من طريق حصين بن عبد الرحمن وقد أورده بثلاث صيغ وهي: أ- صيغة التحديث: حدثنا موسى1 حدثنا أبو عوانة2 عن حصين3 عن أبي وائل4 قال: حدثني مسروق5 بن الأجدع قال حدثتني أم رومان6 وهي أم عائشة قالت: "بينا أنا وعائشة أخذتها الحمى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لعل في حديث تحدث؟ " قالت: "نعم"، وقعدت عائشة،

_ 1 موسى بن إسماعيل المنقري، بكسر الميم، وسكون النون وفتح القاف أبو سلمة التبوذكي، بفتح المثناة وضم الموحدة وسكون الواو وفتح المعجمة، مشهور بكنيته وباسمه، ثقة ثبت، من صغار التاسعة، ولا التفات إلى قول ابن خراش: تكلم الناس فيه، (ت223) /ع. التقريب 2/ 280. 2 هو وضاح بن عبد الله اليشكري تقدمت ترجمته. 3 حصين بن عبد الرحمن السلمي، أبو الهذيل بالتصغير الكرفي، ثقة، تغير حفظه في الآخر، من الخامسة، (ت 136) وله 93 سنة/ ع. المصدر السابق 1/ 182. 4 أبو وائل شقيق بن سلمة الأسدي، أبو وائل الكوفي، ثقة، مخضرم، توفي في خلافة عمر بن عبد العزيز، وله مائة سنة/ع. المصدر السابق 1/ 354. 5 مسروق بن الأجدع بن مالك الهمداني، الوادعي، أبو عائشة الكوفي، ثقة، فقيه عابد مخضرم من الثانية، (ت62 ويقال 63) /ع. التقريب 2/ 242 وهو ابن أخت البطل الكرار عمرو بن معدي كرب الزبيدي مصغرا، وكان أبوه أفرس فارس باليمن، سماه عمر بن الخطاب مسروق بن عبد الرحمن، وقال له: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" الأجدع شيطان" انظر طبقات ابن سعد 6/ 76 وتذكرة الحفاظ للذهبي 1/ 49 وتهذيب التهذيب 10/ 109- 112. والحديث الوارد في تسمية والده عبد الرحمن عند أحمد1/31 وابن سعد6/76. 6 أم رومان الفراسية زوج أبي بكر الصديق، وأم عائشة وعبد الرحمن ن صحابية، يقال اسمها زينب، وقيل دعد، زعم الواقدي ومن تبعه أنها ماتت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ونزل قبرها. والصحيح أنها عاشت بعده، ورواية مسروق عنها مصرح بالسماع منها في صحيح البخاري، وليست بخطأ كما زعم بعضهم والله أعلم /خ. التقريب 2/ 621.

قالت: "مثلي ومثلكم كيعقوب وبنيه: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} ، [سورة يوسف، من الآية: 18] 1. والحديث من هذه الطريق بهذه الصيغة في التاريخ الصغير للبخاري2 وفي مسند الطيالسي، تحت رقم (2497) 3. ب- صيغة (سألت) حدثنا محمد4 بن سلام أخبرنا ابن فضيل5، حدثنا حصين عن شقيق عن مسروق قال:" سألت أم رومان وهي أم عائشة لما قيل فيها ما قيل، قالت: "بينما أنا مع عائشة جالستان، إذ ولجت علينا امرأة من الأنصار، وهي تقول: فعل الله بفلان وفعل"، قالت: " فقلت: لم؟ " قالت: إنه نمى"6 ذكر الحديث. فقالت عائشة: "أي حديث؟ " فأخبرتها، قالت: "فسمعه أبو بكر، ورسول الله صلى الله عليه وسلم؟ " قالت: "نعم"، فخرت مغشيا عليها، فما أفاقت إلا وعليها حمى7 بنافض، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ما لهذه؟ " قلت: "حمى أخذتها من أجل حديث تحدث به"، فقعدت، قالت: "والله لئن حلفت لا تصدقوني ولئن اعتذرت لا تعذروني، فمثلي ومثلكم كمثل يعقوب وبنيه، فالله المستعان على ما تصفون"، فانصرف النبي صلى

_ 1 البخاري كتاب التفسير 6/ 64 باب قوله: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً} سورة يوسف آية:18 و5/ 100 كتاب المغازي باب حديث الإفك وهو أتم سياقا. 2 تاريخ البخاري الصغير ص 22. 3 منحة المعبود بترتيب مسند الطيالسي أبي داود، للبنا الشهير بالساعاتي 2/ 131. 4 هو البيكندي. تقدمت ترجمته 5 هو محمد بن فضيل بن غزوان بفتح المعجمة وسكون الزاي، الضبي، مولاهم، أبو عبد الرحمن الكوفي، صدوق عارف، رمي بالتشيع، من التاسعة، (ت295) /ع. التقريب 2/ 200. 6 نمى ذكر الحديث بالتشديد معناه: بلغ الحديث على وجه الإفساد والنميمة. النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 5/ 121. 7 حمى بنافض: أي برعدة شديدة، كأنها نفضتها أي حركتها. المصدر السابق5/97.

الله عليه وسلم فأنزل الله ما أنزل فأخبرها فقالت: "بحمد الله لا بحمد أحد"1. والحديث بهذا الإسناد وبهذه الصيغة عند البخاري في تاريخه الصغير2. ج- صيغة (العنعنة) حدثنا محمد3 بن كثير أخبرنا سليمان4 عن حصين عن أبي وائل عن مسروق عن أم رومان أم عائشة أنها قالت: "لما رميت عائشة خرت5 مغشيا عليها"6 والحديث بهذا الإسناد وبهذه الصيغة عند البخاري في تاريخه الصغير7. وهو عند أحمد أيضا بهذه الصيغة من طريق أبي جعفر الرازي8 وعلي بن عاصم9 عن حصين10. وعلى هذا فالبخاري يرى أن مسروقا سمع من أم رومان قطعا وأنها عاشت بعد النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك فقد أورد في تاريخه الصغير الرواية المصرحة بسماع مسروق من أم رومان.

_ 1 البخاري4/120 كتاب أحاديث الأنبياء باب قول الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ} . 2 انظر ص 22. 3 محمد بن كثير العبدي، البصري، ثقة، لم يصب من ضعفه، من العاشرة (ت223) وله 90 سنة/ ع. التقريب 2/ 203. 4 سليمان بن كثير العبدي، البصري، أبو داود وأبو محمد، لا بأس به في غير الزهري، من السابعة، (ت 133) /ع. المصدر السابق 1/ 329. 5 خرت مغشيا عليها: أي سقطت مغمى عليها. النهاية لابن الأثير2/21 و3/369. 6 البخاري 6/ 87- 88 كتاب التفسير باب قوله: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} . 7 انظر، ص 22. 8 أبو جعفر الرازي، التميمي مولاهم، مشهور بكنيته، واسمه عيسى بن أبي عيسى عبد الله بن ماهان، وأصله من مرو، صدوق سيء الحفظ، خصوصا عن مغيرة، من كبار السابعة، (ت في حدود 1609 /بخ عم. التقريب 2/ 406. 9 علي بن عاصم بن صهيب الواسطي التميمي مولاهم، صدوق يخطئ ويصر ورمي بالتشيع من التاسعة، (ت201) وقد جاوز التسعين/د ت ق. المصدر السابق2/39. 10 مسند أحمد 6/ 367.

ثم أورد بعد ذلك حديث علي بن زيد الوارد فيه أن أم رومان ماتت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "وروى علي1 بن زيد عن القاسم2، ماتت أم رومان زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم عقب بقوله: وفيه نظر، وحديث مسروق أسند"3. قال ابن حجر: "يعني أصح إسنادا وهو كما قال". انتهى4. وقد صرح بسماع مسروق من أم رومان. وجزم جماعة من العلماء5 بأن مسروقا لم يدرك أم رومان اعتمادا على رواية علي بن زيد هذه المصرحة بأن أم رومان ماتت زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قدوم مسروق إلى المدينة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ثم وهم البخاري في إدخاله هذه الحديث في الصحيح وتصريحه فيه بأن مسروقا سمع من أم رومان. وقد انتصر لقول البخاري هذا ابن القيم وابن حجر وردا على القائلين بغيره. وهذا نص كلام ابن القيم قال: "ومما وقع في حديث الإفك: أن في

_ 1 علي بن زيد بن عبد الله بن زهير بن عبد الله بن جدعان بضم الجيم وسكون الدال المهملة، التيمي البصري، أصله حجازي، وهو المعروف بعلي بن زيد بن جدعان، ينسب أبوه إلى جد جده، ضعيف من الرابعة (ت 131) وقيل قبلها /بخ م عم. المصدر السابق 2/ 37. 2 القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، التيمي، ثقة أحد الفقهاء بالمدينة قال أيوب: "ما رأيت أفضل منه، من كبار الثالثة" (ت 106) على الصحيح / ع. المصدر السابق2/120. 3 تاريخ البخاري الصغير، ص 22 والحديث في طبقات ابن سعد وهذه نصه: "أخبرنا يزيد بن هارون وعفان بن مسلم قالا: حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن القاسم بن محمد قال: لما دليت أم رومان في قبرها"، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سره أن ينظر إلى امرأة من الحور العين فلينظر إلى أم رومان" وفي حديث عفان: "ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبرها" 8/ 276. 4 هدي الساري مقدمة فتح الباري، ص 373. 5 سيأتي تسمية بعضهم في كلام ابن حجر، ص 296.

بعض طرق البخاري عن أبي وائل1: عن مسروق قال: "سألت أم رومان عن حديث الإفك فحدثتني"2. قال غير واحد: وهذا غلط ظاهر، فإن أم رومان ماتت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبرها، وقال: "من سره أن ينظر إلى امرأة من الحور العين فلينظر إلى هذه". قالوا: ولو كان مسروق قدم المدينة في حياتها وسألها للقي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمع منه، ومسروق إنما قدم المدينة بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: وقد روى مسروق عن أم رومان حديثا غير هذا، فأرسل الرواية عنها، فظن بعض الرواة أنه سمع منها، فحمل هذا الحديث على السماع. قالوا: ولعل مسروقا قال: سئلت أم رومان فتصحفت على بعضهم سألت لأن بعض الناس من يكتب الهمزة بالألف على كل حال. ثم عقب بقوله: وقال آخرون: كل هذا لا يرد الرواية الصحيحة التي أدخلها البخاري في صحيحه، وقد قال إبراهيم الحربي3 وغيره: إن مسروقا سألها وله خمس عشرة سنة، ومات وله ثمان وسبعون سنة4، وأم رومان أقدم من حدث عنه. قالوا: وأما حديث موتها في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزوله في قبرها فحديث لا يصح وفيه علتان تمنعان صحته.

_ 1 هو شقيق بن سلمة الأسدي. 2 هذا الجمع بين "سألت أم رومان فحدثتني" لم يرد في البخاري مجموعا في حديث واحد. انظر سياق الحديث، ص 290 وما بعدها. 3 هو الإمام الحافظ شيخ الإسلام أبو إسحاق إبراهيم بن إسحاق، البغدادي أحد الأعلام روى عن أبي نعيم وعبد الله بن صالح العجلي، ومسدد وطبقتهم. وتفقه على الإمام أحمد فكان من جلة أصحابه، وعنه ابن صاعد وأبو بكر القطيعي وخلق ولد سنة 198 وتوفي سنة 285هـ. تذكرة الحفاظ للذهبي 2/ 584- 586. 4 وكانت وفاته سنة (63) انظر تذكرة الحفاظ للذهبي 1/ 49- 50 وتهذيب التهذيب لابن حجر 10/ 111.

إحداهما: رواية علي بن زيد بن جدعان له، وهو ضعيف الحديث لا يحتج بحديثه. والثانية: أنه رواه عن القاسم بن محمد عن النبي صلى الله عليه وسلم، والقاسم لم يدرك زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف يقدم هذا على حديث إسناده كالشمس يرويه البخاري في صحيحه ويقول فيه مسروق: سالت أم رومان فحدثتني، وهذا يرد أن يكون اللفظ سئلت، وقد قال أبو نعيم1 في كتاب معرفة الصحابة قد قيل: إن أم رومان توفيت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو وهم". انتهى كلام ابن القيم2.

_ 1 هو الحافظ الكبير محدث العصر أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق ابن موسى، أبو نعيم الأصبهاني، صاحب كتاب معرفة الصحابة وحلية الألياء، وكتاب دلائل النبوة، وكتاب المستخرج على البخاري والمستخرج على مسلم، وغيرها. أجاز له مشايخ الدنيا وعمره ست سنين، منهم أبو العباس الأصم وخيثمة بن سليمان الأطرابلسي وغيرهم سمع من أبي القاسم الطبراني وأبي بكر الآجري وأبي الشيخ بن حيان وعنه الخطيب البغدادي وهبة الله بن محمد الشيرازي وأبو صالح المؤذن. ولد سنة 336هـ وتوفي سنة 430هـ. تذكرة الحفاظ للذهبي 3/ 1092- 1097. 2 زاد المعاد 2/ 129 وانظر إرشاد الساري شرح صحيح البخاري 7/ 178، وساق ابن كثير حديث مسروق من طريق أحمد بن حنبل عن علي بن عاصم عن حصين عن أبي وائل عن مسروق عن أم رومان وقال عقبه: تفرد به البخاري دون مسلم من طريق حصين، وقد رواه البخاري عن موسى بن إسماعيل عن أبي عوانة وعن محمد بن سلام عن محمد بن فضيل كلاهما عن حصين به، وفي لفظ أبي عوانة حدثتني أم رومان، وهذا صريح في سماع مسروق منها، وقد أنكر ذلك جماعة من الحفاظ منهم الخطيب البغدادي، وذلك لما ذكره أهل التاريخ أنها ماتت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، قال الخطيب: "وقد كان مسروق يرسله فيقول: سئلت أم رومان ويسوقه، فلعل بعضهم كتب سئلت بألف اعتقد الراوي أنها وسألت فظنه متصلا، قال الخطيب وقد رواه البخاري كذلك ولم تظهر له علته".كذا قال والله أعلم. ورواه بعضهم عن مسروق عن عبد الله بن مسعود عن أم رومان فالله أعلم. انظر تفسير ابن كثير3/272. قلت: رواية مسروق عن ابن مسعود أوردها المزي في تهذيب الكمال9/131 يؤيد بها قول الخطيب بأن مسروقا لم يدرك أم رومان. وردها ابن حجر بقوله: وهذه الرواية شاذة وهي من المزيد في متصل الأسانيد. انظر فتح الباري 7/ 438.

وأورد ابن حجر هذا الاعتراض على حديث مسروق في خمسة من كتبه وبين أن المتصدر في هذا القول هو الخطيب1 البغدادي، وتبعه في ذلك جماعة من العلماء منهم: ابن عبد البر2 والسهيلي3 وابن سيد الناس4 والحافظ المزي5 والذهبي6 والعلائي7 وآخرون. وذكر أن مما أعل به الخطيب حديث مسروق كون حصين اختلط فلعله حدث به بعد اختلاطه. وهذا معنى كلام الخطيب قال: "أخرج البخاري عن مسروق عن أم رومان - رضي الله عنها - وهي أم عائشة طرفا من حديث الإفك وهو وهم، لم يسمع مسروق من أم رومان رضي الله عنها لأنها توفيت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان لمسروق حين توفيت ست سنين"، قال: "وخفيت هذه العلة على البخاري، وأظن مسلما فطن لهذه العلة، فلم يخرج له، ولو صح هذا لكان مسروق صحابيا لا مانع له من السماع من النبي صلى الله عليه وسلم، والظاهر أنه مرسل، قال: ورأيته في تفسير سورة يوسف من الصحيح عن مسروق قال: سألت أم رومان" فذكره، قال: "وهو من رواية حصين عن شقيق، وحصين اختلط فلعله حدث به بعد اختلاطه، وقد رأيته في رواية أخرى8 عنه عن

_ 1 أورد ذلك في كتابه (المراسيل) ، كما في تهذيب الكمال للمزي9/131 والإصابة لابن حجر 4/ 451 وذكر ابن حجر في الإصابة أيضا أن أبا علي بن السكن سبق الخطيب إلى تعليل رواية مسروق هذه فقال في كتاب الصحابة في ترجمة أم رومان بأنها ماتت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أشار إلى رواية البخاري عن حصين عن أبي وائل عن مسروق سألت أم رومان ثم قال: "هذا خطأ تفرد به حصين، ويقال إن مسروقا لم يسمع من أم رومان لأنها ماتت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم". الإصابة لابن حجر 4/ 452. 2 انظر الاستيعاب 4/ 448- 452. 3 في الروض الأنف 6/ 440. 4 في عيون الأثر 2/ 101. 5 تهذيب الكمال 9/ 131. 6 في تجريد أسماء الصحابة 2/ 336. 7 في جامع التحصيل في أحكام المراسيل 2/ 674. 8 هذه الرواية أوردها العلائي في (جامع التحصيل في أحكام المراسيل) فقال: ورواه أبو سعيد الأشج عن ابن فضيل فقال فيه: عن مسروق قال: "سئلت أم رومان وهي أم عائشة فذكر القصة" 2/ 675.

شقيق عن مسروق قال: سئلت أم رومان فلعل قوله في رواية البخاري سألت تصحيف من سئلت". انتهى1. ثم عقب ابن حجر على هذا بقوله: "وعندي أن الذي وقع في الصحيح هو الصواب والراجح، وذلك أن مستند هؤلاء في انقطاع هذا الحديث2، إنما هو ما روى علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف أن أم رومان ماتت سنة ست وأن النبي صلى الله عليه وسلم حضر دفنها". ثم قال ابن حجر: "وقد نبه البخاري في تاريخه الأوسط والصغير على أنها رواية ضعيفة، فقال في (فصل) من مات في خلافة عثمان قال علي بن زيد عن القاسم: ماتت أم رومان زمن النبي صلى الله عليه وسلم سنة ست"3. ثم قال البخاري: "وفيه نظر، وحديث مسروق أسند"4. قال ابن حجر: "يعني أصح إسنادا وهو كما قال5، وقد جزم إبراهيم الحربي بأن مسروقا سمع من أم رومان وله خمس عشرة سنة، فعلى هذا يكون سماعه منها في خلافة عمر بن الخطاب لأن مولد مسروق كان في سنة الهجرة، ولهذا قال أبو نعيم الأصبهاني: "عاشت أم رومان بعد النبي صلى الله عليه وسلم دهرا". ثم قال ابن حجر: "ومما يدل على ضعف رواية علي بن زيد بن جدعان:

_ 1 هدي الساري مقدمة فتح الباري، ص 373. 2 يعني حديث مسروق. 3 هذه الرواية لعلها في التاريخ الأوسط، أما في التاريخ الصغير ففيه أن أم رومان توفيت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بدون تحديد. انظر التاريخ الصغير للبخاري، ص 22. 4 المصدر السابق، ص 22. 5 وقال في الإصابة 4/ 452 أثناء رده على الخطيب ومن تبعه: "وأول من فتح هذا الباب صاحب الصحيح - يعني البخاري - فإنه ذكر رواية مسروق ورجحها على رواية علي بن زيد"، قال ابن حجر: "وهو كما قال، لأن مسروقا متفق على ثقته"، وعلي بن زيد متفق على سوء حفظه". قلت: وقال البخاري وأبو حاتم وابن خزيمة: "لا يحتج به". انظر ميزان الاعتدال 3/ 127- 129.

أ- ما ثبت في الصحيح م رواية أبي عثمان1 النهدي عن عبد الرحمن بن أبي بكر بن الصديق رضي الله عنهما أن أصحاب الصفة2 كانوا ناسا فقراء، فذكر الحديث في قصة أضياف أبي بكر، وفيه قال: قال عبد الرحمن: إنما هو أنا وأمي وامرأتي وخادم بيتنا. الحديث3 ... وفي بعض طرقه عند البخاري في كتاب الأدب فلما جاء أبو بكر قالت له أمي: احتبست عن أضيافك. الحديث"4 ... وأم عبد الرحمن هي أم رومان لأنه شقيق عائشة، وعبد الرحمن إنما أسلم بعد سنة ست، وقد ذكر الزبير بن بكار من طريق ابن عيينة عن علي بن زيد أن إسلام عبد الرحمن كان قبل الفتح، وكان الفتح في رمضان سنة ثمان، فبان ضعف ما قال علي بن زيد في تقييده وفاة أم رومان بسنة ست، مع ما اشتهر من سوء حفظه في غير ذلك فكيف تعل به الروايات الصحيحة المعتمدة. ب- ما رواه الإمام أحمد في مسنده أن عائشة رضي الله عنها قالت: "لما نزلت آية التخيير بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بي" فقال: "يا عائشة إني عارض عليك أمرا فلا تعجلي فيه بشيء حتى تعرضيه على أبويك أبي بكر وأم رومان" قالت: "قلت: يا رسول الله وما هو؟ " قال: " قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ ... } الآية إلى قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً} ، [سورة الأحزاب، من الآيتان: 28-29] .

_ 1 أبو عثمان النهدي بفتح النون وسكون الهاء، هو عبد الرحمن بن مل بلام ثقيلة والميم مثلثة، مشهور بكنيته، مخضرم من كبار الثانية، ثقة ثبت عابد، (ت 95) وقيل بعدها وعاش 130 سنة وقيل أكثر/ ع. التقريب 1/ 499. 2 قال ابن حجر: "الصفة: مكان في مؤخر المسجد النبوي مظلل أعد لنزول الغرباء فيه ممن لا مأوى له ولا أهل، وكانوا يكثرون فيه ويقلون بحسب من يتزوج منهم أو يموت أو يسافر". انظر فتح الباري 6/ 595 وهدي الساري مقدمة فتح الباري، ص 145. 3 انظر: البخاري 4/ 155 كتاب المناقب باب علامات النبوة في الإسلام. 4 المصدر السابق 8/ 28 كتاب الأدب باب قول الضيف لصاحبه لا آكل حتى تأكل و1/ 103 كتاب مواقيت الصلاة باب السمر مع الضيف والأهل.

قالت: "فقلت: فإني أريد الله تعالى ورسوله والدار الآخرة، ولا أؤامر في ذلك أبا بكر وأم رومان، فضحك". وهذا إسناد جيد، وأصله في الصحيحين1 بلفظ: "استأمري أبويك" ولم يسمهما، والتخيير كان في سنة تسع، والحديث دال على أن أم رومان كانت إذ ذاك موجودة، فبان وهم علي بن زيد ومن معه2. قلت: حديث أحمد المشار إليه هو: حدثنا محمد3 بن بشر قال: ثنا محمد4 بن عمرو ثنا أبو سلمة عن عائشة قالت: "لما أنزلت آية التخيير5، قال: بدأ بعائشة فقال: "يا عائشة: إني عارض عليك أمرا فلا تفتاتن6 فيه

_ 1 وهذا نصه في الصحيحين: حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري قال: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن عائشة رضي الله عنها، زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءها حين أمر الله أن يخير أزواجه، فبدأ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " إني ذاكر لك أمرا فلا عليك أن تستعجلي حتى تستأمري أبويك، وقد علم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه"،قالت: ثم قال:"إن الله قال": {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَِِزْوَاجِك} إلى تمام الآيتين، فقلت له: "ففي أي هذا أستأمر أبوي؟ فإني أريد الله ورسوله، والدار الآخرة"، البخاري 6/ 97 تفسير سورة الأحزاب واللفظ له، ومسلم 4/ 185- 186 من كتاب الطلاق. 2 هدي الساري مقدمة فتح الباري، ص: 373 وفتح الباري7/ 438 وتهذيب التهذيب12/467-469، وتقريب التهذيب2/621 والإصابة 4/450-452. 3 محمد بن بشر العبدي، أبو عبد الله الكوفي، ثقة حافظ من التاسعة، (ت 203) /ع. التقريب 2/ 147. 4 محمد بن عمرو هو ابن وقاص الليثي، وأبو سلمة هو ابن عبد الرحمن الزهري تقدمت ترجمتهما. 5 هي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} ، كما هو موضح في الحديث. 6 فلا تفتاتن بفتح التاء الأولى وسكون الفاء، وكسر التاء الأخيرة بعدها نون مشددة مفتوحة يقال افتات فلان افتياتا إذا سبق بفعل شيء فاستبد برأيه فيه ولم يؤامر من هو أحق بالأمر فيه. المصباح المنير 2/138 (مادة فوت) .

بشيء حتى تعرضيه على أبويك أبي بكر وأم رومان"، قالت: "أي رسول الله وما هو؟ " قال: " قال الله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً} "، [سورة الأحزاب، الآيتان: 28-29] . قالت: "إني أريد الله ورسول والدار الآخرة، ولا أؤامر في ذلك أبوي أبا بكر وأم رومان"، قالت: "فضحك النبي صلى الله عليه وسلم، ثم استقرأ1 الحجر" فقال: "إن عائشة قالت: كذا وكذا"، قال: "فقلن مثل الذي قالت عائش"2. قلت: الحديث رجاله رجال الجماعة إلا أن محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص أخرج له البخاري مقرونا بغيره وتعليقا ومسلم في المتابعات، وهو حسن الحديث3. وخلاصة القول في هذه المسألة أن اعتراض الخطيب ومن تبعه على البخاري في سماع مسروق من أم رومان يتلخص فيما يلي: دعوى وفاة أم رومان في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم سنة ست أكثر تقدير. أنه حصل تصحيف في الرواية فإن مسروقا كان يرسله فيقول: سئلت أم رومان فتصحف على بعضهم (سألت) .

_ 1 استقرأ الحجر: أي تتبع أفرادها. المصدر السابق 1/ 160. 2 مسند أحمد 6/ 211- 212. 3 انظر: هدي الساري مقدمة فتح الباري، ص 441.

اختلاط حصين1 بن عبد الرحمن الذي مدار الحديث عليه. والجواب عن هذا أن يقال: أما دعوى وفاة أم رومان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم سنة ست أو قبل ذلك فإنهم استندوا في ذلك على حديث علي بن زيد بن جدعان وفيه علتان: ضعف علي بن زيد والانقطاع بين القاسم بن محمد والرسول صلى الله عليه وسلم لأن القاسم تابعي من كبار الثالثة كما هو معروف2. وعلى هذا فلا تقوم بالحديث حجة، كيف وقد عارضته أحاديث أخرى صحيحة ذكرت أن أم رومان كانت موجودة سنة تسع كما في قصة تخييره صلى الله عليه وسلم بين نسائه، وذلك سنة تسع بالاتفاق، ذكر ذلك ابن حجر3، وفي هذه القصة أن الرسول صلى الله عليه وسلم عرض الأمر على عائشة وقال لها: لا تعجلي فيه بشيء حتى تعرضيه على أبويك أبي بكر وأم رومان، ولهذا جزم إبراهيم الحربي وأبو نعيم بأن وفاتها كانت بعد النبي صلى الله عليه وسلم بزمن. وأما دعوى التصحيف فإنها ضعيفة لأمرين: الأول: أن في صحيح البخاري التصريح بالتحديث فدل على أن دعوى تصحيف سألت عن (سئلت) غير صحيحة. الثاني: أن توهيم الثقات بدون حجة قاطعة باطل عند أهل العلم وهذا نوع من التوهيم بدون دليل.

_ 1 قال عنه ابن حجر: "حصين بن عبد الرحمن السلمي أبو الهذيل الكوفي متفق على الاحتجاج به، إلا أنه تغير في آخر عمره، وأخرج له البخاري من حديث شعبة والثوري، وزائدة وأبي عوانة، وأبي بكر بن عياش وأبي كدينة إلى أن قال: فأما شعبة والثوري وزائدة وهشيم فسمعوا منه قبل تغيره، وأما حصين بن نمير فلم يخرج له البخاري من حديثه سوى حديث واحد، وأما محمد بن فضيل ومن ذكر معه، فأخرج من حديثهم ما توبعوا عليه". انظر هدي الساري مقدمة فتح الباري، ص 398. قلت: وهذا الحديث الذي نحن بصدد الكلام عليه ورد عن أبي عوانة ومحمد بن فضيل وسليمان بن كثير العبدي وعلي بن عاصم بن صهيب الواسطي وأبي جعفر الرازي التميمي خمستهم عن حصين بن عبد الرحمن. 2 انظر ترجمته في: التقريب 2/ 120. 3 انظر: فتح الباري 7/ 438.

وأما اختلاط حصين بن عبد الرحمن فيجاب عنه من أوجه: أ- أن يكون البخاري أخرج له قبل اختلاطه ثم طرأ عليه الاختلاط بعد ذلك، وهذا هو المظنون بالبخاري. ب- أن يكون البخاري أخرج له ما تأكد من حفظه له دون ما فيه شبهة الاختلاط، وهذا لا مانع منه لأن الممنوع في رواية المختلط ما كانت بعد اختلاطه أو لم تعرف هل هذه الرواية قبل الاختلاط أو بعده، وتحري البخاري ومعرفته بعلل الحديث يرشداننا إلى أنه لا يروي عن مختلط إلا ما حفظه وكان ثابتا فيه. ج- ما أجاب به ابن حجر في مقدمة الفتح في سياق أسماء من طعن فيهم من رجال الصحيح، قال: "وقبل الخوض فيه ينبغي لكل منصف أن يعلم أن تخريج صاحب الصحيح لأي راو كان مقتض لعدالته عنده وصحة ضبطه وعدم غفلته ولا سيما ما انضاف إلى ذلك من إطباق الأئمة على تسمية الكتابين بالصحيحين، وهذا معنى لم يحصل لغير من خرج عنه في الصحيح فهو بمثابة إطباق الجمهور على تعديل من ذكر فيهما هذا إذا خرج له في الأصول، فأما إن خرج له في المتابعات والشواهد والتعاليق فهذا يتفاوت درجات من أخرج له منهم في الضبط وغيره مع حصول اسم الصدق لهم". وحينئذ إذا وجدنا لغيره في أحد منهم فذلك الطعن مقابل لتعديل هذا الإمام، فلا يقبل إلا مبين السبب مفسرا بقادح يقدح في عدالة هذا الراوي في ضبطه مطلقا أو في ضبطه لخبر بعينه لأن الأسباب الحاملة للأئمة على الجرح متفاوتة منها ما يقدح ومنها ما لا يقدح، وقد كان الشيخ أبو الحسن1 المقدسي يقول في الرجل الذي يخرج عنه في الصحيح: "هذا جاز القنطرة"، يعني لا يلتفت إلى ما قيل فيه.

_ 1 هو علي بن الفضل بن علي بن حاتم بن حسن بن جعفر الحافظ العلامة المفتي شرف الدين أبو الحسن ابن القاضي الأنجب أبي المكارم المقدسي، ثم الإسكندراني المالكي، سمع صحيح البخاري من القاضي أبي عبيدة نعمة بن زيادة الله الغفاري عن عيسى بن أبي ذر الهروي. (ت611?) تذكرة الحفاظ للذهبي4/1390-1392.

قال الشيخ أبو الفتح1 القشيري في مختصره: "هكذا نعتقد وبه نقول ولا نخرج عنه إلا بحجة ظاهرة وبيان شاف يزيد في غلبة الظن على المعنى الذي قدمناه من اتفاق الناس بعد الشيخين على تسمية كتابيهما بالصحيحين، ومن لوازم ذلك رواتهما"2. د- ما أجاب به ابن حجر أيضا عن الأحاديث المنتقدة جملة: قال: "والجواب عنه على سبيل الإجمال أن نقول لا ريب في تقدم البخاري ثم مسلم على أهل عصرهما ومن بعده من أئمة هذا الفن في معرفة الصحيح والمعلل، فإنهم لا يختلفون في أن علي بن المديني كان أعلم أقرانه بعلل الحديث وعنه أخذ البخاري ذلك، حتى كان يقول ما استصغرت نفسي عند أحد إلا عند علي بن المديني، ومع ذلك كله فكان علي بن المديني إذا بلغه ذلك عن البخاري، يقول: دعوا قوله ما رأى مثل نفسه". وكان محمد بن يحيى الذهلي أعلم أهل عصره بعلل حديث الزهري، وقد استفاد منه ذلك الشيخان جميعا. وروى الفربري3 عن البخاري قال: ما أدخلت في الصحيح حديثا إلا بعد أن استخرت الله تعالى وتيقنت صحته. وقال مكي4 بن عبدان سمعت مسلم بن الحجاج يقول: عرضت كتابي

_ 1 هو محمد بن علي بن وهب بن مطيع بن دقيق العيد القشيري المنفلوطي الصعيدي، المالكي، والشافعي صاحب التصانيف منها العدة شرح العمدة والإلمام، وكتابا في علوم الحديث اسمه الاقتراح، ولد سن (625هـ) وتوفي سنة (792هـ) تذكرة الحفاظ للذهبي 4/ 1481- 1483. 2 هدي الساري مقدمة فتح الباري الفصل التاسع، ص 384. 3 هو محمد بن يوسف بن مطر بن صالح بن بشر أبو عبد الله الفربري، بفتح الفاء وكسرها، وسكون الموحدة وكسر الراء الثانية، راوية صحيح البخاري، وكان سماعه للصحيح مرتين: مرة بفربر سنة (248) ومرة سنة (253هـ) ، كانت وفاته سنة (320) فتح الباري 1/5 وتذكرة الحفاظ للذهبي 3/798. 4 مكي بن عبدان بن محمد بن بكر بن مسلم بن راشد، أبو حاتم التميمي محدث نيسابور، وراوي كتب مسلم بن الحجاج عنه. ولد سنة (242هـ) وتوفي سنة (325هـ) انظر كتاب التمييز لمسلم بن الحجاج، ص 114 وتذكرة الحفاظ للذهبي 2/ 588 و3/ 822. وقد وقع في هدي الساري مقدمة فتح الباري (مكي بن عبد الله) وهو تحريف. انظر هدي الساري ص 347.

هذا على أبي زرعة1 الرازي، فكل ما أشار أن له علة تركته. ثم قال ابن حجر: "فإذا عرف وتقرر أنهما لا يخرجان من الحديث إلا ما لا علة له، أو له علة إلا أنها غير مؤثرة عندهما، فبتقدير توجيه كلام من انتقد عليهما يكون قوله معارضا لتصحيحهما، ولا ريب في تقديمهما في ذلك على غيرهما فيندفع الاعتراض من حيث الجملة"2 ا?. وبهذا التقرير الذي سقناه عن ابن حجر وغيره يتضح أن البخاري مقدم على غيره، من علماء هذا الشأن، لا سيما الخطيب البغدادي ومن تبعه، فيما أخرجه في كتابه الصحيح من المتون وفيمن أخرج لهم من الرواة، وذلك لتقدم البخاري في هذا الفن ودقة فهمه فيه، وبوجه أخص إذا نظرنا إلى مستند الخطيب ومن وافقه في توهيم البخاري، نجدهم استندوا إلى حجة ضعيفة وقد سبق بيان ضعفها، فبان رجحان قول البخاري هنا في سماع مسروق من أم رومان على قول الخطيب وموافقيه، والله أعلم.

_ 1 هو عبيد الله بن عبد الكريم بن يزيد بن فروخ، أبو زرعة الرازي، إمام حافظ ثقة مشهور، من الحادية عشرة (ت 264هـ) / م ت س ق. التقريب 1/ 536. 2 هدي الساري مقدمة فتح الباري الفصل الثامن، ص 346- 347.

الباب الرابع: الأحكام والعبر المستنبطة من غزوة المريسيع

الباب الرابع: الأحكام والعبر المستنبطة من غزوة المريسيع الفصل الأول: الأحكام المستنبطة من غزوة المريسيع المبحث الأول: حكم الدعوة إلى الإسلام قبل بدء القتال ... المبحث الأول: حكم الدعوة إلى الإسلام قبل بدء القتال إن النصوص تدل بظاهرها على أن المدعوين قبل القتال على قسمين: القسم الأول: قوم لم تبلغهم الدعوة، فهؤلاء تجب دعوتهم قبل قتالهم حتى تقوم عليهم الحجة، ويدل لذلك حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: "ما قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم قوما قط حتى دعوهم"1، وحديثه أيضا في بعث معاذ بن جبل إلى اليمن وفيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ: "إنك تأتي قوما أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه، عبادة الله" الحديث2 ... القسم الثاني: قوم بلغتهم الدعوة وعلموا بها، فهؤلاء تستحب دعوتهم

_ 1 مسندأحمد1/231، وشرح معاني الآثار للطحاوي3/207 والسنن الكبرى للبيهقي 9/107، ومجمع الزوائد للهيثمي 5/304، وقال: رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني بأسانيد، ورجال أحدها رجال الصحيح. قلت: رجال أحمد والطحاوي والبيهقي في هذا الحديث رجال الصحيح. 2 البخاري2/101، كتاب الزكاة باب لا تؤخذ كرائم الناس، ومسلم1/37، كتاب الإيمان، وأبو داود1/366، والترمذي2/69، وابن ماجه1/568، الجميع في كتاب الزكاة.

من باب التأكيد وزيادة في إقامة الحجة عليهم، وتجوز الإغارة عليهم، بغتة، بدون تجديد دعوة لهم، اكتفاء بالدعوة السابقة التي قد بلغتهم، ويدل لذلك حديث ابن عمر رضي الله عنهما "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارون وأنعامهم تسقى على الماء"، الحديث1 ... وحديث الصعب بن جثامة الليثي أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: لو أن خيلا أغارت من الليل فأصابت من أبناء المشركين، قال: "هم من آبائهم"، وفي لفظ: "إنا نصيب في البيات من ذراري المشركين"، قال: "هم منهم"، وفي لفظ: سئل2 النبي صلى الله عليه وسلم عن الذراري من المشركين يبيتون فيصيبون من نسائهم وذراريهم، فقال: "هم منهم" 3 وقد تقدم ذلك مفصلا في محله4.

_ 1 تقدم الحديث، ص 78. 2 السائل هو:الصعب نفسه كما هي رواية الترمذي، انظر سنن الترمذي 3/66، كتاب السير ما جاء في النهي عن قتل النساء والصبيان. 3 البخاري4/48، كتاب الجهاد، باب أهل الديار يبيتون، ومسلم5/144، وأبو داود 2/50، في باب قتل النساء، والنسائي في الكبرى 4/184، تحفة الأشراف للمزي، وابن ماجه2/947 باب الغارة والبيات، الجميع في الجهاد والترمذي 3/66، وأحمد 4/38 و71 و72 و73. 4 انظر ص 76 وما بعدها.

المبحث الثاني: مشروعية قسمة الغنائم بين المقاتلين

المبحث الثاني: مشروعية قسمة الغنائم بين المقاتلين ورد في حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم سبايا بني المصطلق وأن جويرية بنت الحارث وقعت في سهم ثابت بن شماس أو ابن عم له. الحديث1 ... وفي حديث أبي سعيد الخدريس رضي الله عنه قال: "خرجنا مع رسول الله

_ 1 تقدم ص 113 وما بعدها.

صلى الله عليه وسلم في غزوة بني المصطلق فأصبنا سبيا من سبي العرب واشتدت علينا العزبة وأحببنا العزل".الحديث1 ... وقد بينت الأحاديث الأخرى كيفية القسمة. فعند البخاري من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "جعل للفرس سهمين ولصاحبه سهما" 2. وفي لفظ: "قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر للفرس سهمين وللراجل سهما"، قال3: "فسره نافع فقال: إذا كان مع الرجل فرس فله ثلاثة أسهم، فإذا لم يكن له فرس فله سهم"4. وأورده مسلم بلفظ: "أم رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم في النفل5 للفرس سهمين وللرجل سهما"6. وعند أبي داود: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أسهم لرجل ولفرسه ثلاثة أسهم: سهما له، وسهمين لفرسه"7. والأحاديث صريحة في أن للفرس سهمين ولصاحبه سهما، فيكون للفارس ثلاثة أسهم، سهم له وسهمان لفرسه، وللراجل سهم واحد. وبهذا قال الجمهور من العلماء لهذه الأحاديث الصحيحة الصريحة في

_ 1 سيأتي تخريجه في حكم العزل، ص 331. 2 البخاري 4/25 كتاب الجهاد، باب سهام الفرس، و5/113، كتاب المغازي، باب غزوة خيبر. 3 القائل: فسره نافع هو: عبيد الله بن عمر العمري، الراوي عنه. قاله ابن حجر، فتح الباري 7/484. 4 انظر ص 310. 5 النفل بالتحريك: الغنيمة وجمعه أنفال، والنفل بالسكون وقد يحرك الزيادة. النهاية لابن الأثير 5/99، قلت: وهو في الحديث بالتحريك. 6 مسلم 5/156 كتاب الجهاد. 7 سنن أبي داود 2/69 كتاب الجهاد باب في سهمان الخيل، وابن ماجه 2/952، فيه باب قسمة الغنائم.

ذلك. وخالف الأحناف فقالوا: للفارس سهمان فقط سهم له وسهم لفرسه، واحتجوا بما رواه أبو داود من حديث مجمع1 بن جارية الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعطى للفارس سهمين وأعطى الراجل سهما" 2. وقد أجاب ابن حجر عن هذا الحديث بأن في إسناده ضفعا3 ثم قال: "ولو ثبت فيكون معناه: أسهم للفارس بسبب فرسه سهمين، غير سهمه المختص به". وقد رواه ابن أبي شيبة في مصنفه ومسنده بهذا الإسناد فقال: (للفرس) . ثم قال ابن حجر: "وللنسائي4 من حديث الزبير "أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب له أربعة أسهم وسهمين لفرسه وسهما له وسهما لقرابته"5. والقول الراجح في هذا هو ما ذهب إليه الجمهور لقوة أدلتهم في ذلك.

_ 1 مجمع: بضم أوله وفتح الجيم وتشديد الميم المكسورة ابن جارية بن عامر الأنصاري، الأوسي، المدني، صحابي، (ت في خلافة معاوية أبي سفيان) /د ت ق. التقريب 2/230. 2 انظر الحديث في سنن أبي داود 2/69 كتاب الجهاد وقال عقبه: "حديث أبي معاوية أصح والعمل عليه". (يعني وفيه أسهم للرجل ولفرسه ثلاثة أسهم: سهما له وسهمين لفرسه) . 3 لأن فيه يعقوب بن مجمع بن يزيد بن جارية الأنصاري، المدني، مقبول من الرابعة/ د. التقريب 2/377. 4 انظر الحديث في سنن النسائي 6/190 كتاب الخيل باب سهمان للخيل، ولفظه: "ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم عام خيبر للزبير بن العوام أربعة أسهم: سهما للزبير وسهما لذي القربى، لصفية بنت عبد المطلب أم الزبير، وسهمين للفرس" والحديث حسن. 5 فتح الباري 6/68، وانظر سبل السلام للصنعاني 4/58، ونيل الأوطار للشوكاني 7/299- 300.

المبحث الثالث: صحة جمع العتق صداقا

المبحث الثالث: صحة جمع العتق صداقا ... المبحث الثالث: صحة جعل العتق صداقا تقدم في حديث عائشة رضي الله عنها أن جويرية بنت الحارث ابن أبي ضرار وقعت في سهم ثابت بن قيس أو ابن عم له، فكاتبته على

نفسها وجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم تستعينه في كتابتها، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل لك في خير من ذلك؟ " قالت: وما هو يا رسول الله؟ قال: "أؤدي عنك كتابتك وأتزوجك"، قالت: قد فعلت1. وعند الطحاوي: حدثنا أحمد2 بن داود قال: حدثنا يعقوب3 بن حميد قال: ثنا سليمان4 بن حرب، قال: ثنا حماد بن زيد عن ابن عون5 قال: كتب إليَّ نافع أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ جويرية في غزوة بني المصطلق، فأعتقها وتزوجها وجعل عتقها صداقها، أخبرني بذلك عبد الله ابن عمر، وكان في ذلك الجيش. ثم قال الطحاوي: "فقد روي هذا عن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ذكرنا، ثم قال هو من بعد النبي صلى الله عليه وسلم في مثل هذا، أنه يجدد لها صداقا. حدثنا بذلك سليمان6 بن شعيب، قال: ثنا الخصيب7، قال: ثنا

_ 1 تقدم الحديث، ص 113، وما بعدها، وانظر ص 310. 2 أحمد بن داود بن موسى السدوسي، أبو عبد الله، عن مسدد وأبي الربيع وغيرهما، وعنه الطحاوي وثقه ابن يونس. انظر كشف الأستار عن رجال معاني الآثار للسندي، ص 3. 3 يعقوب بن حميد بن كاسب المدني، نزيل مكة، وقد نسب لجده، صدوق ربما وهم، من العاشرة (ت240 أو241) /عخ ق. التقريب 2/375. 4 سليمان بن حرب الأزدي الواشحي بمعجمة، ثم مهملة، البصري القاضي بمكة، ثقة إمام حافظ، من التاسعة (ت 224) وله ثمانون سنة /ع. المصدر السابق 1/322. 5 ابن عون هو: عبد الله بن عون بن أرطبان. تقدمت ترجمته مع بقية رجال الإسناد. 6 سليمان بن شعيب بن سليمان بن سليم بن كيسان الكلبي، أبو محمد المصري، عن خصيب بن ناصح وأبيه، وعنه الطحاوي، وثقه العقيلي. (ت278) كشف الأستار عن رجال معاني الآثار للسندي، ص 43، ولسان الميزان لابن حجر3/96. 7 الخصيب بفتح المعجمة وكسر المهملة ابن ناصح الحارثي البصري، نزيل مصر، صدوق يخطئ من التاسعة (ت 208) / س. التقريب 1/223، وكشف الأستار عن رجال معاني الآثار للسندي، ص 31.

حماد بن سلمة عن عبيد الله1، عن نافع عن ابن عمر مثل ذلك. فهذا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قد ذهب إلى أن الحكم في ذلك بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على غير ما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فيحتمل أن يكون ذلك سماعا سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يكون دله على ذلك المعنى الذي استدللنا به نحن على خصوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك2 بما وصفنا دون الناس"3. قلت: هذا الحديث الذي أيد به الطحاوي الخصوصية لا ينهض لفصل النزاع وذلك للاحتمال الموجود فيه. وحديثه الأول4 صريح في أن النبي صلى الله عليه وسلم أعتق جويرية وجعل عتقها صداقها. والأصل في ذلك الإقتداء به صلى الله عليه وسلم في ذلك حتى تثبت الخصوصية، وهذا الحديث فيه الاحتمال المذكور يبطل الاستدلال، بخلاف جعل العتق صداقا فإن الأحاديث صريحة في ذلك. فعند البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والطحاوي: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتق صفية وجعل عتقها صداقها"5.

_ 1 عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب العمري، المدني، أبو عثمان، ثقة ثبت، من الخامسة، مات سنة بضع وأربعين / ع. التقريب 1/537. 2 استدل الطحاوي على الخصوصية، بقوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} ، [سورة الأحزاب، من الآية: 50] . قال: فلما أباح الله لنبيه أن يتزوج بغير صداق، كان له أن يتزوج على العتاق الذي ليس بصداق، ومن لم يبح الله له أن يتزوج على غير صداق، لم يكن له أن يتزوج على العتاق، الذي ليس صداق. وهذه الآية التي استدل بها الطحاوي على الخصوصية، استدل بها أيضا ابن القيم على عدم الخصوصية، انظر ص 317. 3 شرح معاني الآثار 3/20- 21. 4 انظر ص 313. 5 البخاري7/7 كتاب النكاح باب من جعل عتق الأمة صداقها، ومسلم4/146 كتاب النكاح وأبو داود 1/474 فيه باب في الرجل يعتق أمته ثم يتزوجها والترمذي 4/257 فيه أيضا. والطحاوي فيه 3/20.

وفي لفظ عند البخاري: "سبي النبي صلى الله عليه وسلم صفية فأعتقها وتزوجها فقال ثابت1 لأنس: ما أصدقها؟ قال: أصدقها نفسها فأعتقها"2. وفي لفظ عند مسلم: "تزوج صفية وأصدقها عتقها"3. وفي لفظ عند البخاري من حديث أنس أيضا قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم الصبح قريبا من خيبر بغلس، ثم قال: "الله أكبر، خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين". الحديث ... وفيه: "وكان في السبي صفية، فصارت إلى دحية4 الكلبي، ثم صارت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل عتقها صداقها، فقال عبد العزيز5 بن صهيب لثابت: يا أبا محمد أنت قلت لأنس: ما أصدقها؟ فحرك ثابت رأسه تصديقا له"6. ولفظ مسلم أن دحية قال: يا رسول الله أعطني جارية من السبي فقال: "اذهب فخذ جارية" فأخذ صفية بنت حيي فجاء رجل إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا نبي أله أعطيت دحية صفية بنت حيي سيد قريظة والنضير ما تصلح إلا لك" قال: "ادعوه بها" قال: فجاء بها فلما نظر إليها النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خذ جارية من السبي غيرها"، قال: "وأعتقها وتزوجها" فقال ثابت: "يا أبا حمزة7: ما أصدقها" قال: "نفسها أعتقها وتزوجها"8.

_ 1 ثابت هو ابن أسلم البناني: بضم الموحدة ونونين مخففين. تقدمت ترجمته. 2 البخاري 5/ 109، كتاب المغازي باب غزوة خيبر. 3 مسلم 4/146 كتاب النكاح. 4 دحية بكسر دال وسكون مهملة وبمثناة تحتية، وعند ابن ماكولا بفتح دال دحية ابن خليفة بن فروة بن فضالة الكلبي، صحابي جليل نزل المزة ومات في خلافة معاوية /د. التقريب 1/235. 5 عبد العزيز بن صهيب بالتصغير البناني بضم الموحدة ونونين مخففين، البصري، ثقة من الرابعة، (ت 130) / ع. المصدر السابق 1/510. 6 5/109 كتاب المغازي باب غزوة خيبر. 7 أبو حمزة: كنية أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم. 8 صحيح مسلم 4/145- 146 كتاب النكاح.

فهذه الألفاظ كلها صريحة في صحة جعل العتق صداقا، ومع هذا كله فقد صرفها بعض العلماء عن ظاهرها وأولها بتأويلات بعيدة فيها تكلف، من تلك التأويلات: دعوى الخصوصية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كما تقدم في قول الطحاوي1، ومنها أنه صلى الله عليه وسلم لما أعتقها وجبت له عليها قيمتها فصح به العقد. ومنها أن هذا شيء قاله أنس بن مالك من قبل نفسه، لما لم يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ساق صداقا ... الخ. والذي لا ينبغي العدول عنه في هذه المسألة بالذات هو العمل بنا نصت عليه الأحاديث وهي صريحة في هذا، لأن الأصل عدم الخصوصية، ولأن الراوي أعرف بتأويل ما روى، فما كان لأنس أن يقول شيئا من قبل نفسه، لا سيما أنه قد ورد عند الطبراني2 وأبي الشيخ3 عن صفية نفسها قالت: "أعتقني وجعل عتقي صداقي"4. وهذا يوافق ما قاله أنس رضي الله عنه، وصاحب القصة أدرى بها من غيره. وقد تعرض لهذه المسألة ابن القيم في زاد المعاد أثناء كلامه على الأحكام الفقهية في غزوة خيبر وأيد القول بصحة جعل العتق صداقا، ورد على القائلين بغيره. وهذا نص كلامه: "ومنها5 جواز عتق الرجل أمته، وجعل عتقها صداقا لها، ويجعلها زوجته بغير إذنها ولا شهود ولا ولي غيره، ولا لفظ إنكاح ولا

_ 1 انظر ص 314. 2 هو الحافظ الإمام العلامة الحجة، بقية الحفاظ أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب ابن مطير اللخمي الشامي الطبراني، مسند الدنيا، وصاحب المعاجم الثلاثة. ولد عام (260) وتوفي عام (360) تذكرة الحفاظ للذهبي 3/912- 917. 3 هو حافظ أصبهان ومسند زمانه الإمام أبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان الأنصاري صاحب المصنفات السائرة، المعروف بأبي الشيخ، ولد سنة (274) وتوفي سنة (369) المصدر السابق 3/954- 947. 4 فتح الباري شرح صحيح البخاري 9/129. 5 أي من الأحكام الفقهية المأخوذة من غزوة خيبر.

تزويج، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بصفية، ولم يقل هذا قط خاص بي، ولا أشار إلى ذلك مع علمه بإقتداء أمته به، ولم يقل أحد من الصحابة إن هذا لا يصلح لغيره، بل رووا القصة ونقلوها إلى الأمة ولم يمنعوهم، ولا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الإقتداء به في ذلك، والله سبحانه لما خصه في النكاح بالموهوبة قال: {خَالَصَةً لَّكَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينِ} فلو كانت هذه خالصة له دون أمته لكان هذا التخصيص أولى بالذكر لكثرة ذلك من السادات مع إمائهم، بخلاف المرأة التي تهب نفسها للرجل لندرته وقلته أو مثله في الحاجة إلى البيان، ولا سيما والأصل مشاركة الأمة له، وإقتداؤها به، فكيف سكت عن منع الإقتداء به في ذلك الموضع الذي لا يجوز مع قيام مقتضى الجواز؟ هذا شبه المحال، ولم تجتمع الأمة على عدم الإقتداء به في ذلك، فيجب المصير إلى إجماعهم وبالله التوفيق". ثم أيد بالقياس الصحيح أيضا فقال: والقياس الصحيح يقتضي جواز ذلك، فإنه يملك رقبتها ومنفعة وطئها وخدمتها، فله أن يسقط حقه من ملك الرقبة، ويستبقي ملك المنفعة أو نوعا منها، كما لو أعتق عبده وشرط عليه أن يخدمه ما عاش، فإذا أخرج المالك رقبة ملكه، واستثنى نوعا من منفعته لم يمنع من ذلك في عقد البيع، فكيف يمنع منه في عقد النكاح؟. ولما كانت منفعة البضع لا تستباح إلا بعقد نكاح أو ملك يمين، وكان إعتاقها يزيل ملك اليمين عنها كان من ضرورة استباحة هذه المنفعة جعلها زوجة وسيدها كان يلي نكاحها وبيعها ممن شاء بغير رضاها، فاستثنى لنفسه ما كان يملكه منها. ولما كان من ضرورته1 عقد النكاح ملكه لأن بقاء ملكه المستثنى لا يتم إلا

_ 1 الضمير في (ضرورته) يعود على الوطء وفي (ملكه) وبه يعود على العقد، والقياس الذي ذكره ابن القيم خلاصته: أن السيد أعتق الرقبة واستثنى جزء من المنفعة وهو الزواج بعقد، وهذا يصح في البيع. ففي النكاح من باب أولى. والسيد هو الذي يلي عقد نكاح أمته لغيرهن وقد صار النكاح إليه فهو الذي يعقد لنفسه ضرورة؛ لأن الانتفاع بالوطء لا يمكن إلا بطريق العقد وهو يملكه، فصح منه توليه لنفسه.

به، فهذا محض القياس الصحيح الموافق للسنة الصحيحة، والله أعلم1.

_ 1 زاد المعاد2/160 و1/43 و4/27، وانظر سبل السلام للصنعاني3/148، ونيل الأوطار للشوكاني6/175-176، وشرح ثلاثيات مسند أحمد لمحمد السفاريني 1/388- 390.

المبحث الرابع: مشروعية القرعة بين النساء عند إرادة السفر ببعضهن

المبحث الرابع: مشروعية القرعة بين النساء عند إرادة السفر ببعضهن إن من عدالة الإسلام وسماحته ومراعاة للحقوق الإنسانية، أن المرء إذا كان لديه أكثر من زوجة فإنه يأمره ويطالبه العدل بينهن في المأكل والمشرب والملبس والمبيت لأن لكل واحدة منهن حقا، ومن ثم فإنه إذا أراد السفر ببعضهن أرشده الإسلام إلى القرعة بينهن ليكون ذلك أدعى إلى رضى الجميع وعدم وقوع بغضاء وشحناء بينهن لأنه لو اختار واحدة منهن بدون قرعة لكان في ذلك شقاق ونزاع مع بقية الزوجات، لاستوائهن في هذا لحق، فكانت القرعة حاسمة لهذا كله. ولما كانت غزوة بني المصطلق أقرع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين نسائه كعادته فأصابت القرعة عائشة فخرج بها صلى الله عليه وسلم معه، ودلت الأحاديث الصحيحة أن عائشة رضي الله عنها خرجت وحدها في هذه الغزوة ولم تخرج معه صلى الله عليه وسلم امرأة سواها، وأما ما ورد من خروج أم سلمة في هذه الغزوة أيضا فإنه لا يصح. فعند ابن إسحاق: حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه عن عائشة، وعبد الله بن أبي بكر، عن عمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة عن نفسها، حين قال فيها أهل الإفك ما قالوا، فكل قد دخل في حديثها عن هؤلاء جميعا يحدث بعضهم ما لم يحدث صاحبه، وكل كان عنها ثقة، فكلهم حدث عنها ما سمع، قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه، فلما كانت غزوة بني المصطلق أقرع

بين نسائه، كما كان يصنع، فخرج سهمي عليهن معه، فخرج بي رسول الله صلى الله عليه وسلم"1. وعند البزار من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأصاب عائشة القرعة في غزوة بني المصطلق". الحديث ... قال الهيثمي: "رواه البزار وفيه محمد بن عمرو2 وهو حسن الحديث، وبقية رجاله ثقات3 ونسبه السيوطي للبزار وابن مردويه وقال بسند حسن"4. وبوب البخاري بقوله: "باب حمل الرجل امرأته في الغزوة دون بعض نسائه"، ثم ذكر طرفا من حديث عائشة في قصة الإفك وهو "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج أقرع بين نسائه فأيتهن يخرج سهمها خرج بها النبي صلى الله عليه وسلم. فأقرع بيننا في غزوة غزاها، فخرج فيها سهمي، فخرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم بعدما أنزل الحجاب"5. قال ابن حجر: "قوله باب حمل الرجل امرأته في الغزو دون بعض نسائه "ذكر فيه طرفا من حديث عائشة في قصة الإفك وهو ظاهر فيما ترجم له، وسيأتي شرح حديث الإفك تاما في التفسير، وفيه التصريح بأن حمل عائشة معه كان بعد القرعة بين نسائه"6. اهـ. قلت: ومعلوم أن قصة الإفك كانت في غزوة بني المصطلق، وبهذا التقرير يتضح أن عائشة كانت وحدها في غزوة بني المصطلق، ولذا فقد قال ابن حجر

_ 1 سيرة ابن هشام 2/297، وانظر مسند أبي يعلى 4/450 و5/555، وانظر ص 206، من هذه المسألة. 2 هو محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي. تقدمت ترجمته. 3 مجمع الزوائد 9/230. 4 الدر المنثور 5/27. 5 البخاري 4/27، كتاب الجهاد والسير باب حمل الرجل امرأته في الغزو دون بعض نسائه. 6 فتح الباري 6/78، وقع في فتح الباري الطبعة السلفية "قبل أن ينزل الحجاب" وهو خطأ مطبعي لأن أحاديث الإفك صريحة في وقوع هذه الحادثة بعد نزول الحجاب. وهو كذلك في الفتح، النسخة الحلبية 6/418.

أثناء شرحه لحديث الإفك: "قوله: (فخرج سهمي) ، هذا يشعر بأن عائشة كانت في تلك الغزوة وحدها، لكن عند الواقدي1 من طريق عباد بن عبد الله عن عائشة أنها خرجت معه في تلك الغزوة أيضا أم سلمة، وكذا في حديث ابن عمر، وهو ضعيف"2. ثم قال: "ولم يقع لأم سلمة في تلك الغزوة ذكر، ورواية ابن إسحاق3 من رواية عباد ظاهرة في تفرد عائشة بذلك، ولفظه "فخرج سهمي عليهن، فخرج بي معه"4.اهـ. وأما حكم العمل بالقرعة فالجمهور من العلماء على القول بذلك. والمشهور عن الحنفية والمالكية عدم اعتبارها5. والأحاديث ترد عليهم فإنها صريحة في ذلك.

_ 1 انظر الحديث في مغازي الواقدي، 2/426. 2 انظر الحديث في مجمع الزوائد للهيثمي، 9/237، ونسبه للطبراني وقال: فيه إسماعيل ابن يحيى بن عبيد الله التيمي وهو كذاب. 3 انظر حديث ابن إسحاق، ص 318، وانظر سيرة ابن هشام، 2/297. 4 فتح الباري 8/458، وانظر حاشية، ص 206، من هذه الرسالة. 5 انظر شرح صحيح النووي على مسلم 5/629 و641، وزاد المعاد لابن القيم 1/55، وفتح الباري 5/293- 294، وسبل السلام للصنعاني 3/165، ونيل الأوطار للشوكاني 6/245، وعون المعبود شرح سنن أبي داود 6/176.

المبحث الخامس: جواز خروج النساء في الغزوات وغيرها

المبحث الخامس: جواز خروج النساء في الغزوات وغيرها تقدم في حديث الإفك عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين أزواجه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معه، فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج فيها سهمي، فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما أنزل الحجاب".الحديث1 ...

_ 1 انظر سياق حديث الإفك ص 205 وما بعدها. وانظر صحيح البخاري 5/96 كتاب المغازي باب حديث الإفك.

وفي حديث الربيع1 بنت معوذ عند البخاري قالت: "كنا نغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم فنسقي القوم نخدمهم ونرد الجرحى والقتلى إلى المدينة"2. وفي حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بأم سليم3 ونسوة من الأنصار معه إذا غزا فيسقين الماء ويداوين الجرحى"4. وعند البخاري ومسلم من حديث أنس أيضا قال: "لما كان يوم أحد انهزم ناس من الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم" الحديث.... وفيه: "ولقد رأيت عائشة بنت أبي بكر وأم سليم وإنهما لمشمرتان5 أرى خدم6 سوقهما تنقلان القرب على متونهما7 ثم تفرغانه في أفواههم ثم ترجعان فتملآنها ثم تجيئان تفرغانه في أفواه القوم" الحديث8 ...

_ 1 الربيع: بالتصغير والتثقيل. بنت معوذ باسم الفاعل ابن عفراء بفتح المهملة وسكون الفاء الأنصارية النجارية من صغار الصحابة. /ع. التقريب 2/5298. 2 البخاري 4/27-28 كتاب الجهاد والسير باب مداواة النساء الجرحى في الغزو و7/106 كتاب الطب باب هل يداوي الرجل والمرأة أو المرأة الرجل وأحمد 6/358. 3 أم سليم بالتصغير بنت ملحان بن خالد الأنصارية والدة أنس بن مالك، يقال: اسمها سهلة، أو رميلة، أو رميتة أو مليكة، أو أنيثة، وهي الغميصاء، أو الرميصاء بالتصغير زوج أبي طلحة الأنصاري، اشتهرت بكنيتها، وكانت من الصحابيات الفاضلات، (ت في خلافة عثمان) / خ م د ت س. التقريب 2/622. 4 مسلم5/196 كتاب الجهاد والسير، وأبو داود2/17 كتاب الجهاد باب في النساء يغزون والترمذي 3/68 كتاب السير باب ما جاء في خروج النساء في الحرب. 5 شمر إزاره رفعه، وشمر في الأمر خف فيه، وجد واجتهد. انظر النهاية لابن الأثير 2/500 ومختار الصحاح ص 346. 6 الخدم: الخلخال. النهاية لابن الأثير2/15. 7 متونهما: متنا الظهر: مكتنفا الصلب عن يمين وشمال من عصب ولحم، يذكر ويؤنث، مختار الصحاح ص 614 والقاموس المحيط للفيروز آبادي 4/269. 8 البخاري 4/27 كتاب الجهاد والسير باب غزو النساء وقتالهن مع الرجال و5/31 كتاب المناقب باب مناقب أبي طلحة و5/82 كتاب المغازي - غزوة أحد باب {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا} ومسلم 5/196 كتاب الجهاد والسير.

وفي حديث أم عطية1 الأنصارية رضي الله عنها قالت: "غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات أخلفهم في رحالهم فأصنع لهم الطعام وأداوي الجرحى وأقوم على المرضى"2. وفي هذه النصوص تبرز بوضوح كامل قيمة المرأة في المجتمع المسلم، فإنها فيه عضو فعال، فها هي الأحاديث الصحيحة تصرح بأن المرأة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تشارك في الحرب، كما أنها في السلم سيدة البيت ومربية أجيال، فليس في الإسلام حظر للمرأة أن تشارك الجيش أعباءه في القتال، بل في ذلك حث لها على سقي الماء ومداواة الجرحى وتمريض المرضى، وأكثر من ذلك فقد ورد في حديث أنس بن مالك، أن أم سليم اتخذت يوم حنين خنجرا فكان معها فرآها أبو طلحة3 فقال: يا رسول الله هذه أم سليم معها خنجر فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما هذا الخنجر"، قالت: اتخذته إن دنا مني أحد من المشركين، بقرت به بطنه، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك، قالت: يا رسول الله اقتل من بعدنا4 من الطلقاء انهزموا بك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أم سليم إن الله قد كفى وأحسن 5. ولكن كل ذلك مقيد بقيود الإسلام وشروطه التي تهدف إلى صيانة المرأة عن الابتذال والسفور، والخروج عن حد الاعتدال، لتكون لقمة سائغة لكل جسد شهواني، كما تدعو إليه حضارة الغرب والشرق اليوم، ويقلدهم في ذلك أذنابهم من أبناء المسلمين، الذين اغتروا بهذه الدعايلت الزائفة، التي يروجها

_ 1 أم عطية: هي نسيبة بالتصغير، ويقال بفتح أولها، بنت كعب، ويقال بنت الحارث، صحابية مشهورة، ثم سكنت البصرة. / ع. التقريب 2/616. 2 مسلم 5/199 كتاب الجهاد وابن ماجه 2/952 فيه باب العبيد والنساء يشهدون مع المسلمين وأحمد 5/84. 3 أبو طلحة هو: زيد بن سهل بن الأسود بن حرام الأنصاري النجاري، مشهور بكنيته، من كبار الصحابة، شهد بدرا وما بعدها، (ت 34) وقال أبو زرعة: عاش بعد النبي صلى الله عليه وسلم أربعين سنة، /ع. التقريب 1/275. 4 تريد الذين فروا في غزوة حنين ممن أسلم يوم فتح مكة. 5 صحيح مسلم 5/196 كتاب الجهاد والسير.

دعاة الباطل والإلحاد، بغية الانجراف في تياراتهم المنحرفة الضالة، التي تهدف إلى خلخلة البناء الإسلامي من أساسه الأول وهو الأسرة، وقوام الأسرة في الإسلام، هو المرأة المسلمة، فإذا خرجت وانتهكت الحرمات، وتبرجت تبرج الجاهلية الأولى، فقد وصل دعاة تحرير المرأة إلى مبتغاههم الخبيث. فنسأل الله أن يرزق المسلمين البصيرة في دينهم، والتنبه لمخاطر أعدائهم، وما يدبرونه لهم من مكايد.

المبحث السادس: ثبوت إقامة الحد على القاذفين

المبحث السادس: ثبوت إقامة الحد على القاذفين تقدم الحديث الوارد في ذلك عند أصحاب السنن وأحمد وغيرهم من حديث عائشة رضي الله عنها. ومن حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل القرآن ببراءة عائشة، أمر بحسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش، فضربوا حدهم. والخلاف في عبد الله بن أبي ابن سلول فالأكثر على أنه لم يقم عليه حد، وقد تقدم تحقيق ذلك في مبحث إقامة الحد على القاذفين1

_ 1 انظر ص 234 وما بعدها.

المبحث السابع: جواز استرقاق العرب

المبحث السابع: جواز استرقاق العرب إن الأحاديث الواردة في ذلك من الكثرة والشهرة بمكان، وهو أمر معلوم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته من بعده. وسأقتصر على إيراد الأحاديث الواردة في غزوة بني المصطلق وهي: أولاً: حديث عبد الله بن عمر عند البخاري ومسلم وغيرهما وهذا سياق مسلم قال: حدثنا يحيى بن يحيى التميمي حدثنا سليم بن أخضر عن ابن عون

قال: "كتبت إلى نافع أسأله عن الدعاء قبل القتال قال: فكتب إلي إنما كان ذلك في أول الإسلام قد أغار رسول الله صلى الله عليه وسلم على بني المصطلق وهم غارون وأنعامهم تسقى على الماء فقتل مقاتلهم وسبى سبيهم وأصاب يومئذ" قال يحيى: أحسبه قال (جويرية) أو قال البتة1 ابنة الحارث. وحدثني هذا الحديث عبد الله بن عمر وكان في ذلك الجيش ثم قال مسلم: وحدثنا محمد بن المثنى حدثنا ابن أبي عدي عن ابن عون بهذا الإسناد مثله وقال: "جويرية بنت الحارث ولم يشك"2. ثانياً: حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بني المصطلق فأصبنا سبيا من سبي العرب، فاشتهينا النساء، واشتدت علينا العزبة وأحببنا العزل". الحديث3 ... ثالثاً: حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "لما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا بني المصطلق وقعت جويرية بنت الحارث في السهم لثابت بن قيس بن شماس، أو لابن عم له، فكاتبته على نفسها" الحديث ... وفيه "فلقد أعتق بتزويجه مائة من أهل بيت بني المصطلق، فما أعلم امرأة كانت أعظم بركة على قومها منها"4. وبهذه الأحاديث وغيرها قال جمهور العلماء بجواز استرقاق العرب كغيرهم من سائر الكفار من الأعاجم من يهود ونصارى وغير ذلك. وقد بوب البخاري بقوله: "باب من ملك من العرب رقيقا فوهب وباع

_ 1 قال النووي في شرحه على صحيح مسلم 4/330: أما قوله أو البتة فمعناه: أن يحيى بن يحيى قال: "أصاب يومئذ بنت الحارث، وأظن شيخي سليم بن أخضر سماها في روايته: جويرية، أو أعلم ذلك، وأجزم به، وأقول ألبتة، وحاصله أنها جويرية فيما أحفظه إما ظنا وإما علما". 2 تقدم تخريج الحديث في حكم الدعوة قبل القتال ص 78. 3 سيأتي تخريجه في حكم العزل ص 331. 4 أبو داود2/347 كتاب العتق وأحمد6/277 والبيهقي9/74 وأصله في الصحيحين من حديث ابن عمر وتقدم الحديث ص 113 وما بعدها.

وجامع وفدى وسبى الذرية"، ثم أورد جملة أحاديث منها حديث عبد الله بن عمر وحديث أبي سعيد1 قال ابن حجر: "هذه الترجمة معقودة لبيان الخلاف في استرقاق العرب، وهي مسألة مشهورة، والجمهور على أن العربي إذا سبى جاز أن يسترق، وإذا تزوج أمة بشرطه كان ولدها رقيقا". وذهب الأوزاعي2 والثوري3 وأبو ثور إلى أن على سيد الأمة تقويم الولد ويلزم أبوه بأداء القيمة ولا يسترق الولد أصلا. وقد جنح المصنف إلى الجواز، وأورده الأحاديث الدالة على ذلك. الخ4. وقال الشافعي: "وإذا قوتل أهل الحرب من العجم جرى السبا على ذراريهم ونسائهم ورجالهم لا اختلاف في ذلك وإذا قوتلوا وهم من العرب، فقد سبا رسول الله صلى الله عليه وسلم بني المصطلق وهوازن وقبائل من العرب، وأجرى عليهم الرق، حتى من عليهم بعد. فاختلف أهل العلم بالمغازي، فزعم بعضهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أطلق سبي هوازن قال: "لو كان تاما على أحد من العرب سبي لتم على هؤلاء، ولكنه أسار وفداء"، فمن أثبت هذا الحديث زعم أن الرق لا يجري على عربي بحال، وهذا قول الزهري وسعيد5 بن المسيب والشعبي ويروى عن عمر بن الخطاب، وعمر6 بن

_ 1 البخاري 3/129 كتاب العتق. وانظر ص 223. 2 هو عبد الرحمن بن عمرو بن أبي عمرو، أبو عمرو الفقيه، ثقة جليل من السابعة (ت 157) /ع. التقريب. 1/493. 3 هو إبراهيم بن خالد بن أبي اليمان أبو ثور الفقيه صاحب الشافعي ثقة من العاشرة، (ت 240) / م د ق. المصدر السابق 1/35. الضمير يعود على جواز تزوج الأمة وذلك أنه لا يجوز للحر تزوج الأمة إلا إذا عجز عن مهر حرة وخشي العنت وهو الوقوع في الزنا. كما صرحت بذلك آية سورة النساء: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} ، [سورة النساء، من الآية: 25] . 4 فتح الباري 5/170. 5 سعيد بن المسيب بن حزن بفتح الحاء المهملة وسكون لزاي تقدمت ترجمته. 6 عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص الأموي، أمير المؤمنين، أمه أم عاصم بنت ابن عمر بن الخطاب، ولي إمرة المدينة للوليد، وكان مع سليمان كالوزير، وولي الخلافة بعده، فعد مع الخلفاء الراشدين، من الرابعة (ت 101) وله 40 سنة ومدة خلافته سنتان ونصف. / ع. التقريب 2/59.

عبد العزيز، ثم قال: أخبرنا سفيان1 عن يحيى2 بن يحيى الغساني عن عمر بن عبد العزيز، قال: وأخبرنا سفيان عن الشعبي أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: "لا يسترق عربي". قال الربيع3: "قال الشافعي ولولا أنا نأثم بالتمني لتمنينا أن يكون هذا هكذا" ... ثم قال: "وأخبرنا ابن أبي ذئب4 عن الزهري عن ابن المسيب أنه قال في المولى ينكح الأمة يسترق ولده، وفي العرب ينكحها لا يسترق ولده، وعليه قيمتهم". قال الربيع: "رأى الشافعي أن يأخذ منهم الجزية وولدهم رقيق ممن دان دين أهل الكتاب قبل نزول الفرقان" ثم قال الشافعي: "ومن لم يثبت الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب إلى أن العرب والعجم سواء، وأنه يجري عليهم الرق حيث جرى على العجم".انتهى كلام الشافعي5. قلت: الحديث لم يثبت كما بين ذلك البيهقي والشوكاني قال البيهقي: بعد أن أورد كلام الشافعي هذا: "وأما الرواية فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإنما ذكرها الشافعي - في القديم عن محمد بن عمر الواقدي6، عن موسى بن

_ 1 سفيان: هو ابن عيينة. 2 هو ابن قيس بن حارثة الغساني، أبو عثمان الشامي، ثقة من السادسة، (ت 133) /د. المصدر السابق 2/360. 3 الربيع بن عبد الجبار بن كامل المرادي مولاهم، أبو محمد المصري المؤذن صاحب الشافعي ورواية كتبه عنه. ثقة من الحادية عشرة (ت 270) . /د س ق. المصدر السابق 1/245. 4 هو محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحارث بن أبي ذئب القرشي، العامري أبو الحارث المدني، ثقة فقيه فاضل، من السابعة (ت 158) /ع. التقريب 2/184. 5 كتاب الأم 4/186 كتاب الجهاد. 6 قال فيه البخاري: "محمد بن عمر الواقدي، قاضي بغداد، عن مالك ومعمر، متروك الحديث". انظر كتاب الضعفاء الصغير للبخاري ص275. وفي التاريخ الكبير 1/178 قال عنه: "سكتوا عنه، تركه أحمد وابن نمير"، وقال فيه النسائي: "متروك الحديث"، وفي موضع آخر قال: "الكذابون المعروفون بوضع الحديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة، فذكر منهم الواقدي ببغداد"، انظر كتاب الضعفاء والمتروكين ص 303 و310. وساق ترجمته الذهبي في ميزان الاعتدال3/666 وختمها بقوله: "واستقر الإجماع على وهم الواقدي". وفي تذكرة الحفاظ1/348 قال: "محمد بن عمر بن واقد الأسلمي، مولاهم، أبو عبد الله المدني، الحافظ البحر، لم أسق ترجمته لاتفاقهم على ترك حديثه، وهو من أوعية العلم، لكنه لا يتقن الحديث، وهو رأس في المغازي والسير، ويروي عم كل ضرب". وقال فيه في ديوان الضعفاء والمتروكين ص 283 قال النسائي: "يضع الحديث"، وقال ابن عدي: "أحاديثه غير محفوظة، والبلاء منه". وقال ابن حجر في التقريب 2/194: "محمد بن عمر بن واقد الأسلمي، متروك مع سعة علمه، من التاسعة، (ت 207) /ق". وانظر تهذيب التهذيب 9/363- 368. وقال ناصر الدين الألباني بعد أن نقل قول الذهبي الأخير وقول ابن حجر هذا قلت: "ولذلك فلا ينبغي أن يغتر أحد بما ذهب غليه ابن سيد الناس في مقدمة كتابه عيون الأثر" من توثيق الواقدي، فإنه خلاف ما عليه المحققون من الأئمة قديما وحديثا، ولمنافاته علم المصطلح الذي ينص على وجوب تقديم الجرح المفسر على التعديل، وأي جرح أقوى من الوضع؟! وقد اتهمه به أيضا الشافعي وأبو داود وأبو حاتم وقال أحمد: "كذاب".ا?ـ انظر دفاع عن الحديث والسيرة في الرد على البوطي ص 21.

محمد بن غبراهيم بن الحارث عن أبيه عن السلولي1 عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم حنين: "لو كان ثابتا 2 على أحد من العرب سباء بعد اليوم لثبت على هؤلاء، ولكن إنما هو أسار وفداء". وهذا إسناد ضعيف لا يحتج بمثله. وأما الرواية فيه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فهي رواية منقطعة3. ثم قال: وجريان الرق على سبايا بني المصطلق وهوازن صحيح ثابت، والمن عليهم بإطلاق السبايا تفضل. ثم أورد حديث أبي سعيد الخدري وحديث عائشة4، وأحاديث أخرى تؤيد القول بجواز استرقاق العرب5.

_ 1 السلولي: بفتح المهملة وتخفيف اللام. اثنان في التقريب بهذا النسب أحدهما عبد الله ابن ضمرة وهو من الثالثة، والثاني أبو كبشة السلولي الشامي من الثانية وكلاهما ثقة، ولم أهتد إلى الراوي عن معاذ منهما بعد البحث. انظر المصدر السابق 1/424 و2/465. 2 في الحديث عند الشافعي "لو كان تاما". انظر ص 325. 3 لأنها من رواية عامر بن شراحيل الشعبي عن عمر بن الخطاب، قال ابن حجر: وروايته عنه مرسلة. انظر تهذيب التهذيب 5/66. 4 انظر حديث أبي سعيد وعائشة ص 324. 5 السنن الكبرى للبيهقي 9/73.

قلت: وفي الحديث علة أخرى غير الواقدي، وهو موسى بن محمد ابن إبراهيم بن الحارث التيمي وهو منكر الحديث1. وأورد الشوكاني حديث معاذ الآنف الذكر ثم قال: فيه الواقدي وهو ضعيف جدا ورواه الطبراني من طريق أخرى فيها يزيد2 بن عياض وهو أشد ضعفا من الواقدي. ومثل هذا لا تقوم به حجة3.ا?ـ. قلت: وأورد مجد الدين ابن تيمية4 حديث ابن عمر في الإغارة على بني المصطلق وسبي ذراريهم، ثم قال عقبه: وهو دليل على استرقاق العرب5. وبوب في موضع آخر من المنتقى بقوله: "باب جواز استرقاق العرب". ثم أورد أحاديث تؤيد ما بوب عنه، ومنها حديث عائشة رضي الله عنها في وقوع جويرية بنت الحارث في سهم ثابت بن قيس أو ابن عم له. وقال عقبه: "رواه أحمد6 واحتج به في رواية محمد بن الحكم"7، وقال: "لا أذهب إلى قول عمر: ليس على عربي ملك، قد سبى النبي صلى الله عليه وسلم العرب في غير حديث وأبو بكر وعلي حين سبى بني ناجية"8. قال الشوكاني: "استدل المصنف بأحاديث الباب على جواز استرقاق

_ 1 انظر التقريب2/287وتهذيب التهذيب10/368-369،وميزان الاعتدال4/220. 2 هو يزيد بن عياض بن جعدية بضم الجيم والمهملة بينهما ساكنة. الليثي أبو الحكم المدني، نزيل البصرة، وقد ينسب لجده، كذبه مالك وغيره، من السادسة. /ت ق. التقريب 2/369 وانظر ميزان الاعتدال 4/436- 437. 3 نيل الأوطار 8/7- 8. 4 هو الشيخ الإمام علامة عصره المجتهد المطلق أبو البركات شيخ الحنابلة، مجد الدين عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم الحراني، المعروف بابن تيمية (ت 652) مقدمة نيل الأوطار للشوكاني 1/13- 14. 5 منتقى الأخبار 7/245 و8/4 مع نيل الأوطار. 6 انظر مسند أحمد 6/277 وانظر ص 113 وما بعدها من هذه الرسالة مما تقدم. 7 هو محمد بن الحكم المروزي، الأحول، ابن عم أبي طالب، صاحب أحمد. ثقة فاضل، من الحادية عشرة (ت 223) /خ. التقريب 2/155. 8 منتقى الاخبار 7/245 و8/4 مع نيل الأوطار.

العرب، وإلى ذلك ذهب الجمهور، كما حكاه الحافظ في كتاب العتق من فتح الباري. ثم قال الشوكاني: وبنو ناجية من قريش"1. وخلاصة القول في هذا هو جواز استرقاق العرب لا فرق بين ذكورهم وإناثهم وهو قول جمهور العلماء2.

_ 1 نيل الأوطار 8/7- 8. 2 انظر شرح النووي على مسلم 3/614 و4/331 وفتح الباري 5/170- 173 وسبل السلام للصنعاني 4/45 ونيل الأوطار 7/246 و8/7- 8.

المبحث الثامن: حكم من قذف عائشة رضي الله عنها بما برأها الله منه

المبحث الثامن: حكم من قذف عائشة رضي الله عنها بما برأها الله منه ... المبحث الثامن: حكم من قذف عائشة - رضي الله عنها - قال ابن تيمية في الصارم المسلول تحت عنوان: حكم من سب عائشة: "قال القاضي1 أبو يعلى: من قذف عائشة بما برأها الله منه كفر بلا خلاف. وقد حكى الإجماع على هذا غير واحد. وصرح غير واحد من الأئمة بهذا الحكم. ثم ذكر بعض الوقائع التي قتل فيها من رماها رضي الله عنها بعد نزول القرآن ببراءتها"2. وقال ابن القيم: "اتفقت الأمة على كفر قاذفها"3. وقال ابن كثير - تحت قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} ، [سورة النور الآية: 23] :

_ 1 القاضي أبو يعلى محمد بن الحسين بن محمد بن خلف ابن الفراء الحنبلي شيخ الحنابلة صاحب التصانيف وفقيه عصره، كان إماما لا يدرك قراره ولا يشق غباره، ولي قضاء الحريم، وجميع الطائفة معترفون بفضله ومغترفون من بحره. انظر العبر في خبر من غبر للذهبي 3/243- 244. 2 الصارم النسلول على شاتم الرسول ص 565- 567 وص 571. 3 زاد المعاد 1/41.

"أجمع العلماء قاطبة على أن من سب عائشة رضي الله عنها بعد هذا ورماها بما رماها به بعد هذا الذي ذكر في هذه الآية، فإنه كافر، لأنه معاند للقرآن"1. وقال بدر الدين الزركشي: "من قذفها فقد كفر لتصريح القرآن الكريم ببراءتها"2. وقال السيوطي في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} ، [سورة النور، من الآية: 11] الآيات: قال: "نزلت في براءة عائشة فيما قذفت به، فاستدل به الفقهاء على أن قاذفها يقتل لتكذيبه لنص القرآن، قال العلماء: قذف عائشة كفر لأن الله سبح نفسه عند ذكره3، فقال: {هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} ، كما سبح نفسه عند ذكر ما وصفه به المشركون من الزوجة والولد4. وقال النووي أثناء تعداد فوائد حديث الإفك: "الحادية والأربعون: براءة عائشة من الإفك وهي براءة قطعية بنص القرآن العزيز فلو تشكك فيها إنسان - والعياذ بالله- صار كافرا مرتدا بإجماع المسلمين، قال ابن عباس وغيره: لم تزن امرأة نبي من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وهذا إكرام من الله تعالى لهم"5.

_ 1 تفسير ابن كثير 3/276. 2 الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة ص 52. 3 الضمير في (ذكره) يعود على قصة الإفك. 4 الإكليل في استنباط التنزيل ص 160 وانظر المحلى لابن حزم 13/504 والشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض2/309 والروض الأنف للسهيلي 6/449-450 وكتاب محمد الخرشي على مختصر خليل 5/316. والإقناع لشرف الدين الحجاوي الحنبلي 4/299 وكشاف القناع عن متن الإقناع لمنصورر ابن يونس البهوتي الحنبلي 6/171، وأحكام المرتدين في الشريعة الإسلامية للدكتور نعمان عبد الرزاق السامرائي ص 111. 5 شرح صحيح مسلم للنووي 5/643.

المبحث التاسع: حكم العزل

المبحث التاسع: حكم العزل ورد في حديث أبي سعيد الخدري من طريق ابن محيريز1 أنه قال: "دخلت المسجد فرأيت أبا سعيد الخدري، فجلست إليه، فسألته عن العزل2، قال أبو سعيد: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بني المصطلق فأصبنا سبيا من سبي العرب، فاشتهينا النساء، واشتدت علينا العزبة، وأحببنا العزل، فأردنا أن نعزل، وقلنا نعزل ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا قبل أن نسأله؟! فسألناه عن ذلك فقال: "ما عليكم أن لا تفعلوا، ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا وهي كائنة" هذا لفظ البخاري في المغازي وفي كتاب العتق نحو هذا3. وفي كتاب النكاح: عن ابن محيريز عن أبي سعيد الخدري قال: أصبنا سبيا فكنا نعزل، فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أو إنكم لتفعلون؟ " - قالها ثلاثا - ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا هي كائنة"4. وفي كتاب القدر عن عبد الله بن محيريز الجمحي أن أبا سعيد الخدري أخبره أنه بينما هو جالس عند النبي صلى الله عليه وسلم جاءه رجل5 من الأنصار فقال: يا رسول الله إنا نصيب سبيا ونحب المال، كيف ترى في العزل؟

_ 1 ابن محيريز بالتصغير هو عبد الله بن محيريز بن جنادة بن وهب الجمحي المكي، كان يتيما في حجر أبي محذورة بمكة، ثم نزل بيت المقدس، ثقة عابد، من الثالثة، (ت 999 وقيل بعدها /ع. التقريب 1/449. 2 العزل: هو نزع الذكر بعد الإيلاج لينزل خارج الفرج، خشية أن تحمل المرأة. 3 كتاب العتق باب من ملك من العرب رقيقا 3/129 وكتاب المغازي 5/96 باب غزوة بني المصطلق من خزاعة. 4 باب العزل 7/29. 5 قوله: جاء رجل من الأنصار: قال ابن حجر: "تقدم في غزوة المريسيع وفي كتاب النكاح من صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري قال: "سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخرجه النسائي من طريق ابن محيريز أن أبا سعيد وأبا صرمة أخبراه أنهم أصابوا سبايا قال: فتراجعنا في العزل فذكرنا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلعل أبا سعيد باشر السؤال وإن كان الذين تراجعوا في ذلك جماعة" الخ. فتح الباري 11/495.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أو إنكم تفعلون ذلك؟ لا عليكم إلا تفعلوا فإنه ليست نسمة كتب الله أن تخرج إلا هي كائنة" 1. وحديث أبي سعيد هذا أورده مسلم بألفاظ متعددة2. وهو أيضا عند أبي داود والنسائي وابن ماجة وأحمد3. وفي حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن ينْزل"، لفظ البخاري وابن ماجة4،وزاد مسلم: "لو كان شيئا ينهى عنه لنهانا عنه القرآن"5. وفي لفظ عند مسلم من حديث جابر أيضا "كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبلغ ذلك نبي الله صلى الله عليه وسلم فلم ينهنا"6. وفي لفظ قال جابر: سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن عندي جارية لي وأنا أعزل عنها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن ذلك لن يمنع شيئا أراده الله"، قال فجاء الرجل فقال: يا رسول الله إن الجارية التي كنت ذكرتها لك حملت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا عبد الله ورسوله" 7. وهذه الأحاديث التي ظاهرها جواز العزل، ورد ما يعارضها فعند مسلم وأحمد من حديث جدامة8 بنت وهب قالت: حضرت رسول الله صلى الله عليه

_ 1 البخاري 8/104 باب {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً} . 2 صحيح مسلم 4/157- 160 كتاب النكاح. 3 انظر سنن أبي داود 1/500- 501 والنسائي 6/89 وابن ماجة 1/620 الجميع في كتاب النكاح باب العزل وأحمد 3/63 و68 و72. 4 البخاري 7/29 كتاب النكاح باب العزل وابن ماجة فيه 1/620. 5 صحيح مسلم 4/160 كتاب النكاح. 6 المصدر السابق 4/160. 7 المصدر السابق 4/160. 8 جدامة بمضمومة ودال مهملة. بنت وهب ويقال جندل، الأسدية، أخت عكاشة ابن محصن لأمه صحابية لها سابقة وهجرة، قال الدارقطني: من قالها بالذال المعجمة صحف /م عم. التقريب 2/593.

وسلم في أناس وهو يقول: "لقد هممت أن أنهى عن الغيلة1، فنظرت في الروم وفارس فإذا هم يغيلون أولادهم فلا يضر أولادهم ذلك شيئا"،ثم سألوه عن العزل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذلك الوأد الخفي" زاد عبيد الله في حديثه عن المقرئ2: وهي {وَإِذَا المُوْؤُودَةُ3 سُئِلَت} 4. وبسبب هذه الأحاديث التي ظاهرها التعارض اختلف العلماء في حكم العزل. فذهب ابن حبان وابن حزم إلى تحريمه أخذا بحديث جدامة هذا وما في معناه. وعلل ابن حزم ذلك بأن الأحاديث الدالة على الإباحة، متمشية مع أصل الإباحة، وحديث حدامة دال على التحريم، فصح أن حديثها ناسخ لجميع الإباحات المتقدمة التي لا شك في أنها قبل البعث وبعد البعث، وهذا أمر متيقن، لأنه إذا أخبر عليه الصلاة والسلام أنه الوأد الخفي، والوأد محرم، فقد نسخ الإباحة المتقدمة بيقين، فمن ادعى أن تلك الإباحة المنسوخة قد عادت، وأن النسخ المتيقن قد بطل فقد ادعى الباطل، وقفى ما لا علم له به، وأتى بما لا دليل عليه. وأيد ذلك بما ورد في حديث أبي سعيد الخدري عند مسلم5

_ 1 الغيلة: بالكسر الاسم من الغيل بالفتح، وهو أن يجامع الرجل زوجته وهي مرضع، وكذلك إذا حملت وهي مرضع. النهاية لابن الأثير 3/402. 2 المقرئ هو عبد الله بن يزيد المكي، أبو عبد الرحمن القصير أصله من البصرة أو الأهواز، ثقة فاضل، أقرأ القرآن نيفا وسبعين سنة، من التاسعة (ت 213) وقد قارب المائة وهو من كبار شيوخ البخاري /ع. التقريب 1/462. 3 سورة التكوير آية:8 والموؤودة هي البنت كان في الجاهلية إذا ولد لأحدهم بنت دفنها في التراب وهي حية. يقال وأدها يئدها وأدا فهي موؤودة. النهاية لابن الأثير 5/143 ومختار الصحاح ص 705 والقاموس المحيط 1/432- 343. 4 صحيح مسلم 4/161 كتاب النكاح وأحمد 6/361 و434. 5 انظر الحديث في صحيح مسلم 4/159.

قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العزل، فقال: "لا عليكم ألا تفعلوا ذلك فإنما القدر"، قال ابن سيرين1 - قوله: "لا عليكم أقرب إلى النهي"2. وذهب الجمهور إلى جواز العزل عن الزوجة الحرة بإذنها وعن السرية بدون إذن والخلاف في الزوجة المملوكة هذا أقرب الأقوال في هذه المسألة والخلاف طويل بين العلماء، واستدل الجمهور على الجواز بالأحاديث المتقدمة التي ظاهرها الجواز. وأجابوا عن حديث جدامة وما في معناه بأن النهي فيها محمول على كراهة التنزيه - وأجيب عن قوله في حديث جدامة "ذلك الوأد الخفي" أنه ليس صريحا في التحريم، لأن التحريم للوأد المحقق الذي هو قطع حياة محققة، والعزل وإن شبهه صلى الله عليه وسلم به فإنما هو قطع لما يؤدي إلى الحياة والمشبه دون المشبه به، وإنما سماه وأدا لما تعلق به من قصد منع الحمل. وهناك أجوبة أخرى فيها أخذ ورد فلا نطيل الكلام فيها ونكتفي بالإشارة إلى أماكنها لمن أراد الوقوف عليها3. وخلاصة القول في هذا الباب هو جواز العزل وأحاديث جابر بن عبد الله على اختلاف ألفاظها صريحة في جواز ذلك وأصرح منها حديثه عند مسلم وأبي داود ولفظه: أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن لي جارية هي خادمنا وسانيتنا وأنا أطوف عليها وأنا أكره أن تحمل فقال: "اعزل عنها إن شئت فإنه سيأتيها ما قدر لها"، فلبث الرجل ثم أتاه فقال: إن الجارية قد حبلت، فقال: "قد أخبرتك أنه سيأتيها ما قدر لها"4.

_ 1 هو محمد بن سيرين الأنصاري مولاهم، أبو بكر بن أبي عمرة، البصري، ثقة ثبت عابد، كبير القدر، كان لا يرى الرواية بالمعنى، من الثالثة (ت 110) /ع. التقريب 2/169. 2 كتاب المحلى لابن حزم 11/290- 292. 3 انظر معاني الآثار للطحاوي3/30-35 وشرح مسلم للنووي3/612 وزاد المعاد لابن القيم4/20-23 وتهذيب السنن له6/214 (عون المعبود) ، وفتح الباري 9/305-310 وسبل السلام للصنعاني3/145-146 ونيل الأوطار للشوكاني 6/222-224 وشرح ثلاثيات مسند أحمد لمحمد السفاريني 1/297-302. 4 صحيح مسلم 4/160 وسنن أبي داود 1/501 كتاب النكاح باب العزل.

ففيه التصريح من رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذا السائل بالإذن بفعل العزل إن أحب ذلك، ثم بين له أن فعله هذا لا يرد شيئا قدره الله عز وجل وأنه إذا أراد شيئا كان ولا محالة.

المبحث العاشر: متى شرع التيمم

المبحث العاشر: متى شرع التيمم قال البخاري: حدثنا عبد الله1 بن يوسف قال أخبرنا2 مالك عن عبد الرحمن3 بن القاسم عن أبيه عن عائشة4 زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره حتى إذا كنا بالبيداء5 - أو بذات الجيش6 - انقطع عقد لي، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على التماسه، وأقام الناس معه، وليسوا على ماء، فأتى الناس إلى أبي بكر الصديق، فقالوا: ألا ترى ما صنعت عائشة؟ أقامت برسول الله صلى الله عليه وسلم والناس، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء، فجاء أبو بكر ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع رأسه على فخذي قد نام، فقال: حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء، فقالت عائشة: فعاتبني أبو بكر، وقال ما شاء الله أن يقول، وجعل

_ 1 عبد الله بن يوسف التنيسي: أبو محمد الكلامي، أصله من دمشق، ثقة متقن من أثبت الناس في الموطأ، من كبار العاشرة، (ت218) /خ د ت س. التقريب1/463. 2 مالك بن أنس إمام دار الهجرة أبو عبد الله (ت 179) /ع. المصدر السابق 2/223. 3 عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، التيمي، أبو محمد المدني ثقة جليل، قال ابن عيينة: كان أفضل أهل زمانه، من السادسة (ت 126) وقيل بعدها / ع. المصدر السابق 1/495. 4 تقدمت ترجمتها. 5 البيداء: هو الشرف الذي قدام ذي الحليفة في الطريق من المدينة إلى مكة. انظر معجم ما استعجم للبكري 1/290- 291. 6 ذات الجيش: من المدينة على بريد وبينها وبين العقيق سبعة أميال. المصدر السابق 2/409-410 ويكون بين ذات الجيش والمدينة بالكيلوات 20 كيلومترا.

يطعنني1 بيده في خاصرتي، فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أصبح على غير ماء، فأنزل الله آية التيمم2 فتيمموا". فقال أسيد بن حضير: "ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر، قالت: فبعثنا البعير الذي كنت عليه، فأصبنا العقد تحته"3. قال ابن حجر: قوله: "في بعض أسفاره"، قال ابن عبد البر في التمهيد يقال: إنه كان في غزوة بني المصطلق، وجزم بذلك في الاستذكار، وسبقه إلى ذلك ابن سعد وابن حبان. ثم قال ابن حجر: "وغزوة بني المصطلق هي غزوة المريسيع، وفيها وقعت قصة الإفك لعائشة رضي الله عنها، وكان ابتداء ذلك بسبب وقوع عقدها أيضا، فإن كان ما جزموا به ثابتا حمل على أنه سقط منها في تلك السفرة مرتين، لاختلاف القصتين كما هو مبين في سياقهما"4.

_ 1 يطعنني: بضم العين في كل ما هو حسي، والمعنوي بالفتح، وحكي فيهما الفتح والضم. فتح الباري 1/433. 2 هي آية المائدة كما رجح ذلك ابن حجر وقال: وخفي على الجميع ما ظهر للبخاري من أن المراد بها آية المائدة بغير تردد لرواية عمرو بن الحارث عن عبد الرحمن بن القاسم. قال: نزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} . وهذا سياق آية المائدة، أما آية النساء فسياقها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} . الآية: 43. انظر: الحديث في البخاري 6/43 من تفسير سورة المائدة. وفتح الباري 1/434. 3 صحيح البخاري1/62 كتاب التيمم، و1/63 فيه، باب إذا لم يجد ماء ولا ترابا و5/7 كتاب الفضائل، باب فضل أبي بكر، و5/25 منه، باب فضائل عائشة و6/38 تفسير سورة النساء، باب قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} و6/42 و43 تفسير المائدة، باب قوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} و7/20 كتاب النكاح باب استعارة الثياب للعروس وغيرها و7/35 فيه باب قول الرجل لصاحبه: هل عرستم الليلة وطعن الرجل ابنته في الخاصرة عند العتاب و7/136 كتاب اللباس باب استعارة القلائد و8/144 كتاب المحاربين، باب من أدب أهله أو غيره دون السلطان وصحيح مسلم 1/191- 192 (التيمم) وأبو داود 1/76 والنسائي 1/133 و135 و140 وموطأ مالك1/53 وصحيح ابن حبان2/23 و439 و440 الجميع في التيمم. 4 فتح الباري 1/432.

قلت: وقد سبق الجميع - إلى هذا القول - الواقدي: فقد صرح في مغازيه بقوله: حدثني يعقوب1 بن يحيى بن عباد، عن عيسى2 بن معمر بن عباد بن عبد الله بن الزبير قال: قلت لعائشة رضي الله عنها، حدثينا يا أمه حديثك في غزوة المريسيع الحديث الطويل، وفيه "أن العقد سقط من عائشة مرتين في تلك الغزوة في المرة الألى كانت رخصة التيمم، وفي الثانية كانت قصة الإفك"3. قلت: رواية الواقدي لا تنهض لفصل النِّزاع، لأن الواقدي ضعيف في الحديث، ولوجود يعقوب بن يحيى، وعيسى بن معمر في السند، وأحدهما وصف بأنه مجهول الحال، والآخر لين، ولا متابع لهما. وبهذا يكون الحديث ضعيفا بهذا الإسناد. وأما ابن سعد فقد ذكر ذلك في (طبقاته) بدون إسناد4، ويحتمل أن يكون عمدته في ذلك هي رواية الواقدي هذه، إذ هو شيخه ومعروف بملازمته له، حتى عرف بكاتب الواقدي، وعلى هذا نكون قد رجعنا إلى حديث الواقدي نفسه، وهو حديث ضعيف كما عرفت، والأحاديث الصحيحة في قصة الإفك مع كثرتها وتضافرها لم تشر أدنى إشارة إلى أن العقد سقط من عائشة مرتين في غزوة المريسيع، ولو وجد ذلك لما حصل الخلاف. وأما ابن حبان فقد ذكر ذلك في ثقاته غير أنه فرق بين غزوة المريسيع، وغزوة بني المصطلق. فجعل غزوة المريسيع في شهر شعبان من السنة الخامسة للهجرة سابقة على غزوة الخندق، وذكر فيها وقوع جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار في الأسر وزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، كما ذكر فيها قصة التيمم مقتصرا

_ 1 يعقوب بن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير بن العوام الأسدي، المدني مجهول الحال، من السادسة /ق. التقريب 2/377 وتهذيب التهذيب 11/398. 2 عيسى بن معمر حجازي، لين الحديث، من السادسة / د. التقريب 2/102. 3 مغازي الواقدي 2/426. 4 طبقات ابن سعد 2/65.

على جزء من حديث الباب1، ولم يتعرض فيها لقصة الإفك. وهذا نص كلامه زيادة في الإيضاح. قال رحمه الله: "ثم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة المريسيع في شعبان قصد بني المصطلق من خزاعة على ماء لهم قريب من الفرع، فقتل منهم رجالهم وسباهم، وكان فيمن سبى جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار، تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعل صداقها أربعين أسيرا من قومها. وفي هذه الغزوة سقط عقد عائشة، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس عل التماسه وليسوا على ماء وليس معهم ماء، فنَزلت آية التيمم، فقال أسيد بن حضير: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر. فبعثوا البعير الذي كانت عليه، فوجدوا العقد تحته"2.اهـ. وذكر غزوة بني المصطلق في السنة السادسة من الهجرة، بقوله: ثم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة بني المصطلق، وذلك أنه بلغه أن بني المصطلق تجمعوا وقائدهم الحارث بن أبي ضرار أبو جويرية بنت الحارث. ثم ساق القصة وفيها وقوع جويرية في سهم ثابت بن قيس بن شماس ومكاتبتها له ثم زواجها من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك. ثم ساق حديث الإفك بطوله ولم يذكر فيه قصة التيمم أصلاً3. ويرد على ابن حبان بما يأتي: أولاً: تفريقه بين غزوة المريسيع وغزوة بني المصطلق، وهي غزوة واحدة تحمل اسمين غزوة (المريسيع) باسم الماء الذي وقعت فيه المعركة، وغزوة بني المصطلق باسم القبيلة. ولذا فقد بوب البخاري بقوله: "باب غزوة بني المصطلق من خزاعة وهي غزوة المريسيع".

_ 1 انظر الحديث ص 335 وما بعدها. 2 ثقات ابن حبان 1/263- 264. 3 ثقات ابن حبان 1/288- 295.

ثم قال: وقال النعمان1 بن راشد عن الزهري: "كان حديث الإفك في غزوة المريسيع"2. قال ابن حجر: "وصله الجوزقي3 والبيهقي في (الدلائل) من طريق حماد بن زيد عن النعمان بن راشد ومعمر عن الزهري عن عائشة فذكر قصة الإفك في غزوة المريسيع وبهذا قال ابن إسحاق وغير واحد من أهل المغازي إن قصة الإفك كانت في رجوعهم من غزوة المريسيع"45. وعند الطبراني من حديث سنان بن وبرة قال: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة المريسيع غزوة بني المصطلق". قال الهيثمي: "رواه الطبراني في الأوسط والكبير، وإسناد الكبير حسن"6. وتقدم قول ابن حجر، بأن غزوة بني المصطلق هي غزوة المريسيع7.

_ 1 النعمان بن راشد الجزري أبو إسحاق الرقي، مولى بني أمية، صدوق سيء الحفظ، من السادسة /خت م عم. التقريب 2/304. قلت: تابعه معمر بن راشد كما هو مصرح به في رواية الجوزقي والبيهقي. 2 صحيح البخاري 5/96 كتاب المغازي. 3 هو الحافظ الإمام الأوحد أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد بن زكريا الشيباني، الجوزقي محدث نيسابور، وصاحب الصحيح المخرج على صحيح مسلم، روى عن أبي نعيم بن عدي الجرجاني وأبي العباس الدغولي ومكي بن عبدان، وخلق، (ت388هـ) انظر تذكرة الحفاظ للذهبي 3/1013- 1014. 4 نعم أورد الطبري حديثا أن قصة عائشة كانت في عمرة القضاء وهذا نصه: حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة عن ابن إسحاق عن عبد الواحد بن حمزة أن حديث عائشة كان في عمرة القضاء. انظر تاريخ الطبري 2/619 والحديث فيه ثلاث علل: أ- ضعف ابن حميد الرازي. ب- عنعنة ابن إسحاق. ج- الانقطاع بين عبد الواحد وعائشة، لأنه من السادسة ولم يحضر القصة. انظر التقريب 1/525. 5 فتح الباري 1/430. 6 مجمع الزوائد 6/142. 7 انظر ص 336.

وبهذا يتضح أن غزوة المريسيع وغزوة بني المصطلق شيء واحد، أحدهما تفسير للأخرى. ثانياً: تصريحه في كلتا الغزوتين بأن جويرية بنت الحارث وقعت في الأسر، وتزويجها من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك. وهذا شيء غير معقول، إذ كيف يتزوجها في السنة الخامسة ثم يعود إلى الرق ويتزوجها مرة ثانية في السنة السادسة. ثالثاً: قوله: "غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بني المصطلق على ماء لهم قريب من الفرع"، هذا أيضا خطأ واضح. لأن جميع من تكلم على هذه الغزوة قال: على ماء لهم قرب قديد، وبين قديد والفرع مسافة طويلة، لأن قديدا شمال مكة بـ 114 كيلومترا، في حين أن الفرع يقع جنوب المدينة المنورة بـ 150 كيلومترا1. وبهذا يتضح وهم ابن حبان رحمه الله. وأما عمدة ابن عبد البر في أن التيمم شرع في هذه الغزوة فهو حديث الباب2 ووجه الدلالة منه قول عائشة فيه "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره"، ففسر السفر المذكور بأنه كان إلى غزوة بني المصطلق. وهذا نص كلامه: بعد أن ساق حديث الباب3 قال عقبه: "قال أبو عمر: هذا الحديث عندي أصح حديث روي في التيمم. والسفر المذكور فيه كان في غزوة المريسيع، إلى بني المصطلق ابن خزاعة في سنة ست من الهجرة، وقيل: سنة خمس"4. قلت: الذي يظهر: أن التيمم وإن كان سببه هو ضياع عقد عائشة، إلا أن ذلك كان في غزوة أخرى غير غزوة بني المصطلق، وإنما اشتبه على بعض العلماء فصرح بأن ذلك في غزوة بني المصطلق، وذلك لاتحاد السبب بين قصة الإفك ورخصة التيمم، إذ كل منهما كان سببه ضياع العقد.

_ 1 انظر نسب حرب لعاتق البلادي ص 376- 377. 2 انظر ص 335، وما بعدها. 3 انظر ص 335. 4 الاستذكار 2/2.

وفيما يأتي توجيه ذلك: أ- قال ابن القيم بعد أن نقل قول ابن سعد1: ذكر الطبراني في (معجمه) من حديث محمد بن إسحاق عن يحيى2 بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه3 عن عائشة قلت: "لما كان من أمر عقدي ما كان، وقال أهل الإفك ما قالوا فخرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة أخرى، فسقط أيضا عقدي، حتى حبس التماسه الناس، ولقيت من أبي بكر ما شاء، وقال لي: يا بنية في كل سفر تكونين عناء وبلاء، وليس مع الناس ماء، فأنزل الله الرخصة في التيمم. ثم قال: فهذا يدل على أن قصة العقد التي نزل التيمم لأجلها بعد هذه الغزوة، وهو الظاهر ولكن فيها4 كانت قصة الإفك بسبب فقد العقد والتماسه فالتبس على بعضهم إحدى القصتين بالأخرى"5. ب- وسبقه إلى هذا ابن سيد الناس فإنه بعد أن أورد حديث الطبراني، قال عقبه: "فهذه الرواية تقتضي أن الواقعتين كانتا في غزوتين". ج- وقال ابن حجر: "اعتمد بعضهم في تعدد السفر على رواية الطبراني وهي صريحة في ذلك، ثم ساق الحديث وفي آخره "فقال أبو بكر لعائشة: إنك لمباركة ثلاثا"" ثم قال ابن حجر: "وفي إسناده محمد بن حميد الرازي وفيه مقال"6.

_ 1 هذا نص كلام ابن سعد قال: وفي هذه الغزاة سقط عقد عائشة فاحتبسوا على كطلبه، فنزلت آية التيمم فقال أسيد بن حضير: "ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر، وفي هذه الغزاة كان حديث عائشة وقول أهل الإفك فيها". انظر طبقات ابن سعد 2/65. 2 يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير بن العوام المدني، ثقة، من الخامسة (ت بعد المائة وله 36 سنة) /ز عم. التقريب 2/350. 3 هو عباد بن عبد الله. تقدمت ترجمته. 4 الضمير يعود على غزوة بني المصطلق. 5 زاد المعاد 2/126. 6 انظر: فتح الباري 1/433، و435.

قلت: وإن كان في ابن حميد من الكلام ما قد يؤدي إلى سقوطه عن درجة الاحتجاج1 فإنه توجد قرائن أخر تؤيد ما دل عليه هذا الحديث بغض النظر عن الاستدلال به. وهذه القرائن هي: قول أسيد بن حضير في حديث الباب "ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر"2. فإنه صريح في أنها مسبوقة بغيرها من البركات، وأعظم بركة عرفت لعائشة هي نزول القرآن ببراءتها من مقالة أهل الإفك، ولا يمكن حمل قوله: "ما هي بأول بكتكم" على غزوة بني المصطلق، إذا كان يراد بالبركة السابقة نزول القرآن ببراءة عائشة من حادثة الإفك، لأن نزول القرآن ببراءتها كان في المدينة والقوم في "حضر" ونزول آية التيمم كان في سفر، والقوم محبوسون على غير ماء. في حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة: "أنها استعارت من أسماء قلادة، فهلكت، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا فوجدها، فأدركتهم الصلاة وليس معهم ماء فصلوا، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله آية التيمم، فقال أسيد بن حضير لعائشة: "جزاك الله خيرا، فوالله ما نزل بك أمر تكرهينه، إلا جعل الله ذلك لك، وللمسلمين فيه خيرا" لفظ البخاري3. وفيه أيضا من هذا الوجه "فوالله ما نزل بك أمر قط، إلا جعل الله لك منه مخرجا وجعل للمسلمين فيه بركة"4.

_ 1 قال فيه الذهبي في تذكرة الحفاظ: "ابن حميد من بحور العلم لكنه غير معتمد". انظر تذكرة الحفاظ 2/490 وميزان الاعتدال 3/530 وتهذيب التهذيب 9/127. 2 انظر ص 335 وما بعدها. 3 البخاري 1/63 كتاب التيمم باب إذا لم يجد ماء والنسائي 1/140 فيه. 4 البخاري 5/25 كتاب الفضائل باب فضل عائشة رضي الله عنها و7/20 كتاب النكاح باب استعارة الثياب للعروس وغيرها ومسلم 1/192 وابن ماجة في التيمم والحميدي في مسنده 1/88 وعبد بن حميد في مسنده أيضا 2/194أ.

وعند أبي داود فقال أسيد بن حضير: "يرحمك الله ما نزل بك أمر تكرهينه، إلا جعله الله للمسلمين ولك فيه فرجا"1. وأعظم أمر نزل بعائشة تكرهه وكادت الأمة تهلك بسببه، ثم جاء الفرج بعد ذلك هي قصة الإفك، وفيها أعظم بركة هي نزول آيات تتلى إلى يوم القيامة، وهذه الروايات تصرح بأن شيئا مكروها لعائشة سبق آية التيمم، ولا ريب أن أعظم مكروه مر بها هو حادثة الإفك. ولذا قال ابن حجر عقب رواية هشام بن عروة "إلا جعل الله لك منه مخرجا"الخ: "فهذا يشعر بأن هذه القصة كانت بعد قصة الإفك، فيقوى قول من ذهب إلى تعدد ضياع العقد، وممن جزم بذلك محمد بن حبيب الأخباري، فقال: سقط عقد عائشة في غزوة ذات الرقاع وفي غزوة بني المصطلق"2. ثم قال ابن حجر: "وقد اختلف أهل المغازي في أي هاتين الغزوتين كانت أولا. وقد روى ابن أبي شيبة من حديث أبي هريرة قال: لما نزلت آية التيمم لم أدر كيف أصنع، الحديث ... " ثم قال ابن حجر: "فهذا يدل على تأخرها3 عن غزوة بني المصطلق، لأن إسلام أبي هريرة كان في السنة السابعة، وهي بعدها بلا خلاف". وسيأتي في المغازي أن البخاري يرى أن غزوة ذات الرقاع كانت بعد قدوم أبي موسى، وقدومه كان وقت إسلام أبي هريرة4 اهـ. قلت: حديث ابن أبي شيبة المشار إليه هو: حدثنا عباد5 بن العوام عن

_ 1 أبو داود 1/76 التيمم وانظر الحديث ص 335 وما بعدها. 2 لم أجد هذا في كتابيه المحبر والمنمق. 3 الضمير للغزوة التي وقع فيها نزول آية التيمم. 4 فتح الباري 1/434- 435. 5 عباد بن العوام بن عمر الكلابي، مولاهم، أبو سهل الواسطي، ثقة، من الثامنة (ت 185) أو بعدها /ع. التقريب 1/393.

برد1 عن سليمان2 بن موسى عن أبي هريرة3 رضي الله عنه قال: "لما نزلت آية التيمم لم أدر كيف أصنع، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فلم أجده، فانطلقت أطلبه فاستقبلته، فلما رأى الذي جئت له، فبال ثم ضرب بيديه الأرض فمسح بهما وجهه وكفيه"4. والحديث منقطع لأن سليمان بن موسى لم يدرك أحدا من الصحابة، قاله البخاري5. وهذا حديث البخاري الذي أشار إليه ابن حجر أيضا: حدثنا محمد بن العلاء6، حدثنا أبو أسامة7 عن بريد8 بن عبد الله بن أبي بردة عن أبي بردة9 عن أبي موسى10 رضي الله عنه قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة ونحن ستة نفر بيننا بعير نعتقبه، فنقبت أقدامنا ونقبت قدماي، وسقطت أظفاري، فكنا نلف على أرجلنا الخرق، فسميت غزوة ذات الرقاع، لما كنا نعصب من الخرق على أرجلنا. الحديث11 ... وهو بهذا الإسناد في فرض

_ 1 برد بن سنان أبو العلاء الدمشقي، نزيل البصرة، مولى قريش، صدوق، رمي بالقدر، من الخامسة /بخ عم. المصدر السابق 1/95. 2 سليمان بن موسى الأموي، مولاهم، الدمشقي، صدوق فقيه، في حديثه بعض لين، وخلط قبل موته بقليل، من الخامسة، /م عم. التقريب 1/331. 3 أبو هريرة الدوسي الصحابي الجليل اختلف في اسمه واسم أبيه، فذهب الأكثر إلى أنه عبد الرحمن بن صخر، (ت 57- 59) /ع. المصدر السابق 2/484. 4 مصنف ابن أبي شيبة 1/159. 5 انظر كتاب جامع التحصيل في أحكام المراسيل للعلائي 2/423- 424. وسنن ابن ماجة 1/584 باب زكاة العسل، ونيل الأوطار للشوكاني 4/164. 6 هو أبو كريب تقدمت ترجمته. 7 هو حماد بن أسامة القرشي مولاهم، الكوفي، أبو أسامة، مشهور بكنيته، ثقة ثبت، ربما دلس، وكان بآخره يحدث من كتب غيره، من كبار التاسعة (ت 201) / ع. التقريب 1/195 وقد صرح بالتحديث كما في الإسناد الذي بعده. 8 بريد بن عبد الله بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري، الكوفي، ثقة، يخطئ قليلا، من السادسة / ع. المصدر السابق 2/96. 9 أبو بردة بن أبي موسى الأشعري، قيل اسمه عامر وقيل الحارث، ثقة من الثالثة (ت 104) وقيل غير ذلك. / ع. المصدر السابق 2/394. 10 عبد الله بن قيس بن سليم بن حضار، أبو موسى الأشعري، صحابي مشهور، أمره عمر ثم عثمان وهو أحد الحكمين بصفين، (ت 50) وقيل بعدها / ع. المصدر السابق 1/441. 11 البخاري 5/94 كتاب المغازي باب غزوة ذات الرقاع.

الخمس قال أبو موسى: "بلغنا مخرج النبي صلى الله عليه وسلم ونحن باليمن، فخرجنا مهاجرين إليه أنا وإخوان لي أنا أصغرهم"، الحديث ... وفيه "فركبنا سفينة، فأقتنا سفينتنا إلى النجاشي بالحبشة، ووافقنا جعفر بن أبي طالب عنده، فقال جعفر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثنا ههنا وأمرنا بالإقامة فأقيموا معنا، فأقمنا معه حتى قدمنا جميعا فوافقنا النبي صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر فأسهم لنا، أو قال: فأعطانا منها، وما قسم لأحد غاب عن فتح خيبر منها شيئا، إلا لمن شهد معه، إلا أصحاب سفينتنا مع جعفر وأصحابه قسم لهم معهم"1. قال ابن حجر: "ومع هذا فقد ذكرها البخاري قبل خيبر، فلا أدري هل تعمد ذلك تسليما لأصحاب المغازي، أنها كانت قبلها، أو أن ذلك من الرواة عنه، أو إشارة إلى احتمال أن تكون ذات الرقاع اسما لغزوتين مختلفتين، كما أشار إليه البيهقي، على أن أهل المغازي مع جزمهم بأنها قبل خيبر، مختلفون في زمانها"2. قلت: الظاهر أن غزوة ذات الرقاع بعد خيبر لهذين الحديثين الصحيحين، وقد رجح هذا القول ابن القيم وابن كثير3، وهو قول البخاري أيضا كما هو الظاهر من تبويبه، فقد قال: باب غزوة ذات الرقاع وهي غزوة محارب خصفة من بني ثعلبة من غطفان فنَزل نخلا وهي بعد خيبر، لأن أبا موسى جاء بعد خيبر ثم ساق الحديث المذكور. واختار هذا القول أيضا محمد الأمين الشنقيطي فإنه قال أثناء كلامه على صلاة الخوف: "واعلم أن التحقيق أن غزوة ذات الرقاع بعد خيبر، وإن جزم جماعة كبيرة من المؤرخين بأن غزوة ذات الرقاع

_ 1 البخاري 4/71 كتاب فرض الخمس باب ومن الدليل على أن الخمس لنوائب المسلمين. 2 فتح الباري 7/417- 421. 3 زاد المعاد 2/123- 124 والبداية والنهاية 4/83.

قبل خيبر، والدليل على ذلك الحديث الصحيح أن قدوم أبي موسى الأشعري على النبي صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر، مع الحديث الصحيح أن أبا موسى شهد غزوة ذات الرقاع"، ثم ساق الحديثين المتقدمين1، ثم عقب بقوله: "فهذان الحديثان الصحيحان فيهما الدلالة الواضحة على تأخر ذات الرقاع عن خيبر، ثم ساق تبويب البخاري الآنف الذكر"2 اهـ. والذي يظهر أيضا أنها غزوة واحدة لا تتعدد فيها كما رجح ذلك ابن القيم3. وخلاصة القول أن الذي أرجحه في نزول آية التيمم أنها كانت في غزوة أخرى غير غزوة بني المصطلق، ولعلها غزوة ذا الرقاع التي رجح المحققون من أهل العلم تأخرها عن غزوة المريسيع، وهذا يتناسب مع قول أسيد بن حضير السابق4 "ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر". ومع قوله أيضا لعائشة: "ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعله الله للمسلمين ولك فيه فرجا"5. لأن كلا من آيات قصة الإفك، وآية التيمم نزلت سبب ما جرى لعائشة رضي اله عنها من ضياع عقدها، في المرة الأولى في غزوة بني المصطلق وتأخرت وحدها عن الجيش تبحت عنه حتى عثر عليها صفوان بن المعطل واحتملها على بعيره، ولم تنزل الآيات في شأنها إلا بعد قدومهم المدينة بمدة. وجرى لها في غزوة ذات6 الرقاع ضياع عقدها أيضا فاحتبس الرسول صلى الله عليه وسلم والناس معه يبحثون عنه حتى شكى بعضهم عائشةعلى

_ 1 انظر ص 344 و345. 2 أضواء لبيان في إيضاح القرآن بالقرآن 1/310- 311. 3 زاد المعاد 2/124. 4 انظر ص 336. 5 انظر ص 343. 6 تقدم في ص 343. أن محمد بن حبيب الأخباري جزم بذلك، وكذلك قال الحلبي بأن التيمم شرع في غزوة ذات الرقاع. انظر السيرة الحلبية 2/290 ولذلك ذهب جماعة من العلماء إلى أن البيداء أو ذات الجيش الوارد في الحديث أنها بين المدينة المنورة وخيبر، وهذا يؤيد أن هذه الغزوة التي شرع فيها التيمم غير غزوة بني المصطلق لأن غزوة بني المصطلق بين المدينة ومكة. لكن كون البيداء أو ذات الجيش من جهة خيبر فيه نظر. والله أعلم. انظر فتح الباري 1/432.

أبيها واغتم أبو بكر لذلك، لأن الناس كانوا على غير ماء، فأنزل الله آية التيمم في هذه الأثناء في السفر، وهذا صريح في تعدد الغزوتين. ويستأنس له بحديث الطبراني، وحديث ابن أبي شيبة المصرح فيه بقول أبي هريرة رضي الله عنه "لما نزلت آية التيمم لم أدر كيف أصنع"1. وإسلامه كان في السنة السابعة. والله أعلم.

_ 1 انظر الحديثين ص 341 و343 وما بعدهما.

الفصل الثاني: الدروس والعبر المستقاة من غزوة المريسيع

الفصل الثاني: الدروس والعبر المستقاة من غزوة المريسيع المبحث الأول: الحكمة في زواج الرسول صلى الله عليه وسلم من جويرية ... المبحث الأول: الحكمة في زواج الرسول صلى الله عليه وسلم من جويرية إن الحكمة تتجلى في موقفها أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم تذكر ما آل إليه أمرها وما تجده من المرارة والأسى على ما حل بقومها لأنها لا تعرف الذل والهوان، فهي ابنة سيد قومه، وقد رزئت بكارثة عظمى، فقتل زوجها ومقاتلة قومها وسبي النساء والذرية، ووقعت تحت ذل الرق والعبودية، فكاتبت على نفسها لتظفر بحريتها، ولكنها عجزت عن أداء كتابتها فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله المواساة والمساعدة على أداء كتابتها، فوقفت أمامه تعرفه بنفسها ومكانتها في قومها، فقالت: "يا رسول الله أنا جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار سيد قومه، وقد أصابني من البلاء ما لم يخف عليك، فوقعت في سهم ثابت بن قيس بن شماس أو ابن عم له، فكاتبته على نفسي، فجئتك، أستعينك على كتابتي"، فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم لحالها وعرض عليها أن يؤدي عنها كتابتها ويتزوجها ليرفع من شأنها ويعوضها خيرا مما فقدته من العز والشرف والسنا لأن بقاء مثلها عند أحد أفراد الجيش مما يزيد الأسى في نفسها، ومن ناحية أخرى ليعيد صلى الله عليه وسلم إلى قومها العزة والكرامة، فكان زواجه صلى الله عليه وسلم منها سببا في إطلاقهم من قيود الأسر، وقد وقع ما أراده صلى الله عليه وسلم فما أن تزوج جويرية حتى تسامع

المسلمون بذلك، ففكوا جميع الأسرى الذين بأيديهم من بني المصطلق، وقالوا: "أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وعادت الحرية إلى القبيلة بأكملها وصاروا محل عناية واحترام عند المسلمين. وهكذا كان زواج رسول الله صلى الله عليه وسلم من جويرية بركة على قومها وعزا لها ورفعة لقومها من الهوان الذي لحقهم، وبذلك يمكن لنا أن نستجلي بعض الحكمة في زواجه صلى الله عليه وسلم منها.

المبحث الثاني: تغلب الرسول صلى الله عليه وسلم على المشكلات التي صاحبت هذه الغزوة

المبحث الثاني: تغلب الرسول صلى الله عليه وسلم على المشكلات التي صاحبت هذه الغزوة إن معالجة الرسول صلى الله عليه وسلم لتلك السموم التي نفثها المنافقون في ساحة الجيش الإسلامي، ابتغاء تمزيق وحدته وتفريق كلمته، لتدل دلالة واضحة على أن الرسول صلى الله عليه وسلم محاط بالعناية من الله عز وجل وعلى أنه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} ، [سورة النجم الآيتان: 3-4] . لقد كان ما تفوه به ابن أبي من الكلام البذيء مسوغا كافيا لقتله، وإراحة الناس من شره، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم لبعد نظره وتوفيق الله له، رأى أن المصلحة تقتضي التسامح والصفح عنه، فقابل تلك الأذية والقول اللاذع بصدر رحب وقلب واسع، فقد ضاقت نفس عمر بن الخطاب ذرعا بهذا المنافق ووسعه حلم الرسول صلى الله عليه وسلم وصفحه الجميل عمن أساء إليه، يوضح ذلك ما ورد من قوله صلى الله عليه وسلم عندما قال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق"، فقال: "كيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه"1. ولكن أذن بالسير فسار بالناس في ساعة لم يعهد له أن يسير في مثلها، وأمر بالسير المتواصل حتى لا يتمكن المنافقون من التجمع والخوض في حديث ابن أبي وترويجه بين الناس.

_ 1 انظر ص 186 مما تقدم.

ولقد توقع الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيعاقب المنافقين على سوء صنيعهم وعلى الأقل بقتل رأس الفتنة ابن أبي ولكن لم يقع شيء من هذا كله، ولقد جاء ابنه عبد الله بن عبد الله بن أبي رضي الله عنه فقال: "يا رسول الله إن كنت أمرت بقتل والدي فأنا الذي آتيك برأسه، فوالله لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبر بوالده مني، وإني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبي يمشي في الناس فأقتله، فأقتل رجلا مؤمنا بكافر، فأدخل النار"، فكان الجواب النبوي "بل نترفق ونحسن صحبته ما بقي معنا"1. لقد كان من آثار هذه المعاملة الحسنة أن قوم عبد الله بن أبي ابن سلول هم الذين أخذوا يعنفونه ويفضحون أمره ويأخذون على يديه، ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا من فعلهم مع ابن أبي أرسل إلى عمر بن الخطاب فقال له: "كيف ترى يا عمر، أما والله لو قتلته يوم قلت لي اقتله، لأرعدت له آنف لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته"، قال عمر بن الخطاب: "قد علمت والله لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم بركة من أمري"2.

_ 1 سيرة ابن هشام 2/292- 293. 2 المصدر السابق 2/293.

المبحث الثالث: إبراز بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم

المبحث الثالث: إبراز بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم لقد كانت قصة الإفك فريدة في نوعها وضخامتها عن جميع المحن والمصائب التي واجهها رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة وفي غيرها. لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قد وطن نفسه لمواجهة كل بلية أو أذى يقوم به المنافقون لأنه على علم وبصيرة نافذة بمكايدهم وخستهم، إلا أنه لم يكن يتوقع منهم النيل من عرضه ورميه في أحب الناس إليه، لذا كانت حادثة الإفك لها أثرها ووقعها الثقيل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقد جاءت هذه القصة تحمل في طياتها إبراز بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه يتأثر

كغيره من بني الإنسان، وأنه لا يعلم الغيب وإنما الغيب لله وحده، إذ لو كان يعلم الغيب لجزم ببراءة ساحة أهله وكذب المفترين لأول وهلة، وأراح نفسه، وأراح غيره. ولكنه مكث أكثر من شهر في قلق دائم والناس يموجون ويخوضون في ذلك، وهو لا يزيد على أن يشاور أصحابه وأتباعه في شأن أهله، ويطلب من ينجده بإيقاف هذا الحادث الأليم، ثم في آخر المطاف يذهب إلى زوجه يقول لها: "يا عائشة لقد سمعت ما يقول الناس، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فتوبي إلى الله فإن الله يقبل التوبة عن عباده". لقد كان هذا كله حاسما لما يخشى أن يقع فيه بعض المسلمين فيرفعون رسول الله صلى الله عليه وسلم فوق منزلته التي أنزله الله إياها ويدعون له ما لم يدعه لنفسه، فكانت هذه الواقعة واضحة الدلالة على مشاركة الرسول صلى الله عليه وسلم غيره في البشرية، وأنه لا يعلم من الغيب إلا ما أطلعه الله عليه. وقد أوضح ذلك في قوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً} ، [سورة الجن، الآيتان: 27] . وقوله: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} ، [سورة الكهف، من الآية: 110] . وقوله: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلاّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} ، [سورة الأعراف الآية: 188] .

المبحث الرابع: الوحي بيد الله يوحيه إلى رسوله متى شاء

المبحث الرابع: الوحي بيد الله يوحيه إلى رسوله متى شاء إن قصة الإفك كان من نتائجها البيان القاطع بأن الوحي ليس خاضعا لأمنية الرسول صلى الله عليه وسلم وإرادته، إذ لو كان لأمر كذلك، لكان من

السهل عليه أن ينهي هذه المشكلة منذ نشأتها وطفولتها، ويريح نفسه من ويلايتها ونتائجها. وذلك بأن يأتي بقرآن يبرئ به أهله ويطمئن به أصحابه، ويسكت به أهل القيل والقال، لأنه كان يعلم من أهله الاستقامة والبعد عن هذه الجريمة الشنعاء ولكنه لم يفعل ذلك لأنه لا يملكه وإنما الوحي بيد الله وحده. وقد نفى الله عنه ذلك في أحد مواقفه مع المشركين. قال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} 1. وقوله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} 2. وظل شهرا كاملا يحمل بين جنبيه الألم الشديد، من جراء هذه الكارثة الفادحة ويصبر نفسه على ذلك ويطلب الفرج من الله عز وجل. وكان من تمام الحكمة الإلهية أن تأخر عنه الوحي هذه المدة كلها ليقضي الله أمرا كان مفعولا. وقد عالج ابن القيم هذه القضية معالجة طيبة. وفيما يأتي بعض مما أورده في هذا المقام. قال: "واقتضى تمام الامتحان والابتلاء أن حبس الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرا، لا يوحى إليه في ذلك شيء، وذلك لتتم حكمته التي قدرها وقضاها وتظهر على أكمل الوجوه، ويزداد المؤنون الصادقون إيمانا وثباتا على العدل والصدق، وحسن الظن بالله ورسوله وأهل بيته، والصديقين من عباده.

_ 1 سورة يونس، الآية: 15. 2 سورة الحاقة، الآيات: 44-47. وفي هذه الآيات رد على الملحدين في كل زمان ومكان الذين يقولون بأن القرآن من كلام ((محمد)) وبأنه قصص وأساطير الأولين، وقد قص الله ذلك بقوله {وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء الله لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين} سورة الأنفال: آية 31.

ويزداد المنافقون إفكا ونفاقا، ويظهر لرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين سرائرهم إلى أن قال: فكان من حكمة حبس الوحي شهرا، أن القضية نضجت، وتمحضت واستشرفت قلوب المؤمنين أعظم استشراف إلى ما يوحيه الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم فيها، وتطلعت إلى ذلك غاية التطلع، فوافى الوحي أحوج ما كان إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته والصديق وأهله وأصحابه المؤمنون، فورد عليهم ورود الغيث على الأرض، أحوج ما كانت إليه، فوقع منهم أعظم موقع، وألطفه، وسروا به أتم السرور، وحصل لهم به غاية الهناء، فلو أطلع الله رسوله صلى الله عليه وسلم على حقيقة الحال من أول وهلة، وأنزل الوحي على الفور بذلك، لفاتت هذه الحكم1 وأضعافها بل أضعاف أضعافها"2.

_ 1 من الحكم التي ذكرها أيضا في حكمة تأخر لوحي قال: لتتم العبودية المرادة من الصديقة وأبويها، وتتم نعمة الله عليهم، ولتشتد الفاقة والرغبة منها ومن أبويها والافتقار إلى الله، والذل له وحسن الظن به والرجاء له، ولينقطع رجاؤها من المخلوقين ... الخ. 2 زاد المعاد 2/127.

المبحث الخامس: الحكم في كون رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجزم ببراءة أهله كما جزم غيره من الصحابة

المبحث الخامس: الحكم في كون رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجزم ببراءة أهله كما جزم غيره من الصحابة ... المبحث الخامس: الحكمة في كون رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجزم ببراءة أهله كما جزم غيره1 من الصحابة أورد هذا ابن القيم وأجاب عنه بقوله: "كان هذا من تمام الحكم الباهرة التي جعل الله هذه القصة سببا لها وامتحانا وابتلاء لرسوله صلى الله عليه وسلم، ولجميع الأمة إلى يوم القيامة، ليرفع بهذه القصة أقواما، ويضع آخرين، ويزيد الله الذين اهتدوا هدى وإيمانا، ولا يزيد الظالمين إلا خسارا ... " إلى أن قال: "وأيضا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان هو المقصود بالأذى والتي رميت زوجته، فلم يكن يليق به أن يشهد ببراءتها مع علمه أو ظنه الظن المقارب للعلم ببراءتها، ولم يظن بها سوءا قط، وحاشاه وحاشاها، ولذلك لما استعذر من أهل الإفك، قال: "من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي، والله

_ 1 مثل ما قال أبو أيوب وزوجه ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم.

ما علمت على أهلي إلا خيرا، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا، وما كان يدخل على أهلي إلا معي" فكان عنده من القرائن التي تشهد ببراءة الصديقة أكثر مما عند المؤمنين، ولكن لكمال صبره وثباته وحسن ظنه بربه، وثقته به، وفىَّ1 مقام الصبر والثبات وحسن اعتناؤه بشأنه. وأيضا: فإن الله سبحانه أحب أن يظهر منزلة رسوله وأهل بيته عنده وكرامتهم عليه، وأن يخرج رسوله عن هذه القضية، ويتولى هو بنفسه الدفاع والمنافحة عنه، والرد على أعدائه، وذمهم وعيبهم، بأمر لا يكون له فيه عمل ولا ينسب إليه بل يكون هو وحده المتولي لذلك2.

_ 1 وفىَّ: فعل ماضي. 2 زاد المعاد 2/127.

الخاتمة: تناول هذا البحث (مرويات غزوة بني المصطلق) جمعا وتحقيقا ودراسة ويقع في مقدمة وأربعة أبواب. أما المقدمة: فقد اشتملت على أسباب اختياري لموضوع رسالتي في السيرة النبوية، ثم سبب تخصيصي غزوة بني المصطلق بالذات بهذه الدراسة، وقد أشرت في هذه المقدمة إلى أهمية علم التاريخ، وضرورة العناية بالسيرة النبوية خاصة، كما حللت أهم المصادر التي استقيت منها في هذا الموضوع. وأما الباب الأول: فقد تناول نسب بني المصطلق وصلتهم النسبية بقبائل المدينة المنورة، محققا الخلاف الوارد في نسبهم، ومشيرا إلى أرجح الأقوال في نظري، مدعما ذلك بما أورده أهل هذا الفن من حجج وتعليلات، مع الإشارة إلى حجج المخالفين، ومناقشتها بإيجاز غير مخل، كما بحثت في تحقيق مواقعهم وديارهم التي كانوا يسكنونها وقد عانيت في ذلك عناء كبيرا، ولكنني بحمد الله وصلت إلى تحديد أماكنهم، وضبطها، مستعينا بالمراجع العلمية في هذا الباب قديما وحديثا، وانتهيت إلى نتيجة مرضية في ذلك حيث تم لي تحديدها بالأميال والكيلومترات، وانحصرت ديارهم فيما بين مر الظهران والأبواء. وهذا التحديد والتفصيل لم أر من قام به قبلي. وبعد ذلك تحدثت عن موقفهم من الدعوة الإسلامية، وتأخر إسلامهم بسبب تأثرهم بموقف قريش، فقد كانوا من الأحابيش الموالين لقريش، وقد تكتلوا معهم في موقعة أحد ضد المسلمين.

فكانوا ينتظرون ما تصنعه قريش مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كانت لهم تحركات ضد المسلمين بينتها بجلاء في هذا الباب، كما تحدثت عن موقف المسلمين من هذه التحركات وبينت أيضا وجوب إنذار الكافرين أو عدم إنذارهم ناقلا في ذلك أقوال العلماء ومرجحا ما ظهر لي أنه الراجح بالدليل، كما رجحت أن بني المصطلق كانت قد بلغتهم الدعوة الإسلامية وأن عندهم الإنذار المسبق وبهذا يسقط الاعتراض الوارد على كون رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذهم على غرة. وأشرت في هذا الباب إلى سبب هذه الغزوة محددا تاريخها مع وصف ما دار فيها من أحداث خطيرة، وما انتهت إليه من نتائج عظيمة ونصر للإسلام والمسلمين. مبينا موقف بني المصطلق بعد الغزوة كما رجحت وجود سعد بن معاذ في هذه الغزوة ورددت على القائلين بخلاف ذلك. أما الباب الثاني: فقد تركز الحديث فيه عن دور المنافقين في بدء الدعوة الإسلامية بوجه عام وعن دورهم في هذه الغزوة بصفة خاصة. وقد حاولت أن أضع صورة وافية للدسائس والمكايد التي كان يقوم بها حزب النفاق من أجل عرقلة انتشار الدعوة الإسلامية، مبينا ظهور نشأة النفاق وأسبابه، ومواقف المنافقين في الغزوات التي سبقت هذه الغزوة مع الإشارة إلى خطورة النفاق وأضراره الجسيمة على الإسلام والمسلمين. وقد حظي موقفهم في غزوة المريسيع بحديث واسع بينت فيه كل ما قاموا به من أعمال عدوانية وتخذيل في صفوف المسلمين. واستغلالهم الفرص التي يبثون فيها شبههم وأفكارهم السيئة ومن ذلك إثارتهم للعصبية الجاهلية في هذه الغزوة، ورفعهم للشعارات القبلية وما صاحب ذلك من فتن كادت تعصف ريحها بكثير من المسلمين، وأشرت إلى حكمة الرسول صلى الله عليه وسلم في معالجة هذه السموم التي ينفثها المنافقون مع حلمه في عدم مؤخذة القائمين بذلك. وأسوأ عمل قام به المنافقون على الإطلاق في هذه الغزوة هو اختلاقهم لحادثة الإفك التي كان لها أثرها السيئ في نفوس المسلمين ووقعها الأليم في ساحة النبوة الطاهرة، وقد استغرق الحديث عن هذه الحادثة وقت طويلا، لتشعب رواياتها وكثرة أحداثها، وقد تكلمت على جميع الجوانب المتصلة بها من

تخريج الروايات وتحقيقها مع الكلام على الأحكام الفقهية المستنبطة منها، وهو أمر لم أر أحدا من المؤرخين قام به في مكان واحد بهذه الصورة التي انتهيت إليها. أما الباب الثالث: فقد كان بحثي فيه عن تخريج حديث الإفك، وعن الانتقاد الوارد على الزهري، في تلفيقه الحديث عن مشايخه الأربعة دون أن يفرد حديث كل واحد منهم على حدة، وبينت أن هذا جائز لا مانع منه لأن الكل ثقات وقد بين أن بعض الحديث عن بعضهم وبعضه عن بعضهم الآخر ثم حققت القول في الذي تولى كبر الإفك وأنه عبد الله بن أبي ابن سلول، كما بينت ما حصل للصحابة من مواقف متباينة في هذه الحادثة. فكان منهم من نفاها من أصلها وصرح بأن هذا بهتان وكذب، وذلك مثل أسامة بن زيد وبريرة وأبي أيوب الأنصاري وزوجه. ومنهم من نفاها كذلك ولكنه أشار تلويحا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بفراق أهله لما رأى انزعاج رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر مشكوك فيه فأراد راحة رسول الله صلى الله عليه وسلم مما لحقه من هم وغم، وذلك هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومنهم من أثرت فيه دعايات المنافقين فانخرط في سلكهم قولا لا اعتقادا فصار يردد قول أهل النفاق دون وعي وإدراك لما يقصده المنافقون وذلك مثل حسان بن ثابت وحمنة بنت جحش ومسطح بن أثاثة رضي الله عنهم، وقد بينت ذلك في محله بينا شافيا، كما بينت في هذا الباب النزاع الحاصل بين الأوس والخزرج، في شأن عبد الله بن أبي ابن سلول، الذي هو أساس هذه الفتنة ورأسها، وبينت أيضا الانتقاد الوارد على البخاري في سماع مسروق من أم رومان ورجحت القول بسماعه منها مع ذكر وجهة المخالفين والرد عليها بأدلة مبسوطة في محلها. وآخر أبواب الرسالة هو الباب لرابع: وقد أفردته للحديث عن الأحكام الفقهية الواردة في هذه الغزوة - هذا هو الفصل الأول منه - وعن العبر والحكم المستنبطة من هذه الغزوة وهذا هو الفصل الثاني من هذا الباب - فأما الأحكام الفقهية فقد بلغت عشرة أحكام تحدثت عن كل حكم منها بإيجاز واختصار غير مخل، مشيرا إلى الخلاف مستدلا لأقوال مرجحا الراجح بالدليل،

ولم أطل في ذلك لأن البحث ليس فقهيا بالمعنى الدقيق، وإنما عرضت لذلك حسب ما اقتضته نصوص الروايات الدالة على بعض الأحكام الفقهية. وأما العبر فإنها كثيرة وقد تكلمت على خمس عبر منها مأخوذة من هذه الغزوة. وأما الجديد في هذا الموضوع فيمكن إيجازه فيما يلي: 1- إن هذه الغزوة لم يفردها أحد بالتأليف قديما ولا حديثا وإنما تذكر ضمنا مع غيرها شأن المؤلفين في التاريخ عامة أو في السيرة النبوية خاصة وأحسن من تكلم فيها من المعاصرين محمد أحمد باشميل ضمن الأحداث الواقعة قبل غزوة الأحزاب، لكنه غير متقيد بتحقيق أو تدقيق ولم يستوعب الموضوع من جميع جوانبه. 2- تحديد مساكن هذه القبيلة وضبطها بالأميال والكيلومترات. 3- ذكر نبذة في نسبهم وصلتهم بقبائل المدينة المنورة. 4- عقد مبحث في وجوب إنذار العدو أو عدم إنذاره بينت فيه مذاهب العلماء وأيدت القول الراجح بالدليل. 5- تفصيل الكلام على حديث الإفك بكل جوانبه المتعلقة به، وهذا يعتبر جديدا وأحسن من تكلم على حديث الإفك ابن القيم في الزاد، ولكن ليس بهذا الاستقصاء الذي قمت به. 6- عقد مبحث حول جواز استرقاق العرب أو عدمه - لأن له صلة بموضوعي - بينت فيه أقوال العلماء ونصصت على القول الراحج بدليله. وهذا جديد بالنسبة لهذه الغزوة. 7- عقدت فصلا للأحكام المستنبطة من هذه الغزوة وخاصة حديث الإفك، وهذا وإن لم يكن جديدا بالمعنى الحقيقي، إلا أنه يوجد فيه بعض الأحكام أشار إليها بعض المؤرخين إشارة خاطفة وذلك مثل متى شرع التيمم، وصحة جعل العتق صداقا وغير ذلك.

8- منهجي في هذا البحث: هو أنني أورد الحديث ثم أترجم لرجاله، وإن كان هناك حديث آخر يؤيده أو يعارضه أورده أيضا، ثم أحكم بعد ذلك على الحديث بما تقتضيه تلك الدراسة صحة أو ضعفا بعد المناقشة والفحص. وإذا كان الحديث في الصحيحين أو أحدهما فقد أترجم لرجاله من باب التعريف بهم لا للنقد فيهم، وأحيانا أقتصر على المتن أو جزء منه مجردا عن الإسناد، وذلك لاتفاق العلماء على توثيق رجالهما، وعلى أن كتابيهما أصح الكتب بعد كتاب الله عز وجل. وهذا المنهج لم يسبقني أحد إليه في دراسة هذه الغزوة، وهو محاولة لتطبيق مناهج المحدثين في دراسة السيرة. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

§1/1