مرويات غزوة الحديبية جمع وتخريج ودراسة
حافظ بن محمد حكمي
مقدمة
مرويات غزوة الحديبية تأليف: الدكتور حافظ بن محمد بن عبد الله الحكمي بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين ... أما بعد: فإن الله قد ختم الرسالات برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وجعل دينه ناسخاً للأديان لا يقبل الله من أحد غيره قال تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 1. وقد بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم مبلغاً ومبيناً لهذا الدين قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} 2. فقام صلوات الله وسلامه عليه بتلك المهمة خير قيام، حيث أوضح كل صغيرة وكبيرة في هذا الدين بقوله وفعله وتقريره - على مرأى من الناس ومسمع - ابتداء من طور السرية بمكة إلى قيام دولة الإسلام بالمدينة، وكان يسير أثناء ذلك في كل خطوة يخطوها على المستوى البشري، فقد اتخذ كافة الأسباب والوسائل التي هي من مقتضيات الطريق وما ذلك إلا ليتسنى لأمته التأسي به، وترسم خطاه لأنها قد كلفت بمهمته من بعده لا خيار لها، قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 3. وكما أنه لا خيار لأتباع محمد صلى الله عليه وسلم في القيام بهمته من الدعوة إلى هذا الدين وحراسته، فإنه لا ضمان لنجاحهم في تلك المهمة إلا بسلوك الطريق الذي سلكه صلى الله عليه وسلم، والدليل لطريقه صلى الله عليه وسلم هو سيرته فلا بد من الوقوف عليها وترسم خطاه فيها.
وأهم جوانب سيرته صلى الله عليه وسلم هي مغازيه؛ لأنها استغرقت قسطاً كبيراً من حياته في مجال الدعوة وهي التطبيق العملي لأحكام الجهاد - الذي يشكل السياج المنيع لحماية هذا الدين كما أنه من أهم وسائل الدعوة إليه، ولذلك أخبر صلى الله عليه وسلم أنه ذروة سنام الإسلام - 1 كما حفلت المغازي بكثير من أساليب الدعوة والأحكام. وقد أدرك السلف رضوان الله عليهم أهمية مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأولوها جانباً عظيماً من عنايتهم، يدل لذلك ما روى الخطيب عن محمد بن عبد الله قال: سمعت عمي الزهري يقول: في علم المغازي علم الآخرة والدنيا2. وما روي عن إسماعيل بن محمد بن سعد (بن أبي وقاص) أنه قال: "كان أبي يعلمنا مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسراياه ويعدها علينا ويقول: هذه مآثر آبائكم فلا تضيعوا ذكرها"3. وما روي عن علي بن الحسين أنه كان يقول: "كنا نعلَّم مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نعلم السورة من القرآن"4. وتتمثل عنايتهم بها أيضاً في تدوينهم لها في زمن مبكر، فقد قام بذلك جماعة من التابعين، منهم عروة بن الزبير المتوفى سنة (94هـ) ، وأبان بن عثمان بن عفان المتوفى ما بين (101 - 105هـ) ، ومحمد بن مسلم بن شهاب الزهري المتوفى (124هـ) ، وشرحبيل بن سعد المتوفى (124هـ) ، وعبد الله بن أبي بكر بن حزم (135هـ) ، وموسى بن عقبة (141هـ) ، وغيرهم إلا أن كتب هؤلاء في حكم المفقود اليوم سوى نقولات عنها. ثم تلت هؤلاء طبقة أخرى دونت المغازي بنطاق أوسع أمثال: محمد بن إسحاق (151هـ) ، ومحمد بن عمر الواقدي (207هـ) ، ومحمد بن سعد (230هـ) ، وابن جرير الطبري (310هـ) ، وغيرهم5. ثم تتابع التأليف في ذلك إلا أن المتأخرين درجوا على الاختصار بحذف الأسانيد.
وبما أن سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومغازيه على وجه الخصوص بتلك المثابة من الأهمية - بحيث لا تستقيم متابعته في طريق الدعوة إلا من خلالها - فلا بد من معرفتها، وترسم خطاها فيها لكن هناك خطوة أولى لا يأمن العثار إلا بسلوكها، وهي تمييز ما صح من سيرته صلى الله عليه وسلم عن غيره، لأن كتب المغازي المتداولة بأيدينا لم يلتزم أصحابها الصحة فيها، بل يوردون المقبول وغيره، وعذر المتقدمين أنهم يكتفون بذكر السند، إلا أنهم لا يفعلون ذلك دائماً، أما المتأخرون فإنهم لا يذكرون سنداً للروايات فضلاً عن تمييز صحيحها من غيره. نعم قام بعض المحدثين أخيراً بتخريج المرويات في بعض كتب السيرة، وبيان درجتها إلا أن تلك الكتب لم تستوعب مرويات المغازي. وكذلك وردت كثير من مرويات المغازي في بطون كتب السنة، وقد تفردت ببعضها عن كتب المغازي، لكن أغلبها لم يشترط أصحابها الاقتصار فيها على الصحيح، وما اشترط فيه ذلك لم يرد فيه إلا القليل من مرويات المغازي بالنسبة لما فاته، إلا أن كتب السنة تمتاز بالتزام السند. وهذا كله يحتم العمل على جمع مرويات المغازي من كتب السنة بالدرجة الأولى، لأنها المصدر الثاني من مصادر السيرة النبوية1 بعد القرآن الكريم، ثم من كتب المغازي وغيرها من مصادر السيرة2، ثم القياد بعد ذلك بدراسة أسانيدها دراسة فاحصة لبيان ما يصح العمل به من غيره لتبرز سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك صافية نقية لمرتاديها. وهذا ما حملني على اختيار مرويات غزوة الحديبية موضوعاً لبحثي في مرحلة الماجستير. وقد يسبق هذا السبب في اختياري للموضوع سبب آخر وهو شدة ولوعي بسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تفردت به من صفات عظيمة كالواقعية، والجدية، والوضوح، فهي بعيدة كل البعد عن الخيالات، والهزل، والغموض والطلاسم.
وقد سبقني في هذا المضمار بعض زملائي في قسم الدراسات العليا بالجامعة الإسلامية، فلهم فضل السبق، وقد أفدت كثيراً من تجاربهم، وما قمنا به من جهد متواضع في هذا المجال أحسب أنه سيسد ثغرة لا بأس بها إن شاء الله، وإن كان ينقصه شيء من الاستيعاب لمضيق الوقت من جهة، ولاشتراط البعض كتباً محدودة من جهة أخرى، علماً بأني قد جانبت هذا الشرط، وبذلت قصارى جهدي لاستيعاب مرويات الغزوة، ولا أدعي حصول ذلك، لكن أسأل الله أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه، وأن يمد الجميع بالعون لاستكماله حتى تبرز مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم نقية من كل شائبة، وما بذل من جهد في هذا الصدد إنما هو من ثمرات جهود الجامعة الإسلامية التي بذلتها وتبذلها دائماً - في خدمة الإسلام والسنة على وجه الخصوص. ولا يفوتني أن أنوه بفضل الدكتور أكرم العمري لأن له اليد الطولى في سبب اختياري لهذا الموضوع، فجزاه الله خيراً ...
منهجي في البحث (1) قمت بجمع المرويات من مختلف مصادر السيرة لم أتقيد في ذلك بكتب معينة، فقد رجعت لكثير من كتب السنة من مجاميع ومسانيد وغيرها، كما رجعت لكثير من كتب المغازي والتاريخ والشمائل والدلائل، وكتب معرفة الصحابة ما بين مخطوط ومطبوع محاولاً بذلك استيعاب مرويات الغزوة. (2) بعد أن جمعت المرويات قسمت البحث إلى أربعة أبواب، ثم حصرت المرويات في الثلاثة الأبواب الأولى، وجعلت الباب الأخير لفقه أهم جوانب المرويات. والقصد من ذلك هو الحفاظ على تسلسل أحداث الغزوة وترابطها، وتندرج تحت تلك الأبواب فصول ومباحث، وهي مفصلة في صلب الرسالة، وقد سردتها في فهرس الموضوعات. (3) أورد تحت المبحث الروايات المتعلقة به، وأجعل لكل رواية رقماً ثم أقوم بتخريجها، وإذا ورد الحديث بأكثر من طريق أخرج كل طريق على حدة، محاولاً بذلك استيعاب جميع طرق الحديث وألفاظه دون تكرار. (4) إذا أعدت الحديث في مبحث آخر لحاجة لا أضع له رقماً آخر، بل أشير إلى الرقم الذي تقدم به، وكذلك لا أعيد تخريجه إلا إذا اقتضت الحاجة ذكر شيء منه. (5) أعرف برجال السند إذا لم يكن الحديث في الصحيحين أو في أحدهما، وأقتصر في التعريف بهم على التقريب إن كانوا من رجاله، لكن أصرح بسنة وفاة الشخص، ولا أذكر الطبقة التي وضعها ابن حجر، إلا عند تعذر معرفة سنة الوفاة، وإذا أضفت شيئاً كسنة وفاة أو نحوها أشير إلى المصدر. (6) إذا كان الرواي من رجال التقريب، لكنه متكلم فيه، ويتوقف الحكم على السند على معرفة حاله، فإني أذكر أقوال العلماء فيه عند الكلام على درجة الحديث، وأبين ما ترجح لي فيه، إلا إذا كان في السند أكثر من اثنين بهذه الصفة فأنقل كلام العلماء فيهم عند التعريف بهم خشية الإطالة.
(7) إذا لم يكن الراوي من رجال التقريب أعرف به من كتب الرجال الأخرى باختصار. (8) إذا لم يكن الحديث في الصحيحين أو أحدهما أقوم بدراسة سنده وفق القواعد التي رسمها المحدثون، ثم أذكر ما ترجح في بيان درجته، صحة أو غيرها، وإن وجدت في ذلك كلاماً لأحد نقلته، فإن وافق ما توصلت إليه فبها، وإلا بينت وجه مخالفتي له. (9) إذا اقتضت الحاجة إيراد حديث من غير مرويات الغزوة، فلا أضع له رقماً، ولا أخرجه، ولا أعرف برجاله، بل أكتفي بنقل أقوال العلماء في بيان درجته، إلا إذا تعذر ذلك فأقوم بدراسة سنده وأبين ما ظهر لي فيه. (10) إذا وقع خلاف في شيء من الأحداث الواردة في الغزوة، فإني أنقل أقوال العلماء في ذلك وأناقشها ثم أرجح ما يقتضيه الدليل. (11) ذكرت في الباب الرابع بعض الأحكام والدروس والعبر دون توسع، وقد أغفلت ذكر كثير من الأحكام الواردة في المرويات لضيق الوقت، ولأنها مبسوطة في مظانها من كتب الفقه، وأما ما ذكرته منها فقد جعلت توطئة للباب بينت فيها وجه أهميته.
رموز رجال السند المترجم لهم من التقريب وضع ابن حجر لرجال التقريب رموزاً تشير إلى من روى عنهم من أصحاب الكتب الستة وإلى الكتاب الذي روى لهم فيه. وقد استعملت تلك الرموز ونصها من التقريب. خ: للبخاري في صحيحه. خت: للبخاري إن كان حديثه عنه معلقاً. بخ: للبخاري في الأدب المفرد. عخ: للبخاري في خلق أفعال العباد. ز: للبخاري في جزء القراء. ى: للبخاري في رفع اليدين. م: لمسلم. مق: في مقدمة صحيحة. د: لأبي داود. مد: لأبي داود في المراسيل. صد: لأبي داود في فضائل الأنصار. خد: لأبي داود في الناسخ والمنسوخ. قد: لأبي داود في القدر. ف: لأبي داود في التفرد. ل: لأبي داود في المسائل. كد: لأبي داود في مسند مالك. ت: للترمذي. تم: للترمذي في الشمائل. س: للنسائي.
عس: للنسائي في مسند علي. كن: للنسائي في مسند مالك. ق: لابن ماجه. فق: لابن ماجه في التفسير. ع: للجماعة. تمييز: من ليست له رواية عند أحد من أصحاب الكتب الستة. الإحالات للكتب التي رجعت إليها من المطبوع بالنسبة لصحيح البخاري، ومسلم، وسنن أبي داود، والترمذي وابن ماجه، والموطأ: أحيل إلى اسم الكتاب ورقم الحديث. والإحالة إلى كتاب الجرح والتعديل، وتهذيب الأسماء واللغات إلى الجزء، ثم القسم، ثم الصفحة. والإحالة إلى التاريخ الكبير للبخاري إلى القسم، ثم الجزء، ثم الصفحة. والإحالة إلى سائر الكتب غير هذه: إلى الجزء، والصفحة، أو إلى الصفحة.
الباب الأول: يشمل مقدمات الغزوة وخروج المسلمين لها وما واجههم أثناء سيرهم
الباب الأول: يشمل مقدمات الغزوة وخروج المسلمين لها وما واجههم أثناء سيرهم الفصل الأول: تحقيق لاسم الغزوة وموقعها المبحث الأول: المرجحات لتسمية هذه الحادثة بغزوة الحديبية ... المبحث الأول: المرجحات لتسمية هذه الحادثة بغزوة الحديبية: بعد أن تم اختياري ((لمرويات غزوة الحديبية)) موضوعاً لبحثي كانت أول قضية استوقفتني هي: اختلاف الذين كتبوا عن مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم ((في عنوان هذه الحادثة)) . فنرى بعضهم عنون لها بـ ((أمر الحديبية)) 1 وبعضهم بـ ((قصة الحديبية)) 2، ومنهم من سماها ببعض القضايا التي وقعت فيها مثل: ((عمرة الحديبية)) 3، أو ((صلح الحديبية)) 4، وفريق آخر سماها بـ ((غزوة الحديبية)) 5. وكان لزاماً علي أن أختار لها عنوان مناسباً من تلك العناوين المطروحة لكن وجدت أمامي سؤالاً يطرح نفسه، وهو: لماذا اخترت هذا العنوان دون غيره؟ وللجواب على هذا السؤال وأمثاله قررت أن يكون اختياري للعنوان ناتجاً عن دراسة وتحليل لتلك العناوين المطروحة لأنه لم يوضع واحد منها إلا باعتبار ما. فأقول وبالله التوفيق: بعد دراسة وتأمل لتلك العناوين رأيت أن العنوان المناسب لهذه الحادثة هو: ((غزوة الحديبية)) وذلك للأمور التالية:
أولاً: أنه موافق لاصطلاح أهل السير والمحدثين. قال الزرقاني: "وقد جرت عادة المحدثين وأهل السير واصطلاحهم غالباً أن يسموا كل عسكر حضره النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه الكريمة (غزوة) وما لم يحضره بل أرسل بعضاً من أصحابه إلى العدو (سرية) أو (بعثاً) "1. ثانياً: ما يحمله لفظ (غزوة) من إيحاءات عميقة تعطى الحادثة اعتباراً خاصاً في شعور المسلم ولا توجد في مثل لفظ (قصة) و (أمر) ذلك لأن لفظ (غزوة) أصبح ملازماً لشخص رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تكاد ترى أو تسمع هذه اللفظة حتى يسرح بك الخيال من وراء تلك الأجيال المتعاقبة لترى تحركات رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الأبرار يزلزلون الطغاة وأتباعهم. ثالثاً: شمول هذا العنوان لجميع تحركات الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الحادثة ابتداء من إحرامه بالعمرة ومروراً بالبيعة والصلح إلى رجوعه للمدينة. رابعاً: ورود عدة أحاديث تصرح بأن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يسمونها (غزوة) ومن تلك الأحاديث ما يلي: حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه: (1) قال البخاري: حدثنا محمد بن عبد الله حدثنا حماد بن مسعده عن يزيد بن أبي عبيد عن سلمة بن الأكوع قال: "غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات فذكر خيبر2، والحديبية، ويوم حنين3، ويوم القرد4، قال يزيد: ونسيت بقيتهم"5.
وأخرجه أحمد1 عن حماد بن مسعدة. حديث أبي قتادة رضي الله عنه: (2) قال مسلم2: حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي أخبرنا يحيى بن حسان حدثنا معاوية هو ابن سلام أخبرني يحيى، أخبرني عبد الله بن أبي قتادة أن أباه أخبره أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة الحديبية، قال: فأهلوا بعمرة غيري ... (الحديث) . حديث أنس بن مالك عند ابن جرير: (3) قال: حدثنا أحمد بن المقدام3، قال: ثنا المعتمر4 قال: سمعت أبي5 يحدث عن قتادة6 عن أنس7 بن مالك قال: "لما رجعنا من غزوة الحديبية وقد حيل بيننا وبين نسكنا قال: فنحن بين الحزن والكآبة، قال: فأنزل الله عز وجل: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا} 8 أو كما شاء الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لقد أنزلت علي آية أحب إلي من الدنيا جميعاً"9. هذا حديث صحيح فرجاله رجال الصحيح وأحمد بن المقدام طعن فيه أبو داود بسبب مزاح كان فيه، وقد تعقبه ابن عدي10 بأنه لا يؤثر فيه، وبين ابن حجر11 أيضاً وجه عدم تأثير طعن أبي داود فيه.
وقال عنه الذهبي1: "أحد الأثبات المسندين، واحتج به البخاري وغيره"2. وفي السند عنعنة قتادة وهو مشهور بالتدليس3، لكنها غير مؤثرة على صحة الحديث، لأن أصله في صحيح مسلم4، سوى ما في أوله، ويشهد له الحديثان السابقان.
المبحث الثاني: تحقيق لاسم الحديبية وموقعها
المبحث الثاني: تحقيق لاسم الحديبية وموقعها المطلب الأول: التحقيق في اسمها من حيث ضبطه وسبب إطلاقه عليها ... المطلب الأول: التحقيق في اسمها من حيث ضبطه وسبب إطلاقه عليها: (أ) ضبط لفظ الحديبية: الحديبية: بالتصغير - هي بضم الحاء وفتح الدال وياء ساكنة وباء موحدة مكسورة وياء مخففة أو مشددة على خلاف: فأهل العراق على تخفيفها، ونقله النووي عن الشافعي وأهل اللغة، وبعض أهل الحديث"1. وقال السهلي: "التخفيف هو الأعرف عند أهل العربية، ونقله البكري عن الأصمعي"2. وقال أبو جعفر النحاس: "سألت كل من لقيت ممن وثقت بعمله من أهل العربية عن الحديبية فلم يختلفوا على أنها مخففة"3. وقال أحمد بن يحيى: "لا يجوز غير التخفيف"4.
وأهل المدينة يثقلونها، وكذلك أكثر الفقهاء والمحدثين1. وحكى ياقوت عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال: الصواب: "تشديد الحديبية، وتخفيف الجعرانة، وأخطأ من نص على تخفيفها، وقيل كل صواب"2. قلت: الظاهر أن الكل صواب، فقد قال النووي: "وهما وجهان مشهوران" ا. هـ3 وقال ابن حجر: "والحديبية بالتخفيف والتثقيل لغتان ا. هـ4 (ب) سبب تسمية ذلك الموضع بالحديبية: قال ياقوت: "هي قرية متوسطة ليست بالكبيرة، سميت ببئر هناك عند مسجد الشجرة التي بايع تحتها" ا. هـ5 وكذلك قال ابن حجر: هي بئر سمي بها المكان ا. هـ6 وقال الخطابي: "إن الحديبية اسم لشجرة حدباء في ذلك الموضع وصُغِّرت وسُمِّي بها المكان، نقله عنه ياقوت"7. وحكاه ابن حجر8 بصيغة التمريض. وقال الزبيدي: "جزم المتأخرون أنها قريبة من قهوة الشميسى، ثم أطلق على الموضع"ا. هـ9 قلت: القول الأول: يشهد له ما في حديث البراء: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم أربع عشرة مائة، والحديبية بئر فنزحناها فلم نترك فيها قطرة ... "10. ولا يبعد أن تكون البئر سميت بالشجرة، والله أعلم.
المطلب الثاني: موقع الحديبية وهل من الحل أو الحرام
المطلب الثاني: موقع الحديبية وهل من الحل أو الحرام ... المطلب الثاني: موقع الحديبية، وهل هي من الحل أو من الحرم؟ (أ) موقعها: قال ياقوت: "بين الحديبية ومكة مرحلة وبينها وبين المدينة تسع مراحل".اهـ1 وقال النووي: "إنها على نحو مرحلة من مكة"2. وقال في المصباح: "تقع على طريق جدة دون مرحلة"3. وقال صاحب صحيح الأخبار: "فإن جزت وادي فاطمة أتيت الموضع الذي يقال له اليوم الشميسي، وكان يقال له في الزمن القديم: الحديبية."اهـ4 وقال صاحب نسب حرب: "تقع غرب مكة على بعد (22كيلاً) على الطريق إلى جدة، وقد تغير اسمها إلى الشميسي لأنه يقال: إن رجلاً يدعى الشميسي حفر بئراً هناك فغلب اسمه عليها، وبالقرب منها من الغرب أقامت أمانة العاصمة حدائق تعرف بـ (حدائق الحديبية) وفي الحديبية اليوم مسجد الرضوان يقال: إنه بني مكان البيعة".اهـ5 أفادت هذه النقول أن الحديبية تقع في الناحية الغربية من مكة كما صرح بذلك صاحب (نسب حرب) وهو مفهوم قول صاحب (المصباح) وصاحب (صحيح الأخبار) لأن جدة تقع في الجهة الغربية من مكة لكن الواقع أن الحديبية لا تحاذي بمكة من الجهة الغربية، بل تنحرف إلى جهة الشمال وقد أشار إلى ذلك ياقوت حيث ذكر: "أنها ليست في طول الحرم، ولا في عرضه، بل تقع في زاوية الحرم".اهـ6 أما المسافة التي بين الحديبية وبين مكة فقد ذكر ياقوت أنها مرحلة، والمرحلة تقدر بـ (40 كيلو متراً) كما قرر ذلك صاحب تيسير العلام7.
لكن نرى صاحب (نسب حرب) يقول: "إن بينهما (22كيلو متراً) ، وهناك فرق شاسع بين القولين. لكن الظاهر أن المتقدمين لا يريدون التحديد الدقيق، وإنما يقصدون التقدير التقريبي للمسافة. لذلك نرى النووي يقول: إنها على نحو مرحلة. وصاحب المصباح يقول: دون مرحلة. أما صاحب (نسب حرب) فإنه يريد التحديد الدقيق للمسافة، وما ذكره هو المعروف اليوم. وقد ذكر المتأخرون أنه قد غلب على مكان الحديبية اسم (الشميسي) فصار المكان يعرف بهذا الاسم، لكن ذكر صاحب (نسب حرب) أنها توجد، ثم حدائق تعرف بـ (حدائق الحديبية) وهذا يعني أن المكان لا زال يعرف أنه مكان الحديبية. (ب) هل الحديبية من الحل أو من الحرم؟ عند مالك أن الحديبية جميعها من الحرم1. وقال الشافعي: "الحديبية موضع من الأرض منه ما هو في الحل، ومنه ما هو في الحرم"2. وقال ياقوت: "وبعض الحديبية في الحل، وبعضها في الحرم، وهو أبعد الحل من البيت"3. وقال ابن القيم: "والحديبية في الحل باتفاق الناس". وقد قال الشافعي: "بعضها في الحل، وبعضها في الحرم، ومراده: أن أطرافها من الحرم، وإلا فهي من الحل باتفاقهم" ا. هـ4
قلت: الظاهر أن ما ذهب إليه الشافعي وياقوت هو الأرجح، وأما ما حكاه ابن القيم من الاتفاق على أن الحديبية كلها من الحل، فغير مسلم، لأن مالكاً يرى أنها من الحرم كلها، والشافعي وغيره يرون أن بعضها من الحرم. وقد حمل ابن القيم قول الشافعي على أنه يقصد أن أطرافها من الحرم، لكنه لم يبين مساحة هذه الأطراف، وعلى افتراض أنه يقصد ذلك، فإن هذه الأطراف يطلق عليها بعض الحديبية، والله أعلم.
الفصل الثاني: سبب الغزوة وتاريخها
الفصل الثاني: سبب الغزوة وتاريخها المبحث الأول: سبب الغزوة ... المبحث الأول: سبب الغزوة: درج كثير من أهل المغازي على جعل السبب في خروج المسلمين لهذه الغزوة رؤيا رآها النبي صلى الله عليه وسلم قبيل خروجه، وملخصها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى أنه دخل البيت هو وأصحابه وطافوا به، وحلق بعضهم وقصر البعض، وأخبر أصحابه بذلك فاستبشروا. وأول من أثبت هذا السبب - حسب علمي - هو الواقدي1، ثم تابعه كثير ممن كتب في المغازي كاليعقوبي2، والمقريزي3، الزرقاني4، وصاحب تاريخ الخميس5، والشيخ محمد بن عبد الوهاب6، وغيرهم. وقد تردد كثيراً في إثبات تلك الرؤيا سبباً للغزوة، لأن أول من أثبتها - كما أشرت - هو الواقدي، بينما أغفلها من هو أثبت منه كابن إسحاق وابن سعد وغيرهما. لكن بعد البحث والتتبع وجدت ما يشهد لها ويدل على أن لها أصلاً وذلك من القرآن والحديث: قال تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ ... } 7.
وقد ذكر المفسرون أن سبب نزول هذه الآية هو التساؤل الذي حصل حول الرؤيا. فقد روى ابن جرير ذلك عن مجاهد وابن زيد: (4) قال ابن جرير: حدثنا محمد1 بن عمرو قال: ثنا أبو عاصم2 قال: ثنا عيسى3، وحدثني الحارث4 قال ثنا الحسن5 قال: ثنا ورقاء6 جميعاً عن ابن أبي نجيح7 عن مجاهد8 في قوله "الرؤيا بالحق" قال: أرى النبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية أنه يدخل مكة وأصحابه محلقين، فقال أصحابه حين نحر بالحديبية: أين رؤيا محمد صلى الله عليه وسلم؟ "9. سند هذا الأثر حسن إلى مجاهد لكنه مرسل. (5) وقال ابن جرير: حدثني يونس10، قال: أخبرنا ابن وهب11 قال: قال
ابن زيد1: في قوله تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ ... } ، قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: "إني قد رأيت أنكم ستدخلون المسجد الحرام محلقين رؤوسكم ومقصرين" فلما نزل بالحديبية، ولم يدخل ذلك العام، طعن المنافقون في ذلك فقالوا: أين رؤياه؟ فنزلت الآية2. سند هذا الأثر صحيح إلى ابن زيد وهو عبد الرحمن بن زيد ضعيف، ضعفه ابن معين، وابن المديني، وأحمد والنسائي، وغيرهم3. لكن معنى الأثرين ثابت من حديث المسور ومروان ففيه من رواية معمر عند البخاري: "فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله أو ليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: بلى: فأخبرتك أنك تأتيه العام؟ قال: لا، قال: فإنك آتيه ومطوف به4. وفي حديثهما من رواية ابن إسحاق عند أحمد بسند حسن "وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجوا وهو لا يشكون في الفتح لرؤيا رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأوا ما رأوا من الصلح والرجوع وما تحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفسه، دخل الناس من ذلك أمر عظيم حتى كادوا أن يهلكوا ... "5. فالآية وما في حديث المسور ومروان تدل على أنه قد حصل للنبي صلى الله عليه وسلم رؤيا خرج المسلمون إثرها لهذه الغزوة. لكن الأثر الذي رواه ابن جرير عن مجاهد يُعَكِّرُ على جعل هذه الرؤيا سبباً لخروج المسلمين إذ فيه: "أن الرؤيا حصلت للرسول صلى الله عليه وسلم بالحديبية"، وذلك بعد خروج المسلمين. لكن إذا تأملنا حديث المسور ومروان نرى في رواية معمر قول عمر: "أوليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ ".
وفي رواية ابن إسحاق: "وقد كان المسلمون خرجوا وهو لا يشكون في الفتح لرؤيا رآها النبي صلى الله عليه وسلم". فكلام عمر يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يحدثهم بذلك قبل مجيئهم للحديبية، وما في رواية ابن إسحاق يفيد أن المسلمين خرجوا بعد الرؤيا. لذلك حمل بعض العلماء الرؤيا التي يشير إليها الأثر الموقوف على مجاهد أنها رؤيا ثانية. قال الزرقاني: "وأما ما رواه الفارابي وعبد بن حميد والبيهقي في الدلائل عن مجاهد قال: "أري النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالحديبية أنه يدخل مكة هو وأصحابه آمنين محلقين رؤوسهم ومقصرين، فلما نحر الهدي بالحديبية قال له أصحابه: أين رؤياك يا رسول الله؟ فنزلت: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ ... } فهي رؤيا رآها بالحديبية تبشيراً له من الله ثانياً فلا يصلح جعلها سبباً لخروجه من المدينة"1.
المبحث الثاني: تاريخ خروج المسلمين لغزوة الحديبية
المبحث الثاني: تاريخ خروج المسلمين لغزوة الحديبية استعمل النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة قبل خروجه نميلة بن عبد الله الليثي على قول ابن هشام1، وابن2 سيد الناس ومن تبعهما. وذكر الواقدي3، وابن4 سعد ومن تبعهما أنه استعمل ابن أم مكتوم، وهناك قول ثالث5: أنه استعمل أبارهم كلثوم بن الحصين. قال الزرقاني6: "يحتمل أنه استخلف نميلة وأبارهم على المصالح والإمام ابن أم مكتوم".
ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه للغزوة، وذلك في يوم الاثنين مستهل ذو القعدة من السنة السادسة، وسأورد ما يثبت هذا التحديد إن شاء الله. (أ) ما ورد في التحديد بالسنة السادسة: (6) قال البيهقي: "أخبرنا أبو الحسين بن الفضل بن القطان1 ببغداد قال: أخبرنا عبد الله بن جعفر بن درستويه2 النحوي، قال: حدثنا يعقوب3 بن سفيان قال: أخبرنا ابن المنذر4 قال: حدثنا عبد الله بن نافع5 قال: حدثني نافع6 بن أبي نعيم عن نافع7 مولى ابن عمر قال: "كانت الحديبية سنة ست بعد مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة في ذي القعدة"8. سند هذا الأثر حسن، فابن المنذر تكلم فيه أحمد لأنه خلط في القرآن، ولكونه قدم إلى ابن أبي دؤاد، لكن وثقه ابن معين والنسائي وابن وضاح، وأبو حاتم والدارقطني، ورجح الذهبي توثيقه فقد رمز له بـ (صح) ، وقال الساجي: "له مناكير لكن تعقبه الخطيب" وقال ابن حجر: "اعتمده البخاري، وانتفى من حديثه"9، وفي
السند أيضاً نافع بن أبي نعيم، قال أحمد: "ليس بشيء في الحديث، لكن وثقه ابن معين"، وقال ابن سعد: "كان ثبتاً"، وقال أبو حاتم: "صدوق صالح الحديث"، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال ابن المديني وابن عدي والدارقطني: "لا بأس به"1، فتوثيق هؤلاء مقدم على قول من جرحه، لا سيما والجرح غير مفسر السبب، وبقية رجال السند كلهم ثقات، فالأثر حسن إلى نافع، وقد أرسله نافع لكن معناه ثابت من حديثي ابن عمر التاليين: (7) قال ابن حجر: "روى يعقوب بن سفيان في تاريخه بسند حسن عن ابن عمر قال: "كانت عمرة القضية في ذي القعدة سنة سبع"2. هذه الرواية صريحة في أن عمرة القضية كانت في السنة السابعة، وحديث البخاري الآتي يثبت أنها كانت في السنة التي تلي عام الحديبية. (8) قال البخاري: حدثنا محمد بن رافع حدثنا سريج بن النعمان حدثنا فليح عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج معتمراً فحال قريش بينه وبين البيت، فنحر هديه وحلق رأسه بالحديبية، وقاضاهم على أن يعتمر العام المقبل، ولا يحمل سلاحاً عليهم إلا سيوفاً ولا يقيم بها إلا ما أحبوا، فاعتمر من العام المقبل فدخلها كما كان صالحهم، فلما أقام بها ثلاثاً أمروه أن يخرج فخرج" 3. وأخرجه من طريق4 محمد بن الحسين بن إبراهيم عن أبيه عن فليح به مثله. فهذا الحديث يفيد تصريحاً أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر عمرة القضية في العام الذي يلي عام الحديبية مباشرة، والحديث الذي قبله صريح في أن هذا العام الذي اعتمر فيه عمرة القضية هو السنة السابعة. وإذا ثبت أن عمرة القضية كانت في السنة السابعة، وأنها في السنة التي تلي عام الحديبية، فالحديبية إذن في السنة السادسة بلا شك.
الإجماع على أنها كانت في السنة السادسة: قال النووي: "وقد أجمع المسلمون أن الحديبية كانت سنة ست من الهجرة في ذي القعدة" ا. هـ1 وقال ابن كثير: "وكانت الحديبية في ذي القعدة سنة ست بلا خلاف" ا. هـ2 وقال ابن حجر: "كانت الحديبية في سنة ست بلا خلاف" ا. هـ3 وقد شذ ابن الديبع فقال: "كانت في السنة الخامسة"4، ولكن لا مستند له في ذلك. (ب) التحديد بشهر ذي القعدة ورد فيه ما يلي: (9) قال البخاري حدثنا عبيد الله عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء رضي الله عنه: "اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة، فأبى أهل مكة أن يدعوه يدخل مكة، حتى قاضاهم: لا يدخل مكة سلاحاً إلا في القرب"5. وأخرجه في كتاب الصلح6 والمغازي7 بهذا الإسناد مطولاً. وأخرجه من طريق8 شعبة، ومن طريق9 سفيان بن سعيد، كلاهما عن أبي إسحاق عن البراء مختصراً لم يذكر العمرة. وأخرجه أحمد10 عن حجين وأسود بن عامر كلاهما عن إسرائيل به مطولاً. وأخرجه الدارمي11 عن محمد بن يوسف عن إسرائيل به مطولاً.
وأخرجه الترمذي1 عن عباس بن محمد الدوري عن إسحاق بن منصور السلولي عن إسرائيل به مختصراً، ولفظه: قال: "اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة". وأخرج بعضه في كتاب البر والصلة2، وفي كتاب المناقب3 من طريق إسرائيل أيضاً، وليس في ذكر للعمرة. وأخرجه البخاري من غير طريق إسرائيل بسياق آخر مختصراً: قال: حدثنا أحمد بن عثمان حدثنا شريح بن مسلمة حدثنا إبراهيم بن يوسف عن أبيه عن أبي إسحاق قال: "سألت مسروقاً وعطاء ومجاهد فقالوا: اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة قبل أن يحج، قال وسمعت البراء بن عازب رضي الله عنهما يقول: اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة قبل أن يحج مرتين"4. وأخرجه بهذا السند في كتاب الجزية والموادعة5 مطولاً، ولم تذكر فيه العمرة. حديث أنس رضي الله عنه: (10) قال البخاري حدثنا حسان بن حسان حدثنا همام عن قتادة: سألت أنساً رضي الله عنه: كم اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم. قال: "أربع عمرة الحديبية في ذي القعدة حيث صده المشركون، وعمرة من العام المقبل في ذي القعدة حيث صالحهم، وعمرة الجعرانة6 إذ قسم غنيمة - أراه حنين - قلت كم حج؟ قال: واحدة"7. وأخرجه8 عن هدبة عن همام به بلفظ: "اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع في ذي القعدة إلا التي اعتمر مع حجته، عمرته من الحديبية" نحوه ...
وأخرجه بهذا الإسناد في المغازي1 بمثله، وفي الجهاد2 مختصراًَ ذكر عمرة الجعرانة فقط. وأخرجه مسلم عن3 هداب - هو هدبة4 - به فذكر نحوه، وفيه: "من الحديبية أو زمن الحديبية". وأخرجه عن5 محمد بن المثنى عن عبد الصمد عن همام به نحو لفظ هدبة. وأخرجه أبو داود6 عن أبي الوليد الطيالسي وهدبة، كلاهما عن همام به نحوه. وأخرجه البخاري عن أبي الوليد7 به، وليس فيه تحديد زمن الحديبية. وأخرجه الترمذي8 عن إسحاق بن منصور عن حبان بن همام به، وليس فيه تحديد زمن الحديبية. وأخرجه أحمد9 عن عفان عن همام به، بمثل لفظ حسان بن حسان. حكى ابن كثير والعيني الإجماع على إنها في ذي القعدة: قال ابن كثير: "كان الحديبية في ذي القعدة سنة ست بلا خلاف "10. وقال العيني: "وكان خروجه من المدينة يوم الاثنين لهلال ذي القعدة سنة ست بلا خلاف" 11. قلت: قد وردت عن عروة بن الزبير رواية بأن غزوة الحديبية كانت في شوال، ونص الرواية:
(11) قال ابن أبي شيبة: حدثنا أبو أسامة1 قال: حدثنا هشام2 عن أبيه3 قال: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية، وكانت الحديبية في شوال"4، الحديث. أخرجه يعقوب بن سفيان من طريق آخر: قال: حدثنا إسماعيل5 ابن الخليل عن علي6 بن مسهر قال: أخبرني هشام بن عروة عن أبيه قال: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية في رمضان، وكانت الحديبية في شوال"7. وأخرجه البيهقي من طريق يعقوب بن سفيان8 به. سند هذا الأثر صحيح إلى عروة، وهو مرسل. وقد اعتبر العلماء هذه الرواية عن عروة شاذة. فقد حكاها ابن القيم عنه ثم عقب عليها بقوله: "وهذا وهم وإنما كانت غزوة الفتح في رمضان" 9. كما أوردها ابن كثير من طريق يعقوب بن سفيان، وعقب عليها بقوله: وهذا غريب جداً عن عروة10.
وقال ابن حجر: "جاء عن هشام بن عروة عن أبيه أنه خرج في رمضان، واعتمر في شوال وشذ بذلك"1. قلت: وقد وردت عن عروة رواية أخرى توافق الجمهور: (12) قال البيهقي: قال: يعقوب2: قال حسان3 بن عبد الله: عن ابن لهيعة4 عن أبي الأسود5: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تجهز يريد العمرة، وتجهز معه ناس كثير، وذلك في ذي القعدة سنة ست"6. هكذا ذكر البيهقي هذه الرواية موقوفة على أبي الأسود لكن ابن القيم وابن كثير صرحا بأن أبا الأسود رواها عن عروة بن الزبير. قال ابن القيم: "وقد قال أبو الأسود عن عروة: أنها كانت في ذي القعدة على الصواب"7. وقال ابن كثير: بعد أن حكى قول الجمهور: "وهو الذي رواه ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة: أنها في ذي القعدة سنة ست"8. كما جزم ابن حجر حيث قال: وقد وافق أبو الأسود عن عروة الجمهور9. وسند هذا الأثر ضعيف لأنه معلق فبين البيهقي ويعقوب بن سفيان واسطتان10.
وفي سنده ابن لهيعة ضعفه الحفاظ في غير رواية العبادلة عنه، أما روايتهم عنه فقد صححها1 بعضهم، وليست هذه منها، وهو مرسل أيضاً لكن معناه ثابت من الروايات السابقة. (جـ) تحديد خروجه يوم الاثنين: تحديد خروجه صلى الله عليه وسلم بيوم الاثنين ذكره بعض أهل المغازي وغيرهم: قال الواقدي: "وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة يوم الاثنين لهلال ذي القعدة ... "2. وقال ابن سعد: "وركب راحلته القصواء وخرج وذلك يوم الاثنين لهلال ذي القعدة ... "3. وقال القسطلاني: "خرج عليه السلام يوم الاثنين هلال ذي القعدة سنة ست من الهجرة". ا. هـ4 ولم أرَ في كتب المغازي أو غيرها أحداً يذكر خلاف ذلك، بل حكى العيني الإجماع على ذلك: قال العيني: "وكان خروجه صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين لهلال ذي القعدة سنة ست بلا خلاف"5.
الفصل الثالث: إعداد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه للخروج إلى الحديبية
الفصل الثالث: إعداد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه للخروج إلى الحديبية المبحث الأول: إعداد النبي صلى الله عليه وسلم للخروج إلى الحديبية ... المبحث الأول: إعداد النبي صلى الله عليه وسلم للخروج إلى الحديبية: كانت عداوة قريش للمسلمين لا تخفى على من له أدنى علم بأحداث الجزيرة في ذلك الوقت، فآخر هجوم قامت به على المدينة - كان قبل سنة فقط من خروج المسلمين لهذه الغزوة1 - حشدت فيه كل قواها المادية والمعنوية مستهدفة القضاء على المسلمين، وإبادة خضرائهم، لكن الله ردهم بغيظهم لم ينالوا خيراً، فغيظهم على المسلمين يزداد يوماً بعد يوم، ومن المستحيل أن يمكنوا المسلمين من الدخول إلى مكة عن رضى منهم وطواعية، بل لن يتوانوا في الإيقاع بهم إن وجدوا سبيلاً إلى ذلك. وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه على علم بعداوة قريش وحنقها لذلك فقد أخذوا أهبتهم وحيطتهم قبل خروجهم من المدينة. قال ابن إسحاق: "واستنفر العرب ومن حوله من أهل البوادي من الأعراب ليخرجوا معه، وهو يخشى من قريش الذي صنعوا، أن يعرضوا له بحرب، أو يصدوه عن البيت، فأبطأ عليه كثير من الأعراب، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن معه من المهاجرين والأنصار ومن لحق به من العرب"2 ا. هـ
كذا ذكره ابن إسحاق دون سند، لكن أشارت إليه آيات سورة الفتح - ولا شك أن القرآن هو أول مصادر السيرة النبوية1 - قال تعالى: {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا* بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا} 2. فقد ورد في تفسير هذه الآية ما يلي: (13) قال ابن جرير: حدثنا محمد بن عمرو وقال: ثنا أبو عاصم قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء جميعاً عن ابن أبي نجيح قوله: {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا} قال: أعراب المدينة جهينة ومزينة استتبعهم لخروجه إلى مكة قالوا: نذهب معه إلى قوم قد جاءوا فقتلوا أصحابه، فنقاتلهم فاعتلوا بالشغل"3. وسند هذا الأثر صحيح إلى مجاهد، وهو مرسل، لكن يشهد له مرسل قتادة التالي. (14) قال ابن جرير حدثنا بشر4 قال: ثنا يزيد5 قال: ثنا سعيد6 عن قتادة7 قوله: {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ} إلى قوله: {وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا} ، قال: ظنوا بنبي الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أنهم لن يرجعوا من وجههم ذلك، وأنهم سيهلكون، فذلك الذي خلفهم عن نبي الله صلى الله عليه وسلم8.
وسنده صحيح إلى قتادة لشاهدة من الحديث السابق. وقد ورد في حديث المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم من طريق سفيان عند البخاري: أنهم كانوا على استعداد لقتال من اعترض سبيلهم، وهذا يفيد أنهم قد حملوا السلاح، يقول في الحديث: "فقال النبي صلى الله عليه وسلم أشيروا أيها الناس عليّ أترون أن أميل إلى عيالهم وذراري هؤلاء الذين يريدون أن يصدونا عن البيت، فإن يأتونا كان الله عز وجل قد قطع عيناً من المشركين، وإلا تركناهم محروبين، فقال أبو بكر: يا رسول الله خرجت عامداً لهذا البيت لا تريد قتل أحد، فتوجه له فمن صدنا عنه قاتلناه، قال: امضوا على اسم الله ... "1. وكان مع المسلمين خيل كذلك لكن لم أقف على شيء في عددها سوى ما ذكر ابن سعد قال: وقدم عباد بن بشر أمامه طليعة في عشرين فرساً من خيل المسلمين2. وليس فيما ذكر ابن سعد تحديد لعدد الخيل بل يفهم من كلامه أنها كانت أكثر مما ذكر، لأن (من) في قوله من خيل المسلمين تبعيضية3. وإذن فالنبي صلى الله عليه وسلم قد استعد بالرجال كما ذكر ابن إسحاق وبالسلاح، وهو مفهوم حديث المسور ومروان وبالخيل كما ذكر ابن سعد، وقد نص على ذلك كله حديث سلمة بن الأكوع يقول فيه: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة الحديبية فنحرنا مائة بدنة ونحن بضع عشرة مائة ومعهم عدة السلاح والرجال والخيل ... 4 وهذا الحديث ضعيف لأنه من طرق موسى بن عبيدة الربذي، وقد ضعفه الحفاظ لكن يستأنس به مع ما سبق من الشواهد وأقوال أصحاب المغازي. وقد ذكر الواقدي أنهم خرجوا بغير سلاح وأورد أثرين عن عمر بن الخطاب وسعد بن عبادة يفيدان أن النبي صلى الله عليه وسلم أبى أن يحمل السلاح.
(15) قال الواقدي: فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "أتخشى يا رسول الله علينا من أبي سفيان بن حرب وأصحابه، ولم نأخذ للحرب عدتها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أدري ولست أحب أحمل السلاح معتمراً"1. (16) وقال: قال سعد بن عبادة: يا رسول الله لو حملنا السلاح معنا فإن رأينا من القوم ريباً كنا معدين لهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لست احمل السلاح، إنما خرجت معتمراً" ا. هـ2 وهذان الأثران ضعيفان، إذ لا أسانيد لهما، وقول الواقدي مرجوح لمخالفته غيره من أهل المغازي. وقد أخرج ابن جرير بإسناده إلى ابن أبزى رواية يثبت فيها خلاف ما ذكر الواقدي من جواب الرسول صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب: (17) قال ابن جرير: حدثنا ابن حميد3 قال: حدثنا يعقوب القمي4 عن جعفر5 - يعني ابن أبي المغيرة - عن ابن أبزى6 قال: لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم بالهدي وانتهى إلى ذي الحليفة قال له عمر: يا رسول الله تدخل على قوم هم لك حرب بغير سلاح ولا كراع7، قال: فبعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فلم يدع فيها كراعاً ولا سلاحاً إلا حمله، فلما دنا من مكة منعوه أن يدخل، فسار حتى أتى منى فنزل بمنى فأتاه عينه أن عكرمة بن أبي جهل قد خرج عليك في خمسمائة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لخالد بن الوليد: يا خالد هذا ابن عمك قد أتاك في الخيل، فقال خالد: أنا سيف الله وسيف رسوله - فيومئذ سمي سيف الله - يا رسول الله ارم بي حيث شئت، فبعثه على خيل فلقي عكرمة في الشعب فهزمه حتى أدخله حيطان مكة، ثم عاد في الثانية فهزمه حتى أدخله
حيطان مكة، ثم عاد في الثالثة فهزمه حتى أدخله حيطان مكة، فأنزل الله: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} إلى قوله: {عَذَابًا أَلِيمًا} 1.2 هذا الحديث مرسل، وسنده إلى ابن أبزى ضعيف، لأن فيه ابن حميد، وهو محمد بن حميد الرازي: ضعفه أبو حاتم وغيره واتهمه أبو زرعة وغيره بالكذب3. وفي هذا الحديث - في الشطر الأخير منه - نكارة نبّه عليها بعض العلماء: فقد نقله ابن كثير عن ابن جرير ثم قال: رواه ابن أبي حاتم عن ابن أبزى بنحوه، وهذا السياق فيه نظر، فإنه لا يجوز أن يكون عام الحديبية، لأن خالداً رضي الله عنه لم يكن أسلم بل قد كان طليعة للمشركين كما ثبت في الصحيح ولا يجوز أن يكون عمرة القضاء، لأنهم قاضوه على أن يأتي من العام القابل، فيعتمر ويقيم بمكة ثلاثة أيام، ولما قدم صلى الله عليه وسلم لم يمانعوه ولا حاربوه ولا قاتلوه، فإن قيل فيكون يوم الفتح. فالجواب: ولا يجوز أن يكون يوم الفتح لأنه لم يسق عام الفتح هدياً، وإنما جاء محارباً مقاتلاً في جيش عرمرم، فهذا السياق فيه خلل، وقد وقع فيه شيء فليتأمل، والله أعلم ا. هـ4 وقال ابن حجر: وفي صحته نظر؛ لأن خالداً لم يكن أسلم في الحديبية، وظاهر السياق أن هذه القصة كانت في الحديبية، فلو كانت في عمرة القضية لأمكن، مع أن المشهور أنهم فيها لم يمانعوه ولم يقاتلوه5 ا. هـ قلت: التحقيق أن ما ذكره ابن كثير هو الأظهر، من أنه ليس في الحديبية، ولا في عمرة القضية، ولا في الفتح، وآفته ابن حميد قال عنه الذهبي: وهو مع إمامته منكر الحديث صاحب عجائب ا. هـ6
المبحث الثاني: عدد جيش السلمين في غزوة الحديبية
المبحث الثاني: عدد جيش السلمين في غزوة الحديبية ... المبحث الثاني: عدد جيش المسلمين في غزوة الحديبية: وردت نصوص كثيرة تشير إلى عدد المسلمين في هذه الغزوة جاء في بعضها أنهم كانوا بضع عشرة مائة، وورد في بعضها تحديد عددعم لكنها اختلفت فيه اختلافاً كبيراً. وسأورد تلك النصوص ثم أذكر التوفيق بينها إن شاء الله: (أ) ما ورد بأنهم كانوا بضع عشرة مائة: (18) قال البخاري حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا سفيان قال: سمعت الزهري حين حدث هذا الحديث حفظت بعضه وثبتني معمر عن عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم يزيد أحدهما على صاحبه قائلاً: "خرج النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه ... " الحديث1. (ب) التحديد بألف وثلاثمائة: (19) قال مسلم: حدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا شعبة عن عمرو - يعني ابن مره - حدثني عبد الله بن أبي أوفى قال: كان أصحاب الشجرة ألفاً وثلاثمائة وكانت أسلم ثمن المهاجرين2. وأخرجه البخاري3 تعليقاً قال: قال عبيد الله بن معاذ به فذكره. وأخرجه ابن سعد4 عن أبي داود الطيالسي عن شعبة به قال في أوله: "سمعت عبد الله بن أبي أوفى صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان قد شهد بيعة الرضوان ... " ثم ذكر نحو لفظ مسلم. وأخرجه البيهقي5 من طريق أبي دواد الطيالسي بمثل لفظ ابن سعد. (جـ) ما ورد في التحديد بألف وأربعمائة: (20) قال البخاري: حدثنا علي حدثنا سفيان قال عمرو: سمعت جابر بن
عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية: "أنتم خير أهل الأرض، وكنا ألفاً وأربعمائة، ولو كنت أبصر لأريتكم مكان الشجرة"1.2 وأخرجه3 عن قتيبة بن سعيد عن سفيان به مختصراً بلفظ: "كنا يوم الحديبية ألفاً وأربعمائة". وأخرجه مسلم4، وأحمد5، والحميدي6، والبيهقي7، كلهم من طريق سفيان به نحو لفظ علي بن المديني، وليس عند أحمد: "ولو كنت أبصر لأريتكم موضع الشجرة". وأخرجه البخاري8 من طريق الأعمش قال حدثني سالم بن أبي الجعد عن جابر، فذكر في الحديث قصة تفجر الماء من بين أصابع النبي صلى الله عليه وسلم وفي آخر: قلت لجابر كم كنتم يومئذ؟ قال: ألف9 وأربعمائة. وأخرجه مسلم10 والبيهقي11 كلاهما من طريق الأعمش به مختصراً بلفظ: قلت لجابر كم كنتم يومئذ؟ قال: ألفاً وأربعمائة، زاد البيهقي: "أصحاب الشجرة". وأخرجه البيهقي عن طريق أبي الزبير عن جابر بن عبد الله قال: كنا يوم الحديبية ألفاً وأربعمائة12. وأخرجه من طريق أبي سفيان عن جابر، فذكر عدد البدن التي نحروها ثم قال: "فقلنا لجابر، كم كنتم يومئذ؟ قال: ألفاً وأربعمائة، بخيلنا ورجالنا"13.
(21) وقال البخاري: حدثنا مالك بن إسماعيل حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء رضي الله عنه قال: "كنا يوم الحديبية أربع1 عشر مائة، والحديبية بئر، فنزحناها حتى لن نترك فيها قطرة، فجلس النبي صلى الله عليه وسلم على شفير2 البئر، فدعا بماء فمضمض ومج في البئر فمكثنا غير بعيد ثم استقينا حتى روينا وروت - أو صدرت - ركائبنا"3. وأخرجه عن عبيد الله بن موسى عن إسرائيل به بلفظ: "تعدون أنتم الفتح فتح مكة، وقد كان فتح مكة فتحاً، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم أربع عشرة ... "4 الحديث بنحوه. وأخرجه5 أحمد عن أبي أحمد عن إسرائيل به، فذكر نحو لفظ مالك بن إسماعيل. وأخرجه6 عن وكيع عن إسرائيل به مختصراً. وأخرجه البيهقي من طريق عبد الله بن رجا، وعبيد الله بن موسى، كلاهما عن إسرائيل به، فذكره7 بنحو لفظ عبيد الله بن موسى عند البخاري. وأخرجه البخاري من طريق زهير بن معاوية عن أبي إسحاق بسياق آخر: (22) قال حدثنا فضيل بن يعقوب حدثنا الحسن بن محمد بن أعين أبو علي الحراني، حدثنا زهير حدثنا أبو إسحاق قال: أنبأنا البراء بن عازب رضي الله عنهما أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية ألفاً وأربعمائة أو أكثر، فنزلوا على بئر فنزحوها، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى البئر، وقعد على شفيرها، ثم قال: "ائتوني من مائها فأتي به فبصق فدعا ثم" قال: "دعوها ساعة فأرووا أنفسهم وركابهم حتى ارتحلوا"8.
(23) وقال مسلم حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ليث ح وحدثنا محمد بن رمح أخبرنا الليث عن أبي الزبير عن جابر قال: كان يوم الحديبية ألفاً وأربعمائة فبايعناه وعمر أخذ بيده تحت الشجرة، وهي سمرة، وقال: بايعناه على ألا نفر، ولم نبايعه على الموت1. وأخرجه أحمد2، والدارمي3، كلاهما من طريق الليث به مثله إلا عند الدارمي "تحت الشجرة وهي ثمره". وأخرجه مسلم من طريق ابن جرير بسياق آخر وصرح أبو الزبير بالسماع. (24) قال حدثنا محمد بن حاتم حدثنا حجاج عن ابن جريج أخبرني أبو الزبير سمع جابراً يسأل كم كانوا يوم الحديبية؟ قال: كنا أربع عشرة مائة، فبايعنها وعمر أخذ بيده تحت الشجرة، وهي سمرة، فبايعناه غير جد بن قيس الأنصاري اختبأ تحت بطن بعيره4. وأخرجه ابن سعد5 من طريق وهب بن منبه قال: سألت جابر بن عبد الله كم كانوا يوم الحديبية؟ قال: كنا أربع عشرة مائة ... " في حديث طويل. (25) وقال مسلم: حدثنا يحيى بن يحيى أخبرنا يزيد بن زريع عن خالد عن الحكم بن عبد الله بن الأعرج عن معقل بن يسار قال: لقد رأيتني يوم الشجرة والنبي صلى الله عليه وسلم يبايع الناس، وأنا رافع غصناً من أغصانها عن رأسه، ونحن أربع عشرة مائة، قال: لم نبايعه على الموت، ولكن بايعناه على ألا نفر6. وأخرجه7 من طريق يونس عن الحكم به. وأخرجه خليفة بن الخياط8 عن عبد الوهاب عن خالد الحذاء به، بنحوه، وقال في آخره: "وهم يومئذ ألف وأربعمائة".
وأخرجه ابن سعد1 من طريق يزيد بن زريع عن خالد الحذاء به نحوه، وفي آخره: "قلنا لمعقل كم كنتم يومئذ؟ قال: ألفاً وأربعمائة رجل". وأخرجه2 من طريق وهيب عن خالد الحذاء به نحوه وفي آخره قلنا: كم كنتم؟ قال: ألفاً وأربعمائة. (26) وقال مسلم: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا هاشم بن القاسم ح، وحدثنا إسحاق بن إباهيم أخبرنا أبو عامر العقدي كلاهما عن عكرمة بن عمار العجلي ح، وحدثنا عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي وهذا حديثه اخبرنا أبو علي الحنفي عبد الله بن عبد المجيد حدثنا عكرمة (وهو ابن عمار) حدثني إياس بن سلمة حدثني أبي قال: قدمنا الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن أربع عشرة مائة، وعليها خمسون شاة ما ترويها ... " الحديث3. وأخرجه أحمد4 عن عبد الصمد عن عكرمة به مطولاً. وأخرجه ابن سعد5 عن موسى بن مسعود النهدي عن عكرمة به مختصراً. وأخرجه البيهقي6 من طريق عبد الله بن رجاء وموسى بن إسماعيل، وكلاهما عن عكرمة بن مختصراً. (27) وقال يحيى بن معين: حدثنا شبابة7 قال: حدثنا شعبة8 عن قتادة9
عن سعيد1 بن المسيب عن أبيه2 قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة ألفاً وأربعمائة3. والحديث أخرجه البيهقي4 من طريق يحيى بن معين به نحوه. رجال هذا الإسناد رجال الصحيحين، ولا تضره عنعنة قتادة؛ لأن أصله في الصحيح من حديث البراء وجابر ومعقل بن يسار وسلمة بن الأكوع السابق. (د) ما ورد في التحديد بألف وخمسمائة: (28) قال البخاري: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا عبد العزيز ابن مسلم حدثنا حصين عن سالم بن أبي الجعد عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "عطش الناس يوم الحديبية، والنبي صلى الله عليه وسلم بين يديه ركوة5 فتوضأ فجهش6 الناس نحوه، فقال: مالكم؟ قالوا: ليس عندنا ماء نتوضأ ولا نشرب إلا ما بين يديك، فوضع يده في الركوة فجعل الماء يثور7 بين أصابعه كأمثال العيون، فشربنا وتوضأنا قلت: كم كنتم؟ قال: لو كنا مائة ألف لكفانا كان خمس عشرة مائة"8. وأخرجه9 من طريق محمد بن فضيل عن حصين عن سالم به نحوه، وعنده "فجعل الماء يفور ... ".
وأخرجه مسلم من طريق1 عبد الله بن إدريس وخالد الطحان، كلاهما عن حصين به مختصراً بلفظ: قال: لو كان مائة ألف لكفانا، كنا خمس عشرة مائة. وأخرجه مختصراً أيضاً من طريق2 عمرو بن مرة عن سالم بن أبي الجعد قال: سألت جابر بن عبد الله عن أصحاب الشجرة؟ فقال: لو كنا مائة ألف لكفانا كنا ألفاً وخمسمائة. وأخرجه أحمد من طريق3 عبد العزيز بن مسلم عن حصين به نحوه. وأخرجه من طريق4 شعبة عن حصين وعمرو بن مرة، كلاهما عن سالم عن جابر بألفاظ متقاربة وفيه اختصار. وأخرجه ابن سعد5 من طريق عمرو بن مرة عن سالم بن أبي الجعد قال: "سألت جابر بن عبد الله كم كنتم يوم الشجرة. قال: كنا ألفاً وخمسمائة ... وذكره بنحو رواية حصين عند البخاري. وأخرجه البيهقي6 من طريق حصين به مختصراً ولفظه: قال: لو كنا مائة ألف لكفانا، لنا خمس عشرة مائة. وفيه من حديث جابر أيضاً: (29) قال البخاري حدثنا الصلت قال: حدثنا يزيد بن زريع عن سعيد عن قتادة: "قلت لسعيد بن المسيب: بلغني أن جابر بن عبد الله كان يقول: كانوا أربع عشرة مائة، فقال لي سعيد: حدثني جابر كانوا خمس عشرة مائة الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية7.
وأخرجه خليفة1 عن يزيد بن زريع به بلفظ: قلت لسعيد بن المسيب: بلغني أن جابر بن عبد الله يقول: كانوا أربع عشرة مائة، قال: نسي جابر كانوا ألفاً وخمسمائة. وأخرجه2 من طريق قرة عن قتادة عن سعيد قال: وَهَمَ جابر رحمه الله، هو حدثني أنهم كانوا ألفاً وخمسمائة. وأخرجه البيهقي3 من طريق قرة عن قتادة قال: قلت لسعيد بن المسيب: كم كانوا الذين شهدوا بيعة الرضوان قال: خمس عشرة مائة قال: قلت: فإن جابر بن عبد الله قال: كانوا أربع عشرة مائة، قال: يرحمه الله وَهَمَ هو حدثني أنهما كانوا خمس عشرة مائة. (هـ) التحديد بسبعمائة: قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد4 بن هارون قال: أنا محمد بن إسحاق عن الزهري محمد بن مسلم بن شهاب عن عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم قالا: خرج النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية يريد زيارة البيت لا يريد قتالاً وساق معه الهدي سبعين بدنة، وكان الناس سبعمائة رجل، فكانت كل بدنة عن عشرة ... الحديث5. سند هذا الحديث حسن، وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله. (و) التحديد بألف وخمسمائة وخمسة وعشرين: (30) قال ابن جرير: حدثني محمد6 بن سعد قال: حدثني أبي7 قال:
حدثني عمي1 قال: حدثني أبي2 عن أبيه3 عن ابن عباس4 قال: كان أهل البيعة تحت الشجرة ألفاً وخمسمائة وخمسة وعشرين5. وقد عزا ابن حجر6 هذا الحديث لابن مردويه وذكر أنه موقوف على ابن عباس. وسند هذا الحديث مسلسل بالضعفاء، فأولهم محمد بن سعد شيخ ابن جرير، قال عنه الخطيب: كان ليناً في الحديث، وقال الدارقطني: لا بأس به7، وعطية العوفي الراوي عن ابن عباس قال عنه يحيى بن معين: صالح، وضعفه أحمد والنسائي وجماعة، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ضعيف، ورجح الذهبي تضعيفه8. أما الثلاثة الآخرون فهم ضعاف بالمرة9. وقد عدهم (أي عطية وأولاده) ابن رجب في البيوت التي اشتهرت بالضعف10.
تنبيه: أورد ابن القيم هذا السند وقال عنه: "وهذا إسناد معروف يروي به ابن جرير وابن أبي حاتم وعبد بن حميد وغيرهم التفسير وغيره عن ابن عباس، وهو إسناد معروف متداول بين أهل العلم وهم ثقات1. قلت: قول ابن القيم رحمه الله "وهم ثقات" وهمٌ منه، فلم يوثق أحد من رجال هذا الإسناد، وقد رأينا أقوال أئمة الجرح والتعديل فيهم. (ز) التحديد بألف وخمسمائة وأربعين: (31) قال البلاذري: "حدثني الحسين2 بن الأسود قال: حدثني أبو بكر3 بن عياش عن الكلبي4 عن أبي صالح5 عن ابن عباس قال: قسمت خيبر على ألف وخمسمائة سهم، وثمانين سهماً، وكانوا ألفاً وخمسمائة وثمانين رجلاً الذين شهدوا الحديبية، فيهم ألف وخمسمائة وأربعون، والذين كانوا مع جعفر بن أبي طالب بأرض الحبشة أربعون رجلاً"6. سند هذا الحديث ضعيف جداً، وربما كان موضوعاً، ففيه الكلبي وهو متهم بالكذب، وفيه أبو صالح باذام ضعْف لا سيما في رواية الكلبي عنه، قال ابن معين: "ليس به بأس، وإذا روى عنه الكلبي فليس بشيء"7.
(حـ) التحديد بألف وسبعمائة: (32) قال ابن أبي شيبة: حدثنا عبيد الله1 بن موسى عن موسى2 ابن عبيدة عن إياس3 بن سلمة عن أبيه4 قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة الحديبية، فنحرنا مائة بدنة، ونحن سبع عشرة مائة، ومعهم عدة السلاح والرجال والخيل، وكان في بدنة جمل، فنزل بالحديبية فصالحته قريش على أن هذا الهدي محله حيث حبسناه5. وأخرجه ابن سعد6 بسند ابن أبي شيبة مثله، وفيه: "ونحن بضع عشرة مائة". سند هذا الحديث ضعيف جداً لضعف موسى بن عبيدة، قال عنه أحمد: لا يكتب حديثه، وضعفه النسائي7، وابن عدي وغيرهم. (ط) التحديد بألف وثمانمائة: (33) قال ابن أبي شيبة: حدثنا خالد8 بن مخلد قال: حدثنا عبد الرحمن9 بن عبد العزيز الأنصاري قال: حدثني ابن شهاب قال: حدثني عروة بن الزبير:
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عام الحديبية في ألف وثمانمائة وبعث بين يديه عيناً له من خزاعة ... "1 الحديث. هذا طرف من حديث طويل في قصة الحديبية وهو مرسل: وسنده إلى عروة ضعيف أيضاً: حيث تفرد به خالد بن مخلد القطواني، وقد قال عنه أحمد: له مناكير2، وقال ابن حجر صدوق يتشيع، وله أفراد3. قلت: وهذا من إفراده، وفيه عبد الرحمن بن عبد العزيز الأنصاري: قال عنه أبو حاتم مضطرب الحديث4، وقال ابن حجر: صدوق يخطئ5، وقد خالف هذا الأثر الروايات الصحيحة. التوفيق بين النصوص عندما يستعرض القارئ النصوص الواردة بتحديد عدد الذين شهدوا غزوة الحديبية من المسلمين، يجد الفرق بينها واسعاً، والبون شاسعاً، فمن تلك النصوص ما يحدهم بسبع مائة، ومنها ما يحدهم بألف وثمانمائة، وهناك نصوص تذكر تحديدات أخرى بين هذين العددين، فلذلك لا بد من وقفة مع تلك النصوص حتى يتبين العدد الحقيقي لجيش المسلمين في هذه الغزوة. عند اختلاف النصوص يصار التوفيق بينها إما بالجمع إن أمكن، وإلا بالترجيح عند تعذر الجمع. لكن هناك خطوة أولى يجب البدء بها، وهي معرفة درجة كل من تلك النصوص، هل كلها في درجة المقبول الذي يعمل به، أو بينها ما هو مردود فيطرح. ومن خلال الدراسة السابقة لأسانيد تلك النصوص، رأيت أن بعضها لا يعول عليه لضعفه الشديد وهي الروايات التالية: رواية ألف وخمسمائة وخمسة وعشرين، ورواية ألف وخمسمائة وأربعين ورواية
ألف وسبعمائة، ورواية ألف وثمانمائة. وكذلك التحديد بسبعمائة مردود أيضاً وإن ورد في رواية سندها حسن، إلا أنه من كلام ابن إسحاق أحد رواة الحديث، لذلك استبعد العلماء هذا التحديد: قال ابن حزم: وقد قال بعضهم كانوا سبعمائة، وهذا وهم شديد البتة1. وقال ابن القيم: "وغلط غلطاً بيناً من قال: كانوا سبعمائة وعذرهم أنهم نحروا يومئذ سبعين بدنة، والبدنة قد جاء إجزاؤها عن سبعة وعن عشرة، وهذا لا يدل على ما قاله هذا القائل، فإنه قد صرح بأن البدنة كانت في هذه العمرة عن سبعة، فلو كانت السبعون عن جميعهم لكانوا أربعمائة وتسعين رجلاً، وقد قال في تمام الحديث بعينه: إنهم كانوا ألفاً وأربعمائة" ا. هـ2 وقال ابن حجر: "وأما قول ابن إسحاق أنهم كانوا سبعمائة، فلم يوافق عليه، لأنه قاله استنباطاً من قول جابر: "فنحرنا البدنة عن عشرة "وكانوا نحروا سبعين بدنة، وهذا لا يدل على أنهم لم ينحروا غير البدن، مع أن بعضهم لم يكن أحرم أصلاً" ا. هـ3 قلت: الثابت عن جابر: "أنهم نحروا البدنة عن سبعة" وذكر البيهقي رواية عن سفيان الثوري عن أبي الزبير عنه "أنهم نحروا البدنة عن عشرة" لكن اعتبرها البيهقي وهماً4. فالتحقيق أن هذا التحديد من كلام ابن إسحاق كما قال ابن حجر، والدليل على ذلك أن كلاً من معمر وسفيان بن عيينة قد تابع ابن إسحاق في شيخه الزهري ولم يذكر واحد منهما هذا التحديد، بل ورد عنهما أن المسلمين كانوا بضع عشرة مائة، وإذا ثبت أنه من كلام ابن إسحاق فلا يعول عليه لمخالفته النصوص الصحيحة. بقي أمامنا التحديد بألف وثلاثمائة، وألف وأربعمائة، وألف وخمسمائة، وهذا التحديد قد وردت به نصوص صحيحة، لا يمكن ردها، لذلك حاول العلماء التوفيق بينها، وسلكوا في ذلك طريقين:
(أ) طريق الترجيح: وقد سلك هذا الطريق البيهقي، حيث رجح رواية ألف وأربعمائة. فقد أخرج رواية ألف وأربعمائة عن جابر ثم عقب عليها بقوله: وهذه الرواية أصح، فلذلك قاله البراء بن عازب، ومعقل بن يسار، وسلمة بن الأكوع في أصح الروايتين عنه ا. هـ1 ونقل ذلك عنه ابن حجر قال: "وأما البيهقي فمال إلى الترجيح، وقال: إن رواية ألف وأربعمائة أصح".اهـ2 ومال إلى الترجيح أيضاً ابن القيم: فقد ذكر رواية ألف وأربعمائة عن جابر ثم قال عقبها: "والقلب إلى هذا أميل"3. (ب) طريق الجمع: وقد جنح بعض العلماء إلى الجمع بين تلك النصوص، فقد ذكر النووي الرواية الثلاث: ألف وثلاثمائة، وألف وأربعمائة، وألف وخمسمائة، ثم قال: ويمكن أن يجمع بينها بأنهم كانوا أربعمائة وكسر، فمن قال أربعمائة لم يعتبر الكسر، ومن قال خمسمائة اعتبره، ومن قال ألف وثلاثمائة ترك بعضهم لكونه لم يتقن العد، أو لغير ذلك ا. هـ4 وممن ذهب إلى الجمع أيضاً ابن حجر، فقد ذكر نحو كلام النووي وزاد عليه، فبعد أن ذكر الروايات الثلاث قال: والجمع بين هذا الاختلاف أنهم كانوا أكثر من ألف وأربعمائة، فمن قال ألفاً وخمسمائة جبر الكسر، ومن قال ألفاً وأربعمائة ألغاه. ويؤيده قوله في الرواية الثالثة من حديث براء "ألفاً وأربعمائة أو أكثر أما قول عبد الله بن أبي أوفى: ألفاً وثلاثمائة، فيمكن حمله على ما اطلع عليه هو، واطلع غيره على زيادة ناس لم يطلع هو عليهم، والزيادة من الثقة مقبولة أو العدد الذي ذكره جملة من ابتداء الخروج من المدينة والزائد تلاحقوا بهم بعد ذلك، أو العدد الذي ذكره عدد المقاتلة
والزيادة عليه من الأتباع من الخدم والنساء والصبيان الذين لم يبلغوا الحلم ا. هـ1 قلت: الظاهر أن مسلك التوفيق بين النصوص إن أمكن أولى من الترجيح، لا سيما والنصوص الواردة في العدد المذكور صحيحة كلها، وتوجيه ابن حجر ممكن وظاهر، فيجب الأخذ به، وقد تضمن ما ذكر النووي. وأما رواية "بضع عشرة مائة" فيمكن حملها على أحد الأعداد الثلاثة، لأن البضع يصدق على العدد من ثلاثة إلى عشرة، والله أعلم. وهناك قول لموسى بن عقبة2 والواقدي3 وابن سعد4: أن المسلمين كانوا ألفاً وستمائة، وهو اجتهاد منهم في مقابل النص، ولم يذكروا مستنداً لذلك، فلا يلتفت إليه، ولم أذكره مع ما سبق لأنه لم يرد مسنداً.
الفصل الرابع: نزول المسلمين بذي الحليفة وما عملوه بها
الفصل الرابع: نزول المسلمين بذي الحليفة وما عملوه بها المبحث الأول: صلاة المسلمين بذي الحليفة وإحرامهم بالعمرة ... المبحث الأول: صلاة المسلمين بذي الحليفة وإحرامهم بالعمرة: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المهاجرين والأنصار ومن تبعهم من الأعراب1، فلما انتهى إلى ذي الحليفة نزل بها وصلى بها الظهر: (34) قال مسلم: "حدثنا إبراهيم بن دينار حدثنا حجاج بن محمد الأعور مولى سليمان بن مجالد قال: قال ابن جريج: وأخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يسأل: هل بايع النبي صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة؟ فقال: لا، ولكن صلى بها، ولم يبايع عند شجرة إلا الشجرة التي بالحديبية2. وأخرجه3 أحمد بن طريق ابن جريج به مثله. لم يعين في حديث جابر هذا الصلاة التي صلوها بذي الحليفة، لكن ذكر الواقدي4 وابن سعد5 أنهم صلوا بها صلاة الظهر. ثم أحرم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالعمرة، وساقوا الهدي:
(35) قال البخاري: حدثنا أحمد بن محمد أخبرنا عبد الله أخبرنا معمر عن الزهري عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم قالا: "خرج النبي صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه حتى إذا كان بذي الحليفة قلد الهدي، وأشعره1 وأحرم بالعمرة"2. هذا طرف من حديث المسور ومروان الطويل في قصة الحديبية، أورده البخاري هنا مختصراً من طريق معمر، وقد أخرجه3 من طريقه بطوله في كتاب الشروط إلا أنه حذف من أوله الإهلال بالعمرة ومن طريقه أيضاً4 أخرج جزءاً منه في كتاب المحصر. ومن طريق معمر أيضاً أخرجه5 أبو داود بطوله إلا أنه وقع فيه اختصار نبه عليه الخطابي بسنده من طريق معمر هذه فذكره بتمامه6. ومن طريق معمر أيضاً أخرجه أحمد7 بتمامه. وأخرج النسائي8 طرفاً من أوله. وأخرجه البخاري من طريق9 سفيان بن عيينة عن الزهري به فذكر أوله فقط. ومن طريقه أخرج أبو داود10 وأحمد11 طرفاً من أوله. وأخرجه البخاري من طريق12 عقيل عن الزهري به قال فيه: "يخبران عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم" ثم ذكر جزءاً من آخره.
وأخرجه من طريق1 ابن أخي الزهري عن عمه به، فذكر جزءاً من وسطه. والحديث أخرجه أحمد بن طريق ابن إسحاق عن الزهري مطولاً بسياق آخر: (36) قال: حدثنا يزيد2 بن هارون أنا محمد3 بن إسحاق عن الزهري4 به قالا: "خرج النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية يريد زيارة البيت، لا يريد قتالاً، وساق معه الهدي سبعين بدنة"5 الحديث، وفيه زيادات ستأتي في مظانها. ومن طريق ابن إسحاق أخرجه ابن هشام، وصرح عنده بالسماع من الزهري. قال ابن هشام6 قال ابن إسحاق: حدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري به، فذكره بطوله. وأخرجه البيهقي7 من طريقه أيضاً، وصرح فيه بالسماع من الزهري: فقد ساقه بسنده إلى يونس8 بن بكير عن محمد بن إسحاق، حدثني الزهري به مختصراً. واللفظ الوارد من طريق ابن إسحاق حسن، فقد صرح بالسماع من الزهري عند ابن هشام والبيهقي، وابن إسحاق إذا صرح بالسماع فحديثه حسن، كما قرر ذلك الذهبي وابن حجر: قال الذهبي: بعد أن نقل أقوال أئمة الجرح والتعديل فيه: "والذي يظهر لي
أن ابن إسحاق حسن الحديث صالح الحال صدوق، وما تفرد به ففيه نكارة فإن في حفظه شيئاً، وقد احتج به الأئمة1، والله أعلم ا. هـ وقال الذهبي عنه أيضاً: "كان أحد أوعية العلم حبراً في معرفة المغازي والسير، وليس بذاك المتقن، فانحط حديثه عن رتبة الصحة، وهو صدوق في نفسه مرضى"2 ا. هـ وقال ابن حجر: "ما ينفرد به وإن لم يبلغ درجة الصحيح فهو في درجة الحسن، إذا صرح بالتحديث ... وإنما يصحح له من لا يفرق بين الصحيح والحسن ويجعل كل ما يصلح للحجة صحيحاً، وهذه طريقة ابن حبان، ومن ذكر معه"3 ا. هـ وحديث المسور ومروان ظاهره الإرسال، لأن المسور ومروان لم يشهد أحد منهما القصة. أما المسور فقدومه للمدينة كان في السنة الثامنة بعد الفتح، وهو ابن ست سنين4، بينما كانت الحديبية في السنة السادسة. وأما مروان بن الحكم فلم تثبت له صحبة5. لكن جاء من طريق عقيل عند البخاري6: "يخبران عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذه الطريق أوضحت أن المسور ومروان سمعا الحديث من بعض الصحابة، وجهالة الصحابي لا تضر"7؛ لأن الصحابة كلهم عدول. وقد وقع في أثناء القصة ما يفيد أنهما سمعاها من عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقد جاء في الحديث: قال عمر بن الخطاب: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم ... وقد عقب ابن حجر على هذه العبارة بقوله: "هذا مما يقوي أن الذي حدث المسور ومروان بقصة الحديبية، هو عمر"8 انتهى.
المبحث الثاني: إرسال النبي صلى الله عليه وسلم بسر بن سفيان عينا على مكة
المبحث الثاني: إرسال النبي صلى الله عليه وسلم بسر بن سفيان عينا على مكة ... المبحث الثاني: إرسال النبي صلى الله عليه وسلم بسر بن سفيان عيناً إلى مكة: وردت قصة إرسال بسر بن سفيان إلى مكة في حديث المسور بن مخرمة ومروان ابن الحكم من طريق سفيان بن عيينة ومن طريق محمد بن إسحاق، فقد جاء في حديثهما من طريق سفيان ما نصه: "فلما أتى ذي الحليفة قلد الهدي وأشعره وأحرم منها بالعمرة، وبعث عيناًً1 له من خزاعة، وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بغدير الأشطاط2 أتاه عينه ... "3. هكذا جاء في رواية سفيان "عيناً من خزاعة، ولم يسمه، لكن ورد التصريح باسمه في رواية ابن إسحاق حيث قال: "وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بعسفان4، لقيه بشر بن سفيان الكعبي، فقال: يا رسول الله هذه قريش قد سمعت بمسيرك"5. وربما يتوهم أن الشخص المذكور في رواية ابن إسحاق، غير المشار إليه في رواية سفيان لأن ابن إسحاق قال في نسبته (الكعبي) بينما ذكر في رواية سفيان أنه من (خزاعة) . وقد جاء أيضاً في رواية ابن إسحاق أنه لقي النبي صلى الله عليه وسلم بـ (عسفان) بينما في رواية سفيان لقيه بـ (غدير الأشطاط) . والتحقيق: أن الشخص المذكور في رواية ابن إسحاق هو عين المشار إليه في رواية سفيان، وبيان ذلك: أما من حيث نسبته: فخزاعة وكعب، اسمان لمسمى واحد، لأن قبيلة كعب هذه هي الأزدية ويطلق عليها خزاعة. قال صاحب اللباب: وهو في معرض التعريف بقبيلة كعب: "قبيلة كبيرة من الأزد، إنما قيل لهم خزاعة لأنهم انقطعوا عن الأزد لما تفرقت الأزد من اليمن أيام
سيل العرم، وأقاموا بمكة"1. وأما من حيث المكان الذي لقي النبي صلى الله عليه وسلم فيه، فهو متحد أيضاً، لأن غدير الأشطاط موضع في عسفان أو قريب منه، ففي حديث المسور ومروان من طريق معمر: "حتى إذا كان بغدير الأشطاط قريب من عسفان ... "2. وفي مرسل عروة من طريق الزهري: "حتى نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم غديراً بعسفان يقال له (غدير الأشطاط) فلقيه عينه بغدير الأشطاط ... "3. فمن قال: "غدير الأشطاط" إنما قصد تحديد الموضع الذي نزل فيه النبي صلى الله عليه وسلم. ومن قال: "عسفان" أراد الجهة أو الناحية واكتفى به لشهرته دون الآخر. فالحاصل أنه لا خلاف بين رواية ابن إسحاق ورواية سفيان وأن المسمى في رواية ابن إسحاق هو عين المشار إليه في رواية سفيان. لكن يلاحظ أن ابن إسحاق سماه "بشراً" بكسر الموحدة وسكون المعجمة، والمشهور عند أهل المغازي كالواقدي4 وابن سعد5، وغيرهم أن اسمه "بسر" بضم الموحدة وسكون المهملة، وبهذا سماه أيضاً الذين ترجموا للصحابة كأبي نعيم6 وابن عبد البر7 وابن الأثير8 وابن حجر9، ونصبوا على أنه المذكور في حديث المسور ومروان في قصة الحديبية. قال ابن حجر في ترجمته: "وضبطه ابن ماكولا وغيره بضم الموحدة وسكون المهملة وكذا رأيت عليه علامة الإهمال في الأصل المعتمد من كتاب الفاكهي"10.
ويفهم من صنيع ابن هشام أنه قد وقع خلاف في اسمه فقد تعقب ما في رواية ابن إسحاق بقوله1: "ويقال: بسر" لكن الراجح ما في كتب التراجم لأنها أقرب للضبط من رواية ابن إسحاق، ولاتفاقها مع ما في كتب المغازي، ولا سيما وقد حكى ابن حجر عن ابن إسحاق ما يؤيد قول الجمهور. قال ابن حجر: "وأما الذي بعثه النبي صلى الله عليه وسلم عيناً لخبر قريش فاسمه "بسر" كذا سماء ابن إسحاق، وهو بضم الموحدة وسكون المهملة على الصحيح"2 ا. هـ وجاء خبره في مرسل عروة من طريق الزهري لكن سماه "ناجية": ونص عبارته: "وبعث بين يديه عيناً له من خزاعة يدعى ناجية يأتيه بخبر القوم ... "3. وما في هذا الأثر لا يقوى لمعارضة رواية ابن إسحاق لكونه مرسلاً وأيضاً في إسناده إلى عروة ضعف. وقد أورده ابن حجر ثم تعقبه بقوله: "كذا سماه ناجية، والمعروف أن ناجية اسم الذي بعثه مع الهدي كما صرح به ابن إسحاق وغيره، وأما الذي بعثه عيناً لخبر قريش فاسمه بسر بن سفيان، كذا سماه ابن إسحاق ... "4. وقد ساق الخرائطي بسنده حديثاً إلى ابن عباس ذكر فيه قصة العين الذي بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة عام الحديبية، وسماه بشر بن سفيان العتكي: (37) قال الخرائطي: حدثنا عبد الله5 بن محمد البلوي، قال: قال عمارة6 ابن زيد ثنا عبد الله7 بن العلاء عن الزهري عن عبد الله8 بن الحارث بن عبد
المطلب عن أبيه1 عن ابن عباس قال: "لما توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد مكة في العام الذي ردته قريش عن البيت وهو عام الحديبية، فلما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم مرحلتين أو ثلاثة قدم عليه بشر بن سفيان العتكي فسلم عليه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا بشر هل عندك علم أن أهل مكة علموا بمسيري؟ فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله أخبرك أني كنت أطوف بالبيت في ليلة كذا وكذا - وسمى الليلة التي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بالسير فيها إلى مكة - وقريش في أنديتها2 إذ صرخ صارخ من أعلى أبي قبيس3 بصوت أسمع أهل مكة بعيدهم ودانيهم وهو يقول: هبوا فأخبركم مَنّى صحابته ... سيروا إليه وكونوا معشراً كرما بعد الطواف وبعد السعي في مهل ... وأن يجوِّزهم من مكة الحَرَما شاهت وجوهكم من معشر نكل ... لا ينصرون إذا ما حاربوا صنما فما هو إلا أن سمع القوم ذلك حتى ارتجت مكة و "قال"4 أبو سفيان في جماعة من أشراف قريش، منهم عكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو وصفوان بن أمية في جماعة منهم فاجتمعوا عند الكعبة، وتعاقدوا ألا تدخل عليهم مكة في عامهم هذا، وتركتهم يجمعون لك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا الهاتف الذي سمعت سَلْفَع شيطان الأصنام يوشك أن يقتله إن شاء الله، فسر إلى مكة فلتسمع أخبار قريش وانظر ما هو فاعلون، ثم تعود إلي يكسبك الله بذلك أجراً". قال: فرجع بشر بن سفيان إلى مكة فبينا هو يطوف بالبيت إذ رأته قريش فهتفت به فجاءهم فقالوا له: يا بشر هل عندك علم من محمد أتراه يريد الدخول إلى مكة في عامه؟ فقلت: إنما أنا كواحد منكم ولقد سمعت الهاتف الذي هتف بكم يؤذنكم بذلك وما أرى ذلك حقاً، قالوا: بلى يا بشر إنه لكائن، هذا هُبَلْ حركنا لنصرته، والمحاماة عليه، وما جربنا عليه كذباً قط، وليعلمن محمد إن جاءنا أنها الفيصل
بيننا وبينه، قال: فبينما هم كذلك إذ سمعوا من أعلى الجبل صوتاً وهو يقول: شاهت وجوه رجال حالفوا صنما ... وخاب سعيهم ما أقصر الهمما ما خير في حجر لا يستجيب لهم ... إذا دعوا حوله ولا هم صمما إني قتلت عدو الله سلفعة ... شيطان أوثانكم سحقاًً لمن ظلما وقد أتاكم رسول الله في نفر ... وكلهم محرم لا يسفكون دما1 هذا الحديث قد ذكره ابن حجر في الإصابة2 - عند ترجمة بشر بن سفيان العتكي - مختصراً. وكذلك ذكره السيوطي3 والزرقاني4 مختصراً. والحديث ضعيف جداً وربما كان موضوعاً، فإن في سنده شيخ الخرائطي عبد الله بن محمد البلوي، وشيخ البلوي عمارة بن زيد، وقد رمي كل منهما بوضع الحديث. وقد ورد في هذا الحديث أن اسم الرجل - الذي بعثه النبي صلى الله عليه وسلم عيناً إلى مكة - "بشر بن سيفيان العتكي". والعتكي: نسبة إلى العتيك بن الأسد بن عمران بن عمرو بن مزيقيا ابن عامر ماء السماء بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن ابن الأزد5. وهذا مغاير لما في حديث المسور ومروان فإن فيه: "الخزاعي" و"الكعبي" وقد بينت أن كلا النسبتين إلى قبيلة كعب التي تنتسب إلى كعب بن عمرو بن ربيعة - وهو لحي - بن حارثة بن عمرو بن عامر بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن ابن الأزد6.
والعتيك وكعب كلاهما من الأزد، ويجمعهما الجد الخامس وهو "عامر بن حارثة" لكن النسبة إلى أحدهما تغاير النسبة إلى الأخر. ولعله وقع تحريف في حديث ابن عباس عند الخرائطي، فحرفت نسبة الرجل من "الكعبي" إلى "العتكي". لكن صنيع ابن حجر يوهم أنهما رجلان، فقد عقد ترجمة باسم "بسر بن سفيان" الخزاعي"1 وأشار إلى انه المذكور في حديث الحديبية، ثم عقد ترجمة باسم "بشر بن سفيان العتكي"2 وذكر معه حديث الخرائطي هذا عن ابن عباس. ولعل ابن حجر اعتمد في إثبات هذه الترجمة على حديث الخرائطي هذا، والحقيقة أنه حديث واه جداً لا يعتمد عليه في شيء وقد سبق بيان علته.
الفصل الخامس: إرسال النبي صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه إلى غيقة وقصة أبي قتادة رضي الله عنه
الفصلُ الخامسُ: إرسالُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لبعضِ أصحابِه إلى غيقةَ وقصةُ أبي قتادةَ رضيَ الله عنهُ ورد في حديث أبي قتادة عند البخاري وغيره إشارة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل بعض أصحابه إلى جهة غيقة، ولم أر أحداً من أهل المغازي أو غيرهم تعرض لهذه الحادثة بقليل أو كثير اللهم إلا إلماحة سريعة من ابن حجر حيث قال: "وحاصل القصة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج في عمرة الحديبية فبلغ الروحاء1 - وهي من ذي الحليفة على أربعة وثلاثين ميلاً - أخبره بأن عدواً من المشركين بوادي غيقة2 يخشى منهم أن يقصدوا غرته فجهر طائفة من أصحابه فيهم أبو قتادة إلى جهتهم ليأمن شرهم، فلما أمنوا ذلك لحق أبو قتادة وأصحابه بالنبي صلى الله عليه وسلم فأحرموا إلا هو فاستمر حلالاً"3 ا. هـ ذكر ابن حجر أن هذا ملخص القصة، لكنه لم يشر إلى المصدر الذي استفادها منه ولم أجد إلى الآن شيئاً عن هذه الحادثة سوى ما ذكر، ولعله ورد عنها تفصيل أكثر في رواية المطلب عند سعيد بن منصور، فقد ذكر ابن حجر طرفاً منها حيث قال: "وبين المطلب مكان صرفهم ولفظه": "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا بلغنا الروحاء"4 ا. هـ
وقد جاءت الإشارة إلى هذه القصة - كما أسلفت في بعض طرق حديث أبي قتادة من رواية ابن عبد الله عنه وهي: (أ) طريق يحيى بن أبي كثير عن عبد الله بن أبي قتادة: يشير فيه إلى وصول خبر العدو إلى النبي صلى الله عليه وسلم. (38) قال البخاري: حدثنا معاذ بن فضالة حدثنا هشام عن يحيى عن عبد الله بن أبي قتادة قال: "انطلق أبي عام الحديبية فأحرم أصحابه ولم يحرم، وحدث النبي صلى الله عليه وسلم أن عدواً من المشركين يغزوه، فانطلق النبي صلى الله عليه وسلم فبينما أنا مع أصحابه يضحك بعضهم إلى بعض، فنظرت فإذا أنا بحمار وحش، فحملت1 عليه فطعنته فأثبته2 واستعنت بهم فأبوا أن يعينوني، فأكلنا من لحمه وخشينا أن نقتطع3، فطلبت النبي صلى الله عليه وسلم أرفع4 فرسي شأواً5 وأسير شأواً فلقيت رجلاً من بني غفار في جوف الليل فقلت أين تركت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: تركته بتعهن6 وهو قائل7 السقيا8، فقلت يا رسول الله إن أهلك يقرأون عليه السلام ورحمة الله، وإنهم قد خشوا أن يقتطعوا دونك فانتظرهم، قلت: يا رسول الله أصبت حمار وحش وعندي منه فاضله فقال: "للقوم كلوا وهم محرمون"9. هذا الحديث أخرجه البخاري هنا بصورة الإرسال لأن عبد الله بن أبي قتادة لم يشهد القصة10. ومن هذا الوجه أخرجه مسلم11 وأحمد12 وزادا تسمية الموضع الذي فيه
العدو فعندهما: "وحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عدواً بغيقة ... ". وأخرجه مسلم1 أيضاً من طريق عبد العزيز بن رفيع عن عبد الله بن أبي قتادة بصورة الإرسال. وقد أخرجه البخاري من طرق أخرى وفيها تصريح عبد الله بسماعه من أبيه: فأخرجه من طريق علي بن المبارك عن يحيى بن أبي كثير به يقول فيه: "أن أباه حدثه" وأشار فيه إلى موضع العدو وإرسال النبي صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه إليهم. (39) قال: حدثنا سعيد بن الربيع حدثنا علي بن المبارك عن يحيى ابن عبد الله بن أبي قتادة أن أباه حدثه قال: "انطلقنا مع النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، فأحرم أصحابه ولم أحرم، فأنبئناه بعدو بغيقة فتوجهنا نحوهم فبصر أصحابي بحمار وحش فجعل بعضهم يضحك إلى بعض، فنظرت فرأيته فحملت عليه ... "2 الحديث بنحوه. وأخرجه من طريق عثمان بن موهب وأشار فيه إلى الطريق الذي سلكوه إلى العدو: قال: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبو عوانة حدثنا عثمان بن موهب قال: أخبرني عبد الله بن أبي قتادة أن أباه أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج حاجاً فخرجوا معه فصرف طائفة منهم فيهم أبو قتادة فقال: خذوا ساحل البحر، فلما انصرفوا أحرموا كلهم إلا 3 أبو قتادة لم يحرم، فبينما هم يسيرون إذ رأوا حمر وحش فحمل أبو قتادة على الحمر فعقر منها أتاناً4 فنزلوا فأكلوا من لحمها، وقالوا: أنأكل لحم صيد ونحن محرمون؟ فحملنا ما بقي من لحم الأتان، فلما أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: "يا رسول الله إنا كنا أحرمنا وقد كان أبو قتادة لم يحرم فرأينا حمر وحش فحمل عليها أبو قتادة فعقر منها أتاناً فنزلنا فأكلنا من لحمها ثم قلنا: أنأكل لحم صيد ونحن محرمون فحملنا ما بقي من لحمها، قال: منكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها؟ قالوا: لا، قال:
فكلوا ما بقي من لحمها"1. وأخرجه مسلم2 والبيهقي3 من طريق عثمان بن موهب به بنحوه، وعند البيهقي: "حاجاً أو معتمراً". وأخرجه النسائي4 من طريق عثمان أيضاً إلا أنه لم يشر إلى ذهابهم من طريق الساحل. هذه بعض طرق حديث أبي قتادة التي تطرقت لقصة غيقة، وهي طرق لرواية عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه، وقد جاءت أيضاً رواية لعبد الله من طريق أبي حازم، وروى الحديث عن أبي قتادة أيضاً غير عبد الله لكن لم يرد في شيء منها ذكره لقصة غيقة، لكن لا بأس من الإشارة إلى تخريجها لأنها تعرضت لقصة أبي قتادة بمعنى الروايات السابقة. 1 - فطريق أبي حازم لرواية عبد الله بن أبي قتادة أخرجها البخاري من طريق فضيل5 بن سليمان، وفليح6 بن سليمان، ومحمد7 بن جعفر كلهم عن أبي حازم به. وأخرجه مسلم8 من طريق فضيل بن سليمان عن أبي حازم به. 2 - رواية نافع مولى أبي قتادة عن أبي قتادة: أخرجها: البخاري9، ومسلم10، وأبو داود11، والنسائي12، والترمذي13، كلهم
من طريق مالك عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله عن نافع عن أبي قتادة. وأخرجها البخاري من طريق عمرو1 بن الحارث عن أبي النضر عن نافع وصالح مولى التوأمة كلاهما عن قتادة. وأخرجها البخاري2 ومسلم3 من طريق صالح بن كيسان عن نافع عن أبي قتادة. 3 - رواية عطاء بن يسار عن أبي قتادة: أخرجها البخاري4 ومسلم5 والترمذي6 كلهم من طريق مالك عن زيد ابن أسلم عن عطاء عن أبي قتادة. وقد وردت قصة أبي قتادة في حديث أبي سعيد الخدري عند البزار وغيره بسياق آخر: (40) قال البزار: حدثنا محمد7 بن عثمان العقيلي وإسماعيل8 بن بشر ابن منصور السليمي قالا: ثنا عبد الأعلى9 بن عبد الأعلى عن عبيد الله10 بن عمر
عن عياض1 بن عبد الله بن سعد عن أبي سعيد2 الخدري قال: "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا قتادة الأنصاري على الصدقة وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابة محرمين حتى نزلوا عسفان، فإذا هم بحمار وحش وجاء أبو قتادة وهو حل فنكسوا رؤوسهم كراهية أن يُبِدُّوا3 أبصارهم فيعلم، فرآه أبو قتادة فركب فرسه وأخذ الرمح فسقط منه الرمح، فقال: ناولونيه، فقالوا: ما نعينك عليه فحمل عليه فعقره فجعلوا يشوون منه، ثم قالوا: رسول الله بين أظهرنا وكان تقدمهم فلحقوه فسألوه فلم ير به بأساً، قال: فأحسبه قال: هل معكم منه شيء شك عبيد الله"4. قال البزار: "لا نعلم أسند عبيد الله عن عياض إلا هذا ولا عنه إلا عبيد الله"5. وأخرجه ابن حبان6 من طريق محمد بن عثمان العقيلي به نحوه وزاد "بعسفان بثنية7 الغزال". وأخرجه الطحاوي8 من طريق عياش9 بن الوليد الرقام ثنا عبد الأعلى به نحوه. الحديث صحيح رجاله كلهم رجال الصحيحين إلا شيخي البزار العقيلي والسليمي، وقال ابن حجر عن كل منهما صدوق، وتابعهما عياش بن الوليد في شيخهما عبد الأعلى، وعياش ثقة روى له البخاري.
تنبيه: وقد جاء في حديث أبي سعيد هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا قتادة الأنصاري على الصدقة بينما في حديث أبي قتادة السابق: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه إلى العدو الذي أتاه خبره جهة غيقة. وقد جمع بين هذا الاختلاف صاحب الأوجز: حيث قال: "والأوجه عندي أن أبا قتادة لم يخرج معه صلى الله عليه وسلم بل بعثه أهل المدينة إليه ليعلمه أن بعض العرب يقصدون الإغارة فلحقه صلى الله عليه وسلم قبل الروحاء فبعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى ساحل البحر لكشف العدو، فالتقوا معه بالقاحة ثم بعثه صلى الله عليه وسلم لأخذ الصدقة لأنه لم يكن محرماً فرجع بعسفان جمعاً بين الروايات" ا. هـ1
الفصل السادس: ما حدث للمسلمين بعسفان
الفصل السادس: ما حدث للمسلمين بعسفان المبحث الأول: عين رسول الله صلى الله عليه وسلم الخزاعي يوافيه بخبر قريش ... المبحث الأول: عين رسول الله صلى الله عليه وسلم الخزاعي يوافيه بخبر قريش: كان النبي صلى الله عليه وسلم قد بعث بسر بن سفيان الكعبي الخزاعي من ذا الحليفة عيناً له إلى مكة، فسار بسر إلى قريش يتحسس أخبارهم ونواياهم إزاء المسلمين، وبعد أن وقف على أخبارهم وافى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعسفان. ففي حديث المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم من طريق سفيان عند البخاري: "فلما أتى ذا الحليفة قلد الهدي وأشعره وأحرم منها بعمرة، وبعث عيناً له من خزاعة، وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بغدير الأشطاط، أتاه عينه قال: إن قريشاً جمعوا لك جموعاً وقد جمعوا لك الأحابيش1 وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت ومانعوك، فقال: أشيروا أيها الناس علي، أترون أن أميل إلى عيالهم وذراري هؤلاء الذين يريدون أن يصدونا عن البيت، فإن يأتونا كان الله عز وجل قد قطع عيناً من المشركين، وإلا تركناهم محروبين2، فقال أبو بكر: يا رسول الله خرجت عامداً لهذا البيت لا تريد قتل أحد ولا حرب أحد، فتوجه له فمن صدنا عنه قاتلناه، قال: امضوا على اسم الله"3. وفي حديثهما من طريق ابن إسحاق عند أحمد: "وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بعسفان لقيه بشر بن سفيان الكعبي
فقال: يا رسول الله هذه قريش قد سمعت بمسيرك فخرجت معها العوذ1 المطافيل قد لبسوا جلود النمور، يعاهدون الله أن لا تدخلها عليه عنوة2 أبداً، وهذا خالد بن الوليد في خيلهم قد قدموا إلى كراع الغميم3 قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا ويح قريش، لقد أكلتهم الحرب، ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر الناس، فإن أصابوني كان الذي أرادوا وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام، وهو وافرون وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة، فما تظن قريش، والله إني لا أزال أجاهدهم على الذي بعثني الله له حتى يظهره الله، أو تنفرد هذه السالفة"4"5. وفي مرسل عروة من طريق ابنه هشام: "فخرج رسول الله حتى إذا كان بعسفان لقيه رجل من بني كعب، فقال يا رسول الله: إنا تركنا قريشاًَ وقد جمعت لك أحابيشها تطعمها الخزير6 يريدون أن يصدوك عن البيت، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا تبرز من عسفان لقيهم خالد بن الوليد طليعة لقريش فاستقبلهم على الطريق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هاهنا فأخذ بين سورعتين يعني - شجرتين - فمال عن ستر الطريق حتى نزل الغميم فلما نزل الغميم خطب الناس فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال أما بعد: فإن قريشاً قد جمعت لكم ... " وذكر نحو حديث المسور ومروان إلى أن قال: "فقال المقداد7 وهو في رحله: إنا والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لنبيها إذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون"8.
المبحث الثاني: صلاة الخوف بعسفان
المبحث الثاني: صلاة الخوف بعسفان: جاء في حديث أبي عياش الزرقي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بعسفان صلاة الخوف، لكن لم يرد فيه تحديد الغزوة التي صلى فيها، وحيث إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل عسفان في أكثر من غزوة فقد وقع خلاف في تعيين الغزوة التي صلى فيها تلك الصلاة. وسأورد حديث أبي عياش ثم أذكر الخلاف مع الترجيح إن شاء الله: (41) قال أبو داود: حدثنا سعيد1 بن منصور حدثنا جرير2 بن عبد الحميد عن منصور3 عن مجاهد بن أبي عياش4 الزرقي قال: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعسفان وعلى المشركين خالد بن الوليد فصلينا الظهر، فقال المشركون: لقد أصبنا غرة لقد أصبنا غفلة لو كنا حملنا عليهم وهم في الصلاة، فنزلت آية القصر بين الظهر والعصر فلما حضرت صلاة العصر قام رسول الله صلى الله عليه وسلم مستقبل القبلة، والمشركون أمامه فصف خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم صف، وصف بعد ذلك الصف صف آخر، فركع رسول الله صلى الله عليه وسلم وركعوا جميعاً، ثم سجد وسجد الصف الذي يلونه وقام الآخرون يحرسونهم فلما صلى هؤلاء السجدتين وقاموا سجد الآخرون الذين كانوا خلفهم ثم تأخر الصف الذي يليه إلى مقام الآخرين، وتقدم الصف الأخير إلى مقام الصف الأول، ثم ركع رسول الله صلى الله عليه وسلم وركعوا جميعاً، ثم سجد وسجد الصف الذي يليه، وقام الآخرون يحرسونهم، فلما جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم والصف الذي يليه سجد الآخرون ثم جلسوا جميعاً فسلم عليهم جميعاً فصلاها بعسفان، وصلاها يوم بني سليم5. هذا الحديث لم يروه فيما أعلم عن أبي عياش غير مجاهد، ولا عن مجاهد إلا منصور بن المعتمر، ورواه عن منصور عدة رواة هم:
(1) جرير بن عبد الحميد: أخرجه عنه سعيد1 بن منصور، وأخرجه من طريقه الحاكم2 والطبراني3 والبيهقي4. (2) سفيان الثوري5: أخرجه عنه عبد الرزاق6، وأخرجه من طريقه أيضاً أحمد7 والطحاوي8 والطبراني9. (3) ورقاء بن عمرو اليشكري10: أخرجه عنه أبو داود الطيالسي11، وأخرجه من طريقه أيضاً الطبراني12 والبيهقي13. (4) شعبة بن الحجاج: أخرجه من طريقه أحمد14 والنسائي15 والطبراني16. (5) عبد العزيز بن عبد الصمد17:
أخرجه من طريقه النسائي1. (6) شيبان بن عبد الرحمن النحوي2: أخرجه من طريقه ابن جرير3. (7) زائدة بن قدامة4: أخرجه من طريقه الطبراني5. (8) علي بن صالح بن حي6: أخرجه من طريقه الطبراني7. (9) جعفر بن الحارث8 الواسطي: أخرجه من طريقه الطبراني9. (10) إسرائيل بن يونس10: أخرجه من طريقه الطبراني11. (11) داود بن عيسى الكوفي: وفي روايته صرح مجاهد بالسماع من أبي عياش الزرقي:
أخرجه من طريقه الطبراني1. والحديث صحيح بسند أبي داود، فرجاله رجال الصحيح لكن مجاهداً لم يصرح بالسماع من أبي عياش، وقد أنكر بعض العلماء سماعه من أبي عياش، ورماه بالتدليس: فقد نقل العلائي2 عن الترمذي قوله: لا يعرف سماع مجاهد من أبي عياش الزرقي. وذكر ابن حجر أن القطب الحلبي حكى عن الترمذي قوله في العلل: ومجاهد معلوم التدليس فعنعنته لا تفيد الوصل". ثم تعقبه ابن حجر بقوله: "ولم أر من نسبه إلى التدليس، نعم إذا ثبت قول ابن معين أن قول مجاهد: خرج علينا علي ليس على ظاهره، فهو عين التدليس، إذ هو معناه اللغوي وهو الإبهام والتغطية، وقد قال ابن خراش أحاديث مجاهد عن على مراسيل بم يسمع منه شيئاً"3 ا. هـ قلت: وإن ثبت عن مجاهد التدليس فقد أمن تدليسه هنا؛ لأن الطبراني4 قد أخرج الحديث من طريق صرح فيه مجاهد بالسماع من أبي عياش وفي سند الطبراني بكر بن سهل الدمياطي، ضعفه النسائي، وقال الذهبي: مقارب الحال5. وشيخ الطبراني داود بن عيسى الكوفي: لم أقف على ترجمته. لكن البيهقي أخرج الحديث ثم قال: وهذا إسناد صحيح وقد رواه قتيبة بن سعيد عن جرير فذكر فيه سماع مجاهد من أبي عياش6 ا. هـ ولم يذكر البيهقي السند كاملاً لكن ذكر الزيلعي أن البيهقي أخرجه في المعرفة بلفظ "حدثنا أبو عياش"، قال: وفي هذا تصريح بسماع مجاهد من أبي عياش7. وقد حكى المنذري عن البيهقي أنه قال: "هذا الإسناد صحيح إلا أن بعض أهل العلم يشك في سماع مجاهد من أبي عياش، ثم ذكر أن البيهقي أخرجه بإسناد جيد عن
مجاهد قال حدثنا أبو عياش، ثم قال المنذري: وسماعه منه متوجه؛ فإنه ذكر ما يدل على أن مولد مجاهد سنة عشرين وعاش أبو عياش إلى بعد الأربعين، وقيل إلى بعد الخمسين"1 ا. هـ وقد صحح هذا الحديث الحاكم2، ووافقه الذهبي3، وقال البيهقي4: "هذا إسناد صحيح". وكذلك قال ابن كثير:5 "هذا إسناد صحيح وله شواهد" ا. هـ، وقال ابن حجر في ترجمة أبي عياش: "روى عن النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف، أخرج حديثه أبو داود والنسائي بسند جيد"6. وقد أفاد حديث أبي عياش هذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بعسفان صلاة الخوف؛ لكنه لم يسم الغزوة التي صلى فيها، وحيث إن رسول الله قد نزل بعسفان في غزوة بني لحيان وفي غزوة الحديبية، فقد وقع خلاف في تحديد الغزوة التي صلى فيها تلك الصلاة. فقد أورد ابن كثير حديث أبي عياش في غزوة بني لحيان، ثم قال: "وفي سياق حديث أبي عياش الزرقي ما يقتضي أن آية صلاة الخوف نزلت في هذه الغزوة يوم عسفان فاقتضى ذلك أنها أول صلاة خوف صلاها والله أعلم"7 ا. هـ وقد تابع ابن كثير على ذلك الساعاتي حيث قال: "وعسفان أول غزوة شرعت فيها صلاة الخوف ويقال لها: غزوة بني لحيان، وسببها ما نقله ابن كثير في تاريخه"8. ويظهر من كلام صاحب المنهل العذب المورد، أنه قد تابع ابن كثير أيضاً على ذلك، فقد ذكر أن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بعسفان كانت في جمادى الأولى سنة ست من الهجرة بعد الخندق وبني قريظة9.
وهذا التاريخ الذي حدد به هو تاريخ غزوة بني لحيان نقله ابن هشام1 وابن كثير2 عن ابن إسحاق. وذكر الواقدي3 وابن سعد4 وابن الجوزي5 أن صلاة الخوف بعسفان كانت في غزوة الحديبية، إلا أن ظاهر كلام ابن سعد يفيد أنها صلاة الظهر وهو مخالف لحديث أبي عياش. وقد نقل ابن حجر عن الواقدي انه روى بإسناده حديثاً عن خالد بن الوليد يصرح فيه بأن صلاة عسفان كانت في غزوة الحديبية ونصه: (42) عن خالد بن الوليد قال: "لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية لقيته بعسفان، فوقفت بإزائه وتعرضت له، فصلى الظهر بأصحابه أمامنا فهممنا أن نغير عليه، ثم لم يعزم لنا فأطلعه الله على ما في أنفسنا من الهم به، فصلى بأصحابه صلاة العصر صلاة خوف"6. الحديث. فهذه الرواية صرحت بأن الحادثة كانت في غزوة الحديبية، ومعنى الرواية عموماً متفق مع حديث أبي عياش إلا أنها زادت تحديد الغزوة، وهذه الزيادة وإن كانت ضعيفة من الناحية الحديثية، لأنها بدون سند، ولمجيئها من طريق الواقدي وهو متروك7 عند المحدثين، لكن يستأنس بها لأمرين: أولاً: لأنها في المغازي، وقد قال ابن حجر: "والواقدي إذا لم يخالف الأخبار الصحيحة ولا غيره من أهل المغازي، فهو مقبول عند أصحابنا"8. ولم يخالف هذا خبراً صحيحاً ولا خالف غيره من أهل المغازي، نعم خالفه ابن كثير، لكن ابن كثير انفرد بذلك وهو وهم منه رحمه الله وسيأتي بيانه إن شاء الله.
ثانياً: ورد ما يشهد لهذه الزيادة في حديث المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم من طريق ابن إسحاق عند أحمد ففيه ما نصه: "وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بعسفان، لقيه بشر بن سفيان الكعبي، فقال: يا رسول الله هذه قريش قد سمعت بمسيرك فخرجت معها العوذ المطافيل قد لبسوا جلود النمور يعاهدون الله ألا تدخلها عليهم عنوة أبداً، وهذا خالد بن الوليد في خيلهم قد قدموا إلى كراع الغميم"1. فهذه الرواية تفيد أمرين: الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل عسفان في غزوة الحديبية. الثاني: أن خالد بن الوليد خرج لملاقاة النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة. ولم يذكر أحداً من أهل المغازي أن خالد بن الوليد قد لقي النبي صلى الله عليه وسلم بهذا المكان في غير غزوة الحديبية. وقد رجح ابن حجر2 والكاندهلوي3 أيضاً على أن صلاة عسفان هذه كانت في غزوة الحديبية. وهذا هو الراجح عندي لما سبق من الأدلة. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يلق أحداً من كفار قريش في غزوة بني لحيان، كما ذكر ذلك أهل المغازي. قال ابن سعد بعد أن ذكر انصراف النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة بني لحيان: "ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عسفان فبعث أبا بكر في عشرة فوارس لتسمع به قريش فيذعرهم، فأتوا الغميم، ولم يلقوا كيداً"4. وذكر ابن إسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد منصرفه من غزوة بني لحيان: "نزل عسفان وبعث فارسين من أصحابه حتى بلغا كراع الغميم، ثم كرا وراح رسول الله صلى الله عليه وسلم قافلاً"5.
وذكر نحوه ابن كثير أيضاً1، وبهذا يتبين أن ما ذهب إليه ابن كثير وهم منه رحمه الله. تنبيه: يلاحظ أن ابن سعد ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عشرة فوارس بينما ذكر ابن إسحاق أنه بعث فارسين. وقد جمع بينهما الزرقاني: "بأنه صلى الله عليه وسلم بعث الفارسين أولاً، ثم بعث أبا بكر في العشرة أو عكسه"2.
المبحث الثالث: بيان أن ابتداء مشروعية صلاة الخوف كان في غزوة الحديبية
المبحث الثالث: بيان أن ابتداء مشروعية صلاة الخوف كان في غزوة الحديبية: ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الخوف في أكثر من غزوة، غير أنه لم يرد في شيء من النصوص الثابتة تعيين للغزوة التي صلى فيها صلاة الخوف أولاً. نعم ساق الواقدي بسنده حديثين: أحدهما حديث أبي عياش الزرقي في عسفان زاد في آخره ما نصه: "وذكر أبو عياش أنه أول ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف"1. وهذه الزيادة ضعيفة لأن الواقدي تفرد بها. (43) والحديث الثاني: حديث جابر رضي الله عنه قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أول صلاة خوف في غزوة ذات الرقاع، ثم صلاها بعد بعسفان بينهما أربع سنين2، ثم قال الواقدي عقب هذا الحديث: وهذا أبين عندنا. وهذا الحديث أيضاًَ ضعيف لمجيئه من طريق الواقدي. ثم إن هذا الحديث لا يتمشى مع تحديد الواقدي لزمن كل من ذات الرقاع والغزوة التي صلى فيها بعسفان: ذلك أنه جعل ذات الرقاع في السنة الخامسة،
وصلاة عسفان جعلها في غزوة الحديبية - وهو صحيح - وقد اتفق أهل المغازي وهو في جملتهم على أن غزوة الحديبية كانت سنة ست1، فكيف يقول:"بينهما أربع سنين"؟. ولعدم وجود نص ثابت صريح في تعيين الغزوة التي صلى فيها صلاة الخوف أول مرة، فقد وقع خلف في تحديد تلك الغزوة: فجمهور أهل المغازي يجعلون أول غزوة وقعت فيها صلاة الخوف هي غزوة ذات الرقاع2. والحقيقة أن أهل المغازي لم يصرحوا بأن صلاة الخوف بذات الرقاع أول صلاة وقعت - إلا ما ذكره الواقدي وقد بينا ضعفه - وإنما قدموا غزوة ذات الرقاع على غزوة الحديبية التي وقعت فيها صلاة عسفان فلزم من صنيعهم أن تكون صلاة الخوف بذات الرقاع أول صلاة وقعت، ولم يكن لأهل المغازي معتمد في تقديم ذات الرقاع، لذلك فقد اختلفوا في تحديد زمنها اختلافاً كبيراً. فعند ابن إسحاق3 أنها كانت في جمادى الأولى سنة أربع للهجرة. وذهب الواقدي4 وابن سعد5 وابن حبان6 إلى أنها في المحرم سنة خمس. وتردد موسى بن عقبة في زمنها فلا يدري أكانت قبل بدر أو بعدها أو قبل أحد أو بعدها7. وأما أبو معشر السندي فيرى أنها بعد بني قريظة والخندق8.
وذهب البخاري1 - وتبعه ابن القيم2 وابن كثير3 وابن حجر4 - إلى أن غزوة ذا الرقاع متأخرة عن غزوة الحديبية، بل وعن غزوة خيبر، وبذلك تكون صلاة عسفان أول صلاة وقعت لأنها في غزوة الحديبية، كما سبق بيانه. وما ذهب إليه البخاري ومن تبعه متعين لما يلي: أولاً: ورد في صحيح البخاري أن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه شهد غزوة ذات الرقاع: (44) قال البخاري: حدثنا محمد بن العلاء حدثنا أبو أسامة عن بريد بن عبد الله بن أبي بردة عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: "خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة ونحن ستة نفر بيننا بعير نتعقبه فنقبت5 أقدامنا، ونقبت قدماي وسقطت أظفاري فكنا نلف على أرجلنا الخرق، فسميت ذات الرقاع لما كنا نعصب من الخرق على أرجلنا"6. وقد جاء في حديث آخر أن أبا موسى رضي الله عنه لم يصحب النبي صلى الله عليه وسلم إلا بعد فتح خيبر ونصه: (45) قال البخاري: حدثني إسحاق بن إبراهيم سمع حفص بن غياث حدثنا بريد بن عبد الله عن أبي بردة عن أبي موسى قال: "قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن افتتح خيبر فقسم لنا ولم يقسم لأحد لم يشهد الفتح غيرنا"7. وإذا كان أبو موسى الأشعري رضي الله عنه قد شهد الغزوة كما في الحديث الأول، ولم يلق النبي صلى الله عليه وسلم إلا بعد فتح خيبر كما في الحديث الثاني، فيلزم من ذلك تأخر غزوة ذات الرقاع عن خيبر، وإذا كانت بعد خيبر فهي بعد الحديبية من باب أولى. ثانياً: جاء في حديث عند أبي داود أن أبا هريرة شهد هذه الغزوة:
(46) قال أبو داود: حدثنا الحسن1 بن علي حدثنا أبو عبد الرحمن2 المقري حدثنا حيوة3 وابن لهيعة4 قالا: أخبرنا أبو الأسود5 أنه سمع عروة بن الزبير يحدث عن مروان بن الحكم أنه سأل أبا هريرة هل صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف؟ قال أبو هريرة: نعم، قال مروان: متى؟ فقال أبو هريرة: عام غزوة نجد ... 6 ثم ذكر صفة صلاتهم. سند هذا الحديث صحيح، فهو من رواية أحد العبادلة عن ابن لهيعة7، وقد جاء أيضاً مقروناً بحيوة بن شريح المصري، وهو ثقة ثبت كما قال ابن حر، وبقية رجاله ثقات. وأخرجه أبو داود من وجه آخر، وصرح فيه باسم الغزوة. (47) قال أبو داود: حدثنا محمد8بن عمرو الرازي حدثنا سلمة9 حدثني محمد10 بن إسحاق عن محمد11 بن جعفر بن الزبير، ومحمد12 بن الأسود عن عروة بن الزبير عن أبي هريرة قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نجد حتى إذا كنا بذات الرقاع من نخل، لقي جمعاً من غطفان ... " 13 الحديث. هذا الحديث حسن في سنده سلمة بن الفضل متكلم فيه ضعفه النسائي، ووثقة ابن معين وابن سعد، وهذا الحديث من روايته عن ابن إسحاق وقد قال عنه
ابن جرير: ليس من لدن بغداد إلى أن يبلغ خراسان أثبت في ابن إسحاق من سلمة بن الفضل1. وفيه أيضاً ابن إسحاق لم يصرح بالسماع لكن يشهد له الحديث السابق. فهذان الحديثان أفادا أن أبا هريرة شهد غزوة ذات الرقاع مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبو هريرة رضي الله عنه لم يصحب النبي صلى الله عليه وسلم إلا بعد فتح خيبر كما في الحديث الآتي: (48) قال الإمام أحمد: حدثنا عفان2 حدثنا وهيب3 ثنا خثيم4 - يعني ابن عراك - عن أبيه5 أن أبا هريرة قدم المدينة في رهط من قومه والنبي صلى الله عليه وسلم بخيبر وقد استخلف سباع بن عرفطة على المدينة قال: "فانتهيت إليه وهو يقرأ في صلاة الصبح في الركعة الأولى بكهيعص، وفي الثانية ويل للمطففين، قال: فقلت ويل لفلان إذا اكتال اكتال بالوافي، وإذا كال كال بالناقص، قال: فلما صلى زودنا شيء حتى أتينا خيبر وقد افتتح النبي صلى الله عليه وسلم خيبر قال: فكلم النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين فأشركونا في سهامهم"6. هذا الحديث حسن في سنده خثيم مختلف فيه، وثقه النسائي وابن حبان، وقال العقيلي: "ليس به بأس"، وقال الأزدي: "منكر الحديث"7 وقد رجح الذهبي8 توثيقه حيث رمز له بـ (صح) . وإذا تقرر أن أبا هريرة رضي الله عنه لم يلق النبي صلى الله عليه وسلم إلا بعد فتح خيبر كما أفاد
هذا الحديث وقد شهد غزوة ذات الرقاع كما في الحديثين السابقين فشهوده لها دليل ظاهر على تأخرها عن الحديبية وخيبر. (49) ثالثاً: قال البخاري: قال عبد الله بن رجاء أخبرنا عمران القطان عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه في الخوف في غزوة السابعة غزوة ذات الرقاع"1. هذا الحديث أورده البخاري معلقاً لكن بصيغة الجزم، وقد وصله أبو العباس السراج في مسنده وسمويه في فوائده2. قال ابن حجر في معرض كلامه على الحديث: "في التنصيص على أنها سابع غزوة من غزوات النبي صلى الله عليه وسلم تأييد لما ذهب إليه البخاري من أنها كانت بعد خيبر، فإنه إن كان المراد الغزوات التي خرج النبي صلى الله عليه وسلم فيها مطلقاً وإن لم يقاتل فإن السابعة منها تقع قبل أحد، ولم يذهب أحد إلى أن ذات الرقاع قبل أُحد إلا ما تقدم من تردد موسى بن عقبة، وفيه نظر، لأنهم متفقون على أن صلاة الخوف متأخرة عن غزوة الخندق، فتعيين أن تكون ذات الرقاع بعد بني قريظة، فتعين أن المراد الغزوات التي وقع فيها القتال، والأولى منها بدر والثانية أحد، والثالثة الخندق، والرابعة قريظة، الخامسة المريسيع، والسادسة خيبر، فيلزم أن تكون ذات الرقاع بعد خيبر للتنصيص على أنها السابعة، فالمراد تاريخ الوقعة لا عدد المغازي وهذه العبارة أقرب إلى إرادة السنة من العبارة التي وقعت عند أحمد بلفظ: "وكانت صلاة الخوف في السابعة" فإنه يصح أن يكون التقدير: في الغزوة السابعة كما يصح في غزوة السنة السابعة"3 انتهى. قلت: قد وقع عند أحمد التصريح بالسنة عن جابر ونصه: "غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم ست مرات قبل صلاة الخوف وكانت صلاة الخوف في السنة السابعة"4. لكن في سنده ابن لهيعة، وهو متكلم فيه. وقد تبين لنا من قصة أبي موسى الأشعري وأبي هريرة رضي الله عنهما ومن
جابر بن عبد الله رضي الله عنهما رجحان القول بتأخر غزوة ذات الرقاع عن غزوة الحديبية، فتكون صلاة الخوف في غزوة الحديبية أول صلاة وقعت. وقد قال بعضهم إن غزوة ذات الرقاع وقعت أكثر1 من مرة، وأن التي صليت فيها صلاة الخوف غير التي شهدها أبو موسى رضي الله عنه، وهذا القول مردود لشهود أبي هريرة غزوة ذات الرقاع، وقد ذكر أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف فيها، وإنما صحب النبي صلى الله عليه وسلم بعد فتح خيبر كما سبق بيانه. وقد رد ابن القيم رحمه الله القول بتعدد الغزوة: فقد أورد حديث أبي موسى وأبي هريرة رضي الله عنهما ثم قال: "وهذا يدل على أن غزوة ذات الرقاع بعد خيبر، وأن من جعلها قبل الخندق فقد وهم وهماً ظاهراً ولما لم يفطن بعضهم لهذا ادعى أن غزوة ذات الرقاع كانت مرتين، فمرة قبل الخندق، ومرة بعدها على عادتهم في تعديد الوقائع إذا اختلفت ألفاظها، أو تاريخها ولو صح لهذا القائل ما ذكر ولا يصح، لم يمكن أن يكون قد صلى بهم صلاة الخوف في المرة الأولى لما تقدم من قصة عسفان وكونها بعد الخندق، ولهم أن يجيبوا عن هذا بأن تأخير يوم الخندق جائز غير منسوخ وأن في حال المسايفة يجوز تأخير الصلاة إلى أن يتمكن من فعلها، وهذا أحد القولين في مذهب أحمد رحمه الله، لكن لا حيلة لهم في قصة عسفان أن أول صلاة صلاها للخوف بها، وأنها بعد الخندق"2 ا. هـ قلت: جزم ابن القيم رحمه الله هنا أن أول صلاة صلاها النبي صلى الله عليه وسلم للخوف هي صلاة عسفان، وكأنه اعتمد في ذلك على ما في حديث أبي عياش من أن آية صلاة الخوف نزلت في شأن صلاة عسفان، وهو دليل ظاهر، وصلاة عسفان هذه وقعت في غزوة الحديبية كما سبق بيانه"3.
المبحث الرابع: تنبية على أحاديث أوردت في صلاة عسفان وبيان وجه مغايرتها
المبحث الرابع: تنبية على أحاديث أوردت في صلاة عسفان وبيان وجه مغايرتها ... المبحث الرابع: تنبيه على أحاديث وردت في صلاة عسفان وبيان وجه مغايرتها: هناك أحاديث ذكرت فيها صفة صلاة الخوف، بعضها يتفق مع حديث أبي عياش في كيفية الصلاة، وبعضها يتفق معه في المكان الذي صليت فيه تلك الصلاة، ولذلك حمل بعض العلماء تلك الأحاديث على قصة عسفان مع حديث أبي عياش بناء على اتحاد القصة. وبعد النظر والتأمل في تلك الأحاديث ومقارنتها بحديث أبي عياش تبين لي أنها مغايرة لما في حديث أبي عياش، وسأورد تلك الأحاديث وأبين وجه مخالفتها لحديث أبي عياش إن شاء الله. أولاً: حديث جابر رضي الله عنه: قال مسلم: حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس، حدثنا زهير حدثنا أبو الزبير عن جابر قال: "غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قوماً من جهينة فقاتلونا قتالاً شديداًَ، فلما صلينا الظهر قال المشركون لو ملنا عليهم لاقتطعناهم1، فأخبر بذلك جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وقالوا: إنهم ستأتيهم صلاة هي أحب إليهم من الأولاد، فلما حضرت العصر، قال: صففنا صفين والمشركون بيننا وبين القبلة، قال: فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكبرنا وركع فركعنا، ثم سجد وسجد معه الصف الأول، فلما قاموا سجد الصف الثاني ثم تأخر الصف الأول، وتقدم الصف الثاني فقاموا مقام الأول، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكبرنا وركع فركعنا ثم سجد وسجد معه الصف الأول، وقام الثاني فلما سجد الصف الثاني ثم جلسوا جميعاً فسلم عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم"، قال أبو الزبير، ثم خص جابر أن قال كما يصلي أمراؤكم هؤلاء"2. هذه رواية أبي الزبير عن جابر عند مسلم وأخرجها أبو داود3 الطيالسي وزاد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه الظهر بنخل ... ".
وأخرجه مسلم1 من رواية عطاء عن جابر بمثله ولم يسم القوم الذين غزوهم. وقد ذكر ابن كثير2 وابن حجر3 هذا الحديث في قصة عسفان على أنه متحد مع ما في حديث أبي عياش الزرقي. والذي يظهر أن هذا الحديث يباين ما في حديث أبي عياش لأمور أهمها ما يلي: (1) في حديث جابر هذا: "غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قوماً من جهينة"، بينما في حديث أبي عياش: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعسفان وعلى المشركين خالد بن الوليد ... ". ولا شك أن هؤلاء المشركين هم كفار قريش، كما بينه حديث المسور ومروان بن الحكم من طريق ابن إسحاق عند أحمد فقد جاء فيه: "وهذه قريش قد سمعت بمسيرك فخرجت معها العوذ المطافيل قد لبسوا جلود النمور يعاهدون الله ألا تدخلها عليهم أبداً، وهذا خالد بن الوليد في خيلهم قد قدموا إلى كراع الغميم"4. فصلاة الخوف في حديث جابر بسبب قوم جهينة، وصلاة الخوف في حديث أبي عياش بسبب كفار قريش. (2) يقول جابر في حديثه: "فقاتلونا قتالاً شديداً"، ولم يثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتل أحداً من المشركين أثناء سيره لعمرة الحديبية. (3) يقول جابر في حديثه: "فلما صلينا الظهر قال المشركون لو ملنا عليهم لاقتطعناهم فأخبر جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم". ويقول أبو عياش في حديثه: "فصلينا الظهر فقال المشركون لقد أصبنا غزة لقد أصبنا غفلة، لو كنا حملنا عليهم وهم في الصلاة، فنزلت آية القصر بين الظهر والعصر. وبالتأمل في هذين النصين نستشف منهما تأخر قصة حديث جابر عن قصة
حديث أبي عياش وذلك أن حديث أبي عياش يفيد أن الآية التي بها شرعت صلاة الخوف نزلت في تلك الحادثة، وهو دليل على ابتداء مشروعية صلاة الخوف. أما حديث جابر فقد ذكر فيه أن جبريل أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما عزم عليه المشركون فقط فصلى صلاة الخوف وكأنه قد عرف حكمها قبل ذلك. ثانياً: حديث أبي هريرة رضي الله عنه: قال النسائي: أخبرنا العباس بن عبد العظيم قال: حدثني عبد الصمد ابن عبد الوارث قال: حدثني سعيد بن عبيد الهنائي قال: حدثنا عبد الله بن شقيق قال: حدثنا أبو هريرة قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نازلاً بين ضَجَنَان وعسفان محاصر المشركين فقال المشركون: أن لهؤلاء صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وأبكارهم، أجمعوا أمركم ثم ميلوا عليهم ميلة واحدة، فجاء جبريل عليه السلام فأمره أن يقسم أصحابه نصفين فيصلي بطائفة منهم وطائفة مقبلون على عدوهم قد أخذوا حذرهم وأسلحتهم، فيصلي بهم ركعة ثم يتأخر هؤلاء ويتقدم أولئك فيصلي بهم ركعة تكون لهم مع النبي صلى الله عليه وسلم ركعة ركعة، وللنبي ركعتان"1. وأخرجه الترمذي2 بنحوه، وقال هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه من حديث عبد الله بن شقيق عن أبي هريرة3. وقد أورد ابن القيم4 وابن كثير5 حديث أبي هريرة هذا مع حديث أبي عياش في قصة عسفان، وكأنهما يريان اتحاد القصة فيهما، وكذلك ذكر ابن حجر أنه متفق مع ما في حديث أبي عياش، وقد ظهر لي بعد إمعان النظر في الحديثين عدم اتحادهما لما يلي: (1) أن حديث أبي عياش يفيد أن كلتا الطائفتين ائتمت بالنبي صلى الله عليه وسلم في وقت واحد، إلا في حالة السجود ينتظر الصف الثاني حتى يرفع الأول من السجود، ثم يسجد بينما في حديث أبي هريرة صلى بكل طائفة على حدة.
(2) في حديث أبي عياش كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتان ولكل من الطائفتين ركعتان كذلك، بينما في حديث أبي هريرة: كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتان ولكل طائفة ركعة واحدة. (3) جاء في حديث أبي هريرة ما يفيد أن العدو كان لغير جهة القبلة وذلك في قوله: " فيصلي بطائفة منهم وطائفة مقبلون على عدوهم ... ". ثالثاً: يقول ابن حجر في التلخيص الحبير1: "حديث صلاته بعسفان متفق عليه من حديث سهل بن أبي حثمة، ورواه أبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم من حديث أبي عياش الزرقي" ا. هـ قلت: حديث أبي عياش الزرقي صريح بأنه في صلاة عسفان، أما حديث سهيل بن أبي حثمة فغير ظاهر في ذلك لاختلاف كيفية الصلاة فيه عنها في حديث أبي عياش الزرقي، وهذا نص حديث سهل بن أبي حثمة: قال البخاري: حدثنا مسدد حدثنا يحيى بن سعيد القطان عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن القاسم بن محمد عن صالح بن خوات عن سهل بن أبي حثمة قال: "يقوم الإمام مستقبل القبلة وطائفة منهم معه وطائفة من قبل العدو وجوههم إلى العدو، فيصلي بالذين معه ركعة ثم يقومون فيركعون لأنفسهم ركعة ويسجدون سجدتين في مكانهم، ثم يذهب هؤلاء إلى مقام أولئك فيجيء أولئك فيركع بهم ركعة فله ثنتان، ثم يركعون ويسجدون سجدتين"2. هكذا أخرجه البخاري موقوفاً على سهل، ومن هذا الوجه أخرجه مسلم3 وأبو داود4. وبالتأمل في صورة الصلاة في حديث سهل بن أبي حثمة نجدها تختلف عن صورة الصلاة في حديث أبي عياش بما يلي:
(1) في حديث أبي عياش كلتا الطائفتين ائتمت بالنبي صلى الله عليه وسلم في آن واحد، بينما في حديث سهل ائتمت طائفة بالنبي صلى الله عليه وسلم، والطائفة الأخرى وقفت تجاه العدو. (2) في حديث أبي عياش حصلت لكل من الطائفتين ركعتان مع النبي صلى الله عليه وسلم، أما في حديث سهل، فصلت كل طائفة ركعة واحدة مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم أتمت لنفسها الركعة الثانية. (3) في حديث أبي عياش أن العدو كان في جهة القبلة بخلاف حديث سهل فقد حمله الجمهور1 على أن العدو كان لغير جهة القبلة. ولعل حديث سهل في صفة صلاة غزوات ذات الرقاع؛ لأن صالح بن خوان الراوي عن سهل أخرج البخاري2 وغيره الحديث من طريقه يرويه عمن شهد غزوات ذات الرقاع فذكر صورة الصلاة في حديث سهل هذا. ومفهوم كلام ابن حجر في الفتح: أن حديث سهل بن أبي حثمة في صفة صلاة غزوات ذات الرقاع3. فلعل ما وقع في التلخيص الحبير وهم منه رحمه الله.
الفصل السابع: عدول المسلمين إلى الحديبية
الفصل السابع: عدول المسلمين إلى الحديبية المبحث الأول: المشاق التي عاناها المسلمون في طريقهم الى الحديبية ... المبحث الأول: المشاق التي عاناها المسلمون في طريقهم إلى الحديبية: كان خالد بن الوليد - في خيل المشركين - قد قطع طريق المسلمين إلى مكة، فليس أمام المسلمين - إن هم تقدموا في طريقهم ذلك - إلا خوض معركة محققة مع خيل خالد بن الوليد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصاً على تحاشي القتال مع قريش، ولذلك صرف أصحابه - بعد أن أمسى1 - إلى طريق آخر لا يمر على خيل خالد - أفضى بهم إلى ثنية أنزلتهم على الحديبية. (50) قال الطبراني: حدثنا عبد الله بن محمد بن شعيب الرجائي ثنا محمد2 بن معمر البحراني ثنا عبيد الله بن موسى (عن موسى) بن عبيدة عن عبد الله شيخ من أسلم3 عن جندب بن ناجية أو ناجية4 بن جندب، قال: "لما كنا بالغميم لقي رسول الله خبر قريش أنها بعثت خالد ابن الوليد في جريدة5 خيل يتلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلقاه، وكان بهم رحيماً، فقال: "من رجل يعدلنا عن الطريق؟ فقال: أنا بأبي أنت فأخذتهم في طريق قد كان بها حزنا6 فدافد7
وعقاب فاستوت بنا الأرض حتى أنزله على الحديبية، وهي نزح1 فألقى فيها سهماً أو سهمين من كناته ثم بصق فيها ثم دعا ففارت عيونها حتى إني لأقول أو نقول لو شئنا لاغترفنا بأيدينا"2. وذكر ابن حجر أن الحديث أخرجه الحسن بن سفيان في مسنده من طريق موسى بن عبيدة عن عبد الله عن عبد الله بن عمرو بن أسلم عن ناجية بن جندب قال: كنا بالغميم فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر قريش أنها بعثت خالد بن الوليد في جريدة خيل ... "3. وقال ابن حجر أيضاً: "ووقع لنا بعلو في المعرفة لابن منده، وكذا أخرجه ابن السكن" ا. هـ4 وذكر ابن حجر أنه ورد في رواية ابن منده وابن السكن "ناجية بن جندب أو جندب بن ناجية" بالشك5، مثل رواية الطبراني. والحديث أخرجه أبو نعيم6 من طريق الطبراني بسنده. وهذا حديث ضعيف لأن في سنده موسى بن عبيدة الربذي ضعيف، وقد أشار إلى ذلك الهيثمي7 وابن حجر8. (51) وقال البزار حدثنا إسحاق9 بن بهلول الأنباري حدثنا محمد10 ابن
إسماعيل بن أبي فديك عن هشام1 بن سعد عن زيد2 بن أسلم عن عطاء3 بن يسار عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بعسفان قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن عيون المشركين الآن على ضجنان4، فأيكم يعرف طريق ذات الحنظل5؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أمسى: هل من رجل ينزل فيسعى بين يدي الركاب6؟ فقال رجل: أنا يا رسول الله، فنزل فجعلت الحجارة تنكبه7 والشجر يتعلق بثيابه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اركب، ثم نزل آخر فجعلت الحجارة تنكبه والشجر يتعلق بثيابه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اركب، ثم وقعنا على الطريق حتى سرنا في ثنية يقال لها الحنظل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما مثل هذه الثنية إلا كمثل الباب الذي دخل فيه بنو إسرائيل قيل لهم: {ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ} 8،لا يجوز لأحد الليلة هذه الثنية إلا غفر له، فجعل الناس يجوزون، وكان آخر من جاز قتادة بن النعمان في آخر القوم قال: فجعل الناس يركب بعضهم بعضاً حتى تلاحقنا، قال: فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلنا"9. وأخرجه ابن مردويه من طريق محمد بن إسماعيل بن أبي فديك به مختصراً ولفظه: "سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان من آخر الليل أجزنا في ثنية يقال لها ذات الحنظل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما مثل هذه الثنية إلا كمثل الباب الذي قال الله لبني إسرائيل: {ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ} 10.
قال البزار بعد أن أخرج الحديث: "لا نعلم أحداً رواه هكذا إلا محمد بن إسماعيل" 1. لكن تعقبه ابن حجر بقوله: "وهو ثقة يحتمل له التفرد، وشيخه أخرج له مسلم، والإسناد كلهم على شرطه إلا أن هشاماً فيه لين"2. وذكر الهيثمي الحديث ثم قال: "رواه البزار ورجاله ثقات"3. قلت: نعم رجاله ثقات إلا هشام بن سعد الذي قال ابن حجر فيه: لين، قد اختلف فيه أئمة الجرح والتعديل، فقد ضعفه ابن معين والنسائي، وقال أحمد: "ليس محكم الحديث، وقال مرة لا يروى عنه"4. وقال ابن معين مرة صالح الحديث ليس بمتروك، وقال ابن المديني: صالح وليس بالقوي، وقال العجلي: "جائز الحديث حسن الحديث"، وقال أبو زرعة: "محله الصدق"، وقال الآجري عن أبي داود: "أثبت الناس في زيد بن أسلم"5.فهذه أقوال الأئمة قد اختلف فيه جرحاً وتعديلاً لكن الذين جرحوه لم يبينوا سبب التجريح والقاعدة في اصطلاح المحدثين: "أن التعديل يقبل من غير ذكر سببه على الصحيح المشهور، ولا يقبل الجرح إلا مفسر السبب" 6. فالتعديل في هذه الحال مقدم على الجرح لأن الجرح غير مفسر السبب، نعم هناك تجريح مفسر ذكره الخليلي قال: أنكر الحفاظ حديثه في المواقع في رمضان من حديث الزهري عن أبي سلمة قالوا: إنما رواه الزهري عن حميد7. وهذا الجرح يقدح فيه من قبل حفظه، فإذا حملنا تضعيف من ضعفه على هذا السبب، فلا يرد على هذا الحديث لأنه من روايته عن زيد بن أسلم، وقد قال عنه أبو داود: أثبت الناس في زيد بن أسلم8.
ومع ذلك فللحديث شاهد في المعنى من حديث جابر وحديث المسور ومروان لآتيين، فالحديث لا يقل عن درجة الحسن إن شاء الله. (52) قال مسلم: حدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري حدثنا أبي حدثنا قرة بن خالد عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يصعد الثنية ثنية المرار1، فإنه يحط عنه ما حط عن بني إسرائيل". قال: فكان أول من صعدها خيلنا خيل بني الخزرج، ثم تتام الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلكم مغفور له إلا صاحب الجمل الأحمر"، فأتيناه فقلنا له: تعال يستغفر لك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "والله لأن أجد ضالتي أحب إلي من أن يستغفر لي صاحبكم، قال: وكان رجل2 ينشد3 ضالة له"4. وأخرجه5 عن يحيى بن حبيب الحارثي عن خالد بن الحارث عن قرة به وفيه: "وإذا هو أعرابي ينشد ضاله له". وفي حديث المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم من طريق معمر ما نصه: "قالا: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية حتى إذا كان ببعض الطريق قال النبي صلى الله عليه وسلم إن خالد بن الوليد بالغميم6 في خيل لقريش طليعة7، فخذوا ذا اليمين فو الله ما شعر بهم خالد حتى إذا هم بقترة الجيش، فانطلق يركض نذيراً لقريش، وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها بركت به راحلته فقال الناس: حل8
حل، فألحت1، فقالوا: خلأت2 القصواء3، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل4، ثم قال: والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة5 يعظمون فيه حرمات الله إلا أعطيتهم إياها، ثم زجرها فوثبت، قال: فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية"6. وفي حديثهما من طريق ابن إسحاق عند أحمد: قال: ثم أمر الناس فسلكوا ذات اليمين بين ظهري الحمض7 على طريق تخرجه عن ثنية المرار والحديبية من أسفل مكة، قال فسلك الجيش تلك الطريق فلما رأت خيل قريش قترة الجيش قد خالفوا عن طريقهم نكصوا راجعين إلى قريش، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا سلك ثنية المرار بركت ناقته"8. وفي مرسل عروة من طريق ابنه هشام: "فأخذوا ذات اليمين في ثنية تدعى الحنظل حتى هبط على الحديبية"9.
المبحث الثاني: نزول المسلمين الحديبية ومعجزة النبي صلى الله عليه وسلم في تكثير ماء البئر
المبحث الثاني: نزول المسلمين الحديبية ومعجزة النبي صلى الله عليه وسلم في تكثير ماء البئر: لقد تحمل المسلمون صنوفاً من الأذى والتعب بسبب وعورة الطريق لكنهم نالوا جزاء ذلك - مغفرة الله تعالى - وهي غايتهم المنشودة، بل وغاية كل مسلم. وبعد أن جازوا الثنية - وكان آخر الليل1 - هبطوا على الحديبية فلم يجدوا بها إلا ماء منقطعاً لم يقم شيئاً لعطشهم - وكانوا قد نزلوا في شدة الحر - فهرعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكون قلة الماء، وعندها ظهرت معجزة النبي صلى الله عليه وسلم التي أكرمه الله بها حيث استحالت تلك البئر - التي قد نضب ماؤها أو كاد - عيوناً متدفقة: ففي حديث المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم من طريق معمر: بعد أن ذكر الثنية وبروك ناقة الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "ثم زجرها2 فوثبت، قال: فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد3 قليل الماء يتبرضه4 الناس تبرضاً فلم يلبث الناس حتى نزحوه، وشكى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش، فانتزع سهماً من كنانته ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، فوالله ما زال يجش بالري حتى صدروا عنه" 5. وفي حديثهما من طريق ابن إسحاق: "ثم قال للناس انزلوا فقالوا: يا رسول الله ما بالوادي ماء ينزل عليه الناس، فأخرج سهماً من كنانته، فأعطاه رجلاً من أصحابه فنزل قليب6 من تلك القلب، فغرزه في جوفه فجاش الماء بالرواء حتى ضرب الناس عنه بعطن7.8 وفي من حديث البراء رضي الله عنه:
(53) قال البخاري: حدثنا مالك بن إسماعيل حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء رضي الله عنه قال: "كنا يوم الحديبية أربع عشرة مائة، والحديبية بئر فنزحناها حتى لم نترك فيها قطرة، فجلس النبي صلى الله عليه وسلم على شفير1 البئر، فدعا بماء فمضمض ومج في البئر فمكثنا غير بعيد ثم استقينا حتى روينا وروت - أو صدرت - ركائبنا"2. وأخرجه3 عن عبيد الله بن موسى بن إسرائيل به، وزاد في أوله: "تعدون أنتم الفتح فتح مكة، وقد كان فتح مكة فتحاً ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية". وأخرجه4 من طريق زهير عن أبي إسحاق عن البراء فذكر نحوه، قال في أوله: "كانوا يوم الحديبية ألفاً وأربعمائة"، الحديث. وأخرجه أحمد5 عن أبي أحمد ووكيع، كلاهما عن إسرائيل به نحوه. وأخرجه ابن جرير6 من طريق وكيع عن إسرائيل به مختصراً. وأخرجه البيهقي7 من طريق عبد الله بن رجاء وعبيد الله بن موسى، كلاهما عن إسرائيل به نحوه. وفيه من حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه: (54) قال مسلم: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا هاشم بن القاسم ح وحدثنا إسحاق بن إبراهيم أخبرنا أبو عامر العقدي، كلاهما عن عكرمة بن عمار ح. وحدثنا عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي وهذا حديثه أخبرنا أبو علي الحنفي عن عبيد الله بن عبد المجيد حدثنا عكرمة (وهو ابن عمار) حدثني إياس بن سلمة حدثني أبي قال: قدمنا الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن أربعة عشرة مائة وعليها
وخمسون شاة لا ترويها قال: فقعد رسول الله على جبا1 الركيه2، فإما دعا وإما بسق فيها قال: فجاشت فسقينا واستقينا"3 الحديث. وأخرجه أحمد4 عن عبد الصمد عن عكرمة بن عمار به نحوه. وأخرجه البيهقي5 من طريق عبد الله بن رجاء وموسى بن إسماعيل كلاهما عن عكرمة بن عمار به مختصراً وعنده "بزق فيها". تنبيه: جاء في حديث المسور ومروان: أن تكثير الماء كان بسبب وضع سهم النبي صلى الله عليه وسلم في البئر، وفي حديث البراء وحديث سلمة أن ذلك بسبب مج النبي صلى الله عليه وسلم أو بصاقه في البئر ودعائه. والتحقيق أنه لا خلاف بين تلك الأحاديث لحصول ذلك كله من النبي صلى الله عليه وسلم، فقد وردت روايات جمعت بين ذلك كله، وهي: ما أخرجه الطبراني من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وفيه: "فأخذتهم في طريق قد كان بها حزناً فدافد، وعقاب، فاستوت بنا الأرض حتى أنزله على الحديبية، وهي نزح، فألقى فيها سهما أو سهمين من كنانته ثم بصق فيها ثم دعا ففارت عيونها حتى إنني لأقول أو نقول لو شئنا لاغترفنا بأيدينا"6. وما أخرجه البيهقي من طريق أبي الأسود عن عروة: (55) قال: أخبرنا أبو عبد الله7 الحافظ قال أخبرنا أبو جعفر8 البغدادي
قال: حدثنا أبو علاثة محمد1 بن عمرو بن خالد قال: حدثنا أبي2 قال: قال حدثنا ابن لهيعة3 قال حدثنا أبو الأسود4 قال: قال عروة: فذكر خروج النبي صلى الله عليه وسلم قال: وخرجت قريش من مكة فسبقوه إلى بلدح5، وإلى الماء، فنزلوا عليه، فلما رآى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد سبق نزل على الحديبية، وذلك في حر شديد وليس بها إلا بئر واحدة، فأشفق القوم من الظمأ والقوم كثير، فنزل فيها رجال يميحونها، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بدلو من ماء فتوضأ في الدلو ومضمض فاه، ثم مج فيه وأمر أن يصب في البئر، ونزع سهماً من كنانته فألقاه في البئر ودعا الله تبارك وتعالى ففارت بالماء حتى جعلوا يغترفون بأيديهم منها وهم جلوس على شفتها"6. هذا الأثر مرسل، وسنده إلى عروة ضعيف لأن فيه ابن لهيعة ضعفه الحفاظ، وفيه أيضاً أبو علاثة لم أقف على ترجمته. فهاتان الروايتان بينتا ما قد يظهر من تعارض بين تلك الأحاديث وإلى هذا الجمع جنح ابن القيم7، وابن حجر8.
المبحث الثالث: من الذي نزل بالسهم في بئر الحديبية؟
المبحث الثالث: من الذي نزل بالسهم في بئر الحديبية؟: ورد في حديث المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم عند البخاري وغيره أن الصحابة رضوان الله عليهم شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قلة الماء، فأخذ سهماً من كنانته وأعطاه بعض أصحابه ليغرزه في البئر1، بيد أنه لم يرد في شيء من الروايات الصحيحة
تصريح باسم الصحابي الذي أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم السهم، لذلك فقد وقع خلاف بين أهل المغازي في اسم الصحابي الذي نزل بالسهم: فذهب ابن إسحاق1 وابن عبد البر2 ومن تبعهما إلى أن الذي نزل بسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم هو ناجية بن جندب بن عمير الأسلمي: (56) قال ابن إسحاق: "فحدثني بعض أهل العلم عن رجال من أسلم أن الذي نزل في القليب بسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ناجية بن جندب بن عمير بن يعمر بن دارم ابن عمرو بن واثلة بن سهم بن مازن بن سلامان ابن أسلم بن أفصى بن أبي حارثة، وهو سائق بدن رسول الله صلى الله عليه وسلم3. ونقل الهيثمي هذا الحديث عن ابن إسحاق ثم قال: رواه الطبراني ورجاله ثقات4. وقال ابن إسحاق، وقد أنشدت أسلم أبياتاً من شعر قالها ناجية قد ظننا أنه هو الذي نزل بالسهم فزعمت أسلم أن جارية من الأنصار أقبلت بدلوها وناجية في القليب يميح على الناس فقالت: يا أيها المائح دلوي دونكا ... إني رأيت الناس يحمدونكا يثنون خيراً ويمجدونكا قال ابن هشام وروى: إني رأيت الناس يمدحونكا قال ابن إسحاق: فقال ابن ناجية: قد علمت جارية يمانيه ... أني أنا المائح واسمي ناجيه وطعنة ذا رشاش واهية ... طعنتها تحت صدور العادية5 وجزم الواقدي بأن الذي نزل بالسهم ناجية بن الأعجم، وذكر أن رجلاً من ولد
ناجية بن الأعجم يقال له: عبد الملك بن وهب الأسلمي أنشده الأبيات التي نسبها ابن إسحاق لناجية بن جندب1. (57) وأخرج الواقدي أيضاً عن الهيثم بن واقد عن عطاء2 بن أبي مروان عن أبيه3 قال: حدثني رجل من أسلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن ناجية4 بن الأعجم - وكان ناجية بن الأعجم يحدث - يقول دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم حين شكى إليه قلة الماء، فأخرج سهماً من كنانته ودفعه إلي ... فقال: أنزل بالماء فصبه في البئر، وأثر مائهما بالسهم ففعلت"5. وهذا الحديث ضعيف. (58) وقال ابن حجر: "وأخرج الواقدي عن عطاء بن أبي مروان عن أبيه حدثني أربعة عشر رجلاً من أسلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن ناجية بن الأعجم هو الذي نزل في القليب القليل الماء يوم الحديبية بسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم"6. هذا الحديث ضعيف لمجيئة من طريق الواقدي. وروى الواقدي عن خالد بن عبادة أنه هو الذي نزل بالسهم: (59) قال الواقدي: حدثني عبد الرحمن بن الحارث بن عبيد عن جده عبيد7 بن أبي عبيد قال: سمعت خالد8 بن عبادة الغفاري يقول: أنا الذي
نزلت بالسهم يومئذ في البئر1. وهذا الحديث ضعيف أيضاً لمجيئه من طريق الواقدي. ونقل البيهقي2 عن موسى بن عقبة أن خالداً هذا هو الذي نزل بالسهم. وقال ابن عبد البر في ترجمته: وهو الذي دلاه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعمامته في البئر يوم الحديبية فماح في البئر فكثر ماؤها حتى روى الناس3 الخ. وقيل الذي نزل بالسهم البراء بن عازب: (60) قال الواقدي: حدثني سفيان4 بن سعيد عن أبي إسحاق5 الهمداني قال: سمعت البراء6 بن عازب يقول: أنا نزلت بالسهم7. وهذا الحديث أيضاً ضعيف لمجيئه من طريق الواقدي. وقيل أن الذي نزل بالسهم يومئذ بريدة بن الحصيب، نقل ذلك ابن حجر8 ولم يعزه لأحد. رأينا فيما مضى أن كل واحد من هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم يحكي أو يحكى عنه أنه قد نزل بالسهم يومئذ، لكن لم يرد عن واحد منهم خبر صحيح يمكن الاعتماد عليه وترجيحه على ما عداه، ومن ثم لا يمكن الجزم بأن واحداً منهم فعل ذلك دون الآخر، بل يحتمل أن الجميع قد اشتركوا في القضية. وإلى ذلك جنح ابن حجر حيث قال: ويمكن الجمع بأنهم تعاونوا على ذلك بالحفر وغيره9 ا. هـ
ويؤيده ما ورد في مرسل عروة: "فنزل فيها رجال يميحونها" 1. ثم وجدت رواية عن البراء تؤيد ما ذهب إليه ابن حجر أيضاً وهي: (61) قال الإمام أحمد: حدثنا هاشم2 حدثنا سليمان3 عن حميد4 عن يونس5 عن البراء قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيرة فأتينا على ركى ذمة - يعني قليلة الماء - قال: فنزل فيه ستة أنا سادسهم ماحة، فأدليت إلينا دلو رسول الله صلى الله عليه وسلم على شفة الركى، فجعلنا فيها نصفها أو قراب ثلثيها فرفعت الدلو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال البراء: فكدت6 بإنائي هل أجد شيئاً أجعله في حلقي، فما وجت، فرفعت الدلو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فغمس يده فيها فقال: ما شاء الله أن يقول: فعيدت إلينا الدلو بما فيها، قال: فلقد رأيت أحدنا أخرج بثوب خشية الغرق، قال: ثم ساحت - يعني جرت نهراً"7. وأخرجه8 عن هدبة عن سليمان به نحوه. وأخرجه يحيى بن معين9 عن هاشم عن سليمان به نحوه. وأخرجه الطبراني10 من طريق هدبة عن سليمان به نحوه.
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ثم قال: هو في الصحيح باختصار كثير، رواه أحمد والطبراني ورجالهما رجال الصحيح1. قلت: بل فيه يونس بن عبيد لم يوثقه سوى ابن حبان2. ولم يرد في الحديث تصريح بأن القصة كانت في الحديبية، لكن سياقها ظاهر في اتحادها مع قصة الحديبية، والله أعلم.
الباب الثاني: موقف قريش من الغزوة وما دار بينها وبين المسلمين
الباب الثاني: موقف قريش من الغزوة وما دار بينها وبين المسلمين الفصل الأول: موقف قريش من هذه الغزوة المبحث الأول: إعداد قريش وخروجها لصد المسلمين ... المبحث الأول: إعداد قريش وخروجها لصد المسلمين: علمت قريش بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى مكة فأفزعها الخبر، وأقضى مضجعها، لكن كيف وصل الخبر إلى قريش؟ لم أر أحداً من أهل المغازي أو غيرهم تعرض لهذه النقطة، ولم أقف على رواية تشير إلى ذلك إلا ما ورد في حديث ابن عباس عند الخرائطي فقد جاء فيه ما نصه: "لما توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد مكة في العام الذي ردته قريش عن البيت وهو عام الحديبية، فلما سار رسول الله مرحلتين أو (ثلاث) قدم عليه بشر بن سفيان العتكي فسلم عليه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا بشر هل عندك علم أن أهل مكة علموا بمسيري؟ " فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله أخبرك أني كنت أطوف بالبيت في ليلة كذا وكذا وسمى الليلة التي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بالسير فيها إلى مكة، وقريش في أنديتها حول البيت، إذ صرخ صارخ من أعلي أبي قيبس بصوت أسمع أهل مكة بعيدهم ودانيهم وهو يقول: هبوا فأخبركم مَنّى صحابته ... سيروا إليه وكونوا معشراً كرما بعد الطواف وبعد السعي في مهل ... وأن يجوِّزهم من مكة الحَرَما شاهت وجوهكم من معشر نكل ... لا ينصرون إذا ما حاربوا صنما فما هو إلى أن سمع القوم ذلك، حتى ارتجت مكة، وقال1 أبو سفيان في جماعة معه فاجتمعوا عند الكعبة وتعاقدوا ألا تدخل عليهم مكة في عامهم، فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: أما الهاتف الذي سمعت سلفع شيطان الأصنام يوشك أن يقتله الله"1. فهذه الرواية أشارت إلى كيفية وصول خبر خروج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى قريش لكن في سندها من هو متهم بالوضع، وقد تقدم الكلام عليها. والحاصل أن خبر توجه المسلمين إلى مكة قد بلغ قريشاً فأخذت تعد العدة لصد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن البيت. فقد روى الواقدي أن كفار قريش قد توافدوا وجمعوا الأموال يطعمون بها من ضوى إليهم من الأحابيش، فكان يطعم في أربعة أمكنة في دار الندوة لجماعتهم، وكان صفوان بن أمية يطعم في داره، وكان سهيل بن عمرو يطعم في داره، وكان عكرمة بن أبي جهل يطعم في داره، وكان حويطب بن عبد العزى يطعم في داره2 ا. هـ قلت: هذا مصداق قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} 3. وقد أشار إلى استعداد قريش وخروجها حديث المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم فقد جاء فيه من طريق سفيان بن عيينة ما نصه: "وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بغدير الأشطاط، أتاه عينه قال: إن قريشاً قد جمعوا لك جموعاً وقد جمعوا لك الأحابيش، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت ومانعوك"4. وجاء في حديثهما أيضاً من طريق ابن إسحاق ما نصه: "وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بعسفان لقيه بشر بن سفيان الكعبي، فقال: يا رسول الله هذه قريش قد سمعت بمسيرك فخرجت معها العوذ المطافيل قد لبسوا جلود النمور يعاهدون الله أن لا تدخلها عليهم، وهذا خالد بن الوليد في خيلهم قد قدموا إلى كراع الغميم"5. وقد ذكر الواقدي6 وابن سعد7 أن خالد بن الوليد كان في مائتي فارس.
وخرجت قريش بمجموعها في أشرها وبطرها حتى نزلت بلدح. ففي رواية أبي الأسود عن عروة بن الزبير: "بعد أن ذكر خروج النبي صلى الله عليه وسلم قال: وخرجت قريش من مكة فسبقوه إلى بلدح وإلى الماء فنزلوا عليه"1.
المبحث الثاني: تحرشات قريش بالمسلمين وموقف المسلمين حيالها
المبحث الثاني: تحرشات قريش بالمسلمين وموقف المسلمين حيالها: نزلت قريش ببلدح وجعلت تترقب أخبار المسلمين - والحقد قد أخذ بمجامع قلوبها - إذ كيف يستقر لها قرار أو يهدأ بها بال وهي ترى المسلمين يداهمونها في عقر دارها - ولما علمت بنزول المسلمين في الحديبية أخذت ترسل مجموعات من فرسانها علهم يصادفون غرة من المسلمين يحققون فيها بعض مآربهم المشينة. (62) قال مسلم: حدثني عمرو بن محمد الناقد حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس بن مالك: أن ثمانين رجلاً من أهل مكة هبطوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من جبل التنعيم متسلحين يريدون غرة النبي صلى الله عليه وسلم فأخذهم سلماً فاستحياهم1، فأنزل الله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} 2.3 وأخرجه أبو داود4 عن موسى بن إسماعيل عن حماد به نحوه، إلا عنده "من جبال التنعيم5 عند صلاة الفجر". وأخرجه الترمذي6 من طريق سليمان بن حرب عن حماد به نحوه، وزاد: "عند صلاة الصبح".
وأخرجه أحمد1 عن يزيد بن هارون عن حماد به نحوه. وأخرجه2 عن عفان عن حماد به نحوه، وزاد: "عند صلاة الفجر". وقد ذكر بعض تحرشاتهم أيضاً حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه عند مسلم، فقد جاء فيه ما نصه: "قال: لما اصطلحنا نحن وأهل مكة واختلط بعضنا ببعض، أتيت شجرة فكسحت3 شوكها، فاضطجعت في أصلها فأتى أربعة من المشركين من أهل مكة فجعلوا يقعون في رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبغضتهم فتحولت إلى شجرة أخرى، وعلقوا سلاحهم واضطجعوا، فبينا هم كذلك إذ نادى مناد من أسفل الوادي يا للمهاجرين قتل ابن زنيم، قال: فاخترطت سيفي ثم شددت على أولئك الأربعة، وهم رقود فأخذت سلاحهم فجعلته ضغثاًَ4 في يدي قال: قلت: والذي أكرم وجه محمد لا يرفع أحد منكم رأسه إلا شربت الذي فيه عيناه، قال: ثم جئت بهم أسوقهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وجاء عمي عامر برجل من العبلات5، يقال له: مكرز يقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على فرس مجفف6 في سبعين من المشركين فنظر إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: دعوهم يكن لهم بدء الفجور وثناه فعفا عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} 7 الآية. وقد أشار إلى تحرشات قريش كذلك حديث عبد الله بن مغفل عند أحمد: (63) قال الإمام أحمد: حدثنا زيد8 بن الحباب قال حدثني حسين9 بن
واقد قال: حدثني ثابت1 البناني عن عبد الله2 بن مغفل المزني قال: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية في أصل الشجرة التي قال الله تعالى في القرآن، وكان يقع من أغضان تلك الشجرة على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي بن أبي طالب وسهيل بن عمرو بين يديه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله تعالى عنه: "اكتب بسم الله الرحمن الرحيم" فأخذ سهيل بن عمرو بيده: فقال: ما نعرف بسم الله الرحمن الرحيم، اكتب في قضيتنا ما نعرف قال: اكتب باسمك اللهم" فكتب: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله، فأمسك سهيل بن عمرو بيده، وقال: لقد ظلمناك إن كنت رسوله، اكتب في قضيتنا ما نعرف، فقال: اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، وأنا رسول الله" فكتب فبينا نحن كذلك إذ خرج علينا ثلاثون شاباً فثاروا في وجوهنا فدعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ الله عز وجل بأبصارهم فقدمنا إليهم فأخذناهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل جئتم في عهد أحد أو هل جعل لكم أحد أماناً؟ فقالوا: لا، فخلى سبيلهم فأنزل الله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} 3. وقال أبو عبد الرحمن: قال حماد بن سلمة في هذا الحديث عن ثابت بن أنس، وقال حسين بن واقد عن عبد الله بن مغفل وهذا هو الصواب عندي إن شاء الله4 ا. هـ والحديث أخرجه النسائي في الكبرى في كتاب التفسير عن محمد بن عقيل عن علي بن الحسين بن واقد عن أبيه به، وذكره المزي في الأطراف وزاد: ورواه أبو بكر بن أبي داود عن محمد بن عقيل بهذا الإسناد5.
وأخرجه الحاكم1 من طريق الحسين بن واقد به، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، إذ لا يبعد سماع ثابت من عبد الله بن مغفل، وقد اتفقا على إخراج حديث معاوية بن قرة، وعلى حديث حميد بن هلال عنه وثابت أسن منهما. وساق الهيثمي2 الحديث ثم قال: رجاله رجال الصحيحين. قلت: الحديث بهذا الإسناد صحيح، فرجاله رجال الصحيح كما قال الحاكم والهيثمي، وزيد بن الحباب قال عنه أحمد3 كان صدوقاً لكن كان كثير الخطأ، وقال ابن معين4: كان يقلب حديث الثوري، لكن وثقه ابن معين مرة، ووثقه الدارقطني وابن ماكولا5. ورجح الذهبي6 توثيقه فقد رمز له بـ (صح) . وخطؤه محمول على بعض روايته عن الثوري، وهذا الحديث ليس منها. قال ابن عدي: "له حديث كثير وهو من أثبت مشايخ الكوفة ممن لا يشك في صدقه، والذي قال ابن معين عن أحاديثه عن الثوري إنما له أحاديث عن الثوري يستغرب بذلك الإسناد وبعضها ينفرد برفعه، والباقي عن الثوري وغير الثوري مستقيمة كلها"7 ا. هـ وقد تابعه علي بن الحسين بن واقد عند النسائي، وهو صدوق يهم8. وقد ذكر ابن إسحاق أيضاً بعض تلك التحرشات قال:
(64) حدثني بعض من لا أتهم عن عكرمة1 مولى ابن عباس عن ابن عباس: أن قريشاً كانوا بعثوا أربعين رجلاً منهم أو خمسين رجلاً وأمروهم أن يطيفوا بعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصيبوا لهم من أصحابه أحداً فأخذوا أخذاً فأتي بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فعفا عنهم وخلى سبيلهم، وقد كانوا رموا في عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجارة والنبل2. هذا الحديث ضعيف بهذا الإسناد؛ لأن شيخ ابن إسحاق غير معروف.
الفصل الثاني: في الحوار الذي دار بين الرسول صلى الله عليه وسلم وقريش
الفصل الثاني: في الحوار الذي دار بين الرسول صلى الله عليه وسلم وقريش المبحث الأول: ركب من خزاعة يسعى لإيجاد تقارب بين الطرفين ... المبحث الأول: ركب من خزاعة يسعى لإيجاد تقارب بين الطرفين: علم بديل بن ورقاء الخزاعي بنزول رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الحديبية، فقدم إليه في نفر من قومه وقص عليه ما رأى من حال قريش وما سمع من أخبارهم وأنهم عازمون على صده عن البيت، وبعد أن سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث بديل أخبره بالهدف الذي خرجوا من أجله وأنهم لا يريدون حرب أحد، إنما جاءوا لزيارة البيت فحسب. ولما وقف بديل على أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رجع إلى قريش يعلمهم بذلك، وكان بديل يهدف من وراء سعيه إلى الوفاق بين الطرفين وتحاشي الصدام، ولم يكن رسولاً لأحد من الفريقين كما زعم بعضهم1، وسياق قصته يأبى ذلك. وقد جاء خبر بديل في حديث المسور ومروان: ففيه من طريق معمر بعد أن ذكر نزول المسلمين وقصة البئر قال: فبينا هم كذلك إذ جاء بديل بن ورقاء في نفر من قومه من خزاعة، وكانوا عيبة2 نصح لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل تهامة، فقال: إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي3 نزلوا
أعداد1 مياه الحديبية، ومعهم العوذ المطافيل وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا لم نجئ لقتال أحد، ولكنا جئنا معتمرين، وإن قريشاً قد نهكتهم2 الحرب، وأضرت بهم فإن شاءوا ماددتهم ويخلوا بيني وبين الناس، فإن أظهر فإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا وإلا فقد جموا3، وإن هم أبوا والذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي، ولينفذن الله أمره، فقال بديل: سأبلغهم ما تقول، قال: فانطلق حتى أتى قريشاً، قال: أنا قد جئناكم من هذا الرجل، وسمعناه يقول قولاً، فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا، فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا أن تخبرونا عنه بشيء، وقال ذووا الرأي فيهم هات ما سمعته، يقول: قال: سمعته يقول كذا وكذا فحدثهم بما قال النبي صلى الله عليه وسلم4. وفي حديثهما من طريق ابن إسحاق: بعد أن ذكر نزول المسلمين الحديبية، وقصة البئر قال: "فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بديل بن ورقاء في رجال من خزاعة فقال لهم كقوله لبشر بن سفيان". وقوله لبشر بن سفيان تقدم في صدر الرواية ونصه: "يا ويح قريش لقد أكلتهم الحرب، ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر الناس، فإن أصابوني كان الذي أرادوا، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وهم وافرون وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة، فماذا تظن قريش، والله إني لا أزال أجاهدهم على الذي بعثني الله له حتى يظهره الله، أو تنفرد هذه السالفة ... " قال: "فرجعوا إلى قريش فقالوا: "يا معشر قريش إنكم تعجلون على محمد، وإن محمداً لم يأت لقتال إنما جاء زائراً لهذا البيت معظماً لحقه فاتهموهم"، قال محمد - يعني ابن إسحاق - قال الزهري: "وكانت خزاعة عيبة نصح لرسول الله صلى الله عليه وسلم مسلمها ومشركها، لا يخفون على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً كان بمكة، قالوا: وإن كان إنما جاء لذلك فلا والله لا يدخلها أبداً علينا عنوة، ولا تتحدث بذلك العرب"5 الحديث.
المبحث الثاني: رسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى قريش
المبحث الثاني: رسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى قريش: كانت قريش قد استثارت القبائل من حولها وألبتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعوى: أنه اعتدى عليها في عقر دارها وفي الحرم، وكانت العرب تعظم البيت وتجل قريشاً لمكانتها من البيت. وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبطل تلك الدعاوى التي وجهتها قريش ضده، ويكسب تلك القبائل أو على الأقل يخفف من حدتها وحماسها ضده، فأرسل من قبله رسلاً ليبلغوا قريشاً بمرأى ومسمع من الناس: أنه لم يأت لقتالهم، وإنما جاء زائراً للبيت ومعظماً لحرمته، ورسل النبي صلى الله عليه وسلم هم: خراش بن أمية رضي الله عنه: جاء خبر إرساله إلى قريش في حديث المسور ومروان من طريق ابن إسحاق: فبعد أن ذكر قصة ابن مسعود قال: "وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك بعث خراش بن أمية الخزاعي إلى مكة وحمله على جمل يقال له الثعلب، فلما دخل مكة عقرت به قريش وأرادوا قتل خراش، فمنعهم الأحابيش حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم1. عثمان بن عفان رضي الله عنه: وفي حديث المسور ومروان من طريق ابن إسحاق أيضاً بعد قصة خراش قال: "فدعا عمر بن الخطاب ليبعثه إلى مكة، فقال: يا رسول الله إني أخاف قريشاً على نفسي وليس بها من بني عدي أحد يمنعني وقد عرفت قريش عداوتي إياها، وغلظتي عليها، ولكني أدلك على رجل هو أعز مني عثمان بن عفان، قال: فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعثه إلى قريش يخبرهم أنه لم يأت لحربهم، وإنما جاء زائراً لهذا البيت معظماً لحرمته، فخرج عثمان بن عفان رضي الله عنه حتى أتى مكة، ولقيه أبان بن سعيد بن العاص فنزل عن دابته وحمله بين يديه وردف2 خلفه وأجاره حتى بلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلق عثمان حتى أتى أبا سفيان ورؤساء قريش فبلغهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أرسله به، فقالوا لعثمان: إن شئت أن تطوف بالبيت فطف، فقال: ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فاحتبسته قريش عندها فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين أن عثمان قد قتل ... ".
وفي حديث سلمة بن الأكوع من طريق موسى بن عبيدة الربذي قال: قال إياس عن أبيه: فاشتد البلاء على من كان في يد المشركين من المسلمين، قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر فقال: يا عمر هل أنت مبلغ عني إخوانك من أسارى المسلمين؟ فقال: لا يا نبي الله، والله مالي بمكة من عشيرة1، غيري أكثر عشيرة مني فدعا عثمان فأرسل إليهم، فخرج حتى جاء عسكر المشركين فعيبوا به وساءوا إليه القول، ثم أجاره أبان بن سعيد بن العاص ابن عمه، وحمله على السرج2، وردفه فلما قدم قال: يا ابن أمي مالي أراك متحسفاً؟ أسبل، قال: وكان إزاره إلى نصف ساقه، فقال له عثمان: هكذا إزرة صاحبنا فلم يدع أحداً من أسارى المسلمين بمكة إلا أبلغهم ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم3. هذا الحديث في سنده موسى بن عبيدة الربذي، وهو ضعيف، لكن هذا الجزء منه يتقوى بحديث المسور ومروان السابق، وهو حسن. وقد أخرجه البيهقي عن عروة مرسلاً. (65) قال أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحافظ رحمه الله قال: أخبرنا أبو جعفر محمد بن محمد بن عبد الله البغدادي قال: حدثنا أبو علاثة محمد بن عمرو بن خالد قال: حدثني أبي قال: حدثنا ابن لهيعة قال: حدثنا أبو الأسود قال: عروة بن الزبير في نزول النبي صلى الله عليه وسلم الحديبية قال: وفزعت قريش لنزوله عليهم، فأحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليهم رجلاً من أصحابه فدعا عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليبعثه إليه، فقال: يا رسول الله: إني لا آمنهم، وليس بمكة أحد من بني كعب يغضب لي إن أوذيت، فأرسل إلى عثمان بن عفان فإن عشيرته بها وأنه مبلغ لك ما أردت، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان فأرسله إلى قريش وقال: أخبرهم إنا لم نأت لقتال أحد، وإنما جئنا عماراً وأدعهم إلى الإسلام، وأمره أن يأتي رجالاً بمكة مؤمنين ونساء مؤمنات فيدخل عليهم ويبشرهم بالفتح ويخبرهم أن الله عز وجل وشيك أن يظهر دينه بمكة، حتى لا يستخفى فيها بالإيمان تثبيتاً يثبتهم، فانطلق عثمان
بن عفان رضي الله عنه فمر على قريش ببلدح، فقالت قريش أين؟ قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم لأدعوكم إلى الله جل ثناؤه وإلى الإسلام وأخبركم أنا لم نأت لقتال، وإنما جئنا عماراً، فدعاهم عثمان كما أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: قد سمعنا ما تقول فأنفذ لحاجتك وقام إليه أبان بن سعيد بن العاص، فرحب به وأسرج فرسه فحمل عثمان على الفرس فأجاره وردفه أبان حتى جاء مكة ... " ثم ذكر رسل قريش وما دار بين سهيل وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر البيعة ثم قال: "وقال المسلمون وهم بالحديبية قبل أن يرجع عثمان بن عفان: خلص عثمان من بيننا إلى البيت فطاف به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أظنه طاف بالبيت ونحن محصورون قالوا: وما يمنعه يا رسول الله وقد خلص، قال: ذلك ظني به أن لا يطوف بالكعبة حتى يطوف معنا، فرجع إليهم عثمان، فقال المسلمون: اشتفيت يا أبا عبد الله من الطواف بالبيت، فقال عثمان: بئس ما ظننتم بي فوالذي نفسي بيده لو مكثت بها مقيماً سنة ورسول الله صلى الله عليه وسلم مقيم بالحديبية ما طفت بها حتى يطوف بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولقد دعتني قريش إلى الطواف بالبيت فأبيت، قال المسلمون: رسول الله كان أعلمنا بالله وأحسننا ظناً1. هذا الأثر مرسل، وفي سنده ابن لهيعة ضعيف، وأبو علاثة لم أجد ترجمته لكن أصله ثابت من حديث المسور ومروان السابق دون ما في آخره.
المبحث الثالث: رسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم
المبحث الثالث: رسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ... المبحث الثالث: رسل قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم: كان الحامل لأولئك الذين وقفوا إلى جانب قريش هو إشاعة قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إنما جاءوا للاعتداء عليها في عقر دارها، وبالتالي الاعتداء على البيت الحرام، ولما بعث النبي صلى الله عليه وسلم رسله إليهم وأوضحوا لهم هدف المسلمين، وأنه لا يعدوا زيارة البيت ونحر الهدي. عند ذلك تغير موقف حلفاء قريش منها، ورأوا أنه لا ينبغي صد الهدي عن محله ووجهوا اللوم إليها، فلما رأت قريش ذلك أحست أن الأمر لم يعد في صالحها، وأنه لا بد من عمل تستعيد به حماس حلفائها أو تسكتهم على الأقل فبدأت تبعث الرسل من قبلها إلى المسلمين لتظهر بمظهر الإنصاف، ولعلهم يرجعون إليها قولاً يقلب الموقف لصالحها
لكن الأمور كانت تجري على خلاف ما تتوقع قريش، فكلما بعثت رسولاً رجع يعظم شأن المسلمون ويؤكد الهدف الذي جاءوا من أجله الأمر الذي أثار حفيظتها حتى وقفت ذلك الموقف من بعض رسلها. ورسل قريش هم1: عروة بن مسعود الثقفي: جاء خبر إرساله في حديث المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم، ففيه من طريق معمر: بعد أن ذكر قصة بديل قال: "فقام عروة بن مسعود فقال: "أي قوم ألستم بالوالد2؟ قالوا: بلى، قال: أولست بالولد؟ قالوا: بلى، قال: فهل تتهموني؟ قالوا: لا، قال ألستم تعلمون أني استنفرت3 أهل عكاظ فلما بلحوا4 علي جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني قالوا: بلى؟ قال: فإن هذا قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها ودعوني آته، قالوا: ائته، فأتاه فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم نحواً من قوله لبديل5، فقال عروة عند ذلك: أي محمد أرأيت إن استأصلت أمر قومك، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك؟ وإن تكن الأخرى فإني والله لا أرى وجوها وإني لأرى أشواباً6 من الناس خليقاً أن يفروا ويدعوك، فقال له أبو بكر: امصص بظر7 اللات أنحن نفر عنه وندعه؟ فقال: من ذا؟ قالوا: أبو بكر، قال: أما والذي نفسي بيده لولا يد8 كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك، قال: وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فكلما تكلم بكلمة أخذ بلحيته، والمغيرة بن شعبة قائم
على رأس النبي صلى الله عليه وسلم ومعه السيف وعليه المغفر، فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب يده بنعل1 السيف، وقال له: أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرفع عروة رأسه فقال: من هذا؟ قال المغيرة بن شعبة، فقال: أي غدر2 ألست أسعى في غدرتك، وكان المغيرة صحب قوماً في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم، ثم جاء فأسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما الإسلام فأقبل، وأما المال فلست منه في شيء، ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعينيه قال: فوالله ما تنخم رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيماً له، فرجع عروة إلى أصحابه فقال: أي قوم، والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي والله إن رأيت ملكاً قد يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم محمداً، والله إن يتنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيماً له، وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها"3. وفي حديثهما من طريق ابن إسحاق: "فبعثوا إليه عروة بن مسعود الثقفي فقال: يا معشر قريش إني قد رأيت ما يلقى منكم من تبعثون إلى محمد إذا جاءكم من التعنيف وسوء اللفظ، وقد عرفتم أنكم والد وأني ولد، وقد سمعت بالذي نابكم فجمعت من أطاعني من قومي ثم جئت حتى أسيتكم بنفسي، قالوا: صدقت ما أنت عندنا بمتهم، فخرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس بين يديه فقال: يا محمد جمعت أوباش4 الناس ثم جئت بهم لبيضتك5 لتفضها6، إنها قريش قد خرجت معها العوذ المطافيل قد لبسوا جلود النمور يعاهدون الله أن لا تدخلها عليهم عنوة أبداً، وأيم الله لكأني بهؤلاء قد انكشفوا غداً. قال:
وأبو بكر رضي الله عنه خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد فقال: امصص بظر اللات أنحن ننكشف عنه؟ قال: من هذا يا محمد؟ قال: هذا ابن أبي قحافة، قال: أما والله لولا يد كانت لك عندي لكافأتك بها، ولكن هذه بها، ثم تناول لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم والمغيرة بن شعبة واقف على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديد قال يقرع يده، ثم قال: أمسك يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل والله لا تصل إليك، قال: ويحك ما أفظك1 وأغلظك2، قال فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من هذا يا محمد؟ قال: هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة، قال: أغدر هل غسلت سوأتك إلا بالأمس؟ قال: فكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل ما كلم به أصحابه، فأخبره أنه لم يأت يريد حرباً، فقام من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد رأى ما يصنع به أصحابه لا يتوضأ وضوءاً إلا ابتدروه، ولا يبسُق بساقاً إلا ابتدروه، ولا يسقط من شعره شيء إلا أخذوه، فرجع إلى قريش فقال: يا معشر قريش إني جئت كسرى في مُلكه وجئت قيصر والنجاشي في ملكهما، والله ما رأيت ملكاً قط مثل محمد في أصحابه، ولقد رأيت قوماً لا يسلمونه لشيء فروا رأيكم"3. وجاء خبر إرساله أيضاً في مرسل عروة بن الزبير من طريق ابنه هشام: قال فيه: "ثم قالوا لعروة بن مسعود: انطلق إلى محمد صلى الله عليه وسلم ولا تونين4 من ورائك، فخرج عروة حتى أتاه" فذكر قوله لرسول الله صلى الله عليه وسلم وجواب رسول الله صلى الله عليه وسلم له بنحو ما في حديث المسور ومروان، ثم قال: "فرجع عروة إلى قريش فقال: تعلمن والله ما على الأرض قوم أحب إلي منكم إنكم لإخواني وأحب الناس إلي، ولقد استنصرت لكم الناس في المجامع، فلما لم ينصروكم أتيتكم بأهلي حتى نزلت معكم إرادة أن أوسيكم والله ما أحب الحياة بعدكم تعلمن أن الرجل قد عرض نصفاً فاقبلوه، تعلمن إني قد قدمت على الملوك ورأيت العظماء فأقسم بالله أن رأيت ملكاً ولا عظيماً أعظم في أصحابه منه أن يتكلم رجل منهم حتى يستأذنه، فإن هو أذن له تكلم وإن لم
يأذن له سكت، ثم أنه ليتوضأ فيبتدرون يصبونه على رؤوسهم يتخذونه حناناً1"2. وأشار إلى قصة عروة بن مسعود حديث سلمة بن الأكوع عند ابن أبي شيبة: (66) قال: حدثنا عبيد الله بن موسى عن موسى بن عبيدة قال: حدثني إياس بن سلمة عن أبيه قال: بعثت قريش خارجة ابن كوز ... " فذكر قصة، وقال: "ثم أرسلوا عروة بن مسعود فجاءه فقال: يا محمد ما هذا الحديث تدعوا إلى ذات الله ثم جئت قومك بأوباش الناس من تعرف ومن لا تعرف، لتقطع أرحامهم وتستحل حرمتهم ودماءهم وأموالهم، فقال: إني لم آت قومي إلا لأصل أرحامهم ليبدلهم الله بدين خير من دينهم ومعايش خير من معايشهم فرجع حامداً يحسن الثناء"3. سند هذا الحديث ضعيف، لضعف موسى بن عبيدة. ووردت قصته مع المغيرة بن شعبة في حديث المغيرة عند ابن أبي شيبة: (67) قال: ثنا وكيع4 عن إسماعيل5 عن قيس6 عن المغيرة7 بن شعبة أنه كان قائماً على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف، وهو ملتثم، فجعل عروة - يعني ابن مسعود الثقفي - يتناول لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يكلمه فقال له المغيرة: لتكفن يدك أو لا ترجع إليك يدك، والمغيرة متقلداً سيفاً فقال عروة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: من هذا؟ قال: ابن أخيك المغيرة بن شعبة، قال: "أجل يا غدر ما غسلت رأسي من غدرتك"8.
وأخرجه ابن حبان1 من طريق وكيع به فذكره بمثله، إلا عنده "يتناول لحية النبي صلى الله عليه وسلم ويجذبه ... ". وقد أورد ابن حجر هذا الحديث في المطالب العالية من طريق ابن أبي شيبة ثم قال: هذا الإسناد في غاية الصحة، وهو في صحيح البخاري من طريق الزهري عن عروة عن مروان بن الحكم والمسور بن مخرمة في الحديث الطويل في قصة الحديبية، وفيه إرسال وهذا أحسن اتصالاً ولهذا استدركته2. وقد أشار إلى قصة عروة أيضاً مرسل علي بن زيد بن جدعان عند أبي يعلى: (68) قال: حدثنا حوثرة3 بن أشرس ثنا حماد4 بن سلمة عن علي5 بن زيد بن جدعان: أن عروة بن مسعود الثقفي قال لقومه زمن الحديبية: أي قوم أني قد رأيت الملوك وكلمتهم، فابعثوني إلى محمد صلى الله عليه وسلم فأكلمه، فأتاه بالحديبية فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم ويتناول لحية النبي صلى الله عليه وسلم والمغيرة بن شعبة شاك6 في السلاح على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له المغيرة: كف يدك من قبل ألا تصل إليك، فرفع عروة رأسه فقال: أأنت هو؟ والله إني لفي غدرتك ما خرجت منها بعد، فرجع عروة إلى قومه فقال: أي قوم إني قد رأيت الملوك وكلمتهم ما رأيت مثل محمد صلى الله عليه وسلم قط، ما هو بملك ولكن رأيت الهدى معكوفاً وما أراكم مصيبكم إلا قارعة7، فانصرف ومن تبعه من قومه فصعد سور الطائف فشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فرماه رجل بسهم فقتله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الحمد الله الذي جعل فينا مثل صاحب ياسين "8.
وأورد ابن حجر هذا الأثر في المطالب العالية وعزاه لأبي يعلى ثم قال: هذا مرسل أو معضل وأصله في البخاري أيضاً من حديث المسور ومروان دون ما في آخره والذي في آخر خطأ، فإن عروة إنما رمي بالسهم عقب غزوة الطائف بعد أن رحل النبي صلى الله عليه وسلم فجاء إليه عروة فأسلم، ورجع إليه فقتلوه ثم أسلموا بعد1 ا. هـ قلت: وفي سنده أيضاً علي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف. ويؤيد كلام ابن حجر بأن إسلام عروة كان متأخراً عن الحديبية ما أخرجه الطبراني في مرسل عروة بن الزبير. (69) قال حدثنا محمد2 بن عمرو بن خالد الحراني ثنا أبي ثنا ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة قال: لما أنشأ الناس الحج سنة تسع قدم عروة بن مسعود على رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلماً فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرجع إلى قومه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إني أخاف أن يقتلوك " فقال: لو وجدوني نائماً ما أيقظوني، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجع إلى قومه عشاء فجاءته ثقيف يحيونه فدعاهم إلى الإسلام، فاتهمومه وأغضبوه وأسمعوه ما لم يكن يحتسب، ثم خرجوا من عنده حتى إذا أسحروا وطلع الفجر، قام على غرفة في داره فأذن بالصلاة وتشهد، فرماه رجل من ثقيف بسهم فقتله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل عروة مثل صاحب ياسين دعا قومه إلى الله فقتلوه"3. وأخرجه عمر بن شبة قال: حدثنا الحزامي4 قال حدثنا ابن وهب5 قال: أخربنا ابن لهيعة به فذكره مختصراً6. وأخرجه ابن شبة عن الزهري مرسلاً. (70) قال حدثنا إبراهيم بن المنذر قال: حدثني محمد7 بن فليح عن
موسى1 بن عقبة عن ابن شهاب قال: لما صدر أبو بكر رضي الله عنه وقد أقام الناس حجهم، فقدم عروة بن مسعود على النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم ثم استأذن رسول الله أن يرجع إلى قومه فقال: "إني أخاف أن يقتلوك" فقال: لو وجدوني نائماً ما أيقظوني، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرجع إلى الطائف فقدم عشاء فجاءته ثقيف فحيوه فدعاهم إلى الإسلام ونصح لهم فعصوه واتهموه وأسمعوه من الأذى ما لم يكن يخشاهم عليه، وخرجوا من عنده حتى إذا أسحر الفجر قام على غرفة له في داره فأذن بالصلاة وتشهد فرماه رجل من ثقيف بسهم فقتله، فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: حين بلغه قتله: "مثل عروة مثل صاحب ياسين دعا قومه إلى الله فقتلوه"2. وأخرجه أبو نعيم3 من طريق إبراهيم بن المنذر به نحوه. وأخرجه الطبراني: قال: حدثنا الحسن4 بن هارون بن سليمان الأصبهاني ثنا محمد بن إسحاق المسيبي5، ثنا محمد6 بن فليح به فذكر نحوه7. وأخرجه عمر بن شبة عن الليث بن سعد مرسلاً: (71) قال: حدثنا الحزامي حدثنا ابن وهب قال: حدثني الليث بن سعد أن عروة بن مسعود استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي قومه"8 الحديث. ذكر الهيثمي حديث عروة ثم قال: وروى عن الزهري نحوه، وكلاهما مرسل، وإسنادهما حسن9 ا. هـ
قلت: هذا الحديث وإن كان مرسلاً إلا أنه قد ارتفع إلى درجة الحسن لغيره لتعدد طرقه واختلاف مخرجه. قال ابن الصلاح ثم إعلم أن حكم المرسل حكم الحديث الضعيف، إلا أن كان يصح مخرجه من وجه آخر1 ا. هـ وهذا الحديث قد صح مخرجه من غير وجه، سيما وأنه من مراسيل عروة بن الزبير وقد كان متحرياً في روايته فلا يحدث الناس إلا بما وثق من رواته كما صرح بذلك: قال ابن عدي: حدثنا عبد الملك2 بن محمد سنة اثنتين وتسعين ومائتين نا الربيع3 بن سليمان أنا الشافعي4 أخبرني عمي محمد5 بن علي عن هشام بن عروة عن أبيه قال: إني لأسمع الحديث فما يمنعني من ذكره إلا كراهية أن يسمع سامع فيقتدي به، أسمعه من الرجل لا أثق به قد حدثه عمن أثق به، وأسمعه من الرجل أثق به قد حدث عمن لا أثق به6. وأخرجه ابن عبد البر قال: أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم7 بن شاكر قال حدثنا
محمد1 بن يحيى بن عبد العزيز قال: حدثنا أسلم2 بن عبد العزيز قال: حدثنا الربيع بن سليمان فذكره بمثله وزاد في آخره: "فلا أحدث به"3. وهذا القول صحيح الإسناد إلى عروة. وقال ابن عبد البر تعليقاً على هذا الخبر: هذا فعل أهل الورع والدين، كيف ترى في مرسل عروة بن الزبير وقد صح عنه ما ذكرنا؟ أليس قد كفاك المؤنة؟ ولو كان الناس على هذا المذهب كلهم لم يحتج إلى شيء مما نحن فيه4. الحليس بن علقمة الكناني: أشار إلى قصة إرسال قريش للحليس المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم من طريق معمر: فبعد أن ذكر قصة عروة بن مسعود قال: "فقال رجل من بني كنانة: دعوني آتيه، فقالوا: ائته، فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا فلان وهو من قوم يعظمون البدن فابعثوها له"، واستقبله الناس يلبون، فلما رأى ذلك قال: سبحان الله، ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت، فلما رجع إلى أصحابه قال: رأيت البدن قد قلدت وأشعرت فما أرى أن يصدوا عن البيت"5. وفي حديثهما من طريق ابن إسحاق أشار إلى القصة، وصرح باسمه قال: "فبعثوا الحليس بن علقمة الكناني وهو يومئذ سيد الأحابيش، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "هذا من قوم يتألهون، فابعثوا الهدي في وجهه، فبعثوا الهدي"، فلما رأى الهدي يسيل عليه من عرض الوادي في قلائده قد أكل أوتاره من طول الحبس عن محله، رجع ولم يصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم إعظاماً لما رأى فقال: يا معشر قريش قد رأيت مالا يحل صده،
الهدي في قلائده1 قد أكل أوتاره2 من طول الحبس عن محله، فقالوا: اجلس إنما أنت أعرابي لا علم لك ... "3. ووردت قصته أيضاً في مرسل عروة بن الزبير من طريق الزهري: فبعد أن ذكر قصة عروة بن مسعود قال: "ودعوا رجلاً من بني الحارث بن عبد مناة4 يقال له: الحليس فقالوا: انطلق فانظر ما قبل هذا الرجل وما يلقاك به؟ فخرج الحليس وهو من قوم يعظمون الهدي، فبعثوا الهدي في وجهه. قال ابن شهاب: "فاختلف الحديث في الحليس: فمنهم من يقول: جاء فقال له مثل ما قال لبديل وعروة ومنهم من قال: لما رأى الهدي رجع إلى قريش فقال: لقد رأيت أمر لئن صددتموه إني لخائف عليكم أن يصيبكم عنت5 فابصروا بصركم، فقالوا: اجلس"6. وجاء في حديث عروة أيضاَ من طريق ابن هشام ما نصه: بعد أن ذكر نزول الرسول صلى الله عليه وسلم الحديبية قال: "فلما سمعت به قريش أرسلوا إليه أخا بني حليس وهو من قوم يعظمون الهدي فقال: ابعثوا الهدي فلم يكلمهم كلمة، وانصرف من مكانه إلى قريش فقال: يا قوم القلائد والهدي والبدن فحذرهم وعظم عليهم فسبوه وتجهموه7، وقالوا: إنما أنت أعرابي جلف8، لا نعجب منك، ولكن نعجب من أنفسنا إذ أرسلناك"9. وقد روى ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر أن الحليس قد غضب من فعل قريش وهددهم:
(72) قال ابن إسحاق: فحدثني عبد الله بن أبي بكر: أن الحليس غضب عند ذلك، وقال: يا معشر قريش والله ما على هذا حالفناكم، ولا على هذا عاقدناكم، أيصد عن بيت الله من جاء معظماً له؟ والذي نفس الحليس بيده لتخلن بين محمد وبين ما جاء له، أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد، قال: فقالوا: مه، كف عنا يا حليس، حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به"1. وهذا الحديث ضعيف؛ لأنه مرسل. مكرز بن حفص بن الأخيف: ورد خبر إرسال قريش له في حديث المسور ومروان. ففيه من طريق معمر بعد أن ذكر قصة عروة والحليس قال: "فقام رجل منهم يقال له مكرز بن حفص فقال: دعوني آتيه، فقالوا: ائته، فلما أشرف عليهم قال النبي صلى الله عليه وسلم: "هذا مكرز وهو رجل فاجر" فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فبينما هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو"2. وفي حديثهما من طريق ابن إسحاق: "ثم بعثوا إليه مكرز بن حفص بن الأخيف أحد بني عامر بن لؤي فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "هذا رجل غادر"، فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم كلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو مما كلم به أصحابه ثم رجع إلى قريش فأخبرهم بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "3. سهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزى وحفص: ورد خبر إرسال قريش لسهيل بن عمرو إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حديث المسور ومروان، لكن جاء ذكره بمفرده وورد في بعض الأحاديث أن قريشاً أرسلت معه حويطب بن عبد العزى وحفصاً هذا: ففي حديث المسور ومروان من طريق معمر بعد أن ذكر قصة مكرز بن حفص
قال: "فبينما هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو وقال معمر1: فأخبرني أيوب عن عكرمة أنه لما جاء سهيل بن عمرو قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لقد سهل لكم من أمركم"، قال الزهري2 في حديثه، فجاء سهيل بن عمرو فقال هات اكتب"3 الحديث. وفي حديثهما من طريق ابن إسحاق قال: فحدثني الزهري أن قريشاً أرسلت سهيل بن عمرو أحد بني عامر بن لؤي فقالوا: ائت محمداً فصالحه ولا يكون في صلحة إلا أن يرجع عنا عامه هذا، فو الله لا تتحدث العرب أنه دخلها علينا عنوة أبداً، فأتاه سهيل بن عمرو، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لقد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل"، فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم تكلما وأطالا الكلام وتراجعا حتى جرى بينهما الصلح"4 الحديث. وفي مرسل عروة من طريق ابنه هشام أن قريشاً بعثت مكرز بن حفص مع سهيل: فبعد أن ذكر قصة عروة بن مسعود قال: "فلما سمعوا مقالته أرسلوا إليه سهيل بن عمرو ومكرز بن حفص فقالوا: انطلقوا إلى محمد فقاضياه"5. وقد تقدم في حديث المسور ومروان من طريق معمر6 أن مكرزاً ذهب قبل سهيل وفي أثناء حديثه مع النبي صلى الله عليه وسلم قدم سهيل بن عمرو، وهذا في البخاري فالأخذ به أولى. وجاء في حديث سلمة بن الأكوع عند ابن أبي شيبة وغيره أن قريشاًَ بعثت مع سهيل بن عمرو حويطب بن العزى وحفصاً:
(73) قال ابن أبي شيبة: حدثنا عبيد الله بن موسى عن موسى بن عبيدة عن إياس بن سلمة عن أبيه قال: بعثت قريش سهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزى وحفصاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليصالحوه فلما رآهم النبي صلى الله عليه وسلم فيهم سهيل بن عمرو قال: قد سهل لكم من أمركم القوم ماتون1 إليكم بأرحامهم وسائلوكم الصلح، فابعثوا الهدي وأظهروا التلبية، لعل الله يلين قلوبهم فلبوا من نواحي العسكر حتى ارتجت أصواتهم بالتلبية قال: فجاءوا فسألوا الصلح"2. وأخرجه ابن جرير3 عن محمد بن عمارة، ومحمد4 بن منصور، كلاهما عن عبيد الله بن موسى به مثله وقال فيه: "حفص بن فلان ... ". سند هذا الحديث ضعيف لضعف موسى بن عبيدة. ووقع عند البيهقي في مرسل عروة: "بعثت قريش سهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزى ومكرز بن حفص"5. وهذا الأثر ضعيف لأنه مرسل، وفي سنده إلى عروة ضعف، ومكرز بن حفص لم يذهب مع سهيل بن عمرو كما سبق بيانه.
الفصل الثالث: بيعة الرضوان
الفصل الثالث: بيعة الرضوان المبحث الأول: سبب هذه البيعة ... المبحث الأول: سبب هذه البيعة: اشتهرت هذه البيعة بيعة الرضوان لأن الله سبحانه وتعالى أخبر أنه قد رضي عن أصحابها. (74) قال ابن جرير: حدثنا محمد بن عمارة الأسدي قال: حدثنا عبيد الله بن موسى قال: أخبرنا موسى بن عبيدة عن إياس بن سلمة قال: قال سلمة: بينما نحن قائلون زمن الحديبية نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم، يا أيها الناس البيعة البيعة، نزل روح القدس صلوات الله عليه قال: فثرنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو تحت الشجرة سمرة، قال: فبايعناه، وذلك قوله الله: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} "1. وأخرجه ابن أبي حاتم2 عن أحمد3 بن محمد بن يحيى بن سعيد القطان عن عبيد الله بن موسى به نحوه. سند هذا الحديث ضعيف لضعف موسى بن عبيدة، لكن يشهد له حديث جابر الآتي4.
(75) أما سبب هذه البيعة فما رواه ابن إسحاق قال: فحدثني عبد الله1 بن أبي بكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين بلغه أن عثمان قد قتل: "لا نبرح حتى نناجز القوم، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة، فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة"2. وأخرجه ابن جرير والبيهقي كلاهما من طريق ابن إسحاق: قال ابن جرير3: حدثنا ابن حميد4 قال: حدثنا سلمة5 عن محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر فذكره. وقال البيهقي6: أخبرنا أبو عبد الله7 الحافظ حدثنا أبو العباس8 محمد بن يعقوب قال: حدثنا أحمد9 بن عبد الجبار قال: حدثنا يونس10 عن ابن إسحاق قال: حدثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم: فذكر نحوه. هذا الأثر مرسل وسنده إلى عبد الله بن أبي بكر حسن. وأخرج البيهقي بسنده إلى عروة بن الزبير أثراً ذكر فيه سبب احتباس قريش لعثمان بن عفان: فبعد أن ذكر قدوم وفد قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم للمفاوضة قال: "فكلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوا إلى الصلح والموادعة، فلما لان بعضهم لبعض وهم على ذلك لم
يستقم لهم ما يدعون إليه من الصلح وقد أمن بعضهم بعضاً وتزاوروا فبينما هم كذلك وطوائف من المسلمين في المشركين لا يخاف بعضهم بعضاً ينتظرون الصلح والهدنة إذ رمى رجل من الفريقين رجلاً من الفريق الآخر، فكانت معركة وتراموا بالنبل والحجارة وصاح الفريقان كلاهما، وارتهن كل واحد من الفريقين من فيهم، فارتهن المسلمون سهيل بن عمرو ومن أتاهم من المشركين، وارتهن المشركون عثمان بن عفان ومن كان أتاهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البيعة، ونادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا إن روح القدس قد نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر بالبيعة، فاخرجوا على اسم الله فبايعوا فثار المسلمون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو تحت الشجرة فبايعوه على ألا يفروا"1 الحديث.
المبحث الثاني: مكان البيعة
المبحث الثاني: مكان البيعة: أخبر الله سبحانه وتعالى أن تلك البيعة وقعت تحت الشجرة، قال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} 1. وقد أشار إليه حديث نافع عند البخاري: (76) قال: حدثنا شجاع بن الوليد سمع النضر بن محمد حدثنا صخر عن نافع قال: "إن الناس يتحدثون أن ابن عمر أسلم قبل عمر، وليس كذلك ولكن عمر يوم الحديبية أرسل عبد الله إلى فرس له عند رجل من الأنصار يأتي به ليقاتل عليه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبايع عند الشجرة، وعمر لا يدري بذلك فبايعه عبد الله ثم ذهب إلى الفرس فجاء به إلى عمر وعمر يستلئم2 للقتال فأخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يبايع تحت الشجرة قال: فانطلق فذهب معه حتى بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي التي يتحدث الناس أن ابن عمر أسلم قبل عمر"3. وأخرجه البخاري تعليقاً من حديث ابن عمر ولم يذكر الشجرة.
(77) قال: قال1 هشام بن عمار حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا عمر بن محمد العمري أخبرني نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أن الناس كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية تفرقوا في ظلال الشجر، فإذا الناس محدقون بالنبي صلى الله عليه وسلم فقال2: يا عبد الله انظر ما شأن الناس قد أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فوجدهم يبايعون، فبايع ثم رجع إلى عمر فخرج فبايع3. والشجرة المشار إليها هي سمرة، كما صرح بذلك حديث جابر4 وغيره. وقد ورد ذكر الشجرة في حديث سعيد بن المسيب عن أبيه، وبين فيه أنهم قد نسوا مكانها من السنة التي تلي عام الحديبية: (78) قال البخاري: حدثنا محمود حدثنا عبيد الله عن إسرائيل عن طارق بن عبد الرحمن قال: انطلقت حاجاً فمررت بقوم يصلون قلت ما هذا المسجد؟ قالوا: هذه الشجرة حيث بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان، فأتيت سعيد بن المسيب فأخبرته فقال سعيد: حدثني أبي أنه كان فيمن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة، قال: فلما خرجنا من العام المقبل، نسيناها فلم نقدر عليها. فقال سعيد: "إن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لم يعلموها وعلمتموها أنتم؟ فأنتم أعلم! "5. وأخرجه من طريق أبي عوانة عن طارق عن سعيد بن المسيب عن أبيه: "أنه كان ممن بايع تحت الشجرة فرجعنا إليها من العام المقبل فعميت علينا"6. وأخرجه مسلم من طريق أبي عوانة عن طارق بن سعيد بن المسيب قال: "كان أبي ممن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الشجرة، قال: فانطلقنا في قابل حاجين
فخفي علينا مكانها، فإن كان تبين لكم فأنتم أعلم"1. وأخرجه البخاري من طريق2 سفيان عن طارق به مختصراً. وأخرجه مسلم من طريق3 سفيان به مختصراً أيضاً. وقد ورد في حديث سعيد بن المسيب هذا عن أبيه أن الصحابة رضوان الله عليهم قد خفي عليهم مكان الشجرة من العام التالي لعام الحديبية، لكن يرد عليه ما في حديث جابر رضي الله عنه: "ولو كنت أبصر لأريتكم مكان الشجرة" 4. والظاهر أن عدم معرفة والد سعيد بن المسيب ومن كان معه لمكان الشجرة لا ينافي معرفة غيرهم من الصحابة لمكانها، مثل جابر بن عبد الله رضي الله عنهما وغيره5، وأيضاً يشهد لذلك ما في أثر نافع: (79) قال ابن سعد: أخبرنا عبد الوهاب6 بن عطاء أخبرنا عبد الله7 بن عون عن نافع8 قال: كان الناس يأتون الشجرة التي يقال لها شجرة الرضوان، فيصلون عندها قال: فبلغ ذلك عمر بن الخطاب فأوعدهم فيها وأمر بها فقطعت9. وسند هذا الأثر صحيح كما ذكر ابن حجر10.
المبحث الثالث: على أي شيء كانت البيعة
المبحث الثالث: على أي شيء كانت البيعة: لما أشيع مقتل عثمان رضي الله عنه دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه رضوان الله عليهم للبيعة فهبوا إليه جميعاً ليبايعوه، لم يتخلف منهم سوى رجل واحد - يقال كان منافقاً - وهو الجد بن قيس كما في حديث جابر: "فبايعناه غير جد بن قيس الأنصاري، اختبأ تحت بطن بعيره1. نعم تسابق الصحابة رضوان الله عليهم لمبايعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعلى أي شيء كانت تلك البيعة يا ترى؟ حتى استحقت تلك المبادرة؟ سئل الصحابة رضوان الله عليهم هذا السؤال فأجابوا عنه بما يلي: (أ) أجاب سلمة بن الأكوع رضي الله عنه بأنهم بايعوا على الموت: (80) قال البخاري: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا حاتم بن يزيد ين أبي عبيد قال: قلت لسلمة بن الأكوع: على أي شيء بايعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية؟ قال: على الموت"2. وأخرجه محمد بن مسلمة3 القعنبي عن حاتم به مثله. وأخرجه المكي4 بن إبراهيم بن أبي عبيد عن سلمة من حديث ذكر فيه عدد المرات التي بايعها. وأخرجه مسلم5 عن قتيبة بن سعيد عن حاتم وعن إسحاق بن إبراهيم عن حماد بن مسعدة كلاهما عن يزيد عن سلمة مثله. وأخرجه الترمذي6 والنسائي7 كلاهما عن قتيبة عن حاتم به مثله. وأخرجه أحمد8 عن صفوان عن يزيد عن سلمة فذكر مثله.
وأخرجه1 عن المكي بن إبراهيم بسنده عند البخاري ولفظه. وأخرجه2 عن حماد بن مسعده عن يزيد عنه بنحو لفظ المكي بن إبراهيم. وجاء عن عبد الله بن زيد رضي الله عنه ما يؤيد جواب سلمة رضي الله عنه: (81) قال البخاري: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا وهيب حدثنا عمرو بن يحيى عن عباد بن تميم عن عبد الله بن زيد رضي الله عنه قال: لما كان زمن الحرة أتاه آت فقال له: إن ابن الحنظلة يبايع الناس على الموت، فقال: لا أبايع على ذلك أحداً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم"3. وأخرجه4 من طريق سليمان بن بلال عن عمرو بن يحيى به، ذكر نحوه وزاد "وكان شهد معه الحديبية". وأخرجه مسلم5 من طريق وهيب به مثله. (ب) وأجاب معقل بن يسار وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم بأنهم بايعوا على عدم الفرار: (82) قال مسلم: حدثنا يحيى بن يحيى أخبرنا يزيد بن زريع عن خالد عن الحكم بن عبد الله الأعرج عن معقل بن يسار قال: لقد رأيتم يوم الشجرة والنبي صلى الله عليه وسلم يبايع الناس، وأنا رافع غصناً من أغصانها عن رأسه، ونحن أربع عشرة مائة، قال: "لم نبايعه على الموت، ولكن بايعناه على ألا نفر"6. وقال مسلم أيضاً: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث بن سعد ح. وحدثنا محمد بن رمح أخبرنا الليث عن أبي الزبير عن جابر قال: كنا يوم الحديبية ألفاً وأربعمائة، فبايعناه وعمر آخذ بيده تحت الشجرة وهي سمرة، وقال: بايعناه على ألا نفر ولم نبايعه على الموت"7.
وأخرجه من طريق سفيان عن أبي الزبير: (83) قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا ابن عيينة ح. وحدثنا ابن نمير حدثنا سفيان عن أبي الزبير عن جابر قال: لم نبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموت، إنما بايعناه على ألا نفر"1. أخرجه الترمذي2 عن أحمد بن منيع عن سفيان بن عيينة به مثله. وأخرجه النسائي3 عن قتيبة عن سفيان به مثله. وأخرجه أحمد4 والحميدي5 كلاهما عن سفيان به مثله، وصرح أبو الزبير بالسماع من جابر عندهما وعند النسائي. وأخرج الترمذي الحديث عن جابر من طريق آخر بسياق آخر: (84) قال: حدثنا سعيد6 بن يحيى بن سعيد الأموي، حدثنا عيسى7 بن يونس عن الأوزاعي8 عن يحيى9 بن أبي كثير عن أبي سلمة10 عن جابر بن عبد الله في قوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} ، قال جابر: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ألا نفر ولم نبايعه على الموت11.
قال أبو عيسى: "وقد روى هذا الحديث عن عيسى بن يونس عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير قال: "قال جابر بن عبد الله، ولم يذكر فيه أبو سلمة"1. قلت: يعني أن الحديث جاء من وجه آخر منقطعاً لأن يحيى بن أبي كثير لم يدرك جابر بن عبد الله. قال أبو حاتم: "وأبو زرعة والبخاري وغيرهم لم يدرك أحداً من الصحابة إلا أنس بن مالك فإن رآه رؤية ولم يسمع منه"2 ا. هـ وهنا قد تعارض الإرسال والوصل لكن الأرجح وصله، فالذي رواه عنه الترمذي موصولاً هو سعيد بن يحيى الأموي ثقة، وثقه ابن المديني بل قال: "إنه أثبت من أبيه ووثقه النسائي وغيره"3. أما الطريق الذي فيه الإرسال ففيه انقطاع بين الترمذي وعيسى بن يونس، ورواه الترمذي أيضاً بصيغة التمريض، وإذا ترجح وصله فهناك علة في السند، وهي أن يحيى بن أبي كثير رواه بالعنعنة وهو مدلس4، لكن لا يضر تدليسه هنا؛ لأن أصل الحديث ثابت عند مسلم عن جابر وغيره، وقد تقدمت قريباً5. وفيه من حديث عبد الله بن مغفل: (85) قال أحمد: حدثنا وكيع عن أبي جعفر6 الرازي عن الربيع7 ابن أنس عن أبي العالية8 الرياحي أو عن غيره عن عبد الله بن مغفل وكان أحد الرهط الذين نزلت فيهم هذه الآية: {وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ ... } الخ، قال:
إنني لآخذ بغصن من أغصان الشجرة أظل به النبي صلى الله عليه وسلم وهم يبايعونه فقالوا، "نبايعك على الموت؟ قال: لا، ولكن لا تفروا"1. ذكره الهيثمي وقال: "رواه الطبراني وإسناده جيد إلا أن الربيع بن أنس قال: عن أبي العالية أو عن غيره"2. قلت: شك الربيع بن أنس في شيخه الذي روى عنه يوجب ضعف الحديث، لجهالة الشيخ الذي يحتمل أنه روى عنه غير أبي العالية. لكن عجز الحديث الذي هو موضع الشاهد ثابت من أحاديث أخرى صحيحة تقدمت قريباً. (جـ) وقد سئل نافع على أي شيء كانت البيعة؟ فأجاب بأنها كانت على الصبر: (86) قال البخاري: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا جويرية عن نافع قال: قال ابن عمر رضي الله عنهما: رجعنا من العام المقبل فما اجتمع منا اثنان على الشجرة التي بايعناه تحتها كانت رحمة من الله فسألنا نافعاً على أي بايعهم؟ على الموت؟ فقال: لا، بايعهم على الصبر3. بينت هذه الروايات الشيء الذي بايع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة يوم الحديبية، لكن رأينا في بعضها أنه بايعهم على الموت، وفي بعضها بايعهم على عدم الفرار وفي بعضها على الصبر، فكيف التوفيق بينها؟ الواقع أنه لا خلاف بين هذه النصوص كما بين ذلك بعض العلماء: قال الترمذي: قد بايعه قوم من أصحابه على الموت، وإنما قالوا: "لا نزال بين يديك حتى نقتل، وبايعه آخرون فقالوا: لا نفر"4 ا. هـ وقال ابن حجر: "لا تنافي بين قولهم، بايعوه على الموت، وعلى عدم الفرار لأن المراد بالمبايعة على الموت أن لا يفروا وليس المراد أن يقع الموت ولا بد، وهو الذي أنكر نافع وعدل إلى قوله: "بل بايعهم على الصبر" أي على الثبات سواء أفضى ذلك
إلى الموت أو لا، والله أعلم"1 ا. هـ قلت: ويؤيد توجيه ابن حجر ما ورد في مرسل الشعبي الآتي في قصة أبي سنان وفيه: "قال يا رسول الله بايعني على ما في نفسك قال: ما في نفسي؟ قال: الفتح أو الشهادة، قال: فبايعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاء الناس فجعلوا يقولون نبايعك على بيعة أبي سنان"2.
المبحث الرابع: من هو أول من بايع بيعة الرضوان
المبحث الرابع: من هو أول من بايع بيعة الرضوان: ورد في بعض الروايات أن أول من بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان هو أبو سنان الأسدي، إلا أنه قد عرف بهذه الكنية اثنان من بني أسد أحدهما: أبو سنان محصن أخو عكاشة بن محصن، والآخر أبو سنان بن وهب، ولذلك وقع خلاف أيهما المراد هنا، وقد ذكر بعضهم في ذلك غير أبي سنان الأسدي، وسوف يأتي بيان ذلك كله إن شاء الله. (87) قال ابن سعد: أخبرنا وكيع بن الجراح وعبد الله1 بن نمير عن إسماعيل بن أبي خالد عن عامر2 قال: إن أول من بايع النبي صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان أبو سنان الأسدي3. وقد أخرجه ابن هشام4 عن وكيع به بمثله. وأخرجه البيهقي من طريق سفيان5 بن عيينة عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي قال: "لما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البيعة، كان أول من انتهى إليه أبو سنان الأسدي فقال: أبسط يدك أبايعك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "علام تبايعني"؟ فقال أبو سنان رضي الله عنه: على ما في نفسك " هذا أبو سنان الأسدي. وأورده ابن سيد الناس من طريق عاصم الأحول: قال ابن سيد الناس: وروينا عن أبي عروبة6 ثنا علي7 بن المنذر ثنا محمد8 ابن فضيل عن عاصم9 عن عامر10 قال: كان أول من بايع بيعة الرضوان أبو سنان
الأسدي، قال: "يا رسول الله بايعني على ما في نفسك قال: ما في نفسي؟ قال: الفتح أو الشهادة، فبايعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاء الناس فجعلوا يقولون: نبايعك على بيعة أبي سنان" 1. هذا الأثر صحيح بمجموع طرقه إلى الشعبي وهو مرسل. وجاء في حديث ابن عمر عند الطبراني "أبو سنان بن محصن": (88) قال الطبراني: حدثنا أحمد2 ثنا محمد3 بن عبد الله بن عبيد ابن
عقيل ثنا يعقوب1 بن محمد الزهري ثنا عبد العزيز2 بن عمران عن محمد3 بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف عن الزهري عن سالم4 عن أبيه5 قال: ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية الناس للبيعة، فقام أبو سنان بن محصن فقال: يا رسول الله أبايعك على ما في نفسك، قال: وما في نفسي؟ قال: أضرب بالسيف بين يديك حتى يظهرك الله أو أقتل، فبايعه وبايع الناس على بيعة أبي سنان6. قال الطبراني: "لم يروه عن الزهري إلا محمد بن عبد العزيز ولا عنه إلا عبد العزيز بن عمران، تفرد به يعقوب"7. وأورده الهيثمي ثم قال: "رواه الطبراني في الأوسط وفيه عبد العزيز ابن عمران، وهو متروك"8. قلت: وفيه أيضاً محمد بن عبد العزيز شيخ عبد العزيز بن عمران، قال البخاري: منكر الحديث، وقال النسائي: متروك9. وقد عد ابن رجب10 بيتهم في البيوت التي اشتهرت بالضعف.3
وهذا الحديث مع ضعف سنده في متنه نكارة أيضاً، ففيه أن أول من بايع أبو سنان بن محصن، وأبو سنان بن محصن مات قبل ذلك في حصار بني قريظة1. وقد ظن الواقدي أن المشار إليه في الروايات السابقة هو هذا فوهّم قائله، وقال2: إن أول من بايع بيعة الرضوان هو سنان بن أبي سنان وتبعه على ذلك أبو هلال العسكري3 وابن سيد الناس4، وكأنه لم تبلغهم الراويات التي وردت عن الشعبي وغيره تصرح بأن المذكور في البيعة هنا هو أبو سنان بن وهب، والروايات هي: (89) قال ابن عبد البر: ذكر الحلواني5 عن أبي أسامة6 عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي قال: أول من بايع تحت الشجرة أبو سنان بن وهب الأسدي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: علام تبايع؟ قال: على ما في نفسك فبايعه وتتابع الناس فبايعوه7. (90) وقال أيضاً: ذكر أبو العباس8 محمد بن إسحاق السراج قال: حدثنا هناد بن السري9 قال حدثنا أبو بكر10 بن عياش عن عاصم عن زر11 قال: أول من بايع تحت الشجرة أبو سنان بن وهب12.
قال ابن حجر: وأخرجه ابن منده من طريق عاصم عن زر بن حبيش فذكر مثله1. وذكر ابن حجر أن طريق زر بن حبيش وطريق الشعبي كلاهما صحيح2. فهذا الحديث حسن لغيره وإن كان مرسلاً إلا أنه قد اختلف مخرجه فدل على أن له أصلاً وقد أشار إلى هذه القاعدة ابن الصلاح بقوله: "ثم اعلم أن حكم المرسل حكم الحديث الضعيف، إلا أن يصح مخرجه بمجيئه من وجه آخر3. وهنا قد صح مخرجه من وجهين فارتفع إلى درجة الحسن لغيره، والله أعلم. وبهذا نكون قد وصلنا إلى نتيجة وهي: رجحان القول بأن أول من بايع هو أبو سنان بن وهب الأسدي، وليس أبو سنان بن محصن لهذا الحديث ولأن حديث ابن عمر الذي ذكر فيه أبو سنان بن محصن ضعيف جداً لا يقوى على المعارضة والروايات التي قالت: أبو سنان الأسدي تفسرها هذه الرواية، والله أعلم. ذكر ابن حجر: أن البغوي أخرج في ترجمة أبي سفيان بن الحارث من طريق أبي بكر بن عياش عن عاصم قال: "أول من بايع تحت الشجرة أبو سفيان بن الحارث" 4. وقد تعقبه ابن حجر بقوله: "ولم يصب في ذلك، فقد أخرجه غيره من هذا الوجه فقال: أبو سنان بن وهب وهو الصواب وهو المستفيض عند أهل المغازي كلهم، واسم أبي سنان: عبد الله" 5 ا. هـ وقد أورد السفاريني على قصة أبي سنان بن وهب - من كونه أول من بايع - ما روى مسلم في حديث سلمة أنه أول من بايع: ثم أجاب عن ذكل بقوله: "والجمع بينهما: بأن أبا سنان أول من بايع مطلقاً، وأن سلمة أول من بايع من الأنصار فأوليته بالإضافة إلى ما دون أبي سنان"6.
المبحث الخامس: ما ورد في فضل أصحاب البيعه
المبحث الخامس: ما ورد في فضل أصحاب البيعة: قال البخاري: حدثنا علي حدثنا سفيان قال عمرو: سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية: "أنتم خير أهل الأرض"، وكنا ألفاً وأربعمائة، ولو كنت أبصر لأريتكم موضع الشجرة1. وفيه من حديث أم مبشر عند مسلم: (91) قال: حدثني هارون بن عبد الله حدثنا حجاج بن محمد قال: قال ابن جريج: أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: أخبرتني أم مبشر أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول عند حفصة: "لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد الذين بايعوا تحتها" قالت: بلى يا رسول الله: فانتهرها فقال: حفصة: {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} 2، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قد قال الله عز وجل: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} 3.4 وأخرجه أحمد5 عن حجاج به مثله. وأخرجه البيهقي6 من طريق حجاج به مثله. وأخرجه ابن ماجه من حديث حفصة رضي الله عنها: (92) حدثنا أبو بكر7 بن أبي شيبة ثنا معاوية8 عن الأعمش9 عن
أبي سفيان1 عن جابر2 عن أم مبشر3 عن حفصة4 قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إني لأرجو ألا يدخل النار أحد إن شاء الله تعالى ممن شهد بدراً والحديبية". قالت قلت: يا رسول الله أليس قد قال الله: {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا} 5؟ قال: "ألم تسمعيه يقول: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} 6.7 وأخرجه أحمد8 وأبو يعلى9 وإسحاق10 بن راهويه كلهم من طريق الأعمش به فذكروا نحوه. وأخرجه ابن أبي عاصم11 عن أبي بكر بن أبي شيبة به نحوه. وأخرجه12 أيضاً عن أبي بكر بن أبي شيبة وابن نمير، كلاهما عن عبد الله بن إدريس عن الأعمش به نحوه. قال البوصيري13: حديث حفصة صحيح رجاله ثقات، إن كان أبو سفيان سمع من جابر بن عبد الله. قلت: كأنه يشير إلى الخلاف في سماع أبي سفيان من جابر:
فقد قال شعبة وابن عيينة: حديث أبي سفيان عن جابر إنما هو صحيفة1 ا. هـ وقال أبو خالد يزيد الدالاني: "لم يسمع أبو سفيان من جابر إلا أربعة أحاديث"2 ا. هـ لكن قد أثبت البخاري سماعه من جابر: قال البخاري: نا مسدد عن أبي معاوية عن الأعمش عن أبي سفيان: جاورت جابراً بمكة ستة أشهر3. وقال البخاري أيضاً: قال علي: سمعت عبد الرحمن قال: قال لي هشيم: عن أبي العلاء أيوب قال: قال أبو سفيان: كنت أحفظ وكان سليمان اليشكري يكتب، يعني عن جابر4 ا. هـ فهذا البخاري قد أثبت سماع أبي سفيان من جابر بن عبد الله وبهذا يكون الحديث صحيحاً على رأي البوصيري. وقال الألباني5: "اسناده جيد على شرط مسلم". قلت: نعم هذا الحديث صحيح، ولا يضره تدليس الأعمش6 وأبي سفيان7. فقد قال ابن عدي8 عن الأعمش: "أحاديثه عن أبي سفيان مستقيمة، وأيضاً فاصل الحديث ثابت في صحيح مسلم من حديث أم مبشر السابق". وأخرجه أبو داود من حديث جابر بن عبد الله مختصراً:
(93) قال: حدثنا قتيبة1 بن سعيد ويزيد2 بن خالد الرملي، أن الليث3 حدثهم عن أبي الزبير4 عن جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة"5. وأخرجه الترمذي6 عن قتيبة به فذكره بمثله. وأخرجه أحمد7 عن حجين8 ويونس9، كلاهما عن الليث به مثله. قال الترمذي:10 هذا حديث حسن صحيح. قلت: نعم هو حديث صحيح ولا تضره عنعنة أبي الزبير وإن كان مدلساً لأنه من رواية الليث بن سعد وقد أعلم له على ما سمعه من جابر. قال العلائي: قال سعيد بن أبي مريم ثنا الليث بن سعد قال: "جئت أبا الزبير فدفع إليّ كتابين، فانقلبت بهما ثم قلت في نفسي لو أني عاودته فسألته أسمع هذا كله من جابر قال: سألته فقال: منه ما سمعت ومنه ما حدثت عنه، فقلت له: أعلم لي على ما سمعت منه، فأعلم لي على هذا الذي عندي"11. وقال العلائي تعقيباً على ذلك، ولهذا توقف جماعة من الأئمة عن الاحتجاج بما لم يروه الليث عن أبي الزبير12.
ومن جملة ما ورد في فضلهم أيضاً ما ورد في قصة حاطب من حديث جابر عند مسلم: (94) قال: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ليث ح. وحدثنا محمد بن رمح أخبرنا الليث عن أبي الزبير عن جابر أن عبداً لحاطب جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو حاطباً، فقال: "يا رسول الله ليدخلن حاطب النار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذبت لا يدخلها فإنه شهد بدراً والحديبية"1. وأخرجه الترمذي2 عن قتيبة به فذكره بمثله. وأخرجه أحمد من طريق الليث3 وابن جريج4 كلاهما عن أبي الزبير عنه بمثله. ومن طريق ابن جريج صرح أبو الزبير بالسماع من جابر. ومما ورد في فضلهم أيضاً ما رواه الترمذي من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (95) قال حدثنا محمود5 بن غيلان حدثنا أزهر6 السمان عن سليمان7 التيمي عن خداش8 عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليدخلن الجنة من بايع تحت الشجرة إلا صاحب الجمل الأحمر "9. وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق خداش مطولاً:
(96) قال: حدثنا محمد1 بن هارون الفلاس المخرمي حدثنا سعيد2 بن عمرو الأشعثي حدثنا محمد3 بن ثابت العبدي عن خداش بن عياش عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يدخل من بايع تحت الشجرة كلهم الجنة، إلا صاحب الجمل الأحمر"، قال فانطلقنا نبتدره فإذا رجل قد أضل بعيره، فقلنا تعال فبايع، قال: أصيب بعيري أحب إلي من أن أبايع4. هذا الحديث بهذا اللفظ منكر، والمعروف ما روي من طريق قرة بن خالد عن أبي الزبير عند مسلم: "كلكم مغفور له إلا صاحب الجمل الأحمر"5. لأنه من طريق قرة بن خالد، وقد قال عنه ابن حجر: ثقة ضابط. أما الحديث الآخر فهو من طريق خداش بن عياش، وقد ذكر الترمذي أنه لا يعرفه6. وقال ابن حجر: "لين الحديث، وإذا خالف الضعيف الثقة فحديثه الضعيف منكر"، قال ابن حجر: "فإن خولف الراوي بأرجح يقال له المحفوظ ومقابله يقال به الشاذ، وإن وقعت المخالفة مع الضعف فالراجح يقال له المعروف، ومقابله يقال له: المنكر"7. وفيه أيضاً من حديث أبي سعيد الخدري عند أحمد:
(97) قال: حدثنا يحيى1 عن محمد2 بن أبي يحيى قال: حدثني أبي3 أن أبا سعيد حدثه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان يوم الحديبية قال: "لا توقدوا ناراً بليل" فلما كان بعد ذلك قال: " أوقدوا واصطنعوا فإنه لا يدرك قوم بعدكم صاعكم ولا مدكم"4. وأخرجه ابن أبي شيبة5 ومسدد6 كلاهما عن يحيى به مثله. وأخرجه النسائي7 وأبو يعلى8 كلاهما من طريق يحيى به نحوه إلا عند أبي يعلى "فلن يدرك قوم بعدكم بمدكم ولا بصاعكم". وأخرجه الحاكم من طريق يحيى به وقال: "صحيح الإسناد"9 ووافقه الذهبي10، والألباني11. وذكر الهيثمي الحديث في مجمع الزوائد وعزاه لأحمد ثم قال: "ورجال ثقات"12. وحسنه ابن حجر13 قلت: هذا الإسناد حسن كما قال ابن حجر فأبو يحيى هو سمعان الأسلمي لم يوثقه غير ابن حبان، وقال النسائي لا بأس به14. وفيه من حديث مالك بن ربيعة السلولي عند الطبراني:
(98) قال: حدثنا محمد1 بن الحسين بن مكرم ثنا يحيى2 ابن محمد بن السكن ثنا إسحاق3 بن إدريس ثنا يحيى4 بن بريد ابن مالك بن ربيعة السلولي ثنا بريد5 بن مالك بن ربيعة عن أبيه6 أنه شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الشجرة ويوم الهدي معكوفاً قبل أن يبلغ محله، وأن رجلاً من المشركين قال: يا محمد ما يحملك على أن تدخل علينا هؤلاء ونحن لهم كارهون، قال: "هؤلاء خير منك ومن أجدادك يؤمنون بالله واليوم الآخر والذي نفسي بيده لقد رضي الله عنهم"7. وذكره في مجمع الزوائد8 وقال: رواه الطبراني في الكبير والأوسط وفيه إسحاق بن إدريس وهو متروك. قلت: بل وصف ابن معين إسحاق هذا بالكذب والوضع، فهذا الإسناد ضعيف جداً. وقد شمل فضل هذه البيعة عثمان بن عفان رضي الله عنه مع أنه كان غائباً عنها، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بايع له بإحدى يديه: .
(99) قال الترمذي: حدثنا أبو زرعة1: حدثنا الحسن2 بن بشر حدثنا الحكم3 بن عبد الملك عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان، وكان عثمان بن عفان رضي الله عنه رسولُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل مكة، فبايع الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم إن عثمان في حاجة الله تعالى وحاجة رسوله صلى الله عليه وسلم فضرب بإحدى يديه على الأخرى، فكانت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم لعثمان خير من أيديهم لأنفسهم"4. قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح. قلت: هذا الإسناد في الحكم بن عبد الملك ضعفه ابن معين وغيره. وقال ابن عدي: الأحاديث التي أمليتها للحكم عن قتادة منه ما يتابعه عليه الثقات، ومنه لا يتابعه5 ا. هـ وهذا الحديث مما تابعه عليه الثقات، فأصل الحديث ثابت من حديث ابن عمر عند البخاري، ومن حديث أبي سلمة عند أحمد: (100) قال البخاري: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبو عوانة حدثنا عثمان - هو ابن وهب - قال: "جاء رجل من أهل مصر وحج البيت، فرأى قوم جلوساً فقال: من هؤلاء القوم؟ فقالوا: هؤلاء قريش، قال: فمن الشيخ فيهم؟ قالوا: عبد الله بن عمر، قال: يا ابن عمر إن سائلك عن شيء فحدثني عنه: هل تعلم أن عثمان فرّ يوم أحد؟ قال: نعم، فقال: تعلم أنه تغيب عن بدر ولم يشهد؟ قال: نعم، قال الرجل: هل تعلم أنه تغيب عن بيعة الرضوان فلم يشهدها؟ قال: نعم، قال: الله أكبر، قال ابن عمر: تعال أبين لك، أما فراره يوم أحد فأشهد أن
الله قد عفا عنه وغفر له، وأما تغيبه عن بدر فإنه كان تحته بنت1 رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت مريضة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لك أجر رجل ممن شهد بدراً وسهمه، وأما تغيبه عن بيعة الرضوان فلو كان أحد أعز من عثمان ببطن مكة، لبعثه مكانه، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان. وكانت بيعة الرضوان بعد ما ذهب عثمان إلى مكة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده اليمنى: "هذه يد عثمان فضرب بها على يده فقال: هذه لعثمان"، فقال له ابن عمر: اذهب بها الآن معك2. (101) وقال أحمد: حدثنا أبو قطن3 ثنا يونس4 - يعني ابن أبي إسحاق عن أبيه5 عن أبي6 سلمة بن عبد الرحمن قال: أشرف عثمان رضي الله عنه من القصر وهو محصور، فقال: أنشد بالله من شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حراء7 إذ اهتز الجبل فركله بقدمه ثم قال: اسكن حراء ليس عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد وأنا معه فانتشد له رجال، قال: أنشد بالله من شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بيعة الرضوان إذ بعثني إلى المشركين إلى أهل مكة قال: "هذي يدي وهذه يد عثمان رضي الله عنه فبايع لي فانتشد له رجال"8 الحديث. سند هذا الحديث صحيح رجاله على شرط مسلم.
الفصل الرابع: في صلح الحديبية
الفصل الرابع: في صلح الحديبية المبحث الأول: أسباب الصلح ومقدماته ... المبحث الأول: أسباب الصلح ومقدماته: إننا حين نستعرض الأحداث والملابسات التي سبقت الصلح ووطّأت ذلك التوتر الناجم عن شوق المسلمين إلى البيت من جانب، وعن حمية قريش وحنقها على المسلمين من جانب آخر - حين نستعرض تلك الأحداث والملابسات نجد أن داعي الصلح وسببه قاسم مشترك بين الفريقين، فقد عرضت للمسلمين أحداث وطنت نفوسهم لقبول الصلح، كما عرضت للمشركين أحداث أخرى وملابسات ألجأتهم لقبول الصلح والرضا به. (أ) السبب في ميل المسلمين إلى الصلح: خرج المسلمون من المدينة وهم أشد ما يكونون شوقاً إلى البيت الحرام، ولقد كانوا عازمين على دخول مكة، وأداء نسكهم مهما كلفهم ذلك من ثمن، وفي الوقت نفسه كانوا حاسبين حساب قريش - لما كانوا يعلمونه من عدائها لهم وحنقها عليهم - ولذلك أخذوا أهبتهم لاجتياح كل ما من شانه أن يعوق طريق سيرهم، ولقد تجلى موقفهم بوضوح عندما أتاهم نبأ قريش وإعدادها لصدهم، فقد جاء في حديث المسور ومروان ما نصه: "حتى إذا كان بغدير الأشطاط أتاه عينه قال: إن قريشاً جمعوا لك جموعاً وقد جمعوا لك الأحابيش وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت ومانعوك. فقال: أشيروا أيها الناس علي أترون أن أميل إلى عيالهم وذراري هؤلاء الذي يريدون أن يصدونا عن البيت فإن يأتوا كان الله عز وجل قد قطع عيناً من المشركين
وإلا تركناهم محروبين؟ فقال أبو بكر: يا رسول الله خرجت عامداً لهذا البيت لا تريد قتل أحد ولا حرب أحد فتوجه له فمن صدنا عنه قاتلناه قال: فامضوا على اسم الله"1. نلاحظ من خلال هذا النص حدة موقف المسلمين فرسول الله صلى الله عليه وسلم يستشير أصحابه في الإغارة على أهالي أولئك الذين قاموا بتعزيز جانب قريش ثم يستقر رأيهم أخيراً على قتال كل من حاول صدهم عن البيت. كان هذا موقف المسلمين الذي استقر عليه رأيهم بعد المشورة، لكن رأينا بعد ذلك تصريحاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم يباين ذلك الموقف تماماً. يقول صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها ... ". بالمقارنة بين هذا النص والنص السابق نرى الفارق بينهما، ذلك أن النص السابق يشعر بالحزم والصرامة، أما الأخير فيوحي باللين والتسامح إلى حد بعيد. فما الذي حول الموقف السابق يا ترى؟ هذه العبارة التي صدرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تحمل في غضونها السماحة واللين سبقها في الحديث ما نصه: "حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها بركت به راحلته فقال الناس: حل، حل، فألحت، فقالوا: خلأت القصواء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة، ثم قال: والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة ... "2 الخ. فهذا النص يفسر لنا الحامل لرسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك التصريح الذي حول موقفه الأول، فما الذي جاء في هذا النص؟ جاء فيه حادثة بروك ناقته صلى الله عليه وسلم، وإذن فبروك الناقة هو السبب في تحويل موقفه، ولا أعني ببروك ناقته البروك ذاته لكن أقصد ما وراء البروك وهو ما عبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة ... ".
والذي حبس الفيل عن مكة هو الله سبحانه، وإذن فالله هو الذي حبس ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديبية ليقضي الله أمراًً كان مفعولاً. وحين أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الأمر أصدر التصريح الذي غير به موقفه الأول إلى ذلك الموقف السمح المتجاوب، فكان له الأثر الفعال في نجاح الصلح حيث كان الجانب الإيجابي في مقابل سلبيات قريش. (ب) السبب في انصياع قريش للصلح: أما السبب الذي ألجأ قريشاً لقبول الصلح والرضا به، فيرجع إلى بيعة الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع ملابسات أخرى، وتوضيح ذلك: لما هب الصحابة رضوان الله عليهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعوه على القتال حتى يفتح الله عليهم أو يموتوا كان قد حضر ذلك المشهد بعض رسل قريش، فأذهلهم الأمر ثم نقلوا تلك الصورة إلى قومهم، فأحدثت في أنفسهم هزة عنيفة جعلت منهم آذاناً صاغية لقبول الصلح، فقد جاء في مرسل عروة بن الزبير عند البيهقي ما نصه: "ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البيعة ونادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا إن روح القدس قد نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر بالبيعة فاخرجوا على اسم الله، فبايعوا فثاب المسلمون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو تحت الشجرة، فبايعوه على ألا يفروا أبداً، فرعبهم الله فأرسلوا من كانوا ارتهنوا من المسلمين، ودعوا إلى الموادعة والصلح"1. فهذا النص يبرز لنا مدى تأثير البيعة في نفوس المشركين. وقد عزز أثر تلك البيعة ملابسات أخرى من قبل رسل المشركين أنفسهم: فعروة بن مسعود حين رجع إلى قريش عظم لهم شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكره لهم من أفعال الصحابة ما يبرهن على أنهم لن يسلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم لشيء أبداً وأنهم سيبذلون نفوسهم دونه، ثم نصح قريشاً بقبول الهدنة، وأن يخلوا بين المسلمين وما جاءوا له. فقد جاء في حديث المسور ومروان من رواية معمر ما نصه: "فرجع عروة إلى أصحابه فقال أي قوم والله لقد وفدت على قيصر وكسرى
والنجاشي والله إن رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابة ما يعظم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم محمداً، والله إن يتنخم نخامة إلى وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عند، وما يحدون إليه النظر تعظيماً له، وأنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها"1. وجاء في حديثهما من طريق ابن إسحاق نحو ما تقدم في رواية معمر وزاد: "ولقد رأيت قوماً لا يسلمونه لشيء فروا رأيكم ... "2. وعروة بن مسعود له منزلته وشهرته في أوساطهم، حتى قال أكثر المفسرين المراد بالآية: {وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} 3 الوليد بن المغيرة أو عروة بن مسعود4. لذلك كان لكلامه وقعة في نفوسهم وقد أشار إلى ذلك مرسل عروة بن الزبير عند ابن أبي شيبة فقد جاء فيه ما نصه: "فلما سمعوا مقالته أرسلوا إليه سهيل بن عمرو ومكرز بن حفص فقالوا: "انطلقوا إلى محمد فإن أعطاكم ما ذكر عروة فقاضياه ... "5. وقال ابن حجر عن عروة بن مسعود: "وكانت له اليد الطولى في تقرير الصلح"6. وكان من بين رسل قريش الذين شنعوا عليها تلك الغطرسة أيضاً: الحليس بن علقمة: فقد جاء خبره في حديث المسور ومروان من طريق ابن إسحاق قال: "فبعثوا الحليس بن علقمة الكناني وهو يومئذ سيد الأحابيش، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: هذا من قوم يتألهون، فابعثوا الهدي في وجهه، فبعثوا الهدي، فلما رآه يسيل من عرض الوادي في قلائده قد أكل أوباره من طول الحبس عن محله، رجع ولم يصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم إعظاماً لما رأى فقال: يا معشر قريش قد رأيت مالا يحل صده عن البيت، الهدي في قلائده قد أكل أوباره من طول الحبس عن محله، فقالوا:
اجلس إنما أنت أعرابي لا علم لك ... "1. وقد روى ابن جرير عن عبد الله بن أبي بكر: "أن الحليس غضب عند ذلك، وقال: يا معشر قريش والله ما على هذا حالفناكم ولا على هذا عاقدناكم أن تصدوا عن بيت الله من جاء معظماً له، والذي نفس الحليس بيده لتخلن بين محمد وبين ما جاء له أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد، قال: فقالوا: مه، كف عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به"2. فهذا الموقف من رسل قريش معها - إلى جانب ما أحدثته البيعة في نفوسها من ذعر - كان السبب في انصياعها وقبولها الصلح.
المبحث الثاني: الشروط التى تم عليها الصلح
المبحث الثاني: الشروط التي تم عليها الصلح: كانت قريش قد ألجأت إلى الصلح إلجاء لأنها لا تريد أن تعترف بالمسلمين كندٍ لها يواقفونها جنباً إلى جنب، فيتحدث الناس بذلك عنها. أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يهدف من وراء الصلح إلى تحقيق مصالح للدعوة بعيداً عن السمعة والأغراض الشخصية. وما كانت تلك الشروط التي وقع عليها الصلح إلا صورة عاكسة لذينك الموقفين. فقد جاء في حديث المسور ومروان من طريق معمر ما نصه: "فجاء سهيل بن عمرو فقال هات اكتب بيننا وبينكم كتاباً، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الكاتب فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم، فقال سهيل: أما (الرحمن) فوالله ما أدري ما هي، ولكن اكتب (باسمك اللهم) كما كنت تكتب، فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا (بسم الله الرحمن الرحيم) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اكتب (باسمك اللهم) ، ثم قال: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله، فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك ولكن اكتب: (محمد بن عبد الله) ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والله إني لرسول الله وإن كذبتموني اكتب (محمد بن عبد الله) قال
الزهري: وذلك لقوله: "لا يسألونني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به، فقال سهيل: والله لا تتحدث العرب إنا أخذنا ضغطة1، ولكن ذلك من العام المقبل، فكتب فقال سهيل: وعلى أنه لا يأتيك منا رجل - وإن كان على دينك - إلا رددته إلينا، قال المسلمون: سبحان الله كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلماً؟ فبينما هم كذلك إذ دخل أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف2 في قيوده وقد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين، فقال سهيل: هذا يا محمد أول من أقاضيك عليه أن ترده إلي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنا لم نقض الكتاب بعد، فقال: والله إذا لم أصالحك على شيء أبداً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فأجزه3 لي، فقال: ما أنا بمجيزه لك، قال: بلى فافعل، قال: ما أنا بفاعل، قال مكرز: بل قد أجزناه لك ... " 4. وفي حديثهما من طريق ابن إسحاق: بعد أن ذكر الخلاف حول كتابه "بسم الله الرحمن الرحيم" و "محمد رسول الله" قال: فقال سهيل: ولو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك ولكن اكتب هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد الله وسهيل بن عمرو على وضع الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس، ويكف بعضهم عن بعض، على أنه من أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه بغير إذن وليه رده عليهم، ومن أتى قريشاً ممن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يردوه عليه وأن بيننا عيبة مكفوفة5، وأنه لا إسلال ولا إغلال6، وكان في شرطهم حين كتبوا الكتاب أنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه فتواثبت خزاعة فقالوا: نحن
مع عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده، وتواثبت بنو بكر فقالوا: نحن في عقد قريش وعهدهم، وأنك ترجع عنا عامك هذا فلا تدخل علينا مكة، وأنه إذا كان عام قابل خرجنا عنك فتدخلها بأصحابك وأقمت فيهم ثلاثاً معك سلاح الراكب لا تدخلها بغير السيوف في القرب1.2 وأخرجه أبو داود من طريق ابن إسحاق به مختصراً ذكر فيه بعض الشروط ولفظه: "أنهم اصطلحوا على وضع الحرب عشر سنين يأمن فيهن الناس، وعلى أن بيننا عيبة مكفوفة، وأنه لا إسلال ولا إغلال3. وفي مرسل عروة الذي أخرجه ابن أبي شيبة عن أبي أسامة: ذكر نحو رواية ابن إسحاق وبين فيه أبو أسامه معنى العيبة المكفوفة، والإسلال والإغلال، فقد جاء فيه ما نصه: "وكان في شرطهم أن بيننا للعيبة المكفوفة، وأنه لا إسلال ولا إغلال، قال أبو أسامة: الإغلال الدروع، والإسلال السيوف، ويعني بالعيبة المكفوفة أصحابه يكفهم عنه - وأنه من أتاكم منا رددتموه علينا، ومن أتانا منكم لم نردده عليكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ومن دخل معي فله مثل شرطي، فقالت قريش، ومن معنا فهو منا له مثل شرطنا، فقالت بنو كعب: نحن معك يا رسول الله، وقالت بنو بكر: نحن مع قريش ... "4. وقد وردت أحاديث أخرى ببعض تلك الشروط: فمنها حديث البراء رضي الله عنه: (102) قال البخاري: حدثنا عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء رضي الله عنه قال: "اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة فأبى أهل مكة أن يدعوه يدخل مكة حتى قاضاهم على أن يقيم بها ثلاثة أيام فلما كتبوا الكتاب، كتبوا هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: لا نقر بها، فلو نعلم أنك رسول الله ما منعناك، لكن أنت محمد بن عبد الله ثم قال لعلي: امح رسول الله، قال: لا والله لا أمحوك أبداً، فأخذ رسول الله الكتاب، فكتب5، هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد
الله لا يدخل مكة سلاح إلا في القراب، وأن لا يخرج من أهلها بأحد إن أراد أن يتبعه، وأن لا يمنع أحداً من أصحابه أراد أن يقيم بها، فلما دخلها ومضى الأجل أتوا علياً فقالوا: قل لصاحبك أخرج عنا فقد مضى الأجل، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فتبعته ابنة حمزة ... " 1. وأخرجه في المغازي2 بنفس السند، وفي: "فأخذ الكتاب - وليس يحسن يكتب - فكتب: ... ". ومنها حديث ابن عمر رضي الله عنهما: (103) قال البخاري: حدثنا محمد بن رافع حدثنا سريج بن النعمان حدثنا فليح عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج معتمراً فحال كفار قريش بينه وبين البيت، فنحر هديه وحلق رأسه بالحديبية، وقاضاهم على أن يعتمر من العام المقبل، ولا يحمل سلاحاً إلا سيوفاً ولا يقيم بها إلا ما أحبوا، فاعتمر من العام المقبل، فدخلها كما كان صالحهم، فلما أقام بها ثلاثاً أمروه أن يخرج، فخرج"3. وأخرجه4 في المغازي عن محمد بن رافع بهذا السند وعن محمد بن الحسين بن إبراهيم عن أبيه عن فليح به. ومنها أيضاً حديث أنس رضي الله عنه: (104) قال مسلم: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس أن قريشاً صالحوا النبي صلى الله عليه وسلم فيهم سهيل بن عمرو، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي: (اكتب بسم الله الرحمن الرحيم) قال سهيل: أما بسم الله فما ندري ما (بسم الله الرحمن الرحيم) ؟ ولكن اكتب ما نعرف باسمك اللهم، فقال: أكتب (محمد رسول الله) قالوا: لو نعلم أنك رسول الله لاتبعناك ولكن اكتب اسمك واسم أبيك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اكتب (من محمد بن عبد الله) فاشترطوا على النبي صلى الله عليه وسلم أن من جاء منكم لم نرده عليكم، ومن جاءكم منا رددتموه علينا.
فقالوا: يا رسول الله تكتب هذا؟ قال: نعم، إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله، ومن جاءنا منهم سيجعل الله له فرجاً ومخرجاً" 1. وأخرجه أحمد2 عن عفان به مثله، إلا أنه لم يذكر في آخره: "ومن جاءنا منهم ... ". ملخص الشروط التي وقع عليها صلح الحديبية: (1) أن يرجع المسلمون ذلك العام ولا يصلوا إلى مكة. (2) يقضون عمرتهم من العام المقبل ويقيمون بمكة ثلاثة أيام. (3) لا يدخلون مكة بسلاح إلا سلاح الراكب، السيوف في القرب. (4) من جاء النبي صلى الله عليه وسلم من قريش بغير إذن وليه يرده عليهم، ومن جاء قريشاً من المسلمين لا ترده إليهم. (5) من أراد أن يدخل في عقد النبي صلى الله عليه وسلم وعهده دخل فيه، وله مثل شرطه، ومن أراد أن يدخل في عقد قريش وعهدها دخل فيه، وله مثل شرطها. (6) أن بينهم عيبة مكفوفة. (7) أنه لا إسلال ولا إغلال. (8) توضع الحرب بينهم عشر سنين. وهذا التحديد بعشر سنين ورد في حديث المسور ومروان من طريق ابن إسحاق وإسناده حسن3. وقد جاء في حديث ابن عمر عند ابن عدي وغيره أن مدة الهدنة كانت أربع سنين.
(105) قال ابن عدي: أخبرنا القاسم1 بن مهدي قال: ثنا يعقوب2 بن كاسب قال: ثنا عبد الله بن نافع3 عن عاصم4 بن عمر عن عبد الله5 بن دينار عن ابن عمر قال: كانت الهدنة بين النبي صلى الله عليه وسلم وأهل مكة عام الحديبية أربع سنين6. وأخرجه الطبراني7 من طريق عبد الله بن نافع بع نحوه. وذكره الهيثمي في المجمع وقال: رواه الطبراني في الأوسط، ورجاله ثقات8. وقال ابن حجر: سندع ضعيف، وهو منكر مخالف للصحيح9. قلت: هو كما قال ابن حجر منكر لأن مداره على عاصم بن عمر وقد قال البخاري: منكر الحديث وضعفه غير واحد10، وقد خالف حديثه هذا ما ثبت في رواية ابن إسحاق.
المبحث الثالث: كاتب الصلح وشهوده
المبحث الثالث: كاتب الصلح وشهوده: أ - كاتب الصلح: كان الذي كتب عقد الصلح بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين مشركي قريش يوم الحديبية هو علي بن أبي طالب، كما ثبت في الأحاديث والآثار التالية
(106) قال عبد الرزاق: عن عكرمة1 بن عمار قال: أخبرنا أبو زميل2 سماك الحنفي أنه سمع ابن عباس يقول: كاتب الكتاب يوم الحديبية علي بن أبي طالب3. الحديث صحيح بهذا الإسناد، فعكرمة بن عمار وأبو زميل ثقتان أخرج لهما مسلم. (107) وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر4 قال: سألت عنه الزهري فضحك وقال: هو علي بن أبي طالب، ولو سألت عنه هؤلاء قالوا: عثمان بن عفان يعني بني أمية5. هذا الأثر أرسله الزهري، لكن يشهد هل حديث ابن عباس السابق وغيره. (108) وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد6 قال: حدثنا سلمة7 عن محمد بن إسحاق عن بريدة8 بن سفيان بن فروة الأسلمي عن محمد9 بن كعب القرظي
عن علقمة1 بن قيس النخعي عن علي2 بن أبي طالب رضي الله عنه قال: دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اكتب "بسم الله الرحمن الرحيم" فقال سهيل: لا أعرف هذا ... 3 الحديث. سند هذا الحديث ضعيف جداً؛ لأن فيه ابن حميد (هو محمد) بن حميد الرازي، قال الذهبي: منكر الحديث4، وفي إسناده أيضاً بريدة بن سفيان، قال البخاري: فيه نظر، وسئل أحمد عن حديثه فقال: بليه، وقال الدارقطني: متروك5. لكن الحديث أصله في الصحيحين دون ما في آخره، ومما أشار إلى ذلك في الصحيح ما يلي: (109) قال البخاري: حدثنا محمد بن بشار حدثنا غندر حدثنا شعبة عن أبي إسحاق قال: سمعت البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: لما صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الحديبية كتب علي بن أبي طالب رضي الله عنه بينهم كتاباً فكتب: "محمد رسول الله" فقال المشركون: لا تكتب محمد رسول الله، لو كنت رسول الله لم نقاتلك فقال لعلي: امحه، فقال علي: ما أنا بالذي أمحاه، فمحاه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، وصالحهم على أن يدخل هو وأصحابه ثلاثة أيام ولا يدخلها إلا بجلبان السلاح، فسألوه: ما جلبان السلاح؟ قال: القراب بما فيه"6. وأخرجه7 مسلم عن محمد بن المثنى وابن بشار، كلاهما عن غندر به نحوه. وأخرجه8 عن عبيد الله بن معاذ عن أبيه عن شعبة به قال فيه: "كتب علي
بن أبي طالب الصلح بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين يوم الحديبية، فكتب: هذا ما كاتب عليه محمد رسول الله ... " الحديث بنحوه. (ب) الشهود على الصلح: أما الشهود على هذا العقد فقد سماهم حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه عند ابن جرير: فبعد أن ذكر الكاتب وما دار بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وسهيل بن عمرو وما اتفقوا عليه وقصة أبي جندل، قال: فلما فرغ من الكتاب أشهد على الصلح رجالاً من المسلمين ورجالاً من المشركين: أبا بكر بن أبي قحافة، وعمر بن الخطاب، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن سهيل بن عمرو، وسعد بن أبي وقاص، ومحمود بن مسلمة أخا بني عبد الأشهل، ومكرز بن حفص بن الأخيف، وهو مشرك أخا بني عام بن لؤي، وعلي بن أبي طالب "وهو كاتب الصحيفة"1. سبق أن بينت ضعف هذا الحديث. وقد ذكر الواقدي2 وابن سعد3 هؤلاء الشهود سوى عبد الله بن سهيل بن عمرو وعلي بن أبي طالب، وقالا: محمد بن مسلمة بدل محمود بن مسلمة، وزادا: عثمان بن عفان وأبا عبيدة بن الجراح، وحويطب بن عبد العزى وكان مشركاً آنذاك.
المبحث الرابع: تألم عمر وبعض الصحابة من شروط قريش
المبحث الرابع: تألم عمر وبعض الصحابة من شروط قريش: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخذ على نفسه ألا يرد خطة يعرضها عليه المشركون تهدف إلى تعظيم حرمات الله، ومن هذا المنطلق جعل يوافق على كل ما تمليه قريش من شروط بل كان يتنازل عما يريده هو إذا رأى تصلباً من جانب قريش، فقد جاء في حديث المسور ومروان من طريق معمر ما نصه: "فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "بسم الله الرحمن الرحيم" فقال سهيل: "أما الرحمن" فوالله ما أدري ما هي، ولكن اكتب: "باسمك اللهم" كما كنت تكتب فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا: "بسم الله الرحمن الرحيم"،
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اكتب "باسمك اللهم" ثم قال: "هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله" فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت، ولا قاتلناك، ولكن أكتب: "محمد بن عبد الله" فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "والله إني لرسول الله وإن كذبتموني" اكتب "محمد بن عبد الله"، قال الزهري: وذلك لقوله: "لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها ... "1 الحديث. فهذا النص يصور لنا مدى تسامح رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قريش، وقد استغلت قريش ذلك اللين من رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلت تملي شروطها، يظهر منها الأجحاف في حق المسلمين الأمر الذي أثار حفيظة بعض المسلمين حتى فعل ما فعل: ففي حديث المسور ومروان2 السابق: "فقال سهيل: وعلى أنه لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا، قال المسلمون: سبحان الله كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلماً؟ فبينما هم كذلك إذ دخل أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف3 في قيوده، وقد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين، فقال سهيل: هذا يا محمد أول من أقاضيك عليه أن ترده إلي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنا لم نقض الكتاب بعد، قال: فوالله إذاً لم أصالحك على شيء أبداً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: فأجزه4 لي، قال: ما أنا بمجيزه لك، قال: بلى فافعل، قال: ما أنا بفاعل، قال مكرز: بل قد أجزناه لك، قال أبو جندل: أي معشر المسلمين أرد إلى المشركين وقد جئت مسلماً؟ ألا ترون ما لقيت؟ وكان قد عذب عذاباً شديداً في الله، قال: فقال عمر بن الخطاب: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: ألست نبي الله حقاً؟ قال: بلى، قلت: ألسنا على الحق وعدونا على
الباطل؟ قال: بلى، قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذاً؟ قال: إني رسول الله ولست أعصيه، وهو ناصري، قلت: أو ليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: بلى، فأخبرتك أنك تأتيه العام؟ قال: قلت: لا، قال: فإنك آتيه ومطوف به، قال: فأتيت أبا بكر فقلت يا أبا بكر: أليس هذا نبي الله حقاً؟ قال: بلى، قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى، قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذاً؟ قال: أيها الرجل إنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليس يعصي ربه، وهو ناصره فاستمسك بغرزه فوالله إنه لعلى الحق. قلت: أليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: بلى، أفأخبرك أنك تأتيه العام؟ قلت: لا، قال فإنك آتيه ومطوف به، قال الزهري1: قال عمر: فعملت لذلك أعمالاً ... ". وفي حديث المسور ومروان أيضاً من طريق ابن إسحاق: "فأتاه سهيل بن عمرو فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: قد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل، فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تكلما وأطالا الكلام وتراجعا، حتى جرى بينهما الصلح فلما التأم الأمر ولم يبق إلا الكتاب، وثب عمر ابن الخطاب فأتى أبا بكر فقال: يا أبا بكر أوليس برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أو لسنا بالمسلمين؟ أوليسوا بالمشركين؟ قال: بلى، قال: فعلام نعطي الذلة في ديننا؟ فقال أبو بكر: يا عمر إلزم غرزه حيث كان، فإني أشهد أنه رسول الله، قال عمر: وأنا أشهد، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أولسنا بالمسلمين؟ أوليسوا بالمشركين؟ قال: بلى، قال: فعلام نعطي الذلة في ديننا؟ فقال: أنا عبد الله ورسوله لن أخالف أمره ولم يضيعني، ثم قال عمر: ما زلت أصوم وأعتق من الذي صنعت مخافة كلامي الذي تكلمت به يومئذ، حتى رجوت أن يكون خيراً ... "2. وفي موضع آخر3 في رواية ابن إسحاق أيضاً: "وقد كان المسلمون خرجوا وهم لا يشكون في الفتح لرؤيا رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأوا ما رأوا من الصلح وما تحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفسه دخل الناس من ذلك أمر عظيم حتى كادوا أن يهلكوا، فلما رأى سهيل أبا جندل قام إليه فضرب وجهه ثم قال: يا محمد قد لجّت4 القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا، قال: صدقت فقام إليه فأخذ بتلبيبه5 قال: وصرخ أبو جندل بأعلى صوته يا معاشر المسلمين أتردونني إلى أهل الشرك فيفتنوني في ديني، قال: فزاد الناس شراً إلى ما بهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا جندل اصبر واحتسب
فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحاً فأعطيناهم على ذلك، وأعطونا عليه عهداً وإنا لن نغدر بهم، قال: فوثب إليه عمر بن الخطاب مع أبي جندل فجعل يمشي إلى جنبه وهو يقول: اصبر أبا جندل فإنما هم المشركون وإنما دم أحدهم دم كلب، قال: ويدني قائم السيف منه قال يقول: رجوت أن يأخذ السيف فيضرب به أباه قال: فظن1 الرجل بأبيه ونفذت القضية ... ". وقد وردت قصة عمر في حديث سهل بن حنيف أيضاً: (110) قال البخاري: حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا يحيى بن آدم حدثنا يزيد بن عبد العزيز عن أبيه حدثنا حبيب بن ثابت قال: حدثني أبو وائل قال: كنا بصفين فقام سهل بن حنيف فقال: أيها الناس اتهموا أنفسكم فإنا كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية، ولو نرى قتالاً لقاتلنا، فجاء عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ فقال: بلى، فقال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: بلى، قال: فعلام نعطي الدنية2 في ديننا؟ أنرجع ولا يحكم الله بيننا وبينهم؟ فقال: يا ابن الخطاب إني رسول الله ولن يضيعني الله أبداً، قال: فانطلق عمر إلى أبي بكر فقال له: مثل ما قال للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إنه رسول الله ولن يضيعه الله أبداً، فنزلت سورة الفتح، فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم على عمر إلى آخرها، فقال عمر: يا رسول الله أو فتح هو؟ قال: نعم"3. وأخرجه من طريق يعلى بن عبيد الطنافسي عن عبد العزيز عن حبيب قال: "أتيت أبا وائل أسأله فقال: كنا بصفين فقال رجل: ألم تر إلى الذين يدعون إلى كتاب الله فقال علي: نعم، فقال سهل بن حنيف: اتهموا أنفسكم فقد رأيتنا يوم الحديبية - يعني الصلح الذي كان بين النبي صلى الله عليه وسلم والمشركين - ولو نرى قتالاً لقاتلنا فجاء عمر ... "4 الحديث، دون قوله: "فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم على عمر ... ".
وأخرجه مسلم1 من طريق عبد الله بن نمير عن عبد العزيز بن سياه به فذكر نحوه وزاد في آخره: "فطابت نفسه ورجع". وأخرجه أحمد2 من طريق يعلى بن عبيد عن عبد العزيز به نحوه وذكر في أوله قصة. وأخرجه البيهقي3 من طريق يعلى بن عبيد وعبد الله بن نمير كلاهما عن عبد العزيز به فذكره بنحوه وزاد في آخره: "فطابت نفسه ورجع". كانت هذه رواية حبيب بن أبي ثابت عن أبي وائل، وقد رواه عنه غيره: فأخرجه البخاري من طريق الأعمش عن أبي وائل: قال: حدثنا عبدان أخبرنا أبو حمزة قال: سمعت الأعمش قال: "سألت أبا وائل شهدت صفين؟ قال: نعم: فسمعت سهل بن حنيف يقول: اتهموا رأيكم، رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لرددته وما وضعنا أسيافنا على عواتقنا لأمر يفضعنا إلا أسهلن بنا إلى أمر نعرفه غير أمرنا هذا"4. وأخرجه5 من طريق أبي عوانة عن الأعمش به نحوه، وزاد في آخره: وقال أبو وائل: "شهدت صفين وبئست صفين". وأخرجه مسلم6 من طريق أبي معاوية وجرير ووكيع كلهم عن الأعمش به نحوه. وأخرجه أحمد7 والحميدي8 كلاهما من طريق ابن عيينة عن الأعمش به نحوه. وأخرجه البخاري من طريق أبي الحصين عن أبي وائل:
قال: حدثنا الحسن بن إسحاق حدثنا محمد بن سابق حدثنا مالك ابن مغول قال: سمعت أبا حصين قال: قال أبو وائل: لما قدم سهل بن حنيف من صفين أتيناه نستخبره فقال: اتهموا الرأي فلقد رأيتني يوم أبي جندل ... " وذكر بنحو من رواية الأعمش، وزاد في آخره: "ما نسد منها خصماً إلا تفجر علينا خصم، ما ندري كيف نأتي له"1. وأخرجه مسلم2 من طريق أبي أسامة عن مالك بن مغول به نحوه. وقد تحدث عمر رضي الله عنه - نفسه - عما قاساه من عنت قريش يوم صلح الحديبية، جاء ذلك في حديثه عند ابن سعد. (111) قال: أخبرنا موسى3 بن مسعود النهدي أخبرنا عكرمة بن عمار عن أبي زميل4 عن ابن عباس قال: قال عمر5 بن الخطاب: لقد صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة على صلح وأعطاهم شيئاً لو أن نبي الله أمر علي أميراً فصنع الذي صنع نبي الله ما سمعت ولا أطعت، وكان الذي جعل: أن من لحق من الكفار بالمسلمين يردون ومن لحق بالكفار لم يردوه"6. وقد أورده السيوطي ثم عزاه لابن سعد، وقال: سنده صحيح7. قلت: الحديث حسن لأن في سنده موسى بن مسعود النهدي مختلف فيه، فقد ضعفه الترمذي وبندار وقال ابن خزيمة لا أحتج به، وقال الحاكم: ليس بالقوي عندهم8 بينما وثقة العجلي، وقال أبو حاتم: صدوق، وقال أحمد: صدوق في حفظه شيء، وقال ابن معين: لم يكن من أهل الكذب، وقال ابن سعد: كان كثير
الحديث، ثقة إن شاء الله، حسن الرواية عن عكرمة بن عمار والثوري وزهير بن محمد1 ا. هـ فإذا استعرضنا أقوال علماء الجرح والتعديل السابقة في موسى بن مسعود نجد أن الذين عدلوه أرسخ قدماً وأطول باعاً في هذا المضمار من الذي جرحوه، ثم نجد أيضاً أن الذين جرحه لم يبينوا سبب التجريح اللهم إلا ما روي عن أحمد أنه قال: صدوق في حفظه شيء، فإذا حملنا تضعيفهم له على هذا الشيء اليسير في حفظه فلا يرد هذا الطعن على روايته عن عكرمة بن عمار؛ لأن ابن سعد قد نص على أن حديثه عن عكرمة بن عمار حسن، كما سبقت الإشارة إليه. فالذي ترجح لي أن هذا الحديث حسن، والله أعلم. وقد أشار عمر رضي الله عنه إلى بعض ما حصل له أيضاً في حديثه عند البزار وغيره: (112) قال البزار: حدثنا محمد2 بن المثنى قال حدثنا يونس3 بن عبيد الله العميري قال: ثنا المبارك4 بن فضالة عن عبيد الله5 عن نافع6 عن ابن عمر عن عمر أنه قال: اجتهدوا الرأي على الدين فلقد رأيتني يوم أبي جندل أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لرأيي وما آلوا7 عن الحق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكتب كتاباً بينه وبين أهل مكة، فقال: اكتب "بسم الله الرحمن الرحيم" فقالوا: لو نرى ذلك صدقناك بما تقول
ولكن اكتب كما كنت تكتب "باسمك اللهم" فرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبيت حتى قال: "تراني قد رضيت وتأبى أنت"، قال: فرضيت1. قال البزار: "لا نعلمه يروى عن عمر إلا من هذا الوجه، ولم يشارك مباركاً في روايته عن عبيد الله في هذا الحديث أحد، وقد رواه غير عمر". وأخرجه الطبراني عن علي2 بن عبد العزيز عن يونس بن عبيد الله به قال: "أيها الناس اتهموا الرأي على الدين، فلقد رأيتني أرد أمر رسول اله برأيي واجتهاداً، فوالله ما آلوا عن الحق وذلك يوم أبي جندل ... "3 الحديث بنحوه. وأخرجه أبو نعيم من طريق يونس بن عبيد الله عن مبارك به نحوه4. ذكر الهيثمي هذا الحديث في المجمع في موضعين منه قال في أحدهما: رواه البزار ورجاله رجال الصحيح5 ا. هـ قلت: هذا وَهْمٌ منه رحمه الله فمبارك ليس من رجال الصحيح، وسأنبه عليه فيما بعد إن شاء الله وأبين سببه. وقال في الموضع الآخر: رواه أبو يعلى ورجاله موثوقون، وإن كان فيه مبارك بن فضالة6 ا. هـ قلت: مبارك بن فضالة مختلف فيه، فقد ضعفه النسائي وغيره، ووثقه عفان وكان يحيى بن سعيد القطان يحسن الثناء عليه، واختلف قول ابن معين فيه، فمرة وثقه، ومرة قال: صالح، ومرة قال: ضعيف. وقال أبو زرعة: يدلس كثيراً فإذا قال: حدثنا فهو ثقة، وقال أبو داود: شديد
التدليس، فإذا قال: حدثنا فهو ثبت ووصفه أحمد بالتدليس أيضاً1. وذكر ابن حجر أنه يدلس ويسوي2. وقال ابن عدي: عامة أحاديثه أرجو أن تكون مستقيمة3. وذكر الذهبي أقوال العلماء فيه ثم قال: هو حسن الحديث، ولم يذكره ابن حبان في الضعفاء، وكان من أوعية العلم4 ا. هـ قلت: الذي يترجح لي في مبارك بن فضالة أن حديثه حسن إذا صرح بالسماع، وهذا الحديث لم يصرح فيه بالسماع لكن يشهد له ما في حديث المسور ومروان عند البخاري. قال الهيثمي: "وهو في الصحيح بطوله، ولم أر فيه قوله: "يا عمر تراني قد رضيت وتأبى أنت"5. تنبيه: سبق أن ذكرت قول الهيثمي عن الحديث: "رجاله رجال الصحيح". وأشرت إلى أن في سند الحديث من ليس من رجال الصحيح، وهو مبارك بن فضالة، ووعدت ببيان سبب قول الهيثمي هذا، فأقول وبالله التوفيق سبب ذلك: أن السند الذي نقله الهيثمي مع الحديث في "كشف الأستار" ليس فيه مبارك بن فضالة وهذا نصه: "حدثنا محمد بن المثنى ثنا يحيى بن سعيد عن عبيد الله قال: أخبرني نافع عن ابن عمر ... "6. فهذا السند رجاله رجال الصحيح، كما قال الهيثمي: لكنه ليس بسند الحديث إنما هو سند حديث آخر - يسبق الحديث الذي نحن بصدده في "المسند" - وهو: "عن عمر أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "تصيبني الجنابة من الليل، فأمره أن يتوضأ وضوءه للصلاة"7.
فلعل ما حصل هو سبق نظر من الهيثمي1 رحمه الله، أو أنه أخذه عن نسخة أخرى قد انقلب السند فيها. فالحاصل: أن حكم الهيثمي على سند البزار إنما هو على السند المقلوب لا السند الأصلي، الذي فيه مبارك بن فضالة، والله أعلم.
المبحث الخامس: موقف المسلمين من صلح الحديبية
المبحث الخامس: موقف المسلمين من صلح الحديبية المطلب الأول: وفاء المسلمين بالعهد ... المطلب الأول: وفاء المسلمين بالعهد: لقد تألم المسلمون كثيراً ووجدوا في أنفسهم من بعض الشروط التي أملتها قريش، وجدوا في أنفسهم أنهم رأوا أن الرضا بها يعبر عن الضعف والاستكانة أمام الكفار بل صرح عمر رضي الله عنه بذلك حين قال: "فعلام نعطي الدنية في ديننا إذن"1. لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رضي تلك الشروط ووقّع العقد مع قريش عليها، وصرح بأنه إنما يفعل ذلك بأمر الله2، فليس أمام المسلمين إلا التسليم والرضا بما رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} 3. ولقد سلموا لأمر الله ورسوله تسليماً يصاحبه الإيمان بأن الخير فيما اختاره الله، وقد ترجموا ذلك بأفعالهم، فقد رأينا في قصة أبي جندل4 مع أبيه كيف ابتزه من بين ظهرانيهم وهو يستغيث فلا يستجاب له، وهذا أبو بصير يلحق بهم في المدينة ثم تسترجعه قريش من ثم ... فقد جاء في حديث المسور ومروان من طريق معمر ما نصه: "ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فجاءه أبو بصير رجل من قريش وهو مسلم، فأرسلوا في طلبه رجلين فقالوا: العهد الذي جعلت لنا، فدفعه إلى الرجلين، فخرجا به حتى إذا بلغا ذا الحليفة فنزلوا يأكلوا من تمر لهم، فقال أبو بصير لأحد الرجلين: والله إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيداً، فاستله الآخر فقال: أجل والله إنه لجيد لقد
جربت به ثم جربت فقال أبو بصير: أرني أنظر إليه، فأمكنه منه فضربه حتى برد، وفرّ الآخر حتى أتى المدينة فدخل المسجد يعدو فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه: لقد رأى هذا ذعراً1، فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: قتل والله صاحبي وإني لمقتول فجاء أبو بصير فقال: يا نبي الله: قد والله أوفى الله ذمتك قد رددتني إليهم ثم نجاني الله منهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ويل أمه مِسْعَر2 حرب، لو كان له أحد فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده عليهم فخرج حتى أتى سِيْفَ3 البحر ... "4. وأخرجه البيهقي من طريق ابن إسحاق بسياق آخر فيه شيء من التفصيل: يقول فيه ما نصه: "قالا: ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة واطمأن بها، أفلت إليه أبو بصيرة عتبة بن أسيد بن جارية الثقفي حليف بني زهرة، فكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه الأخنس بن شريق والأزهر بن عبد عوف وبعثا بكتابهما مع مولى لهما ورجل من بني عامر بن لؤي استأجروه ليرد عليهما صاحبهما أبا بصير، فقدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم فدفعا إليه كتابهما فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بصير إن هؤلاء القوم قد صالحونا على ما قد علمت، وإنا لن نغدر فالحق بقومك، فقال: يا رسول الله تردني إلى المشركين يفتنوني في ديني ويعبثون بي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اصبر يا أبا بصير، واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين من المؤمنين فرجاً ومخرجاً، قال: فخرج أبو بصير وخرجا حتى إذا كانوا بذي الحليفة جلسوا إلى سور جدار فقال أبو بصير للعامري أصارم سيفك هذا يا أخا بني عامر؟ قال: نعم، قال أنظر إليه، قال إن شئت، فاستلّه فضرب به عنقه وخرج المولى يشتد فطلع على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: هذا رجل قد رأى فزعاً فلما انتهى إليه قال: ويحك مالك، قال: قتل صاحبكم صاحبي، فما برح حتى طلع أبو بصير متوشحاً5 السيف، فوقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله وفت ذمتك وأدى الله عنك، امتنعت بنفسي عن المشركين أن يفتنوني في ديني، وأن يعبثوا بي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
ويل أمه، مِحَش1 حرب، لو كان معه رجال، فخرج أبو بصير حتى نزل بالعيص ... "2. وأخرجه من طريق موسى بن عقبة عن الزهري مرسلاً فذكر قدومه المدينة المنورة بنحو ما في رواية ابن إسحاق ثم قال: "فبعث في أثره الأخنس بن شريق في رجلين من بني منقذ3 أحدهما زعموا مولى، والآخر من أنفسهم اسمه جحش بن جابر وكان ذا جلد ورأي في أنفس المشركين، وجعل لهما الأخنس في طلب أبي بصير جعلاً4، فقدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم فدفع أبا بصير إليهما فخرجا حتى إذا كانا بذي الحليفة سلّ جحش سيفه ثم هزه فقال: لأضربن بسيفي هذا في الأوس والخزرج يوماً إلى الليل، فقال له أبو بصير: أو صارم سيفك هذا؟ قال: نعم، قال: ناولنيه أنظر إليه، فناوله إليه فلما قبض عليه ضربه حتى برد، ويقال: بل تناول أبو بصير سيف المنقذي بفيه وهو نائم فقطع إساره ثم ضربه حتى برد وطلب الآخر فجمز5 مذعوراً مستخفياً حتى دخل المسجد ... " وذكر نحو ما في رواية ابن إسحاق ثم زاد: "وجاء أبو بصير بسلبه إلى رسول الله فقال خَمِّسْ يا رسول الله قال: إني إذا خمست لم أوف لهم بالذي عاهدتهم عليه، ولكن شأنك بسلب صاحبك، ثم اذهب حيث شئت، فخرج أبو بصير ... "6. وأخرجه7 من طريق أبي الأسود عن عروة مرسلاً بنحو مرسل الزهري إلا أن فيه اختصار. وقصة أبي بصير وردت موصوله كما سبق في حديث المسور ومروان من طريق معمر وابن إسحاق وصرح ابن إسحاق بالسماع فلا يضرها الإرسال. فقصة أبي بصير هذه مع ما سبق من قصة أبي جندل ترسم لنا صورة واقعية لوفاء المسلمين بعهودهم إذ لم يحل بينهم وبين منع إخوانهم من قريش سوى الوفاء
بالعهد، والوفاء وحده، وإلا فقد لحق بالمسلمين قبيل الصلح ناس من قريش ليسوا بأعز عليهم من أبي جندل وأبي بصير، وجاء في طلبهم بعض سادة قريش فلم يمكنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم، كما بين ذلك حديث علي الآتي: (113) قال أبو داود: حدثنا عبد العزيز1 بن يحيى الحراني حدثني محمد2 - يعني ابن سلمة - عن محمد3 بن إسحاق عن أبان4 بن صالح عن منصور بن المعتمر عن ربعي5 بن حراش عن علي بن أبي طالب قال: خرج عُبْدان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني يوم الحديبية، قبل الصلح فكتب إليه مواليهم فقالوا: يا محمد والله ما خرجوا إليك رغبة في دينك، وإنما خرجوا هرباً من الرق، فقال ناس: صدقوا يا رسول الله ردهم إليهم، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "وما أراكم تنتهون يا معشر قريش حتى يبعث الله عليكم من يضرب رقابكم على هذا"، وأبى أن يردهم وقال: "هم عتقاء الله عز وجل"6. وأخرجه البيهقي7 من طريق عبد العزيز بن يحيى الحراني به فذكره بمثله. وأخرجه الترمذي من وجة آخر بسياق آخر: (114) قال: حدثنا سفيان8 بن وكيع قال: حدثني أبي9 عن شريك10
عن منصور عن ربعي بن حراش عن علي بن أبي طالب بالرحبة1 قال: لما كان يوم الحديبية خرج إلينا ناس من المشركين فيهم سهيل بن عمرو وناس من المشركين فقالوا: يا رسول الله خرج إليك ناس من أبنائنا وإخواننا وأرقائنا، وليس لهم فقه في الدين، وإنما خرجوا فراراً من أموالنا وضياعنا فارددهم إلينا، قال: فإن لم يكن لهم فقه في الدين سنفقههم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا معشر قريش لتنتهن أو ليبعثن الله عليكم من يضرب رقابكم بالسيف على الدين قد امتحن الله قلبه على الإيمان"، قالوا: من هو يا رسول الله؟ فقال له أبو بكر: من هو يا رسول الله؟ وقال عمر: من هو يا رسول الله؟ قال: هو خاصف2 النعل، وكان قد أعطى علياً نعله يخصفها، ثم التفت إلينا علي فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار"3. وأخرجه أحمد4 عن أسود بن عامر5 عن شريك به مختصراً ولم يذكر أن ذلك في الحديبية. وقال الترمذي بعد أن أخرج الحديث: هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث ربعي عن علي، قال: وسمعت الجارود يقول: سمعت وكيعاً يقول: لم يكذب ربعي بن حراش في الإسلام كذبة، وأخبرني محمد بن إسماعيل عن عبد الله بن أبي الأسود قال: سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: منصور بن المعتمر أثبت أهل الكوفة"6. وقد نقل السيوطي7 تصحيح هذا الحديث عن ابن جرير. قلت: نعم الحديث صحيح، ولكن بمجموع طرقه.
ففي سند أبي داود شيخه عبد العزيز بن يحيى صدوق ربما وهم، كما قال ابن حجر. وفي سند الترمذي أيضاً شيخه سفيان بن وكيف صدوق إلا أنهم تركوا حديثه لما أدخل عليه وراقة ما ليس منه، لكن أخرج الحديث أحمد عن أسود بن عامر الشامي شاذان وهو ثقة. وفي سند أبي داود أيضاً لم يصرخ ابن إسحاق بالسماع لكن تابعه وكيع بن الجراح عن شريك عن منصور عند الترمذي وشريك متكلم في حفظه، لكن قال ابن معين1: شريك صدوق ثقة، إلا أنه إذا خالف فغيره أحب إلينا منه. وقال ابن عدي2: إذا روى عنه ثقة فلا بأس بروايته. قلت: قد روى عنه هنا أسود بن عامر الشامي، وهو ثقة كما قال ابن حجر. وبقية رجال السند ثقات، فالحديث صحيح بمجموع طرقه، والله أعلم.
المطلب الثاني: بيان أن امتناع النبي صلى الله عليه وسلم عن رد المهاجرات ليس إخلالا بالصلح
المطلب الثاني: بيان أن امتناع النبي صلى الله عليه وسلم عن رد المهاجرات ليس إخلالاً بالصلح: ورد في حديث المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم من طريق عقيل أن النبي صلى الله عليه وسلم امتنع عن رد المهاجرات في الهدنة إلى قريش: (115) قال البخاري: حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب قال: أخبرني عروة بن الزبير أنه سمع مروان والمسور بن مخرمة رضي الله عنهما يخبران عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لما كاتب سهيل بن عمرو يومئذ كان فيما اشترط سهيل بن عمرو على النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يأتيك منا أحد - وإن كان على دينك - إلا رددته إلينا، وخليت بيننا وبينه، فكره المؤمنون ذلك وامتعضوا1 منه، وأبى سهيل إلا ذلك، فكاتبه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك فرد يومئذ أبا جندل إلى أبيه سهيل بن عمرو، ولم يأته أحد من الرجال إلا رده في تلك المدة، وإن كان مسلماً وجاءت المؤمنات مهاجرات وكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ممن خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
يومئذ - وهي عاتق1 - فجاء أهلها يسألون النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجعها إليهم فلم يرجعها إليهم لما أنزل الله فيهن: {إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ} إلى قوله {وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} 2.3 وأخرجه البيهقي4 من طريق ابن عقيل به، فذكره بمثله. (116) وأخرجه ابن إسحاق عن عروة بسياق آخر مرسلاً: قال ابن إسحاق: فحدثني الزهري عن عروة بن الزبير قال: دخلت عليه وهو يكتب كتاباً إلى ابن أبي هنيدة صاحب الوليد بن عبد الملك وكتب إليه يسأله عن قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ ... } ، قال: فكتب إليه عروة بن الزبير: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان صالح قريشاً يوم الحديبية على أن يرد عليهم من جاء بغير إذن وليه، فلما هاجر النساء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى الإسلام أبى الله أن يرددن إلى المشركين، إذا هن امتحن بمحنة الإسلام، فعرفوا أنهم إنما جئن رغبة في الإسلام، وأمر برد صدقاتهن إليهم إن احتبسن عنهم، وإن هم ردوا على المسلمين صداق من حبسوا عنهم من نسائهم ذالكم حكم الله بينكم والله عليم حكيم، فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء ورد الرجال، وسأل الذي أمره الله به أن يسأل من صدقات نساء من حبسوا منهن وأن يردوا عليهم مثل الذي يردون عليهم، إن هم فعلوا ولولا الذي حكم الله به من هذا الحكم، لرد رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء كما رد الرجال، ولولا الهدنة والعهد الذي كان بينه وبين قريش يوم الحديبية لأمسك النساء ولم يردد لهن صداقاً، وكذلك كان يصنع بمن جاءه من المسلمات قبل العهد ... " 5.
وأخرجه ابن جرير1 والبيهقي2 كلاهما من طريق ابن إسحاق به مختصراً. وأخرجه البيهقي3 أيضاًَ عن طريق ابن إسحاق عن الزهري وعبد الله بن بكر ابن حزم مرسلاً. جاء هذا الحديث هنا من طريق ابن إسحاق مرسلاً وقد جاء موصولاً من طريق عقيل بن خالد الأيلي عند البخاري كما سبق قريباً، وخالد ثقة ثبت كما قال ابن حجر4، فالحكم هنا لمن وصله على الصحيح لأنها زيادة ثقة5. وقد جاء في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم امتنع عن رد النساء اللاتي هاجرن إلى المدينة أثناء الهدنة، فهل يعد هذا الفعل نقضاًَ للعهد أم لا؟ الواقع أنه ليس في امتناعه صلى الله عليه وسلم عن رد المهاجرات خروجاً عن المعاهدة للآتي: أ - إما لأنهن غير داخلات في العهد أصلاً فقد ورد في حديث المسور ومروان من طريق معمر ما نصه: "فقال سهيل: وعلى أنه لا يأتيك منا رجل - وإن كان على دينك - إلا رددته إلينا ... "، فقد نص هنا على الرجال دون النساء. (117) وقد أخرج ابن أبي حاتم من طريق مقاتل بن حيان: "أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: رد علينا من هاجر من نسائنا فإن شرطنا أن من أتاك منا أن ترده علينا، فقال: "كان الشرط في الرجال، ولم يكن في النساء". ذكر هذا الأثر ابن حجر ثم عقب عليه بقوله: وهذا لو ثبت كان قاطعاً للنزاع6. ب - وإما أن يكون العهد قد شملهن ثم نسخته في حقهن آية الامتحان وخصته بالرجال، فقد جاء في حديث المسور ومروان من طريق عقيل ما نصه:
"وكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ممن خرجن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ - وهي عاتق - فجاء أهلها يسألون النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجعها عليهم فلم يرجعها إليهم لما أنزل الله فيهن: {إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ ... } 1. الآية، والمراد منها قوله {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} ، وقد أشار أيضاً إلى نسخ المعاهدة في حق النساء حديث عبد الله ابن أبي أحمد عند ابن أبي عاصم: (118) قال حدثنا محمد2 بن يحيى الباهلي ثنا يعقوب3 بن محمد ثنا عبد العزيز بن عمران عن مجمع4 بن يعقوب عن حسين5 بن أبي لبابة عن عبد الله6 بن أبي أحمد بن جحش قال: هاجرت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط فخرج أخواها عمارة والوليد حتى قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلماه فيها أن يردها إليهما، فنقض الله العهد بينه وبين المشركين في النساء خاصة، فمنعهم أن يردوهن إلى المشركين وأنزل الله آية الامتحان7. وأخرجه أبو نعيم8 من طريق يعقوب بن محمد الزهري عن عبد العزيز بن
عمران به فذكره بمثله. وأورد ابن كثير1 وكذلك ابن حجر2 وعزواه لابن أبي عاصم. وذكره السيوطي3 وقال: أخرجه الطبراني وابن مردويه بسند ضعيف. قلت: نعم الحديث بهذا الإسناد ضعيف جداً؛ لأن فيه عبد العزيز بن عمران وهو متروك، وشيخ ابن أبي عاصم "الباهلي" لم أجد ترجمته. وأخرجه عمر بن شبة من حديث أم كلثوم مطولاً. (119) قال: حدثنا محمد4 بن يحيى أبو غسان قال: حدثني عبد العزيز بن عمران عن مجمع بن يعقوب الأنصاري عن الحسن ابن السائب بن أبي لبابة عن عبد الله بن أبي أحمد قال: قالت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط نزلت فيّ آيات من القرآن كنت أول من هاجر في الهدنة حين صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً على أنه من جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير إذن وليه رده إليه، ومن جاء قريشاً ممن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يردوه إليه، قالت: فلما قدمت المدينة قدم علي أخي الوليد بن عقبة، قالت: ففسخ الله العقد الذي بينه وبين المشركين في شأني فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} إلى قوله: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} ، قالت: ثم أنكحني رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة وكان أول من نكحني، فقلت: يا رسول الله زوجت بنت عمك مولاك؟ فأنزل الله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} 5، فسلمت لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم6 الحديث. وهذا الإسناد أيضاً ضعيف؛ لأن فيه عبد العزيز بن عمران لكن أصل الحديث ثابت في صحيح البخاري من حديث المسور ومروان من طريق عقيل بن خالد الأيلي.
المبحث السادس: موقف قريش من الصلح
المبحث السادس: موقف قريش من الصلح المطلب الأول: تخلى قريش عن أهم شروطها ... المطلب الأول: تخلي قريش عن أهم شروطها: كان الصلح في ظاهر شروطه لصالح قريش، حتى وجد المسلمون في أنفسهم من ذلك ما وجدوا، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قبل تلك الشروط كان يسير بتوجيه من الله العليم بما سيكون كيف يكون، فكان واثقاً كل الثقة أن كفته هي الراجحة، وإن ظهر للناس ما ظهر، وقد صرح بذلك في جوابه لعمر حين قال له عمر: "فعلام نعطي الدنية في ديننا إذاً؟ فأجابه صلى الله عليه وسلم بقوله: "إني رسول الله ولست أعصيه، وهو ناصري ... "1. أما قريش فكان محركها في سيرها هو العُنجُهِيَّة وحب السمعة، وقد صرحوا بذلك في وصيتهم لسهيل بن عمرو حين بعثوه للمفاوضة حيث قالوا له: ائت محمداً فصالحه ولا يكون في صلحه إلا أن يرجع عنا عامه هذا، فوالله لا تتحدث العرب أنه دخلها علينا عنوة أبداً" 2. وعلى أساس من هذه الوصية بنى سهيل بن عمرو شروطه للصلح، فعندما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به" فقال سهيل: "والله لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضُغْطَة ... "3. وهكذا كان هدف قريش هو الحفاظ على سمعتها دون نظر للعاقبة ولذلك صارت شروطها وبالاً عليها حتى تخلت عن أهم تلك الشروط، فطلبت من النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤوي من جاءه من مكة مسلماً ولا يرده إليها: ففي حديث المسور ومروان من طريق معمر بعد أن ذكر قصة أبي بصير وقتله للذي جاء في طلبه من قبل قريش قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ويل أمه مسعر حرب لو كان له أحد" فلما ذكر ذلك عرف أنه سيرده عليهم فخرج حتى أتى سيف البحر، قال: وينفلت أبو جندل بن سهيل فلحق بأبي بصير فجعل لا يخرج من قريش رجل
قد أسلم إلا لحق بأبي بصير حتى اجتمعت منهم عصابة، فوالله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلا اعترضوا لها فقتلوهم وأخذوا أموالهم، فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده الله والرحم لما أرسل إليهم فمن أتاه فهو آمن، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم فأنزل1 الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} - حتى بلغ الحمية حمية الجاهلية2، وكانت حميتهم أنهم لم يقروا أنه نبي الله ولم يقروا "بسم الله الرحمن الرحيم" وحالوا بينه وبين البيت"3. وفي حديثهما من طريق ابن إسحاق عند البيهقي بعد أن ذكر قتل أبي بصير للذي جاء في طلبه قال: "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ويل أمه محش حرب لو كان معه رجال" فخرج أبو بصير حتى نزل بالعيص4، وكان طريق أهل مكة إلى الشام فسمع به من كان بمكة من المسلمين وبما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، فلحقوا به حتى كان في عصبة من المسلمين قريب من الستين أو السبعين، فكانوا لا يظفرون برجل من قريش إلا قتلوه ولا تمر عليهم عير إلا اقتصعوها حتى كتبت قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه بأرحامهم لما آواهم فلا حاجة لنا بهم، ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدموا عليه المدينة"5. وأخرجه البيهقي أيضاً من طريق موسى بن عقبة عن الزهري مرسلاً مطولاً: فبعد أن ذكر قتل أبي بصير للذي جاء في طلبه قال: وجاء أبو بصير بسلبه إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: خَمِّسْ1 يا رسول الله قال: إني إذا خمسته لم أوف لهم بالذي عاهدتهم عليه، ولكن شأنك بسلب صاحبك، واذهب حيث شئت، فخرج أبو بصير معه خمسة نفر كانوا قد قدموا معه مسلمين من مكة، حيث قدموا فلم يكن طلبهم أحد، ولم ترسل قريش كما أرسلوا في أبي بصير حتى كانوا بين العيص وذي المروة2 من أرض جهينة على طريق عيرات قريش، مما يلي سِيْفَ البحر، لا يمر بهم عِيْر لقريش إلا أخذوها وقتلوا أصحابها، وكان أبو بصير يكثر أن يقول: الله ربي العليُّ الأكبر ... من يَنْصرِ الله فسوف يُنْصَرُ قع الأمر على ما يُقْدَر وانفلت أبو جندل بن سهيل بن عمرو في سبعين راكباً أسلموا وهاجروا فلحقوا بأبي بصير، وكرهوا أن يقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في هدنة المشركين، وكرهوا الثواء بين ظَهْرَيْ قومهم، فنزلوا مع أبي بصير في منزل كريه إلى قريش فقطعوا مادتهم من طريق الشام، وكان أبو بصير زعموا وهو في مكانة ذلك يصلي لأصحابه، فلما قدم عليه أبو جندل كان هو يؤمهم واجتمع إلى أبي جندل حين سمعوا بقدومه ناس من بني غفار وأسلم وجهينة، وطوايف من الناس، حتى بلغوا ثلثمائة مقاتل وهم مسلمون قال: فأقاموا مع أبي جندل وأبي بصير لا يمر بهم عيرات لقريش إلا أخذوها وقتلوا أصحابها فأرسلت قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان بن حرب يسألونه ويتضرعون إليه أن يبعث إلى أبي بصير وأبي جندل بن سهيل ومن معهما فيقدموا عليه وقالوا: من خرج منا إليك فأمسكه غير حرج أنت فيه فإن هؤلاء الركب قد فتحوا علينا باباً لا يصلح إقراره - فلما كان ذلك من أمرهم علم الذين كانوا أشاروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمنع أبا جندل من أبيه بعد القضية أن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم خير لهم فيما أحبوا وفيما كرهوا من أن يأتي من ظن أن له قوة، هي أفضل مما خص الله به رسوله صلى الله عليه وسلم من العون والكرامة3، ولم يزل أبو جندل وأبو بصير وأصحابهما الذين اجتمعوا إليهما
هنالك حتى مر بهم أبو العاص بن الربيع1، وكان تحته زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشام في نفر من قريش فأخذوهم وما معهم وأسروهم، ولم يقتلوا منهم أحداً لصهر أبي العاص رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو العاص يومئذ مشرك، وهو ابن أخت خديجة بنت خويلد لأمها وأبيها، وخلوا سبيل أبي العاص، فقدم المدينة على امرأته وهي بالمدينة عند أبيها، وكان أذن لها أبو العاص حين خرج إلى الشام أن تقدم المدينة فتكون مع رسول الله فكلمها أبو العاص في أصحابه الذين أسر أبو جندل وأبو بصير وما أخذوا لهم، فكلمت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فخطب الناس فقال: إنا ناسبنا وصاهرنا أبا العاص، فنعم الصهر وجدناه، وإنه أقبل من الشام في أصحاب له من قريش فأخذهم أبو جندل وأبو بصير ولم يقتلوا منهم أحداً، وإن زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم سألتني أن أجيرهم، فهل أنتم مجيرون أبا العاص وأصحابه، فقال الناس: نعم، فلما بلغ أبا جندل وأصحابه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في أبي العاص وأصحابه الذين كانوا عندهم من الأسرى رد إليهم كل شيء أخذ منهم حتى العقال، وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي جندل وأبي بصير يأمرهم أن يقدموا عليه، ويأمر من معهما ممن اتبعهما أن يرجعوا إلا بلادهم وأهليهم ولا يعترضوا لأحد من قريش وعيراتها، فقدم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم زعموا على أبي جندل وأبي بصير، وأبو بصير يموت، فمات وكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده يقرأه فدفنه أبو جندل مكانه، وجعل عند قبره مسجداً2، وقدم أبو جندل على رسول
الله صلى الله عليه وسلم ومعه ناس من أصحابه ورجع سائرهم إلى أهليهم، وأمنت عيرات قريش ... "1. ثم ذكر فيه نبذة عن حياة أبي جندل بعد ذلك. وأخرجه البيهقي أيضاً عن طريق2 أبي الأسود عن عروة مرسلاً بنحو مرسل الزهري إلا أنه لم يذكر قصة أبي العاص. رواية الزهري وغيره هذه مرسلة لكن أصل قصة أبي بصير وأبي جندل ثابت من حديث المسور ومروان السابق من طريق معمر وابن إسحاق.
المطلب الثاني: نقض قريش للعهد
المطلب الثاني: نقض قريش للعهد: إن المؤمن الحق يعلم أنه محكوم في كل تصرفاته بأوامر الله ونواهيه ويشعر أنه مراقب في كل لحظة من لحظات حياته، مراقب من الله الذي يعلم السر وأخفى، ولذلك تجده وقافاً عند حدود الله مستشعراً عظم المسئولية، وقد رأينا كيف وَفَّى الصحابة رضوان الله عليهم بالعهد - حين امتلأت قلوبهم بالإيمان - فردوا إخوانهم إلى قريش، وقلوبهم تكاد تتقطع أسىً وحسرة. أما غير المؤمن فإنه محكوم بهواه وشهوته يدفعانه لارتكاب كل رذيلة، ولا يرعوي لشيء إلا أن تكون قوة ظاهر تدركها حواسه، وسوف نرى كيف أقدمت قريش على نقض العهد - حين ظنت أن أمرها سيخفى على رسول الله صلى الله عليه وسلم - فأعانت حلفائها على حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم، كما أوضحت ذلك النصوص التالية: (120) قال ابن كثير: وكان سبب الفتح بعد هدنة الحديبية ما ذكره محمد بن إسحاق قال: حدثني الزهري عن عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم أنهم حدثاه جميعاً قالا: كان في صلح الحديبية أنه من شاء أن يدخل في عقد
محمد وعهده دخل، ومن شاء أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل، فتواثبت خزاعة وقالوا: نحن في عقد محمد وعهده، وتواثبت بنو بكر وقالوا: نحن ندخل في عقد قريش وعهدهم، فمكثوا في تلك الهدنة نحو السبعة أبو الثمانية عشر شهراً، ثم إن بني بكر وثبوا على خزاعة ليلاً بماء يقال له الوتير1، وهو قريب من مكة، وقالت قريش: ما يعلم بنا محمد، وهذا الليل وما يرانا من أحد فأعانوهم عليهم بالكراع والسلاح، وقاتلوهم معهم للضغن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن عمرو بن سالم ركب عندما كان من أمر خزاعة وبني بكر بالوتير، حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبر الخبر، وقد قال أبيات شعر فلما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنشده إياها: يا رب إني ناشد محمدا ... حلف أبينا وأبيه الأتلدا2 قد كنتموا وُلْدا وكنا والدا ... ثمت أسلمنا فلم ننزع يدا فانصر رسول الله نصراً أيِّدا ... وادع عباد الله يأتوا مددا فيهم رسول الله قد تجردا ... إن سِيْم خسفاً3 وجهه تربدا في فيلق كالبحر يجري مُزْبِدا ... إن قريشاً أخلفوك الموعدا ونقضوا ميثاقك المؤكدا ... وجعلوا لي في كَداء4 رَصَدا وزعموا أن لست أدعوا أحدا ... فهم أذلّ وأقل عددا هم بيتونا بالوَتِير هُجّدا ... وقتلونا ركعاً وسجدا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نصرت يا عمرو بن سالم" فما برح حتى مرت بنا عنانة في السماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن هذه السحابة لتستهل بنصر بني كعب، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بالجهاز، وكتمهم مخرجه، وسأل الله أن يُعمِّي على قريش خبره، حتى يبغتهم في بلادهم5. وقد نقل ابن حجر6 هذا الحديث عن مغازي ابن إسحاق أيضاً.
قال محمد بن إسحاق في المغازي: "حدثني الزهري به، فذكره إلا أنه اختصر القصة". والحديث بهذا الإسناد حسن؛ لأن ابن إسحاق صرح فيه بالسماع وبقية رجاله رجال الصحيح. وللحديث شواهد يرتفع بها إلى درجة الصحة، وهي: حديث ابن عمر عند ابن حبان: (121) قال: حدثنا الحسين1 بن مصعب بمرو بقرية سلج2، قال: حدثنا محمد3 بن عمر بن الهياج، حدثني يحيى4 بن عبد الرحمن الأرحبي حدثني عبيدة5 بن الأسود حدثنا القاسم6 بن الوليد عن سنان7 بن الحارث بن مصرف عن طلحة8 بن مصرف عن مجاهد عن ابن عمر قال: "كانت خزاعة حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت بنو بكر رهط بني كنانة حلفاء لأبي سفيان، قال: وكانت بينهم موادعة
أيام الحديبية، فأغارت بنو بكر على خزاعة في تلك المدة، فبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمدونه فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مدداً لهم في شهر رمضان ... "1 في حديث طويل. هذا اللفظ حسن لشاهده من حديث ابن إسحاق السابق، وقد صرح فيه عبيدة ابن الأسود بالسماع، وبقية رجاله فيهم الثقة، وفيهم دونه وأقلهم حالاً يعتبر بحديثه. حديث ميمونة رضي الله عنها عند الطبراني: (122) قال: حدثنا محمد2 بن عبد الله القرمطي من ولد عامر بن ربيعة ببغداد، حدثنا يحيى3 بن سليمان بن نضلة الخزاعي حدثنا عمي محمد بن نضلة عن جعفر4 بن محمد عن أبيه5 عن جده علي6 بن الحسين، حدثتني ميمونة7 بنت الحارث، زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بات عندها في ليلتها فقام يتوضأ للصلاة فسمعته يقول في متوضئه: ليبك لبيك ثلاثاً، نصرت نصرت ثلاثاً، فلما خرج قلت: يا رسول الله سمعتك تقول في متوضئك: ليبك لبيك ثلاثاً، نصرت نصرت ثلاثاَ، كأنك تكلم إنساناً فهل كان معك أحد؟ فقال: هذا راجز بني كعب يستصرخني ويزعم أن قريشاَ أعانت عليهم بني بكر، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر عائشة أن تجهزه ولا تعلم أحداً، قالت: فدخل عليها أبو بكر فقال: يا بنية ما هذا
الجهاز، فقالت: والله ما أدري، فقال: والله ما هذا زمان غزو بني الأصفر، فأين يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: والله لا علم لي، قالت: فأقمنا ثلاثاً ثم صلى الصبح بالناس فسمعت الراجز ينشده، فذكرت الأبيات، ثم قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليبك لبيك ثلاثاً، نصرت نصرت ثلاثاً"1 الحديث. قال الطبراني2: "لم يروه عن جعفر إلا محمد بن نضلة، تفرد به يحيى بن سليمان ولا يروى عن ميمونة إلا بهذا الإسناد". وقال الهيثمي3: "رواه الطبراني في الصغير والكبير، وفيه يحيى بن سليمان بن نضلة، وهو ضعيف". قلت: يحيى بن سليمان بن نضلة قال ابن خراش: لا يسوي شيئاً. وقال أبو حاتم: "شيخ - وهو من يكتب حديثه وينظر فيه"4. وقال ابن عدي: "روى عن مالك وأهل المدينة أحاديث عامتها مستقيمة"5. حديث عائشة رضي الله عنها: (123) قال أبو يعلى: رحمه الله: ثنا عثمان6 بن أبي شيبة ثنا عبد الله7 بن إدريس عن حزام8 بن هشام أخبرني أبي9 عن عائشة10 قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم غضب فيما كان من شأن بني كعب غضباً لم أره غضبه منذ زمان، وقال: "لا
نصرني الله إن لم أنصر بني كعب"، قالت: وقال لي: قولي لأبي بكر وعمر يتجهزا لهذا الغزو، فجاءا إلى عائشة فقال: أين يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: فقالت: لقد رأيته غضب فيما كان من شأن بني كعب غضباً لم أره غضبه منذ زمان من الدهر"1. قال الهيثمي2: "رواه أبو يعلى عن حزام بن هشام بن حبيش عن أبيه عنها وقد وثقها ابن حبان وبقية رجاله رجال الصحيح". قلت: وقد وثقهما غير ابن حبان أيضاً، أما حزام فقال عنه ابن سعد3 كان ثقة قليل الحديث، وقال أبو حاتم4: شيخ محله الصدق، ووثقه يعقوب5 بن شيبة صاحب المسند الكبير المعلل، وأما أبوه هشام بن خالد فقد ترجم له البخاري6، وابن أبي حاتم7، ولم يذكرا فيه جرحاً ولا تعديلاً، وكذلك ابن سعد8 قال: كان قليل الحديث، لكن وثقه يعقوب9 ابن شيبة، فالحديث بهذا الإسناد لا يقل عن درجة الحسن إن شاء الله. حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند البزار ويشهد له في المعنى: (124) قال: حدثنا عبد الواحد10 بن غياث أنبأ حماد بن سلمة عن محمد11 بن عمرو عن أبي سلمة12 عن أبي هريرة13 أن قائد خزاعة قال:
يا رب إني ناشد محمدا ... حلف أبينا وأبيه الأتلدا انظر هداك الله نصرا أعتدا ... وادع عباد الله يأتوا مددا وقال البزار: "لا نعلمه رواه إلى حماد بهذا الإسناد"1. قال الهيثمي2 بعد أن ذكره في المجمع: "رواه البزار ورجاله رجال الصحيح، غير محمد بن عمرو وحديثه حسن". قلت: محمد بن عمرو هو ابن علقمة بن وقاص الليثي، أشار ابن حجر إلى أنه روى له الجماعة3، لكن شيخ البزار عبد الواحد ليس من رجال الصحيح، إنما روى له أبو داود فقط، وقد وثقه الخطيب، وذكره ابن حبان في الثقات4. وقد أشار ابن حجر إلى سند البزار هذا وقال: "وهو إسناد حسن موصول"5. والحديث قد أخرجه موسى بن عقبة مرسلاً بمعنى ما سبق، وسمى بعض من أعان بني بكر من قريش: قال: "ويذكرون أن ممن أعانهم صفوان ابن أمية وشيبة بن عثمان، وسهيل بن عمرو ... " 6 وأخرجه عبد الرزاق7 من طريق مقسم مرسلاً ومطولاً ذكر فيه قدوم أبي سفيان المدينة لتجديد العهد. وأخرجه ابن أبي شيبة8 من طريق أبي سلمة مرسلاً أيضاًَ. فهذا الحديث جاء موصولاً ومرسلاً وترجح لي وصله لأن طريق الوصل مستقيمة وسبق بيانها، والله أعلم ... .
الباب الثالث: يشمل أحداثا وقعت بالحديبية لم تحدد وقت وقوعها وتحلل المسلمين وأنصرافهم
الباب الثالث: يشمل أحداثا وقعت بالحديبية لم تحدد وقت وقوعها وتحلل المسلمين وأنصرافهم الفصل الأول: أحداث وقعت بالحديبية لم يتعين وقت وقوعها المبحث الأول: قصة كعب بن عجرة ونزول آية الفدية ... المبحث الأول: قصة كعب بن عجرة ونزول آية الفدية: ورد في ذلك حديث كعب بن عجرة، وقد رواه عنه عبد الرحمن بن أبي ليلى وعبد الله بن معقل ورواه عنهما عدة رواة، ورواه عن كعب أيضاً أبو وائل، ومحمد بن كعب القرظي ويحيى بن جعدة ورجل من الأنصار وعطاء. رواية ابن أبي ليلى عن كعب: (125) قال البخاري: حدثنا أبو نعيم حدثنا سيف قال: حدثني مجاهد قال: سمعت عبد الرحمن بن أبي ليلى أن كعب بن عجرة حدثه قال: وقف عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية ورأسي يتهافت1 قملاً، فقال: أيؤذيك هوامك2؟ قلت: نعم، قال: فاحلق رأسك، أو قال: "احلق" قال: فيَّ نزلت هذه الآية: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ} 3 إلى آخرها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "صم ثلاثة أيام، أو تصدق بفرق بين ستة أو انسك4 بما تيسر"5.
وأخرجه من طريق سيف: مسلم1 وأحمد2 بنحوه. وأخرجه البخاري من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد به بنحوه إلا أن فيه: "فأمر أن يحلق وهو بالحديبية، ولم يتبين لهم أنهم يحلون بها وهم على طمع أن يدخلوا مكة، فأنزل الله الفدية ... "3. ومن طريق ابن أبي نجيح أخرجه أحمد4 بمثله. وأخرجه البخاري من طريق أيوب عن مجاهد به بلفظ: "أتي علي النبي صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية، والقمل يتناثر على وجهي، فقال: أيؤذيك هوام رأسك؟ قلت: نعم، قال: فاحلق وصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين أو انسك نسيكة، قال أيوب: لا أدري بأي هذا بدأ"5. ومن طريق أيوب أخرجه مسلم6 وأحمد7 بنحوه. وأخرجه البخاري8 من طريق أبي نجيح وأيوب كلاهما عن مجاهد به مختصراً. وأخرجه من طريق أبي بشر عن مجاهد به قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن محرمون وقد حصرنا المشركون قال: وكانت لي وفرة9 فجعلن الهوام تساقط على وجهي، فمر بي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أيؤذيك هوام رأسك؟ قلت: نعم، وأنزلت هذه الآية: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} 10.
ومن طريق أبي بشر أخرجه الترمذي1 وأحمد2 بنحوه. وأخرجه البخاري من طريق عبد الله بن عون عن مجاهد به، قال: أتيته "يعني النبي صلى الله عليه وسلم" فقال: ادن، فدنوت، فقال: أيؤذيك هوامك؟ قلت: نعم، قال: فدية من صيام أو صدقة أو نسك"3. ومن طريق ابن عون أخرجه مسلم وزاد في أوله: قال: فيّ نزلت هذه الآية: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} 4، الآية، وسائره بنحو لفظ البخاري. وأخرجه البخاري من طريق حميد بن قيس عن مجاهد به مختصراً وزاد في آخره: "أو انسك بشاة"5. وأخرجه مسلم من طريق ابن أبي نجيح وأيوب وحميد وعبد الكريم الجزري كلهم عن مجاهد به: "أن النبي صلى الله عليه وسلم مر به وهو بالحديبية، قبل أن يدخل مكة وهو محرم وهو يوقد تحت قدر، والقمل يتهافت على وجهه، فقال: "أيؤذيك هوامك هذه؟ " قال: نعم، قال: "فاحلق رأسك وأطعم فرقاً بين ستة مساكين (والفرق ثلاثة آصع) أو صم ثلاثة أيام، أو انسك نسيكة". قال ابن أبي نجيح: "أو اذبح شاة"6. وأخرجه الترمذي7 من طريقهم، كلهم به فذكره بمثله، وأخرجه مسلم من طريق أبي قلابة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر به زمن الحديبية فقال له: آذاك هوام رأسك؟ قال: نعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "احلق رأسك ثم اذبح شاة نسكاً أو صم ثلاثة أيام أو أطعم
ثلاثة آصع من تمر على ستة مساكين" 1. وأخرجه من طريقه أبو داود2 وأحمد3 بمثله. وأخرجه أحمد4 من طريقه في موضع آخر وأسقط فيه الواسطة بينه وبين كعب بن عجرة، قال ابن حجر: الصواب أن بينهما واسطة وهو ابن أبي ليلى على الصحيح5. وأخرجه أبو داود6 من طريق الحكم بن عتيبة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة أصابني هوام في رأسي ... "فذكر الحديث وفي آخره: "أو أطعم فرقاً من زبيب"7. وأخرجه8 من طريق عبد الكريم الجزري عن عبد الرحمن به، في هذه القصة زاد: أي ذلك فعلت أجزأك". وأخرجه النسائي9 وأحمد10 من طريق عبد الكريم الجزري عن مجاهد عن عبد الرحمن به وفيه: "أو أطعم ستة مساكين مدين11 لكل مسكين أو أنسك بشاة أي ذلك فعلت أجزأك".
وقد أخرجه أحمد1 من طريق الشعبي عن ابن أبي ليلى به، ومرة من طريق الشعبي عن كعب، لكن قال ابن حجر2: الصواب أن بينهما ابن أبي ليلى. رواية عبد الله بن معقل عن كعب بن عجرة: قال البخاري: حدثنا أبو الوليد حدثنا شعبة عن عبد الرحمن بن الأصبهاني عن عبد الله بن معقل قال: "جلست إلى كعب بن عجرة رضي الله عنه فسألته عن الفدية فقال: نزلت فيَّ خاصة وهي لكم عامة، حملت3 إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي، فقال: "ما كنت أرى الوجع بلغ بك ما أرى ... " أو "ما كنت أرى الجهد بلغ بك ما أرى تجد شاة؟ فقلت: لا، فقال: فصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع"4. وأخرجه عن آدم عن شعبة به فذكر نحوه وزاد فيه: "قعدت إلى كعب بن عجرة في هذا المسجد - يعني مسجد الكوفة ... "5 الحديث. وأخرجه مسلم6 وابن ماجه7 وأحمد8 من طريق شعبة به نحوه، زاد في رواية أحمد: "نصف صاع من طعام". وأخرجه مسلم من طريق زكريا بن أبي زائدة عن عبد الرحمن بن الأصبهاني به: "أنه خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم فقمل رأسه ولحيته فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليه فدعا
الحلاق، فحلق رأسه ثم قال: هل عندك نسك؟ قال: ما أقدر عليه، فأمره أن يصوم ثلاثة أيام أو يطعم ستة مساكين لكل مسكينين صاع، فأنزل الله عز وجل فيه خاصة: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ ... } . ثم كانت للمسلمين عامة1. وأخرجه أحمد2 من طريق سليمان بن قرم عن عبد الرحمن بن الأصبهاني به، فذكر نحو رواية ابن أبي زائدة وزاد: "فوقع القمل في رأسي ولحيتي، وحاجبي وشاربي"، وفي آخره: "لكل مسكين نصف صاع من تمر". وأخرجه أحمد3 من طريق الشعبي عن عبد الله بن معقل عنه. رواية أبي وائل عن كعب بن عجرة: قال النسائي: أخبرني أحمد4 بن سعيد هو الرباطي قال: أنبأنا عبد الرحمن5 بن عبد الله الدشتكي، قال: أنبأنا عمرو6 - هو ابن أبي قيس - عن الزبير7 - وهو ابن عدي - عن أبي وائل8 عن كعب9 بن عجرة قال: أحرمت فكثر قمل رأسي، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأتاني وأنا أطبخ قدراً لأصحابي، فمس رأسي بإصبعه فقال: "انطلق فاحلقه وتصدق على ستة مساكين" 10، هذا السند لا بأس به.
رواية محمد بن كعب عن كعب بن عجرة: قال ابن ماجه: حدثنا عبد الرحمن1 بن إبراهيم ثنا عبد الله2 بن نافع عن أسامة3 بن زيد عن محمد4 بن كعب عن كعب بن عجرة قال: "أمرني النبي صلى الله عليه وسلم حين آذاني القمل أن أحلق رأسي وأصوم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين وقد علم أن ليس عندي ما أنسك"5. هذا الإسناد حسن، وأسامة بن زيد أخرج له مسلم. رواية رجل من الأنصار عن كعب بن عجرة: قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث6 عن نافع7 أن رجلاً من الأنصار أخبره عن كعب بن عجرة - وكان قد أصابه في رأسه أذى فحلق - فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يهدي بقرة"8. هذا الإسناد فيه رجل مجهول، قاله المنذري9. رواية يحيى بن جعدة عن كعب بن عجرة: قال الإمام أحمد: ثنا محمد بن بكر10 أنا ابن جريج11، أخبرني عمرو12 بن
دينار عن يحيى1 بن جعدة عن كعب بن عجرة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر كعباً أن يحلق رأسه من القمل، قال: صم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين مدين مدين أو اذبح"2. هذا الإسناد رجاله رجال الصحيح، إلا يحيى بن جعدة، وهو ثقة. رواية عطاء لقصة كعب بن عجرة: قال ابن جرير ابن المثنى3 قال: ثنا سويد4 قال: أخبرنا ابن المبارك عن يعقوب5 قال: سألت عطاء6 عن قوله: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} فقال: إن كعب بن عجرة مر به النبي صلى الله عليه وسلم ... "7 الحديث معنى ما سبق. وأخرجه من طريق ابن جريج قال: أخبرني عطاء ان النبي صلى الله عليه وسلم كان بالحديبية عام حبسوا بها وقمل رأس رجل من أصحابه يقال له: كعب بن عجرة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أيؤذيك هوامك ... "8 الحديث. وأخرجه من طريق مالك9 بن أنس عن عطاء10 بن عبد الله الخراساني أنه
قال: أخبرني شيخ بسوق الكوفة عن كعب بن عجرة جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أنضج تحت قدر لأصحابي ... "1. هذه الأسانيد ضعيفة، فطريق يعقوب وطريق ابن جرير مرسلة. وطريق مالك بن أنس فيها راو مبهم. قال الشيخ أحمد شاكر2: هذا الإسناد ضعيف لإرساله لأن عطاء يحكي قصة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يدركها، ولم يذكر من حدثه بها.
المبحث الثاني: بيان كفر من قال مطرنا بنؤ كذا
المبحث الثاني: بيان كفر من قال مطرنا بنؤ كذا ... المبحث الثاني: بيان كفر من قال مطرنا بنوء كذا: (126) قال البخاري: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن صالح بن كيسان عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن زيد بن خالد الجهني أنه قال: "صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية - على أثر سماء كانت من الليلة - فلما انصرف أقبل على الناس فقال: هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: بنوء1 كذا وكذا، فذلك كافر بي ومؤمن بالكوكب"2. وأخرجه3 عن إسماعيل بن أبي أويس عن مالك به مثله. وأخرجه مسلم4 عن يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك به مثله. وأخرجه أبو داود5 عن القعنبي عن مالك به فذكره بمثله. وأخرجه مالك6 بهذا اللفظ
وأخرجه أحمد1 عن إسحاق عن مالك به فذكره بمثله. وفي روايتهم جميعاً "إثر سماء كانت من الليل". وأخرجه البخاري عن خالد بن مخلد حدثنا سليمان بن بلال حدثني صالح بن كيسان به قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، فأصابنا مطر ذات ليلة فصلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح، ثم أقبل علينا فقال: أتدرون ماذا قال ربكم؟ ثم ذكر الحديث"، وفيه: "وأما من قال مطرنا بنجم كذا ... "2 وسائره مثله. وأخرجه النسائي3 عن قتيبة عن سفيان عن صالح به، فذكره بمعناه وليس فيه ذكر للحديبية. وأخرج الواقدي حديثاً لأبي قتادة رضي الله عنه يفيد أن سبب هذا الحديث هو كلام صدر من ابن أبي بن سلول قال: (127) حدثنا ابن أبي سبرة4 عن إسحاق5 بن عبد الله عن أبي سلمة الحضرمي قال: سمعت أبا قتادة يقول: سمعت ابن أُبَيْ يقول - ونحن بالحديبية ومطرنا بها - فقال ابن أُبَيْ: هذا نوء الخريف مطرنا بالشَّعْرَى6. هذا الحديث ضعيف جداً فيه الواقدي، وفيه شيخه سبرة يقول ابن حجر: رموه بالوضع.
المبحث الثالث: مشروعية الصلاة في الرحال
المبحث الثالث: مشروعية الصلاة في الرحال: (128) قال ابن ماجه: حدثنا أبو بكر1 بن أبي شيبة ثنا إسماعيل2 بن
إبراهيم عن خالد1 الحذاء عن أبي المليح2 بن أسامة قال: خرجت إلى المسجد في ليلة مطيرة فلما رجعت استفتحت فقال أبي3: من هذا؟ قال: أبو المليح، قال: لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية وأصابتنا سماء لم تبل أسافل نعالنا، فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلوا في رحالكم"4. وأخرجه أحمد5 عن إسماعيل وسفيان ووكيع كلهم عن خالد عن أبي قلابة عن أبي المليح فذكرا الحديث بنحوه. وفي رواية وكيع قال عن أبي المليح عن أبيه ولم يذكر قصة خروجه للمسجد. وأخرجه6 ابن سعد عن عبد الوهاب بن عطاء العجلي عن خالد به فذكر الحديث بنحوه. وهذا الحديث صحيح، فسنده متصل برواية الثقات، وقد صححه ابن حجر7. وأخرجه أبو داود وزاد فيه: "في يوم الجمعة"، لكن في سنده انقطاع: (129) قال: حدثنا نصر بن علي8 قال سفيان9 بن حبيب: خُبّرنا عن
خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أبي المليح عن أبيه أنه شهد النبي صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية في يوم الجمعة وأصابهم مطر لم يبل أسفل نعالهم فأمرهم أن يصلوا في رحالهم1. وأخرجه الحاكم2 بهذا السياق من طريق نصر بن علي عن سفيان عن خالد الحذاء به. وسند أبي داود فيه انقطاع بين سفيان بن حبيب وخالد الحذاء قال سفيان خُبّرنا عن خالد بالبناء للمفعول. قال صاحب عون المعبود: "المخبر لسفيان بن حبيب لم يعرف"3. لكن جاء في سند الحاكم عن سفيان عن خالد الحذاء، ولم أرَ أحداً وصف سفيان بالتدليس. وقد ذكر المزي4 أن سفيان بن حبيب روى عن خالد الحذاء. وصحح هذه الزيادة الحاكم5 ووافقه الذهبي6 والألباني7. وقد جاء عند أبي داود8 وأحمد9 من طريق قتادة عن أبي المليح أن ذلك كان يوم حنين، فلعلها وقعت مرة أخرى بحنين والله أعلم.
المبحث الثالث: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر الأهلية
المبحث الثالث: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر الأهلية ... المبحث الرابع: نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر الأهلية: (130) قال الحارث بن محمد بن أبي أسامة ثنا العباس1 بن الفضل ثنا حرب2 بن شداد ثنا يحيى بن أبي كثير عن النحاز3 بن جُدَىْ الحنفي عن سنان4 بن سلمة بن المحبق الهذلي عن أبي5 قال: مر بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية وأمر بالقدور أن تكفأ من لحوم الحمر الأهلية6. هذا الحديث منكر: تفرد به العباس بن الفضل عن حرب بن شداد، والعباس قد ضعفه غير واحد، وكذبه ابن معين، وقد خالف فيه، فقد رواه الثقات عن حرب بن شداد وذكروا أن ذلك كان يوم خيبر: قال الإمام أحمد: ثنا أبو داود7 الطيالسي قال: ثنا حرب بن شداد عن يحيى بن أبي كثير عن النحاز الحنفي أن سنان بن سلمة أخبره عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بلحوم حمر الناس يوم خيبر وهي في القدور فأكفئت8. وأخرجه أيضاً عن عبد الصمد9 بن عبد الوارث عن حرب بن شداد به بنحو حديث أبي داود10.
وأخرجه الطبراني من طريق عمرو1 بن مرزوق عن حرب بن شداد به بنحو لفظ أبي داود2. والحديث صحيح له شواهد كثيرة في الصحيحين. ففي البخاري من حديث ابن عمر: قال البخاري: حدثنا محمد بن مقاتل أخبرنا عبد الله حدثنا عبيد الله ابن عمر عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية" 3. وأخرجه من طريق سالم عن ابن عمر بلفظ: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر عن أكل الثوم وعن لحوم الحمر الأهلية"4. وأخرجه مسلم5. وفي الصحيحين أيضاً من حديث علي6 بن أبي طالب، وجابر7 ابن عبد الله، وعبد الله8 بن أبي أوفى، والبراء9 بن عازب، وابن عباس10، وسلمة11 بن الأكوع، وأبو ثعلبة12 الخشني، وأنس13 بن مالك. فهؤلاء كلهم رووا حديث النهي عن أكل لحوم الحمر الأهلية وصرحوا بأن ذلك النهي كان في غزوة خيبر، وقد روى الحديث غيرهم أيضاً من الصحابة14.
الفصل الثاني: تحلل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابة من الإحرام
الفصل الثاني: تحلل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابة من الإحرام المبحث الأول: أمر النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالنحر والحلق وذكر مادار بينهم ... المبحث الأول: أمر النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالنحر والحلق، وذكر ما دار بينهم: كان من جملة الشروط التي أملتها قريش وأصرت عليها، أن يرجع المسلمون عامهم ذلك ولا يصلوا إلى البيت. وبعد أن وقع الاتفاق على الصلح، ومن ضمنه هذا الشرط قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فنحروا هديهم، وكانوا قد ساقوه معهم من المدينة وحلقوا وقصر بعضهم فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لمحلقين ثلاثاً، وللمقصرين مرة: (131) قال البخاري: حدثنا محمود حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن عروة عن المسور بن مخرمة رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحر قبل أن يحلق وأمر أصحابه بذلك"1. وأخرجه البغوي2 من طريق محمود به بهذا اللفظ. وأخرجه أحمد من حديث المسور ومروان ونص على أنه كان في الحديبية: قال حدثنا عبد الرزاق به عن المسور ومروان قالا: قلد رسول الله صلى الله عليه وسلم الهدي وأشعره من ذي الحليفة وأحرم منها بالعمرة، وحلق بالحديبية في عمرته، وأمر أصحابه بذلك، ونحر بالحديبية قبل أن يحلق وأمر أصحابه بذلك3.
وقد أشار إلى أمر النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه بذلك وما دار بينهم حديث المسور ومروان الطويل: فقد جاء فيه من طريق معمر ما نصه: "فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه قوموا فانحروا ثم احلقوا، قال: فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت له أم سلمة: يا نبي الله أتحب ذلك؟ أخرج لا تكلم أحداً منهم حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك، فخرج فلم يكلم أحداً منهم حتى فعل ذلك نحر بدنه ودعى حالقه فحلقه، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضاً، حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً غماً"1. وأخرجه من طريق ابن إسحاق2 بنحوه. وأخرجه البيهقي من طريق ابن إسحاق بنحوه وزاد فيه: "فلما رأى الناس أنه قد فعل ذلك قاموا ففعلوا فنحروا وحلق بعضهم وقصر بعض، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم اغفر للمحلقين، فقيل: يا رسول الله والمقصرين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم اغفر للمحلقين ثلاثاً، قيل: يا رسول الله وللمقصرين، فقال: وللمقصرين "3. هذه الزيادة عند البيهقي، قد رواها عدد من الصحابة رضوان الله عليهم: 1 - فقد وردت من حديث ابن عمر رضي الله عنهما عند أحمد: (132) قال: حدثنا عبد الرزاق4 أنا معمر5 عن أيوب6 عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الحديبية: "اللهم اغفر للمحلقين، فقال رجل: والمقصرين، فقال: اللهم اغفر للمحلقين، فقال: وللمقصرين، حتى قالها ثلاثاً أو أربعاً ثم قال: وللمقصرين"7.
سند هذا الحديث صحيح فرجاله رجال الصحيح. 2 - ومن حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند الإمام أحمد وغيره: (133) قال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا يزيد1 قال: قال محمد - يعني ابن إسحاق -: حدثني عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس قال: حلق رجال يوم الحديبية وقصر آخرون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يرحم الله المحلقين"، قالوا: يا رسول الله والمقصرين، قال: "يرحم الله المحلقين"، قالوا: يا رسول الله والمقصرين، قال: "يرحم الله المحلقين" قالوا: يا رسول الله والمقصرين، قال: "والمقصرين"، قالوا: فما بال المحلقين ظاهرت لهم الترحم؟ قال: "لم يشكوا"، قال: فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم"2. وأخرجه أبو يعلى3 من طريق يزيد بن هارون به فذكره بمثله إلا أن عنده: "ظاهرت لهم بالترحم" ولم يقل في آخره "فانصرف ... ". وأخرجه الطحاوي4 من طريق يحيى بن زكريا بن أبي زائدة وعبد الله بن إدريس كلاهما عن ابن إسحاق به مثله. وأخرجه من طريق يونس بن بكير عن ابن إسحاق عن ابن جريج عن مجاهد قال: قلت لابن عباس لم ظاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم للمحلقين ثلاثاً وللمقصرين مرة، قال: لأنهم لم يشكوا". هذا الإسناد حسن؛ لأن مداره على ابن إسحاق وقد صرح بالسماع لكن الحديث صحيح لشواهده، من حديث ابن عمر السابق وحديث جابر الآتي وغيرهما: 3- وقد أخرجه الطحاوي من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
(134) قال: حدثنا عبيد1 بن رجال ثنا محمد2 بن يوسف ثنا أبو قرة3 موسى بن طارق عن زمعة4 بن صالح عن زياد5 بن سعد عن أبي الزبير6 أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: "حلق رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية وحلق ناس كثير من أصحابه حين رأوه حلق، وأمسك آخرون، فقالوا: والله ما طفنا بالبيت فقصروا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يرحم الله المحلقين، فقال رجال: والمقصرين يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: يرحم المحلقين، قالوا: والمقصرين يا رسول الله، قال: والمقصرين"7. وأخرجه الطبراني8 عن مفضل9 ثنا علي بن زياد اللحجي، قال ذكر زمعة به نحوه وفيه اختصارٌ من آخره. هذا الحديث حسن لشواهده من حديث ابن عمر وابن عباس السابقين لأن في سنده زمعة بن صالح ضعفه أحمد وابن معين وأبو داود وغيرهم، لكن قال ابن معين مرة:
صويلح الحديث، وقال عمر بن علي: هو جائز الحديث مع الضعف الذي فيه، وقال ابن عدي: ربما يهم في بعض ما يرويه، وأرجو أن حديثه صالح لا بأس به1. وأخرجه أبو داود الطيالسي من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه بسياق آخر: (135) قال: حدثنا هشام2 عن يحيى بن أبي كثير عن أبي إبراهيم3 الأنصاري عن أبي سعيد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حلقوا رؤوسهم يوم الحديبية، إلا عثمان بن عفان وأبا قتادة فاستغفر رسول الله صلى الله عليه وسلم للمحلقين ثلاثاً وللمقصرين مرة4. وأخرجه5 ابن سعد من طريق هشام الدستوائي به فذكره بمثله. وأخرجه الطحاوي من طريق علي6 بن المبارك عن يحيى بن أبي كثير به، ولفظه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية حلق، وحلق أصحابه غير رجلين من الأنصار ورجل من قريش7. وأخرجه من طريق الأوزاعي8 عن يحيى بن أبي كثير به ولفظه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر يوم الحديبية للمحلقين ثلاثاً وللمقصرين مرة9. وأخرجه البيهقي من طريق هشام الدستوائي عن يحيى به، ولفظه: حلق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية غير رجلين قصرا ولم يحلقا10.
هذا الحديث بهذا الإسناد ضعيف، لأن مدراه على أبي إبراهيم، وقال عنه أبو حاتم: لا يدرى من هو؟ 1. ورمز له ابن حجر بـ "مقبول" ويعني بعد المتابعة لأنه من المرتبة السادسة، التي يقول فيها: "من ليس له من الحديث إلا القليل ولم يثبت فيه ما يترك حديثه من أجله وإليه الإشارة لفظ "مقبول" حيث يتابع وإلا فلين الحديث2، قلت: ولم يتابع على هذا الحديث إلا رواية الأوزاعي عند الطحاوي، وعجز رواية هشام عند أبي داود، فهي ثابتة من حديث ابن عمر وابن عباس السابقين، والله أعلم. وهناك أحاديث أخرى أشارت أيضاً إلى تحلل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه - في الحديبية - بالنحر والحلق، فقد أشار إلى ذلك حديث ابن عباس رضي الله عنهما: (136) قال البخاري: حدثنا يحيى بن صالح حدثنا معاوية بن سلام حدثنا يحيى بن أبي كثير عن عكرمة قال: قال ابن عباس رضي الله عنهما: "قد أحصر رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلق رأسه وجامع نساءه، ونحر هديه حتى اعتمر عاماً قابلاً"3. ذكر ابن حجر أنه رأى الحديث في جميع النسخ بلفظ: "فقال ابن عباس". قال: وهو يقتضي سبق كلام يعقبه قوله: "فقال ابن عباس" ثم ذكر أنه وجده في "كتاب الصحابة" لابن السكن كاملاً ولفظه: "قال حدثني هارون بن عيسى حدثنا الصنعاني هو محمد بن إسحاق أحد شيوخ مسلم حدثنا يحيى بن صالح حدثنا معاوية بن سلام عن يحيى بن أبي كثير قال: سألت عكرمة فقال: قال عبد الله بن رافع مولى أم سلمة أنها سألت الحجاج بن عمرو الأنصاري عمن حبس وهو محرم، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من عرج أو كسر أو حبس، فليجزئ مثله وهو في حل. "قال فحدثت أبا هريرة، فقال: صدق، وحدثته ابن عباس فقال: "قد أحصر رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلق ونحر هديه وجامع نساءه حتى اعتمر عاماً قابلاً"، قال ابن حجر: "فعرف بهذا السياق القدر الذي حذفه البخاري من هذا الحديث، والسبب في حذفه أن الزائد ليس على شرطه لأنه قد اختلف في حديث الحجاج بن عمرو على يحيى بن أبي كثير عن عكرمة مع كون عبد الله بن رافع ليس من شرط البخاري ... إلى أن
قال: فاقتصر البخاري على ما هو من شرط كتابه مع أن الذي حذفه ليس بعيداً من الصحة، فإن كان عكرمة سمعه من الحجاج بن عمرو فذاك، وإلا فالواسطة بينهم وهو - عبد الله بن رافع - ثقة وإن كان البخاري لم يخرج له1 ا. هـ وقد أشار إلى ذلك أيضاً حديث ابن عمر رضي الله عنهما: (137) قال البخاري: حدثنا عبد الله بن محمد بن أسماء حدثنا جويرية عن نافع أن عبيد الله بن عبد الله وسالم بن عبد الله أخبراه أنهما كلما عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ليالي نزل الجيش بابن الزبير فقالا: لا يضرك أن لا تحج العام، وإنا نخاف أن يحال بينك وبين البيت، فقال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فحال كفار قريش دون البيت، فنحر النبي صلى الله عليه وسلم هديه وحلق رأسه وأشهدكم أني أوجبت العمرة إن شاء الله، فأنطلِقُ فإن خلي بيني وبين البيت طفت، وإن حيل بيني وبينه فعلت كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وأنا معه فأهل بالعمرة من ذي الحليفة ثم سار ساعة، ثم قال: إنما شأنهما واحد، أشهدكم أني قد أوجبت حجة مع عمرتي، فلم يحل منهما حتى دخل يوم النحر وأهدى، وكان يقول: لا يحل حتى يطوف طوافاً واحداً يوم يدخل مكة2. ومن هذا الوجه أخرجه النسائي3 والبيهقي4 بنحوه. وهذه الرواية تفيد أن نافعاً لم يشهد القصة، وإنما أخبره بذلك عبد الله وسالم ابنا عبد الله بن عمر، لكن رواية موسى بن إسماعيل عن جويرية أفادت أنّ نافعاً قد شهد القصة ونصها: قال البخاري: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا جويرية عن نافع أن بعض بني عبد الله قال: لو أقمت العام فإني أخاف ألا تصل إلى البيت، قال: "خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فحال كفار قريش دون البيت، فنحر النبي صلى الله عليه وسلم هداياه وحلق وقصر أصحابه، وقال أشهدكم أني قد أوجبت عمرة ... "5.
وقد أخرجه البخاري أيضاً من طرق أخرى غير طريق جويرية وكلها تفيد شهود نافع للقصة. فأخرجه من طريق1 أيوب عن نافع أن ابن عمر رضي الله عنهما دخل ابنه عبد الله بن عبد الله وظهره في الدار فقال: إني لا آمن أن يكون العام بين الناس قتال، فيصدوك عن البيت فلو أقمت فقال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فحال كفار قريش بينه وبين البيت، فإن حيل بيني وبين البيت، أفعل كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} . وأخرجه من طريقه2 أيضاً بلفظ: قال عبد الله بن عبد الله بن عمر لأبيه: "أقم فإني لا آمن أن تصد عن البيت ... " الحديث بنحوه. ومن طريق أيوب أخرجه مسلم3 وأحمد4 بنحوه. وأخرجه البخاري من طريق5 الليث عن نافع أن ابن عمر رضي الله عنهما أراد الحج عام نزل الحجاج بابن الزبير فقيل له: إن الناس كائن بينهم قتال، وإنا نخاف أن يصدوك فقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} إذاً أصنع كما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأخرجه من طريق الليث مسلم6 والنسائي7 بنحوه. وأخرجه البخاري من طريق8 موسى بن عقبة عن نافع قال: "أراد ابن عمر رضي الله عنهما الحج عام حجة الحَروريَّة9 في عهد ابن الزبير رضي الله عنهما فقيل
له: إن الناس كائن بينهم قتال ... ". وأخرجه من طريق1 مالك عن نافع: "أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما حين خرج إلى مكة معتمراً في الفتنة قال: "إن صُددت عن البيت صنعت كما صنعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ... ". وأخرجه مالك2 ومسلم3 بنحوه، وأحمد4 مختصراً. وأخرجه البخاري من طريق5 عمر بن محمد العمري قال: وحدث نافع أن عبد الله6 وسالماً كلما عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فقال: "خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم معتمرين فحال كفار قريش دون البيت، فنحر رسول الله صلى الله عليه وسلم بدنه وحلق رأسه". وأخرجه البيهقي7 من هذا الطريق بنحوه وزاد "ثم رجع". وأخرجه البخاري من طريق عبيد الله بن عمر العمري عن نافع أنه أهلّ وقال: "إن حيل بيني وبينه فعلت كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم حين حالت كفار قريش بينه، وتلا: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} 8. وأخرجه مسلم9 من هذا الطريق بأطول من هذا اللفظ. وأخرجه أحمد10 من طريق عبيد الله بن عمر وعبد العزيز بن أبي رَوّاد كلاهما عن نافع بأطول منه.
سبق أن رأينا أن أول رواية عن نافع لهذا الحديث - وهي رواية عبد الله بن محمد بن أسماء عن جويرية - تفيد أن نافعاً لم يشهد القصة، وإنما سمعها من ابني عبد الله بن عمر. وبقية الروايات عن نافع تفيد أنه شهد القصة وقد وجه ذلك ابن حجر فقال: والذي يترجح في نقدي أن ابني عبد الله أخبرا نافعاً بما كلما به أباهما وأشارا عليه به من التأخير ذلك العام، وأما بقية القصة فشاهدها نافع، وسمعها من ابن عمر؛ لملازمته إياه، فالمقصود من الحديث موصول وعلى تقدير أن يكون نافعاً لم يسمع شيئاً فقد عرف الواسطة بينهما وهي ولدا عبد الله بن عمر: سالم وعبد الله، وهما ثقتان لا مطعن فيهما" 1. ثم ذكر أنه لم ينبه على ذلك أحد من شرّاح البخاري قبله.
المبحث الثاني: عدد الهدى الذي نحره المسلمون في عمرة الحديبية
المبحث الثاني: عدد الهدي الذي نحره المسلمون في عمرة الحديبية: نحر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في هذه العمرة سبعين بدنة، فقد ورد التصريح بذلك في حديث جابر، وحديث أنس بن مالك، وحديث المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم التالية: (138) قال الدارمي: أخبرنا يعلى1 ثنا سفيان2 عن أبي الزبير3 عن جابر قال: نحرنا يوم الحديبية سبعين بدنة البدنة عن سبعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اشتركوا في الهدي"4. وأخرجه ابن حبان5 من طريق عبد الرحمن6 بن مهدي عن سفيان به، فذكر نحوه
خرجه الدارقطني من طريق عبد الرحمن بن مهدي ويعلى بن عبيد ويحيى بن آدم كلهم عن سفيان به1. وأخرجه ابن سعد2 عن محمد3 بن عبد الله الأسدي عن سفيان به، فذكره بنحوه. وأخرجه أحمد من طريق أبي الزبير بسياق آخر: (139) قال: حدثنا سليمان4 بن داود ثنا عبد الرحمن5 بن أبي الزناد عن موسى بن عقبة عن أبي الزبير عن جابر: فذكر قصة بيعة العقبة ثم قصة بيعة الحديبية، وقال: نحرنا يومئذ سبعين من البدن لكل سبعة جزور"6. وأخرجه من طريق أبي سفيان عن جابر رضي الله عنه: قال: حدثنا أبو معاوية7، ثنا الأعمش8 عن أبي سفيان9 عن جابر قال: ساق رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية سبعين بدنة، قال فنحر البدنة عن سبعة10. وأخرجه ابن سعد11 عن أبي معاوية الضرير ومحمد12 بن عبيد، كلاهما عن الأعمش به فذكر نحوه، وزاد محمد بن عبيد في حديثه: "وكنا يومئذ ألفاً وأربعمائة ومن لم يضح يومئذ أكثر ممن ضحى".
وأخرجه أحمد أيضاً من طريق سليمان بن قيس اليشكري عن جابر رضي الله عنه: قال: حدثنا عفان1 حدثنا أبو عوانة2 حدثنا أبو بشر3 عن سلميان4 بن قيس عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "نحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية سبعين بدنة، البدنة عن سبعة"5. وأخرجه ابن سعد6 عن عفان به فذكره بمثله. وأخرجه7 عبد بن حميد عن أبي الوليد8 عن أبي عوانة به فذكره بمثله. حديث جابر هذا حسن بمجموع طرقه. فطريق أبي الزبير عند الدارمي فيه يعلى بن عبيد قال ابن حجر: حديثه عن سفيان الثوري فيه لين، وتابعه محمد بن عبد الله الأسدي عند ابن سعد، ويقول ابن حجر فيه أيضاً: قد يخطئ في حديثه عن سفيان لكن تابعهما عبد الرحمن بن مهدي عند ابن حبان وهو ثقة ثبت. وفي هذا السند أيضاً لم يصرح أبو الزبير بالسماع من جابر، وهو مدلس9، ولكن تابعه في الطريق الثاني عند أحمد وابن سعد وأبو سفيان عن جابر. وأبو سفيان أيضاً لم يصرح بالسماع وهو مدلس10، لكن روايته تجبر رواية أبي الزبير، وتدل على أن للحديث أصلاً.
قال ابن حجر: "ومتى توبع السيئ الحفظ بمعتبر وكذا المستور والمرسل والمدلس، صار حديثهما حسناً لا لذاته، بل بالمجموع"1. أما طريق سليمان بن قيس اليشكري عند أحمد، فهو منقطع، لأن أبا بشر لم يسمع من سليمان، قاله البخاري2. ويشهد لحديث جابر أيضاً حديث أنس بن مالك عند ابن سعد: (140) قال ابن سعد: أخبرنا محمد3 بن عبد الله الأنصاري أخبرنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس بن مالك: أنهم نحروا يوم الحديبية سبعين بدنة عن كل سبعة بدنة4. هذا الحديث في سنده ابن أبي عروبة5 وقتادة6 لم يصرح واحد منهما بالسماع، وهما مدلسان لكن كل منهما في هذا الإسناد ثبت فيمن يروي عنه. فابن أبي عروبة يروي عن قتادة وهو من أثبت أصحاب قتادة فيه، قاله7 ابن أبي خيثمة، وأبو حاتم، وأبو رزعة، وكذلك قتادة قال: أبو حاتم8 أثبت أصحاب أنس الزهري ثم قتادة. ويشهد له حديث جابر السابق، فالحديث حسن إن شاء الله. وتحديد الهدي بسبعمائة جاء أيضاً في حديث المسور ومروان من طريق ابن إسحاق عند أحمد وغيره: قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون أنا محمد بن إسحاق عن الزهري محمد
بن مسلم بن شهاب عن عروة بن الزبير عن المسور1 بن مخرمة ومروان2 بن الحكم قالا: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية يريد زيارة البيت، لا يريد قتالاً، وساق معه الهدي سبعين بدنة، وكان الناس سبعمائة رجل، فكانت كل بدنة عن عشرة ... "3. وأخرجه الدارقطني من طريق يونس بن بكير عن ابن إسحاق به مختصراً ولفظه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم ساق يوم الحديبية سبعين بدنة عن سبعمائة رجل"4. وأخرجه البيهقي5 من طريق يونس بن بكير عن ابن إسحاق حدثني الزهري به، فذكره بمثل لفظ أحمد. سند هذا الحديث حسن فقد صرح ابن إسحاق بالسماع من الزهري في رواية البيهقي، وتقدم الكلام على الحديث. ويلاحظ أن ابن إسحاق قال: "وكان الناس سبعمائة رجل" وهذا مخالف لما ثبت في الصحيح عن عدد أصحاب الحديبية، وتقدم الكلام6 عنه فليراجع. وقال ابن إسحاق أيضاً: "فكانت كل بدنة عن عشرة"، وهذا مغاير لما تقدم "في حديث جابر وأنس من أنهم نحروا في الحديبية البدنة عن سبعة، ويؤيد ما في حديث جابر وأنس ما ورد عند مسلم عن جابر: (141) قال: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا مالك ح وحدثنا يحيى بن يحيى (واللفظ له) قال: قرأت على مالك عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله قال: "نحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة" 7.
وهو في الموطأ1 بهذا اللفظ. وأخرجه أبو داود2 عن القعنبي عن مالك به مثله. وأخرجه الترمذي3 عن قتيبة عن مالك به مثله. وأخرجه ابن ماجه4 من طريق عبد الرزاق عن مالك به مثله. وأخرجه أحمد5 عن عبد الرزاق وروح كلاهما عن مالك به مثله. وأخرجه ابن سعد6 عن إسحاق بن عيسى عن مالك به مثله. وأخرجه البيهقي7 من طريق قتيبة عن مالك به مثله. فهذا الحديث في مسلم وغيره وقد نص على أن الصحابة رضوان الله عليهم في الحديبية نحروا البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة، وكذلك حديث جابر وأنس السابقان ورد فيهما أنهم نحروا البدنة عن سبعة والتعارض بين هذه الأحاديث وما في حديث ابن إسحاق ظاهر، وابن إسحاق قد تفرد بذكر البدنة عن عشرة. قال البيهقي8: "وأما ما في حديث الزهري عن عروة فإن محمد بن إسحاق بن يسار تفرد بذكر البدنة عن عشرة فيه". وقد ذكر البيهقي رواية معلقة عن سفيان تفيد أنهم نحروا في الحديبية البدنة عن عشرة، أوردها بصيغة التمريض: قال: "وقد روي عن سفيان الثوري عن أبي الزبير عن جابر قال: "نحرنا يوم الحديبية البدنة عن عشرة"9. ثم تعقبها بقوله: "ولا أحسبه إلا وهماً، فقد رواه الفريابي عن الثوري وقال: البدنة عن سبعة"10.
قلت: نعم، المحفوظ من رواية سفيان "البدنة عن سبعة" فقد أخرجها الدارمي1 عن يعلى بن عبيد وابن حبان2 من طريق ابن مهدي، وابن سعد3 عن محمد بن عبد الأسدي، كلهم عن سفيان، وفيها "البدنة عن سبعة"4. وقد حاول ابن خزيمة التوفيق بين حديث جابر ورواية ابن إسحاق من حديث المسور ومروان حيث قال: فقول جابر: "اشتركنا في الجزور سبعة وفي البقرة سبعة" يريد بعض أهل الحديبية، وخبر المسور ومروان: "اشترك عشرة في بدنة" أي سبعمائة وهم نصف أهل الحديبية لا كلهم"5. قلت: هذا الجمع يتجه لو كان الهدي الذي ساقوه في غزوة الحديبية أكثر من سبعين بدنة، لكن نصت رواية ابن إسحاق هذه وحديث جابر وحديث أنس السابقان على أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما ساق سبعين بدنة فقط، وأما ما ورد في حديث سلمة بن الأكوع: "أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر في الحديبية مائة بدنة"6 فهو ضعيف. والتحقيق: أن الصحابة رضوان الله عليهم نحروا بالحديبية البدنة عن سبعة، كما ثبت في صحيح مسلم وغيره، أما رواية ابن إسحاق فهي شاذة، والله أعلم.
المبحث الثالث: قصة جمل أبي جهل
المبحث الثالث: قصة جمل أبي جهل: وكان في جملة ما نحر النبي صلى الله عليه وسلم في هديه - يوم الحديبية - جمل لأبي جهل كان من غنائم بدر: (142) قال أبو داود: حدثنا النفيلي1 حدثنا محمد بن سلمة، حدثنا محمد
بن إسحاق ح، وحدثنا محمد1 بن المنهال، حدثنا يزيد2 بن زريع عن ابن إسحاق - المَعْنى - قال: عبد الله - يعني ابن أبي نجيح - حدثني مجاهد عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدى عام الحديبية في هدايا رسول الله3 صلى الله عليه وسلم جملاً كان لأبي جهل في رأسه برة4 من فضة، قال ابن المنهال: بُرة من ذهب، زاد النفيلي: يغيض بذلك المشركين5. وأخرجه ابن خزيمة عن ابن إسحاق من طريقين صرح في أحدهما بالسماع من ابن أبي نجيح: قال ابن خزيمة: ثنا الفضل6 بن يعقوب الجزري ثنا عبد الأعلى7 عن محمد بن عبد الله بن أبي نجيح به، ولفظه: أهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم جمل أبي جهل في هديه عام الحديبية وفي رأسه برة من فضة، كان أبو جهل أسلمه يوم بدر8. وقال: حدثنا محمد9 بن عيسى نا سلمة10 قال محمد: وحدثني عبد الله بن أبي نجيح به فذكر نحوه، إلا أنه لم يذكر أنه أسلمه يوم بدر، وزاد "ليغيظ المشركين بذلك"11. وأخرجه الحاكم12 من طريق عياش بن الوليد الرقام ثنا عبد الأعلى ابن عبد الأعلى عن محمد بن إسحاق حدثني عبد الله بن أبي نجيح به فذكر نحوه.
وأخرجه أحمد1 من طريق ابن إسحاق حدثني عبد الله بن أبي نجيح فذكر نحوه. وأخرجه ابن جرير2 من طريق سلمة عن ابن إسحاق به نحوه. وأخرجه البيهقي من طريق محمد بن سلمة عن ابن إسحاق به، فذكر نحوه وزاد: وعليه خشاش من ذهب، وهي الزمام، قال: وذلك أن الزمام يكون في اللحم، والخشاش يكون في العظم، وما فعل ذلك إلا ليغيظ به قريشاً3. وأخرجه أحمد من طريق جرير بن حازم عن ابن أبي نجيح: قال: حدثنا حسين4 ثنا جرير5 بن حازم عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدى في بدنه بعيراً كان لأبي جهل في أنفه برة من فضة"6. قال الحاكم بعد أن ساقه من طريق ابن إسحاق: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه7. قلت: نعم هذا الحديث صحيح دون قوله: "برة من ذهب" فقد صرح ابن إسحاق بالسماع في سند ابن خزيمة والحاكم، وقد تابع ابن إسحاق في ابن أبي نجيح جرير بن حازم عند أحمد في سند رجاله ثقات. وأخرج أحمد هذا الحديث من طريق مقسم عن ابن عباس:
(143) قال حدثنا وكيع ثنا سفيان1 عن ابن أبي ليلى2 عن الحكم3 عن مقسم4 عن ابن عباس: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدى في بدنه جملاً كان لأبي جهل برته من فضة"5. وأخرجه ابن ماجه6 من طريق وكيع به مثله. وأخرجه أحمد عن مؤمل عن سفيان به بلفظ: "أهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة بدنة فيها جمل أحمر لأبي جهل، في أنفه برة من فضة"7. وأخرجه الطبراني من طريق أبي نعيم8 وأبي عاصم9، كلاهما عن سفيان به فذكره بمثله10 دون قوله: "أحمر". وأخرجه أحمد من طريق زهير بن محمد عن ابن أبي ليلى بسياق آخر في حديث: (144) قال: حدثنا يحيى11 بن آدم ثنا زهير12 عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس قال: نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحج
مائة بدنة، نحر بيده منها ستين، وأمر ببقيتها فنحرت وأخذ من كل بدنة بضعة فجمعت في قدر، فأكل منها وحسا من مرقها، ونحر يوم الحديبية سبعين فيها جمل أبي جهل، فلما صدت عن البيت حنت كما تحن إلى أولادها1. وأخرجه البيهقي2 من طريق زهير بن محمد به فذكره مختصراً ابتدأ من قوله: " نحر يوم الحديبية ... " الخ. هذا السند ضعيف فمداره على محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال عنه الإمام أحمد: "مضطرب الحديث"، وقال يحيى القطان: "سيئ الحفظ جداً"، وقال شعبة: "ما رأيت أسوأ من حفظه"، وقال يحيى بن معين: "ليس بذاك"، وقال الدارقطني: "رديء الحفظ كثير الوهم"3، وقال الذهبي4: "صدوق سيئ الحفظ"، والإسناد مع ذلك منقطع فالحكم بن عتيبة لم يسمع الحديث من مقسم، قال يحيى القطان وشعبة وأحمد وغيرهم: "أحاديث الحكم عن مقسم كتاب إلا خمسة أحاديث"، قال يحيى القطان هي: "حديث الوتر، وحديث القنوت، وحديث عزيمة الطلاق، وجزاء الصيد، وإتيان الحائض"5. قلت: فالحديث الذي نحن بصدده ليس من الخمسة التي سمعها الحكم من مقسم، وأيضاً فالمتن الوارد بهذا الإسناد فيه اضطراب يشعر بسوء حفظ ابن أبي ليلى، كما قال الأئمة: "فقد جاء في إحدى روايات سفيان عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدى مائة بدنة" بينما في رواية زهير بن محمد عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحر يوم الحديبية سبعين بدنة". وعند ابن ماجه من رواية أخرى لسفيان عن ابن أبي ليلى فيها أن جمل أبي جهل كان مع الهدي الذي ساقه النبي صلى الله عليه وسلم في حجته:
(145) قال ابن ماجه: حدثنا القاسم1 بن محمد بن عباد المهلبي، ثنا عبد الله2 بن داود ثنا سفيان قال: "حج رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث حجات حجتين قبل أن يهاجر، وحجة بعدما هاجر من المدينة وقرن مع حجته عمرة، واجتمع ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به عليٌّ مائة بدنة، منها جمل لأبي جهل في أنفه برة من فضة، فنحر النبي صلى الله عليه وسلم بيده ثلاثاً وستين، ونحر علي ما غبر. قيل له: من ذكره؟ قال: جعفر عن أبيه عن جابر، وابن أبي ليلى عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس3. وهذا الحديث ضعيف وإن كان قد تابع ابن أبي ليلى فيه محمد بن جعفر عن أبيه عن جابر. فقد أخرجه الترمذي4 من طريق سفيان عن جعفر به، ثم قال: هذا حديث غريب من حديث سفيان، لا نعرفه إلا من حديث زيد بن الحباب، ثم قال: وسألت محمداً عن هذا فلم يعرفه من حديث الثوري عن جعفر عن أبيه عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم ورأيته لم يعد هذا محفوظاً، وقال إنما يروى عن الثوري عن أبي إسحاق عن مجاهد مرسلاً5.
المبحث الرابع: هل نحر المسلمون الهدى في الحل أو الحرم
المبحث الرابع: هل نحر المسلمون الهدى في الحل أو الحرم ... المبحث الرابع: هل نحر المسلمون الهدي في الحل أو في الحرم؟ صرحت بعض الروايات بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه نحروا الهدي بالحديبية، لكن الحديبية منها ما هو في الحل، ومنها ما هو من الحرم، وقد ورد في بعض الروايات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان نازلاً في الحل، وأفادت بعض الروايات أيضاً أنه صلى الله عليه وسلم نحر الهدي في المكان الذي نزل فيه، وقد جاء في حديث ناجية رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسله بالهدي فنحره في الحرم، وسوف أسرد النصوص مرتبة على هذا النحو، مع مناقشتها وبيان ما ترجح لي في ذلك إن شاء الله0
قال البخاري: حدثنا محمد بن رافع، حدثنا سريج بن النعمان حدثنا فليح عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج معتمراً فحال كفار قريش بينه وبين البيت، فنحر هديه وحلق رأسه بالحديبية ... "1. وقال مسلم: حدثنا نصر بن علي الجهضمي، حدثنا خالد بن الحارث حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة: أن أنس بن مالك حدثهم قال: لما نزلت: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا* لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ} إلى قوله: {فَوْزًا عَظِيمًا} ، مرجعه من الحديبية وهم يخالطهم الحزن والكآبة، وقد نحر الهدي بالحديبية، فقال: "لقد أنزلت علي آية هي أحب إلي من الدنيا جميعاً"2. وأخرجه البيهقي من طريق الحكم بن عبد الملك عن قتادة عن أنس ثم ذكر الحديث وفيه: "وأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قد خالطوا الحزن والكآبة، حيث ذبحوا هديهم في أمكنتهم ... "3. وقد جاء في حديث المسور أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان نازلاً في الحل: (146) قال الطحاوي: حدثنا ابن أبي داود4، حدثنا سفيان5 بن بشر الكوفي، قال: حدثنا يحيى6 بن أبي زائدة عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن عروة عن المسور: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بالحديبية خباؤه في الحل ومصلاه في الحرم"7. وهذا الحديث حسن رجال سنده ثقات غير سفيان بن بشر ترجم له العيني ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً، لكن صحح له ابن الجوزي حديثاً تفرد بوصله وقال: ما علمنا أحداً طعن في سفيان بن بشر8، وفي السند أيضاً ابن إسحاق لم يصرح بالسماع،
ولكن ورد هذا اللفظ في حديث المسور ومروان الطويل عند الإمام أحمد1 والبيهقي، وصرح فيه ابن إسحاق بالسماع ونصه: "وكان مضطربه في الحل، وكان يصلي في الحرم" 2. وقد ورد عن عطاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان نازلاً في الحرم: (147) ففي مصنف ابن أبي شيبة ثنا أبو أسامة3 عن عطاء: "أن منزل النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية في الحرم"4. لكن هذا الأثر ضعيف؛ لأنه مرسل، فلا يقوى على معارضة الحديث السابق. وإذا تقرر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان نازلاً في الحل، فقد ورد في بعض النصوص أنه نحر الهدي في المكان الذي نزل فيه: جاء في حديث أنس السابق من طريق الحكم بن عبد الملك عند البيهقي "أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذبحوا هديهم في أمكنتهم". وهذا يقيد ما أطلق من طريق ابن أبي عروبة، فيكون المقصود بالحديبية منزل النبي صلى الله عليه وسلم منها وهو في الحل، والله أعلم. ويدل لذلك أيضاً أثر مجاهد عند البيهقي: (148) قال: حدثنا أبو عبد الله5 الحافظ وأبو بكر أحمد6 بن الحسن القاضي قالا ثنا أبو العباس محمد7 بن يعقوب ثنا أحمد بن عبد الجبار ثنا يونس بن بكير عن عمر8 بن ذر عن مجاهد قال: "اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث عمر كلها في ذي القعدة منها العمرة التي صد فيها الهدي، فراسل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة فصالحوه على
أن يرجع عنهم في عامه ذلك، قال: فنحر رسول الله صلى الله عليه وسلم الهدي بالحديبية، حيث حلّ عند الشجرة وانصرف1. وهذا الأثر مرسل، لكن يشهد له الحديث السابق. وقد أشار إلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحر الهدي في الحل، أثر مجمع بن يعقوب عن أبيه عن ابن سعد: (149) قال: حدثنا إسماعيل2 بن عبد الله بن أبي أويس عن مجمع ابن يعقوب عن أبيه3 أنه قال: لما صدر4 رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حلقوا بالحديبية ونحروا، بعث الله ريحاً عاصفاً5 فاحتملت أشعارهم فألفتها في الحرم6. هذا الأثر بهذا الإسناد ضعيف، لأنه مرسل، فوالد مجمع بن يعقوب يحكي قصة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشهدها ولم يذكر من حدثه بها، لكن تشهد لهذا الأثر في المعنى الروايات السابقة، فمضمونها أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر هديه في المكان الذي نزل فيه، وكان منزله في الحل على الصحيح، والله أعلم. وذكر الشافعي أن الحديبية بعضها في الحل وبعضها في الحرم ثم قال: وإنما ذهبنا إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر في الحل؛ لأن الله تعالى يقول: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} ، والحرم كله محله عند أهل العلم7. وقد أخرج النسائي حديثاً لناجية بن جندب يفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسله بالهدي فنحره في الحرم. (150) قال: أخبرنا أحمد8 بن سليمان قال: ثنا عبيد الله بن موسى قال:
أنا إسرائيل1 عن مجزأة2 قال: حدثني ناجية بن جندب الأسلمي أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم حين صد الهدي فقال: يا رسول الله ابعث به معي فأنا أنحره في الحرم، قال: وكيف؟ قال: آخذ به في أودية لا يقدر عليه، قال: فدفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه فانطلق به حتى نحره في الحرم3. وأخرجه أبو نعيم4 من طريق عمرو بن محمد العنقري عن إسرائيل به نحوه. وأخرجه الطحاوي من طريق مخول5 بن راشد به قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم حين صد الهدي فقلت: يا رسول الله ابعث معي بالهدي فلأنحره في الحرم، قال: وكيف تأخذ به؟ قلت: آخذ به في أودية لا يقدرون علي فيها، فبعثه معي حتى نحرته في الحرم6. سند هذا الحديث صحيح فرجاله رجال الصحيحين، ما عدا شيخ النسائي أحمد بن سليمان وقال عنه ابن حجر: ثقة حافظ. وهذا الحديث يشهد للروايات السابقة من وجه ويخالفها من وجه: فمفهوم الحديث يفيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان نازلاً في الحل، وهذا يؤيد الروايات السابقة، ومنطوق الحديث يفيد أنهم نحروا الهدي في الحرم، وهذا يخالف الروايات السابقة ظاهراً، لكن يجمع بينها بأن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث مع ناجية بعض الهدي لا كله، وظاهر كلام7 ابن حجر على هذا الجمع ويؤيده أيضاً ما روي عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث من هديه بعشرين بدنة، عند المروة مع رجل من أسلم8.
الفصل الثالث: أحداث وقعت للمسلمين في طريقهم للمدينة
الفصل الثالث: أحداث وقعت للمسلمين في طريقهم للمدينة المبحث الأول: انصراف المسلمين من الحديبية ونومهم عن صلاة الصبح ... المبحث الأول: انصراف المسلمين من الحديبية ونومهم عن صلاة الصبح: كانت مدة إقامة المسلمين بالحديبية بضعة عشر يوماً، ويقال عشرين ليلة على قول الواقدي1 وابن سعد2. وعن ابن عائذ: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام في غزوته هذه شهراً ونصفاً"3. والذي يبدو: أن الواقدي وابن سعد أرادا تحديد مدة إقامته صلى الله عليه وسلم في الحديبية، أما ابن عائذ فقصد الزمن الذي استغرقته غيبة النبي صلى الله عليه وسلم منذ خروجه من المدينة إلى عودته إليها، والله أعلم. وبعد أن تحلل المسلمون من عمرتهم تلك، قفلوا راجعين إلى المدينة، فلما كان من الليل عدلوا عن الطريق للنوم ووكلوا بلالاً بحراستهم، فنام بلال ولم يوقظهم إلا حر الشمس، كما جاء في حديث ابن مسعود رضي الله عنه:
(151) قال أبو داود: حدثنا محمد بن المثنى حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن جامع1 بن شداد سمعت عبد الرحمن2 بن أبي علقمة سمعت عبد الله3 بن مسعود قال: أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يكلؤنا"4؟ فقال بلال: أنا، فناموا حتى طلعت الشمس، فاستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "افعلوا كما كنتم تفعلون"، قال: ففعلنا، قال: "فكذلك فافعلوا لمن نام أو نسي"5. وبنحو هذا اللفظ أخرجه أحمد6 عن يحيى بن سعيد القطان، وابن أبي شيبة7 عن غندر، وابن جرير8 من طريق أبي بحر9 عبد الرحمن بن عثمان، وابن عبد البر10 من طريق محمد بن جعفر غندر، كلهم عن شعبة به. وأخرجه النسائي بأطول من هذا: قال: أخبرنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار عن محمد11 قال: ثنا شعبة عن جامع بن شداد عن عبد الرحمن بن أبي علقمة قال: سمعت عبد الله بن مسعود يقول: أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية، فذكر أنهم نزلوا دهاساً من الأرض - يعني بالدهاس الرمل - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يكلؤنا"، فقال بلال: أنا يا رسول الله، قال: "إذاً ننام" فناموا حتى طلعت الشمس، فاستيقظ ناس فيهم فلان وفلان
وفيهم عمر، واستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "افعلوا ما كنتم تفعلون" ففعلنا قال: "كذلك فافعلوا لمن نام أو نسي": قال: فضلت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فطلبتها فوجدت حبلها قد تعلق بشجرة فجئت بها فركب فسرنا. وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي اشتد ذلك عليه، وعرفنا ذلك فيه فتنحى منتبذاً1 خلفنا فجعل يغطي رأسه ويشتد عليه حتى عرفنا أنه قد أنزل عليه، فأتانا وأخبرنا أنه إنما أنزل عليه {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا} 2. وأخرجه أحمد3، وابن أبي شيبة4 كلاهما عن محمد بن جعفر عن شعبة به. وأخرجه البزار5 عن محمد بن المثنى عن محمد بن جعفر به، كلهم لنحو لفظ النسائي. سند هذا الحديث صحيح، رجاله رجال الصحيحين ما عدا عبد الرحمن بن أبي علقمة، ولم يطعن فيه أحد6، وقد ذكره ابن حبان7 في ثقات التابعين، وقال الهيثمي8 عن الحديث: رجاله موثقون، وابن أبي علقمة من جملتهم، وقال الألباني9 عن الحديث: إسناده صحيح. وقد أخرج النسائي وغيره الحديث من طريق المسعودي عن جامع ابن شداد بسياق آخر: (152) قال النسائي: أخبرنا سويد10 بن نصر قال: أنا عبد الله11 عن
المسعودي1 عن جامع بن شداد عن عبد الرحمن بن أبي علقمة قال عبد الله: لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم زمان الحديبية قال: "من يحرسنا الليلة" قال عبد الله: أنا، قال: "إنك تنام" ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من يحرسنا الليلة"؟ قال: وسكت القوم، فقلت: أنا، قال: "فأنت إذاً" قال: فحرستهم حتى إذا كان في وجه الصبح أدركني ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فنمت، فما استيقظت إلا بحرِّ الشمس على أكتافنا، فقام رسول الله فصنع كما كان يصنع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو شاء الله ألا تناموا عنها لم تناموا عنها، ولكن أراد أن تكون سنة لمن بعدكم لمن نام أو نسي"2. وأخرجه أحمد عن يزيد بن هارون عن المسعودي به، فذكر نحو هذا اللفظ وزاد: "قال: ثم إن ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإبل القوم تفرقت، فخرج الناس في طلبها، فجاؤوا بإبلهم إلا ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عبد الله: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذها هنا"، فأخذت حيث قال لي فوجدت زمامها قد التوى على شجرة ما كانت لتحلها إلاّ يد، قال: فجئت بها النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله والذي بعثك بالحق نبياً لقد وجدت زمامها ملتوياً على شجرة ما كانت لتحلها إلا يد، قال: ونزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة الفتح: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا} 3. وساق أبو داود الطيالسي حديث شعبة والمسعودي معاً. قال: حدثنا شعبة والمسعودي عن جامع بن شداد به، قال: وحديث المسعودي أحسن، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مرجعه من الحديبية فعرسنا4 فقال: "من يحرسنا لصلاتنا"، وقال شبعة: "من يكلؤنا" قال بلال: أنا، قال المسعودي في حديثه: "إنك تنام"، ثم قال: "من يحرسنا لصلاتنا"، فقال ابن مسعود قلت: أنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنك تنام"، قال: فحرستهم ... "5 الحديث بسياق المسعودي.
وأخرجه البيهقي1 من طريق أبي داود به مثله. وأخرجه من طريق يونس بن بكير عن المسعودي به، قال فيه: لما أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية جعلت ناقته تثقل فتقدمنا فأنزل عليه: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا} ، فأدركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبه من السرور ما شاء الله فأخبرنا أنها أنزلت عليه فبينما نحن ذات ليلة إذ عرسنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يحرسنا"؟ فقلت: أنا يا رسول الله ... "2 الحديث. وأورد الهيثمي رواية المسعودي هذه ثم قال: وفيه عبد الرحمن بن عبد الله المسعودي وقد اختلط في آخر عمره3. قلت: وقد قال عنه الذهبي سيء الحفظ4، وقد خالف في روايته فذكر أن الذي قام بحراسة المسلمين تلك الليلة عبد الله بن مسعود، والمحفوظ عن جامع بن شداد ما رواه شعبة أن الذي قام بحراسة المسلمين تلك الليلة إنما هو بلال، أما ما في رواية المسعودي فهو شاذ؛ لأنه خالف من هو أوثق منه، والله أعلم. وقد أخرج البيهقي الحديث من طريق زافر بن سليمان5 عن شعبة به، وذكر أن القصة كانت في غزوة تبوك6. وقد شذ زافر بن سليمان بذلك، والمحفوظ عن شعبة ما سبق من رواية الثقات مثل يحيى بن سعيد القطان، ومحمد بن جعفر غندر وغيرهم أن ذلك كان في غزوة الحديبية، أما زافر بن سليمان فقد قال عنه ابن حبان: كثير الغلط واسع الوهم، على صدق فيه7، وقال ابن حجر: صدوق كثير الأوهام ا. هـ فلعل هذا من أوهامه، والله أعلم. وقد وردت أحاديث أخرى تفيد أن قصة نومهم عن صلاة الصبح وقعت في غير
الحديبية أيضاً: منها حديث أبي هريرة عند مسلم1 أنها وقعت للمسلمين عند رجوعهم من خيبر، ومنها مرسل زيد بن أسلم عند مالك2 أنها وقعت لهم بطريق مكة. ومنها مرسل عطاء بن يسار3 أنها كانت في غزوة تبوك. وقد حاول بعض العلماء التوفيق بين هذه النصوص: فذهب ابن عبد البر إلى أن القصة واحدة، وأن الصحيح وقوعها في غزوة خيبر. ثم حمل بعض النصوص عليها وضعف البعض الآخر، فبعد أن ذكر مرسل زيد بن أسلم قال: وقد جاء معناه متصلاً مسنداً من وجوه صحاح ثابتة في نومه صلى الله عليه وسلم عن صلاة الصبح في سفره، روى ذلك جماعة من الصحابة وأظنها قصة لم تعرض له إلا مرة واحدة فيما تدل عليه الآثار، والله أعلم. إلا أن بعضها فيه: مرجعه من خيبر، كذا قال ابن شهاب عن سعيد بن المسيب في حديثه هذا، وهو أقوى ما يروى في ذلك، وهو الصحيح إن شاء الله، وقول زيد بن أسلم في حديثه هذا بطريق مكة ليس بمخالف لأن طريق خيبر وطريق مكة من المدينة يشبه أن يكون واحداً، وربما جعلته القوافل واحداً، وحديث زيد بن أسلم هذا مرسل، وليس مما يعارض ابن شهاب، وفي حديث ابن مسعود "من يوقظنا، فقلت: أنا أوقظكم" وليس في ذلك دليل على أنها غير قصة بلال لأنه لم يقل له: أيقظنا، ويحتمل أنه لا يجيبه إلى ذلك، ويأمر بلالاً، وقال ابن مسعود في هذا الحديث: زمن الحديبية - وهو زمن واحد في عام واحد لأنه منصرفه من الحديبية مضى إلى خيبر في عامه ففتحها الله عليه" 4 اهـ. هكذا قال ابن عبد البر - رحمه الله - وقد نقل ابن حجر رحمه الله بعض كلامه هذا - في محاولة الجمع - ثم قال: ولا يخفى ما فيه من تكلف ورواية عد الرزاق بتعيين غزوة تبوك ترد عليه5 ا. هـ
قلت: يعني ابن حجر برواية عبد الرزاق مرسل عطاء بن يسار1، لكنه لا يرد على ابن عبد البر؛ لأنه قد ضعفه حيث قال: وقد قال عطاء بن يسار أنها كانت في غزوة تبوك، وهذا لا يصح والآثار الصحاح على خلاف قوله مسندة ثابتة، وقوله مرسل2. لكن محاولة ابن عبد البر لتوحيد القصة، غير مجدية فإن كان قد أعل حديث زيد بن أسلم وحديث عطاء بن يسار بالإرسال، فإن حديث ابن مسعود صحيح لا يمكن رده بحال، وقد صرح فيه بأن الحادثة وقعت أثناء رجوعه من غزوة الحديبية، والحديبية تقع جنوب المدينة قريب من مكة، فالقادم منها إلى المدينة يتجه شمالاً، بينما تقع خيبر شمال المدينة فالقادم منها إلى المدينة يتجه جنوباً فلا يمكن أن يكون طريقهما من المدينة أو إلى المدينة واحداً، وما ذكره ابن عبد البر رحمه الله بعيدٌ جداً وعذره في ذلك أنه لا يعرف تلك الأماكن، لأنه لم يخرج عن الأندلس كما قال الحميدي3. وقد جنح ابن القيم - فيما يفهم من صنيعه - إلى كون الحادثة وقعت مرة واحدة، وترجيح كونها في خيبر: فبعد أن ذكر قصة نومهم عن الصلاة في غزوة خيبر قال: وروي أن هذه القصة كانت مرجعهم من الحديبية، وروي أنها كانت مرجعهم من غزوة تبوك ... " اهـ4. هكذا حكى قصة الحديبية وتبوك بصيغة التمريض، ثم عاد مرة أخرى فذكر حديث ابن مسعود في قصة نومهم عن الصلاة في الحديبية ثم أعله بالاضطراب، فبعد أن ذكره من طريق شعبة قال: لكن اضطربت الرواة في هذه القصة، فقال عبد الرحمن بن مهدي عن شعبة عن جامع: إن الحارس فيها كان ابن مسعود، وقال غندر عنه: إن الحارس كان بلالاً، واضطربت الرواية في تاريخها، فقال المعتمر بن سليمان عن شعبة عنه: إنها كانت في غزوة تبوك، وقال غيره عنه: إنها كانت في مرجعهم من الحديبية، فدل على وهم وقع فيها، ورواية الزهري عن سعيد سالمة من ذلك، وبالله التوفيق5.
قلت: ما حكاه ابن القيم عن ابن مهدي والمعتمر بن سليمان وجعله سبباً في اضطراب الحديث لم يسنده ابن القيم ولم يعزه لأحد ممن سبقه، ولم أرَ أحداً - بعد بحث طويل - سوى ابن القيم يذكر أن ابن مهدي أو المعتمر بن سليمان قد روى هذا الحديث عن شعبة، وكذلك لم يذكر أحد ممن رواه عن شعبة أن ابن مسعود حرسهم تلك الليلة، ولم يرد أيضاً عن شعبة أن القصة وقعت في غزوة تبوك إلا من رواية زافر بن سليمان عنه، وقد بينا شذوذه في ذلك. والمحفوظ عن شعبة هو ما رواه الثقات وهم محمد بن جعفر غندر، ويحيى بن سعيد القطان، وأبو داود الطيالسي، فهؤلاء كلهم رووا عنه أن الحادثة وقعت عند رجوع المسلمين من غزوة الحديبية، وأن الذي حرسهم تلك الليلة هو بلال، وعلى هذا فإن ثبت ما ذكره ابن القيم عن ابن مهدي والمعتمر يكون من قبيل الشاذ، ولا يعل به الحديث، والله أعلم. والتحقيق: أن ما ورد من اختلاف بين حديث ابن مسعود في قصة الحديبية، وغيره محمول على تعدد القصة، كما رجح ذلك النووي1 وجنح إليه ابن كثير2 والزرقاني3، وابن حجر4، بل قال السيوطي: "ولا يجمع إلا بتعدد القصة"5.
المبحث الثاني: نزول سورة الفتح
المبحث الثاني: نزول سورة الفتح: انصرف المسلمون من الحديبية وفي نفوسهم ما فيها بسبب صد قريش لهم عن البيت، وقد علم الله ذلك منهم - وهو العليم بالسر وأخفى - فأنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم سورة الفتح يبشرهم فيها بأنهم لم يخسروا سفرتهم تلك، وأن ذلك الصلح كان فتحاً، وأنهم قد انقلبوا بمغفرة من الله ورضوان، وذلك أسمى ما تصبو إليه نفوسهم، فيالها من بشارة! (153) قال البخاري: حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسير في بعض أسفاره - وعمر بن الخطاب يسير
معه ليلاً - فسأله عمر بن الخطاب عن شيء فلم يجبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم سأله فلم يجبه، وقال عمر بن الخطاب: "ثكلتك أمك يا عمر، نزرت1 رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات كل ذلك لا يجيبك"، قال عمر: "فحركت بعيري ثم تقدمت أمام المسلمين، وخشيت أن ينزل فيّ قرآن، فما نشبت2 أن سمعت صارخاً يصرخ بي" قال: "فقلت لقد خشيت أن يكون نزل فيّ قرآن، وجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه" فقال: "لقد أنزلت علي الليلة سورة لهي أحب إليّ مما طلعت عليه الشمس، ثم قرأ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا} 3.4 وأخرجه من طريق محمد5 بن مسلمة القعنبي وإسماعيل6 بن أبي أويس كلاهما عن مالك به مثله وتكرر عندهما لفظ: "ثم سأله فلم يجبه" مرتين. هذا الحديث ظاهره الإرسال، وهو مما انتقده الدارقطني على البخاري، وقد أجاب عنه ابن حجر فقال: "بل ظاهر رواية البخاري الوصل، فإن أوله وإن كان صورته صورة المرسل فإن بعده ما يصرح بأن الحديث لأسلم عن عمر ففيه بعد" قوله: "فسأله عمر عن شيء فلم يجبه"، فقال عمر: "نزرت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات، كل ذلك لا يجيبك"، قال عمر: "فحركت بعيري ثم تقدمت أمام الناس، وخشيت أن ينزل في قرآن، وساق الحديث على هذه الصورة حاكياً لمعظم القصة عن عمر فكيف يكون مرسلاً، هذا من العجب7، والله أعلم. قلت: وقد جاء الحديث من طرق أخرى لغير البخاري يصرح فيها أسلم بأخذه هذا الحديث عن عمر: فأخرجه الترمذي من طريق محمد بن خالد بن عثمة عن مالك به، وفيه: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره ... " 8.
وأخرجه البزار1 من طريق ابن عثمة به، قال فيه: "سمعت عمر"، وذكره. وأخرجه2 من طريق عبد الرحمن بن غزوان به، وقال فيه: "عن عمر" وذكر الحديث. ثم قال البزار: "هذا الحديث لا نعلمه يروى عن عمر إلا من هذا الوجه ولا نعلم حدث به عن زيد بن أسلم إلا مالك ولا رواه عن مالك إلا محمد بن خالد بن عثمة، وعبد الرحمن بن غزوان"3 اهـ. وابن غزوان هذا يكنى بأبي نوح وقد روى عنه أحمد هذا الحديث متصلاً. قال: ثنا أبو نوح عن مالك به قال فيه4: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وذكر نحوه. وأخرجه ابن عبد البر من طريق محمد بن حرب عن مالك به قال فيه عن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسير في بعض أسفاره ... "5 الحديث بنحوه. ثم قال ابن عبد البر: "وهكذا رواه مسنداً روح بن عبادة ومحمد بن خالد بن عثمة جميعاً أيضاً عن مالك كرواية محمد بن حرب سواء ذكره النسائي عن محمد بن عبد الله بن المبارك"6 اهـ. وذكر ابن حجر أن الدارقطني أورد في غرائب مالك من طريق ابن غزوان وابن عثمة ويزيد بن أبي حكيم ومحمد بن حرب وإسحاق الحنيني، ثم قال ابن حجر: "فهؤلاء خمسة رووه عن مالك بصريح الاتصال"7 اهـ قلت: وقد أشار ابن عبد البر - كما سبق - إلى أن روح بن عبادة رواه متصلاً عن مالك، فيصبح الذين رووه عن مالك بصريح الاتصال ستة، والله أعلم. (154) قال البخاري: حدثنا أحمد بن إسحاق حدثنا عثمان بن عمر أخبرنا شعبة عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا} قال: الحديبية، قال أصحابه: هنيئاً مريئاً فما لنا؟ فأنزل الله {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} 1، قال شعبة: فقدمت الكوفة فحدثت بهذا كله عن قتادة ثم رجعت فذكرت له فقال: أما {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ} فعن أنس، وأما "هنيئاً مريئاًَ" فعن عكرمة2. وأخرجه أبو عوانة من طريق عثمان بن عمر عن شعبة به، فذكر نحوه وفيه، قال شعبة: فأتيت الكوفة فحدثتهم بهذا الحديث عن قتادة عن أنس فلما رجعنا إلى البصرة سألت عنه قتادة فقال: أما الأول: فتح الحديبية، فهو عن أنس، وأما هذا قول أصحابه: "هنيئاً لك" هذا عن عكرمة3. ومن هذا الوجه أخرجه البيهقي4 أيضاً بنحو لفظ أبي عوانة. وأخرجه أحمد عن حجاج بن محمد عن شعبة به، فذكره بمعنى ما سبق وفيه: قال: فظننت أنه كله عن أنس فأتيت الكوفة فحدثت عن قتادة عن أنس ثم رجعت فلقيت قتادة بواسط فإذا هو يقول: أوله عن أنس، وآخره عن عكرمة، قال: فأتيتهم بالكوفة فأخبرتهم بذلك5. وأخرجه الخطيب6 من طريق أحمد بن إبراهيم الدورقي عن حجاج به مثله. وفي هذا الحديث أدرج قتادة رواية عكرمة في رواية أنس وساقهما مساقاً واحداً، لكن شعبة بين أخيراً ما رواه عن أنس وما رواه عن عكرمة من الحديث. وذكر الخطيب أن أحمد - في روايته عن حجاج - لم يبين رواية قتادة عن أنس من روايته عن عكرمة7، والواقع أنه قد بين كما سبق، فلعله لم يقف عليها. وأخرجه الخطيب من طريق أبي معشر الرؤاسي عن شعبة به، وفصل قتادة رواية كل منهما على حدة، ولفظه: "قال: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية نزلت عليه {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا} ، قال قتادة: عن عكرمة: فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:
هنيئاً لك يا رسول الله ما أعطاك الله فما لنا؟ فنزلت: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} 1. وقد روى الحديث عن قتادة غير شعبة، وأدرج رواية عكرمة في رواية أنس دون تمييز بينهما. فأخرجه الترمذي من طريق معمر بن راشد عن قتادة عن أنس رضي الله عنه قال: نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} 2، مرجعه من الحديبية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لقد نزلت علي آية أحب إلى مما على الأرض، ثم قرأها النبي صلى الله عليه وسلم عليهم"، فقالوا: هنيئاً مريئاً يا نبي الله قد بين الله لك ماذا يفعل بك، فماذا يفعل بنا؟ فنزلت عليه: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} إلى قوله: {فَوْزًا عَظِيمًا} 3. وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح". وأخرجه أحمد4 وابن حبان5 وابن جرير6 والخطيب7 كلهم من طريق معمر به نحوه. وأخرجه أحمد من طريق همام8 عن قتادة عن أنس قال: "لما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية نزلت عليه هذه الآية: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا} ... الحديث. وأخرجه أبو عوانة من طريق9 همام به فذكر نحوه. وأخرجه أبو عوانة أيضاًَ من طريق10 شيبان عن قتادة عن أنس بنحوه. وأخرجه ابن جرير11 من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس فذكر نحوه.
وأخرجه الخطيب1 من طريق همام وسعيد بن أبي عروبة كلاهما عن قتادة عن أنس فذكره. وأخرجه من طريق حجاج عن شعبة عن قتادة عن عكرمة وأنس بن مالك فذكره بنحوه2. ثم قال الخطيب: "قصة نزول أول هذه السورة حسب عن قتادة عن أنس". وأما قصة نزول قوله تعالى: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} ، إلى آخر الآية فهي عن قتادة عن عكرمة لا عن أنس3 ا. هـ وقد روى شعبة وغيره عن قتادة حديث أنس بانفراده فأخرجه البخاري من طريق محمد بن جعفر غندر عن شعبة به. (155) قال: حدثنا محمد بن بشار حدثنا غندر حدثنا شعبة قال: "سمعت قتادة عن أنس رضي الله عنه: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا} قال الحديبية"4. وأخرجه أبو عوانة من طريق غندر5 وعبد الرحمن6 بن زياد الرصاصي وأبي النضر7 هاشم بن القاسم كلهم عن شعبة به نحوه. وأخرجه الخطيب8 من طريق الثلاثة المتقدمين ومن طريق عبد الله ابن خيران ويحيى بن سعيد القطان ومعاذ بن معاذ كلهم عن شعبة به نحوه. وأخرجه مسلم9 من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس بن مالك حدثهم قال: لما نزلت: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ} إلى قوله: {فَوْزًا عَظِيمًا} . مرجعه من الحديبية فقال: "لقد أنزلت علي آية هي أحب إلي من الدنيا جميعاً"، وساق سنده إلى سليمان التيمي وهمام وشيبان، وقال: جميعاً عن قتادة عن أنس نحو حديث ابن أبي عروبة.
وأخرجه أبو عوانة1 وابن جرير2 والخطيب3 كلهم من طريق سليمان التيمي عن قتادة عن أنس نحو حديث سعيد بن أبي عروبة عند مسلم. وقد أفرد محمد بن جعفر غندر وعبد الرحمن بن زياد الرصاصي عن شعبة حديث عكرمة: (156) فأخرجه ابن جرير4 والخطيب5 كلاهما من طريق محمد بن جعفر عن شعبة عن قتادة عن عكرمة قال: لما نزلت {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: هنيئاً مريئاً لك يا رسول الله هذا لك فما لنا؟ قال: فنزلت هذه الآية: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} . وأخرجه الخطيب من طريق عبد الرحمن بن زياد الرصاصي عن شعبة عن قتادة عن عكرمة قال: لما نزلت هذه الآية قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله هنيئاً لك ما أعطاك ربك، هذا لك فما لنا؟ فأنزل الله: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} 6 الآية. وقد أشار إلى نزول سورة الفتح حديث المسور ومروان: (157) قال الحاكم: أخبرنا أحمد بن جعفر القطيعي7 ثنا عبد الله ابن أحمد بن حنبل8 حدثني أبي9 ثنا محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن
عروة عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم قالا: "أنزلت سورة الفتح بين مكة والمدينة في شأن الحديبية، من أولها إلى آخرها"1. وأخرجه البيهقي أيضاً من طريق ابن إسحاق، وصرح فيه بالسماع من الزهري، قال: أخبرنا أبو عبد الله2 الحافظ، وأبو بكر أحمد بن الحسن القاضي، قالا: ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ثنا أحمد بن عبد الجبار، ثنا يونس بن بكير عن ابن إسحاق قال: حدثني الزهري عن عروة عن مروان والمسور بن مخرمة في قصة الحديبية وفيها مدرجاً: "ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعاً، فلما كان بين مكة والمدينة نزلت عليه سورة الفتح، من أولها إلى آخرها: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا} 3. قال الحاكم بعد أن ساق الحديث: "وهذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه". قلت: الحديث صحيح لشواهده؛ لأن مداره على ابن إسحاق وحديثه حسن على الراجح من أقوال أهل العلم4، والقصة يحكيها المسور ومروان ولم يشهد أحد منهما الحديبية، فالحديث مرسل لكن المسور صحابي ومرسل الصحابي حجة، والله أعلم. وقد أشار إلى قصة نزول سورة الفتح أيضاً حديث مجمع بن جارية الأنصاري: (158) قال أبو داود: حدثنا محمد بن عيسى5 حدثنا مجمع بن يعقوب بن يزيد الأنصاري قال: سمعت أبي يعقوب بن مجمع يذكر عن عمه عبد الرحمن6 بن
يزيد الأنصاري عن عمه مجمع1 بن جارية الأنصاري - وكان أحد القراء الذين قرؤوا القرآن - قال: شهدنا الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما انصرفنا عنها إذا الناس يهزون2 الأباعر، فقال بعض الناس لبعض: ما بال الناس؟ قالوا: أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرجنا مع الناس نوجف، فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم واقفاً على راحلته عند كراع الغميم، فلما اجتمع عليه الناس قرأ عليهم: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا} ، فقال رجل: يا رسول الله أفتح هو؟ قال: "نعم والذي نفسي بيده إنه لفتح"، فقسمت خيبر على أهل الحديبية، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثمانية عشر سهماً، وكان الجيش ألفاً وخمسمائة، فيهم ثلاثمائة فارس، فأعطى الفارس سهمين، وأعطى الراجل سهماً3. وأخرجه أحمد عن إسحاق بن عيسى عن مجمع بن يعقوب به فذكره وفيه: "فإذا الناس ينفرون الأباعر"4. وأخرجه ابن أبي شيبة5 وابن سعد6 كلاهما عن يونس بن محمد المؤدب عن مجمع بن يعقوب به، وفيه: "فإذا الناس يوجفون7 الأباعر". وأخرجه الحاكم من طريق إسماعيل بن أبي أويس عن مجمع به، وفيه: "فإذا الناس يرسمون8 نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم ... "9. وأخرجه الحاكم أيضاً10 وابن جرير11 والبيهقي12 كلهم من طريق محمد بن عيسى عن مجمع به مثله. قال الحاكم: بعد أن أورده من طريق محمد بن عيسى: هذا حديث كبير
صحيح الإسناد، ولم يخرجاه1، ووافقه الذهبي2. وأخرجه من طريق ابن أبي أويس وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه3، وتعقبه الذهبي فقال: "لم يرو مسلم لمجمع شيئاً ولا لأبيه، وهما ثقتان"4. قلت: مجمع بن يعقوب وأبوه تُكِلم فيهما: فمجمع قال عنه الشافعي: شيخ لا يعرف5، وأبو يعقوب جهّله القطان، نقل ذلك عنه الزيلعي ونص عبارته: "وعلة هذا الحديث الجهل بحال يعقوب بن مجمع، ولا يعرف روى عنه غير ابنه مجمع وابنه مجمع ثقة"6. قلت: أما مجمع فقول الشافعي فيه غير مُسلَّم، فقد قال المزي في ترجمته: روى عنه إسماعيل بن أبي أويس وعاصم بن سويد الأنصاري القبائي، وعبد الله بن مسلمة القعنبي وعبد العزيز بن يحيى المدني، وقتيبة بن سعيد ومحمد بن عيسى ومحمد بن معن الغفاري، ويونس بن محمد المؤدب وغيرهم. وقال يحيى بن معين: ليس به بأس وكذلك قال النسائي وأبو حاتم: لا بأس به، وقال ابن سعد: كان ثقة7 ا. هـ وقد وثقه القطان كما سبق في معرض كلامه عن أبيه حيث قال: وابنه مجمع ثقة، وقول ابن معين ليس به بأس، يعني ثقة8، وكذلك وثقه الذهبي كما مر معنا قريباً، فمن هذه حاله كيف لا يكون معروفاً؟ وأما أبوه يعقوب بن مجمع فسبق أن جهله القطان لكن قال المزي: روى عنه ابن أخيه إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع، وعبد العزيز بن عبيد الله ابن حمزة بن صهيب وابنه مجمع بن يعقوب9.
وذكره ابن حبان1 في ثقات أتباع التابعين ووثقه الذهبي، وترجم له في الكاشف وقال وثق2، ومثل هذا ليس بمجهول، وأيضاً فالحديث له شواهد من الأحاديث السابقة فهو صحيح، كما قال الحاكم، والله أعلم.
المبحث الثالث: معجزة النبي صللى الله عليه وسلم في نبع الماء من أصابعه وفي تكثير الطعام
المبحث الثالث: معجزة النبي صللى الله عليه وسلم في نبع الماء من أصابعه وفي تكثير الطعام ... المبحث الثالث: معجزة النبي صلى الله عليه وسلم في نبع الماء من أصابعه وفي تكثير الطعام: تكررت معجزة النبي صلى الله عليه وسلم بتكثير الماء في غزوة الحديبية فقد سبق ذكر المعجزة بتكاثر ماء البئر حين وضع فيها سهم النبي صلى الله عليه وسلم، والنصوص التالية تفيد أنها قد حصلت للنبي صلى الله عليه وسلم معجزة أخرى من هذا النوع، وذلك حيت وضع يده صلى الله عليه وسلم في الإناء. قال البخاري: حدثنا يوسف بن عيسى عن ابن فضيل حدثنا حصين عن سالم عن جابر رضي الله عنه قال: عطش الناس يوم الحديبية ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديه ركوة1 فتوضأ منها، ثم أقبل الناس نحوه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لكم؟ قالوا: يا رسول الله ليس عندنا ماء نتوضأ ولا نشرب إلا ما في ركوتك، قال: "فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده في الركوة فجعل الماء يفور من بين أصابعه كأمثال العيون"، قال: "فشربنا وتوضأنا"، فقلت لجابر: "كم كنتم يومئذ؟ " قال: "لو كنا مائة ألف لكفانا كنا خمس عشرة مائة"2. وأخرجه عن موسى بن إسماعيل عن عبد العزيز بن مسلم عن حصين به فذكر نحوه وفيه: "فجعل الماء يثور من بين أصابعه"3. وأخرجه من طريق الأعمش عن سالم بن أبي الجعد عن جابر قال: "قد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد حضرتْ صلاة العصر وليس معنا ماء غير فضلة فجعل في إناء فأُتي النبي صلى الله عليه وسلم به فأدخل يده فيه، وفرّج بين أصابعه ثم قال: "حي على أهل الوضوء البركة من الله"، فلقد رأيت الماء يتفجر من بين أصابعه فتوضأ الناس وشربوا فجعلت لا آلوا ما جعلت في بطني منه فعلمت أنه بركة".
قلت لجابر: "كم كنتم يومئذ؟ " قال: "ألف1 وأربعمائة" تابعه عمرو بن دينار عن جابر"2. وأخرجه أحمد عن طريق عمرو بن مرة وحصين بن عبد الرحمن، كلاهما عن سالم عن جابر قال: "أصابنا عطش بالحديبية، فجهشنا3 إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين يديه تور4 فيه ماء فقال بأصابعه هكذا فيها وقال: "خذوا بسم الله، قال: فجعل الماء يتخلل من بين أصابعه كأنها عيون، فوسعنا وكفانا"، وقال حصين في حديثه: "فشربنا وتوضأنا". وهذه القصة مغايرة للقصة الأولى كما ذكر ذلك ابن القيم5 وابن حجر6 ووجه مغايرتها ظاهر: فالمعجزة في هذه وقعت في ماء كان في إناء، وسببها أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع يده في الإناء بينما المعجزة في تلك وقعت في البئر عندما وضع فيها سهم النبي صلى الله عليه وسلم وصب فيه الماء الذي مج فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد جمع بينهما ابن حجر فقال: "وكأنّ ذلك (أي ما في حديث جابر) كان قبل قصة البئر"7 اهـ. والذي يظهر لي: أن هذه القصة وقعت بعد قصة البئر أثناء رجوع المسلمين للمدينة لما يلي: ورد في حديث سلمة بن الأكوع عند مسلم أن قصة تكثير الماء الذي في الإناء وقعت عقب معجزة النبي صلى الله عليه وسلم في تكثير الطعام: (159) قال حدثني أحمد بن يوسف الأزدي، حدثنا النضر (يعني ابن محمد اليمامي) حدثنا عكرمة (هو ابن عمار) حدثنا إياس بن سلمة عن أبيه قال: خرجنا
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة فأصابنا جهد حتى هممنا أن ننحر بعض ظهرنا1، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم فجمعنا مزاودنا2 فبسطنا له نطعاً3 فاجتمع زاد القوم على النطع، قال: فتطاولت لأحزره4 كم هو؟ فحزرته كربضة العنز، ونحن أربع عشرة مائة، قال: فأكلنا حتى شبعنا جميعاً ثم حشونا جربنا5 فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم "فهل من وضوء؟ " قال: "فجاء رجل بإداوة6 له فيها نطفة فأفرغها في قدح، فتوضأنا كلنا ندغفقه7 دغفقة أربع عشرة مائة". قال: "ثم جاء بعد ذلك ثمانية فقالوا: "هل من طهور؟ " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فرغ الوضوء" 8. فهذا الحديث قد أفاد أن قصة تكثير الماء الذي في الإناء وقعت عقب معجزته صلى الله عليه وسلم في تكثير الطعام. وقد صرح حديث ابن عباس بأن حادثة تكثير الطعام كانت عند رجوع المسلمين من الحديبية: (160) قال البيهقي: أخبرنا أبو الحسين9 بن الفضل قال: أخبرنا أبو بكر بن عتاب10 قال: حدثنا القاسم11 بن عبد الله بن المغيرة، قال: حدثنا ابن أبي أويس12 قال حدثنا إسماعيل13 بن إبراهيم بن عقبة ح.
وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: أخبرنا إسماعيل1 بن محمد بن الفضل الشعراني قال: حدثنا جدي2 قال: ثنا إبراهيم بن المنذر قال: حدثني محمد بن فليح عن موسى بن عقبة عن ابن شهاب قال: قال ابن عباس لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية، كلمه بعض أصحابه فقالوا: "جهدنا وفي الناس ظهر، فانحره لنا فنأكل من لحومه ولندهن من شحومه، ولنحتذي من جلوده"، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "لا تفعل يا رسول الله فإن الناس إن يكن معهم بقية ظهر أمثل"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ابسطوا أنطاعكم وعباءكم ففعلوا ثم قال: من كان عنده بقية من زاد وطعام فلينثره ودعا لهم، ثم قال: قربوا أوعيتكم فأخذوا ما شاء الله"، حدثه نافع بن جبير3: "هذا لفظ إسماعيل وفي رواية ابن فليح قال موسى بن عقبة وحدثنيه نافع بن جبير" 4. وأخرجه البيهقي من طريق أبي الطفيل عن ابن عباس: (161) قال: حدثنا أبو محمد عبد الله5 بن يوسف الأصبهاني قال: أخبرنا أبو سعيد6 بن الأعرابي حدثنا الحسن7 بن محمد الزعفراني قال: حدثنا
يحيى بن سليم1 الطايفي عن عبد الله2 بن عثمان عن خيثم عن أبي الطفيل3 عن عبد الله بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل مر4 في صلح قريش - قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا رسول الله لو انتحرنا من ظهورنا فأكلنا لحومها وشحومها وحسونا من المرق، أصبحنا غداً إذا غدونا عليهم وبنا جمام"، قال: "لا، ولكن إيتوني بما فضل من أزوادكم فبسطوا أنطاعاً، ثم صبوا عليها فضول ما فضل من أزوادهم فدعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبركة"، فأكلوا حتى تضلعوا شبعاً ثم لففوا فضول ما فضل من أزوادهم في جربهم" 5. هذا الحديث صحيح بمجموع طرقه. وقد أفاد هذا الحديث أن معجزة تكثير الطعام إنما حصلت للنبي صلى الله عليه وسلم أثناء رجوعهم من غزوة الحديبية ومعجزة تكثير الماء في الإناء وقعت بعد هذه المعجزة، كما هو صريح حديث سلمة السابق عند مسلم، ولا يتوهم أن العدو المشار إليه في رواية أبي الطفيل هم قريش، بل هو عدو آخر عرض للمسلين أثناء رجوعهم كما بين ذلك حديث سلمة عند مسلم فقد جاء فيه ما نصه: "قال: ثم خرجنا راجعين إلى المدينة فنزلنا منزلاً بيننا وبين بني لحيان جبل وهم6 المشركون فاستغفر رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن رقى هذا الجبل الليلة كأنه طليعة للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قال سلمة، فرقيت تلك الليلة مرتين أو ثلاثاً ثم قدمنا المدينة ... "7.
المبحث الرابع: نزول المسلمين بالأثاية
المبحث الرابع: نزول المسلمين بالأثايه: (162) قال أبو بكر بن أبي شيبة: ثنا أبو خالد1 الأحمر عن يحيى2 بن سعيد عن شرحبيل3 - هو ابن سعد - عن جابر قال: أقبلنا مع رسلو الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بالسقيا4 قال معاذ: "من يسقينا في أسقيتنا؟ " قال: فخرجت في فتيان معي حتى أتينا الأثايه5، فأسقينا واستقينا قال: فلما كان بعد عتمة6 من الليل إذا رجل ينازعه بعيره الماء، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذت راحلته فأنختها فتقدم فصلى العشاء وأنا عن يمينه ثم صلى ثلاث عشرة ركعة7. وأخرجه أحمد عن يزيد بن هارون عن يحيى بن سعيد به فذكره وفيه: "فخرجت في فتية من الأنصار حتى أتينا الماء الذي بالأثاية وبينهم قريباً من ثلاثة وعشرين ميلاً ... "، وفيه: فصلى العتمة وجابر فيما ذكر إلى جنبه ثم صلى بعدها ثلاث عشرة سجدة8. وأخرجه عبد الرزاق9 عن ابن جريج10 عن يحيى بن سعيد عن مولى الأنصار عن جابر نحوه.
وأخرجه البزار من طريق يحيى بن سعيد1 الأموي عن يحيى بن سعيد به مختصراً ولفظه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بعد العتمة ثلاث عشرة ركعة"، وقال البزار تفرد به يحيى الأموي2. وذكر الهيثمي هذا الحديث ثم قال: رواه أحمد وأبو يعلى والبزار باختصار وفيه شرحبيل بن سعد وثقه ابن حبان وضعفه جماعة3. وذكره البوصيري بسند ابن أبي شيبة ثم قال: وإسناده حسن4 وكذلك حسنه ابن حجر5. وقال الساعاتي: لم أقف عليه لغير الإمام أحمد وسنده صحيح ورجاله ثقات وهو من ثلاثيات أحمد رحمه الله6. قلت: كلام الساعاتي رحمه الله فيه وهم، وسيأتي بيانه فيما بعد إن شاء الله. وسند الحديث مداره على شرحبيل بن سعد، وقد ضعفه ابن معين والنسائي وغيرهما، ولكن وثقه ابن حبان وحكى مضر بن محمد عن يحيى ابن معين أنه وثقه وقد خرج حديثه ابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما وقال ابن عيينة: "لم يكن أحمد أعلم بالمغازي والبدريين منه"7. قلت: وهذا الحديث من أحاديث المغازي ولذلك حسنه البوصيري وابن حجر فهو كما قالا، والله أعلم. تنبيه: قول الساعاتي رحمه الله: "إن هذا الحديث من ثلاثيات أحمد، وهم منه رحمه الله، وسببه أنه وقع سقط في سند أحمد فهو في المطبوع من المسند هكذا:
"حدثنا عبد الله حدثني أبي ثنا يحيى بن سعيد أن شرحبيل بن سعد أخبره عن جابر ... الحديث"1. والناظر في هذا السند لأول وهله يظنه متصلاً؛ لأنه لم يوصف أحد من رواته بالتدليس، ولذلك قال الساعاتي رحمه الله إنه من ثلاثيات أحمد، لكن بالتأمل في تواريخ وفيات رجال السند يتبين السقط، وقد رجعت إلى ثلاثيات المسند فلم أجده في مسند جابر ثم رجعت إلى غاية المقصد فتبين أن الساقط من السند شيخ أحمد وهو يزيد بن هارون وقد أثبته في تخريج الحديث، ويبدو أنه سقط على أحد النساخ"2، والله أعلم.
الفصل الرابع: فضل غزوة الحديبية ونتائجها
الفصل الرابع: فضل غزوة الحديبية ونتائجها المبحث الأول: فضل غزوة الحديبية ... المبحث الأول: فضل غزوة الحديبية: لقد استحقت هذه الغزوة أن تقرن بغزوة بدر في الفضيلة، لما ترتب عليها من عز وانتصار للإسلام وذل وانكسار للكفر والنفاق. قال ابن عبد البر: ليس في غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم ما يعدل بدراً أو يقرب منها إلا غزوة الحديبية، هذا هو الراجح عندنا، وأما متكلموا الأشاعرة فقدموا أحداً في الفضيلة والأول أولى1، والله أعلم. ويكفيها فضلاً أنها كانت فتحاًَ مبيناً كما أخبر الله بذلك، قال تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا} . فقد بينت الأحاديث أن الفتح المشار إليه هو غزوة الحديبية: ومن تلك الأحاديث حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: قال البخاري: حدثنا محمد بن بشار حدثنا غندر حدثنا شعبة قال: "سمعت قتادة عن أنس رضي الله عنه {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا} قال: الحديبية"2. ومنها حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما: قال البخاري: حدثنا عبد الله بن موسى عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن
البراء رضي الله عنه قال: "تعدون أنتم الفتح فتح مكة، وقد كان فتح مكة فتحاً، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية"1 الحديث. وأخرجه ابن سعد من طريق أبي إسحاق عنه بلفظ: "أما نحن فنسمي الذي يسمون فتح مكة يوم الحديبية بيعة الرضوان"2. ومنها حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (163) قال ابن جرير: حدثنا محمد بن المثنى قال حدثني يحيى بن حماد3: قال ثنا أبو عوانة4 عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال: "ما كنا نعد فتح مكة إلا يوم الحديبية"5. وأخرجه من طريق أبي عبيدة6 المسعودي عن الأعمش به بلفظ: "ما كنا نعد الفتح إلا يوم الحديبية" 7. سند هذا الحديث فيه تدليس الأعمش وأبي سفيان، لكنه منجبر بشاهده من الحديثين السابقين في الصحيح. ومنها ما أخرجه البيهقي من مرسل عروة بن الزبير والزهري: (164) قال: أخبرنا أبو الحسن بن الفضل القطان قال: أخبرنا أبو بكر8 بن عتاب قال: حدثنا القاسم بن عبد الله بن المغيرة قال: حدثنا ابن أبي أويس9 قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة عن عمه موسى بن عقبة، ح. وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: أخبرنا إسماعيل بن محمد بن الفضل قال: حدثنا جدي10
قال: حدثنا إبراهيم بن المنذر قال: حدثنا محمد بن فليح عن موسى بن عقبة عن ابن شهاب، ح. وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: أخبرنا أبو جعفر1 البغدادي قال: حدثنا محمد بن عمرو بن خالد قال: حدثنا أبي قال: حدثنا ابن لهيعة قال: حدثنا أبو الأسود عن عروة قالوا: "وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية راجعاً قال رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما هذا بفتح، لقد صددنا عن البيت وصد هدينا، وعكف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية، ورد رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين من المسلمين خرجا، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قول رجال من أصحابه إن هذا ليس بفتح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بئس الكلام، هذا أعظم الفتح، لقد رضي المشركون أن يدفعوكم بالراح عن بلادهم ويسألونكم القضية، ويرغبون إليكم في الأمان، وقد رأوا منكم ما كرهوا وقد أظفركم الله عز وجل عليهم وردكم سالمين غانمين، مأجورين، فهذا أعظم الفتوح أنسيتم يوم أحد إذ تصعدون ولا تلوون على أحد وأنا أدعوكم في أخراكم؟ "أنسيتم يوم الأحزاب إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم، وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا"؟ قال المسلمون: "صدق الله ورسوله هو أعظم الفتوح، والله يا نبي الله ما فكرنا فيما فكرت فيه، ولأنت أعلم بالله عز وجل وبالأمور منا، وأنزل الله عز وجل سورة الفتح: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا} إلى قوله: {صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} 2. هذا الحديث مرسل، لكنه يرتفع إلى درجه الحسن لغيره لتعدد طرقه واختلاف مخرجه، لا سيما ولبعضه شاهد من الأحاديث السابقة.
المبحث الثاني: نتائج غزوة الحديبية
المبحث الثاني: نتائج غزوة الحديبية: لقد تمخضت هذه الغزوة عن نتائج عظيمة لم تتوافر في غزوة قبلها أو بعدها فيما أعلم، وأهمها ما يلي: أولاً: ترتبت على الصلح آثار إيجابية ضخمة منها ما يلي: أ - اعترفت قريش في هذه المعاهدة بكيان المسلمين، فالمعاهدة دائماً لا تكون إلا بين ندين، وكان لهذا الاعتراف أثره في نفوس القبائل المتأثرة بموقف قريش الجحودي، حيث كانوا يرون أنها الإمام والقدوة.
ب - دخلت المهابة في قلوب المشركين والمنافقين وتيقن الكثير منهم بغلبة الإسلام، وقد تجلت بعض مظاهر ذلك في مبادرة كثير من صناديد قريش إلى الإسلام، مثل خالد بن الوليد وعمرو بن العاص1، كما تجلت في مسارعة الأعراب المجاورين للمدينة إلى الاعتذار عن تخلفهم بعد أن خابت ظنونهم إذ كانوا يتوقعون أنها القاضية على المسلمين، كما أخبر الله بذلك عنهم2. جـ - أعطت الهدنة فرصة لنشر الإسلام، وتعريف الناس به، مما أدى إلى دخول كثير من القبائل فيه. يقول الزهري: "فما فتح في الإسلام فتح قبله، كان أعظم منه، إنما كان القتال حيث التقى الناس، فلما كانت الهدنة ووضعت الحرب، وأمن الناس بعضهم بعضاً، والتقوا فتفاوضوا في الحديث والمنازعة فلم يكلم أحد بالإسلام يعقل شيئاً إلا دخل فيه، ولقد دخل في تينك السنتين مثل من كان في الإسلام قبل ذلك"3 اهـ. وعقب عليه ابن هشام4 بقوله: "والدليل على قول الزهري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الحديبية في ألف وأربعمائة في قول جابر بن عبد الله، ثم خرج في عام الفتح بعد ذلك بسنتين في عشرة آلاف"5 اهـ. د - أمن المسلمون جانب قريش فحولوا ثقلهم على اليهود ومن كان يناوئهم من القبائل الأخرى6. ثانياً: كسب المسلمون الذين شهدوا هذه الغزوة بسببها فوائد كثيرة - أخروية ودنيوية - وأهمها ما يلي:
أ - فازوا برضى الله عز وجل عنهم. قال الله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ... } الآية1. ب - أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم: "أن الله قد غفر لهم". ففي صحيح مسلم من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلكم مغفور له إلا صاحب الجمل الأحمر" 2. جـ - شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم أنهم خير أهل الأرض. ففي صحيح البخاري من حديث جابر قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية: "أنتم خير أهل الأرض ... " 3. د - بشرهم النبي صلى الله عليه وسلم: بالنجاة من النار. ففي صحيح مسلم من حديث أم مبشر أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول عند حفصة: "لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد الذين بايعوا تحتها ... " 4. هـ - قسمت عليهم غنائم خيبر، ففي حديث مجمع بن جارية الأنصاري: "فقسمت خيبر على أهل الحديبية، فقسمها النبي صلى الله عليه وسلم على ثمانية عشر سهماًَ، وكان الجيش ألفاً وخمسمائة فيهم ثلاثمائة فارس، فأعطى الفارس سهمين، وأعطى الراجل سهماً" 5. ثالثاً: شرعت في هذه الغزوة كثير من الأحكام والرخص التي كان لها أثر كبير في حياة المسلمين ومن أهمها ما يلي: أ - شرعت فيها صلاة الخوف على الصحيح6.
ب - شرعت فيها الفدية لمن ارتكب شيئاً من محظورات الإحرام1. جـ - شرع فيها الصلح مدة معلومة عند حاجة المسلمين إليه2. د - شرع فيها التحلل للمحصر، وأنه لا يلزمه القضاء. هـ - شرعت فيها رخصة الصلاة في الرحال في حال المطر3. و شرع فيها قضاء الصلاة الفائتة بالنوم أو النسيان عند ذكرها4. ز - نزل في هذه الغزوة تحريم نكاح الكفار من المسلمات، وذلك في قوله تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} 5. قال ابن كثير: "هذه الآية هي التي حرمت المسلمات على المشركين، وقد كان جائزاً في ابتداء الإسلام أن يتزوج المشرك المؤمنة ... " 6. ح - نزل فيها أيضاً الأمر بفسخ نكاح المشركات وعدم الاستمرار عليه، وذلك في قوله تعالى: {وَلاَتُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ ... } 7 الآية. وقد اشتملت مرويات هذه الغزوة على أحكام كثيرة غير هذه وسوف يأتي ذكر بعضها مع شيء من التفصيل في الباب الأخير إن شاء الله.
الباب الرابع: أحكام وفوائد من فقه مرويات الغزوة
الباب الرابع: أحكام وفوائد من فقه مرويات الغزوة توطئة ... توطئة حفلت مرويات غزوة الحديبية بكثير من الأحكام والفوائد الفقهية وهي غنية كذلك بالدروس والعبر التي تنير للمسلم الطريق وتجنبه كثيراً من المزالق إذا وفقه الله للتنبه لها. ولذلك استرعت هذه الغزوة انتباه كثير من العلماء وحظيت بجل اهتمامهم، فقد وقف ابن القيم1 رحمه الله عندها طويلاً، واستخرج منها كثيراً من الأحكام والفوائد، وسبقه إلى شيء من ذلك مجد الدين بن تيمية2 وتبعهما الشيخ محمد بن عبد الوهاب3 فاستنبط منها ما يربو على مائة مسألة، وقد وقف عندها علماء آخرون غير هؤلاء فاستقوا منها كثيراً من الأحكام والفوائد. وأردت في هذا الباب أن أعرج على تلك الأحكام والفوائد إتماماً للفائدة أولاً، وثانياً لإبراز أهمية هذه الغزوة، لكن رأيت أن الحال كما قال الشاعر: تكاثرت الظباء على خراش ... فما يدرى خراش ما يصيد لكن ما لا يدرك كله لا يترك كله، لذلك قررت الاقتصار على بعض الأحكام المتعلقة بالجهاد وبعض قضايا العقيدة الواردة في الغزوة. لأن أحكام الجهاد ذات صلة وثيقة بالغزوة. وأما قضايا العقيدة الواردة في هذه الغزوة فهي مهمة كذلك في نظري لأن منها ما هو معارض لنصوص صحيحة ربما تستوقف القارئ، فأردت أن أذكر توجيه العلماء لها، ومنها ما هو خاص بمثل الموطن الذي وقعت فيه، أو بالنبي صلى الله عليه وسلم، فأردت التنبيه على ذلك حتى لا يتوسع في القياس عليها. ثم رأيت أن أختم هذا الباب بالدروس والعبر المستفادة من بعض المواقف التي اشتملت عليها الغزوة لأن الاعتبار بالأحداث والاستفادة من القصص مطلوب شرعاً.
وقد يجد القارئ أن تلك الدروس والعبر قد علقت بذهنه أثناء مروره بتلك المواقف لكن ربما غفل عن بعضها، فيجد فيما سجلت تذكيراً له بذلك، وما رأى أنه يستحق الإضافة في هذا الفصل أو في غيره من فصول الرسالة، فأرجو ألا يتوانى في التنبيه عليه، مشكوراً مأجوراً، والله المستعان.
الفصل الأول: من أحكام الجهاد الواردة في الغزوة
الفصل الأول من أحكام الجهاد الواردة في الغزوة المبحث الأول: مشروعية الشورى: الشورى ميزة عظمى لهذه الأمة، وقد ذكرها الله سبحانه وتعالى في معرض المدح للمؤمنين، وقرنها بالطاعة والصلاة والزكاة. قال تعالى: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} 1. وأمر بها نبيه صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} 2 الآية. وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه استشار أصحابه رضوان الله عليهم في أكثر من موطن: 1 - استشارهم في غزوة بدر مرتين: المرة الأولى: استشارهم في العير3. والثانية: في المنزل، ونزل على رأي الحباب بن المنذر4. 2 - في غزوة أحد استشارهم في البقاء بالمدينة أو يخرج إلى العدو، فخرج بمشورة أكثر الصحابة5.
3 - في غزوة الأحزاب، استشارهم مرتين: الأولى: في الخندق حيث أمر بحفره بمشورة سلمان الفارسي1. والثانية: في مصالحة غطفان، بثلث ثمار المدينة، استشار في ذلك سعد بن معاذ وسعد بن عبادة ونزل على رأيهما في عدم إعطائهم شيئاً2. 4 - في غزوة الحديبية - هذه - استشار مرتين: الأولى: استشار الصحابة في الإغارة على ذراري المشركين أو تركهم، ونزل على رأي أبي بكر رضي الله عنه في تركهم3. والثانية: استشار أم سلمة رضي الله عنها في أمر الناس حين لم يبادروا بالنحر والحلق، وقد أمرهم بذلك، فأشارت عليه بأن يبدأ ذلك بنفسه ففعل صلى الله عليه وسلم4. 5 - في غزوة بني المصطلق: استشار علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد رضي الله عنهم في فراق عائشة رضي الله عنها5. وقد جعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه الخلافة من بعده شورى في الستة الباقية من العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنهم6. وبهذا تتضح لنا أهمية الشورى ومكانتها في الإسلام حيث جعلها الله من صفات المؤمنين، وأمر بها نبيه صلى الله عليه وسلم، وعمل بها النبي صلى الله عليه وسلم في مواطن كثيرة، وعمل بها الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم. فمن بعدهم أولى بالمشورة وأحوج إليها منهم. وقد نوه ابن عطية بشأن الشورى، ثم حكى الإجماع على وجوب عزل من لا يستشير أهل الدين.
قال: والشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام، من لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب، هذا ما لا خلاف فيه1. وقال ابن تيمية2: "لا غنى لولي الأمر عن المشاورة، فإن الله قد أمر بها نبيه صلى الله عليه وسلم فقال: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} الآية". ومحل الشورى: هو أمور الحرب، والنوازل، وسائر الأمور التي لم يرد فيها دليل صريح من الشرع3. ومن فوائد الشورى: 1 - تأليف قلوب الأتباع واستطابة نفوسهم. 2 - استخراج وجه الرأي منهم4. 3 - التعرف على مصلحة يختص بعلمها بعضهم دون بعض5.
المبحث الثاني: حكم الأستعانة بالمشرك
المبحث الثاني: حكم الاستعانة بالمشرك: جاء في حديث المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث بسر بن سفيان الخزاعي عيناً إلى مكة1. وقد استدل بعض العلماء بقصة بسر هذه على جواز الاستعانة بالمشركين في الجهاد. قال ابن القيم: "إن الاستعانة بالمشرك المأمون في الجهاد جائزة عند الحاجة، لأن عينه الخزاعي كان كافراً إذ ذاك، وفيه من المصلحة أنه أقرب إلى اختلاطه بالعدو وأخذه أخبارهم"2 اهـ.
هكذا قال ابن القيم، وقد سبقه إلى ذلك مجد الدين ابن تيمية1، وتبعهما بعض المتأخرين2. والظاهر أن ليس في قصة الخزاعي هذه دلالة على جواز الاستعانة بالمشرك في الجهاد؛ لأنه لم يرد في هذا الحديث ولا في غيره ما يدل على أنه كان كافراً إذ ذاك. بل ورد عن بعض العلماء ما يدل على أنه أسلم قبل الحديبية. قال ابن عبد البر: "بسر بن سفيان بن عويمر الخزاعي، أسلم سنة ست من الهجرة، وبعثه النبي صلى الله عليه وسلم عيناً إلى قريش إلى مكة، وشهد الحديبية، وهو المذكور في حديث الحديبية من رواية الزهري عن عروة عن المسور ومروان قوله: حتى إذا كان بغدير الأشطاط لقيه عينه الخزاعي، فأخبره خبر قريش وجموعهم، قالوا: هو بسر بن سفيان هذا"3 اهـ وقد نقل ابن حجر كلام ابن عبد البر وسكت عليه4. وقال الزرقاني: "واختار بسر بن سفيان بن عمرو هذا، لقرب عهده بالإسلام؛ لأنه أسلم في شوال فلا يظنه من رآه عيناً فلا يؤذيه"5 اهـ. فقد رأينا من كلام ابن عبد البر والزرقاني أنهما يريان أن بسر بن سفيان أسلم قبل الحديبية. وعلى فرض أنه لم يثبت ما ورد في إسلامه فلا تصلح قصته دليلاً على جواز الاستعانة بالمشرك، لوجود الاحتمال، لا سيما وهي معارضة بأحاديث صحيحة. فالحاصل: أن قصة بسر بن سفيان الخزاعي لا دلالة فيها على جواز الاستعانة بالمشرك مطلقاً ولم يثبت في ذلك شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكر بعض العلماء، وإنما وردت بذلك أحاديث كلها ضعيفة، وهي: 1 - حديث ابن عباس رضي الله عنهما: قال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب أنا
الربيع بن سليمان قال: قال الشافعي: قال أبو يوسف أنبأ الحسن بن عمارة عن الحكم بن مقسم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "استعان رسول الله صلى الله عليه وسلم بيهود بني قينقاع، فرضخ1 لهم ولم يسهم لهم"2. قال البيهقي: "تفرد به الحسن بن عمار وهو متروك، ولم يبلغنا في هذا حديث صحيح"3. 2 - حديث الزهري: قال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ أنبأ أبو الوليد الفقيه ثنا الحسن بن سفينا ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا حفص عن ابن جريج عن الزهري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا بناس من اليهود فأسهم لهم4. وهذا الحديث قد أرسله الزهري، والمرسل من قسم الضعيف، لا سيما مرسلات الزهري. 3 - حديث فطير الحارثي: قال البيهقي: وقد روى الواقدي عن ابن أبي سيرة عن فطير الحارثي قال: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشرة من اليهود من يهود المدينة إلى خيبر فأسهم لهم كسهمان المسلمين"5. قال البيهقي: "هذا منقطع وإسناده ضعيف"6. فهذه الأحاديث التي دلت على جواز الاستعانة بالمشرك، وهي ضعيفة لا تقوم بها حجة ولا يثبت بها حكم. وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ذلك من حديث عائشة رضي الله عنها. قال مسلم: حدثني زهير بن حرب، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن مالك ح. وحدثنيه أبو طاهر (واللفظ له) ، حدثني عبد الله بن وهب عن مالك ابن أنس
عن الفضيل بن أبي عبد الله عن عبد الله بن دينار الأسلمي عن عروة بن الزبير عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بدر فلما كان بحرة الوبرة1، أدركه رجل قد كان يذكر منه جرأة ونجدة، ففرح أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأوه، فلما أدركه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم جئت لأتبعك وأصيب معك، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تؤمن بالله ورسوله"؟ قال: لا، قال "فارجع فلن أستعين بمشرك". قالت: ثم مضى، حتى إذا كنا بالشجرة2 أدركه الرجل، فقال له كما قال أول مرة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم كما قال أول مرة، قال: "فارجع فلن أستعين بمشرك"، قال: "ثم رجع فأدركه بالبيداء، فقال له كما قال أول مرة: "تؤمن بالله ورسوله؟ " قال: نعم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فانطلق"3. وفيه من حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه: قال البيهقي: أخبرنا محمد بن عبد الله الحافظ ثنا أحمد بن محمد العنبري ثنا عثمان بن سعيد الدارمي ثنا يوسف بن عيسى المروزي ثنا الفضل بن موسى السيناني، عن محمد بن عمرو عن سعيد بن المنذر عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا خلف ثنية الوداع إذا كتيبة قال من هؤلاء؟ قالوا: بني قينقاع - وهم رهط عبد الله بن سلام - قال: وأسلموا؟ قالوا: لا، قال: بل هم على دينهم، قال: "قل لهم فليرجعوا فإنا لا نستعين بالمشركين" 4. وأشار البيهقي5 إلى أن سند هذا الحديث صحيح. وفيه من حديث خبيب بن عبد الرحمن: قال الإمام أحمد: ثنا يزيد بن هارون قال: أنا المستلم بن سعيد الثقفي عن عباد ثنا خبيب بن عبد الرحمن عن أبيه عن جده قال: "أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يريد
غزواً أنا ورجل من قومي ولم نسلم فقلنا: إنا نستحي أن يشهد قومنا مشهداً لا نشهده معهم، قال: أو أسلمتا؟ قلنا: لا، قال: "فلا نستعين بالمشركين على المشركين"، فأسلمنا وشهدنا معه ... " الحديث1. وسند هذا الحديث حسن. وقد ذهب إلى جواز الاستعانة بالمشركين جماعة من العلماء، وهو مروي عن أبي حنفية والشافعي وأحمد2؛ للأحاديث السابقة في جواز الاستعانة بهم3. وقد استدلوا أيضاً بقصة شهود صفوان بن أمية لغزوة حنين، وهو مشرك، وبشهود قزمان غزوة أحد وهو مشرك، وبشهود ابن أُبَيْ لبعض الغزوات4. وقد اشترطوا لجواز ذلك شروطاً هي: 1 - أن يكون في المسلمين قلة وتدعوا الحاجة إلى ذلك. 2 - أن يكونوا ممن يوثق بهم فلا تخشى ثائرتهم5. 3 - أن يكون مع الإمام جماعة يستقل بهم في إمضاء الأحكام6. وذهب جماعة إلى عدم جواز الاستعانة بالمشركين، وممن قال بذلك ابن المنذر، والجوزجاني، وهو مروي عن الشافعي7. واستدل أصحاب هذا القول: بحديث عائشة رضي الله عنها وحديث أبي حميد الساعدي وحديث خبيب بن عبد الرحمن السابقة. وقالوا: إن الأحاديث الدالة على الجواز كلها ضعيفة، لا تقوى على المعارضة. وقد رجح الشوكاني هذا القول حيث قال: "والحاصل أن الظاهر من الأدلة عدم جواز الاستعانة بمن كان مشركاً مطلقاً لما في قوله صلى الله عليه وسلم: "إنا لا نستعين بالمشركين"
من العموم، وكذلك في قوله: "لن أستعين بمشرك"1. وأجاب عن قصة قزمان بأنه لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن له بذلك في ابتداء الأمر. قال: وأما استعانته بابن أُبَي فليس ذلك إلا لإظهاره الإسلام2. قلت: وقصة صفوان بن أمية ليس فيها دليل أيضاً على ذلك؛ لأنه لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم طلب منه الخروج، وإنما الثابت في ذلك استعارة رسول الله صلى الله عليه وسلم للأدراع منه فحسب3.
المبحث الثالث: مقدار المدة التي تجوز مهادنة الكفار عليها
المبحث الثالث: مقدار المدة التي تجوز مهادنة الكفار عليها: جاء في حديث المسور ومروان من طريق ابن إسحاق "أن النبي صلى الله عليه وسلم صالح قريشاً على وضع الحرب عشر سنين"1. وقد أخذ جماعة بظاهر هذا الحديث. قال الشافعي2: "لا تتجاوز المهادنة عشر سنين، وعند الضرورة يجدد العقد بعد انتهاء العشر". وحكى ابن قدامة3 عن القاضي أن ظاهر كلام أحمد يقتضيه. وحكاه ابن حجر عن الجمهور ورجحه4. وقالوا: إن قوله تعالى: {فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} ، عام وقد خص منه الحديث هذه المدة، ففيما زاد يبقى على مقتضى العموم5.
وذهب قوم إلى جواز الهدنة أكثر من عشر سنين على ما يراه الإمام من المصلحة وهو قول أبي حنيفة1. وحكى ابن قدامة عن أبي الخطاب أنه ظاهر كلام أحمد2. وقالوا: "إن العام مخصوص بالعشر بمعنى موجود فيما زاد عليها، وهو أن المصلحة قد تكون في الصلح أكثر منها في الحرب"3. وقيل: لا تتجاوز الهدنة أربع سنين4. ولعل هؤلاء تمسكوا بحديث ابن عمر أن مدة الصلح كانت أربع سنين، وهو ضعيف5. وقيل: لا تتجاوز ثلاث سنين6. وهؤلاء نظروا إلى أن المدة التي استمر فيها الصلح مع قريش. والتحقيق: أن القول الأول هو الراجح لظاهر الحديث، وإن وجدت مصلحة في الزيادة على العشر جدد العقد، كما قال الشافعي، والله أعلم. وقال بعض المتأخرين:7 يجوز عقد الصلح مؤبد غير مؤقت بمدة معينة. واستدل بقوله تعالى: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً} 8. وهذا القول مبني على أن الأصل في علاقة المسلمين بالكفار هي السلم لا الحرب9، وأن الجهاد إنما شرع لمجرد الدفاع عن المسلمين فحسب10. وهذا القول مردود لما يلي:
1 - أن صاحب هذا القول قد خرق الاتفاق بعد أن حكاه بنفسه حيث قال: "اتفق الفقهاء على أن عقد الصلح مع العدو لا بد من أن يكون مقدوراً بمدة معينة، فلا تصح المهادنة مطلقة إلى الأبد من غير تقدير بمدة"1. 2 - الآية التي استدل بها منسوخة بقوله تعالى: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ... } 2 الآية. فقد نقل ذلك ابن جرير3 عن عكرمة والحسن وقتادة وابن زيد. وحكاه ابن كثير4 عن ابن عباس. وحكاه القرطبي5 عن مجاهد، ثم قال: وهو أصح شيء في معنى الآية. 3 - الأصل الذي انبنى عليه هذا القول: مردود بآية براءة السابقة، وبواقع سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وخلفائه الراشدين من أعدائهم. 4 - أما فكرة أن الجهاد إنما شرع للدفاع عن المسلمين، فهي فكرة دخيلة، وقد تصدى لها سيد قطب6 رحمه الله ففندها، وبين أن سبب نشوئها هو الانهزام أمام هجمات المستشرقين، وعدم الفهم لمرحلية7 الدعوة.
المبحث الرابع: هل تجوز مصالحة الكفار على رد من جاء من قبلهم مسلما
المبحث الرابع: هل تجوز مصالحة الكفار على رد من جاء من قبلهم مسلماً: كان من جملة الشروط التي وقع عليها صلح الحديبية أن يرد النبي صلى الله عليه وسلم إلى قريش من جاءه من قبلها، وألا ترد قريش من جاءها من المسلمين1. وقد وقع خلاف بين العلماء في جواز هذا الشرط: فعند أبي حنيفة أنه غير جائز، لأن ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية منسوخ عنده
بحديث سرية خالد بن الوليد حين وجهه النبي صلى الله عليه وسلم إلى خثعم وفيهم ناس مسلمون فاعتصموا بالسجود فقتلهم خالد فوداهم النبي صلى الله عليه وسلم نصف الدية، وقال: "أنا بريء من مسلم بين مشركين"1. وذهب الحنابلة2 وهو ظاهر كلام الشافعي3 إلى جواز هذا الشرط لقصة الحديبية. وقال أصحاب الشافعي: لا يصح شرط رد المسلم إلا أن يكون له عشيرة تحميه وتمنعه4. وحكى السهيلي عن العراقيين أنهم قالوا: "ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية يختص بالنبي صلى الله عليه وسلم وبمكة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما رد المسلمين إلى قريش إلا لقوله: "لا تدعوني قريش إلى خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أجبتهم إليها"، قالوا: وفي رد المسلم إلى مكة عمارة البيت وزيادة خير له في الصلاة بالمسجد الحرام، والطواف بالبيت، فكان هذا من تعظيم حرمات الله تعالى"5. والتحقيق: جواز الصلح على رد الرجال، لأنه قد ثبت من فعل النبي صلى الله عليه وسلم ولم يرد ما ينسخه أو يخصصه، والحديث الذي استدل به من قال بالنسخ لم يكن في محل النزاع، إنما هو في خصوص من أقام بين الكفار عن طواعية واختيار، أما الذي يرده الإمام فهو مكره على الرجوع إليهم. وما ذكره أصحاب الشافعي من اشتراط الأهل والعشيرة لا دليل عليه، فرسول الله صلى الله عليه وسلم حين رد أبا جندل لم يقل له إن أباك سيمنعك بل قال له: "إن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً" وقال نحو ذلك لأبي بصير. وكذلك دعوى تخصيص ما وقع في صلح الحديبية بمكة وبالنبي صلى الله عليه وسلم لا دليل عليها وما ذكر من مسوغات لا تكفي للتخصيص. والله أعلم.
المبحث الخامس: إذا رد الأمام إلى المعاهدين من جاء من قبلهم فأحدث جناية فيهم فهل عليه أو على الإمام ضمان
المبحث الخامس: إذا رد الإمام إلى المعاهدين من جاء من قبلهم فأحدث جناية فيهم، فهل عليه أو على الإمام ضمان؟ جاء في حديث المسور ومروان أن أبا بصير حين دفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رسولي قريش، قتل واحداً منهما، ولم يضمن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، ولا ضمنه أبو بصير1. ولذلك قال ابن القيم: "إن المعاهدين إذا تسلموه وتمكنوا منه، فقتل أحداً منهم، لم يضمنه بدية، ولا قود، ولم يضمنه الإمام بل يكون حكمه في ذلك حكم قتله لهم في ديارهم، حيث لا حكم للإمام عليهم، فإن أبا بصير قتل أحد الرجلين المعاهدين بذي الحليفة، وهي من حكم المدينة، ولكن كان قد تسلموه وفصل عن يد الإمام وحكمه"2 اهـ. قلت: هذه المسألة فيها قضيتان: الأولى: ضمان الجاني. الثانية: ضمان الإمام. فبالنسبة للجاني يرى ابن القيم أنه لا ضمان عليه، ولم يذكر تعليلاً لذلك. وأما السهيلي: فيرى ارتفاع الحرج عنه فقط، ويعلل ذلك بأمرين هما: 1 - أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يثرب على أبي بصير بل مدحه حيث قال: "ويل أمه محش حرب". 2 - أنه دافع عن نفسه ودينه: قال: "ومن قتل دون دينه فهو شهيد" اهـ. أما الضمان فإنه يلزمه عند السهيلي كما هو مفهوم كلامه حيث قال: "وإنما لم يطالبه رسول الله صلى الله عليه وسلم بدية، لأن أولياء المقتول لم يطالبوه إما لأنهم قد أسلموا، وإما لأن الله شغلهم عن ذلك حتى انتكث العهد وجاء الفتح"3. قلت: بل طالب أولياء المشرك الذي قتله أبو بصير بدية صاحبهم. قال ابن إسحاق: "فلما بلغ سهيل بن عمرو قتل أبي بصير صاحبهم العامري
أسند ظهره إلى الكعبة" ثم قال: "والله لا أؤخر ظهري عن الكعبة حتى يودى هذا الرجل"، فقال أبو سفيان بن حرب: "والله إن هذا لهو السفه، والله لا يودى (ثلاثاً) " 1. ونقله ابن حجر عن ابن إسحاق وفيه: فقال أبو سفيان: ليس على محمد مطالبة بذلك؛ لأنه وفّى بما عليه وأسلمه لرسولكم، ولم يقتله بأمره ولا على آل أبي بصير شيء أيضاً، لأنه ليس على دينهم2 ا. هـ فالتحقيق أنه لا ضمان على القاتل في هذه الحالة بدية، ولا قود، لأنهم أهل حرب بالنسبة له لا أهل عهد وذمة. قال ابن حجر: ولا يعد ما وقع من أبي بصير غدراً لأنه لم يكن في جملة من دخل في المعاقدة التي بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قريش، لأنه إذ ذاك كان محبوساً بمكة3 ا. هـ والقضية الثانية من المسألة: هل على الإمام ضمان في مثل ما فعل أبو بصير؟ ذكر ابن القيم أنه لا ضمان عليه وعلل ذلك: بأنه سلمه لهم ولم يعد تحت يده وحكمه. وظاهر كلام السهيلي أيضاً أنه لا ضمان على الإمام4.
المبحث السادس: إذا عاهد الإمام قوما فخرجت عليهم طائفة من المسلمين غير متحيزة إلى الإمام فهل على الإمام دفعهاعنهم
المبحث السادس: إذا عاهد الإمام قوماً فخرجت عليهم طائفة من المسلمين غير متحيزة إلى الإمام، فهل على الإمام دفعها عنهم؟ جاء في حديث المسور ومروان أن أبا بصير وأبا جندل في جماعة من المسلمين قد خرجوا إلى سيف البحر، على طريق عير قريش، فكانت لا تمر بهم عير إلا قتلوا أصحابها، وأخذوها ولم يمنعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم1.
ولذلك قال ابن القيم: "إن المعاهدين إذا عاهدوا الإمام فخرجت منهم طائفة فحاربتهم وغنمت أموالهم ولم يتحيزوا إلى الإمام لم يجب على الإمام دفعهم عنهم، ومنعهم منهم، سواء دخلوا في عقد الإمام وعهده ودينه، أو لم يدخلوا، والعهد الذي كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين لم يكن عهداً بين أبي بصير وأصحابه وبينهم، وعلى هذا فإذا كان بين بعض ملوك المسلمين وبعض أهل الذمة من النصارى وغيرهم عهد، جاز لملك آخر من ملوك المسلمين أن يغزوهم ويغنم أموالهم، إذا لم يكن بينه وبينهم عهد، كما أفتى به شيخ الإسلام في نصارى ملطية مستدلاً بقصة أبي بصير مع المشركين"1 اهـ.
الفصل الثاني: أحكام تتعلق بالعقيدة
الفصل الثاني: أحكام تتعلق بالعقيدة المبحث الأول: حكم القيام على رأس الكبير وهو جالس ... المبحث الأول: حكم القيام على رأس الكبير وهو جالس: جاء في حديث المسور ومروان: أن المغيرة بن شعبة كان قائماً على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه السيف1. قال ابن القيم: "في قيام المغيرة بن شعبة على رأس النبي صلى الله عليه وسلم بالسيف ولم يكن من عادته أن يقام على رأسه وهو قاعد، سنة يُقتدى بها عند قدوم رسل العدو من إظهار العز والفخر وتعظيم الإمام وطاعته ووقايته بالنفوس، وهذه هي العادة الجارية عند قدوم رسل المؤمنين على الكافرين، وقدوم رسل الكافرين على المؤمنين، وليس هذا من النوع الذي ذمه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "من أحب أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار". كما أن الفخر والخيلاء في الحرب ليسا من هذا النوع المذموم في غيره2 اهـ. قلت: نعم الحديث الذي أورده ابن القيم لا يعني هذا النوع من القيام، إنما ينهى عن القيام للشخص، أما النوع الذي فعله المغيرة فهو القيام على الشخص، وقد ورد فيه نهي بخصوصه، كما في حديث جابر الآتي. وقد أوضح الفرق بينهم ابن القيم نفسه في تهذيب السنن حين تعقب المنذري: فقد ذكر أبو داود في باب (قيام الرجل للرجل) حديث معاوية "من أحب أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار"3، وحديث أبي أمامة: "خرج علينا رسول
الله صلى الله عليه وسلم متوكئاً على عصا فقمنا إليه فقال: " لا تقوموا كما تقوم الأعاجم، يعظم بعضهم بعضاً"1. وذكر المنذري عقب هذين الحديثين حديث جابر عند مسلم، وفيه: "أنهم لما صلوا خلفه قعوداً قال: فلما سلم، قال: "إن كدتم آنفاً أن تفعلوا فعل فارس والروم، يقومون على ملوكهم وهم قعود فلا تفعلوا"2. والمنذري أورد هذا الحديث عقب الحديثين السابقين لتقويتهما، وكأنه يرى أن مدلولهما واحد، فتعقبه ابن القيم بقوله: "وحمل أحاديث النهي عن القيام على مثل هذه الصورة ممتنع، فإن سياقهم يدل على خلافه، وأنه صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن القيام به إذا خرج عليهم، ولأن العرب لم يكونوا يعرفون هذا النوع، وإنما هو من فعل فارس والروم، ولأن هذا لا يقال له قيام للرجل، وإنما هو قيام عليه ففرق بين القيام للشخص المنهي عنه، والقيام عليه المشبه لفعل فارس والروم، والقيام إليه عند قدومه وهو سنة العرب وأحاديث الجواز تدل عليه فقط"3 اهـ. فمن خلال كلام ابن القيم هذا يظهر لنا الفرق بين القيام للشخص الذي ورد فيه حديث معاوية، والقيام على الشخص الذي فعله المغيرة، وقد ورد بخصوصه حديث جابر السابق، وقد علق عليه النووي بقوله: "وفيه النهي عن قيام الغلمان والتباع على رأس متبوعهم الجالس لغير حاجة"4. وقد ساق ابن حجر كلام ابن القيم في التفريق بين أنواع القيام ثم عقب عليه بقوله: "وقد ورد في خصوص القيام على رأس الكبير الجالس ما أخرجه الطبراني في الأوسط عن أنس قال: "إنما هلك من كان قبلكم بأنهم عظموا ملوكهم بأن قاموا وهم قعود"5. فالحاصل: أن نوع القيام الذي فعله المغيرة بن شعبة رضي الله عنه منهي عنه، والمرخص فيه منه ما كان في مثل تلك الحالة التي فعلها فيها المغيرة، وهي حال قدوم رسل العدو، ليروا مدى طاعة المسلمين لإمامهم وحمايتهم له، وأحسب ابن 1 سنن أبي داود مع معالم السنن، كتاب الأدب: 5230.
القيم رحمه الله لا يريد أكثر من هذا المعنى، لأنه قاسه على إظهار الخيلاء والفخر في الحرب، ومعلوم النهي عنهما في غير هذا الموطن، والله أعلم.
المبحث الثاني: تعريف الفأل وبيان استحبابه وأنه مغاير للطيرة
المبحث الثاني: تعريف الفأل وبيان استحبابه وأنه مغاير للطيرة: قال ابن القيم: "استحباب التفاؤل وأنه ليس من الطيرة المكروهة لقوله لما جاء سهيل "سهل أمركم" 1. قلت: قد وردت أحاديث تبين معنى الفأل: ففي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا طيرة وخيرها2 الفأل"، قالوا: "وما الفأل يا رسول الله؟ " قال: "الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم"3. وفيه من حديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا عدوى ولا طيرة ويعجبني الفأل الصالح الكلمة الحسنة"4. وفي سنن أبي داود من حديث عروة بن عامر قال: ذكرت الطيرة عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أحسنها الفأل ولا ترد مسلماً فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك" 5. فهذه الأحاديث تؤيد ما ذكره ابن القيم من استحباب التفاؤل، وأنه ليس من الطير المذمومة، والفرق بينهما: "أن الفأل من طريق حسن الظن بالله، والطيرة لا تكون إلا في السوء؛ فلذلك كرهت"6.
المبحث الثالث: بيلن كفر من اعنقد أن للكوكب تأثيرا في ايجاد المطر
المبحث الثالث: بيلن كفر من اعنقد أن للكوكب تأثيرا في ايجاد المطر ... المبحث الثالث: بيان كفر من اعتقد أن للكوكب تأثيراً في إيجاد المطر: جاء في حديث زيد بن خالد: "وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذاك كافر بي مؤمن بالكوكب"1. وقد حمل العلماء الكفر المذكور في الحديث على أحد نوعيه الاعتقادي أو كفر النعمة بحسب حال القائل. فمن قال مطرنا بنوء كذا معتقداً أن للكوكب فاعلية وتأثيراً في إيجاد المطر، فهو كافر كفراً مخرجاً من الملة. قال الشافعي: "من قال مطرنا بنوء كذا وكذا على ما كان أهل الجاهلية يعنون من إضافة المطر إلى أنه بنوء كذا، فذلك كفر كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن النوء وقت، والوقت مخلوق لا يملك لنفسه ولا لغيره شيئاً، ومن قال مطرنا بنوء كذا على معنى مطرنا في وقت كذا فلا يكون كفراً وغيره من الكلام أحب إلي منه"2 اهـ. فالشافعي يقصد هنا الكفر الاعتقادي. أما من قال: مطرنا بنوء كذا، ويقصد أن النوء علامة للمطر فقط وأن المدبر هو الله، فهذا لا يكفر كفراً مخرجاً من الملة، كما قال الشافعي. لكن قال ابن حجر: "يجوز إطلاق الكفر عليه، وإرادة كفر النعمة لأنه لم يقع في شيء من طرق الحديث بين الكفر والشرك واسطة، فيحمل الكفر فيه على المعنيين لتناول الأمرين، والله أعلم"3. وكذلك قال ابن مفلح في الفروع: "إنه كفر نعمة لكن قال يحرم إطلاق هذا اللفظ4 أي "مطرنا بنوء كذا"، ووافقه على تحريم ذلك صاحب الإنصاف5 وكذلك قال بتحريم إطلاقه صاحب تيسير العزيز الحميد6، وصاحب فتح المجيد7، لكن قالا: إنه من الشرك الأصغر.
قلت: ويلحق بهذا الحكم كل من نسب شيئاً من التأثير في الكون لغير الله بحسب حاله على التفصيل السابق
المبحث الرابع: هل يجوز التبرك بفضلات الصالحين وآثارهم
المبحث الرابع: هل يجوز التبرك بفضلات الصالحين وآثارهم؟ جاء في حديث المسور ومروان: "فوالله ما تنخم رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده ... وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه"1. قال ابن حجر عند هذه القصة: "جواز التبرك بفضلات الصالحين الطاهرة"2. قلت: قد تطرق الشاطبي لهذه القضية وذكر كلاما ًجيداً بين فيه إجماع الصحابة على ترك هذا الأمر: ووجه ذلك: فقد ذكر الشاطبي ما في حديث المسور ومروان هذا، وأحاديث أخرى تماثله ثم قال: فالظاهر في مثل هذا النوع أن يكون مشروعاً في حق من ثبت ولايته واتباعه لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يتبرك بفضل وضوءه ويتدلك بنخامته ويستشفى بآثاره كلها، ويرجى نحو مما كان في آثار المتبوع الأصل3 صلى الله عليه وسلم إلا أنه قد عارضنا في ذلك أصل مقطوع به في متنه مشكل في تنزيله، وهو أن الصحابة رضي الله عنهم بعد موته عليه السلام لم يقع من أحد منهم شيء من ذلك بالنسبة إلى من خلفه إذ لم يترك النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته في الأمة أفضل من أبي بكر الصديق رضي الله عنه فهو كان خليفته ولم يفعل به شيء من ذلك، ولا عمر رضي الله عنه وهو كان أفضل الأمة بعده ثم كذلك عثمان ثم علي، ثم سائر الصحابة الذين لا أحد أفضل منهم في الأمة، ثم لم يثبت لواحد منهم من طريق صحيح معروف أن متبركاً تبرك به على أحد تلك الوجوه أو نحوها، بل اقتصروا على الاقتداء بالأفعال والأقوال والسير التي اتبعوا فيه النبي صلى الله عليه وسلم، فهو إذاً إجماع منهم على ترك تلك الأشياء. وبقي النظر في وجه ترك ما تركوا منه، ويحتمل وجهين: أحدهما: أن يعتقدوا فيه الاختصاص وأن مرتبة النبوة يسع فيها ذلك كله
للقطع بوجود ما التمسوا من البركة والخير، لأنه عليه السلام كان نوراً كله في ظاهره وباطنه، فمن التمس منه نوراً وجده على أي وجه التمسه بخلاف غيره من الأمة - وإن حصل له من نور الاقتداء به والاهتداء بهديه ما شاء الله - لا يبلغ مبلغه على حال توازيه في مرتبته ولا تقاربه، فصار هذا النوع مختصاً به كاختصاصه بنكاح ما زاد على الأربع، وإحلال بضع الواهبة نفسها له، وعدم وجوب القسم على الزوجات وشبه ذلك، فعلى هذا المأخذ: لا يصح لمن بعده الاقتداء به في التبرك على أحد تلك الوجوه ونحوها، ومن اقتدى به كان اقتداؤه بدعة، كما كان الاقتداء في الزيادة على الأربع نسوة بدعة. الثاني: أن لا يعتقدوا الاختصاص ولكنهم تركوا ذلك من باب سد الذرائع خوفاً من أن يجعل ذلك سنة - كما تقدم ذكره في اتباع الآثار - 1 والنهي عن ذلك، أو لأن العامة لا تقتصر في ذلك على حد بل تتجاوز فيه الحدود، وتبالغ بجهلها في التماس البركة، حتى يداخلها للمتبرك به تعظيم يخرج به عن الحد، فربما اعتقد في المتبرك به ما ليس فيه، وهذا التبرك هو أصل العبادة، ولأجله قطع عمر رضي الله عنه الشجرة التي بويع تحتها رسول الله صلى الله عليه وسلم بل هو كان أصل عبادة الأوثان في الأمم الخالية - حسبما ذكر أهل السير - فخاف عمر أن يتمادى الحال في الصلاة إلى تلك الشجرة، حتى تعبد من دون الله، فكذلك يتفق عند التوغل في التعظيم ... إلى أن قال: وقد يظهر بأول وهلة أن هذا الوجه الثاني أرجح لما ثبت في الأصول العلمية أن كل قربة أعطيها النبي صلى الله عليه وسلم فإن لأمته أنموذجاً منها ما لم يدل دليل على الاختصاص. إلا أن الوجه الأول أيضاً راجح من جهة أخرى، وهو إطباقهم على الترك إذ لو كان اعتقادهم التشريع لعمل به بعضهم بعده أو عملوا به ولو في بعض الأحوال، إما وقوفاً مع أصل المشروعية، وإما بناء على اعتقاد انتفاء العلة الموجبة للامتناع. وقد أخرج ابن وهب في جامعه من حديث يونس بن يزيد عن ابن شهاب قال: حدثني رجل2 من الأنصار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ أو تنخم ابتدر من حوله من المسلمين وضوءه ونخامته فشربوه ومسحوا به جلودهم، فلما رآهم يصنعون
ذلك سألهم "لم تفعلون هذا؟ "قالوا: نلتمس الطهور والبركة بذلك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من كان منكم يحب أن يحبه الله ورسوله فليصدق الحديث وليؤد الأمانة، ولا يؤذ جاره"، فإن صح1 هذا الحديث فهو مشعر بأن الأولى تركه وأن يتحرى ما هو آكد2 ا. هـ وبهذا يتبين أن ما فعله الصحابة رضوان الله عليهم مع النبي صلى الله عليه وسلم من التبرك لا يقاس عليه غيره فيه لما خصه الله سبحانه وتعالى به من أمور لا توجد في أحد غيره صلى الله عليه وسلم، ولأنه لو كان جائزاً مع غيره لسارع الصحابة رضوان الله عليهم - وهم أحرص الناس على الخير - إلى فعله مع أفضل الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، لكنه لم يحصل شيء من ذلك، بل أفاد حديث عبد الرحمن بن أبي قراد هذا: أن الأولى تركه حتى مع النبي صلى الله عليه وسلم والانصراف إلى ما هو أولى وأنفع، ولعل سكوت النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك يوم الحديبية ليرى عروة بن مسعود رسول قريش مدى تعلق الصحابة رضوان الله عليهم بالنبي صلى الله عليه وسلم وحبهم له لا سيما وقد قال للنبي صلى الله عليه وسلم: "إني لأرى أشواباً من الناس خليقاً أن يفروا ويدعوك"3.
المبحث الخامس: هل كتب النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية حقيقة
المبحث الخامس: هل كتب النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية حقيقة؟: جاء في حديث البراء رضي الله عنه عند البخاري: "فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم الكتاب - وليس يحسن يكتب - فكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله"1. فأخذ أبو الوليد الباجي بظاهر هذه الرواية، وقال: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب حقيقة"2، وقد أنكر عليه ذلك علماء عصره ورموه بالزندقة. قال ابن حجر تعليقاً على الرواية السابقة: وقد تمسك بظاهر هذه الرواية أبو الوليد الباجي فادعى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب بيده بعد أن لم يكن يحسن يكتب، فشنع
عليه علماء الأندلس في زمانه، ورموه بالزندقة، وأن الذي قاله يخالف القرآن حتى قال قائلهم: برئت ممن شرى دنيا بآخرة ... وقال: إن رسول الله قد كتبا1 بل حكى القاضي عياض: "أن الفقيه أبا بكر الصائغ قد كفره بإجازة الكتب على رسول الله صلى الله عليه وسلم "النبي الأمي" وأنه تكذيب بالقرآن2. وقد بلغ خبر أبي الوليد إلى أمير وطنه، وجرت بحضرته مناظرة بين أبي الوليد وبعض العلماء الذين أنكروا عليه قوله، فذكر ابن حجر: أن الباجي تغلب عليهم بما لديه من المعرفة حيث ادعى أن كتابة النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت لا تنافي القرآن بل تؤخذ من مفهومه لأنه قيد النفي بما قبل ورود القرآن فقال: {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ... } وبعد أن تحققت أميته وتقررت معجزته وأمن من الارتياب في ذلك، فلا مانع من أن يعرف الكتابة بعد ذلك من غير تعليم فتكون معجزة أخرى3 ا. هـ وقد كتب الأمير في المسألة إلى أفريقية وصقلية برغبة الباجي في ذلك، فجاءته الأجوبة من هناك، كان في بعضها تصويب لرأيه، وفي بعضها رد عليه. وممن صوب رأيه: ابن الخزاز. وكان ممن رد عليه الزاهد أبو محمد بن مفوز ألف في ذلك جزءاً4. وقد وافق الباجي في قوله جماعة منهم: أبو ذر أحمد بن عبد الله الهروي، والسمناني، وأبو الفتح النيسابوري5. وقد استدل هؤلاء لما ذهبوا إليه بما يلي: 1 - ما أخرجه ابن أبي شيبة وعمر بن شبة من طريق مجاهد عن عون بن عبد الله قال: "ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كتب وقرأ".
وقال مجاهد: "فذكرت ذلك للشعبي فقال: صدق سمعت من يذكر ذلك"1. وذكر السيوطي أن سند هذا الحديث ضعيف، وحكى عنه الطبراني أنه قال: هذا حديث منكر2. 2 - واستدلوا بما ورد من طريق يونس بن ميسرة عن أبي كبشة السلولي عن ابن الحنظلية أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر معاوية أن يكتب للأقرع وعيينة، فقال عيينة: أتراني أذهب بصحيفة المتلمس فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيفة فنظر فيها، فقال: "قد كتب لك بما أمر لك". قال يونس: "فنرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب بعدما أنزل عليه"3. وحكى القرطبي عن ابن عطية: "أنه ذكر هذا الحديث والذي قبله ثم قال: هذا كله ضعيف وقول الباجي منه"4. 3 - واستدلوا أيضاً بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لكاتبه: "ضع القلم على أذنك فإنه أذكر لك" 5. 4 - وربما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال لمعاوية: "ألق الدواة وحرف القلم وأقم الباء وفرق السين ولا تعور الميم" 6. وقد ذكر ابن حجر هذين الحديثين مع الحديثين السابقين ثم قال: وأجاب الجمهور بضعف هذه الأحاديث7. وبهذا نرى أن الأدلة التي استند إليها القائلون بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كتب واهية كلها، لا يعتمد عليها، لا سيما في مثل هذا الأمر الخطير. أما حديث البراء في قصة الحديبية، فذكر ابن حجر: أن الجمهور أجابوا عنه: بأن القصة واحدة والكاتب فيها علي، وقد صرح في حديث المسور بأن علياً هو الذي كتب، فيحمل على أن النكتة في قوله: "فأخذ الكتاب - وليس يحسن يكتب" لبيان قوله: "أرني إياها"، أنه ما احتاج
أن يريه موضع الكلمة التي امتنع علي عن محوها إلا لكونه كان لا يحسن الكتابة، وعلى أن قوله بعد ذلك "فكتب" فيه حذف تقديره فمحاها فأعادها لعلي فكتب، وهو كثير كقوله: كتب إلى قيصر وكتب إلى كسرى. وذكر ابن حجر جواباً ثانياً فقال: "وعلى تقدير حمله على ظاهره فلا يلزم من كتابة اسمه الشريف في ذلك اليوم وهو لا يحسن الكتابة أن يصير عالماً بالكتابة عن كونه أمياً، فإن كثيراً ممن لا يحسن الكتابة يعرف تصوير بعض الكلمات ويحسن وضعها بيده، وخصوصاً الأسماء، ولا يخرج بذلك عن كونه أمياً ككثير من الملوك"1. وحكى عن السمناني وابن الجوزي جواباً آخر وهو: "أن تكون جرت يده بالكتابة حينئذ، وهو لا يحسنها فخرج المكتوب على وفق المراد فيكون معجزة أخرى في ذلك الوقت خاصة، ولا يخرج بذلك عن كونه أمياً"2. وقد مال ابن خلدون إلى هذا حيث قال: "ولا يقع في ذهنك من أمر هذه الكتابة ريب، فإنها قد ثبتت في الصحيح وما يعترض في الوهم من أن كتابته قادحة في المعجزة، فهو باطل؛ لأن هذه الكتابة إذا وقعت من غير معرفة بأوضاع الحروف وقوانين الخط وأشكالها، بقيت الأمية على ما كانت عليه، وكانت هذه الكتابة خاصة من إحدى المعجزات"3. وقد تعقب السهيلي هذا الجواب فقال: "وقد ظن بعض الناس أنه كتب بيده"، وفي البخاري: "أنه كتب بيده وهو لا يحسن يكتب" فتوهم أن الله قد أطلق يده بالكتابة في تلك الساعة خاصة، قال: وهي آية. فيقال له: كانت تكون آية لولا أنها مناقضة لآية أخرى وهو كونه أمياً لا يكتب وبكونه أمياً في أمة أمية، قامت الحجة وأفحم الجاحد وانحسمت الشبهة، فكيف يطلق الله يده لتكون آية؟ وإنما الآية ألا يكتب والمعجزات يستحيل أن يدفع بعضها بعضاً، وإنما معنى كتب: أي: أمر أن يكتب4 اهـ. وقد تعقب ابن حجر كلام السهيلي فقال: "وفي دعوى أن كتابة اسمه الشريف فقط على هذه الصورة تستلزم مناقضة المعجزة، وتثبت كونه غير أمي نظر كبير"5 اهـ. قلت: ما قاله السهيلي وجيه لا نظر فيه، وكان يمكن أن يقال إن كتابة اسمه الشريف
على تلك الصورة لا تنافي الأمية إلا أن الله قد نفى عنه الكتابة بيده، بخصوصها وأخبر أن ذلك لو حصل لأدى إلى ريب في قلوب المبطلين، فقال تعالى: {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} 1، ولو قلنا إنه كتب حقيقة لحصل ذلك الارتياب في قلوب المبطلين بل قد حصل شيء من ذلك فعلاً وجعل بعض المتربصين هذه الرواية ذريعة للوصول إلى أهدافهم المشبوهة2. فالراجح هو ما أجاب به الجمهور من أن المراد من قوله "كتب" أي أمر علياً بالكتابة، والله أعلم.
الفصل الثالث: الدروس والعبر المستفادة من بعض مواقف الغزوة
الفصل الثالث: الدروس والعبر المستفادة من بعض مواقف الغزوة المبحث الأول: أتهام العقل أمام النصوص الصريحة ... المبحث الأول: اتهام العقل أمام النصوص الصريحة: جاء في حديث المسور ومروان وغيره في قصة الحديبية أن عمر بن الخطاب وبعض الصحابة رضي الله عنهم كرهوا الصلح مع قريش1 لما رأوا في شروطها من الظلم والإجحاف في حقهم، لكنهم ندموا بعد ذلك على صنيعهم ورأوا أنهم قد وقعوا في حرج، إذ كيف يكرهون شيئاًَ رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظلت تلك الحادثة درساً لهم فيما استقبلوا من حياتهم، وكانوا يحذرون غيرهم من الوقوع فيما وقعوا فيه من الاعتماد على الرأي: فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: "أيها الناس اتهموا الرأي على الدين فلقد رأيتني أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برأي اجتهاداً فوالله ما آلو عن الحق وذلك يوم أبي جندل" 2. وكان سهل بن حنيف رضي الله عنه يقول: "اتهموا رأيكم رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لرددته"3. ولقد ظل عمر بن الخطاب رضي الله عنه - برهة من الزمن - متخوفاً أن ينزل الله به عقاباً للذي صنع يوم الحديبية: فكان رضي الله عنه يتحدث عن قصته تلك ويقول: "فما زلت أصوم وأتصدق
وأعتق من الذي صنعت مخافة كلامي الذي تكلمت به يومئذ حتى رجوت أن يكون خيراً"1. هذا فعل أهل الورع والتقوى والذين يقدرون نصوص الشريعة حق قدرها. فليت أولئك الذي يردون النصوص الصريحة لحدس عقولهم2 يعتبرون بما في هذه الحادثة. قال ابن الديبع الشيباني تعليقاً على هذه الحادثة: "قال العلماء لا يخفى ما في هذه القصة من وجوب طاعته صلى الله عليه وسلم والانقياد لأمره، وإن خالف ظاهر ذلك مقتضى القياس أو كرهته النفوس، فيجب على كل مكلف أن يعتقد أن الخير فيما أمر به، وأنه عين الصلاح المتضمن لسعادة الدنيا والآخرة، وأنه جار على أتم الوجوه وأكملها غير أن أكثر العقول قصرت عن إدراك غايته وعاقبة أمره"3 اهـ. وقد ذكر ابن القيم4 أن الرأي الباطل أنواع: فذكر منها الرأي المخالف للنص، والكلام في الدين بالخرص والظن مع التفريط في معرفة النصوص وفهمها، والرأي المتضمن تعطيل الأسماء والصفات الإلهية، ثم قال: "وكل من له مسكة من عقل يعلم أن فساد العالم وخرابه إنما نشأ من تقديم الرأي على الوحي، والهوى على العقل، وما استحكم هذان الأصلان الفاسدان في قلب إلا استحكم هلاكه، وفي أمة إلا وفسد أمرها أتم فساد، فلا إله إلا الله. كم نُفي بهذه الآراء من حق، وأُثبت بها من باطل، وأُميت بها من هدى، وأُحيى بها من ضلالة، وكم هدم من معقل الإيمان، وعمر بها من دين الشيطان، وأكثر أصحاب الجحيم، هم أهل هذه الآراء الذين لا سمع لهم، ولا عقل، بل هم
شر من الحمر، وهم الذين يقولون يوم القيامة: {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} " 1.
المبحث الثاني: أنموذج من التربية النبوية
المبحث الثاني: أنموذج من التربية النبوية: جاء في حديث جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يصعد الثنية ثنية المرار فإنه يحط ما حط عن بني إسرائيل" 1. ويتجلى في هذا الحديث جانب عظيم من جوانب التربية النبوية جدير بالتأمل والتدبر. فرسول الله صلى الله عليه وسلم يستحث أصحابه على صعود الثنية ثم يخبرهم أن الذي يجتازها سينال مغفرة الله تعالى. وحين نتأمل هذا الحديث تبرز لنا معان عظيمة أهمها أمران: الأول: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يربط قلوب أصحابه باليوم الآخر في كل لحظة من لحظات حياتهم. الثاني: أنه يريد لفت أنظارهم إلى أن كل حركة يتحركونها وكل عمل يقومون به - حتى ما يرون أنه من العادات أو من دواعي الغريزة - يجب استغلاله للتزود لذلك اليوم. وكان صلى الله عليه وسلم يسعى دائماً لترسيخ تلك المعاني في قلوب أصحابه: فنراه يقول في موطن آخر: "وفي بضع أحدكم صدقة" قالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: "أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر" 2. ويقول في موطن ثالث: "وإنك مهما أنفقت من نفقة فإنها صدقة، حتى اللقمة التي ترفعها إلى في امرأتك"3.
ولكن ما الذي يحدث حين تترسخ تلك المعاني في شعورهم؟ إن تلك المعاني - إذا تمكنت من قلب المسلم - لكفيلة بأن تصبغ حياته كلها بصبغة العبودية لله وحده، وإذا شملت العبادة كل نواحي حياة المسلم فإن لهذا الشمول آثاراً مباركة سوف يشعر بها الفرد في نفسه ثم يلمسها فيمن حوله "ومن أبرز تلك الآثار أمران: الأول: أنه يصبغ حياة المسلم وأعماله فيها بالصبغة الربانية، ويجعله مشدوداً إلى الله في كل ما يؤديه، فهو يقوم بنية العابد الخاشع، وروح القانت المخبت، وهذا يدفعه إلى الاستكثار من كل عمل نافع، وكل إنتاج صالح، وكل ما ييسر له ولأبناء نوعه الانتفاع بالحياة، على أمثل وجوهها، فإن ذلك يزيد رصيده من الحسنات والقربات عند الله تعالى كما يدعوه هذا المعنى إلى إحسان عمله الدنيوي وتجويده وإتقانه، ما دام يقدمه إلى ربه سبحانه ابتغاء رضوانه وحسن مثوبته. الثاني: أنه يمنح المسلم وحدة الوجهة، ووحدة الغاية في حياته كلها، فهو يرضى رباً واحداً في كل ما يأتي ويدع، ويتجه إلى هذا الرب بسعيه كله الديني والدنيوي، لا انقسما ولا صراع، ولا ازدواج في شخصيته ولا في حياته" 1. وقد يقول قائل - انطلاقاً من واقعنا المؤلم الذي تلاشت فيه هذه المعاني أو كادت - إن هذه المعاني خيالات وأوهام لا تعدو ذهن قائلها ولا رصيد لها من الواقع، ونحن نطالبه أن يرجع إلى الوراء قليلاً فينظر واقع الصحابة رضوان الله عليهم كيف استحالت تلك المعاني إلى حقائق ملموسة في حياتهم كلها، وما حفظ الله سيرتهم إلا لتكون حجة على كل من جاء بعدهم.
المبحث الثالث: مثل رائع لوفاء المسلم وثباته على العقيدة
المبحث الثالث: مثل رائع لوفاء المسلم وثباته على العقيدة ... المبحث الثالث: مثل رائع لوفاء المسلم وثباته على عقيدته: كان من جملة الشروط التي أخذتها قريش على المسلمين في صلح الحديبية: أن على المسلمين أن يردوا من جاءهم من قبل قريش، ولا ترد قريش من جاءها من قبل المسلمين. وقد كره المسلمون هذا الشرط إلا أن سهيل بن عمرو قد أصر عليه، وما أن وقع
الاتفاق بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وسهيل بن عمرو على عقد الصلح حتى طلع عليهما أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في الحديد، وكان قد خرج فاراً بدينه إلى المسلمين. فلما رآه والده قام إليه فضرب وجهه وأخذ يجره بثيابه ليرده إلى مكة، وأبو جندل يستنجد برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالمسلمين ليحولوا بينه وبين أبيه، لكن ماذا يملك رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون؟ إنهم قد أعطوا قريشاً عهداً على رد من جاء من قبلها، فالأمر أصبح بيد قريش، وسهيل بن عمرو هو الناطق باسمها. وحين رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم إصرار سهيل بن عمرو على رد أبي جندل تركه وشأنه، ثم أوصى أبا جندل بكلمات قال فيها: "يا أبا جندل اصبر واحتسب فإن الله عز وجل جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً". ورجع سهيل بن عمرو بأبي جندل رضي الله عنه إلى مكة حيث الفتنة والتعذيب1. وليست قصة أبي جندل هذه بأعجب من قصة أبي بصير رضي الله عنه، فأبو بصير ترك مكة فراراً بدينه من الفتنة، وقدم المدينة، لكنه لم يكد يستعيد أنفاسه حتى قدم في طلبه رجلان من قبل قريش. فما الذي سيحدث يا ترى؟ هل خوف أبي بصير على دينه من الفتنة سيشفع له في عدم إسلامه لرسولي قريش؟ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدرك حال أبي بصير تماماً ويشفق عليه أيما إشفاق، كيف لا! والله عز وجل يقول في حقه: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} 2. لكن كان يحول بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين حماية أبي بصير من قريش العهد الذي أخذته قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلذلك أسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بصير إلى رسولي قريش بعد أن زوده بنحو الوصية التي زود بها أبا جندل. وخرج الرجلان بأبي بصير يريدان مكة، حيث الفتنة والتعذيب1. ففي هاتين القصتين دروس عظيمة أهمها درسان: الأول: وفاء المسلم بعهده، فقد رأينا كيف أسلم المؤمنون إخوانهم إلى الكفار وهم يعلمون أن مصيرهم ثَمّ هو التعذيب، وما فعلوا ذلك إلا وفاء بالعهد، فالوفاء صفة أصيلة في المؤمن، وقد امتدح الله المؤمنين بذلك في قوله: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ} 2، كما ذم الكفار بنقيض ذلك فقال: {وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} 3. الثاني: ثبات المؤمن على عقيدته مهما كلفه من ثمن، فأبو بصير وأبو جندل يعلم كل منهما ما ينتظره في مكة من الفتنة والتعذيب، لكن لم يعبأ واحد منهما لذلك إنما كان خوفهما على دينهما لأن العقيدة هي أغلى ما يملكه المؤمن، ولقد شهدت مكة نماذج كثيرة من ذلك الثبات، فقد شهدت قبل ذلك خبيب بن عدي رضي الله عنه تتناوشه رماح قريش وهو يقول: ما إن أبالي حين أقتل مسلماً ... على أي جنب كان في الله مصرعي وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزع4
المبحث الرابع: صروح الكفر والطغيان تتهاوى أمام عزمات الإيمان
المبحث الرابع: صروح الكفر والطغيان تتهاوى أمام عزمات الإيمان ... المبحث الخامس: رعاية الله للجماعة المؤمنة: يشعر القارئ لهذه الغزوة أن عناية الله ورعايته كانت تحوط المؤمنين وتلازمهم ملازمة ظاهرة، فحينما قدم المسلمون لهذه الغزوة - وكانوا عازمين على دخول مكة لأداء عمرتهم - حبس الله ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية فكان ذلك الصلح العظيم. ولما وجد الصحابة رضوان الله عليهم في نفوسهم من الصلح - بسبب شروط قريش - أنزل الله سورة الفتح فسرى بها عن أنفسهم وبشرهم بأن الصلح فتح مبين. وعندما قدم بعض المهاجرات فراراً بدينهن من فتنة قريش أرسلت قريش في ردهن فأنزل الله آية الامتحان، تنهى المؤمنين عن ردهن إلى الكفار. وقد أبرزت سورة الفتح جوانب كثيرة من مظاهر رعاية الله للمؤمنين في تلك الغزوة. فهل يا ترى هذه الرعاية - التي أولاها الله رسوله صلى الله عليه وسلم والصحابة رضوان الله عليهم - كانت خاصة بهم، أم أن هناك أسباباً بذلوها فأهلتهم لتلك الرعاية من الله سبحانه؟ إن الله سبحانه وتعالى قد بين في كتابه المؤهلات لرعايته وعنايته فقال تعالى: {إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} 1. وقال: {إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} 2. وقال: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا* وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} 3. وقال: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} 4. وقال: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} 5. فهذه الصفات قد توافرت في الصحابة رضوان الله عليهم فنالوا تلك الرعاية والعناية من الله، ومتى توافرت في شخص أو أمة في كل زمان ومكان فإن رعاية الله سوف تتنزل عليهم، لأن الله قد وعد بذلك ووعده الحق.
الخاتمة بعد أن أتممت هذا البحث - بعون الله وتوفيقه - أحب أن أشير في الختام إلى أبرز النتائج التي توصلت إليها فيه. فأقول وبالله التوفيق: قسمت البحث إلى أربعة أبواب وقد حصرت المرويات في الثلاثة الأبواب الأولى منه، وجعلت الباب الأخير لفقه المرويات. أ - وكانت أبرز نتائج الباب الأول هي: (1) بيان أن العنوان المناسب لهذه الحادثة هو: "غزوة الحديبية" مع ذكر المرجحات لذلك. (2) بيان الصواب في تسمية الخزاعي الذي بعثه النبي صلى الله عليه وسلم عيناً إلى مكة. (3) إضافة قصة "غيقة" إلى هذه الغزوة، ولم يذكرها قبل أحد ممن كتب في المغازي - حسب علمي - ولم تذكر في جملة السرايا كذلك. (4) ترجيح أن صلاة الخوف المذكورة في حديث أبي عياش الزرقي كانت في غزوة الحديبية وبيان أنها أول صلاة وقعت في الخوف. (5) هناك أحاديث ذكرت فيها صفة صلاة الخوف، أوردها بعض العلماء على ما في حديث أبي عياش والظاهر مغايرتها له. ب - وأبرز نتائج الباب الثاني: (1) بيان أن بديل بن ورقاء لم يكن رسولاً لأي من الفريقين. (2) ترجيح أن عروة بن مسعود الثقفي إنما أسلم في السنة التاسعة. (3) بيان الراجح في تسمية أول من بايع بيعة الرضوان. (4) توضيح أسباب الصلح وبيان أنها مشتركة بين الطرفين. (5) بيان أن المسلمين لم يردوا إخوانهم إلى قريش إلا وفاء بالعهد، وأن عدم ردهم للمهاجرات لم يكن إخلالاً بالعهد.
(6) بيان أن الذي أخذ عير أبي العاص هو زيد بن حارثة وليس أبا بصير. جـ - وأبرز نتائج الباب الثالث: (1) بيان أن نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر الأهلية كان في غزوة خيبر، لا في غزوة الحديبية. (2) ترجيح أن الصحابة رضوان الله عليهم نحروا البدنة - في الحديبية - عن سبعة فقط. (3) ترجيح أن الصحابة نحروا بعض الهدي في الحل، وبعضه في الحرم. (4) ترجيح أن نوم المسلمين عن صلاة الصبح حصل في أكثر من غزوة، منها غزوة الحديبية. (5) بيان أن معجزة النبي صلى الله عليه وسلم في تكثير الماء - في غزوة الحديبية - وقعت مرتين: الأولى: حال نزولهم الحديبية. الثانية: في طريق عودتهم. (6) ذكر أهم نتائج الغزوة وتشتمل: آثار صلح الحديبية، وما حصل للمسلمين بسبب هذه الغزوة من مغانم أخروية مثل رضا الله عنهم، وتبشير الرسول صلى الله عليه وسلم لهم بالجنة والنجاة من النار، ومغانم دنيوية مثل: إحرازهم غنائم خيبر، وما شرع لهم في هذه الغزوة من رخص وأحكام. د - وأما الباب الرابع فكان في فقه المرويات: وتضمن أحكاماً في الجهاد والعقيدة وردت في الغزوة، وبعض الدروس، والعبر المستقاة منها. و {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلاَمٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ..
مصادر ومراجع
مصادر ومراجع ... ثبت المصادر والمراجع القرآن الكريم. ابن الأثير: أبو الحسين علي بن محمد بن عبد الكريم الجزري (630هـ) . (1) أسد الغابة في معرفة الصحابة، دار الشعب، القاهرة، 1390هـ. (2) اللباب في تهذيب الأنساب، دار صادر، بيروت بدون تاريخ. ابن الأثير: أبو السعادات المبارك بن محمد الجزري (606هـ) . (3) النهاية في غريب الحديث والأثر، تحقيق محمود الطناحي، المكتبة الإسلامية، بدون تاريخ. الإمام أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني (241هـ) . (4) مسند أحمد، المكتب الإسلامي، ط الثانية 1398هـ. البخاري: محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة (256هـ) . (5) التاريخ الكبير، بدون تاريخ. (6) صحيح البخاري المطبوع مع فتح الباري، السلفية، بدون تاريخ. البزار: أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق (292هـ) . (7) مسند البزار (مخطوط) بمكتبة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة. ابن بشكوال: أبو القاسم خلف بن عبد الملك (578هـ) . (8) الصلة لابن بشكوال، الدار المصرية للتأليف والترجمة 1966م. البغوي: أبو محمد الحسين بن مسعود الفراء (516هـ) . (9) شرح السنة، المكتب الإسلامي، ط الأولى، 1390هـ. البكري: أبو عبيد عبيد الله بن عبد العزيز الأندلسي (487هـ) . (10) معجم ما استعجم، مطبعة لجنة التأليف، القاهرة 1364?. البلاذري: أحمد بن يحيى (279هـ) . (11) أنساب الأشراف، دار المعرفة بمصر، 1959م. (12) فتوح البلدان، مكتبة النهضة العربية، بدون تاريخ.
البوصيري: أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل (840هـ) . (13) إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة، (مخطوط) بمكتبة الجامعة الإسلامية. (14) مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجة (مخطوط) بمكتبة الجامعة الإسلامية. البيهقي: أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي (458هـ) . (15) دلائل النبوة (مخطوط) بمكتبة الجامعة الإسلامية. (16) السنن الكبرى، مطبعة مجلس دائرة المعارف، الهند ط الأولى، 1344هـ. ابن التركماني: علاء الدين بن علي بن عثمان المارديني (745هـ) . (17) الجوهر النقي، مطبوع مع السنن الكبرى للبيهقي. الترمذي: محمد بن عيسى بن سورة (279هـ) . (18) سنن الترمذي، مطبعة الحلبي وأولاده بمصر، ط الثانية 1395هـ. ابن تيمية: أبو العباس تقي الدين أحمد بن عبد الحليم (728هـ) . (19) درء تعارض العقل والنقل، جامعة الإمام محمد بن سعود، ط الأولى، 1399هـ. (20) السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، دار الكتاب العربي، بدون تاريخ. ابن تيمية: أبو البركات مجد الدين عبد السلام بن عبد الله (652هـ) . (21) منتقى الأخبار من أحاديث سيد الأخيار، الطبعة السلفية، بدون تاريخ. ابن الجوزي: أبو الفرج عبد الرحمن (597هـ) . (22) الوفا بأحوال المصطفى، دار الكتب الحديثة، ط الأولى، 1386هـ. ابن أبي حاتم: أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي (327هـ) . الجرح والتعديل، مطبعة مجلس دائرة المعارف الهند، ط الأولى، 1371هـ. الحازمي: أبو بكر محمد بن موسى (584هـ) . (24) الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار، مكتبة عاطف، بدون تاريخ.
الحاكم: أبو عبد الله محمد بن عبد الله محمد النيسابوري (405هـ) . (25) المستدرك على الصحيحين، دار الكتاب العربي، بيروت، بدون تاريخ. ابن حبان: أبو حاتم محمد بن حبان بن أحمد التميمي البستي (354هـ) . (26) الثقات، مطبعة مجلس دائرة المعارف، الهند، ط الأولى 1401هـ. (27) صحيح ابن حبان، المكتبة السلفية، المدينة المنورة، ط الأولى 1390هـ. ابن حجر: أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (852هـ) . (28) إتحاف المهرة بأطراف المسانيد العشرة، (مخطوط) بمكتبة الجامعة الإسلامية. (29) الإصابة في تمييز الصحابة، الكليات الأزهرية، ط الأولى 1396هـ (30) تقريب التهذيب، دار نشر الكتب الإسلامية، باكستان، ط الأولى، 1393هـ. (31) التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير، المكتبة الأثرية، باكستان 1384هـ. (32) تعريف أهل التقديس بمراتب الموصوفين بالتدليس (طبقات المدلسين) ، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، بدون تاريخ. (33) تهذيب التهذيب، دار صادر بيروت. (34) فتح الباري شرح صحيح البخاري، السلفية القاهرة، بدون تاريخ. (35) الكافي الشافي في تخريج أحاديث الكشاف، مطبوع مع الكشاف، مطبعة الاستقامة، 1377هـ. (36) لسان الميزان، مؤسسة الأعلمي، بيروت، ط الثالثة، 1390هـ. (37) المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية -المسندة- (مخطوط) بمكتبة الجامعة الإسلامية. (38) المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية -المختصرة- تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي. (39) زوائد مسند البزار (مخطوط) بمكتبة الجامعة الإسلامية.
(40) نخبة الفكر المطبوعة مع شرحها نزهة النظر، دار مصر للطباعة، ط الثانية، بدون تاريخ. (41) هدي الساري (مقدمة فتح الباري) ، السلفية. الحربي: أبو إسحاق إبراهيم بن إسحاق بن إبراهيم (285هـ) . (42) المناسك وأماكن طرق الحج ومعالم الجزيرة، تحقيق حمد الجاسر، منشورات دار اليمامة، الرياض 1389هـ. ابن حزم: أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم (456هـ) . (43) جمهرة أنساب العرب، الناشر: دار المعارف، ط الرابعة، بدون تاريخ. (44) جوامع السيرة، دار إحياء السنة، باكستان، بدون تاريخ. الحلبي: علي بن برهان الدين (1044هـ) . (45) إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون (السيرة الحلبية) ، مطبعة الحلبي وأولاده، ط الأولى 1384هـ. الحميدي: أبو بكر عبد الله بن الزبير (219هـ) . (46) مسند الحميدي، الناشر دار الباز، مكة المكرمة. الحميدي: أبو عبد الله محمد بن أبي نصر الأزدي (488هـ) . (47) جذوة المقتبس في ذكر ولاة الأندلس، الدار المصرية للتأليف والترجمة، 1966م. الخرائطي: محمد بن جعفر بن محمد بن سهل السامري (327هـ) . (48) هواتف الجنان وعجيب ما يحكى عن الكهان، مما يبشر بالنبي محمد ويدل بواضح البرهان (مخطوط) بالجامعة الإسلامية. ابن خزيمة: أبو بكر محمد بن إسحاق السلمي (311هـ) . (49) صحيح ابن خزيمة، المكتب الإسلامي، بدون تاريخ. الخشني: أبو عبد الله محمد بن حارث بن أسد القيرواني (361هـ) . (50) قضاة قرطبة، الدار المصرية للتأليف والترجمة، 1966م
الخطابي: أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم بن خطاب البستي (ت388هـ) . (51) معالم السنن بهامش سنن أبي داود، دار الحديث ط الأولى، 1391هـ. الخطيب: أبو بكر أحمد بن علي البغدادي (463هـ) . (52) تاريخ بغداد، الناشر: دار الكتاب العربي، بيروت، بدون تاريخ. (53) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، الناشر: مكتبة الفلاح، ط الأولى 1401هـ. (54) الفصل للوصل المدرج في النقل (المدرج) (مخطوط) بمكتبة الجامعة الإسلامية. ابن خلدون: عبد الرحمن بن خلدون (808هـ) . (55) العبر وديوان المبتدأ والخبر (تاريخ ابن خلدون) ، مطبعة النهضة، مصر، 1355هـ. خليفة: بن خياط الصفري (240هـ) . (56) تأريخ خليفة، مؤسسة الرسالة، ط الثانية، 1397هـ. الدارقطني: علي بن عمر (385هـ) . (57) سنن الدارقطني، الناشر عبد الله هاشم يماني المديني 1386هـ. الدارمي: أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن (255هـ) . (58) سنن الدارمي، الناشر: دار إحياء السنة النبوية، بدون تاريخ. أبو داود السجستاني سليمان بن الأشعث (275هـ) . (59) سنن أبي داود (المطبوع مع معالم السنن) تحقيق الدعاس، دار الحديث، حمص، ط الأولى، 1388هـ. أبو داود الطيالسي سليمان بن داود بن الجارود (204هـ) . (60) مسند أبي داود، دار الكتاب اللبناني، دار التوفيق، بدون تاريخ. الديار: بكري حسين بن محمد بن الحسن (966هـ) . (61) تاريخ الخميس في أحوال أنفس نفيس، مؤسسة شعبان، بيروت. ابن الديبع: عبد الرحمن بن علي بن محمد الشيباني (944هـ) . (62) حدائق الأنوار ومطالع الأسرار، تحقيق عبد الله إبراهيم الأنصاري.
الذهبي: شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان (748هـ) . (63) تذكرة الحفاظ، دار إحياء التراث، بيروت، بدون تاريخ. (64) تلخيص المستدرك للحاكم، حاشية المستدرك. (65) سير أعلام النبلاء، مؤسسة الرسالة، ط الأولى 1401هـ. (66) الكاشف في معرفة من له رواية في الكتب الستة، دار الكتب الحديثة، القاهرة، ط الأولى 1392هـ. (67) ميزان الاعتدال، دار المعرفة بيروت، بدون تاريخ. ابن راهويه: إسحاق بن إبراهيم الحنظلي (238هـ) . (68) مسند إسحاق بن راهويه (مخطوط) بمكتبة الجامعة الإسلامية. ابن رجب: زين الدين عبد الرحمن بن أحمد (795هـ) . (69) شرح علل الترمذي، الأوقاف العراقية، بدون تاريخ. ابن الرفعة: أبو العباس نجم الدين بن الرفعة الأنصاري (710هـ) . (70) الإيضاح والتبيان في معرفة المكيال والميزان، جامعة الملك عبد العزيز، 1400هـ. الزبيدي: محمد مرتضى الحسيني (1205هـ) . (71) تاج العروس من جواهر القاموس، دار مكتبة الحياة، بيروت. الزرقاني: محمد بن عبد الباقي المالكي (1122هـ) . (72) شرح المواهب اللدنية، دار المعرفة، بيروت، ط الثانية، 1393هـ. الزيلعي: أبو محمد جمال الدين عبد الله بن يوسف الحنفي (762هـ) . (73) نصب الراية لأحاديث الهداية، المجلس العلمي، الهند 1357هـ. السخاوي: شمس الدين مجد بن عبد الرحمن (902هـ) (74) فتح المغيث بشرح ألفية الحديث ابن سعد: محمد بن سعد بن منيع البصري (230هـ) . (75) الطبقات الكبرى، دار صادر بيروت، 1388هـ. سعيد بن منصور بن شعبة الخراساني (227هـ) . (76) سنن سعيد بن منصور، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، 1387هـ
السفاريني: أبو عون محمد بن أحمد بن سالم الحنبلي (1188هـ) . (77) شرح ثلاثيات مسند أحمد، المكتب الإسلامي، ط الثانية 1391هـ. سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب (1233هـ) (78) تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد، مكتبة الرياض، يدون تاريخ. السهمي أبو القاسم حمزة بن يوسف (427هـ) . (79) تاريخ جرجان (معرفة علماء أهل جرجان) مطبعة مجلس دائرة المعارف، الهند ط الثانية 1387هـ. السهيلي: أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد بن أصبغ الخثعمي الضرير (581) . (80) الروض الأنف، دار الكتب الحديثة، 1390هـ. ابن سيد الناس: محمد بن محمد أبو الفتح اليعمري (734هـ) . (81) عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير، دار المعرفة، بيروت، بدون تاريخ. السيوطي: جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر (911هـ) . (82) تنوير الحوالك شرح على موطأ مالك، دار إحياء الكتب العربي. (83) جمع الجوامع، مصور عن مخطوط دار الكتب المصرية بمكتبة الجامعة الإسلامية. (84) الخصائص الكبرى، دار الكتب الحديثة، بدون تاريخ. (85) الدر المنثور، دار المعرفة بيروت. (86) طبقات الحفاظ، مكتبة وهبة، القاهرة، بدون تاريخ. الشاطبي: أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد (790هـ) . (87) الاعتصام الناشر: دار المعرفة، بدون تاريخ. الشافعي: الإمام محمد بن إدريس (204هـ) . (88) الأم، الناشر مكتبة الكليات الأزهرية، 1381هـ.
ابن شبة: عمر بن شبة بن عبيدة النمري (262هـ) . (89) تاريخ المدينة، تحقيق فهيم شلتوت، الناشر، سيد حبيب. الشوكاني: محمد بن علي بن محمد (1250هـ) . (90) نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار، مطبعة الحلبي وأولاده بمصر، ط الأخيرة. ابن أبي شيبة: أبو بكر عبد الله بن محمد بن إبراهيم العبسي (235هـ) . (91) تاريخ ابن أبي شيبة، مخطوط بالجامعة الإسلامية. (92) مصنف ابن أبي شيبة، المطبعة العزيزية، حيدر آباد، الهند 1386هـ. ابن الصلاح: أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن الشهرزوري (643هـ) . (93) علوم الحديث (مقدمة ابن الصلاح) ، المكتبة العلمية بالمدينة المنورة، ط الثانية 1972م. الصنعاني: محمد بن إسماعيل الكحلاني الأمير (1182هـ) . (94) سبل السلام شرح بلوغ المرام، دار إحياء التراث العربي، ط الرابعة، 1379هـ. الضبي: أحمد بن يحيى بن أحمد بن عميرة (599هـ) . (95) بغية الملتمس في تاريخ رجال الأندلس، دار الكتاب العربي، 1967م. الطبراني: أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني (360هـ) . (96) المعجم الكبير، الأوقاف العراقية. (97) المعجم الصغير، المكتبة السلفية بالمدينة المنورة، 1388هـ. الطبري: أبو جعفر محمد بن جرير الطبري (310هـ) . (98) تاريخ الأمم والملوك (تاريخ ابن جرير الطبري) ، دار القلم، بيروت. بدون تاريخ. (99) جامع البيان عن تأويل القرآن (تفسير ابن جرير الطبري) ، مطبعة الحلبي وأولاده، ط الثالثة، 1388هـ. الطحاوي: أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة (321هـ) . (100) شرح معاني الأثار، مطبعة الأنوار المحمدية، 1387هـ
(101) مشكل الآثار، دار صادر بيروت، مصورة عن طبعة دائرة المعارف، 1333هـ. ابن أبي عاصم: أبو بكر أحمد بن عمرو بن أبي عاصم الشيباني (287هـ) . (102) الآحاد والمثاني لابن أبي عاصم، (ميكروفيلم) بمكتبة الجامعة الإسلامية. (103) السنة لابن أبي عاصم، المكتب الإسلامي، ط الأولى: 1400هـ. ابن عبد البر: أبو عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر النمري (463هـ) . (104) الاستيعاب في معرفة الأصحاب، مطبوع مع الإصابة، الناشر مكتبة الكليات الأزهرية، ط الأولى، 1396هـ. (105) الدرر لابن عبد البر في اختصار المغازي والسير، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، القاهرة، 1386هـ. (106) التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، الناشر: وزارة الأوقاف المغربية 1387هـ. عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ (1258هـ) . (107) فتح المجيد شرح كتاب التوحيد، مطابع القصيم، ط الثامنة، 1386هـ. عبد الرزاق بن همام الصنعاني الحميري (211هـ) . (108) مصنف عبد الرزاق، المجلس العلمي كراتشي، 1390هـ. عبد بن حميد نصر الكسي، (ت249هـ) . (109) المسند (مخطوط) مكتبة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة. ابن عدي: أحمد بن عبد الله (365هـ) . (110) مقدمة الكامل، مطبعة سليمان الأعظمي، بغداد بدون تاريخ. (111) الكامل، (مخطوط) بمكتبة الجامعة الإسلامية. ابن عراق: أبو الحسن علي بن محمد بن عراق الكناني (963هـ) . (112) تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة والموضوعة، دار الكتب العلمية، ط الأولى، 1399هـ.
ابن عساكر: علي بن الحسن بن هبة الله الدمشقي (571هـ) . (113) تاريخ دمشق، (مخطوط) بمكتبة الجامعة الإسلامية. ابن عطية: أبو محمد عبد الحق بن غالب الأندلسي (546هـ) . (114) المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (تفسير ابن عطية) ، الأوقاف المغربية. العلائي: صلاح الدين أبو سعيد خليل بن كيكلدي (761هـ) . (115) جامع التحصيل في أحكام المراسيل، وزارة الأوقاف العراقية، ط الأولى، 1398هـ. أبو عوانة: يعقوب بن إسحاق الإسفراييني (316هـ) . (116) مسند أبي عوانة، مطبعة مجلس دائرة المعارف، الهند، ط الأولى، 1385هـ. عياض بن موسى بن عياض السبتي (544هـ) . (117) ترتيب المدارك، الناشر: وزارة الأوقاف المغربية، بدون تاريخ. العيني: بدر الدين أبو محمد محمود بن أحمد (855هـ) . (118) عمدة القاري شرح صحيح البخاري، إدارة الطباعة المنيرية، بدون تاريخ. (119) مباني الأخبار في شرح معاني الآثار، (مخطوط) مصور عن النسخة المصرية بمكتبة الشيخ حماد الأنصاري. الفسوي: أبو يوسف يعقوب بن سفيان (277هـ) . (120) المعرفة والتاريخ، مطبعة الإرشاد، بغداد، 1394هـ. ابن قدامة: أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد (620هـ) . (121) المغني، مكتبة الرياض الحديثة، بدون تاريخ. القرطبي: أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري (671هـ) . (122) الجامع لأحكام القرآن (تفسير القرطبي) ، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1965م
القسطلاني: شهاب الدين أبو العباس أحمد بن محمد (923هـ) . (123) المواهب اللدنية بالمنح المحمدية مع شرح الزرقاني، دار المعرفة، بيروت، ط الثاني. 1393هـ. ابن القيم: شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر الزرعي (751هـ) . (124) أعلام الموقعين عن رب العالمين، تحقيق عبد الرحمن الوكيل، دار الكتب الحديثة. (125) تهذيب سنن أبي داود بهامش مختصر المنذري، المكتبة الأثرية، باكستان، ط الثانية، 1399هـ. (126) زاد المعاد في هدي خير العباد، بتحقيق الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، ط الثناية، 1401هـ. (127) مختصر الصواعق، مكتبة الرياض الحديثة، بدون تاريخ. ابن كثير: أبو الفداء عماد الدين إسماعيل بن كثير القرشي (774هـ) . (128) البداية والنهاية، مطبعة الحلبي وأولاده، ط الأولى 1389هـ. (129) تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير) ، مطبعة الاستقامة بالقاهرة، ط الثالثة، 1373هـ. ابن ماجه: أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني (275هـ) . (130) سنن ابن ماجه، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1395هـ. ابن ماكولا: علي بن هبة الله بن علي العجلي (475هـ) . (131) الإكمال في رفع الارتياب عن المؤتلف والمختلف في الأسماء والكنى والأنساب، الناشر: محمد أمين رمح، بيروت، بدون تاريخ. مالك بن أنس الأصبحي، إمام دار الهجرة (179هـ) . (132) الموطأ، تصحيح محمد فؤاد عبد الباقي، دار كتاب الشعب. الشيخ محمد بن عبد الوهاب (1206هـ) . (133) مختصر سيرة الرسول (دار العربية، بيروت، بدون تاريخ. (134) ملحق مصنفات محمد بن عبد الوهاب، جامعة الإمام محمد بن سعود
المرداوي: علاء الدين أبو الحسين علي بن سليمان (885هـ) . (135) الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، طبع على نفقة الملك سعود. المزي: جمال الدين أبو الحجاج يوسف بن الزكي عبد الرحمن المزي (742هـ) . (136) تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف، الناشر: الدار القيمة، 1384هـ. (137) تهذيب الكمال للمزي، (مخطوط) بمكتبة الجامعة الإسلامية، مصور عن النسخة المصرية. مسلم بن الحجاج القشيري (261هـ) . (138) صحيح مسلم، دار إحياء التراث العربي، ط الثانية 1972م. ابن معين: يحيى بن معين بن عون المري الغطفاني مولاهم (233هـ) . (139) تاريخ يحيى بن معين. الناشر: جامعة الملك عبد العزيز ط الأولى، 1399هـ. ابن مفلح: شمس الدين أبو عبد الله المقدسي (763هـ) . (140) الفروع، دار مصر للطباعة، ط الثانية، 1380. المقري: أحمد بن محمد المقري التلمساني (1041هـ) . (141) نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، دار صادر 1388هـ. المقريزي: أحمد بن علي بن عبد القادر (845هـ) . (142) إمتاع الأسماع بما للرسول من الأبناء والأموال والمتاع، لجنة التأليف والنشر، القاهرة، 1941. المنذري: عبد العظيم بن عبد القوي بن عبد الله المنذري (656هـ) . (143) الترغيب والترهيب، مطبعة الحلبي وأولاده، ط الثانية 1373هـ. (144) مختصر سنن أبي داود، المكتبة الأثرية، باكستان، ط الثانية، 1399هـ. ابن منظور: جمال الدين محمد بن مكرم الأنصاري (711هـ) . (145) لسان العرب، طبعة مصورة عن طبعة بولاق، الدار المصرية للتأليف والترجمة
النباهي: أبو الحسن بن عبد الله بن الحسن المالقي الأندلسي (793هـ) . (146) المرقبة العليا فيمن يستحق القضاء والفتيا، (تاريخ قضاة الأندلس) ، المكتب التجاري للطباعة والنشر، بيروت. النسائي: أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب (303هـ) . (147) سنن النسائي (المجتبى) ، دار إحياء التراث، بيروت، بدون تاريخ. (148) السنن الكبرى للنسائي، (مخطوط) ، بمكتبة الجامعة الإسلامية. النووي: أبو زكريا محي الدين بن شرف النووي (676هـ) . (149) التقريب في علم الحديث، مطبوع مع شرحه تدريب الراوي، الناشر: المكتبة العلمية بالمدينة المنورة، ط الثانية: 1392هـ. (150) تهذيب الأسماء واللغات، الناشر دار الباز بمكة، بدون تاريخ. (151) شرح صحيح مسلم، دار الفكر، بيروت، ط الثانية/ 1398هـ. (152) المجموع شرح المهذب، مكتبة الإرشاد، جدة، بدون تاريخ. أبو نعيم: أحمد بن عبد الله الأصبهاني (430هـ) . (153) دلائل النبوة، عالم الكتب، بيروت. (154) ذكر أخبار أصبهان، مطبعة أبريل، ليدن، 1934م. (155) معرفة الصحاية، (مخطوط) بمكتبة الجامعة الإسلامية؟ ابن هشام: أبو محمد عبد الملك بن هشام الحميري (218هـ) . (156) سيرة ابن هشام، مطبعة الحلبي وأولاده بمصر، ط الثانية، 1375هـ. أبو هلال العسكري: الحسن بن عبد الله بن سهل: (395هـ) . (157) الأوائل: تحقيق محمد السيد الوكيل. ابن الهمام: كمال الدين محمد بن عبد الواحد الإسكندري (681هـ) . (158) شرح الهداية، مطبعة الحلبي وأولاده، ط الأولى، 1389هـ. الهيثمي: أبو بكر نور الدين علي بن أبي بكر بن سليمان (807هـ) . (159) بغية الباحث عن زوائد الحارث، (مخطوط) بمكتبة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة. (160) غاية المقصد (مخطوط) ، بمكتبة الجامعة الإسلامية
(161) كشف الأستار عن زوائد البزار، مؤسسة الرسالة، ط الأولى، 1399هـ. (162) مجمع البحرين بزوائد المعجمين، (مخطوط) بمكتبة الجامعة الإسلامية. (163) مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، دار الكتاب العربي، بيروت، ط الثالثة، 1402هـ. (164) موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان، دار الكتب العلمية، بيروت، بدون تاريخ. الواقدي: محمد بن عمر بن واقد (207هـ) . (165) مغازي الواقدي، عالم الكتب، بيروت، بدون تاريخ. ياقوت بن عبد الله الحموي الرومي (626هـ) . (166) معجم البلدان، دار صادر، بيروت، 1397هـ. اليعقوبي: أحمد بن أبي يعقوب بن جعفر اليعقوبي (284هـ) . (167) تاريخ اليعقوبي، دار صادر بيروت، بدون تاريخ. أبو يعلى الموصلي: أحمد بن علي بن المثنى (307هـ) . (168) مسند أبي يعلى، (مخطوط) بمكتبة الجامعة الإسلامية. المراجع الحديثة إبراهيم بن إبراهيم القريبي: (169) مرويات غزوة بني المصطلق، الناشر الجامعة الإسلامية. إبراهيم محمد عمير: (170) مرويات غزوة الخندق، مطبوع على الآلة الكاتبة في الجامعة الإسلامية. أحمد شلبي: (171) موسوعة التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية، مكتبة النهضة المصرية، ط الثامنة، 1978م.
أحمد بن حجر آل بن علي: (172) الرد الشافي الوافر على من نفى أمية سيد الأوائل والأواخر، دار الإرشاد بيروت، ط الأولى، 1388هـ. أحمد بن عبد الحميد العباسي: (173) عمدة الأخبار في مدينة المختار، الناشر: أسعد الحسيني، ط الثالثة، بدون تاريخ. أحمد محمد العليمي: (174) مرويات غزوة بدر، مكتبة طيبة، ط الأولى، 1400هـ. الألباني: محمد ناصر الدين الألباني: (175) إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، الناشر المكتب الإسلامي، ط الأولى، 1399هـ. (176) تخريج أحاديث فقه السيرة، للغزالي بهامش فقه السيرة. (177) التوسل أنواعه وأحكامه، الطبعة الثانية، 1397هـ. (178) ظلال الجنة في تخريج السنة، مطبوع مع السنة لابن أبي عاصم، المكتب الإسلامي، بدون تاريخ. باشميل محمد أحمد: (179) صلح الحديبية، ط الأولى، 1390هـ. بريغش محمد حسن: (180) أبو بصير قمة في العزة الإسلامية، مكتبة الحرمين، الرياض، ط الثالثة، 1397هـ. البلادي عاتق بن غيث: (181) نسب حرب، مكتبة دار البيان، دمشق، ط الأولى 1397هـ. ابن بليهد النجدي: محمد بن عبد الله: (182) صحيح الأخبار عما في بلاد العرب من الآثار، مطبعة السنة المحمدية 1370هـ
أبو تراب: رشد الله شاه السندهي: (183) كشف الأستار عن رجال معاني الآثار. حسين الباكري: (184) مرويات غزوة أحد، مطبوع على الآلة الكاتبة بالجامعة الإسلامية. دروزه محمد عزة: (185) سيرة الرسول، على نفقة الشيخ خليفة آل ثاني أمير دولة قطر. أبو زهرة محمد: (186) خاتم النبيين، دار الفكر العربي، القاهرة، 1973م. الزواوي الطاهر أحمد: (187) ترتيب القاموس المحيط، الناشر عيسى البابي الحلبي وشركاه، ط الثانية، بدون تاريخ. الساعاتي أحمد بن عبد الرحمن البنا: (188) بلوغ الأماني في أسرار الفتح الرباني بهامش الفتح الرباني. (189) الفتح الرباني، لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني، دار إحياء التراث، بدون تاريخ. (190) منحة المعبود بترتيب مسند الطيالسي أبو داود، المطبعة المنيرية، القاهرة، 1372هـ. السبكي: محمود محمد خطاب (1352هـ) . (191) المنهل العذب المورود شرح سنن أبي داود، مطبعة الاستقامة، ط الأولى، 1353هـ. السهارنفوري: خليل الدين أحمد (1346هـ) (192) بذل المجهود في أبي داود، مطبعة دار البيان، ط الثانية، 1393هـ. سيد قطب: (193) في ظلال القرآن، دار الشروق، ط الرابعة، 1397هـ
أبو شهبة: محمد محمد: (194) السيرة النبوية، دار الطباعة المحمدية، القاهرة. العباد عبد المحسن بن حمد: (195) الرد على من كذب الأحاديث الصحيحة الواردة في المهدي، ط الأولى 1402هـ. عبد الله بن صالح آل بسام: (196) تيسير العلام شرح عمدة الأحكام، مكتبة النهضة الحديثة، مكة المكرمة، 1398هـ. عبد القادر بن بدران (1346هـ) (197) تهذيب تاريخ دمشق، دار المسيرة، ط الثانية، 1993م. العثيم: عبد العزيز بن عبد الرحمن: (198) مسند جابر (من مسند الإمام أحمد) ، مطبوع على الآلة الكاتبة، بجامعة أم القرى. عوض بن أحمد الشهري: (199) مرويات غزوة خيبر، مطبوع على الآلة الكاتبة بالجامعة الإسلامية. فاروق حمادة: (200) مصادر السيرة النبوية وتقويمها، دار الثقافة، الدار البيضاء، ط الأولى، 1400هـ. القرضاوي يوسف: (201) العبادة في الإسلام، مؤسسة الرسالة، ط السادسة، 1399هـ. الكاندهلوي محمد زكريا: (202) أوجز المسالك إلى موطأ مالك، دار الفكر، بيروت، ط الثانية، 1394هـ. كحالة عمر رضا: (203) معجم المؤلفين، الناشر: مكتبة المثنى، بيروت
محسن محمد الدوم: (204) مرويات فتح مكة، مطبوع على الآلة الكاتبة بالجامعة الإسلامية. محمد سعيد رمضان البوطي: (205) فقه السيرة، دار الفكر، ط الخامسة، 1392هـ. محمد شمس الحق العظيم آبادي: (206) التعليق المغني على الدارقطني، مطبوع مع سنن الدارقطني، الناشر عبد الله هاشم يماني المدني، 1386هـ. (207) عون المعبود شرح سنن أبي داود، الناشر، دار الكتاب العربي، بيروت، بدون تاريخ. محمد الغزالي: (208) فقه السيرة، دار الكتب الحديثة، ط السابعة، 1976م. المعلمي عبد الرحمن بن يحيى المعلمي (1386هـ) : (209) التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل، تحقيق محمد ناصر الدين الألباني، المطبعة العربية، باكستان 1401هـ. مقبل بن هادي الوادعي: (210) الصحيح المسند من أسباب النزول، الجامعة الإسلامية. النجار محمد الطيب: (211) القول المبين في سيرة سيد المرسلين، دار الاعتصام، القاهرة، 1398هـ. وهبة الزحيلي: (212) آثار الحرب في الفقه الإسلامي، الناشر: المكتبة الحديثة، بدون تاريخ. أكرم ضياء العمري: (213) نظرة في مصادر ودراسة السيرة النبوية، بحث مطبوع على الآلة الكاتبة.