مرويات السيرة لمسفر الدميني

مسفر الدميني

مقدمة

المقدمة: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد، فقد طلب إليّ القائمون على ندوة " عناية المملكة العربية السعودية بالسنة والسيرة النبوية " أن أكتب في موضوع: " مرويات السيرة النبوية بين قواعد المحدثين وروايات الإخباريين " وهو موضوع شائك، يحتاج إلى تأمل وتفكير عميق، أكثر مما يحتاج إلى مراجع ومصادر، وقد بدأت في التفكير فيه، والإعداد لعناصره مبكراً، لكني وجدته عميقاً جداً، إذ يحتاج إلى مزيد من التأمل والتفكير، ومزيد من ضرب الأمثلة والتطبيق، وإنني على علم بأن مثل هذا الموضوع – الذي يبحث قضية خطيرة مثل هذه - يحتاج إلى مزيد من الوقت، ومزيد من النقاش والحوار. ولا شك أن عَرْضه على الأساتذة المختصين في هذا المؤتمر مما يثري الموضوع، ويكسبه قوة وعمقاً، وذلك ببيان أوجه القصور في معالجته للمشكلة القائمة، واقتراح الحلول المناسبة لها، وكذا بذكر بعض العناصر والقضايا التي يلزم الباحث تأملها والنظر فيها، والحق أنني في انتظار ملاحظات الناظرين إليه، والسامعين له، فهو في نظري خطة مشروع لكتاب شامل، يعالج هذه القضية من جميع جوانبها، ويبحث نظرياً وتطبيقياً الحلول المناسبة لها، وأَعِدُ مقدّماً بالاستفادة مما يبديه الإخوة المناقشون والفاحصون من ملاحظات، والأخذ بما أراه حقاً وصواباً من ذلك. وأخيراً فإنني أعتذر عن كل خلل أو قصور في هذا البحث، وأسأل الله تعالى الهداية، والتوفيق، والسداد. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

عناية السلف بالسنة نقدا وتدوينا

عناية السلف بالسنة نقداً وتدويناً: من فضل الله تعالى على هذه الأمة، أن قيَّض لها من يحفظ لها دينها وسنة نبيها محمداً صلى الله عليه وسلم؛ ذلك أن الأمم السابقة لم تكن لها عناية بنقل الكتب التي أنزلها الله على أنبيائه ورسله السابقين، ولا بنقل أقوال وأفعال المرسلين إليها، بل إن كثيراً من علماء تلك الأمم هم الذين غيروا وبدلوا كتبهم، وحرفوا دينهم، فعوضاً عن قيامهم بحفظ الدين – وهم الأمناء عليه - ونَقْلِهِ بأمانةٍ وصدقٍ إلى عموم الخلق، بدّلوه وحرّفوه، واشتروا به ثمناً قليلاً، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران:187] وقال: {اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [التوبة:9] . وأخرج البخاري في صحيحه عَنْ عبد اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ كَيْفَ تَسْأَلُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ وَكِتَابُكُمْ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم أَحْدَثُ الاخْبَارِ بِاللَّهِ تَقْرَؤونَهُ لَمْ يُشَبْ وَقَدْ حَدَّثَكُمُ اللَّهُ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ بَدَّلُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ وَغَيَّرُوا بِأَيْدِيهِمْ الْكِتَابَ فَقَالُوا: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً، أَفَلا يَنْهَاكُمْ مَا جَاءَكُمْ مِنْ الْعِلْمِ عَنْ مُسَاءَلَتِهِمْ وَلا وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا مِنْهُمْ رَجُلا قَطُّ يَسْأَلُكُمْ عَنْ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْكُمْ (1) .

_ (1) صحيح البخاري 3/163.

ويقول ابن حزم: "ما نقله الثقة عن الثقة كذلك حتى يبلغ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، يخبر كل واحد منهم باسم الذي أخبره، ونسبه، وكلهم معروف الحال والعين، والعدالة، والزمان والمكان - على أن أكثر ما جاء هذا المجيء فإنه منقول نقل الكواف، إما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من طرق جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، وإما إلى الصاحب، وإما إلى التابع، وإما إلى إمام أخذ عن التابع يعرف ذلك من كان من أهل المعرفة بهذا الشأن والحمد لله رب العالمين - وهذا نقل خصّ الله تعالى به المسملين دون سائر أهل الملل كلها...." انتهى (1) . أما أمة الإسلام فقد تكفل الله تعالى بحفظ كتابها قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] ، كما أن بيان ذلك الكتاب – وهو السنة – محفوظ بحفظ الله تعالى لكتابه، فلا يتصور أن يكون الكتاب محفوظاً، وبيانه غير محفوظ، ومن هنا قيض الله تعالى للسنة النبوية جهابذة حفاظاً أمناء، نقلوها إلينا غضة طرية كما خرجت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ذلك أن هذه الأمة –أمة الإسلام- هي الأمة القائمة بأمر الله تعالى إلى أن تقوم الساعة، ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم هي الرسالة الخاتمة قال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} [الأحزاب:40] ولا بد للقائم بأمرٍ أن يكون أهلاً له – من حيث

_ (1) الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم 2/68.

القوة والقدرة، والصدق والأمانة- قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] وأن يكون مقتنعاً بما لديه من حجة وبرهان، واثقاً به، وبعد ذلك يمكنه أن يقيم الحجة على خصمه، وهذه المؤهلات لا تملكها أمة من الأمم السابقة، بل هي مما خص الله به هذه الأمة. ومن هذا الباب بيان الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته أهمية الصدق، والتحري فيما يُنْقَلُ عنه، وإخباره بأنه سَيُكذَبُ عليه، مما نبّه المسلمين عموماً والصحابة خصوصاً لضرورة التروي في النقل عنه، وتحري أحوال الرواة نَقَلَةِ الأخبار عنه، أخرج مسلمٌ وأحمدُ عن أبي هريرة قَالَ: قال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ يَأْتُونَكُمْ مِنْ الْأَحَادِيثِ بِمَا لَمْ تَسْمَعُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ فَإِيَّاكُمْ وَإِيَّاهُمْ لا يُضِلُّونَكُمْ وَلا يَفْتِنُونَكُمْ" (1) . وقد عَدّ المحدثون حديث: "مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ" أكثر الأحاديث رواية عنه صلى الله عليه وسلم بإطلاق، فلا يبلغ حديثٌ مبلغَه من الصحة، ولا كثرة عدد رواته من الصحابة رضوان الله عليهم، وهذا يعني أن أكثر الصحابة قد بلغهم خطرُ الكذب عليه، ولذا نجد عدداً منهم يتردد في الرواية عنه، خوفاً من الوقوع في الكذب عليه من حيث لا يدري، ولذلك أقلوا الرواية عنه جداً، وخشي آخرون أن يوقعهم الخطأ - عند رواية حديثه - في وعيد من كذب عليه، فترى أحدهم يعقب روايته لحديثه بقوله " أو كما قال، أو نحو ذلك.- ذلك أن العرب تطلق على الخطأ لفظ الكذب-

_ (1) صحيح مسلم 1/12، ومسند أحمد حديث رقم 8241 (بترقيم صخر) .

وربما أصابت آخرين رعدةٌ وخوفٌ عند روايتهم لحديثه (1) ، أخرج البخاري ومسلم واللفظ له عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّهُ لَيَمْنَعُنِي أَنْ أُحَدِّثَكُمْ حَدِيثًا كَثِيرًا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ تَعَمَّدَ عَلَيَّ كَذِبًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ"، وأخرج البخاري عن عبد اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ أنه قَالَ لأبيه اِلزُّبَيْرِ: إِنِّي لا أَسْمَعُكَ تُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا يُحَدِّثُ فُلانٌ وَفُلانٌ؟ قَالَ: أَمَا إِنِّي لَمْ أُفَارِقْهُ وَلَكِنْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: "مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ" (2) . ومن هنا بدأت عناية السلف الأول بالسنة النبوية، حفظاً في الكتب والصدور، وروايتها لمن بعدهم بالإسناد المتصل، بنقل الثقة عن الثقة، مع نقدهم لأسانيدها ومتونها، وتحريهم عن أحوال رواتها، ودلائل هذه العناية ثابتة، ونتائجها معروفة، فقد أرسوا قواعد نقد النصوص، حتى شهد لهم العدو قبل الصديق، ويمكننا أن نجتزئ شيئاً يسيراً من عملهم في هذا المجال، أخرج مسلم في مقدمة صحيحه عَنْ طَاوُسٍ قَالَ جَاءَ هَذَا إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ - يَعْنِي بُشَيْرَ بْنَ كَعْبٍ - فَجَعَلَ يُحَدِّثُهُ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: عُدْ لِحَدِيثِ كَذَا وَكَذَا، فَعَادَ لَهُ، ثُمَّ حَدَّثَهُ فَقَالَ لَهُ: عُدْ لِحَدِيثِ كَذَا وَكَذَا، فَعَادَ لَهُ فَقَالَ لَهُ – بشير - مَا أَدْرِي أَعَرَفْتَ حَدِيثِي كُلَّهُ وَأَنْكَرْتَ هَذَا، أَمْ أَنْكَرْتَ حَدِيثِي كُلَّهُ وَعَرَفْتَ هَذَا؟ فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّا كُنَّا نُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ لَمْ يَكُنْ يُكْذَبُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَكِبَ النَّاسُ الصَّعْبَ وَالذَّلُول، تَرَكْنَا الْحَدِيثَ عَنْهُ (3) .

_ (1) انظر الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي ص 204-206. (2) صحيح البخاري 1/35، ومقدمة صحيح مسلم 1/10. (3) مقدمة صحيح مسلم 1/12-13.

كما أخرج عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: جَاءَ بُشَيْرٌ الْعَدَوِيُّ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَجَعَلَ يُحَدِّثُ وَيَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَجَعَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ لا يَأْذَنُ لِحَدِيثِهِ، ولا يَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، مَالِي لا أَرَاكَ تَسْمَعُ لِحَدِيثِي؟ أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ولا تَسْمَعُ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاس: إِنَّا كُنَّا مَرَّةً إِذَا سَمِعْنَا رَجُلاً يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ابْتَدَرَتْهُ أَبْصَارُنَا، وَأَصْغَيْنَا إِلَيْهِ بِآذَانِنَا، فَلَمَّا رَكِبَ النَّاسُ الصَّعْبَ وَالذَّلُولَ، لَمْ نَأْخُذْ مِنْ النَّاسِ إلاَّ ما نَعْرِفُ (1) . فهذا ابن عباس صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم يبدأ نقد المنقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيناقش بشيراً العدوي هذا فيما يرويه، ويراجعه فيه، وبُشَيْرٌ الْعَدَوِيُّ هذا ليس دجالاً وكذاباً، بل هو أحد القراء الزهاد العباد، [وقد وثقه النسائي وغيره، له ترجمة في سير أعلام النبلاء] (2) . ونَقْدُ ابنِ عباس لما سمعه من بشير العدوي موجه إلى ما يرويه له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم – أعني إلى النص المروي لا إلى الراوي– ولا شك أن ابن عباس يعرفه جيداً ولو أنه اتهمه، أو اتهم من روى عنه لذكر ذلك، وانظر إلى خبره الآخر الذي أخرجه مسلم أيضاً في مقدمة صحيحه: عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: كَتَبْتُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، أَسْأَلُهُ أَنْ يَكْتُبَ لِي كِتَابًا، وَيُخْفِي عَنِّي، فَقَالَ: وَلَدٌ نَاصِحٌ، أَنَا أَخْتَارُ لَهُ الأُمُورَ اخْتِيَارًا، وَأُخْفِي عَنْهُ، قَالَ: فَدَعَا بِقَضَاءِ عَلِيٍّ، فَجَعَلَ يَكْتُبُ مِنْهُ أَشْيَاءَ، وَيَمُرُّ بِهِ الشَّيْءُ فَيَقُولُ: وَاللَّهِ مَا قَضَى بِهَذَا عَلِيٌّ إلاَّ

_ (1) المرجع السابق 1 / 13. (2) سير أعلام النبلاء 4 / 531.

أَنْ يَكُونَ ضَلَّ (1) . وعَنْ طَاوُسٍ قَالَ أُتِيَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِكِتَابٍ فِيهِ قَضَاءُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَمَحَاهُ إلاَّ قَدْرَ -وَأَشَارَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ بِذِرَاعِهِ- (2) . فقوله:" وَاللَّهِ مَا قَضَى بِهَذَا عَلِيٌّ إلاَّ أَنْ يَكُونَ ضَلَّ " نقدٌ مبنيٌ على نكارة ما نقل عنه، وأنه لو كان صحيحاً أنه قضى به لكان ضالاً، ولمّا امتنع عليه الضلال – فهو إمام هدى – فالنقل عنه غلطٌ وخطأ مردود، قال النووي في تعليقه عليه: ومعناه:" ما يقضي بهذا إلا ضال، ولا يقضي به علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلا أن يُعرفَ أنه ضل، وقد عُلِمَ أنه لم يَضل فيُعلم أنه لم يقض به" (3) . وصنيع ابن عباس المتقدم، وما أثر عن عائشة رضي الله تعالى عنها من نقد لعدد من المرويات، وكذا غيرهما من الصحابة كان أخذاً بتحذير رسول الله صلى الله عليه وسلم من تلك الروايات الباطلة.

_ (1) مقدمة صحيح مسلم 1/13. (2) المرجع السابق. (3) شرح النووي على صحيح مسلم 1/118.

شروط قبول الرواية عند المحدثين

شروط قبول الرواية عند المحدثين: لا بد من الإشارة إلى شروط قبول الرواية عند المحدثين، سواء المتقدمون منهم أو المتأخرون، قبل البدء في تقرير منهج نقد مرويات السيرة والتأريخ، وأهم هذه العناصر سنأخذها من كتابات المتقدمين من المحدثين قبل إفراد علوم الحديث بالتدوين، وإنما اخترت هؤلاء الأئمة المتقدمين، ذاكراً شروطهم في

الرواية المقبولة، لتأكيد أمر مهم وهو: معرفة المحدثين – في ذلك الزمان المتقدم، الذي دوّن فيه كتَّابُ التأريخ والسير كتبَهم - لشروط الرواية المقبولة، التي تثبت بها الحجة، وأن هذه الشروط ليست من صنيع المتأخرين من المحدثين – بعد عصر التدوين- الذين جاؤوا بعد أن دوّن كتَّابُ التأريخ والسير كتُبهم ومصنفاتهم، بل كانوا جميعاً – المحدثون وكتاب التأريخ والسير- في عصر واحد بل وبلد واحد، وهؤلاء وأولئك رحلوا، وطلبوا العلم، وسأل كل طائفة منهم الشيوخ المعروفين بحمل العلم عن بغيتهم ومرادهم، كما سألوا بعض الناس عن المواقع والمشاهد، والقبائل والأشخاص، ودونوا ما أخذوه منهم في مصنفاتهم، فلماذا اختلفت شروطهم ومناهجهم؟ هذا ما سأحاول الإجابة عنه في هذا البحث. إذا علمنا أن أبا عبد الله الحاكم يعد من أول المصنفين في علوم الحديث، فسنبحر قبله بقرنين من الزمان – تقريباً- ونبدأ بالإمام الشافعي (ت:204هـ) الذي يعد كتابه الرسالة جامعاًً بين علوم شتى، من الفقه وأصوله، والحديث وعلومه، حيث يقول في كتابه (الرسالة) :"ولا تقوم الحجة بخبر الخاصة حتى يجمع أمورا منها أن يكون من حدّث به ثقة في دينه، معروفا بالصدق في حديثه، عاقلاً لما يحدث به، عالماً بما يحيل معاني الحديث من اللفظ، [أ] وأن يكون ممن يؤدي الحديث بحروفه كما سمع - لا يحدث به على المعنى؛ لأنه إذا حدث على المعنى وهو غير عالم بما يحيل به معناه لم يدر لعله يحيل الحلال إلى حرام، وإذا أداه بحروفه فلم يبق وجه يخاف فيه إحالته الحديث - حافظاً إذا حدّث به من حفظه، حافظاً لكتابه إذا حدّث من كتابه، إذا شَرِكَ أهل الحفظ في حديث وافق حديثهم، بريئاً من أن يكون مدلساً - يحدث عن من لقي ما

لم يسمع منه - ويحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يحدث الثقات خلافه عن النبي صلى الله عليه وسلم ويكون هكذا من فوقه ممن حدثه حتى ينتهي بالحديث موصولاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى من انتهى به إليه دونه، لأن كل واحد منهم مثبتٌ لمن حدّثه، ومثبت على من حدّث عنه، فلا يستغني في كل واحد منهم عما وصفت " وقال أيضاً:" ومن كثر غلطه من المحدثين ولم يكن له أصل كتاب صحيح لم نقبل حديثه.... وأهل الحديث متباينون: فمنهم المعروف بعلم الحديث - بطلبه وسماعه من الأب والعم وذوي الرحم والصديق وطول مجالسة أهل التنازع فيه - ومن كان هكذا كان مقدماً بالحفظ، إن خالفه من يقصر عنه كان أولى أن يقبل حديثه ممن خالفه من أهل التقصير عنه ويعتبر على أهل الحديث بأن إذا اشتركوا في الحديث عن الرجل بأن يستدل على حفظ أحدهم بموافقة أهل الحفظ، وعلى خلاف حفظه بخلاف حفظ أهل الحفظ له، وإذا اختلفت الرواية استدللنا على المحفوظ منها والغلط بهذا ووجوه سواه، تدل على الصدق والحفظ والغلط، قد بيناها في غير هذا الموضع وأسأل الله التوفيق (1) . وينقل الخطيب البغدادي في (الكفاية في علم الرواية) عن الحميدي أبي بكر عبد الله بن الزبير، شيخ البخاري (ت: 219 هـ) أنه قال: فإن قال قائل: فما الحديث الذي يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويلزمنا الحجة به؟ قلت: هو أن يكون الحديث ثابتاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، متصلاً غير مقطوع، معروف الرجال، أو يكون حديثاً متصلاً، حدثنيه ثقةٌ معروفٌ عن رجلٍ جهلتُه،

_ (1) الرسالة للشافعي ص 370 – 372.

وعرفه الذي حدثني عنه، فيكون ثابتاً يعرفه من حدثنيه عنه، حتى يصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم. كما نقل - في الكفاية- أيضاً عن محمد بن يحيى الذهلي (ت:258هـ) شيخ البخاري أنه كان يقول: "ولا يجوز الاحتجاج إلا بالحديث الموصل، غير المنقطع، الذي ليس فيه رجل مجهول، ولا رجل مجروح، وقال أيضاً: لا يكتب الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم حتى يرويه ثقة عن ثقة حتى يتناهى الخبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الصفة ولا يكون فيهم رجل مجهول ولا رجل مجروح فإذا ثبت الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الصفة وجب قبوله والعمل به وترك مخالفته (1) . كما نقل (ص 20) عن قتادة (ت: 117هـ) قال: لا يحمل هذا الحديث عن صالح عن طالح، ولا عن طالح عن صالح، حتى يكون صالح عن صالح. وعن أحمد بن يزيد بن هارون قال: إنما هو صالح عن صالح، وصالح عن تابع، وتابع عن صاحب، وصاحب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن جبرائيل، وجبرائيل عن الله عز وجل (2) . وهذه النقولات عن الأئمة المتقدمين في شروط الخبر الصحيح تدل على أنهم بدؤوا قديماً جداً في تقرير مناهجهم في نقد الأخبار، ومعرفة صحيحها من سقيمها. ولو تأملنا كلام الشافعي المتقدم لتبين لنا أنه يشترط للخبر الذي تقوم به

_ (1) الكفاية في علم الرواية ص 24. (2) المرجع السابق.

الحجة شروطاً عدة، هي: عدالة الراوي في دينه، وهو ما عبر عنه بقوله: أن يكون من حدّث به ثقة في دينه، معروفاً بالصدق في حديثه، عاقلاً لما يحدث به. ضبطه لما يرويه، سواء في صدره أو في كتابه، حيث قال: حافظاً إذا حدّث به من حفظه، حافظاً لكتابه إذا حدّث من كتابه، عالماً بما يحيل معاني الحديث من اللفظ، لأنه إذا حدث على المعنى وهو غير عالم بما يحيل به معناه لم يدر لعله يحيل الحلال إلى حرام، وإذا أداه بحروفه فلم يبق وجه يخاف فيه إحالته الحديث. اتصال الإسناد: حيث قال: ويكون هكذا من فوقه ممن حدثه، حتى ينتهي بالحديث موصولاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى من انتهى به إليه دونه، لأن كل واحد منهم مثبتٌ لمن حدّثه، ومثبتٌ على من حدّث عنه، فلا يستغني في كل واحد منهم عما وصفت. كما أشار إلى شروط أخرى متعلقة بما تقدم، منها: عدم مخالفة من هو أولى منه، والسلامة من التدليس، والانقطاع، والجهالة. وقد اشترط كل من الحميدي والذهلي في الحديث المقبول من الشروط نحواً مما اشترط الشافعي، حيث اشترطا فيه: اتصال الإسناد، وثقة الراوي، مع السلامة من الجرح والجهالة. وهنا نعلم أن أهم شروط الحديث الصحيح عند المحدثين هي: عدالة الراوي، وضبطه لحديثه. اتصال الإسناد بين الراوي وبين من يروي عنه.

عدم مخالفة الراوي لمن هو أولى منه. هذه مجمل شروط الرواية عند المحدثين، فما شروط كتاب السير والتأريخ في مروياتهم؟ إن الناظر في مؤلفاتهم – المخصوصة بالسيرة - لا يرى لديهم شروطاً خاصة بهم، بل يراهم متساهلين في كثير من مروياتهم، فلا يشترطون العدالة، فتراهم يروون عن شيوخ مجاهيل لا يعرفون، وكذا الضبط؛ فلا تراهم يردون خبراً لأن راويه لا يضبط حديثه، وأخيراً اتصال الإسناد فلم أرهم يولونه الاهتمام اللائق، فالأخبار المرسلة والمعضلة والتي لا إسناد لها كثيرة في مروياتهم، وهذا يعني أنهم لا يشترطون فيها ما يشترطه عموم المحدثين في مروياتهم.

أسباب تفاوت شروط الرواية بين المحدثين وكتاب التأريخ والسير

أسباب تفاوت شروط الرواية بين المحدثين وكتاب التأريخ والسير: إذا عرفنا شروط قبول الرواية – ولو إجمالاً – عند المحدثين، فلعلنا نتلمس أسباب تفاوت المعايير بين المصنفين في الحديث النبوي والمصنفين في السير والتأريخ، وهي كما سيرى القارئ بعضها متعلق ببعض، ومرتبط به، ومبني عليه، لكن التقسيم الفني لا يمنع من تفريقها وتنويعها. أول الأسباب – في نظري – وأولاها هو الغرض من التصنيف والجمع، فالمحدثون غرضهم جمع الأدلة التي يمكن أن تستنبط منها الأحكام الشرعية المختلفة، ومن ذلك ما يدخل تحت مسمى السيرة النبوية، وعادة أن من يريد الاستدلال على أمر فإنه لا يورد له إلا ما كان مقبولاً عنده، أو صالحاً للانجبار في نظره على الأقل، أما المصنفون في السيرة فإن اهتمامهم بالسيرة أشمل وأوسع، فيهمهم أن يجمعوا فيها أموراً كثيرة لا تشغل - عادة - بال المحدثين، ومن ذلك مثلاً تحديد مواقع الغزوات جغرافياً، وتواريخها، وأسماء من حضرها، وقبائلهم وأسنانهم، وخيلهم ومراكبهم، وتفاصيل أخرى دقيقة لا ينبني على أكثرها حكم شرعي. والأمر الثاني: - مبنيٌ على السابق - وهو الشيوخ الذين أخذ عنهم كل من الطائفتين، ودرجة كل منهم، فتلك التفاصيل والجزئيات اليسيرة، إذا لم يجدها المحدث بإسناد يرضاه ربما زهد في أخذها عن ذلك الشيخ الذي يرويها له، وربما أخذها عنه لكنه أهمل روايتها فيما بعد، كما أن كثيراً من الأخبار والمعلومات ما يكون متداولاً بين الناس، وربما كان مشهوراً عندهم، لكنهم

لا يجدون له إسناداً متصلاً أو صحيحاً، فالإخباري لا يقف عند هذه الشروط التي تفقده كثيراً من مصادره، ومادته العلمية. كما أن كثيراً من الأخبار التي يرويها أولئك الشيوخ المجهولون – أو المجروحون - كثيراً ما تكون غريبة ونادرة، وإذا كان الناس عامة يميلون إلى سماع الغريب، فإن طالب العلم أحرص على حمل الغريب وروايته، ليتفرد عن أقرانه بما ليس عندهم، لكنه حينئذٍ يكون عرضة للاتهام، وربما جُرِحَ لذلك، وخاصة إذا أكثر منه، قال الخطيب البغدادي:" وأكثر طالبي الحديث في هذا الزمان يغلب على إرادتهم كتب الغريب دون المشهور، وسماع المنكر دون المعروف ... " (1) . الأمر الثالث: وهو الشيوخ الذين روى عنهم كل من الطائفتين – وعبرت هنا بالرواية وليس الأخذ، لأن الأخذ المجرد عن الشيخ الضعيف لا يضر الراوي إذا لم يرو عنه – ذلك أن الراوي يتأثر توثيقاً وتجريحاً – عادة - بمن يروي عنه، ولذا ليس له أن يروي إلا عن ثقة مقبول الرواية، غير متهم في دينه ولا حديثه، ومن هنا رأينا غالب المحدثين يسمعون من كل أحد، لكنهم عند الرواية ينتقون شيوخهم الذين يروون عنهم، ويزهدون في الرواية عن المجروحين والمجهولين الذين لا يعرفون، من ذلك قول أبي حاتم الرازي:" إذا كتبت فقمش وإذا حدثت ففتش " قال العراقي: كأنه أراد؛ اكتب الفائدة ممن سمعتها، ولا تؤخر حتى تنظر هل هو أهلٌ للأخذ عنه أم لا؟ فربما فات ذلك بموته أو سفره أو غير ذلك، فإذا كان وقت الرواية أو العمل ففتش حينئذ،

_ (1) الكفاية ص 140.

وقال السخاوي:" غير أنه يغتفر في الطلب ما لا يغتفر في الأداء ... " انتهى (1) . والناظر في شيوخ كل من الفريقين يجد بوناً شاسعاً، فأهل السير أكثروا الرواية عن المجهولين والمجروحين، ويكفي أن نطالع كتاباً من كتبهم لتجد هذا الأمر واضحاً، ويكفي أن تراجع شيوخ الواقدي لتعلم صدق هذا الأمر، بخلاف غالب المحدثين الذين يعتنون بانتقاء الأسانيد والشيوخ. والرابع: كثرة الأحاديث التي انفرد بها المصنفون في التأريخ والسير، وغرابتها، وهذا مما يؤثر عادة في صاحبه، ذلك أن كثرة الأخبار الغريبة في حديث الراوي سبب من أسباب ضعفه، قال مالك: شر العلم الغريب، وخير العلم الظاهر الذي قد رواه الناس. وقال عبد الرزاق: كنا نرى أن غريب الحديث خيٌر فإذا هو شرٌ، وقال الإمام أحمد: لا تكتبوا هذه الأحاديث الغرائب فإنها مناكير وعامتها عن الضعفاء، وعن أبي يوسف القاضي قال: من اتبع غريب الحديث كذب، ومن طلب المال بالكيمياء أفلس، ومن طلب الدين بالكلام تزندق (2) . بل إن الراوي الثقة إذا ذهب إلى غير بلده استحب له أن يتجنب رواية الغرائب، حتى لا يتهمه أولئك بالكذب، لأنهم قد لا يعرفونه، ولا يعلمون صدقه وثقته كما يعرفه أهل بلده، فإذا سمعوا منه تلك الغرائب ربما اتهموه بالتزيد والكذب، أو بالغفلة والخطأ، أخرج البخاري في صحيحه عن

_ (1) فتح المغيث 2/73، وتدريب الراوي 2/148. (2) الكفاية في علم الرواية ص 140-142.

علي قال: "حَدِّثُوا النَّاس بِمَا يَعْرِفُونَ، أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ " (1) ، وقال ابن مسعود: ما أنت بمحدثٍ قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم، إلا كان لبعضهم فتنة " رواه مسلم (2) ، وقال النخعي: كانوا يكرهون إذا اجتمعوا أن يخرج الرجل أحسن ما عنده، قال السمعاني: عنى بالأحسن " الغريب" (3) . وقال عيسى بن يونس:" ينبغي للرجل أن يتوقى رواية غريب الحديث، فإني أعرف رجلاً كان يصلي في اليوم مائتي ركعة، ما أفسده عند الناس إلا رواية غريب الحديث ... " (4) . ويلتحق بذلك الروايات الشاذة والمنكرة، فالراوي الذي يخالف الثقات في حديثه، ربما أضر ذلك به، ولاسيما إذا كثرت مخالفته لمن هو أولى منه، وانظر إلى كلام الشافعي المتقدم:".... ومن كان هكذا كان مقدماً بالحفظ، إن خالفه من يقصر عنه كان أولى أن يقبل حديثه ممن خالفه من أهل التقصير عنه ... ". هذه أهم أسباب تفاوت شروط نقد المرويات عند كل من المحدثين وكتاب السير في نظري.

_ (1) صحيح البخاري 1/ 41. (2) صحيح مسلم 1/11. (3) تدريب الراوي 1/163. (4) الكفاية في علم الرواية.

المعايير المقترحة لنقد المرويات في السيرة

المعايير المقترحة لنقد المرويات في السيرة: لا بد قبل البحث في هذه المسألة من تأمل مسألتين متعلقتين بهذا الاقتراح: المسألة الأولى: معرفة الهدف من نقد مرويات السيرة والتأريخ ودراستها. إذا علمنا أن الغرض من دراسة الحديث الشريف، إنما هو لمعرفة المقبول الذي يؤخذ به، ويعمل بموجبه، ولمعرفة الضعيف الذي لا تقوم به الحجة، ولا يلزم العمل به، فما الغرض إذن من دراسة مرويات السيرة والتأريخ عموماً؟ وللجواب عن هذا السؤال يمكن القول: إن مرويات السيرة والتأريخ تنقسم إلى قسمين، قسم منها ثابت كثبوت الأحاديث النبوية الأخرى، فمنها ما ورد في الصحيحين والسنن والمسانيد والسير وغيرها من مصادر السنة الأخرى بأسانيد مقبولة عند أهل الفن، وهذه لا كلام فيها، حيث يمكن البناء عليها، واستنباط الدروس والعبر منها، وأخذ الأحكام الشرعية المتنوعة من ثناياها. وقسم آخر لم يثبت حسب منهج المحدثين، فلا تسلم طرقها من جهالة أو جرح في رواتها، أو انقطاع وإعضال وإرسال في أسانيدها، وهذا القسم لا يصلح للعمل بموجبه حسب الأحكام التكليفية - من وجوب وندب وكراهة وتحريم – لأنه لا يمكن أن نحكم بشيء مما تقدم إلا بعد ثبوت الدليل، والحكم الشرعي لا يثبت بدليل واهٍ. وما دامت دراسة هذا القسم من مرويات السيرة والتأريخ لا يثبت به

حكم شرعي، فما الغرض إذن من نقدها ودراستها؟ الذي يظهر لي - والله أعلم - أن دراسة هذا القسم إنما هو للاستئناس بما ورد به، وأخذ العظة والعبرة منه – إن كان مقبولاً - أو للمعرفة الذهنية المجردة، أو لغير ذلك من الأمور، وفي هذه الحال أرى أننا في حاجة إلى استعمال نقد المتن حسب المعايير المعتبرة، أو ما يسميه الغربيون " النقد الداخلي ". المسألة الثانية – التي وعدنا ببحثها – هي: هل صحة الإسناد تستلزم صحة المتن؟ فإذا صح الإسناد لزم منه أن يكون المتن صحيحاً، وينبني على هذا أمرٌ آخر هو: ألا يمكن أن تكون تلك الأخبار التي وصفت أسانيدها بأنها غير صحيحة – أي ضعيفة أو موضوعة - صحيحة في الأمر نفسه؟ هذان الأمران قد نص عليهما المحدثون في كتبهم، حيث قرروا ذلك في قاعدتين: الأولى: أن صحة الإسناد لا تستلزم صحة المتن، فقد يصح الإسناد ولا يصح المتن لشذوذ أو علة. قال ابن الصلاح: قد يقال " هذا حديث صحيح الإسناد " ولا يصح، لكونه شاذاً أو معللاً (1) . وقال ابن القيم: وقد عُلِمَ أن صحة الإسناد شرط من شروط صحة الحديث، وليست موجبة لصحة الحديث، فإن الحديث إنما يصح بمجموع

_ (1) مقدمة ابن الصلاح ص 38.

أمور منها: صحة سنده، وانتفاء علته، وعدم شذوذه ونكارته، وأن لا يكون راويه قد خالف الثقات أو شذ عنهم (1) . وقال الأنصاري: لأنه لا تلازم بين الإسناد والمتن صحة وحسناً، إذ قد يصح الإسناد أو يحسن لاجتماع شروطه – من الاتصال والعدالة والضبط – دون المتن لقادح من شذوذ أو علة (2) . وقال ابن الجوزي: وقد يكون الإسناد كله ثقات، ويكون الحديث موضوعاً أو مقلوباً، أو قد جرى فيه تدليس، وهذا من أصعب الأمور، ولا يعرف ذلك إلا النقاد (3) . وعلى هذا سائر من كتب من المحدثين في علوم الحديث. ومن هذه النصوص نستفيد أموراً منها: - أن الإسناد ليس كل شيء في الحكم على الخبر، بل لا بد من تضافر أمور أخرى متعلقة بالمتن. - أن النظر إلى المتن – عند الحكم على الحديث - كان موضع اهتمام لدى المحدثين، وأنهم لم يغفلوه عند حكمهم عليه. - أن المتون الواردة بأسانيد لم يحكم لها بالصحة يمكن النظر فيها ونقدها، والحكم عليها بحكم مناسب لها، وليس شرطاً أن يكون حكماً بالصحة أو الحسن، بل يمكن أن يكون حكماً بالإمكان والوقوع، أو

_ (1) الفروسية لابن القيم ص 64. (2) فتح الباقي للأنصاري بحاشية التبصرة والتذكرة 1/107. (3) الموضوعات 1/99-100.

بالتكذيب والاستحالة ونحوه من الأحكام المناسبة. والقاعدة الثانية: وهي أن الحكم على الحديث بعدم الصحة لا يعني أنه كذب أو موضوع، فقد يكون صحيحاً في حقيقة الأمر، قال ابن الصلاح: "إذا قالوا في حديث إنه غير صحيح، فليس ذلك قطعاً بأنه كذب في نفس الأمر، إذ قد يكون صدقاً في نفس الأمر، وإنما المراد به أنه لم يصح إسناده على الشرط المذكور" (1) . وقال الكمال بن الهمام في فتح القدير: لقائل أن يقول: الحكم بالضعف والصحة إنما هو في الظاهر، أما في نفس الأمر فيجوز صحة ما حكم بضعفه ظاهراً (2) . وعلى هذا فموضوع بحثنا هو الأحاديث والآثار والأخبار والقصص والسير الواردة بأسانيد ضعيفة أو واهية أو موضوعة. وهنا أمرٌ ينبغي التنبيه له: وهو أن الأحايث التي حُكم عليها بالوضع نوعان: منها ما حكم عليه بالوضع بالنظر إلى إسناده، ومنها ما حكم عليه بالوضع بالنظر إلى متنه، فأما ما حكم عليه بالوضع بالنظر إلى إسناده فقط، حيث ورد من طريق راوٍ كذابٍ أو دجال ونحوه، دون سبب آخر في متن الحديث، فهذه يمكن النظر فيها وتطبيق المقاييس المقترحة عليها، فقد يكون الحديث معقولاً أو مقبولاً، إذ لا يبعد أن يصدق الكاذب، أو يصيب المخطئ، بل لو اعترف الواضع بوضعه لاحتمل أن يكون كاذباً في اعترافه ذلك.

_ (1) مقدمة ابن الصلاح ص 14. (2) فتح القدير للكمال بن الهمام 1/461.

أما ما حُكِمَ عليه بالوضع بالنظر إلى متنه، لنكارته ومعارضته لكتاب الله تعالى، أو للمقطوع به من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو لغير ذلك من الأمور المبينة في موضعها، فهذا مقطوع بوضعه واختلاقه، ولا ينظر فيه ولا كرامة. وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6] . وأخرج البخاري في صحيحه عن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: وَكَّلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ، فَأَتَانِي آتٍ، فَجَعَلَ يَحْثُو مِنْ الطَّعَامِ، فَأَخَذْتُهُ، فَقُلْتُ: لأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ فَقَالَ: إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِيِّ، لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنْ اللَّهِ حَافِظٌ، ولا يَقْرَبُكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ، ذَاكَ شَيْطَانٌ" (1) . قال الحافظ ابن حجر: وفي الحديث من الفوائد: أن الشيطان قد يعلم ما ينتفع به المؤمن، وأن الحكمة قد يتلقاها الفاجر فلا ينتفع بها وتؤخذ عنه فينتفع بها، وأن الكافر قد يصدق ببعض ما يصدق به المؤمن ولا يكون بذلك مؤمنا، وبأن الكذاب قد يصدق (2) . وإذن فقد يصدق الوضاع فيما يرويه من حديث، وإنما لم يقبله المحدثون منه ولو تاب من كذبه، احتياطاً للدين، وعقوبة له، وردعاً لغيره ممن يتجرأ على الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحذراً من أن يكون كاذباً في حديثه.

_ (1) صحيح البخاري 4/92. (2) فتح الباري 4/489.

أما إن كان الحكم بالوضع على الحديث مبنياً على النظر في متنه، بأن يكون مناقضاً للمقطوع به من الدين أو العقل، أو لغير ذلك مما هو مقرر في موضعه، فهذا لا خلاف في رده، والحكم عليه بالكذب والاختلاق، سواء أكان سببه الخطأ أو تَعَمُّدُ الكذب، قال ابن الجوزي عقب حديث منكر: ... وإلا فمثل هذا الحديث لا يحتاج إلى اعتبار رواته، لأن المستحيل لو صدر عن الثقات رُدَّ ونُسِبَ إليهم الخطأ (1) . وما دام الأمر كذلك فيمكننا حينئذٍ أن ننظر في متون تلك الأخبار التي لم تُقْبل بسبب النظر في أسانيدها، وأن نزنها بميزانٍ يمكننا من خلاله أن نحكم عليها إما: بالرد والتكذيب، أو بالإمكان والتصديق. وهذا المعيار أكثر اعتماده على النظر في المتن؛ لأن الأسانيد الواردة بها أكثرها غير قوية، ولا تصلح للحجية، لجأنا إلى النظر في المتون وإمكان صدقها، ونقدها بموازين مناسبة للحال.

_ (1) الموضوعات 1/105-106.

ملامح المعايير المقترحة

ملامح المعايير المقترحة: ومن المعايير المقترحة: * عرض الخبر على القرآن الكريم. * عرض الخبر على السنة الصحيحة. * عرض الخبر على الحقائق والمعلومات التأريخية الثابتة. * عرض الخبر على القواعد والمسلمات العقلية. * اشتمال الخبر على أمر منكر أو مستحيل، أو ما يقدح في الكتاب والسنة، أو في الرسالة والصحابة، أو ما علم من أحوال السلف سببٌ في الحكم بضعفه أو ببطلانه. وبيان ذلك: أنه يمكننا أن نستفيد من النصوص الثابتة من الكتاب والسنة، والحقائق التأريخية الصحيحة، وكذا من العرف الثابت (1) ، والمسلمات العقلية في نقد النصوص الأخرى، وبيان قبولها أو عدم قبولها، وذلك على أحد وجهين: الوجه الأول: إما أن تكون شواهد ودلائل على صحة أصل تلك الأخبار، بحيث يقال: إن هذا الخبر وإن لم يثبت بإسناد صحيح إلا أن معناه صحيح، وذلك لورود لفظه أو معناه في متنٍ آخر ثابت، إما من القرآن أو من السنة أو من الحقائق المُسَلَّمة الأخرى، وهذا الأمر كثير في صنيع المحدثين، ومن ذلك:

_ (1) والمراد: العرف الثابت عن المسلمين في عصر النبوة.

عن زيد بن أسلم أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما يحل لي من امرأتي وهي حائض؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لتشد عليها إزارها، ثم شأنك بأعلاها"، قال أبو عمر: لا أعلم أحدا روى هذا الحديث مسنداً بهذا اللفظ أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا، ومعناه صحيح ثابت (1) . وعن مالك أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إني لأنسى أو أنسى لأسن"، قال ابن عبد البر: أما هذا الحديث بهذا اللفظ فلا أعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم بوجه من الوجوه مسنداً ولا مقطوعاً، وهو أحد الأحاديث الأربعة في الموطأ التي لا توجد في غيره مسندة ولا مرسلة، معناه صحيح في الأصول، وقد مضت الآثار في باب نومه عن الصلاة تدل على هذا المعنى (2) . وعن يونس بن عبيد عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سلمان سابق الفرس" هذا مرسل ومعناه صحيح (3) . وعن ابن عباس قال: نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى علي فقال: "أنت سيد في الدنيا، سيد في الآخرة، ومن أحبك فقد أحبني، وحبيبي حبيب الله، وعدوك عدوي، وعدوي عدو الله، قال: والويل لمن أبغضك من بعدي"، قال المؤلف: هذا حديث لا يصح عن رسول صلى الله عليه وسلم ومعناه صحيح (4) . الوجه الثاني: وإما أن نجعل ما ورد في نصوص الكتاب، والسنة

_ (1) التمهيد 5/260. (2) التمهيد 24/375. (3) السير 1/375. (4) العلل المتناهية 1/222.

الصحيحة، والأخبار المتواترة أو المشهورة ونحو ذلك، دليلاً على بطلان الخبر، وذلك إذا كان متنه، أو معناه، أو دلالته، تناقض تمام المناقضة ما ثبت في تلك النصوص المتفق عليها، بحيث لا يمكن أن نجمع بينها وبينه بوجه من الوجوه. وهذا كثير أيضاً في صنيع المحدثين، ومن ذلك: حديث " لا يدخل الجنة ولد الزنى ولا والده ولا ولد ولده " قال ابن الجوزي: ثم أي ذنب لولد الزنى حتى يمنعه من دخول الجنة، فهذه الأحاديث تخالف الأصول وما في قوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164] (1) . وحديث: "سب أصحابي ذنب لا يغفر" قال ابن تيمية: هذا كذب على النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] (2) . تنبيه: ومما ينبغي التنبه له عند النقد أن النص الواحد – أو الخبر الواحد- يمكن أن يحتوي على معلومات عدة، منها ما هو صحيح ومنها ما ليس بصحيح، فلا يلزمنا قبول النص برمته، أو رده كله، بل يمكن قبول ما تظهر سلامته، والتوقف أو رد غيره مما ورد في السياق، وهذا ما عمل به المحدثون عند رد الروايات الشاذة وإنكارها، ومن ذلك قول شريك في حديث الإسراء " [لما] أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَسْجِدِ الْكَعْبَةِ جَاءَهُ ثَلاثَةُ نَفَرٍ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ وَهُوَ

_ (1) الموضوعات 2/111. (2) الموضوعات الكبرى للقاري ص 213-214.

نَائِمٌ فِي مَسْجِدِ الْحَرَامِ "الحديث أخرجه البخاري (1) وهذه اللفظة أنكرها الخطابي، وابن حزم، وعبد الحق، والقاضي عياض والنووي، وعبارة النووي: وقع في رواية شريك أوهام أنكرها العلماء، أحدها: قوله "قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ" وهو غلط لم يوافق عليه، وأجمع العلماء أن فرض الصلاة كان ليلة الإسراء فكيف يكون قبل الوحي انتهى (2) . ومن ذلك حديث عبد اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الطِّيَرَةُ مِنْ الشِّرْكِ وَمَا مِنَّا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُذْهِبُهُ بِالتَّوَكُّلِ" أخرجه الترمذي في سننه وقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وسَمِعْت مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ يَقُولُ: كَانَ سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ يَقُولُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: (وَمَا مِنَّا) هَذَا عِنْدِي قَوْلُ عبد اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ (3) ، قال الصنعاني: لأنه لا يصح أن يضاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم، لاستحالة أن يضاف إليه شيء من الشرك (4) .

_ (1) صحيح البخاري 4/168. (2) فتح الباري 13/480. (3) سنن الترمذي 4/161. (4) توضيح الأفكار للصنعاني 2/63.

درجات الأخبار ومراتبها حسب المعايير المقترحة

درجات الأخبار ومراتبها حسب المعايير المقترحة: يمكننا أن نضع اصطلاحات جديدة لمراتب الأخبار التي نقوم بنقدها حسب تلك المعايير المقترحة لنقد المرويات، فإذا كان المحدثون قد وضعوا اصطلاح: الصحيح والضعيف أولاً، ثم زادوا عليه الحسن، فأصبح الحديث ينقسم إلى: صحيح وحسن وضعيف، كما قسّموا الضعيف أقساماً ومراتب متفاوتة، فيمكننا أن نفعل مثل ذلك اليوم، لكن في تلك المرويات التي هي دون الحسن عند المحدثين، وكنت قد اقترحت أن تكون على مراتب ثلاث هي: مقبول، ثم معقول، ثم متروك (1) ، لكنني بعد تأملٍ لصنيع المحدثين وعباراتهم، رأيت لفظاً كثيراً ما يوردونه في مثل هذه الحال، ذلكم هو قولهم: "معناه صحيح"، ويمكن أن نضيف إليه بعض العبارات التي تناسب المقام، وبناءً عليه فإنني أقترح أن تكون مراتب الأخبار التي يتم نقدها حسب هذه المعايير على النحو التالي: المرتبة الأولى: عبارة " معناه صحيح " وهي أعلى الدرجات، ويمكن تخصيصها بما له شاهد صريح، قوي الدلالة من نصوص الكتاب والسنة – الصحيحة – بغض النظر عن حال إسناده. ومن ذلك ما قدمنا بعضه قبل قليل، ومنه:

_ (1) وفسرت ذلك بقولي: فالمقبول: هو ما سَلِمَ إسناده من متروك أو كذاب، وإن كان فيه انقطاع أو جهالة راوٍ، ولم يكن في متنه ما يعارض نصاً صحيحاً، والمعقول: ما كان متنه معقولاً، وممكن الوقوع، ولا يعارض نصاً صحيحاً، بغض النظر عن حال رواته، والمتروك: ما كان متنه منكراً، يناقض نصاً صريحاً، أو غير ممكن عقلاً أو عرفاً، مهما بلغ إسناده من الصحة.

ما ذكره القرطبي في تفسيره قال: وروى نصر بن عيسى عن مالك عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ} قال: "يتبعونه حق اتباعه " فيه واحد من المجهولين فيما ذكر الخطيب أبو بكر، إلا أن معناه صحيح (1) . وقال ابن كثير في تفسيره: قال صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ} [الانشقاق:19] قال: "حالاً بعد حال"، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن قدامكم لأمراً عظيماً لا تقدرونه فاستعينوا بالله العظيم" هذا حديث منكر، وإسناده فيه ضعفاء، ولكن معناه صحيح والله سبحانه وتعالى أعلم (2) . وفي السنة لعبد الله بن أحمد: عن حماد بن زيد قال: القرآن كلام الله عز وجل، نزل به جبريل عليه السلام، من رب العالمين جل وعز " في إسناده من لا يعرف ولكن معناه صحيح (3) . ومنه قول ابن حزم في المحلى: فإن احتجوا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه سئل عن الشهادة؟ فقال: "ألا ترى الشمس على مثلها فاشهد أو دع" قال أبو محمد: وهذا خبر لا يصح سنده، لأنه من طريق محمد بن سليمان، وهو هالك، عن عبيد الله بن سلمة، وهو ضعيف، لكن معناه صحيح (4) .

_ (1) تفسير القرطبي 2/95. (2) تفسير ابن كثير 4/491. (3) السنة لعبد الله بن أحمد 2/485. (4) المحلى لابن حزم 9/434.

وله أيضاً قال: فإن احتجوا بالخبر " لا ضرر ولا ضرار " فهذا خبر لا يصح، لأنه إنما جاء مرسلاً، أو من طريق فيها زهير بن ثابت وهو ضعيف، إلا أن معناه صحيح (1) . وهذه العبارة كثيرة جداً في استعمال المحدثين. والدرجة الثانية لفظ: " معناه حسن، أو معناه مقبول " وذلك في حال عدم وجود شاهد صحيح على المعنى الذي اشتمل عليه الخبر، أو تكون شواهده صحيحة لكن دلالتها على معنى الخبر إما ضعيفة، أو غير صريحة، ونحو ذلك. ويليها- درجة ثالثة - لفظها: " معناه معقول، أو معقول المعنى " وذلك فيما كان ممكناً بحسب العرف والعادة، لكن لا شاهد له يقويه، ولا معارض له يضعفه، ونحو ذلك. ويليها – في الدرجة الرابعة - لفظ: "ضعيف المعنى " أو " معناه ضعيف " وذلك فيما ظاهره النكارة، أو يكون مستغرباً لا يناسب الحال، لكنه لا يعارض نصاً صحيحاً صريحاً، بل ربما تجاذبه وجهان أحدهما بالإمكان والوقوع، والآخر بالبعد وعدم الإمكان. وآخرها – وهي الخامسة - لفظ: كذب، أو باطل، ونحوه، وهو فيما كان معارَضاً بنص صحيح صريح من الكتاب أو السنة، أو الوقائع التأريخية الثابتة، أو العقل والمنطق، أو كان ركيكاً في لفظه أو معناه، أو لا يناسب

_ (1) المرجع السابق 8/241.

مقام المنسوب إليه، وغير ذلك من الأمور المعروفة، والتي أشرنا إلى شيء منها، ومن أمثلة هذا: حديث عائشة قال رسول الله:" ذهبت لقبر أمي آمنة، فسألت الله أن يحييها، فأحياها، فآمنت بي، وردَّها الله عز وجل ". قال ابن الجوزي: هذا حديث موضوع بلا شك، والذي وضعه قليل الفهم عديم العلم، إذ لو كان له علم لعلم أنه من مات كافراً لا ينفعه أن يؤمن بعد الرجعة، لا بل لو آمن عند المعاينة لم ينتفع، ويكفي في رد هذا الحديث قوله تعالى: {فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ} [البقرة:217] (1) . وحديث: "عليكم بالعدس فإنه مبارك، يرقق القلب، ويكثر الدمعة، قُدِّسَ فيه سبعون نبياً". حيث سئل عبد الله بن المبارك عن هذا الحديث؟ فقال: أرفع شيء في العدس أنه شهوة اليهود، ولو قُدِّسَ فيه نبي واحد لكان شفاء من الأدواء، فكيف بسبعين نبياً؟ وقد سماه الله تعالى أدنى، ونعى على من اختاره على المن والسلوى، وجعله قرين الثوم والبصل، أَفَترى أنبياء بني إسرائيل قدسوا فيه لهذه العلة؟ قال ابن القيم: والمضار التي فيه من تهييج السوداء، والنفخ، والرياح الغليظة، وضيق النفس، والدم الفاسد، وغير ذلك من المضار المحسوسة، ويشبه أن يكون هذا الحديث من وضع الذين اختاروه على المن والسلوى، أو أشباههم (2) .

_ (1) الموضوعات 1/284. (2) المنار المنيف لابن القيم ص52.

وحديث: "من طوّل شاربه في الدنيا، طوّل الله ندامته يوم القيامة، وسلّط عليه بكل شعرة على شاربه سبعين شيطاناً، فإن مات على ذلك الحال لا تستجاب له دعوة، ولا تنزل عليه رحمة ... قال ابن الجوزي: وهذا من أنتن الوضع وأسمجه، ولولا حماقة من وضع هذا، وأنه ما شم ريح العلم لعلم أن غاية ما في تطويل الشارب مخالفة سنة لا يصلح التوعد عليها بمثل هذا" (1) . ومن ذلك حديث رفع الجزية عن أهل خيبر، فقد أخرج اليهود كتاباً نسبوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسقط عنهم الكلف والسخر والجزية، ووضعوا فيه شهادة سعد بن معاذ ومعاوية بن أبي سفيان وغيرهما، ويبدو أن اليهود أظهروا هذا الكتاب في زمن ابن جرير الطبري، ثم في زمن الخطيب البغدادي، وفي حياة ابن تيمية أيضاً، وقد نقده العلماء، ومنهم ابن القيم ناظراً إلى متنه، ومما قاله عنه: 1- أن فيه شهادة سعد بن معاذ، وسعد توفي قبل ذلك في غزوة الخندق. 2- وفيه: "وكتب معاوية بن أبي سفيان" هكذا، ومعاوية إنما أسلم زمن الفتح، وكان من الطلقاء. 3- أن حكم الجزية لم يكن نزل حينئذٍ، ولا يعرفه الصحابة ولا العرب.... 4- أنه لم يكن في زمانه كلف ولا سخرة ولا مكوس.

_ (1) الموضوعات 3/52.

5- أن مثل هذا مما تتوافر الدواعي والهمم على نقله، فكيف يكون قد وقع ولا يكون علمه عند حملة السنة من الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، وينفرد بنقله اليهود (1) . فهذه الأحاديث حكم عليها المحدثون بعدم الصحة نظراً لنكارة متونها، ومخالفتها إما للقرآن الكريم، كما في الحديث المنسوب إلى عائشة في إحياء أم النبي صلى الله عليه وسلم وإيمانها به، أو للثابت من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في حديث تطويل الشارب، أو للمعلوم من التأريخ كما في حديث رفع الجزية عن أهل خيبر، أو لركاكة ألفاظها ومعانيها كما في حديث العدس وغيرها من الأحاديث التي حكم عليها العلماء بالوضع بالنظر إلى متونها (2) . ثم إن هذا لا يمنع وقوع التجاذب في بعض الأخبار بين الجواز والاستحالة، والوقوع وعدم الوقوع، كما في حديث أسماء بنت عميس في رد الشمس لعلي رضي الله عنه. فقد أخرج الطبراني في المعجم الكبير (3) ، والعقيلي في الضعفاء له (4) ، عن أسماء بنت عميس قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوحى إليه، ورأسه في حجر علي رضي الله عنه، فلم يصل العصر حتى غربت الشمس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اللهم إن علياً كان في طاعتك وطاعة رسولك، فاردد عليه الشمس"،

_ (1) المنار المنيف لابن القيم ص 102-105. (2) انظر في ذلك كتاب: المنار المنيف لابن القيم، ومقاييس نقد متون السنة للدميني. (3) المعجم الكبير 24/150. (4) الضعفاء الكبير 3/327.

قالت أسماء: فرأيتها غربت، ورأيتها طلعت بعدما غربت. فهذا الحديث مما اختلفت فيه أقوال أهل العلم بين مثبت له، ومنكر لمتنه، فكما أثبته جماعة من الأئمة كالبيهقي وابن حجر والسيوطي وغيرهم، نجد كثيرين من الأئمة قد حكموا برده ووضعه، قال الإمام أحمد: لا أصل له، وحكم بوضعه ابن تيمية وابن القيم وابن كثير والذهبي (1) ، وقال ابن الجوزي: ومن تغفيل واضع هذا الحديث أنه نظر إلى صورة فضيلة ولم يتلمّح إلى عدم الفائدة، فإن صلاة العصر بغيبوبة الشمس صارت قضاءً، فرجوع الشمس لا يعيدها أداءً (2) . هذا ما تيسر ذكره، من معايير وأمثلة، وقد كنت أتمنى مزيداً من الوقت للتمثيل بعدد من الروايات والأخبار من السيرة النبوية، لكن نفاد الوقت المحدد لإعداد هذا البحث، كان حائلاً دون التوسع في ذلك، ولعله يتيسر لي فيما يستقبل من العمر أن أكمل ما بدأته اليوم، وحسبي أني قدمت فكرة عامة عن الموضوع، وطريق معالجة هذه المشكلة، والله من وراء القصد. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

_ (1) انظر تعليق محقق المنار المنيف الشيخ عبد الفتاح أبوغدة عليه ص 58. (2) الموضوعات 1/357.

الخاتمة

الخاتمة: ظهر لنا من ثنايا هذا البحث – المتواضع - أن السلف عموماً، والمحدثين خصوصاً قد اهتموا بالحديث والسيرة النبوية اهتماماً فائقاً، فحفظوه في الصدور، ودونوه في الكتب، وتتبعوا رواته ونقلته، ووضعوا الأسس والمعايير لنقد متونه وأسانيده. ومن شروط الحديث الصحيح التي أكدوها: عدالة الراوي، وضبطه لما يرويه، واتصال الإسناد بين كل راوٍ وبين شيخه، مع عدم مخالفته لمن هو أولى منه. وذكرنا أن أكثر مرويات السيرة ثابتة من طرق مقبولة – صحيحة أو حسنة – فهي مخرّجة في دواوين الإسلام، ومصنفاته المعتمدة، أما تلك الروايات التي لم ترد بطرق مقبولة، فقد اقترح الباحث لنقدها وتمييزها معايير نقد المتن، أو ما يسمى بالنقد الداخلي، وهذه المعايير قد أرسى قواعدها المحدثون في كتبهم ومصنفاتهم، ومع ذلك فلا مانع من الاستفادة من الطرائق الحديثة في النقد، فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها. كما أكد الباحث ضرورة الاستفادة من المرويات الصحيحة الثابتة في نقد المرويات الأخرى، سواء في الدلالة على صدقها وصحة معناها، أو على زيفها وكذبها. ومن المعايير المقترحة: عرض الخبر على الكتاب الكريم، وعلى السنة الصحيحة، وعلى الحقائق والمعلومات التأريخية الثابتة، وكذا عرضه على القواعد والمسلمات العقلية، كما أن اشتمال الخبر على أمر منكر أو مستحيل،

أو ما يقدح في الكتاب والسنة، أو في الرسالة والصحابة، أو ما علم من أحوال السلف سببٌ في الحكم عليه بالضعف أو البطلان. كما اقْترحَ الباحثُ عدة مراتب لتلك الأخبار - موضع البحث والنقد- بحسب قبولها أو ردها، وهي بإجمال: المرتبة الأولى: معناه صحيح. المرتبة الثانية: معناه حسن، أو معناه مقبول. المرتبة الثالثة: معناه معقول، أو معقول المعنى. المرتبة الرابعة: ضعيف المعنى، أو معناه ضعيف. المرتبة الخامسة: كذب، أو باطل، ونحو ذلك. وهي مراتب تقديرية، يمكن أن يزاد عليها أو ينقص منها، كما يمكن أن تعدل ألفاظها وتصوب بما يناسب الحال. وهذه - كما قدمت - أفكارٌ وتأملاتٌ في هذه القضية الشائكة، وهي تحتاج إلى مزيد من الدرس والتأمل، ومزيد من ضرب الأمثلة التطبيقية، وقد كنت آمل أن أصنع ذلك قبل تقديم البحث إلى هذا المؤتمر المبارك، لكن ضيق الوقت، وكثرة المشاغل والالتزامات حالت دون ذلك، ولعلي بعد عرضه على أهل الاختصاص من المهتمين بالحديث والسيرة النبوية، أجد من توجيهاتهم وملاحظاتهم ما يُمَكِّنني من إعادة النظر فيه مرة أخرى، آخذاً من تجاربهم وتطبيقاتهم، ومستفيداً من نصحهم وتوجيهاتهم.

§1/1